الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ التَّمَتُّعِ
(التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ عِنْدَنَا) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ سَفَرُهُ وَاقِعٌ لِعُمْرَتِهِ وَالْمُفْرِدَ سَفَرُهُ وَاقِعٌ لِحَجَّتِهِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي التَّمَتُّعِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الْقِرَانَ ثُمَّ فِيهِ زِيَادَةُ نُسُكٍ وَهِيَ
(بَابُ التَّمَتُّعِ)
وَجْهُ تَأْخِيرِهِ عَنْ بَابِ الْقِرَانِ قَدْ سَبَقَ هُنَاكَ فَلَا نُعِيدُهُ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: عَرَّفَ الْمُصَنِّفُ التَّمَتُّعَ بِقَوْلِهِ: وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ التَّرَفُّقُ إلَخْ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِدُخُولِ مَنْ تَرَفَّقَ بِأَدَائِهِمَا وَالْعُمْرَةُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ
إرَاقَةُ الدَّمِ وَسَفَرُهُ وَاقِعٌ لِحَجَّتِهِ، وَإِنْ تَخَلَّلَتْ الْعُمْرَةُ؛ لِأَنَّهَا تَبَعُ الْحَجِّ كَتَخَلُّلِ السُّنَّةِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالسَّعْيِ إلَيْهَا.
(وَالْمُتَمَتِّعُ عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَمَتِّعٌ بِسَوْقِ الْهَدْيِ وَمُتَمَتِّعٌ لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ) وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَهُمَا إلْمَامًا صَحِيحًا، وَيَدْخُلُهُ اخْتِلَافَاتٌ نُبَيِّنُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَصِفَتُهُ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْ الْمِيقَاتِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَيُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَيَدْخُلَ مَكَّةَ فَيَطُوفَ لَهَا وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَقَدْ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ)
الْحَجِّ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، وَمَنْ تَرَفَّقَ بِهِ فِيهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي عَامَيْنِ وَهُمَا لَيْسَا بِمُتَمَتِّعَيْنِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: هُوَ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي عَامٍ وَاحِدٍ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ إلَخْ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ تَفْسِيرُهُ، وَأَمَّا كَوْنُ التَّرَفُّقِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ فَهُوَ شَرْطُهُ وَسَنَذْكُرُهُ. وَالْإِلْمَامُ هُوَ النُّزُولُ، يُقَالُ: أَلَمَّ بِأَهْلِهِ: إذَا نَزَلَ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ. وَالْأَوَّلُ عِبَارَةٌ عَنْ النُّزُولِ فِي وَطَنِهِ مِنْ غَيْرِ بَقَاءِ صِفَةِ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ، وَالثَّانِي مَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِهِ وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَنْ سَاقَهُ، فَقَوْلُهُ: إلْمَامًا صَحِيحًا احْتِرَازٌ عَنْ الْإِلْمَامِ الْفَاسِدِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّمَتُّعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا يَأْتِي.
وَقَوْلُهُ: (وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ)
وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْعُمْرَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُفْرِدَ بِالْعُمْرَةِ فَعَلَ مَا ذَكَرْنَا، هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَلْقَ عَلَيْهِ، إنَّمَا الْعُمْرَةُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ، وَحُجَّتُنَا عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا. وقَوْله تَعَالَى {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} الْآيَةَ. نَزَلَتْ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَ لَهَا تَحَرُّمٌ بِالتَّلْبِيَةِ كَانَ لَهَا تَحَلُّلٌ بِالْحَلْقِ كَالْحَجِّ (وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ) وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: كُلَّمَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ وَتَتِمُّ بِهِ.
وَلَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ حِينَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الطَّوَافُ فَيَقْطَعُهَا عِنْدَ افْتِتَاحِهِ، وَلِهَذَا يَقْطَعُهَا الْحَاجُّ عِنْدَ افْتِتَاحِ الرَّمْيِ. قَالَ (وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ حَلَالًا)؛ لِأَنَّهُ حَلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ، قَالَ (فَإِذَا كَانَ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ: هَذَا التَّخْيِيرُ إنَّمَا كَانَ لَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ شَعْرُهُ مُلَبَّدًا أَوْ مَعْقُوصًا أَوْ مُضَفَّرًا. وَأَمَّا إذَا كَانَ مُلَبَّدًا فَإِنَّهُ لَا يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ لَا يَتَهَيَّأُ إلَّا بِالْقَصِّ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَعَيَّنُ الْحَلْقُ. وَقَوْلُهُ: (وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْعُمْرَةِ) أَيْ: لَيْسَ لَهَا طَوَافُ الْقُدُومِ وَالصَّدْرِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الرُّكْنِ فِيهَا هُوَ الطَّوَافُ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَتَكَرَّرُ كَالْوُقُوفِ فِي الْحَجِّ. وَقَوْلُهُ:(وَتَتِمُّ بِهِ) أَيْ: تَتِمُّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ بِوُقُوعِ الْبَصَرِ عَلَى الْبَيْتِ، وَلِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ فِي الْحَجِّ، فَكَمَا تُقَدَّمُ قَطْعُ التَّلْبِيَةِ هُنَاكَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، (وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ حِينَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ». وَقَوْلُهُ:(وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الطَّوَافُ) بَيَانُهُ أَنَّ هَذَا الطَّوَافَ نُسُكٌ مَقْصُودٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَكَانَ كَالرَّمْيِ فِي كَوْنِهِ نُسُكًا مَقْصُودًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ فَكَمَا أَنَّ التَّلْبِيَةَ تُقْطَعُ عِنْدَ افْتِتَاحِ الرَّمْيِ تُقْطَعُ عِنْدَ افْتِتَاحِ هَذَا الطَّوَافِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَوَّلُ نُسُكٍ مَقْصُودٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ الْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ التَّلْبِيَةَ إذَا ابْتَدَأَ بِطَوَافِ الْقُدُومِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نُسُكٍ مَقْصُودٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ. فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَقْصُودٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَكُونُ وَاجِبًا، وَطَوَافُ الْقُدُومِ لَيْسَ كَذَلِكَ. سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنًى، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» قَالَ: (وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ حَلَالًا) الْمُتَمَتِّعُ إذَا حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَلَالًا، (فَإِذَا كَانَ
يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ الْمَسْجِدِ) وَالشَّرْطُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْحَرَمِ أَمَّا الْمَسْجِدُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَكِّيِّ، وَمِيقَاتُ الْمَكِّيِّ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ عَلَى مَا بَيَّنَّا (وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ)؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ لِلْحَجِّ إلَّا أَنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَيَسْعَى بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَّلُ طَوَافٍ لَهُ فِي الْحَجِّ، بِخِلَافِ الْمُفْرِدِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَعَى مَرَّةً، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ إلَى مِنًى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِذَلِكَ مَرَّةً (وَعَلَيْهِ دَمُ الْمُتَمَتِّعِ) لِلنَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَاهُ (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ) عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْقِرَانِ (فَإِنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ ثُمَّ اعْتَمَرَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الثَّلَاثَةِ)؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذَا الصَّوْمِ التَّمَتُّعُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ غَيْرُ مُتَمَتِّعٍ فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ (وَإِنْ صَامَهَا) بِمَكَّةَ (بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ جَازَ عِنْدَنَا) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رحمه الله لَهُ قَوْله تَعَالَى
يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ الْمَسْجِدِ)، وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا شَرْطًا، فَلَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ الْمُسَارَعَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ فَكَانَ أَفْضَلَ، وَكَذَا لَوْ أَحْرَمَ مِنْ الْحَرَمِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ جَازَ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ:(عَلَى مَا بَيَّنَّا) أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ فَصْلِ الْمَوَاقِيتِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَوَقْتُهُ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ وَفِي الْعُمْرَةِ الْحِلُّ، وَقَوْلُهُ:(وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ) يَعْنِي خَلَا أَنَّهُ لَا يَطُوفُ طَوَافَ التَّحِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ صَارَ هُوَ وَالْمَكِّيُّ سَوَاءً وَلَا تَحِيَّةَ لِلْمَكِّيِّ. وَ (يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَيَسْعَى بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَّلُ طَوَافٍ لَهُ فِي الْحَجِّ)، وَقَوْلُهُ:(وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ طَافَ) يَعْنِي طَوَافَ الْقُدُومِ (وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى مِنًى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِذَلِكَ مَرَّةً) وَلَا تَكْرَارَ فِيهِ، ثُمَّ الرَّمَلُ هَاهُنَا يَسْقُطُ سَوَاءً رَمَلَ فِي طَوَافِ التَّحِيَّةِ أَوْ لَمْ يَرْمُلْ وَلِهَذَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهِ، فَلَمْ يَقُلْ: طَافَ وَرَمَلَ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ إنَّمَا شُرِعَ فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ، وَلَا سَعْيَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مَرَّةً. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ طَوَافَ التَّحِيَّةِ مَشْرُوعٌ لِلتَّمَتُّعِ حَيْثُ اُعْتُبِرَ رَمَلُهُ وَسَعْيُهُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ:(وَعَلَيْهِ دَمُ الْمُتَمَتِّعِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) يَعْنِي أَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَتَّى يُحْرِمَ
{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَلَنَا أَنَّهُ أَدَّاهُ بَعْدَ انْعِقَاد سَبَبِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَجِّ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ وَقْتُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (وَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْقِرَانِ.
(وَإِنْ أَرَادَ الْمُتَمَتِّعُ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ أَحْرَمَ وَسَاقَ هَدْيَهُ) وَهَذَا أَفْضَلُ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَاقَ الْهَدَايَا مَعَ نَفْسِهِ» ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْدَادًا وَمُسَارَعَةً (فَإِنْ كَانَتْ بَدَنَةً قَلَّدَهَا بِمَزَادَةٍ أَوْ نَعْلٍ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ. وَالتَّقْلِيدُ أَوْلَى مِنْ التَّجْلِيلِ؛ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْكِتَابِ وَلِأَنَّهُ لِلْإِعْلَامِ وَالتَّجْلِيلِ لِلزِّينَةِ، وَيُلَبِّي ثُمَّ يُقَلِّدُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَالتَّوَجُّهِ مَعَهُ عَلَى مَا سَبَقَ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَعْقِدَ الْإِحْرَامَ بِالتَّلْبِيَةِ وَيَسُوقَ الْهَدْيَ. وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَقُودَهَا «؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم
بِالْحَجِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (وَلَنَا أَنَّهُ أَدَّاهُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ) وَهُوَ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى التَّمَتُّعِ، وَأَدَاءُ الْمُسَبَّبِ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ جَائِزٌ. وَقَوْلُهُ:(عَلَى مَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ فِي الْقِرَانِ أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا.
وَقَوْلُهُ: (وَهَذَا أَفْضَلُ) يَعْنِي مِنْ مُتَمَتِّعٍ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ. وَقَوْلُهُ: (عَلَى مَا رَوَيْنَا) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: «كُنْت أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْكِتَابِ) يُرِيدُ قَوْله تَعَالَى {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} (وَيُلَبِّي ثُمَّ يُقَلِّدُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ وَالتَّوَجُّهِ مَعَهُ عَلَى عَلَى مَا سَبَقَ) فِي فَصْلٍ قُبَيْلَ الْقِرَانِ، وَالشُّرُوعُ فِي الْإِحْرَامِ بِالتَّلْبِيَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَالتَّقْلِيدُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَالْعَمَلُ
أَحْرَمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَهَدَايَاهُ تُسَاقُ بَيْنَ يَدَيْهِ»؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّشْهِيرِ إلَّا إذَا كَانَتْ لَا تَنْقَادُ فَحِينَئِذٍ يَقُودُهَا. قَالَ (وَأَشْعَرَ الْبَدَنَةَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ (وَلَا يُشْعِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رحمه الله (وَيُكْرَهُ) وَالْإِشْعَارُ هُوَ الْإِدْمَاءُ بِالْجُرْحِ لُغَةً (وَصِفَتُهُ أَنْ يَشُقَّ سَنَامَهَا) بِأَنْ يَطْعَنَ فِي أَسْفَلِ السَّنَامِ (مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ) قَالُوا: وَالْأَشْبَهُ هُوَ الْأَيْسَرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَعَنَ فِي جَانِبِ الْيَسَارِ مَقْصُودًا وَفِي جَانِبِ الْأَيْمَنِ اتِّفَاقًا، وَيُلَطِّخُ سَنَامَهَا بِالدَّمِ إعْلَامًا، وَهَذَا الصُّنْعُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا حَسَنٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله سُنَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رضي الله عنهم.
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّقْلِيدِ أَنْ لَا يُهَاجَ إذَا وَرَدَ مَاءً أَوْ كَلَأً أَوْ يُرَدُّ إذَا ضَلَّ وَإِنَّهُ فِي الْإِشْعَارِ أَتَمُّ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ سُنَّةً، إلَّا أَنَّهُ
بِالْأَصْلِ أَوْلَى عِنْدَ الْإِمْكَانِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ السَّوْقُ فِي الْهَدْيِ أَفْضَل مِنْ الْقَوَدِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سِيقَتْ هَدَايَاهُ إذْ أَحْرَمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ». وَقَوْلُهُ:(قَالُوا وَالْأَشْبَهُ) يَعْنِي إلَى الصَّوَابِ فِي الرِّوَايَةِ (هُوَ الْأَيْسَرُ) وَذَلِكَ أَنَّ الْهَدَايَا كَانَتْ مُقْبِلَةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَدْخُلُ بَيْنَ كُلِّ بَعِيرَيْنِ مِنْ قِبَلِ الرُّءُوسِ. وَكَانَ الرُّمْحُ بِيَمِينِهِ لَا مَحَالَةَ فَكَانَ يَقَعُ طَعْنُهُ عَادَةً أَوَّلًا عَلَى يَسَارِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ كَانَ يَعْطِفُ عَنْ يَمِينِهِ وَيُشْعِرُ الْآخَرَ مِنْ قِبَلِ يَمِينِ الْبَعِيرِ اتِّفَاقًا لِلْأَوَّلِ لَا قَصْدًا إلَيْهِ، فَصَارَ الْأَمْرُ الْأَصْلِيُّ أَحَقَّ بِالِاعْتِبَارِ فِي الْهَدْيِ إذَا كَانَ وَاحِدًا. وَقَوْلُهُ:(وَلَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّقْلِيدِ أَنْ لَا يُهَاجَ) أَيْ: لَا يُنَفَّرُ وَلَا يُطْرَدُ عَنْ الْمَاءِ وَالْكَلَإِ (أَوْ يُرَدَّ إذَا ضَلَّ، وَإِنَّهُ فِي الْإِشْعَارِ أَتَمُّ لِأَنَّهُ أَلْزَمُ)؛ لِأَنَّ الْقِلَادَةَ قَدْ تَحِلُّ وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَسْقُطَ مِنْهَا وَالْإِشْعَارُ لَا يُفَارِقُهَا. (فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ سُنَّةً إلَّا أَنَّهُ
عَارَضَهُ جِهَةُ كَوْنِهِ مُثْلَةً فَقُلْنَا بِحُسْنِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُثْلَةٌ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَلَوْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحْرِمِ وَإِشْعَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لِصِيَانَةِ الْهَدْيِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ تَعَرُّضِهِ إلَّا بِهِ. وَقِيلَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَرِهَ إشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ لِمُبَالَغَتِهِمْ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يَخَافُ مِنْهُ السِّرَايَةَ، وَقِيلَ: إنَّمَا كَرِهَ إيثَارَهُ عَلَى التَّقْلِيدِ.
قَالَ: (فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ وَسَعَى) وَهَذَا لِلْعُمْرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي مُتَمَتِّعٍ لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ (إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَتَحَلَّلْتُ مِنْهَا» وَهَذَا يَنْفِي التَّحَلُّلَ عِنْدَ سَوْقِ الْهَدْيِ (وَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) كَمَا يُحْرِمُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (وَإِنْ قَدَّمَ
عَارَضَهُ جِهَةُ كَوْنِهِ مُثْلَةً) وَالْمُثْلَةُ هِيَ أَنْ يَصْنَعَ بِالْحَيَوَانِ مَا يَصِيرُ بِهِ مُثُلًا، وَقِيلَ هِيَ إيلَامُ مَا وَجَبَ قَتْلُهُ أَوْ أُبِيحَ قَتْلُهُ (فَقُلْنَا بِحُسْنِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ) أَيْ: الْإِشْعَارَ (مُثْلَةٌ وَإِنَّهُ) أَيْ: فِعْلُ الْمُثْلَةِ (مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَلَوْ وَقَعَ التَّعَارُضُ) بَيْنَ كَوْنِهِ سُنَّةً وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُثْلَةً (فَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحْرِمِ) فَإِنْ قِيلَ: النَّهْيُ عَنْ الْمُثْلَةِ كَانَ بِأُحُدٍ وَالْإِشْعَارُ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ فَأَيْنَ التَّعَارُضُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَوَى «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا قَامَ خَطِيبًا إلَّا نَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ» ، فَكَانَ الْإِشْعَارُ مَنْسُوخًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ لِلْمُحْرِمِ لِلِاحْتِيَاطِ أَوْ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ تَكْرَارِ النَّسْخِ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِشْعَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت» أَيْ: لَوْ عَلِمْت أَوَّلًا مَا عَلِمْت آخِرًا (لَمَا سُقْت الْهَدْيَ)، وَقِصَّةُ ذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يَفْسَخُوا إحْرَامَ الْحَجِّ وَيُحْرِمُوا بِالْعُمْرَةِ لَمَّا بَلَغُوا مَكَّةَ تَحْقِيقًا لِمُخَالَفَةِ الْكَفَرَةِ، وَكَانُوا لَا يَفْسَخُونَ وَلَا يَحْلِقُونَ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ يَحْلِقُ أَوْ لَا؟ فَاعْتَذَرَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام وَقَالَ: لَوْ اسْتَقْبَلْت» إلَخْ، وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ يَمْنَعُهُ عَنْ التَّحَلُّلِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَحَلَّلَ.
وَقَوْلُهُ: (وَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (عَلَى مَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ
الْإِحْرَامَ قَبْلَهُ جَازَ، وَمَا عَجَّلَ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَهُوَ أَفْضَلُ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسَارَعَةِ وَزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ، وَهَذِهِ الْأَفْضَلِيَّةُ فِي حَقِّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسُقْ (وَعَلَيْهِ دَمٌ) وَهُوَ دَمُ الْمُتَمَتِّعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
(وَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ حَلَّ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ)؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ مُحَلِّلٌ فِي الْحَجِّ كَالسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ فَيَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْهُمَا.
قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ، وَإِنَّمَا لَهُمْ الْإِفْرَادُ خَاصَّةً) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله
وَعَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ لِلنَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَا: يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ حَلَّ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ) يَعْنِي إحْرَامَ الْعُمْرَةِ وَإِحْرَامَ الْحَجِّ. فَإِنْ قِيلَ: التَّحَلُّلُ مِنْهُمَا يَقْتَضِي قِيَامَ كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ الْحَلْقِ، وَلَوْ كَانَ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ بَاقِيًا عِنْدَهُ لَزِمَ الْقَارِنَ دَمَانِ إذَا جَنَى بِقَتْلِ الصَّيْدِ قَبْلَ الْحَلْقِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ بَاقِيًا لَزِمَ قِيمَتَانِ كَمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ. أُجِيبَ بِأَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ بَاقٍ لِلتَّحَلُّلِ لَا غَيْرٍ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِهِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عَدَاهُ فَلَيْسَ بِبَاقٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ غَايَةَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ الْحَجَّ، وَالْمَضْرُوبُ لَهُ الْغَايَةُ لَا يَبْقَى بَعْدَ وُجُودِهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّحَلُّلِ لَا غَيْرَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَقَعْ الْجِنَايَةُ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَلَا يَجِبُ لِأَجْلِهِ شَيْءٌ كَإِحْرَامِ الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ بَعْدَ الْحَلْقِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي حَقِّ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ وَيَبْقَى فِي حَقِّ الْجِمَاعِ ضَرُورَةُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ.
وَقَوْلُهُ: (وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ) اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ لَا تَمَتُّعَ لَهُمْ وَلَا قِرَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَإِمَامُهُمْ فِي ذَلِكَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَلَوْ تَمَتَّعُوا جَازَ وَأَسَاءُوا وَلَزِمَهُمْ دَمُ الْجَبْرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُمْ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ وَلَكِنْ لَا دَمَ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْآفَاقِيِّ وَغَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ إشَارَةً إلَى التَّمَتُّعِ الْمَفْهُومِ مِنْ تَمَتَّعَ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لِأَهْلِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَمَتُّعٌ. أَجَابَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْهَدْيِ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَلِأَجْلِ هَذَا قُلْت: إنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِمْ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَوْضُوعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْبَعِيدِ وَالْقُرْآنُ نَزَلَ عَلَى لِسَانِهِمْ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْهَدْيِ قَرِيبٌ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ حَقِيقَةً لَهُ، وَالتَّمَتُّعُ الْمَفْهُومُ مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تَمَتَّعَ بَعِيدٌ يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُصَارُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ إذَا أَمْكَنَ بِالْحَقِيقَةِ لَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ بِالِاتِّفَاقِ فَتَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِإِطْلَاقِهِ؟ قُلْت: لَا إطْلَاقَ ثَمَّةَ بَلْ كَلِمَةُ مَنْ عَامَّةٌ خُصَّتْ بِقَوْلِهِ {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ،
وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ؛ وَلِأَنَّ شَرْعَهُمَا لِلتَّرَفُّهِ بِإِسْقَاطِ إحْدَى السَّفْرَتَيْنِ
وَقَوْلُهُ: (وَلِأَنَّ شَرْعَهُمَا) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ لَنَا، وَتَقْرِيرُ شَرْعِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لِأَجْلِ التَّرَفُّهِ (بِإِسْقَاطِ إحْدَى السُّفْرَتَيْنِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالتَّرَفُّهُ بِذَلِكَ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُشَقُّ عَلَيْهِ هَذَا السَّفَرُ لِقُرْبِهِ حَتَّى يُتْرِفَهُ. وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ النَّصَّ إنْ كَانَ يَقْتَضِي مَا ذَكَرْتُمْ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ لَكِنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ عَمَّا عَدَاهُ. وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ الْقِرَانَ وَالْمُتْعَةَ إبَانَةً لِنَسْخِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَحْرِيمِهِمْ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَالنَّسْخُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً، وَرُجُوعُ الْإِشَارَةِ إلَى مَا ذَكَرْتُمْ يُنَافِي ذَلِكَ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ كَمَا أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ لَهُ أَيْضًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْعَدَمُ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ النَّسْخَ ثَابِتٌ عِنْدَنَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ أَيْضًا، حَتَّى لَوْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَازَ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَلَكِنْ لَا يُدْرِكُ فَضِيلَةَ التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّ الْإِلْمَامَ قَطَعَ مُتْعَتَهُ كَمَا قَطَعَ مُتْعَةَ الْآفَاقِيِّ إذَا رَجَعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلَى أَهْلِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ الْمُتْعَةِ لَا عَلَى عَدَمِ إدْرَاكِ الْفَضِيلَةِ. وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ:
وَهَذَا فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ، وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ مُتْعَةٌ وَلَا قِرَانٌ، بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَقَرَنَ حَيْثُ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مِيقَاتِيَّتَانِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْآفَاقِيِّ.
لِأَنَّ مُتْعَتَهُ نَقَصَتْ عَنْ مُتْعَةِ الْآفَاقِيِّ بِصَيْرُورَةِ دَمِهِ دَمَ جَبْرٍ. وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ مُتْعَةٌ وَلَا قِرَانٌ) هَذَا رَاجِعٌ إلَى تَفْسِيرِ {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَعِنْدَنَا هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسِيرَةُ سَفَرٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسِيرَةُ سَفَرٍ، كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ. وَقَوْلُهُ:(بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ: يَعْنِي لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، بِخِلَافِ مَا (إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَقَرَنَ حَيْثُ يَصِحُّ) بِلَا كَرَاهَةٍ (لِأَنَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مِيقَاتِيَّتَانِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْآفَاقِيِّ) قَالَ الْمَحْبُوبِيُّ: هَذَا إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ،
(وَإِذَا عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إلَى بَلَدِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ)؛ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ التَّمَتُّعُ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَإِلْمَامُهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا وَلَا يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: رحمه الله يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُمَا بِسَفْرَتَيْنِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَا دَامَ عَلَى نِيَّةِ التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّ السَّوْقَ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَلُّلِ فَلَمْ يَصِحَّ إلْمَامُهُ، بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَسَاقَ الْهَدْيَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَصَحَّ إلْمَامُهُ
وَأَمَّا إذَا خَرَجَ بَعْدَهَا فَقَدْ مَنَعَ مِنْ الْقِرَانِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِخُرُوجِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ. وَإِنَّمَا خُصَّ الْقِرَانُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى الْكُوفَةِ وَاعْتَمَرَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إلَى بَلَدِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ) بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا (لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا)، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، (وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ التَّمَتُّعُ كَذَا رُوِيَ عَنْ) ابْنِ عَبَّاسٍ وَ (عِدَّةٍ مِنْ التَّابِعِينَ)، وَهَذَا لِأَنَّ حَدَّ التَّمَتُّعِ لَيْسَ بِصَادِقٍ عَلَيْهِ حَيْثُ أَنْشَأَ لِكُلِّ نُسُكٍ سَفَرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَالْمُتَمَتِّعُ مَنْ يَتَرَفَّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ (وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَإِلْمَامُهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ:(بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَإِلْمَامُهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا: يَعْنِي الْآفَاقِيَّ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلْمَامُهُ صَحِيحًا بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ (إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَسَاقَ الْهَدْيَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَوْدِ هُوَ مَا يَكُونُ عَنْ الْوَطَنِ
بِأَهْلِهِ.
(وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَطَافَ لَهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ ثُمَّ دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَتَمَّمَهَا وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ كَانَ مُتَمَتِّعًا)؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَنَا شَرْطٌ فَيَصِحُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ فِيهَا، وَقَدْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ
(وَإِنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَصَاعِدًا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا)؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْأَكْثَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَفْسُدُ نُسُكُهُ بِالْجِمَاعِ فَصَارَ كَمَا إذَا تَحَلَّلَ مِنْهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَمَالِكٌ رحمه الله يَعْتَبِرُ الْإِتْمَامَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا؛
إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى مَكَّةَ وَلَيْسَ هَاهُنَا بِمَوْجُودٍ لِكَوْنِهِ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي مَكَّةَ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْعَوْدُ، وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فَلَأَنْ لَا يَكُونَ إذَا لَمْ يَسُقْ كَانَ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ) فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَإِنْ أَدَّى الْأَعْمَالَ فِيهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مُتَمَتِّعٌ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ فِيهَا إذَا كَانَ التَّحَلُّلُ عَنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فِيهَا. وَقُلْنَا: إنْ أَدَّى أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فِيهَا كَانَ مُتَمَتِّعًا وَإِلَّا فَلَا. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِتَقَدُّمِ رُكْنِ الْعُمْرَةِ عَلَيْهَا وَهُوَ الْإِحْرَامُ، وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَوْجُودٌ بِاعْتِبَارِ الْإِتْمَامِ وَهُوَ التَّحَلُّلُ فِيهَا، وَلَنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطٌ فَجَازَ تَقْدِيمُهُ كَتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَالِاعْتِبَارُ بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ فِيهَا وَقَدْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ. قِيلَ: إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ فَإِنَّ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ مِنْ الظُّهْرِ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْكُلِّ لِمُعَارَضَةِ النَّصِّ النَّاطِقِ بِرُبَاعِيَّةِ الظُّهْرِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ) ظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. قَوْلُهُ: (وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَأَرَادَ بِالنُّسُكِ الْعُمْرَةَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ نُسُكَ الْعُمْرَةِ يَفْسُدُ إذَا جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَلَمْ يَفْسُدْ بَعْدَ مَا طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ، فَإِنْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَفْسُدُ نُسُكُهُ بِالْجِمَاعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ تَحَلَّلَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَوْ تَحَلَّلَ قَبْلَهَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فَكَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا الْمَذْكُورُ حُجَّةً عَلَى مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْإِتْمَامَ وَهَذَا فِي حُكْمِ
وَلِأَنَّ التَّرَفُّقَ بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ، وَالْمُتَمَتِّعُ مُتَرَفِّقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سُفْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
قَالَ (: وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالُ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) كَذَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ الثَّلَاثَةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِمُضِيِّ عَشْرِ ذِي الْحَجَّةِ، وَمَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ لَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ،
الْإِتْمَامِ فِي حَقِّ عَدَمِ الْفَسَادِ فَكَذَا فِي حَقِّ كَوْنِهِ غَيْرَ مُتَمَتِّعٍ (؛ وَلِأَنَّ التَّرَفُّقَ) إنَّمَا يَكُونُ (بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ، وَالْمُتَمَتِّعُ هُوَ الْمُتَرَفِّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ) فَلَا بُدَّ أَنْ تُوجَدَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا فِيهِ حَتَّى يَكُونَ مُتَمَتِّعًا. وَالْجَوَابُ عَنْ الشَّافِعِيِّ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بَلْ هُوَ مِنْ الشُّرُوطِ
(قَالَ: وَأَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ هُوَ الَّذِي يَتَرَفَّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ احْتَاجَ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ الْأَشْهُرَ فَقَالَ: أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. فَإِنْ قُلْت: هَلْ لِلْمُتَمَتِّعِ اخْتِصَاصٌ بِذَلِكَ أَوْ الْقَارِنُ أَيْضًا لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. قُلْت: قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَجَدْت رِوَايَةً فِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقِرَانِ ذَلِكَ.
قَالَ فِي الْمُنْتَقَى: رَجُلٌ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ: أَيْ أَحْرَمَ ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَانَ قَارِنًا وَلَكِنْ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: (كَذَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ الثَّلَاثَةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ)، إنَّمَا فَصَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ الْعَبَادِلَةِ وَهْم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُفْهَمُ فِي عُرْفِهِمْ مِنْ إطْلَاقِ الْعَبَادِلَةِ إلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ، وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْمُحَدِّثِينَ فَالْعَبَادِلَةُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَلَيْسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ؛ (وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِمُضِيِّ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَمَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ لَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ) وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ مَالِكٍ إنَّ وَقْتَ الْحَجِّ جَمِيعُ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ. وَفَائِدَةُ ذَلِكَ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ جَوَازِ تَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ. فَإِنْ قُلْت: الْحَجُّ يَفُوتُ بِمُضِيِّ عَشْرِ لَيَالٍ وَتِسْعَةِ أَيَّامٍ فَلَا يَكُونُ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ. قُلْت: هُوَ مُتَمَسَّكُ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: فَوَاتُ الْحَجِّ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ وَهُوَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ مُوَقَّتٌ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ لَا لِأَنَّهُ خَرَجَ وَقْتُ الْحَجِّ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ لَا يَجُوزُ قَبْلَهُ وَهُوَ رُكْنٌ وَالرُّكْنُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ اعْتَبَرْتُمْ الْفَوَاتَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ، وَإِنْ اعْتَبَرْتُمْ أَدَاءَ الْأَرْكَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يَجُوزُ فِيهِمَا، وَحِينَئِذٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذُو الْحِجَّةِ إلَى آخِرِهِ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: الْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ: شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُمْ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ لَا كُلُّهُ.
وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بِالتَّذْكِيرِ وَهُوَ اللَّيَالِي فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي دُخُولِ يَوْمِ النَّحْرِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ مِنْ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْآخَرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الِاعْتِكَافِ. فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ مَا وَجْهُ دُخُولِ شَوَّالٍ وَذِي الْقَعْدَةِ فِي وَقْتِهِ وَأَدَاءُ الْحَجِّ لَا يَصِحُّ فِيهِمَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَ أَفْعَالِهِ يَصِحُّ فِيهِمَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْآفَاقِيَّ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ فِي شَوَّالٍ وَطَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ وَسَعَى بَعْدَهُ فَإِنَّ هَذَا السَّعْيَ يَكُونُ السَّعْيَ الْوَاجِبَ فِي الْحَجِّ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ السَّعْيِ الْوَاجِبِ فِي الْحَجِّ. وَقَوْلُهُ:(وَهَذَا) أَيْ: مَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْقُولِ (يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} شَهْرَانِ وَبَعْضُ الشَّهْرِ الثَّالِثِ لَا كُلُّهُ) وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّةَ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَالَ: لَفْظُ أَشْهُرٍ عَامٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ بَعْضٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الْخُصُوصُ إذَا كَانَ الْعَامُّ جَمَعَا الثَّلَاثَةَ، وَلِأَنَّ الْخُصُوصَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِخْرَاجِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لَا بِإِخْرَاجِ بَعْضِ كُلِّ فَرْدٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: اسْمُ الْجَمْعِ يَشْتَرِكُ فِيهِ مَا وَرَاءَ الْوَاحِدِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْجَمْعِ التَّثْنِيَةُ. وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِلْبَاسِ كَمَا فِي هَذَا الْمِثَالِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مُلْبِسٌ. وَأَقُولُ: هُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ. فَإِنْ قُلْت: فَيَكُونُ مَجَازًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَرِينَةٍ. قُلْت: سِيَاقُ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ قَالَ {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} وَالْحَجُّ نَفْسُهُ لَيْسَ بِأَشْهُرٍ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: الْحَجُّ فِي أَشْهُرٍ، وَالظَّرْفُ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِغْرَاقَ فَكَانَ الْبَعْضُ مُرَادًا. وَعَيْنُهُ مَا رُوِيَ عَنْ
(فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَلَيْهَا جَازَ إحْرَامُهُ وَانْعَقَدَ حَجًّا) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَإِنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَهُ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا فَأَشْبَهُ الطَّهَارَةَ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ تَحْرِيمُ أَشْيَاءَ وَإِيجَابُ أَشْيَاءَ، وَذَلِكَ يَصِحُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَصَارَ كَالتَّقْدِيمِ عَلَى الْمَكَانِ.
قَالَ: (وَإِذَا قَدِمَ الْكُوفِيُّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَفَرَغَ مِنْهَا وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ ثُمَّ اتَّخَذَ مَكَّةَ أَوْ الْبَصْرَةَ دَارًا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ تَرَفَّقَ بِنُسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَأَمَّا الثَّانِي فَقِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ. وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ
الْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ قَدِمَ الْإِحْرَامُ عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ. (جَازَ إحْرَامُهُ) عِنْدَنَا (وَانْعَقَدَ حَجًّا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَهُ) فَلَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ أَوَانِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَنْ الْحَجِّ وَالْمُدَّعِي وُقُوعَهُ إحْرَامًا لِلْعُمْرَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِحْرَامَ إذَا وُجِدَ وَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ لِلْحَجِّ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ حَذَرًا عَنْ الْإِلْغَاءِ كَمَنْ نَوَى صَوْمَ الْقَضَاءِ مِنْ النَّهَارِ فَإِنَّهُ يَكُونُ شَارِعًا فِي النَّفْلِ، (وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا فَأَشْبَهَ الطَّهَارَةَ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ) فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ شَرْطًا لَمَا كُرِهَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لَيْسَتْ لِلتَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ بَلْ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ بِطُولِ الزَّمَانِ.
وَقَوْلُهُ: (وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ تَحْرِيمُ أَشْيَاءَ) أَيْ: يَسْتَلْزِمُهُ كَتَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ وَلُبْسِ الْمَخِيطِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، (وَإِيجَابُ أَشْيَاءَ) كَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَأَمْثَالِهِمَا، (وَذَلِكَ يَصِحُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَصَارَ كَالتَّقْدِيمِ عَلَى الْمَكَانِ) يَعْنِي الْمِيقَاتَ. لَا يُقَالُ: هَذَا كُلُّهُ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْمُهِلُّ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مُهِلٌّ بِالْعُمْرَةِ» وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَيْثُ لَمْ يَصِحَّ تَقْدِيمُهُ. لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا الْحَدِيثُ شَاذٌّ جِدًّا فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ
قَالَ: (وَإِذَا قَدِمَ الْكُوفِيُّ بِعُمْرَةٍ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ (ثُمَّ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا) يَعْنِي أَقَامَ بِهَا بَعْدَمَا فَرَغَ مِنْ الْعُمْرَةِ وَحَلَقَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ وَهُوَ فِي هَذَا الْوَجْهِ مُتَمَتِّعٌ. وَالثَّانِي مَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ (أَوْ الْبَصْرَةَ دَارًا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ) وَقَالَ: وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ وَهُوَ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا. وَالثَّالِثُ هُوَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ وَلَا يَتَجَاوَزُ الْمِيقَاتَ حَتَّى يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَيْضًا مُتَمَتِّعٌ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ يُعْلَمُ مِنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَالرَّابِعُ هُوَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ وَيَتَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَعَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ إلْمَامًا صَحِيحًا وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِمَّا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ:(أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَإِنَّمَا صَارَ فِيهِ مُتَمَتِّعًا (لِأَنَّهُ تَرَفَّقَ بِنُسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ) مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ إلْمَامًا صَحِيحًا وَمِثْلُهُ مُتَمَتِّعٌ.
(وَأَمَّا الثَّانِي فَقِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ) ذَكَرَ
مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ تَكُونُ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً وَنُسُكَاهُ هَذَانِ مِيقَاتِيَّانِ. وَلَهُ أَنَّ السَّفْرَةَ الْأُولَى قَائِمَةٌ مَا لَمْ يَعُدْ إلَى وَطَنِهِ، وَقَدْ اجْتَمَعَ لَهُ نُسُكَانِ فِيهَا فَوَجَبَ دَمُ التَّمَتُّعِ (فَإِنْ قَدِمَ بِعُمْرَةٍ فَأَفْسَدَهَا وَفَرَغَ مِنْهَا وَقَصَّرَ ثُمَّ اتَّخَذَ الْبَصْرَةَ دَارًا ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رحمه الله (وَقَالَا: هُوَ مُتَمَتِّعٌ)؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ سَفَرٍ وَقَدْ تَرَفَّقَ فِيهِ بِنُسُكَيْنِ.
وَلَهُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى سَفَرِهِ مَا لَمْ يَرْجِعْ إلَى وَطَنِهِ (فَإِنْ كَانَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)؛ لِأَنَّ هَذَا إنْشَاءُ سَفَرٍ لِانْتِهَاءِ السَّفَرِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ اجْتَمَعَ لَهُ نُسُكَانِ صَحِيحَانِ فِيهِ، وَلَوْ بَقِيَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى الْبَصْرَةِ حَتَّى اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهٍ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَهُ مَكِّيَّةٌ وَالسَّفَرُ الْأَوَّلُ انْتَهَى بِالْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ وَلَا تَمَتُّعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ.
(وَمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَأَيُّهُمَا
الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ مُلْبِسٌ لِأَنَّهُ قَالَ فَقِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي كَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا وَفِي كَوْنِهِ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. وَالثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ. وَرَوَى الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ عَنْ أَبِي عِصْمَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ: يَعْنِي الْجَامِعَ الصَّغِيرَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَهَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ تَكُونُ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ نُسُكَيْهِ مِيقَاتِيَّانِ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا وَعَادَ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ فَكَانَ كَالْمُلِمِّ بِأَهْلِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّفْرَةَ الْأُولَى قَائِمَةٌ مَا لَمْ يَعُدْ إلَى أَهْلِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمِيقَاتِ حَتَّى عَادَ وَحَجَّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى أَهْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ. وَعِنْدَهُمَا أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمِيقَاتِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَصَلَ إلَى أَهْلِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ فَوَجَبَ دَمُ التَّمَتُّعِ وَلَمْ يَقُلْ: فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي حَقِّ وُجُوبِ الدَّمِ، فَقَالَ: وَجَبَ دَمُ التَّمَتُّعِ وَهُوَ دَمُ قُرْبَةٍ لِكَوْنِهِ دَمَ شُكْرٍ؛ وَلِهَذَا حَلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ فَيُصَارُ إلَى إيجَابِهِ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ احْتِيَاطًا.
وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ قَدِمَ بِعُمْرَةٍ) أَيْ: بِإِحْرَامِ عُمْرَةٍ (فَأَفْسَدَهَا) بِأَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ (وَفَرَغَ مِنْهَا) يَعْنِي مَضَى (وَقَصَّرَ) وَتَحَلَّلَ (ثُمَّ اتَّخَذَ الْبَصْرَةَ دَارًا ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ) أَيْ: قَضَى الْعُمْرَةَ الَّتِي أَفْسَدَهَا، (وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) يَعْنِي إذَا كَانَ خُرُوجُهُ إلَى الْبَصْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَمَّا إذَا خَرَجَ قَبْلَ
أَفْسَدَ مَضَى فِيهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْإِحْرَامِ إلَّا بِالْأَفْعَالِ (وَسَقَطَ دَمُ الْمُتْعَةِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَفَّقْ بِأَدَاءِ نُسُكَيْنِ صَحِيحَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ
(وَإِذَا تَمَتَّعَتْ الْمَرْأَةُ فَضَحَّتْ بِشَاةٍ لَمْ يُجِزْهَا عَنْ الْمُتْعَةِ)؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الرَّجُلِ.
(وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ اغْتَسَلَتْ وَأَحْرَمَتْ وَصَنَعَتْ كَمَا يَصْنَعُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ)
أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاعْتَمَرَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِلَا خِلَافٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَاقِلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ مُتَمَتِّعٌ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا تَمَتَّعَتْ الْمَرْأَةُ فَضَحَّتْ بِشَاةٍ لَمَّا يُجْزِهَا عَنْ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا) إذْ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا دَمُ الْمُتْعَةِ، وَالْأُضْحِيَّةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَلَئِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِأَنْ اشْتَرَتْ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَذَلِكَ وَاجِبٌ آخَرُ عَلَيْهَا غَيْرَ مَا وَجَبَ بِالتَّمَتُّعِ، (وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الرَّجُلِ) وَإِنَّمَا خُصَّتْ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ السَّائِلَةَ كَانَتْ امْرَأَةً فَوَضَعَتْ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَا وَقَعَ وَإِمَّا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِهِنَّ الْجَهْلُ وَنِيَّةُ التَّضْحِيَةِ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ جَهْلٍ. ثُمَّ لَمَّا لَمْ يُجْزِهَا عَنْ دَمِ الْمُتْعَةِ كَانَ عَلَيْهَا دَمَانِ سِوَى مَا ذَبَحَتْ: دَمُ الْمُتْعَةِ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهَا، وَدَمٌ آخَرُ لِأَنَّهَا قَدْ حَلَّتْ قَبْلَ الذَّبْحِ
، (وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ اغْتَسَلَتْ وَأَحْرَمَتْ وَصَنَعَتْ كَمَا يَصْنَعُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَتَّى
لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها حِينَ حَاضَتْ بِسَرِفٍ
تَطْهُرَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ بِسَرِفٍ) وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيك لَعَلَّك نَفِسْت؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، دَعِي عَنْك الْعُمْرَةَ، أَوْ قَالَ: اُرْفُضِي عُمْرَتَك وَانْقُضِي رَأْسَك وَامْتَشِطِي وَاصْنَعِي جَمِيعَ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» وَالِاسْتِدْلَالُ إنَّمَا هُوَ بِقَوْلِهِ: وَاصْنَعِي جَمِيعَ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاغْتِسَالِ، وَلَكِنْ فِيمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَائِشَةَ قَالَتْ: «نَفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ
وَلِأَنَّ الطَّوَافَ فِي الْمَسْجِدِ وَالْوُقُوفَ فِي الْمَفَازَةِ، وَهَذَا الِاغْتِسَالُ لِلْإِحْرَامِ لَا لِلصَّلَاةِ فَيَكُونُ مُفِيدًا.
(فَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ انْصَرَفَتْ مِنْ مَكَّةَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِطَوَافِ الصَّدْرِ)«؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ فِي تَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ» .
(وَمَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ طَوَافُ الصَّدْرِ)؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَنْ يُصْدَرُ إلَّا إذَا اتَّخَذَهَا دَارًا بَعْدَمَا حَلَّ النَّفَرُ الْأَوَّلُ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَيَرْوِيهِ الْبَعْضُ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِ وَقْتِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
- صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ» " دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ؛ (وَلِأَنَّ الطَّوَافَ فِي الْمَسْجِدِ) وَالْحَائِضُ مَنْهِيَّةٌ عَنْ دُخُولِهِ، (وَالْوُقُوفَ فِي الْمَفَازَةِ) وَلَيْسَتْ بِمَنْهِيَّةٍ عَنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الِاغْتِسَالِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِهِ مَعَ قِيَامِ الْحَيْضِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَهَذَا الِاغْتِسَالُ لِلْإِحْرَامِ لَا لِلصَّلَاةِ فَيَكُونُ مُفِيدًا) لِلنَّظَافَةِ.
وَقَوْلُهُ: (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِطَوَافِ الصَّدْرِ) أَيْ: لِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ؛ «لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ فِي تَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ» ، رَوَتْ عَائِشَةُ «أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ حَاضَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: عَقْرَى حَلْقَى إنَّك لَحَابِسَتُنَا، أَمَا كُنْت طُفْت يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ عليه الصلاة والسلام: فَلَا بَأْسَ انْفِرِي» فَلَمَّا ثَبَتَتْ الرُّخْصَةُ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فِي تَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ لَمْ يَجِبْ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ نُسُكٍ جَازَ تَرْكُهُ بِعُذْرٍ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ كَفَّارَةٌ، وَعَقْرَى وَحَلْقَى عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فَعْلَى، وَمَعْنَاهُ: عَقَرَ جَسَدُهَا وَأَصَابَهَا فِي حَلْقِهَا وَجَعٌ.
وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (بَعْدَمَا حَلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ) يَعْنِي الْيَوْمَ الثَّالِثَ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ (لِأَنَّهُ وَجَبَ بِدُخُولِ وَقْتِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِنِيَّتِهِ الْإِقَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ) كَمَنْ أَصْبَحَ وَهُوَ مُقِيمٌ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ. فَأَمَّا إذَا اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافُ الصَّدْرِ لِأَنَّهُ صَارَ كَمُقِيمٍ سَافَرَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ الصَّدْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ بَعْدَمَا افْتَتَحَ الطَّوَافَ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الطَّوَافِ بَاقٍ بَعْدَمَا حَلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ، وَمَا بَقِيَ الْوَقْتُ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَيَسْقُطُ بِالْعَارِضِ الْمُعْتَبَرِ كَالْمَرْأَةِ الَّتِي حَاضَتْ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ.
بَابُ الْجِنَايَاتِ
(وَإِذَا تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ
بَابُ الْجِنَايَاتِ):
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُحْرِمِينَ بَدَأَ بِمَا يَعْتَرِيهِمْ مِنْ الْعَوَارِضِ مِنْ الْجِنَايَاتِ وَالْإِحْصَارِ وَالْفَوَاتِ، وَهِيَ جَمْعُ جِنَايَةٍ، وَالْجِنَايَةُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا سَوَاءٌ حَلَّ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، وَلَكِنَّهُمْ أَعْنِي الْفُقَهَاءَ خَصُّوهَا بِالْفِعْلِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ. فَأَمَّا الْفِعْلُ فِي الْمَالِ فَسَمَّوْهُ غَصْبًا، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا فِعْلٌ لَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيَانَ أَنَّهَا هَاهُنَا أَنْوَاعٌ (قَوْلُهُ: وَإِذَا تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ) التَّطَيُّبُ عِبَارَةٌ عَنْ لُصُوقِ عَيْنٍ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ بِبَدَنِ الْمُحْرِمِ أَوْ بِعُضْوٍ مِنْهُ، فَلَوْ شَمَّ طِيبًا وَلَمْ يَلْتَصِقْ بِبَدَنِهِ مِنْ عَيْنِهِ شَيْءٌ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّ تَطَيُّبَ الْمُحْرِمِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ» وَالتَّطَيُّبُ يُزِيلُ هَذِهِ الصِّفَةَ فَكَانَ جِنَايَةً لَكِنَّهَا تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ مَحَلِّ
فَإِنْ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا فَمَا زَادَ فَعَلَيْهِ دَمٌ) وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّأْسِ وَالسَّاقِ وَالْفَخِذِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَكَامَلُ بِتَكَامُلِ الِارْتِفَاقِ، وَذَلِكَ فِي الْعُضْوِ الْكَامِلِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمُوجِبِ (وَإِنْ طَيَّبَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ)؛ لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يَجِبُ بِقَدْرِهِ مِنْ الدَّمِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ. وَفِي الْمُنْتَقَى أَنَّهُ إذَا طَيَّبَ رُبُعَ الْعُضْوِ فَعَلَيْهِ دَمٌ اعْتِبَارًا بِالْحَلْقِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ وَاجِبُ الدَّمِ يَتَأَدَّى بِالشَّاةِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ نَذْكُرُهُمَا فِي بَابِ الْهَدْيِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكُلُّ صَدَقَةٍ فِي الْإِحْرَامِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ فَهِيَ
الْجِنَايَةِ، فَفَصَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:(فَإِنْ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا فَمَا زَادَ فَعَلَيْهِ دَمٌ) وَقَوْلُهُ: فَمَا زَادَ فُصِّلَ فِي الْبَيْنِ. وَقَوْلُهُ: (وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّأْسِ) ظَاهِرٌ. وَالْفَاصِلُ فِي الِارْتِفَاقِ بَيْنَ الْكَامِلِ وَالْقَاصِرِ الْعَادَةُ، فَإِنَّ الْعَادَةَ فِي اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ لِقَضَاءِ التَّفَثِ عُضْوٌ كَامِلٌ فَتَتِمُّ بِهِ الْجِنَايَةُ وَفِيمَا دُونَهُ فِي جِنَايَتِهِ نُقْصَانٌ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ. وَقَوْلُهُ:(وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا) هُوَ قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّ حَلْقَ بَعْضِ الرَّأْسِ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ إلَخْ، وَقَوْلُهُ (إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ) يَعْنِي إذَا طَافَ طَوَافَ
نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ إلَّا مَا يَجِبُ بِقَتْلِ الْقَمْلَةِ وَالْجَرَادَةِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
قَالَ (فَإِنْ خَضَبَ رَأْسَهُ بِحِنَّاءٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «الْحِنَّاءُ طِيبٌ» وَإِنْ صَارَ مُلَبَّدًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ دَمٌ لِلتَّطَيُّبِ وَدَمٌ لِلتَّغْطِيَةِ. وَلَوْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِطِيبٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ إذَا خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ؛ لِأَجْلِ الْمُعَالَجَةِ مِنْ الصُّدَاعِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُغَلِّفُ رَأْسَهُ وَهَذَا صَحِيحٌ. ثُمَّ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الرَّأْسِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ دَلَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ.
(فَإِنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي الشَّعْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِزَالَةِ الشَّعَثِ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِهِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ إلَّا أَنَّ فِيهِ ارْتِفَاقًا بِمَعْنَى قَتْلِ الْهَوَامِّ
الزِّيَارَةِ جُنُبًا، وَإِذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَقَوْلُهُ:(إلَّا مَا يَجِبُ بِقَتْلِ الْقَمْلَةِ وَالْجَرَادَةِ) يَعْنِي أَنَّ التَّصَدُّقَ فِيهِمَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِنِصْفِ صَاعٍ بَلْ يَتَصَدَّقُ بِمَا شَاءَ،
وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْحِنَّاءُ طِيبٌ» قَالَهُ حِينَ نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ، (وَإِنْ صَارَ مُلَبَّدًا) بِأَنْ كَانَ الْحِنَّاءُ جَامِدًا غَيْرَ مَائِعٍ (فَعَلَيْهِ دَمَانِ: دَمٌ لِلتَّطَيُّبِ، وَدَمٌ لِلتَّغْطِيَةِ) يَعْنِي إذَا غَطَّاهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَكَذَا إذَا غَطَّى رُبْعَ الرَّأْسِ، أَمَّا إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ. وَقَوْلُهُ:(بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُغَلِّفُ رَأْسَهُ) أَيْ: يُغَطِّيهِ، وَالْوَسِمَةُ بِكَسْرِ السِّينِ وَهُوَ أَفْصَحُ وَسُكُونِهَا: شَجَرَةٌ وَرَقُهَا خِضَابٌ. وَقَوْلُهُ: (وَهَذَا) أَيْ: تَأْوِيلُ أَبِي يُوسُفَ بِالتَّغْلِيفِ (صَحِيحٌ)؛ لِأَنَّ تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ تُوجِبُ الْجَزَاءَ. وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ الْحِنَّاءِ (رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَاقْتَصَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى ذِكْرِ الرَّأْسِ) خَاصَّةً وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ) يَعْنِي بِزَيْتٍ خَالِصٍ، أَمَّا الْمُطَيِّبُ بِغَيْرِهِ فَيَجِيءُ ذِكْرُهُ (فَعَلَيْهِ دَمٌ) إذَا بَلَغَ عُضْوًا كَامِلًا وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.
وَإِزَالَةِ الشَّعَثِ فَكَانَتْ جِنَايَةً قَاصِرَةً. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ طِيبٍ، وَيَقْتُلُ الْهَوَامَّ وَيُلَيِّنُ الشَّعْرَ وَيُزِيلُ التَّفَثَ وَالشَّعَثَ فَتَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فَتُوجِبُ الدَّمَ، وَكَوْنُهُ مَطْعُومًا لَا يُنَافِيهِ كَالزَّعْفَرَانِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الزَّيْتِ الْبَحْتِ وَالْخَلِّ الْبَحْتِ.
أَمَّا الْمُطَيِّبُ مِنْهُ كَالْبَنَفْسَجِ وَالزَّنْبَقِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا يَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ، وَهَذَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ، وَلَوْ دَاوَى بِهِ جُرْحَهُ أَوْ شُقُوقَ رِجْلَيْهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ فِي نَفْسِهِ إنَّمَا هُوَ أَصْلُ الطِّيبِ أَوْ طِيبٌ مِنْ وَجْهِ فَيُشْتَرَطُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَجْهِ
وَقَوْلُهُ: (إنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ) فَإِنَّ الرَّوَائِحَ تُلْقَى فِيهِ فَيَصِيرُ غَالِيَةً فَصَارَ كَبَيْضِ الصَّيْدِ فِي الْأَصَالَةِ يَلْزَمُ بِكَسْرِهِ الْجَزَاءُ فَكَذَا بِاسْتِعْمَالِهِ. قَوْلُهُ: (وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الزَّيْتِ الْبَحْتِ) أَيْ: الْخَالِصِ (وَالْحَلِّ) أَيْ: دُهْنِ السِّمْسِمِ، (أَمَّا الْمُطَيِّبُ مِنْهُ كَالْبَنَفْسَجِ) وَهُوَ مَعْرُوفٌ (وَالزَّنْبَقِ) عَلَى وَزْنِ الْعَنْبَرِ دُهْنُ الْيَاسَمِينِ (وَمَا أَشْبَهَهُمَا) كَدُهْنِ الْبَانِ وَالْوَرْدِ (فَيَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ، وَهَذَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ، وَلَوْ دَاوَى بِهِ جُرْحَهُ أَوْ شُقُوقَ رِجْلَيْهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ)
التَّطَيُّبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَدَاوَى بِالْمِسْكِ وَمَا أَشْبَهَهُ.
(وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَخِيطًا أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ،
وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (بِخِلَافِ مَا إذَا تَدَاوَى بِالْمِسْكِ وَمَا أَشْبَهَهُ) كَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ؛ لِأَنَّهَا طِيبٌ بِنَفْسِهَا فَيَجِبُ الدَّمُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي.
وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَخِيطًا أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ)
وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ إذَا لَبِسَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَوَّلًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجِبُ الدَّمُ بِنَفْسِ اللُّبْسِ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ يَتَكَامَلُ بِالِاشْتِمَالِ عَلَى بَدَنِهِ.
وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى التَّرَفُّقِ مَقْصُودٌ مِنْ اللُّبْسِ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ؛ لِيَحْصُلَ عَلَى الْكَمَالِ وَيَجِبُ الدَّمُ، فَقُدِّرَ بِالْيَوْمِ؛ لِأَنَّهُ يُلْبَسُ فِيهِ ثُمَّ يُنْزَعُ عَادَةً وَتَتَقَاصَرُ فِيمَا دُونَهُ الْجِنَايَةُ فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رحمه الله أَقَامَ الْأَكْثَرَ مَقَامَ الْكُلِّ.
حُكْمُ اللَّيْلَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: (وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى التَّرَفُّقِ مَقْصُودٌ مِنْ اللُّبْسِ) لِأَنَّهُ أَعَدَّ لِذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ يَمْتَدُّ فَيَكُونُ الِارْتِفَاقُ كَامِلًا، وَقَدْ يُقَصِّرُ فَيَصِيرُ نَاقِصًا، فَلَا بُدَّ مِنْ حَدٍّ فَاصِلٍ بَيْنَ الْكَامِلِ وَالْقَاصِرِ لِيَتَعَيَّنَ الْجَزَاءُ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَقُدِّرَ بِالْيَوْمِ أَوْ اللَّيْلَةِ؛ (لِأَنَّهُ يُلْبَسُ فِيهِ ثُمَّ يُنْزَعُ عَادَةً) فَإِنَّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا يَلِيقُ بِالنَّهَارِ يَنْزِعُهُ بِاللَّيْلِ، وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا يَلِيقُ بِاللَّيْلِ يَنْزِعُهُ بِالنَّهَارِ، فَإِذَا نَزَعَ دَلَّ عَلَى تَمَامِ الِارْتِفَاقِ فَيَجِبُ فِيهِ الدَّمُ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ تَتَقَاصَرُ الْجِنَايَةُ فِيهِ لِنُقْصَانِ الِارْتِفَاقِ فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ، (غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَقَامَ الْأَكْثَرَ مَقَامَ الْكُلِّ)؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ فَيَنْزِعُ ثِيَابَهُ الَّتِي لَبِسَهَا لِلنَّاسِ، فَكَانَ اللُّبْسُ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ ارْتِفَاقًا مَقْصُودًا، وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مَضْبُوطٍ فَإِنَّ أَحْوَالَ رُجُوعِ النَّاسِ إلَى بُيُوتِهِمْ قَبْلَ اللَّيْلِ مُخْتَلِفَةٌ، بَعْضُهُمْ يَرْجِعُ فِي وَقْتِ الضُّحَى، وَبَعْضُهُمْ قَبْلَهُ، وَبَعْضُهُمْ بَعْدَهُ، فَكَانَ الظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَلَوْ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ أَوْ اتَّشَحَ بِهِ أَوْ ائْتَزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْهُ لُبْسَ الْمَخِيطِ. وَكَذَا لَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ فِي الْقَبَاءِ وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ خِلَافًا لِزَفَرٍ؛ لِأَنَّهُ مَا لَبِسَهُ لُبْسَ الْقَبَاءِ وَلِهَذَا يَتَكَلَّفُ فِي حِفْظِهِ. وَالتَّقْدِيرُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ مَا بَيَّنَّاهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا غَطَّى جَمِيعَ رَأْسِهِ يَوْمًا كَامِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ، وَلَوْ غَطَّى بَعْضَ رَأْسِهِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ اعْتَبَرَ الرُّبُعَ اعْتِبَارًا بِالْحَلْقِ وَالْعَوْرَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْبَعْضِ اسْتِمْتَاعٌ مَقْصُودٌ يَعْتَادُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ.
وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ أَوْ اتَّشَحَ بِهِ) الِاتِّشَاحُ هُوَ أَنْ يُدْخِلَ ثَوْبَهُ تَحْتَ يَدِهِ الْيُمْنَى وَيُلْقِيَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ. وَقَوْلُهُ: (خِلَافًا لِزُفَرَ) هُوَ يَقُولُ: الْقَبَاءُ مَخِيطٌ، فَإِذَا أَدْخَلَ فِيهِ مَنْكِبَيْهِ صَارَ لَابِسًا لِلْمَخِيطِ، فَإِنَّ الْقَبَاءَ يُلْبَسُ هَكَذَا عَادَةً. وَقُلْنَا: مَا لَبِسَ لِبْسَ الْقَبَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ الضَّمُّ إلَى نَفْسِهِ بِإِدْخَالِ الْمَنْكِبَيْنِ وَالْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْقَبْوِ وَهُوَ الضَّمُّ وَلَمْ يُوجَدْ، (وَلِهَذَا يَتَكَلَّفُ فِي حِفْظِهِ) وَعَلَى هَذَا لَوْ زَرَّهُ وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ كَانَ لَابِسًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّفُ إذْ ذَاكَ فِي حِفْظِهِ وَإِنَّمَا أَعَادَ قَوْلَهُ:(وَالتَّقْدِيرُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ) لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ الْفُرُوعَ. وَقَوْلُهُ: (مَا بَيَّنَّاهُ) هُوَ مَا قَالَ أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ يَوْمًا كَامِلًا.
وَقَوْلُهُ: (وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا غَطَّى جَمِيعَ رَأْسِهِ) ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ:(يَعْتَادُهُ بَعْضُ النَّاسِ) كَالْأَتْرَاكِ وَالْأَكْرَادِ فَإِنَّهُمْ يُغَطُّونَ رُءُوسَهُمْ بِالْقَلَانِسِ الصِّغَارِ وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ رِفْقًا كَامِلًا، (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ)
(وَإِذَا حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ أَوْ رُبُعَ لِحْيَتِهِ فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الرُّبُعِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ) وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: لَا يَجِبُ إلَّا بِحَلْقِ الْكُلِّ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يَجِبُ بِحَلْقِ الْقَلِيلِ اعْتِبَارًا بِنَبَاتِ الْحَرَمِ. وَلَنَا أَنَّ حَلْقَ بَعْضِ الرَّأْسِ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فَتَتَكَامَلُ بِهِ الْجِنَايَةُ وَتَتَقَاصَرُ فِيمَا دُونَهُ بِخِلَافِ تَطَيُّبِ رُبُعِ الْعُضْوِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَكَذَا حَلْقُ بَعْضِ اللِّحْيَةِ مُعْتَادٌ بِالْعِرَاقِ وَأَرْضِ الْعَرَبِ
أَيْ: لِحَقِيقَةِ الْكَثْرَةِ، إذْ حَقِيقَتُهَا إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا قَابَلَهَا أَقَلُّ مِنْهَا وَالرُّبْعُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً.
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا حَلَقَ رُبْعَ رَأْسِهِ) ظَاهِرٌ (وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجِبُ إلَّا بِحَلْقِ الْكُلِّ) عَمَلًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} فَإِنَّ الرَّأْسَ اسْمٌ لِلْكُلِّ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ بِحَلْقِ الْقَلِيلِ) وَهُوَ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ، وَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِاسْمِ الْجِنْسِ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِاسْمِ الْجِنْسِ يَتَأَدَّى بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَمَا فِي نَبَاتِ الْحَرَمِ، (وَلَنَا أَنَّ حَلْقَ بَعْضِ الرَّأْسِ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ)، فَإِنَّ الْأَتْرَاكَ يَحْلِقُونَ أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ وَبَعْضُ الْعَلَوِيَّةِ يَحْلِقُونَ نَوَاصِيَهُمْ لِابْتِغَاءِ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ، وَالِارْتِفَاقُ الْكَامِلُ تَتَكَامَلُ بِهِ الْجِنَايَةُ كَمَا تَقَدَّمَ، (وَتَتَقَاصَرُ فِيمَا دُونَهُ) وَفِي قَوْلِهِ: فَتَتَكَامَلُ بِهِ الْجِنَايَةُ إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ قَوْلِ مَالِكٍ
(وَإِنْ حَلَقَ الرَّقَبَةَ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ. (وَإِنْ حَلَقَ الْإِبْطَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ لِدَفْعِ الْأَذَى وَنَيْلِ الرَّاحَةِ فَأَشْبَهَ الْعَانَةَ.
ذَكَرَ فِي الْإِبْطَيْنِ الْحَلْقَ هَاهُنَا وَفِي الْأَصْلِ النَّتْفُ وَهُوَ السُّنَّةُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ: (إذَا حَلَقَ عُضْوًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَطَعَامٌ)
فَإِنَّهُ قَالَ: بِحَلْقِ كُلِّ الرَّأْسِ تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ، فَأَشَارَ إلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَكَامَلُ بِالْبَعْضِ أَيْضًا. وَفِي قَوْلِهِ: وَتَتَقَاصَرُ فِيمَا دُونَهُ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله إنَّهُ يَجِبُ الْجَزَاءُ بِالْقَلِيلِ، فَأَشَارَ إلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْقَلِيلِ قَاصِرَةٌ فَكَيْفَ تُوجِبُ الدَّمَ.
وَأَمَّا حَلْقُ اللِّحْيَةِ فَهُوَ مُتَعَارَفٌ، فَإِنَّ الْأَكَاسِرَةَ كَانُوا يَحْلِقُونَ لِحَى شُجْعَانِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْأَخْذُ مِنْ اللِّحْيَةِ مِقْدَارُ الرُّبْعِ وَمَا يُشْبِهُهُ مُعْتَادٌ بِالْعِرَاقِ وَأَرْضِ الْعَرَبِ، فَكَانَ مَقْصُودًا بِالِارْتِفَاقِ كَحَلْقِ الرَّأْسِ فَأُلْحِقَ بِهِ احْتِيَاطًا لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي الْمَنَاسِكِ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ حَتَّى وَجَبَتْ بِالْأَعْذَارِ، بِخِلَافِ تَطْيِيبِ رُبْعِ الْعُضْوِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، إذْ الْعَادَةُ فِي الطِّيبِ لَيْسَتْ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الرُّبْعِ فَكَانَ الْعُضْوُ الْكَامِلُ فِي الطِّيبِ كَالرُّبْعِ فِي الْحَلْقِ فِي حَقِّ الْكَفَّارَةِ، (وَإِنْ حَلَقَ الرَّقَبَةَ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ (وَإِنْ حَلَقَ الْإِبِطَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ لِدَفْعِ الْأَذَى وَنَيْلِ الرَّاحَةِ فَأَشْبَهَ الْعَانَةَ) قِيلَ: إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِبِطَيْنِ مَقْصُودًا بِالْحَلْقِ وَجَبَ أَنْ يَجِبَ بِحَلْقِهِمَا دَمَانِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ جِنَايَاتِ الْمُحْرِمِ إذَا كَانَتْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ يَجِبُ فِيهَا ضَمَانٌ وَاحِدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَزَالَ شَعْرَ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِالتَّنُّورِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ؟ (ذُكِرَ فِي الْإِبِطَيْنِ الْحَلْقُ هَاهُنَا) يَعْنِي فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَفِي الْأَصْلِ) أَيْ: الْمَبْسُوطِ (النَّتْفُ وَهُوَ السُّنَّةُ) بِخِلَافِ الْعَانَةِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ فِيهَا الْحَلْقُ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:«عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ، مِنْهَا الِاسْتِحْدَادُ» وَتَفْسِيرُهُ حَلْقُ الْعَانَةِ بِالْحَدِيدِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إذَا حَلَقَ عُضْوًا فَعَلَيْهِ دَمٌ) قِيلَ: قَوْلُهُمَا بَيَانٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَا أَنَّهُ خَالَفَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ
أَرَادَ بِهِ الصَّدْرَ وَالسَّاقَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِطَرِيقِ التَّنُّورِ فَتَتَكَامَلُ بِحَلْقِ كُلِّهِ وَتَتَقَاصَرُ عِنْدَ حَلْقِ بَعْضِهِ (وَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ فَعَلَيْهِ) طَعَامٌ (حُكُومَةُ عَدْلٍ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنْظَرُ أَنَّ هَذَا الْمَأْخُوذَ كَمْ يَكُونُ مِنْ رُبُعِ اللِّحْيَةِ
لِأَنَّ الرِّوَايَةَ مَحْفُوظَةٌ عَنْهُمَا. وَقَوْلُهُ: (أَرَادَ بِهِ) أَيْ: بِقَوْلِهِ عُضْوًا (الصَّدْرَ وَالسَّاقَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ) مِثْلَ الْفَخِذِ وَالْعَضُدِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْجِنَايَةُ بِالْحَلْقِ إنَّمَا تَتَكَامَلُ إذَا كَانَ الْعُضْوُ مَقْصُودًا بِالْحَلْقِ وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ. قُلْت: هَذَا الَّذِي ذَكَرْت هُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ. قَالَ بَعْدَمَا ذَكَرَ حَلْقَ الرَّأْسِ: ثُمَّ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ مَتَى حَلَقَ عُضْوًا مَقْصُودًا بِالْحَلْقِ مِنْ بَدَنِهِ قَبْلَ أَوَانِ التَّحَلُّلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ حَلَقَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ ثُمَّ قَالَ: وَمِمَّا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ حَلْقُ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ، وَلَكِنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ مَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالتَّنُّورِ: أَيْ: إزَالَتُهُ بِالنُّورَةِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي إزَالَةِ الشَّعْرِ بَيْنَ الْحَلْقِ وَالنَّتْفِ وَالتَّنُّورِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ بِحَلْقِ كُلِّهِ كَامِلَةً وَبِحَلْقِ بَعْضِهِ قَاصِرَةً. وَقَوْلُهُ:(وَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ) ظَاهِرٌ. وَقِيلَ الشَّارِبُ عُضْوٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ بَعْضِ النَّاسِ حَلْقَ الشَّارِبِ دُونَ اللِّحْيَةِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ تَكَامُلَ الْجِنَايَةِ بِحَلْقِهِ.
فَيَجِبُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ بِحَسَبِ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَثَلًا مِثْلَ رُبُعِ الرُّبُعِ لَزِمَهُ قِيمَةُ رُبُعِ الشَّاةِ، وَلَفْظَةُ الْأَخْذِ مِنْ الشَّارِبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ السُّنَّةُ فِيهِ دُونَ الْحَلْقِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُقَصَّ حَتَّى يُوَازِيَ الْإِطَارَ. قَالَ:(وَإِنْ حَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رحمه الله (وَقَالَا: عَلَيْهِ صَدَقَةٌ)؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِقُ الْحِجَامَةَ وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَكَذَا مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهَا، وَإِلَّا أَنَّ فِيهِ إزَالَةَ شَيْءٍ مِنْ التَّفَثِ فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ حَلْقَهُ مَقْصُودٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَسَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ،
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَعَ اللِّحْيَةِ فِي الْحَقِيقَةِ عُضْوٌ وَاحِدٌ لِاتِّصَالِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ فَلَا يُجْعَلُ فِي حُكْمِ أَعْضَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَالرَّأْسِ: فَإِنَّ مِنْ الْعَلَوِيَّةِ مَنْ عَادَتُهُ حَلْقُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّهُ لَيْسَ بِعُضْوٍ وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ:(تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ السُّنَّةُ فِيهِ دُونَ الْحَلْقِ) هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: «عَشْرَةٌ مِنْ فِطْرَتِي وَفِطْرَةِ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا قَصَّ الشَّارِبِ» .
وَقَوْلُهُ: (حَتَّى يُوَازِيَ الْإِطَارَ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: إطَارُ الشَّفَةِ مُلْتَقَى جِلْدَتِهَا وَلَحْمَتِهَا مُسْتَعَارٌ مِنْ إطَارِ الْمُنْخُلِ وَالدُّفِّ. قَالَ: (وَإِنْ حَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ) الْمُرَادُ بِالْمَحَاجِمِ هَاهُنَا جَمْعُ مِحْجَمٍ اسْمُ آلَةٍ مِنْ الْحِجَامَةِ بِدَلِيلِ ذِكْرِ اسْمِ الْمَوْضِعِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مَحْجَمٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ اسْمُ مَوْضِعٍ مِنْ الْحِجَامَةِ، وَدَلِيلُهُمَا ظَاهِرٌ. وَأَمَّا دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِيهِ اشْتِبَاهٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ حَلْقَهُ مَقْصُودًا وَوَسِيلَةً وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّ حَلْقَهُ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ بَلْ قَالَ: مَقْصُودًا، وَمَا لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ
وَقَدْ وُجِدَ إزَالَةُ التَّفَثِ عَنْ عُضْوٍ كَامِلٍ فَيَجِبُ الدَّمُ.
(وَإِنْ حَلَقَ رَأْسَ مُحْرِمٍ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَعَلَى الْحَالِقِ الصَّدَقَةُ، وَعَلَى الْمَحْلُوقِ دَمٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رحمه الله لَا يَجِبُ إنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بِأَنْ كَانَ نَائِمًا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُخْرِجُ الْمُكْرَهَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِحُكْمِ الْفِعْلِ وَالنَّوْمُ أَبْلَغُ مِنْهُ. وَعِنْدَنَا بِسَبَبِ النَّوْمِ وَالْإِكْرَاهِ يَنْتَفِي الْمَأْثَمُ دُونَ الْحُكْمِ وَقَدْ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ، وَهُوَ مَا نَالَ مِنْ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ
لِذَاتِهِ إلَّا بِهِ فَهُوَ مَقْصُودٌ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا بَقِيَ الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَقْصُودِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ:(عَنْ عُضْوٍ كَامِلٍ) يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي حَقِّ الْحِجَامَةِ عُضْوٌ كَامِلٌ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ حَلَقَ) يَعْنِي الْمُحْرِمَ (رَأْسَ مُحْرِمٍ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ،) الْحَالِقُ وَالْمَحْلُوقُ رَأْسُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَلَالَيْنِ أَوْ مُحْرِمَيْنِ، أَوْ الْحَالِقُ حَلَالٌ وَالْمَحْلُوقُ مُحْرِمٌ أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ؛ فَالْأَوَّلُ لَا كَلَامَ فِيهِ، وَالثَّانِي عَلَى الْحَالِقِ فِيهِ صَدَقَةٌ سَوَاءٌ حَلَقَ بِأَمْرِ الْمَحْلُوقِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِمَا فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا شَيْءَ عَلَى الْحَالِقِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الِارْتِفَاقُ، وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ بِحَلْقِ شَعْرِ غَيْرِهِ، وَلَا عَلَى الْمَحْلُوقِ (إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بِأَنْ كَانَ نَائِمًا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُخْرِجُ الْمُكْرَهَ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ بِحُكْمِ الْفِعْلِ، وَالنَّوْمُ أَبْلَغُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ يَفْسُدُ بِالْإِكْرَاهِ وَيَنْعَدِمُ بِالنَّوْمِ، وَقُلْنَا فِي الْحَالِقِ: إنَّ إزَالَةَ مَا يَنْمُو
فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ حَتْمًا، بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ حَيْثُ يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّ الْآفَةَ هُنَاكَ سَمَاوِيَّةٌ وَهَاهُنَا مِنْ الْعِبَادِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمَحْلُوقُ رَأْسَهُ عَلَى الْحَالِقِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ
مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأَمَانَ بِمَنْزِلَةِ نَبَاتِ الْحَرَمِ، وَتَنَاوُلُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ يُوجِبُ الْجَزَاءَ سَوَاءٌ كَانَ فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي غَيْرِ بَدَنِهِ كَمَا فِي نَبَاتِ الْحَرَمِ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ شَعْرِهِ وَشَعْرِ غَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي شَعْرِهِ مُتَكَامِلَةٌ فَيَلْزَمُهُ فِيهِ الدَّمُ وَفِي غَيْرِهِ الصَّدَقَةُ، وَفِي الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ تَقَرَّرَ السَّبَبُ وَهُوَ نَيْلُ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الدَّمَ، وَالنَّوْمُ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَصْلُحَانِ مَانِعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَأْثَمَ يَنْتَفِي بِهَا دُونَ الْحُكْمِ. قِيلَ: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا أَنَّ بِحَلْقِ الشَّعْرِ تَحْصُلُ الزِّينَةُ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَذَكَرَ فِي الدِّيَاتِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ مَنْفَعَةُ الْجَمَالِ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ هُوَ الزِّينَةُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَمَالٌ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَلِهَذَا يَتَكَلَّفُ عَادِمُهُ فِي سَتْرِهِ، وَيَحْصُلُ بِحَلْقِهِ زِينَةُ إزَالَةِ الشُّعْثِ وَالتُّفْلِ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ زَالَ التَّنَاقُضُ، وَقَوْلُهُ:(بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ حَتْمًا: أَيْ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ الْمُضْطَرِّ إلَى حَلْقِ رَأْسِهِ، فَإِنَّهُ إذَا حَلَقَهُ يَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ ذَبَحَ شَاةً وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ وَإِنْ شَاءَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (لِأَنَّ الْآفَةَ هُنَاكَ سَمَاوِيَّةٌ، وَفِي صُورَةِ النِّزَاعِ مِنْ الْعِبَادِ ثُمَّ الْمَحْلُوقُ رَأْسُهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْحَالِقِ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّمِ) وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَرْجِعُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ
إنَّمَا لَزِمَهُ بِمَا نَالَ مِنْ الرَّاحَةِ فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ فِي حَقِّ الْعُقْرِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْحَالِقُ حَلَالًا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِي حَقِّ الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ، وَأَمَّا الْحَالِقُ تَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي الْوَجْهَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَلَالٍ. لَهُ أَنَّ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ لَا يَتَحَقَّقُ بِحَلْقِ شَعْرِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ. وَلَنَا أَنَّ إزَالَةَ مَا يَنْمُو مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ؛ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأَمَانَ بِمَنْزِلَةِ نَبَاتِ الْحَرَمِ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ شَعْرِهِ وَشَعْرِ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ كَمَالَ الْجِنَايَةِ فِي شَعْرِهِ (فَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِ حَالٍّ أَوْ قَلَّمَ أَظَافِيرَهُ أَطْعَمَ مَا شَاءَ) وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا. وَلَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ ارْتِفَاقٍ؛ لَأَنْ يَتَأَذَّى بِتَفَثِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ التَّأَذِّي بِتَفَثِ نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهُ الطَّعَامُ (وَإِنْ قَصَّ أَظَافِيرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ وَإِزَالَةِ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ، فَإِذَا قَلَّمَهَا كُلَّهَا فَهُوَ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَلَا يُزَادُ عَلَى دَمٍ إنْ حَصَلَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ نَوْعٍ
فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَكَأَنَّهُ أَخَذَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ مَالِهِ. وَقُلْنَا: (الدَّمُ إنَّمَا لَزِمَهُ بِمَا نَالَ مِنْ الرَّاحَةِ فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ) إذَا ضَمِنَ الْعُقْرَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَوْفَاهُ مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ. وَقَوْلُهُ: (وَكَذَا إذَا كَانَ الْحَالِقُ حَلَالًا) هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَقْسَامِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَيْسَ فِيهِ عَلَى الْحَالِقِ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي الْمَحْلُوقِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ.
وَقَوْلُهُ: (فِي مَسْأَلَتِنَا) أَرَادَ بِهِ مَا إذَا كَانَ الْحَالِقُ مُحْرِمًا. وَقَوْلُهُ: (فِي الْوَجْهَيْنِ) أَرَادَ بِهِ مَا بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ أَخَذَ) يَعْنِي الْمُحْرِمَ (مِنْ شَارِبِ حَلَالٍ أَوْ قَصَّ أَظَافِيرَهُ أَطْعَمَ مَا شَاءَ وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ: إنَّ إزَالَةَ مَا يَنْمُو مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ. وَقَوْلُهُ: (وَلَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ ارْتِفَاقٍ) إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله حَلَقَ رَأْسَ غَيْرِهِ وَالْأَخْذُ مِنْ شَارِبِهِ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَلْبَسَ غَيْرُهُ مَخِيطًا فِي عَدَمِ ارْتِفَاقِهِ، فَكَمَا لَا يَجِبُ فِي الْإِلْبَاسِ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْحَلْقِ وَأَخْذِ الشَّارِبِ ارْتِفَاقًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَذَّى بِتَفَثِ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي إلْبَاسِ الْمَخِيطِ ذَلِكَ لَكِنَّ التَّأَذِّي بِتَفَثِ غَيْرِهِ أَقَلُّ مِنْ التَّأَذِّي بِتَفَثِ نَفْسِهِ (فَيَلْزَمُهُ الطَّعَامُ) وَقَوْلُهُ:(وَإِنْ قَصَّ) أَيْ الْمُحْرِمُ (أَظَافِيرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ) يَعْنِي تَسْمِيَةً وَمَعْنًى، أَمَّا تَسْمِيَةً فَلِأَنَّ الْكُلَّ
وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّدَاخُلِ فَأَشْبَهَ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ إلَّا إذَا تَخَلَّلَتْ الْكَفَّارَةُ لِارْتِفَاعِ الْأُولَى بِالتَّكْفِيرِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَجِبُ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ إنْ قَلَّمَ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ يَدًا أَوْ رِجْلًا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَيَتَقَيَّدُ التَّدَاخُلُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي آيِ السَّجْدَةِ.
يُسَمَّى قَصًّا، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الِارْتِفَاقَ مِنْ حَيْثُ الْقَصُّ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ:(لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّدَاخُلِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدَ الْحَرَمِ يَكْفِيهِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي حَقِّ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ جَمِيعًا فَكَانَ مَبْنَاهَا عَلَى ذَلِكَ (فَأَشْبَهَ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ)، وَهُمَا يَقُولَانِ: كَفَّارَةُ الْإِحْرَامِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا غَالِبٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ كَالْمُكْرَهِ وَالنَّائِمِ وَالْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي وَالْمُضْطَرِّ، وَبِالنَّظَرِ إلَى ذَلِكَ لَا تَتَدَاخَلُ فَقُلْنَا بِتَقَيُّدِ التَّدَاخُلِ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ، وَالْمَحَالُّ مُخْتَلِفَةٌ فَرَجَّحْنَا اتِّحَادَ الْمَقْصُودِ بِوُجُودِ الْجَامِعِ وَهُوَ الْمَجْلِسُ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَتْ الْمَجَالِسُ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ اخْتِلَافِ الْمَحَالِّ وَيَلْزَمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ عَمَلًا بِالْوَجْهَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: الْجِنَايَاتُ إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ كَمَا إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً لِذَلِكَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَاهُنَا اتِّحَادَ الْمَقْصُودِ وَاتِّحَادَ الْمَحَلِّ وَكَذَا اخْتِلَافُهُمَا، فَمَتَى اتَّحَدَ الْجَمِيعُ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ، وَمَتَى اخْتَلَفَ الْجَمِيعُ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ مُتَعَدِّدَةً؛ وَمَتَى اتَّحَدَ الْمَقْصُودُ وَاخْتَلَفَ الْمَحَالُّ، فَإِنْ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ تَقَوَّى جَانِبُ الِاتِّحَادِ فَلَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمَتَى اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ تَقَوَّى جَانِبُ الِاخْتِلَافِ وَتَعَدَّدَتْ الْكَفَّارَةُ، فَإِذَا عَرَفْت هَذَا ظَهَرَ لُزُومُ التَّعَدُّدِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ وَلُزُومُ الْوَحْدَةِ عِنْدَ اتِّحَادِهِ، وَلَا يَلْزَمُ حَلْقُ الرَّأْسِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مُتَّحِدٌ وَالْمَقْصُودُ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَحَالَّ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ وَلَا يُشْكِلُ بِحَلْقِ الْإِبِطَيْنِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مُتَّحِدٌ وَالْمَحَالُّ مُخْتَلِفَةٌ. وَلَا يَخْتَلِفُ الْحَالُّ فِي اتِّحَادِ الْجَزَاءِ بَيْنَ مَا كَانَ الْمَجْلِسُ مُتَّحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَلَأَنْ كَانَتْ فَثَمَّةَ مَا يُوجِبُ اتِّحَادَ الْمَحَالِّ وَهُوَ التَّنْوِيرُ، فَإِنَّهُ لَوْ نَوَّرَ جَمِيعَ الْبَدَنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَلْقَ
(وَإِنْ قَصَّ يَدًا أَوْ رِجْلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ) إقَامَةٌ لِلرُّبُعِ مَقَامَ الْكُلِّ كَمَا فِي الْحَلْقِ (وَإِنْ قَصَّ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَظَافِيرَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ) مَعْنَاهُ تَجِبُ بِكُلِّ ظُفُرٍ صَدَقَةٌ. وَقَالَ زَفَرٌ رحمه الله: يَجِبُ الدَّمُ بِقَصِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ فِي أَظَافِيرِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ دَمًا، وَالثَّلَاثُ أَكْثَرُهَا. وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ أَظَافِيرَ كَفٍّ وَاحِدٍ أَقَلُّ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِقَلْمِهِ وَقَدْ أَقَمْنَاهَا مَقَامَ الْكُلِّ، فَلَا يُقَامُ أَكْثَرُهَا مَقَامَ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى (وَإِنْ قَصَّ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى (وَقَالَ مُحَمَّدٌ): رحمه الله (عَلَيْهِ دَمٌ) اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ قَصَّهَا مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ، وَبِمَا إذَا حَلَقَ رُبُعَ الرَّأْسِ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ
مِثْلُ التَّنْوِيرِ، وَلَيْسَ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ مَا يَجْعَلُهَا كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ قَصَّ يَدًا أَوْ رِجْلًا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ) أَيْ: الْقُدُورِيِّ (أَنَّ أَظَافِيرَ كَفٍّ وَاحِدٍ أَقَلُّ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِقَلْمِهِ) وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يُقَامُ أَكْثَرُهُ مَقَامَهُ، أَمَّا أَنَّهَا أَقَلُّ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِقَلْمِهِ فَلِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ الدَّمُ بِاعْتِبَارِ قِيَامِهِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَفِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ، وَلَيْسَ بَعْدَ الشُّبْهَةِ إلَّا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِحَالٍ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ:(وَقَدْ أَقَمْنَاهَا مَقَامَ الْكُلِّ) وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ: أَيْ: أَنَّهَا أَقَلُّ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِقَلْمِهِ حَالَ كَوْنِهَا مُقَامَةً مَقَامَ الْكُلِّ، فَفِيهَا شُبْهَةُ الْكُلِّيَّةِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يُقَامُ أَكْثَرُهُ مَقَامَهُ فَلِمَا قَالَ:(لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى)؛ لِأَنَّهُ إذَا أُقِيمَ الثَّلَاثَةُ مَقَامَ خَمْسَةٍ يُقَامُ الِاثْنَانِ مَقَامَ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ الظُّفْرُ وَالنِّصْفُ مَقَامَ الظُّفْرَيْنِ، ثُمَّ الظُّفْرُ الْوَاحِدُ مَقَامَ ظُفْرٍ وَنِصْفٍ وَهَلُمَّ جَرًّا دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى. إلَى مَا يَتَعَسَّرُ اعْتِبَارُهُ، لِأَنَّ الْجِسْمَ عِنْدَنَا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَنَاهَى إلَى الْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ، وَذَلِكَ مَا قُلْنَا (وَإِنْ قَصَّ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مُتَفَرِّقَةٍ) بِالْجَرِّ صِفَةً لِلْمَعْدُودِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} (مِنْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: عَلَيْهِ دَمٌ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ قَصَّهَا مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ) بِجَامِعِ أَنَّهُ قَصَّ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ وَلَا تَفْرِقَةَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ يَدٍ وَرِجْلٍ، (وَبِمَا إذَا حَلَقَ رُبْعَ الرَّأْسِ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، وَلَهُمَا أَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ
كَمَالَ الْجِنَايَةِ بِنَيْلِ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ وَبِالْقَلْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَأَذَّى وَيَشِينُهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ عَلَى مَا مَرَّ. وَإِذَا تَقَاصَرَتْ الْجِنَايَةُ تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ فَيَجِبُ بِقَلْمِ كُلِّ ظُفْرٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ مُتَفَرِّقًا لَأَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَحِينَئِذٍ يَنْقُصُ عَنْهُ مَا شَاءَ.
قَالَ: (وَإِنْ انْكَسَرَ ظُفُرُ الْمُحْرِمِ وَتَعَلَّقَ فَأَخَذَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْمُو بَعْدَ الِانْكِسَارِ فَأَشْبَهَ الْيَابِسَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ
(وَإِنْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ مَخِيطًا أَوْ حَلَقَ مِنْ عُذْرٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ ذَبَحَ وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ بِثَلَاثَةِ أَصْوُعٍ مِنْ الطَّعَامِ وَإِنْ شَاءَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَكَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ وَقَدْ فَسَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام بِمَا ذَكَرْنَا، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمَعْذُورِ
تَكَامُلِ الْجِنَايَةِ بِنَيْلِ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ وَ) هَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ (بِالْقَلْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَأَذَّى وَيَشِينُهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ) فَإِنَّ مَنْ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَشَيْئًا مِنْ مُؤَخَّرِهِ فَإِذَا جَمَعَ الْجَمِيعَ يَصِيرُ مِقْدَارَ الرُّبْعِ، (وَإِذَا تَقَاصَرَتْ الْجِنَايَةُ تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ)، وَمِقْدَارُهَا لِكُلِّ ظُفْرٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ، (وَكَذَلِكَ لَوْ قَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ مُتَفَرِّقًا إلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَيُنْقِصُ مِنْهُ مَا شَاءَ) حَتَّى قَالُوا لَوْ قَصَّ سِتَّةَ عَشَرَ ظُفْرًا مِنْ كُلِّ عُضْوٍ أَرْبَعَةً، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفْرٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَيُنْقِصُ مِنْهُ مَا شَاءَ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ انْكَسَرَ ظُفْرُ الْمُحْرِمِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ: (وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمَعْذُورِ) قَالَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْجِيمِ: «مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَهَافَتُ عَلَى وَجْهِي وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ لِي، فَقَالَهُ: أَيُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِك؟ فَقُلْت: نَعَمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}، فَقُلْت: مَا الصِّيَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ» وَلَوْلَا تَفْسِيرُهُ عليه الصلاة والسلام لَقَدَّرْنَاهُ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّرَ الطَّعَامُ بِسِتَّةِ مَسَاكِينَ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ سِتَّةَ أَيَّامٍ، وَالْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ مِمَّا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُ الْمُضْطَرِّ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ.
ثُمَّ الصَّوْمُ يُجْزِيهِ فِي أَيِّ مَوْضِعَ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فِي كُلِّ مَكَان، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا النُّسُكُ فَيَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان، وَهَذَا الدَّمُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَتَعَيَّنَ اخْتِصَاصُهُ بِالْمَكَانِ، وَلَوْ اخْتَارَ الطَّعَامَ أَجْزَأَهُ فِيهِ التَّغْذِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله اعْتِبَارًا بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ.
قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ عِنْدَنَا) يَعْنِي خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يُجْزِئُهُ الطَّعَامُ إلَّا فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الرِّفْقُ بِفُقَرَاءِ الْحَرَمِ وَوُصُولُ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فِي كُلِّ مَكَان. وَقَوْلُهُ: (وَأَمَّا النُّسُكُ) يُقَالُ: نَسَكَ لِلَّهِ نُسُكًا وَمَنْسَكًا: إذَا ذَبَحَ لِوَجْهِهِ، ثُمَّ قَالُوا: لِكُلِّ عِبَادَةٍ نُسُكٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْهَدْيُ الَّذِي يَذْبَحُهُ فِي الْحَرَمِ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ عَمَّا بَاشَرَهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَالطِّيبِ وَالْحَلْقِ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْحَرَمِ بِالِاتِّفَاقِ (؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ) كَالْأُضْحِيَّةِ وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ (أَوْ فِي مَكَان) كَمَا فِي دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ؛ وَذَلِكَ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ، (وَهَذَا الدَّمُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَتَعَيَّنَ اخْتِصَاصُهُ بِالْمَكَانِ) وَهُوَ الْحَرَمُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِالِاخْتِصَاصِ إرَاقَةَ الدَّمِ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّهُ تَلْوِيثُ الْحَرَمِ إنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ التَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِمْ عِنْدَنَا. وَقَوْلُهُ:(وَلَوْ اخْتَارَ الطَّعَامَ أَجْزَأَهُ) ظَاهِرٌ، وَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي الْقِرَانِ فَإِنَّهُ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ وَهُوَ يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ وَإِلَى تَفْسِيرِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فَإِنَّهُ قَالَ:«أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ» وَمُحَمَّدٌ نَظَرَ إلَى قَوْلِهِ: أَوْ صَدَقَةٍ فَإِنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا الْإِطْعَامُ لَا الصَّدَقَةُ.
فَصْلٌ
(فَإِنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْجِمَاعُ وَلَمْ يُوجَدْ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَفَكَّرَ فَأَمْنَى (وَإِنْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَقُولُ: إذَا مَسَّ بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ. وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إنَّمَا يُفْسِدُ إحْرَامَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا أَنْزَلَ وَاعْتَبَرَهُ بِالصَّوْمِ.
فَصْلٌ)
قَدَّمَ جِنَايَةَ الطِّيبِ وَنَحْوِهَا عَلَى جِنَايَةِ الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ،؛ لِأَنَّ الطِّيبَ وَاللُّبْسَ كَالْوَسِيلَةِ لِلْجِمَاعِ وَالْوَسَائِلُ تُقَدَّمُ، وَلِهَذَا قَدَّمَ فِي هَذَا الْفَصْلِ ذِكْرَ دَوَاعِي الْجِمَاعِ عَلَيْهِ، (فَإِنْ نَظَرَ) الْمُحْرِمُ (إلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ) أَيْ: إلَى دَاخِلِ فَرْجِهَا وَهُوَ مَوْضِعُ الْبَكَارَةِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ عِنْدَ كَوْنِهَا مُنْكَبَّةً (بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى) أَيْ: أَنْزَلَ الْمَنِيَّ (لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) مِنْ الْكَفَّارَةِ (؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْجِمَاعُ) وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ صُورَةً وَهُوَ الْإِيلَاجُ وَمَعْنًى وَهُوَ الْإِنْزَالُ، (وَلَمْ يُوجَدْ) ذَلِكَ (فَصَارَ كَمَا لَوْ تَفَكَّرَ فَأَمْنَى)، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِمَا قُلْنَا، (فَإِنْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ)، سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ، (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) شَرْطُ الْإِنْزَالِ حَيْثُ قَالَ:(إذَا مَسَّ بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى)، وَلِهَذَا ذَكَرَ رُوَاةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ) مِنْ الْإِدْخَالِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ وَالسُّرَّةِ فَإِنَّ الْفَرْجَ يُرَادُ بِهِ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ فَمَا دُونَهُ يَكُونُ مَا ذَكَرْنَاهُ. (وَ) رُوِيَ (عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ إذَا أَنْزَلَ فَسَدَ إحْرَامُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ) يَعْنِي التَّقْبِيلَ بِشَهْوَةٍ وَالْمَسَّ بِشَهْوَةٍ وَالْجِمَاعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ (وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالصَّوْمِ)
وَلَنَا أَنَّ فَسَادَ الْحَجِّ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ، وَهَذَا لَيْسَ بِجِمَاعٍ مَقْصُودٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ إلَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِمْتَاعِ وَالِارْتِفَاقِ بِالْمَرْأَةِ وَذَلِكَ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِيهِ قَضَاءٌ بِالشَّهْوَةِ، وَلَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ.
فَإِنَّهُ إنَّمَا يَفْسُدُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا أَنْزَلَ، لِأَنَّهُ مُوَاقَعَةٌ مَعْنًى، (وَلَنَا) عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَفْسُدُ وَأَنَّ الْإِنْزَالَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ (أَنَّ فَسَادَ الْحَجِّ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ) بِالْإِجْمَاعِ، (وَهَذَا لَيْسَ بِجِمَاعٍ) فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَسَادُ الْحَجِّ إلَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِمْتَاعِ وَالِارْتِفَاقِ بِالْمَرْأَةِ وَذَلِكَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ دَوَاعِيَ الْجِمَاعِ مُلْحَقَةٌ بِهِ (فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ) وَقَوْلُهُ:(بِخِلَافِ الصَّوْمِ) جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِ بِالصَّوْمِ (؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِيهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ) حَيْثُ كَانَ رُكْنُهُ الْكَفَّ عَنْهَا، وَقَضَاؤُهَا بِدُونِ الْإِنْزَالِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا يَتَحَقَّقُ
(وَإِنْ جَامَعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَيَمْضِي فِي الْحَجِّ كَمَا يَمْضِي مَنْ لَمْ يُفْسِدْهُ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عَمَّنْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ بِالْحَجِّ قَالَ: يُرِيقَانِ دَمًا وَيَمْضِيَانِ فِي حَجَّتِهِمَا وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ»
وَإِنْ جَامَعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ شَاةٌ وَيَمْضِي فِي الْحَجِّ) بِأَدَاءِ أَفْعَالِهِ (كَمَا يَمْضِي: مَنْ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَمَّنْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ بِالْحَجِّ قَالَ يُرِيقَانِ دَمًا وَيَمْضِيَانِ فِي حَجَّتِهِمَا، وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» )، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ هِيَ
وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: تَجِبُ بَدَنَةٌ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ إطْلَاقُ مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا وَجَبَ وَلَا يَجِبُ إلَّا لِاسْتِدْرَاكِ الْمَصْلَحَةِ خَفَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَيَكْتَفِي بِالشَّاةِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْوُقُوفِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَضَاءَ. ثُمَّ سَوَّى بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ مِنْهُمَا لَا يُفْسِدُ لِتَقَاصُرِ مَعْنَى الْوَطْءِ فَكَانَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ (وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ فِي قَضَاءِ مَا أَفْسَدَاهُ)
نَائِمَةً أَوْ مُكْرَهَةً، (وَهَكَذَا) يَعْنِي مِثْلَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: تَجِبُ بَدَنَةٌ كَمَا لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ) وَالْجَامِعُ تَغَلُّظُ الْجِنَايَةِ، (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ إطْلَاقُ مَا رَوَيْنَا) وَهُوَ قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام " يُرِيقَانِ دَمًا " ذَكَرَهُ مُطْلَقًا، فَيَتَنَاوَلُ الشَّاةَ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَالْجَزُورُ كَامِلٌ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَا يَمْنَعُهُ، وَهُوَ هَاهُنَا مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ قِيلَ: الْوُقُوفُ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْقَضَاءِ خَفَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ لِاسْتِدْرَاكِ الْمَصْلَحَةِ الْفَائِتَةِ بِالْقَضَاءِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْبَدَنَةَ لَزِمَ إيجَابُ الْجَزَاءِ الْغَلِيظِ فِي مُقَابَلَةِ جِنَايَةٍ خَفِيفَةٍ وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَخِفَّ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، فَإِيجَابُ الْبَدَنَةِ فِي مُقَابَلَتِهَا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بِقَوْلِهِ: وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا وَجَبَ إلَخْ.
(وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْجِمَاعَ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ مِنْهُمَا) أَيْ: مِنْ السَّبِيلَيْنِ، وَقِيلَ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ (لَا يُفْسِدُهُ لِتَقَاصُرِ مَعْنَى الْوَطْءِ)، وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْإِجْمَاعِ. وَفِي رِوَايَةٍ: يُفْسِدُهُ لِأَنَّهُ كَامِلٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ارْتِفَاقٌ. وَعِنْدَهُمَا يُفْسِدُهُ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ. وَقَوْلُهُ: (وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ) الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم قَالُوا: إذَا رَجَعَا لِلْقَضَاءِ يَفْتَرِقَانِ،
عِنْدَنَا خِلَافًا لِمَالِكٍ رحمه الله إذَا خَرَجَا مِنْ بَيْتِهِمَا. وَلِزَفَرٍ رحمه الله إذَا أَحْرَمَا. وَلَلشَّافِعِيِّ رحمه الله إذَا انْتَهَيَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ. لَهُمْ أَنَّهُمَا يَتَذَاكَرَانِ ذَلِكَ فَيَقَعَانِ فِي الْمُوَاقَعَةِ فَيَفْتَرِقَانِ. وَلَنَا أَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ النِّكَاحُ قَائِمٌ فَلَا مَعْنَى لِلِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لِإِبَاحَةِ الْوَقَاعِ وَلَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَذَاكَرَانِ مَا لَحِقَهُمَا مِنْ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ بِسَبَبِ لَذَّةِ يَسِيرَةِ فَيَزْدَادَانِ نَدَمًا وَتَحَرُّزًا فَلَا مَعْنَى لِلِافْتِرَاقِ.
(وَمَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا جَامَعَ قَبْلَ الرَّمْيِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»
مَعْنَاهُ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِ صَاحِبِهِ، فَمَالِكٌ رحمه الله أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ: كَمَا خَرَجَا مِنْ بَيْتِهِمَا فَعَلَيْهِمَا أَنْ يَفْتَرِقَا. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَقْتِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ نُسُكٌ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم: وَوَقْتُ أَدَاءِ النُّسُكِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَحْكِي الْأَدَاءَ، فَمَا لَمْ يَكُنْ نُسُكًا فِي الْأَدَاءِ لَا يَكُونُ نُسُكًا فِي الْقَضَاءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إذَا قَرُبَا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ يَفْتَرِقَانِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَأْمَنَانِ إذَا وَصَلَا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَنْ تَهِيجَ بِهِمَا الشَّهْوَةُ فَيُوَاقِعَهَا. وَالْمُصَنِّفُ رحمه الله ذَكَرَ دَلِيلَنَا عَلَى وَجْهٍ هُوَ دَافِعٌ لِأَقْوَالِهِمْ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَنَقُولُ: مُرَادُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ إنْ خَافَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الْفِتْنَةَ. كَمَا يُنْدَبُ لِلشَّابِّ الِامْتِنَاعُ عَنْ التَّقْبِيلِ فِي حَالَةِ الصَّوْمِ إذَا كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ مَا سِوَاهُ
(وَمَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فِيمَا إذَا جَامَعَ قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ) فَإِنَّ حَجَّهُ يَفْسُدُ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ قَبْلَ الرَّمْيِ مُطْلَقٌ، أَيْ: كَامِلٌ حَيْثُ لَا يَحِلُّ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْجِمَاعُ فِي الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ كَمَا إذَا كَانَ قَبْلَ الْوُقُوفِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الرَّمْيِ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ وَحَلَّ لَهُ الْحَلْقُ الَّذِي كَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُحْرِمِ. وَقَوْلُهُ:(لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام) دَلِيلُنَا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّمَامَ مِنْ حَيْثُ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ بِالِاتِّفَاقِ لِبَقَاءِ
وَإِنَّمَا تَجِبُ الْبَدَنَةُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَوْ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَى أَنْوَاعِ الِارْتِفَاقِ فَيَتَغَلَّظُ مُوجِبُهُ.
(وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِبَقَاءِ إحْرَامِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ دُونَ لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَمَا أَشْبَهَهُ فَخَفَّتْ الْجِنَايَةُ فَاكْتَفَى بِالشَّاةِ.
(وَمَنْ جَامَعَ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ فَيَمْضِي فِيهَا وَيَقْضِيهَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ. وَإِذَا جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ. أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ وَلَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ)
بَعْضِ الْأَرْكَانِ، فَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّمَامَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَأْمَنُ مِنْ الْفَسَادِ بَعْدَهُ لِتَأَكُّدِ حَجِّهِ بِالْوُقُوفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْمَنُ الْفَوَاتَ بَعْدَ الْوُقُوفِ، فَكَمَا يَثْبُتُ حُكْمُ التَّأَكُّدِ فِي الْأَمْنِ عَنْ الْفَوَاتِ كَذَلِكَ يَثْبُتُ فِي الْأَمْنِ عَنْ الْفَسَادِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَتْ الْبَدَنَةُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ بَعْدَ تَمَامِهِ لَا يَقْبَلُ الْجِنَايَةَ فَلَا يَقْتَضِي جَزَاءً. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَإِنَّمَا تَجِبُ الْبَدَنَةُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ نُسُكُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَحَجَّتُهُ تَامَّةٌ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَجِبُ الْبَدَنَةُ فِي الْحَجِّ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: مَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا أَوْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ. وَقِيلَ: مِثْلُهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ فَكَانَ مَسْمُوعًا. وَقَوْلُهُ: (أَوْ لِأَنَّهُ) قِيلَ إنَّمَا ذُكِرَ بِكَلِمَةٍ أَوْ لِكَوْنِ أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما غَيْرَ مَشْهُورٍ فَأَتَى بِهَا لِيَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِأَحَدِهِمَا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إثْبَاتُ الْوُجُوبِ وَهُوَ يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاشْتِهَارِ، وَلَعَلَّهُ أَتَى بِأَحَدِ الْجَائِزَيْنِ فَلَا يُسْأَلُ عَنْ كَمِّيَّتِهِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْجِمَاعَ أَعْلَى الِارْتِفَاقَاتِ لِوُفُورِ لَذَّتِهِ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَغَلَّظُ مُوجِبُهُ لِوُجُوبِ التَّطَابُقِ بَيْنَ الْمُوجِبِ وَالْمُوجَبِ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ جَامَعَ فِي الْعُمْرَةِ) بَيَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ وَاضِحٌ، لَكِنْ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ تَفْضِيلُ طَوَافِ الْعُمْرَةِ عَلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَإِنَّهُ إذَا جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ اعْتِبَارًا بِالْحَجِّ إذْ هِيَ فَرْضٌ عِنْدَهُ كَالْحَجِّ. وَلَنَا أَنَّهَا سُنَّةٌ فَكَانَتْ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْهُ فَتَجِبُ الشَّاةُ فِيهَا وَالْبَدَنَةُ فِي الْحَجِّ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ.
(وَمَنْ جَامَعَ نَاسِيًا كَانَ كَمَنْ جَامَعَ مُتَعَمِّدًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله جِمَاعُ النَّاسِي غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْحَجِّ. وَكَذَا الْخِلَافُ فِي جِمَاعِ النَّائِمَةِ وَالْمُكْرَهَةُ. هُوَ يَقُولُ:
أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ التَّفْضِيلُ بَلْ مِنْ حَيْثُ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ فِي التَّرْتِيبِ إنَّمَا يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ حُكْمَهُ تَأَخَّرَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ لِمَعْنًى وَهُوَ وُقُوعُ الرُّكْنِ فِي الْإِحْرَامِ فَقَامَ أَكْثَرُ أَشْوَاطِهِ مَقَامَ كُلِّهِ، بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّ طَوَافَهَا قَبْلَ التَّحَلُّلِ، فَكَانَ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ فِي مَحْضِ الْإِحْرَامِ فَيَجِبُ الدَّمُ وَلِهَذَا قُلْنَا: " إنْ لَمْ يَحْلِقْ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَجَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ كَمَا فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ لِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ:(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ: فِيمَا إذَا جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُمَا سِيَّانِ فِي إفْسَادِ الْحَجِّ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ فِي الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ فَرِيضَةٌ كَالْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: جِمَاعُ النَّاسِي غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْحَجِّ) لَوْ قَالَ لِلْإِحْرَامِ كَانَ أَشْمَلَ لِيَتَنَاوَلَ الْعُمْرَةَ، جَعَلَ النِّسْيَانَ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي فَسَادِهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ، وَجَعَلَ الْإِكْرَاهَ وَالنَّوْمَ كَالنِّسْيَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا أَبَاحَ الْإِقْدَامَ وَأَعْدَمَ أَصْلَ الْفِعْلِ
الْحَظْرُ يَنْعَدِمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ فَلَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ جِنَايَةً. وَلَنَا أَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ فِي الْإِحْرَامِ ارْتِفَاقًا مَخْصُوصًا، وَهَذَا لَا يَنْعَدِمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَالْحَجُّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ حَالَاتِ الْإِحْرَامِ مُذَكِّرَةٌ بِمَنْزِلَةِ حَالَاتِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)(وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله:
مَعَ كَوْنِهِ قَاصِدًا كَانَ النَّوْمُ أَوْلَى لِانْتِفَاءِ الْقَصْدِ، وَإِذَا انْعَدَمَ الْفِعْلُ لَمْ يَكُنْ جِنَايَةٌ (وَلَنَا أَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ فِي الْإِحْرَامِ ارْتِفَاقًا مَخْصُوصًا) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا رَفَثَ} الْآيَةَ، وَالرَّفَثُ اسْمٌ لِلْجِمَاعِ (وَهُوَ لَا يَنْعَدِمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَالْحَجُّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الصَّوْمِ) لِوُجُودِ الْمُذَكَّرِ وَهُوَ حَالَةُ الْإِحْرَامِ (بِخِلَافِ الصَّوْمِ) فَإِنَّهُ لَا مُذَكَّرَ لَهُ.
(فَصْلٌ):
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ ذَكَرَ الْجِنَايَةَ عَلَى الطَّوَافِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ قَوْلُهُ: (وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ مُحْدِثًا) طَوَافَ الْقُدُومِ مُحْدِثًا مُعْتَدٍ بِهِ عِنْدَنَا وَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله:
لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ فِيهِ الْمَنْطِقَ فَتَكُونُ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرْطِهِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الطَّهَارَةِ فَلَمْ تَكُنْ فَرْضًا، ثُمَّ قِيلَ: هِيَ سُنَّةٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِتَرْكِهَا الْجَابِرُ؛ وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَيَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ، فَإِذَا شُرِعَ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَهُوَ سُنَّةٌ، يَصِيرُ وَاجِبًا بِالشُّرُوعِ وَيَدْخُلُهُ نَقْصٌ بِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فَيُجْبَرُ بِالصَّدَقَةِ إظْهَارًا لِدُنُوِّ رُتْبَتِهِ عَنْ الْوَاجِبِ بِإِيجَابِ اللَّهِ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ طَوَافٍ هُوَ تَطَوُّعٌ.
لَا يُعْتَدُّ بِهِ) وَلَا يُجْبَرُ بِشَيْءٍ؛ (لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ»، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَبَّهَ الطَّوَافَ بِالصَّلَاةِ وَلَيْسَ بَيْنَ ذَاتَيْهِمَا مِنْ مُشَابَهَةٍ؛ لِأَنَّ ذَاتَ الطَّوَافِ وَهُوَ الدَّوَرَانُ مِمَّا يَنْتَفِي بِهِ ذَاتُ الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الصَّلَاةِ وَمِنْ حُكْمِهَا عَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِدُونِ الطَّهَارَةِ (وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ وَهُوَ الدَّوَرَانُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَكُنْ فَرْضًا بِالْآيَةِ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهَا نَسْخٌ، (ثُمَّ قِيلَ هِيَ سُنَّةٌ) وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُجَاعٍ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ؛ (لِأَنَّهُ يَجِبُ بِتَرْكِهَا الْجَابِرُ) وَهُوَ إمَّا الدَّمُ عَلَى مَا قَالَ بِهِ بَعْضُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ أَوْ الصَّدَقَةُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ يَجِبُ بِتَرْكِهِ جَابِرٌ فَهُوَ وَاجِبٌ؛ (وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يُوجِبُ الْعَمَلَ) دُونَ الْعِلْمِ (فَيَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ) دُونَ الْفَرْضِيَّةِ.
قَالَ: (فَإِذَا شَرَعَ فِي هَذَا الطَّوَافِ) دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا سُنَّةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّفْلِ مُلْزِمٌ فِي الْحَجِّ بِالِاتِّفَاقِ فَيَصِيرُ الطَّوَافُ وَاجِبًا (وَيَدْخُلُهُ نَقْصٌ بِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فَيُجْبَرُ بِالصَّدَقَةِ إظْهَارًا لِدُنُوِّ رُتْبَتِهِ عَنْ الْوَاجِبِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ)، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ دُخُولَ النَّقْصِ بِتَرْكِهَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا سُنَّةً مِنْ حَيِّزِ النِّزَاعِ فَلَا يُؤْخَذُ فِي الدَّلِيلِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَالثَّانِي أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالصَّلَاةِ النَّافِلَةِ، فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَهَا نَقْصٌ تَنْجَبِرُ بِسَجْدَةِ السَّهْوِ كَمَا يَنْجَبِرُ الْفَرْضُ بِهَا وَلَمْ يَظْهَرْ دُنُوُّ رُتْبَةِ النَّفْلِ عَنْ رُتْبَةِ الْفَرْضِ فِيهَا فَلْيَكُنْ هَاهُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ يُوجِبُ نَقْصًا وَيَنْجَبِرُ بِالْكَفَّارَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ الْإِمَامِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: رحمه الله لِأَنَّهُ تَرَكَ سُنَّةَ الدَّفْعِ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْجَابِرَ فِي الصَّلَاةِ نَوْعًا وَاحِدًا فَلَا مَصِيرَ إلَى غَيْرِهِ وَفِي الْحَجِّ جَعَلَهُ مُتَنَوِّعًا فَأَمْكَنَ الْمَصِيرُ إلَى مَا تَبِينُ بِهِ رُتْبَةُ النَّفْلِ عَنْ الْفَرْضِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ اخْتَارَهَا الْمُصَنِّفُ، وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ إذَا طَافَ طَوَافَ التَّحِيَّةِ مُحْدِثًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ أَصْلًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ
(وَلَوْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْصَ فِي الرُّكْنِ فَكَانَ أَفْحَشَ مِنْ الْأَوَّلِ فَيُجْبَرُ بِالدَّمِ (وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ) كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -؛ وَلِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ مِنْ الْحَدَثِ فَيَجِبُ جَبْرُ نُقْصَانِهَا بِالْبَدَنَةِ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ، وَكَذَا إذَا طَافَ أَكْثَرَهُ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا، لِأَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ لَهُ حُكْمُ كُلِّهِ (وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ وَلَا ذَبْحَ عَلَيْهِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ.
شَيْءٌ فَكَذَا إذَا أَتَى بِهِ مُحْدِثًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ
(وَلَوْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْصَ فِي الرُّكْنِ)، وَإِدْخَالُ النَّقْصِ فِي الرُّكْنِ أَفْحَشُ مِنْ إدْخَالِهِ عَلَى الْوَاجِبِ، (وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ) يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِالْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّ الْأَكْثَرَ فِيهَا لَا يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَنْهُ، وَنَزِيدُ هَاهُنَا بَيَانًا وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِإِقَامَةِ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، فَإِنَّ الْحَجَّ لَهُ فُرُوضٌ ثَلَاثَةٌ: شَرْطٌ وَرُكْنَانِ، وَعِنْدَمَا وَقَفَ فَقَدْ حَصَلَ مِنْهَا اثْنَانِ وَهُوَ الشَّرْطُ: أَعْنِي الْإِحْرَامَ وَأَحَدَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَيْسَ فِي الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُهُ فَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: (وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ) وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ الْجُبْرَانِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ فَكَانَ أَفْضَلَ. وَقَوْلُهُ: (وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ) يُرِيدُ بِهِ نُسَخَ الْمَبْسُوطِ. وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ إذَا أَعَادَهُ) يَعْنِي طَوَافَ الزِّيَارَةِ. وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ) إنَّ هَذِهِ لِلْوَصْلِ. وَقَوْلُهُ: (لَا ذَبْحَ عَلَيْهِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الطَّوَافُ
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ فِي الْحَدَثِ اسْتِحْبَابًا وَفِي الْجَنَابَةِ إيجَابًا لِفُحْشِ النُّقْصَانِ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ وَقُصُورِهِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ. ثُمَّ إذَا أَعَادَهُ وَقَدْ طَافَهُ مُحْدِثًا لَا ذَبْحَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْإِعَادَةِ لَا يَبْقَى إلَّا شُبْهَةُ النُّقْصَانِ، وَإِنْ أَعَادَهُ وَقَدْ طَافَهُ جُنُبًا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَعَادَهُ فِي وَقْتِهِ، وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ لَزِمَهُ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بِالتَّأْخِيرِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ طَافَهُ جُنُبًا عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ كَثِيرٌ فَيُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ اسْتِدْرَاكًا لَهُ
الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مُعْتَدٌّ بِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ الدَّمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالتَّأْخِيرِ. فَإِذَا كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ بِنُقْصَانٍ وَقَدْ أَعَادَهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا شُبْهَةُ النُّقْصَانِ وَهِيَ نُقْصَانُ الطَّوَافِ بِالْحَدَثِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا. وَقَوْلُهُ:(وَإِنْ أَعَادَهُ وَقَدْ طَافَ جُنُبًا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ لَزِمَهُ الدَّمُ) أَيْ: الشَّاةُ؛ لِأَنَّ الْبَدَنَةَ سَقَطَتْ بِالْإِعَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا هَذَا دَمٌ يَلْزَمُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ نُسُكًا عَنْ وَقْتِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِيَارِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ رحمه الله فِي أَنَّ الْمُعْتَدَّ بِهِ مِنْ الطَّوَافَيْنِ إذَا طَافَ الْأَوَّلَ جُنُبًا إنَّمَا هُوَ الثَّانِي وَأَنَّ الْأَوَّلَ يَنْفَسِخُ بِالثَّانِي، إذْ لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمَا لَزِمَهُ دَمُ التَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُؤَدًّى فِي وَقْتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا طَافَ الْأَوَّلَ مُحْدِثًا فَإِنَّ الْمُعْتَدَّ بِهِ هُوَ الْأَوَّلُ لِقِلَّةِ النُّقْصَانِ فَكَانَ الثَّانِي جَابِرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُ فِي مُعْتَمِرٍ طَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي رَمَضَانَ جُنُبًا ثُمَّ أَعَادَ طَوَافَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، قَالَهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْكِتَابِ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَدُّ بِهِ هُوَ الثَّانِي لَكَانَ مُتَمَتِّعًا. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعْتَمِرَ لَمَّا طَافَ فِي رَمَضَانَ وَقَعَ الْأَمْنُ عَنْ فَسَادِ الْعُمْرَةِ، وَإِذَا أَمِنَ فَسَادَهَا قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. فَإِنْ قِيلَ: التَّحَلُّلُ يَحْصُلُ بِالطَّوَافِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ هُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَوَّلَ مُرَاعِي الْحُكْمِ لِتَفَاحُشِ النُّقْصَانِ فِيهِ، فَإِنْ أَعَادَهُ انْفَسَخَ الْأَوَّلُ وَاعْتَدَّ بِالثَّانِي وَإِلَّا كَانَ هُوَ الْمُعْتَدَّ بِهِ فِي التَّحَلُّلِ. وَقَوْلُهُ:(وَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ) ظَاهِرٌ
وَيَعُودُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ. وَإِنْ لَمْ يَعُدْ وَبَعَثَ بَدَنَةً أَجْزَأَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ جَابِرٌ لَهُ، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْعَوْدُ.
وَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ طَافَهُ مُحْدِثًا إنْ عَادَ وَطَافَ جَازَ، وَإِنْ بَعَثَ بِالشَّاةِ فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ خَفَّ مَعْنَى النُّقْصَانِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْفُقَرَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَطُفْ طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَصْلًا حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ لِانْعِدَامِ التَّحَلُّلِ مِنْهُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَنْ النِّسَاءِ أَبَدًا حَتَّى يَطُوفَ.
(وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الصَّدْرِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ) لِأَنَّهُ دُونَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ التَّفَاوُتِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَجِبُ شَاةٌ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ (وَلَوْ طَافَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِأَنَّهُ نَقْصٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ هُوَ دُونَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَيُكْتَفَى بِالشَّاةِ.
(وَمَنْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَمَا دُونَهَا فَعَلَيْهِ شَاةٌ)
وَقَوْلُهُ: (إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْعَوْدُ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْجَابِرِ مِنْ جِنْسِ الْمَجْبُورِ وَهُوَ الطَّوَافُ. وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ) ظَاهِرٌ
لِأَنَّ النُّقْصَانَ بِتَرْكِ الْأَقَلِّ يَسِيرٌ فَأَشْبَهَ النُّقْصَانَ بِسَبَبِ الْحَدَثِ فَتَلْزَمُهُ شَاةٌ. فَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ أَجْزَأَهُ أَنْ لَا يَعُودَ
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّ النُّقْصَانَ بِتَرْكِ الْأَقَلِّ يَسِيرٌ) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَانِبَ الْوُجُودِ رَاجِحٌ.
وَيَبْعَثُ بِشَاةٍ لِمَا بَيَّنَّا (وَمَنْ تَرَكَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ بَقِيَ مُحْرِمًا أَبَدًا حَتَّى يَطُوفَهَا) لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ أَكْثَرُ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَطُفْ أَصْلًا.
(وَمَنْ تَرَكَ طَوَافَ الصَّدْرِ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ أَوْ الْأَكْثَرَ مِنْهُ، وَمَا دَامَ بِمَكَّةَ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ (وَمَنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الْوَاجِبِ فِي جَوْفِ الْحِجْرِ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ) لِأَنَّ الطَّوَافَ وَرَاءَ الْحَطِيمِ وَاجِبٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالطَّوَافُ فِي جَوْفِ الْحِجْرِ أَنْ يَدُورَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَيَدْخُلَ الْفُرْجَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَطِيمِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَدْخَلَ نَقْصًا فِي طَوَافِهِ فَمَا دَامَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ كُلَّهُ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا لِلطَّوَافِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ (وَإِنْ أَعَادَ عَلَى الْحِجْرِ) خَاصَّةً (أَجْزَأَهُ) لِأَنَّهُ تَلَافَى مَا هُوَ الْمَتْرُوكُ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ عَنْ يَمِينِهِ خَارِجَ الْحَجَرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى آخِرِهِ ثُمَّ يَدْخُلَ الْحِجْرَ مِنْ الْفُرْجَةِ وَيَخْرُجَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ هَكَذَا يَفْعَلُهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ. (فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يُعِدْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ) لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ نُقْصَانٌ فِي طَوَافِهِ بِتَرْكِ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ الرُّبُعِ وَلَا تَجْزِيهِ الصَّدَقَةُ.
(وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَطَوَافَ الصَّدْرِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ طَاهِرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ)، فَإِنْ كَانَ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (وَقَالَا عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ) لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَمْ يُنْقَلْ طَوَافُ الصَّدْرِ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَإِعَادَةُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ فَلَا يُنْقَلُ إلَيْهِ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُنْقَلُ طَوَافُ الصَّدْرِ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ الْإِعَادَةَ فَيَصِيرُ تَارِكًا لِطَوَافِ الصَّدْرِ مُؤَخِّرًا لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ فَيَجِبُ الدَّمُ بِتَرْكِ الصَّدْرِ بِالِاتِّفَاقِ وَبِتَأْخِيرِ الْآخَرِ عَلَى الْخِلَافِ، إلَّا أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ طَوَافِ الصَّدْرِ مَا دَامَ بِمَكَّةَ وَلَا يُؤْمَرُ بَعْدَ الرُّجُوعِ
وَقَوْلُهُ: (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ خَفَّ مَعْنَى النُّقْصَانِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْفُقَرَاءِ.
، وَقَوْلُهُ:(أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْهُ) يَعْنِي مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ. وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ) يَعْنِي لِإِظْهَارِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ تَرْكِ الْأَقَلِّ مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ وَالْأَقَلِّ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ هَاهُنَا هُوَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ شَوْطٍ مِنْهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَكْثَرَ طَوَافِ الصَّدْرِ بِمَنْزِلَةِ أَقَلِّ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فِي وُجُوبِ الشَّاةِ، وَإِذَا كَانَ فِي أَكْثَرِهِ شَاةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي أَقَلِّهِ صَدَقَةٌ.
قَالَ (وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ) مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ
عَلَى مَا بَيَّنَّا.
(وَمَنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَسَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَحَلَّ فَمَا دَامَ بِمَكَّةَ يُعِيدُهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أَمَّا إعَادَةُ الطَّوَافِ فَلِتَمَكُّنِ النَّقْصِ فِيهِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ. وَأَمَّا السَّعْيُ فَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلطَّوَافِ، وَإِذَا أَعَادَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ النُّقْصَانِ (وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يُعِيدَ فَعَلَيْهِ دَمٌ) لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِيهِ، وَلَا يُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ لِوُقُوعِ التَّحَلُّلِ بِأَدَاءِ الرُّكْنِ إذْ النُّقْصَانُ يَسِيرٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي السَّعْيِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ عَلَى أَثَرِ طَوَافٍ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَكَذَا إذَا أَعَادَ الطَّوَافَ وَلَمْ يُعِدْ السَّعْيَ فِي الصَّحِيحِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ. وَفَائِدَةُ نَقْلِ طَوَافِ الصَّدْرِ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ سُقُوطُ الْبَدَنَةِ عَنْهُ، وَهَاهُنَا أَصْلٌ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ طَوَافٌ وَأَتَى بِهِ فِي وَقْتِهِ وَقَعَ عَنْهُ سَوَاءٌ نَوَاهُ بِعَيْنِهِ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ أَوْ نَوَى بِهِ طَوَافًا آخَرَ، فَالْمُحْرِمُ إذَا دَخَلَ مَكَّةَ فَطَافَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا وَقَعَ عَنْ الْعُمْرَةِ وَإِنْ كَانَ حَاجًّا وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الْقُدُومِ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا كَانَ الطَّوَافُ الْأَوَّلُ لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ مَا بَعْدَهُ لِلْحَجِّ سَوَاءٌ نَوَى التَّطَوُّعَ أَوْ طَوَافًا آخَرَ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ قَدْ انْعَقَدَ لِأَدَائِهِ، فَإِذَا أَتَى بِهِ وَقَعَ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِنِيَّتِهِ، كَمَا إذَا سَجَدَ يَنْوِي بِهِ تَطَوُّعًا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِنِيَّتِهِ وَوَقَعَتْ السَّجْدَةُ عَمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ:(عَلَى مَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ تَرَكَ طَوَافَ الصَّدْرِ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، إلَى قَوْلِهِ: وَمَا دَامَ بِمَكَّةَ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ.
وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَسَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ) وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ: (وَأَمَّا السَّعْيُ) يَعْنِي إنَّمَا يُعِيدُ السَّعْيَ وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الطَّهَارَةِ لِعَدَمِ وُرُودِ مَا وَرَدَ فِي الطَّوَافِ مِنْ النَّصِّ فِيهِ لِكَوْنِهِ تَابِعًا لِلطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ قُرْبَةً بِدُونِ الطَّوَافِ. وَقَوْلُهُ: (وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي السَّعْيِ شَيْءٌ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَوْلُهُ: (وَكَذَا إذَا أَعَادَ الطَّوَافَ وَلَمْ يُعِدْ السَّعْيَ) يَعْنِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَقَوْلُهُ: (فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إذَا أَعَادَ الطَّوَافَ وَلَمْ يُعِدْ السَّعْيَ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعَادَ الطَّوَافَ فَقَدْ نَقَضَ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ، فَإِذَا انْتَقَضَ ذَلِكَ حَصَلَ السَّعْيُ قَبْلَ الطَّوَافِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ فَيَكُونُ تَارِكًا لِلسَّعْيِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ. وَوَجْهُ الصَّحِيحِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَالْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ وَالْمُصَنِّفِ رحمهم الله أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي السَّعْيِ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى إثْرِ طَوَافٍ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَطَوَافُ الْمُحْدِثِ كَذَلِكَ وَلِهَذَا يَتَحَلَّلُ بِهِ، فَإِذَا أَتَى بِهِ مَعَ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، فَإِنْ أَعَادَ تَبَعًا لِلطَّوَافِ فَهُوَ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
(وَمَنْ تَرَكَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَحَجُّهُ تَامٌّ) لِأَنَّ السَّعْيَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَنَا فَيَلْزَمُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ دُونَ الْفَسَادِ.
(وَمَنْ أَفَاضَ قَبْلَ الْإِمَامِ مِنْ عَرَفَاتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ أَصْلُ الْوُقُوفِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الْإِطَالَةِ شَيْءٌ. وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِدَامَةَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَادْفَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ» فَيَجِبُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَ لَيْلًا لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوُقُوفِ عَلَى
وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ تَرَكَ السَّعْيَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ أَفَاضَ قَبْلَ الْإِمَامِ مِنْ عَرَفَاتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: كَانَ مِنْ حَقِّ الرِّوَايَةِ أَنْ يُقَالَ: وَمَنْ أَفَاضَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِمَا أَنَّ الْمَحْظُورَ عَلَيْهِ الْإِفَاضَةُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَأَقُولُ: قَوْلُهُ: هَذَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ إذَا كَانَتْ وَاجِبَةً إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَالْإِفَاضَةُ قَبْلَ الْإِمَامِ لَا تَكُونُ إلَّا قَبْلَ الْغُرُوبِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتْرُكُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِدَامَةِ. وَقَوْلُهُ: (بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَ لَيْلًا) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِدَامَةَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بِلَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ
مَنْ وَقَفَ نَهَارًا لَا لَيْلًا، فَإِنْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ لَا يَصِيرُ مُسْتَدْرَكًا. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا عَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ.
(وَمَنْ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ) لِأَنَّهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ.
(وَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ) لِتَحَقُّقِ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ كَمَا فِي الْحَلْقِ، وَالتَّرْكُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِيهَا، وَمَا دَامَتْ الْأَيَّامُ بَاقِيَةً فَالْإِعَادَةُ مُمْكِنَةٌ فَيَرْمِيهَا عَلَى التَّأْلِيفِ ثُمَّ بِتَأْخِيرِهَا يَجِبُ الدَّمُ
الِامْتِدَادُ شَرْطًا لَا فِي اللَّيْلِ وَلَا فِي النَّهَارِ فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ شَرْطًا فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ؟ قُلْت: تَرَكَ ظَاهِرَهُ فِي حَقِّ النَّهَارِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَادْفَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ» فَبَقِيَ اللَّيْلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، (وَإِنْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) وَرَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِفَاضَةُ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَقَدْ أَتَى بِهِ، فَكَانَ كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ وَأَحْرَمَ. وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمَتْرُوكَ لَا يَصِيرُ مُسْتَدْرَكًا؛ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَتْرُوكَ سُنَّةُ الدَّفْعِ مَعَ الْإِمَامِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْتَدْرَكٍ بِعَوْدِهِ وَحْدَهُ لَا مَحَالَةَ. وَإِذَا عَادَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ حَتَّى أَفَاضَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ غُرُوبِهَا فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوُقُوفِ قَدْ انْقَطَعَتْ وَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا فَبَقِيَ عَلَيْهِ الدَّمُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ سُنَّةَ الدَّفْعِ مَعَ الْإِمَامِ.
قَالَ: (وَمَنْ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْيَ الْجِمَارِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ، فَإِذَا تَرَكَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ،
لَكِنْ إذَا تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ: نَحْرٌ خَاصٌّ وَتَشْرِيقٌ خَاصٌّ وَيَوْمَانِ بَيْنَهُمَا نَحْرٌ وَتَشْرِيقٌ يَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ رَمْيِ كُلِّ يَوْمٍ دَمٌ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَاتِ وَإِنْ كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا لَكِنْ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ فَكَانَ كَمَنْ قَصَّ أَظَافِيرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَوَجْهُ مَا فِي الْكِتَابِ مَا ذَكَرَهُ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ) وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تَتَعَدَّدُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ (كَمَا فِي الْحَلْقِ) فَإِنَّهُ إنْ حَلَقَ شَعْرَ الْبَدَنِ كُلَّهُ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى حَلْقِ الرَّأْسِ أَوْ رُبْعِهِ. وَقَوْلُهُ:(وَالتَّرْكُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ) جَوَابُ مَا قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْمَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٌ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ أَيَّامَ الرَّمْيِ كُلَّهَا زَمَانٌ وَاحِدٌ لِلرَّمْيِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَاكَ اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ؛ (لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِيهَا) عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّرْكُ مَا دَامَ فِيهَا كَالتَّضْحِيَةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ (فَيَرْمِيهَا عَلَى التَّأْلِيفِ) أَيْ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي شُرِعَ مَا دَامَتْ الْأَيَّامُ بَاقِيَةً، بِخِلَافِ قَصِّ الْأَظَافِيرِ فَإِنَّ تَرْكَهُ لَيْسَ بِمُوَقَّتٍ بِزَمَانٍ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ، (ثُمَّ بِتَأْخِيرِهَا) عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ (يَجِبُ الدَّمُ) وَهُوَ شَاةٌ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.
(وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ) لِأَنَّهُ نُسُكٌ تَامٌّ (وَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ إحْدَى الْجِمَارِ الثَّلَاثِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ) لِأَنَّ الْكُلَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ نُسُكٌ وَاحِدٌ فَكَانَ الْمَتْرُوكُ أَقَلَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ لِوُجُودِ تَرْكِ الْأَكْثَرِ (وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ) لِأَنَّهُ كُلُّ وَظِيفَةِ هَذَا الْيَوْمِ رَمْيًا وَكَذَا إذَا تَرَكَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا (وَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا تَصَدَّقَ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا فَيُنْقِصَ مَا شَاءَ) لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ الْأَقَلُّ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ.
(وَمَنْ أَخَّرَ الْحَلْقَ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا إذَا أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ) حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ (فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَهُ وَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ) وَكَذَا الْخِلَافُ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ وَفِي تَقْدِيمِ نُسُكٍ عَلَى نُسُكٍ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ تَامٌّ)، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا نَفَرَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالنَّفْرِ، وَذَلِكَ آيَةُ التَّطَوُّعِ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ التَّخْيِيرَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَأَمَّا إذَا طَلَعَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِقَامَةُ وَالرَّمْيُ، فَلَوْ تَرَكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ فَكَانَ كَالتَّطَوُّعِ يُخَيَّرُ فِيهِ قَبْلَ الشُّرُوعِ وَيَجِبُ بَعْدَهُ.
وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ إحْدَى الْجِمَارِ) مَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ نُسُكَ يَوْمٍ فَتَرْكُهُ يُوجِبُ الدَّمَ، وَمَا كَانَ بَعْضُهُ الْأَقَلَّ فَتَرْكُهُ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ، فَعَلَى هَذَا إذَا تَرَكَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَإِنْ تَرَكَهَا فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ يَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَقْضِهِ فِي أَيَّامِ الرَّمْيِ، فَأَمَّا إذَا قَضَاهُ فِيهَا فَقَدْ سَقَطَ الدَّمُ عِنْدَهُمَا وَلَمْ يَسْقُطْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَوْلُهُ (فَكَانَ الْمَتْرُوكُ أَقَلَّ) يَعْنِي إذَا تَرَكَ رَمْيَ إحْدَى الْجِمَارِ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ حِينَئِذٍ سَبْعُ حَصَيَاتٍ وَالْمَأْتِيَّ بِهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ حَصَاةً. وَقَوْلُهُ:(إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ إحْدَى الْجِمَارِ: أَيْ: لَكِنْ إذَا تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ رَمْيِ إحْدَى الْجِمَارِ وَبَلَغَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفٍ مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ إحْدَى عَشْرَةَ حَصَاةً وَيَرْمِيَ عَشْرَ حَصَيَاتٍ (فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ لِوُجُودِ تَرْكِ الْأَكْثَرِ)، وَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ.
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّهُ كُلَّ وَظِيفَةِ هَذَا الْيَوْمِ رَمْيًا) نَصَبَ رَمْيًا عَلَى التَّمْيِيزِ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَظَائِفَ غَيْرَهُ كَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ، فَلَوْ اقْتَصَرَهُ عَلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ هَذَا الْيَوْمِ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا يَنْبَغِي. وَقَوْلُهُ: (وَكَذَا إذَا تَرَكَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا) أَيْ: مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ. وَقَوْلُهُ: (إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: تَصَدَّقَ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ: يَعْنِي إذَا بَلَغَ قِيمَةُ مَا تَصَدَّقَ لِكُلِّ حَصَاةٍ قِيمَةَ الدَّمِ فَحِينَئِذٍ (يَنْقُصُ مِنْ الدَّمِ مَا شَاءَ) حَتَّى لَا يَلْزَمَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ. وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ الْأَقَلُّ) دَلِيلُ قَوْلِهِ: تَصَدَّقَ.
قَالَ: (وَمَنْ أَخَّرَ الْحَلْقَ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ) هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُوجِبُ الدَّمَ بِالتَّأْخِيرِ خِلَافًا لَهُمَا. وَقَوْلُهُ: (وَكَذَا الْخِلَافُ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ) أَيْ: فِي تَأْخِيرِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَتَأْخِيرِ رَمْيِ الْجِمَارِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ أَوْ مِنْ الثَّالِثِ إلَى الرَّابِعِ. وَقَوْلُهُ: (وَفِي تَقْدِيمِ نُسُكٍ عَلَى نُسُكٍ) أَيْ: وَكَذَا الْخِلَافُ فِي تَقْدِيمِ نُسُكٍ عَلَى نُسُكٍ
كَالْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ وَنَحْرِ الْقَارِنِ قَبْلَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ قَبْلَ الذَّبْحِ، لَهُمَا أَنَّ مَا فَاتَ مُسْتَدْرَكٌ بِالْقَضَاءِ وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَضَاءِ شَيْءٌ آخَرُ.
وَلَهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ " وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ الْمَكَانِ يُوجِبُ الدَّمَ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ بِالْمَكَانِ كَالْإِحْرَامِ فَكَذَا التَّأْخِيرُ عَنْ الزَّمَانِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ بِالزَّمَانِ.
كَالْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ) سَوَاءٌ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ غَيْرَهُ (وَنَحْرِ الْقَارِنِ) وَالْمُتَمَتِّعِ (قَبْلَ الرَّمْيِ وَحَلْقِ الْقَارِنِ) وَالْمُتَمَتِّعِ (قَبْلَ الذَّبْحِ) وَإِنَّمَا خُصَّ الْقَارِنُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُفْرِدَ إذَا ذَبَحَ قَبْلَ الرَّمْيِ أَوْ حَلَقَ قَبْلَ الذَّبْحِ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ النُّسُكِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ هَاهُنَا لِكَوْنِ الذَّبْحِ غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: تَقْدِيمُ نُسُكٍ عَلَى نُسُكٍ يَسْتَلْزِمُ تَأْخِيرَ نُسُكٍ عَنْ نُسُكٍ فَكَانَ فِي كَلَامِهِ تَكْرَارٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّأْخِيرِ مَا يَكُونُ بِحَسَبِ الْأَيَّامِ وَبِالتَّقْدِيمِ مَا يَكُونُ بِحَسَبِ الْآنَاتِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَلَا تَكْرَارَ. (لَهُمَا أَنَّ مَا فَاتَ مُسْتَدْرَكٌ بِالْقَضَاءِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكُلُّ مَا هُوَ مُسْتَدْرَكٌ بِالْقَضَاءِ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:«مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ» فَإِنْ قِيلَ: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ لِلنَّاسِ بِمِنًى يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ وَقَالَ: نَحَرْت قَبْلَ الرَّمْيِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ، فَمَا سُئِلَ عليه الصلاة والسلام عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» وَذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنْ لَا شَيْءَ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الْقَضَاءِ أَيْضًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مُفْرِدًا وَتَقْدِيمُ الذَّبْحِ عَلَى الرَّمْيِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ فَلَا يُوجِبُ التَّأْخِيرَ فِيهِ شَيْئًا. سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ يَكُونُ مُعَارَضًا بِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقِيلَ: الصَّحِيحُ أَنَّ رَاوِيَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَيُصَارُ إلَى مَا بَعْدَهُمَا، وَالْقِيَاسُ مَعَنَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ:(وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ الْمَكَانِ يُوجِبُ الدَّمَ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ بِالْمَكَانِ كَالْإِحْرَامِ)، فَإِنَّ الْحَاجَّ إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ أَحْرَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ (فَكَذَا التَّأْخِيرُ عَنْ الزَّمَانِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ بِالزَّمَانِ) بِجَامِعِ تَمَكُّنِ نُقْصَانِ التَّأْخِيرِ
(وَإِنْ حَلَقَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَمَنْ اعْتَمَرَ فَخَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ وَقَصَّرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) رحمه الله: (لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) قَالَ رضي الله عنه: ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُعْتَمِرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْحَاجِّ. قِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ جَرَتْ فِي الْحَجِّ بِالْحَلْقِ بِمِنًى وَهُوَ مِنْ الْحَرَمِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ، هُوَ يَقُولُ: الْحَلْقُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْحَرَمِ لِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَحَلَقُوا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ» . وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ لَمَّا جُعِلَ مُحَلِّلًا صَارَ كَالسَّلَامِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنْ وَاجِبَاتِهَا، وَإِنْ كَانَ مُحَلِّلًا، فَإِذَا صَارَ نُسُكًا اخْتَصَّ بِالْحَرَمِ كَالذَّبْحِ وَبَعْضُ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْحَرَمِ فَلَعَلَّهُمْ حَلَقُوا فِيهِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَلْقَ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَوَقَّتُ بِالْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ، وَعِنْد زُفَرٍ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ دُونَ الْمَكَانِ.
فِيهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: مَعَهُمَا أَيْضًا قِيَاسٌ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ مَا يُسْتَدْرَكُ مِنْ الْعِبَادَاتِ بِالْقَضَاءِ فَكَانَ قِيَاسُكُمْ فِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ قِيَاسَنَا مُرَجَّحٌ بِالِاحْتِيَاطِ، فَإِنَّ فِيهِ الْخُرُوجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ حَلَقَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ) ظَاهِرٌ (قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُعْتَمِرِ) أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، (وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْحَاجِّ) إذَا حَلَقَ خَارِجَ الْحَرَمِ، (فَقِيلَ) إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ لِأَنَّهُ (بِالِاتِّفَاقِ) فِي وُجُوبِ الدَّمِ؛ (لِأَنَّ السُّنَّةَ جَرَتْ فِي الْحَجِّ بِأَنْ يَكُونَ الْحَلْقُ بِمِنًى وَهُوَ مِنْ الْحَرَمِ) فَبِتَرْكِهِ يَلْزَمُ الْجَابِرَ، (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ) عِنْدَهُمَا يَجِبُ الدَّمُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَوَجْهُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ: (فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَلْقَ) يَعْنِي فِي الْحَجِّ (يَتَوَقَّتُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ) أَيْ: بِيَوْمِ النَّحْرِ وَالْحَرَمِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَوَقَّتُ بِالْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ، " وَعِنْدَ زُفَرَ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ دُونَ الْمَكَانِ)، وَإِنَّمَا
وَهَذَا الْخِلَافُ فِي التَّوْقِيتِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ بِالدَّمِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ فَلَا يَتَوَقَّتُ بِالِاتِّفَاقِ. وَالتَّقْصِيرُ وَالْحَلْقُ فِي الْعُمْرَةِ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِالزَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُمْرَةِ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ
قُلْنَا: يَعْنِي فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ فِي الْعُمْرَةِ لَا يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ مُؤَقَّتًا بِهِمَا كَانَ كَالْوُقُوفِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِهِ إذَا حَلَقَ خَارِجَ الْحَرَمِ كَمَا لَوْ وَقَفَ بِغَيْرِ عَرَفَةَ أَوْ طَافَ بِغَيْرِ الْبَيْتِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَحَلَّ الْفِعْلِ هُوَ الرَّأْسُ دُونَ الْحَرَمِ، وَلَكِنَّهُ جَازَ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ مَكَانِهِ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ كَمَا يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ وَقْتِهِ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ، فَإِنَّ مَحَلَّ الْفِعْلِ هُوَ الْجَبَلُ وَحَوْلَ الْبَيْتِ وَبِالْخُرُوجِ عَنْهُمَا يَتَبَدَّلُ الْمَحَلُّ فَلَا يَجُوزُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْمَكَانِ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ لَمَّا جُعِلَ مُحَلِّلًا إلَخْ. وَأَمَّا عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالزَّمَانِ فَلِأَنَّ الْحَلْقَ لِلتَّحَلُّلِ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يُوَقَّتُ بِالزَّمَانِ كَالطَّوَافِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَمَّا عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِالْمَكَانِ فَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ بِقَوْلِ الْحَلْقِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْحَرَمِ إلَخْ. وَأَمَّا عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِالزَّمَانِ فَهُوَ أَنَّ الْحَلْقَ الَّذِي هُوَ نُسُكٌ فِي أَوَانِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَلْقِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ قَبْلَ أَوَانِهِ، فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَلَوْ أَرَدْت أَنْ تَجْعَلَهُ دَلِيلًا لِلشِّقَّيْنِ. قُلْت: فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ فَكَذَلِكَ هَذَا، إذْ لَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِمَا لَمَا وَقَعَ مُعْتَدًّا بِهِ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَقَدْ عَرَفْت جَوَابَ ذَلِكَ آنِفًا وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَمَّا عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْمَكَانِ فَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ إلَخْ، وَأَمَّا عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِالزَّمَانِ فَهُوَ دَلِيلُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِالزَّمَانِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ التَّحَلُّلَ عَنْ الْإِحْرَامِ مُعْتَبَرٌ بِابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ، وَابْتِدَاؤُهُ مُوَقَّتٌ بِالزَّمَانِ حَتَّى كَرِهَ تَقْدِيمَ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى أَشْهُرِهِ دُونَ الْمَكَانِ حَتَّى جَازَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ حَيْثُ شَاءَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ، فَكَذَلِكَ التَّحَلُّلُ عَنْهُ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ دُونَ الْمَكَانِ، فَلَوْ أُخِّرَ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ لَزِمَهُ الدَّمُ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ حَلَقَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَقَوْلُهُ:(وَهَذَا الْخِلَافُ) أَيْ: مَا ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ عُلَمَائِنَا فِي التَّوْقِيتِ (إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ بِالدَّمِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ فَلَا يَتَوَقَّتُ بِالِاتِّفَاقِ)، وَقَوْلُهُ:(لِأَنَّ أَصْلَ الْعُمْرَةِ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ) أَيْ:
بِخِلَافِ الْمَكَانِ؛ لِأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِهِ. قَالَ (فَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى رَجَعَ وَقَصَّرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) مَعْنَاهُ: إذَا خَرَجَ الْمُعْتَمِرُ ثُمَّ عَادَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي مَكَان فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ.
(فَإِنْ حَلَقَ الْقَارِنُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ فَعَلَيْهِ دَمَانِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: دَمٌ بِالْحَلْقِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ؛ لِأَنَّ أَوَانَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ وَدَمٌ بِتَأْخِيرِ الذَّبْحِ عَنْ الْحَلْقِ. وَعِنْدُهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَوَّلُ، وَلَا يَجِبُ بِسَبَبِ التَّأْخِيرِ شَيْءٌ عَلَى مَا قُلْنَا
بِالزَّمَانِ، فَإِنَّ رُكْنَهَا الطَّوَافُ وَهُوَ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِزَمَانٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ مَكْرُوهَةٌ فَكَانَتْ مُوَقَّتَةً. وَالْجَوَابُ أَنَّ كَرَاهَتَهَا فِيهَا لَيْسَتْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُوَقَّتَةٌ بِغَيْرِهَا بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ فِيهَا، فَلَوْ اعْتَمَرَ فِيهَا لَرُبَّمَا أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ فَكُرِهَتْ لِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: (بِخِلَافِ الْمَكَانِ لِأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِهِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِالزَّمَانِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: لِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَصَحِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ أَصْلَ الْعُمْرَةِ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ أَيْ: بِالزَّمَانِ، بِخِلَافِ الْمَكَانِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ: أَصْلَ الْعُمْرَةِ يَتَوَقَّتُ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّأْوِيلِ، (فَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ الْمُعْتَمِرُ الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ حَتَّى رَجَعَ إلَى الْحَرَمِ وَقَصَّرَ فِيهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي مَكَانِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانٌ)، وَلَوْ فَعَلَ الْحَاجُّ ذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ دَمُ التَّأْخِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.
وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ حَلَقَ الْقَارِنُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ) يَعْنِي إذَا قَدَّمَ الْقَارِنُ الْحَلْقَ عَلَى الذَّبْحِ (فَعَلَيْهِ دَمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: دَمٌ لِلْقِرَانِ، وَدَمٌ بِتَأْخِيرِ الذَّبْحِ عَنْ الْحَلْقِ. وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ)، وَهُوَ دَمُ الْقِرَانِ، (وَلَا يَجِبُ بِسَبَبِ التَّأْخِيرِ شَيْءٌ عَلَى مَا قُلْنَا) إنَّ التَّأْخِيرَ عِنْدَهُ يُوجِبُ الدَّمَ خِلَافًا لَهُمَا. هَذَا تَقْرِيرُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْلُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِيهِ: قَارِنٌ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ، قَالَ: عَلَيْهِ دَمَانِ: دَمُ الْقِرَانِ، وَدَمٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ. يَعْنِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لَهُ لِأَنَّهُ قَالَ: عَلَيْهِ دَمٌ بِالْحَلْقِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ؛ لِأَنَّ أَوَانَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَدَمٌ بِتَأْخِيرِ الذَّبْحِ عَنْ الْحَلْقِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّهُمَا دَمَا جِنَايَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ دَمَ الْقِرَانِ، وَقَالَ: وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَوَّلُ: يَعْنِي الَّذِي يَجِبُ بِالْحَلْقِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَوَّلًا سِوَاهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَيْضًا دَمَ الْقِرَانِ، وَمَعَ عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ فَهُوَ مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا، وَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا إلَى أَنْ قَالَ: وَالْحَلْقُ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ الْحَقُّ أَنْ يَقُولَ: فَعَلَيْهِ دَمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ:
(فَصْلٌ). اعْلَمْ أَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَصَيْدَ الْبَحْرِ حَلَالٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ.
دَمٌ لِلْقِرَانِ، وَدَمٌ بِتَأْخِيرِ الذَّبْحِ، فَكَأَنَّهُ سَهْوٌ وَقَعَ مِنْهُ أَوْ مِنْ الْكَاتِبِ، وَلَا عَيْبَ فِي السَّهْوِ عَلَى الْإِنْسَانِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَقَعَ فِي عِبَارَةِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ: دَمُ الْقِرَانِ وَاجِبٌ إجْمَاعًا وَدَمٌ آخَرُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ لَا يَحِلُّ إلَّا بَعْدَ الذَّبْحِ وَاجِبٌ أَيْضًا إجْمَاعًا، وَدَمٌ آخَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِسَبَبِ تَأْخِيرِ الذَّبْحِ عَنْ الْحَلْقِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ قَدْ اخْتَارَ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ دَمَ الْقِرَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْآخَرَ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْأَوَّلُ وَذَكَرَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ. قُلْت: يَأْبَاهُ قَوْلُهُ: فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ، فَإِنَّهُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِوُجُوبِ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالْكَفَّارَةِ أَصْلًا، عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ الْجَامِعُ الصَّغِيرُ لِمُحَمَّدٍ رحمه الله. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ يَجِبُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْقَارِنِ مَضْمُونَةٌ بِالدَّمَيْنِ وَهُوَ اعْتِرَاضُ الْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفْرِدِ فِيهِ دَمٌ فَعَلَى الْقَارِنِ دَمَانِ، وَلَوْ قَدَّمَ الْمُفْرِدُ الْحَلْقَ عَلَى الذَّبْحِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَا يَتَضَاعَفُ عَلَى الْقَارِنِ.
(فَصْلٌ)
لَمَّا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالصَّيْدِ نَوْعًا آخَرَ فُصِلَ عَمَّا قَبْلَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ، (الصَّيْدُ هُوَ الْحَيَوَانُ الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ) فَقَوْلُهُ: الْحَيَوَانُ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ. وَقَوْلُهُ الْمُمْتَنِعُ وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّنْ قَصَدَهُ إمَّا بِقَوَائِمِهِ أَوْ بِجَنَاحَيْهِ يُخْرِجُ الْحَيَوَانَاتِ الْأَهْلِيَّةَ كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَنَحْوِهِمَا وَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ. وَقَوْلُهُ: الْمُتَوَحِّشُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَمَامُ الْمُسَرْوِلُ وَالظَّبْيُ الْمُسْتَأْنَسُ، وَتَخْرُجُ الْإِبِلُ الْمُتَوَحِّشَةُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ فِي الْأَوَّلِ وَالتَّوَحُّشَ فِي الثَّانِي عَارِضِيٌّ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: بَرِّيٌّ وَهُوَ مَا يَكُونُ مَوْلِدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْبَرِّ، وَبَحْرِيٌّ وَهُوَ مَا يَكُونُ مَوْلِدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْمَاءِ، وَالِاعْتِبَارُ لِلْمَوْلِدِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، فَالْبَطُّ وَالْإِوَزُّ بَرِّيٌّ؛ لِأَنَّ مَوْلِدَهُمَا الْبَرُّ، وَالضُّفْدَعُ بَحْرِيٌّ؛ لِأَنَّ مَوْلِدَهُ الْبَحْرُ (وَصَيْدُ الْبَحْرِ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ) سَوَاءٌ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، (وَصَيْدُ الْبَرِّ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} الْآيَةَ.
وَصَيْدُ الْبَرِّ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْبَرِّ، وَصَيْدُ الْبَحْرِ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْمَاءِ. وَالصَّيْدُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَاسْتَثْنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَمْسَ الْفَوَاسِقَ وَهِيَ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالذِّئْبُ وَالْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ وَالْحَيَّةُ، وَالْعَقْرَبُ، فَإِنَّهَا مُبْتَدِئَاتٌ بِالْأَذَى. وَالْمُرَادُ بِهِ الْغُرَابُ الَّذِي يَأْكُلُ
وَاسْتَثْنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: بَيَّنَ عَدَمَ دُخُولِهَا فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا تُتَصَوَّرُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ عِنْدَنَا لِبَيَانِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ اسْتِعَارَةً لَهُ (الْخَمْسَ الْفَوَاسِقَ وَهِيَ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالذِّئْبُ وَالْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحَيَّةُ، وَالْعَقْرَبُ) عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَهِيَ سِتَّةٌ، وَسَيَأْتِي الْعُذْرُ عَنْ ذَلِكَ، وَسُمِّيَتْ فَوَاسِقَ اسْتِعَارَةً لِخُبْثِهِنَّ، وَقِيلَ لِخُرُوجِهِنَّ مِنْ الْحُرْمَةِ لِابْتِدَائِهِنَّ بِالْأَذَى، وَلَمَّا كَانَ مَشْهُورًا جَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ، وَلَا فَرْقَ فِي الصَّيْدِ بَيْنَ الْمَمْلُوكِ وَالْمُبَاحِ وَالْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ لِتَنَاوُلِ اسْمِ الصَّيْدِ ذَلِكَ كُلَّهُ.
الْجِيَفَ. هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله.
قَالَ: (وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ) أَمَّا الْقَتْلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} الْآيَةُ نَصٌّ عَلَى إيجَابِ الْجَزَاءِ.
وَأَمَّا
قَالَ: (وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ) أَمَّا الْقَتْلُ فَلِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَعَلَى الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّالُّ وَالْمَدْلُولُ حَلَالَيْنِ أَوْ مُحْرِمَيْنِ، أَوْ الدَّالُّ حَلَالًا وَالْمَدْلُولُ مُحْرِمًا أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَالثَّانِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ جَزَاءٌ كَامِلٌ عِنْدَنَا، وَفِي الثَّالِثِ عَلَى الْمَدْلُولِ الْجَزَاءُ دُونَ الدَّالِّ كَذَلِكَ، وَفِي الرَّابِعِ عَكْسُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِّ
الدَّلَالَةُ فَفِيهَا خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. هُوَ يَقُولُ: الْجَزَاءُ تَعَلَّقَ بِالْقَتْلِ، وَالدَّلَالَةُ لَيْسَتْ بِقَتْلٍ، فَأَشْبَهَ دَلَالَةُ الْحَلَالِ حَلَالًا. وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه.
أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ بِالنَّصِّ، (وَالدَّلَالَةُ لَيْسَتْ بِقَتْلٍ فَأَشْبَهَ دَلَالَةَ الْحَلَالِ حَلَالًا)، وَقَوْلُهُ: حَلَالًا لَيْسَ بِقَيْدٍ فَإِنَّ الْمَدْلُولَ إنْ كَانَ مُحْرِمًا فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ (وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ) رضي الله عنه «هَلْ دَلَلْتُمْ عَلَيْهِ؟ هَلْ
وَقَالَ عَطَاءٌ رحمه الله: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ عَلَى الدَّالِ الْجَزَاءَ؛ وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَلِأَنَّهُ تَفْوِيتُ الْأَمْنِ عَلَى الصَّيْدِ إذْ هُوَ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ وَتَوَارِيهِ فَصَارَ كَالْإِتْلَافِ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ بِإِحْرَامِهِ الْتَزَمَ الِامْتِنَاعَ عَنْ التَّعَرُّضِ فَيَضْمَنُ بِتَرْكِ مَا الْتَزَمَهُ كَالْمُودَعِ
أَشَرْتُمْ إلَيْهِ؟» عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ.
فَإِنْ قِيلَ: خَبَرٌ وَاحِدٌ لَا يُقَاوِمُ النَّصَّ الصَّرِيحَ. قُلْت: مَا تَقَدَّمَ فِي النَّصِّ ذِكْرُ الْقَتْلِ وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ، (وَقَالَ عَطَاءٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ تِلْمِيذُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:(أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ عَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءَ) قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا. وَرُدَّ بِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: لَيْسَ عَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَئِنْ كَانَ حُمِلَ عَلَى مَا إذَا دَلَّ وَلَمْ يَقْتُلْهُ الْمَدْلُولُ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ فِيمَا إذَا قَتَلَهُ، فَكَانَ كَلَامُهُ غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ لِمَحَلِّ الْإِجْمَاعِ؛ (وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ)، وَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ لَا مَحَالَةَ؛ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ: الدَّلَالَةَ، وَذَكَرَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إلَى الْخَبَرِ وَهُوَ (تَفْوِيتُ الْأَمْنِ مِنْ الصَّيْدِ) أَيْ: الدَّلَالَةُ تُفَوِّتُ الْأَمْنَ مِنْ الصَّيْدِ؛ (لِأَنَّهُ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ) مِنْ النَّاسِ، (وَتَوَارِيهِ) عَنْ أَعْيُنِهِمْ، وَبِالدَّلَالَةِ يَزُولُ ذَلِكَ (فَصَارَتْ كَالْإِتْلَافِ) وَقَوْلُهُ:(وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ) دَلِيلٌ آخَرُ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِ الْخَصْمِ فَأَشْبَهَ دَلَالَةَ الْحَلَالِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُحْرِمَ بِإِحْرَامِهِ الْتَزَمَ الِامْتِنَاعَ عَنْ التَّعَرُّضِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ خَاصٌّ يَتَضَمَّنُ
بِخِلَافِ الْحَلَالِ لِأَنَّهُ لَا الْتِزَامَ مِنْ جِهَتِهِ، عَلَى أَنَّ فِيهِ الْجَزَاءَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَالدَّلَالَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْجَزَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ وَأَنْ يُصَدِّقَهُ فِي الدَّلَالَةِ، حَتَّى لَوْ كَذَّبَهُ وَصَدَّقَ غَيْرَهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَذِّبِ (وَلَوْ كَانَ الدَّالُّ حَلَالًا فِي الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ) لِمَا قُلْنَا (وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَامِدُ وَالنَّاسِي) لِأَنَّهُ ضَمَانٌ يَعْتَمِدُ وُجُوبَهُ الْإِتْلَافُ
ذَلِكَ شَرْعًا، وَالدَّلَالَةُ مُبَاشِرَةٌ لِخِلَافِ مَا اُلْتُزِمَ وَذَلِكَ يُوجِبُ الضَّمَانَ كَدَلَالَةِ الْمُودَعِ السَّارِقِ عَلَى الْوَدِيعَةِ، (بِخِلَافِ الْحَلَالِ) فَإِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا، (عَلَى أَنَّ فِيهِ) أَيْ: فِيمَا إذَا دَلَّ الْحَلَالُ عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ (الْجَزَاءَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَالدَّلَالَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْجَزَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ)؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَهُ لَمْ يَكُنْ زَوَالُ الْأَمْنِ بِدَلَالَتِهِ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْإِتْلَافِ، (وَأَنْ يُصَدِّقَهُ فِي الدَّلَالَةِ) لِيَكُونَ فِي مَعْنَى الْإِتْلَافِ، (أَمَّا إذَا كَذَّبَهُ وَصَدَّقَ غَيْرَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَذِّبِ) وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ إنْ كَانَ مُحْرِمًا، وَهَاهُنَا شُرُوطٌ أُخَرُ لَمْ يَذْكُرْهَا: أَحَدُهَا أَنْ يَتَّصِلَ الْقَتْلُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الدَّلَالَةِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا. وَالثَّانِي أَنْ يَبْقَى الدَّالُّ مُحْرِمًا عِنْدَ أَخْذِ الْمَدْلُولِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ إنَّمَا يَتِمُّ جِنَايَةً إذَا بَقِيَ مُحْرِمًا إلَى وَقْتِ الْقَتْلِ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَأْخُذَهُ الْمَدْلُولُ قَبْلَ أَنْ يَنْفَلِتَ، فَلَوْ صَدَّقَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ حَتَّى انْفَلَتَ ثُمَّ أَخَذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الدَّالِّ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ جُرْحٍ انْدَمَلَ (وَلَوْ كَانَ الدَّالُّ حَلَالًا فِي الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِمَا قُلْنَا) إنَّهُ لَا الْتِزَامَ مِنْ جِهَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ مِنْ جِهَتِهِ الْتَزَمَ بِعَقْدِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِصَيْدِ الْحَرَمِ. أُجِيبَ بِأَنَّ عَقْدَ الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِكَافٍ فِي ذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عَقْدٍ خَاصٍّ كَمَا فِي عَقْدِ الْوَدِيعَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الْتَزَمَ بِعَقْدِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَمْوَالِ النَّاسِ، ثُمَّ لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى مَالِ إنْسَانٍ فَأَخَذَهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الدَّالِّ.
(وَالْعَامِدُ وَالنَّاسِي فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ سَوَاءٌ) كَانَا قَاتِلَيْنِ أَوْ دَالَّيْنِ؛ (لِأَنَّهُ ضَمَانٌ يَعْتَمِدُ وُجُوبُهُ الْإِتْلَافَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ} وَكُلُّ ضَمَانٍ يَعْتَمِدُ وُجُوبُهُ الْإِتْلَافَ فَالْعَامِدُ فِيهِ كَالنَّاسِي كَمَا فِي غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ. فَإِنْ قِيلَ:
فَأَشْبَهَ غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ (وَالْمُبْتَدِئُ وَالْعَائِدُ سَوَاءٌ) لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَا يَخْتَلِفُ.
لَيْسَ هَذَا كَغَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ اشْتَرَكَا فِي إتْلَافِ شَاةِ الْغَيْرِ كَانَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ صَيْدٍ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مَنَاطَ الْإِلْحَاقِ مُدَارٌ بِهِ الْإِتْلَافُ لِلضَّمَانِ وَقَدْ وُجِدَتْ، وَالِاتِّحَادُ فِي جَمِيعِ الْجِهَاتِ يَرْفَعُ التَّعَدُّدَ وَيُبْطِلُ الْقِيَاسَ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَعْلِيلٌ عَلَى مُخَالَفَةِ النَّصِّ الْقَاطِعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} نَصٌّ عَلَى التَّعَمُّدِ وَهُوَ يُخَالِفُ النِّسْيَانَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ النِّسْيَانِ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم «الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ عَمْدٍ وَنِسْيَانٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنهم.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: مُتَعَمِّدًا؟ أُجِيبَ بِأَنَّهَا التَّنْبِيهُ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ صِفَةَ التَّعَمُّدِ فِي الْقَتْلِ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَاهُنَا بِأَنَّهَا إذَا وَجَبَتْ فِي الْعَمْدِ فَلَأَنْ تَجِبَ فِي الْخَطَأِ أَوْلَى، (وَالْمُبْتَدِئُ وَالْعَائِدُ) فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ (سَوَاءٌ)؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ كَمَا وُجِدَتْ ابْتِدَاءً فَقَدْ وُجِدَتْ انْتِهَاءً فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، فَلَوْ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ بَطَلَتْ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} جَعَلَ كُلَّ جَزَائِهِ بِالْفَاءِ انْتِقَامَ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْهُ مُوجِبٌ سِوَاهُ كَمَا عُرِفَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مُتَمَسَّكُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ فِي أَنَّ مُوجِبَ الْعَائِدِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَيَنْتَقِمَ اللَّهُ مِنْك، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ إذَا عَادَ مُسْتَحِلًّا أَوْ مُسْتَحِقًّا بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى بَابِ الرِّبَا {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} الْآيَةَ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عَمَلًا بِدَلَالَةِ
(وَالْجَزَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنْ يُقَوَّمَ الصَّيْدُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ أَوْ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْهُ إذَا كَانَ فِي بَرَّيَّةٍ فَيُقَوِّمُهُ ذَوَا عَدْلٍ، ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْفِدَاءِ إنْ شَاءَ ابْتَاعَ بِهَا هَدْيًا وَذَبَحَهُ إنْ بَلَغَتْ هَدْيًا، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا طَعَامًا وَتَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ) عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ فِي الصَّيْدِ النَّظِيرُ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ، فَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَفِي الضَّبُعِ شَاةٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ،
النَّصِّ.
وَقَوْلُهُ: (وَالْجَزَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَقُومَ الصَّيْدُ) يَعْنِي يُقَوِّمُهُ ذَوَا عَدْلٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَيْدٌ لَا مِنْ حَيْثُ مَا زَادَ عَلَيْهِ صَنْعَةً، فَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ بَازِيَهُ الْمُعَلَّمَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ غَيْرَ مُعَلَّمٍ وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا قَتَلَهُ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِيمَتُهُ مُعَلَّمًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ وَهُوَ التَّوَحُّشُ وَالتَّنَفُّرُ عَنْ النَّاسِ، وَكَوْنُهُ مُعَلَّمًا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ بَلْ يُنْتَقَصُ بِهِ ذَلِكَ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْجَزَاءِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْقِيمَةِ فِي الْإِتْلَافِ فَبِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَهِيَ بِالِانْتِفَاعِ، وَذَلِكَ يَزْدَادُ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا فَيَدْخُلُ فِي الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ: صَنْعَةً لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ بِأَمْرٍ خِلْقِيٍّ كَمَا إذَا كَانَ طَيْرٌ يُصَوِّتُ فَازْدَادَ قِيمَتُهُ لِذَلِكَ فَفِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ فِي الْجَزَاءِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِي شَيْءٍ، وَفِي أُخْرَى يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالْحَمَامِ إذَا كَانَ مُطَوَّقًا.
وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ هُوَ) يَعْنِي الْقَاتِلَ (مُخَيَّرٌ فِي الْفِدَاءِ) ظَاهِرٌ، (وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَجِبُ فِي الصَّيْدِ النَّظِيرُ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ) أَيْ: فِي الْمَنْظَرِ لَا فِي الْقِيمَةِ (فَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ) ظَاهِرٌ، وَاسْتَدَلَّا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} وَوَجْهُهُ أَنَّ مِثْلَ الْمَقْتُولِ مِنْ النَّعَمِ مَا يُشْبِهُ الْمَقْتُولَ صُورَةً؛ لِأَنَّ مِنْ النَّعَمِ بَيَانٌ
وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، وَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} وَمِثْلُهُ مِنْ النَّعَمِ مَا يُشْبِهُ الْمَقْتُولَ صُورَةً؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تَكُونُ نَعَمًا. وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم أَوْجَبُوا النَّظِيرَ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَالْمَنْظَرُ فِي النَّعَامَةِ وَالظَّبْيِ وَحِمَارِ الْوَحْشِ وَالْأَرْنَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ» وَمَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ مِثْلَ الْعُصْفُورِ وَالْحَمَامِ وَأَشْبَاهِهِمَا. وَإِذَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ كَانَ قَوْلُهُ كَقَوْلِهِمَا. وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله يُوجِبُ فِي الْحَمَامَةِ شَاةً وَيُثْبِتُ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُبُّ وَيَهْدِرُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمِثْلَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ فَحُمِلَ عَلَى
لِلْمِثْلِ، (وَالْقِيمَةُ لَا تَكُونُ نَعَمًا، وَبِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم) وَهْم عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ (أَوْجَبُوا النَّظِيرَ عَلَى مَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ: فَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَفِي الضَّبُعِ شَاةٌ وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، وَهِيَ الَّتِي بَلَغَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَخْ، (وَمَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ) مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ (مِثْلُ الْعُصْفُورِ وَالْحَمَامِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا يَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ كَانَ قَوْلُهُ: كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ الْمُمَاثَلَةَ مِنْ حَيْثُ الصِّفَاتُ فَأَوْجَبَ فِي الْحَمَامِ شَاةً لِمُشَابَهَةٍ بَيْنَهُمَا (مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُبُّ وَيَهْدُرُ) الْعَبُّ مِنْ بَابِ طَلَبَ: أَيْ: يَشْرَبُ الْمَاءَ بِمَرَّةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ الْجَرْعَ، قَالَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَالْحَمَامُ يَشْرَبُ هَكَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الطُّيُورِ فَإِنَّهَا تَشْرَبُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيُقَالُ: هَدَرَ الْبَعِيرُ وَالْحَمَامُ إذَا صَوَّتَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ.
(وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ) اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الْمِثْلَ، وَ (الْمِثْلَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى وَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ) لِخُرُوجِ مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ صُورِيٌّ مِنْ تَنَاوُلِ النَّصِّ، وَفِي ذَلِكَ إهْمَالُهُ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ فَحُمِلَ عَلَى الْمِثْلِ مَعْنًى لِكَوْنِهِ مَعْهُودًا فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمِثْلِ الْمَعْنَوِيِّ مُرَادًا بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ صُورَةً فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ مُرَادًا وَإِلَّا لَزِمَ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ، أَوْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ هَذَا مَا قَالُوا. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمِثْلَ لَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْمِثْلِ صُورَةً وَبَيْنَهُ مَعْنًى، وَلَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا
الْمِثْلِ مَعْنًى لِكَوْنِهِ مَعْهُودًا فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَوْ لِكَوْنِهِ مُرَادًا بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْمِيمِ، وَفِي ضِدِّهِ التَّخْصِيصُ. وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَجَزَاءُ قِيمَةِ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ الْوَحْشِيِّ. وَاسْمُ النَّعَمِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَحْشِيِّ وَالْأَهْلِيِّ، كَذَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ التَّقْدِيرُ بِهِ دُونَ إيجَابِ الْمُعَيَّنِ.
مَجَازٌ فِي الْآخَرِ حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذَكَرْتُمْ، بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُهُمَا كَالرَّقَبَةِ تَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنَةَ وَالْكَافِرَةَ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْمِثْلُ الْمُطْلَقُ الصُّورِيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} دَخَلَ مَا لَهُ مِثْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى كَمَا فِي الْمِثْلِيَّاتِ، وَمَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ إلَّا مَعْنًى كَالْقِيَمِيَّاتِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُطْلَقَ مَا يَتَعَرَّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ فَهُوَ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ فَقَطْ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ تَحْتَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ الْمُحْتَمَلَةِ، فَلَوْ كَانَ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ لَوَجَبَ النَّعَامَةُ عَنْ النَّعَامَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فِي الْمُطْلَقِ وَمَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، وَالْمَجَازُ هَاهُنَا مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ مُرَادًا، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ نَقُولُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: مُوجِبُ الْغَصْبِ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ أَوْلَى بِالْإِرَادَةِ، وَرَدَّ الْعَيْنِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: مُوجِبُ الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ مُخَلِّصٌ، فَكَذَلِكَ تَكُونُ الْقِيمَةُ ثَابِتَةً بِالْكِتَابِ، وَرَدُّ الْعَيْنِ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا الْحَلُّ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الشَّرْحِ، وَجَهْدُ الْمُقِلِّ دُمُوعُهُ. وَقَوْلُهُ:(أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْمِيمِ) دَلِيلٌ آخَرُ: يَعْنِي فِي اعْتِبَارِ الْمِثْلِ مَعْنَى تَعْمِيمٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا لَهُ نَظِيرٌ وَمَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ، (وَفِي ضِدِّهِ) أَيْ: فِي اعْتِبَارِ الْمِثْلِ صُورَةً (تَخْصِيصٌ)؛ لِتَنَاوُلِهِ مَا لَهُ نَظِيرٌ فَقَطْ، وَالْعَمَلُ بِالتَّعْمِيمِ أَوْلَى لِكَوْنِ النَّصِّ حِينَئِذٍ أَعَمَّ فَائِدَةً.
وَقَوْلُهُ: (وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تَكُونُ نَعَمًا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ فَجَزَاءٌ هُوَ قِيمَةُ مَا قُتِلَ مِنْ النَّعَمِ الْوَحْشِيِّ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ بِمَعْنَى الْقِيمَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَمِنْ النَّعَمِ بَيَانٌ لِمَا قُتِلَ، وَالْمُرَادُ مِنْ النَّعَمِ النَّعَمُ الْوَحْشِيُّ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ لَا بِقَتْلِ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّعَمَ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْأَهْلِيِّ فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَحْشِيِّ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ: هَدْيًا وَهُوَ حَالٌ مِنْ جَزَاءٍ، فَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ الْقِيمَةَ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ إذَا قُوِّمَ فَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ فَالْقَاتِلُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، (وَقَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ قَالَ عليه الصلاة والسلام «الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ» وَعَنْ أَثَرِ الصَّحَابَةِ: يَعْنِي أَنَّ إيجَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ رضي الله عنهم
ثُمَّ الْخِيَارُ إلَى الْقَاتِلِ فِي أَنْ يَجْعَلَهُ هَدْيًا أَوْ طَعَامًا أَوْ صَوْمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الْخِيَارُ إلَى الْحَكَمَيْنِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ حَكَمَا بِالْهَدْيِ يَجِبُ النَّظِيرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ حَكَمَا بِالطَّعَامِ أَوْ بِالصِّيَامِ فَعَلَى مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ. لَهُمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ شُرِعَ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْخِيَارُ إلَيْهِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَلِمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} الْآيَةَ، ذُكِرَ الْهَدْيُ مَنْصُوبًا
هَذِهِ النَّظَائِرَ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا إذْ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الضَّبُعِ وَالشَّاةِ خِلْقَةً، وَإِنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ التَّقْدِيرِ بِالْقِيمَةِ، إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَابَ الْمَوَاشِي فَكَانَ الْأَدَاءُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا أَيْسَرَ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ: يُفَكُّ الْغُلَامُ بِالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةُ بِالْجَارِيَةِ وَالْمُرَادُ الْقِيمَةُ.
قَالَ (ثُمَّ الْخِيَارُ إلَى الْقَاتِلِ) يَعْنِي إذَا ظَهَرَ قِيمَةُ الصَّيْدِ بِحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ وَهِيَ تَبْلُغُ هَدْيًا، فَالْخِيَارُ (فِي أَنْ يَجْعَلَهُ هَدْيًا أَوْ طَعَامًا أَوْ صَوْمًا) إلَى الْقَاتِلِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: الْخِيَارُ إلَى الْحَكَمَيْنِ) فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ، (فَإِنْ حَكَمَا بِالْهَدْيِ يَجِبُ النَّظِيرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ حَكَمَا بِالطَّعَامِ أَوْ الصِّيَامِ فَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ) يَعْنِي مِنْ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى (لَهُمَا) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (أَنَّ التَّخْيِيرَ شُرِعَ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْخِيَارُ إلَيْهِ) لِيَرْتَفِقَ بِمَا يَخْتَارُ (كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَلِمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} الْآيَةَ) وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ (ذَكَرَ الْهَدْيَ مَنْصُوبًا
لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ} وَمَفْعُولٌ لِحُكْمِ الْحَكَمِ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَّعَامَ وَالصِّيَامَ بِكَلِمَةٍ أَوْ فَيَكُونُ الْخِيَارُ إلَيْهِمَا. قُلْنَا: الْكَفَّارَةُ عُطِفَتْ عَلَى الْجَزَاءِ لَا عَلَى الْهَدْيِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} مَرْفُوعٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلَالَةُ اخْتِيَارِ الْحَكَمَيْنِ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ إلَيْهِمَا فِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفِ ثُمَّ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَنْ عَلَيْهِ، وَيُقَوَّمَانِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهُ لِاخْتِلَافِ الْقِيَمِ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ بَرًّا لَا يُبَاعُ فِيهِ الصَّيْدُ يُعْتَبَرُ أَقْرَبُ
تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ {يَحْكُمُ بِهِ} ، فَإِنَّ ضَمِيرَ بِهِ مُبْهَمٌ فَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: هَدْيًا فَكَانَ نَصْبًا عَلَى التَّفْسِيرِ. وَقِيلَ أَيْ: التَّمْيِيزُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمِثْلَ إنَّمَا يَصِيرُ هَدْيًا بِاخْتِيَارِهِمَا وَحُكْمِهِمَا، (أَوْ مَفْعُولٌ لِحُكْمِ الْحَكَمِ) أَيْ: عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ الضَّمِيرِ مَحْمُولًا عَلَى مَحَلِّهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} وَفِي ذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ التَّعْيِينَ إلَى الْحَكَمَيْنِ، ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْهَدْيِ ثَبَتَ فِي الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ وَبِالْفَصْلِ؛ وَلِأَنَّهُ عَطَفَهُمَا عَلَيْهِ (بِكَلِمَةِ أَوْ) وَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ، (فَيَكُونُ الْخِيَارُ إلَيْهِمَا).
وَفِي تَوْجِيهِ هَذَا الْكَلَامِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ بِكَلِمَةِ أَوْ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ إلَّا إذَا كَانَ كَفَّارَةٌ مَنْصُوبًا عَلَى مَا هُوَ قِرَاءَةُ عِيسَى بْنِ عُمَرَ النَّحْوِيِّ وَهِيَ شَاذَّةٌ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرَى الِاسْتِدْلَالَ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كِتَابٌ وَلَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَبَرٌ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ.
وَقَوْلُهُ: (قُلْنَا) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمَا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ كَفَّارَةٌ مَعْطُوفَةً عَلَى هَدْيًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ إعْرَابِهِمَا، وَإِنَّمَا هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَجَزَاءٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، (وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} مَرْفُوعٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةُ اخْتِيَارِ الْحَكَمَيْنِ) فِي الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ فِيهِمَا لِلْحَكَمَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْهَدْيِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ، (وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا فِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفِ) لَا غَيْرٍ، (ثُمَّ الِاخْتِيَارُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَنْ عَلَيْهِ) رِفْقًا لَهُ، (وَيُقَوِّمَانِ) أَيْ: الْحَكَمَانِ (فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهُ) الْمُحْرِمُ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَكَذَا يُعْتَبَرُ الزَّمَانُ الَّذِي أَصَابَهُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ الْقِيَمِ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ. وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ بَرًّا) ظَاهِرٌ.
الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ مِمَّا يُبَاعُ فِيهِ وَيُشْتَرَى. قَالُوا: وَالْوَاحِدُ يَكْفِي وَالْمُثَنَّى أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَبْعَدُ عَنْ الْغَلَطِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ. وَقِيلَ يُعْتَبَرُ الْمُثَنَّى هَهُنَا بِالنَّصِّ.
(وَالْهَدْيُ لَا يُذْبَحُ إلَّا بِمَكَّةَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (وَيَجُوزُ الْإِطْعَامُ فِي غَيْرِهَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله. هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْهَدْيِ وَالْجَامِعُ التَّوْسِعَةُ عَلَى سُكَّانِ الْحَرَمِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الْهَدْيُ قُرْبَةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ فَيَخْتَصُّ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ. أَمَّا الصَّدَقَةُ قُرْبَةٌ مَعْقُولَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ (وَالصَّوْمُ يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ)؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ فِي كُلِّ مَكَان (فَإِنْ ذَبَحَ الْهَدْيَ بِالْكُوفَةِ أَجْزَأَهُ عَنْ الطَّعَامِ) مَعْنَاهُ إذَا تَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَا تَنُوبُ عَنْهُ. وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الْهَدْيِ يُهْدِي مَا يُجْزِيهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ
وَقَوْلُهُ: (وَقِيلَ يُعْتَبَرُ الْمُثَنَّى هَاهُنَا) فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ (بِالنَّصِّ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} قَالَ فِي الْكَشَّافِ عَنْ قَبِيصَةَ أَنَّهُ أَصَابَ ظَبْيًا وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَسَأَلَ عَنْهُ عُمَرَ فَشَاوَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شَاةٍ، فَقَالَ قَبِيصَةُ لِصَاحِبِهِ: وَاَللَّهُ مَا عَلِمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى سَأَلَ غَيْرَهُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ضَرْبًا وَقَالَ: أَتَغْمِصُ الْفُتْيَا وَتَقْتُلُ الصَّيْدَ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} فَأَنَا عُمَرُ وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ.
وَقَوْلُهُ: (وَيَجُوزُ الْإِطْعَامُ فِي غَيْرِهَا) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ أَوْ التَّمْلِيكِ. وَقَوْلُهُ: (وَالصَّوْمُ يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ) يَعْنِي بِالْإِجْمَاعِ. وَقَوْلُهُ: (إذَا تَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ) بِأَنْ يُصِيبَ كُلُّ مِسْكِينٍ مِنْ اللَّحْمِ مَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَانَ مِنْ شَرْطِ تَصَدُّقِهِ التَّفْرِيقُ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَبَحَ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ عَلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ جَازَ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ مِنْ حَيْثُ الْهَدْيُ لَا مِنْ حَيْثُ الصَّدَقَةُ.
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَا تَنُوبُ عَنْهُ) أَيْ: لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ الْحَاصِلَةَ بِمَكَانٍ غَيْرِ الْحَرَمِ لَا تَنُوبُ عَنْ الْهَدْيِ؛ حَتَّى لَوْ سَرَقَ الْمَذْبُوحُ أَوْ ضَاعَ قَبْلَ التَّصَدُّقِ بِهِ بَقِيَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ، بِخِلَافِ الْمَذْبُوحِ بِمَكَّةَ حَيْثُ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ وَإِنْ سَرَقَ أَوْ ضَاعَ قَبْلَ التَّصَدُّقِ بِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الْهَدْيِ) إذَا اخْتَارَ الْقَاتِلُ الْهَدْيَ، (يُهْدِي مَا يُجْزِيهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ) وَهُوَ الْجَذَعُ الْكَبِيرُ مِنْ الضَّأْنِ أَوْ النِّيءُ مِنْ غَيْرِهِ
لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْهَدْيِ مُنْصَرِفٌ إلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُجْزِي صِغَارُ النَّعَمِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم أَوْجَبُوا عَنَاقًا وَجَفْرَةً.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ الصِّغَارُ عَلَى وَجْهِ الْإِطْعَامِ: يَعْنِي إذَا تَصَدَّقَ. وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الطَّعَامِ يُقَوَّمُ الْمُتْلَفُ بِالطَّعَامِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَضْمُونُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ (وَإِذَا اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ طَعَامًا تَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ)؛ لِأَنَّ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمُ الْهَدْيِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ) كَمَا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ قَدْ يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِهِ كَمَا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَثَوْبِي هَذَا هَدْيٌ فَلْيَكُنْ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ كَذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُطْلَقِ الْهَدْيِ وَمَا ذَكَرْت لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الثَّوْبِ قَيَّدَتْهُ بِذَلِكَ. (وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُ صِغَارُ النَّعَمِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَقَاضِي خَانْ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ (لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم أَوْجَبُوا عَنَاقًا وَجَفْرَةً) فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي بَابِ الْهَدْيِ (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ الصِّغَارُ عَلَى وَجْهِ الْإِطْعَامِ) فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إيجَابُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، (وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الطَّعَامِ يُقَوَّمُ الْمُتْلَفُ بِالطَّعَامِ عِنْدَنَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْمِثْلُ ثُمَّ يُقَوَّمُ الْمِثْلُ بِالطَّعَامِ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْمُتْلَفُ هُوَ الْمَضْمُونُ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ. وَقَوْلُهُ:(وَإِذَا اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ طَعَامًا) إشَارَةً إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَوَّمَ الْمُتْلَفُ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِالْقِيمَةِ طَعَامًا.
الطَّعَامَ الْمَذْكُورَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الشَّرْعِ (وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ يُقَوَّمُ الْمَقْتُولُ طَعَامًا ثُمَّ يَصُومُ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ يَوْمًا)؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الصِّيَامِ بِالْمَقْتُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ إذْ لَا قِيمَةَ لِلصِّيَامِ فَقَدَّرْنَاهُ بِالطَّعَامِ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْهُودٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي بَابِ الْفِدْيَةِ (فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الطَّعَامِ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْهُ يَوْمًا كَامِلًا)؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ طَعَامِ مِسْكِينٍ يُطْعِمُ قَدْرَ الْوَاجِبِ أَوْ يَصُومُ يَوْمًا كَامِلًا لِمَا قُلْنَا.
(وَلَوْ جَرَحَ صَيْدًا أَوْ نَتَفَ شَعْرَهُ أَوْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ ضَمِنَ مَا نَقَصَهُ) اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ (وَلَوْ نَتَفَ رِيشَ طَائِرٍ أَوْ قَطَعَ قَوَائِمَ صَيْدٍ فَخَرَجَ مِنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَامِلَةً)؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ الْأَمْنَ بِتَفْوِيتِ آلَةِ الِامْتِنَاعِ فَيَغْرَمُ جَزَاءَهُ.
(وَمَنْ كَسَرَ بَيْضَ نَعَامَةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ) وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم، وَلِأَنَّهُ أَصْلُ
قَوْلُهُ: (يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الشَّرْعِ) يَعْنِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ. وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ طَعَامِ مِسْكِينٍ) بِأَنْ قَتَلَ يَرْبُوعًا أَوْ عُصْفُورًا وَلَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ إلَّا مُدًّا مِنْ الْحِنْطَةِ (يُطْعِمُ ذَلِكَ الْقَدْرَ أَوْ يَصُومُ يَوْمًا كَامِلًا لِمَا قُلْنَا): إنَّ الصَّوْمَ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ.
وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ جَرَحَ صَيْدًا) ظَاهِرٌ
الصَّيْدِ، وَلَهُ عَرَضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ صَيْدًا فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الصَّيْدِ احْتِيَاطًا مَا لَمْ يَفْسُدْ (فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْبَيْضِ فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ حَيًّا) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَغْرَمَ سِوَى الْبَيْضَةِ؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الْفَرْخِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْبَيْضَ مُعَدٌّ؛ لِيَخْرُجَ مِنْهُ الْفَرْخُ الْحَيُّ، وَالْكَسْرُ قَبْلَ أَوَانِهِ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ فَيُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ احْتِيَاطًا، وَعَلَى هَذَا إذَا ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا.
وَقَوْلُهُ: (مَا لَمْ يَفْسُدْ) إشَارَةً إلَى أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَذِرَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْ صَيْدًا وَلَا مَا هُوَ بِعَرْضِيَّةٍ أَنْ يَصِيرَ صَيْدًا. وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْبَيْضِ فَرْخٌ مَيِّتٌ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَخْلُو، أَمَّا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا وَمَاتَ بِالْكَسْرِ، أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَوْتَهُ بِسَبَبِ الْكَسْرِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ (فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَغْرَمَ سِوَى الْبَيْضَةِ؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الْفَرْخِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ) وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْفَرْخِ حَيًّا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَتَقْرِيرُهُ: الْبَيْضُ مُعَدٌّ لِيَخْرُجَ مِنْهُ الْفَرْخُ الْحَيُّ، وَكُلُّ مَا هُوَ مُعَدٌّ لِيَخْرُجَ مِنْهُ الْفَرْخُ الْحَيُّ كَسْرُهُ قَبْلَ أَوَانِهِ سَبَبٌ لِمَوْتِ ذَلِكَ الْفَرْخِ، وَذَلِكَ إتْلَافٌ لَهُ، وَالْإِتْلَافُ يُوجِبُ الضَّمَانَ. وَقَوْلُهُ:(فَيُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ) أَيْ: بِالْمَوْتِ عَلَى الْكَسْرِ وَالْبَاءُ صِلَةٌ كَانَ أَصْلُهُ يُحَالُ الْمَوْتُ عَلَى الْكَسْرِ: أَيْ: يُضَافُ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: بَيْضُ النَّعَامَةِ كَبَطْنِ الظَّبْيَةِ، وَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ الظَّبْيَةُ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا عَلَى مَا يَجِيءُ، فَلِمَ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ هَاهُنَا قِيمَةُ الْبَيْضِ وَالْفَرْخِ جَمِيعًا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ ضَمَانَ الْبَيْضِ لَيْسَ لِذَاتِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَبَبُ الْفَرْخِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ إذَا كَانَتْ الْبَيْضَةُ مَذِرَةً، فَإِذَا وَجَبَ ضَمَانُ الْفَرْخِ لَا يَجِبُ ضَمَانُ الْبَيْضِ.
وَقَوْلُهُ: (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ (إذَا ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا)، فَإِنْ
(وَلَيْسَ فِي قَتْلِ الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالذِّئْبِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ جَزَاءٌ)؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، الْحِدَأَةُ وَالْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْفَأْرَةَ وَالْغُرَابَ وَالْحِدَأَةَ وَالْعَقْرَبَ وَالْحَيَّةَ وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ» وَقَدْ ذُكِرَ الذِّئْبُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ الذِّئْبُ، أَوْ يُقَالُ إنَّ الذِّئْبَ فِي مَعْنَاهُ،
قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ضَمَانَ الصَّيْدِ يُشْبِهُ غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ، وَمَنْ ضَرَبَ بَطْنَ جَارِيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ دُونَ الْجَنِينِ، فَكَيْفَ وَجَبَتْ هَاهُنَا قِيمَةُ الْجَنِينِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي حُكْمِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، وَالضَّمَانُ الْوَاجِبُ لِحَقِّ الْعِبَادِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَا يَجِبُ فِي مَوْضِعِ الشَّكِّ، فَأَمَّا جَزَاءُ الصَّيْدِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَرَجَحَ فِيهِ شَبَهُ النَّفْسِيَّةِ فِي الْجَنِينِ وَوَجَبَ الْجَزَاءُ
، (وَلَيْسَ فِي قَتْلِ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحِدَأَةُ، وَالْحَيَّةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» وَذَكَرَ الذِّئْبَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَقِيلَ
وَالْمُرَادُ بِالْغُرَابِ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَيَخْلِطُ؛ لِأَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى، أَمَّا الْعَقْعَقُ فَغَيْرُ مُسْتَثْنًى؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى غُرَابًا وَلَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَغَيْرَ الْعَقُورِ وَالْمُسْتَأْنَسَ وَالْمُتَوَحِّشَ مِنْهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْجِنْسُ،
فِيمَا إذَا ذَكَرَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ فَمُرَادُهُ الذِّئْبُ، أَوْ يُقَالُ: إنَّ الذِّئْبَ فِي مَعْنَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ السِّتَّةَ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ أَوْ الدَّلَالَةِ. وَقَوْلُهُ: (وَالْمُرَادُ بِالْغُرَابِ: الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَيَخْلِطُ) أَيْ: النَّجَاسَاتِ مَعَ غَيْرِهَا أَيْ: يَأْكُلُ الْحَبَّ تَارَةً وَالنَّجَاسَةَ أُخْرَى، وَقَعَ تَكْرَارًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ مَعَ زِيَادَةِ مَعْنًى وَهُوَ كَوْنُهُ مَرْوِيًّا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَكَانَ مُسْتَغْنًى عَنْ ذِكْرِهِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ خَبَرٌ لَا صِفَةٌ فَكَانَ مَوْضِعَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْغُرَابِ الَّذِي يَأْكُلُ الزَّرْعَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ بِقَتْلِهِ. وَقَوْلُهُ:(لِأَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى) قِيلَ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى دُبُرِ الدَّابَّةِ، وَقِيلَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ: فِي الْعَقْعَقِ وَلَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى دُبُرِ الدَّابَّةِ. (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَغَيْرَ الْعَقُورِ وَالْمُسْتَأْنَسَ وَالْمُتَوَحِّشَ مِنْهُمَا) أَيْ: مِنْ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَغَيْرِ الْعَقُورِ (سَوَاءٌ)، أَمَّا الْعَقُورُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ لِعَدَمِ تَوَحُّشِهِ خِلْقَةً. وَقَوْلُهُ:(لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْجِنْسُ) يَعْنِي الْحَقِيقَةَ الَّتِي تُسَمَّى كَلْبًا لَا فَرْدًا دُونَ فَرْدٍ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى إبْطَالِ الْوَصْفِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَوْنُهُ عَقُورًا. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ
وَكَذَا الْفَأْرَةُ الْأَهْلِيَّةُ وَالْوَحْشِيَّةُ سَوَاءٌ. وَالضَّبُّ وَالْيَرْبُوعُ لَيْسَا مِنْ الْخَمْسِ الْمُسْتَثْنَاةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَبْتَدِئَانِ بِالْأَذَى.
(وَلَيْسَ فِي قَتْلِ الْبَعُوضِ وَالنَّمْلِ وَالْبَرَاغِيثِ وَالْقُرَادِ شَيْءٌ)؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصُيُودٍ وَلَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْبَدَنِ ثُمَّ هِيَ مُؤْذِيَةٌ بِطِبَاعِهَا، وَالْمُرَادُ بِالنَّمْلِ السُّودُ أَوْ الصُّفْرُ الَّذِي يُؤْذِي، وَمَا لَا يُؤْذِي لَا يَحِلُّ قَتْلُهَا، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ لِلْعِلَّةِ الْأُولَى.
(وَمَنْ قَتَلَ قَمْلَةً تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ) مِثْلَ كَفٍّ مِنْ طَعَامٍ؛ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ التَّفَثِ الَّذِي عَلَى الْبَدَنِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَطْعَمَ شَيْئًا) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِيهِ أَنْ يُطْعِمَ مِسْكَيْنَا شَيْئًا يَسِيرًا عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْبِعًا.
(وَمَنْ قَتَلَ جَرَادَةً تَصَدَّقَ
لَيْسَ لِلْقَيْدِ بَلْ لِإِظْهَارِ نَوْعِ أَذَاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ طَبْعٌ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصُيُودٍ) يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَوَحِّشَةٍ عَنْ الْآدَمِيِّ بَلْ هِيَ طَالِبَةٌ لَهُ (وَلَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْبَدَنِ) يَعْنِي حَتَّى تَكُونَ مِنْ بَابِ قَضَاءِ التَّفَثِ كَالْقَمْلَةِ (ثُمَّ هِيَ مُؤْذِيَةٌ بِطِبَاعِهَا) فَلَا يَجِبُ بِقَتْلِهَا شَيْءٌ. وَقَوْلُهُ: (وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ لِلْعِلَّةِ الْأُولَى) يَعْنِي قَوْلَهُ: لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصُيُودٍ وَلَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْبَدَنِ، سَمَّاهُمَا عِلَّةً وَإِنْ كَانَا فِي مَعْنَى عِلَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِ السَّلْبِ، وَفِي مَوْضِعِ السَّلْبِ تَكُونُ الْعِلَلُ الْكَثِيرَةُ بِمَعْنَى عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَنَّ الْحُكْمَ يَنْتَفِي بِالْجَمِيعِ كَمَا أَنَّهُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْوَاحِدَةِ.
وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ قَتَلَ قَمْلَةً تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ)، وَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْجَزَاءُ مُنْحَصِرًا فِي الْقَتْلِ بَلْ الْإِلْقَاءُ فِي الْأَرْضِ كَالْقَتْلِ سَوَاءٌ أَخَذَهَا مِنْ رَأْسِهِ أَوْ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ. وَقِيلَ فِي الْقَمْلَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ كَفٌّ مِنْ حِنْطَةٍ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ. وَقَوْلُهُ:(شَيْئًا يَسِيرًا عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشَبِّعًا) قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: كَكِسْرَةِ
بِمَا شَاءَ)؛ لِأَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فَإِنَّ الصَّيْدَ مَا لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إلَّا بِحِيلَةٍ وَيَقْصِدُهُ الْآخِذُ (وَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ) لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ.
(وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ذَبْحِ السُّلَحْفَاةِ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ فَأَشْبَهَ الْخَنَافِسَ وَالْوَزَغَاتِ، وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ حِيلَةٍ وَكَذَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ فَلَمْ يَكُنْ صَيْدًا.
(وَمَنْ حَلَبَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ)؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّيْدِ فَأَشْبَهَ كُلَّهُ.
(وَمَنْ قَتَلَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الصَّيْدِ كَالسِّبَاعِ وَنَحْوِهَا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ) إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ وَهُوَ مَا عَدَدْنَاهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهَا جُبِلَتْ عَلَى الْإِيذَاءِ فَدَخَلَتْ فِي الْفَوَاسِقِ الْمُسْتَثْنَاةِ، وَكَذَا اسْمُ الْكَلْبِ يَتَنَاوَلُ السِّبَاعَ بِأَسْرِهَا لُغَةً.
خُبْزٍ.
وَقَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه (تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ) قِصَّتُهُ أَنَّ أَهْلَ حِمْصٍ أَصَابُوا جَرَادًا كَثِيرًا فِي إحْرَامِهِمْ فَجَعَلُوا يَتَصَدَّقُونَ مَكَانَ كُلِّ جَرَادَةٍ بِدِرْهَمٍ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أَرَى دَرَاهِمَكُمْ كَثِيرَةً يَا أَهْلَ حِمْصٍ، تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ.
قَالَ (وَمَنْ حَلَبَ صَيْدَ الْحَرَمِ): اللَّبَنُ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّيْدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} وَكَلِمَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ.
وَقَوْلُهُ (كَالسِّبَاعِ) أَيْ: سِبَاعِ الْبَهَائِمِ (وَنَحْوِهَا) أَيْ سِبَاعِ الطَّيْرِ. وَقَوْلُهُ: (وَكَذَا اسْمُ الْكَلْبِ يَتَنَاوَلُ السِّبَاعَ بِأَسْرِهَا لُغَةً) يَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَثْنَى الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْكَلْبَ الْمَعْرُوفَ فَإِنَّهُ أَهْلِيٌّ وَلَيْسَ بِصَيْدٍ، فَكَانَ الْمُرَادُ مَا يَتَكَلَّبُ: أَيْ يَشْتَدُّ فَيَتَنَاوَلُ الْأَسَدَ وَالْفَهْدَ وَالنَّمِرَ وَغَيْرَهَا، فَكَانَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلَّا مَا كَانَ مُؤْذِيًا، وَلَوْ كَانَ النَّصُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَكَذَا
وَلَنَا أَنَّ السَّبْعَ صَيْدٌ لِتَوَحُّشِهِ، وَكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ إمَّا لِجِلْدِهِ أَوْ لِيُصْطَادَ بِهِ أَوْ لِدَفْعِ أَذَاهُ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْفَوَاسِقِ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْعَدَدِ،
هَذَا، (وَلَنَا أَنَّ السَّبُعَ صَيْدٌ لِتَوَحُّشِهِ) وَتَنَفُّرِهِ مِنْ النَّاسِ، (وَكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ إمَّا لِجِلْدِهِ أَوْ لِيُصْطَادَ بِهِ أَوْ لِدَفْعِ أَذَاهُ) وَكُلُّ مَا هُوَ صَيْدٌ يَتَنَاوَلُهُ قَوْله تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} فَيَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ، (وَالْقِيَاسُ عَلَى الْفَوَاسِقِ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْعَدَدِ) وَكَذَلِكَ الْإِلْحَاقُ بِهَا دَلَالَةٌ؛ لِأَنَّ الْفَوَاسِقَ مِمَّا تَعْدُو عَلَيْنَا وَعَلَى مَوَاشِينَا بِالْقُرْبِ مِنَّا، وَالسَّبُعُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِبُعْدِهِ عَنَّا فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْفَوَاسِقِ لِيُلْحَقَ بِهَا، وَاسْمُ الْكَلْبِ وَإِنْ تَنَاوَلَهُ لُغَةً لَمْ يَتَنَاوَلْهُ عُرْفًا
وَاسْمُ الْكَلْبِ لَا يَقَعُ عَلَى السَّبْعِ عُرْفًا وَالْعُرْفُ أَمْلَكُ (وَلَا يُجَاوَزُ بِقِيمَتِهِ شَاةٌ) وَقَالَ زُفَرٌ رحمه الله: تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ اعْتِبَارًا بِمَأْكُولِ اللَّحْمِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ الشَّاةُ»
وَالْعُرْفُ أَمْلَكُ) أَيْ: أَقْوَى وَأَرْجَحُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا فِي الْأَيْمَانِ لِبِنَائِهِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ. وَقَوْلُهُ:(وَلَا يُجَاوَزُ بِقِيمَتِهِ شَاةٌ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَشَاةٌ مَرْفُوعٌ لِكَوْنِهِ مُسْنَدًا إلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ: لَا يُجَاوَزُ بِقِيمَةِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الصُّيُودِ قِيمَةُ شَاةٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ الدَّمِ، (وَقَالَ زُفَرُ: تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ اعْتِبَارًا بِمَأْكُولِ اللَّحْمِ) وَالْجَامِعُ الضَّمَانُ، (وَلَنَا قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ الشَّاةُ» ، فَلَمَّا وَرَدَ
وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ قِيمَتِهِ لِمَكَانِ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ لَا؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ مُؤْذٍ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يُزَادُ عَلَى قِيمَةِ الشَّاةِ ظَاهِرًا.
(وَإِذَا صَالَ السَّبُعُ عَلَى الْمُحْرِمِ فَقَتَلَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَقَالَ زُفَرٌ: يَجِبُ الْجَزَاءُ اعْتِبَارًا بِالْجَمَلِ الصَّائِلِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَتَلَ سَبُعًا وَأَهْدَى كَبْشًا وَقَالَ: إنَّا ابْتَدَأْنَاهُ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّعَرُّضِ لَا عَنْ دَفْعِ الْأَذَى، وَلِهَذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي دَفْعِ الْمُتَوَهَّمِ مِنْ الْأَذَى كَمَا فِي الْفَوَاسِقِ فَلَأَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي دَفْعِ الْمُتَحَقَّقِ مِنْهُ أَوْلَى،
الشَّرْعُ بِتَقْدِيرٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ بِرَأْيٍ؛ لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ تُعْرَفُ سَمَاعًا؛ (وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ قِيمَتِهِ لِمَكَانِ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ)، إذْ اللَّحْمُ غَيْرُ مَأْكُولٍ (لَا لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ) كَمَا فِي بَعْضِ السِّبَاعِ، وَالْفِيلُ يَعْلَمُهُ أَهْلُ الْهِنْدِ الْمُحَارِبَةُ بِحَيْثُ يَكْسِرُ الْعَسْكَرَ، وَهُوَ مَعْنًى مَطْلُوبٌ لِلْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ لَكِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ فَلَا يُعْتَبَرُ، وَلَا لِأَجْلِ مَعْنَى الْإِيذَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِيذَاءَ مَعْنًى لَا تَقَوُّمَ لَهُ شَرْعًا فَبَقِيَ اعْتِبَارُ الْجِلْدِ (وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يُزَادُ عَلَى قِيمَةِ الشَّاةِ ظَاهِرًا)
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا صَالَ السَّبُعُ عَلَى الْمُحْرِمِ) أَيْ: وَثَبَ (فَقَتَلَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَجِبُ الْجَزَاءُ) عَلَيْهِ (اعْتِبَارًا بِالْجَمَلِ) إذَا صَالَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِيمَتُهُ، وَإِنْ قَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، (وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَتَلَ سَبُعًا وَأَهْدَى كَبْشًا، وَقَالَ: إنَّا ابْتَدَأْنَاهُ) عَلَّلَ الْإِهْدَاءَ بِالِابْتِدَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدَّفْعَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإِلَّا لَمْ يَبْقَ لِلتَّعْلِيلِ فَائِدَةٌ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي خِطَابَاتِ الشَّرْعِ، أَمَّا فِي الرِّوَايَاتِ فَيَدُلُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَ عُمَرَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ بِمَنْزِلَةِ خِطَابَاتِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ فَلَا يُفِيدُهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ إنَّمَا هُوَ بِفِعْلِهِ، وَقَوْلُهُ: رِوَايَةً فَيُفِيدُهُ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّعَرُّضِ) اسْتِدْلَالٌ بِدَلَالَةِ حَدِيثِ الْفَوَاسِقِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ قَتْلَهَا أُبِيحَ دَفْعًا لِلْأَذَى الْمَوْهُومِ، فَلَأَنْ يُبَاحَ
وَمَعَ وُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ الشَّارِعِ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ حَقًّا لَهُ، بِخِلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الْعَبْدُ.
(فَإِنْ اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى قَتْلِ صَيْدٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ)؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُقَيَّدٌ بِالْكَفَّارَةِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا تَلَوْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
(وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَذْبَحَ الشَّاةَ وَالْبَقَرَةَ وَالْبَعِيرَ وَالدَّجَاجَةَ وَالْبَطَّ الْأَهْلِيَّ)؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِصُيُودٍ؛ لِعَدَمِ التَّوَحُّشِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَطِّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَسَاكِنِ وَالْحِيَاضِ؛ لِأَنَّهُ أَلُوفٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ (وَلَوْ ذَبَحَ حَمَامًا مُسَرْوَلًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ) خِلَافًا لِمَالِكٍ رحمه الله. لَهُ أَنَّهُ أَلُوفٌ مُسْتَأْنَسٌ وَلَا يَمْتَنِعُ بِجَنَاحَيْهِ لِبُطْءِ نُهُوضِهِ،
قَتْلُ السَّبُعِ دَفْعًا لِلْأَذَى الْمُحَقَّقِ أَوْلَى فَكَانَ مَأْذُونًا بِقَتْلِهِ مِنْ الشَّرْعِ، (وَمَعَ وُجُودِ الْإِذْنِ مِنْهُ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ حَقًّا لَهُ) لِسُقُوطِهِ بِإِذْنِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِذْنُ مِنْ الشَّرْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ سُقُوطَ الْجَزَاءِ، فَإِنَّ الْمُحْرِمَ إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ أَوْ تَطَيَّبَ لِعُذْرٍ فَهُوَ مَأْذُونٌ مِنْ الشَّرْعِ وَلَمْ يَسْقُطْ الْجَزَاءُ. فَالْجَوَابُ مَا يَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا بِقَوْلِهِ:(لِأَنَّ الْإِذْنَ مُقَيَّدٌ بِالْكَفَّارَةِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا تَلَوْنَاهُ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} الْآيَةَ، فَكَانَ فَائِدَةُ الْإِذْنِ دَفْعَ الْحُرْمَةِ لَا غَيْرَ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ بَقَاءَ الْجَزَاءِ مَعَ إذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. لَا يُقَالُ: فَلْيُلْحَقْ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي الصَّوْلِ لَيْسَتْ كَالضَّرُورَةِ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى نَادِرَةٌ وَالثَّانِيَةَ كَثِيرَةٌ (بِخِلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الْعَبْدُ) وَنُوقِضَ بِالْعَبْدِ صَالَ بِالسَّيْفِ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ لَا يَضْمَنُ وَالْإِذْنُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ مَالِكِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَبْدَ مَضْمُونٌ فِي الْأَصْلِ بِأَنَّهُ آدَمِيٌّ حَقًّا لِلْعَبْدِ لَا حَقًّا لِلْمَوْلَى لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا كَمَوْلَاهُ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا جَاءَ الْمُبِيحُ مِنْ قِبَلِهِ وَهُوَ الْمُحَارَبَةُ أَسْقَطَ حَقَّهُ كَمَا إذَا ارْتَدَّ، وَسُقُوطُ مَالِيَّتِهِ الَّتِي هِيَ مِلْكُ الْمَوْلَى إنَّمَا كَانَ فِي ضِمْنِ سُقُوطِ الْأَصْلِ وَهُوَ نَفْسُهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ كَمَا إذَا ارْتَدَّ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ) ظَهَرَ مَعْنَاهُ لَمَّا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا،
وَقَوْلُهُ: (وَالْمُرَادُ بِالْبَطِّ) يَعْنِي الْمَذْكُورَ فِي الْقُدُورِيِّ الْبَطُّ (الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَسَاكِنِ) وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ طَيَرَانُهُ كَالدَّجَاجِ فِي الْبُطْءِ، وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ لِلْمُحْرِمِ. وَالْمُسَرْوَلِ بِالْفَتْحِ حَمَامٌ فِي رِجْلَيْهِ
وَنَحْنُ نَقُولُ: الْحَمَامُ مُتَوَحِّشٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ مُمْتَنِعٌ بِطَيَرَانِهِ، وَإِنْ كَانَ بَطِيءَ النُّهُوضِ، وَالِاسْتِئْنَاسُ عَارِضٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ (وَكَذَا إذَا قَتَلَ ظَبْيًا مُسْتَأْنَسًا)؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يُبْطِلُهُ الِاسْتِئْنَاسُ كَالْبَعِيرِ إذَا نَدَّ لَا يَأْخُذُ حُكْمَ الصَّيْدِ فِي الْحُرْمَةِ عَلَى الْمُحْرِمِ.
(وَإِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَذَبِيحَتُهُ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَحِلُّ مَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فَانْتَقَلَ فِعْلُهُ إلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ وَهَذَا فِعْلٌ حَرَامٌ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً كَذَبِيحَةِ
رِيشٌ كَأَنَّهُ سَرَاوِيلُ، مِنْ سَرْوَلَتِهِ إذَا أَلْبَسْته السَّرَاوِيلَ.
وَقَوْلُهُ: (وَنَحْنُ نَقُولُ الْحَمَامُ مُتَوَحِّشٌ) تَقْرِيرُهُ الْحَمَامُ مُتَوَحِّشٌ (بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ مُمْتَنِعٌ بِطَيَرَانِهِ)، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ صَيْدٌ، (وَالِاسْتِئْنَاسُ عَارِضٌ) جَوَابٌ لِمَالِكٍ وَمَعْنَاهُ الِاعْتِبَارُ لِلْمَعَانِي الْأَصْلِيَّةِ دُونَ الْعَوَارِضِ. وَعُورِضَ بِأَنَّ الْحَمَامَ لَا يَحِلُّ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ، حَتَّى لَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى بُرْجِ الْحَمَامِ فَأَصَابَ حَمَامًا مُسَرْوَلًا وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ تُدْرَكَ ذَكَاتُهُ لَمْ يَحِلَّ، وَلَوْ كَانَ صَيْدُ الْحِلِّ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَدَارَ صِحَّةِ ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ هُوَ الْعَجْزُ دُونَ الصَّيْدِيَّةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَعِيرَ إذَا نَدَّ حَلَّ بِذَبْحِ الِاضْطِرَارِ وَلَيْسَ بِصَيْدٍ لِوُجُودِ الْعَجْزِ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ، وَالْعَجْزُ فِي الْحَمَامِ غَيْرُ مَوْجُودٍ؛ لِأَنَّهُ يَأْوِي فِي اللَّيْلِ إلَى بُرْجِهِ. وَقَوْلُهُ:(وَكَذَا إذَا قَتَلَ ظَبْيًا) ظَاهِرٌ.
قَالَ: (وَإِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَذَبِيحَتُهُ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله) فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: (إذَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ لِغَيْرِهِ حَلَّ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ) حَيْثُ ذَبَحَهُ لَهُ وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ لِشَخْصٍ انْتَقَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ كَمَا فِي عَامَّةِ النِّيَابَاتِ فَصَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ذَبَحَهُ، وَلَوْ ذَبَحَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ لِنَفْسِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ، فَكَذَا إذَا ذَبَحَهُ لَهُ الْمُحْرِمُ. فَإِنْ قُلْت: عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ وَتَعْلِيلُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَذْبُوحَ يَحِلُّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَ قَوْلُهُ لِغَيْرِهِ مُتَعَلِّقًا بِذَبْحِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَامِلًا لَهُ، وَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ بَقِيَ يَحِلُّ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَذَبِيحَةُ الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ كَانَتْ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ حَرَامٌ عَلَيْهِ عِنْدَهُ أَيْضًا قَوْلًا وَاحِدًا. قُلْت: أَرَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لِغَيْرِهِ يَخْدُمُ الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا، وَتَقْدِيرُهُ يَحِلُّ لِغَيْرِهِ مَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ لِغَيْرِهِ. وَتَخْرُجُ نَفْسُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ فِي الرِّوَايَاتِ مُقَيَّدٌ بِالِاتِّفَاقِ. فَإِنْ قُلْت: تَعْلِيلُهُ هَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ تَتِمَّ الدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ أَنْ يَحِلَّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ انْتَقَلَ إلَيْهِ، وَلَوْ ذَبَحَ حَلَالٌ صَيْدًا حَلَّ أَكْلُهُ لِلْمُحْرِمِ إنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ أَوْ يُشِرْ إلَيْهِ. قُلْت: التَّعْلِيلُ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ إذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً فَالْمُبَاشَرَةُ لَا تَتَقَاعَدُ عَنْ الدَّلَالَةِ، وَإِنْ انْتَقَلَ الْفِعْلُ إلَى غَيْرِهِ حُكْمًا (وَلَنَا أَنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ) بِالِاتِّفَاقِ، وَذَبْحُ الْمُحْرِمِ لَيْسَ بِفِعْلٍ مَشْرُوعٍ بِالنَّصِّ قَوْله تَعَالَى
الْمَجُوسِيِّ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ هُوَ الَّذِي قَامَ مَقَامَ الْمَيْزِ بَيْنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ تَيْسِيرًا فَيَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِهِ
{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} سَمَّاهُ قَتْلًا دُونَ الذَّبْحِ أَوْ الذَّكَاةِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحِلَّ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ لِعَيْنِهِ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى النَّفْيِ. وَنُوقِضَ بِذَبْحِ شَاةٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ لَا مَحَالَةَ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ ذَكَاةً وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ رحمه الله أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ:(وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ) أَيْ: مِنْ الذَّبْحِ (هُوَ الَّذِي قَامَ مَقَامَ الْمَيْزِ بَيْنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ تَيْسِيرًا) وَبَيَانُهُ أَنَّ الدَّمَ مُنَجِّسٌ لِلْحَيَوَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزِهِ عَنْ اللَّحْمِ لِيَصْلُحَ لِلْأَكْلِ وَذَلِكَ أَمْرٌ مُتَعَسِّرٌ خَفِيٌّ، وَلَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ قَطْعُ عُرُوقِ الذَّبْحِ فَأُقِيمَ الذَّبْحُ مَقَامَ الْمَيْزِ بَيْنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ تَيْسِيرًا، وَالذَّبْحُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ مَعْدُومٌ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُقِيمَ لِذَلِكَ هُوَ الشَّرْعُ، وَلَمْ يَقُمْ هَاهُنَا حَيْثُ أَخْرَجَ الصَّيْدَ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ بِالنَّسْخِ يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} كَمَا قَالَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فَأَخْرَجَهُنَّ عَنْ مَحَلِّيَّةِ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُخْرِجْهَا
(فَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الذَّابِحُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَقَالَا: لَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا أَكَلَ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ مَيْتَةٌ فَلَا يَلْزَمُ بِأَكْلِهَا إلَّا الِاسْتِغْفَارُ وَصَارَ كَمَا إذَا أَكَلَهُ مُحْرِمٌ غَيْرُهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ حُرْمَتَهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَيْتَةً كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَحْظُورُ إحْرَامِهِ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الصَّيْدَ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ وَالذَّابِحَ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ فِي حَقِّ الذَّكَاةِ فَصَارَتْ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافَةً إلَى إحْرَامِهِ بِخِلَافِ مُحْرِمٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَهُ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ.
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ لَحْمَ صَيْدٍ اصْطَادَهُ حَلَالٌ وَذَبَحَهُ إذَا لَمْ يَدُلَّ الْمُحْرِمُ عَلَيْهِ، وَلَا أَمَرَهُ بِصَيْدِهِ) خِلَافًا لِمَالِكٍ رحمه الله فِيمَا إذَا اصْطَادَهُ؛ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ.
عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ فَكَانَ مَنْهِيًّا، وَالنَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى الْمَشْرُوعِيَّةِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ. وَقَوْلُهُ:(فَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الذَّابِحُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ: (إذَا أَكَلَ بَعْدَمَا أَدَّى الْجَزَاءَ، وَأَمَّا إذَا أَكَلَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَ قِيمَةُ مَا أَكَلَ فِي الْجَزَاءِ) وَقَوْلُهُ: (وَقَالَا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (فَصَارَتْ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ) يُرِيدُ أَنَّ حُرْمَةَ التَّنَاوُلِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَيْتَةً، وَكَوْنُهُ مَيْتَةً بِاعْتِبَارِ خُرُوجِ الصَّيْدِ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ، وَخُرُوجُ الذَّابِحِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْإِحْرَامِ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ (مُضَافَةً إلَى الْإِحْرَامِ) بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ فَكَانَ مُتَنَاوِلًا مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ عَمَّا إذَا ذَبَحَ الْحَلَالُ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَأَدَّى جَزَاءَهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ جَزَاءُ الْمَحَلِّ وَهُوَ لَا يَتَكَرَّرُ، فَإِنْ اسْتَشْكَلَ بِالْمُحْرِمِ كَسَرَ بَيْضَ صَيْدٍ فَأَدَّى جَزَاءَهُ ثُمَّ شَوَاهُ فَأَكَلَهُ فَإِنَّهُ تَنَاوَلَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ وَلَمْ يَلْزَمْ شَيْءٌ آخَرُ. أُجِيبَ بِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ فِي الْبَيْضِ لَيْسَ لِذَاتِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَبَعْدَ الْكَسْرِ لَمْ يَبْقَ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَوْلُهُ: (فِيمَا إذَا اصْطَادَهُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ)
لَهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ صَيْدٍ مَا لَمْ يَصِدْهُ أَوْ يُصَدْ لَهُ» وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم تَذَاكَرُوا لَحْمَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَا بَأْسَ بِهِ» وَاللَّامُ فِيمَا رُوِيَ لَامُ تَمْلِيكٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنْ يُهْدِيَ إلَيْهِ الصَّيْدُ دُونَ اللَّحْمِ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنْ يُصَادَ بِأَمْرِهِ. ثُمَّ شُرِطَ عَدَمُ الدَّلَالَةِ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الدَّلَالَةَ مُحَرَّمَةٌ،
يَعْنِي أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يَكُونَ الِاصْطِيَادُ لَهُ سَوَاءً أَمَرَهُ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ. وَقَوْلُهُ: (تَذَاكَرُوا لَحْمَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ) يُرِيدُ بِهِ مَا رُوِيَ «عَنْ طَلْحَةَ أَنَّهُ قَالَ تَذَاكَرْنَا لَحْمَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَائِمٌ فِي حُجْرَتِهِ، فَقَالَ: فِيمَ أَنْتُمْ؟ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: لَا بَأْسَ بِهِ» . وَقَوْلُهُ: (وَاللَّامُ فِيمَا رُوِيَ) يَعْنِي مَالِكًا مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ يُصَادُ لَهُ (لَامُ تَمْلِيكٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنْ يُهْدَى إلَيْهِ الصَّيْدُ دُونَ اللَّحْمِ)، وَهَذَا لِأَنَّ تَمْلِيكَ الصَّيْدِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا أُهْدِيَ الصَّيْدُ إلَى الْمُحْرِمِ لَا فِيمَا إذَا أُهْدِيَ إلَيْهِ اللَّحْمُ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ لَا يُسَمَّى صَيْدًا حَقِيقَةً فَيَكُونُ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ حُرْمَةَ تَنَاوُلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَبِهِ نَقُولُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ «أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيَّ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» (أَوْ يَكُونُ مَعْنَى أَوْ يُصَادُ لَهُ يُصَادُ بِأَمْرِهِ) وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رُوِيَ بِالرَّفْعِ أَوْ يُصَادُ، وَحِينَئِذٍ لَا تَمَسُّكَ لَهُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحِلَّ إذَا صَادَ غَيْرَهُ لِأَجْلِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُغَيَّا لَا عَلَى الْغَايَةِ، وَرِوَايَةُ كُتُبِ الْحَدِيثِ مِثْلُ سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ بِالْأَلِفِ هَكَذَا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ لَهُ التَّمَسُّكُ بِهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَوْ يُصَدْ لَهُ لِيَصِيرَ مَعْطُوفًا عَلَى
قَالُوا: فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَوَجْهُ الْحُرْمَةِ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
(وَفِي صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا ذَبَحَهُ الْحَلَالُ قِيمَتُهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ)؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ.
الْغَايَةِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ. وَقَوْلُهُ: (قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ (فِيهِ) أَيْ: فِي شَرْطِ عَدَمِ الدَّلَالَةِ لِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ (رِوَايَتَانِ) فِي رِوَايَةٍ يَحْرُمُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَحْرُمُ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ.
قَالَ: (وَفِي صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا ذَبَحَهُ الْحَلَالُ) إذَا قَتَلَ الْحَلَالُ صَيْدَ الْحَرَمِ وَجَبَ عَلَيْهِ (قِيمَتُهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ) لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَهُوَ وَاضِحٌ. فَإِنْ قِيلَ: الصَّيْدُ كَمَا اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَكَذَلِكَ اسْتَحَقَّهُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدَ الْحَرَمِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قُلْت: وُجُوبُ الْكَفَّارَتَيْنِ وَجْهُ الْقِيَاسِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْإِيضَاحِ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّيْدُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ جَمِيعًا فَاسْتَتْبَعَ الْأَقْوَى الْأَضْعَفَ.
قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ «وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» (وَلَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ)؛ لِأَنَّهَا غَرَامَةٌ وَلَيْسَتْ بِكَفَّارَةٍ، فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ يَجِبُ بِتَفْوِيتِ وَصْفٍ فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ الْأَمْنُ وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ جَزَاءٌ عَلَى فِعْلِهِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِيهِ وَهُوَ إحْرَامُهُ، وَالصَّوْمُ يُصْلِحُ جَزَاءَ الْأَفْعَالِ لَا ضَمَانَ الْمَحَالِّ. وَقَالَ زُفَرٌ: يُجْزِيهِ الصَّوْمُ اعْتِبَارًا بِمَا وَجَبَ
وَقَوْلُهُ: (وَلَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ) فَرَّقَ بَيْنَ قَتْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ وَقَتْلِ الْحَلَالِ صَيْدَ الْحَرَمِ، فِي جَوَازِ الصَّوْمِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءُ فِعْلِهِ، وَلِهَذَا تَعَدَّدَ إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمَانِ الصَّيْدَ وَاحِدًا، وَعَلَى الْحَلَالِ بَدَلُ مَا فَاتَ عَنْ الْمَحَلِّ مِنْ وَصْفِ الْأَمْنِ، وَالصَّوْمُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ جَزَاءَ الْفِعْلِ لَا بَدَلَ الْمَحَلِّ. فَإِنْ قُلْت: هَذَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرْت آنِفًا أَنَّهُ يُؤَدَّى فِي ضِمْنِ أَدَاءِ جَزَاءِ الْإِحْرَامِ إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدَ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْمَحَلِّ لَا يُؤَدَّى فِي ضِمْنِ أَدَاءِ جَزَاءِ الْإِحْرَامِ كَمَا إذَا قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا. فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا قُلْنَا مِنْ الِاسْتِتْبَاعِ إنَّمَا كَانَ فِيمَا تَكُونُ الْحُرْمَتَانِ لِوَاحِدٍ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ بِإِزَاءِ الْفِعْلِ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا وَجَبَ بِإِزَاءِ الْمَحَلِّ وَجَبَ لِلْعَبْدِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا لِلَّهِ مَا لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّ افْتِقَارَ الْعَبْدِ مَانِعٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَدَلَ الْمَحَلِّ لَوَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْكَافِرِ إذَا اسْتَهْلَكُوا صَيْدَ الْحَرَمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ضَمَانَ الْمَحَلِّ لَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ حَتَّى إنَّ حَلَالًا إنْ أَصَابَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فِي يَدِهِ حَلَالٌ آخَرُ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ لِمَا أَنَّ
عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْفَرْقُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَهَلْ يَجْزِيهِ الْهَدْيُ؟ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ.
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتْلِفٌ مِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا بِالْأَخْذِ الْمُفَوِّتِ لِلْأَمْنِ وَالثَّانِي بِالْإِتْلَافِ حَقِيقَةً، فَلَمْ يَلْزَمْ عَلَى مَنْ ذَكَرْتُمْ نَظَرًا إلَى الْجَزَاءِ، (وَهَلْ يُجْزِئُهُ الْهَدْيُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ) إحْدَاهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى بِإِرَاقَةِ الدَّمِ بَلْ بِالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ اللَّحْمِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ؛ وَإِنْ سَرَقَ الْمَذْبُوحَ عَادَ الْوَاجِبُ كَمَا كَانَ، وَالْأُخْرَى أَنَّهُ يَتَأَدَّى بِهَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ قَبْلَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ، فَإِنْ سَرَقَ الْمَذْبُوحَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ مَالٌ يُجْعَلُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ طَرِيقٌ صَالِحٌ لِذَلِكَ شَرْعًا كَالتَّصَدُّقِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَحِّيَ يَجْعَلُ الْأُضْحِيَّةَ لِلَّهِ خَالِصَةً بِإِرَاقَةِ
(وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِصَيْدٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ فِيهِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَإِنَّهُ يَقُولُ: حَقُّ الشَّرْعِ لَا يَظْهَرُ فِي مَمْلُوكِ الْعَبْدِ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ إذْ صَارَ هُوَ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ فَاسْتَحَقَّ الْأَمْنَ لِمَا رَوَيْنَا (فَإِنْ بَاعَهُ رَدَّ الْبَيْعَ فِيهِ إنْ كَانَ قَائِمًا)؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ وَذَلِكَ حَرَامٌ (وَإِنْ كَانَ فَائِتًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ)؛ لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِلصَّيْدِ بِتَفْوِيتِ الْأَمْنِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ (وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ مِنْ مُحْرِمٍ أَوْ حَلَالٍ) لِمَا قُلْنَا.
دَمِهَا فَكَذَلِكَ بِالْهَدْيِ.
وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِصَيْدٍ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ حَلَالٌ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّ فِي الْمُحْرِمِ لَا يَتَوَقَّفُ وُجُوبُ الْإِرْسَالِ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِرْسَالُ بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الصَّيْدُ الَّذِي فِي يَدِهِ مَمْلُوكُهُ، وَحَقُّ الشَّرْعِ لَا يَظْهَرُ فِي مَمْلُوكِ الْعَبْدِ لِحَاجَتِهِ، (وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ)، وَبَيَّنَ الْمُلَازَمَةَ بِقَوْلِهِ:(إذْ صَارَ) يَعْنِي الصَّيْدَ (مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ) بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَصَيْدُ الْحَرَمِ مُسْتَحِقُّ الْأَمْنِ (لِمَا رَوَيْنَا) مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ «وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» ، وَقَوْلُهُ:(فَإِنْ بَاعَهُ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ.
(وَمَنْ أَحْرَمَ وَفِي بَيْتِهِ أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ صَيْدٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِلصَّيْدِ بِإِمْسَاكِهِ فِي مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ. وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم كَانُوا يُحْرِمُونَ وَفِي بُيُوتِهِمْ صُيُودٌ وَدَوَاجِنُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ إرْسَالُهَا، وَبِذَلِكَ جَرَتْ الْعَادَةُ الْفَاشِيَّةُ وَهِيَ مِنْ إحْدَى الْحُجَجِ؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَعَرِّضٍ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ بِالْبَيْتِ وَالْقَفَصِ لَا بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ فِي مِلْكِهِ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ فِي مَفَازَةٍ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ. وَقِيلَ: إذَا كَانَ الْقَفَصُ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إرْسَالُهُ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضِيعُ.
قَالَ (فَإِنْ أَصَابَ حَلَالٌ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَأَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ غَيْرُهُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رحمه الله (وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ)؛ لِأَنَّ الْمُرْسِلَ آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ نَاهٍ عَنْ الْمُنْكَرِ وَ {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وَلَهُ أَنَّهُ مَلَكَ الصَّيْدَ بِالْأَخْذِ مِلْكًا مُحْتَرَمًا فَلَا يَبْطُلُ احْتِرَامُهُ بِإِحْرَامِهِ وَقَدْ أَتْلَفَهُ الْمُرْسِلُ فَيَضْمَنُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَذَهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ.
وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ أَحْرَمَ وَفِي بَيْتِهِ أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ صَيْدٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ بِالِاتِّفَاقِ وَلِهَذَا قَاسَ الشَّافِعِيُّ صُورَةَ النِّزَاعِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (كَمَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ)، وَقَوْلُهُ:(وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (وَبِذَلِكَ جَرَتْ الْعَادَةُ الْفَاشِيَةُ) فَإِنَّ النَّاسَ يُحْرِمُونَ وَلَهُمْ بُيُوتُ الْحَمَامِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إرْسَالُهَا.
وَقَوْلُهُ: (وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ) دَلِيلٌ آخَرُ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ وَهُوَ حَاصِلٌ إذَا لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ؛ (لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ بِالْبَيْتِ وَالْقَفَصِ لَا بِهِ) وَالتَّعَرُّضُ بِالْإِمْسَاكِ فِي الْمِلْكِ لَيْسَ بِمُنَافٍ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَهُ فِي الْمَفَازَةِ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ وَإِلَّا لَزِمَ الْجَزَاءُ أَرْسَلَ أَوْ لَمْ يُرْسِلْ، (وَقِيلَ إذَا كَانَ الْقَفَصُ فِي يَدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ)؛ لِأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لَهُ بِمَسْكِهِ، (لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضِيعُ) بِأَنْ يُخَلِّيَهُ فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ إضَاعَةَ الْمَالِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ أَصَابَ حَلَالٌ صَيْدًا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (مَلَكَ الصَّيْدَ بِالْأَخْذِ مِلْكًا مُحْتَرَمًا) احْتِرَازٌ عَمَّا أَخَذَهُ الْمُحْرِمُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الصَّيْدَ، وَالْمِلْكُ الْمُحْتَرَمُ لَا يَبْطُلُ بِالْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ مَلَكَهُ مِلْكًا مُحْتَرَمًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَلَالَ إذَا أَخَذَ الصَّيْدَ ثُمَّ أَحْرَمَ فَأَرْسَلَهُ ثُمَّ حَلَّ فَوَجَدَهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ كَانَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَذَ الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ثُمَّ أَرْسَلَهُ ثُمَّ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ فَوَجَدَهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ مِلْكًا مُحْتَرَمًا وَقَدْ أَتْلَفَهُ الْمُرْسِلُ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ. فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَلَكَهُ مِلْكًا مُحْتَرَمًا
وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّعَرُّضِ وَيُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِأَنْ يُخَلِّيَهُ فِي بَيْتِهِ، فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ عَنْهُ كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَنَظِيرُهُ الِاخْتِلَافُ فِي كَسْرِ الْمَعَازِفِ.
(وَإِنْ أَصَابَ مُحْرِمٌ صَيْدًا فَأَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ غَيْرُهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْأَخْذِ، فَإِنَّ الصَّيْدَ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى الْخَمْرَ (فَإِنْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاؤُهُ)؛ لِأَنَّ الْآخِذَ مُتَعَرِّضٌ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ، وَالْقَاتِلُ مُقَرِّرٌ لِذَلِكَ، وَالتَّقْرِيرُ كَالِابْتِدَاءِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ كَشُهُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا (وَيَرْجِعُ الْآخِذُ عَلَى الْقَاتِلِ) وَقَالَ زُفَرٌ: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ مُؤَاخَذٌ بِصُنْعِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَلَنَا أَنَّ الْآخِذَ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْهَلَاكِ بِهِ، فَهُوَ بِالْقَتْلِ جَعَلَ فِعْلَ الْآخِذِ عِلَّةً فَيَكُونُ فِي مَعْنَى مُبَاشَرَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيُحَالُ بِالضَّمَانِ عَلَيْهِ.
وَلَكِنْ وَجَبَ إخْرَاجُهُ مِنْ الْمِلْكِ تَرْكًا لِلتَّعَرُّضِ الْوَاجِبِ التَّرْكِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ: (وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّعَرُّضِ) لَا الْإِخْرَاجُ عَنْ مِلْكِهِ، (وَيُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِأَنْ يُخَلِّيَهُ فِي بَيْتِهِ، فَإِذَا قَطَعَ عَنْهُ يَدَهُ) بِالْإِرْسَالِ (كَانَ مُتَعَدِّيًا) فَيَضْمَنُ، (وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي كَسْرِ الْمَعَازِفِ)، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ فِيهِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ نَاهٍ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ الضَّمَانُ لِغَيْرِ لَهْوٍ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ أَصَابَ مُحْرِمٌ صَيْدًا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ مُتَعَرِّضٌ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ)، وَالتَّعَرُّضُ لَهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ الْمُوجِبَةِ لِلْجَزَاءِ، (وَالْقَاتِلُ مُقَرِّرٌ لِذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ الْأَخْذِ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْإِرْسَالِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِهِ وَتَقَرَّرَ التَّعَرُّضُ، (وَالتَّقْرِيرُ كَالِابْتِدَاءِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ كَشُهُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا)، فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ بِمَا أَقَرُّوا بِشَهَادَتِهِمْ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِتَمْكِينِ ابْنِ الزَّوْجِ عَلَى مَا عُرِفَ، (ثُمَّ يَرْجِعُ الْآخِذُ عَلَى الْقَاتِلِ) بِمَا ضَمِنَ مِنْ الْجَزَاءِ، (وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَرْجِعُ) لِأَنَّ الْآخِذَ إنَّمَا أَخَذَ بِصُنْعِهِ، وَمَنْ أَخَذَ بِصُنْعِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِهِ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ لِئَلَّا يَسْتَلْزِمَ تَنْزِيلَ الرَّاجِعِ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ بِوَاسِطَةِ الضَّمَانِ فِيمَا هُوَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْمِلْكِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ، كَمُسْلِمٍ غَصَبَ خِنْزِيرَ ذِمِّيٍّ، فَأَتْلَفَهُ فِي يَدِهِ آخَرُ فَضَمَّنَ الذِّمِّيُّ الْغَاصِبَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُتْلِفِ بِشَيْءٍ، (وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْهَلَاكِ بِهِ، فَهُوَ) أَيْ: الْقَاتِلُ (بِالْقَتْلِ جَعَلَ فِعْلَ الْآخِذِ عِلَّةً، فَيَكُونُ) قَتْلُهُ (فِي مَعْنَى مُبَاشَرَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيُضَافُ الضَّمَانُ إلَيْهِ) كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ
(فَإِنْ قَطَعَ حَشِيشَ الْحَرَمِ أَوْ شَجَرَةً لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إلَّا فِيمَا جَفَّ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُمَا ثَبَتَتْ بِسَبَبِ الْحَرَمِ، قَالَ عليه الصلاة والسلام
إذَا أُتْلِفَ الْمَغْصُوبُ وَضَمِنَهُ الْغَاصِبُ، فَإِنَّ حَاصِلَ الضَّمَانِ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الرُّجُوعَ يَسْتَلْزِمُ تَضْمِينَ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ وَمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ وَإِلْزَامُ أَكْثَرَ مِمَّا لَزِمَهُ. فَإِنَّ مَا لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ يُفْتَى بِهَا وَيُجْزِئُهُ الصَّوْمُ فِيهِ. وَبِالرُّجُوعِ يُطَالِبُهُ بِضَمَانٍ مَحْكُومٍ بِهِ وَيُحْبَسُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِمَّا لَزِمَهُ فَلَا يَجُوزُ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الضَّمَانَ لَمْ يَسْتَلْزِمْ الْمِلْكَ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ إزَالَةِ يَدٍ مُحْتَرَمَةٍ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ كَانَ مُتَمَكِّنًا بِيَدِهِ مِنْ الْإِرْسَالِ وَإِسْقَاطِ الْجَزَاءِ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ فَوَّتَهَا الْقَاتِلُ عَلَيْهِ فَيَضْمَنُهُ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا أَتْلَفَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِهِ فَأَدَّى الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْقَاتِلِ بِقِيمَتِهِ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُدَبَّرُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّفَاوُتِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، كَالْأَبِ إذَا غَصَبَ مُدَبَّرَ ابْنِهِ فَغَصَبَهُ مِنْهُ آخَرُ، ثُمَّ الِابْنُ ضَمِنَ الْأَبُ رَجَعَ الْأَبُ عَلَى الْغَاصِبِ وَيَحْبِسُهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَحْبِسُ فِيمَا لَزِمَهُ لِابْنِهِ. وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ زُفَرُ أَنَّ غَاصِبَ الْخِنْزِيرِ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ عَنْ مَحَلِّيَّةِ التَّمَلُّكِ لِإِهَانَتِهِ، بِخِلَافِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيهِ لِزِيَادَةِ احْتِرَامٍ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ بِإِحْرَامِهِ كَحُرْمَةِ الْآدَمِيِّ فَتَثْبُتُ لَهُ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مِلْكٌ.
قَالَ: (فَإِنْ قَطَعَ حَشِيشَ الْحَرَمِ)
«لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا» وَلَا يَكُونُ لِلصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْقِيمَةِ مَدْخَلٌ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ تَنَاوُلِهَا بِسَبَبِ الْحَرَمِ لَا بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ مِنْ ضَمَانِ الْمَحَالِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَإِذَا أَدَّاهَا مَلَكَهُ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ. وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ بَعْدَ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ شَرْعًا، فَلَوْ أُطْلِقَ لَهُ فِي بَيْعِهِ لَتَطَرَّقَ النَّاسُ إلَى مِثْلِهِ، إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، بِخِلَافِ الصَّيْدِ، وَالْفَرْقُ مَا نَذْكُرُهُ. وَاَلَّذِي يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً عَرَفْنَاهُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ لِلْأَمْنِ بِالْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ الْمَنْسُوبَ إلَى الْحَرَمِ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ عَلَى الْكَمَالِ عِنْدَ عَدَمِ النِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ بِالْإِنْبَاتِ.
اعْلَمْ أَنَّ حَشِيشَ الْحَرَمِ وَشَجَرَهُ عَلَى نَوْعَيْنِ: شَجَرٌ أَنْبَتَهُ الْإِنْسَانُ. وَشَجَرٌ يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَوْعَيْنِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ أَوْ لَا يَكُونُ. وَالْأَوَّلُ بِنَوْعَيْهِ لَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ، وَالْأَوَّلُ مِنْ الثَّانِي كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْجَزَاءُ فِي الثَّانِي مِنْهُ وَهُوَ مَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ، وَيَسْتَوِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ بِأَنْ يَنْبُتَ فِي مِلْكِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، حَتَّى قَالُوا فِي رَجُلٍ نَبَتَتْ فِي مِلْكِهِ أُمُّ غَيْلَانَ فَقَطَعَهَا إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِمَالِكِهَا وَعَلَيْهِ قِيمَةٌ أُخْرَى لِحَقِّ الشَّرْعِ، فَقَوْلُهُ فَإِنْ قَطَعَ حَشِيشَ الْحَرَمِ إلَى أَنْ قَالَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إشَارَةً إلَى هَذَا النَّوْعِ الْأَخِيرِ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى الْحَرَمِ وَقَالَ وَهُوَ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ. وَقَوْلُهُ (لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا) أَيْ لَا يُحْصَدُ رُطَبُ مَرْعَاهَا وَلَا يُقْطَعُ شَوْكُهَا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ حُرْمَةَ تَنَاوُلِهَا بِسَبَبِ الْحَرَمِ لَا بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ)؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ مِنْ الِاحْتِشَاشِ وَالِاحْتِطَابِ خَارِجَ الْحَرَمِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهَا غَرَامَةٌ وَلَيْسَتْ بِكَفَّارَةٍ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الصَّيْدِ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ صَيْدٍ اصْطَادَهُ مُحْرِمٌ أَوْ بَيْعُ صَيْدِ الْحَرَمِ أَصْلًا (وَالْفَرْقُ مَا نَذْكُرُهُ) يُرِيدُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ حَيًّا تَعَرُّضٌ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ. وَقَوْلُهُ (وَاَلَّذِي يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ
وَمَا لَا يَنْبُتُ عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ الْتَحَقَ بِمَا يَنْبُتُ عَادَةً.
وَلَوْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَعَلَى قَاطِعِهِ قِيمَتَانِ: قِيمَةٌ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ حَقًّا لِلشَّرْعِ، وَقِيمَةٌ أُخْرَى ضَمَانًا لِمَالِكِهِ كَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَرَمِ، وَمَا جَفَّ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ لَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَامٍ.
(وَلَا يُرْعَى حَشِيشُ الْحَرَمِ وَلَا يُقْطَعُ إلَّا الْإِذْخِرَ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً، فَإِنَّ مَنْعَ الدَّوَابِّ عَنْهُ مُتَعَذِّرٌ. وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَالْقَطْعُ بِالْمَشَافِرِ كَالْقَطْعِ بِالْمَنَاجِلِ، وَحَمْلُ الْحَشِيشِ مِنْ الْحِلِّ مُمْكِنٌ فَلَا ضَرُورَةَ، بِخِلَافِ الْإِذْخِرِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَجُوزُ
النَّاسُ. وَقَوْلُهُ (وَمَا لَا يَنْبُتُ عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَاَلَّذِي يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً: يَعْنِي مَا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ الْتَحَقَ بِمَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فَكَانَ غَيْرَ مُسْتَحَقِّ الْأَمْنِ إلْحَاقًا بِمَحَلِّ الْإِجْمَاعِ بِجَامِعِ انْقِطَاعِ كَمَالِ النِّسْبَةِ إلَى الْحَرَمِ عِنْدَ النِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ بِالْإِنْبَاتِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ) يَعْنِي الَّذِي لَا يَنْبُتُ عَادَةً لَوْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ (فِي مِلْكِ رَجُلٍ) قَدْ ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبَاتَ يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ فَكَيْفَ تَجِبُ الْقِيمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالثَّانِي أَنَّ الْحَرَمَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ قَوْلُهُ وَقِيمَةٌ أُخْرَى ضَمَانًا لِمَالِكِهِ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَإِ، وَالنَّارِ» مَحْمُولٌ عَلَى خَارِجِ الْحَرَمِ، وَأَمَّا حُكْمُ الْحَرَمِ فَبِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ حَرَّمَ التَّعَرُّضَ بِالنَّصِّ كَصَيْدِهِ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى تَمَلُّكَ أَرْضِ الْحَرَمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ (وَمَا جَفَّ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ) بَيَانُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي مَطْلَعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً) يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ يَكُونُونَ عَلَى الدَّوَابِّ وَمَنْعُهَا عَنْهُ مُتَعَذِّرٌ فَتَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ (وَلَنَا مَا رَوَيْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا» وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الضَّرُورَةُ فِيمَا لَا يَكُونُ فِيهِ نَصٌّ بِخِلَافِهِ، فَإِنْ قِيلَ: النَّصُّ فِي الْقَطْعِ لَا فِي الرَّعْيِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْقَطْعُ بِالْمَشَافِرِ كَالْقَطْعِ بِالْمَنَاجِلِ) شَفْرَةُ كُلِّ شَيْءٍ حَرْفُهُ، وَمِشْفَرُ الْبَعِيرِ شَفَتُهُ، وَالْمَنَاجِلُ جَمْعُ مِنْجَلٍ وَهُوَ مَا يُحْصَدُ بِهِ الزَّرْعُ، وَقَوْلُهُ (وَحَمْلُ الْحَشِيشِ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ النَّصَّ فِي الْقَطْعِ لَا فِي الرَّعْيِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ الضَّرُورَةَ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْحَشِيشِ (مِنْ الْحِلِّ مُمْكِنٌ فَلَا ضَرُورَةَ) فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُ الْإِذْخِرِ لَمْ يَحْرُمْ رَعْيُهُ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ الْإِذْخِرِ)؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَثْنَاهُ فَيَجُوزُ رَعْيُهُ. وَرُوِيَ «أَنَّ الْعَبَّاسَ رضي الله عنه
قَطْعُهُ وَرَعْيُهُ، وَبِخِلَافِ الْكَمْأَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ النَّبَاتِ.
(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْقَارِنُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ عَلَى الْمُفْرِدِ دَمًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ دَمٌ لِحَجَّتِهِ وَدَمٌ لِعُمْرَتِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: دَمٌ وَاحِدٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا بِإِحْرَامَيْنِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ. قَالَ (إلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ بِالْعُمْرَةِ أَوْ الْحَجِّ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ)
لَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا قَالَ: إلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لِقُبُورِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: إلَّا الْإِذْخِرَ» وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يُسْتَثْنَى إلَّا أَنَّ الْعَبَّاسَ سَبَقَهُ بِذَلِكَ. أَوْ كَانَ أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ يُرَخِّصَ فِيمَا يَسْتَثْنِيهِ الْعَبَّاسُ. فَإِنْ قِيلَ: عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ كَانَ قَوْلُهُ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا عَامًّا مَخْصُوصًا بِمُقَارِنٍ فَلْيُخَصَّ الرَّعْيُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ. قُلْت: الِاسْتِثْنَاءُ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَاهُ كَانَ الْإِذْخِرُ مَخْصُوصًا بِالضَّرُورَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنْ لَا ضَرُورَةَ فِي الرَّعْيِ. وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ الْكَمْأَةِ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْإِذْخِرِ: يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَاخِلَةٍ فِي الْمُحَرَّمَاتِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ نَبَاتِ الْأَرْضِ بَلْ هِيَ مُودَعَةٌ فِيهَا.
قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْقَارِنُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ عَلَى الْمُفْرِدِ دَمًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ) كُلُّ مَا عَلَى الْمُفْرِدِ فِيهِ دَمٌ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ الْجِنَايَاتِ فَعَلَى الْقَارِنِ فِيهِ دَمَانِ (دَمٌ لِحَجَّتِهِ وَدَمٌ لِعُمْرَتِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: دَمٌ وَاحِدٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ عِنْدَهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ وَعِنْدَنَا بِإِحْرَامَيْنِ وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ) فَإِنْ قِيلَ: إحْرَامُ الْحَجِّ أَقْوَى لِكَوْنِهِ فَرْضًا دُونَ الْعُمْرَةِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ فِي إيجَابِ حُكْمٍ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ فَإِنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَيْهِ وَيُجْعَلُ الْأَضْعَفُ كَالْمَعْدُومِ، كَمَا ذَكَرْتُمْ فِي الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَيْسَ إحْرَامُ الْحَجِّ أَقْوَى مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ عَلَى انْفِرَادِهِ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِهَا جَمِيعُ مَا يَحْرُمُ إحْرَامَ الْحَجِّ فَكَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فَلَا يَسْتَتْبِعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ وُجُوبُ الدَّمَيْنِ عَلَى الْقَارِنِ بِمَا إذَا كَانَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَأَمَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ بِهَا فَفِي الْجِمَاعِ يَجِبُ دَمَانِ، وَفِي سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ دَمٌ وَاحِدٌ لِمَا أَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ إنَّمَا بَقِيَ فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ لَا غَيْرُ. قُلْت بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِنْ كَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ذَكَرَ مِثْلَ مَا ذَكَرْت.
وَوَجْهُ الْبُعْدِ أَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَفْعَالِهَا لَمْ يَبْقَ إلَّا فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ خَاصَّةً فَكَانَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ. وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ).
خِلَافًا لِزُفَرٍ رحمه الله لَمَّا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ وَبِتَأْخِيرِ وَاجِبٍ وَاحِدٍ لَا يَجِبُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ.
(وَإِذَا اشْتَرَكَ مُحْرِمَانِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَقَوْلُهُ (خِلَافًا لِزُفَرَ) يَعْنِي أَنَّهُ يَقُولُ عَلَيْهِ دَمَانِ لِكُلِّ إحْرَامٍ دَمٌ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ. وَلَنَا (أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ لِلْعُمْرَةِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ كَانَ جَائِزًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ قَارِنٌ أَيْضًا (وَبِتَأْخِيرِ وَاجِبٍ وَاحِدٍ لَا يَجِبُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ).
(وَإِذَا اشْتَرَكَ مُحْرِمَانِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ) وَاحِدٍ (فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: عَلَيْهِمَا جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَحَلِّ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الدَّالُّ الَّذِي لَمْ يَتَّصِلْ فِعْلُهُ بِالْمَحَلِّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَالْمَحَلُّ هَاهُنَا وَاحِدٌ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَقَاسَ بِصَيْدِ الْحَرَمِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّرِكَةِ يَصِيرُ جَانِيًا جِنَايَةً تَفُوقُ الدَّلَالَةَ
بِالشَّرِكَةِ يَصِيرُ جَانِيًا جِنَايَةً تَفُوقُ الدَّلَالَةَ فَيَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ. (وَإِذَا اشْتَرَكَ حَلَالَانِ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِمَا جَزَاءٌ وَاحِدٌ)؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بَدَلٌ عَنْ الْمَحَلِّ لَا جَزَاءٌ عَنْ الْجِنَايَةِ فَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ، كَرَجُلَيْنِ قَتَلَا رَجُلًا خَطَأً تَجِبُ عَلَيْهِمَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ.
(وَإِذَا بَاعَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ أَوْ ابْتَاعَهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ)؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ حَيًّا تَعَرُّضٌ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ وَبَيْعُهُ بَعْدَمَا قَتَلَهُ بَيْعُ مَيْتَةٍ.
أَمَّا أَنَّهُ يَصِيرُ جَانِيًا؛ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ إذَا صَدَرَ مِنْ فَاعِلَيْنِ يُضَافُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلًا كَمَا فِي الْقِصَاصِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَأَمَّا أَنَّهُ جِنَايَةٌ تَفُوقُ الدَّلَالَةَ فَلِاتِّصَالِهِ بِالْمَحَلِّ دُونَهَا، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانِيًا تِلْكَ الْجِنَايَةَ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُتَعَدِّدَةً وَتَعَدُّدُهَا يُوجِبُ تَعَدُّدَ الْجَزَاءِ لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ (وَإِذَا اشْتَرَكَ حَلَالَانِ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ) وَهُوَ عَكْسُ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ
(وَإِذَا بَاعَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ أَوْ ابْتَاعَهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ حَيًّا تَعَرُّضٌ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ) وَالتَّعَرُّضُ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ بِالْبَيْعِ بَاطِلٌ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ بِتَحْرِيمِ الشَّرْعِ كَخُرُوجِهِ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الذَّبْحِ لِذَلِكَ وَالْبَيْعُ الْمُضَافُ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ بَاطِلٌ (وَبَيْعُهُ بَعْدَمَا قَتَلَهُ بَيْعُ مَيْتَةٍ)
(وَمَنْ أَخْرَجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَمَاتَتْ هِيَ وَأَوْلَادُهَا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُنَّ)؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ بَقِيَ مُسْتَحِقًّا لِلْأَمْنِ شَرْعًا وَلِهَذَا وَجَبَ رَدُّهُ إلَى مَأْمَنِهِ، وَهَذِهِ صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَتَسْرِي إلَى الْوَلَدِ (فَإِنْ أَدَّى جَزَاءَهَا ثُمَّ وَلَدَتْ لَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْوَلَدِ)؛ لِأَنَّ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ لَمْ تَبْقَ آمِنَةً؛ لِأَنَّ وُصُولَ الْخَلَفِ كَوُصُولِ الْأَصْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَبَيْعُ الْمَيْتَةِ بَاطِلٌ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَخْرَجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ) حَلَالًا كَانَ أَوْ مُحْرِمًا (فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَمَاتَتْ هِيَ وَأَوْلَادُهَا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُنَّ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ بَقِيَ مُسْتَحَقًّا لِلْأَمْنِ شَرْعًا) يَعْنِي أَنَّ الصَّيْدَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ مُتَّصِفٌ بِصِفَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ بَقَاءُ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْأَمْنِ شَرْعًا، وَكُلُّ مَا اتَّصَفَ بِصِفَةٍ شَرْعِيَّةٍ صِفَتُهُ تِلْكَ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ. أَمَّا اتِّصَافُهُ بِبَقَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْأَمْنِ شَرْعًا؛ فَلِأَنَّ الرَّدَّ إلَى مَأْمَنِهِ وَاجِبٌ. وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ صِفَتُهُ تِلْكَ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ فَكَمَا فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالْكِتَابَةِ وَغَيْرِهَا، وَنُوقِضَ بِوَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّهَا
بَابُ مُجَاوَزَةِ الْوَقْتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ
وَاجِبَةُ الرَّدِّ إلَى مَالِكِهَا، وَهَذِهِ صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَمْ تَسْرِ إلَى وَلَدِهَا، فَإِنَّ زَوَائِدَ الْمَغْصُوبِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الصِّفَةَ الشَّرْعِيَّةَ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ، وَصِفَةُ الْمَغْصُوبِيَّةِ تَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَلِأَنَّ تَصَوُّرَهَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ، وَهِيَ فِي الْأَوْلَادِ لَا تَتَحَقَّقُ لِعَدَمِ ثُبُوتِ يَدٍ عَلَيْهَا تُزَالُ بِالْغَصْبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(بَابُ مُجَاوَزَةِ الْوَقْتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ):
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رحمه الله: لَمَّا ذَكَرَ بَابَ الْجِنَايَاتِ وَأَنْوَاعَهَا أَعْقَبَهُ ذِكْرَ بَابِ مُجَاوَزَةِ الْوَقْتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْجِنَايَاتِ أَيْضًا، إلَّا أَنَّ هَذَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ بَابِ الْجِنَايَاتِ وَمَا يَتْبَعُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَمُطْلَقُ
(وَإِذَا أَتَى الْكُوفِيُّ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى ذَاتِ عِرْقٍ وَلَبَّى بَطَلَ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ، وَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ وَلَمْ يُلَبِّ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: إنْ رَجَعَ إلَيْهِ مُحْرِمًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَرْتَفِعْ بِالْعَوْدِ وَصَارَ كَمَا إذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ الْغُرُوبِ. وَلَنَا أَنَّهُ تَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ فِي أَوَانِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ فَيَسْقُطُ الدَّمُ، بِخِلَافِ الْإِفَاضَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَدَارَكْ الْمَتْرُوكَ عَلَى مَا مَرَّ. غَيْرَ أَنَّ التَّدَارُكَ عِنْدَهُمَا بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ حَقَّ الْمِيقَاتِ كَمَا
ذِكْرِ جِنَايَةِ الْمُحْرِمِ يَتَنَاوَلُ مَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَكَانَ كَامِلًا فِي اسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْجِنَايَةِ فَلِذَلِكَ قَدَّمَهُ عَلَى هَذَا الْبَابِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُحَرِّمَ لِلْأَشْيَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلْكَفَّارَةِ هُوَ الْإِحْرَامُ وَالْإِحْرَامُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَتَمَكَّنَ بِهِ فِي حَجِّهِ نُقْصَانٌ، وَنُقْصَانُهُ يُجْبَرُ بِالدَّمِ إلَّا إذَا تَدَارَكَ ذَلِكَ فِي أَوَانِهِ بِالرُّجُوعِ إلَى الْمِيقَاتِ مُلَبِّيًا قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ (وَإِذَا أَتَى الْكُوفِيُّ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى ذَاتِ عِرْقٍ وَلَبَّى بَطَلَ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ) وَتَخْصِيصُهُ بِذَاتِ عِرْقٍ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ حَالِ الْكُوفِيِّ وَإِلَّا فَالرُّجُوعُ إلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاقِيتِ سَوَاءٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: يُنْظَرُ إنْ عَادَ إلَى مِيقَاتٍ.
وَذَلِكَ الْمِيقَاتُ يُحَاذِي الْمِيقَاتَ الْأَوَّلَ أَوْ أَبْعَدَ إلَى الْحَرَمِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ وَإِلَّا فَلَا (وَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ لَكِنْ لَمْ يُلَبِّ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقَالَا: إنْ رَجَعَ مُحْرِمًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَرْتَفِعْ بِالْعَوْدِ)؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمِيقَاتِ إنْشَاءُ الْإِحْرَامِ، وَالرَّاجِعُ إلَيْهِ لَيْسَ بِمُنْشِئٍ (وَصَارَ كَمَا إذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ الْغُرُوبِ. وَلَنَا أَنَّهُ تَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ) وَتَدَارُكُ الْمَتْرُوكِ فِي أَوَانِهِ يُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ (بِخِلَافِ الْإِفَاضَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَدَارَكْ الْمَتْرُوكَ) لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُنَاكَ اسْتِدَامَةُ الْوُقُوفِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبِالْعَوْدِ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ عَلَى مَا مَرَّ. وَبِهَذَا الْكَلَامِ تَمَّ الْحُجَّةُ عَلَى زُفَرَ وَبَقِيَ الْكَلَامُ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ التَّدَارُكَ هَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَوْدِ أَوْ مَعَ التَّلْبِيَةِ (عِنْدَهُمَا بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ أَظْهَرَ حَقَّ الْمِيقَاتِ) وَهُوَ الْمُرُورُ بِهِ مُحْرِمًا فَإِنَّهُ إذَا أَحْرَمَ
إذَا مَرَّ بِهِ مُحْرِمًا سَاكِنًا.
وَعِنْدَهُ رحمه الله بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا مُلَبِّيًا؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا تَرَخَّصَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْمِيقَاتِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِنْشَاءِ التَّلْبِيَةِ فَكَانَ التَّلَافِي بِعَوْدِهِ مُلَبِّيًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ مَكَانَ الْعُمْرَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ عَادَ بَعْدَمَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ، وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ عَادَ إلَيْهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ يَسْقُطُ بِالِاتِّفَاقِ (وَهَذَا) الَّذِي ذَكَرْنَا (إذَا كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ،
مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ وَمَرَّ بِهِ سَاكِتًا صَحَّ (وَعِنْدَهُ بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا مُلَبِّيًا؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ) فَإِذَا أَحْرَمَ مِنْهَا صَارَتْ مَوْضِعَ إحْرَامِهِ فَتُشْتَرَطُ التَّلْبِيَةُ هُنَاكَ، فَإِذَا لَبَّى ثَمَّةَ ثُمَّ سَكَتَ عِنْدَ الْمُرُورِ بِالْمِيقَاتِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا تَرَخَّصَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْمِيقَاتِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِنْشَاءِ التَّلْبِيَةِ وَالْإِحْرَامِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ بِالْمُجَاوَزَةِ حَتَّى أَحْرَمَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ عَادَ، فَإِنْ لَبَّى فَقَدْ أَتَى بِجَمِيعِ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ فَلَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِ مَا اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ، وَالْخِلَافُ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ كَالْخِلَافِ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ عَادَ بَعْدَمَا ابْتَدَأَ الطَّوَافَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ وَلَمْ يُلَبِّ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْعَوْدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ لَا يَسْقُطُ بِالْعَوْدِ بِالِاتِّفَاقِ. وَفِي وَجْهٍ يَسْقُطُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي وَجْهٍ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَإِنْ جَاوَزَ فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَإِنْ عَادَ، فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ عَادَ قَبْلَهُ سَقَطَ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ أَنْشَأَ التَّلْبِيَةَ الْوَاجِبَةَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَهُ فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ بَعْدَمَا ابْتَدَأَ الطَّوَافَ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَهُ لَا يَسْقُطُ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَمَّا طَافَ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَقَعَ شَوْطًا مُعْتَدًّا بِهِ، وَذَلِكَ يُنَافِي إسْقَاطَ الدَّمِ عَنْهُ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُبْتَدِئٌ مِنْ الْمِيقَاتِ تَقْدِيرًا وَبَعْدَمَا وَقَعَ مِنْهُ شَوْطٌ مُعْتَدٌّ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ مُبْتَدِئًا، وَظَهَرَ لَك مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ لِبَيَانِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الشَّوْطِ وَإِنْ عَادَ قَبْلَهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ.
فَإِنْ دَخَلَ الْبُسْتَانَ لِحَاجَةٍ فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَوَقْتُهُ الْبُسْتَانُ، وَهُوَ وَصَاحِبُ الْمَنْزِلِ سَوَاءٌ)؛ لِأَنَّ الْبُسْتَانَ غَيْرُ وَاجِبِ التَّعْظِيمِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِقَصْدِهِ، وَإِذَا دَخَلَهُ الْتَحَقَ بِأَهْلِهِ، وَلِلْبُسْتَانِيِّ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِلْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ لَهُ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَوَقْتُهُ الْبُسْتَانُ جَمِيعُ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ، فَكَذَا وَقْتُ الدَّاخِلِ الْمُلْحَقِ بِهِ (فَإِنْ أَحْرَمَا مِنْ الْحِلِّ وَوَقَفَا بِعَرَفَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ) يُرِيدُ بِهِ الْبُسْتَانِيَّ وَالدَّاخِلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا أَحْرَمَا مِنْ مِيقَاتِهِمَا.
(وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ إلَى الْوَقْتِ، وَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ) ذَلِكَ (مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ دَخَلَ الْبُسْتَانَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (الْتَحَقَ بِأَهْلِهِ) يَعْنِي سَوَاءً نَوَى مُدَّةَ الْإِقَامَةِ أَوْ لَمْ يَنْوِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ شَرَطَ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ) أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلِ الْمَوَاقِيتِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَوَقْتُهُ الْحِلُّ مَعْنَاهُ جَمِيعُ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَ الْمَوَاقِيتِ وَبَيْنَ الْحَرَمِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ) مَعْنَاهُ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَلَزِمَهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ (ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ) وَحَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً فَإِنَّهَا تَنُوبُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِهِ
إحْرَامٍ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَجْزِيهِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ اعْتِبَارًا بِمَا لَزِمَهُ بِسَبَبِ النَّذْرِ، وَصَارَ كَمَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ.
وَلَنَا أَنَّهُ تَلَافَى الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ تَعْظِيمُ هَذِهِ الْبُقْعَةِ بِالْإِحْرَامِ، كَمَا إذَا أَتَاهُ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الِابْتِدَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِإِحْرَامٍ مَقْصُودٍ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِصَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دُونَ الْعَامِ الثَّانِي
(وَمَنْ جَاوَزَ الْوَقْتَ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَفْسَدَهَا مَضَى فِيهَا
مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ (اعْتِبَارًا بِمَا لَزِمَهُ بِسَبَبِ النَّذْرِ) فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَجَبَتْ بِالنَّذْرِ وَحَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهَا الْمَنْذُورَةُ كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَاجِبَةٌ بِسَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ فِي أَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ، فَكَمَا لَا تَتَأَدَّى الْمَنْذُورَةُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَكَذَا الْمَشْرُوعُ فِيهَا (وَصَارَ) ذَلِكَ (كَمَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ) ثُمَّ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ مَا لَزِمَهُ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِلَا خِلَافٍ (وَلَنَا) وَهُوَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ (أَنَّهُ تَلَافَى الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ) وَهُوَ السَّنَةُ الَّتِي دَخَلَ فِيهَا مَكَّةَ (لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ تَعْظِيمُ هَذِهِ الْبُقْعَةِ بِالْإِحْرَامِ) لَا غَيْرُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ (كَمَا إذَا أَتَاهُ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الِابْتِدَاءِ) فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي نَوَى وَعَمَّا لَزِمَهُ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ (بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ) بِمُضِيِّ وَقْتِ الْحَجِّ (فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِإِحْرَامٍ مَقْصُودٍ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِصَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةٍ نَذَرَ فِيهَا دُونَ الْعَامِ الثَّانِي) فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْحَجَّةَ بِتَحَوُّلِ السَّنَةِ تَصِيرُ دَيْنًا، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعُمْرَةَ تَصِيرُ دَيْنًا لِعَدَمِ تَوَقُّتِهَا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَسْقُطَ الْعُمْرَةُ الْوَاجِبَةُ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ بِالْعُمْرَةِ الْمَنْذُورَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا تَسْقُطُ بِهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى. أُجِيبَ بِأَنَّ تَأْخِيرَ الْعُمْرَةِ إلَى أَيَّامِ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ مَكْرُوهٌ، فَإِذَا أَخَّرَهَا إلَى وَقْتٍ مَكْرُوهٍ صَارَ كَالْمُفَوِّتِ لَهَا فَصَارَتْ دَيْنًا.
قَالَ (وَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ) بِغَيْرِ إحْرَامٍ. ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: الْمُضِيُّ فِيهَا، وَقَضَاؤُهَا بِإِحْرَامٍ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَسُقُوطُ الدَّمِ. أَمَّا الْمُضِيُّ؛ فَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ عَنْهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ. وَأَمَّا الْقَضَاءُ
وَقَضَاهَا)؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَقَعُ لَازِمًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَفْسَدَ الْحَجَّ (وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ) وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ رحمه الله لَا يَسْقُطُ عَنْهُ وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي فَائِتِ الْحَجِّ إذَا جَاوَزَ الْوَقْتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَفِيمَنْ جَاوَزَ الْوَقْتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَ حَجَّتَهُ، هُوَ يَعْتَبِرُ الْمُجَاوَزَةَ هَذِهِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ. وَلَنَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا حَقَّ الْمِيقَاتِ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ يَحْكِي الْفَائِتَ وَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ.
(وَإِذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ يُرِيدُ الْحَجَّ فَأَحْرَمَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْحَرَمِ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ)؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ الْحَرَمُ وَقَدْ جَاوَزَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْحَرَمِ وَلَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْآفَاقِيِّ
(وَالْمُتَمَتِّعُ إذَا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ
فَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْأَدَاءَ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ وَلَمْ يَفْعَلْ. وَأَمَّا سُقُوطُ الدَّمِ فَلِأَنَّهُ إذَا قَضَاهَا بِإِحْرَامٍ مِنْ الْمِيقَاتِ يَنْجَبِرُ بِهِ مَا نَقَصَ مِنْ حَقِّ الْمِيقَاتِ بِالْمُجَاوَزَةِ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ فَسَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ كَمَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَقَضَاهَا سَقَطَ سُجُودُ السَّهْوِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَاتَهُ الْحَجُّ ثُمَّ قَضَاهُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ. وَنَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَهُ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ قَضَاهُ فَإِنَّ دَمَ الْوَقْتِ يَسْقُطُ عَنْهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، قَالَ: لِأَنَّ الدَّمَ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ صَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ، كَمَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ بِالتَّطَيُّبِ أَوْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ (وَلَنَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا حَقَّ الْمِيقَاتِ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمِيقَاتِ (فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ) أَيْ الْقَضَاءُ (يَحْكِي الْفَائِتَ) أَيْ يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِ مَا فَاتَ وَهُوَ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ ابْتِدَاءً فَيَنْعَدِمُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَزِمَهُ الدَّمُ وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَدِمُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ وَقَضَائِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ مِنْ الْحَرَمِ إلَخْ) ظَاهِرٌ
الْحَرَمِ فَأَحْرَمَ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ، وَإِحْرَامُ الْمَكِّيِّ مِنْ الْحَرَمِ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْهُ (فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْحَرَمِ فَأَهَلَّ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْآفَاقِيِّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
بَابُ إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ
(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِعُمْرَةٍ وَطَافَ لَهَا شَوْطًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْحَجَّ، وَعَلَيْهِ لِرَفْضِهِ دَمٌ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ).
بَابُ إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ):
إضَافَةُ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ وَمَنْ بِمَعْنَاهُ جِنَايَةٌ، وَكَذَلِكَ إضَافَةُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ إلَى إحْرَامِ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ، بِخِلَافِ إضَافَةِ إحْرَامِ الْحَجِّ إلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ؛ فَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ ذَكَرَهَا عَقِيبَ الْجِنَايَاتِ، وَبِاعْتِبَارِ عَدَمِهِ جَعَلَهُ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِعُمْرَةٍ وَطَافَ لَهَا شَوْطًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْحَجَّ وَعَلَيْهِ لِرَفْضِهِ دَمٌ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ) قَيَّدَ بِالْمَكِّيِّ؛ لِأَنَّ الْآفَاقِيَّ إذَا أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا وَطَافَ لَهَا شَوْطًا ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مَضَى فِيهِمَا، وَلَا يَرْفُضُ الْحَجَّ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ أَعْمَالِ الْحَجِّ عَلَى أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ طَافَ لَهَا أَقَلَّ الْأَشْوَاطِ كَانَ قَارِنًا، وَإِنْ طَافَ لَهَا الْأَكْثَرَ كَانَ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ بَعْدَ عَمَلِ
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا وَقَضَاؤُهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَالْعُمْرَةُ أَوْلَى بِالرَّفْضِ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى حَالًا وَأَقَلُّ أَعْمَالًا وَأَيْسَرُ قَضَاءً لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ، وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لِمَا قُلْنَا. فَإِنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ رَفَضَ الْحَجَّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فَتَعَذَّرَ رَفْضُهَا كَمَا إذَا فَرَغَ مِنْهَا، وَلَا كَذَلِكَ إذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله،
الْعُمْرَةِ، وَلِأَكْثَرِ الطَّوَافِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَالْقَارِنُ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَقَيَّدَ بِالْعُمْرَةِ لِأَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَطَافَ لَهُ شَوْطًا ثُمَّ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لِلْحَجِّ قَدْ تَأَكَّدَ، وَقَبْلَ التَّأَكُّدِ كَانَ يُؤْمَرُ بِرَفْضِهَا فَبَعْدَهُ أَوْلَى. وَقُيِّدَ بِالشَّوْطِ: يَعْنِي الْوَاحِدَ لِأَنَّهُ إذَا طَافَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَا خِلَافَ فِي رَفْضِ الْحَجِّ، وَأَمَّا فِي الشَّوْطَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فَقَدْ صَرَّحَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِوُجُودِ الْخِلَافِ الَّذِي ذُكِرَ إذَا طَافَ لَهَا شَوْطًا.
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا وَقَضَاؤُهَا وَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا) بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا حَذَرًا مِنْ الِاسْتِدَامَةِ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ (وَالْعُمْرَةُ أَوْلَى بِالرَّفْضِ لِأَنَّهَا أَدْنَى حَالًا) لِكَوْنِهِ فَرْضًا دُونَهَا (وَأَقَلُّ أَعْمَالًا)؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهَا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لَا غَيْرُ (وَأَيْسَرُ قَضَاءً لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ) هَذَا إذَا كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا. وَأَمَّا إذَا كَانَ تَطَوُّعًا فَيُعَلَّلُ بِالْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ) يَعْنِي رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَحَبُّ لَكِنَّ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ (لِمَا قُلْنَا) يَعْنِي مِنْ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ عَطْفٌ بِقَوْلِهِ وَكَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَهُوَ مُلَبِّسٌ لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ) ظَاهِرٌ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا. وَقَوْلُهُ (وَلَا كَذَلِكَ إذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا) اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ هَاهُنَا فِي بَعْضِهَا عِنْدَهُمَا وَفِي بَعْضِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي بَعْضِهَا: وَكَذَلِكَ إذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِحَذْفِ كَلِمَةِ لَا مِنْ قَوْلِهِ وَلَا كَذَلِكَ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رحمه الله: ذَكَرَ الْإِمَامُ مَوْلَانَا حُسَامُ الدِّينِ الْأَخْسِيكَتِيُّ رحمه الله. وَالصَّوَابُ وَكَذَلِكَ يَعْنِي النُّسْخَةَ الْأَخِيرَةَ قَالَ: وَهَكَذَا أَيْضًا وَجَدْته بِخَطِّ شَيْخِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ النُّسَخِ وَجْهٌ، أَمَّا وَجْهُ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا وَجْهُ الثَّانِيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لِدَفْعِ سُؤَالِ سَائِلٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا أَخَذَ الْأَكْثَرُ حُكْمَ الْكُلِّ يَكُونُ الْأَقَلُّ مَعْدُومًا حُكْمًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفُضَ الْعُمْرَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ حُكْمَ الْمَوْجُودِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَطُفْ
وَلَهُ أَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ قَدْ تَأَكَّدَ بِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا، وَإِحْرَامُ الْحَجِّ لَمْ يَتَأَكَّدْ، وَرَفْضُ غَيْرُ الْمُتَأَكِّدِ أَيْسَرُ؛ وَلِأَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ إبْطَالَ الْعَمَلِ.
وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ امْتِنَاعٌ عَنْهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ بِالرَّفْضِ أَيُّهُمَا رَفَضَهُ؛ لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ قَبْلَ أَوَانِهِ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُضِيِّ فِيهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمُحْصَرِ إلَّا أَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ قَضَاءَهَا لَا غَيْرُ، وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ قَضَاؤُهُ وَعُمْرَةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ (وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِمَا أَجْزَأَهُ)؛ لِأَنَّهُ أَدَّى أَفْعَالَهُمَا كَمَا الْتَزَمَهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا وَالنَّهْيُ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا (وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ فِي عَمَلِهِ لِارْتِكَابِهِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ دَمُ جَبْرٍ، وَفِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ دَمُ شُكْرٍ (وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى،
لِلْعُمْرَةِ شَيْئًا وَهُنَاكَ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ كَمَا مَرَّ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَعْدُومِ الْحُكْمِيِّ، فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَقَدْ تَأَكَّدَتْ الْعُمْرَةُ وَلَمْ يَتَأَكَّدْ الْحَجُّ أَصْلًا فَكَانَ رَفْعُ غَيْرِ الْمُتَأَكِّدِ أَسْهَلَ، وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ مِنْ جَانِبِهِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (؛ وَلِأَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ) يَعْنِي وَالْحَالَ أَنَّهُ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ (إبْطَالَ الْعَمَلِ) أَيْ الطَّوَافِ الَّذِي أَتَى بِهِ (وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ امْتِنَاعٌ عَنْهُ) وَالِامْتِنَاعُ أَهْوَنُ مِنْ إبْطَالِ مَا وَقَعَ مُعْتَدًّا بِهِ. وَقَوْلُهُ (وَعَلَيْهِ دَمٌ بِالرَّفْضِ أَيُّهُمَا رَفَضَهُ) يَعْنِي الْحَجَّ عِنْدَهُ وَالْعُمْرَةَ عِنْدَهُمَا (لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ قَبْلَ أَوَانِهِ لِتَعَذُّرِ الْمُضِيِّ فِيهِ) بِكَوْنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ (فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمُحْصَرِ) وَعَلَى الْمُحْصَرِ دَمٌ لِلتَّحَلُّلِ وَيَكُونُ الدَّمُ دَمَ جَبْرٍ لَا دَمَ شُكْرٍ عَلَى مَا يَأْتِي.
فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا لَزِمَهُ دَمَانِ لِحُرْمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ دَمٌ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ أَحَدِهِمَا بِالنُّقْصَانِ حَيْثُمَا تَمَكَّنَ وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ فِي أَحَدِهِمَا فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ (إلَّا أَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ قَضَاءَهَا لَا غَيْرُ وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ قَضَاؤُهُ وَعُمْرَةٌ) أَمَّا الْحَجُّ فَلِأَنَّهُ صَحَّ شُرُوعُهُ فِيهِ ثُمَّ رَفَضَهُ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بِالْحَدِيثِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّحَلُّلُ بِأَفْعَالِهَا هَاهُنَا لِأَنَّهُ فِي الْعُمْرَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ مَنْهِيٌّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا (وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِمَا) يَعْنِي إذَا لَمْ يَرْفُضْ الْمَكِّيُّ وَمَنْ بِمَعْنَاهُ الْعُمْرَةَ أَوْ الْحَجَّ وَمَضَى عَلَيْهِمَا وَأَدَّاهُمَا (أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ أَدَّى أَفْعَالَهُمَا كَمَا الْتَزَمَهُمَا غَيْرَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا) أَيْ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ وَإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ جَمِيعًا.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَفِي نُسْخَةِ شَيْخِي بِخَطِّهِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا أَيْ عَنْ الْعُمْرَةِ إذْ هِيَ الْمُتَعَيِّنَةُ لِلرَّفْضِ إجْمَاعًا فِيمَا إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ وَالْكَلَامُ فِيهِ لِأَنَّهَا هِيَ الدَّاخِلَةُ فِي وَقْتِ الْحَجِّ وَبِسَبَبِهَا وَقَعَ الْعِصْيَانُ.
وَقَوْلُهُ (وَالنَّهْيُ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا) أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ دُونَ النَّفْيِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ قِيلَ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ، وَمَعْنَاهُ كَمَا قُلْنَا أَنَّهُ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ فَكَانَ التَّنَاقُضُ فِي كَلَامِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ كَامِلًا كَمَا فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ وَبِهِ يَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَيْهِ دَمٌ) وَاضِحٌ. قَالَ (وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى) اعْلَمْ أَنَّ إضَافَةَ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ بِالْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ: إدْخَالُ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِدْخَالُ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ، وَإِدْخَالُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِدْخَالُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ. وَقَدَّمَ إدْخَالَ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْأَقْسَامِ الْبَاقِيَةِ لِكَوْنِهِ أَدْخَلَ فِي كَوْنِهِ
فَإِنْ حَلَقَ فِي الْأُولَى لَزِمَتْهُ الْأُخْرَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْأُولَى لَزِمَتْهُ الْأُخْرَى وَعَلَيْهِ دَمٌ قَصَّرَ أَوْ لَمْ يُقَصِّرْ
جِنَايَةً وَلِهَذَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ ذَكَرَ إدْخَالَ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ لِقُوَّةِ حَالِهِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا فَرْضًا، ثُمَّ إدْخَالَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْكَيْفِيَّةِ وَكَمِّيَّةِ الْأَفْعَالِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ أَوْ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ بِدْعَةٌ، لَكِنْ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لَزِمَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ يَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا، وَلَا كَلَامَ هَاهُنَا مَعَ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَهُ رُكْنٌ فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَعِنْدَنَا شَرْطٌ لِلْأَدَاءِ، لَكِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: وَهُوَ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِلْأَدَاءِ إلَّا أَنَّهُ مَا شُرِعَ إلَّا لِلْأَدَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْأَدَاءُ.
وَأَدَاءُ حَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ مَعًا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِحْرَامُ لَهُمَا كَالتَّحْرِيمَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُمَا يَقُولَانِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ الْتِزَامٌ مَحْضٌ فِي الذِّمَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ مُنْفَصِلًا عَنْ الْأَدَاءِ وَالذِّمَّةُ تَسَعُ حِجَجًا كَثِيرَةً فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالنَّذْرِ بِخِلَافِ التَّحْرِيمَةِ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ مُنْفَصِلَةً عَنْ الْأَدَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا إمَّا احْتِرَازًا عَنْ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ لِلْأَدَاءِ لَا لِلِالْتِزَامِ وَالْجَمْعُ أَدَاءٌ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، فَبَعْدَ هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا تَوَجَّهَ إلَى أَدَاءِ أَحَدِهِمَا صَارَ رَافِضًا لِلْأُخْرَى. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: كَمَا فَرَغَ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ يَصِيرُ رَافِضًا أَحَدَهُمَا. وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا قَتَلَ صَيْدًا قَبْلَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ قِيمَتَانِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا أُحْصِرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَحْتَاجُ إلَى هَدْيَيْنِ لِلتَّحَلُّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
إذَا عَرَفْت هَذَا نَعُودُ إلَى تَطْبِيقِ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى (فَإِنْ حَلَقَ فِي) الْحَجَّةِ (الْأُولَى) ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى (لَزِمَتْهُ الْأُخْرَى) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْتِزَامٌ مَحْضٌ (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْأُولَى قَدْ انْتَهَتْ نِهَايَتَهَا (وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْأُولَى) وَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أُخْرَى صَارَ جَامِعًا بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ، فَبَعْدَ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَحْلِقَ لِلْأُولَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ يُؤَخِّرَ الْحَلْقَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ حَلَقَ فَقَدْ تَحَلَّلَ عَنْ الْأُولَى، وَلَكِنْ جَنَى عَلَى الثَّانِيَةِ بِالْحَلْقِ، وَإِنْ أَخَّرَ فَقَدْ أَخَّرَ الْحَلْقَ فِي الْأُولَى عَنْ وَقْتِهِ، وَالتَّأْخِيرُ عَنْ الْوَقْتِ مَضْمُونٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ (وَعَلَيْهِ دَمٌ قَصَّرَ أَوْ لَمْ يُقَصِّرْ) أَيْ حَلَقَ أَوْ لَمْ يَحْلِقْ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّقْصِيرِ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رحمه الله (وَقَالَا: إنْ لَمْ يُقَصِّرْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ أَوْ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ بِدْعَةٌ، فَإِذَا حَلَقَ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ نُسُكًا فِي الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ فَهُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَلَزِمَهُ الدَّمُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى حَجَّ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَقَدْ أَخَّرَ الْحَلْقَ عَنْ وَقْتِهِ فِي الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الدَّمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَ التَّقْصِيرِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُ وَشَرْطُ التَّقْصِيرِ عِنْدَهُمَا.
فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، فَذَكَرَ أَوَّلًا لَفْظَ الْحَلْقِ ثُمَّ لَفْظَ التَّقْصِيرِ لِمَا أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ الْحَلْقُ، وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ (وَقَالَا: إنْ لَمْ يُقَصِّرْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ أَوْ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ بِدْعَةٌ) إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِيمَا سَبَقَ، لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْنِ إنَّمَا يَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ الْإِمَامِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التُّمُرْتَاشِيِّ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ.
وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ دَمٌ، وَإِنْ قَصَّرَ لِعَدَمِ لُزُومِ الْآخَرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَهْوًا فِي نَقْلِ مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ وَمَذْهَبُهُ كَمَذْهَبِهِمَا، وَإِنَّمَا أَنْ يَكُونَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ
(وَمَنْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ إلَّا التَّقْصِيرَ فَأَحْرَمَ بِأُخْرَى فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ الْوَقْتِ)؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ وَهَذَا مَكْرُوهٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَهُوَ دَمُ جَبْرٍ وَكَفَّارَةٍ
(وَمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ لَزِمَاهُ)؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيهِ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ قَارِنًا لَكِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَيَصِيرُ مُسِيئًا (وَلَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ وَلَمْ يَأْتِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَهُوَ رَافِضٌ لِعُمْرَتِهِ)؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إذْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَجِّ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ (فَإِنْ تَوَجَّهَ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ رَافِضًا حَتَّى
وَمَنْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ إلَّا التَّقْصِيرَ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى فَعَلَيْهِ دَمٌ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ (لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ الْوَقْتِ)؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ الْحَلْقِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُوجَدْ (لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ وَهَذَا مَكْرُوهٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَهُوَ دَمُ جَبْرٍ وَكَفَّارَةٍ) لَا يَحِلُّ التَّنَاوُلُ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ خَوَاصِّ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَيَّنَ فِيهَا لُزُومَ دَمِ الْجَمْعِ فِي الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَسَكَتَ مُحَمَّدٌ بَيَانُ وُجُوبِهِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَأَوْجَبَهُ فِي مَنَاسِكِ الْمَبْسُوطِ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ. وَأَمَّا وُجُوبُهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ فَذَلِكَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ مُحَمَّدٍ فِي لُزُومِ الْإِحْرَامَيْنِ كَمَذْهَبِهِمَا، وَإِلَّا لَمَا لَزِمَ عِنْدَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ لِعَدَمِ لُزُومِ أَحَدِهِمَا، إلَّا إذْ أَرَادَ بِالْجَمْعِ إدْخَالَ الْإِحْرَامِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا أَحَدُهُمَا فَيَسْتَقِيمُ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ) أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ (ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ لَزِمَاهُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ وَالْمَسْأَلَةُ فِيهِ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ قَارِنًا) لِأَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ (لَكِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَيَصِيرُ مُسِيئًا)؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ لَا إدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} جَعَلَ الْحَجَّ آخِرَ الْغَايَتَيْنِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُؤَدِّ الْحَجَّ صَحَّ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ وُجِدَ فِي الْأَفْعَالِ، وَإِنْ فَاتَ فِي الْإِحْرَامِ فَعَلَيْهِ تَقْدِيمُ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ، حَتَّى (لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ وَلَمْ يَأْتِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ كَانَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إذْ هِيَ مَبْنِيَّةً عَلَى الْحَجِّ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ) بَلْ الْمَشْرُوعُ هُوَ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُ الْحَجِّ مَبْنِيَّةً عَلَى أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ. وَقَوْلُهُ مَبْنِيَّةً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى الْإِشَارَةِ فِي هِيَ فَلِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِقَيْدٍ سَيَجِيءُ وَفِيهِ نَظَرٌ (فَإِنْ تَوَجَّهَ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ رَافِضًا) حَتَّى لَوْ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ مِنْ الطَّرِيقِ
يَقِفَ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ
(فَإِنْ طَافَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَمَضَى عَلَيْهِمَا لَزِمَاهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ عَلَى مَا مَرَّ فَيَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِهِمَا، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الطَّوَافِ طَوَافُ التَّحِيَّةِ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِمَا هُوَ رُكْنٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ، فَلِهَذَا لَوْ مَضَى عَلَيْهِمَا جَازَ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبْرٍ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ بَانٍ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهٍ.
(وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفُضَ عُمْرَتَهُ)؛ لِأَنَّ إحْرَامَ الْحَجِّ قَدْ تَأَكَّدَ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَطُفْ لِلْحَجِّ، وَإِذَا رَفَضَ عُمْرَتَهُ يَقْضِيهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا (وَعَلَيْهِ دَمٌ) لِرَفْضِهَا (وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَزِمَتْهُ) لِمَا قُلْنَا (وَيَرْفُضُهَا) أَيْ يَلْزَمُهُ الرَّفْضُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى رُكْنَ الْحَجِّ فَيَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى
إلَى مَكَّةَ فَطَافَ لِعُمْرَتِهِ وَسَعَى ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ كَانَ قَارِنًا (وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي فِي آخِرِ بَابِ الْقِرَانِ حَيْثُ قَالَ وَلَا يَصِيرُ رَافِضًا بِمُجَرَّدِ التَّوَجُّهِ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ
(فَإِنْ طَافَ لِلْحَجِّ) يَعْنِي طَوَافَ التَّحِيَّةِ (ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَمَضَى عَلَيْهِمَا) وَتَفْسِيرُ الْمُضِيِّ أَنْ يُقَدِّمَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ كَمَا هُوَ الْمَسْنُونُ فِي الْقِرَانِ (لَزِمَاهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ عَلَى مَا مَرَّ) يَعْنِي قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ (فَصَحَّ الْإِحْرَامُ بِهِمَا) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ وَالْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ أَنَّ ذَلِكَ دَمُ الْقِرَانِ فَيَكُونُ دَمَ شُكْرٍ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ مِثْلَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ فِي بِنَاءِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ كَقِرَانِ الْمَكِّيِّ.
وَقَوْلُهُ (وَيُسْتَحَبُّ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي يَوْمِ النَّحْرِ) يَعْنِي قَبْلَ الْحَلْقِ أَوْ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مَنْ أَهَلَّ بِهَا بَعْدَمَا حَلَّ مِنْ الْحَجَّةِ بِالْحَلْقِ يَأْتِي ذِكْرُهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَالظَّاهِرُ الْإِطْلَاقُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ. وَقَوْلُهُ (لَزِمَتْهُ لِمَا قُلْنَا) يُرِيدُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ. وَقَوْلُهُ (وَيَرْفُضُهَا) قَالُوا مَعْنَاهُ: يَلْزَمُهُ الرَّفْضُ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى رُكْنَ الْحَجِّ، وَهُوَ الْوُقُوفُ فَيَصِيرُ بَانِيًا
أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ كُرِهَتْ الْعُمْرَةُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيْضًا عَلَى مَا نَذْكُرُ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ رَفْضُهَا، فَإِنْ رَفَضَهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِرَفْضِهَا (وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا) لِمَا بَيَّنَّا (فَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا أَجْزَأَهُ)؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهَا وَهُوَ كَوْنُهُ مَشْغُولًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِأَدَاءِ بَقِيَّةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَيَجِبُ تَخْلِيصُ الْوَقْتِ لَهُ تَعْظِيمًا (وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا) إمَّا فِي الْإِحْرَامِ أَوْ فِي الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَةِ، قَالُوا: وَهَذَا دَمُ كَفَّارَةٍ أَيْضًا. وَقِيلَ إذَا حَلَقَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ لَا يَرْفُضُهَا عَلَى ظَاهِرِ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَقِيلَ يَرْفُضُهَا احْتِرَازًا عَنْ النَّهْيِ. .
أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ كُرِهَتْ الْعُمْرَةُ) وَجْهٌ آخَرُ فِي لُزُومِ الرَّفْضِ (عَلَى مَا نَذْكُرُ) إشَارَةً إلَى مَا يُذْكَرُ فِي بَابِ الْفَوَاتِ بِقَوْلِهِ الْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ إلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ يُكْرَهُ فِعْلُهَا فِيهَا.
وَقَوْلُهُ (وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا) أَيْ قَضَاءً لِلْمَرْفُوضَةِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إذَا أَفْسَدَهُ وَهُنَا يَلْزَمُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ فِيهِ تَحْصُلُ بِهِ الْمَعْصِيَةُ وَهِيَ تَرْكُ إجَابَةِ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُؤْمَرُ بِالْإِفْطَارِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَأَمَّا بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ لِلْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَا تَحْصُلُ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ أَدَاءُ أَفْعَالِهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ (وَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْعُمْرَةِ الَّتِي أَحْرَمَ لَهَا يَوْمَ النَّحْرِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَيْهِمَا: أَيْ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ (أَجْزَأَهُ) وَدَلِيلُهُ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا، إمَّا فِي الْإِحْرَامِ) يَعْنِي إنْ كَانَ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ (أَوْ فِي الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَةِ) يَعْنِي إذَا كَانَ بَعْدَ الْحَلْقِ، وَهَذَا يُرْشِدُك إلَى أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَلَى إطْلَاقِهِ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِمَا قَبْلَ الْحَلْقِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَبْلَ الْحَلْقِ فَفِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ أَوْ فِي الْأَعْمَالِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذُكِرَ بِكَلِمَةِ أَوْ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَقِيلَ إذَا حَلَقَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ يَلْزَمُهُ الرَّفْضُ مُطْلَقًا (وَقِيلَ إذَا حَلَقَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ لَا يَرْفُضُهَا عَلَى ظَاهِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ الرَّفْضَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَجَوَابُهُ فِي الْأَصْلِ مُشْتَبَهٌ ظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَرْفُضُهَا (وَقِيلَ يَرْفُضُهَا احْتِرَازًا عَنْ النَّهْيِ)
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا (فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ فَإِنَّهُ يَرْفُضُهَا)؛ لِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقَلِبَ إحْرَامُهُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك فِي بَابِ الْفَوَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْأَفْعَالُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ إحْرَامًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَدَمٌ لِرَفْضِهَا بِالتَّحَلُّلِ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
يَعْنِي النَّهْيَ عَنْ الْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كَمَا ذَكَرْنَا
(قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَمَشَايِخُنَا رحمهم الله: عَلَى هَذَا) الْقَوْلِ وَهُوَ رَفْضُ الْعُمْرَةِ. وَمَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَرْفُضُهَا: أَيْ لَا تُرْتَفَضُ مِنْ غَيْرِ رَفْضٍ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ) يَعْنِي فَائِتَ الْحَجِّ وَهُوَ مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا. أَمَّا إذَا كَانَتْ عُمْرَةً؛ فَلِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقَلِبَ إحْرَامُهُ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ لُزُومِ الرَّفْضِ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أُخْرَى، فَعِنْدَهُمَا يَرْفُضُهَا كَيْ لَا يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَرْفُضُهَا بَلْ يَمْضِي فِيهَا.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا يَأْتِيك) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَا قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقَلِبَ إحْرَامُهُ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مَذْكُورٍ هُنَاكَ. وَقَوْلُهُ (فَيَصِيرُ جَامِعًا) أَيْ فَائِتُ الْحَجِّ الَّذِي أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ يَصِيرُ جَامِعًا (بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ) أَفْعَالًا فَيَجِبُ أَنْ يَرْفُضَ الْعُمْرَةَ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَجَّةً فَإِنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ إحْرَامًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَدَمٌ لِرَفْضِهَا بِالتَّحَلُّلِ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بَابُ الْإِحْصَارِ
(وَإِذَا أُحْصِرَ الْمُحْرِمُ بِعَدُوٍّ أَوْ أَصَابَهُ مَرَضٌ فَمَنَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَكُونُ الْإِحْصَارُ إلَّا بِالْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ شُرِعَ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ؛ لِتَحْصِيلِ النَّجَاةِ وَبِالْإِحْلَالِ يَنْجُو مِنْ الْعَدُوِّ لَا مِنْ الْمَرَضِ. وَلَنَا أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ وَرَدَتْ فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ
بَابُ الْإِحْصَارِ)
لَمَّا كَانَ مِنْ الْإِحْصَارِ مَا هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الْمُحْرِمِ أَعْقَبَهُ بَابَ الْجِنَايَاتِ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أُحْصِرَ إذَا مَنَعَهُ خَوْفٌ أَوْ عَدُوٌّ أَوْ مَرَضٌ مِنْ الْوُصُولِ إلَى إتْمَامِ حَجَّتِهِ أَوْ عُمْرَتِهِ، وَإِذَا حَبَسَهُ سُلْطَانٌ أَوْ قَاهِرٌ مَانِعٌ يَقُولُونَ حُصِرَ، فَالْمُحْصَرُ مُحْرِمٌ مَمْنُوعٌ عَنْ الْمُضِيِّ إلَى إتْمَامِ أَفْعَالِ مَا أَحْرَمَ لِأَجْلِهِ (فَإِذَا أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ فَمُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ) وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله حُصِرَ الْإِحْصَارُ فِي الْعَدُوِّ وَقَالَ: الْمَرِيضُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ إحْرَامِهِ، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ إلَى أَنْ يَبْرَأَ (لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ شُرِعَ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ لِتَحْصِيلِ النَّجَاةِ) بِالْإِحْلَالِ وَالنَّجَاةُ بِالْإِحْلَالِ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الْعَدُوِّ وَلِأَنَّ مَا بِهِ مِنْ الْمَرَضِ لَا يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ، بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ فَإِنَّ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ فَيَنْدَفِعُ عَنْهُ شَرُّ عَدُوِّهِ (وَلَنَا أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ وَرَدَتْ فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ) وَإِذَا وَرَدَتْ فِيهِ كَانَتْ
وَالتَّحَلُّلُ قَبْلَ أَوَانِهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ، وَالْحَرَجُ فِي الِاصْطِبَارِ عَلَيْهِ مَعَ الْمَرَضِ أَعْظَمُ،
دَلَالَتُهُ عَلَى الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ أَقْوَى، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ كَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا تَعَلُّقَ لَهُمْ بِوُرُودِ الْآيَةِ وَسَبَبِ نُزُولِهَا. وَالثَّانِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم وَكَانَ الْإِحْصَارُ بِالْعَدُوِّ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَاهُ بِدَلَالَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَجْمَعُوا عَلَى مَعْنًى دَلَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ وَارِدَةً فِي الْإِحْصَارِ بِمَرَضٍ. وَعَنْ الثَّانِي بِمَا قِيلَ النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ مُطْلَقَةٌ يُعْمَلُ بِهَا عَلَى إطْلَاقِهَا مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ عَلَى الْأَسْبَابِ الْوَارِدَةِ هِيَ لِأَجْلِهَا.
وَقَوْلُهُ (وَالتَّحَلُّلُ قَبْلَ أَوَانِهِ) اسْتِدْلَالٌ بِمَعْقُولٍ فِيهِ شَائِبَةُ التَّنَزُّلِ كَأَنَّهُ قَالَ: سَلَّمْنَا أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ وَرَدَتْ فِي الْحَصْرِ بِالْعَدُوِّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِحْصَارِ وَالْحَصْرِ، لَكِنَّ الْمَرَضَ مُلْحَقٌ بِهِ بِالدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ قَبْلَ أَوَانِهِ (لِدَفْعِ الْحَرَجِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَجُ فِي الِاصْطِبَارِ عَلَى الْإِحْرَامِ مَعَ الْمَرَضِ أَعْظَمُ) لَا مَحَالَةَ لِكَثْرَةِ احْتِيَاجِهِ مُدَاوَاةً وَمُدَارَاةً إلَى مَا هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى
وَإِذَا جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ (يُقَالُ لَهُ ابْعَثْ شَاةً تُذْبَحُ فِي الْحَرَمِ وَوَاعِدْ مَنْ تَبْعَثُهُ بِيَوْمٍ بِعَيْنِهِ يَذْبَحُ فِيهِ ثُمَّ تَحَلَّلَ) وَإِنَّمَا يَبْعَثُ إلَى الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ قُرْبَةٌ، وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان عَلَى مَا مَرَّ فَلَا يَقَعُ قُرْبَةً دُونَهُ
الْإِحْرَامِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا جَازَ التَّحَلُّلُ) يَعْنِي إذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ جَوَازُ التَّحَلُّلِ لِلْمُحْصَرِ (يُقَالُ لَهُ ابْعَثْ شَاةً تُذْبَحُ فِي الْحَرَمِ وَوَاعِدْ مَنْ تَبْعَثُهُ بِيَوْمٍ بِعَيْنِهِ يُذْبَحُ فِيهِ ثُمَّ تَحَلَّلْ) وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمُوَاعَدَةِ لِيُعْرَفَ وَقْتُ الْإِحْلَالِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَدَمُ الْإِحْصَارِ فِي الْحَجِّ مُوَقَّتٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمُوَاعَدَةِ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْعُمْرَةِ، فَإِذَا بَعَثَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَقَامَ بِمَكَانِهِ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ الذَّهَابِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالِانْصِرَافِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: إنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ يُذْبَحُ فِيهِ ثُمَّ يَتَحَلَّلُ لِأَنَّهُ إذَا ظَنَّ الْمُحْصَرُ بِهِ ذَبْحَ هَدْيِهِ فَفَعَلَ مَا يَفْعَلُ الْحَلَالُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْبَحْ كَانَ عَلَيْهِ مَا عَلَى الَّذِي ارْتَكَبَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ لِبَقَاءِ إحْرَامِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ رحمه الله (وَإِنَّمَا يَبْعَثُ إلَى الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ قُرْبَةٌ وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان عَلَى مَا مَرَّ) فَدَمُ الْإِحْصَارِ لَا يُعْرَفُ قُرْبَةً بِدُونِ أَحَدِ هَذَيْنِ
فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَإِنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً وَالتَّوْقِيتُ يُبْطِلُ التَّخْفِيفَ. قُلْنَا: الْمُرَاعَى أَصْلُ التَّخْفِيفِ لَا نِهَايَتُهُ،
فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ) وَقَدْ عَيَّنَ الشَّارِعُ الْمَكَانَ بِإِشَارَةٍ (قَوْلُهُ {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَإِنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لَمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ) وَالْمَحِلُّ بِالْكَسْرِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ كَالْمَسْجِدِ وَالْمَجْلِسِ، نَهْيٌ عَنْ الْحَلْقِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَوْضِعَ حِلِّهِ، ثُمَّ فُسِّرَ الْمَحِلُّ بِقَوْلِهِ ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَيْنَ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ لَا تُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ فَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمَ، وَهَذَا وَاضِحٌ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَتَوَقَّتُ بِالْحَرَمِ لِأَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً وَالتَّوْقِيتُ يُبْطِلُ التَّخْفِيفَ. قُلْنَا: الْمُرَاعَى أَصْلُ التَّخْفِيفِ لَا نِهَايَتُهُ) وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ التَّخْفِيفَ مَتَى لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ بَلْ يَبْقَى مُحْرِمًا أَبَدًا،؛ وَلِأَنَّ
وَتَجُوزُ الشَّاةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَالشَّاةُ أَدْنَاهُ، وَتُجْزِيهِ الْبَقَرَةُ وَالْبَدَنَةُ أَوْ سُبْعُهُمَا كَمَا فِي الضَّحَايَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا ذَكَرْنَا بَعْثَ الشَّاةِ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَعَذَّرُ، بَلْ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِالْقِيمَةِ حَتَّى تُشْتَرَى الشَّاةُ هُنَالِكَ وَتُذْبَحَ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ ثُمَّ تَحَلَّلَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ «؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ مُحْصَرًا بِهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ رضي الله عنهم بِذَلِكَ» . وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ إنَّمَا عُرِفَ قُرْبَةً مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَا يَكُونُ نُسُكًا قَبْلَهَا وَفَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لِيُعَرِّفَ اسْتِحْكَامَ عَزِيمَتِهِمْ عَلَى الِانْصِرَافِ.
نِهَايَتَهُ لَوْ كَانَتْ مُرَاعَاةً لَتَحَلَّلَ فِي الْحَالِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ رحمه الله وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ.
وَقَوْلُهُ (وَتَجُوزُ الشَّاةُ) ظَاهِرٌ، وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجِدُ قِيمَةَ شَاةٍ أَقَامَ حَرَامًا حَتَّى يَطُوفَ وَيَسْعَى كَمَا يَفْعَلُهُ فَائِتُ الْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ ذَلِكَ) أَيْ الْحَلْقُ (وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ مُحْصَرًا بِهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ» فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِمَا أَنَّ مُجَرَّدَ فِعْلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فِي الَّذِي لَا يُفْعَلُ قُرْبَةً دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَكَيْفَ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَأَيْنَ دَلِيلُهُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهَا رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ، وَفِي أُخْرَى وَاجِبٌ. وَالْمُصَنِّفُ أَوْرَدَ دَلِيلَ رِوَايَةِ الْوُجُوبِ وَلَمْ يُورِدْ دَلِيلَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ دَلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَصْلُحُ دَلِيلًا لَهَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ إنَّمَا عُرِفَ قُرْبَةً) يَعْنِي أَنَّ كَوْنَ الْحَلْقِ قُرْبَةً عُرِفَ بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُرَاعَى فِيهِ جَمِيعُ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ مِنْ الْأَوْصَافِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا كَوْنُهُ (مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ) فَلَا يَكُونُ فِي غَيْرِ الْمُرَتَّبِ قُرْبَةٌ، وَأَمَّا حَلْقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فَلِيَعْرِفَ الْمُشْرِكُونَ اسْتِحْكَامَ عَزِيمَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِانْصِرَافِ فَيَأْمَنُوا جَانِبَهُمْ وَلَا يَشْتَغِلُوا بِمَكِيدَةٍ أُخْرَى بَعْدَ الصُّلْحِ.
(وَإِنْ كَانَ قَارِنًا بَعَثَ بِدَمَيْنِ) لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّحَلُّلِ مِنْ إحْرَامَيْنِ، فَإِنْ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ عَنْ الْحَجِّ وَيَبْقَى فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَتَحَلَّلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْهُمَا شُرِعَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
(وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ الْإِحْصَارِ إلَّا فِي الْحَرَمِ، وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ لِلْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَيَجُوزُ لِلْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ) اعْتِبَارًا بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، وَرُبَّمَا يَعْتَبِرَانِهِ بِالْحَلْقِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَلَّلٌ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
قَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ) الْمُحْصَرُ (قَارِنًا بَعَثَ بِدَمَيْنِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامَيْهِ، فَإِنْ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ عَنْ الْحَجِّ وَيَبْقَى فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَتَحَلَّلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْهُمَا شُرِعَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» وَبِالْهَدْيِ الْوَاحِدِ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُمَا فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ أَصْلًا. فَإِنْ قِيلَ: دَمُ الْإِحْصَارِ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَلْقِ فِي التَّحَلُّلِ وَالْقَارِنُ يَتَحَلَّلُ بِحَلْقٍ وَاحِدٍ عَنْ الْإِحْرَامَيْنِ فَمَا بَالُهُ لَا يَتَحَلَّلُ عَنْهُمَا بِهَدْيٍ وَاحِدٍ؟ أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا صَارَ قُرْبَةً بِسَبَبِ التَّحَلُّلِ فَكَانَ قُرْبَةً لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ كَالْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ فَيَنُوبُ الْوَاحِدُ عَنْ الِاثْنَيْنِ كَالطَّهَارَةِ الْوَاحِدَةِ تَكْفِي لِصَلَوَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَأَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِلتَّحَلُّلِ إلَّا أَنَّهُ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِدُونِ التَّحَلُّلِ وَلِهَذَا جَازَ النَّذْرُ بِهِ، وَمَا هُوَ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهِ لَا يَنُوبُ الْوَاحِدُ فِيهِ عَنْ الِاثْنَيْنِ كَأَفْعَالِ الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْحَلْقَ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ قُرْبَةً بِسَبَبِ التَّحَلُّلِ. فَإِنْ تَكَرَّرَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّحَلُّلُ وَاقِعًا بِالْأَوَّلِ أَوْ بِالثَّانِي، فَإِنْ وَقَعَ بِالْأَوَّلِ كَانَ الثَّانِي لَغْوًا، وَإِنْ وَقَعَ بِالثَّانِي كَانَ الْأَوَّلُ جِنَايَةً، فَأَمَّا الذَّبْحُ فَلَيْسَ بِمَحْظُورِ الْإِحْرَامِ فَصَحَّ الْجَمْعُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ الْإِحْصَارِ إلَّا فِي الْحَرَمِ) إنَّمَا أَعَادَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِيَجْعَلَهَا تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ زِيَادَةً فِي بَيَانِ أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ أَعْرَفُ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْمَكَانِ حَيْثُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَصْحَابُنَا مِنْ اخْتِصَاصِهِ بِالزَّمَانِ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ) تَعْلِيلُ عَدَمِ جَوَازِ الذَّبْحِ لِلْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَيَجُوزُ لِلْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ) فَبِالِاتِّفَاقِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَعْلِيلٍ (وَرُبَّمَا يَعْتَبِرَانِهِ بِالْحَلْقِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَلِّلٌ) فَكَمَا لَمْ يَجُزْ الْحَلْقُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَكَذَلِكَ الذَّبْحُ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ)
رحمه الله أَنَّهُ دَمُ كَفَّارَةٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْأَكْلُ مِنْهُ فَيَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ كَسَائِرِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ، بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ، وَبِخِلَافِ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَانِهِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ يَنْتَهِي بِهِ.
قَالَ: (وَالْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم، وَلِأَنَّ الْحَجَّةَ
ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ) جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِمَا صُورَةَ النِّزَاعِ بِهِمَا (لِأَنَّهُ) أَيْ دَمَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ (دَمُ نُسُكٍ) وَمَا هُوَ دَمُ نُسُكٍ يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ فَكَذَا هَذَا. وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ الْحَلْقِ) جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِمَا الْآخَرِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ التَّحَلُّلَ عَلَى نَوْعَيْنِ: تَحَلُّلٌ فِي أَوَانِهِ وَهُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى أَفْعَالِ مَا أَحْرَمَ لِأَجْلِهِ، وَتَحَلُّلٌ قَبْلَ أَوَانِهِ وَهُوَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّوْقِيتِ بِيَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ (وَهُوَ يَنْتَهِي بِهِ) أَيْ بِوَقْتِ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ يَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ الْحَلْقُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَدَاءِ الْأَفْعَالِ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى التَّوْقِيتِ بِيَوْمِ النَّحْرِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الثَّانِي فَكَانَ قِيَاسُهُ عَلَى الْأَوَّلِ قِيَاسًا مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ وَهُوَ بَاطِلٌ. قَالَ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ زَمَانٍ، فَاشْتِرَاطُهُ بِالْقِيَاسِ نَسْخٌ.
قَالَ (وَالْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم) قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيُحْلِلْ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» وَالْحَدِيثُ عَامٌّ فِي الَّذِي فَاتَهُ الْحَجُّ بِفَوَاتِ وَقْتِ الْوُقُوفِ وَفَوَاتُهُ بِالْإِحْصَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقُلْنَا بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَأَمَّا الْحَجَّةُ فَإِنَّهَا تَجِبُ قَضَاءً لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: الْعُمْرَةُ فِي فَائِتِ الْحَجِّ لِلتَّحَلُّلِ، وَالتَّحَلُّلُ هَاهُنَا حَصَلَ بِالْهَدْيِ فَلَا حَاجَةَ إلَى
يَجِبُ قَضَاؤُهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَالْعُمْرَةُ لِمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ (وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ الْقَضَاءُ) وَالْإِحْصَارُ عَنْهَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: لَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّتُ. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَأَصْحَابَهُ رضي الله عنهم أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا عُمَّارًا؛ وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّحَلُّلِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِحْصَارُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا تَحَلَّلَ كَمَا فِي الْحَجِّ.
(وَعَلَى الْقَارِنِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ)
إيجَابِ الْعُمْرَةِ. قُلْنَا: هَذَا رَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لِمَا رَوَى سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: حَسْبُكُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنْ الْبَيْتِ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا» .
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ الْقَضَاءُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِحْصَارَ عَنْ الْعُمْرَةِ مُتَصَوَّرٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْعُمْرَةِ (لِأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّتُ. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا عُمَّارًا) صَحَّ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ أُحْصِرُوا بِالْعُمْرَةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَقَضَوْهَا مِنْ قَابِلٍ وَكَانَتْ تُسَمَّى عُمْرَةَ الْقَضَاءِ (؛ وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ مَشْرُوعٌ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِحْصَارُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا تَحَلَّلَ كَمَا فِي الْحَجِّ)
(وَعَلَى الْقَارِنِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ أَمَّا
أَمَّا الْحَجُّ وَإِحْدَاهُمَا فَلِمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ مُخْرَجٌ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا.
(فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوهُ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ، فَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ وَالْهَدْيَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ بَلْ يَصْبِرَ حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِنَحْرِ الْهَدْيِ) لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّوَجُّهِ وَهُوَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ
الْحَجُّ وَإِحْدَاهُمَا فَلِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي فِي الْمُفْرِدِ مِنْ كَوْنِهِ بِمَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ (وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا)
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: ذِكْرُ الْقَارِنِ هَاهُنَا وَقَعَ غَلَطًا ظَاهِرًا مِنْ النَّاسِخِ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْمُحْصَرُ. وَبَيَانُ الْغَلَطِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ذَكَرَ فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا وَيَجِبُ عَلَى الْقَارِنِ بَعْثُ الْهَدْيَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ بِالْوَاحِدِ لِأَنَّهُ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنْ كَانَ قَارِنًا بَعَثَ بِدَمَيْنِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَمَعَ بَيْنَ رِوَايَتَيْ الْقُدُورِيِّ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ. وَأَقُولُ: لَمَّا كَانَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ قَبْلَ هَذَا فِي الْقَارِنِ لَمْ يُرِدْ فَكَّ النَّظْمِ فَقَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا، وَالْهَدْيُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ دَمَيْنِ أَوْ دَمًا وَاحِدًا أَوْ ثَوْبًا، وَكَانَ ذَكَرَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ دَمَانِ وَهُمَا هَدْيُ الْقَارِنِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ دَمَيْنِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، وَلَا هُوَ غَلَطٌ فِي الْكَلَامِ وَلَا مَنْ نَسَخَهُ، بَلْ رُبَّمَا لَوْ قَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْمُحْصَرُ كَانَ مُلَبِّسًا فِي حَقِّ الْقَارِنِ، وَلَوْ قَالَ هَدْيَيْنِ كَانَ غَيْرَ فَصِيحٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِجِنْسِ مَا يُهْدَى فَلَا يُثَنَّى إلَّا إذَا قَصَدَ الْأَنْوَاعَ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ أَوْ الْعَدَدَ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِمَّا تَقَدَّمَ فَلِهَذَا قَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا (وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوهُ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ) ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا وُجُوهًا أَرْبَعَةً بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ لَا يُدْرِكَ الْحَجَّ وَالْهَدْيَ أَوْ يُدْرِكَهُمَا أَوْ يُدْرِكَ الْهَدْيَ دُونَ الْحَجِّ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَالْكُلُّ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ. فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ (لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ بَلْ يَصِيرُ حَتَّى يَحِلَّ بِنَحْرِ الْهَدْيِ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّوَجُّهِ وَهُوَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ) فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ وَجَبَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالتَّوَجُّهِ وَالتَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ حَتْمًا كَفَائِتِ الْحَجِّ. أُجِيبَ بِأَنَّ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ فِي حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّحَلُّلُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لَهُ بِالْهَدْيِ الَّذِي بَعَثَهُ
(وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْحَجَّ وَالْهَدْيَ لَزِمَهُ التَّوَجُّهُ) لِزَوَالِ الْعَجْزِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ، وَإِذَا أَدْرَكَ هَدْيَهُ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَقَدْ كَانَ عَيَّنَهُ لِمَقْصُودٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ (وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْهَدْيَ دُونَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ) لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَصْلِ (وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْحَجَّ دُونَ الْهَدْيِ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ) اسْتِحْسَانًا، وَهَذَا التَّقْسِيمُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُمَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ، فَمَنْ يُدْرِكُ الْحَجَّ يُدْرِكُ الْهَدْيَ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَفِي الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ يَسْتَقِيمُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِعَدَمِ تَوَقُّتِ الدَّمِ بِيَوْمِ النَّحْرِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رحمه الله أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْحَجُّ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، وَهُوَ الْهَدْيُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ التَّوَجُّهُ لَضَاعَ مَالُهُ؛ لِأَنَّ الْمَبْعُوثَ عَلَى يَدَيْهِ الْهَدْيُ يَذْبَحُهُ وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ، وَلَهُ الْخِيَارُ
لِيُنْحَرَ عَنْهُ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ بِذَلِكَ ثُمَّ يَقْضِيَ الْعُمْرَةَ، وَلَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ (لِزَوَالِ الْعَجْزِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ) كَالْمُكَفِّرِ بِالصَّوْمِ إذَا أَيْسَرَ قَبْلَ إتْمَامِ الْكَفَّارَةِ بِهِ (وَإِذَا أَدْرَكَ هَدْيَهُ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَقَدْ كَانَ عَيَّنَهُ لِمَقْصُودٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ) وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَتَحَلَّلُ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَصْلِ، وَفِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ (وَهَذَا التَّقْسِيمُ) يَعْنِي الْوَجْهَ الرَّابِعَ (لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ) عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ خَوْفَ النَّفْسِ كَانَ عُذْرًا لَهُ فِي التَّحَلُّلِ فَكَذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى مَالِهِ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتَوَجَّهَ. فَإِنْ قُلْت: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالْأُصُولِيُّونَ أَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ، فَإِذَا أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ غَيْرِهِ جَازَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مُبْتَذَلٌ فَأَيْنَ يُمَاثِلُ الْمَالِكُ الْمُبْتَذَلَ، وَلَكِنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ تُشْبِهُ حُرْمَةَ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُ إتْلَافِهِ ظُلْمًا لِقِيَامِ عِصْمَةِ صَاحِبِهِ فِيهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِكَافِ التَّشْبِيهِ، فَإِنَّ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لَا تَقْتَضِي اتِّحَادَهُمَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ وَإِلَّا لَارْتَفَعَ التَّشْبِيهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُ الْخِيَارُ) يَعْنِي عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ، لَمَا جَازَ
إنْ شَاءَ صَبَرَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ فِي غَيْرِهِ؛ لِيُذْبَحَ عَنْهُ فَيَتَحَلَّلُ، وَإِنْ شَاءَ تَوَجَّهَ لِيُؤَدِّيَ النُّسُكَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالْإِحْرَامِ وَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ (وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا) لِوُقُوعِ الْأَمْنِ عَنْ الْفَوَاتِ.
(وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ فَهُوَ مُحْصَرٌ)؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ فَصَارَ كَمَا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ (وَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ) أَمَّا عَلَى الطَّوَافِ فَلِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِهِ وَالدَّمُ بَدَلٌ عَنْهُ فِي التَّحَلُّلِ، وَأَمَّا عَلَى الْوُقُوفِ فَلِمَا بَيَّنَّا، وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
لَهُ التَّحَلُّلُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ (إنْ شَاءَ صَبَرَ) إلَى أَنْ يُنْحَرَ عَنْهُ الْهَدْيُ فِي الْمِيعَادِ فَيَتَحَلَّلَ (وَإِنْ شَاءَ تَوَجَّهَ لِأَدَاءِ النُّسُكِ) لِزَوَالِ الْعَجْزِ (وَهُوَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ، وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا)؛ لِأَنَّ سَبَبَ حُكْمِ الْإِحْصَارِ خَوْفُ الْفَوَاتِ وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْنُ عَنْهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» لَكِنَّهُ مُحَرَّمٌ عَنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ. وَعَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ: دَمٌ لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَدَمٌ لِتَرْكِ رَمْيِ الْجِمَارِ. وَدَمٌ لِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ. وَدَمٌ لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ. وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ وَالْحَلْقِ شَيْءٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ازْدِيَادَ مُدَّةِ الْإِحْرَامِ يُثْبِتُ حُكْمَ الْإِحْصَارِ كَمَا فِي إحْصَارِ الْعُمْرَةِ وَهَاهُنَا قَدْ ازْدَادَتْ فَلْيَثْبُتْ حُكْمُهُ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ إلَّا فِي حَقِّ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهُ بَعْضُ الدِّمَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعُذْرُ الْمُوجِبُ لِلتَّحَلُّلِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (فَلِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ (خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ)
تَعَالَى وَالصَّحِيحُ مَا أَعْلَمْتُك مِنْ التَّفْصِيلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
بَابُ الْفَوَاتِ
(وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ)؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ يَمْتَدُّ إلَيْهِ (وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَتَحَلَّلَ وَيَقْضِيَ الْحَجَّ مِنْ قَابِلٍ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ)؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» وَالْعُمْرَةُ لَيْسَتْ إلَّا الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ،
وَهُوَ مَا ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْمُحْرِمِ يُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ فَقَالَ: لَا يَكُونُ مُحْصَرًا، فَقُلْت: أَلَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ؟ فَقَالَ: إنَّ مَكَّةَ يَوْمئِذٍ كَانَتْ دَارَ الْحَرْبِ وَأَمَّا الْيَوْمُ فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ فِيهَا. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: إذَا غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى مَكَّةَ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَهُوَ مُحْصَرٌ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ) مِنْ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ يَكُونُ مُحْصَرًا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مُحْصَرًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (مَا أَعْلَمْتُك مِنْ التَّفْصِيلِ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ الْفَوَاتِ)
مَعْنَى الْإِحْصَارِ مِنْ الْفَوَاتِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْمُفْرَدِ مِنْ الْمُرَكَّبِ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَارَ إحْرَامٌ بِلَا أَدَاءً فِي الْفَوَاتِ إحْرَامٌ وَأَدَاءٌ فَلَا جَرَمَ آثَرَ تَأْخِيرَهُ. (قَوْلُهُ وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَاتَهُ الْوُقُوفُ) ظَاهِرٌ.
وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَمَا انْعَقَدَ صَحِيحًا لَا طَرِيقَ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ، وَهَاهُنَا عَجَزَ عَنْ الْحَجِّ فَتَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ وَقَعَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَتْ فِي حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
(وَالْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ إلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ يُكْرَهُ فِيهَا فِعْلُهَا،
وَقَوْلُهُ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَمَا انْعَقَدَ صَحِيحًا) أَيْ نَافِذًا لَازِمًا لَا يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ، فَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ إحْرَامِ الرَّقِيقِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ لِلْمَوْلَى وَالزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَاهُمَا وَلَيْسَ بِاحْتِرَازٍ عَنْ الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ، كَمَا إذَا جَامَعَ الْمُحْرِمُ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَوْ أَحْرَمَ مُجَامِعًا فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ.
وَقَوْلُهُ (لَا طَرِيقَ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ) مَنْقُوضٌ بِالْمُحْصَرِ فَإِنَّ الْهَدْيَ طَرِيقٌ لَهُ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ بَنَى الْكَلَامَ عَلَى مَا هُوَ الْوَضْعُ وَمَسْأَلَةُ الْإِحْصَارِ مِنْ الْعَوَارِضِ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ) أَيْ الْمُبْهَمِ مِنْ النُّسُكَيْنِ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ بِأَنْ أَبْهَمَ فِي الْإِحْرَامِ وَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَلَمْ يُعَيِّنْ حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً وَلَمْ يَنْوِ بِقَلْبِهِ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ إحْرَامُهُ وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ، لَكِنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِي الْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ الْعُمْرَةُ لِأَنَّهَا أَقَلُّ أَفْعَالًا وَأَيْسَرُ مَئُونَةً (وَهَاهُنَا عَجَزَ عَنْ الْحَجِّ) لِفَوَاتِ رُكْنِهِ الْأَعْظَمِ (فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ) فَكَانَ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ الْخُرُوجُ عَنْ الْإِحْرَامِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا دَمَ عَلَيْهِ) يَعْنِي عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّهُ يُوجِبُ الدَّمَ عَلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى الْمُحْصَرِ. وَقُلْنَا: التَّحَلُّلُ وَقَعَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَتْ فِي حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُقَاسُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرٌ وَعَاجِزٌ عَلَى مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْآخَرُ وَعَمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ
وَقَوْلُهُ (وَالْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ) أَيْ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ (وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ) يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَهِيَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَكْرَهُ الْعُمْرَةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ الْحَجِّ فَكَانَتْ مُتَعَيِّنَةً لَهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ وَقْتِ رُكْنِ الْحَجِّ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا قَبْلَهُ، وَالْأَظْهَرُ مِنْ الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ أَدَّاهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ صَحَّ وَيَبْقَى مُحْرِمًا بِهَا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِغَيْرِهَا وَهُوَ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْحَجِّ وَتَخْلِيصُ وَقْتِهِ لَهُ
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ عُمَرُ يَنْهَى عَنْهَا وَيَقُولُ: الْحَجُّ فِي الْأَشْهُرِ وَالْعُمْرَةُ فِي غَيْرِهَا أَكْمَلُ لِحَجِّكُمْ وَعُمْرَتِكُمْ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهَا بِلَا كَرَاهَةٍ بِدَلِيلِ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِإِسْنَادِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَرْبَعَ عُمَر إلَّا الَّتِي اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ» ". وَأَمَّا كَرَاهَتُهَا فِي الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ فَهِيَ مَذْهَبُنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تُكْرَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْأَظْهَرُ مِنْ الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ.
(وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ كَفَرِيضَةِ الْحَجِّ» وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْحَجُّ فَرِيضَةٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» ؛ وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ وَتَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهَا كَمَا فِي فَائِتِ الْحَجِّ، وَهَذِهِ أَمَارَةُ النَّفْلِيَّةِ.
كَرَاهَةَ الْعُمْرَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ
وَقَوْلُهُ (وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ) أَيْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ وَتَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهَا كَمَا فِي فَائِتِ الْحَجِّ وَهَذِهِ أَمَارَةُ النَّفْلِيَّةِ) اسْتَشْكَلَ بِالْإِيمَانِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَإِنَّهُمَا فَرْضَانِ وَلَيْسَا بِمُؤَقَّتَيْنِ، وَبِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهِ وَهُوَ فَرْضٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّا قَدْ قُلْنَا إنَّ كُلَّ مَا هُوَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ وَنَعْنِي بِذَلِكَ مَا هُوَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَوْقَاتِ الْعُمْرِ إذَا وَقَعَ فِيهِ انْتَفَى الْفَرْضِيَّةُ، وَالْإِيمَانُ فَرْضٌ دَائِمٌ فَلَا يَرِدُ نَقْضًا وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتِ حُضُورِهَا، وَإِنَّ الْكَلَامَ فِيمَا يَكُونُ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ وَصَوْمُ رَمَضَانَ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَقُولُ: مَنْشَأُ هَذَا الِاسْتِشْكَالِ الذُّهُولُ عَنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ مَجْمُوعَ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ وَتَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهَا أَمَارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَهَذِهِ أَمَارَةُ النَّفْلِيَّةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، أَمَّا الْإِيمَانُ فَلِأَنَّهُ لَا غَيْرُ
وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِأَعْمَالٍ كَالْحَجِّ إذْ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ مَعَ التَّعَارُضِ فِي الْآثَارِ.
ثَمَّةَ حَتَّى يَتَأَدَّى بِنِيَّتِهِ إذْ هُوَ لَا يَتَنَوَّعُ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَلِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ.
وَقَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ» (أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِأَعْمَالٍ كَالْحَجِّ أَوْ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ مَعَ التَّعَارُضِ فِي الْآثَارِ) فَإِنَّ مَا رُوِيَ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ وَمَا رَوَيْنَاهُ عَلَى كَوْنِهَا سُنَّةً، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْآثَارُ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} عَطَفَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ، وَالْحَجُّ فَرِيضَةٌ، وَأَمَرَ بِالْإِتْمَامِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ
قَالَ (وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ
الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ، وَالْأَمْرُ إنَّمَا هُوَ بِالْإِتْمَامِ، وَالْإِتْمَامُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الشُّرُوعِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الِابْتِدَاءِ سُنَّةً. وَقَوْلُهُ (وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ) ظَاهِرٌ.
الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ غَيْرَهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لِمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ
بَابُ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ)
:
لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِي التَّصَرُّفَاتِ أَنْ تَقَعَ عَمَّنْ تَصْدُرُ مِنْهُ كَانَ الْحَجُّ عَنْ الْغَيْرِ خَلِيقًا بِأَنْ يُؤَخَّرَ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ صَلَّى أَوْ صَامَ أَوْ تَصَدَّقَ فَجَعَلَ ثَوَابَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ جَازَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} وَهَذَا لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ،؛ وَلِأَنَّ الثَّوَابَ هُوَ الْجَنَّةُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ تَمْلِيكُهَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لَهَا. وَقُلْنَا: لَمَّا جَعَلَ سَعْيَهُ لِلْغَيْرِ صَارَ سَعْيُهُ كَسَعْيِ الْغَيْرِ، وَلَهُ وِلَايَةُ أَنْ يَصِيرَ سَاعِيًا لِغَيْرِهِ وَأَنْ يَجْعَلَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْجَنَّةِ لِغَيْرِهِ. وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا فَقَوْلُهُ (الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ) إشَارَةً إلَى أَنَّ ثَوَابَ الْحَجِّ لِلْآمِرِ بِجَعْلِ الْمَأْمُورِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا نَفْسُ الْحَجِّ هَلْ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ أَوْ عَنْ الْمَأْمُورِ فَيَذْكُرُ بُعَيْدَ هَذَا مَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَغَيْرُهُ.
وَقَوْلُهُ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ) يُقَالُ كَبْشٌ أَمْلَحُ فِيهِ مُلْحَةٌ: وَهِيَ بَيَاضٌ
وَالْآخَرَ عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ أَقَرَّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ» جَعَلَ تَضْحِيَةَ إحْدَى الشَّاتَيْنِ لِأُمَّتِهِ.
وَالْعِبَادَاتُ أَنْوَاعٌ: مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ كَالزَّكَاةِ، وَبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ كَالصَّلَاةِ، وَمُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا كَالْحَجِّ، وَالنِّيَابَةُ تَجْرِي فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي حَالَتَيْ الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ
يَشُوبُهُ شَعَرَاتٌ سُودٌ وَهِيَ مِنْ لَوْنِ الْمِلْحِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (فِي حَالَتَيْ الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ) أَيْ حَالَةِ
لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِفِعْلِ النَّائِبِ، وَلَا تَجْرِي فِي النَّوْعِ الثَّانِي بِحَالٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ إتْعَابُ النَّفْسِ لَا يَحْصُلُ بِهِ، وَتَجْرِي فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ عِنْدَ الْعَجْزِ لِلْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ الْمَشَقَّةُ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ، وَلَا تَجْرِي عِنْدَ الْقُدْرَةِ لِعَدَمِ إتْعَابِ النَّفْسِ، وَالشَّرْطُ الْعَجْزُ الدَّائِمُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ، وَفِي الْحَجِّ النَّفْلِ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ حَالَةَ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ بَابَ النَّفْلِ أَوْسَعُ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ
الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ (لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ) وَهِيَ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى الْفُقَرَاءِ. وَقَوْلُهُ (لَا يَحْصُلُ بِهِ) أَيْ بِفِعْلِ النَّائِبِ. وَقَوْلُهُ (وَهِيَ الْمَشَقَّةُ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ) يَعْنِي أَنَّ الْمَرْءَ كَمَا تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ عِنْدَ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ تَلْحَقُهُ أَيْضًا عِنْدَ فِعْلِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ بِمَالِهِ (وَالشَّرْطُ الْعَجْزُ الدَّائِمُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ) وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَكِلْتَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ ظَاهِرَةٌ، فَالْحَجُّ لَا يَتَعَيَّنُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَجْزُ دَائِمِيًّا وَقَدْ أَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ زَالَ عَنْهُ الْعَجْزُ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَصْلِهِ فِي وَقْتِهِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ النِّيَابَةَ. فَإِنْ قِيلَ: الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ تُبْطِلُ الْخَلَفَ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْخَلَفِ وَهُوَ حُصُولُ الْمَشَقَّةِ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّا لَمْ نَسْلُكْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْلَكَ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا بِأَنَّ الْحَجَّ مُرَكَّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ وَالْآخَرُ لَا يَحْتَمِلُهَا، فَعَمِلْنَا بِأَحَدِهِمَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ فَلَمْ نُجَوِّزْ النِّيَابَةَ وَبِالْآخَرِ عِنْدَ الْعَجْزِ فَجَوَّزْنَاهَا، لَكِنْ شَرَطْنَا لِكَوْنِهِ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْعَجْزِ دَائِمِيًّا لِمَا مَرَّ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ كَوْنَهُ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَجْزِ الدَّائِمِ لِتَخَلُّفِهِ عَنْهُ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْفِدْيَةِ لِلشَّيْخِ الْفَانِي عَنْ الصَّوْمِ وَالصَّوْمُ لَيْسَ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّلِيلَ يَسْتَلْزِمُ الْمَدْلُولَ وَلَا يَنْعَكِسُ، فَكُلُّ مَا كَانَ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَجْزُ الدَّائِمُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَجْزُ الدَّائِمُ
وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابِ كَحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيهِ «حُجِّي عَنْ أَبِيكِ وَاعْتَمِرِي» .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله: أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ، وَلِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ أُقِيمَ
تَكُونُ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ.
وَقَوْلُهُ وَفِي الْحَجِّ النَّفْلِ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ) ظَاهِرٌ (ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ) يَعْنِي الْأَمْرَ (وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ)«فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ حِينَ قَالَتْ إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِينِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْ أَبِيك وَاعْتَمِرِي» (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ) يَعْنِي الْمَأْمُورَ (وَلِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ) وَصَارَ إنْفَاقُ الْمَأْمُورِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كَإِنْفَاقِ الْآمِرِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ يَسْقُطُ أَصْلُ الْحَجِّ عَنْ الْآمِرِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ حَصَلَ الْعَجْزُ عَنْ فِعْلِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ قَامَ الْإِنْفَاقُ فِيهِ مَقَامَ الْفِعْلِ كَمَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي، فَإِنَّهُ لَمَّا عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ قَامَتْ الْفِدْيَةُ مَقَامَ الصَّوْمِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَإِنْ قِيلَ: الْفِدْيَةُ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِهَا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، فَإِنَّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْإِنْفَاقَ إذَا قَامَ مَقَامَ الصَّوْمِ وَهُوَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ فَلَأَنْ يَقُومَ مَقَامَ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْبَدَنِيِّ وَالْمَالِيِّ أَوْلَى. قَالَ
الْإِنْفَاقُ مُقَامَهُ كَالْفِدْيَةِ فِي بَابِ الصَّوْمِ.
قَالَ (وَمَنْ أَمَرَهُ رَجُلَانِ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَجَّةً فَأَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا فَهِيَ عَنْ الْحَاجِّ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ)
شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ عَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ.
قَالَ (وَمَنْ أَمَرَهُ رَجُلَانِ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ، وَذَهَبَ الشَّارِحُونَ إلَى أَنَّ الدَّلِيلَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمَدْلُولِ؛ لِأَنَّ الْمَدْلُولَ قَوْلُهُ (فَهِيَ) أَيْ الْحَجَّةُ (عَنْ الْحَاجِّ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ)
لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْحَاجُّ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ أَنْ يُخْلِصَ الْحَجَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ، وَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَيَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَجَّ عَنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِجَعْلِ ثَوَابِ عَمَلِهِ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا فَيَبْقَى عَلَى خِيَارِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ سَبَبًا لِثَوَابِهِ، وَهُنَا يَفْعَلُ بِحُكْمِ الْآمِرِ، وَقَدْ خَالَفَ أَمْرَهُمَا فَيَقَعُ عَنْهُ.
وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ إنْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا لِأَنَّهُ صَرَفَ نَفَقَةَ الْآمِرِ إلَى حَجِّ نَفْسِهِ،
وَدَلِيلُهُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ وَلَا مُطَابَقَةَ بَيْنَهُمَا كَمَا تَرَى. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ تَعْلِيلُ حُكْمٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِأَنَّهُ خَالَفَهُمَا، وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ إذَا وَافَقَ أَمْرَ الْآمِرِ (؛ لِأَنَّ الْحَجَّ) حِينَئِذٍ (يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْحَاجُّ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ) وَهَاهُنَا قَدْ خَالَفَ فَلَا يَقَعُ الْحَجُّ عَنْ الْآمِرِ بَلْ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ، فَكَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ تَعْلِيلًا لِمَا إذَا وَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الْآمِرِ وَهُوَ فِي صُورَةِ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الْمَأْمُورِ لِلْآمِرِ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ، وَلَا إخَالُ ذَلِكَ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ هَذَا (وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ إنْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا لِأَنَّهُ صَرَفَ نَفَقَةَ الْآمِرِ إلَى حَجِّ نَفْسِهِ) فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُرَادَهُ كَانَ هَذَا مُسْتَدْرَكًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: زَلَّ فِيهِ أَقْدَامُ الشَّارِحِينَ حَيْثُ لَمْ يَفْهَمُوا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ وَقَالُوا: لَا مُطَابَقَةَ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ، وَلَا يُوَافِقُ التَّعْلِيلَ الْمُدَّعَى، وَنَقَلَ تَقْرِيرَ الْكَلَامِ كَمَا قُلْنَا ثُمَّ قَالَ: فَأَقُولُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوا وَلَوْ سَكَتُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَكَانَ أَوْلَى، بَلْ الْمُطَابَقَةُ حَاصِلَةٌ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ بِأَنْ يُقَالَ هِيَ عَنْ الْحَاجِّ: أَيْ الْحَجَّةُ تَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ وَهُوَ الْمَأْمُورُ، وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْحَجَّ الْمُؤَدَّى فِي هَذِهِ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ مِنْ وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَاجَّ لَا يَخْرُجُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْآمِرَيْنِ أَمَرَ بِأَنْ يُخْلَصَ لَهُ الْحَجُّ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالِاشْتِرَاكِ، فَلَمَّا نَوَى عَنْهُمَا جَمِيعًا خَالَفَ الْآمِرَ فَوَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الْحَاجِّ وَضَمِنَ النَّفَقَةَ لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ هَذَا كَلَامُهُ وَلَا أَزِيدُ عَلَى الْحِكَايَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ: وَأَقُولُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى: فِي تَقْرِيرِ كَلَامِهِ الْحَجُّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْحَاجُّ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْكِنُ هَاهُنَا إيقَاعُهُ عَنْ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ شَخْصَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ أَنْ يُخْلِصَ الْحَجَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَقَعُ عَنْهُمَا وَلَا عَنْ أَحَدِهِمَا فَيَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ، لَكِنْ فِي كَلَامِهِ إغْلَاقٌ كَمَا لَا يَخْفَى، وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فَهِيَ عَنْ الْحَاجِّ، وَأَمَّا تَعْلِيلُ قَوْلِهِ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ فَمَذْكُورٌ بَعْدَ هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: إذَا وَقَعَ عَنْ الْحَاجِّ فَلْيُجْعَلْ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ كَمَا إذَا أَهَلَّ عَنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ بَعْدَمَا وَقَعَ لِنَفْسِهِ وَبَيَّنَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَإِنْ أَبْهَمَ الْإِحْرَامَ بِأَنْ نَوَى عَنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ عَيْنٍ، فَإِنْ مَضَى عَلَى ذَلِكَ صَارَ مُخَالِفًا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَإِنْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْمُضِيِّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّعْيِينِ، وَالْإِبْهَامُ يُخَالِفُهُ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً حَيْثُ كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ مَا شَاءَ لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ هُنَاكَ مَجْهُولٌ وَهَاهُنَا الْمَجْهُولُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِحْرَامَ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الْأَفْعَالِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ. وَالْمُبْهَمُ يَصْلُحُ وَسِيلَةً بِوَاسِطَةِ التَّعْيِينِ فَاكْتَفَى بِهِ شَرْطًا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَدَّى الْأَفْعَالَ عَلَى الْإِبْهَامِ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ فَصَارَ مُخَالِفًا
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ أَبْهَمَ الْإِحْرَامَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ هُنَاكَ مَجْهُولٌ) مَعْنَاهُ أَنَّ جَهَالَةَ الْمُلْتَزَمِ غَيْرُ مَانِعَةٍ عَنْ وُجُوبِ التَّعْيِينِ، وَأَمَّا جَهَالَةُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَهِيَ مَانِعَةٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِمَجْهُولٍ لِمَعْلُومٍ جَائِزٌ دُونَ عَكْسِهِ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِحْرَامَ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الْأَفْعَالِ لَا مَقْصُودًا) بِدَلِيلِ صِحَّةِ تَقْدِيمِهِ عَلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ (فَاكْتَفَى بِهِ) أَيْ بِالْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَرْطٌ لِأَنَّ الشُّرُوطَ يُرَاعَى وُجُودُهَا كَيْفَمَا كَانَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَوَضَّأَ لِلتَّبَرُّدِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ هُوَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ وَالتَّعْيِينُ فِي ابْتِدَائِهِ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى مَا عَيَّنَ لَا عَلَى الْإِبْهَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَدَّى ثُمَّ عَيَّنَ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْإِبْهَامِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ التَّعْيِينُ يَرِدُ عَلَى مَا مَضَى وَاضْمَحَلَّ فَلَا يُفِيدُ شَيْئًا
قَالَ (فَإِنْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ فَالدَّمُ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ) لِأَنَّهُ وَجَبَ شُكْرًا لِمَا وَفَقَّهَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ وَالْمَأْمُورُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ
(وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ وَاحِدٌ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَالْآخَرُ بِأَنْ يَعْتَمِرَ عَنْهُ وَأَذِنَا لَهُ بِالْقِرَانِ) فَالدَّمُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا
قَالَ (فَإِنْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ فَالدَّمُ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ) رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ بِضَمِّ الرَّاءِ فَفَعَلَ فَالدَّمُ عَلَى الْمَأْمُورِ (لِأَنَّهُ وَجَبَ شُكْرًا لِمَا وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ، وَالْمَأْمُورُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ) صَدَرَتْ (مِنْهُ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ) وَفِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخَذُ فِي كَوْنِ الدَّمِ وَاجِبًا عَلَى الْمَأْمُورِ كَوْنُهُ نُسُكًا كَسَائِرِ الْمَنَاسِكِ، وَسَائِرُ الْمَنَاسِكِ عَلَى الْمَأْمُورِ فَكَذَا هَذَا، لَا كَوْنُهُ شُكْرًا لِمَا وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ لِأَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِمُتْعَةِ الْقِرَانِ بِسُقُوطِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ ذِمَّتِهِ مَعَ فَضِيلَةِ الْقِرَانِ
(وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ وَاحِدٌ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَالْآخَرُ بِأَنْ يَعْتَمِرَ عَنْهُ وَأَذِنَا لَهُ بِالْقِرَانِ فَالدَّمُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ شُكْرًا إلَخْ؛ وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ وَأَذِنَا لَهُ بِالْقِرَانِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَأْذَنَا لَهُ بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا لِأَجْلِهِمَا، فَلَوْ قَرَنَ كَانَ مُخَالِفًا. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ جَعَلَ جَزَاءَ الشَّرْطِ قَوْلُهُ فَالدَّمُ عَلَيْهِ وَوُجُوبُهُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِإِذْنِهِمَا، فَإِنَّهُ لَوْ قَرَنَ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا فَالدَّمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَبِأَنَّهُ إنْ خَالَفَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ خَالَفَ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ وَهُوَ الْقِرَانُ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ عِنْدَنَا، وَالْمُخَالَفَةُ إلَى خَيْرٍ غَيْرُ ضَائِرَةٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا أَذِنَا لَهُ بِذَلِكَ كَانَ مِمَّا يُوهِمُ أَنَّهُ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَأْذَنَا فَأَزَالَ الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ وَأَذِنَا لَهُ بِالْقِرَانِ وَبِأَنَّ خَيْرِيَّةَ الْقِرَانِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَامِعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ لَا إلَى الْآمِرِ،
(وَدَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْآمِرِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَى الْحَاجِّ) لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلتَّحَلُّلِ
وَلِهَذَا إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالْحَجِّ وَقَرَنَ عَدَّهُ أَبُو حَنِيفَةَ مُخَالِفًا وَلَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ
(وَدَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْآمِرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَى الْحَاجِّ) وَوَجْهُهُمَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ. وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ إنَّ الْآمِرَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ بِأَنَّ الْآمِرَ إذَا أَمَرَ بِالْقِرَانِ فَهُوَ الَّذِي أَدْخَلَ الْمَأْمُورَ فِي عُهْدَةِ الدَّمِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ دَمَ الْقِرَانِ نُسُكٌ، وَقَدْ دَفَعَ الْآمِرُ النَّفَقَةَ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ مَا كَانَ مِنْ الْمَنَاسِكِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَتِهَا، بِخِلَافِ دَمِ الْإِحْصَارِ
دَفْعًا لِضَرَرِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ الدَّمُ عَلَيْهِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْآمِرَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ (فَإِنْ كَانَ يَحُجُّ عَنْ مَيِّتٍ فَأُحْصِرَ فَالدَّمُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ) عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله، ثُمَّ قِيلَ: هُوَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ صِلَةٌ كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّهُ وَجَبَ حَقًّا لِلْمَأْمُورِ فَصَارَ دَيْنًا (وَدَمُ الْجِمَاعِ عَلَى الْحَاجِّ) لِأَنَّهُ دَمُ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْجَانِي عَنْ اخْتِيَارٍ (وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ) مَعْنَاهُ: إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ حَتَّى فَسَدَ حَجُّهُ لِأَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ حَيْثُ لَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِأَنَّهُ مَا فَاتَهُ بِاخْتِيَارِهِ.
أَمَّا إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ وَلَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْأَمْرِ.
وَعَلَيْهِ الدَّمُ فِي مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ عَلَى الْحَاجِّ لِمَا قُلْنَا
(وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَأَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا فَلَمَّا بَلَغَ الْكُوفَةَ مَاتَ
فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ وَلَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَ الْآمِرِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ صِلَةٌ) الصِّلَةُ عِبَارَةٌ عَنْ أَدَاءِ مَا لَا يَكُونُ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضٌ مَالِيٌّ.
وَقَوْلُهُ وَغَيْرُهَا) يَعْنِي النُّذُورَ وَالْكَفَّارَاتِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ وَجَبَ حَقًّا لِلْمَأْمُورِ) يَعْنِي بِإِدْخَالِهِ الْآمِرَ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ وَالدَّيْنُ مَحَلُّهُ جَمِيعُ الْمَالِ. وَقَوْلُهُ (؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ) أَيْ الْحَجُّ الصَّحِيحُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَإِذَا أَفْسَدَهُ لَمْ يَقَعْ مَأْمُورًا بِهِ فَكَانَ وَاقِعًا عَنْ الْمَأْمُورِ فَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ عَلَى حَجِّهِ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، ثُمَّ إذَا قَضَى الْحَجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَجُّ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ بِالْإِفْسَادِ صَارَ الْإِحْرَامُ وَاقِعًا عَنْ الْمَأْمُورِ وَالْحَجُّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْحَجِّ فَكَانَ وَاقِعًا عَنْ الْمَأْمُورِ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ دَمُ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْجَانِي عَنْ اخْتِيَارٍ. وَمِمَّا ذَكَرْنَا عُلِمَ أَنَّ الدِّمَاءَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: دَمُ نُسُكٍ كَدَمِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ، وَدَمُ جِنَايَةٍ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ، وَدَمُ مَئُونَةٍ كَدَمِ الْإِحْصَارِ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: كُلُّ دَمٍ يَلْزَمُ الْمُجَهِّزَ: يَعْنِي الْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ فَهُوَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ. لِأَنَّهُ إنْ كَانَ نُسُكًا فَإِقَامَةُ الْمَنَاسِكِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ كَفَّارَةً فَالْجِنَايَةُ وُجِدَتْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ دَمًا بِتَرْكِ وَاجِبٍ فَهُوَ الَّذِي تَرَكَ مَا كَانَ وَاجِبًا فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الدِّمَاءُ عَلَيْهِ إلَّا دَمُ الْإِحْصَارِ فَإِنَّهُ فِي مَالِ الْآمِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْجَانِي عَنْ اخْتِيَارٍ.
قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ) صُورَةُ
أَوْ سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ وَقَدْ أَنْفَقَ النِّصْفَ يَحُجُّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (وَقَالَا: يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ الْأَوَّلُ) فَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي اعْتِبَارِ الثُّلُثِ وَفِي مَكَانِ الْحَجِّ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَذْكُورُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحُجُّ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ إنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَإِلَّا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ اعْتِبَارًا بِتَعْيِينِ الْمُوصِي إذْ تَعْيِينُ الْوَصِيِّ كَتَعْيِينِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَحُجُّ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَحَلُّ لِنَفَاذِ الْوَصِيَّةِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قِسْمَةَ الْوَصِيِّ وَعَزْلَهُ الْمَالَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُوصِي لِأَنَّهُ لَا خَصْمَ لَهُ لِيَقْبِضَ وَلَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ إلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِفْرَازِ وَالْعَزْلِ فَيَحُجُّ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ.
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَمَاتَ وَكَانَ مِقْدَارُ الْحَجِّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَدَفَعَهَا الْوَصِيُّ إلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فَسُرِقَ فِي الطَّرِيقِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: يُؤْخَذُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَإِنْ سُرِقَ ثَانِيًا يُؤْخَذُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ مَرَّةً أُخْرَى وَهَكَذَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُؤْخَذُ مَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ. فَإِنْ سُرِقَتْ ثَانِيًا لَا يُؤْخَذُ مَرَّةً أُخْرَى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا سُرِقَتْ الْأَلْفُ الَّتِي دَفَعَهَا أَوَّلًا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ يَحُجُّ بِهِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْوَصِيِّ كَتَعْيِينِ الْمُوصِي لِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْهُ، وَلَوْ أَفْرَزَهَا الْمُوصِي ثُمَّ هَلَكَتْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ. فَكَذَلِكَ هَذَا. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَحَلُّ نَفَاذِهَا الثُّلُثُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قِسْمَةَ الْوَصِيِّ وَعَزْلَهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُوصِي لِأَنَّهُ لَا خَصْمَ لَهُ لِيَقْبِضَ وَلَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ إلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِفْرَازِ وَالْعَزْلِ) وَفِي ذَلِكَ يَحُجُّ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ فَكَذَا فِي هَذَا. هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ
وَأَمَّا الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ الْقِيَاسُ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ مِنْ السَّفَرِ قَدْ بَطَلَ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» الْحَدِيثَ، وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ مِنْ وَطَنِهِ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ الْخُرُوجُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ سَفَرَهُ لَمْ يَبْطُلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الْآيَةَ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ مَاتَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ كُتِبَ لَهُ حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ» وَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ سَفَرُهُ اُعْتُبِرَتْ الْوَصِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي الَّذِي
بِمَا يُحَجُّ بِهِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ الْمَكَانِ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَيْضًا وَاضِحٌ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرُهُ مَتْرُوكٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْأَعْمَالِ مُنْقَطِعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا يُثَابُ عَلَيْهَا. وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: أَعْمَالٌ عَمِلَهَا فَمَضَتْ، وَأَعْمَالٌ لَمْ يَشْرَعْ فِيهَا فَهِيَ بَعْدُ مَعْدُومَةٌ، وَأَعْمَالٌ شَرَعَ فِيهَا وَلَمْ يُتِمَّهَا. وَالطَّرَفَانِ لَا يُوصَفَانِ بِالِانْقِطَاعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الْمَاضِيَ لَا يَحْتَمِلُ الِانْقِطَاعَ لَكِنْ يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ بِمَا يُحْبِطُ ثَوَابَهُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ تَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ. وَالْمَاضِي بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَتَعَيَّنَ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ وَلَمْ يُتِمَّهُ.
وَأَمَّا جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ مُوجِبِ الْكِتَابِ وَمُوجِبِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مَسُوقٌ لِحُكْمِ الْآخِرَةِ وَالْخَبَرَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لِحُكْمِ الدُّنْيَا، فَيَجُوزُ انْقِطَاعُ الْعَمَلِ مِنْ حَيْثُ حُكْمُ الدُّنْيَا وَيَبْقَى لَهُ ثَوَابُهُ مِنْ حَيْثُ حُكْمُ الْآخِرَةِ، كَمَا إذَا نَوَى الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ وَصَامَهُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ وَمَاتَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ بِفِدْيَةِ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ كَامِلًا مِنْ حَيْثُ حُكْمُ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ هُوَ مُثَابًا فِي الْآخِرَةِ بِقَدْرِ مَا صَامَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ شَرَعَ فِيهِ وَلَمْ يُتِمَّهُ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيَاهُ.
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: ثُمَّ تَأْخِيرُ تَعْلِيلِهِمَا عَنْ تَعْلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِ قَوْلِهِمَا مُخْتَارَ الْمُصَنِّفِ لِمَا أَنَّ قَوْلَهُمَا اسْتِحْسَانٌ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
يَحُجُّ بِنَفْسِهِ، وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ.
قَالَ (وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْ أَبَوَيْهِ يَجْزِيهِ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا) لِأَنَّ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّمَا يَجْعَلُ ثَوَابَ حَجِّهِ لَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَدَاءِ الْحَجِّ فَلَغَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَ أَدَائِهِ، وَصَحَّ جَعْلُهُ ثَوَابَهُ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَ الْأَدَاءِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ عَلَى مَا فَرَّقْنَا مِنْ قَبْلُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قِيَاسٌ، وَالْمَأْخُوذُ فِي عَامَّةِ الصُّوَرِ حُكْمُ الِاسْتِحْسَانِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا فَرَّقْنَا مِنْ قَبْلُ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ يَجْعَلُ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِأَحَدِهِمَا إلَخْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بَابُ الْهَدْيِ
بَابُ الْهَدْيِ)
لَمَّا كَثُرَ دَوْرُ لَفْظِ الْهَدْيِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ نُسُكًا وَجَزَاءً وَمَئُونَةً احْتَاجَ إلَى بَيَانِ الْهَدْيِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَلَمَّا لَمْ يَخْلُ وُجُوبُهُ عَنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَخَّرَ ذِكْرَهُ عَنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
(الْهَدْيُ أَدْنَاهُ شَاةٌ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْهَدْيِ فَقَالَ: أَدْنَاهُ شَاةٌ» قَالَ (وَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَعَلَ الشَّاةَ أَدْنَى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَعْلَى وَهُوَ الْبَقَرُ وَالْجَزُورُ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ مَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ لِيُتَقَرَّبَ بِهِ فِيهِ، وَالْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى
(وَلَا يَجُوزُ فِي الْهَدَايَا إلَّا مَا جَازَ فِي الضَّحَايَا) لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ تَعَلَّقَتْ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ كَالْأُضْحِيَّةِ فَيَتَخَصَّصَانِ بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ
(وَالشَّاةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: مَنْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا. وَمَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا إلَّا الْبَدَنَةُ) وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِيمَا سَبَقَ
(وَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ) لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُضْحِيَّةَ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْ لَحْمِ هَدْيِهِ وَحَسَا مِنْ الْمَرَقَةِ» وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا لِمَا رَوَيْنَا، وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي عُرِفَ فِي الضَّحَايَا (وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ بَقِيَّةِ الْهَدَايَا) لِأَنَّهَا
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِيمَا سَبَقَ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ بَعْدَ ذِكْرِ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَلِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ مِنْ الْحَدَثِ. وَقَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ أَعْلَى أَنْوَاعِ الِارْتِفَاقَاتِ فَتَغَلَّظَ مُوجِبُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ) يَعْنِي لِلْمُهْدِي وَالْأَغْنِيَاءِ إذَا ذُبِحَ فِي مَحِلِّهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَأَمَّا الْفُقَرَاءُ فَيَجُوزُ لَهُمْ الْأَكْلُ مِنْ جَمِيعِ الْهَدَايَا. وَقَوْلُهُ (وَحَسَا مِنْ الْمَرَقَةِ) أَيْ شَرِبَ. وَقَوْلُهُ (وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا) لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْجَوَازُ مُسْتَلْزِمًا لِلِاسْتِحْبَابِ ذَكَرَهُ ثَانِيًا بَيَانًا لِلِاسْتِحْبَابِ، وَلَوْ ذَكَرَ الِاسْتِحْبَابَ أَوَّلًا اسْتَغْنَى عَنْ بَيَانِ الْجَوَازِ لِاسْتِلْزَامِ الِاسْتِحْبَابِ إيَّاهُ.
وَقَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَكَلَ مِنْ لَحْمِ هَدْيِهِ» . وَإِنَّمَا أَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي مِنْهَا لِلرُّجُوعِ إلَى هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالتَّطَوُّعُ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ) ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام
دِمَاءُ كَفَّارَاتٍ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَبَعَثَ الْهَدَايَا عَلَى يَدَيْ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ لَهُ: لَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَرُفْقَتُكَ مِنْهَا شَيْئًا»
(وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ (وَفِي الْأَصْلِ يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَذَبْحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ أَفْضَلُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ) لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِي التَّطَوُّعَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا هَدَايَا وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِتَبْلِيغِهَا إلَى الْحَرَمِ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ جَازَ ذَبْحُهَا فِي غَيْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ فِيهَا أَظْهَرُ، أَمَّا دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}
«لَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَرُفْقَتُك مِنْهَا شَيْئًا» إنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ الْأَكْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ هَدْيِ التَّطَوُّعِ) ظَاهِرٌ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ قَضَاءَ التَّفَثِ
وَقَضَاءُ التَّفَثِ يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَيَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالْأُضْحِيَّةِ (وَيَجُوزُ ذَبْحُ بَقِيَّةِ الْهَدَايَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ اعْتِبَارًا بِدَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ دَمُ جَبْرٍ عِنْدَهُ.
وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ دِمَاءُ كَفَّارَاتٍ فَلَا تَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ كَانَ التَّعْجِيلُ بِهَا أَوْلَى لِارْتِفَاعِ النُّقْصَانِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ.
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا إلَّا فِي الْحَرَمِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فَصَارَ أَصْلًا فِي كُلِّ دَمٍ هُوَ كَفَّارَةٌ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى مَكَان وَمَكَانُهُ الْحَرَمُ. قَالَ صلى الله عليه وسلم «مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ»
(وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِمْ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّ الصَّدَقَةَ قُرْبَةٌ مَعْقُولَةٌ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى كُلِّ
عَلَى الْأَكْلِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحَرُوهَا (وَقَضَاءُ التَّفَثِ مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ النَّحْرِ) فَيَكُونُ النَّحْرُ كَذَلِكَ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَرُبَّمَا يَكُونُ الذَّبْحُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَقَضَاءُ التَّفَثِ فِيهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُوجِبَ ثُمَّ فِي التَّرَاخِي يَتَحَقَّقُ بِالتَّأْخِيرِ سَاعَةً، فَلَوْ جَازَ الذَّبْحُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ جَازَ قَضَاءُ التَّفَثِ بَعْدَهُ بِسَاعَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمُ نُسُكٍ وَلِهَذَا حَلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ فَيَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ كَالْأُضْحِيَّةِ. وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ ذَبْحُ بَقِيَّةِ الْهَدَايَا) ظَاهِرٌ. وَالْفِجَاجُ جَمْعُ الْفَجِّ: وَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِمْ)
فَقِيرٍ قُرْبَةٌ.
قَالَ (وَلَا يَجِبُ التَّعْرِيفُ بِالْهَدَايَا) لِأَنَّ الْهَدْيَ يُنْبِئُ عَنْ النَّقْلِ إلَى مَكَان لِيَتَقَرَّبَ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ فِيهِ لَا عَنْ التَّعْرِيفِ فَلَا يَجِبُ، فَإِنْ عُرِفَ بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ فَحَسَنٌ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَعَسَى أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُمْسِكُهُ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُعَرِّفَ بِهِ، وَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَيَكُونُ مَبْنَاهُ عَلَى التَّشْهِيرِ بِخِلَافِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذَبْحُهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَسَبَبُهَا الْجِنَايَةُ فَيَلِيقُ بِهَا السَّتْرُ.
قَالَ (وَالْأَفْضَلُ فِي الْبُدْنِ النَّحْرُ وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ الْجَزُورُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} وَالذِّبْحُ مَا أُعِدَّ لِلذَّبْحِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ الْإِبِلَ وَذَبَحَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ» ثُمَّ إنْ شَاءَ نَحَرَ الْإِبِلَ فِي الْهَدَايَا قِيَامًا وَأَضْجَعَهَا، وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَنْحَرَهَا قِيَامًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ الْهَدَايَا قِيَامًا» ، وَأَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَانُوا يَنْحَرُونَهَا قِيَامًا مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى، وَلَا يَذْبَحُ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ قِيَامًا لِأَنَّ فِي حَالَةِ الِاضْطِجَاعِ الْمَذْبَحَ أَبْيَنُ فَيَكُونُ الذَّبْحُ أَيْسَرَ وَالذَّبْحُ هُوَ السُّنَّةُ فِيهِمَا.
(قَوْلُهُ وَالْأَفْضَلُ إلَخْ) أَمَّا نَحْرُ الْإِبِلِ فَحَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِيهِ «فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ» الْحَدِيثَ.
وَأَمَّا ذَبْحُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ «فَدَخَلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ مَا هَذَا؟ قَالُوا: ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ» وَأَخْرَجَ السِّتَّةُ حَدِيثَ التَّضْحِيَةِ بِالْغَنَمِ بِمَا يُفِيدُ الذَّبْحَ. وَمِنْ قَرِيبٍ سَمِعْتُ حَدِيثَ «ذَبْحِهِ عليه الصلاة والسلام الْكَبْشَيْنِ الْأَمْلَحَيْنِ» .
وَأَمَّا أَنَّهُ نَحَرَ الْإِبِلَ قِيَامًا وَأَصْحَابُهُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما " أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ يَنْحَرُ بَدَنَةً وَهِيَ بَارِكَةٌ فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم " وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَنَحْنُ مَعَهُ، إلَى أَنْ قَالَ: وَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ بَدَنَاتٍ قِيَامًا» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٌ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا» وَأُبْعِدَ مَنْ قَالَ هَذَا الْحَدِيثُ مُرْسَلٌ بَلْ هُوَ مُسْنَدٌ عَنْ جَابِرٍ وَإِنْ كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ مَرَّةً عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ كَمَا هُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ.
هَذَا وَإِنَّمَا سَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّحْرَ قِيَامًا عَمَلًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} وَالْوُجُوبُ السُّقُوطُ، وَتَحَقُّقُهُ فِي حَالِ الْقِيَامِ أَظْهَرُ قَالَ (وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَوَلَّى ذَبْحَهَا بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَنَحَرَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ بِنَفْسِهِ، وَوَلَّى الْبَاقِيَ عَلِيًّا رضي الله عنه» ، وَلِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَالتَّوَلِّي فِي الْقُرُبَاتِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْخُشُوعِ، إلَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ وَلَا يُحْسِنُهُ فَجَوَّزْنَا تَوْلِيَتَهُ غَيْرَهُ.
قَالَ (وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهَا
يَعْنِي بَعْدَمَا ذَبَحَهَا فِي الْحَرَمِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجِبُ التَّعْرِيفُ بِالْهَدَايَا) أَيْ الْإِتْيَانُ بِهَا إلَى عَرَفَاتٍ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا ذَكَرْنَا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ كَانَ التَّعْجِيلُ بِهَا أَوْلَى لِارْتِفَاعِ النُّقْصَانِ بِهِ
. وَقَوْلُهُ (وَالْأَفْضَلُ فِي الْبُدْنِ النَّحْرُ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ الْجَزُورُ) يَعْنِي انْحَرْ الْجَزُورَ وَكَلَامُهُ فِي الْبَاقِي وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (فَنَحَرَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ) النَّيِّفُ بِالتَّشْدِيدِ كُلُّ مَا كَانَ بَيْنَ عَقْدَيْنِ وَقَدْ يُخَفَّفُ، وَعَنْ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى
وَخِطَامِهَا وَلَا يُعْطِي أُجْرَةَ الْجَزَّارِ مِنْهَا) «لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ رضي الله عنه تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَبِخَطْمِهَا وَلَا تُعْطِ أَجْرَ الْجَزَّارِ مِنْهَا»
(وَمَنْ سَاقَ بَدَنَةً فَاضْطُرَّ إلَى رُكُوبِهَا رَكِبَهَا، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَرْكَبْهَا) لِأَنَّهُ جَعَلَهَا خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى، فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهَا أَوْ مَنَافِعِهَا إلَى نَفْسِهِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى رُكُوبِهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا وَيْلَكَ» وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا مُحْتَاجًا وَلَوْ رَكِبَهَا فَانْتَقَصَ بِرُكُوبِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ
(وَإِنْ كَانَ لَهَا لَبَنٌ لَمْ يَحْلُبْهَا) لِأَنَّ اللَّبَنَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهَا فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ (وَيُنْضِحُ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِد حَتَّى يَنْقَطِعَ اللَّبَنُ) وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الذَّبْحِ
ثَلَاثٍ، وَالنَّضْحُ الرَّشُّ وَالْبَلُّ. وَمِنْهُ يُنْضِحُ ضَرْعَهَا بِكَسْرِ الضَّادِ.
فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ يَحْلُبُهَا وَيَتَصَدَّقُ بِلَبَنِهَا كَيْ لَا يَضُرَّ ذَلِكَ بِهَا، وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ
(وَمَنْ سَاقَ هَدْيًا فَعَطِبَ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ) لِأَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِهَذَا الْمَحَلِّ وَقَدْ فَاتَ (وَإِنْ كَانَ عَنْ وَاجِبٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ (وَإِنْ أَصَابَهُ عَيْبٌ كَبِيرٌ يُقِيمُ غَيْرَهُ مَقَامَهُ) لِأَنَّ الْمَعِيبَ بِمِثْلِهِ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ فَلَا بُدَّ مِنْ غَيْرِهِ (وَصَنَعَ بِالْمَعِيبِ مَا شَاءَ) لِأَنَّهُ اُلْتُحِقَ بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِ
(وَإِذَا عَطِبَتْ الْبَدَنَةُ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا نَحَرَهَا وَصَبَغَ نَعْلَهَا بِدَمِهَا وَضَرَبَ بِهَا صَفْحَةَ سَنَامِهَا وَلَا يَأْكُلُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ) مِنْهَا بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيَّ رضي الله عنه، وَالْمُرَادُ بِالنَّعْلِ قِلَادَتُهَا، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ هَدْيٌ فَيَأْكُلُ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ سَاقَ هَدْيًا فَعَطِبَ) ظَاهِرٌ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَكُونُ كَأُضْحِيَّةِ الْفَقِيرِ فَإِنَّ عَلَيْهِ تَطَوُّعًا وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ إذَا ضَلَّتْ الشَّاةُ الْمُشْتَرَاةُ لَهَا، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى غَيْرَهَا ثُمَّ وَجَدَ الضَّالَّةَ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَبْحُهَا؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا أَوْجَبَ الْفَقِيرُ بِلِسَانِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الشَّاتَيْنِ بَعْدَمَا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ لِلْأُضْحِيَّةِ قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ اشْتَرَى الْفَقِيرُ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَمَاتَتْ أَوْ بَاعَهَا لَا تَلْزَمُهُ أُخْرَى وَكَذَا لَوْ ضَلَّتْ. وَالْعَيْبُ الْكَبِيرُ هُوَ أَنْ يَذْهَبَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ الْأُذُنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ أَنْ يَذْهَبَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهَا، وَالْعَطَبُ بِفَتْحَتَيْنِ: الْهَلَاكُ، وَمَعْنَى عَطِبَتْ الْبَدَنَةُ: أَيْ قَرُبَتْ إلَى الْعَطَبِ وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قِيلَ هَذَا وَقَعَ مُكَرَّرًا بِمَا قَالَ أَوَّلًا وَمَنْ سَاقَ هَدْيًا
وَهَذَا لِأَنَّ الْإِذْنَ بِتَنَاوُلِهِ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحِلَّ قَبْلَ ذَلِكَ أَصْلًا، إلَّا أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُ جَزَرًا لِلسِّبَاعِ، وَفِيهِ نَوْعُ تَقَرُّبٍ وَالتَّقَرُّبُ هُوَ الْمَقْصُودُ (فَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً أَقَامَ غَيْرَهَا مَقَامَهَا وَصَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ صَالِحًا لِمَا عَيَّنَهُ وَهُوَ مِلْكُهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ
(وَيُقَلِّدُ هَدْيَ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ) لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ، وَفِي التَّقْلِيدِ إظْهَارُهُ وَتَشْهِيرُهُ فَيَلِيقُ بِهِ (وَلَا يُقَلِّدُ دَمَ الْإِحْصَارِ وَلَا دَمَ الْجِنَايَاتِ) لِأَنَّ سَبَبَهَا الْجِنَايَةُ وَالسَّتْرُ أَلْيَقُ بِهَا، وَدَمُ الْإِحْصَارِ جَابِرٌ فَيَلْحَقُ بِجِنْسِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْهَدْيَ وَمُرَادُهُ الْبَدَنَةُ لِأَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ الشَّاةَ عَادَةً. وَلَا يُسَنُّ تَقْلِيدُهَا عِنْدَنَا لِعَدَمِ فَائِدَةِ التَّقْلِيدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَعَطِبَ؛ لِأَنَّ ذَاكَ فِي حَقِيقَةِ الْعَطَبِ وَهَذَا فِي الْإِشْرَافِ عَلَيْهِ. وَالْجَزَرُ بِفَتْحَتَيْنِ: اللَّحْمُ الَّذِي يَأْكُلُهُ السِّبَاعُ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا تَقَدَّمَ) إشَارَةً إلَى مَا ذُكِرَ قُبَيْلَ بَابِ الْقِرَانِ بِقَوْلِهِ وَتَقْلِيدُ الشَّاةِ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ.
مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ
(أَهْلُ عَرَفَةَ إذَا وَقَفُوا فِي يَوْمٍ وَشَهِدَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ وَقَفُوا يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَهُمْ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجْزِيَهُمْ اعْتِبَارًا بِمَا إذَا وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ فَلَا يَقَعُ عِبَادَةٌ دُونَهُمَا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ
مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ)
مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يَذْكُرُوا فِي آخِرِ الْكِتَابِ مَا شَذَّ وَنَدَرَ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي الْأَبْوَابِ السَّالِفَةِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ، وَيُتَرْجِمُوا عَنْهُ بِمَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ أَوْ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ مَسَائِلَ شَتَّى أَوْ مَسَائِلَ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْأَبْوَابِ،
شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ وَعَلَى أَمْرٍ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَفْيُ حَجِّهِمْ، وَالْحَجُّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ فَلَا تُقْبَلُ، وَلِأَنَّ فِيهِ بَلْوَى عَامًا لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَالتَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِعَادَةِ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَزُولَ الِاشْتِبَاهُ
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَشْهَدَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ فِي لَيْلَةٍ كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي وَقَفُوا فِيهِ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ، وَكَلَامُهُ
يَوْمَ عَرَفَةَ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمُؤَخَّرِ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا كَذَلِكَ جَوَازُ الْمُقَدَّمِ.
قَالُوا: يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ لَا يَسْمَعَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَيَقُولَ قَدْ تَمَّ حَجُّ النَّاسِ فَانْصَرِفُوا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا إيقَاعُ الْفِتْنَةِ. وَكَذَا إذَا شَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ فِي بَقِيَّةِ اللَّيْلِ مَعَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ لَمْ يَعْمَلْ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ.
قَالَ (وَمَنْ رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى وَالثَّالِثَةَ وَلَمْ يَرْمِ الْأُولَى، فَإِنْ رَمَى الْأُولَى ثُمَّ الْبَاقِيَتَيْنِ فَحَسَنٌ) لِأَنَّهُ رَاعَى التَّرْتِيبَ الْمَسْنُونَ (وَلَوْ رَمَى الْأُولَى وَحْدَهَا أَجْزَأَهُ) لِأَنَّهُ تَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ التَّرْتِيبَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجْزِيهِ مَا لَمْ يُعِدْ الْكُلَّ لِأَنَّهُ شَرَعَ مُرَتَّبًا فَصَارَ كَمَا إذَا سَعَى قَبْلَ الطَّوَافِ أَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا. وَلَنَا أَنَّ كُلَّ جَمْرَةٍ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا
وَاضِحٌ لَا يَقْبَلُ الشَّرْحَ.
وَقَوْلُهُ وَكَذَا إذَا شَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ) صُورَتُهُ أَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقُوا عَرَفَاتٍ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَقَالُوا: رَأَيْنَا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَهَذَا الْيَوْمُ هُوَ التَّاسِعُ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يَلْحَقُ الْوُقُوفَ فِي بَقِيَّةِ اللَّيْلِ مَعَ أَكْثَرِ النَّاسِ لَا تُسْمَعُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَيَقِفُونَ مِنْ الْغَدِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا شَهِدُوا وَقَدْ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ صَارَ كَأَنَّهُمْ شَهِدُوا بَعْدَ الْوَقْتِ فَلَا تُسْمَعُ وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُ الْوُقُوفَ مَعَ أَكْثَرِ النَّاسِ، وَلَكِنْ لَا يَلْحَقُ الضَّعَفَةُ فَإِنْ وَقَفَ جَازَ وَإِلَّا فَاتَ الْحَجُّ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوُقُوفَ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ قُدْرَةُ الْأَكْثَرِ دُونَ الْأَقَلِّ
(وَمَنْ رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى وَالثَّالِثَةَ وَلَمْ يَرْمِ الْأُولَى) يَعْنِي الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ ثُمَّ جَاءَ يُعِيدُ الرَّمْيَ فِي يَوْمِهِ، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى رَمْيِ الَّتِي تَرَكَهَا أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ الرَّمْيِ فِي وَقْتِهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ الْمَسْنُونَ مِنْ التَّرْتِيبِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَإِنْ أَعَادَ الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فَحَسَنٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ التَّرْتِيبِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا سَبَقَ أَنَّ الطَّائِفَ إذَا دَخَلَ الْحَطِيمَ فِي طَوَافِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَعَادَ عَلَى الْحَطِيمِ وَحْدَهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أَعَادَ الطَّوَافَ كُلَّهُ كَانَ حَسَنًا.
(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئُهُ مَا لَمْ يُعِدْ الْكُلَّ لِأَنَّهُ شُرِعَ مُرَتَّبًا) تَرْتِيبًا صَارَ بِهِ الثَّانِي كَالْجُزْءِ مِنْ الْأَوَّلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْكُلَّ يَجِبُ دَمٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَصَارَ تَرْكُ التَّرْتِيبِ فِيهَا كَتَقْدِيمِ السَّعْيِ عَلَى الطَّوَافِ أَوْ الِابْتِدَاءِ بِالْمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا، بِخِلَافِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِذَاتِهَا فَلَا يَكُونُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَاجِبًا (وَلَنَا أَنَّ كُلَّ جَمْرَةٍ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا) لِتَعَلُّقِ كُلٍّ مِنْهَا بِبُقْعَةٍ عَلَى حِدَةٍ وَالْبُقْعَةُ فِي بَابِ الْحَجِّ
فَلَا يَتَعَلَّقُ الْجَوَازُ بِتَقْدِيمِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، بِخِلَافِ السَّعْيِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلطَّوَافِ لِأَنَّهُ دُونَهُ، وَالْمَرْوَةُ عُرِفَتْ مُنْتَهَى السَّعْيِ بِالنَّصِّ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْبُدَاءَةُ.
قَالَ (وَمَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَإِنَّهُ لَا يَرْكَبُ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ) وَفِي الْأَصْلِ خَيَّرَهُ بَيْنَ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْوُجُوبِ،
أَصْلٌ فَكَانَ مَا شُرِعَ فِيهِ أَصْلًا فَلَا يَتَعَلَّقُ جَوَازُ الْبَعْضِ بِبَعْضٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعَادَ مُرَتَّبًا كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا. بِخِلَافِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ النَّصَّ فِيهَا نَاطِقٌ بِأَنَّ مَنْ صَلَّى بِلَا تَرْتِيبٍ صَلَّى قَبْلَ وَقْتِهَا فَلَا يَجُوزُ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ دُونَهُ) أَيْ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ دُونَ الطَّوَافِ يَعْنِي أَحَطَّ مَنْزِلَةً مِنْ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ فَرْضٌ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْفَرْضِ كَطَوَافِ الْقُدُومِ، وَأَمَّا السَّعْيُ فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَانَ دُونَ الطَّوَافِ فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلطَّوَافِ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَرْوَةُ عُرِفَتْ مُنْتَهَى السَّعْيِ بِالنَّصِّ) وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» أَرَادَ بِهِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْبُدَاءَةُ)
قَالَ (وَمَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا) أَيْ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرْكَبَ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ (وَخُيِّرَ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ (بَيْنَ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ) بَعْدَ النَّذْرِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا يُكْرَهُ وَرَاكِبًا أَفْضَلُ لَكِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فَكَانَ مُخَيَّرًا. وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لَا يَرْكَبُ، يَعْنِي رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَقْتَضِي تَرْكَ الرُّكُوبِ عَلَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سَبِيلِ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ النَّفْيِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ فَكَانَ الرُّكُوبُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَهُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْقُرْبَةَ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَتَلْزَمُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، كَمَا إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ مُتَتَابِعًا
وَهُوَ الْأَصْلُ) أَيْ الْمُوَافِقُ لِلْقَوَاعِدِ لِأَنَّ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا، وَالْمَشْيُ فِي الْحَجِّ صِفَةُ كَمَالٍ قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَجَّ مَاشِيًا فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ، قِيلَ وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: كُلُّ حَسَنَةٍ بِسَبْعِمِائَةٍ» وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ: مَا تَأَسَّفْت عَلَى شَيْءٍ كَتَأَسُّفِي عَلَى أَنِّي لَمْ أَحُجَّ مَاشِيًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْمُشَاةَ فَقَالَ تَعَالَى {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فَصَارَ كَمَا إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ مُتَتَابِعًا لَا يَتَأَدَّى مُتَفَرِّقًا.
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّذْرَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الْمَشْرُوعَاتِ الْمَفْرُوضَةِ أَوْ الْوَاجِبَةِ، وَلَيْسَ لِلْمَشْيِ نَظِيرٌ. وَالثَّانِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله كَرِهَ الْمَشْيَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، فَمَا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ يُنَاقِضُ ذَلِكَ؟.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ لَهُ أَصْلًا وَهُوَ أَنَّ الْمَكِّيَّ الْفَقِيرَ إذَا لَمْ يَمْلِكْ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَأَمْكَنَهُ الْمَشْيُ إلَى عَرَفَاتٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مَاشِيًا. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَا كَرِهَ الْمَشْيَ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا كَرِهَ الْجَمْعَ بَيْنَ
وَأَفْعَالُ الْحَجِّ تَنْتَهِي بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ فَيَمْشِي إلَى أَنْ يَطُوفَهُ.
ثُمَّ قِيلَ: يَبْتَدِئُ الْمَشْيَ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ، وَقِيلَ مِنْ بَيْتِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ، وَلَوْ رَكِبَا أَرَاقَ دَمًا لِأَنَّهُ أَدْخَلَ نَقْصًا فِيهِ، قَالُوا إنَّمَا يَرْكَبُ إذَا بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ وَشَقَّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ، وَإِذَا قَرُبَتْ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَعْتَادُ الْمَشْيَ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْكَبَ
(وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً مُحْرِمَةً قَدْ أَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا فِي ذَلِكَ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهَا وَيُجَامِعَهَا) وَقَالَ زُفَرُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ سَبَقَ مِلْكَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِهِ كَمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً مَنْكُوحَةً. وَلَنَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَائِعِ وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُحَلِّلَهَا، فَكَذَا الْمُشْتَرِي
الصَّوْمِ وَالْمَشْيِ لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَاءَ خُلُقُهُ فَجَادَلَ وَالْجِدَالُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْحَجِّ. وَقَوْلُهُ (وَأَفْعَالُ الْحَجِّ تَنْتَهِي بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ) يُرِيدُ بِالْأَفْعَالِ الْأَرْكَانَ لَا مُطْلَقَ الْأَفْعَالِ، فَإِنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ قِيلَ) يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ يَبْدَأُ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، فَقِيلَ: يَبْتَدِئُ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ وَعَلَيْهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالْإِمَامُ الْعَتَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا (وَقِيلَ مِنْ بَيْتِهِ) وَعَلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَمَالَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَقَالَ (لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ) يَعْنِي أَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَالْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ فِي النَّذْرِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَاجِبٌ (فَلَوْ رَكِبَ أَرَاقَ دَمًا لِأَنَّهُ أَدْخَلَ نَقْصًا فِيهِ) يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً حَافِيَةً، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِك مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتَذْبَحْ لِرُكُوبِهَا شَاةً» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «وَلْتُرِقْ دَمًا» وَقَوْلُهُ (قَالُوا) يَعْنِي الْمَشَايِخَ كَأَنَّهُ بَيَانُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَرِوَايَةِ الْجَامِعِ. رَوَى الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ (إنَّمَا يَرْكَبُ إذَا بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ وَشَقَّ الْمَشْيُ، وَأَمَّا إذَا قَرُبَتْ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَعْتَادُ الْمَشْيَ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْكَبَ)
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً مُحْرِمَةً) ظَاهِرٌ. قَوْلُهُ (وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ) يَعْنِي عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي الْحَجِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالْإِذْنِ فَصَارَ
إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَلْفِ الْوَعْدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَهُ إذَا بَاشَرَتْ بِإِذْنِهِ فَكَذَا لَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ
الْعَبْدُ كَالْحُرِّ إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَمْ يَقَعْ بِإِذْنِهِ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَسْخُهُ)
رَدِّهَا بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَتَمَكَّنُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ غَشَيَانِهَا
جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ زُفَرَ. وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ لِمَا أَنَّ النِّكَاحَ حَقُّ الزَّوْجِ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمَالِكُ مِنْ فَسْخِهِ وَإِنْ بَقِيَ مِلْكُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ بِهِ كَالرَّاهِنِ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِمْتَاعِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بِالْمَرْهُونِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِإِذْنِهِ، وَالْمُشْتَرِي قَامَ مَقَامَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ أَيْضًا، وَأَمَّا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هَاهُنَا فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الْجَارِيَةِ حَقَّانِ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِحْرَامِ. وَحَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الِاسْتِمْتَاعِ، فَيُقَدَّمُ حَقُّ الْعَبْدِ
(وَ) ذُكِرَ (فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَوْ يُجَامِعُهَا) وَالْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحَلِّلُهَا بِغَيْرِ الْجِمَاعِ بِقَصِّ شَعْرٍ أَوْ بِقَلْمِ ظُفْرٍ ثُمَّ يُجَامِعُ، وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحَلِّلُهَا بِالْمُجَامَعَةِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَقْدِيمِ مَسٍّ يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهَا بِغَيْرِ الْمُجَامَعَةِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْحَجِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
لِحَاجَتِهِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِغِنَاهُ. وَقَوْلُهُ (وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ) أَيْ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (أَوْ يُجَامِعُهَا) يَعْنِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قَالَ: فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهَا أَوْ يُجَامِعَهَا، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ. وَهَذَا آخِرُ الْعِبَادَاتِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُعِينُ عَلَى الْإِتْمَامِ.
كِتَابُ النِّكَاحِ
لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْعِبَادَاتِ شَرَعَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَابْتَدَأَ مِنْ بَيْنِهَا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَقَدْ اشْتَهَرَتْ فِي وَعِيدِ مَنْ رَغِبَ عَنْهُ وَتَحْرِيضِ مَنْ رَغِبَ فِيهِ الْآثَارُ، وَمَا اتَّفَقَ فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِثْلُ مَا اتَّفَقَ فِي النِّكَاحِ مِنْ اجْتِمَاعِ دَوَاعِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالطَّبْعِ. فَأَمَّا دَوَاعِي الشَّرْعِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَظَاهِرَةٌ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَأَمَّا دَوَاعِي الْعَقْلِ فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُحِبُّ أَنْ يَبْقَى اسْمُهُ وَلَا يَنْمَحِي رَسْمُهُ، وَمَا ذَاكَ غَالِبًا إلَّا بِبَقَاءِ النَّسْلِ.
وَأَمَّا الطَّبْعُ فَإِنَّ الطَّبْعَ الْبَهِيمِيَّ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يَدْعُو إلَى تَحْقِيقِ مَا أُعِدَّ مِنْ الْمُبَاضَعَاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْمُضَاجَعَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَلَا مَزْجَرَةَ فِيهَا إذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ بِدَوَاعِي الطَّبْعِ بَلْ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَشْرُوعَاتِ. وَالنِّكَاحُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَطْءِ، ثُمَّ قِيلَ لِلتَّزَوُّجِ نِكَاحٌ مَجَازًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ، وَقِيلَ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَقْدٌ وُضِعَ لِتَمْلِيكِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ.
وَسَبَبُهُ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِتَعَاطِيهِ. وَشَرْطُهُ الْخَاصُّ حُضُورُ شَاهِدَيْنِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِهِ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا لِلظُّهُورِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَا الِانْعِقَادِ. وَشَرْطُهُ الْعَامُّ الْأَهْلِيَّةُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْمَحَلِّ، وَهِيَ امْرَأَةٌ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ نِكَاحِهَا مَانِعٌ شَرْعِيٌّ. وَرُكْنُهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ؛ وَالْإِيجَابُ هُوَ الْمُتَلَفَّظُ بِهِ أَوَّلًا مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ وَالْقَبُولُ جَوَابُهُ.
وَحُكْمُهُ ثُبُوتُ الْحِلِّ عَلَيْهَا وَوُجُوبُ
(النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ
الْمَهْرِ عَلَيْهِ وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَهُوَ فِي حَالَةِ التَّوَقَانِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ الزِّنَا وَاجِبٌ وَهُوَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالنِّكَاحِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَفِي حَالَةِ الِاعْتِدَالِ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي حَالَةِ خَوْفِ الْجَوْرِ مَكْرُوهٌ قَالَ (النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ)
بِلَفْظَيْنِ يُعَبِّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي) لِأَنَّ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِلْإِخْبَارِ وَضْعًا فَقَدْ جُعِلَتْ لِلْإِنْشَاءِ شَرْعًا دَفْعًا لِلْحَاجَةِ
قَدْ ذَكَرْت مَعْنَى الِانْعِقَادِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عَلَى مَا سَيَأْتِي وَقَوْلُهُ (يُعَبَّرُ بِهِمَا) أَيْ بِلَفْظٍ وَيُبَيَّنُ؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ الْبَيَانُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} أَيْ تُبَيِّنُونَ، وَإِنَّمَا اُخْتِيرَ لَفْظُ الْمَاضِي لِلْإِنْشَاءِ وَهُوَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْكَلَامُ الَّذِي لَيْسَ لِنِسْبَتِهِ خَارِجٌ تُطَابِقُهُ أَوْ لَا تُطَابِقُهُ لِيَدُلَّ عَلَى التَّحَقُّقِ وَالثُّبُوتِ فَكَانَ أَدَلَّ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ.
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبِّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ زَوِّجْنِي فَيَقُولَ زَوَّجْتُك) لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ بِالنِّكَاحِ وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ النِّكَاحِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
(وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَالصَّدَقَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَيْسَ حَقِيقَةً فِيهِ وَلَا مَجَازًا عَنْهُ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لِلتَّلْفِيقِ وَالنِّكَاحَ لِلضَّمِّ، وَلَا ضَمَّ وَلَا ازْدِوَاجَ بَيْنَ الْمَالِكِ
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ فَصْلِ الْوَكَالَةِ فِي النِّكَاحِ
وَقَوْلُهُ (وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ) بَيَانُ أَلْفَاظٍ يَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ) لِأَنَّهُ إنْ انْعَقَدَ بِغَيْرِهِ مِثْلُ التَّمْلِيكِ مَثَلًا، فَإِمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَقِيقَةٌ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَجَازٌ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً كَانَ التَّمْلِيكُ وَالتَّزْوِيجُ مُتَرَادِفَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ التَّمْلِيكُ يُوجَدُ بِغَيْرِ نِكَاحٍ وَلَا إلَى الثَّانِي لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا (؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لِلتَّلْفِيقِ) يُقَالُ: لَفَّقْت بَيْنَ ثَوْبَيْنِ وَلَفَّقْت أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، إذَا لَاءَمْتَ بَيْنَهُمَا بِالْخِيَاطَةِ (وَالنِّكَاحُ لِلضَّمِّ، وَلَا ضَمَّ وَلَا ازْدِوَاجَ بَيْنَ الْمَالِكِ
وَالْمَمْلُوكَةِ أَصْلًا. وَلَنَا أَنَّ التَّمْلِيكَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّهَا بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ وَالسَّبَبِيَّةُ طَرِيقُ الْمَجَازِ.
وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ
وَالْمَمْلُوكَةِ أَصْلًا) فَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا. وَقُلْنَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا مَوْجُودَةٌ؛ لِأَنَّ (التَّمْلِيكَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّهَا) يَعْنِي أَنَّ تَمْلِيكَ الرَّقَبَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ إذَا صَادَفَتْ مَحَلَّ الْمُتْعَةِ لِإِفْضَائِهِ إلَيْهِ (وَ) مِلْكُ الْمُتْعَةِ (هُوَ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ وَالسَّبَبِيَّةُ طَرِيقُ الْمَجَازِ) وَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ فِي مَحَلِّهَا احْتِرَازًا عَنْ تَمْلِيكِ الْغِلْمَانِ وَالْبَهَائِمِ وَالْأُخْتِ الرَّضَاعِيَّةِ وَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ إذَا وَرَدَ عَلَى مِلْكِ النِّكَاحِ أَفْسَدَهُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ إفْسَادَهُ لِلنِّكَاحِ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ لَا مَحَالَةَ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إبْطَالُ ضَرْبِ مَالِكِيَّةٍ لَهَا فِي مُوَاجَبِ النِّكَاحِ مِنْ طَلَبِ الْقَسْمِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَالْمَنْعِ عَنْ الْعَزْلِ، وَحِينَئِذٍ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَا يُثْبِتُهُ وَيَنْفِيهِ فَجَازَتْ الِاسْتِعَارَةُ.
وَقَوْلُهُ (وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ) يَعْنِي بِأَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ بِعْتُك نَفْسِي أَوْ قَالَ أَبُوهَا بِعْتُك بِنْتِي بِكَذَا وَكَذَا
هُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُودِ طَرِيقِ الْمَجَازِ
بِلَفْظِ الشِّرَاءِ بِأَنْ قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَةٍ اشْتَرَيْتُك بِكَذَا فَأَجَابَتْ بِنَعَمْ، أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ. وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ خَاصٌّ لِتَمْلِيكِ مَالٍ وَالْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ
(وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ) فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ (وَ) لَا بِلَفْظِ (الْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ وَالْإِعَارَةِ) لِمَا قُلْنَا (وَ) لَا بِلَفْظِ (الْوَصِيَّةِ) لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْمِلْكَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
بِمَالٍ، وَوَجْهُ الصَّحِيحِ وُجُودُ طَرِيقِ الْمَجَازِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ إنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ مَنْفَعَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ جُعِلَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِوَضَ أَجْرًا فِي قَوْله تَعَالَى {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ.
وَوَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْعَقِدُ شَرْعًا إلَّا مُؤَقَّتَةً، وَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا مُؤَبَّدًا فَكَانَ بَيْنَ مُوجِبَيْهِمَا تَنَافٍ فَلَا تَجُوزُ الِاسْتِعَارَةُ، فَقَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ) لِعَدَمِ إفْضَائِهَا إلَيْهِ (وَلَا بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ وَالْإِعَارَةِ لِمَا قُلْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ لَا يُوجِبُ مِلْكًا أَصْلًا، فَإِنَّ مَنْ أَحَلَّ لِغَيْرِهِ طَعَامًا أَوْ أَبَاحَهُ لَهُ لَا يَمْلِكُهُ فَإِنَّمَا يُتْلِفُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ (وَلَا بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْمِلْكَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ) وَلَوْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
صَرَّحَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ زَمَانُ انْتِهَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَبُطْلَانِهِ لَا زَمَانُ ثُبُوتِهِ.
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قَالَ (وَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِحُضُورِ شَاهِدَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ مُسْلِمَيْنِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عُدُولًا كَانُوا أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ أَوْ مَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ) اعْلَمْ أَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رحمه الله فِي اشْتِرَاطِ الْإِعْلَانِ دُونَ الشَّهَادَةِ.
وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ
قَالَ (وَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِحُضُورِ شَاهِدَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَيْنِ عُدُولًا كَانُوا أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ) أَمَّا اشْتِرَاطُ الشَّهَادَةِ فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَغَيْرُهُ مِنْ الْآيَاتِ بِهِ.
وَأَجَابَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ (وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ الْإِعْلَانِ دُونَ الشَّهَادَةِ) حَتَّى لَوْ أَعْلَنُوا بِحُضُورِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ صَحَّ، وَلَوْ أَمَرَ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ لَا يُظْهِرَا الْعَقْدَ لَمْ يَصِحَّ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَلَوْ بِالدُّفِّ» وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِعْلَانَ يَحْصُلُ بِحُضُورِ
الْحُرِّيَّةِ فِيهَا لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ بِدُونِهِمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ،
الشَّاهِدَيْنِ حَقِيقَةً،
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ (لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ) وَالشَّهَادَةُ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْوِلَايَةَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفَاذِ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى. وَذَلِكَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَكَلَامُنَا فِي حَالَةِ الِانْعِقَادِ، فَكَمَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ فَلْيَنْعَقِدْ بِشَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ إذْ الْوِلَايَةُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَدَاءَ يَحْتَاجُ إلَى وِلَايَةٍ مُتَعَدِّيَةٍ وَلَيْسَتْ بِمُرَادَةٍ هَاهُنَا. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الْوِلَايَةُ الْقَاصِرَةُ تَعْظِيمًا لِخَطَرِ أَمْرِ النِّكَاحِ كَاشْتِرَاطِ أَصْلِ الشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ اعْتِبَارُ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ (لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ بِدُونِهِمَا وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْإِسْلَامِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ) يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَفِيهِ النَّظَرُ
وَلَا يُشْتَرَطُ وَصْفُ الذُّكُورَةِ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِحُضُورِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَسَتَعْرِفُ فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِحَضْرَةِ الْفَاسِقَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله. لَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ وَالْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْإِهَانَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ،
الَّذِي مَرَّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَدَاءَ حَتَّى تَكُونَ الْوِلَايَةُ شَرْطًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ وَصِفَةَ الشَّاهِدَيْنِ إنَّمَا كَانَتْ تَعْظِيمًا وَلَا تَعْظِيمَ لِشَيْءٍ بِسَبَبِ حُضُورِهِ لِلْكُفَّارِ (وَلَا يُشْتَرَطُ وَصْفُ الذُّكُورَةِ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِحُضُورِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) وَوَعَدَ الْمُصَنِّفُ بِبَيَانِ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَاتِ وَنَحْنُ تَابَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ،
وَيَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. هُوَ يَقُولُ (الشَّهَادَةُ مِنْ الْكَرَامَةِ) لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ قَوْلِهِ فِي نَفْسِهِ وَنَفَاذِهِ عَلَى الْغَيْرِ إكْرَامًا لَهُ لَا مَحَالَةَ (وَالْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْإِهَانَةِ) لِجَرِيمَتِهِ، وَدَلِيلُهُ يَتِمُّ بِأَنْ يَقُولَ: وَالْفَاسِقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَرَامَةِ، وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْهُ إلَى مَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ تَرْكِ الْإِكْرَامِ وَهُوَ الْإِهَانَةُ (وَلَنَا أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ) عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ وَعَبْدَهُ وَأَمَتَهُ وَيُقِرَّ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ،
وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُحَرِّمْ الْوِلَايَةَ عَلَى نَفْسِهِ لِإِسْلَامِهِ لَا يُحَرِّمُ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَلِأَنَّهُ صَلُحَ مُقَلَّدًا فَيَصْلُحُ مُقَلِّدًا وَكَذَا شَاهِدًا. وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ تَحَمُّلًا، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ ثَمَرَةُ الْأَدَاءِ بِالنَّهْيِ لِجَرِيمَتِهِ فَلَا يُبَالِي بِفَوَاتِهِ كَمَا
وَكُلُّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا مُتَعَدِّيَةٌ إلَى غَيْرِهِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ: يَعْنِي (لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُحْرَمْ الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ لِإِسْلَامِهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ) كَمَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَهُمْ وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَهُمْ الْوِلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِسْقَ لَا يُخْرِجُ الْمَرْءَ مِنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَدَاءِ، وَفِيهِ الْإِلْزَامُ، فَلَأَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْهَا عَلَى الِانْعِقَادِ وَلَا إلْزَامَ فِيهِ أَوْلَى (وَلِأَنَّهُ صَلُحَ مُقَلِّدًا) كَالْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ قَلَّمَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ فِسْقٍ (فَيَصْلُحُ مُقَلِّدًا) أَيْ قَاضِيًا (فَكَذَا شَاهِدًا) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَالْقَضَاءَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ. وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ قَالَ بِالْوَاوِ كَانَ أَحْسَنَ.
لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَى مُقَلِّدًا بِكَسْرِ اللَّامِ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ السَّلْطَنَةِ لَيْسَتْ مُسْتَفَادَةً مِنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ عَكْسَهُ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ إذَا كَانَ الْفِسْقُ لَا يَمْنَعُ عَنْ وِلَايَةٍ هِيَ أَعَمُّ ضَرَرًا فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ عَنْ وِلَايَةِ عَامِّ الضَّرَرِ أَوْ خَاصِّهِ أَوْلَى، وَالتَّرْتِيبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ خَافِي الصِّحَّةِ. وَلَوْ قَالَ الْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ الْقَاصِرَةِ بِلَا خِلَافٍ فَيَصْلُحُ شَاهِدًا عَلَى الِانْعِقَادِ لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ فِيهِ وَكَانَتْ الْوِلَايَةُ قَاصِرَةً لَكَانَ أَسْهَلَ تَأَتِّيًا، وَيَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ لِأَنَّهُ (مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ) عَلَى مَا مَرَّ (فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ تَحَمُّلًا) لَا أَدَاءً. فَإِنْ قُلْت: النُّكْتَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْفَاسِقِ أَوَّلًا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ شَهَادَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ وَلَمْ تَكُنْ فَكَانَتْ مَنْقُوضَةً. قُلْت: كَانَ كَذَلِكَ لَوْلَا النَّصُّ الْقَاطِعُ.
وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ ثَمَرَةُ الْأَدَاءِ بِالنَّهْيِ لِجَرِيمَتِهِ فَلَا يُبَالِي بِفَوَاتِهِ كَمَا
فِي شَهَادَةِ الْعُمْيَانِ وَابْنَيْ الْعَاقِدَيْنِ.
قَالَ (وَإِنْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: لَا يَجُوزُ) لِأَنَّ السَّمَاعَ فِي النِّكَاحِ شَهَادَةٌ وَلَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ
فِي شَهَادَةِ الْعُمْيَانِ) مَعْذِرَةٌ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ بَعْدَمَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ كَالْفَاسِقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرْته آنِفًا، وَالطَّرِيقُ الَّذِي ذَكَرْته فِي الْفَاسِقِ أَسْهَلُ مَأْخَذًا.
قَالَ (وَإِنْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ السَّمَاعَ) أَيْ سَمَاعَ كَلَامِ الْعَاقِدَيْنِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ (فِي النِّكَاحِ شَهَادَةٌ) وَهَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّا لَا نُرِيدُ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى النِّكَاحِ إلَّا ذَلِكَ (وَلَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ)
فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الْمُسْلِمِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ شُرِطَتْ فِي النِّكَاحِ عَلَى اعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِوُرُودِهِ عَلَى مَحَلِّ ذِي خَطَرٍ لَا عَلَى اعْتِبَارِ وُجُوبِ الْمَهْرِ إذْ لَا شَهَادَةَ تُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْمَالِ وَهُمَا شَاهِدَانِ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْعَقْدَ
وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ (فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الزَّوْجِ، وَلَهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ، شُرِطَتْ فِي النِّكَاحِ عَلَى اعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ) وَتَرْكِيبُ الْحُجَّةِ، هَكَذَا الشَّهَادَةُ فِي النِّكَاحِ، شُرِطَتْ عَلَى اعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا، وَكُلُّ مَا شُرِطَتْ عَلَى اعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا شَهَادَةٌ عَلَيْهَا فَالشَّهَادَةُ فِي النِّكَاحِ شَهَادَةٌ عَلَيْهَا. وَبَيَّنَ الْمُصَنِّفُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى بِقَوْلِهِ (لِوُرُودِهِ عَلَى مَحَلٍّ ذِي خَطَرٍ).
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي النِّكَاحِ حَالَ الِانْعِقَادِ، إمَّا أَنْ تَكُونَ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ عَلَيْهَا إبَانَةً لِخَطَرِ الْمَحَلِّ، أَوْ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْمَهْرِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي مُنْتَفٍ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَالٌ وَلَا يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى لُزُومِ الْمَالِ أَصْلًا، وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ يُشْتَرَطُ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ عَلَيْهَا إلَّا الشَّهَادَةُ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا، وَإِذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ حَالَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ شَهَادَةٌ عَلَيْهَا كَانَ الذِّمِّيَّانِ شَاهِدَيْنِ عَلَيْهَا، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الذِّمِّيَّةِ جَائِزَةٌ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَسْمَعَا) جَوَابٌ عَنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قِيَاسِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي النِّكَاحِ شَرْطٌ عَلَى الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِكَلَامَيْهِمَا، فَإِذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ
يَنْعَقِدُ بِكَلَامِهِمَا وَالشَّهَادَةُ شُرِطَتْ عَلَى الْعَقْدِ.
قَالَ (وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِأَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ فَزَوَّجَهَا وَالْأَبُ حَاضِرٌ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ سِوَاهُمَا جَازَ النِّكَاحُ) لِأَنَّ الْأَبَ يُجْعَلُ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا فَيَبْقَى الْمُزَوِّجُ شَاهِدًا (وَإِنْ كَانَ الْأَبُ غَائِبًا لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الْمَجْلِسَ مُخْتَلِفٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْعَلَ الْأَبَ مُبَاشِرًا، وَعَلَى هَذَا إذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ الْبَالِغَةَ بِمَحْضَرِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ إنْ كَانَتْ حَاضِرَةً جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لَمْ يَجُزْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمُسْلِمِ لَمْ يَشْهَدَا عَلَى الْعَقْدِ
(وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ فَزَوَّجَهَا) بِحَضْرَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا (جَازَ النِّكَاحُ لِأَنَّ الْأَبَ يُجْعَلُ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ) شَاهِدًا لِأَنَّ الْمَجْلِسَ مُتَّحِدٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْوَاقِعُ مِنْ الْمَأْمُورِ حَقِيقَةً كَالْوَاقِعِ مِنْ الْآمِرِ حُكْمًا لِكَوْنِ الْوَكِيلِ فِي بَابِ النِّكَاحِ (سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ مُخْتَلِفٌ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْأَبُ مُبَاشِرًا) مَعَ عَدَمِ حُضُورِهِ فِي مَجْلِسِ الْمُبَاشَرَةِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَذَا تَكَلُّفٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْأَبَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِي بَابِ النِّكَاحِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نَقْلِ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ الْمَأْمُورِ إلَى الْآمِرِ حُكْمًا، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَهِيَ مَا (إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ الْبَالِغَةَ بِمَحْضَرِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً جَازَ) بِنَقْلِ مُبَاشَرَةِ الْأَبِ إلَيْهَا لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهَا لِلشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهَا (وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَقْدِرُ أَنْ لَوْ تُصُوِّرَ تَحْقِيقًا.
وَأَقُولُ: أَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فِي الِاحْتِيَاجِ إلَى ذَلِكَ التَّكَلُّفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ حَاضِرًا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
شَاهِدًا فِي نِكَاحٍ أَمَرَهُ بِهِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ فَكَأَنَّ الْأَبَ هُوَ الْمُزَوِّجُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُزَوِّجُ شَاهِدًا، وَإِذَا انْتَقَلَ إلَيْهِ الْمُبَاشَرَةُ أَيْضًا صَارَ هُوَ الْمُزَوِّجُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ شَاهِدًا، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ فَزَوَّجَهُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَالْعَبْدُ حَاضِرٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ إمْكَانِ جَعْلِ الْعَبْدِ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ وَالْوَكِيلِ مَعَ الرَّجُلِ شَاهِدَيْنِ، كَمَا لَوْ بَاشَرَ الْمَوْلَى عَقْدَ تَزْوِيجِ الْعَبْدِ عِنْدَ حَضْرَةِ الْعَبْدِ مَعَ رَجُلٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ مُوَكِّلًا حَتَّى تَنْتَقِلَ مُبَاشَرَةُ الْوَكِيلِ إلَيْهِ وَيَبْقَى شَاهِدًا فَبَقِيَ الْوَكِيلُ عَلَى حَالِهِ مُزَوِّجًا، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاشَرَهُ الْمَوْلَى بِحَضْرَةِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ هُنَاكَ يُجْعَلُ مُبَاشِرًا لِلنِّكَاحِ بِنَفْسِهِ وَالْمَوْلَى شَاهِدًا فَيَكُونُ النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ. لَا يُقَالُ: الْمَوْلَى لَيْسَ بِوَكِيلٍ عَنْ الْعَبْدِ فَكَيْفَ تَنْتَقِلُ مُبَاشَرَتُهُ إلَيْهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا كَانَ لَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَكِّلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ غَائِبًا لِعَدَمِ إمْكَانِهِ مُبَاشِرًا لِمَا قُلْنَا إنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُقَدَّرُ أَنْ لَوْ تُصُوِّرَ تَحْقِيقًا.
(فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ)
قَالَ (لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّهِ وَلَا بِجَدَّاتِهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى
فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ)
لَمَّا كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ مَنْ أَخْرَجَهَا اللَّهُ عَنْ مَحَلِّيَّةِ النِّكَاحِ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ بَنِي آدَمَ احْتَاجَ إلَى ذِكْرِهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ. وَأَسْبَابُ حُرْمَتِهِنَّ تَتَنَوَّعُ إلَى تِسْعَةِ أَنْوَاعٍ: الْقَرَابَةُ، وَالْمُصَاهَرَةُ، وَالرَّضَاعُ، وَالْجَمْعُ، وَتَقْدِيمُ الْحُرَّةِ عَلَى الْأَمَةِ، وَقِيَامُ حَقِّ الْغَيْرِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ عِدَّةٍ، وَالشِّرْكُ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ، وَالطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ (لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّهِ وَلَا بِجَدَّاتِهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وَدَلَالَتُهُ عَلَى حُرْمَةِ الْأُمِّ ظَاهِرَةٌ.
وَأَمَّا عَلَى حُرْمَةِ الْجَدَّةِ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأُمَّ فِي اللُّغَةِ هِيَ الْأَصْلُ كَمَا يُقَالُ لِمَكَّةَ أُمُّ الْقُرَى، فَتَكُونُ دَلَالَتُهَا عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى يَعُمُّهُمَا لُغَةً لَا بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} وَالْجَدَّاتُ أُمَّهَاتٌ، إذْ الْأُمُّ هِيَ الْأَصْلُ لُغَةً أَوْ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ، قَالَ (وَلَا بِبِنْتِهِ) لِمَا تَلَوْنَا (وَلَا بِبِنْتِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَتْ) لِلْإِجْمَاعِ.
(وَلَا بِأُخْتِهِ وَلَا بِبَنَاتِ أُخْتِهِ وَلَا بِبَنَاتِ أَخِيهِ وَلَا بِعَمَّتِهِ وَلَا بِخَالَتِهِ) لِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَدْخُلُ فِيهَا الْعَمَّاتُ الْمُتَفَرِّقَاتُ وَالْخَالَاتُ الْمُتَفَرِّقَاتُ وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ لِأَنَّ جِهَةَ الِاسْمِ عَامَّةٌ.
قَالَ (وَلَا بِأُمِّ امْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}
أَوْ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ) وَهَذَانِ الْمَسْلَكَانِ يُسْلَكُ بِهِمَا فِي كُلِّ مَا فِيهِ مَعْنَى الْفَرْعِيَّةِ أَيْضًا كَالْبَنَاتِ وَبَنَاتِهَا وَبَنَاتُ الِابْنِ بَنَاتٌ كَذَلِكَ، وَالْأُخْتُ وَبَنَاتُهَا وَبَنَاتُ الْأَخِ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ مُتَفَرِّقَةٌ كُنَّ أَوْ غَيْرُهَا تَنَاوَلَهَا النَّصُّ بِجِهَةِ عُمُومِ الِاسْمِ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَرَابَةِ.
وَتَحْرُمُ أُمُّ امْرَأَتِهِ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}
مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الدُّخُولِ
(وَلَا بِبِنْتِ امْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا) لِثُبُوتِ قَيْدِ الدُّخُولِ بِالنَّصِّ (سَوَاءً كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَوْ فِي حِجْرِ غَيْرِهِ) لِأَنَّ ذِكْرَ الْحِجْرِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ لَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي مَوْضِعِ الْإِحْلَالِ بِنَفْيِ الدُّخُولِ
مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِالدُّخُولِ.
وَتَحْرُمُ بِنْتُ امْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا لِثُبُوتِ قَيْدِ الدُّخُولِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَلَيْسَ كَوْنُهَا فِي الْحِجْرِ شَرْطًا. (قَالَ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ ذِكْرَ الْحِجْرِ) يَعْنِي فِي قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} (خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ) فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنْ تَكُونَ الْبَنَاتُ فِي حِجْرِ زَوْجِ أُمِّهَا غَالِبًا: أَيْ فِي تَرْبِيَتِهَا لَا عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ، وَاسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي مَوْضِعِ الْإِحْلَالِ بِنَفْيِ الدُّخُولِ) وَلَمْ يَشْتَرِطْ نَفْيَ الدُّخُولِ مَعَ نَفْيِ الْحِجْرِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَلَسْنَ فِي حُجُورِكُمْ، فَإِنَّ الْإِبَاحَةَ تَتَعَلَّقُ بِضِدِّ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُرْمَةُ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ مُتَعَلِّقَةً بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ، وَهُمَا الدُّخُولُ، وَالْحِجْرُ.
(قَالَ وَلَا بِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}
(وَلَا بِامْرَأَةِ ابْنِهِ وَبَنِي أَوْلَادِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ}
ثُمَّ تَنْتَفِي الْحُرْمَةُ بِانْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْجُزْءِ، فَلَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الْإِبَاحَةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الدُّخُولِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْحِجْرِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَادَةَ فِي مِثْلِهِ نَفْيُ الْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا أَوْ نَفْيُ الْعِلَّةِ مُطْلَقًا، لَا نَفْيُ أَحَدِهِمَا وَالسُّكُوتُ عَنْ الْآخَرِ. لَا يُقَالُ: لَا يَجْرِي حُكْمُ الرِّبَا وَهُوَ حُرْمَةُ الْفَضْلِ وَالنَّسِيئَةِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَدَلَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْجِنْسِيَّةُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ الْقَدْرُ، بَلْ يُقَالُ: لَمْ يُوجَدْ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، أَوْ يُقَالُ: لَمْ تُوجَدْ عِلَّةُ الرِّبَا وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ،
وَتَحْرُمُ امْرَأَةُ أَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فَإِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْأَبِ ظَاهِرَةٌ وَعَلَى الْجَدِّ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَبِ الْأَصْلُ فَيَتَنَاوَلُ الْآبَاءُ الْأَجْدَادَ كَمَا تَتَنَاوَلُ الْأُمُّ الْجَدَّاتِ، وَإِمَّا بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ إنْ كَانَ هُوَ الْوَطْءُ فَيَكُونُ الْعَقْدُ ثَابِتًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدَ فَالْوَطْءُ
وَذَكَرَ الْأَصْلَابَ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي لَا لِإِحْلَالِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ
(وَلَا بِأُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَا بِأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» .
(وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ نِكَاحًا وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ وَطْئًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْمَعَنَّ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ» .
ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَتَحْرُمُ امْرَأَةُ الِابْنِ نَسَبًا وَرَضَاعًا وَبَنِي أَوْلَادِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} فَحَلِيلَةُ الِابْنِ وَهِيَ زَوْجَتُهُ حَرَامٌ عَلَى الْأَبِ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا الِابْنُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ عَلَى الدُّخُولِ، وَأَمَّا حَلِيلَةُ ابْنِ الِابْنِ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِابْنِ هُوَ الْفَرْعُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَحَلَائِلُ فُرُوعِكُمْ، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ حَلِيلَةَ ابْنِ الِابْنِ وَابْنِ الْبِنْتِ بِعُمُومِهِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى {مِنْ أَصْلابِكُمْ} يَأْبَى ذَلِكَ. أَجَابَ بِأَنَّ (ذِكْرَ الْأَصْلَابِ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي لَا لِإِحْلَالِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ) وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّبَنِّي انْتَسَخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} وَقِصَّتُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بَعْدَمَا طَلَّقَهَا زَيْدٌ، فَطَعَنَ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُوا: إنَّهُ تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ، فَنَسَخَ اللَّهُ التَّبَنِّي بِقَوْلِهِ {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} وَدَفَعَ طَعْنَ الْمُشْرِكِينَ بِهَذَا التَّقْيِيدِ فَبَقِيَتْ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ دَاخِلَةً تَحْتَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ التَّحْرِيمِ بِالْمُصَاهَرَةِ.
وَتَحْرُمُ أُمُّ الرَّجُلِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُخْتُهُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى
(فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَ أَمَةٍ لَهُ قَدْ وَطِئَهَا صَحَّ النِّكَاحُ) لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ (وَ) إذَا جَازَ (لَا يَطَأُ الْأَمَةَ
{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّضَاعِ.
وَيَحْرُمُ أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِنِكَاحٍ أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ وَطْئًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَرَى حُكْمُهُمَا إلَى كُلِّ امْرَأَتَيْنِ لَوْ فُرِضَتْ إحْدَاهُمَا ذِكْرًا حَرُمَتْ الْأُخْرَى عَلَيْهِ بِعِلَّةِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ سَوَاءٌ كَانَ فِي النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعِ.
وَمَنْ لَهُ أَمَةٌ فَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا جَازَ، سَوَاءٌ كَانَ وَطِئَ الْأَمَةَ أَوْ لَمْ يَطَأْهَا لِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ (مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ) لِأَنَّ الْأُخْتَ الْمَمْلُوكَةَ وَطْؤُهَا مِنْ بَابِ الِاسْتِخْدَامِ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ نِكَاحَ الْأُخْتِ، ثُمَّ إنْ كَانَ وَطِئَ الْأَمَةَ لَا يَطَؤُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَطَأْ الْمَنْكُوحَةَ بَعْدُ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَوْطُوءَةٌ حُكْمًا فَوَطْءُ الْأَمَةِ يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِوَطْءِ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً وَالْأُخْرَى حُكْمًا. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَوْ كَانَ قَائِمًا مَقَامَ الْوَطْءِ حَتَّى تَصِيرَ الْمَنْكُوحَةُ مَوْطُوءَةً حُكْمًا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا النِّكَاحُ كَيْ لَا يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا كَمَا قَالَ بِهِ مَالِكٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ نَفْسَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِوَطْءٍ حَتَّى يَصِيرَ بِهِ جَامِعًا بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا
وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطَأْ الْمَنْكُوحَةَ) لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَوْطُوءَةٌ حُكْمًا، وَلَا يَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ لِلْجَمْعِ إلَّا إذَا حَرَّمَ الْمَوْطُوءَةَ عَلَى نَفْسِهِ لِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَحِينَئِذٍ يَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ لِعَدَمِ الْجَمْعِ، وَيَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ الْمَمْلُوكَةَ لِعَدَمِ الْجَمْعِ وَطْئًا إذْ الْمَرْقُوقَةُ لَيْسَتْ مَوْطُوءَةً حُكْمًا.
(فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ وَلَا يَدْرِي أَيَّتَهمَا أُولَى فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا) لِأَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا بَاطِلٌ بِيَقِينٍ،
يَصِيرُ وَطْئًا بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ وَهُوَ حِلُّ الْوَطْءِ فَلَا يَكُونُ وَطْءُ الْأَمَةِ مَانِعًا عَنْ النِّكَاحِ (وَلَا يَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ) أَيْضًا (لِلْجَمْعِ) بَيْنَهُمَا (إلَّا إذَا حَرَّمَ الْمَوْطُوءَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ) كَالْبَيْعِ وَالتَّزْوِيجِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَطْءَ قَائِمٌ حُكْمًا، حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الِاسْتِبْرَاءُ فَيَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا وَطْئًا حَقِيقَةً، وَبِالتَّحْرِيمِ عَلَى نَفْسِهِ يَبْطُلُ حُكْمُ ذَلِكَ الْوَطْءِ لِزَوَالِ مَعْنَى اشْتِغَالِ رَحِمِهَا بِمَائِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَغْشَاهَا فَيَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْمَنْكُوحَةَ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ الْجَمْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ الْمَمْلُوكَةَ جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْمَنْكُوحَةَ لِعَدَمِ الْجَمْعِ وَطْئًا إذْ الْمَرْقُوقَةُ لَيْسَتْ مَوْطُوءَةً حُكْمًا.
قَوْلُهُ (فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ وَلَا يَدْرِي أَيَّتَهمَا أَوْلَى فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا) قَيَّدَ بِعُقْدَتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهُمَا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَلَا يَسْتَحِقَّانِ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَلَا يَدْرِي أَيَّتَهُمَا أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا بَاطِلٌ بِيَقِينٍ)
وَلَا وَجْهَ إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَلَا إلَى التَّنْفِيذِ مَعَ التَّجْهِيلِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ أَوْ لِلضَّرَرِ فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ (وَلَهُمَا نِصْفُ الْمَهْرِ) لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْأُولَى مِنْهُمَا، وَانْعَدَمَتْ الْأَوْلَوِيَّةُ لِلْجَهْلِ بِالْأَوَّلِيَّةِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِمَا، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا الْأُولَى أَوْ الِاصْطِلَاحِ لِجَهَالَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ.
يَعْنِي مَنْ كَانَتْ أُخْرَى فِي الْوَاقِعِ (وَلَا وَجْهَ إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَلَا إلَى التَّنْفِيذِ) يَعْنِي إلَى تَصْحِيحِهِ فِي إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا (لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ) وَهِيَ حِلُّ الْقُرْبَانِ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْجَهَالَةِ (أَوْ لِلضَّرَرِ) يَعْنِي فِي حَقِّهِمَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَبْقَى مُعَلَّقَةً لَا ذَاتَ بَعْلٍ وَلَا مُطَلَّقَةً (فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ) وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَهَا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ وَلَا يُفَرَّقُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَارِقَ تَمَكُّنُ الزَّوْجِ ثَمَّةَ مِنْ دَعْوَى ثَلَاثٍ مِنْهُنَّ بِأَعْيَانِهَا، لِأَنَّ نِكَاحَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ نِكَاحِهِمَا كَذَلِكَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَعْوَى النِّكَاحِ فِي إحْدَاهُمَا تَمَسُّكًا بِالْيَقِينِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا نِصْفُ الْمَهْرِ) يَعْنِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ (لِأَنَّهُ وَجَبَ الْأَوْلَى مِنْهُمَا) أَمَّا أَنَّهُ وَجَبَ فَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِسَبَبٍ مُضَافٍ إلَى الزَّوْجِ وَهُوَ التَّجْهِيلُ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمَهْرَ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا أَنَّهُ لِلْأُولَى فَلِأَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ دُونَ الْأُخْرَى، وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ الْمَهْرُ لِلْأُولَى مِنْهُمَا لِمَا قُلْنَا وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا لِكَوْنِهَا أُولَى أَوْلَى (لِلْجَهْلِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْأَوَّلِيَّةِ (فَيُصْرَفُ إلَيْهِمَا) وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا) قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: لَا بُدَّ أَنْ تَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا هِيَ الْأُولَى، وَأَمَّا إذَا قَالَتْ لَا نَدْرِي أَيَّ النِّكَاحَيْنِ كَانَ أَوَّلًا لَا يُقْضَى لَهُمَا بِشَيْءٍ حَتَّى يَصْطَلِحَا، لِأَنَّ الْحَقَّ
(وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ ابْنَةِ أَخِيهَا أَوْ ابْنَةِ أُخْتِهَا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا» وَهَذَا مَشْهُورٌ،
لِلْمَجْهُولَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَى أَوْ الِاصْطِلَاحِ لِيَقْضِيَ لَهُمَا: وَصُورَةُ هَذَا الِاصْطِلَاحِ أَنْ يَقُولَا عِنْدَ الْقَاضِي: لَنَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَهَذَا الْحَقُّ لَا يَعْدُونَا فَنَصْطَلِحَ عَلَى أَخْذِ نِصْفِ الْمَهْرِ فَيَقْضِي الْقَاضِي.
قَالَ (وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ ابْنَةِ أَخِيهَا أَوْ ابْنَةِ أُخْتِهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا») رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّهُ رَوَاهُ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو سَعِيدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَأَبُو أُمَامَةَ وَجَابِرٌ وَعَائِشَةُ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ (وَهُوَ مَشْهُورٌ) تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ التَّكْرَارِ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ بِصِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا هُوَ أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ، ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ
يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِمِثْلِهِ.
(وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا رَجُلًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى) لِأَنَّ
وَعَمَّتِهَا هُوَ عَيْنُ جَمْعِ الْمَرْأَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ أَخِيهَا، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا هُوَ عَيْنُ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنَةِ أُخْتِهَا. أُجِيبَ بِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ قَالَ: ذُكِرَ هَذَا النَّفْيُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، إمَّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ التَّحْرِيمِ، أَوْ لِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ نِكَاحَ ابْنَةِ الْأَخِ عَلَى الْعَمَّةِ لَا يَجُوزُ، وَنِكَاحَ الْعَمَّةِ عَلَى ابْنَةِ الْأَخِ يَجُوزُ لِتَفْضِيلِ الْعَمَّةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ عَلَى الْأَمَةِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُبُوتَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ قَالَ: وَهَذَا مَشْهُورٌ (تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِمِثْلِهِ) وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُحَصِّلِينَ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} عَامٌّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُخَصِّصُهُ. سَلَّمْنَا جَوَازَ الِاصْطِلَاحِ عَلَى تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالزِّيَادَةِ، لَكِنَّ شَرْطَ التَّخْصِيصِ الْمُقَارَنَةُ عِنْدَنَا أَوَّلًا وَلَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكِتَابِ نَسْخٌ أَخَصُّ فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ وَإِرَادَةُ مُطْلَقِ النَّسْخِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَخَصِّ وَإِرَادَةَ الْأَعَمِّ مَجَازٌ شَائِعٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِ، وَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ لَا سِيَّمَا أَنَّهُ تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ بِالنَّسْخِ مَرَّةً فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} نَسْخُ عُمُومٍ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بِتَقْدِيرِهِ مُتَأَخِّرًا لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ النَّسْخُ، فَجَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِخَبَرٍ مَشْهُودٍ مَا تَنَاوَلَهُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا بَأْسَ بِمُطَالَعَةِ مَا فِي النِّهَايَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كَلَامِ الْمَهَرَةِ الْحُذَّاقِ الْمُتْقِنِينَ إنْ كَانَتْ الْقَوَاعِدُ الْأُصُولِيَّةُ عَلَى ذِكْرٍ مِنْك.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا رَجُلًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى) ظَاهِرٌ، وَهُوَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ بَحْثُنَا فِيهِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ
الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُفْضِي بِالْقَطِيعَةِ وَالْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلنِّكَاحِ مُحَرِّمَةٌ لِلْقَطْعِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ الرَّضَاعِ يَحْرُمُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ.
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبِنْتِ زَوْجٍ كَانَ لَهَا مِنْ قَبْلُ) لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا رَضَاعَ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ابْنَةَ الزَّوْجِ لَوْ قَدَّرْتَهَا ذَكَرًا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ. قُلْنَا: امْرَأَةُ الْأَبِ لَوْ صَوَّرْتَهَا ذَكَرًا جَازَ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهَذِهِ وَالشَّرْطُ أَنْ يُصَوَّرَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا مُحَرَّمٌ لِإِفْضَائِهِ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ الْقَطْعِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَا عَلَيْك أَنْ تَجْعَلَهُ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} كَمَا قَدَّمْته وَهُوَ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ الرَّضَاعِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ» الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ) ظَاهِرٌ، وَنُسِبَ فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُ زُفَرَ هَذَا إلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَقَوْلُهُ (وَالشَّرْطُ أَنْ يُصَوَّرَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ) يَعْنِي كَمَا كَانَ فِي الْأُخْتَيْنِ كَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ فَرْعٌ عَلَيْهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ عَلَى وِفَاقِ الْأَصْلِ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةِ عَلِيٍّ وَبِنْتِهِ، وَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّحْرِيمِ
قَالَ (وَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ فَلَا تُنَالُ بِالْمَحْظُورِ.
بِسَبَبِ الْجَمْعِ.
قَالَ (وَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْجَمْعِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ أَوَّلًا وَذَكَرَ الْخِلَافَ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ) فَإِنَّهَا تُلْحِقُ الْأَجْنَبِيَّاتِ بِالْمَحَارِمِ، وَكُلُّ مَا هُوَ نِعْمَةٌ لَا يُنَالُ بِالْمَحْظُورِ لِانْتِفَاءِ الْمُنَاسَبَةِ الْوَاجِبَةِ بَيْنَ الْحُكْمِ وَسَبَبِهِ (وَلَنَا أَنَّ
وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ حَتَّى يُضَافَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمُلًا فَتَصِيرُ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا كَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَكَذَلِكَ عَلَى الْعَكْسِ،
الْوَطْءَ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ) وَتَقْرِيرُهُ: الْوَلَدُ جُزْءُ مَنْ هُوَ مِنْ مَائِهِ وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ: أَمَّا أَنَّ الْوَلَدَ جُزْءُ مَنْ هُوَ مِنْهُ فَلِأَنَّ سَبَبَ الْجُزْئِيَّةِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْوَطْءُ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْجُزْئِيَّةِ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ لَا مَحَالَةَ، وَكَذَا بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ بِسَبَبِ الْوَلَدِ (حَتَّى يُضَافَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا) يُقَالُ ابْنُ فُلَانٍ وَابْنُ فُلَانَةَ (فَتَصِيرُ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا كَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ) وَتَصِيرُ أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ كَأُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي نَفْسِ الْمَرْأَةِ الْمَوْطُوءَةِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ جُزْءُ الْوَاطِئِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ الْمَوْطُوءَةُ) لِأَنَّهَا لَوْ قِيلَ بِحُرْمَتِهَا لَمْ تَحِلَّ امْرَأَةٌ بَعْدَمَا وَلَدَتْ لِزَوْجِهَا وَعَادَ النِّكَاحُ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ لِأَنَّهُ مَا شُرِعَ إلَّا لِلتَّوَالُدِ، فَلَوْ حَرُمَتْ بِالْوِلَادَةِ لَكَانَ مَا وُضِعَ لِلْوِلَادَةِ يَنْتَفِي بِهَا فِيهِمَا وَذَلِكَ خَلَفٌ بَاطِلٌ، وَأَمَّا أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ فَلِأَنَّ أَوَّلَ الْإِنْسَانِ آدَم عليه السلام وَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بَنَاتُهُ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي حُرْمَةِ الْجُزْءِ، وَاسْتَثْنَى مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ وَهِيَ امْرَأَتُهُ.
وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ الْمَوْطُوءَةُ، وَالْوَطْءُ مُحَرَّمٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبُ الْوَلَدِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ زِنًا.
(وَمَنْ مَسَّتْهُ امْرَأَةٌ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا)
وَقَوْلُهُ (وَالْوَطْءُ مُحَرَّمٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبُ الْوَلَدِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ نِعْمَةٌ فَلَا تُنَالُ بِمَحْظُورٍ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْحُرْمَةِ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ حَتَّى تُعْتَبَرَ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ زِنًا وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لَهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِلْوَلَدِ أُقِيمَ مَقَامَهُ كَالسَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ، وَلَا عُدْوَانَ وَلَا مَعْصِيَةَ لِلْمُسَبِّبِ الَّذِي هُوَ الْوَلَدُ لِعَدَمِ اتِّصَافِهِ بِذَلِكَ. لَا يُقَالُ: وَلَدُ عِصْيَانٍ أَوْ عُدْوَانٍ وَالشَّيْءُ إذَا قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَةُ أَصْلِهِ لَا صِفَةُ نَفْسِهِ كَالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ مَسَّتْهُ امْرَأَةٌ بِشَهْوَةٍ) بَيَانُ أَنَّ الْأَسْبَابَ الدَّاعِيَةَ إلَى الْوَطْءِ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَالْوَطْءِ فِي إثْبَاتِهَا. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا صَدَّقَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ أَنَّهَا مَسَّتْهُ عَنْ شَهْوَةٍ وَلَوْ كَذَّبَهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ عَنْ شَهْوَةٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَحْرُمَ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا. فَإِنْ قِيلَ: ذِكْرُ مَسْأَلَةِ الدَّوَاعِي تَكْرَارٌ لِأَنَّ نَفْسَ الْوَطْءِ الْحَرَامِ إذَا لَمْ يُوجِبْ الْحُرْمَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَأَنْ لَا يُوجِبَهَا دَوَاعِيهِ أَوْلَى. أُجِيبَ بِأَنَّهُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إنَّمَا كَانَتْ تَكْرَارًا أَنْ لَوْ كَانَتْ مُصَوَّرَةً فِي الْحَرَامِ فَقَطْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ فِي الْحَلَالِ مِثْلُ أَنْ مَسَّتْ أَمَةٌ مَوْلَاهَا
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تَحْرُمُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَسُّهُ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ وَنَظَرُهُ إلَى فَرْجِهَا وَنَظَرُهَا إلَى ذَكَرِهِ عَنْ شَهْوَةٍ. لَهُ أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ لَيْسَا فِي مَعْنَى الدُّخُولِ، وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا فَسَادُ الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَوُجُوبُ الِاغْتِسَالِ فَلَا يَلْحَقَانِ بِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ سَبَبٌ دَاعٍ إلَى الْوَطْءِ فَيُقَامُ مُقَامَهُ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، ثُمَّ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ أَنْ تَنْتَشِرَ الْآلَةُ أَوْ تَزْدَادَ انْتِشَارًا هُوَ الصَّحِيحُ،
كَذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّا لَمْ نُمَيِّزْ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي شُمُولِ وُجُوبِ الْحُرْمَةِ وَالشَّافِعِيُّ فِي شُمُولِ الْعَدَمِ (لَهُ) فِي الْحَلَالِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ (أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ لَيْسَا فِي مَعْنَى الدُّخُولِ وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا فَسَادُ الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَوُجُوبُ الِاغْتِسَالِ) وَكُلُّ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الدُّخُولِ لَا يُلْحَقُ بِالدُّخُولِ، لِأَنَّ الْمُلْحَقَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمُلْحَقِ (وَلَنَا أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ سَبَبٌ دَاعٍ إلَى الْوَطْءِ) وَالسَّبَبُ الدَّاعِي إلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَهُ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، وَهَذَا لِأَنَّا وَجَدْنَا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ مَزِيدَ اعْتِنَاءٍ فِي حُرْمَةِ الْأَبْضَاعِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَقَامَ شُبْهَةَ الْبَعْضِيَّةِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ مَقَامَ حَقِيقَتِهَا فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ دُونَ سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْ التَّوَارُثِ وَمَنَعَ وَضْعَ الزَّكَاةِ وَمَنَعَ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَأَقَمْنَا السَّبَبَ الدَّاعِيَ مَقَامَ الْمَدْعُوِّ احْتِيَاطًا، وَفَسَادُ الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَوُجُوبُ الِاغْتِسَالِ لَيْسَ مِنْ بَابِ حُرْمَةِ الْأَبْضَاعِ حَتَّى يَقُومَ السَّبَبُ فِيهِ مَقَامَ الْوَطْءِ. وَنُوقِضَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ إنْ كَانَ صَحِيحًا قَامَ النَّظَرُ إلَى جَمَالِ الْمَرْأَةِ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا دَاعِيًا إلَيْهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ الْمُحَرَّمِ هُوَ مَا يَكُونُ نَظَرًا إلَى دَاخِلِ الْفَرْجِ بِأَنْ كَانَتْ مُتَّكِئَةً وَهُوَ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا فِي خَلْوَةٍ عَنْ الْأَجَانِبِ، فَانْظُرْ بَعْدَ هَذَا فِي أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْجَمَالِ فِي الْحَلَالِ فِي الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ خَلَاءٌ وَمَلَأٌ هَلْ يَكُونُ دَاعِيًا إلَى الْوَطْءِ دَعْوَةَ النَّظَرِ إلَيْهِ أَوْ لَا؟ لَا أَرَاك قَائِلًا بِذَلِكَ إلَّا مُكَذِّبًا. وَعَرَّفَ الْمَسَّ بِشَهْوَةٍ بِأَنْ تَنْتَشِرَ الْآلَةُ: يَعْنِي إذَا لَمْ تَكُنْ مُنْتَشِرَةً قَبْلَ النَّظَرِ وَالْمَسِّ (أَوْ تَزْدَادُ انْتِشَارًا) إذَا كَانَتْ مُنْتَشِرَةً قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ لَمْ يَشْتَرِطُوا الِانْتِشَارَ، وَجَعَلُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ أَنْ يَمِيلَ قَلْبُهُ إلَيْهَا وَيَشْتَهِيَ جِمَاعَهَا، وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَذَا إذَا كَانَ شَابًّا قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ، فَإِنْ كَانَ شَيْخًا أَوْ عِنِّينًا فَحَدُّ الشَّهْوَةِ أَنْ يَتَحَرَّك قَلْبُهُ بِالِاشْتِهَاءِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَرِّكًا قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ يَزْدَادُ الِاشْتِهَاءُ إنْ كَانَ مُتَحَرِّكًا وَهَذَا إفْرَاطٌ. وَكَانَ الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ لَا يَعْتَبِرُ تَحَرُّكَ الْقَلْبِ وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ تَحَرُّكُ الْآلَةِ، وَكَانَ
وَالْمُعْتَبَرُ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ الدَّاخِلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ اتِّكَائِهَا، وَلَوْ مَسَّ فَأَنْزَلَ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُهَا لِأَنَّهُ بِالْإِنْزَالِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ، وَعَلَى هَذَا إتْيَانُ الْمَرْأَةِ فِي الدُّبُرِ.
لَا يُفْتِي بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْعِنِّينِ الَّذِي مَاتَتْ شَهْوَتُهُ حَتَّى لَمْ يَتَحَرَّكْ عُضْوُهُ بِالْمُلَامَسَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ.
وَقَوْلُهُ وَالْمُعْتَبَرُ النَّظَرُ) ظَاهِرٌ (وَلَوْ مَسَّ فَأَنْزَلَ فَقَدْ قِيلَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ) وَبِهِ كَانَ يُفْتِي شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيُّ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ يُثْبِتُ الْحُرْمَةَ، فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ إنْ كَانَتْ لَا تُوجِبُ زِيَادَةَ الْحُرْمَةِ لَا تُوجِبُ خِلَافَهَا. وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْكِتَابِ هُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَالْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي بَابِ إتْيَانِ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ مَأْتَاهَا مِنْ الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْجِمَاعَ فِي الدُّبُرِ لَا يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، وَكَذَا النَّظَرُ إلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ مِنْ الدُّبُرِ بِشَهْوَةٍ (وَهَذَا أَصَحُّ لِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ) أَيْ الْمَسَّ (بِالْإِنْزَالِ غَيْرُ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ) وَالْمَسُّ
(وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَةً طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله إنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ يَجُوزُ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ إعْمَالًا لِلْقَاطِعِ، وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ يَجِبُ الْحَدُّ. وَلَنَا أَنَّ نِكَاحَ الْأُولَى قَائِمٌ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ كَالنَّفَقَةِ وَالْمَنْعِ وَالْفِرَاشِ وَالْقَاطِعُ تَأَخَّرَ عَمَلُهُ
الْمُفْضِي إلَيْهِ هُوَ الْمُحَرَّمُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ بِالْإِنْزَالِ: هُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ كَانَ حُكْمُهَا مَوْقُوفًا إلَى أَنْ تَبَيَّنَ بِالْإِنْزَالِ، فَإِنْ أَنْزَلَ لَمْ تَثْبُتْ وَإِلَّا ثَبَتَتْ، لَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِالْمَسِّ، ثُمَّ بِالْإِنْزَالِ سَقَطَ مَا يَثْبُتُ مِنْ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ مُوجِبَ الْمُصَاهَرَةِ إذَا ثَبَتَ لَا يَسْقُطُ أَبَدًا.
قَالَ (وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ) كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ (أَوْ ثَلَاثٍ جَازَ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ) لِأَنَّ الْقَاطِعَ وَهُوَ الطَّلَاقُ مَوْجُودٌ عَلَى الْكَمَالِ إذْ لَيْسَ فِيهِ شَائِبَةُ الرُّجُوعِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْمَالِهِ، وَإِعْمَالُ الْقَاطِعِ الْكَامِلِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِالْكُلِّيَّةِ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ (وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ وَجَبَ الْحَدُّ. وَلَنَا) أَنَّا لَا نُسَلِّمُ انْقِطَاعَ النِّكَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ (النِّكَاحَ الْأَوَّلَ قَائِمٌ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ كَالنَّفَقَةِ وَالْمَنْعِ) عَنْ الْخُرُوجِ (وَالْفِرَاشِ) وَهُوَ صَيْرُورَةُ الْمَرْأَةِ بِحَالٍ لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ
وَلِهَذَا بَقِيَ الْقَيْدُ، وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ عَلَى إشَارَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَعَلَى عِبَارَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ يَجِبُ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ زَالَ فِي حَقِّ الْحِلِّ فَيَتَحَقَّقُ الزِّنَا وَلَمْ يَرْتَفِعْ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا فَيَصِيرُ جَامِعًا.
ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فَإِنَّ هَذِهِ كَذَلِكَ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ لَا نِزَاعَ فِي بَقَاءِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ سِوَى النَّفَقَةِ وَلَا فِي كَوْنِهَا مُرَتَّبَةً عَلَى النِّكَاحِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ قَائِمًا حَالَ الْعِدَّةِ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْ عِلَّتِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا كَانَ عَمَلُ الْقَاطِعِ مُتَأَخِّرًا كَمَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَلِهَذَا بَقِيَ الْقَيْدُ، فَلَوْ جَازَ نِكَاحُ الْأُخْتِ فِي الْعِدَّةِ لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَهُوَ حَرَامٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ وَجَبَ الْحَدُّ.
وَوَجْهُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَهُ عَلَى إشَارَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ. قَالَ: مُعْتَدَّةٌ عَنْ طَلَاقٍ ثَلَاثٍ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ لِلزَّوْجِ إذَا أَنْكَرَهُ، فَفِي قَوْلِهِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إذَا أَنْكَرَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ
(وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ وَلَا الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا) لِأَنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ إلَّا مُثْمِرًا ثَمَرَاتٍ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُتَنَاكِحَيْنِ،
فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْوَطْءَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ ثَلَاثٍ لَا يَكُونُ زِنًا، إذْ لَوْ كَانَ زِنًا لَمَا ثَبَتَ بِهِ النَّسَبُ وَإِنْ ادَّعَى. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ كِتَابِ الْحُدُودِ وَهِيَ مَا قَالَ: إنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا لَمْ يَدَّعِ الشُّبْهَةَ فَذَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي حَقِّ الْحِلِّ قَدْ زَالَ فَيَتَحَقَّقُ الزِّنَا لِوُقُوعِ الْوَطْءِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَلَمْ يَزُلْ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّفَقَةِ وَالْمَنْعِ وَالْفِرَاشِ لِأَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى بَقَاءِ الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ وَالْفِرَاشِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَاكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ بِقِيَامِ النِّكَاحِ فَقُلْنَا بِقِيَامِهِ فِي حَقِّ التَّزَوُّجِ بِالْأُخْتِ احْتِيَاطًا فِي التَّفَادِي عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
قَالَ (وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ وَلَا الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا) خِلَافًا لِنُفَاةِ الْقِيَاسِ، اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقَوْله تَعَالَى {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (وَلَنَا أَنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ إلَّا مُثْمِرًا ثَمَرَاتٍ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُتَنَاكِحَيْنِ) يَعْنِي أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ لِلزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ حَقٌّ يَقْتَضِي مَالِكِيَّةَ الزَّوْجِ عَلَيْهَا كَطَلَبِ تَمْكِينِهِ مِنْ وَطْئِهَا وَدَوَاعِيهِ شَرْعًا وَالْمَنْعِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالتَّحْصِينِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ حَقٌّ يَقْتَضِي مَالِكِيَّتَهَا عَلَيْهِ كَطَلَبِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ جَبْرًا وَالسُّكْنَى وَالْقَسْمِ وَالْمَنْعِ عَنْ الْعَزْلِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهَا الرَّاجِعَةِ إلَى الزَّوْجِيَّةِ، فَكَانَ النِّكَاحُ مَشْرُوعًا لِإِيجَابِ هَذِهِ الثَّمَرَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكًا وَمَمْلُوكًا، وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ لِأَنَّ
وَالْمَمْلُوكِيَّةُ تُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ الثَّمَرَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ.
(وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْكِتَابِيَّاتِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أَيْ الْعَفَائِفُ،
الْمَالِكِيَّةَ تَقْتَضِي الْقَاهِرِيَّةَ وَالْمَمْلُوكِيَّة تَقْتَضِي الْمَقْهُورِيَّةَ وَلَا خَفَاءَ فِي التَّنَافِي بَيْنَهُمَا. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُمَا مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَلَا تَنَافِيَ حِينَئِذٍ.
وَأُجِيبَ بِمَنْعِ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ بِأَنَّ كَوْنَ الْمَرْأَةِ مَالِكَةً لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ، وَكَوْنَهَا مَمْلُوكَةً أَيْضًا إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ فَلَمْ تَخْتَلِفْ الْجِهَةُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمَرْأَةُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا مَالِكَةً لِلْعَبْدِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَلَيْسَتْ بِمَالِكَةِ لِمَنَافِعِ بُضْعِهِ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ بِالنِّكَاحِ عَلَى سَيِّدَتِهِ مَنَافِعَ بُضْعِهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ عَلَى مِلْكِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَيْثُ مَنَافِعُ بُضْعِهِ مَمْلُوكًا، وَلَا الْمَوْلَاةُ مِنْ حَيْثُ مَنَافِعُ بُضْعِهَا مَالِكَةٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ أَجْزَائِهَا فَاخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ وَانْتَفَى التَّنَافِي. وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَنَافِعَ بُضْعِهِ فَإِنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى إتْلَافِهِ بِالْإِخْصَاءِ وَالْجَبِّ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ يَلْحَقُهَا، فَكَانَ الْعَبْدُ مَمْلُوكًا مِنْ حَيْثُ فَرَضْته مَالِكًا فَاتَّحَدَتْ الْجِهَةُ وَتَحَقَّقَ التَّنَافِي.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ مِنْ الْآيَةِ فَبِأَنَّهَا يُعَارِضُهَا قَوْله تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَوَالِيَ بِإِنْكَاحِ الْإِمَاءِ لَا بِنِكَاحِهِنَّ. فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ سَاكِتَةٌ عَنْ بَيَانِ نِكَاحِهِنَّ وَالسَّاكِتُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ بَيَانٍ مَا يَحْتَجْنَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ النِّكَاحِ، وَالسُّكُوتُ عَنْ الْبَيَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ
(وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْكِتَابِيَّاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} قَالَ الْمُصَنِّفُ (أَيْ الْعَفَائِفُ) فَسَّرَهُ بِذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ فَسَّرَهَا بِالْمُسْلِمَاتِ، وَلَيْسَتْ
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
الْعِفَّةُ شَرْطًا لِجَوَازِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ؛ أَيْ وَأُحِلَّ لَكُمْ الْمُحْصَنَاتُ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَلَا خَفَاءَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْحِلِّ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ) يَعْنِي بَعْدَ أَسْطُرٍ حَيْثُ قَالَ: وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ
وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمَجُوسِيَّاتِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ
الْأَمَةِ.
(وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمَجُوسِيَّاتِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ») أَيْ اُسْلُكُوا بِهِمْ طَرِيقَتَهُمْ: يَعْنِي عَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ هَؤُلَاءِ فِي إعْطَاءِ الْأَمَانِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه
وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» قَالَ (وَلَا الْوَثَنِيَّاتِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} .
وَلَا) يَجُوزُ تَزْوِيجُ (الْوَثَنِيَّاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الْوَثَنِيَّةَ وَهِيَ مَنْ تَعَبَّدَ الصَّنَمَ وَغَيْرَهَا. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مُشْرِكُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّيْسِيرِ وَالْكَشَّافِ أَنَّ اسْمَ أَهْلِ الشِّرْكِ يَقَعُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَكُونُونَ دَاخِلِينَ تَحْتَ الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ جَوَازَهُ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} وَفِي قَوْلِهِ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَبَّهَ اتِّخَاذَهُمْ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ أَرْبَابًا بِإِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ،
(وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّابِئَاتِ إنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِدِينِ نَبِيٍّ وَيُقِرُّونَ بِكِتَابٍ) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَا كِتَابَ لَهُمْ لَمْ تَجُزْ مُنَاكَحَتُهُمْ) لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، وَالْخِلَافُ الْمَنْقُولُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى اشْتِبَاهِ مَذْهَبِهِمْ، فَكُلٌّ أَجَابَ عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ، وَعَلَى هَذَا حِلُّ ذَبِيحَتِهِمْ.
قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَا فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ، وَتَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الْمُحْرِمِ وَلِيَّتَهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.
وَسَرَى ذَلِكَ إلَى الْفِعْلَيْنِ ثُمَّ تَرَكَ الْمُشَبَّهَ وَذَكَرَ الْمُشَبَّهَ بِهِ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ. فَإِنْ قِيلَ: اتِّخَاذُهُمْ ذَلِكَ أَرْبَابًا عَيْنُ الشِّرْكِ لَا مُشَبَّهَ بِهِ. قُلْت: فِيهِ الِاسْتِعَارَةُ التَّصْرِيحِيَّةُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهُمْ أَرْبَابًا حَقِيقَةً وَإِنَّمَا كَانُوا يُعَظِّمُونَهَا تَعْظِيمَ الْأَرْبَابِ. فَإِنْ قُلْت: فَمَا تَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ابْنِ عُمَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} بِالْآتِي أَسْلَمْنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ قُلْت: لَسْنَا نَأْخُذُ بِهِ لِعَرَائِهِ إذْ ذَاكَ عَنْ الْفَائِدَةِ، فَإِنَّ غَيْرَ الْكِتَابِيَّةِ أَيْضًا إذَا أَسْلَمْت حَلَّ نِكَاحُهَا، وَقَدْ جَاءَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً، وَكَذَا عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.
قَالَ (وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّابِئَاتِ إنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِدِينِ نَبِيٍّ) الصَّابِئَاتُ، مِنْ صَبَأَ: إذَا خَرَجَ مِنْ الدِّينِ، وَهُمْ قَوْمٌ عَدَلُوا عَنْ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة وَعَبَدُوا الْكَوَاكِبَ. وَذُكِرَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِي حُكْمِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَيْنِ التَّفْسِيرَيْنِ.
وَقَوْلُهُ وَالْخِلَافُ الْمَنْقُولُ فِيهِ) يَعْنِي بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ أَنَّ أَنْكِحَتَهُمْ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا (مَحْمُولٌ عَلَى اشْتِبَاهِ مَذْهَبِهِمْ، فَكُلٌّ أَجَابَ بِمَا وَقَعَ عِنْدَهُ) وَقَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ وَلَا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ لَكِنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِنَا الْقِبْلَةَ فِي الِاسْتِقْبَالِ إلَيْهَا. وَوَقَعَ عِنْدَهُمَا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَا كِتَابَ لَهُمْ فَصَارُوا كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِذًا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُمْ إنْ كَانُوا كَمَا قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ جَازَتْ مُنَاكَحَتُهُمْ عِنْدَهُمَا أَيْضًا، وَإِنْ كَانُوا كَمَا قَالَا فَلَا تَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ عِنْدَهُ أَيْضًا. وَحُكْمُ ذَبِيحَتِهِمْ عَلَى هَذَا.
قَالَ (وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ، وَتَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الْمُحْرِمِ وَلِيَّتَهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ)
لَهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ» وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ بِمَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ.
لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ وَلَا يَخْطُبُ» (وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ») قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ:
(وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْجُزْءِ عَلَى الرِّقِّ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ الضَّرُورَةُ
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ قُلْت: النِّكَاحُ مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَى الْمُحْرِمِ قِيَاسًا عَلَى الْوَطْءِ إذَا كَانَ الْحَدِيثَانِ مُتَعَارِضَيْنِ. قُلْت: مَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ: أَيْ لَا يَطَأُ وَلَا تُمَكِّنُهُ الْمَرْأَةُ أَنْ يَطَأَهَا كَمَا هُوَ فِعْلُ الْبَعْضِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ فَاسِدٌ
(وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْجُزْءِ عَلَى الرِّقِّ) إذْ الْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَمَا يَثْبُتُ لِضَرُورَةٍ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالْمُسْلِمَةِ
بِالْمُسْلِمَةِ وَلِهَذَا جَعَلَ طَوْلَ الْحُرَّةِ مَانِعًا مِنْهُ. وَعِنْدَنَا الْجَوَازُ مُطْلَقٌ لِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضِي، وَفِيهِ امْتِنَاعٌ عَنْ تَحْصِيلِ الْجُزْءِ الْحُرِّ لَا إرْقَاقُهُ وَلَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ الْأَصْلَ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ الْوَصْفَ.
فَلَا حَاجَةَ إلَى الْكِتَابِيَّةِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِهِ ضَرُورِيًّا عِنْدَهُ (جَعَلَ طُولَ الْحُرَّةِ مَانِعًا مِنْهُ) أَيْ تَزَوُّجِ الْأَمَةِ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى تَزَوُّجِ الْحُرَّةِ (وَعِنْدَنَا جَوَازُ نِكَاحِ الْأَمَةِ مُطْلَقٌ) مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً (لِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضِي) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَقَوْلُهُ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ الَّذِي هُوَ أَبْدَاهُ وَهُوَ تَعْرِيضُ الْجُزْءِ عَلَى الرِّقِّ (لِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى نِكَاحِ الْأَمَةِ (امْتِنَاعًا عَنْ تَحْصِيلِ الْجُزْءِ الْحُرِّ لَا إرْقَاقُهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، وَبَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ فَهُوَ مَوَاتٌ لَا يُوصَفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَالِامْتِنَاعُ
(وَلَا يَتَزَوَّجُ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ،
عَنْهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ شَرْعًا لِأَنَّ لَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ الْأَصْلَ بِالْعَزْلِ بِرِضَا الْمَرْأَةِ وَبِتَزَوُّجِ الْعَجُوزِ وَالْعَقِيمِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ وَصْفَ الْحُرِّيَّةِ بِتَزَوُّجِ الْأَمَةِ أَوْلَى
(وَلَا يَتَزَوَّجُ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ) سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ بِرِضَا الْحُرَّةِ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ تَزَوُّجَ الْأَمَةِ مَمْنُوعٌ لِمَعْنًى فِي الْمُتَزَوِّجِ إذَا كَانَ حُرًّا وَهُوَ تَعْرِيضُ جُزْئِهِ عَلَى الرِّقِّ مَعَ الْغَنِيَّةِ عَنْهُ وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الْحُرَّةِ فَإِذَا رَضِيَتْ فَقَدْ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا. وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مَبْسُوطِهِ: بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الرَّأْيَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. فَإِنْ قُلْت: جَوَّزْتُمْ نِكَاحَ الْأَمَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً بِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضَى عَلَى مَا تَلَوْتُمْ فَهَلَّا جَوَّزْتُمْ نِكَاحَهَا عَلَى الْحُرَّةِ بِذَلِكَ؟ قُلْت: جَوَّزْنَا هُنَاكَ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَهَاهُنَا وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَضِي
وَعَلَى مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ بِرِضَا الْحُرَّةِ، وَلِأَنَّ لِلرِّقِّ أَثَرًا فِي تَنْصِيفِ النِّعْمَةِ عَلَى مَا نُقَرِّرُهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَيَثْبُتُ بِهِ حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ دُونَ حَالَةِ الِانْضِمَامِ
مَوْجُودًا لَكِنَّ الْمَانِعَ غَيْرُ مُنْتَفٍ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَلِأَنَّ لِلرِّقِّ أَثَرًا فِي تَنْصِيفِ النِّعْمَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الطَّلَاقِ فَيَثْبُتُ بِهِ حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ دُونَ حَالَةِ الِانْضِمَامِ) وَلَا عَلَيْنَا أَنْ نُقَرِّرَهُ هَاهُنَا.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْحِلَّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَقْدُ النِّكَاحِ نِعْمَةٌ جَدِيدَةٌ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، وَكَمَا يَتَنَصَّفُ ذَلِكَ الْحِلُّ بِرِقِّ الرَّجُلِ حَتَّى يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ ثِنْتَيْنِ وَالْحُرُّ أَرْبَعًا فَكَذَلِكَ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الرِّقَّ هُوَ الْمُنَصِّفُ وَهُوَ يَشْمَلُهُمَا، وَلَا يُمْكِنُ إظْهَارُ هَذَا التَّنْصِيفِ فِي جَانِبِهَا بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِوَاحِدٍ، فَظَهَرَ التَّنْصِيفُ بِاعْتِبَارِ الْحَالَةِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: الْأَحْوَالُ ثَلَاثٌ: حَالُ مَا قَبْلَ نِكَاحِ الْحُرَّةِ، وَحَالُ مَا بَعْدَهُ، وَحَالُ الْمُقَارَنَةِ، وَلَكِنَّ الْحَالَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَتُغَلَّبُ الْحُرْمَةُ عَلَى الْحِلِّ فَتُجْعَلُ مُحَلَّلَةً سَابِقَةً عَلَى الْحُرَّةِ وَمُحَرَّمَةً مُقْتَرِنَةً بِالْحُرَّةِ أَوْ مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ بُطْلَانُ التَّنْصِيفِ بِالرِّقِّ الثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ مَانِعٌ عَنْ الْعَمَلِ بِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضِي فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ غَرِيبٌ
(وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْحُرَّةِ عَلَيْهَا) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ» وَلِأَنَّهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ إذْ لَا مُنَصِّفَ فِي حَقِّهَا.
(فَإِنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَزَوُّجٍ عَلَيْهَا وَهُوَ الْمُحَرَّمُ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا لَمْ يَحْنَثْ بِهَذَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ نِكَاحَ الْحُرَّةِ بَاقٍ مِنْ وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَيَبْقَى الْمَنْعُ احْتِيَاطًا، بِخِلَافِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ لَا يُدْخِلَ غَيْرَهَا فِي قَسْمِهَا.
وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْحُرَّةِ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ» وَلِأَنَّهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ لِعَدَمِ الْمُنَصِّفِ فِي حَقِّهَا) فَجَازَ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضِي عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ
(فَإِنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا) وَوَجْهُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ، وَلَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَإِنَّهُمَا لَمْ يُجَوِّزَاهُ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَقَالُوا فِي الْفَرْقِ لَهُمَا: إنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَاكَ الْجَمْعُ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا صَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ فَلَا يَجُوزُ، وَأَمَّا هَذَا الْمَنْعُ فَلَيْسَ لِأَجْلِ الْجَمْعِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ الْأَمَةَ ثُمَّ الْحُرَّةَ صَحَّ نِكَاحُهُمَا، وَلَكِنَّهُ بِاعْتِبَارِ إدْخَالِ نَاقِصَةِ الْحَالِ عَلَى كَامِلَةِ الْحَالِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نِكَاحُ الْأُولَى قَائِمٌ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَرَدَ عَلَيْهِمَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَتِلْكَ الْمَسْأَلَةُ. وَقَدْ نُقِلَ فِي النِّهَايَةِ عَنْ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ
(وَلِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْعَدَدِ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.
فَرْقٌ آخَرُ أَضْعَفُ مِنْ هَذَا فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ.
قَالَ (وَلِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ) أَوْ مِنْهُمَا إذَا قَدَّمَ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ (وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} نَصَّ عَلَى الْعَدَدِ (وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْعَدَدِ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ) وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ هَذَا مَعْدُولٌ وَهُوَ وَصْفٌ وَلِهَذَا مُنِعَ عَنْ الصَّرْفِ لِلْعَدْلِ وَالْوَصْفِ فَكَانَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ فَتَثْبُتُ الزِّيَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} سَلَّمْنَا أَنَّهُ عَدَدٌ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَيْهِ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ: مِنْ بَوْلٍ، وَغَائِطٍ، وَقَيْءٍ، وَمَنِيٍّ، وَدَمٍ» وَبِالِاتِّفَاقِ يُغْسَلُ مِنْ الْخَمْرِ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَصَّ عَلَى الْعَدَدِ مَعَ كَلِمَةِ الْحَصْرِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ بِحَسَبِ الْأَصْلِ مِنْ الْأَعْدَادِ وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ وَصْفًا، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مَعْنَاهُ إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْآدَمِيِّ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ خَرَجَ جَوَابًا لِسُؤَالِ مَنْ سَأَلَ عَنْ النَّجَاسَةِ وَهُوَ مُنْحَصِرٌ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ. فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ مُقْتَضَاهُ التِّسْعُ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِمَا أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ. أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْوَهْمَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الرَّافِضَةَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَفْضَلِ الْمَوْجُودَاتِ مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ بِفَضِيلَةِ النُّبُوَّةِ أَوْ ازْدِيَادِهِمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ التِّسْعِ، وَعَنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَظَرًا إلَى مَعْنَى الْعُدُولِ وَحِرَفِ الْجَمْعِ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَوَهَّمُوا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ أَحَدُ هَذِهِ الْأَعْدَادِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا وَجْهَ لِحَمْلِ هَذَا عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ عَنْ التِّسْعِ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ الْعِيِّ فِي الْكَلَامِ وَالْكَلَامُ الْمَجِيدُ مُنَزَّهٌ عَنْ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا أَمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُ: وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا تَلَوْنَا إذْ الْأَمَةُ الْمَنْكُوحَةُ يَنْتَظِمُهَا اسْمُ النِّسَاءِ كَمَا فِي الظِّهَارِ.
(وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ) وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ عِنْدَهُ حَتَّى مَلَّكَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى.
ذَلِكَ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ غَيْلَانَ الثَّقَفِيِّ وَبَيْنَ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ مِنْ النِّسْوَةِ حِينَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ» وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا بَعْدَهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ نِكَاحًا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا أَمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ) أَيْ نِكَاحَ الْأَمَةِ (ضَرُورِيٌّ) فِي حَقِّ الْحُرِّ (عِنْدَهُ) كَمَا تَقَدَّمَ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالْوَاحِدَةِ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا تَلَوْنَا) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فَإِنَّ اسْمَ النِّسَاءِ يَنْتَظِمُ الْأَمَةَ الْمَنْكُوحَةَ، كَمَا فِي الظِّهَارِ فَإِنَّ آيَتَهُ مَذْكُورَةٌ بِلَفْظِ النِّسَاءِ وَيَتَنَاوَلُ الْأَمَةَ الْمَنْكُوحَةَ
(وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ عِنْدَهُ)
وَلَنَا أَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ فَيَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَالْحُرُّ أَرْبَعًا إظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ. .
قَالَ (فَإِنْ طَلَّقَ الْحُرُّ إحْدَى الْأَرْبَعِ طَلَاقًا بَائِنًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ رَابِعَةً حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا) وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَهُوَ نَظِيرُ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ.
قَالَ (فَإِنْ تَزَوَّجَ حُبْلَى مِنْ زِنًا جَازَ النِّكَاحُ وَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا) وَهَذَا عِنْدَ
لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَصْلَ النِّكَاحِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي حَقِّ النِّكَاحِ لِمَا مَلَكَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ وَلِهَذَا قَالَ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ بِغَيْرِ إذْنِهِ (وَلَنَا أَنَّ الرِّقَّ مُنَصَّفٌ) عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي الطَّلَاقِ كَمَا وَعَدَهُ الْمُصَنِّفُ (فَيَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَالْحُرُّ أَرْبَعًا إظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ) وَتَمَلُّكُهُ أَصْلَ النِّكَاحِ لَا يَمْنَعُ التَّنْصِيفَ بِالرِّقِّ كَالْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ فَإِنَّهَا تَمْلِكُ طَلَبَ الْقَسْمِ وَيَتَنَصَّفُ قَسْمُهَا.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ طَلَّقَ الْحُرُّ) ظَاهِرٌ
قَالَ (فَإِنْ تَزَوَّجَ حُبْلَى مِنْ الزِّنَا) الْحَامِلُ إذَا تَزَوَّجَتْ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ ثَابِتَ النَّسَبِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: جَازَ النِّكَاحُ، وَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا
أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: النِّكَاحُ فَاسِدٌ (وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ ثَابِتَ النَّسَبِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْأَصْلِ لِحُرْمَةِ الْحَمْلِ، وَهَذَا الْحَمْلُ مُحْتَرَمٌ لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ. وَلَهُمَا أَنَّهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ بِالنَّصِّ وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ كَيْ لَا يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَالِامْتِنَاعُ فِي ثَابِتِ النَّسَبِ لِحَقِّ صَاحِبِ الْمَاءِ وَلَا حُرْمَةَ لِلزَّانِي.
(فَإِنْ تَزَوَّجَ حَامِلًا مِنْ السَّبْيِ فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ) لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْأَصْلِ) أَيْ فِي الْحَمْلِ الثَّابِتِ بِالنَّسَبِ إنَّمَا كَانَ (لِحُرْمَةِ الْحَمْلِ، وَهَذَا الْحَمْلُ مُحْتَرَمٌ لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ). وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَاسَ حَمْلَ الزِّنَا عَلَى الْحَمْلِ الثَّابِتِ النَّسَبِ بِعِلَّةِ حُرْمَةِ الْحَمْلِ (وَلَهُمَا أَنَّهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ بِالنَّصِّ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ كَذَلِكَ جَازَ نِكَاحُهَا. فَإِنْ قُلْت: مَا بَالُ الْحَمْلِ الثَّابِتِ النَّسَبِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا النَّصِّ؟ قُلْت: لِمَكَانِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ لَحَلَّ وَطْؤُهَا بَعْدَ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ لَا يَسْقِي مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ) وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ لِعَارِضٍ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ لَا يَسْتَلْزِمُ فَسَادَ النِّكَاحِ كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. وَقَوْلُهُ (وَالِامْتِنَاعُ فِي ثَابِتِ النَّسَبِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ أَبِي يُوسُفَ. وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فَسَادَ النِّكَاحِ لِحُرْمَةِ الْحَمْلِ بَلْ إنَّمَا هُوَ (لِحَقِّ صَاحِبِ الْمَاءِ وَلَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزَّانِي)
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ تَزَوَّجَ حَامِلًا مِنْ السَّبْيِ) صُورَتُهُ أَنْ تُسْبَى الْحَرْبِيَّةُ حَامِلًا فَيُرِيدَ السَّابِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لَا يَجُوزُ مَا لَمْ تَضَعْ الْحَمْلَ،
(وَإِنْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ) لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لِمَوْلَاهَا حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ، فَلَوْ صَحَّ النِّكَاحُ لَحَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ حَتَّى يَنْتَفِيَ الْوَلَدُ بِالنَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ فَلَا يُعْتَبَرُ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحَمْلُ.
لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْ زَوْجِهَا ثَابِتٌ فَكَانَ الْمَاءُ مُحْتَرَمًا وَاجِبَ الصِّيَانَةِ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُهَاجِرَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لِمَوْلَاهَا) لِوُجُودِ حَدِّهِ وَهُوَ صَيْرُورَةُ الْمَرْأَةِ مُتَعَيِّنَةً لِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ فِرَاشًا لِشَخْصٍ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا لِئَلَّا يَحْصُلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ فَإِنَّهُ سَبَبُ الْحُرْمَةِ فِي الْمُحْصَنَاتِ مِنْ النِّسَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ فِرَاشًا لَبَطَلَ نِكَاحُهَا حَائِلًا أَيْضًا. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ حَتَّى يَنْتَفِيَ الْوَلَدُ بِالنَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ) وَكَانَ فِرَاشًا ضَعِيفًا (فَلَا يُعْتَبَرُ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحَمْلُ) لِأَنَّ الْحَمْلَ مَانِعٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَذَلِكَ الْفِرَاشُ، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا يَحْصُلُ التَّأَكُّدُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ غَيْرَ مُتَأَكِّدٍ وَيَنْتَفِي الْوَلَدُ بِالنَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْدَامُ عَلَى النِّكَاحِ نَفْيًا لِلنَّسَبِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ النَّفْيَ دَلَالَةً، كَمَا إذَا قَالَ لِجَارِيَةٍ لَهُ وَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ هَذَا الْأَكْبَرُ مِنِّي، فَإِنَّهُ يَنْتَفِي نَسَبُ الْبَاقِينَ، وَإِذَا انْتَفَى نَسَبُهُ كَانَ حَمْلًا غَيْرَ ثَابِتِ النَّسَبِ، وَفِي مِثْلِهِ يَجُوزُ النِّكَاحُ كَمَا تَقَدَّمَ. أُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ دَلَالَةٌ، وَالدَّلَالَةُ إنَّمَا تُعْمَلُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهَا صَرِيحٌ، وَالصَّرِيحُ هَاهُنَا مَوْجُودٌ لِأَنَّ
قَالَ (وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ زَوَّجَهَا جَازَ النِّكَاحُ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ لِمَوْلَاهَا فَإِنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا صِيَانَةً لِمَائِهِ، وَإِذَا جَازَ النِّكَاحُ (فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا لِأَنَّهُ احْتَمَلَ الشَّغْلَ بِمَاءِ الْمَوْلَى فَوَجَبَ التَّنَزُّهُ
الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الْحَمْلُ مِنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ رَجُلٌ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْحَمْلُ مِنْهُ إذَا أَقَرَّ بِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لَفْظُ الْفَاسِدِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ وَلَفْظُ الْبَاطِلِ هَاهُنَا وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْفَاسِدِ هُنَاكَ الْبَاطِلَ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَقَالَ: لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي بَابِ النِّكَاحِ مَعَ الْمُنَافِي إنَّمَا هُوَ لِضَرُورَةِ تَحَقُّقِ الْمَقَاصِدِ مِنْ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ لِلتَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى عَقْدٍ لَا يَتَضَمَّنُ الْمَقَاصِدَ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ أَهْوَنُ، أَمَّا فِي الْحَمْلِ مِنْ الزِّنَا فَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِيهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الْمَسْبِيَّةِ فَكَذَلِكَ عَلَى مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إذَا تَزَوَّجَتْ جَازَ النِّكَاحُ وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا
(وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ زَوَّجَهَا جَازَ النِّكَاحُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ لِمَوْلَاهَا) لِعَدَمِ حَدِّ الْفِرَاشِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ (فَإِنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ (يَسْتَبْرِئَهَا) قَالَ الشَّارِحُونَ: مَعْنَى عَلَيْهِ الِاسْتِحْبَابُ دُونَ الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَيُقَالُ: إنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِحْبَابَ صِيَانَةً لِمَائِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي فَتَاوَى الْوَلْوَالِجِيِّ بِالِاسْتِحْبَابِ (وَإِذَا جَازَ النِّكَاحُ جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا لِأَنَّهُ احْتَمَلَ الشُّغْلَ بِمَاءِ الْوَلِيِّ)
كَمَا فِي الشِّرَاءِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ أَمَارَةُ الْفَرَاغِ فَلَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِبْرَاءِ لَا اسْتِحْبَابًا وَلَا وُجُوبًا.
وَلَوْ تَحَقَّقَ الِاشْتِغَالُ بِمَاءِ الْغَيْرِ كَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا، فَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ التَّنَزُّهُ (كَمَا فِي الشِّرَاءِ) فَإِنَّ الْمُوجِبَ فِيهِ احْتِمَالُ الشُّغْلِ، لَكِنَّ جَوَازَ الْإِقْدَامِ عَلَى النِّكَاحِ أَوْرَثَ ضَعْفًا فِي السَّبَبِ فَيَكُونُ مُسْتَحَبًّا. وَلَهُمَا أَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ حَبَلِ زَانٍ، وَالْحُكْمُ بِجَوَازِ النِّكَاحِ فِي مِثْلِهِ أَمَارَةُ فَرَاغِ الرَّحِمِ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا عَلَى رَحِمٍ فَارِغٍ عَنْ شَاغِلٍ مُحْتَرَمٍ، وَإِنْ كَانَ الرَّحِمُ فَارِغًا لَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِبْرَاءِ لَا اسْتِحْبَابًا وَلَا وُجُوبًا إذْ الْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِلَا سَبَبٍ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الِاسْتِحْبَابُ وَكَانَ حَقُّهُ التَّأْخِيرَ لِأَنَّ نَفْيَهُ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْوُجُوبِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُ يُوجِبُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ نَفْيِ الْوُجُوبِ، إمَّا لِأَنَّ الْخَصْمَ يَقُولُ بِهِ فَكَانَ نَفْيُهُ أَهَمَّ، وَإِمَّا لِيَتَّصِلَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ
بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الشَّغْلِ.
(وَكَذَا إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي فَتَزَوَّجَهَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا عِنْدَهُمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا) وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا.
قَالَ (وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ بَاطِلٌ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ أَتَمَتَّعُ بِكَ كَذَا مُدَّةً بِكَذَا مِنْ الْمَالِ
فَإِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ فِيهِ وَاجِبٌ. وَمَنْ تَذَكَّرَ مَا سَلَفَ مِنْ الْمَسَائِلِ يَفْطِنُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقُيُودِ الَّتِي لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِهَا الْمُصَنِّفُ اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِمَا تَضَمَّنَ كَلَامُهُ فِيمَا سَلَفَ، وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الشِّرَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ مُحَمَّدٍ صُورَةُ النِّزَاعِ عَلَى الشِّرَاءِ بِالْفَارِقِ وَهُوَ أَنَّ الشِّرَاءَ مَعَ الشُّغْلِ جَائِزٌ دُونَ النِّكَاحِ، فَالْحُكْمُ بِجَوَازِ النِّكَاحِ أَمَارَةُ الْفَرَاغِ وَإِلَّا لَكَانَ حُكْمًا بِمَا لَا يَجُوزُ وَلَا كَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ فَيَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي) ظَاهِرٌ. وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَحِلَّ لِأَنَّ احْتِمَالَ الشُّغْلِ قَائِمٌ، وَدَلِيلُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ دَلِيلِ الْحِلِّ رَاجِحٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ تَعَارَضَ الِاحْتِمَالُ لِأَنَّ احْتِمَالَ وُجُودِ الْحِلِّ وَعَدَمِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَجَّحْنَا جَانِبَ الْعَدَمِ لِأَصَالَتِهِ وَلِتَقَوِّي الْأَصَالَةِ هُنَا بِعَدَمِ حُرْمَةِ صَاحِبِ الْمَاءِ.
قَالَ (وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ بَاطِلٌ) صُورَةُ الْمُتْعَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ (أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَةٍ أَتَمَتَّعُ بِك كَذَا مُدَّةً بِكَذَا مِنْ الْمَالِ) أَوْ يَقُولُ خُذِي مِنِّي هَذِهِ الْعَشَرَةَ لِأَسْتَمْتِعَ بِك أَيَّامًا، أَوْ مَتِّعِينِي نَفْسَك أَيَّامًا أَوْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ لَمْ يَقُلْ أَيَّامًا،
وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: هُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَظْهَرَ نَاسِخُهُ. قُلْنَا: ثَبَتَ النَّسْخُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما صَحَّ رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِهِمْ فَتَقَرَّرَ الْإِجْمَاعُ.
وَهَذَا عِنْدَنَا بَاطِلٌ (وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ جَائِزٌ) وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ (لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا) بِالِاتِّفَاقِ (فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَظْهَرَ نَاسِخُهُ. قُلْنَا: قَدْ ظَهَرَ نَاسِخُهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ) وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى نَسْخِهَا: مِنْهَا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَنَّ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَادَى يَوْمَ خَيْبَرَ: أَلَا إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ الْمُتْعَةِ» . وَمِنْهَا حَدِيثُ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: «أَحَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتْعَةَ عَامَ الْفَتْحِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَجِئْت مَعَ ابْنِ عَمٍّ لِي إلَى بَابِ امْرَأَةٍ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا بُرْدَةٌ، وَكَانَتْ بُرْدَةُ ابْنِ عَمِّي أَحْسَنَ مِنْ بُرْدَتِي، فَخَرَجَتْ امْرَأَةٌ كَأَنَّهَا دُمْيَةُ عَيْطَاءَ فَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَى شَبَابِي وَإِلَى بُرْدَتِهِ، فَقَالَتْ: هَلَّا بُرْدَةٌ كَبُرْدَةِ هَذَا أَوْ شَبَابًا كَشَبَابِ هَذَا؟ ثُمَّ آثَرَتْ شَبَابِي عَلَى بُرْدَتِهِ، فَبِتّ عِنْدَهَا، فَلَمَّا أَصْبَحْت إذَا مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَادِي: أَلَا إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ الْمُتْعَةِ، فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْهَا» ثُمَّ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ قَدْ انْتَسَخَتْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَتْ الْأَحَادِيثُ نَاسِخَةً وَالْإِجْمَاعُ مُظْهِرًا لِأَنَّ نَسْخَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِ الصَّحِيحِ. فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ الْإِجْمَاعُ وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُخَالِفًا؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَابْنُ عَبَّاسٍ صَحَّ رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِهِمْ) رَوَى جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مَا خَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَالْمُتْعَةِ (فَتَقَرَّرَ الْإِجْمَاعُ) وَقِيلَ فِي نِسْبَةِ جَوَازِ الْمُتْعَةِ إلَى مَالِكٍ نَظَرٌ لِأَنَّهُ رَوَى الْحَدِيثَ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ
(وَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ بَاطِلٌ) مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ» . وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ وَإِنْ سَمَّى صَدَاقًا وَهَذِهِ الْمُتْعَةُ.
وَأَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْمُصَنِّفُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى قَوْلٍ لَهُ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَرْوِي حَدِيثًا يَكُونُ وَاجِبَ الْعَمَلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَا يُعَارِضُهُ أَوْ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ
(وَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ بَاطِلٌ مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ). وَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا وُجُودُ لَفْظٍ يُشَارِكُ الْمُتْعَةَ فِي الِاشْتِقَاقِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا
وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: هُوَ صَحِيحٌ لَازِمٌ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْمُتْعَةِ وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي،
فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ. وَالثَّانِي شُهُودُ الشَّاهِدَيْنِ فِي النِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ مَعَ ذِكْرِ لَفْظِ التَّزْوِيجِ أَوْ النِّكَاحِ وَأَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مُعَيَّنَةً (وَقَالَ زُفَرُ هُوَ صَحِيحٌ لَازِمٌ) لِأَنَّ التَّوْقِيتَ شَرْطٌ فَاسِدٌ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ (وَلَنَا أَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْمُتْعَةِ) بِلَفْظِ النِّكَاحِ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُتْعَةِ هُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمَرْأَةِ لَا لِقَصْدِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ (وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي) دُونَ الْأَلْفَاظِ؛ أَلَا تَرَى
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا طَالَتْ مُدَّةُ التَّأْقِيتِ أَوْ قَصُرَتْ لِأَنَّ التَّأْقِيتَ هُوَ الْمُعَيِّنُ لِجِهَةِ الْمُتْعَةِ وَقَدْ وُجِدَ
أَنَّ الْكَفَالَةَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةٌ وَالْحَوَالَةُ بِشَرْطِ مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ كَفَالَةٌ. وَقَوْلُهُ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا طَالَتْ مُدَّةُ التَّأْقِيتِ أَوْ قَصُرَتْ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ إنَّهُمَا إنْ ذَكَرَا مِنْ الْوَقْتِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُمَا لَا يَعِيشَانِ إلَيْهِ كَمِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّأْبِيدِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ التَّأْقِيتَ مُعَيِّنٌ لِجِهَةِ الْمُتْعَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَزَوَّجْتُك لِلنِّكَاحِ وَمُقْتَضَاهُ التَّأْبِيدُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ شَرْعًا إلَّا لِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمُتْعَةَ؛ فَإِذَا قَالَ إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عَيَّنَ التَّوْقِيتَ جِهَةَ كَوْنِهِ مُتْعَةً مَعْنًى، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْمُدَّةُ الْقَلِيلَةُ وَالْكَثِيرَةُ سَوَاءٌ وَاسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا شَرَطَ وَقْتَ الْعَقْدِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ فَإِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا نَحْنُ
(وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِحْدَاهُمَا لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا صَحَّ نِكَاحُ الَّتِي يَحِلُّ نِكَاحُهَا وَبَطَلَ نِكَاحُ الْأُخْرَى) لِأَنَّ الْمُبْطِلَ فِي إحْدَاهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَقَبُولُ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ شَرْطٌ فِيهِ، ثَمَّ جَمِيعُ الْمُسَمَّى لِلَّتِي يَحِلُّ نِكَاحُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ عَلَى مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا
فِيهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَاطِعٌ لِلنِّكَاحِ فَاشْتِرَاطُهُ بَعْدَ شَهْرٍ لِيَنْقَطِعَ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الْعَقْدِ مُؤَبَّدًا، وَلِهَذَا لَوْ مَضَى الشَّهْرُ لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ فَكَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا وَالشَّرْطُ بَاطِلًا. وَأَمَّا صُورَةُ النِّزَاعِ فَالشَّرْطُ إنَّمَا هُوَ فِي النِّكَاحِ لَا فِي قَاطِعِهِ، وَلِهَذَا لَوْ صَحَّ التَّوْقِيتُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ عَقْدٌ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ.
قَالَ (وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْأَصْلِ أَيْ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَصُورَتُهَا ظَاهِرَةٌ، وَمَسْأَلَةُ الْبَيْعِ تَأْتِي فِي الْبُيُوعِ. وَقَوْلُهُ (وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ عَلَى مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا) يَعْنِي إذَا كَانَ الْمُسَمَّى أَلْفًا مَثَلًا يُنْظَرُ إلَى مَهْرِ مِثْلِهِمَا وَيُقْسَمُ الْمُسَمَّى عَلَيْهِمَا. فَمَا أَصَابَ حِصَّةَ الَّتِي لَا تَحِلُّ يَسْقُطُ عَنْ الزَّوْجِ، وَمَا أَصَابَ حِصَّةَ الْأُخْرَى يَثْبُتُ عَلَيْهِ. لَهُمَا أَنَّهُ قَابِلُ الْمُسَمَّى بِالْبُضْعَيْنِ وَكُلُّ مَا كَانَ مُقَابِلًا بِشَيْئَيْنِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ إذَا سُلِّمَا لِمَنْ قَابَلَ وَلَمْ يُسَلِّمْ هَاهُنَا إلَّا أَحَدُهُمَا فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا حِصَّتُهُ كَمَا لَوْ خَاطَبَ امْرَأَتَيْنِ بِالنِّكَاحِ عَلَى أَلْفٍ فَأَجَابَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ضَمَّ مَا لَا يَحِلُّ إلَى مَا يَحِلُّ فِي النِّكَاحِ كَضَمِّ الْجِدَارِ إلَى الْمَرْأَةِ فِيهِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلنِّكَاحِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ وَسَمَّى كَانَ الْمُسَمَّى كُلُّهُ لِلْمَرْأَةِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لِمَنْ تَحِلُّ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَاطَبَهُمَا بِالنِّكَاحِ لِأَنَّهُمَا قَدْ اسْتَوَيَا فِي الْإِيجَابِ، حَتَّى لَوْ أَجَابَتَا صَحَّ نِكَاحُهُمَا جَمِيعًا فَيَثْبُتُ انْقِسَامُ الْبَدَلِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْإِيجَابِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ تَكُنْ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ أَصْلًا وَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ يُحَدَّ إنْ دَخَلَ بِهَا وَلَا يُحَدُّ عِنْدَهُ. أُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ
وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْأَصْلِ.
(وَمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً فَجَعَلَهَا الْقَاضِي امْرَأَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ تَزَوَّجَهَا وَسِعَهَا الْمُقَامُ مَعَهُ وَأَنْ تَدَعَهُ يُجَامِعُهَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَطَأَهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ الْحُجَّةَ إذْ الشُّهُودُ كَذَبَةٌ فَصَارَ كَمَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ
ظَاهِرِ صُورَةِ الْعَقْدِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهِيَ مُلَقَّبَةٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الزُّورِ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَمَعْنَى نُفُوذِهِ ظَاهِرًا نُفُوذُهُ فِيمَا بَيْنَنَا بِثُبُوتِ التَّمْكِينِ وَالنَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى نُفُوذِهِ بَاطِنًا ثُبُوتُ الْحِلِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ وَالْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ أَلْحَقَهَا بِالْأَشْرِبَةِ وَالْأَنْكِحَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَفِي أُخْرَى أَلْحَقَهَا بِالْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ تَحْرِيرِ الْمَذَاهِبِ وَاضِحٌ. قَالُوا (الْقَاضِي أَخْطَأَ الْحُجَّةَ إذْ الشُّهُودُ كَذَبَةٌ)
أَوْ كُفَّارٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشُّهُودَ صَدَقَةٌ عِنْدَهُ وَهُوَ الْحُجَّةُ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الصِّدْقِ، بِخِلَافِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهِمَا مُتَيَسِّرٌ، وَإِذَا ابْتَنَى الْقَضَاءُ عَلَى الْحُجَّةِ وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ بَاطِنًا بِتَقْدِيمِ النِّكَاحِ نَفَذَ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ،
وَالْخَطَأُ فِي الْحُجَّةِ يَمْنَعُ مِنْ النُّفُوذِ بَاطِنًا كَمَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشُّهُودَ صَدَقَةٌ عِنْدَ الْقَاضِي) لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَجْرَحُهُمْ وَمِثْلُ هَذِهِ الشُّهُودِ هُوَ الْحُجَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الشَّرْعِ (لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى الصِّدْقِ حَقِيقَةً) لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، فَلَوْ اُشْتُرِطَ ذَلِكَ لِلْقَضَاءِ لَمَا أَمْكَنَ الْقَضَاءُ أَصْلًا، وَإِذَا وُجِدَتْ الْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ نَفَذَ الْحُكْمُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (بِخِلَافِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهِمَا مُتَيَسِّرٌ) بِالْأَمَارَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: الْقَضَاءُ إظْهَارُ مَا كَانَ ثَابِتًا لَا إثْبَاتُ مَا لَمْ يَكُنْ وَالنِّكَاحُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَكَيْفَ يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بَاطِنًا؟ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ (بِتَقْدِيمِ النِّكَاحِ) يَعْنِي تَقْدِيمَ النِّكَاحِ عَلَى الْقَضَاءِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْكَحْتُك إيَّاهُ وَحَكَمْت بَيْنَكُمَا بِذَلِكَ (قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ) فَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا لِئَلَّا تُنَازِعَهُ طَلَبَ الْوَطْءِ ثَانِيًا. وَسَأَلَنِي بَعْضُ أَذْكِيَاءِ الْمَغَارِبَةِ حِينَ قَدِمَ مِصْرَ حَاجًّا سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَاعِنًا فِي الْمَذْهَبِ. فَأَجَبْته بِقَوْلِهِمْ هَذَا قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، فَقَالَ: قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي الْوَطْءِ فَيُطَلِّقُهَا فَإِنَّهُ مُخَلِّصٌ عَنْ الْمُنَازَعَةِ مَعَ الْبَرَاءَةِ عَنْ عُهْدَةِ وَطْءٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لَمْ يَسْبِقْهُ مُحَلِّلٌ، فَقُلْت: تَعْنِي بِالطَّلَاقِ طَلَاقًا مَشْرُوعًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، لَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ وَهُوَ يَقْتَضِي النِّكَاحَ لَا مَحَالَةَ، وَإِمَامُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلِيٌّ. فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَقَضَى بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: إنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: شَاهِدَاك زَوَّجَاك. وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا بِقَضَائِهِ لَمَا امْتَنَعَ مِنْ الْعَقْدِ عِنْدَ طَلَبِهَا وَرَغْبَةِ الزَّوْجِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَحْصِينُهَا مِنْ الزِّنَا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ قَضَاءً بِشَهَادَةِ الزُّورِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا جُعِلَ قَضَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يُشْتَرَطَ حُضُورُ الشُّهُودِ عِنْدَ قَوْلِهِ قَضَيْت عَمَلًا بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» . أُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَ مَشَايِخِنَا ذَهَبُوا إلَى ذَلِكَ وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَآخَرُونَ مِنْهُمْ قَالُوا: إنْشَاءُ النِّكَاحِ لَا يُثْبِتُ مَقْصُودًا وَإِنَّمَا يُثْبِتُ مُقْتَضَى صِحَّةِ قَضَائِهِ فِي الْبَاطِنِ وَالْمُقْتَضَى لَا تُرَاعَى شَرَائِطُهُ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا لَوْ كَانَ مَقْصُودًا كَمَا فِي قَوْلِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ سُقُوطِ الْإِيجَابِ
بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ لِأَنَّ فِي الْأَسْبَابِ تَزَاحُمًا فَلَا إمْكَانَ
بَابُ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ
وَالْقَبُولِ.
وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ) أَيْ الْمُطْلَقَةِ عَنْ إثْبَاتِ سَبَبِ الْمِلْكِ بِأَنْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا فِي الْجَارِيَةِ أَوْ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ بِشِرَاءٍ أَوْ أَوْ إرْثٍ حَيْثُ لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ إلَّا ظَاهِرًا بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَا يَحِلُّ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ وَطْؤُهَا (لِأَنَّ فِي الْأَسْبَابِ تَزَاحُمًا) فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهُ. بَيَانُهُ أَنَّ فِي الْأَسْبَابِ كَثْرَةً وَلَا يُمْكِنُ الْقَاضِيَ تَعْيِينُ شَيْءٍ مِنْهَا بِدُونِ الْحُجَّةِ فَلَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ وَإِنَّمَا هُوَ مُخَاطَبٌ بِقَصْرِ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْمُدَّعِي وَذَلِكَ نَافِذٌ مِنْهُ ظَاهِرًا، فَأَمَّا أَنْ يَنْفُذَ بَاطِنًا بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءٍ جَدِيدٍ فَلَيْسَ بِقَادِرٍ عَلَيْهِ بِلَا سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ طَرِيقَهُ مُتَعَيِّنٌ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا فَيُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ وَتَنْفِيذُهُ.
(بَابُ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ)
أَخَّرَ بَيَانَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ عَنْ بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ وَإِنْ كَانَا شَرْطَيْ النِّكَاحِ لِأَنَّ حِلَّ مَحَلِّ النِّكَاحِ شَرْطُ جَوَازِهِ بِالِاتِّفَاقِ، بِخِلَافِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ وَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، وَتَحْرِيرُ الْمَذَاهِبِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ
(وَيَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ بِرِضَاهَا) وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهَا وَلِيٌّ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ (فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ) رحمه الله (أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِوَلِيٍّ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْعَقِدُ وُقُوفًا) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ أَصْلًا لِأَنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِمَقَاصِدِهِ وَالتَّفْوِيضُ إلَيْهِنَّ مُخِلٌّ بِهَا، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله يَقُولُ: يَرْتَفِعُ الْخَلَلُ بِإِجَازَةِ الْوَلِيِّ.
وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ بِدُونِ الْوَلِيِّ كَأَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَمَا قَالَ (لِأَنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِمَقَاصِدِهِ وَالتَّفْوِيضُ إلَيْهِنَّ مُخِلٌّ بِهَا) لِأَنَّهُنَّ سَرِيعَاتُ الِاغْتِرَارِ سَيِّئَاتُ الِاخْتِيَارِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ التَّوَقَانِ. وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا إذَا أَذِنَ لَهَا الْوَلِيُّ كَمَا اخْتَارَهُ مُحَمَّدٌ فَإِنَّ الْخَلَلَ يَنْجَبِرُ بِهِ فَكَانَ الْوَاجِبُ الْجَوَازَ حِينَئِذٍ وَهْم لَا يَقُولُونَ بِهِ. وَأَيْضًا الْمُدَّعِي أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ، فَالدَّلِيلُ الْمُطَابِقُ بَيَانُ الْخَلَلِ فِي الْعِبَارَةِ وَالِاعْتِذَارُ بِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ تَعْلِيلُ
وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهَا عَاقِلَةً مُمَيِّزَةً وَلِهَذَا كَانَ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ وَلَهَا اخْتِيَارُ الْأَزْوَاجِ،
أَنْ لَا يُفَوَّضَ إلَيْهِنَّ أَمْرُ النِّكَاحِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَنْ يَأْذَنَ الْوَلِيُّ أَوْ لَا غَيْرُ دَافِعٍ لِانْتِفَاءِ الْمُطَابَقَةِ. وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ جَوَّزَهُ فَهُوَ (أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهَا عَاقِلَةً مُمَيِّزَةً، وَلِهَذَا كَانَ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ وَلَهَا اخْتِيَارُ الْأَزْوَاجِ) بِالِاتِّفَاقِ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ.
فَإِنْ قُلْت: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا بَلْ فِي حَقٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِكُفْءٍ. فِي رِوَايَةٍ. قُلْت: لَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَا يُرَدَّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِخَالِصِ حَقِّهَا مَا كَانَ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ تَمْلِيكِ مَنَافِعِ بُضْعِهَا وَاسْتِيجَابِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالسُّكْنَى وَنَحْوِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ خَالِصُ حَقِّهَا فَلَا يُعْتَبَرُ بِالْعَارِضِ مِنْ لُحُوقِ الْعَارِ لِلْأَوْلِيَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمِثْلُهُ فَاسِدٌ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} نُهِيَ الْوَلِيُّ عَنْ الْعَضْلِ وَهُوَ الْمَنْعُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْمَنْعُ إذَا كَانَ الْمَمْنُوعُ فِي يَدِهِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» فَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ مُشْتَرَكَةُ الْإِلْزَامِ لِأَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ مَنْعِهِنَّ عَنْ النِّكَاحِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُنَّ يَمْلِكْنَهُ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} وَقَوْلُهُ {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
وَإِنَّمَا يُطَالَبُ الْوَلِيُّ بِالتَّزْوِيجِ كَيْ لَا تُنْسَبَ إلَى الْوَقَاحَةِ، ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكُفْءِ وَغَيْرِ الْكُفْءِ وَلَكِنْ لِلْوَلِيِّ الِاعْتِرَاضُ فِي غَيْرِ الْكُفْءِ.
وَقَوْلُهُ {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} يُعَارِضُهَا.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَسَاقِطُ الِاعْتِبَارِ لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ فَأَنْكَرَهُ، وَلِأَنَّ عَائِشَةَ عَمِلَتْ بِخِلَافِهِ زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ، وَلِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» وَالْأَيِّمُ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مُتَعَارِضَيْنِ تَرَكَ الْمُصَنِّفُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِمَا لِلْجَانِبَيْنِ وَصَارَ إلَى الْمَعْقُولِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يُطَالَبُ الْوَلِيُّ بِالتَّزْوِيجِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا فَلِمَ أُمِرَ الْوَلِيُّ بِالتَّزْوِيجِ إذَا طَالَبَتْهُ، وَأَيُّ حَاجَةٍ لَهَا إلَى طَلَبِ التَّصَرُّفِ مِنْ الْوَلِيِّ فِي خَالِصِ حَقِّهَا. وَوَجْهُهُ أَنَّهَا بِمُبَاشَرَةِ هَذَا التَّصَرُّفِ تُنْسَبُ إلَى الْوَقَاحَةِ فَجُعِلَ التَّصَرُّفُ مِنْ الْوَلِيِّ فِي خَالِصِ حَقِّهَا وَاجِبًا عَلَيْهِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ النِّسْبَةِ إلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَكِنْ لِلْوَلِيِّ الِاعْتِرَاضُ فِي غَيْرِ الْكُفْءِ) يَعْنِي إذَا لَمْ تَلِدْ مِنْ الزَّوْجِ.
وَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ فَلَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الْفَسْخِ كَيْ لَا يَضِيعَ الْوَلَدُ عَمَّنْ
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْكُفْءِ
يُرَبِّيهِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَلَكِنْ فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: وَإِذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَعَلِمَ الْوَلِيُّ بِذَلِكَ فَسَكَتَ حَتَّى وَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِي ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ السُّكُوتَ إنَّمَا جُعِلَ رِضًا فِي حَقِّ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، قَالَ: كَذَا كَانَ مَكْتُوبًا بِخَطِّ شَيْخِي.
وَقَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْكُفْءِ) يَعْنِي لِدَفْعِ ضَرَرِ الْعَارِ عَنْ الْأَوْلِيَاءِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى
لِأَنَّ كَمْ مِنْ وَاقِعٍ لَا يَرْفَعُ. وَيُرْوَى رُجُوعُ مُحَمَّدٍ إلَى قَوْلِهِمَا
(وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ إجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ) خِلَافًا لِلشَّافِعَيَّ رحمه الله. لَهُ الِاعْتِبَارُ بِالصَّغِيرَةِ وَهَذَا لِأَنَّهَا جَاهِلَةٌ بِأَمْرِ النِّكَاحِ لِعَدَمِ التَّجْرِبَةِ
الِاحْتِيَاطِ، فَلَيْسَ كُلُّ وَلِيٍّ يُحْسِنُ الْمُرَافَعَةَ إلَى الْقَاضِي، وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (لِأَنَّ كَمْ مِنْ وَاقِعٍ لَا يَرْفَعُ وَيُرْوَى رُجُوعُ مُحَمَّدٍ إلَى قَوْلِهِمَا) يَعْنِي يَنْعَقِدُ نِكَاحُهَا عِنْدَهُ أَيْضًا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا يُوقَفُ عَلَى الْإِجَازَةِ.
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ إجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ) إجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ)
وَلِهَذَا يَقْبِضُ الْأَبُ صَدَاقَهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا. وَلَنَا أَنَّهَا حُرَّةٌ مُخَاطَبَةٌ فَلَا يَكُونُ لِلْغَيْرِ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ، وَالْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ لِقُصُورِ عَقْلِهَا وَقَدْ كَمُلَ بِالْبُلُوغِ بِدَلِيلِ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ فَصَارَ كَالْغُلَامِ وَكَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ،
وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. لَهُ أَنَّ الصَّغِيرَةَ إذَا كَانَتْ بِكْرًا تُزَوَّجُ كُرْهًا فَكَذَا الْبَالِغَةُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الْجَهَالَةُ بِأَمْرِ النِّكَاحِ لِعَدَمِ التَّجْرِبَةِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِهَا جَاهِلَةً بِأَمْرِ النِّكَاحِ (يَقْبِضُ الْأَبُ صَدَاقَهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا، وَلَنَا أَنَّهَا حُرَّةٌ مُخَاطَبَةٌ) لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ كَذَلِكَ (لَا يَكُونُ لِلْغَيْرِ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ) وَقَوْلُهُ (وَالْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الصَّغِيرَةِ بِالْمُفَارَقَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الصَّغِيرَةِ إنَّمَا كَانَتْ (لِقُصُورِ عَقْلِهَا)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لِأَنَّهُ قَدْ كَمُلَ بِالْبُلُوغِ بِدَلِيلِ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ فَصَارَ الْإِجْبَارُ عَلَيْهَا كَالْإِجْبَارِ عَلَى الْغُلَامِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا جَازَ لِقُصُورِ الْعَقْلِ، وَإِنْ كَانَ بَالِغًا لَا يَجُوزُ وَصَارَ كَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ: أَيْ فِي مَالِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ
وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْأَبُ قَبْضَ الصَّدَاقِ بِرِضَاهَا دَلَالَةً
فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ التَّصَرُّفُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ. (وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْأَبُ قَبْضَ الصَّدَاقِ بِرِضَاهَا دَلَالَةً) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا يَقْبِضُ الْأَبُ صَدَاقَهَا. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي عَنْ قَبْضِ صَدَاقِهَا وَأَنَّ الْأَبَ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ ذَلِكَ
وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ مَعَ نَهْيِهَا.
قَالَ (وَإِذَا اسْتَأْذَنَهَا فَسَكَتَتْ أَوْ ضَحِكَتْ فَهُوَ إذْنٌ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ رَضِيَتْ» وَلِأَنَّ جَنْبَةَ الرِّضَا فِيهِ رَاجِحَةٌ، لِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي عَنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ لَا عَنْ الرَّدِّ، وَالضَّحِكُ أَدَلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ السُّكُوتِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَكَتْ لِأَنَّهُ دَلِيلُ السُّخْطِ وَالْكَرَاهَةِ. وَقِيلَ إذَا
لِيُجَهِّزَهَا بِذَلِكَ مَعَ مَالِ نَفْسِهِ لِيَبْعَثَ بِهَا إلَى زَوْجِهَا فَكَانَ ذَلِكَ إذْنًا دَلَالَةً (وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ مَعَ نَهْيِهَا) لِأَنَّ الدَّلَالَةَ تَبْطُلُ بِصَرِيحٍ يُخَالِفُهَا.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا اسْتَأْذَنَهَا الْوَلِيُّ فَسَكَتَتْ أَوْ ضَحِكَتْ) ظَاهِرٌ.
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ضَحِكَتْ كَالْمُسْتَهْزِئَةِ بِمَا سَمِعَتْ لَا يَكُونُ رِضًا، وَإِذَا بَكَتْ بِلَا صَوْتٍ لَمْ يَكُنْ رَدًّا.
قَالَ (وَإِنْ)(فَعَلَ هَذَا غَيْرُ وَلِيٍّ) يَعْنِي اسْتَأْمَرَ غَيْرُ الْوَلِيِّ (أَوْ وَلِيُّ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ)(لَمْ يَكُنْ رِضًا حَتَّى تَتَكَلَّمَ بِهِ) لِأَنَّ هَذَا السُّكُوتَ لِقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى كَلَامِهِ فَلَمْ يَقَعْ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَا، وَلَوْ وَقَعَ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَالِاكْتِفَاءُ بِمِثْلِهِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَوْلِيَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُسْتَأْمَرُ رَسُولَ الْوَلِيِّ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَيُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِئْمَارِ تَسْمِيَةُ الزَّوْجِ عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ لِتَظْهَرَ رَغْبَتُهَا فِيهِ مِنْ رَغْبَتِهَا عَنْهُ
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ فَعَلَ هَذَا) يَعْنِي الِاسْتِئْمَارَ وَالِاسْتِئْذَانَ (غَيْرُ وَلِيٍّ) وَهُوَ الْأَجَانِبُ أَوْ قَرِيبٌ لَيْسَ بِوَلِيٍّ بِأَنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا (أَوْ وَلِيُّ غَيْرِهِ أَوْلَى مِنْهُ) كَاسْتِئْذَانِ الْأَخِ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ (لَا يَكُونُ رِضًا حَتَّى تَتَكَلَّمَ بِهِ لِأَنَّ هَذَا السُّكُوتَ لِقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى كَلَامِهِ فَلَمْ يَقَعْ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَا) وَقَوْلُهُ (وَلَوْ وَقَعَ) أَيْ السُّكُوتُ دَلِيلًا (فَهُوَ) دَلِيلٌ (مُحْتَمَلٌ) يَحْتَمِلُ الْإِذْنَ وَالرَّدَّ (وَالِاكْتِفَاءُ بِمِثْلِهِ) فِي الدَّلَالَةِ (لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَوْلِيَاءِ) لِأَنَّهُ فُضُولِيٌّ، أَوْ فِي حَقِّ وَلِيِّ غَيْرِهِ أَحَقُّ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَى كَلَامِهِ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُسْتَأْمِرُ رَسُولَ الْوَلِيِّ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ) وَقَوْلُهُ (وَيُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِئْمَارِ تَسْمِيَةُ الزَّوْجِ) يَعْنِي إذَا اسْتَأْمَرَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُسَمَّى الزَّوْجُ عَلَى وَجْهٍ تَعْرِفُهُ، أَمَّا إذَا أَبْهَمَ وَقَالَ إنِّي أُزَوِّجُك رَجُلًا فَسَكَتَتْ لَا يَكُونُ السُّكُوتُ رِضًا.
(وَلَا تُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ هُوَ الصَّحِيحُ) لِأَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ بِدُونِهِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَسَكَتَتْ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
وَلَا يُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ هُوَ الصَّحِيحُ) وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فِي الِاسْتِئْمَارِ لِأَنَّ رَغْبَتَهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصَّدَاقِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ. وَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ لِلنِّكَاحِ صِحَّةً بِدُونِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ (وَلَوْ زَوَّجَهَا فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَسَكَتَتْ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا) مِنْ كَوْنِهِ رِضًا. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ يَقُولُ: إذَا اسْتَأْمَرَهَا قَبْلَ الْعَقْدِ فَسَكَتَتْ فَهُوَ رِضًا مِنْهَا بِالنَّصِّ، فَأَمَّا إذَا بَلَغَهَا الْعَقْدُ فَسَكَتَتْ فَلَا يَتِمُّ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ هَاهُنَا إلَى الْإِجَازَةِ، وَالسُّكُوتُ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَإِنَّ السُّكُوتَ عِنْدَ الِاسْتِئْمَارِ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا لِتَمَكُّنِهَا أَنْ تَرْجِعَ قَبْلَ الْعَقْدِ وَحِينَ بَلَغَهَا الْخَبَرُ يَكُونُ مُلْزِمًا فَلَا يُمْكِنُهَا الرُّجُوعُ فَلَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ بِمُجَرَّدِ السُّكُوتِ، لَكِنَّا نَقُولُ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ لِأَنَّ لَهَا عِنْدَ الِاسْتِئْمَارِ جَوَابَيْنِ: لَا، وَنَعَمْ. فَيَكُونُ سُكُوتُهَا دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَهُوَ نَعَمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِي الرِّجَالِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيمَا إذَا بَلَغَهَا الْعَقْدُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِي السُّكُوتِ لَا يَخْتَلِفُ.
لِأَنَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِي السُّكُوتِ لَا يَخْتَلِفُ، ثُمَّ الْمُخْبِرُ إنْ كَانَ فُضُولِيًّا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الْمُخْبِرُ إنْ كَانَ فُضُولِيًّا) اعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ الْخَبَرِ إذَا كَانَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَا فِيهِ إلْزَامٌ مَحْضٌ كَالْبُيُوعِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ وَنَحْوِهَا، وَمَا لَيْسَ فِيهِ إلْزَامٌ أَصْلًا كَالْوَكَالَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالرِّسَالَةِ فِي الْهَدَايَا وَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَمَا فِيهِ إلْزَامٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَاَلَّتِي نَحْنُ فِيهَا وَأَخَوَاتِهَا كَعَزْلِ الْوَكِيلِ وَحَجْرِ الْمَأْذُونِ وَإِخْبَارِ الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ وَنَحْوِهَا. فَالْأَوَّلُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَقْلُ وَالْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ وَالْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ مَعَ الْعَدَدِ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ. وَالثَّانِي يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّمْيِيزُ دُونَ الْعَدَالَةِ. وَالثَّالِثُ إنْ كَانَ الْمُبَلِّغُ رَسُولًا أَوْ وَكِيلًا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْعَدَالَةُ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ غَيْرِهِ، فَلَوْ أَخْبَرَ الْغَيْرُ بِنَفْسِهِ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْعَدَالَةُ فَكَذَا هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ فُضُولِيًّا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ: إمَّا الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ نَظِيرُ الْقِسْمِ الثَّانِي
خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ كَانَ رَسُولًا لَا يُشْتَرَطُ إجْمَاعًا وَلَهُ نَظَائِرُ
(وَلَوْ اسْتَأْذَنَ الثَّيِّبَ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا بِالْقَوْلِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» وَلِأَنَّ النُّطْقَ لَا يُعَدُّ عَيْبًا مِنْهَا وَقَلَّ الْحَيَاءُ بِالْمُمَارَسَةِ
فِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ مُمَيِّزًا سَوَاءٌ كَانَ عَدْلًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَمَوْضِعُ ذَلِكَ أُصُولُ الْفِقْهِ.
(وَلَوْ اسْتَأْذَنَ الثَّيِّبَ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا بِالْقَوْلِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ») وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ وَهِيَ تَقْتَضِي الْفِعْلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَقَدْ وُجِدَ النُّطْقُ مِنْ الْوَلِيِّ بِالسُّؤَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ النُّطْقِ مِنْهَا فِي الْجَوَابِ. وَقِيلَ الْمُشَاوَرَةُ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الرَّأْيِ بِالْإِشَارَةِ إلَى الصَّوَابِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنُّطْقِ (وَلِأَنَّ النُّطْقَ) فِي النِّكَاحِ مِنْ الثَّيِّبِ (لَا يُعَدُّ عَيْبًا) وَإِذَا لَمْ يُعَدَّ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَى النُّطْقِ فِي الْبِكْرِ لِأَنَّهُ يُعَدُّ مِنْهَا عَيْبًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ، وَلِأَنَّ السُّكُوتَ صَارَ رِضًا لِتَوَفُّرِ الْحَيَاءِ، فَإِنَّ عَائِشَةَ لَمَّا أَخْبَرَتْ أَنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي قَالَ عليه الصلاة والسلام «سُكُوتُهَا
فَلَا مَانِعَ مِنْ النُّطْقِ فِي حَقِّهَا
(وَإِذَا زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِوَثْبَةٍ أَوْ حَيْضَةٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ تَعْنِيسٍ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْأَبْكَارِ) لِأَنَّهَا بِكْرٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ مُصِيبَهَا أَوَّلُ مُصِيبٍ لَهَا وَمِنْهُ الْبَاكُورَةُ وَالْبُكْرَةُ وَلِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي لِعَدَمِ الْمُمَارَسَةِ (وَلَوْ زَالَتْ) بَكَارَتُهَا (بِزِنًا فَهِيَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا لِأَنَّهَا ثَيِّبٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ مُصِيبَهَا عَائِدٌ إلَيْهَا وَمِنْهُ الْمَثُوبَةُ وَالْمَثَابَةُ وَالتَّثْوِيبُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّاسَ عَرَفُوهَا بَكْرًا
رِضَاهَا» وَالْحَيَاءُ فِي الثَّيِّبِ غَيْرُ مُتَوَفِّرٍ لِقِلَّتِهِ بِالْمُمَارَسَةِ (فَلَا مَانِعَ مِنْ النُّطْقِ فِي حَقِّهَا).
(وَإِذَا زَالَتْ الْبَكَارَةُ بِوَثْبَةٍ) وَهُوَ الْوُثُوبُ مِنْ فَوْقٍ (أَوْ حَيْضَةٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ تَعْنِيسٍ) عَنَسَتْ الْجَارِيَةُ وَعَنِسَتْ عُنُوسًا: إذَا جَاوَزَتْ وَقْتَ التَّزْوِيجِ فَلَمْ تَتَزَوَّجْ (فَهِيَ فِي حُكْمِ الْأَبْكَارِ) فِي كَوْنِ إذْنِهَا سُكُوتَهَا (لِأَنَّهَا بِكْرٌ) إذْ الْبِكْرُ هِيَ الَّتِي يَكُونُ مُصِيبُهَا أَوَّلَ مُصِيبٍ، وَهَذِهِ كَذَلِكَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبَاكُورَةِ وَهِيَ أَوَّلُ الثِّمَارِ وَمِنْ الْبُكْرَةِ وَهِيَ أَوَّلُ النَّهَارِ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَمَكَّنَ مِنْ الرَّدِّ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فَوَجَدَهَا زَائِلَةَ الْبَكَارَةِ بِالْوَثْبَةِ لِأَنَّهَا بِكْرٌ حَقِيقَةً عَلَى مَا قُلْتُمْ لَكِنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّدَّ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ وَهُوَ الْعُذْرَةُ لَا لِكَوْنِهَا غَيْرَ بِكْرٍ، وَلِأَنَّ النُّطْقَ سَقَطَ لِلْحَيَاءِ وَهُوَ مَوْجُودٌ هَاهُنَا (لِأَنَّهَا تَسْتَحِي لِعَدَمِ الْمُمَارَسَةِ، وَلَوْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِزِنًا فَهِيَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا لِأَنَّهَا ثَيِّبٌ حَقِيقَةً) إذْ الثَّيِّبُ مَنْ يَكُونُ مُصِيبُهَا عَائِدًا إلَيْهَا مُشْتَقٌّ مِنْ الْمَثُوبَةِ وَهِيَ الثَّوَابُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهَا لِأَنَّهَا مَرْجُوعٌ إلَيْهَا فِي الْعَاقِبَةِ، وَمِنْ الْمَثَابَةِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُثَابُ: أَيْ يُرْجَعُ إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَمِنْ التَّثْوِيبِ: وَهُوَ الدُّعَاءُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَإِذَا كَانَتْ ثَيِّبًا فَلَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّاسَ عَرَفُوهَا بِكْرًا) وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ السُّكُوتَ رِضًا بِعِلَّةِ الْحَيَاءِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ.
وَإِذَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَيْهَا، وَهَاهُنَا قَدْ وُجِدَتْ لِمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ إنَّ النَّاسَ عَرَفُوهَا بِكْرًا
فَيُعَيِّبُونَهَا بِالنُّطْقِ فَتَمْتَنِعُ عَنْهُ فَيُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا كَيْ لَا تَتَعَطَّلَ عَلَيْهَا مَصَالِحُهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَظْهَرَهُ حَيْثُ عَلَّقَ بِهِ أَحْكَامًا، أَمَّا الزِّنَا فَقَدْ نُدِبَ إلَى سَتْرِهِ، حَتَّى لَوْ اُشْتُهِرَ حَالُهَا لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا
فَيُعَيِّرُونَهَا) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَيَعِيبُونَهَا (بِالنُّطْقِ) فَتَسْتَحِي (فَتَمْتَنِعُ) مِنْ النُّطْقِ وَكَانَتْ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً (فَيُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا كَيْ لَا تَتَعَطَّلَ عَلَيْهَا مَصَالِحُهَا) وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا سَقَطَ مَا قِيلَ هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ بِعِلَّةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا لَا تَعْلِيلَ فِي مُقَابَلَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَدْمَ عَمَلٍ بِعِلَّةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا حَيَاءٌ يَكُونُ مِنْ كَرَمِ الطَّبِيعَةِ وَذَلِكَ أَمْرٌ مَحْمُودٌ، وَهَذَا الْحَيَاءُ حَيَاءُ مَعْصِيَةٍ فَلَيْسَ مِنْ أَفْرَادِهِ حَتَّى يَدْخُلَ تَحْتَ النَّصِّ. أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْحَيَاءَ أَشَدُّ لِأَنَّ فِي الِاسْتِنْطَاقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا ثَيِّبٌ ظُهُورُ فَاحِشَتِهَا فَكَانَ كَالضَّرْبِ مِنْ التَّأْفِيفِ فَيُلْحَقُ بِهِ. قَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَيُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا: يَعْنِي أَنَّ مَنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ (أَوْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ) لَا يَكُونُ إذْنُهَا سُكُوتَهَا لِعَدَمِ الْحَيَاءِ ثَمَّةَ (لِأَنَّ الشَّرْعَ أَظْهَرَهُ حَيْثُ عَلَّقَ بِهِ أَحْكَامًا) مِنْ لُزُومِ الْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ وَإِثْبَاتِ النَّسَبِ (أَمَّا الزِّنَا فَقَدْ نُدِبَ إلَى سَتْرِهِ حَتَّى لَوْ اشْتَهَرَ حَالُهَا) بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا أَوْ لِصَيْرُورَتِهِ عَادَةً (لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا) فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ أَنْ يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ
(وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ بَلَغَك النِّكَاحُ فَسَكَتَتْ وَقَالَتْ رَدَدْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: الْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ السُّكُوتَ أَصْلٌ وَالرَّدَّ عَارِضٌ، فَصَارَ كَالْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ إذَا ادَّعَى الرَّدَّ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّهُ يَدَّعِي لُزُومَ الْعَقْدِ وَتَمَلُّكَ الْبُضْعِ وَالْمَرْأَةُ تَدْفَعُهُ فَكَانَتْ مُنْكِرَةً، كَالْمُودِعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ لِأَنَّ اللُّزُومَ قَدْ ظَهَرَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى سُكُوتِهَا ثَبَتَ النِّكَاحُ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ،
أَيْضًا لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ اسْمِ الْبِكْرِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ» أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَهُوَ ضَعِيفٌ بَعِيدٌ فَإِنَّ فِي الْمَوْطُوءَةِ بِالشُّبْهَةِ وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ هَذَا مَوْجُودٌ أَيْضًا، وَلَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا بِالْإِجْمَاعِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بَقَاءُ صِفَةِ الْحَيَاءِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ السُّكُوتَ أَصْلٌ وَالرَّدُّ عَارِضٌ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ السُّكُوتَ عَدَمُ الْكَلَامِ، وَلَا شَكَّ فِي تَقَدُّمِهِ عَلَى عُرُوضِ الْكَلَامِ (فَصَارَ كَالْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ إذَا ادَّعَى الرَّدَّ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ) فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي لُزُومَ الْعَقْدِ بِالسُّكُوتِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ السُّكُوتَ أَصْلٌ وَالرَّدَّ عَارِضٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي السُّكُوتَ. وَقَوْلُهُ (وَنَحْنُ نَقُولُ) ظَاهِرٌ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْإِنْكَارُ الْمَعْنَوِيُّ وَزُفَرُ يَعْتَبِرُ الْإِنْكَارَ الصُّورِيَّ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ زُفَرَ.
وَوَجْهُهُ أَنْ يُجْعَلَ الْقَوْلُ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَاللُّزُومُ قَدْ ظَهَرَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ لِلسَّاكِتِ (وَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى السُّكُوتِ ثَبَتَ النِّكَاحُ) فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ لِمَا ذَكَرْتُمْ أَنَّ السُّكُوتَ عَدَمُ الْكَلَامِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ.
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَسَتَأْتِيك
أُجِيبَ بِأَنَّهَا مَقْبُولَةٌ إذَا كَانَ عِلْمُ الشَّاهِدِ مُحِيطًا بِهِ كَمَا إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَالَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ النَّصَارَى وَقَالَ الرَّجُلُ بَلْ قُلْته فَأَقَامَتْ بَيِّنَةً أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ يُقْبَلُ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ الشَّاهِدِ لِمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَهُ لَسَمِعَهُ الشُّهُودُ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ. قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ: بَيِّنَتُهَا أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الرَّدَّ وَهُوَ يُثْبِتُ عَدَمًا وَهُوَ السُّكُوتُ، حَتَّى لَوْ أَقَامَهَا عَلَى أَنَّهَا أَجَازَتْ أَوْ رَضِيَتْ حِينَ عَلِمَتْ حَتَّى اسْتَوَتَا فِي الْإِثْبَاتِ تَرَجَّحَتْ بَيِّنَتُهُ لِإِثْبَاتِهِ اللُّزُومَ (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَسَتَأْتِيك
فِي الدَّعْوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
(وَيَجُوزُ نِكَاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا زَوَّجَهُمَا الْوَلِيُّ بِكْرًا كَانَتْ الصَّغِيرَةُ أَوْ ثَيِّبًا وَالْوَلِيُّ هُوَ الْعَصَبَةُ) وَمَالِكٌ رحمه الله يُخَالِفُنَا فِي غَيْرِ الْأَبِ، وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَفِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ أَيْضًا. وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْحُرَّةِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ هُنَا لِانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ، إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ ثَبَتَتْ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْجَدُّ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ.
فِي الدَّعْوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى).
قَالَ (وَيَجُوزُ نِكَاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ) يَجُوزُ نِكَاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ (إذَا زَوَّجَهُمَا الْوَلِيُّ بِكْرًا كَانَتْ الصَّغِيرَةُ أَوْ ثَيِّبًا وَالْوَلِيُّ هُوَ الْعَصَبَةُ) عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ فِي الْإِرْثِ، وَقَالَ مَالِكٌ: وَلِيُّهُمَا الْأَبُ لَيْسَ إلَّا، حَتَّى لَوْ زَوَّجَهُمَا الْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ لَا يَجُوزُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلِيُّهُمَا الْأَبُ وَالْجَدُّ لَا غَيْرُ إذَا كَانَتْ الصَّغِيرَةُ بِكْرًا، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهَا، حَتَّى لَوْ زَوَّجَهَا الْأَخُ أَوْ الْعَمُّ، أَوْ زَوَّجَ الثَّيِّبَ الصَّغِيرَةَ الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ كَرْهًا لَا يَنْفُذُ النِّكَاحُ (وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْحُرَّةِ) مَعَ قِيَامِ الْمُنَافِي (بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ) فِي الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِمَا (غَيْرَ أَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ ثَبَتَتْ نَصًّا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ) فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ زَوَّجَ عَائِشَةَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَصَحَّحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْجَدُّ وَلَا يُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءُ الْأَبِ فَكَانَتْ الْوِلَايَةُ لِلْأَبِ
قُلْنَا: لَا بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَتَضَمَّنُ الْمَصَالِحَ وَلَا تَتَوَفَّرُ إلَّا بَيْنَ الْمُتَكَافِئَيْنِ عَادَةً وَلَا يَتَّفِقُ الْكُفْءُ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَأَثْبَتْنَا الْوِلَايَةَ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ إحْرَازًا لِلْكُفْءِ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّظَرَ لَا يَتِمُّ بِالتَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِقُصُورِ شَفَقَتِهِ وَبُعْدِ قَرَابَتِهِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ مَعَ أَنَّهُ أَدْنَى رُتْبَةً، فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ فِي النَّفْسِ وَإِنَّهُ أَعْلَى وَأَوْلَى. وَلَنَا أَنَّ الْقَرَابَةَ دَاعِيَةٌ إلَى النَّظَرِ كَمَا فِي الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْقُصُورِ أَظْهَرْنَاهُ
عَلَيْهِ كَالْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْجُزْئِيَّةُ قَدْ ضَعُفَتْ بِالْجَدِّ وَشَفَقَتُهُ قَدْ نَقَصَتْ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ (قُلْنَا لَا) نُسَلِّمُ أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْحُرِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ (بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لَهُ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَتَضَمَّنُ الْمَصَالِحَ) مِنْ التَّنَاسُلِ وَالسَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ (وَلَا تَتَوَفَّرُ إلَّا بَيْنَ مُتَكَافِئَيْنِ عَادَةً وَلَا يَتَّفِقُ الْكُفْءُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَأَثْبَتْنَا الْوِلَايَةَ فِي حَالِ الصِّغَرِ إحْرَازًا لِلْكُفْءِ) لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْإِحْرَازُ أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.
وَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوِلَايَةَ لِلنَّظَرِ وَالنَّظَرُ لَا يَتِمُّ بِالتَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِقُصُورِ شَفَقَتِهِ وَبُعْدِ قَرَابَتِهِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِقُصُورِ شَفَقَتِهِ (لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ مَعَ أَنَّهُ أَدْنَى رُتْبَةٍ) لِكَوْنِهِ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ (فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ فِي النَّفْسِ وَإِنَّهُ أَعْلَى أَوْلَى. وَلَنَا أَنَّ) الْوِلَايَةَ لِلنَّظَرِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ قَرِيبٍ، لِأَنَّ (الْقَرَابَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ كَمَا فِي الْأَبِ وَالْجَدِّ) فَإِنَّ النَّظَرَ فِيهِمَا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا مِنْ الْقَرَابَةِ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ مُتَفَاوِتٌ كَمَالًا وَقُصُورًا بِقُرْبِ الْقَرَابَةِ وَبُعْدِهَا، لَكِنْ مَا فِي الْبَعِيدَةِ مِنْ الْقُصُورِ مُمْكِنُ التَّدَارُكِ فَأَظْهَرْنَاهُ فِي سَلْبِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ فَجَعَلْنَا لَهُمَا خِيَارَ الْبُلُوغِ، فَإِذَا بَلَغَا وَوَجَدَا الْأَمْرَ عَلَى مَا يَنْبَغِي مَضَيَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ وَجَدَا قَدْ أَوْقَعًا خَلَلًا بِقُصُورِ الشَّفَقَةِ وَالنَّظَرِ فَسَخَا النِّكَاحَ، بِخِلَافِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ لِأَنَّ الْخَلَلَ الْوَاقِعَ بِسَبَبِ الْقُصُورِ غَيْرُ مُمْكِنِ التَّدَارُكِ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ بِتَدَاوُلِ الْأَيْدِي بِأَنْ يَبِيعَ الْوَلِيُّ ثُمَّ يَبِيعَ الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ ثُمَّ وَثُمَّ، وَقَدْ
فِي سَلْبِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ، بِخِلَافِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ فَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُ الْخَلَلِ فَلَا تُفِيدُ الْوِلَايَةُ إلَّا مُلْزِمَةً وَمَعَ الْقُصُورِ لَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ. وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الثِّيَابَةَ سَبَبٌ لِحُدُوثِ الرَّأْيِ لِوُجُودِ الْمُمَارَسَةِ فَأَدَرْنَا الْحُكْمَ عَلَيْهَا تَيْسِيرًا. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَوُفُورِ الشَّفَقَةِ، وَلَا مُمَارَسَةَ تُحْدِثُ الرَّأْيَ بِدُونِ
يَغِيبُ بَعْضُهُمْ، وَلَا يُمْكِنُ تَوَقُّفُ ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ (فَلَا تُفِيدُ الْوِلَايَةَ إلَّا مُلْزِمَةٌ) وَلَا إلْزَامَ مَعَ الْقُصُورِ، بِخِلَافِ الْمُتَنَاكِحَيْنِ فَإِنَّهُمَا ثَابِتَانِ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ غَالِبًا، فَكَانَ التَّدَارُكُ بِالتَّوَقُّفِ مُمْكِنًا. وَقَوْلُهُ (وَجْهُ قَوْلِهِ) أَيْ الشَّافِعِيِّ (فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الثِّيَابَةَ سَبَبٌ لِحُدُوثِ الرَّأْيِ) وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الرَّأْيَ أَمْرٌ بَاطِنٌ وَالثِّيَابَةُ سَبَبٌ لِحُدُوثِهِ (لِوُجُودِ الْمُمَارَسَةِ) فَتُقَامُ مَقَامَهُ وَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ تَيْسِيرًا (وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُقْتَضَى لِلْوِلَايَةِ النَّظَرِيَّةِ هُوَ الْحَاجَةُ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ لِلصِّغَرِ وَالْمَانِعِ وَهُوَ قُصُورُ الشَّفَقَةِ قَدْ انْتَفَى لِأَنَّ الشَّفَقَةَ فِي الْأَبِ وَالْجَدِّ مُتَوَافِرَةٌ، وَإِذَا وُجِدَ الْمُقْتَضَى وَانْتَفَى الْمَانِعُ يَجِبُ تَحَقُّقُ الْحُكْمِ، وَلَا نُسَلِّمُ حُصُولَ الرَّأْيِ لِلصَّغِيرَةِ بِسَبَبِ الْمُمَارَسَةِ لِأَنَّ الرَّأْيَ وَالْعِلْمَ بِلَذَّةِ الْجِمَاعِ إنَّمَا يَحْدُثُ عَنْ مُبَاشَرَةٍ بِشَهْوَةٍ وَلَا شَهْوَةَ لَهَا، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الثِّيَابَةُ سَبَبًا لِحُدُوثِ الرَّأْيِ لَا تَصْلُحُ مَدَارًا.
وَأَمَّا الصِّغَرُ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْحَاجَةِ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُدَارًا، فَكُلَّمَا ثَبَتَ
الشَّهْوَةِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الصِّغَرِ، ثُمَّ الَّذِي يُؤَيِّدُ كَلَامَنَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَالتَّرْتِيبُ فِي الْعَصَبَاتِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ كَالتَّرْتِيبِ فِي الْإِرْثِ وَالْأَبْعَدُ مَحْجُوبٌ بِالْأَقْرَبِ.
قَالَ (فَإِنْ)(زَوَّجَهُمَا الْأَبُ وَالْجَدُّ) يَعْنِي الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ (فَلَا خِيَارَ لَهُمَا بَعْدَ بُلُوغِهِمَا) لِأَنَّهُمَا كَامِلَا الرَّأْي وَافِرَا الشَّفَقَةِ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِمُبَاشَرَتِهَا كَمَا إذَا بَاشَرَاهُ بِرِضَاهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ (وَإِنْ زَوَّجَهُمَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الصِّغَرُ ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ (ثُمَّ الَّذِي يُؤَيِّدُ كَلَامَنَا فِيمَا تَقَدَّمَ) يَعْنِي مِنْ إطْلَاقِ الْوَلِيِّ فِي قَوْلِهِ وَيَجُوزُ نِكَاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا زَوَّجَهُمَا الْوَلِيُّ (قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ») وَقَوْلُهُ (وَالتَّرْتِيبُ فِي الْعَصَبَاتِ)
الْخِيَارُ إذَا بَلَغَ، إنْ شَاءَ أَقَامَ عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا خِيَارَ لَهُمَا اعْتِبَارًا بِالْأَبِ وَالْجَدِّ. وَلَهُمَا أَنَّ قَرَابَةَ الْأَخِ نَاقِصَةٌ وَالنُّقْصَانُ يُشْعِرُ بِقُصُورِ الشَّفَقَةِ فَيَتَطَرَّقُ الْخَلَلُ إلَى الْمَقَاصِدِ عَسَى وَالتَّدَارُكُ مُمْكِنٌ بِخِيَارِ الْإِدْرَاكِ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ يَتَنَاوَلُ الْأُمَّ، وَالْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ لِقُصُورِ الرَّأْيِ فِي أَحَدِهِمَا وَنُقْصَانِ الشَّفَقَةِ فِي الْآخَرِ فَيَتَخَيَّرُ. قَالَ (وَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَضَاءُ) بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ لِأَنَّ
ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِالْأَبِ وَالْجَدِّ) بِجَامِعِ دَاعِيَةِ الْقَرَابَةِ (وَلَهُمَا أَنَّ قَرَابَةَ الْأَخِ نَاقِصَةٌ) خُصِّصَ الْأَخُ لِيُعْلَمَ بِهِ حُكْمُ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَوْلِيَاءِ بَعْدَ الْجَدِّ. وَقَوْلُهُ (فَيَتَطَرَّقُ الْخَلَلُ إلَى الْمَقَاصِدِ عَسَى) يَعْنِي أَنَّ وَرَاءَ الْكَفَاءَاتِ وَالْمَهْرِ مَقَاصِدَ أُخْرَى فِي النِّكَاحِ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ وَحُسْنِهِ وَلَطَافَةِ الْعِشْرَةِ وَغِلَظِهَا وَكَرَمِ الصُّحْبَةِ وَلُؤْمِهَا وَتَوْسِيعِ النَّفَقَةِ وَتَقْتِيرِهَا، وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ أَهَمُّ مِنْ الْكَفَاءَةِ، وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا بِجِدٍّ بَلِيغٍ وَنَظَرٍ صَائِبٍ، فَلِنُقْصَانِ قَرَابَتِهِ وَقُصُورِ شَفَقَتِهِ رُبَّمَا لَا يُحْسِنُ النَّظَرَ فَيُتَوَهَّمُ الْخَلَلُ فِيهَا فَيَتَدَارَكُ بِخِيَارِ الْإِدْرَاكِ.
وَقَوْلُهُ وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ يَتَنَاوَلُ الْأُمَّ وَالْقَاضِي) يَعْنِي فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ عِنْدَ الْبُلُوغِ، وَأَرَادَ بِالْإِطْلَاقِ قَوْلَهُ فَإِنْ زَوَّجَهُمَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ. وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَى خَالِدُ بْنُ صُبَيْحٍ الْمَرْوَزِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْيَتِيمَةِ إذَا زَوَّجَهَا الْقَاضِي لِأَنَّ لَهُ الْوِلَايَةَ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ وَكَانَ فِي قُوَّةِ وِلَايَةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ.
وَوَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ (بِقَوْلِهِ لِقُصُورِ الرَّأْيِ فِي أَحَدِهِمَا) يَعْنِي الْأُمَّ (وَنُقْصَانُ الشَّفَقَةِ فِي الْآخَرِ) يَعْنِي الْقَاضِيَ، أَلَا تَرَى أَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ وِلَايَةِ الْأَخِ وَالْعَمِّ، فَإِذَا ثَبَتَ لَهُمَا الْخِيَارُ فِي تَزْوِيجِهِمَا فَفِي تَزْوِيجِ الْقَاضِي أَوْلَى. وَقَوْلُهُ (وَيُشْتَرَطُ فِيهِ) أَيْ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ (الْقَضَاءُ لِأَنَّ
الْفَسْخَ هَاهُنَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ تَمَكُّنُ الْخَلَلِ وَلِهَذَا يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فَجُعِلَ إلْزَامًا فِي حَقِّ الْآخَرِ فَيُفْتَقَرُ إلَى الْقَضَاءِ. وَخِيَارُ الْعِتْقِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ جَلِيٍّ وَهُوَ زِيَادَةُ الْمِلْكِ عَلَيْهَا
الْفَسْخَ هَاهُنَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ تَمَكُّنُ الْخَلَلِ) بِسَبَبِ قُصُورِ شَفَقَةِ الْمُزَوِّجِ (وَلِهَذَا) أَيْ لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ (يَشْمَلُ) الْفَسْخُ (الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) لِأَنَّ قُصُورَ الشَّفَقَةِ كَمَا هُوَ فِي حَقِّ الْجَارِيَةِ مُمْكِنٌ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْغُلَامِ، وَإِذَا كَانَ الضَّرَرُ
(وَلِهَذَا يَخْتَصُّ بِالْأُنْثَى فَاعْتُبِرَ دَفْعًا وَالدَّفْعُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَضَاءِ) ثُمَّ عِنْدَهُمَا إذَا بَلَغَتْ الصَّغِيرَةُ وَقَدْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ
خَفِيًّا لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ كُفْئًا وَالْمَهْرُ تَامًّا فَرُبَّمَا يُنْكِرُهُ الزَّوْجُ فَيَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ لِلْإِلْزَامِ.
وَأَمَّا خِيَارُ الْعِتْقِ فَلِدَفْعِ ضَرَرٍ جَلِيٍّ وَهُوَ زِيَادَةُ الْمِلْكِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الزَّوْجَ قَبْلَ عِتْقَهَا كَانَ يَمْلِكُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَيْنِ وَيَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا فِي قُرْأَيْنِ ثُمَّ ازْدَادَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ وَهُوَ أَمْرٌ جَلِيٌّ لَيْسَ لِلْإِنْكَارِ فِيهِ مَجَالٌ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى الْإِلْزَامِ، لَكِنْ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهَا وَذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِ النِّكَاحِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْعِتْقِ يَسْتَلْزِمُهَا، وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ وُجُودِ اللَّازِمِ مُحَالٌ، فَكَانَ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ أَصْلَ الْمِلْكِ فِي ضِمْنِ مَالِهَا مِنْ دَفْعِ الزِّيَادَةِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ دَفْعَهَا مَا عَلَيْهَا مِنْ الزِّيَادَةِ يُبْطِلُ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ الْمُسْتَتْبِعِ الزِّيَادَةِ وَفِي ذَلِكَ جَعْلُ التَّابِعِ مَتْبُوعًا وَهُوَ عَكْسُ الْمَعْقُولِ وَنَقْصُ الْأُصُولِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَعْلِ التَّابِعِ مَتْبُوعًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِزَامِ لِلضَّرَرِ الْمَرْضِيِّ، فَإِنَّ الزَّوْجَ حِينَ تَزَوَّجَ الْأَمَةَ عَالِمًا لَهَا بِخِيَارِ الْعِتْقِ الْتَزَمَ الضَّرَرَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ وَالضَّرَرُ الْمَرْضِيُّ غَيْرُ ضَائِرٍ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِمَا يَزِيدُ عَلَيْهَا مِنْ الْمِلْكِ عِنْدَ الْعِتْقِ لِعَدَمِ اخْتِيَارِهَا فِي النِّكَاحِ فَلَمْ يَكُنْ ضَرَرُهَا بِمُرْضٍ فَكَانَ ضَائِرًا، وَإِذَا اجْتَمَعَ الضَّرَرُ الضَّائِرُ وَغَيْرُ الضَّائِرِ يُدْفَعُ الضَّائِرُ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَرِدُ هَاهُنَا لِأَنَّهُ لَا يَرَى خِيَارَ الْبُلُوغِ، وَإِنْ كَانَ الْمُزَوِّجُ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ.
وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا أُمُورٌ يَقَعُ بِهَا الْفَرْقُ بَيْنَ خِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ:
فَسَكَتَتْ فَهُوَ رِضًا، (وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ فَلَهَا الْخِيَارُ حَتَّى تَعْلَمَ فَتَسْكُتَ) شَرَطَ الْعِلْمَ بِأَصْلِ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَّا بِهِ، وَالْوَلِيُّ يَنْفَرِدُ بِهِ فَعُذِرَتْ بِالْجَهْلِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ الْعِلْمُ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهَا تَتَفَرَّغُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَالدَّارُ دَارُ الْعِلْمِ فَلَمْ تُعْذَرْ بِالْجَهْلِ، بِخِلَافِ الْمُعْتَقَةِ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَتَفَرَّغُ لِمَعْرِفَتِهَا فَتُعْذَرُ بِالْجَهْلِ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ
(ثُمَّ خِيَارُ الْبِكْرِ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ، وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْغُلَامِ مَا لَمْ يَقُلْ رَضِيت أَوْ يَجِيءُ مِنْهُ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ رِضًا، وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ إذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْبُلُوغِ)
الْأَوَّلُ أَنَّ خِيَارَ الْبُلُوغِ فِي الْفُرْقَةِ يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ دُونَ خِيَارِ الْعِتْقِ. وَالثَّانِي أَنَّ خِيَارَ الْبُلُوغِ يَثْبُتُ لِلْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ وَخِيَارُ الْعِتْقِ يَثْبُتُ لِلْجَارِيَةِ فَقَطْ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا. وَالثَّالِثُ أَنَّ الصَّغِيرَةَ إذَا بَلَغَتْ وَقَدْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ فَسَكَتَتْ بَطَلَ خِيَارُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ عَالِمَةً بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ أَوْ لَمْ تَكُنْ، أَمَّا إذَا كَانَتْ عَالِمَةً فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ فَلِأَنَّهَا لَمْ تُعْذَرْ بِالْجَهْلِ بِالْخِيَارِ (لِأَنَّهَا تَتَفَرَّغُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَالدَّارُ دَارُ الْعِلْمِ) بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِالنِّكَاحِ فَسَكَتَتْ فَإِنَّهَا عَلَى خِيَارِهَا لِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَّا بِهِ، وَالْوَلِيُّ يَنْفَرِدُ بِالنِّكَاحِ فَكَانَتْ مَعْذُورَةً فِي الْجَهْلِ؛ وَأَمَّا الْمُعْتَقَةُ فَإِنَّهَا مَعْذُورَةٌ فِي الْجَهْلِ سَوَاءٌ كَانَتْ جَاهِلَةً بِالْعِتْقِ أَوْ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى يَنْفَرِدُ بِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْأَمَةَ لِاشْتِغَالِهَا بِالْخِدْمَةِ لَا تَتَفَرَّغُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَكَانَتْ مَعْذُورَةً.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ خِيَارُ الْبِكْرِ) تَفْرِيعٌ عَلَى خِيَارِ الْبُلُوغِ الشَّامِلِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ مَنْ لَهُ خِيَارُ الْبُلُوغِ إذَا كَانَ غُلَامًا فَبَلَغَ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ (مَا لَمْ يَقُلْ رَضِيت أَوْ يَجِيءُ مِنْهُ) بِالْجَزْمِ (مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ رِضًا) وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً وَقَدْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا يَبْطُلُ خِيَارُهَا بِالسُّكُوتِ (اعْتِبَارًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ بِحَالَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ)
اعْتِبَارًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ بِحَالَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، وَخِيَارُ الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ لَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ وَالْغُلَامِ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ بِإِثْبَاتِ الزَّوْجِ
فَإِنَّ الصَّغِيرَةَ الْبِكْرَ إذَا أَدْرَكَتْ وَاسْتُؤْمِرَتْ لِلنِّكَاحِ فَسَكَتَتْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ كَانَ سُكُوتُهَا رِضًا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فَأَدْرَكَتْ وَسَكَتَتْ كَانَ سُكُوتُهَا رِضًا فَيَبْطُلُ اخْتِيَارُهَا وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ الثَّيِّبُ إذَا اُسْتُؤْمِرَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُمَا رِضًا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الرِّضَا صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً، فَكَذَلِكَ عِنْدَ خِيَارِ الْبُلُوغِ لَمْ يَكُنْ السُّكُوتُ مِنْهُمَا رِضًا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (وَخِيَارُ الْبُلُوغِ) تَفْرِيعٌ آخَرُ عَلَى خِيَارِ الْبُلُوغِ، وَيَتَضَمَّنُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ خِيَارِ الْبُلُوغِ وَخِيَارِ الْعِتْقِ. وَتَقْرِيرُهُ خِيَارُ الْبُلُوغِ (فِي حَقِّ الْبِكْرِ لَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ) يَعْنِي مَجْلِسَ بُلُوغِهَا بِأَنْ رَأَتْ الدَّمَ وَقَدْ كَانَ بَلَغَهَا خَبَرُ النِّكَاحِ فَسَكَتَتْ أَوْ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْخَبَرِ بِالنِّكَاحِ فَسَكَتَتْ، بَلْ يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ السُّكُوتِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَأَمَّا خِيَارُ الثَّيِّبِ وَالْغُلَامِ فَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ بَلْ يَمْتَدُّ إلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ) دَلِيلُ عَدَمِ الْبُطْلَانِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ خَاصَّةً.
وَتَقْرِيرُهُ خِيَارُ بُلُوغِهَا لَمْ يَثْبُتْ بِإِثْبَاتِ الزَّوْجِ وَهُوَ
بَلْ لِتَوَهُّمِ الْخَلَلِ فَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِالرِّضَا غَيْرَ أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ رِضًا، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِثْبَاتِ الْمَوْلَى وَهُوَ
ظَاهِرٌ، وَمَا لَا يَثْبُتُ بِإِثْبَاتِ الزَّوْجِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ فَإِنَّ التَّفْوِيضَ هُوَ الْمُقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَمَا سَيَجِيءُ. وَقَوْلُهُ (بَلْ لِتَوَهُّمِ الْخَلَلِ) دَلِيلٌ يَشْمَلُ الْبِكْرَ وَالْغُلَامَ. وَتَقْرِيرُهُ: خِيَارُ الْبُلُوغِ ثَبَتَ بِعَدَمِ الرِّضَا لِتَوَهُّمِ الْخَلَلِ، وَمَا يَثْبُتُ بِعَدَمِ الرِّضَا يَبْطُلُ بِالرِّضَا لِوُجُودِ مُنَافِيهِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَثْبُتُ مَعَ مُنَافِيهِ، غَيْرَ أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ رِضًا دُونَ سُكُوتِ الْغُلَامِ فَيَبْطُلُ خِيَارُهَا بِمُجَرَّدِ السُّكُوتِ وَيَمْتَدُّ خِيَارُهُ إلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ فَانْظُرْ إلَى هَذَا الْإِدْرَاجِ فِي ضِمْنِ الْإِيجَازِ الَّذِي هُوَ قَرِيبٌ إلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ، جَزَاهُ اللَّهُ عَنْ الْمُحَصِّلِينَ خَيْرًا.
وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ) لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ
الْإِعْتَاقُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَجْلِسُ كَمَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ، ثُمَّ الْفُرْقَةُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ لَيْسَتْ بِطَلَاقٍ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْأُنْثَى وَلَا طَلَاقَ إلَيْهَا، وَكَذَا بِخِيَارِ الْعِتْقِ لِمَا بَيَّنَّا، بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي مَلَكَهَا وَهُوَ مَالِكٌ لِلطَّلَاقِ (فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْبُلُوغِ وَرِثَهُ الْآخَرُ) وَكَذَا إذَا مَاتَ بَعْدَ الْبُلُوغِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ صَحِيحٌ وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ بِهِ وَقَدْ انْتَهَى بِالْمَوْتِ، بِخِلَافِ مُبَاشَرَةِ الْفُضُولِيِّ إذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ النِّكَاحَ ثَمَّةَ مَوْقُوفٌ فَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَهَاهُنَا نَافِذٌ فَيَتَقَرَّرُ بِهِ.
قَالَ (وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ وَلَا صَغِيرٍ وَلَا مَجْنُونٍ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَبَيْنَ خِيَارِ الْبُلُوغِ وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَتَقْرِيرُهُ: خِيَارُ الْعِتْقِ ثَبَتَ بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْتَقْ لَمَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ، وَكُلُّ خِيَارٍ ثَبَتَ بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ (كَمَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ) فَيَكُونُ الْقِيَامُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ. وَبَيَانُ تَضَمُّنِ هَذَا الْوَجْهِ لِلْوَجْهِ الْخَامِسِ أَنَّهُ أَشَارَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ رِضًا. يَعْنِي وَالرِّضَا يُسْقِطُ خِيَارَ الْبُلُوغِ، وَخِيَارُ الْإِعْتَاقِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَجْلِسُ وَيَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ وَالسُّكُوتُ لَيْسَ بِإِعْرَاضٍ وَهُوَ خَفِيٌّ جِدًّا. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الْفُرْقَةُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ لَيْسَتْ بِطَلَاقٍ) يَعْنِي سَوَاءً كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ (لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْأُنْثَى وَلَا طَلَاقَ إلَيْهَا) وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لَوْ وَقَعَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَجِبْ نِصْفُ الْمُسَمَّى وَلَوْ كَانَ طَلَاقًا لَوَجَبَ، وَالثَّانِي أَنَّهُمَا لَوْ تَنَاكَحَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ مَلَكَ الزَّوْجُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ (وَكَذَا بِخِيَارِ الْعِتْقِ لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْأُنْثَى. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ) ظَاهِرٌ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ (وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ وَلَا صَغِيرٍ وَلَا مَجْنُونٍ) الْوِلَايَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ فَرْعُ الْوِلَايَةِ الْقَاصِرَةِ، فَمَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ نَظَرِيَّةٌ وَلَا نَظَرَ فِي التَّفْوِيضِ إلَى هَؤُلَاءِ، أَمَّا إلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَلِلْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِ الْكُفْءِ، وَأَمَّا إلَى الْعَبْدِ
فَأَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَلِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ وَلَا نَظَرَ فِي التَّفْوِيضِ إلَى هَؤُلَاءِ (وَلَا) وِلَايَةَ (لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَارَثَانِ، أَمَّا الْكَافِرُ فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ عَلَى وَلَدِهِ الْكَافِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَيُجْزِئُ بَيْنَهُمَا التَّوَارُثُ
(وَلِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ مِنْ الْأَقَارِبِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) مَعْنَاهُ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَثْبُتُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ،
فَكَذَلِكَ لِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى (وَلَا وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ) يَعْنِي الْوِلَايَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْحِسِّيَّةِ مِنْهَا.
وَقَوْلُهُ (وَلِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ مِنْ الْأَقَارِبِ) يَعْنِي كَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ (وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ) أَيُّ عَصَبَةٍ كَانَتْ سَوَاءٌ كَانَتْ عَصَبَةً يَحِلُّ النِّكَاحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ كَابْنِ الْعَمِّ أَوْ لَمْ يَحِلَّ كَالْعَمِّ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَعَصَبَتِهِ مِنْ الْعَصَبَاتِ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَعْدَ الْعَصَبَاتِ الْأُمُّ ثُمَّ ذَوُو الْأَرْحَامِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ الْبِنْتُ ثُمَّ بِنْتُ الِابْنِ ثُمَّ
وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ مُضْطَرِبٌ وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ. لَهُمَا مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ صَوْنًا لِلْقَرَابَةِ عَنْ نِسْبَةِ غَيْرِ الْكُفْءِ إلَيْهَا وَإِلَى الْعَصَبَاتِ الصِّيَانَةُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوِلَايَةَ نَظَرِيَّةٌ وَالنَّظَرُ يَتَحَقَّقُ بِالتَّفْوِيضِ إلَى مَنْ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقَرَابَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الشَّفَقَةِ (وَمَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا) يَعْنِي الْعَصَبَةَ مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ (إذَا زَوَّجَهَا مَوْلَاهَا الَّذِي أَعْتَقَهَا) (
بِنْتُ الْبِنْتِ ثُمَّ بِنْتُ ابْنِ الِابْنِ ثُمَّ بِنْتُ بِنْتِ الْبِنْتِ ثُمَّ الْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ الْأُخْتُ لِأَبٍ ثُمَّ الْأَخُ وَالْأُخْتُ لِأُمٍّ ثُمَّ أَوْلَادُهُمْ ثُمَّ الْعَمَّاتُ وَالْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ وَأَوْلَادُهُمْ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، ثُمَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ ثُمَّ السُّلْطَانُ ثُمَّ الْقَاضِي وَمَنْ نَصَبَهُ الْقَاضِي إذَا شَرَطَ تَزْوِيجَ الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ فِي عَهْدِهِ وَمَنْشُورِهِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا وِلَايَةَ لِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مُضْطَرِبٌ ذَكَرَهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَمَعَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ. وَقَوْلُهُ (لَهُمَا مَا رَوَيْنَا) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «الْإِنْكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ» عُرِفَ الْإِنْكَاحُ بِاللَّامِ فِي غَيْرِ مَعْهُودٍ فَكَانَ مَعْنَاهُ هَذَا الْجِنْسُ مُفَوَّضٌ إلَى هَذَا الْجِنْسِ فَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِصِيَانَةِ الْقَرَابَةِ عَنْ غَيْرِ الْكُفْءِ وَالصِّيَانَةِ إلَى الْعَصَبَاتِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ نَظَرِيَّةٌ، وَالنَّظَرُ يَتَحَقَّقُ بِالتَّفْوِيضِ إلَى مَنْ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقَرَابَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الشَّفَقَةِ) فَإِنْ قُلْت: هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ لَا يَجُوزُ
جَازَ) لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَصَبَاتِ، وَإِذَا عُدِمَ الْأَوْلِيَاءُ فَالْوِلَايَةُ إلَى الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ»
أُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ الْإِنْكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ إذَا وُجِدَتْ الْعَصَبَاتُ وَالثَّانِي أَنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ لِغَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ بِاعْتِبَارِ الشَّفَقَةِ وَكَمَالِ الرَّأْيِ. وَالْقَوْلُ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَعَ الْقَوْلِ بِعَدَمِ وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وَلِكَوْنِ التَّوْرِيثِ مَبْنِيًّا عَلَى الْوِلَايَةِ. قَوْلُهُ (وَإِذَا عُدِمَ الْأَوْلِيَاءُ) يَعْنِي عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ (فَالْوِلَايَةُ إلَى الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ») أَمَّا الْحَاكِمُ وَهُوَ الْقَاضِي فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْإِنْكَاحَ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِ وَمَنْشُورِهِ، كَذَا
(وَإِذَا غَابَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً جَازَ لِمَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يُزَوِّجَ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ
فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
قَوْلُهُ (وَإِذَا غَابَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ) يَعْنِي كَالْأَبِ (غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً جَازَ لِمَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ) كَالْجَدِّ أَنْ يُزَوِّجَ. (وَقَالَ زُفَرُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُزَوِّجُ السُّلْطَانُ. لِزُفَرَ أَنَّ وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ قَائِمَةٌ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ
قَائِمَةٌ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ حَقًّا لَهُ صِيَانَةً لِلْقَرَابَةِ فَلَا تَبْطُلُ بِغَيْبَتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ جَازَ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وِلَايَتِهِ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ التَّفْوِيضُ إلَى مَنْ لَا يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ فَفَوَّضْنَاهُ إلَى الْأَبْعَدِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّلْطَانِ كَمَا إذَا مَاتَ الْأَقْرَبُ، وَلَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ فِيهِ مُنِعَ
حَقًّا لَهُ صِيَانَةً لِلْقَرَابَةِ عَنْ نِسْبَةِ غَيْرِ الْكُفْءِ إلَيْهَا، وَالْحَقُّ الْقَائِمُ بِشَخْصٍ لَا يَبْطُلُ بِغَيْبَتِهِ (وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ جَازَ) بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا كَانَتْ وِلَايَةُ الْأَقْرَبِ فِي غَيْبَتِهِ قَائِمَةً لَا يَكُونُ لِلْأَبْعَدِ وِلَايَةٌ (وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ التَّفْوِيضُ إلَى مَنْ لَا يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ) وَكِلْتَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ ظَاهِرَةٌ (فَفَوَّضْنَاهُ) أَيْ النَّظَرَ (إلَى الْأَبْعَدِ) وَقَوْلُهُ (وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّلْطَانِ) إشَارَةً إلَى جَوَابِ الشَّافِعِيِّ (كَمَا إذَا مَاتَ الْأَقْرَبُ) فَإِنَّ الْوِلَايَةَ لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى السُّلْطَانِ بِمَوْتِ الْأَقْرَبِ فَكَذَا بِغَيْبَتِهِ.
وَقَوْلُهُ وَلَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ فِيهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ زُفَرَ وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ جَازَ
وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ لِلْأَبْعَدِ بُعْدُ الْقَرَابَةِ وَقُرْبُ التَّدْبِيرِ وَلِلْأَقْرَبِ عَكْسُهُ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ وَلِيَّيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فَأَيُّهُمَا عَقَدَ نَفَذَ وَلَا يُرَدُّ (وَالْغَيْبَةُ الْمُنْقَطِعَةُ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ لَا تَصِلُ إلَيْهَا الْقَوَافِلُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً) وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ. وَقِيلَ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِأَقْصَاهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقِيلَ: إذَا كَانَ بِحَالٍ يَفُوتُ الْكُفْءُ الْخَاطِبُ بِاسْتِطْلَاعِ رَأْيِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ فِي إبْقَاءِ وِلَايَتِهِ حِينَئِذٍ
(وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَجْنُونَةِ أَبُوهَا وَابْنُهَا فَالْوَلِيُّ فِي نِكَاحِهَا ابْنُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَبُوهَا)
بِالْمَنْعِ: يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ جَوَازَهُ (وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ لِلْأَبْعَدِ بَعْدَ الْقَرَابَةِ وَقُرْبُ التَّدْبِيرِ وَلِلْأَقْرَبِ عَكْسُهُ فَنُزِّلَا مَنْزِلَةَ وَلِيَّيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فَأَيُّهُمَا عَقَدَ نَفَذَ وَلَا يُرَدُّ) يَعْنِي إذَا حَضَرَ الْأَقْرَبُ وَقَدْ زَوَّجَ الْأَبْعَدُ لَا يُرَدُّ النِّكَاحُ، ثُمَّ فَسَّرَ الْغَيْبَةَ الْمُنْقَطِعَةَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ (وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ) مِنْهُمْ الْقَاضِي الْإِمَامُ عَلِيٌّ السُّغْدِيُّ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ النَّسَفِيُّ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عِصْمَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْمَرْوَزِيِّ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ فِي إبْقَاءِ وِلَايَتِهِ حِينَئِذٍ) يَعْنِي لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
لِأَنَّهُ أَوْفَرُ شَفَقَةً مِنْ الِابْنِ. وَلَهُمَا أَنَّ الِابْنَ هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الْعُصُوبَةِ، وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ كَأَبِي الْأُمِّ مَعَ بَعْضِ الْعَصَبَاتِ.
فَصْلٌ فِي الْكَفَاءَةِ
(الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ مُعْتَبَرَةٌ) قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَلَا لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ»
حَتَّى لَوْ كَانَ مُخْتَفِيًا فِي الْبَلْدَةِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ تَكُونُ غَيْبَتُهُ مُنْقَطِعَةً.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ أَوْفَرُ شَفَقَةً مِنْ الِابْنِ) بِدَلِيلِ أَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ تَعُمُّ النَّفْسَ وَالْمَالَ، وَالِابْنُ لَيْسَ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي الْمَالِ (وَلَهُمَا أَنَّ الِابْنَ هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الْعُصُوبَةِ) أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ مَعَهُ يَسْتَحِقُّ السُّدُسَ بِالْفَرْضِيَّةِ فَقَطْ. وَقَوْلُهُ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ) جَوَابُ مُحَمَّدٍ.
فَصْلٌ فِي الْكَفَاءَةِ
لَمَّا كَانَتْ الْكَفَاءَةُ مُعْتَبَرَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَنَّ عَدَمَهَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ أَوْ يُمَكِّنُ الْأَوْلِيَاءَ مِنْ الْفَسْخِ احْتَاجَ إلَى أَنْ يَذْكُرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ، وَالْكَفَاءَةُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ وَالِاسْمُ مِنْهُ الْكُفْءُ وَهُوَ النَّظِيرُ مِنْ كَافَأَهُ إذَا سَاوَاهُ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَلَا لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءُ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ» رَوَاهُ جَابِرٌ
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَلِأَنَّ انْتِظَامَ الْمَصَالِحِ بَيْنَ الْمُتَكَافِئَيْنِ عَادَةً، لِأَنَّ الشَّرِيفَةَ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ مُسْتَفْرَشَةً لِلْخَسِيسِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهَا، بِخِلَافِ جَانِبِهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُسْتَفْرِشٌ فَلَا تَغِيظُهُ دَنَاءَةُ الْفِرَاشِ
وَلِأَنَّ انْتِظَامَ الْمَصَالِحِ بَيْنَ الْمُتَكَافِئَيْنِ عَادَةٌ) وَالنِّكَاحُ شُرِعَ لِانْتِظَامِهَا وَلَا تَنْتَظِمُ بَيْنَ غَيْرِ الْمُتَكَافِئَيْنِ (لِأَنَّ الشَّرِيفَةَ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ مُسْتَفْرَشَةً لِلْخَسِيسِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهَا) مِنْ جَانِبِهِ بِخِلَافِ جَانِبِهَا لِأَنَّهُ مُسْتَفْرِشٌ فَلَا يَغِيظُهُ دَنَاءَةُ الْفِرَاشِ
(وَإِذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا) دَفْعًا لِضَرَرِ الْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ
. (ثُمَّ الْكَفَاءَةُ تُعْتَبَرُ فِي النَّسَبِ)؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بِهِ التَّفَاخُرُ
وَإِذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا دَفْعًا لِضَرَرِ الْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ) يَعْنِي مَا لَمْ تَلِدْ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، فَفِي الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ بِدُونِهَا وَحَقِّ الِاعْتِرَاضِ مُخَالَفَةٌ لَهُ. قُلْت: جَازَ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا وَهُوَ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ عِنْدَنَا
(ثُمَّ الْكَفَاءَةُ) عِنْدَنَا (تُعْتَبَرُ فِي) خَمْسَةِ أَشْيَاءَ (النَّسَبِ)
(فَقُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام
وَالْحُرِّيَّةِ، وَالدِّينِ، وَالْمَالِ، وَالصَّنَائِعِ أَمَّا النَّسَبُ فَلِأَنَّهُ يَقَعُ بِهِ التَّفَاخُرُ، وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: لَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِيهِ لِأَنَّ النَّاسَ سَوَاسِيَةٌ بِالْحَدِيثِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، إنَّمَا الْفَضْلُ بِالتَّقْوَى» وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
«قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ بَطْنٌ بِبَطْنٍ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ،
وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ بَطْنٌ بِبَطْنٍ وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ،
وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ رَجُلٌ بِرَجُلٍ» وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ لِمَا رَوَيْنَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَسَبًا مَشْهُورًا كَأَهْلِ بَيْتِ الْخِلَافَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ تَعْظِيمًا لِلْخِلَافَةِ وَتَسْكِينًا لِلْفِتْنَةِ.
وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ رَجُلٌ بِرَجُلٍ» وَالْمُرَادُ بِالْمَوَالِي الْعُتَقَاءُ لَمَّا كَانَتْ غَيْرَ عَرَبٍ فِي الْأَكْثَرِ غُلِّبَتْ عَلَى الْعَجَمِ حَتَّى قَالُوا الْمَوَالِي بَعْضُهَا أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ وَالْعَرَبُ بَعْضُهَا أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ (وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ» قَابَلَ الْبَعْضَ بِالْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْفَضِيلَةِ بَيْنَ قَبَائِلِهِمْ؛ أَلَا يَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ ابْنَتَهُ رُقَيَّةَ مِنْ عُثْمَانَ وَكَانَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ» ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْمَوَالِي رَجُلٌ بِرَجُلٍ إشَارَةً إلَى أَنَّ النَّسَبَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِمْ قِيلَ لِأَنَّهُمْ ضَيَّعُوا أَنْسَابَهُمْ فَلَا يَكُونُ التَّفَاخُرُ فِيهِمْ بِالنَّسَبِ بَلْ بِالدِّينِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ سَلْمَانُ حِينَ افْتَخَرَتْ الصَّحَابَةُ بِالْأَنْسَابِ وَانْتَهَى الْأَمْرُ إلَيْهِ: أَبِي الْإِسْلَامُ لَا أَبَ لِي سِوَاهُ. قَوْلُهُ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ) يَعْنِي قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ (إلَّا أَنْ يَكُونَ) النَّسَبُ (نَسَبًا مَشْهُورًا) فِي الْحُرْمَةِ (كَأَهْلِ بَيْتِ الْخِلَافَةِ) فَحِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَتْ قُرَشِيَّةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ قُرَشِيًّا لَيْسَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (كَأَنَّهُ) يَعْنِي مُحَمَّدًا (قَالَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِلْخِلَافَةِ وَتَسْكِينًا لِلْفِتْنَةِ) لَا لِانْعِدَامِ أَصْلِ الْكَفَاءَةِ.
وَبَنُو بَاهِلَةَ لَيْسُوا بِأَكْفَاءَ لِعَامَّةِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ بِالْخَسَاسَةِ.
(وَأَمَّا الْمَوَالِي فَمَنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ فَصَاعِدًا فَهُوَ مِنْ الْأَكْفَاءِ) يَعْنِي لِمَنْ لَهُ آبَاءٌ فِيهِ. وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ أَوْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ النَّسَبِ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ، وَأَبُو يُوسُفَ أَلْحَقَ الْوَاحِدَ بِالْمُثَنَّى كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي التَّعْرِيفِ. وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ فِيمَا بَيْنَ الْمَوَالِي بِالْإِسْلَامِ.
وَالْكَفَاءَةُ فِي الْحُرِّيَّةِ نَظِيرُهَا فِي الْإِسْلَامِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ وَفِيهِ مَعْنَى الذُّلِّ فَيُعْتَبَرُ فِي حُكْمِ الْكَفَاءَةِ
وَقَوْلُهُ (وَبَنُو بَاهِلَةَ) بَنُو بَاهِلَةَ قَبِيلَةٌ مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ اسْمُ امْرَأَةٍ مِنْ هَمْدَانَ كَانَتْ تَحْتَ مَعْنِ بْنِ أَعْصَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ عَيْلَانَ فَنُسِبَ وَلَدُهَا إلَيْهَا، وَالْعَرَبُ هُمْ الَّذِينَ اسْتَوْطَنُوا الْمُدُنَ وَالْقُرَى، وَالْوَاحِدُ عَرَبِيٌّ، وَالْأَعْرَابِيُّ وَاحِدُ الْأَعْرَابِ وَهُمْ أَهْلُ الْبَدْوِ (وَبَنُو بَاهِلَةَ لَيْسُوا بِأَكْفَاءٍ لِعَامَّةِ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ بِالْخَسَاسَةِ) لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ بَقِيَّةَ الطَّعَامِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطْبُخُونَ عِظَامَ الْمَيْتَةِ وَيَأْخُذُونَ الدُّسُومَاتِ مِنْهَا. قَالَ قَائِلُهُمْ:
وَلَا يَنْفَعُ الْأَصْلَ مِنْ هَاشِمٍ
…
إذَا كَانَتْ النَّفْسُ مِنْ بَاهِلَهْ
وَقَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَوَالِي) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي التَّعْرِيفِ) أَيْ فِي تَعْرِيفِ الشَّخْصِ فِي الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ الشُّهُودَ إذَا ذَكَرُوا اسْمَ الْغَائِبِ وَاسْمَ أَبِيهِ يَحْصُلُ بِهِ التَّعْرِيفُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْجَدِّ، وَعِنْدَهُمَا لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجَدِّ.
وَقَوْلُهُ وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ) نُقِلَ فِي النِّهَايَةِ عَنْ الْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ أَنَّ هَذَا فِي الْمَوَالِي، وَأَمَّا فِي الْعَرَبِ فَمَنْ لَا أَبَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ الْعَرَبِ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَهُوَ كُفْءٌ لِمَنْ لَهُ آبَاءٌ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْعَرَبَ يَتَفَاخَرُونَ بِالنَّسَبِ فَيَعُدُّونَ النَّسَبَ كُفْئًا لِنَسَبِ آخَرَ إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَأَمَّا الْعَجَمُ فَقَدْ ضَيَّعُوا أَنْسَابَهُمْ، وَمُفَاخَرَتَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ أَبٌ فِي الْإِسْلَامِ يَفْتَخِرُ عَلَى مَنْ لَا أَبَ لَهُ فِيهِ وَلَا يَعُدُّهُ كُفْئًا لَهُ
(وَالْكَفَاءَةُ فِي الْحُرِّيَّةِ نَظِيرُهَا) أَيْ نَظِيرُ الْكَفَاءَةِ (فِي الْإِسْلَامِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا) مِنْ الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ هِيَ حُرَّةُ الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ الْمُعْتَقُ لَا يَكُونُ كُفْئًا لَهَا وَالْمُعْتَقُ أَبُوهُ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهَا أَبَوَانِ فِي الْحُرِّيَّةِ (لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ وَفِيهِ مَعْنَى الذُّلِّ فَيُعْتَبَرُ فِي حُكْمِ الْكَفَاءَةِ) بِسَبَبِهِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ أَوْ أُعْتِقَ إذَا أَحْرَزَ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا يُقَابِلُ نَسَبَ الْآخَرِ كَانَ كُفْئًا لَهُ.
قَالَ (وَتُعْتَبَرُ أَيْضًا فِي الدِّينِ) أَيْ الدِّيَانَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَى الْمَفَاخِرِ، وَالْمَرْأَةُ تُعَيَّرُ بِفِسْقِ الزَّوْجِ فَوْقَ مَا تُعَيَّرُ بِضَعَةِ نَسَبِهِ.
قَالَ (وَتُعْتَبَرُ أَيْضًا فِي الدِّينِ) أَيْ وَتُعْتَبَرُ أَيْضًا الْكَفَاءَةُ فِي الدِّينِ (أَيْ فِي الدِّيَانَةِ) وَهِيَ التَّقْوَى وَالصَّلَاحُ وَالْحَسَبُ وَهُوَ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ، وَإِنَّمَا فُسِّرَ الدِّينُ بِالدِّيَانَةِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الدِّينِ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ لِأَنَّ إسْلَامَ الزَّوْجِ شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي حَقِّ الِاعْتِرَاضِ لِلْأَوْلِيَاءِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الدِّينِ بِمَعْنَى الدِّيَانَةِ (وَهَذَا) أَيْ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فِي الدِّيَانَةِ (قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ) أَيْ الدِّينَ بِمَعْنَى الدِّيَانَةِ (مِنْ أَعْلَى الْمَفَاخِرِ وَالْمَرْأَةُ تُعَيَّرُ بِفِسْقِ الزَّوْجِ فَوْقَ مَا تُعَيَّرُ بِضِعَةِ النَّسَبِ) فَلَمَّا كَانَ النَّسَبُ مُعْتَبَرًا فِيهَا كَانَتْ الدِّيَانَةُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ. وَقَوْلُهُ (وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ هُوَ الصَّحِيحُ) أَيْ قِرَانُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى تَكُونُ الْكَفَاءَةُ فِي الدِّينِ قَوْلُهُمَا جَمِيعًا هُوَ الصَّحِيحُ، وَاحْتُرِزَ بِذَلِكَ عَنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْكَفَاءَةَ فِي الدِّينِ حَيْثُ قَالَ إذَا كَانَ الْفَاسِقُ ذَا مُرُوءَةٍ يَكُونُ كُفْئًا، وَقَالَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَرَادَ بِهِ أَعْوَانَ السُّلْطَانِ إذَا كَانُوا بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُمْ مَهَابَةٌ عِنْدَ النَّاسِ
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ فَلَا تُبْتَنَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا إلَّا إذَا كَانَ يُصْفَعُ وَيُسْخَرُ مِنْهُ أَوْ يَخْرُجُ إلَى الْأَسْوَاقِ سَكْرَانَ وَيَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَخَفٌّ بِهِ.
قَالَ (وَ) تُعْتَبَرُ (فِي الْمَالِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ) وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، حَتَّى إنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُهُمَا أَوْ لَا يَمْلِكُ أَحَدَهُمَا لَا يَكُونُ كُفْئًا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ الْبُضْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ إيفَائِهِ وَبِالنَّفَقَةِ قِوَامُ الِازْدِوَاجِ وَدَوَامُهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ قَدْرُ مَا تَعَارَفُوا تَعْجِيلَهُ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَهُ مُؤَجَّلٌ عُرْفًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقُدْرَةَ عَلَى النَّفَقَةِ دُونَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ تَجْرِي الْمُسَاهَلَةُ فِي الْمَهْرِ وَيُعَدُّ الْمَرْءُ قَادِرًا عَلَيْهِ بِيَسَارِ أَبِيهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا تُعْتَبَرُ) الْكَفَاءَةُ فِي الدِّيَانَةِ (لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، فَلَا تُبْتَنَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا إلَّا إذَا كَانَ يُصْفَعُ) أَيْ يُضْرَبُ عَلَى قَفَاهُ بِعَرْضِ الْكَفِّ (وَيُسْخَرُ مِنْهُ أَوْ يَخْرُجُ إلَى الْأَسْوَاقِ سَكْرَانَ فَيَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ) فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ كُفْئًا لِامْرَأَةٍ صَالِحَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ قِيلَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (لِأَنَّهُ مُسْتَخَفٌّ بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الصَّفْعِ
(وَتُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي الْمَالِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) عَنْ عُلَمَائِنَا (حَتَّى إنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُهُمَا أَوْ لَا يَمْلِكُ أَحَدَهُمَا لَا يَكُونُ كُفْئًا) أَمَّا الْمَهْرُ فَلِأَنَّهُ بَدَلُ الْبُضْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ إيفَائِهِ، وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَلِأَنَّ قِوَامَ الِازْدِوَاجِ وَدَوَامَهُ بِهَا (وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ قَدْرُ مَا تَعَارَفُوا تَعْجِيلَهُ لِأَنَّ مَا وَرَاءَهُ مُؤَجَّلٌ عُرْفًا) لَيْسَ بِمُطَالَبٍ بِهِ فَلَا يُسْقِطُ الْكَفَاءَةَ.
وَقَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ) هُوَ غَيْرُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. رَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: الْكُفْءُ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ. قُلْت: فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ الْمَهْرَ دُونَ النَّفَقَةِ، قَالَ: لَيْسَ بِكُفْءٍ قُلْت: فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ النَّفَقَةَ دُونَ الْمَهْرِ، قَالَ: يَكُونُ كُفْئًا. قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي تَعْلِيلِهِ: لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجْرِي فِيهِ التَّسْهِيلُ وَالتَّأْجِيلُ وَيُعَدُّ قَادِرًا عَلَى الْمَهْرِ بِيَسَارِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَجَدِّهِ وَجَدَّتِهِ، وَلَا يُعَدُّ قَادِرًا عَلَى النَّفَقَةِ بِيَسَارِ الْأَبِ
فَأَمَّا الْكَفَاءَةُ فِي الْغِنَى فَمُعْتَبَرَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى إنَّ الْفَائِقَةَ فِي الْيَسَارِ لَا يُكَافِئُهَا الْقَادِرُ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاخَرُونَ بِالْغِنَى وَيَتَعَيَّرُونَ بِالْفَقْرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهُ إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ
(وَ) تُعْتَبَرُ (فِي الصَّنَائِعِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ إلَّا أَنْ تَفْحُشَ كَالْحَجَّامِ وَالْحَائِكِ وَالدَّبَّاغِ.
وَجْهُ الِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاخَرُونَ بِشَرَفِ الْحِرَفِ وَيَتَعَيَّرُونَ بِدَنَاءَتِهَا. وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْحِرْفَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ، وَيُمْكِنُ التَّحَوُّلُ عَنْ الْخَسِيسَةِ إلَى
لِأَنَّ الْآبَاءَ فِي الْعَادَاتِ يَتَحَمَّلُونَ الْمُهُورَ عَنْ الْأَوْلَادِ دُونَ النَّفَقَةِ الدَّائِرَةِ.
وَقَوْلُهُ (فَأَمَّا الْكَفَاءَةُ فِي الْغِنَى فَمُعْتَبَرَةٌ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ) فِي رِوَايَةٍ لَا تُعْتَبَرُ وَهُوَ الظَّاهِرُ حَتَّى يَكُونَ الْبَيْطَارُ كُفْئًا لِلْعَطَّارِ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: الْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ إلَّا الْحَائِكَ وَالْحَجَّامَ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ إلَّا أَنْ تَفْحُشَ كَالْحَجَّامِ وَالْحَائِكِ وَالدَّبَّاغِ) وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
النَّفِيسَةِ مِنْهَا.
قَالَ (وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ وَنَقَصَتْ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُتِمَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا أَوْ يُفَارِقَهَا) وَقَالَا: لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ. وَهَذَا الْوَضْعُ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِهِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ الْوَلِيِّ، وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ صَادِقَةٌ عَلَيْهِ. لَهُمَا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ حَقُّهَا وَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ كَمَا بَعْدَ التَّسْمِيَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَفْتَخِرُونَ بِغَلَاءِ الْمَهْرِ وَيَتَعَيَّرُونَ بِنُقْصَانِهِ فَأَشْبَهَ الْكَفَاءَةَ،
قَالَ (وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ وَنَقَصَتْ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا) إذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ وَنَقَصَتْ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا (فَلِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُتِمَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا أَوْ يُفَارِقَهَا وَقَالَا لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا الْوَضْعُ) أَيْ وَضْعُ الْقُدُورِيِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِهِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ الْوَلِيِّ وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ، وَهَذِهِ شَهَادَةٌ صَادِقَةٌ عَلَيْهِ) فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ الْوَلِيِّ لَمْ يَقُلْ لَيْسَ لَهُمْ الِاعْتِرَاضُ، وَأَقُولُ: هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ تَعَيَّنَ هَذَا الْوَضْعُ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهَا الْوَلِيُّ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ يُسَمِّ مَهْرًا فَعَقَدَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحَّ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَ السُّلْطَانُ امْرَأَةً وَوَلِيَّهَا عَلَى تَزْوِيجِهَا بِمَهْرٍ قَلِيلٍ فَفَعَلَ ثُمَّ زَالَ الْإِكْرَاهُ وَرَضِيَتْ الْمَرْأَةُ دُونَ الْوَلِيِّ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْوَضْعِ دَلَالَةٌ عَلَى رُجُوعِ مُحَمَّدٍ إلَى قَوْلِهِمَا، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ وَقَوْلُهُ (فَأَشْبَهَ الْكَفَاءَةَ) يَعْنِي فِي تَعَيُّرِ الْأَوْلِيَاءِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ نَدَبَنَا إلَى رُخَصِ الصَّدَاقِ دُونَ تَرْكِ الْكَفَاءَةِ، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَضَعْ بَنَاتِهِ فِي غَيْرِ الْأَكْفَاءِ وَزَوَّجَهُنَّ بِأَدْنَى الصَّدَاقِ، فَإِنَّهُ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ وَنَشٍّ: أَيْ نِصْفِ أُوقِيَّةٍ، وَمُهُورُهُنَّ كَانَتْ فَوْقَ مُهُورِ سَائِرِ النِّسَاءِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِقَدْرِ الشَّرَفِ، وَلَمْ يَزَلْ الشَّرَفُ كَانَ بِقُرَيْشٍ فَلَا مُشَابَهَةَ بَيْنَهُمَا.
وَالْجَوَابُ بِأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعَيُّرِ الْأَوْلِيَاءِ، وَهُوَ وَصْفٌ مُؤَثِّرٌ فِي الْبَابِ، وَأَمَّا أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ فَرْقٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَحَدٌ مِنْ
بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَعَيَّرُ بِهِ.
(وَإِذَا زَوَّجَ الْأَبُ بِنْتَه الصَّغِيرَةَ وَنَقَصَ مِنْ مَهْرِهَا أَوْ ابْنَهُ الصَّغِيرَ وَزَادَ فِي مَهْرِ امْرَأَتِهِ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ الْحَطُّ وَالزِّيَادَةُ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ) وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَطَّ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَيْسَ مِنْ النَّظَرِ فِي شَيْءٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ،
ذَوِي التَّحْصِيلِ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ) جَوَابُ قَوْلِهِمَا كَمَا بَعْدَ التَّسْمِيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ لَا يَشْتَغِلُونَ بِاسْتِيفَاءِ الْمُهُورِ عَادَةً وَرُبَّمَا يَعُدُّونَهُ ضَرْبًا مِنْ اللُّؤْمِ فِي الْعَادَاتِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ) بَيَانُهُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَهُوَ قَوْلُهُ " وَقَالَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا الْحَطُّ وَالزِّيَادَةُ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ " بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ وَالزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ قِبَلِ التَّسْمِيَةِ وَفَسَادِهَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ كَمَا لَوْ تَرَكَهَا أَصْلًا أَوْ زَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ أَنَّ نَفْسَ النِّكَاحِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَالْمُصَنِّفِ (لِأَنَّ الْوِلَايَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ) وَلَا نَظَرَ فِيمَا إذَا حَطَّ عَنْ مَهْرِهَا أَوْ زَادَ عَنْ مَهْرِهِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا كَمَا إذَا بَاعَ
وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ غَيْرُهُمَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ النَّظَرِ وَهُوَ قُرْبُ الْقَرَابَةِ، وَفِي النِّكَاحِ مَقَاصِدُ تَرْبُو عَلَى الْمَهْرِ. أَمَّا الْمَالِيَّةُ فَهِيَ الْمَقْصُودُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ وَالدَّلِيلُ عَدِمْنَاهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا.
(وَمَنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ عَبْدًا أَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ أَمَةً فَهُوَ جَائِزٌ) قَالَ رضي الله عنه (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا)؛ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الْكَفَاءَةِ لِمَصْلَحَةِ تَفَوُّقِهَا وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَلَا يَجُوزُ.
الْأَبُ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ أَوْ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْهَا بِذَلِكَ (وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ غَيْرُهُمَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ النَّظَرِ) تَقْرِيرُهُ: النَّظَرُ وَالضَّرَرُ فِي هَذَا الْعَقْدِ بَاطِنَانِ، لَكِنْ لِلنَّظَرِ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ (وَهُوَ قُرْبُ الْقَرَابَةِ) الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ هَاهُنَا فَيَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ وَهُوَ جَوَازُ النِّكَاحِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِأَنَّ النَّظَرَ وَالضَّرَرَ فِي هَذَا الْعَقْدِ بَاطِنَانِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ لَيْسَ حُصُولَ الْمَالِ أَلْبَتَّةَ بَلْ فِيهِ مَقَاصِدُ تَرْبُو عَلَى الْمَهْرِ مِنْ الْكَمَالَاتِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الْإِخْتَانِ وَالْعَرَائِسِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَظَرُ الْأَبِ فِي الْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ إلَى ذَلِكَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ، فَكَانَ النَّظَرُ وَالضَّرَرُ بَاطِنَيْنِ فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى الدَّلِيلِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَتِهَا شَيْءٌ يُجْبَرُ بِهِ خَلَلُ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ حَتَّى يَقَعَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ النَّظَرِ وَالضَّرَرِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْأَبِ فَالدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى النَّظَرِ مَعْدُومٌ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ) نَظِيرُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّزْوِيجِ بِضَرَرٍ ظَاهِرٍ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.
فَصْلٌ فِي الْوَكَالَةِ بِالنِّكَاحِ وَغَيْرِهَا
(وَيَجُوزُ لِابْنِ الْعَمِّ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ نَفْسِهِ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ (وَإِنْ أَذِنَتْ الْمَرْأَةُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ فَعَقَدَ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ جَازَ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ.
لَمَّا كَانَتْ الْوَكَالَةُ نَوْعًا مِنْ الْوِلَايَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَتَصَرُّفِ الْوَلِيِّ عَلَى الْمَوْلَى عَلَيْهِ نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَهَا فِي بَابِ الْأَوْلِيَاءِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ. وَقَوْلُهُ (وَغَيْرِهَا) أَيْ غَيْرِ الْوَكَالَةِ كَنِكَاحِ الْفُضُولِيِّ. قَوْلُهُ (وَيَجُوزُ لِابْنِ الْعَمِّ) صُورَتُهُ وَتَحْرِيرُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ دَلِيلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنًى
لَهُمَا أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُمَلِّكًا وَمُتَمَلِّكًا كَمَا فِي الْبَيْعِ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ فِي الْوَلِيِّ ضَرُورَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَلَّاهُ سِوَاهُ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ.
وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مُمَلِّكًا وَمُتَمَلِّكًا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ. وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ الْوَلِيَّ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ فِيهِ
وَلَنَا أَنَّ الْوَكِيلَ فِي النِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ، وَالتَّمَانُعُ فِي الْحُقُوقِ دُونَ التَّعْبِيرِ وَلَا تَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ حَتَّى رَجَعَتْ الْحُقُوقُ إلَيْهِ، وَإِذَا تَوَلَّى طَرَفَيْهِ فَقَوْلُهُ زَوَّجْت يَتَضَمَّنُ الشَّطْرَيْنِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ. .
قَالَ (وَتَزْوِيجُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُمَا مَوْقُوفٌ فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى جَازَ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً بِغَيْرِ رِضَاهَا أَوْ رَجُلًا بِغَيْرِ رِضَاهُ) وَهَذَا عِنْدَنَا فَإِنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَدَرَ مِنْ الْفُضُولِيِّ وَلَهُ مُجِيزٌ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَصَرُّفَاتُ الْفُضُولِيِّ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ
كَمَذْهَبِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَبَنَاهُ عَلَى الضَّرُورَةِ (وَلَنَا أَنَّ الْوَكِيلَ فِي النِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ) وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُمَلِّكًا وَمُتَمَلِّكًا لِأَنَّهُ لَا تَمَانُعَ فِي التَّعْبِيرِ بِأَنْ يَقُولَ تَزَوَّجْت بِنْتَ عَمِّي فُلَانَةَ عَلَى صَدَاقِ كَذَا، وَإِنَّمَا التَّمَانُعُ فِي الْحُقُوقِ كَالتَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَالْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ وَهِيَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ سَفِيرٌ لَا مُبَاشِرٌ (بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ حَتَّى رَجَعَتْ الْحُقُوقُ إلَيْهِ، وَإِذَا تَوَلَّى طَرَفَيْهِ فَقَوْلُهُ زَوَّجْت يَتَضَمَّنُ الشَّطْرَيْنِ) أَيْ شَطْرَيْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَمَّا قَامَ مَقَامَ اثْنَيْنِ قَامَتْ عِبَارَتُهُ الْوَاحِدَةُ أَيْضًا مَقَامَ عِبَارَتَيْنِ (فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ).
وَقَوْلُهُ (وَتَزْوِيجُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَلَهُ مُجِيزٌ) أَيْ قَابِلٌ يَقْبَلُ الْإِيجَابَ سَوَاءٌ كَانَ فُضُولِيًّا آخَرَ أَوْ وَكِيلًا أَوْ أَصِيلًا.
لِأَنَّ الْعَقْدَ وُضِعَ لِحُكْمِهِ، وَالْفُضُولِيُّ لَا يَقْدِرُ عَلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ فَيَلْغُو. وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ، وَلَا ضَرَرَ فِي انْعِقَادِهِ
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْعَقْدَ وُضِعَ لِحُكْمِهِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقَاصِدَ الْأَصْلِيَّةَ هُوَ الْحُكْمُ وَالْأَسْبَابُ وَالْعِلَلُ وَسَائِلُ إلَيْهِ (وَالْفُضُولِيُّ لَا يَقْدِرُ عَلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ) وَإِلَّا لَجَازَ لِلنَّاسِ تَمْلِيكُ أَمْوَالِ النَّاسِ لِلنَّاسِ وَفِيهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا كَانَ كَلَامُهُ لَغْوًا (وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ) وَهُوَ قَوْلُهُ زَوَّجْت وَتَزَوَّجْت (صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ) وَهُوَ الْحُرُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ (مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ) وَهُوَ الْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ عليه السلام وَلَيْسَتْ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ (وَلَا ضَرَرَ فِي انْعِقَادِهِ) لِكَوْنِهِ
فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا. حَتَّى إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ يُنَفِّذُهُ، وَقَدْ يَتَرَاخَى حُكْمُ الْعَقْدِ عَنْ الْعَقْدِ (وَمَنْ قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ قَالَ آخَرُ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُهَا مِنْهُ فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَأَجَازَتْ جَازَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي قَالَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ)
غَيْرَ لَازِمٍ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ (فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا، فَإِنْ رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً نَفَّذَهُ) وَإِلَّا أَبْطَلَهُ. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ يَتَرَاخَى حُكْمُ الْعَقْدِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وُضِعَ لِحِكْمَةٍ وَتَقْرِيرُهُ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ: يَعْنِي سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّ الْحُكْمَ هَاهُنَا لَمْ يَنْعَدِمْ بَلْ تَأَخَّرَ إلَى الْإِجَازَةِ، وَالْحُكْمُ قَدْ يَتَرَاخَى عَنْ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَإِنَّ لُزُومَهُ مُتَرَاخٍ إلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ. وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ) ظَاهِرٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الْأُولَى لَا مُجِيزَ
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا غَائِبًا فَبَلَغَهُ فَأَجَازَهُ جَازَ.
وَحَاصِلُ الْخِلَافِ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ فُضُولِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْ فُضُولِيًّا مِنْ جَانِبٍ وَأَصِيلًا مِنْ جَانِبٍ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ.
لَهَا فَلَا تَتَوَقَّفُ، وَالثَّانِيَةَ لَهَا مُجِيزٌ فَتَتَوَقَّفُ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ شَرْطَ التَّوَقُّفِ وُجُودُ الْمُجِيزِ. وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ مَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ (قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا فَبَلَغَهُ) يَعْنِي بِغَيْرِ مُجِيزٍ (كَأَجَازَهُ جَازَ) قَوْلُهُ (وَحَاصِلُ ذَلِكَ) قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ: هَاهُنَا سِتُّ مَسَائِلَ، ثَلَاثٌ مِنْهَا تَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ بِلَا خِلَافٍ: إحْدَاهَا أَنَّ الْفُضُولِيَّ إذَا قَالَ: زَوَّجْتُ فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ وَقَبِلَ عَنْهُ فُضُولِيٌّ آخَرُ، أَوْ قَالَ الرَّجُلُ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ فَأَجَابَهُ فُضُولِيٌّ وَقَالَ: زَوَّجْتهَا مِنْك وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ زَوَّجْت نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَقِيلَ عَنْ فُلَانٍ: فُضُولِيٌّ تَوَقَّفَ الْعَقْدُ عَلَى الْإِجَازَةِ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَرَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَيَكُونُ تَامًّا مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ. وَفِي ثَلَاثٍ مِنْهَا اخْتِلَافٌ: إحْدَاهَا مَا ذُكِرَ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ: زَوَّجْت نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٌ غَائِبٌ وَلَمْ يَقْبَلْ عَنْهُ آخَرُ.
وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ الْفُضُولِيُّ زَوَّجْت
وَلَوْ جَرَى الْعَقْدُ بَيْنَ الْفُضُولِيَّيْنِ أَوْ بَيْنَ الْفُضُولِيِّ وَالْأَصِيلِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ. هُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَنْفُذُ، فَإِذَا كَانَ فُضُولِيًّا يَتَوَقَّفُ وَصَارَ كَالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمَوْجُودَ شَطْرُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ شَطْرٌ حَالَةَ الْحَضْرَةِ فَكَذَا عِنْدَ الْغَيْبَةِ، وَشَطْرُ الْعَقْدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ كَلَامُهُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ، وَمَا جَرَى بَيْنَ الْفُضُولِيَّيْنِ عَقْدٌ تَامٌّ، وَكَذَا الْخُلْعُ وَأُخْتَاهُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ مِنْ جَانِبِهِ حَتَّى يَلْزَمَ فَيَتِمَّ بِهِ
فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ وَهُمَا غَائِبَانِ وَلَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ فَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَتَوَقَّفُ الْعَقْدُ عَلَى إجَازَةِ الْغَائِبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، وَعَلَى قَوْلِهِ آخِرًا يَتَوَقَّفُ (هُوَ يَقُولُ) فِي الْفُضُولِيِّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ (لَوْ كَانَ مَأْمُورًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ نَفَذَ، فَإِذَا كَانَ فُضُولِيًّا تَوَقَّفَ) لِأَنَّ كَلَامَ الْوَاحِدِ عَقْدٌ تَامٌّ فِي النِّكَاحِ بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ ابْتِدَاءً فَكَذَا بِاعْتِبَارِ الْإِجَازَةِ انْتِهَاءً، لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ كَمَا فِي الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، فَإِنَّ الزَّوْجَ إذَا قَالَ: خَالَعْتُ امْرَأَتِي عَلَى كَذَا وَهِيَ غَائِبَةٌ فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَقَبِلَتْ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا جَازَ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ، احْتِيَاجُ الْكُلِّ إلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ (وَلَهُمَا أَنَّ الْمَوْجُودَ شَرْطُ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ شَطْرُ حَالَةِ الْحَضْرَةِ) حَتَّى مَلَكَ الرُّجُوعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ وَبَطَلَ بِالْقِيَامِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ، وَلَوْ كَانَ عَقْدًا تَامًّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَالْجَامِعُ (فَكَذَا عِنْدَ الْغَيْبَةِ) لِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الصِّيغَةُ وَهِيَ لَمْ تَخْتَلِفْ (وَشَطْرُ الْعَقْدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ كَلَامَهُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ) فَيَصِيرُ كَكَلَامَيْنِ (وَمَا جَرَى بَيْنَ الْفُضُولِيَّيْنِ عَقْدٌ تَامٌّ) لِوُجُودِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَيَتَوَقَّفُ (وَكَذَا الْخُلْعُ وَأُخْتَاهُ) أَيْ الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ وَالْإِعْتَاقُ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ مِنْ جَانِبِهِ) وَلِهَذَا كَانَ لَازِمًا لَا يَقْبَلُ الرُّجُوعَ، وَالْيَمِينُ يَتِمُّ بِالْحَالِفِ فَكَانَ عَقْدًا تَامًّا،
(وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ اثْنَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ لَمْ تَلْزَمْهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا)؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى تَنْفِيذِهِمَا لِلْمُخَالَفَةِ وَلَا إلَى التَّنْفِيذِ فِي إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ لِلْجَهَالَةِ وَلَا إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ
وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ جَانِبِهِ لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةٌ عَلَى مَا سَيَجِيءُ.
قَوْلُهُ (وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ اثْنَتَيْنِ) لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيلُ بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَالثَّانِي مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَاضِحٌ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يَصِحُّ نِكَاحُ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا وَالْبَيَانُ إلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ فِي إحْدَاهُمَا؛ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا مَنْكُوحَةً؛ كَمَا لَوْ طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ ثَلَاثًا بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَالْبَيَانُ إلَى الزَّوْجِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَالطَّلَاقِ لِاحْتِمَالِهِ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ دُونَ النِّكَاحِ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِالْبَيَانِ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَفِي الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنْ أَمَرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فُلَانَةَ
فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ
(وَمَنْ أَمَرَهُ أَمِيرٌ بِأَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ أَمَةً لِغَيْرِهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رُجُوعًا إلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ وَعَدَمِ التُّهْمَةِ (وَقَالَا: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُزَوِّجَهُ كُفْئًا)؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَتَصَرَّفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ
فَزَوَّجَهَا وَأُخْرَى مَعَهَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ جَازَ نِكَاحُ فُلَانَةَ لِلْأَمْرِ بِهِ وَتَوَقَّفَ نِكَاحُ الْأُخْرَى عَلَى الْإِجَازَةِ لِأَنَّهُ فُضُولِيٌّ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَمَرَهُ أَمِيرٌ) قَيَّدَهُ بِالْأَمِيرِ وَحُكْمُ غَيْرِهِ كَذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ: وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَمِيرًا فَزَوَّجَهُ الْوَكِيلُ أَمَةً أَوْ حُرَّةً عَمْيَاءَ أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ مَفْلُوجَةً أَوْ مَجْنُونَةً، إمَّا اتِّفَاقًا، وَإِمَّا لِمَا قِيلَ قَيَّدَهُ
وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِالْأَكْفَاءِ. قُلْنَا الْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ أَوْ هُوَ عُرْفٌ عَمَلِيٌّ فَلَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا. وَذَكَرَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ فِي هَذَا اسْتِحْسَانٌ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ التَّزَوُّجِ بِمُطْلَقِ الزَّوْجِ فَكَانَتْ الِاسْتِعَانَةُ فِي التَّزَوُّجِ بِالْكُفْءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بِذَلِكَ لِتَظْهَرَ الْكَفَاءَةُ فَإِنَّهَا مِنْ جَانِبِ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ مُسْتَحْسَنَةٌ فِي الْوَكَالَةِ عِنْدَهُمَا، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ أَمَةً لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهُ أَمَةَ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي الدَّلِيلِ بِقَوْلِهِ: وَعَدَمُ التُّهْمَةِ.
وَأَمَّا إطْلَاقُ اللَّفْظِ فَإِنَّ لَفْظَ امْرَأَةٍ مُطْلَقٌ يَقَعُ عَلَى الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً يَقَعُ عَلَى الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ جَمِيعًا. وَقَوْلُهُ (وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِالْأَكْفَاءِ) قَالَ الْكَشَانِيُّ: دَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ تُعْتَبَرُ فِي النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ أَيْضًا عِنْدَهُمَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ (قُلْنَا الْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ) يَعْنِي كَمَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا قُلْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا قُلْنَا، فَإِنَّ الْأَشْرَافَ كَمَا يَتَزَوَّجُونَ الْحَرَائِرَ يَتَزَوَّجُونَ الْإِمَاءَ لِلتَّسْهِيلِ (أَوْ هُوَ عُرْفٌ عَمَلِيٌّ) أَيْ عُرْفٌ مِنْ حَيْثُ الْعَمَلُ وَالِاسْتِعْمَالُ لَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْعُرْفَ عَلَى نَوْعَيْنِ: لَفْظِيٍّ نَحْوُ الدَّابَّةِ تُقَيَّدُ لَفْظًا بِالْفَرَسِ وَنَحْوُ الْمَالِ بَيْنَ الْعَرَبِ بِالْإِبِلِ. وَعَمَلِيٍّ أَيْ عُرْفٌ مِنْ حَيْثُ الْعَمَلُ: أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّ عَمَلَ النَّاسِ كَذَا كَلُبْسِهِمْ الْجَدِيدَ يَوْمَ الْعِيدِ وَأَمْثَالِهِ (فَلَا يَصْلُحُ مُقَيِّدًا) لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ لِأَنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ وَالتَّقْيِيدُ يُقَابِلُهُ، وَمِنْ شَرْطِ التَّقَابُلِ اتِّحَادُ الْمَحَلِّ الَّذِي يَرِدَانِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ (وَذَكَرَ) يَعْنِي مُحَمَّدًا (فِي وَكَالَةِ الْأَصْلِ) إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ اسْتِحْسَانِ الْكَفَاءَةِ عِنْدَهُمَا فِي الْوَكَالَةِ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بَابُ الْمَهْرِ
(وَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ فِيهِ مَهْرًا)؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ انْضِمَامٍ وَازْدِوَاجٍ لُغَةً فَيَتِمُّ بِالزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ الْمَهْرُ وَاجِبٌ شَرْعًا إبَانَةً لِشَرَفِ الْمَحَلِّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ،
لَمَّا ذَكَرَ رُكْنَ النِّكَاحِ وَشَرْطَهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ، فَإِنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ فَكَانَ حُكْمًا لَهُ، وَالْمَهْرُ هُوَ الْمَالُ يَجِبُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الزَّوْجِ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ، إمَّا بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ بِالْعَقْدِ. وَلَهُ أَسَامٍ: الْمَهْرُ، وَالصَّدَاقُ، وَالنِّحْلَةُ، وَالْأَجْرُ، وَالْفَرِيضَةُ، وَالْعُقْرُ. لَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ بِلَا تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، قَالَ اللَّهُ عز وجل {فَانْكِحُوا} وَالنِّكَاحُ لُغَةً لَا يُنْبِئُ إلَّا عَنْ الِانْضِمَامِ وَالِازْدِوَاجِ فَيَتِمُّ بِالْمُتَنَاكِحِينَ، فَلَوْ شَرَطْنَا التَّسْمِيَةَ فِيهِ زِدْنَا عَلَى النَّصِّ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَهْرُ وَاجِبٌ شَرْعًا فَكَيْفَ يَصِحُّ النِّكَاحُ مَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (ثُمَّ الْمَهْرُ وَاجِبٌ شَرْعًا) يَعْنِي أَنَّ وُجُوبَهُ لَيْسَ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِإِبَانَةِ شَرَفِ الْمَحَلِّ (فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ) فَإِنْ قِيلَ: هَذَا دَعْوَى فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ دَلِيلٍ. قُلْت: دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}
وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا لِمَا بَيَّنَّا، وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ
(وَأَقَلُّ الْمَهْرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهَا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ إلَيْهَا وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ»
حَكَمَ بِصِحَّةِ الطَّلَاقِ مَعَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ، وَلَا يَكُونُ الطَّلَاقُ إلَّا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَعُلِمَ أَنَّ تَرْكَ ذِكْرِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ (وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ انْضِمَامٍ فَيَتِمُّ بِالزَّوْجَيْنِ.
وَقَوْلُهُ وَفِيهِ) أَيْ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا (خِلَافُ مَالِكٍ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُجَوِّزُهُ، قَالَ: لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةِ مِلْكِ مُتْعَةٍ بِمِلْكِ مَهْرٍ فَيَفْسُدُ بِشَرْطِ نَفْيِ عِوَضِهِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ أَنْ لَا ثَمَنَ وَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ وَشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مَهْرٌ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْبَيْعِ يَقْتَضِي شُمُولَ الْعَدَمِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتْعَةِ كَمَا سَيَجِيءُ. قُلْنَا: دَلَالَةُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَنْفِيَ الْمَهْرَ كَدَلَالَتِهِ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ ذِكْرِهِ لِأَنَّ إمَّا يَكُونُ عِوَضًا يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ فِي الْعَقْدِ لَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ بَيْنَ تَرْكِ ذِكْرِهِ وَنَفْيِهِ كَالْبَيْعِ.
(وَأَقَلُّ الْمَهْرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ حَقُّهَا) شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا صِيَانَةً لِبُضْعِهَا عَنْ الِابْتِذَالِ مَجَّانًا (فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ إلَيْهَا. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ») إنَّمَا ذَكَرَهُ بِالْوَاوِ لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ وَلَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ إطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} بِهِ لِأَنَّهُ نُسِخَ. الثَّانِي أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام كَمْ سُقْت إلَيْهَا فَقَالَ: زِنَةُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَالنَّوَاةُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَقِيلَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ، وَبِمَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً قَامَتْ وَقَالَتْ: وَهَبْت نَفْسِي مِنْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: لَا حَاجَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِالنِّسَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ: لِي حَاجَةٌ، زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: هَلْ عِنْدَك شَيْءٌ تَصْدُقُهَا؟ فَقَالَ: مَا عِنْدِي إلَّا إزَارِي، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: لَا فَالْتَمِسْ شَيْئًا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ عليه الصلاة والسلام: زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ». الثَّالِثُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَتْرُوكُ الْعَمَلِ فِي حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ الْمَهْرِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا وَجَبَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا الْعَمَلُ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ فَتَحَكُّمٌ مَحْضٌ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّقْيِيدَ ثَبَتَ بِإِشَارَةِ قَوْله تَعَالَى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} لِأَنَّ الْفَرْضَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِأَمْوَالِكُمْ
وَلِأَنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ وُجُوبًا إظْهَارًا لِشَرَفِ الْمَحَلِّ
فِي قَوْله تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} مَالًا مُقَدَّرًا، وَبَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ مِقْدَارَهُ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ مَالٍ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ تَوَلَّى بَيَانَ مِقْدَارِهِ كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِهَا فَكَذَلِكَ الْمَهْرُ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى مَا يُعَجَّلُ بِالسَّوْقِ إلَيْهَا، أَمَّا فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَلِأَنَّهُ مُصَرِّحٌ بِهِ، وَأَمَّا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَلِأَنَّهُ أَمَرَ ذَلِكَ الرَّجُلَ بِالِالْتِمَاسِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ عِنْدَنَا وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الَّذِي يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ. وَعَنْ الثَّالِثِ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَائِشَةَ عَمِلَتْ بِخِلَافِهِ، وَلَوْ لَمْ تَعْرِفْ نَسْخَهُ مَا فَعَلَتْ ذَلِكَ فَقَامَ دَلِيلُ النَّسْخِ فِي الْأَوْلِيَاءِ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْعَمَلِ بِاَلَّذِي قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلُ النَّسْخِ تَرْكُهُ بِمَا لَمْ يَقُمْ وَلَا التَّحَكُّمُ.
وَقَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ) أَيْ الْمَهْرُ حَقُّ الشَّرْعِ
فَيَتَقَدَّرُ بِمَا لَهُ خَطَرٌ وَهُوَ الْعَشَرَةُ اسْتِدْلَالًا بِنِصَابِ السَّرِقَةِ (وَلَوْ سَمَّى أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ فَلَهَا الْعَشَرَةُ) عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ
مِنْ حَيْثُ وُجُوبُهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَكَانَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ شَرَفِ الْمَحَلِّ (فَيَتَقَدَّرُ بِمَالِهِ خَطَرٌ وَهُوَ الْعَشَرَةُ اسْتِدْلَالًا بِنِصَابِ السَّرِقَةِ) لِأَنَّهُ يَتْلَفُ بِهِ عُضْوٌ مُحْتَرَمٌ فَلَأَنْ يَتْلَفَ بِهِ مَنَافِعُ بُضْعٍ كَانَ أَوْلَى (وَلَوْ سَمَّى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ فَلَهَا الْعَشَرَةُ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ
مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا كَانْعِدَامِهِ وَلَنَا أَنَّ فَسَادَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَقَدْ صَارَ مُقْتَضِيًا بِالْعَشَرَةِ، فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّهَا فَقَدْ رَضِيَتْ بِالْعَشَرَةِ لِرِضَاهَا بِمَا دُونَهَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَرْضَى بِالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ تَكَرُّمًا، وَلَا تَرْضَى فِيهِ بِالْعِوَضِ الْيَسِيرِ. وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا تَجِبُ خَمْسَةٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رحمهم الله، وَعِنْدَهُ تَجِبُ الْمُتْعَةُ كَمَا إذَا لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا (وَمَنْ سَمَّى مَهْرًا عَشْرَةً فَمَا زَادَ
مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا كَانْعِدَامِهِ) كَمَا فِي تَسْمِيَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ (أَنَّ فَسَادَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَقَدْ صَارَ مَقْضِيًّا بِالْعَشَرَةِ) إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَشَرَةَ فِي كَوْنِهَا صَدَاقًا لَا تَتَجَزَّأُ، وَذِكْرُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ؛ كَمَا لَوْ أَضَافَ النِّكَاحَ إلَى نِصْفِهَا صَحَّ فِي جَمِيعِهَا، وَأَمَّا حَقُّهَا وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ فَقَدْ رَضِيَتْ بِسُقُوطِهِ لِأَنَّ الرِّضَا بِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ رِضًا بِالْعَشَرَةِ. وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا بِرِضَاهَا بِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا وَحَقَّ الشَّرْعِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، فَمَا كَانَ حَقَّهَا فَقَدْ سَقَطَ لِوِلَايَتِهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَمَا كَانَ حَقَّ الشَّرْعِ فَلَمْ يَسْقُطْ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِانْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَانْعِدَامِهِ: يَعْنِي لَيْسَ هَذَا الْقِيَاسُ صَحِيحًا (لِأَنَّهَا قَدْ تَرْضَى بِالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ تَكَرُّمًا وَلَا تَرْضَى فِيهِ بِالْعِوَضِ الْيَسِيرِ) فَلَا يَكُونُ عَدَمُ التَّسْمِيَةِ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا بِالْعَشَرَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ الْعَشَرَةُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِخِلَافِ الرِّضَا بِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ رِضًا بِهَا لَا مَحَالَةَ (وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَجَبَ خَمْسَةٌ عِنْدَهُمْ) وَوَجَبَتْ الْمُتْعَةُ عِنْدَهُمْ كَمَا إذَا لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ سَمَّى مَهْرًا عَشَرَةً)
فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا)؛ لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ وَبِهِ يَتَأَكَّدُ الْبَدَلُ، وَبِالْمَوْتِ يَنْتَهِي النِّكَاحُ نِهَايَتَهُ، وَالشَّيْءُ بِانْتِهَائِهِ يَتَقَرَّرُ وَيَتَأَكَّدُ فَيَتَقَرَّرُ بِجَمِيعِ مَوَاجِبِهِ (وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَالْخَلْوَةِ فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الْآيَة
اعْلَمْ أَنَّ الْمَهْرَ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ يَتَقَرَّرُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالدُّخُولِ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ وَبِالْمَوْتِ، أَمَّا الدُّخُولُ فَلِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِهِ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ وَهُوَ الْبُضْعُ (وَبِهِ) أَيْ بِتَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ (يَتَأَكَّدُ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ) وَهُوَ الْمَهْرُ كَمَا فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فِي بَابِ الْبَيْعِ يَتَأَكَّدُ بِهِ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الثَّمَنِ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَأَكِّدًا لِكَوْنِهِ عَلَى عَرَضِيَّةِ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَيَنْفَسِخَ الْعَقْدُ وَبِتَسْلِيمِهِ يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْمَهْرِ كَانَ عَلَى عَرَضِيَّةِ أَنْ يَسْقُطَ بِتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ أَوْ الِارْتِدَادِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَبِالدُّخُولِ تَأَكَّدَ.
وَأَمَّا الْمَوْتُ فَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْتَهِي بِهِ نِهَايَتَهُ حَيْثُ لَمْ يَبْقَ قَابِلًا لِلرَّفْعِ (وَالشَّيْءُ بِانْتِهَائِهِ يَتَقَرَّرُ وَيَتَأَكَّدُ فَيَجِبُ أَنْ يَتَقَرَّرَ بِجَمِيعِ مَوَاجِبِهِ) الْمُمْكِنِ تَقْرِيرُهَا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ كَالْإِرْثِ وَالْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ وَالنَّسَبِ. وَقُلْنَا: " مَوَاجِبِهِ الْمُمْكِنِ تَقْرِيرُهَا " احْتِرَازًا عَنْ النَّفَقَةِ وَحِلِّ التَّزَوُّجِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَحِلُّ لَهَا التَّزَوُّجُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا وَلَمْ يَحِلَّ وَقْتَ النِّكَاحِ، وَأَمَّا الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ الدُّخُولِ فَهُوَ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ.
وَيُعْلَمُ حُكْمُهُ مِنْ قَوْلِهِ (فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْخَلْوَةِ فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}
وَالْأَقْيِسَةُ مُتَعَارِضَةٌ، فَفِيهِ تَفْوِيتُ الزَّوْجِ الْمِلْكَ عَلَى نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَفِيهِ عَوْدُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَيْهِ سَالِمًا فَكَانَ الْمَرْجِعُ
وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْبَابِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ وَالْأَقْيِسَةُ مُتَعَارِضَةٌ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ كُلُّ الْبَدَلِ، لِأَنَّ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَعُودُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ سَالِمًا إلَيْهَا فَيَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ كُلُّ الْبَدَلِ كَمَا إذَا تَبَايَعَا ثُمَّ تَقَابَلَا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَقْيِسَةَ مُتَعَارِضَةُ قِيَاسٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْت، وَقِيَاسٌ آخَرُ يَقْتَضِي وُجُوبَ كُلِّ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَا مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ كُلِّ الْمَهْرِ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَتْلَفَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْقِيَاسَانِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى النَّصِّ. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْقِيَاسَ الْوَاحِدَ لَا وُجُودَ لَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ النَّصِّ فَضْلًا عَنْ الْأَقْيِسَةِ وَالثَّانِي أَنَّ التَّعَارُضَ إذَا ثَبَتَ بَيْنَ الْحُجَّتَيْنِ كَانَ الْمَصِيرُ إلَى مَا بَعْدَهُمَا لَا إلَى مَا قَبْلَهُمَا. وَالثَّالِثُ أَنَّ الْقِيَاسَيْنِ لَا يَتَعَارَضَانِ، وَلَوْ ثَبَتَ التَّعَارُضُ صُورَةً لَمْ يُتْرَكَا.
بَلْ يَعْمَلُ الْمُجْتَهِدُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ ذِكْرَ مُعَارَضَةِ الْقِيَاسَيْنِ هَاهُنَا لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا بَلْ لِبَيَانِ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِتَعَارُضِهِمَا أَوْ لِمُخَالَفَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا النَّصَّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: فَوَجَبَ الْعَمَلُ عَلَيْنَا بِظَاهِرِ النَّصِّ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إلَى
فِيهِ النَّصَّ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ؛ لِأَنَّهَا كَالدُّخُولِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. .
قَالَ (وَإِنْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا
الْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ، فَإِنَّا لَوْ خَلَّيْنَا وَمُجَرَّدَ الْقِيَاسِ وَعَمِلْنَا بِهِ عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى النَّصِّ لَزِمَ تَرْكُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ فَتَرَكْنَاهُمَا جَمِيعًا وَعَمِلْنَا بِالنَّصِّ، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ الْمُعَارَضَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا بَلْ هُوَ قَوْلٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ لَا يَرُدُّ مَا يَرُدُّ فِي التَّعَارُضِ، هَذَا أَحْسَنُ مَا وَجَدْته فِي الِاعْتِذَارِ فِي هَذَا الْبَحْثِ وَهُوَ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُهُ (وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ) قَدْ ظَهَرَ مَعْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ.
قَالَ (وَإِنْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا) لِلْمُفَوِّضَةِ وَاَلَّتِي شُرِطَ فِي نِكَاحِهَا أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ إذَا
أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا فَلَهُ مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ شَيْءٌ فِي الْمَوْتِ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الدُّخُولِ. لَهُ أَنَّ الْمَهْرَ خَالِصُ حَقِّهَا فَتَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْيِهِ ابْتِدَاءً كَمَا تَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ انْتِهَاءً وَلَنَا أَنَّ الْمَهْرَ وُجُوبًا حَقُّ الشَّرْعِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ حَقَّهَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَتَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ دُونَ النَّفْيِ
(وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا الْمُتْعَةُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} الْآيَة
دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَكَذَا إذَا مَاتَتْ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ شَيْءٌ فِي الْمَوْتِ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الدُّخُولِ. لَهُ أَنَّ الْمَهْرَ خَالِصُ حَقِّهَا فَتَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْيِهِ ابْتِدَاءً كَمَا تَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ انْتِهَاءً. وَلَنَا أَنَّ الْمَهْرَ وُجُوبًا حَقُّ الشَّرْعِ كَمَا مَرَّ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ حَقَّهَا حَالَةَ الْبَقَاءِ فَتَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ دُونَ النَّفْيِ) لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُلَاقِيَ التَّصَرُّفُ مَا تَمْلِكُهُ دُونَ مَا لَا تَمْلِكُهُ.
(وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا الْمُتْعَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ}
ثُمَّ هَذِهِ الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ رُجُوعًا إلَى الْأَمْرِ، وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ (وَالْمُتْعَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ مِنْ كِسْوَةِ مِثْلِهَا) وَهِيَ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. وَقَوْلُهُ مِنْ كِسْوَةِ مِثْلِهَا
وَالْفَرِيضَةُ هِيَ الْمَهْرُ: أَيْ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي الطَّلَاقِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ الْمِسَاسُ، وَفَرَضَ الْفَرِيضَةَ وَأَمَرَ بِالْمُتْعَةِ مُطْلَقًا وَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ وَقَالَ {حَقًّا} وَذَلِكَ يَقْتَضِيهِ أَيْضًا وَذُكِرَ بِكَلِمَةِ عَلَى (وَهَذِهِ الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ) عِنْدَنَا (رُجُوعًا إلَى الْأَمْرِ) وَغَيْرِهِ (وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ) فَإِنَّهَا عِنْدَهُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا إحْسَانًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَصْرُوفٌ إلَى الَّتِي لَهَا مَهْرٌ أَوْ نِصْفُ مَهْرٍ لِئَلَّا يُعَارَضَ الْأَمْرُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ " مَتَاعًا " مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى مَتِّعُوا وَالْمُرَادُ بِهِ هَذِهِ الْمُتْعَةُ الْوَاجِبَةُ فَكَيْفَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُسْتَحَبِّ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ وَكَلِمَةُ عَلَى فِي {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وَمَتَاعًا وَحَقًّا وَكَلِمَةُ عَلَى فِي قَوْلِهِ {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} كُلُّهَا تَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَتَأْكِيدَهُ، فَإِمَّا أَنْ تُبْطِلَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِأَجْلِ لَفْظِ الْإِحْسَانِ أَوْ تُؤَوِّلَهُ لَا أَرَاك تَعْدِلُ عَنْ التَّأْوِيلِ فَتُؤَوِّلُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْوَاجِبَ وَيَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ إحْسَانًا مِنْهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَالْمُتْعَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ مِنْ كِسْوَةِ مِثْلِهَا وَهِيَ دِرْعٌ وَمِلْحَفَةٌ وَخِمَارٌ) فَإِنْ كَانَتْ مِنْ السَّفِلَةِ فَمِنْ الْكِرْبَاسِ، وَإِنْ كَانَتْ وَسَطًا فَمِنْ الْقَزِّ، وَإِنْ كَانَتْ مُرْتَفِعَةَ الْحَالِ فَمِنْ الْإِبْرَيْسَمِ (وَهَذَا التَّقْدِيرُ) أَيْ تَقْدِيرُ الْعَدَدِ (مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُصَلِّي فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ وَتَخْرُجُ فِيهَا عَادَةً فَتَكُونُ مُتْعَتُهَا كَذَلِكَ.
إشَارَةً إلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُهَا وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ فِي الْمُتْعَةِ الْوَاجِبَةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُهُ عَمَلًا بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} ثُمَّ هِيَ لَا تُزَادُ عَلَى نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا وَلَا تَنْقُصُ
وَقَوْلُهُ (لِقِيَامِهَا مَقَامَ مَهْرِ الْمِثْلِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ لِقِيَامِهَا مَقَامَ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ الْمَهْرَ التَّامَّ لَمْ يَجِبْ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ إذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَكِنَّ مُرَادَهُ إلْحَاقُ الْمُتْعَةِ بِنَفْسِ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي اعْتِبَارِ حَالِهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَمَامِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ نِصْفِهِ، وَفِي مَهْرِ الْمِثْلِ الْمُعْتَبَرُ حَالُهَا فَكَذَا فِيمَا قَامَ مَقَامَهُ.
وَقَوْلُهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُهُ) هُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ (عَمَلًا بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} أَيْ عَلَى الْغَنِيِّ بِقَدْرِ حَالِهِ {وَعَلَى الْمُقْتِرِ} أَيْ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُقِلِّ بِقَدْرِ حَالِهِ.
ثُمَّ الْمُتْعَةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً عَلَى نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً فَلَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ هُوَ الْعِوَضُ الْأَصْلِيُّ، وَلَكِنْ تَعَذَّرَ تَنْصِيفُهُ لِجَهَالَتِهِ فَيُصَارُ إلَى
عَنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ
(وَإِنْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى تَسْمِيَةٍ فَهِيَ لَهَا إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا الْمُتْعَةُ) وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ نِصْفُ هَذَا الْمَفْرُوضِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ فَيَتَنَصَّفُ بِالنَّصِّ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا الْفَرْضَ تَعْيِينٌ لِلْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَذَلِكَ لَا يَتَنَصَّفُ
خَلَفِهِ وَهُوَ الْمُتْعَةُ فَلَا تُزَادُ عَلَى نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً فَلَهَا الْمُتْعَةُ اتِّبَاعًا لِلنَّصِّ؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ فَلَهَا الْخَمْسَةُ لِأَنَّ الْمَهْرَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْمُتْعَةَ خَلَفُهُ، وَلَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلَا مُتْعَةَ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَلَهَا الْمُتْعَةُ بِالنَّصِّ. فَإِنْ قِيلَ: نَصُّ الْمُتْعَةِ مُطْلَقٌ عَنْ هَذِهِ التَّفَاصِيلِ فَفِيهَا تَقْيِيدٌ لَهُ وَهُوَ نَسْخٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَالْإِيجَابُ بِالتَّسْمِيَةِ فِي مَهْرِ مَنْ يُعْتَبَرُ فِي مَهْرِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ بَيَانٌ لِذَلِكَ الْمُقَدَّرِ الْمُجْمَلِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» فَكَانَ مُعَارِضًا لِآيَةِ الْمُتْعَةِ، وَالتَّفْصِيلُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ تَوْفِيقٌ بَيْنَهُمَا، فَتَأَمَّلْ إنْ كَانَ الْقَوَاعِدُ الْأُصُولِيَّةُ عَلَى ذِكْرٍ مِنْك.
(وَإِنْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى تَسْمِيَةِ مَهْرٍ فَهِيَ لَهَا إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا) بِالِاتِّفَاقِ (وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا الْمُتْعَةُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ نِصْفُ هَذَا الْمَفْرُوضِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ) وَالْمَفْرُوضُ يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (وَلَنَا أَنَّ هَذَا الْفَرْضَ تَعْيِينٌ لِلْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ) إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ إذَا دَخَلَ بِهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَالْمَفْرُوضُ جَمِيعًا،
فَكَذَا مَا نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ، وَالْمُرَادُ بِمَا تَلَا الْفَرْضَ فِي الْعَقْدِ إذْ هُوَ الْفَرْضُ الْمُتَعَارَفُ. .
قَالَ (وَإِنْ زَادَ لَهَا فِي الْمَهْرِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَزِمَتْهُ الزِّيَادَةُ) خِلَافًا لِزُفَرَ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَ) إذَا صُحِّحَتْ الزِّيَادَةُ (تَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ) وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا تَنْتَصِفُ مَعَ الْأَصْلِ
أَمَّا مَهْرُ الْمِثْلِ فَلِأَنَّهُ الْوَاجِبُ بِهَذَا الْعَقْدِ ابْتِدَاءً لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ، وَأَمَّا الْمَفْرُوضُ فَبِحُكْمِ التَّسْمِيَةِ وَكَانَ كَمَا إذَا سَمَّى لَهَا مَهْرًا ثُمَّ زَادَ لَهَا شَيْئًا فَإِنَّهُمَا يَلْزَمَانِ عَلَى تَقْدِيرَيْ الدُّخُولِ وَالْمَوْتِ لَكِنَّهُ يَسْقُطُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَيَلْزَمُهُ الْمَفْرُوضُ وَكَانَ تَعْيِينًا لَهُ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ لَا يَتَنَصَّفُ (فَكَذَا مَا نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ، وَالْمُرَادُ بِمَا تَلَا) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (الْفَرْضُ فِي الْعَقْدِ) لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ زَادَهَا فِي الْمَهْرِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَزِمَتْهُ الزِّيَادَةُ خِلَافًا لِزُفَرَ) فَإِنَّهُ يَقُولُ:
لِأَنَّ التَّنْصِيفَ عِنْدَهُمَا يَخْتَصُّ بِالْمَفْرُوضِ فِي الْعَقْدِ، وَعِنْدَهُ الْمَفْرُوضُ بَعْدَهُ كَالْمَفْرُوضِ فِيهِ
الزِّيَادَةُ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَا تُلْحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ إنْ قُبِضَتْ مُلِكَتْ وَإِلَّا فَلَا، وَوَعَدَ الْمُصَنِّفُ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي بَابِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فَنَحْنُ نَتْبَعُهُ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ التَّنْصِيفَ عِنْدَهُمَا يَخْتَصُّ بِالْمَفْرُوضِ فِي الْعَقْدِ) يَعْنِي بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ (وَعِنْدَهُ الْمَفْرُوضُ بَعْدَهُ كَالْمَفْرُوضِ فِيهِ) عَمَلًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}
عَلَى مَا مَرَّ.
(وَإِنْ حَطَّتْ عَنْهُ مِنْ مَهْرِهَا صَحَّ الْحَطُّ)؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَقَاءُ حَقِّهَا وَالْحَطُّ يُلَاقِيهِ حَالَةَ الْبَقَاءِ
(وَإِذَا خَلَا الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ الْوَطْءِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَوْفًى بِالْوَطْءِ فَلَا يَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ دُونَهُ
مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا مَرَّ) يَعْنِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
قَالَ (وَإِذَا خَلَا الزَّوْجُ بِامْرَأَتِهِ) هَذَا بَيَانٌ أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ فِي حَقِّ لُزُومِ كَمَالِ الْمَهْرِ وَغَيْرِهِ عِنْدَنَا. خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ (لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ) وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَوْفًى بِالْوَطْءِ فَلَا يَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ دُونَهُ لِأَنَّ التَّأَكُّدَ إنَّمَا يَكُونُ بِتَسْلِيمِ
وَلَنَا أَنَّهَا سَلَّمَتْ الْمُبْدَلَ حَيْثُ رَفَعَتْ الْمَوَانِعَ وَذَلِكَ وُسْعُهَا فَيَتَأَكَّدُ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا أَوْ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ أَوْ مُحْرِمًا بِحَجٍّ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ أَوْ كَانَتْ حَائِضًا فَلَيْسَتْ الْخَلْوَةُ صَحِيحَةً)
الْمُبْدَلِ وَتَسْلِيمُهَا بِالْوَطْءِ وَلَمْ يُوجَدْ (وَلَنَا أَنَّهَا سَلَّمَتْ) وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَكُونُ إلَّا مَقْدُورًا وَالْمَقْدُورُ لِلْمَرْأَةِ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهَا ذَلِكَ فَيَتَأَكَّدُ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّ التَّخْلِيَةَ فِيهِ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ تَسْلِيمٌ يَجِبُ بِهِ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَوْفًى بِالْوَطْءِ فَصَحِيحٌ لَكِنَّ ذَلِكَ تَسْلِيمٌ وَلَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْمَرْأَةِ ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ مُكَلَّفَةً بِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا) بَيَانٌ لِمَا يَكُونُ مَانِعًا
حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا كَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَوَانِعُ، أَمَّا الْمَرَضُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ أَوْ يَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ، وَقِيلَ مَرَضُهُ لَا يُعْرَى عَنْ تَكَسُّرٍ وَفُتُورٍ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي مَرَضِهَا وَصَوْمِ رَمَضَانَ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ، وَالْإِحْرَامِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدَّمِ وَفَسَادِ النُّسُكِ وَالْقَضَاءِ، وَالْحَيْضُ مَانِعٌ طَبْعًا وَشَرْعًا (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَائِمًا تَطَوُّعًا فَلَهَا الْمَهْرُ كُلُّهُ)؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فِي رِوَايَةِ الْمُنْتَقَى،
عَنْ الْخَلْوَةِ حِسِّيًّا كَانَ أَوْ شَرْعِيًّا. وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ: مَرَضُهُ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْمَرَضَ فِي جَانِبِهَا يَتَنَوَّعُ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا الْمَرَضُ مِنْ جَانِبِهِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ أَيْضًا يَتَنَوَّعُ، وَقِيلَ: إنَّهُ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ وَإِنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَجَمِيعُ أَنْوَاعِهِ فِي ذَلِكَ عَلَى السَّوَاءِ. قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: هُوَ الصَّحِيحُ.
وَوَجْهُهُ مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ مَرَضُهُ (لَا يَعْرَى عَنْ تَكَسُّرٍ وَفُتُورٍ) وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَائِمًا تَطَوُّعًا فَلَهَا الْمَهْرُ كُلُّهُ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ كُلُّ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِفْسَادِ فَلَا تَكُونُ الْخَلْوَةُ صَحِيحَةً كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ لُزُومَ الْقَضَاءِ فِي التَّطَوُّعِ عِنْدَنَا لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فَلَا
وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَهْرِ هُوَ الصَّحِيحُ. وَصَوْمُ الْقَضَاءِ وَالْمَنْذُورِ كَالتَّطَوُّعِ فِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَالصَّلَاةُ بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ فَرْضُهَا كَفَرْضِهِ وَنَفْلُهَا كَنَفْلِهِ.
(وَإِذَا خَلَا الْمَجْبُوبُ بِامْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ)؛ لِأَنَّهُ أَعْجَزُ مِنْ الْمَرِيضِ، بِخِلَافِ الْعِنِّينِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ أُدِيرَ عَلَى سَلَامَةِ الْآلَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا التَّسْلِيمُ فِي حَقِّ السَّحْقِ وَقَدْ أَتَتْ بِهِ.
قَالَ (وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ) احْتِيَاطًا اسْتِحْسَانًا لِتَوَهُّمِ الشُّغْلِ، وَالْعِدَّةُ حَقُّ الشَّرْعِ وَالْوَلَدِ
يُعَدُّ، وَإِلَى إفْسَادِ الْخَلْوَةِ، بِخِلَافِ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَإِنَّ لُزُومَ قَضَائِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ فَرْضٌ مُطْلَقٌ فَكَانَ أَثَرُهُ عَامًّا.
وَقَوْلُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَهْرِ هُوَ الصَّحِيحُ) أَيْ الْأَخْذُ بِرِوَايَةِ الْمُنْتَقَى فِي حَقِّ كَمَالِ الْمَهْرِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَأَمَّا فِي حَقِّ جَوَازِ الْإِفْطَارِ فَالصَّحِيحُ غَيْرُ رِوَايَةِ الْمُنْتَقَى، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ الْإِفْطَارُ بِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَأْخُوذَ فِي حَقِّ كَمَالِ الْمَهْرِ رِوَايَةُ الْمُنْتَقَى، وَفِي حَقِّ جَوَازِ الْإِفْطَارِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ عَنْ رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ عَنْ الْوَطْءِ شَرْعًا لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ الْمُؤْثِمِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا خَلَا الْمَجْبُوبُ) الْمَجْبُوبُ هُوَ الَّذِي اُسْتُؤْصِلَ ذَكَرُهُ وَخُصْيَاهُ مِنْ الْجَبِّ وَهُوَ الْقَطْعُ إذَا خَلَا الْمَجْبُوبُ (بِامْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ أَعْجَزُ مِنْ الْمَرِيضِ) لِوُجُودِ آلَةِ الْجِمَاعِ فِي الْمَرِيضِ وَقَدْ يُجَامِعُ بِخِلَافِ الْمَجْبُوبِ، وَالْمَرَضُ مَانِعٌ عَنْ الْخَلْوَةِ فَالْجَبُّ أَوْلَى (بِخِلَافِ الْعِنِّينِ) فَإِنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْعُنَّةِ مُتَعَذَّرٌ وَسَلَامَةُ الْآلَةِ وُجُودُ السَّبَبِ إلَى الْوَطْءِ إذْ الْأَصْلُ السَّلَامَةُ فِي الْوَصْفِ أَيْضًا فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا التَّسْلِيمُ فِي حَقِّ السَّحْقِ) لِأَنَّهُ وَسِعَ مِثْلَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَدْ أَتَتْ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا عَدَمُ التَّسْلِيمِ فَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
(وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَتْ الْخَلْوَةُ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً (احْتِيَاطًا اسْتِحْسَانًا لِتَوَهُّمِ الشُّغْلِ وَالْعِدَّةُ حَقُّ الشَّرْعِ وَالْوَلَدِ) أَمَّا أَنَّهَا حَقُّ الشَّرْعِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ لَا يَمْلِكَانِ إسْقَاطَهَا وَالتَّدَاخُلُ يَجْرِي فِيهَا، وَحَقُّ الْعَبْدِ لَا يَتَدَاخَلُ، وَأَمَّا أَنَّهَا حَقُّ
فَلَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهِ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ أَنَّ الْمَانِعَ إنْ كَانَ شَرْعِيًّا كَالصَّوْمِ وَالْحَيْضِ تَجِبُ الْعِدَّةُ لِثُبُوتِ التَّمَكُّنِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ حَقِيقِيًّا كَالْمَرَضِ وَالصِّغَرِ لَا تَجِبُ لِانْعِدَامِ التَّمَكُّنِ حَقِيقَةً.
قَالَ (وَتُسْتَحَبُّ الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إلَّا لِمُطَلَّقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الَّتِي طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إلَّا لِهَذِهِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ صِلَةً مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ أَوْحَشَهَا
الْوَلَدِ فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ رِعَايَةُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَهُوَ حَقُّهُ (فَلَا يُصَدِّقُ) الْمَرْأَةَ (فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ) بِقَوْلِهَا لَمْ يَطَأْنِي، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَلَا يُصَدَّقُ الزَّوْجُ فِي إبْطَالِ حَقِّهَا بِقَوْلِهِ لَمْ أَطَأْهَا (بِخِلَافِ الْمَهْرِ) فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ بِالْخَلْوَةِ الْفَاسِدَةِ (لِأَنَّهُ مَالٌ لَا يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهِ) قَوْلُهُ (وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ) أَيْ شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
قَالَ (وَتُسْتَحَبُّ الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إلَّا لِمُطَلَّقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الَّتِي طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إلَّا لِهَذِهِ) التَّرْكِيبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ الْمَوْثُوقِ بِهَا، وَهُوَ كَمَا تَرَى يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ الْمُتْعَةُ وَاجِبَةً لِلْمُفَوِّضَةِ الْغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِدُخُولِهَا فِي قَوْلِهِ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ وَهُوَ يُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ هَذِهِ الْمُتْعَةُ
بِالْفِرَاقِ، إلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ نِصْفَ الْمَهْرِ طَرِيقَةُ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فَسْخٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْمُتْعَةَ لَا تَتَكَرَّرُ
وَاجِبَةٌ، وَيَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ الْمُتْعَةُ لِلْمُسْتَثْنَاةِ مُسْتَحَبَّةٌ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَاهَا مِنْ الِاسْتِحْبَابِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِاسْتِحْبَابِهَا لَهَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ وَالْحَصْرِ. وَزَادَ الْفُقَهَاءُ وَجَامِعُ الْإِسْبِيجَابِيِّ، وَيَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ الْمُتْعَةُ وَاجِبَةً لِلْمُسْتَثْنَاةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَاهَا مِنْ الْوُجُوبِ، وَذَكَرَ فِي الْحَصْرِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَهُ لِهَذِهِ الْمُسْتَثْنَاةِ أَيْضًا. وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ: وَتُسْتَحَبُّ الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ غَيْرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ قَبْلُ إلَّا لِمُطَلَّقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الَّتِي طَلَّقَهَا الزَّوْجُ إلَخْ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِهِ أَنَّ الْمُتْعَةَ وَاجِبَةٌ وَمُسْتَحَبَّةٌ. فَالْوَاجِبَةُ لِلَّتِي طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَالتَّسْمِيَةِ. وَالْمُسْتَحَبَّةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إلَّا الَّتِي طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا وَقَدْ وَقَعَ اخْتِيَارُهُ مُوَافِقًا لِرِوَايَةِ التُّحْفَةِ وَمُخَالِفًا لِلْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَهُ فِي الْمُسْتَثْنَاةِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ: تَجِبُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْحَصْرِ، وَفِي الْجَدِيدِ لَا تَجِبُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، فَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْمُتْعَةُ عِنْدَنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبَةٍ، وَمُسْتَحَبَّةٍ، وَغَيْرِ مُسْتَحَبَّةٍ. لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَلْمُوسَةً أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَهْرُهَا مُسَمًّى أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ الَّتِي وَجَبَتْ لَهَا الْمُتْعَةُ، وَإِنْ كَانَ فَهِيَ الْمُسْتَثْنَاةُ الَّتِي لَا تُسْتَحَبُّ لَهَا الْمُتْعَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مَلْمُوسَةً سَوَاءٌ كَانَ مَهْرُهَا مُسَمًّى أَوْ لَمْ يَكُنْ تُسْتَحَبُّ لَهَا الْمُتْعَةُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ تَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبَةٍ وَإِلَى غَيْرِهَا، وَاسْتَدَلَّ لَهُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهَا وَجَبَتْ) وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ وَعَدَمُهُ لِلْمُسْتَثْنَاةِ.
وَتَقْرِيرُهُ: الْمُتْعَةُ وَجَبَتْ صِلَةً مِنْ الزَّوْجِ لِإِيحَاشِهَا بِالْفِرَاقِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَجِبُ لِكُلِّ مَنْ أُوحِشَتْ بِهِ، فَالْمُتْعَةُ تَجِبُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ لِأَنَّهَا أُوحِشَتْ بِالْفِرَاقِ (إلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ) يَعْنِي الْمُسْتَثْنَاةَ (نِصْفَ الْمَهْرِ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فَسْخٌ) مَعْنًى (فِي هَذِهِ الْحَالَةِ) لِعَوْدِ مَالِهَا إلَيْهَا سَالِمًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْمَهْرِ كُلِّهِ كَمَا فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ نِصْفَ الْمَهْرِ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ (وَالْمُتْعَةُ لَا تَتَكَرَّرُ) فَلَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ لِهَذِهِ الْمُطَلَّقَةِ وَتَجِبُ لِغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا قَالَ: وَجَبَتْ صِلَةً احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِنَا إنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ وَالْمُتْعَةَ خَلَفٌ عَنْهُ. وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْمُتْعَةَ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا قَدْ اسْتَحَقَّتْ عِوَضَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ مَرَّةً فَلَا تَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ، وَعِنْدَهُ تَسْتَحِقُّ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ صِلَةً بِسَبَبِ الْإِيحَاشِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَالْمُتْعَةُ لِوَحْشَةِ الْفِرَاقِ. وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْمُتْعَةَ لَا تُزَادُ عَلَى نِصْفِ الْمَهْرِ عِنْدَنَا لِئَلَّا يَزِيدَ الْخَلَفُ عَلَى الْأَصْلِ. وَعِنْدَهُ تُزَادُ.
(وَلَنَا أَنَّ الْمُتْعَةَ خَلَفٌ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْمُفَوِّضَةِ)؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَوَجَبَتْ الْمُتْعَةُ، وَالْعَقْدُ يُوجِبُ الْعِوَضَ فَكَانَ خَلَفًا وَالْخَلَفُ لَا يُجَامِعُ الْأَصْلَ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ
وَلَنَا أَنَّ الْمُتْعَةَ خَلَفٌ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْمُفَوِّضَةِ) لِوُجُودِ حَدِّ الْخَلَفِ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَوَجَبَتْ الْمُتْعَةُ، وَالْحَالُ أَنَّ الْعَقْدَ يُوجِبُ الْعِوَضَ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، فَكَانَ وُجُوبُ الْمُتْعَةِ مُضَافًا إلَى الْعَقْدِ بَعْدَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا يَعْنِي بِالْخَلَفِ إلَّا مَا يَجِبُ بَعْدَ سُقُوطِ شَيْءٍ مُضَافًا إلَى سَبَبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ فَثَبَتَ أَنَّهَا خَلَفٌ (وَالْخَلَفُ لَا يُجَامِعُ الْأَصْلَ) فَالْمُتْعَةُ لَا تُجَامِعُ مَهْرَ الْمِثْلِ وَلَا شَيْئًا مُتَّصِلًا بِهِ كَكُلِّ الْمَفْرُوضِ عِنْدَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْضِ الْمَفْرُوضِ عِنْدَهُ قَبْلَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قِيلَ فِي تَوْجِيهِ كَلَامِهِ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْأَصْلِ كُلُّ الْمَفْرُوضِ، كَمَا إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالتَّسْمِيَةِ، وَبِقَوْلِهِ شَيْئًا مِنْهُ نِصْفُ الْمَفْرُوضِ كَمَا إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ التَّسْمِيَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُنْقَطِعًا عَنْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ الْمُتْعَةُ خَلَفٌ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنَّ قِيَاسَهُ هَكَذَا الْمُتْعَةُ خَلَفٌ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالْخَلَفُ لَا يُجَامِعُ الْأَصْلَ فَالْمُتْعَةُ لَا تُجَامِعُ الْأَصْلَ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ ذِكْرُ التَّسْمِيَةِ كَمَا تَرَى، وَلَيْسَ الْمُدَّعَى إلَّا عَدَمَ وُجُوبِ الْمُتْعَةِ مَعَ وُجُوبِ الْمُسَمَّى أَوْ بَعْضِهِ وَمَعَ وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ. فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَالْمُتْعَةُ لَا تُجَامِعُهُ وُجُوبًا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ الْمُسَمَّى وَبَعْضُهُ وَمَنْ هِيَ مِنْ الْمُتَّصِلَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} أَيْ بَعْضُهُمْ مُتَّصِلٌ بِبَعْضٍ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَالْخَلَفُ وَهُوَ الْمُتْعَةُ لَا يُجَامِعُ الْأَصْلَ وُجُوبًا وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ إذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَلَا يُجَامِعُ شَيْئًا مُتَّصِلًا بِالْأَصْلِ وَهُوَ كُلُّ الْمُسَمَّى بَعْدَ الدُّخُولِ وَبَعْضُهُ قَبْلَهُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ مُلْحَقًا بِالثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ الْمُتَقَدِّمِ لَا أَنَّهُ مِنْ نَتِيجَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي مُقَدِّمَاتِهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ أُلْحِقَ بِحُكْمِهِ، وَمَعْنَى الِاتِّصَالِ بَيْنَ مَهْرِ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
فَلَا تَجِبُ مَعَ وُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ، وَهُوَ غَيْرُ جَانٍ فِي الْإِيحَاشِ فَلَا تَلْحَقُهُ الْغَرَامَةُ بِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ.
(وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ بِنْتَه عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ بِنْتَهُ أَوْ أُخْتَهُ لِيَكُونَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ عِوَضًا عَنْ الْآخَرِ فَالْعَقْدَانِ جَائِزَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَطَلَ الْعَقْدَانِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نِصْفَ الْبُضْعِ صَدَاقًا وَالنِّصْفَ مَنْكُوحَةً، وَلَا اشْتِرَاكَ فِي هَذَا الْبَابِ فَبَطَلَ الْإِيجَابُ. وَلَنَا أَنَّهُ سَمَّى مَا لَا يَصْلُحُ صَدَاقًا فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا إذَا سَمَّى الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَلَا شَرِكَةَ بِدُونِ الِاسْتِحْقَاقِ
يَقَعُ أَمْثَالًا لِمَا هُوَ الْمَهْرُ عِنْدَ اللَّهِ وَبَيَانٌ لَهُ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَيُعَضِّدُ هَذَا قَوْلُهُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ (فَلَا تَجِبُ مَعَ وُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ) لِتَنَاوُلِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَكُلِّ الْمُسَمَّى وَبَعْضِهِ، هَذَا الَّذِي سَنَحَ لِي فِي حَلِّ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ (وَهُوَ غَيْرُ جَانٍ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ أَوْحَشَهَا بِالْفِرَاقِ. وَتَقْرِيرُهُ: سَلَّمْنَا أَنَّهُ أَوْحَشَهَا بِالْفِرَاقِ لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِيحَاشِ جَانِيًا لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ (فَلَا تَلْحَقُهُ الْغَرَامَةُ) بِوُجُوبِ الْمُتْعَةِ (فَكَانَ) الْمُتْعَةُ بِتَأْوِيلِ الْمَتَاعِ (مِنْ بَابِ الْفَضْلِ) أَيْ الِاسْتِحْبَابِ.
قَالَ (وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ) وَإِذَا زَوَّجَ رَجُلَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِنْتَهُ أَوْ أُخْتَهُ لِلْآخَرِ بِشَرْطِ أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ بِنْتَهُ أَوْ أُخْتَهُ صَحَّ النِّكَاحُ عِنْدَنَا وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَيُسَمَّى هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الشِّغَارِ مِنْ الشُّغُورِ وَهُوَ الرَّفْعُ وَالْإِخْلَاءُ، وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُمَا بِهَذَا الشَّرْطِ كَأَنَّهُمَا رَفَعَا الْمَهْرَ وَأَخْلَيَا الْبُضْعَ عَنْهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النِّكَاحَانِ بَاطِلَانِ لِأَنَّهُ جَعَلَ نِصْفَ الْبُضْعِ صَدَاقًا وَالنِّصْفَ مَنْكُوحَةً، لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ ابْنَتَهُ مَنْكُوحَةَ الْآخَرِ وَصَدَاقَ ابْنَتِهِ اقْتَضَى ذَلِكَ انْقِسَامَ مَنَافِعِ بُضْعِهَا عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، فَيَصِيرُ النِّصْفُ لِلزَّوْجِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ وَالنِّصْفُ لِبِنْتِهِ بِحُكْمِ الْمَهْرِ فَيَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ، وَالِاشْتِرَاكُ فِي هَذَا الْبَابِ مُبْطِلٌ لِلْإِيجَابِ (وَلَنَا أَنَّهُ سَمَّى مَا لَا يَصِحُّ صَدَاقًا) وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ (كَمَا إذَا سَمَّى الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ) وَقَوْلُهُ (وَلَا شَرِكَةَ بِدُونِ الِاسْتِحْقَاقِ) جَوَابُ الْخَصْمِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْبُضْعَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ صَدَاقًا لَمْ يَتَحَقَّقْ الِاشْتِرَاكُ لِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْمَرْأَةِ
(وَإِنْ تَزَوَّجَ حُرٌّ امْرَأَةً عَلَى خِدْمَتِهِ إيَّاهَا سَنَةً أَوْ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا قِيمَةُ خِدْمَتِهِ، وَإِنْ تَزَوَّجَ عَبْدٌ امْرَأَةً بِإِذْنِ مَوْلَاهُ عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً جَازَ وَلَهَا خِدْمَتُهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهَا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْخِدْمَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا يَصِحُّ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ بِالشَّرْطِ يَصْلُحُ مَهْرًا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ تَتَحَقَّقُ الْمُعَاوَضَةُ، وَصَارَ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى خِدْمَةِ حُرٍّ آخَرَ أَوْ عَلَى رَعْيِ الزَّوْجِ غَنَمَهَا وَلَنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ هُوَ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ وَالتَّعْلِيمُ لَيْسَ بِمَالٍ وَكَذَلِكَ الْمَنَافِعُ عَلَى أَصْلِنَا
لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِامْرَأَةِ أُخْرَى فَبَقِيَ هَذَا شَرْطًا فَاسِدًا، وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ.
(وَإِنْ تَزَوَّجَ حُرٌّ امْرَأَةً عَلَى خِدْمَتِهِ لَهَا سَنَةً أَوْ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ صَحَّ النِّكَاحُ وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا قِيمَةُ خِدْمَتِهِ سَنَةً وَإِنْ تَزَوَّجَ عَبْدٌ امْرَأَةً بِإِذْنِ مَوْلَاهُ عَلَى خِدْمَتِهِ لَهَا سَنَةً جَازَ وَلَهَا الْخِدْمَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهَا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْخِدْمَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ عَبْدًا أَوْ حُرًّا (لِأَنَّ مَا يَصِحُّ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ بِالشَّرْطِ يَصْلُحُ مَهْرًا) لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ، وَالتَّعْلِيمُ وَالْخِدْمَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصًا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَوْ الْأَذَانِ أَوْ الْإِقَامَةِ جَازَ عِنْدَهُ (فَصَارَ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى خِدْمَةِ حُرٍّ آخَرَ أَوْ عَلَى رَعْيِ الزَّوْجِ غَنَمَهَا. وَلَنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ) فِي عَقْدِ النِّكَاحِ (هُوَ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (وَالتَّعْلِيمُ لَيْسَ بِمَالٍ) فَلَا يَكُونُ الِابْتِغَاءُ بِهِ مَشْرُوعًا (وَكَذَلِكَ الْمَنَافِعُ عَلَى أَصْلِنَا) لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ، وَالتَّمَوُّلُ يَعْتَمِدُ الْبَقَاءَ زَمَانَيْنِ فَلَا تَكُونُ الْخِدْمَةُ مَالًا فَلَا يَكُونُ الِابْتِغَاءُ بِهِ
وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ ابْتِغَاءً بِالْمَالِ لِتَضَمُّنِهِ تَسْلِيمَ رَقَبَتِهِ وَلَا كَذَلِكَ الْحُرُّ، وَلِأَنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجِ الْحُرِّ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ الْمَوْضُوعِ، بِخِلَافِ خِدْمَةِ حُرٍّ آخَرَ بِرِضَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَاقَضَةَ،
مَشْرُوعًا (وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ ابْتِغَاءٌ بِالْمَالِ لِتَضَمُّنِهِ تَسْلِيمَ رَقَبَةِ الْعَبْدِ) كَمَا فِي الْإِجَارَةِ (وَلَا كَذَلِكَ الْحُرُّ) وَعَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ يُمْنَعُ جَوَازُ النِّكَاحِ عَلَى خِدْمَةِ حُرٍّ آخَرَ وَرَعْيِ الْغَنَمِ، وَلِأَنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجِ لَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ (لِمَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ الْمَوْضُوعِ) لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ خَادِمَةً وَالزَّوْجُ مَخْدُومًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «النِّكَاحُ رِقٌّ» وَفِي جَعْلِ خِدْمَةِ الزَّوْجِ مَهْرًا لَهَا كَوْنُ الرَّجُلِ خَادِمًا وَالْمَرْأَةِ مَخْدُومَةً وَذَلِكَ خِلَافُ مَوْضُوعِ النِّكَاحِ بِلَا خِلَافٍ (بِخِلَافِ خِدْمَةِ حُرٍّ آخَرَ بِرِضَاهُ) فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا لِأَنَّهُ يُسَلِّمُ فِيهِ رَقَبَتَهُ كَالْمُسْتَأْجَرِ، وَلَا مُنَاقَضَةَ
وَبِخِلَافِ خِدْمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ يَخْدُمُ مَوْلَاهُ مَعْنًى حَيْثُ يَخْدُمُهَا بِإِذْنِهِ وَبِأَمْرِهِ، وَبِخِلَافِ رَعْيِ الْأَغْنَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَامِ بِأُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ فَلَا مُنَاقَضَةَ عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِي رِوَايَةٍ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَجِبُ قِيمَةُ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ لِمَكَانِ الْمُنَاقَضَةِ فَصَارَ كَالتَّزَوُّجِ عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ إذْ لَا تُسْتَحَقُّ فِيهِ بِحَالٍ فَصَارَ كَتَسْمِيَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ،
فِيهِ عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ (وَبِخِلَافِ خِدْمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَخْدُمُ الْمَوْلَى مَعْنًى حَيْثُ يَخْدُمُهَا بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ) بِالنِّكَاحِ وَهَذَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ ظَاهِرًا لِأَنَّهُ عُلِمَ الْجَوَابُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ ابْتِغَاءٌ بِالْمَالِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْمُدَّعَى دَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ الْمَشْرُوعُ هُوَ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ وَلِأَنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجِ الْحُرِّ، فَذَكَرَ الْعَبْدُ مَرَّةً بِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ وَأُخْرَى بِاعْتِبَارِ الثَّانِي (وَبِخِلَافِ رَعْيِ الْغَنَمِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَامِ بِأُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ فَلَا مُنَاقَضَةَ عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِي رِوَايَةٍ) وَفِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الدَّلِيلِ: وَلَنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ هُوَ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ وَالتَّعْلِيمُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَا الْمَنَافِعُ عَلَى أَصْلِنَا، فَإِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ وَلَنَا فَقَوْلُهُ (ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَجِبُ قِيمَةُ الْخِدْمَةِ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ) يُنَاقِضُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا كَانَ الْمُنَاسِبُ وَلَهُمَا دَفْعًا لِلِالْتِبَاسِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ دَاخِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: وَلَنَا وَلَيْسَ بِدَاخِلٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخِدْمَةِ فَقَالَ فِي الْآخَرِ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَجِبُ قِيمَةُ الْخِدْمَةِ لِأَنَّ الْمُسَمَّى وَهُوَ الْخِدْمَةُ مَالٌ عِنْدَ الْعَقْدِ (إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ لِمَكَانِ الْمُنَاقَضَةِ فَصَارَ كَالتَّزَوُّجِ عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ) أَيْ خِدْمَةَ الْحُرِّ (لَيْسَتْ بِمَالٍ إذْ لَا تُسْتَحَقُّ فِيهِ) أَيْ لَا تُسْتَحَقُّ الْخِدْمَةُ فِي النِّكَاحِ (بِحَالٍ) وَلَوْ كَانَتْ مَالًا لَاسْتُحِقَّتْ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْعَقْدُ الصَّادِرُ مِنْ الْأَهْلِ الْمُضَافِ إلَى الْمَحَلِّ، وَانْتَفَى الْمَانِعُ وَهُوَ كَوْنُ الْمَهْرِ غَيْرَ مَالٍ. وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ سَمَاعَهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ بِكَلِمَةِ " أَوْ " هَكَذَا أَوْ لَا تُسْتَحَقُّ فِيهِ بِحَالٍ، وَهُوَ حَسَنٌ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَقَوْلُهُ أَوْ لَا تُسْتَحَقُّ بِحَالٍ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَكُونُ الْأَوَّلُ إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ: وَلَنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ هُوَ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ، وَالثَّانِي إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجِ الْحُرِّ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ إذْ لَا تُسْتَحَقُّ فِيهِ بِحَالٍ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى أَنَّ الْخِدْمَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ
وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَقَوُّمَهُ بِالْعَقْدِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهُ بِالْعَقْدِ لَمْ يَظْهَرْ تَقَوُّمُهُ فَيَبْقَى الْحُكْمُ لِلْأَصْلِ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ.
(فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ فَقَبَضَتْهَا وَوَهَبَتْهَا لَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِخَمْسِمِائَةٍ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ
إلَّا بِمَا يَنْفِيهِ مِنْ وُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ، وَهُوَ لَا يَتِمُّ لِأَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَالًا لَاسْتُحِقَّتْ فِيهِ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَانْتَفَى الْمَانِعُ وَهُوَ كَوْنُ الْمَهْرِ غَيْرَ مَالٍ يَقُولُ الْمَانِعُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي ذَلِكَ بَلْ كَوْنُهُ مُفْضِيًا إلَى الْمُنَاقَضَةِ مَانِعٌ آخَرُ عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ لَكِنْ سَمَاعِي بِكَلِمَةِ إذْ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لِأَنَّهُ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ الدَّلِيلِ فِي مَطْلَعِ الْبَحْثِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَعَادَهُ تَمْهِيدًا لِبَيَانِ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ (وَهَذَا) أَيْ وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ (لِأَنَّ تَقَوُّمَهُ بِالْعَقْدِ لِلضَّرُورَةِ) أَيْ لِأَنَّ تَقَوُّمَ الْمُسَمَّى وَهُوَ الْخِدْمَةُ لِضَرُورَةِ حَاجَةِ النَّاسِ فِي الْعُقُودِ وَهِيَ إنَّمَا تَنْدَفِعُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُحْتَاجِ (فَإِذَا لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ) لِمَكَانِ التَّنَاقُضِ (لَمْ يَظْهَرْ تَقَوُّمُهُ فَيَبْقَى الْحُكْمُ لِلْأَصْلِ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ) وَلَوْ قَالَ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُهُ كَانَ أَوْلَى فَتَأَمَّلْ.
قَالَ (فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْقَسِمُ بِالْقِسْمَةِ الْأَوَّلِيَّةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: إمَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى مَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ كَالنُّقُودِ أَوْ عَلَى مَا يَتَعَيَّنُ بِهِ كَالْعُرُوضِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ مَقْبُوضًا لَهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تَهَبَ الْمَرْأَةُ الْكُلَّ أَوْ الْبَعْضَ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَبَضَتْهَا ثُمَّ وَهَبَتْهَا لِلزَّوْجِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعَ بِنِصْفِ مَا قَبَضَتْ مَهْرًا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ يُنَصِّفُ الصَّدَاقَ بِالنَّصِّ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِ عَيْنُ مَا يَسْتَوْجِبُهُ بِالْهِبَةِ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ فَكَانَتْ هِبَةً، هَذِهِ
بِالْهِبَةِ عَيْنُ مَا يَسْتَوْجِبُهُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنَانِ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَهْرُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ فِي الذِّمَّةِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا (فَإِنْ لَمْ تَقْبِضْ الْأَلْفَ حَتَّى وَهَبَتْهَا لَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ. وَفِي الْقِيَاسِ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ)؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ الْمَهْرَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا تَبْرَأُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ عَيْنُ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ (وَلَوْ قَبَضَتْ خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ وَهَبَتْ الْأَلْفَ كُلَّهَا الْمَقْبُوضَ وَغَيْرَهُ أَوْ وَهَبَتْ الْبَاقِيَ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَا قَبَضَتْ) اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَلِأَنَّ هِبَةَ الْبَعْضِ حَطٌّ فَيَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَقْصُودَ الزَّوْجِ قَدْ حَصَلَ وَهُوَ سَلَامَةُ نِصْفِ الصَّدَاقِ بِلَا عِوَضٍ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ عِنْدَ الطَّلَاقِ.
الْأَلْفُ كَهِبَةِ أَلْفٍ أُخْرَى، وَإِذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ عَيْنُ مَا اسْتَوْجَبَهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ (وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَهْرُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ فِي الذِّمَّةِ) غَيْرَ الدَّرَاهِمِ فَقَبَضَتْهُ ثُمَّ وَهَبَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ ذَلِكَ لِعَدَمِ التَّعَيُّنِ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا رَدُّ عَيْنِ مَا قَبَضَتْ.
(فَإِنْ لَمْ تَقْبِضْ الْأَلْفَ حَتَّى وَهَبَتْهَا لَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَرْجِعْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ، وَفِي الْقِيَاسِ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ الْمَهْرَ بِالْإِبْرَاءِ) وَمَا سُلِّمَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ غَيْرُ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ نِصْفِ الْمَهْرِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَالزَّوْجُ سَلَّمَ لَهُ غَيْرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ (فَلَا تَبْرَأُ) الْمَرْأَةُ (عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ) وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ هُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ لَكِنْ بِسَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ الْإِبْرَاءُ (وَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ كَمَنْ يَقُولُ لِآخَرَ: لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ الَّتِي اشْتَرَيْتهَا مِنْك، وَقَالَ الْآخَرُ: الْجَارِيَةُ جَارِيَتُك وَلِيَ عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ الْمَالُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي السَّبَبِ وَهُوَ بَيْعُ الْجَارِيَةِ (وَلَوْ قَبَضَتْ خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ وَهَبَتْ الْأَلْفَ كُلَّهَا الْمَقْبُوضَ وَغَيْرَهُ أَوْ وَهَبَتْ الْبَاقِيَ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَا قَبَضَتْ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ) فَلَوْ قَبَضَتْ الْكُلَّ ثُمَّ وَهَبَتْ لِلزَّوْجِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عِنْدَنَا عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَا قَبَضَتْ فَكَذَا إذَا قَبَضَتْ الْبَعْضَ (وَلِأَنَّ هِبَةَ الْبَعْضِ) الَّذِي لَمْ يَقْبِضْهُ (حُطَّ) وَالْحَطُّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ الْمَقْبُوضَةِ.
(وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَقْصُودَ الزَّوْجِ) وَهُوَ سَلَامَةُ نِصْفِ الصَّدَاقِ بِلَا عِوَضٍ (قَدْ حَصَلَ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بَعْدَ الطَّلَاقِ) كَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَاسْتَعْجَلَ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ بِلَا
وَالْحَطُّ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ،
عِوَضٍ سَتَظْهَرُ فِيمَا إذَا بَاعَتْ مِنْ زَوْجِهَا.
وَقَوْلُهُ وَالْحَطُّ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلِأَنَّ هِبَةَ الْبَعْضِ حَطٌّ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَطَّ إنَّمَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ إذَا كَانَ الْعَقْدُ عَقْدَ مُغَابَنَةٍ يَحْتَاجُ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ عَنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالزِّيَادَةِ أَوْ الْحَطِّ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ
أَلَا تَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ لَا تَلْتَحِقُ حَتَّى لَا تَتَنَصَّفُ، وَلَوْ كَانَتْ وَهَبَتْ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ وَقَبَضَتْ الْبَاقِيَ، فَعِنْدَهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا إلَى تَمَامِ النِّصْفِ. وَعِنْدَهُمَا بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ
(وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَرَضٍ فَقَبَضَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْبِضْ فَوَهَبَتْ لَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ) وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ رَدُّ نِصْفِ عَيْنِ الْمَهْرِ عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ حَقَّهُ عِنْدَ الطَّلَاقِ سَلَامَةُ نِصْفِ الْمَقْبُوضِ مِنْ جِهَتِهَا وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا دَفْعُ شَيْءٍ آخَرَ مَكَانَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا،
وَاسْتَوْضَحَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (أَلَا تَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ) يَعْنِي أَنَّ الْحَطَّ وَالزِّيَادَةَ سِيَّانِ فِي الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَالزِّيَادَةُ فِي النِّكَاحِ لَمْ تَلْتَحِقْ بِأَصْلِ الْعَقْدِ حَتَّى لَا تَتَنَصَّفَ الزِّيَادَةُ مَعَ الْأَصْلِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ الْحَطُّ (وَلَوْ كَانَتْ وَهَبَتْ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ وَقَبَضَتْ الْبَاقِيَ) مِثْلُ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ فَوَهَبَتْ الْمَرْأَةُ مِائَتَيْنِ وَقَبَضَتْ الْبَاقِيَ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ حَتَّى يَتِمَّ النِّصْفُ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ عِنْدَهُ مَا سُلِّمَ لِلزَّوْجِ مُعْتَبَرٌ وَعِنْدَهُمَا الْمَقْبُوضُ مُعْتَبَرٌ فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا قَبَضَتْ فَيَتَنَصَّفُ الْمَقْبُوضُ وَهُوَ ثَمَانُمِائَةٍ.
(وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَرَضٍ فَقَبَضَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْبِضْ فَوَهَبَتْ لَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ رَدُّ نِصْفِ عَيْنِ الْمَهْرِ عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهُ سُلِّمَ لَهُ الْمَهْرُ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا تَبْرَأُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ) مَا ذَكَرَهُ (أَنَّ حَقَّهُ عِنْدَ الطَّلَاقِ سَلَامَةُ نِصْفِ الْمَقْبُوضِ مِنْ جِهَتِهَا وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ) لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ. وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ حَقَّهُ عِنْدَ الطَّلَاقِ سَلَامَةُ نِصْفِ الْمَقْبُوضِ مِنْ جِهَتِهَا (لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ شَيْئًا آخَرَ مَكَانَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا) وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى حَيْثُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالنِّصْفِ
وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَتْ مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ بِبَذْلٍ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى حَيَوَانٍ أَوْ عُرُوضٍ فِي الذِّمَّةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ مُتَعَيَّنٌ فِي الرَّدِّ
لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي نِصْفِ الْمَقْبُوضِ لِعَدَمِ التَّعَيُّنِ، وَلِهَذَا لَوْ دَفَعَتْ مَكَانَهُ شَيْئًا آخَرَ جَازَ (بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَتْ) يَعْنِي الصَّدَاقَ الْعَرَضَ مِنْ زَوْجِهَا (لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ بِبَدَلٍ) وَهُوَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا نِصْفَ الْمَهْرِ بِلَا بَدَلٍ فَلَا يَنُوبُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلِذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ.
(وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى حَيَوَانٍ) يَعْنِي مِثْلَ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ وَنَحْوِهِمَا لَا مُطْلَقَهُ (أَوْ عُرُوضٍ فِي الذِّمَّةِ) بِأَنْ قَالَ عَلَى ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ بَيَّنَ جِنْسَهُ وَنَوْعَهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِبُ الْوَسَطُ مِمَّا سَمَّى وَيَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَيُشْبِهُ النُّقُودَ (فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ) يَعْنِي إذَا وَهَبَتْهُ لَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ قَبَضَتْ أَوْ لَمْ تَقْبِضْ (لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ مُتَعَيَّنٌ فِي الرَّدِّ) يَعْنِي أَنَّهَا لَوْ قَبَضَتْهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهَا رَدُّهُ بِعَيْنِهِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَكُلُّ مَا كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْهُ مُتَعَيَّنًا فِي الرَّدِّ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ عَيْنُ حَقِّهِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ السَّبَبِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ فَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ حَقُّهُ وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ عَنْ نِصْفِ
وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَحَمَّلَتْ فِي النِّكَاحِ فَإِذَا عَيَّنَ فِيهِ يَصِيرُ كَأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَقَعَتْ عَلَيْهِ
الْمَهْرِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ. وَقَوْلُهُ (وَهَذَا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ) إشَارَةٌ إلَى شَيْئَيْنِ إلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ بِلَا تَعْيِينٍ، وَإِلَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ مُتَعَيَّنٌ فِي الرَّدِّ.
وَتَقْرِيرُهُ الْجَهَالَةَ تُحُمِّلَتْ فِي النِّكَاحِ وَكُلُّ مَا تُحُمِّلَ فِي النِّكَاحِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لَا يُنَافِي النِّكَاحَ فَالْجَهَالَةُ لَا تُنَافِي النِّكَاحَ، فَإِذَا شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ صَحَّ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينٍ لِيَتَحَقَّقَ الْإِيفَاءُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَإِذَا عُيِّنَ بِالْقَبْضِ صَارَ كَأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَقَعَتْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُتَعَيَّنًا فَكَذَلِكَ إذَا عُيِّنَ بِالْقَبْضِ. وَفَائِدَةُ الْأُولَى صِحَّةُ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مَجْهُولًا وَمُنِعَ وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَفَائِدَةُ الثَّانِيَةِ عَدَمُ رُجُوعِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ إنْ وَهَبَتْهُ لَهُ وَعَدَمُ وِلَايَةِ الِاسْتِبْدَالِ إنْ لَمْ تَهَبْ وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.
(وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ الْبَلْدَةِ أَوْ عَلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْرَى، فَإِنْ وَفَّى بِالشَّرْطِ فَلَهَا الْمُسَمَّى)؛ لِأَنَّهُ صَلُحَ مَهْرًا وَقَدْ تَمَّ رِضَاهَا بِهِ (وَإِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْرَى أَوْ أَخْرَجَهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا)؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَا لَهَا فِيهِ نَفْعٌ، فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَنْعَدِمُ رِضَاهَا بِالْأَلْفِ فَيُكْمِلُ مَهْرَ مِثْلِهَا كَمَا فِي تَسْمِيَةِ الْكَرَامَةِ وَالْهِدَايَةِ مَعَ الْأَلْفِ (وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إنْ أَقَامَ بِهَا وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ أَخْرَجَهَا، فَإِنْ أَقَامَ بِهَا فَلَهَا الْأَلْفُ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ لَا يُزَادُ عَلَى الْأَلْفَيْنِ وَلَا يُنْقَصُ عَنْ الْأَلْفِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: الشَّرْطَانِ جَمِيعًا جَائِزَانِ) حَتَّى كَانَ لَهَا الْأَلْفُ
قَالَ (وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ الْبَلْدَةِ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ الْبَلْدَةِ (أَوْ عَلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا) أَوْ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ فُلَانَةَ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ شَرْطُ عَدَمِ التَّزَوُّجِ وَعَدَمِ الْمُسَافَرَةِ وَطَلَاقِ الضَّرَّةِ فَاسِدٌ لِأَنَّ فِيهِ الْمَنْعَ عَنْ الْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ (فَإِنْ وَفَى بِالشَّرْطِ فَلَهَا الْمُسَمَّى) لِأَنَّهُ سَمَّى مَا صَلُحَ مَهْرًا (وَقَدْ تَمَّ رِضَاهَا بِهِ) وَإِنْ لَمْ يُوفِ بِهِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَلْفِ (لِأَنَّهُ سَمَّى مَا لَهَا فِيهِ نَفْعٌ) حَتَّى رَضِيَتْ بِتَنْقِيصِ الْمُسَمَّى عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ (فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَنْعَدِمُ رِضَاهَا بِالْأَلْفِ فَيُكْمِلُ مَهْرَ مِثْلِهَا كَمَا فِي تَسْمِيَةِ الْكَرَامَةِ) بِأَنْ شَرَطَ مَعَ الْأَلْفِ أَنْ يُكْرِمَهَا وَلَا يُكَلِّفَهَا الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ وَمَا تَتْعَبُ بِهِ وَكَمَا لَوْ سَمَّى الْهَدِيَّةَ مَعَ الْأَلْفِ بِأَنْ يُرْسِلَ إلَيْهَا مَعَ الْأَلْفِ الثِّيَابَ الْفَاخِرَةَ (وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إنْ أَقَامَ بِهَا وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ أَخْرَجَهَا) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ.
وَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ ذُكِرَ بِمُقَابَلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ
إنْ أَقَامَ بِهَا وَالْأَلْفَانِ إنْ أَخْرَجَهَا.
وَقَالَ زُفَرُ: الشَّرْطَانِ جَمِيعًا فَاسِدَانِ، وَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُنْقَصُ مِنْ أَلْفٍ وَلَا يُزَادُ عَلَى أَلْفَيْنِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِجَارَاتِ فِي قَوْلِهِ: إنْ خِطْتِهِ الْيَوْمَ فَلَكِ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْتِهِ غَدًا فَلَكِ نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَسَنُبَيِّنُهَا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
وَهُوَ الْبُضْعُ بَدَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ وَهُمَا الْأَلْفُ وَالْأَلْفَانِ فَتَفْسُدُ التَّسْمِيَةُ لِلْجَهَالَةِ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرْطَيْنِ مُفِيدٌ فَيَصِحَّانِ جَمِيعًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ قَدْ صَحَّ لِعَدَمِ الْجَهَالَةِ فِيهِ. فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهِ، ثُمَّ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ الثَّانِي لِأَنَّ الْجَهَالَةَ نَشَأَتْ مِنْهُ وَلَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفَيْنِ إنْ كَانَتْ جَمِيلَةً وَعَلَى أَلْفٍ إنْ كَانَتْ قَبِيحَةً حَيْثُ يَصِحُّ فِيهَا الشَّرْطَانِ جَمِيعًا بِالِاتِّفَاقِ وَالْمَسْأَلَةُ فِي فَتَاوَى الْوَلْوَالِجِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي الْأُولَى وُجِدَتْ الْمُخَاطَرَةُ فِي التَّسْمِيَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا لَا تَدْرِي أَنَّ الزَّوْجَ يُخْرِجُهَا أَوْ لَا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَا مُخَاطَرَةَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إمَّا جَمِيلَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِمَّا قَبِيحَةٌ غَيْرَ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَعْرِفُهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَجَهْلُهُ بِصِفَتِهَا لَا يُوجِبُ الْمُخَاطَرَةَ فَيَصِحُّ الشَّرْطَانِ جَمِيعًا، وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْ وُجُوهَ الْأَقْوَالِ وَأَحَالَهَا عَلَى بَابِ الْإِجَارَةِ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْخِيَاطَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا أَوْكَسُ وَالْآخَرُ أَرْفَعُ؛ فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ أَوْكَسِهِمَا فَلَهَا الْأَوْكَسُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْفَعِهِمَا فَلَهَا الْأَرْفَعُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَهَا الْأَوْكَسُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ (فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْأَوْكَسِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْإِجْمَاعِ)
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ) أَصْلُ هَذَا أَنَّ الضَّمَانَ الْأَصْلِيَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّسْمِيَةِ إذَا صَحَّتْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَمْ تَصِحَّ لِلْجَهَالَةِ. وَعِنْدَهُمَا الضَّمَانُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْمُسَمَّى، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ إذَا فَسَدَتْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْأَوْكَسِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا كَمَا فِي الْخُلْعِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ الْأَوْكَسَ فِي ذَلِكَ مُتَعَيَّنٌ، وَمَا فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ وَإِنَّمَا قَالَ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ (إذْ هُوَ الْأَعْدَلُ) لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ لِأَنَّهُ قِيمَةُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَقِيمَةُ الشَّيْءِ لَا تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ،
لَهُمَا أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْمُسَمَّى، وَقَدْ أَمْكَنَ إيجَابُ الْأَوْكَسِ إذْ الْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ فَصَارَ كَالْخُلْعِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ مَهْرُ الْمِثْلِ إذْ هُوَ الْأَعْدَلُ، وَالْعُدُولُ عَنْهُ عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَقَدْ فَسَدَتْ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ بِخِلَافِ الْخُلْعِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي الْبَدَلِ، إلَّا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْأَرْفَعِ فَالْمَرْأَةُ رَضِيَتْ بِالْحَطِّ، وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ مِنْ الْأَوْكَسِ فَالزَّوْجُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ، وَالْوَاجِبُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مِثْلِهِ الْمُتْعَةُ وَنِصْفُ الْأَوْكَسِ يَزِيدُ عَلَيْهَا فِي الْعَادَةِ فَوَجَبَ لِاعْتِرَافِهِ بِالزِّيَادَةِ.
(وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى حَيَوَانٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَلَهَا الْوَسَطُ مِنْهُ، وَالزَّوْجُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَعْطَاهَا ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهَا قِيمَتَهُ)
بِخِلَافِ التَّسْمِيَةِ لِأَنَّهَا تَقْبَلُهُمَا.
وَقَوْلُهُ إلَّا مَهْرَ الْمِثْلِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ هُوَ الْأَعْدَلَ كَانَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَاجِبًا فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ (إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْأَرْبَعِ فَالْمَرْأَةُ رَضِيَتْ بِالْحَطِّ وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ مِنْ الْأَوْكَسِ فَالزَّوْجُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ) فَعَمَلُنَا بِرِضَاهُمَا. وَقَوْلُهُ (وَالْوَاجِبُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَجِبَ نِصْفُ الْأَرْفَعِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْأَرْفَعُ مَهْرًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُ الْمُسَمَّى. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مِثْلِهِ وَهُوَ مَا تَكُونُ التَّسْمِيَةُ فِيهِ فَاسِدَةَ الْمُتْعَةِ (وَنِصْفُ الْأَوْكَسِ يَزِيدُ عَلَيْهَا عَادَةً فَوَجَبَ لِاعْتِرَافِهِ بِالزِّيَادَةِ)
قَالَ (وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى حَيَوَانٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ)
قَالَ رحمه الله: مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُسَمِّيَ جِنْسَ الْحَيَوَانِ دُونَ الْوَصْفِ، بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى فَرَسٍ أَوْ حِمَارٍ. أَمَّا إذَا لَمْ يُسَمِّ الْجِنْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى دَابَّةٍ لَا تَجُوزُ التَّسْمِيَةُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ تَزَوَّجْتُكِ عَلَى حِمَارٍ أَوْ فَرَسٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُسَمِّيَ جِنْسَ الْحَيَوَانِ دُونَ الْوَصْفِ) يُرِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: جَيِّدٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيءٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِهِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْفَرَسَ وَالْحِمَارَ نَوْعٌ لَا جِنْسٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مِنْ الْجِنْسِ اسْمَ الْجِنْسِ وَهُوَ مَا عُلِّقَ عَلَى شَيْءٍ وَعَلَى كُلِّ مَا أَشْبَهَهُ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ أَمَّا إذَا لَمْ يُسَمِّ الْجِنْسَ بِأَنْ تَزَوَّجَ عَلَى دَابَّةٍ لَا تَجُوزُ التَّسْمِيَةُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنَّهُ اسْمُ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ مَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ لَا يَصْلُحُ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَاوَضَةٌ. وَلَنَا أَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ فَجَعَلْنَاهُ الْتِزَامَ الْمَالِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَا يَفْسُدُ بِأَصْلِ الْجَهَالَةِ كَالدِّيَةِ وَالْأَقَارِيرِ، وَشَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا وَسَطُهُ مَعْلُومٌ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ، وَذَلِكَ عِنْدَ إعْلَامِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَالْوَسَطُ ذُو حَظٍّ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ جَهَالَةِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَسَطَ لَهُ لِاخْتِلَافِ مَعَانِي الْأَجْنَاسِ، وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُضَايَقَةِ وَالْمُمَاكَسَةِ،
جِنْسٍ بِالتَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ مَا عُلِّقَ عَلَى شَيْءٍ وَعَلَى كُلِّ مَا أَشْبَهَهُ وَلَمْ تَصِحَّ بِهِ التَّسْمِيَةُ. وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ بِالْجِنْسِ مَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ النَّوْعُ بِاصْطِلَاحِ غَيْرِهِمْ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ) وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ) مَعْنَاهُ أَنَّ فِي النِّكَاحِ مَعْنَى الْتِزَامِ الْمَالِ ابْتِدَاءً وَمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، أَمَّا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَعْنَى الْتِزَامِ الْمَالِ ابْتِدَاءً: يَعْنِي بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ وَكَانَ كَالدِّيَةِ وَالْأَقَارِيرِ حَيْثُ يَلْزَمُ فِيهِمَا أَيْضًا مَالٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضٌ مَالِيٌّ فَعَمَلُنَا بِمَعْنَى الْتِزَامِ الْمَالِ ابْتِدَاءً، وَقُلْنَا: لَا يَفْسُدُ بِأَصْلِ الْجَهَالَةِ فِي مِثْلِهِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي مِثْلِهِ مُتَحَمَّلَةٌ كَمَا فِي الدِّيَةِ فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ فِيهَا مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ وَكَمَا فِي الْأَقَارِيرِ، فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِشَيْءٍ صَحَّ إقْرَارُهُ وَعَمِلْنَا بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ (وَشَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا) مَعْلُومَ الْوَسَطِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ كَمَا وَجَبَ فِي الزَّكَاةِ ذَلِكَ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ (وَذَلِكَ) إنَّمَا يُتَصَوَّرُ (عِنْدَ إعْلَامِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ، وَالْوَسَطُ ذُو حَظٍّ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ جَهَالَةِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ لَا وَسَطَ لَهُ حِينَئِذٍ لِاخْتِلَافِ مَعَانِي الْأَجْنَاسِ) فَإِنَّهُ إذَا قَالَ عَلَى دَابَّةٍ لَمْ يَجِدْ نَوْعًا يُتَوَسَّطُ فَيَلْزَمُهُ.
قَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ مَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا لَا يَصْلُحُ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ (مَبْنَاهُ عَلَى الْمُضَايَقَةِ وَالْمُمَاكَسَةِ) أَيْ الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْتِزَامِ الْمَالِ ابْتِدَاءً فَيَفْسُدُ بِأَصْلِ الْجَهَالَةِ
أَمَّا النِّكَاحُ فَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّ الْوَسَطَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْقِيمَةِ فَصَارَتْ أَصْلًا فِي حَقِّ الْإِيفَاءِ، وَالْعَبْدُ أَصْلُ تَسْمِيَةٍ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا.
(وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَمَعْنَاهُ: ذَكَرَ الثَّوْبَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ) وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ جَهَالَةُ الْجِنْسِ إذْ الثِّيَابُ أَجْنَاسٌ، وَلَوْ سَمَّى جِنْسًا بِأَنْ قَالَ هَرَوِيٌّ يَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيُخَيَّرُ الزَّوْجُ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا إذَا بَالَغَ فِي وَصْفِ الثَّوْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَكَذَا إذَا سَمَّى مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا وَسَمَّى جِنْسَهُ دُونَ صِفَتِهِ، وَإِنْ سَمَّى جِنْسَهُ وَصِفَتَهُ لَا يُخَيَّرُ؛ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ مِنْهُمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا
أَمَّا النِّكَاحُ فَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ) فَلَا يَفْسُدُ بِالْجَهَالَةِ مَا لَمْ تَفْحُشْ.
وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَالزَّوْجُ مُخَيَّرٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَسَطِ وَالْقِيمَةِ جِهَةَ أَصَالَةٍ، أَمَّا الْقِيمَةُ فَلِأَنَّ الْوَسَطَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْقِيمَةِ فَصَارَتْ أَصْلًا فِي حَقِّ الْإِيفَاءِ، وَأَمَّا الْوَسَطُ فَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَقَعَتْ عَلَيْهِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَتُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْقَبُولِ بِأَيِّهِمَا أَتَى.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ) يَعْنِي لَمْ يَذْكُرْ نَوْعًا مِنْهُ. وَقَوْلُهُ (إذْ الثِّيَابُ أَجْنَاسٌ) يَعْنِي أَنَّهَا تَكُونُ قُطْنًا وَكَتَّانًا وَإِبْرَيْسَمًا وَغَيْرَهَا. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا بَالَغَ فِي وَصْفِ الثَّوْبِ) مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِيهِ هُوَ أَنْ يُوصِلَهُ إلَى حَدٍّ يَجُوزُ فِيهِ عَقْدُ السَّلَمِ.
وَقَوْلُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّوْجَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْوَسَطِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّهُ بِالْمُبَالَغَةِ فِيهِ يَلْتَحِقُ بِذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَلِهَذَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ ضَرَبَ الْأَجَلَ يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ بِضَرْبِ الْأَجَلِ صَارَ نَظِيرَ السَّلَمِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بِدَلِيلِ أَنَّ مُسْتَهْلِكَهَا لَا يَضْمَنُ الْمِثْلَ فَصَارَتْ كَالْعَبْدِ (وَكَذَا إذَا سَمَّى مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا وَسَمَّى جِنْسَهُ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ تَزَوَّجْتُك عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ مَنٍّ مِنْ زَعْفَرَانٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ كَانَ الزَّوْجُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْوَسَطِ وَقِيمَتِهِ (وَإِنْ سَمَّى جِنْسَهُ وَصِفَتَهُ لَا يُخَيَّرُ) بَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْوَسَطِ (لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ مِنْهُمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا) حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا وَلِهَذَا
(وَإِنْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا)؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْخَمْرِ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لَكِنْ لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ لِمَا أَنَّ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ.
(فَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنْ الْخَلِّ فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: لَهَا
جَازَ اسْتِقْرَاضُهُ وَالسَّلَمُ فِيهِ.
قَوْلُهُ (وَإِنْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْخَمْرِ شَرْطٌ فَاسِدٌ) مَعْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَزَوَّجْتُك عَلَى خَمْرٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ تَزَوَّجْتُك بِشَرْطِ قَبُولِك الْخَمْرَ، هَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ لَا يَرْبُو عَلَى تَرْكِ التَّسْمِيَةِ أَصْلًا وَذَلِكَ لَا يُفْسِدُهُ فَهَذَا أَوْلَى (بِخِلَافِ الْبَيْعِ) لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ بِمَعْنَى الرِّبَا وَهُوَ يُفْسِدُهُ، وَفِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ إشَارَةٌ إلَى رَدِّ قِيَاسِ مَالِكٍ النِّكَاحَ عَلَى الْبَيْعِ فَإِنَّهُ قَالَ تَسْمِيَةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ تَمْنَعُ وُجُوبَ عَرَضٍ آخَرَ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بِالْعَقْدِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَانَ كَمَا لَوْ بَاعَ عَيْنًا بِهِمَا، وَقُلْنَا: لَمَّا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ فِي نَفْسِهَا لِكَوْنِ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ: أَيْ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لَمْ تَمْنَعْ وُجُوبَ الْغَيْرِ فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ.
قَالَ (فَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنْ الْخَلِّ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ.
وَحَاصِلُ اخْتِلَافِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ
مِثْلُ وَزْنِهِ خَلًّا، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجِبُ الْقِيمَةُ) لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَطْمَعَهَا مَالًا وَعَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ أَوْ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ الْمُسَمَّى قَبْلَ التَّسْلِيمِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: اجْتَمَعَتْ الْإِشَارَةُ وَالتَّسْمِيَةُ فَتُعْتَبَرُ الْإِشَارَةُ لِكَوْنِهَا أَبْلَغَ فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّعْرِيفُ، فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَ عَلَى خَمْرٍ أَوْ حُرٍّ.
بِالتَّسْمِيَةِ دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ فِي إيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْقِيمَةِ. ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْإِشَارَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا، وَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا وَالْإِشَارَةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَالتَّسْمِيَةُ فِي الْجِنْسَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَالْمُصَنِّفُ قَدَّمَ دَلِيلَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، ثُمَّ ذَكَرَ دَلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ فِيهِ (لِكَوْنِهَا) يَعْنِي الْإِشَارَةَ (أَبْلَغَ فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّعْرِيفُ) لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِمَنْزِلَةِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ، وَيَحْصُلُ بِهَا كَمَالُ التَّمْيِيزِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الشَّيْءِ وَارِدَةٌ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ، وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ فَمِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ، وَيَجُوزُ إطْلَاقُ اللَّفْظِ وَإِرَادَةُ غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَأَخَّرَ دَلِيلَ مُحَمَّدٍ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى اخْتِيَارِ مَذْهَبِهِ، وَدَلِيلُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى تَقْدِيمِ مُقَدِّمَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَاهِيَّةِ هُوَ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ وَبِالذَّاتِ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إلَيْهِ إشَارَةً حِسِّيَّةً.
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِنْسِ مَا يَكُونُ الْفَاصِلُ بَيْنَ آحَادِهِ أَمْرًا وَاحِدًا فَيَكُونُ التَّفَاوُتُ يَسِيرًا كَالْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالْمَيْتَةِ وَالْمُذَكَّاةِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي غَيْرِ الْإِنْسَانِ، وَبِالْجِنْسَيْنِ مَا يَكُونُ الْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيَفْحُشُ التَّفَاوُتُ كَالْخَلِّ وَالْخَمْرِ فَإِنَّ الْفَاصِلَ بَيْنَهُمَا الِاسْمُ وَالصِّفَةُ كَالْحُمُوضَةِ فِي الْخَلِّ وَالْحِدَّةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَعْنَى كَالْإِسْكَارِ وَعَدَمِهِ، وَالْجَارِيَةِ وَالْعَبْدِ فَإِنَّ الْفَاصِلَ بَيْنَهُمَا الِاسْمُ وَالصِّفَةُ، فَإِذَا ظَهَرَ هَذَا فَإِذَا اجْتَمَعَتْ التَّسْمِيَةُ وَالْإِشَارَةُ فِي الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى وَالْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمُشَارَ إلَيْهِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ هُنَاكَ لَا تَدُلُّ عَلَى مَاهِيَّةٍ أُخْرَى وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ وَالصِّفَةُ تَتْبَعُ الْمَوْصُوفَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالْمَوْصُوفُ مَوْجُودٌ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ لَوْلَا الصِّفَةُ وَلَمْ تُعْتَبَرْ الصِّفَةُ لِتَبَعِيَّتِهَا وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ، فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمُسَمَّى لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ حِينَئِذٍ تَدُلُّ عَلَى مَاهِيَّةِ خِلَافِ الْمُشَارِ إلَيْهِ فَيَكُونُ الْمُسَمَّى مِثْلَ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي اسْتِحْقَاقِ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا وَلَا يَكُونَ تَابِعًا لَهُ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِعَدَمِ شَيْءٍ لَا يَتْبَعُهُ فَيَتَعَارَضَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَالتَّسْمِيَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ إذَا كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَعْرِفُ الْمَاهِيَّةَ، وَالْإِشَارَةُ إنَّمَا تُعْرَفُ ذَاتًا مُشَارًا إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ. هَذَا الَّذِي سَنَحَ لِي
وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَوْجُودٌ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ ذَاتًا، وَالْوَصْفُ يَتْبَعُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ
فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ، وَأَزِيدُك بَيَانًا وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ دَلَّتْ التَّسْمِيَةُ فِيهِ عَلَى مَعْنًى يَتَحَقَّقُ الْمُشَارُ إلَيْهِ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِ فَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّ صِفَةَ كَوْنِهِ عَبْدًا إذَا ارْتَفَعَتْ عَادَ حُرًّا لِعَدَمِ الْوَاسِطَةِ، وَكَذَا فِي الْمَيْتَةِ وَالذَّكِيَّةِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَكُلِّ مَوْضِعٍ دَلَّتْ التَّسْمِيَةُ فِيهِ عَلَى مَعْنًى لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمُشَارُ إلَيْهِ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِ لِوُجُودِ الْوَاسِطَةِ فَهُمَا جِنْسَانِ، فَإِنَّ صِفَةَ كَوْنِهِ خَلًّا إذَا ارْتَفَعَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ خَمْرًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَصِيرًا، وَكَذَا إذَا ارْتَفَعَ كَوْنُهَا جَارِيَةً
خِلَافِ جِنْسِهِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مِثْلُ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَلَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ، وَالتَّسْمِيَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُعَرِّفُ الْمَاهِيَّةَ، وَالْإِشَارَةُ تُعَرِّفُ الذَّاتَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ فَإِذَا هُوَ أَخْضَرُ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْعَبْدُ مَعَ الْحُرِّ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَنَافِعِ، وَالْخَمْرُ مَعَ الْخَلِّ جِنْسَانِ لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَقَاصِدِ.
(فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا حُرٌّ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْبَاقِي إذَا سَاوَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)
لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ حُرَّةً.
وَعَلَى هَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا حُرٌّ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْبَاقِي إذَا سَاوَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْإِشَارَةَ وَالْإِشَارَةُ إلَى الْحُرِّ تُخْرِجُهُ عَنْ الْعَقْدِ فَكَانَ تَسْمِيَةُ الْعَبْدِ الثَّانِي لَغْوًا وَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ.
وَوَجْهُ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ، وَكَذَا وَجْهُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ تُعْتَبَرُ الْإِشَارَةُ، وَلَوْ كَانَا حُرَّيْنِ وَجَبَ تَمَامُ مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَهُ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا يَجِبُ الْعَبْدُ وَتَمَامُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ فِي دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ
لِأَنَّهُ مُسَمًّى، وَوُجُوبُ الْمُسَمَّى وَإِنْ قَلَّ يَمْنَعُ وُجُوبَ مَهْرِ الْمِثْلِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا الْعَبْدُ وَقِيمَةُ الْحُرِّ عَبْدًا)؛ لِأَنَّهُ أَطْمَعَهَا سَلَامَةَ الْعَبْدَيْنِ وَعَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ أَحَدِهِمَا فَتَجِبُ قِيمَتُهُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (لَهَا الْعَبْدُ الْبَاقِي وَتَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا إنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ)؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا حُرَّيْنِ يَجِبُ تَمَامُ مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَهُ
مُسَمًّى بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْطَلَتْ الْعَبْدَ الثَّانِيَ. وَقَوْلُهُ (وَوُجُوبُ الْمُسَمَّى وَإِنْ قَلَّ يَمْنَعُ وُجُوبَ مَهْرِ الْمِثْلِ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِمَا قَالَ قَبْلَ هَذَا، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إنْ أَقَامَ بِهَا إلَى أَنْ قَالَ وَإِنْ أَخْرَجَهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَبِمَا قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَلَى أَنْ يُعْتِقَ أَبَاهَا ثُمَّ إنْ لَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ فَلَهَا الْأَلْفُ إلَى تَمَامِ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْمُسَمَّى لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ اُسْتُحِقَّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، فَفَوَاتُهُ يُوجِبُ فَوَاتَ رِضَاهَا فَيُكْمِلُ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ. وَأَمَّا الْحُرُّ فَلَمْ يُسْتَحَقَّ أَصْلًا، وَبِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى مَا شُرِطَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّهُ شَرْطٌ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ لَهَا إلَى تَمَامِ مَهْرِ مِثْلٍ لَزِمَهَا ضَرَرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ
فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا يَجِبُ الْعَبْدُ وَتَمَامُ مَهْرِ الْمِثْلِ.
(وَإِذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ قَبْلَ الدُّخُولِ
عَنْهُ، أَمَّا هَاهُنَا فَيُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ قَبْلَ النِّكَاحِ بِالتَّفَحُّصِ، فَلَوْ لَزِمَهَا ضَرَرٌ لَزِمَهَا بِضَرْبٍ مِنْ تَقْصِيرِهَا.
قَالَ (وَإِذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ) النِّكَاحُ الْفَاسِدُ مِثْلُ النِّكَاحِ بِلَا شُهُودٍ وَنِكَاحِ
فَلَا مَهْرَ لَهَا)؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ فِيهِ لَا يَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ لِفَسَادِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ (وَكَذَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ)؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ فِيهِ لَا يَثْبُتُ بِهَا التَّمَكُّنُ فَلَا تُقَامُ مَقَامَ الْوَطْءِ (فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُزَادُ عَلَى الْمُسَمَّى) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَوْفَى لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالتَّسْمِيَةِ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ تَجِبْ الزِّيَادَةُ لِعَدَمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنْ نَقَصَتْ لَمْ تَجِبْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُسَمَّى
الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَنِكَاحِ الْخَامِسَةِ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ وَنَحْوِهَا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (هُوَ يَعْتَبِرُهُ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ) يَعْنِي أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ تَجِبُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَإِنْ زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبًا أَصْلِيًّا، فَإِذَا اعْتَرَضَ الْفَسَادُ يُرْجَعُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ (وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَوْفَى) أَيْ مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ بِهَذَا الْعَقْدِ هُوَ (لَيْسَ بِمَالٍ) وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ، فَالْمُسْتَوْفَى بِهِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ (وَإِنَّمَا يُتَقَوَّمُ بِالتَّسْمِيَةِ) وَالتَّسْمِيَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ فَبَطَلَتْ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقَوُّمِ الْمُسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ شَرْعًا فَصِرْنَا إلَى مَا هُوَ قِيمَتُهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ وَهُوَ عَقْدُ الْمُفَوِّضَةِ إذَا كَانَ صَحِيحًا وَذَلِكَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَيَبْطُلُ،
لِانْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي نَفْسِهِ فَيَتَقَدَّرُ بَدَلُهُ بِقِيمَتِهِ
مَا زَادَ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَنْقُصَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ إذَا زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى لَكِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُسَمَّى لَا تَجِبُ (لِانْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ) أَيْ تَسْمِيَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى. فَإِنْ قُلْت: هَلْ هَذَا إلَّا تَنَاقُضٌ لِأَنَّك أَسْقَطْت اعْتِبَارَ التَّسْمِيَةِ إذَا زَادَتْ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ثُمَّ اعْتَبَرْتهَا إذَا نَقَصَتْ مِنْهُ وَهِيَ إنْ كَانَتْ فَاسِدَةً يَجِبُ شُمُولُ الْعَدَمِ وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً يَجِبُ شُمُولُ الْوُجُودِ؟ قُلْت: هِيَ صَحِيحَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، صَحِيحَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ، فَاسِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا وُجِدَتْ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ فَاعْتَبَرْنَا فَسَادَهَا إذَا زَادَتْ وَصِحَّتَهَا إذَا انْتَقَصَتْ لِانْضِمَامِ رِضَاهَا إلَيْهَا، وَهَذَا الْحَلُّ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الشَّرْحِ. وَإِنَّمَا قَيَّدْت الْمُسْتَوْفَى بِقَوْلِي بِهَذَا الْعَقْدِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ وَلِئَلَّا يَنْتَقِضَ بِالْمُفَوِّضَةِ فَإِنَّ الْمُسْتَوْفَى هُنَاكَ أَيْضًا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَمْ يُتَقَوَّمْ بِالتَّسْمِيَةِ بَلْ بِالْعَقْدِ.
وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ
(وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ) إلْحَاقًا لِلشُّبْهَةِ بِالْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ وَتَحَرُّزًا عَنْ اشْتِبَاهِ النَّسَبِ.
وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ التَّفْرِيقِ لَا مِنْ آخِرِ الْوَطَآتِ، هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ النِّكَاحِ وَرَفْعُهَا بِالتَّفْرِيقِ
زُفَرَ وَهُوَ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ) يَعْنِي فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إذَا دَخَلَ بِهَا لِمَا ذَكَرَ أَنَّ الْخَلْوَةَ فِيهِ لَا تَقُومُ مَقَامَ الدُّخُولِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَقِيقَةِ الدُّخُولِ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَيُعْتَبَرُ الْجِمَاعُ فِي الْقُبُلِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَوْفِيًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ (إلْحَاقًا لِلشُّبْهَةِ بِالْحَقِيقَةِ) أَيْ الثَّابِتِ مِنْ وَجْهٍ بِالثَّابِتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ) وَكَانَ قَوْلُهُ (وَتَحَرُّزًا عَنْ اشْتِبَاهِ النَّسَبِ) تَفْسِيرًا لِلِاحْتِيَاطِ بِطَرِيقِ الْعَطْفِ (وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ التَّفْرِيقِ لَا مِنْ آخِرِ الْوَطَآتِ) وَقَالَ زُفَرُ: يُعْتَبَرُ مِنْ آخِرِ الْوَطَآتِ حَتَّى إذَا وَطِئَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ثُمَّ رَأَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ ثُمَّ فَرَّقَ الْقَاضِي تَعْتَدُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ تَكُونُ عِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةً. وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ زُفَرَ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا تَجِبُ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ النِّكَاحِ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ وُجُودُ رُكْنِهِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ (وَ) شُبْهَةُ النِّكَاحِ (رَفَعَهَا بِالتَّفْرِيقِ) وَقَوْلُهُ التَّفْرِيقَ فِي مَوْضِعَيْنِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُفَرِّقٍ وَلَيْسَ رَفْعُ النِّكَاحِ مَوْقُوفًا عَلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ فَسْخُ هَذَا النِّكَاحِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ. وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْفَسْخِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ حَقَّ الْفَسْخِ دُونَ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيقُ بِمَعْنَى الرَّفْعِ وَالرَّافِعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا رَفَعَا حُكْمَهُمَا إلَى الْحَاكِمِ.
(وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا)؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ إحْيَاءً لِلْوَلَدِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى الثَّابِتِ مِنْ وَجْهٍ. وَتُعْتَبَرُ مُدَّةُ النَّسَبِ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِدَاعٍ إلَيْهِ، وَالْإِقَامَةُ بِاعْتِبَارِهِ.
قَالَ (وَمَهْرُ مِثْلِهَا يُعْتَبَرُ بِأَخَوَاتِهَا وَعَمَّاتِهَا وَبَنَاتِ أَعْمَامِهَا)" لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَهَا مَهْرُ مِثْلِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ " وَهُنَّ أَقَارِبُ الْأَبِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ جِنْسِ قَوْمِ أَبِيهِ، وَقِيمَةُ الشَّيْءِ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالنَّظَرِ فِي قِيمَةِ جِنْسِهِ
وَقَوْلُهُ (وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا) ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ (وَتُعْتَبَرُ مُدَّةُ النَّسَبِ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ كَمَا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَاسِدِ يُؤْخَذُ مِنْ الصَّحِيحِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ (لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِدَاعٍ إلَيْهِ وَالْإِقَامَةَ بِاعْتِبَارِهِ) أَيْ إقَامَةَ النِّكَاحِ مَقَامَ الْوَطْءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النِّكَاحَ دَاعٍ إلَى الْوَطْءِ وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَيْسَ بِدَاعٍ إلَيْهِ فَلَا يُقَامُ مَقَامَهُ، وَفِي تَعْلِيلِهِ هَذَا إشَارَةٌ إلَى فَسَادِ قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
قَالَ (وَمَهْرُ مِثْلِهَا يُعْتَبَرُ بِأَخَوَاتِهَا وَعَمَّاتِهَا) اعْلَمْ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يُعْتَبَرُ بِعَشِيرَتِهَا الَّتِي مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا كَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الْأَعْمَامِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُعْتَبَرُ بِأُمِّهَا وَقَوْمِ أُمِّهَا كَالْخَالَاتِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ الْمَهْرَ قِيمَةُ بُضْعِ النِّسَاءِ فَيُعْتَبَرُ بِالْقَرَابَاتِ مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ. وَلَنَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ (لَهَا مَهْرُ مِثْلِ نِسَائِهَا وَهُنَّ أَقَارِبُ الْأَبِ)
(وَلَا يُعْتَبَرُ بِأُمِّهَا وَخَالَتِهَا إذَا لَمْ تَكُونَا مِنْ قَبِيلَتِهَا) لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا بِأَنْ كَانَتْ بِنْتَ عَمِّهِ فَحِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ بِمَهْرِهَا لِمَا أَنَّهَا مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا.
(وَيُعْتَبَرُ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ أَنْ تَتَسَاوَى الْمَرْأَتَانِ فِي السِّنِّ وَالْجَمَالِ وَالْمَالِ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ وَالْبَلَدِ وَالْعَصْرِ)؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَكَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ وَالْعَصْرِ قَالُوا: وَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي أَيْضًا فِي الْبَكَارَةِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِالْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ
(وَإِذَا ضَمِنَ الْوَلِيُّ الْمَهْرَ صَحَّ ضَمَانُهُ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ وَقَدْ أَضَافَهُ إلَى مَا يَقْبَلُهُ فَيَصِحُّ
لِأَنَّهُ أَضَافَ إلَيْهَا وَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى أَقَارِبِ الْأَبِ لِأَنَّ النَّسَبَ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ قِيمَةَ الشَّيْءِ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالرُّجُوعِ إلَى قِيمَةِ جِنْسِهِ وَالْإِنْسَانُ مِنْ جِنْسِ قَوْمِ أَبِيهِ لَا مِنْ جِنْسِ قَوْمِ أُمِّهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُمَّ قَدْ تَكُونُ أَمَةً وَالِابْنَةَ تَكُونُ قُرَشِيَّةً تَبَعًا لِأَبِيهَا (وَلَا يُعْتَبَرُ بِأُمِّهَا وَخَالَتِهَا إذَا لَمْ تَكُونَا مِنْ قَبِيلَتِهَا) بِأَنْ يَكُونَ أَبُوهَا تَزَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ فَإِنَّ أُمَّهَا وَخَالَتَهَا تَكُونُ مِنْ قَبِيلَتِهَا. وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَقِيمَةُ الشَّيْءِ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالنَّظَرِ فِي قِيمَةِ جِنْسِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَيُعْتَبَرُ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (بِاخْتِلَافِ الدَّارِ) أَيْ الْبَلَدِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قِيمَةُ الْبُضْعِ وَقِيمَةُ الشَّيْءِ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالرُّجُوعِ إلَى نَظِيرِهِ بِصِفَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالسِّنِّ السِّنُّ وَقْتَ التَّزَوُّجِ.
(وَإِذَا ضَمِنَ الْوَلِيُّ الْمَهْرَ صَحَّ ضَمَانُهُ) يَعْنِي إذَا زَوَّجَ الْوَلِيُّ ابْنَتَهُ وَضَمِنَ لَهَا الْمَهْرَ عَنْ الزَّوْجِ صَحَّ (لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ، وَقَدْ أَضَافَ الضَّمَانَ إلَى مَا يَقْبَلُ الضَّمَانَ) وَهُوَ الْمَهْرُ لِأَنَّ الْمَهْرَ دَيْنٌ وَالْكَفَالَةُ وَالضَّمَانُ يَصِحَّانِ فِيهِ. فَإِنْ قُلْت: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ الْوَلِيَّ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ وَضَمِنَ عَنْهُ الْمَهْرَ لِلْمَرْأَةِ. قُلْت يَنْبُو عَنْهُ قَوْلُهُ ثُمَّ الْمَرْأَةُ بِالْخِيَارِ وَإِنْ كَانَا فِي الصِّحَّةِ سَوَاءً؛
(ثُمَّ الْمَرْأَةُ بِالْخِيَارِ فِي مُطَالَبَتِهَا زَوْجَهَا أَوْ وَلِيَّهَا) اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْكَفَالَاتِ، وَيَرْجِعُ الْوَلِيُّ إذَا أَدَّى عَلَى الزَّوْجِ إنْ كَانَ بِأَمْرٍ كَمَا هُوَ الرَّسْمُ فِي الْكَفَالَةِ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ هَذَا الضَّمَانُ وَإِنْ كَانَتْ الْمُزَوَّجَةُ صَغِيرَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْأَبُ مَالَ الصَّغِيرَةِ وَضَمِنَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ فِي النِّكَاحِ، وَفِي الْبَيْعِ عَاقِدٌ وَمُبَاشِرٌ حَتَّى تَرْجِعَ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ وَالْحُقُوقُ إلَيْهِ، وَيَصِحُّ إبْرَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ،
وَذَكَرَ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ مِنْ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْأَبَ إذَا زَوَّجَ الصَّغِيرَ امْرَأَةً فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تُطَالِبَ بِالْمَهْرِ مِنْ أَبِ الزَّوْجِ فَيُؤَدِّيَ الْأَبُ مِنْ مَالِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ الْأَبُ بِاللَّفْظِ صَرِيحًا، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إذَا زَوَّجَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُطَالِبَ الْوَكِيلَ بِالْمَهْرِ مَا لَمْ يَضْمَنْ.
وَقَوْلُهُ ثُمَّ الْمَرْأَةُ بِالْخِيَارِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَيَصِحُّ إبْرَاؤُهُ) أَيْ إبْرَاءُ الْأَبِ الْمُشْتَرِيَ وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ
وَيَمْلِكُ قَبْضَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَلَوْ صَحَّ الضَّمَانُ يَصِيرُ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ وَوِلَايَةُ قَبْضِ الْمَهْرِ لِلْأَبِ بِحُكْمِ الْأُبُوَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَاقِدٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ بَعْدَ بُلُوغِهَا فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ.
قَالَ (وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا حَتَّى تَأْخُذَ الْمَهْرَ وَتَمْنَعَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا) أَيْ يُسَافِرَ بِهَا لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ كَمَا تَعَيَّنَ حَقُّ الزَّوْجِ فِي الْمُبْدَلِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ السَّفَرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ وَزِيَارَةِ أَهْلِهَا حَتَّى يُوَفِّيَهَا الْمَهْرَ كُلَّهُ: أَيْ الْمُعَجَّلُ مِنْهُ
وَيَمْلِكُ قَبْضَهُ) أَيْ يَمْلِكُ الْأَبُ قَبْضَ الثَّمَنِ بَعْدَ بُلُوغِ الصَّغِيرِ. وَقَوْلُهُ (وَوِلَايَةُ قَبْضِ الْمَهْرِ لِلْأَبِ بِحُكْمِ الْأُبُوَّةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ قَبْضَ الصَّدَاقِ أَيْضًا كَالْوَكِيلِ يَمْلِكُ قَبْضَ الثَّمَنِ، فَلَوْ صَحَّ الضَّمَانُ صَارَ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ فِي الْأَبِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا) أَيْ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى مَهْرٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ كُلُّهُ مُعَجَّلًا أَوْ مُؤَجَّلًا، أَوْ بَعْضُهُ مُعَجَّلًا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا؛ فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مُعَجَّلًا فَإِمَّا إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا (حَتَّى تَأْخُذَ الْمَهْرَ وَلَهَا أَنْ تَمْنَعَهُ عَنْ إخْرَاجِهَا) إلَى السَّفَرِ (لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ) وَهُوَ الْمَهْرُ (كَمَا تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِي الْمُبْدَلِ) وَهُوَ الْبُضْعُ (فَصَارَ كَالْبَيْعِ) فِي أَنَّ الْبَائِعَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَأْخُذَ الثَّمَنَ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ فِي التَّعْيِينِ (وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ السَّفَرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ
لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ قَبْلَ الْإِيفَاءِ، وَلَوْ كَانَ الْمَهْرُ كُلُّهُ مُؤَجَّلًا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا لِإِسْقَاطِهَا حَقَّهَا بِالتَّأْجِيلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ.
مَنْزِلِهِ وَزِيَارَةِ أَهْلِهَا حَتَّى يُوفِيَهَا الْمَهْرَ كُلَّهُ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقِّ وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ قَبْلَ الْإِيفَاءِ) وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَتَذَكَّرَهُ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مُؤَجَّلًا، فَإِمَّا أَنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا بِالتَّأْجِيلِ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: مُوجَبُ النِّكَاحِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَسْلِيمُ الْمَهْرِ أَوَّلًا عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا، فَحِينَ قَبِلَ الزَّوْجُ الْأَجَلَ مَعَ عِلْمِهِ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ فَقَدْ رَضِيَ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ إلَى أَنْ يُوفِيَ الْمَهْرَ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ أَوَّلًا لَيْسَ مِنْ مُوجَبَاتِ الْبَيْعِ لَا مَحَالَةَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ لَوْ كَانَ مُقَايَضَةً لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ أَوَّلًا فَلَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي رَاضِيًا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ فِي الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يُوفِيَ الثَّمَنَ.
وَقَوْلُهُ لِإِسْقَاطِهَا حَقَّهَا بِالتَّأْجِيلِ) فَإِطْلَاقُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا الْمَنْعُ لَا قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَلَا بَعْدَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، أَمَّا قَبْلَ الْحُلُولِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مَا أَوْجَبَ حَقَّ الْحَبْسِ فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَهُ، وَفِي هَذَا
فِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا. وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ الدُّخُولُ بِرِضَاهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ كَانَتْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا فِي الْحَبْسِ بِالِاتِّفَاقِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْخَلْوَةُ بِهَا بِرِضَاهَا. وَيَبْتَنِي عَلَى هَذَا اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ. لَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ كُلَّهُ قَدْ صَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِالْوَطْأَةِ الْوَاحِدَةِ وَبِالْخَلْوَةِ، وَلِهَذَا يَتَأَكَّدُ بِهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ فَلَمْ يَبْقَ لَهَا حَقُّ الْحَبْسِ، كَالْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ. وَلَهُ أَنَّهَا مَنَعَتْ مِنْهُ مَا قَابَلَ الْبَدَلَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَطْأَةٍ تُصْرَفُ فِي الْبُضْعِ الْمُحْتَرَمِ فَلَا يُخْلَى عَنْ الْعِوَضِ إبَانَةً لِخَطَرِهِ، وَالتَّأْكِيدُ بِالْوَاحِدَةِ لِجَهَالَةِ مَا وَرَاءَهَا فَلَا يَصْلُحُ مُزَاحِمًا لِلْمَعْلُومِ. ثُمَّ إذَا وُجِدَ آخَرُ وَصَارَ مَعْلُومًا تَحَقَّقَتْ الْمُزَاحَمَةُ وَصَارَ الْمَهْرُ مُقَابَلًا بِالْكُلِّ، كَالْعَبْدِ إذَا جَنَى جِنَايَةً يَدْفَعُ كُلَّهُ بِهَا، ثُمَّ إذَا جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى وَأُخْرَى يَدْفَعُ بِجَمِيعِهَا، وَإِذَا أَوْفَاهَا مَهْرَهَا
الْوَجْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقُّ الْمَنْعِ قَبْلَ الدُّخُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا ذَلِكَ بَعْدَهُ أَوْلَى. قَوْلُهُ (وَإِنْ دَخَلَ بِهَا) يَعْنِي فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ (فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) يَعْنِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا حَتَّى تَأْخُذَ الْمَهْرَ. وَقَالَا: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ إذَا كَانَ الدُّخُولُ بِرِضَاهَا، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهَا فِي الْحَبْسِ بِالِاتِّفَاقِ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْخَلْوَةُ بِهَا) إنْ كَانَتْ (بِرِضَاهَا) فَعَلَى الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ رِضَاهَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا بِالِاتِّفَاقِ (وَيُبْتَنَى عَلَى هَذَا اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ) تَسْتَحِقُّهَا مُدَّةَ الْمَنْعِ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ مَنْعٌ يَحِقُّ وَلَا تَسْتَحِقُّهَا عِنْدَهُمَا لِأَنَّهَا نَاشِزَةٌ (لَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ كُلَّهُ قَدْ صَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِالْوَطْأَةِ الْوَاحِدَةِ وَبِالْخَلْوَةِ وَلِهَذَا يَتَأَكَّدُ بِهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ) وَتَسْلِيمُهُ يَنْفِي حَقَّ الْحَبْسِ كَالْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ.
وَقَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّهَا مَنَعَتْ مِنْهُ) جَازَ أَنْ يَكُونَ مُنَاقَضَةً، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ كُلَّهُ قَدْ صَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِالْوَطْأَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّهَا مَنَعَتْ مِنْهُ (مَا قَابَلَ الْبَدَلَ لِأَنَّ كُلَّ وَطْأَةٍ تَصَرُّفٌ فِي الْبُضْعِ الْمُحْتَرَمِ) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ كُلِّهِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُعَارَضَةً وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهَا مَنَعَتْ مِنْهُ مَا قَابَلَ الْبَدَلَ لِأَنَّ كُلَّ وَطْأَةٍ تَصَرُّفٌ فِي الْبُضْعِ الْمُحْتَرَمِ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ لَا يُخَلَّى عَنْ الْبَدَلِ إبَانَةً لِخَطَرِهِ وَالْمَنْعُ عَمَّا يُقَابِلُ الْبَدَلَ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ وَالتَّأْكِيدُ بِالْوَاحِدَةِ) أَيْ بِالْوَطْأَةِ الْوَاحِدَةِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلِهَذَا يَتَأَكَّدُ بِهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مُعَجَّلًا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا كَانَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ قَبْلَ أَدَاءِ الْمُعَجَّلِ، فَإِذَا أَدَّى لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِهِ. فَإِنْ قُلْت: فَإِنْ سَمَّوْا الْمَهْرَ سَاكِتِينَ عَنْ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيرِ مَاذَا يَكُونُ حُكْمُهُ؟ قُلْت: يَجِبُ حَالًّا، وَقَدْ أُشِيرَ إلَى ذَلِكَ فِي دَلِيلِ أَبِي يُوسُفَ آنِفًا فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا شُرِطَ تَعْجِيلُهُ (وَإِذَا أَوْفَاهَا مَهْرَهَا
نَقَلَهَا إلَى حَيْثُ شَاءَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ، وَقِيلَ لَا يُخْرِجُهَا إلَى بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهَا؛ لِأَنَّ الْغَرِيبَ يُؤْذَى وَفِي قُرَى الْمِصْرِ الْقَرِيبَةِ لَا تَتَحَقَّقُ الْغُرْبَةُ. .
قَالَ (وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْمَهْرِ) فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِيمَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نِصْفِ الْمَهْرِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ، وَمَعْنَاهُ مَا لَا يُتَعَارَفُ مَهْرًا لَهَا
نَقَلَهَا إلَى حَيْثُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} وَقِيلَ لَا يُخْرِجُهَا إلَى بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهَا) وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ (لِأَنَّ الْغَرِيبَ يُؤْذِي) قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيُّ: الْأَخْذُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْفَقِيهَ هُوَ الَّذِي أَخَذَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ قَوْلَهُ {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} دَلِيلٌ مَخْصُوصٌ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ مُقَارِنٍ وَهُوَ قَوْلُهُ {وَلا تُضَارُّوهُنَّ} (وَفِي قُرَى الْمِصْرِ الْقَرِيبَةِ لَا تَتَحَقَّقُ الْغُرْبَةُ) سُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ عَمَّنْ يُخْرِجُهَا مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى الْقَرْيَةِ وَمِنْ الْقَرْيَةِ إلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ: ذَلِكَ تَبْوِئَةٌ وَلَيْسَ بِسَفَرٍ، وَإِخْرَاجُهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدِ سَفَرٍ لَيْسَ بِتَبْوِئَةٍ.
قَالَ (وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْمَهْرِ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاتِهِمَا أَوْ تَخْتَلِفَ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَمَاتِهِمَا أَوْ يَكُونَ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ كَانَ فِي حَيَاتِهِمَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ بَعْدَهُ. وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ التَّسْمِيَةِ أَوْ فِي مِقْدَارِ الْمُسَمَّى، أَمَّا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَ الْفُرْقَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إلَى تَمَامِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ وَرَثَتِهَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ أَوْ وَرَثَتِهِ فِي الزِّيَادَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَكَلَامُهُ فِي تَحْرِيرِ الْمَذَاهِبِ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ
هُوَ الصَّحِيحُ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ فِيهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَقَوُّمَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ ضَرُورِيٌّ، فَمَتَى أَمْكَنَ إيجَابُ شَيْءٍ مِنْ الْمُسَمَّى لَا يُصَارُ إلَيْهِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْقَوْلَ فِي الدَّعَاوَى قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، وَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي بَابِ النِّكَاحِ، وَصَارَ كَالصَّبَّاغِ مَعَ رَبِّ الثَّوْبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْأَجْرِ يَحْكُمُ فِيهِ الْقِيمَةَ الصَّبْغُ.
هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَكُونُ دُونَ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ مُسْتَنْكَرٌ شَرْعًا لِأَنَّهُ لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ مُرَادَهُ أَنْ يَدَّعِيَ شَيْئًا قَلِيلًا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُتَزَوَّجُ مِثْلُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَهْرِ عَادَةً فَإِنَّهُ ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ وَلَيْسَ فِي الثَّمَنِ تَقْدِيرٌ شَرْعًا.
وَقَوْلُهُ (لَا يُصَارُ إلَيْهِ) أَيْ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ.
ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي نِصْفِ الْمَهْرِ، وَهَذَا رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْأَصْلِ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَحْكُمُ مُتْعَةُ مِثْلِهَا وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ مُوجَبَةٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَمَهْرِ الْمِثْلِ قَبْلَهُ فَتَحْكُمُ كَهُوَ. وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَصْلِ فِي الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ، وَالْمُتْعَةُ لَا تَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ فِي الْعَادَةِ فَلَا يُفِيدُ تَحْكِيمُهَا، وَوَضْعُهَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فِي الْعَشَرَةِ وَالْمِائَةِ وَمُتْعَةُ مِثْلِهَا عِشْرُونَ فَيُفِيدُ تَحْكِيمَهَا، وَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ سَاكِتٌ عَنْ ذِكْرِ الْمِقْدَارِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ. وَشَرْحُ قَوْلِهِمَا فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا ادَّعَى الْأَلْفَ وَالْمَرْأَةَ الْأَلْفَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَلْفًا أَوْ أَقَلَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ أَلْفَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا،
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِمَا) أَيْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ.
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ مُوجِبَةٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ) أَيْ مُوجَبِ الْعَقْدِ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ (كَمَهْرِ الْمِثْلِ قَبْلَهُ) أَيْ قَبْلَ الطَّلَاقِ (فَتَحَكُّمٌ) الْمُتْعَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَمَهْرِ الْمِثْلِ قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُ (وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ) أَيْ بَيْنَ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَبَيْنَ رِوَايَتَيْ الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ) يَعْنِي مَعَ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الدَّعَاوَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ نَكَلَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ (وَإِنْ كَانَ أَلْفَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا) أَيْ مَعَ يَمِينِهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عَلَيْهَا الْحَطَّ وَهِيَ تُنْكِرُ، فَإِنْ نَكَلَتْ يُقْضَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالْحَطِّ، وَإِنْ حَلَفَتْ يُقْضَى لَهَا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَلْفٍ بِطَرِيقِ التَّسْمِيَةِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى تَسْمِيَةِ الْأَلْفِ وَأَلْفٍ بِاعْتِبَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَفَائِدَةُ هَذَا أَنَّهُ يُخَيَّرُ الزَّوْجُ فِي هَذَا الْأَلْفِ إنْ شَاءَ
وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فِي الْوَجْهَيْنِ تُقْبَلُ. وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْحَطَّ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ تَحَالَفَا، وَإِذَا حَلَفَا يَجِبُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ.
أَعْطَى الدَّرَاهِمَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الدَّنَانِيرَ (وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ فِيمَا إذَا شَهِدَ مَهْرُ الْمِثْلِ لِلزَّوْجِ وَفِيمَا إذَا شَهِدَ مَهْرُ الْمِثْلِ لِلْمَرْأَةِ (تُقْبَلُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ مَا إذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ شَاهِدًا لِلزَّوْجِ (تُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي) وَهُوَ مَا إذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ شَاهِدًا لِلْمَرْأَةِ تُقْبَلُ (بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْحَطَّ) وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُثْبِتُ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ ظَاهِرًا (وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ تَحَالَفَا) لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عَلَيْهَا الْحَطَّ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهِيَ تُنْكِرُ، وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِي عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْرِعَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فِي الْبِدَايَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا، فَإِنْ نَكَلَ الزَّوْجُ يُقْضَى بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ صَرِيحًا، وَإِنْ نَكَلَتْ الْمَرْأَةُ وَجَبَ الْمُسَمَّى أَلْفٌ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالْحَطِّ، وَإِنْ حَلَفَا جَمِيعًا وَجَبَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ أَلْفٌ بِطَرِيقِ التَّسْمِيَةِ لَا يُخَيَّرُ الزَّوْجُ فِيهَا لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى تَسْمِيَةِ الْأَلْفِ وَخَمْسُمِائَةٍ بِاعْتِبَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ يُخَيَّرُ فِيهَا الزَّوْجُ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَقَامَا يُقْضَى بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ أَلْفٍ بِطَرِيقِ التَّسْمِيَةِ وَخَمْسِمِائَةٍ بِاعْتِبَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ بَطَلَتَا لِمَكَانِ التَّعَارُضِ،
هَذَا تَخْرِيجُ الرَّازِيّ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: يَتَحَالَفَانِ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ يَحْكُمُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ الْمُسَمَّى يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ تَعَذَّرَ الْقَضَاءِ بِالْمُسَمَّى فَيُصَارُ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي حَيَاتِهِمَا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَسْقُطُ
وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ بَيِّنَةَ الْمَرْأَةِ أَوْلَى لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ فِيمَا إذَا تَحَالَفَا فَقَالَ ثُمَّ إذَا تَحَالَفَا يُبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ أَبْيَنُهُمَا إنْكَارًا وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ وَالْبَيِّنَةُ مَشْرُوعَةٌ لِلْإِثْبَاتِ (هَذَا تَخْرِيجُ الرَّازِيِّ.
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: يَتَحَالَفَانِ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ) عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ شَاهِدًا لَهُ أَوْ شَاهِدًا لَهَا أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يُصَارُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِ التَّسْمِيَةِ، وَالتَّسْمِيَةُ الصَّحِيحَةُ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِذَا حَلَفَا تَعَذَّرَ التَّسْمِيَةُ فَيُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ. قِيلَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ أَصَحُّ لِأَنَّ تَحْكِيمَ الْمَهْرِ لَيْسَ لِإِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الدَّعَاوَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ مَعَ يَمِينِهِ (وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ الْمُسَمَّى) بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا التَّسْمِيَةَ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يُنْكِرُ التَّسْمِيَةَ (وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْإِجْمَاعِ) الْمُرَكَّبِ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي التَّحْكِيمِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْمُسَمَّى لِعَدَمِ ثُبُوتِ التَّسْمِيَةِ لِلِاخْتِلَافِ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا.
(وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا) بَيْنَ الْحَيِّ وَوَرَثَةِ الْمَيِّتِ (فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي حَيَاتِهِمَا) فِي الْأَصْلِ، وَالْمِقْدَارُ فِي الْأَصْلِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالْمُتْعَةُ قَبْلَهُ،
بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مَوْتِهِمَا فِي الْمِقْدَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُسْتَثْنَى الْقَلِيلُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْمُسَمَّى فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ أَنْكَرَهُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَهُ بَعْدَ مَوْتِهِمَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. .
قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجَانِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا فَلِوَرَثَتِهَا أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهُ مَهْرًا فَلَا شَيْءَ لِوَرَثَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: لِوَرَثَتِهَا الْمَهْرُ فِي الْوَجْهَيْنِ) مَعْنَاهُ الْمُسَمَّى فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الْمُسَمَّى دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَقَدْ تَأَكَّدَ بِالْمَوْتِ فَيُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهَا مَاتَتْ أَوَّلًا فَيَسْقُطُ
وَفِي الْمِقْدَارِ عِنْدَهُمَا يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا أَلَا تَرَى إلَى مَسْأَلَةِ الْمُفَوِّضَةِ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وَعِنْدَهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ أَوْ وَرَثَتِهِ لِمَا تَقَدَّمَ (وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مَوْتِهِمَا فِي الْمِقْدَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُسْتَثْنَى الْقَلِيلُ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَسْتَثْنِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ) بِحُكْمِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَكِنَّهُ تَرَكَهُ اسْتِحْسَانًا لِمَا نَذْكُرُهُ وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مَوْتِهِمَا فِي أَصْلِ التَّسْمِيَةِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ أَنْكَرَهُ لَا يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا نُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ) إشَارَةً إلَى دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.
قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجَانِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا فَلِوَرَثَتِهَا أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا فَلَا شَيْءَ لِوَرَثَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لِوَرَثَتِهَا الْمَهْرُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعْنَاهُ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِهِ لِوَرَثَتِهَا الْمَهْرُ فِي الْوَجْهَيْنِ (الْمُسَمَّى فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ مَا إذَا سَمَّى (وَمَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي) وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يُسَمِّ (أَمَّا الْأَوَّلُ) وَهُوَ وُجُوبُ الْمُسَمَّى (فَلِأَنَّ الْمُسَمَّى دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ) إمَّا بِثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالتَّصَادُقِ (وَقَدْ تَأَكَّدَ بِالْمَوْتِ فَيُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ) إذَا عُلِمَ أَنَّهُمَا مَاتَا مَعًا أَوْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا مَاتَ
نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَالْمُسَمَّى فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَمَا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَوْتَهُمَا يَدُلُّ عَلَى انْقِرَاضِ أَقْرَانِهِمَا فَبِمَهْرِ مَنْ يُقَدِّرُ الْقَاضِي مَهْرُ الْمِثْلِ
(وَمَنْ بَعَثَ إلَى امْرَأَتِهِ شَيْئًا فَقَالَتْ هُوَ هَدِيَّةٌ وَقَالَ الزَّوْجُ هُوَ مِنْ الْمَهْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ)؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمَلِّكُ فَكَانَ أَعْرَفَ بِجِهَةِ التَّمْلِيكِ، كَيْفَ وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَسْعَى فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ. قَالَ (إلَّا فِي الطَّعَامِ الَّذِي يُؤْكَلُ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا)
أَوَّلًا أَوْ عُلِمَ أَنَّ الزَّوْجَ مَاتَ أَوَّلًا، وَأَمَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهَا مَاتَتْ أَوَّلًا فَيَسْقُطُ نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ (وَأَمَّا الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَالْمُسَمَّى فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَمَا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا) وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ لَكِنْ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ (إنَّ مَوْتَهُمَا يَدُلُّ عَلَى انْقِرَاضِ أَقْرَانِهِمَا فَبِمَهْرِ مَنْ يُقَدِّرُ الْقَاضِي مَهْرَ الْمِثْلِ) وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي صُورَةِ التَّقَادُمِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ ادَّعَى وَرَثَةُ عَلِيٍّ عَلَى وَرَثَةِ عُمَرَ مَهْرَ أُمِّ كُلْثُومٍ أَكُنْت أَقْضِي فِيهِ بِشَيْءٍ؟ وَهَذَا لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ وَانْقَرَضَ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي الْوُقُوفُ عَلَى مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَعَلَى هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَهْدُ مُتَقَادِمًا بِأَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ مَهْرُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ يُقْضَى بِمَهْرِ مِثْلِهَا. وَلِلْمَشَايِخِ طَرِيقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قِيمَةُ الْبُضْعِ يُشْبِهُ الْمُسَمَّى، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ يُشْبِهُ الصِّلَةَ كَالنَّفَقَةِ؛ فَبِاعْتِبَارِ الشَّبَهِ الْأَوَّلِ لَمْ يَسْقُطْ فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَبِاعْتِبَارِ الشَّبَهِ الثَّانِي يَسْقُطُ فَيَسْقُطُ بِمَوْتِهِمَا لِأَنَّ الْمُسْقِطَ تَأَكَّدَ بِالْمَوْتِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ بَعَثَ إلَى امْرَأَتِهِ شَيْئًا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ) أَيْ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ حَلَفَ وَالْمَتَاعُ قَائِمٌ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَرُدَّ وَتَرْجِعَ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْمَهْرِ وَإِنْ كَانَ
وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَكُونُ مُهَيَّأً لِلْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَارَفُ هَدِيَّةً، فَأَمَّا فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا، وَقِيلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْخِمَارِ وَالدِّرْعِ وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَسِبَهُ مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
هَالِكًا لَمْ تَرْجِعْ. وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَسْعَى فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ. وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ) إنَّمَا قَيَّدَ بِالْوُجُوبِ لِأَنَّهُ إذَا بَعَثَ الْخُفَّ وَالْمُلَاءَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْتَسِبَهُ مِنْ الْمَهْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ (وَغَيْرِهِمَا) قِيلَ كَمَتَاعِ الْبَيْتِ.
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَصْلٌ تَزَوَّجَ النَّصْرَانِيُّ نَصْرَانِيَّةً عَلَى مَيْتَةٍ
(وَإِذَا تَزَوَّجَ النَّصْرَانِيُّ نَصْرَانِيَّةً عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ
(فَصْلٌ)
لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَهْم الْأُصُولُ فِي الشَّرَائِعِ ذَكَرَ مَنْ هُوَ تَبَعٌ لَهُمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَمِنْ الْمُعَامَلَاتِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ (وَإِذَا تَزَوَّجَ النَّصْرَانِيُّ نَصْرَانِيَّةً) قِيلَ الْمُرَادُ بِهِمَا الذِّمِّيُّ وَالذِّمِّيَّةُ وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ بِلَفْظِ الذِّمِّيِّ.
وَأَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَهُ لِيَتَنَاوَلَ الْمُسْتَأْمَنَ أَيْضًا (وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ) أَيْ النِّكَاحُ
جَائِزٌ فَدَخَلَ بِهَا أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ، وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيَّانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا فِي الْحَرْبِيَّيْنِ. وَأَمَّا فِي الذِّمِّيَّةِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ مَاتَ عَنْهَا أَوْ دَخَلَ بِهَا وَالْمُتْعَةُ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا. وَقَالَ زُفَرُ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْحَرْبِيَّيْنِ أَيْضًا. لَهُ أَنَّ الشَّرْعَ مَا شَرَعَ ابْتِغَاءَ النِّكَاحِ إلَّا بِالْمَالِ، وَهَذَا الشَّرْعُ وَقَعَ عَامًّا فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عَلَى الْعُمُومِ. وَلَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ غَيْرُ مُلْتَزِمِينَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ مُنْقَطِعَةٌ لِتَبَايُنِ الدَّارِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ كَالرِّبَا وَالزِّنَا، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ مُتَحَقِّقَةٌ لِاتِّحَادِ الدَّارِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَنَا فِي الدِّيَانَاتِ وَفِيمَا يَعْتَقِدُونَ خِلَافَهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالسَّيْفِ وَبِالْمُحَاجَّةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُنْقَطِعٌ عَنْهُمْ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، فَإِنَّا أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فَصَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ،
بِغَيْرِ مَهْرٍ فِي دِينِهِمْ (جَائِزٌ) وَالْوَاوُ لِلْحَالِ (فَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ) وَإِنْ أَسْلَمَا (وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيَّانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهَذَا) أَيْ عَدَمُ وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي الذِّمِّيَّيْنِ وَالْحَرْبِيَّيْنِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَوَافَقَاهُ فِي الْحَرْبِيَّيْنِ.
وَأَمَّا فِي الذِّمِّيَّةِ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا الْمُتْعَةُ وَخَالَفَهُ زُفَرُ فِي الْحَرْبِيَّيْنِ أَيْضًا، وَقَالَ (الشَّرْعُ مَا شَرَعَ ابْتِغَاءَ النِّكَاحِ إلَّا بِالْمَالِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (وَهَذَا الشَّرْعُ وَقَعَ عَامًّا) لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِالْمُعَامَلَاتِ (فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عَلَى الْعُمُومِ) وَحَاصِلُ كَلَامِهِ الْمَشْرُوعِ فِي بَابِ النِّكَاحِ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ عَلَى الْعُمُومِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ حُكْمُهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَالَا: أَهْلُ الْحَرْبِ لَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا يَكُونُ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِمْ إلَّا بِالْإِلْزَامِ وَلَا إلْزَامَ إلَّا بِالْوِلَايَةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ الْوِلَايَةُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ (بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ) لِأَنَّ الِالْتِزَامَ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ فَكَانَ كَالزِّنَا وَالرِّبَا فَإِنَّهُمْ يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ وَيُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوا لَكِنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ مُتَحَقِّقَةٌ لِاتِّحَادِ الدَّارِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَنَا) فِي الدِّيَانَاتِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ (وَفِيمَا يَعْتَقِدُونَ خِلَافَهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ) أَيْضًا كَبَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ (وَوِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالسَّيْفِ وَالْمُحَاجَّةِ) وَلَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ لِانْقِطَاعِهَا عَنْهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ (فَإِنَّا أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فَصَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ) فِي عَدَمِ الِالْتِزَامِ
بِخِلَافِ الزِّنَا لِأَنَّهُ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَالرِّبَا مُسْتَثْنًى عَنْ عُقُودِهِمْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إلَّا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ» وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ أَوْ عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْمَهْرِ وَيَحْتَمِلُ السُّكُوتَ. وَقَدْ قِيلَ: فِي الْمَيْتَةِ وَالسُّكُوتِ رِوَايَتَانِ،
وَانْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ.
وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الزِّنَا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَالزِّنَا وَالرِّبَا. وَوَجْهُهُ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ فَلَمْ يَكُنْ دِينَهُمْ حَتَّى يُتْرَكُوا عَلَيْهِ (وَالرِّبَا مُسْتَثْنًى عَنْ عُقُودِهِمْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَلَا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ») أَلَا حَرْفُ تَنْبِيهٍ لَا حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ كَذَا السَّمَاعُ، وَالنُّسَخُ (وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ) أَيْ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَقَدْ قِيلَ فِي الْمَيْتَةِ وَالسُّكُوتِ رِوَايَتَانِ) يَعْنِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا قَالَا، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُحْتَاجُ إلَى فَرْقٍ، وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ فَيُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالسُّكُوتِ وَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ، فَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْعَرَضِ كَالتَّنْصِيصِ عَلَى الْبَيْعِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ التَّنْصِيصُ عَلَى نَفْيِ الْعِوَضِ يَكُونُ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا لَهَا، وَأَمَّا
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْكُلَّ عَلَى الْخِلَافِ.
(فَإِنْ تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَلَهَا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ) وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَا بِأَعْيَانِهِمَا وَالْإِسْلَامُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا فَلَهَا فِي الْخَمْرِ الْقِيمَةُ وَفِي الْخِنْزِيرِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا الْقِيمَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَبْضَ مُؤَكِّدٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمَقْبُوضِ لَهُ فَيَكُونُ لَهُ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ فَيَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ كَالْعَقْدِ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَا
الْمَيْتَةُ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَ أَحَدٍ فَكَانَ التَّزَوُّجُ عَلَيْهَا كَالنَّفْيِ وَهُوَ مُخْتَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ أَحَدًا لَمَّا لَمْ يَتَدَيَّنْ بِتَقَوُّمِهَا لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» فَيَجِبُ حُكْمُ الشَّرْعِ (وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْكُلَّ عَلَى الْخِلَافِ) عِنْدَهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَهَذَا كُلُّهُ) أَيْ كُلُّ مَا ذُكِرَ وَهُوَ مَا كَانَا مُعَيَّنَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَيْنِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ فِي الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِ الْمُعَيَّنِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا الْقِيمَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا) إنَّمَا جَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِمَا وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ فَمَا بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِمَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: فِيهِمَا بِالْقِيمَةِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ غَيْرُ قِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ فِي أَنْ لَا يُوجِبَا عَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ (أَنَّ الْقَبْضَ مُؤَكِّدٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمَقْبُوضِ) وَلِهَذَا يُنَصَّفُ الصَّدَاقُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا، وَبَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِ الزَّوْجِ شَيْءٌ إلَّا بِالرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ، وَإِذَا مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ وَالصَّدَاقُ عَبْدٌ غَيْرُ مَقْبُوضٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا تَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ، وَالْمُؤَكِّدُ لِلْمِلْكِ شَبِيهٌ بِالْعَقْدِ لِإِفَادَتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ (فَيَمْتَنِعُ) الْقَبْضُ (بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ) كَمَا لَوْ كَانَ ابْتِدَاءُ التَّمْلِيكِ بِالْعَقْدِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلْحَاقًا لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ بِحَقِيقَتِهِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ (وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَا
بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا. وَإِذَا الْتَحَقَتْ حَالَةُ الْقَبْضِ بِحَالَةِ الْعَقْدِ، فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: لَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فَكَذَا هَاهُنَا، وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ لِكَوْنِ الْمُسَمَّى مَالًا عِنْدَهُمْ، إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ التَّسْلِيمُ لِلْإِسْلَامِ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ، كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ الْمُسَمَّى قَبْلَ الْقَبْضِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الصَّدَاقِ الْمُعَيَّنِ يَتِمُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَبِالْقَبْضِ يَنْتَقِلُ مِنْ ضَمَانِ الزَّوْجِ إلَى ضَمَانِهَا وَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ بِالْإِسْلَامِ كَاسْتِرْدَادِ الْخَمْرِ الْمَغْصُوبَةِ، وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ الْقَبْضُ يُوجِبُ مِلْكَ الْعَيْنِ فَيَمْتَنِعُ بِالْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ مِلْكَ التَّصَرُّفِ فِيهِ إنَّمَا
بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا) لِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ كَالْقَبْضِ فِيمَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا فِي إفَادَةِ مَا لَمْ يَكُنْ، وَالْقَبْضُ فِيمَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا يَمْنَعُ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهِمَا، فَكَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَا بِأَعْيَانِهِمَا كَالْعَقْدِ (وَإِذَا الْتَحَقَتْ حَالَةُ الْقَبْضِ بِحَالَةِ الْعَقْدِ فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: لَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا) وَوَجْهُ مُحَمَّدٍ ظَاهِرٌ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (أَنَّ الْمِلْكَ فِي الصَّدَاقِ الْمُعَيَّنِ يَتِمُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ) وَلَوْ هَلَكَ هَلَكَ عَلَى مِلْكِهَا وَكُلُّ مَا تَمَّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ لِلتَّمَلُّكِ (وَبِالْقَبْضِ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ مِنْ ضَمَانِ الزَّوْجِ إلَى ضَمَانِهَا وَذَلِكَ) أَيْ الِانْتِقَالُ (لَا يَمْتَنِعُ بِالْإِسْلَامِ كَاسْتِرْدَادِ الْخَمْرِ الْمَغْصُوبَةِ) وَأَمَّا فِي الصَّدَاقِ الْغَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَالْعَقْدُ فِيهِ لَا يَتِمُّ بِهِ الْمِلْكُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ وُجُوبَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْقَبْضُ يُوجِبُ مِلْكَ الْعَيْنِ فَتَمْتَنِعُ بِالْإِسْلَامِ عَنْ تَمَلُّكِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إنَّ الْمِلْكَ فِي الصَّدَاقِ الْمُعَيَّنِ إلَخْ: يَعْنِي بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الذِّمِّيُّ الْخَمْرَ أَوْ الْخِنْزِيرَ
يُسْتَفَادُ بِالْقَبْضِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْقَبْضُ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَا تَجِبُ الْقِيمَةُ فِي الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَيَكُونُ أَخْذُ قِيمَتِهِ كَأَخْذِ عَيْنِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْخَمْرُ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِالْقِيمَةِ، قَبْلَ الْإِسْلَامِ تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْخِنْزِيرِ دُونَ الْخَمْرِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَمَنْ أَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْجَبَ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْقِيمَةَ أَوْجَبَ نِصْفَهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَوْ اشْتَرَى ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَبْضُ بَلْ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْمَبِيعَ يُسْتَفَادُ مِلْكُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا قَبْلَهُ وَالْإِسْلَامُ مَانِعٌ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ (وَإِذَا تَعَذَّرَ الْقَبْضُ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ طَلَّقَهَا إلَخْ) يَعْنِي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُعَيَّنِ لَهَا نِصْفُ الْعَيْنِ وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فِي الْخَمْرِ لَهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ وَفِي الْخِنْزِيرِ لَهَا الْمُتْعَةُ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَلْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَانَ الْوَاجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَالْوَاجِبُ الْمُتْعَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَهَا الْمُتْعَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ نِصْفُ الْقِيمَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
بَابُ نِكَاحِ الرَّقِيقِ
(لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُمَا) وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ فَيَمْلِكُ النِّكَاحَ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ» وَلِأَنَّ فِي تَنْفِيذِ نِكَاحِهِمَا تَعْيِيبَهُمَا إذْ النِّكَاحُ عَيْبٌ فِيهِمَا
بَابُ نِكَاحِ الرَّقِيقِ:
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ نِكَاحِ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ شَرَعَ فِي بَيَانِ نِكَاحِ مَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ الرَّقِيقُ، وَالرَّقِيقُ الْمَمْلُوكُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ (لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُمَا) أَمَّا الْأَمَةُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِهَا مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بِدُونِ إذْنِهِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهُ بِدُونِ إذْنِهِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكُلُّ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ يَمْلِكُ النِّكَاحَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ. وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا مَلَكَ سَبَبَهُ الْمُوصِلَ إلَيْهِ (وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ») رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ (وَلِأَنَّ فِي تَنْفِيذِ نِكَاحِهِمَا تَعْيِيبَهُمَا إذْ النِّكَاحُ عَيْبٌ فِيهِمَا) وَلِهَذَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَظَهَرَ مُزَوَّجًا جَازَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَلَيْسَ لَهُمَا تَعْيِيبُ أَنْفُسِهِمَا رِعَايَةً لِحَقِّ الْمَوْلَى
فَلَا يَمْلِكَانِهِ بِدُونِ إذْنِ مَوْلَاهُمَا
(وَكَذَا الْمُكَاتَبُ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ أَوْجَبَتْ فَكَّ الْحَجْرِ فِي حَقِّ الْكَسْبِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ النِّكَاحِ عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ. وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ وَيَمْلِكُ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ، وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ لَا تَمْلِكُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى وَتَمْلِكُ تَزْوِيجَ أَمَتِهَا لِمَا بَيَّنَّا (وَ) كَذَا (الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ) لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا قَائِمٌ.
فَلَا يَمْلِكَانِهِ بِدُونِ إذْنِهِ) وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ جَوَابٌ لِمَالِكٍ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ إزَالَةُ الْعَيْبِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ إزَالَةِ الْعَيْبِ جَوَازُ تَعْيِيبِهِمَا أَنْفُسَهُمَا. وَاسْتُشْكِلَ بِجَوَازِ إقْرَارِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَإِنَّ وُجُوبَ قَطْعِ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ وَوُجُوبَ الْقِصَاصِ عَيْبٌ فِيهِمَا عَلَى قَوْلِهِمَا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَبِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ أَيْضًا أَقْوَى الْعُيُوبِ فَكَيْفَ جَازَ ذَلِكَ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّقِيقَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ بَاقٍ عَلَى حُرِّيَّتِهِ وَالرِّقُّ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا، فَإِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَعْيِيبٌ فَهُوَ ضِمْنِيٌّ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ وَمَوْضِعُهُ الْأُصُولُ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الْمُكَاتَبُ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ
(وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَالْمَهْرُ دَيْنٌ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ) لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ وَجَبَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَدْ ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِصُدُورِ الْإِذْنِ مِنْ جِهَتِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ دَفْعًا لِلْمَضَرَّةِ عَنْ أَصْحَابِ الدُّيُونِ كَمَا فِي دَيْنِ التِّجَارَةِ.
(وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ يَسْعَيَانِ فِي الْمَهْرِ وَلَا يُبَاعَانِ فِيهِ) لِأَنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ فَيُؤَدَّى مِنْ كَسْبِهِمَا لَا مِنْ نَفْسِهِمَا.
(وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَقَالَ الْمَوْلَى طَلِّقْهَا أَوْ فَارْقِهَا فَلَيْسَ هَذَا بِإِجَازَةٍ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ لِأَنَّ رَدَّ هَذَا الْعَقْدِ وَمُتَارَكَتَهُ يُسَمَّى طَلَاقًا وَمُفَارَقَةً
لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ.
وَقَوْلُهُ (فَالْمَهْرُ دَيْنٌ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ) لِمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ ذِمَّتَهُ قَدْ ضَعُفَتْ بِالرِّقِّ فَيُضَمُّ إلَيْهَا مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ وَجَبَ فِي رَقَبَتِهِ) وَهُوَ دَلِيلُ قَوْلِهِ يُبَاعُ فِيهِ دُونَ مَا قَبْلَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْمُصَادَرَةُ عَلَى الْمَطْلُوبِ.
وَتَقْرِيرُهُ: هَذَا دَيْنٌ وَجَبَ فِي الرَّقَبَةِ، وَكُلُّ دَيْنٍ وَجَبَ فِي الرَّقَبَةِ تُبَاعُ الرَّقَبَةُ فِيهِ. إمَّا أَنَّهُ وَجَبَ فَلِتَحَقُّقِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ وُجُودُ السَّبَبِ مِنْ أَهْلِهِ وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَهُوَ حَقُّ الْمَوْلَى لِصُدُورِ الْإِذْنِ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِمَّا أَنَّهُ مُوجِبٌ فِي الرَّقَبَةِ فَلِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ أَصْحَابِ الدُّيُونِ كَمَا فِي دَيْنِ التِّجَارَةِ فَتُبَاعُ الرَّقَبَةُ فِي الْمَهْرِ كَمَا تُبَاعُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ (دَفْعًا لِلْمَضَرَّةِ عَنْ أَصْحَابِ الدُّيُونِ) يَعْنِي النِّسَاءَ.
وَقَوْلُهُ (فَلَيْسَ هَذَا بِإِجَازَةٍ، لِأَنَّهُ) أَيْ قَوْلَهُ طَلَّقَهَا أَوْ فَارَقَهَا (يَحْتَمِلُ الرَّدَّ لِأَنَّ رَدَّ هَذَا الْعَقْدِ وَمُتَارَكَتَهُ يُسَمَّى طَلَاقًا وَمُفَارَقَةً) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ: طَلَّقْتُك
وَهُوَ أَلْيَقُ بِحَالِ الْعَبْدِ الْمُتَمَرِّدِ أَوْ هُوَ أَدْنَى فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى (وَإِنْ قَالَ: طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً تَمْلِكْ الرَّجْعَةَ فَهُوَ إجَازَةٌ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَتَتَعَيَّنُ الْإِجَازَةُ.
كَانَ مُتَارَكَةً، وَإِذَا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ رَجَّحْنَا جِهَةَ الْمُتَارَكَةِ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِ الْعَبْدِ الْمُتَمَرِّدِ. وَقَوْلُهُ (أَوْ هُوَ) أَيْ الرَّدُّ (أَدْنَى) لِأَنَّهُ دَفْعٌ، وَالطَّلَاقَ رَفْعٌ، وَالدَّفْعُ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ (فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى). فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ طَلَّقَهَا حَقِيقَةٌ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ الْمَعْرُوفِ وَمَجَازٌ فِي الْمُتَارَكَةِ وَالْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ مُمْكِنٌ فَكَيْفَ صِيرَ إلَى الْمَجَازِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ قَدْ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهَذَا كَذَلِكَ، وَهِيَ الِافْتِيَاتُ عَلَى رَأْيِ الْمَوْلَى (وَإِنْ قَالَ طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً) رَجْعِيَّةً أَوْ تَطْلِيقَةً (تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَهَذَا إجَازَةٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَتَتَعَيَّنُ الْإِجَازَةُ) فَإِنْ قِيلَ: إذَا قَالَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ كَفِّرْ يَمِينَك بِالْمَالِ أَوْ تَزَوَّجْ أَرْبَعًا مِنْ النِّسَاءِ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ وَإِنْ كَانَ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، وَتَزَوُّجُ الْأَرْبَعِ مِنْ النِّسَاءِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ. أُجِيبَ بِأَنَّ مَا كَانَ أَصْلًا فِي إثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ لِلتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يَثْبُتُ اقْتِضَاءً
(وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ تَزَوَّجْ هَذِهِ الْأَمَةَ فَتَزَوَّجَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بِهَا فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي الْمَهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا عَتَقَ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِذْنَ بِالنِّكَاحِ يَنْتَظِمُ الْفَاسِدَ وَالْجَائِزَ عِنْدَهُ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَهْرُ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى
كَالْإِيمَانِ فِي خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالشَّرَائِعِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ وَفِي إثْبَاتِ الْإِعْتَاقِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِأَصْلٍ فِي إثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ لَهُ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ تَزَوَّجْ هَذِهِ الْأَمَةَ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ وَالْأَصْلُ الْمَذْكُورُ ظَاهِرَانِ، وَتَقْيِيدُهُ بِالْإِشَارَةِ وَالْأَمَةِ اتِّفَاقِيٌّ. فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ وَفِي غَيْرِ الْإِمَاءِ كَذَلِكَ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ حُكْمَانِ:
أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ يُبَاعُ فِي الْمَهْرِ عِنْدَهُ وَلَا يُبَاعُ عِنْدَهُمَا.
وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا بِوَصْفِ الصِّحَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِانْتِهَاءِ الْإِذْنِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا. وَوَجْهُهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ مَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي الْمَاضِي وَكَانَ تَزَوَّجَ
وَعِنْدَهُمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْجَائِزِ لَا غَيْرُ فَلَا يَكُونُ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ، لَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْإِعْفَافُ وَالتَّحْصِينُ وَذَلِكَ بِالْجَائِزِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجَائِزِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَقَاصِدِ حَاصِلٌ وَهُوَ مِلْكُ التَّصَرُّفَاتِ. وَلَهُ أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَبَعْضُ الْمَقَاصِدِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ حَاصِلٌ كَالنَّسَبِ، وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ وُجُودِ الْوَطْءِ، وَمَسْأَلَةُ الْيَمِينِ مَمْنُوعَةٌ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ.
(وَمَنْ زَوَّجَ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ مَدْيُونًا امْرَأَةً جَازَ، وَالْمَرْأَةُ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ فِي مَهْرِهَا) وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ سَبَبَ وِلَايَةِ الْمَوْلَى مِلْكُهُ الرَّقَبَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَالنِّكَاحُ لَا يُلَاقِي حَقَّ الْغُرَمَاءِ
صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي الْبَيْعِ) يَعْنِي أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ الْجَائِزَ وَالْفَاسِدَ. وَقَوْلُهُ (عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ) يُرِيدُ طَرِيقَةَ إجْرَاءِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلَئِنْ كَانَ قَوْلُ الْكُلِّ فَالْعُذْرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَبْنَى الْإِيمَانِ عَلَى الْعُرْفِ
(وَمَنْ زَوَّجَ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ مَدْيُونًا امْرَأَةً جَازَ، وَالْمَرْأَةُ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ) إذَا كَانَ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِمَا ذُكِرَ بِقَوْلِهِ (وَوَجْهُهُ) وَتَقْرِيرُهُ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ مَوْجُودٌ وَهُوَ وِلَايَةُ الْمَوْلَى لِتَحَقُّقِ سَبَبِهَا وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَالْمَانِعَ وَهُوَ مُلَاقَاةُ النِّكَاحِ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مَقْصُودًا بِالْإِبْطَالِ مُنْتَفٍ. وَإِذَا تَحَقَّقَ الْمُقْتَضِي وَانْتَفَى
بِالْإِبْطَالِ مَقْصُودًا، إلَّا أَنَّهُ إذَا صَحَّ النِّكَاحُ وَجَبَ الدَّيْنُ بِسَبَبٍ لَا مَرَدّ لَهُ فَشَابَهَ دَيْنَ الِاسْتِهْلَاكِ وَصَارَ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَيُمْهِرُ مِثْلَهَا أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ.
(وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَوِّئَهَا بَيْتَ الزَّوْجِ لَكِنَّهَا تَخْدُمُ الْمَوْلَى، وَيُقَالُ لِلزَّوْجِ مَتَى ظَفِرْت بِهَا وَطِئَتْهَا) لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الِاسْتِخْدَامِ بَاقٍ وَالتَّبْوِئَةُ إبْطَالٌ لَهُ (فَإِنْ بَوَّأَهَا
الْمَانِعُ ثَبَتَ الْحُكْمُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا قَالَ مَقْصُودًا لِأَنَّ الْمَانِعِيَّةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ ضِمْنِيًّا فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ وَهَاهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّ مَحَلِّيَّةَ النِّكَاحِ بِالْآدَمِيَّةِ، وَحَقَّ الْغُرَمَاءِ لَا يُلَاقِيهَا، لَكِنْ إذَا صَحَّ النِّكَاحُ بِوِلَايَةِ الْمَوْلَى تَحْصِينًا لِمِلْكِهِ وَجَبَ الدَّيْنُ بِسَبَبٍ لَا مَرَدَّ لَهُ لِعَدَمِ انْفِكَاكِ النِّكَاحِ عَنْ ثُبُوتِ الْمَالِ فَكَانَ كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ (وَصَارَ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَبِمَهْرِ مِثْلِهَا أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ) وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ فَلَا تُسَاوِيهِمْ بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى اسْتِيفَائِهِمْ حَقَّهُمْ كَدَيْنِ الصِّحَّةِ مَعَ دَيْنِ الْمَرَضِ.
قَالَ (وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ) بَوَّأْت لِلرَّجُلِ مَنْزِلًا وَبَوَّأْته مَنْزِلًا: أَيْ هَيَّأْته وَمَكَّنْت لَهُ فِيهِ. وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ (فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَوِّئَهَا) أَيْ يُهَيِّئَ لَهَا بَيْتًا لِلزَّوْجِ يَبِيتُ إلَيْهَا (لَكِنَّهَا تَخْدُمُ الْمَوْلَى وَيُقَالُ لِلزَّوْجِ مَتَى ظَفِرْتَ بِهَا وَطِئْتَهَا) وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى ثَابِتٌ فِي الرَّقَبَةِ وَالْمَنَافِعِ سِوَى مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ، وَحَقَّ الزَّوْجِ إنَّمَا هُوَ فِيهَا، وَلَا يَلْزَمُ إبْطَالُ الْكَثِيرِ لِلْقَلِيلِ مَعَ إمْكَانِ تَحْصِيلِهِ مِنْ
مَعَهُ بَيْتًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى وَإِلَّا فَلَا) لِأَنَّ النَّفَقَةَ تُقَابِلُ الِاحْتِبَاسَ، وَلَوْ بَوَّأَهَا بَيْتًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ بَاقٍ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّبْوِئَةِ كَمَا لَا يَسْقُطُ بِالنِّكَاحِ.
قَالَ (ذَكَرَ تَزْوِيجَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ رِضَاهُمَا) وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ لِلْمَوْلَى إجْبَارَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا إجْبَارَ فِي الْعَبْدِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ خَصَائِصِ الْآدَمِيَّةِ وَالْعَبْدُ دَاخِلٌ تَحْتَ مِلْكِ الْمَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ فَلَا يَمْلِكُ
غَيْرِ إبْطَالِ الْكَثِيرِ فَلَهُ أَنْ يُبَوِّئَهَا وَأَنْ لَا يُبَوِّئَهَا وَأَنْ يَسْتَخْدِمَهَا بَعْدَ التَّبْوِئَةِ، لَكِنَّهُ يُسْقِطُ نَفَقَتَهَا لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ النَّفَقَةَ تُقَابِلُ الِاحْتِبَاسَ). فَإِنْ قِيلَ: انْتِفَاءُ الِاحْتِبَاسِ إنَّمَا هُوَ لِبَقَاءِ حَقِّ الْمَوْلَى فِي الِاسْتِخْدَامِ وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ كَالْحُرَّةِ إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَنْهُ لِاسْتِيفَاءِ الصَّدَاقِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْحُرَّةَ إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا لِذَلِكَ فَالتَّفْوِيتُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ بِامْتِنَاعِ إيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ، وَهَاهُنَا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بَلْ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ الْمَوْلَى، فَكَانَتْ كَالْمَحْبُوسَةِ بِالدَّيْنِ لَا نَفَقَةَ لَهَا، فَإِنْ بَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا فَوَلَدَتْ مِنْ الزَّوْجِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهَا وَنَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ.
قَوْلُهُ (ذَكَرَ تَزْوِيجَ الْمَوْلَى) يَعْنِي ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَزْوِيجَ الْمَوْلَى (عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ رِضَاهُمَا وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ لِلْمَوْلَى إجْبَارَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ) وَمَعْنَى الْإِجْبَارِ أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ بَاشَرَ النِّكَاحَ بِدُونِ
إنْكَاحَهُ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ مَنَافِعَ بُضْعِهَا فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهَا. وَلَنَا لِأَنَّ الْإِنْكَاحَ إصْلَاحُ مِلْكِهِ لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِينَهُ عَنْ الزِّنَا الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْهَلَاكِ أَوْ النُّقْصَانِ فَيَمْلِكُهُ اعْتِبَارًا بِالْأَمَةِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّهُمَا الْتَحَقَا بِالْأَحْرَارِ تَصَرُّفًا فَيُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا.
قَالَ (وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ قَتَلَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا:
رِضَاهُمَا نَفَذَ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِينَهُ عَنْ الزِّنَا الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْهَلَاكِ أَوْ النُّقْصَانِ) يَعْنِي أَنَّهُ إذَا حُدَّ رُبَّمَا يَقَعُ الْحَدُّ مُهْلِكًا أَوْ جَارِحًا؛ فَفِي الْأَوَّلِ هَلَاكُ مَالِهِ، وَفِي الثَّانِي نُقْصَانُهُ، فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ حُدَّ فِي الزِّنَا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ فَيَمْلِكَ الْإِنْكَاحَ جَبْرًا اعْتِبَارًا بِالْأَمَةِ، وَالْجَامِعُ قِيَامُ سَبَبِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَتَحْصِينُ مِلْكِهِ عَنْ الزِّنَا الْمُوجِبِ لِلْهَلَاكِ أَوْ النُّقْصَانِ، وَلَيْسَ الْمَنَاطُ فِي جَوَازِ إنْكَاحِ الْأَمَةِ جَبْرًا تَمَلُّكَ مَنَافِعِ بُضْعِهَا لِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ مَعَ الْإِجْبَارِ وَلَا يَنْعَكِسُ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ مَنَافِعَ بُضْعِ الْمَرْأَةِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَزْوِيجِهَا، وَالْوَلِيُّ يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الصَّغِيرَةِ وَلَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ بُضْعِهَا فَكَانَ التَّعْلِيلُ بِهِ فَاسِدًا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْإِجْبَارُ بِاعْتِبَارِ تَحْسِينِ الْمِلْكِ لَجَازَ فِي الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَلَمْ يَجُزْ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ) فَإِنَّ الْمِلْكَ لَمَّا كَانَ فِيهِمَا نَاقِصًا بِوَاسِطَةِ تَمْلِيكِهِمَا الْيَدَ (الْتَحَقَا بِالْأَحْرَارِ تَصَرُّفًا فَيُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا) وَهَاهُنَا فَرْعٌ لَطِيفٌ. وَهُوَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ مُكَاتَبَتَهُ الصَّغِيرَةَ تَوَقَّفَ النِّكَاحُ عَلَى إجَازَتِهَا لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْبَالِغَةِ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَى الْكِتَابَةِ ثُمَّ إنَّهَا لَوْ لَمْ تَرُدَّ حَتَّى أَدَّتْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَتْ بَقِيَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى لَا عَلَى إجَازَتِهَا لِأَنَّهَا بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ تَبْقَ مُكَاتَبَةً وَهِيَ صَغِيرَةٌ وَالصَّغِيرَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهَذِهِ مِنْ أَلْطَفِ الْمَسَائِلِ وَأَعْجَبِهَا، حَيْثُ اعْتَبَرَ إجَازَةَ الْمُكَاتَبَةِ فِي حَالِ رِقِّهَا، وَلَمْ يَعْتَبِرْ فِي حَالَةِ الْعِتْقِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ
(وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ) فَمَاتَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَإِنْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا فَعَلَى الزَّوْجِ الْمَهْرُ بِالِاتِّفَاقِ،
عَلَيْهِ الْمَهْرُ لِمَوْلَاهَا) اعْتِبَارًا بِمَوْتِهَا حَتْفَ أَنْفِهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ: وَلَهُ أَنَّهُ مَنَعَ الْمُبْدَلَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيُجَازَى بِمَنْعِ الْبَدَلِ كَمَا إذَا ارْتَدَّتْ الْحُرَّةُ، وَالْقَتْلُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا جُعِلَ إتْلَافًا حَتَّى وَجَبَ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ فَكَذَا فِي حَقِّ الْمَهْرِ.
(وَإِنْ قَتَلَتْ حُرَّةٌ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا فَلَهَا الْمَهْرُ) خِلَافًا لِزُفَرَ، هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالرِّدَّةِ وَبِقَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ وَالْجَامِعُ
وَإِنْ قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ قَتَلَهَا مَوْلَاهَا فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى، قَالَا: الْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ (وَلَهُ أَنَّ الْمَوْلَى مَنَعَ الْمُبْدَلَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيُجَازَى بِمَنْعِ الْبَدَلِ كَمَا إذَا ارْتَدَّتْ الْحُرَّةُ) تُجَازَى بِمَنْعِ الْبَدَلِ عِنْدَ عَدَمِ تَسْلِيمِهَا الْمُبْدَلَ، وَفِي قَوْلِهِ يُجَازَى إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ الصَّغِيرَةُ إذَا ارْتَضَعَتْ مِنْ أُمِّ زَوْجِهَا أَوْ الْمَجْنُونَةُ إذَا قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا بِشَهْوَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ مُنِعَتَا الْمُبْدَلَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ حَيْثُ بَانَتَا مِنْهُ وَلَمْ يَسْقُطْ الْمَهْرُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ أَهْلِ الْمُجَازَاةِ. وَنُوقِضَ بِالصَّغِيرَةِ الْعَاقِلَةِ إذَا ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ تُجَازَى بِسُقُوطِ الْمَهْرِ فَلَمْ يُنَافِ الصِّغَرُ الْمُجَازَاةَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَرْكَ مُجَازَاةِ الصَّغِيرَةِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى أَفْعَالٍ غَيْرِ مَحْظُورَةٍ، وَالرِّدَّةُ مَحْظُورَةٌ إذَا كَانَتْ عَاقِلَةً بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُحْرَمُ الْمِيرَاثَ بِسَبَبِهَا وَتُسْتَتَابُ بِالْحَبْسِ. وَقَوْلُهُ (وَالْقَتْلُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَقْتُولٌ بِأَجَلِهِ.
(فَإِنْ قَتَلَتْ حُرَّةٌ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ خِلَافًا لِزُفَرَ. هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالرِّدَّةِ وَقَتْلُ الْوَلِيِّ أَمَتَهُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْجَامِعِ) أَنَّهُ مَنَعَ الْمُبْدَلَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ
مَا بَيَّنَّاهُ. وَلَنَا أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَشَابَهَ مَوْتَهَا حَتْفَ أَنْفِهَا، بِخِلَافِ قَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى تَجِبَ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ. .
قَالَ (وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَالْإِذْنُ فِي الْعَزْلِ إلَى الْمَوْلَى) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِذْنَ فِي الْعَزْلِ إلَيْهَا لِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّهَا حَتَّى تَثْبُتَ لَهَا وِلَايَةُ
وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (حَتَّى تَجِبَ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ) يَعْنِي إذَا قَتَلَهَا خَطَأً، وَكَذَلِكَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمَوْلَى إنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ.
قَالَ (وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَالْإِذْنُ فِي الْعَزْلِ إلَى الْمَوْلَى) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْعَزْلِ. وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْهُ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَذَ مِيثَاقَ نَسَمَةٍ فَلَوْ أَلْقَيْتَهَا فِي صَخْرَةٍ تُخْلَقُ فِيهَا. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ. وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: عَزْلٌ عَنْ أَمَتِهِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ وَلَا إذْنَ فِيهِ إلَى أَحَدٍ. وَعَزْلٌ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ وَالْإِذْنُ فِيهِ إلَيْهَا وَهَذَانِ بِالِاتِّفَاقِ. وَعَزْلٌ عَنْ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ.
الْمُطَالَبَةِ، وَفِي الْعَزْلِ تَنْقِيصُ حَقِّهَا فَيُشْتَرَطُ رِضَاهَا كَمَا فِي الْحُرَّةِ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ لِأَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ لَهَا فَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَزْلَ يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْوَلَدِ وَهُوَ حَقُّ الْمَوْلَى فَيُعْتَبَرُ رِضَاهُ وَبِهَذَا فَارَقَتْ الْحُرَّةَ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ فَلَهَا الْخِيَارُ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِبَرِيرَةَ حِينَ عَتَقَتْ «مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي» فَالتَّعْلِيلُ بِمِلْكِ الْبُضْعِ صَدَرَ مُطْلَقًا فَيَنْتَظِمُ الْفَصْلَيْنِ، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيمَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهِ،
وَفِي تَعَيُّنِ الْإِذْنِ اخْتِلَافٌ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ
، (وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا) أَوْ زَوَّجَهَا مَوْلَاهَا (ثُمَّ أُعْتِقَتْ فَلَهَا الْخِيَارُ)، إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ، سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ عَبْدًا فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تُعْتِقَ مَمْلُوكَيْنِ لَهَا مُتَنَاكِحَيْنِ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهَا بِالْبُدَاءَةِ بِالْغُلَامِ» قَالَ: وَإِنَّمَا أَمَرَهَا بِذَلِكَ لِئَلَّا يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ فِيمَا إذَا كَانَ عَبْدًا لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْحُرِّ. وَلَنَا «أَنَّ عَائِشَةَ أَعْتَقَتْ بَرِيرَةَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَلَكْتِ بُضْعَك فَاخْتَارِي» فَالتَّعْلِيلُ بِمِلْكِ الْبُضْعِ صَدَرَ مُطْلَقًا فَيَنْتَظِمُ الْفَصْلَيْنِ) الْحُرَّ وَالْعَبْدَ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَالتَّعْلِيلُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ سَهَا فَسَجَدَ فَالشَّافِعِيُّ مَحْجُوجٌ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: رَوَى صَاحِبُ السُّنَنِ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ بَرِيرَةَ خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا» وَرُوِيَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ إلَى عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُسَمَّى مُغِيثًا فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ» ، " فَأَنَّى يَكُونُ الشَّافِعِيُّ بِهِ مَحْجُوجًا؟ قُلْت: رَوَى
وَلِأَنَّهُ يَزْدَادُ الْمِلْكُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْعِتْقِ فَيَمْلِكُ الزَّوْجُ بَعْدَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَتَمْلِكُ رَفْعَ أَصْلِ الْعَقْدِ دَفْعًا لِلزِّيَادَةِ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ: «أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ وَزَوْجُهَا حُرٌّ» " وَإِذَا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ تَرَكْنَاهُمَا وَصِرْنَا إلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَانَ مَحْجُوجًا بِهِ، وَقَدْ سَلَكْنَا مَسْلَكَ التَّرْجِيحِ فِي التَّقْرِيرِ بِأَنَّ الْمُثْبِتَ أَوْلَى مِنْ النَّافِي فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ. وَقَوْلُهُ:(وَلِأَنَّهُ يَزْدَادُ الْمِلْكُ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَرُدَّ بِأَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ مُعْتَبَرَةٌ بِالرِّجَالِ فَلَا يَزِيدُ عَلَيْهَا الْمِلْكُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَوْنَهَا مُعْتَبَرَةً بِالنِّسَاءِ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ قَوِيٍّ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فَيَلْزَمُ عَلَيْهَا الزِّيَادَةُ إذَا أُعْتِقَتْ وَإِنْ كَانَ حُرًّا، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَمْرَهُ عليه الصلاة والسلام بِالْبُدَاءَةِ بِالْغُلَامِ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ لِإِظْهَارِ فَضِيلَةِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَوْ أَعْتَقَتْهُمَا مَعًا لَثَبَتَ الْخِيَارُ أَيْضًا عِنْدَهُ، وَلَيْسَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْعَبْدِ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَإِنَّ الْكَفَاءَةَ شَرْطٌ فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الْبَقَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ إنْ أَعْسَرَ حَتَّى خَرَجَ عَنْ كَفَاءَتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا خِيَارٌ، وَإِنَّمَا الْخِيَارُ لِزِيَادَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ
(وَكَذَلِكَ)(الْمُكَاتَبَةُ) يَعْنِي إذَا تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ عَتَقَتْ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا خِيَارَ لَهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ نَفَذَ عَلَيْهَا بِرِضَاهَا وَكَانَ الْمَهْرُ لَهَا فَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا. وَلَنَا أَنَّ الْعِلَّةَ ازْدِيَادُ الْمَلِكِ وَقَدْ وَجَدْنَاهَا فِي الْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّ عِدَّتَهَا قُرْءَانِ وَطَلَاقَهَا ثِنْتَانِ.
(وَإِنْ تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ صَحَّ النِّكَاحُ) لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ وَامْتِنَاعُ النُّفُوذِ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ (وَلَا خِيَارَ لَهَا) لِأَنَّ النُّفُوذَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا تَتَحَقَّقُ زِيَادَةُ
الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، (وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَةُ: يَعْنِي إذَا تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ) كَانَ لَهَا الْخِيَارُ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا لِزِيَادَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا (وَقَالَ زُفَرُ: لَا خِيَارَ لَهَا)؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ فِي الْأَمَةِ لِنُفُوذِ الْعَقْدِ بِغَيْرِ رِضَاهَا وَسَلَامَةِ الْمَهْرِ لِمَوْلَاهَا وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هَاهُنَا، فَإِنَّ الْمَهْرَ لَهَا، وَالنِّكَاحُ مَا نَفَذَ إلَّا بِرِضَاهَا، وَدَلِيلُنَا فِيهِ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ
، (وَإِنْ تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ صَحَّ النِّكَاحُ وَلَا خِيَارَ لَهَا)، أَمَّا صِحَّةُ النِّكَاحِ فَلِوُجُودِ الْمُقْتَضِي لِصُدُورِ
الْمِلْكِ، كَمَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ.
(فَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ عَلَى أَلْفٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا مِائَةٌ فَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا فَالْمَهْرُ لِلْمَوْلَى) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى (وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى أَعْتَقَهَا فَالْمَهْرُ لَهَا) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مَمْلُوكَةً لَهَا. وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ الْأَلْفُ الْمُسَمَّى لِأَنَّ نَفَاذَ الْعَقْدِ بِالْعِتْقِ اسْتَنَدَ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْعَقْدِ فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَ الْمُسَمَّى،
الرُّكْنِ الَّذِي هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ النُّفُوذِ كَانَ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ. وَأَمَّا عَدَمُ الْخِيَارِ فَلِأَنَّ النُّفُوذَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا تَتَحَقَّقُ زِيَادَةُ الْمِلْكِ، كَمَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَالْحُكْمُ فِي الْعَبْدِ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا خَصَّصَ الْأَمَةَ بِالذِّكْرِ لِيَبْنِيَ الْمَسْأَلَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْمَهْرِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَأَتَّى فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُهُ بِالْأَمَةِ لِتَفْرِيعِ مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْإِمَاءِ دُونَ الْعَبِيدِ.
وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ) ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْمُسَمَّى أَلْفٌ وَمَهْرَ الْمِثْلِ مِائَةٌ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُسَمَّى وَإِنْ زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى إذَا كَانَ الدُّخُولُ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَا يُوَازِي مَهْرَ الْمِثْلِ لِلْمَوْلَى وَمَا زَادَ لِلْمَرْأَةِ،؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قِيمَةُ الْبُضْعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ دُونَ الزَّائِدِ عَلَيْهِ، وَالْبُضْعُ مِلْكُ الْمَوْلَى فَكَانَ قِيمَتُهُ لَهُ لَا الزَّائِدُ عَلَى قِيمَةِ مِلْكِهِ، وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ:(وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ الْأَلْفُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ نَفَاذَ الْعَقْدِ بِالْعِتْقِ اسْتَنَدَ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْعَقْدِ فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَ الْمُسَمَّى) لِلْمَوْلَى إنْ أَعْتَقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَالْأَمَةِ إنْ أَعْتَقَهَا قَبْلَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَنِدُ الْجَوَازُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ وَالْمَانِعُ عَنْ الِاسْتِنَادِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الْمِلْكُ وَالْمِلْكُ قَدْ زَالَ بِالْعِتْقِ مُقْتَصِرًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمَةَ إذَا حَرُمَتْ حُرْمَةً غَلِيظَةً عَلَى زَوْجٍ كَانَ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَتَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَدَخَلَ بِهَا فَأَعْتَقَهَا الْمَوْلَى لَا تَحِلُّ عَلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ هَذَا الدُّخُولِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ
وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ آخَرُ
الْعِتْقِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْته قِيَاسٌ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ هُوَ أَنْ يَلْزَمَهُ مَهْرَانِ: مَهْرٌ بِالدُّخُولِ قَبْلَ نَفَاذِ النِّكَاحِ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَمَهْرٌ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ الْمُسَمَّى لِمَا ذَكَرْت مِنْ وُجُودِ الْمَانِعِ عَنْ الِاسْتِنَادِ، إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَقَالُوا: يَلْزَمُهُ مَهْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُسَمَّى وَقْتَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ مَهْرٌ بِالدُّخُولِ لَوَجَبَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، إذْ لَوْلَاهُ لَوَجَبَ الْحَدُّ فَكَانَ الْمَهْرُ وَاجِبًا بِالدُّخُولِ مُضَافًا إلَى الْعَقْدِ. فَإِيجَابُ مَهْرٍ آخَرَ بِالْعَقْدِ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَهْرَيْنِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَهَذَا كَمَا تَرَى لَا يُجْدِي؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الِاسْتِنَادِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَسَائِلِ لَمْ يَزُلْ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ الْمَانِعُ مِنْ الْجَوَازِ فِي الِاسْتِحْسَانِ الْمِلْكَ، وَإِنَّمَا هُوَ الْحَاجَةُ إلَى الصِّيَانَةِ عَنْ الْإِضْرَارِ بِالْمَوْلَى، فَمَتَى أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى فَقَدْ خَلَا هَذَا النِّكَاحُ عَنْ الْإِضْرَارِ بِالْمَوْلَى مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ، ثَبَتَ الْجَوَازُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَظَهَرَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ: وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ آخَرُ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مَوْقُوفٍ إلَخْ.
وَأُجِيبَ عَنْ عَدَمِ زَوَالِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ بِأَنَّ امْتِنَاعَ حِلِّهَا عَلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ إنَّمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ فِي الْقَائِمِ لَا فِي الْمُتَلَاشِي، وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مُتَلَاشٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْلُ بِالِاسْتِنَادِ يُنْتَقَضُ بِالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى أَعْتَقَهَا فَالْمَهْرُ لَهَا، وَلَوْ اسْتَنَدَ الْجَوَازُ إلَى أَصْلِ الْعَقْدِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ لِلْمَوْلَى، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ حَتَّى أَعْتَقَهَا. أُجِيبَ بِأَنَّ حُكْمَ الِاسْتِنَادِ يَظْهَرُ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ مُسْتَحِقُّهُ لَا فِيمَا يَخْتَلِفُ، وَهَاهُنَا يَخْتَلِفُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ زَمَانَ الثُّبُوتِ هُوَ الْأَمَةُ وَزَمَانَ الْعَقْدِ هُوَ الْمَوْلَى، فَلَمَّا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ زَمَانَ الثُّبُوتِ هُوَ الْأَمَةُ امْتَنَعَ اسْتِنَادُ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ إلَى زَمَانِ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَنَدَ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ إلَى زَمَانِ الْعَقْدِ يَبْطُلُ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ زَمَانَ الثُّبُوتِ فَيَبْطُلُ الِاسْتِنَادُ مِنْ حَيْثُ يَثْبُتُ.
بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مَوْقُوفٍ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ اتَّحَدَ بِاسْتِنَادِ النَّفَاذِ فَلَا يُوجِبُ إلَّا مَهْرًا وَاحِدًا.
(وَمَنْ وَطِئَ أَمَةَ ابْنِهِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَدَّعِيَهُ الْأَبُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْبَقَاءِ فَلَهُ تَمَلُّكُ جَارِيَتِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى صِيَانَةِ الْمَاءِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ دُونَهَا إلَى إبْقَاءِ نَفْسِهِ، فَلِهَذَا يَتَمَلَّكُ الْجَارِيَةَ بِالْقِيمَةِ وَالطَّعَامَ بِغَيْرِ قِيمَةٍ، ثُمَّ هَذَا الْمِلْكُ يَثْبُتُ قُبَيْلَ الِاسْتِيلَاءِ شَرْطًا لَهُ إذْ الْمُصَحَّحُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ أَوْ حَقُّهُ،
قَالَ: (وَمَنْ وَطِئَ أَمَةَ ابْنِهِ) وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ (فَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا دُونَ الْمَهْرِ)، إنَّمَا قَالَ:(وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَدَّعِيَهُ الْأَبُ)؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْ الدَّعْوَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَوَجْهُهُ أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْبَقَاءِ) لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ» وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْبَقَاءِ (فَلَهُ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ جَارِيَتِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى صِيَانَةِ الْمَاءِ). فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ صِيَانَةُ الْمَاءِ كَبَقَاءِ النَّفْسِ لَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ كَمَا فِي الطَّعَامِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ دُونَهَا إلَى إبْقَاءِ نَفْسِهِ) وَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ الْوَلَدُ عَلَى إعْطَاءِ الْجَارِيَةِ وَالِدَهُ لِلِاسْتِيلَادِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ ضَرُورِيٍّ، (فَلِهَذَا يَتَمَلَّكُ الْجَارِيَةَ بِالْقِيمَةِ، وَالطَّعَامَ بِغَيْرِ الْقِيمَةِ).
فَإِنْ عُورِضَ بِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ كَمَا فِي الْمَمْلُوكَةِ أَوْ حَقَّ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ هَذَا الْمِلْكُ يَثْبُتُ قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ شَرْطًا لَهُ، إذْ الْمُصَحَّحُ) يَعْنِي الِاسْتِيلَادَ إمَّا (حَقِيقَةُ الْمِلْكِ أَوْ حَقُّهُ)
وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ لِلْأَبِ فِيهَا حَتَّى يَجُوزَ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ يُلَاقِي مِلْكَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْمَهْرُ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ. .
قَالَ (وَلَوْ كَانَ الِابْنُ زَوَّجَهَا إيَّاهُ فَوَلَدَتْ مِنْهُ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ وَوَلَدُهَا حُرٌّ) لِأَنَّهُ صَحَّ التَّزَوُّجُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِخُلُوِّهَا عَنْ مِلْكِ الْأَبِ، أَلَا يَرَى أَنَّ الِابْنَ مَلَكَهَا مِنْ
عَلَى مَا ذَكَرْنَا (وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ لِلْأَبِ فِيهَا حَتَّى يَجُوزَ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهِ)؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا عَلَّقَ الْوَلَدَ احْتَاجَ الْأَبُ إلَى صِيَانَتِهِ عَنْ الضَّيَاعِ وَذَلِكَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَلَا ثُبُوتَ لَهُ بِدُونِ ذَلِكَ فَقَدَّمَ اقْتِضَاءَ تَقْدِيمِ الشَّرْطِ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَإِذَا قُدِّمَ كَانَ الْوَطْءُ وَاقِعًا فِي مِلْكِهِ (فَلَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ) فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ بِهَذَا الْوَطْءِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْمِلْكِ لَمَا سَقَطَ وَحُدَّ قَاذِفُهُ، وَقَاسَاهُ بِالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَوْلَدَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُقْرُ، (وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ) يَعْنِي فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَغَيْرِهَا: أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ شَرْطًا لَهُ، وَعِنْدَهُ بَعْدَهُ حُكْمًا لَهُ. وَاَلَّذِي ذَهَبْنَا إلَيْهِ هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ اسْتِيلَادَ الْأَبِ جَارِيَةَ وَلَدِهِ صَحِيحٌ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ وُقُوعُ الْوَطْءِ فِي الْمِلْكِ، حَتَّى لَوْ خَلَا عَنْهُ أَصْلًا لَمْ يَصِحَّ كَمَا فِي جَارِيَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهِ صِيَانَةً لِفِعْلِهِ عَنْ الْحُرْمَةِ وَصِيَانَةً لِلْوَلَدِ عَنْ الرِّقِّ. وَعُورِضَ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ إذَا وَلَدَتْ فَادِّعَاءُ الْأَبِ يُثْبِتُ النَّسَبَ، وَيَجِبُ الْعُقْرُ مَعَ قِيَامِ نَوْعِ مِلْكٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَثْبُتْ سَابِقًا عَلَى الْوَطْءِ، وَبِأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا غَيْرُ مُعَلَّقٍ وَجَبَ الْعُقْرُ، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَهُ لَمَا وَجَبَ، وَبِأَنَّهُ إذَا قَذَفَهُ إنْسَانٌ لَا يُحَدُّ، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَهُ لَحُدَّ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأُولَى بِأَنَّا نُقَدِّمُ الْمِلْكَ احْتِرَازًا عَنْ وُقُوعِ الِاسْتِيلَادِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ حُكْمًا، وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ نَوْعٌ مِنْ الْمِلْكِ الْقَائِمِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِهِ. وَعَنْ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ إثْبَاتَ الْمِلْكِ بِصِفَةِ التَّقَدُّمِ كَانَ لِصِيَانَةِ فِعْلِهِ عَنْ الْحُرْمَةِ وَصِيَانَةِ الْوَلَدِ عَنْ الرِّقِّ، وَهَذَا الْمَجْمُوعُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ هُنَا. وَعَنْ الثَّالِثَةِ بِأَنَّ تَقَدُّمَ الْمِلْكِ اجْتِهَادِيٌّ فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةٌ يَنْدَرِئُ بِهَا الْحَدُّ
(وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ زَوَّجَ جَارِيَتَهُ إيَّاهُ) أَيْ أَبَاهُ (فَوَلَدَتْ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ وَوَلَدُهُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ التَّزْوِيجُ عِنْدَنَا)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ
كُلِّ وَجْهٍ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَمْلِكَهَا الْأَبُ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَا يَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ مِلْكُ الْأَبِ لَوْ كَانَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، فَإِذَا جَازَ النِّكَاحُ صَارَ مَاؤُهُ مَصُونًا بِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْيَمِينِ فَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ،
لِأَنَّ لِلْأَبِ حَقَّ الْمِلْكِ فِي مَالِ وَلَدِهِ، حَتَّى لَوْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ عَالِمًا بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ فِي جَارِيَةٍ لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُهُ إيَّاهَا كَالْمَوْلَى إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ فِي مَالِ وَلَدِهِ أَظْهَرُ، أَلَا يَرَى أَنَّ اسْتِيلَادَهُ جَارِيَةَ الِابْنِ صَحِيحٌ، وَاسْتِيلَادَ الْمَوْلَى أَمَةَ مُكَاتَبِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَلَنَا أَنَّ أَمَةَ الِابْنِ خَالِيَةٌ عَنْ مِلْكِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ مَلَكَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِدَلَالَةِ حِلِّ الْوَطْءِ وَنَفَاذِ الْعِتْقِ وَصِحَّةِ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ (فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَمْلِكَهَا الْأَبُ بِوَجْهٍ) مِنْ الْوُجُوهِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ الِابْنُ مَلَكَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَذَلِكَ خَلَفٌ بَاطِلٌ، (وَكَذَا يَمْلِكُ) الِابْنُ (مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ مِلْكُ الْأَبِ لَوْ كَانَ فَدَلَّ انْتِفَاءُ مِلْكِهِ) وَقَوْلُهُ:(إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الْخَصْمِ لَوْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ عَالِمًا بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ لَمْ يُحَدَّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ، وَإِذَا كَانَتْ خَالِيَةً عَنْ مِلْكِهِ صَحَّ النِّكَاحُ، وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ صَارَ مَاؤُهُ مَصُونًا بِهِ (فَلَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْيَمِينِ) لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، (فَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) وَقَالَ زُفَرُ: تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِفُجُورٍ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، فَإِذَا اسْتَوْلَدَهَا بِالنِّكَاحِ أَوْ شُبْهَةِ نِكَاحٍ أَوْلَى أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَاءَهُ صَارَ مَصُونًا بِالنِّكَاحِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ إتْيَانَهُ لَمْ يَكُنْ إلَّا
وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ فِيهَا وَلَا فِي وَلَدِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُمَا، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِالْتِزَامِهِ بِالنِّكَاحِ وَوَلَدُهَا حُرٌّ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ أَخُوهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ. .
قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَحْتَ عَبْدٍ فَقَالَتْ لِمَوْلَاهُ أَعْتِقْهُ عَنِّي بِأَلْفٍ فَفَعَلَ فَسَدَ النِّكَاحُ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَفْسُدُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَقَعَ الْعِتْقُ عَنْ الْآمِرِ عِنْدَنَا حَتَّى يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُ، وَلَوْ نَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا، وَعِنْدَهُ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ لِأَنَّهُ طَلَبَ أَنْ يُعْتِقَ الْمَأْمُورُ عَبْدَهُ عَنْهُ، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ فَلَمْ يَصِحَّ الطَّلَبُ فَيَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الْمَأْمُورِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِتَقْدِيمِ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ إذْ الْمِلْكُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعِتْقِ عَنْهُ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ أَعْتِقْ طَلَبُ التَّمْلِيكِ مِنْهُ بِالْأَلْفِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِإِعْتَاقِ عَبْدِ الْآمِرِ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ أَعْتَقْت تَمْلِيكٌ مِنْهُ ثُمَّ الْإِعْتَاقُ
لِصِيَانَةِ الْمَاءِ. وَقَوْلُهُ: (وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ فِيهَا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَحْتَ عَبْدٍ) وَاضِحٌ إلَّا أَلْفَاظًا نُنَبِّهُ عَلَيْهَا. قَوْلُهُ: (لِصِحَّةِ الْعِتْقِ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْآمِرِ. وَقَوْلُهُ: (أَعْتِقْ طَلَبَ التَّمْلِيكِ مِنْهُ) تَقْدِيرُهُ أَعْتِقْ عَبْدَك الَّذِي هُوَ لَك فِي الْحَالِ عِنْدَ بَيْعِك لِي إيَّاهُ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ عَنِّي، فَيَكُونُ أَمْرًا بِإِعْتَاقِ عَبْدِ الْآمِرِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: أَعْتَقْت يَكُونُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: بِعْته مِنْك وَأَعْتَقْته عَنْك. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَرَّحَ بِالْبَيْعِ لَمْ يَقَعْ الْعِتْقُ إلَّا عَنْ الْمَأْمُورِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَا يَكُونُ الْمُقْتَضِي أَقْوَى مِنْ التَّصْرِيحِ بِهِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ صَرِيحًا، كَبَيْعِ الْأَجِنَّةِ فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ
عَنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْآمِرِ فَسَدَ النِّكَاحُ لِلتَّنَافِي بَيْن الْمِلْكَيْنِ.
(وَلَوْ قَالَتْ أَعْتِقْهُ عَنِّي وَلَمْ تُسَمِّ مَالًا لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ يُقَدِّمُ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقَبْضِ كَمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فَأَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ. وَلَهُمَا أَنَّ الْهِبَةَ مِنْ شَرْطِهَا الْقَبْضُ بِالنَّصِّ فَلَا يُمْكِنُ إسْقَاطُهُ وَلَا إثْبَاتُهُ اقْتِضَاءً لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ
يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْأَمْرِ فَسَدَ النِّكَاحُ لِلتَّنَافِي بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ وَلَا الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا. فَإِنْ قِيلَ: وَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ النِّكَاحُ هَاهُنَا وَإِنْ ثَبَتَ مِلْكُ الْيَمِينِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ وَالثَّابِتُ بِهِ ضَرُورِيٌّ يُثْبِتُ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْعِتْقِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى فَسَادِ النِّكَاحِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمِلْكَ هَاهُنَا كَمَا ثَبَتَ يَزُولُ حُكْمًا لِلْإِعْتَاقِ. وَمِثْلُهُ لَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَى مَنْكُوحَتَهُ لِمُوَكِّلِهِ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَمَا ثَبَتَ زَالَ. أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا ثَبَتَ ثَبَتَ بِجَمِيعِ لَوَازِمِهِ وَفَسَادُ النِّكَاحِ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ الْمِلْكِ اللَّازِمِ لِلْعِتْقِ، وَلَازِمُ اللَّازِمِ لَازِمٌ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ ابْتِدَاءً وَهُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَأَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ، لَكِنْ إنَّمَا لَا يَفْسُدُ بِهِ النِّكَاحُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ عِنْدَ الثُّبُوتِ وَهُوَ الْمُوَكِّلُ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّهُ) يَعْنِي أَبَا يُوسُفَ (يُقَدِّمُ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ) أَيْ لِتَصَرُّفِ الْآمِرِ لِمَا أَنَّ تَصْحِيحَ كَلَامِ الْعَاقِلِ وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ وَقَدْ أَمْكَنَ هَاهُنَا بِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ، وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِإِسْقَاطِ الْقَبُولِ الَّذِي هُوَ الرُّكْنُ فَلَأَنْ يُمْكِنَ بِإِسْقَاطِ الشَّرْطِ أَوْلَى، فَصَارَ (كَمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فَأَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ) فَفَعَلَ سَقَطَ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ مَا إذْ كَانَ الطَّلَبُ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ (وَلَهُمَا أَنَّ الْهِبَةَ مِنْ شَرْطِهَا الْقَبْضُ بِالنَّصِّ) وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» ، " (فَلَا يُمْكِنُ إسْقَاطُهُ وَلَا إثْبَاتُهُ اقْتِضَاءً)، وَقَوْلُهُ: إسْقَاطُهُ وَلَا إثْبَاتُهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ فِيهِ طَرِيقَيْنِ: أَحَدَهُمَا أَنْ يَسْقُطَ الْقَبْضُ كَمَا يَسْقُطُ الْقَبُولُ. وَالثَّانِي أَنْ يُجْعَلَ الْقَبْضُ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا. وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ) يَعْنِي أَنَّهُ
شَرْعِيٌّ، وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْفَقِيرُ يَنُوبُ عَنْ الْآمِرِ فِي الْقَبْضِ، أَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَقَعُ فِي يَدِهِ شَيْءٌ لِيَنُوبَ عَنْهُ.
لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْقَوْلِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ: أَعْتَقْت هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِسْقَاطِ فَيُقَالُ لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ، وَالْفِعْلُ الْحِسِّيُّ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ سُقُوطِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ فَيَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ فِي ضِمْنِهِ. قَوْلُهُ:(وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ) أَيْ مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ بِالْإِطْعَامِ (الْفَقِيرُ يَنُوبُ عَنْ الْآمِرِ فِي الْقَبْضِ) كَالْفَقِيرِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ يَنُوبُ قَبْضُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ، (أَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَقَعُ فِي يَدِهِ شَيْءٌ)؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ لِلْمِلْكِ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُطْلَبُ فِي التَّقْرِيرِ.
(بَابُ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ):
لَمَّا ذَكَرَ بَابَ نِكَاحِ الرَّقِيقِ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا مَنْ هُوَ أَدْوَنُ مَنْزِلَةً وَأَخَسُّ مِنْهُمْ رُتْبَةً وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ
بَابُ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ
(وَإِذَا تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِلَا شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةِ كَافِرٍ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ جَائِزٌ ثُمَّ أَسْلَمَا أُقِرَّا عَلَيْهِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ زُفَرٌ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْمُرَافَعَةِ إلَى الْحُكَّامِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي كَمَا قَالَ زُفَرٌ. لَهُ إنَّ الْخِطَابَاتِ عَامَّةٌ مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَتَلْزَمُهُمْ، وَإِنَّمَا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ لِذِمَّتِهِمْ إعْرَاضًا لَا تَقْرِيرًا، فَإِذَا تَرَافَعُوا أَوْ أَسْلَمُوا وَالْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ وَجَبَ التَّفْرِيقُ. وَلَهُمَا أَنَّ حُرْمَةَ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا فَكَانُوا مُلْتَزِمِينَ لَهَا، وَحُرْمَةُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَلَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَنَا بِجَمِيعِ الِاخْتِلَافَاتِ.
فَإِذَا تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةِ كَافِرٍ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ جَائِزٌ ثُمَّ أَسْلَمَا أُقِرَّا عَلَيْهِ) قُيِّدَ بِعِدَّةِ كَافِرٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي عِدَّةِ مُسْلِمٍ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا بِالْإِجْمَاعِ كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْمُشْرِكَةِ حَتَّى تَكُونَ فِي عِدَّتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصَوَّرَ بِأَنْ أَشْرَكَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَهِيَ فِي عِدَّةِ الْمُسْلِمِ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ زُفَرُ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْمُرَافَعَةُ إلَى الْحُكَّامِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِغَيْرِ شُهُودٍ (كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي) وَهُوَ التَّزَوُّجُ فِي عِدَّةِ كَافِرٍ آخَرَ (كَمَا قَالَ زُفَرُ) قَالَ زُفَرُ (الْخِطَابَاتُ) كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَنَحْوِهِ (عَامَّةٌ كَمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَتَلْزَمُهُمْ.
وَإِنَّمَا لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ لِذِمَّتِهِمْ إعْرَاضًا) كَمَا تَرَكْنَاهُمْ وَعِبَادَةَ الصَّنَمِ إعْرَاضًا (لَا تَقْرِيرًا، فَإِذَا تَرَافَعُوا أَوْ أَسْلَمُوا وَالْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ وَجَبَ التَّفْرِيقُ) عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (وَلَهُمَا أَنَّ حُرْمَةَ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، فَكَانُوا مُلْتَزِمِينَ لَهَا وَحُرْمَةُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ مُخْتَلَفٌ فِيهَا) فَإِنَّ مَالِكًا وَابْنَ أَبِي لَيْلَى يُجَوِّزَانِهِ (وَلَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَنَا بِجَمِيعِ الِاخْتِلَافَاتِ)، وَلَكِنَّا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا حَقًّا لِلشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِحُقُوقِهِ، وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْعِدَّةِ حَقًّا لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ، وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ فَحَالَةُ الْمُرَافَعَةِ وَالْإِسْلَامِ حَالَةُ الْبَقَاءِ وَالشَّهَادَةِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهَا، وَكَذَا الْعِدَّةُ لَا تُنَافِيهَا كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ
لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، فَإِذَا تَرَافَعَا أَوْ أَحَدُهُمَا أَوْ أَسْلَمَ وَالْعِدَّةُ غَيْرُ مُنْقَضِيَةٍ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِسْلَامُ وَالْمُرَافَعَةُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِالْإِجْمَاعِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُرْمَةَ النِّكَاحِ إنَّمَا هِيَ لِلْعِدَّةِ لِكَوْنِهِ نِكَاحَ الْمَنْكُوحَةِ مِنْ وَجْهٍ. وَثُبُوتُ الْعِدَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلشَّرْعِ أَوْ لِلزَّوْجِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ (لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِحُقُوقِهِ) وَلِهَذَا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَلَا إلَى الثَّانِي؛ (لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ)؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَضْعَ عَلَى ذَلِكَ الْفَرْضِ وَكَأَنَّ النِّكَاحَ وَقَعَ ابْتِدَاءً صَحِيحًا لِلْوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ صُدُورُ الرُّكْنِ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ) فَإِنَّ الْمَانِعَ مُتَحَقِّقٌ وَهُوَ اعْتِقَادُ الْحُرْمَةِ، وَإِذَا صَحَّ ابْتِدَاءً لَا يَرْتَفِعُ بِالْإِسْلَامِ وَالْمُرَافَعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَالَةُ الْبَقَاءِ (وَالشَّهَادَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهَا) وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ الشُّهُودُ لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ.
(وَكَذَا الْعِدَّةُ لَا تُنَافِي حَالَةَ الْبَقَاءِ كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ) يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ صِيَانَةً لِحَقِّ الْوَاطِئِ وَلَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ الْقَائِمُ،
فَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أُمَّهُ أَوْ ابْنَتَهُ ثُمَّ أَسْلَمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ لَهُ حُكْمُ الْبُطْلَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعِدَّةِ وَوَجَبَ التَّعَرُّضُ بِالْإِسْلَامِ فَيُفَرَّقُ.
وَعِنْدَهُ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ
وَهَذَا كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ عَنْ الْكَافِرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَمْنَعُ النِّكَاحَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ كَالِاسْتِبْرَاءِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا فِي الِابْتِدَاءِ وَحَالَةُ الْإِسْلَامِ وَالْمُرَافَعَةِ حَالَةُ بَقَاءٍ وَهِيَ لَا تَسْتَلْزِمُ الشُّرُوطَ وَلَا تُنَافِي الْعِدَّةَ عَلَى مَا قُلْنَا.
فَإِنْ تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ إحْدَى مَحَارِمِهِ أَوْ خَامِسَةً ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَرَافَعَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَمَا دَامَا عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَتَرَافَعَا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمَا وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ، لَكِنْ عِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِنِكَاحِ الْمَحَارِمِ حُكْمَ الْبُطْلَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِكَوْنِهِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ، وَإِذَا أَسْلَمَ وَجَبَ التَّعَرُّضُ بِهِ وَالتَّفْرِيقُ،
فِي الصَّحِيحِ إلَّا أَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ تُنَافِي بَقَاءَ النِّكَاحِ فَيُفَرَّقُ، بِخِلَافِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُنَافِيهِ، ثُمَّ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَبِمُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا لَا يُفَرَّقُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَحَدِهِمَا لَا يَبْطُلُ بِمُرَافَعَةِ صَاحِبِهِ إذْ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ اعْتِقَادُهُ، وَأَمَّا اعْتِقَادُ الْمُصِرِّ لَا يُعَارِضُ إسْلَامَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَلَوْ تَرَافَعَا يُفَرَّقُ بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَلِكَ بِالْمُرَافَعَةِ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ فِي الصَّحِيحِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُرْمَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ لِلشَّرْعِ أَوْ لِلزَّوْجِ إلَخْ. وَقَوْلُهُ:(فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ: إنَّ لَهُ حُكْمَ الْفَسَادِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ لَمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَقَاءِ. وَقَوْلُهُ: (إلَّا أَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ) جَوَابٌ عَنْ هَذَا التَّشْكِيكِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ (تُنَافِي بَقَاءَ النِّكَاحِ) كَمَا لَوْ اعْتَرَضْت عَلَى نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ بِرَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ (فَيُفَرَّقُ) بَيْنَهُمَا (بِخِلَافِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُنَافِيهِ) كَمَا مَرَّ (ثُمَّ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا) بِالِاتِّفَاقِ، (وَ) كَذَلِكَ (بِمُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا) وَطُلِبَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ إسْلَامَ أَحَدِهِمَا كَإِسْلَامِهِمَا فِي جَوَازِ التَّفْرِيقِ فَكَذَلِكَ رَفْعُ أَحَدِهِمَا يَكُونُ كَرَفْعِهِمَا؛ لِأَنَّهُ بِرَفْعِهِ انْقَادَ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا إذَا أَسْلَمَ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُفَرَّقُ بِرَفْعِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْآخَرَ قَدْ اسْتَحَقَّ بِاعْتِقَادِهِ بَقَاءَ هَذَا النِّكَاحِ، وَاسْتِحْقَاقُهُ لَا يَبْطُلُ بِمُرَافَعَةِ الْآخَرِ، (إذْ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ اعْتِقَادُهُ) بَلْ يُعَارِضُهُ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ اعْتِقَادَ الْمِصْرِ لَا يُعَارِضُ إسْلَامَ الْمُسْلِمِ؛
لِأَنَّ مُرَافَعَتَهُمَا كَتَحْكِيمِهِمَا.
(وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمَةً وَلَا كَافِرَةً وَلَا مُرْتَدَّةً)؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ، وَالْإِمْهَالِ ضَرُورَةَ التَّأَمُّلِ، وَالنِّكَاحُ يَشْغَلُهُ عَنْهُ فَلَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ (وَكَذَا الْمُرْتَدَّةُ لَا يَتَزَوَّجُهَا مُسْلِمٌ وَلَا كَافِرٌ)؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِلتَّأَمُّلِ وَخِدْمَةُ الزَّوْجِ تَشْغَلُهَا عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ بَيْنَهُمَا الْمَصَالِحَ، وَالنِّكَاحُ مَا شُرِعَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَصَالِحِهِ (فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُسْلِمًا فَالْوَلَدُ عَلَى دِينِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَلَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ صَارَ وَلَدُهُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ)
إذْ الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَأَمَّا إذَا تَرَافَعَا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا بِالْإِجْمَاعِ؛ (لِأَنَّ مُرَافَعَتَهُمَا كَتَحْكِيمِهِمَا) وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلًا وَطَلَبَا مِنْهُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَالْقَاضِي أَوْلَى بِذَلِكَ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ) وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ: (بَلْ لِمَصَالِحِهِ) يُرِيدُ بِهِ السُّكْنَى وَالِازْدِوَاجَ وَالتَّوَالُدَ وَالتَّنَاسُلَ. وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُسْلِمًا فَالْوَلَدُ عَلَى دِينِهِ) قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا التَّعْمِيمُ وَلَا وُجُودَ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ مَعَ كَافِرٍ أَيِّ كَافِرٍ كَانَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْبَقَاءِ بِأَنْ أَسْلَمْت الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُعْرَضْ الْإِسْلَامُ عَلَى الزَّوْجِ بَعْدُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ.
لِأَنَّ فِي جَعْلِهِ تَبَعًا لَهُ نَظَرًا لَهُ (وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا فَالْوَلَدُ كِتَابِيٌّ)؛ لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ نَظَرٍ لَهُ إذْ الْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ لِلتَّعَارُضِ وَنَحْنُ بَيَّنَّا التَّرْجِيحَ.
(وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ
وَقَوْلُهُ: (وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ) أَيْ فِي جَعْلِ الْوَلَدِ تَبَعًا لِلْكِتَابِيِّ (لِلتَّعَارُضِ) جَعَلَهُ تَبَعًا لِلْكِتَابِيِّ يُوجِبُ حِلَّ الذَّبِيحَةِ وَالنِّكَاحِ، وَجَعَلَهُ تَبَعًا لِلْمَجُوسِيِّ يُوجِبُ حُرْمَةَ ذَلِكَ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ إذْ الْكُفْرُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحَرَّمِ (وَنَحْنُ بَيَّنَّا التَّرْجِيحَ) وَهُوَ قَوْلُهُ: لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ نَظَرٍ. فَإِنْ قُلْت: عَلَى مَا ذَكَرْت كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا وَمِنْ الْخَصْمِ ذَهَبَ إلَى نَوْعِ تَرْجِيحٍ فَمِنْ أَيْنَ تَقُومُ الْحُجَّةُ؟ قُلْنَا تَرْجِيحُنَا يَدْفَعُ التَّعَارُضَ وَتَرْجِيحُهُ يَرْفَعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَالدَّفْعُ أَوْلَى مِنْ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّ كَمْ مِنْ وَاقِعٍ لَا يُرْفَعُ.
قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمْت الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ) أَطْلَقَ الْكُفْرَ فِي قَوْلِهِ: وَزَوْجُهَا كَافِرٌ لِعَدَمِ بَقَاءِ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ مَعَ كَافِرٍ أَيِّ كَافِرٍ كَانَ؛ وَقَيَّدَ الزَّوْجَةَ بِالْمَجُوسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً فَلَا عَرْضَ وَلَا
فَإِنْ أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ أَبَى فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، وَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَتَحْتَهُ مَجُوسِيَّةٌ عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ أَبَتْ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكُنْ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ؛ لَا تَكُونُ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا فِي الْوَجْهَيْنِ، وَأَمَّا الْعَرْضُ فَمَذْهَبُنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لَهُمْ وَقَدْ ضَمِنَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لَهُمْ، إلَّا أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ فَيَنْقَطِعُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَهُ مُتَأَكِّدٌ فَيَتَأَجَّلُ إلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ كَمَا فِي الطَّلَاقِ.
تَفْرِيقَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ: (كَمَا فِي الطَّلَاقِ) يُرِيدُ أَنَّ نَفْسَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَرْفَعُ النِّكَاحَ وَبَعْدَهُ لَا يَرْفَعُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَقَوْلُهُ: (إلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ) لَيْسَ بِصَوَابٍ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ عِنْدَهُ بِالْأَطْهَارِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَجَّلَ عِنْدَكُمْ إلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْمُدَّةُ لَمْ تُعْتَبَرْ لِلْعِدَّةِ بَلْ
وَلَنَا أَنَّ الْمَقَاصِدَ قَدْ فَاتَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ تُبْتَنَى عَلَيْهِ الْفُرْقَةُ، وَالْإِسْلَامُ طَاعَةٌ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا فَيُعْرَضُ الْإِسْلَامُ لِتَحْصُلَ الْمَقَاصِدُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ تَثْبُتَ الْفُرْقَةُ بِالْإِبَاءِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ
لِلتَّفْرِيقِ وَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ لَهَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَيْضُ كَمَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ، (وَلَنَا أَنَّ الْمَقَاصِدَ) بِالنِّكَاحِ (قَدْ فَاتَتْ) وَتَقْرِيرُهُ بِإِسْلَامِ الْمَرْأَةِ أَوْ زَوْجِ الْمَجُوسِيَّةِ فَاتَتْ الْمَقَاصِدُ بِالنِّكَاحِ وَفَوَاتُهَا. وَهُوَ حَادِثٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْإِسْلَامُ أَوْ كُفْرُ مَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِفَوَاتِ النِّعَمِ وَلَا إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ كُفْرَ مَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ هَذَا وَلَمْ يُمْنَعْ ابْتِدَاءً وَلَا فَوْتُهَا بَقَاءً فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ غَيْرِهِمَا، (فَيُعْرَضُ الْإِسْلَامُ لِتَحْصُلَ الْمَقَاصِدُ بِهِ) إنْ أَسْلَمَ أَوْ يَثْبُتُ مَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَهُوَ الْإِبَاءُ. فَإِنَّ الْإِبَاءَ عَنْهُ صَالِحٌ لِسَلْبِ النِّعَمِ. وَإِذَا أُضِيفَ الْفَوَاتُ إلَيْهِ أُضِيفَ مَا يَسْتَلْزِمُهُ الْفَوَاتُ وَهُوَ الْفُرْقَةُ فَكَانَتْ الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى الْإِبَاءِ. وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَوْعُ إغْلَاقٍ؛ لِأَنَّهُ
أَنَّ الْفُرْقَةَ بِسَبَبٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا كَالْفُرْقَةِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ. وَلَهُمَا أَنَّ بِالْإِبَاءِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَيْسَتْ بِأَهْلٍ لِلطَّلَاقِ فَلَا يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهَا عِنْدَ إبَائِهَا (ثُمَّ إذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِإِبَائِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا) لِتَأَكُّدِهِ بِالدُّخُولِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا)؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ قِبَلِهَا وَالْمَهْرُ لَمْ يَتَأَكَّدْ فَأَشْبَهَ الرِّدَّةَ وَالْمُطَاوَعَةَ.
(وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ أَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَتَحْتَهُ مَجُوسِيَّةٌ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ عَلَيْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ ثُمَّ تَبِينَ مِنْ زَوْجِهَا) وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ، وَالْعَرْضُ عَلَى الْإِسْلَامِ مُتَعَذِّرٌ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفُرْقَةِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ فَأَقَمْنَا شَرْطَهَا وَهُوَ مُضِيُّ الْحَيْضِ مَقَامَ السَّبَبِ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ،
يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: فَوَاتُ الْمَقَاصِدِ يَصْلُحُ سَبَبًا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْفُرْقَةُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْعَرْضِ، لَكِنْ إذَا تَأَمَّلْت فِيمَا ذَكَرْته حَقَّ التَّأَمُّلِ أَزَالَ عَنْك الشُّبْهَةَ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْبَحْثِ مَعَ الشَّافِعِيِّ شَرَعَ فِيهِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي أَنَّ الْفُرْقَةَ فِي الْوَجْهَيْنِ لَا تَكُونُ طَلَاقًا، وَوَجْهُ قَوْلِهِ: مَا ذَكَرَهُ (أَنَّ الْفُرْقَةَ بِسَبَبٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ) عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا وَهُوَ الْإِبَاءُ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ بِسَبَبٍ يُشْتَرَكُ فِيهِ لَا تَكُونُ طَلَاقًا كَالْفُرْقَةِ الْوَاقِعَةِ بِسَبَبِ مِلْكِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ وَالْوَاقِعَةُ بِالْمَحْرَمِيَّةِ. وَلَهُمَا أَنَّ الزَّوْجَ امْتَنَعَ بِالْإِبَاءِ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ لِمَا مَرَّ مِنْ فَوَاتِ الْمَقَاصِدِ، وَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ. وَقَوْلُهُ:(مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ) زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ، وَأَرَى أَنَّ تَرْكَهُ كَانَ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْطًا بَطَلَ قِيَاسُهُ عَلَى الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ. وَقَوْلُهُ:(أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَيْسَتْ بِأَهْلٍ لِلطَّلَاقِ) وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ: (فَأَشْبَهَ الرِّدَّةَ وَالْمُطَاوَعَةَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ: يَعْنِي أَنَّهَا إذَا ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَوْ مَكَّنَتْ ابْنَ زَوْجِهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا الْمَهْرُ لِتَأَكُّدِهِ بِالدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَلَا مَهْرَ لَهَا.
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْعَرْضُ عَلَى الْإِسْلَامِ مُتَعَذِّرٌ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (وَالْعَرْضُ عَلَى الْإِسْلَامِ مُتَعَذِّرٌ) مِنْ بَابِ: عَرَضْت النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ مِنْ الْقَلْبِ الَّذِي لَا يُشَجِّعُ عَلَيْهِ إلَّا أَفْرَادُ الْبُلَغَاءِ. وَقَوْلُهُ: (فَأَقَمْنَا شَرْطَهَا) أَيْ شَرْطَ الْفُرْقَةِ، (وَهُوَ مُضِيُّ الْحِيَضِ) الثَّلَاثِ إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ إنْ لَمْ تَحِضْ (مَقَامَ سَبَبِ الْفُرْقَةِ)، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ تَفْرِيقُ الْقَاضِي عِنْدَ إبَاءِ الزَّوْجِ الْإِسْلَامَ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ سَبَبٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ هُوَ الْإِبَاءُ. وَقَوْلُهُ:(كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ) يَعْنِي فِي قِيَامِ الشَّرْطِ مَقَامَ السَّبَبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ إضَافَةُ التَّلَفِ إلَى فِعْلِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ الَّتِي حُفِرَتْ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعِلَّةُ، لَكِنَّهُ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ طَبِيعِيًّا لَا تَعَدِّي فِيهِ، ثُمَّ إضَافَتُهُ إلَى السَّبَبِ وَهُوَ الْمَشْيُ
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَالشَّافِعِيُّ يَفْصِلُ كَمَا مَرَّ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَالْمَرْأَةُ حَرْبِيَّةٌ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَسَيَأْتِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِذَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا)؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ابْتِدَاءً فَلَأَنْ يَبْقَى أَوْلَى. .
قَالَ (وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَيْنَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا وَقَعَتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَقَعُ (وَلَوْ سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ
وَقَدْ تَعَذَّرَتْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّرِيقِ مُبَاحٌ لَا مَحَالَةَ فَأُضِيفَ إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ حَفْرُ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُعَارِضْهُ الْعِلَّةُ وَالسَّبَبُ، وَلَهُ شَبَهٌ بِالْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِهِ وُجُودًا وَفِيهِ تَعَدٍّ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْحَافِرِ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ، ثُمَّ الْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ مُسْلِمَةً فَهِيَ كَالْمُهَاجِرَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي حُكْمُ الْمُهَاجِرَةِ، وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُسْلِمُ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ، (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا) عِنْدَنَا (وَالشَّافِعِيُّ يَفْصِلُ كَمَا مَرَّ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الْحِيَضَ لِأَجْلِ الْفُرْقَةِ لَا لِلْعِدَّةِ فَتَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الزَّوْجَ فِي صُورَةِ الطَّلَاقِ بَاشَرَ سَبَبَ الْفُرْقَةِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ السَّبَبُ فِي الْحَالِ إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُضِيِّ الْحِيَضِ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْهُ فَاحْتَاجَ إلَى مُضِيِّهَا لِلْفُرْقَةِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهَا.
(وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَالْمَرْأَةُ حَرْبِيَّةٌ فَلَا عِدَّةَ لَهَا) بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا. وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (فَلَأَنْ يَبْقَى أَوْلَى)؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يُتَحَمَّلُ فِي النِّكَاحِ حَالَةَ الْبَقَاءِ وَإِنْ لَمْ يُتَحَمَّلْ فِي الِابْتِدَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ تَعْتَدُّ لَهُ وَتَبْقَى مَنْكُوحَةً؟ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ ابْتِدَاءً.
خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَيْنَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا، قَالَ:(وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَيْنَا)، صُورَةُ
وَقَعَتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ سُبِيَا مَعًا لَمْ تَقَعْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَعَتْ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ التَّبَايُنُ دُونَ السَّبْيِ عِنْدَنَا وَهُوَ يَقُولُ بِعَكْسِهِ. لَهُ أَنَّ لِلتَّبَايُنِ أَثَرُهُ فِي انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ، وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْفُرْقَةِ كَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ، أَمَّا السَّبْيُ فَيَقْتَضِي الصَّفَاءَ لِلسَّابِي وَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ، وَلِهَذَا
الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ، وَالْحَاصِلُ كَذَلِكَ.
وَتَقْرِيرُ دَلِيلِهِ أَنَّ التَّبَايُنَ أَثَرُهُ فِي انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ، وَانْقِطَاعُ الْوِلَايَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْفُرْقَةِ، كَالْحَرْبِيِّ إذَا دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَإِنَّ وِلَايَتَهُ قَدْ سَقَطَتْ إذْ الْمُرَادُ بِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ سُقُوطِ مَالِكِيَّتِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَكَالْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَإِنَّ وِلَايَتَهُ انْقَطَعَتْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْفُرْقَةِ، وَهَذَا لِإِبْطَالِ دَلِيلِ الْخَصْمِ. وَقَوْلُهُ:(أَمَّا السَّبْيُ فَيَقْتَضِي الصَّفَاءَ لِلسَّابِي وَلَا يَتَحَقَّقُ) الصَّفَاءُ لَهُ (إلَّا بِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ، وَلِهَذَا) أَيْ: وَلِأَنَّ السَّبْيَ يَقْتَضِي الصَّفَاءَ
يَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَسْبِيِّ. وَلَنَا أَنَّ مَعَ التَّبَايُنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَا تَنْتَظِمُ الْمَصَالِحُ فَشَابَهُ الْمَحْرَمِيَّةَ.
وَالسَّبْيُ يُوجِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَهُوَ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً فَكَذَلِكَ بَقَاءً
يَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَسْبِيِّ) لِإِثْبَاتِ الْمَذْهَبِ، (وَلَنَا أَنَّ الْمَصَالِحَ لَا تَنْتَظِمُ مَعَ التَّبَايُنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا،) وَتَقْرِيرُهُ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا يُنَافِي انْتِظَامَ الْمَصَالِحِ. وَمَا يُنَافِي انْتِظَامَ الْمَصَالِحِ يَقْطَعُ النِّكَاحَ كَالْمَحْرَمِيَّةِ، فَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ النِّكَاحَ، وَالْمُرَادُ بِالتَّبَايُنِ حَقِيقَةً تَبَاعُدُهُمَا شَخْصًا، وَبِالْحُكْمِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الدَّارِ الَّتِي دَخَلَهَا عَلَى سَبِيلِ الرُّجُوعِ بَلْ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْقَرَارِ وَالسُّكْنَى، وَهَذَا لِإِثْبَاتِ الْمَذْهَبِ.
وَقَوْلُهُ: (وَالسَّبْيُ يُوجِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ) لِرَدِّ دَلِيلِ الْخَصْمِ. وَتَقْرِيرُهُ: السَّبْيُ يُوجِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً، وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ جَازَ فَكَذَا بَقَاءً؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ
وَصَارَ كَالشِّرَاءِ ثُمَّ هُوَ يَقْتَضِي الصَّفَاءَ فِي مَحَلِّ عَمَلِهِ وَهُوَ الْمَالُ لَا فِي مَحَلِّ النِّكَاحِ. وَفِي الْمُسْتَأْمَنِ لَمْ تَتَبَايَنْ الدَّارُ حُكْمًا
الْمَسْبِيَّةُ مَنْكُوحَةً لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ مَعَ تَقَرُّرِ السَّبْيِ. وَالْمُنَافِي إذَا تَقَرَّرَ فَالْمُحْتَرَمُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ كَمَا إذَا تَقَرَّرَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ وَالرَّضَاعِ. وَقَوْلُهُ (وَصَارَ) أَيْ: صَارَ السَّبْيُ (كَالشِّرَاءِ) مِنْ حَيْثُ إنَّ النِّكَاحَ لَا يَفْسُدُ بِالشِّرَاءِ فَكَذَلِكَ بِالسَّبْيِ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ. وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ هُوَ) أَيْ: السَّبْيُ (يَقْتَضِي الصَّفَاءَ) أَيْ: سَلَّمْنَا أَنَّ السَّبْيَ يَقْتَضِي الصَّفَاءَ، لَكِنْ فِي مَحَلِّ عَمَلِهِ وَهُوَ الْمَالُ حَتَّى يَثْبُتَ الْمِلْكُ فِي رَقَبَةِ الْمَسْبِيِّ لِلسَّابِي عَلَى الْخُلُوصِ لَا فِي مَحَلِّ النِّكَاحِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَحَلَّ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا الْمَالِيَّةِ. وَقَدْ انْدَرَجَ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: وَلِهَذَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَسْبِيِّ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ وَهِيَ مِنْ مَحَلِّ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الرَّقَبَةُ. وَقَوْلُهُ: وَفِي الْمُسْتَأْمَنِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: كَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ أَوْ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ، وَكَانَ قَدْ اُحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ: وَحُكْمًا عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّبَايُنَ وَإِنْ وُجِدَ فِي الْمُسْتَأْمَنِ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ حُكْمًا لِقَصْدِهِ الرُّجُوعَ.
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لِقَصْدِهِ الرُّجُوعَ.
(وَإِذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ إلَيْنَا مُهَاجِرَةً جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَلْزَمُهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَثَرُ النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ وَجَبَتْ إظْهَارًا لِخَطَرِهِ، وَلَا خَطَرَ لَمِلْكِ الْحَرْبِيِّ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمَسْبِيَّةِ
وَإِذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ إلَيْنَا مُهَاجِرَةً) أَيْ: تَرَكَتْ أَرْضَ الْحَرْبِ إلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ وَخَرَجَتْ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً عَلَى قَصْدِ أَنْ لَا تَرْجِعَ إلَى مَا هَاجَرَتْ عَنْهُ أَبَدًا (جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَعْدَ أَنْ دَخَلَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ)، وَكُلُّ فُرْقَةٍ كَانَتْ كَذَلِكَ يَلْزَمُهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ كَالْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ لِإِظْهَارِ خَطَرِ مِلْكِ النِّكَاحِ، (وَلَا خَطَرَ لِمِلْكِ الْحَرْبِيِّ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمَسْبِيَّةِ) بِالِاتِّفَاقِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِمِلْكِهِ خَطَرٌ لَمَا وَجَبَتْ إذَا خَرَجَتْ حَامِلًا؟. أُجِيبَ بِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَكِنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ؛ لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ. فَإِنْ قِيلَ: الْهِجْرَةُ أَوْرَثَتْ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ وَهُوَ لَا يَرْبُو عَلَى الْمَوْتِ وَلَوْ مَاتَ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَلْتَجِبْ مَعَهَا أَيْضًا. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحُرُمَاتِ حُكْمًا فَلَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَأَمَّا تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ فَيُسْقِطُهَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَزُولُ مِلْكُهُ لَا إلَى أَثَرٍ.
وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا لَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا كَمَا فِي الْحُبْلَى مِنْ الزِّنَا. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ فَإِذَا ظَهَرَ الْفِرَاشُ فِي حَقِّ النَّسَبِ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ احْتِيَاطًا.
قَالَ (وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ
وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّبَايُنَ يَرْبُو عَلَى الْمَوْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْنَعُ التَّوَارُثَ وَالْمَوْتُ يُوجِبُهُ؟ وَلَوْ خَرَجَتْ حَامِلًا لَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ حَمْلَهَا ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ، فَإِذَا ظَهَرَ الْفِرَاشُ فِي حَقِّ النَّسَبِ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَنْعِ أَيْضًا احْتِيَاطًا كَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا حَبِلَتْ مِنْ مَوْلَاهَا لَا يُزَوِّجُهَا حَتَّى تَضَعَ، (وَ) رَوَى أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ (عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا)؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِلْحَرْبِيِّ فَجُزْؤُهُ أَوْلَى (كَمَا فِي الْحُبْلَى مِنْ الزِّنَا)، فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزَّانِي. قِيلَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ حَمْلٌ ثَابِتُ النَّسَبِ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ مِنْ الزِّنَا. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَمْلَ مِنْ الْغَيْرِ يَمْنَعُ الْوَطْءَ مُطْلَقًا وَثَابِتُ النَّسَبِ مُحْتَرَمٌ فَيَمْنَعُ النِّكَاحَ أَيْضًا دُونَ غَيْرِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَنْ الْإِسْلَامِ) وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ (وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ) بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَحَتَّى تَنْقَضِيَ ثَلَاثُ حِيَضٍ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَهُ مِنْ تَأَكُّدِ النِّكَاحِ وَعَدَمِ تَأَكُّدِهِ، وَكَانَتْ الْفُرْقَةُ (بِغَيْرِ طَلَاقٍ) حَتَّى لَا يُنْتَقَصَ عَدَدُ الطَّلَاقِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ مِنْ الزَّوْجِ فَهِيَ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ، هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْإِبَاءِ وَالْجَامِعُ مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى مَا أَصَّلْنَا لَهُ فِي الْإِبَاءِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الرِّدَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلنِّكَاحِ لِكَوْنِهَا مُنَافِيَةً لِلْعِصْمَةِ وَالطَّلَاقُ رَافِعٌ فَتَعَذَّرَ أَنْ تُجْعَلَ طَلَاقًا، بِخِلَافِ الْإِبَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ فَيَجِبُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ عَلَى مَا مَرَّ،
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ مِنْ الزَّوْجِ فَهِيَ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ) وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمَرْأَةِ فَهِيَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ (هُوَ يَعْتَبِرُهَا بِالْإِبَاءِ وَالْجَامِعُ مَا بَيَّنَّاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ: امْتَنَعَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ (وَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى مَا أَصَّلْنَا لَهُ فِي الْإِبَاءِ) وَهُوَ أَنَّ الْفُرْقَةَ بِسَبَبٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ وَالطَّلَاقُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالزَّوْجِ، (وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ) بَيْنَ الْإِبَاءِ وَالِارْتِدَادِ فَجَعَلَ الْفُرْقَةَ بِإِبَاءِ الزَّوْجِ طَلَاقًا دُونَ الرِّدَّةِ، (وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الرِّدَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلنِّكَاحِ لِكَوْنِهَا مُنَافِيَةً لِلْعِصْمَةِ)؛ لِأَنَّهَا تُبِيحُ النَّفْسَ وَالْمَالَ وَتُبْطِلُ الْمِلْكَ وَالنِّكَاحَ (وَالطَّلَاقُ) لَيْسَ بِمُنَافٍ لِلنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ (رَافِعٌ) لَهُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ مُسَبَّبًا عَنْهُ، وَالْمُسَبَّبُ عَنْ الشَّيْءِ الرَّافِعِ لَهُ لَا يُنَافِيهِ فَلَا تَكُونُ الرِّدَّةُ طَلَاقًا (بِخِلَافِ الْإِبَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ) وَلَيْسَ بِمُنَافٍ لِلنِّكَاحِ (فَيَجِبُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ عَلَى مَا مَرَّ) وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُنَافِي مِلْكَ الْعَيْنِ بَلْ يَصِيرُ مَوْقُوفًا فَمَا بَالُ مِلْكِ النِّكَاحِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي أَنَّ الرِّدَّةَ لَوْ كَانَتْ مُنَافِيَةً لَمَا وَقَعَ طَلَاقُ الْمُرْتَدِّ عَلَى امْرَأَتِهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَمَا فِي الْمَحْرَمِيَّةِ
وَلِهَذَا تَتَوَقَّفُ الْفُرْقَةُ بِالْإِبَاءِ عَلَى الْقَضَاءِ وَلَا تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ (ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُرْتَدُّ فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ إنْ دَخَلَ بِهَا وَنِصْفُ الْمَهْرِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةُ فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ إنْ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ)؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ قِبَلِهَا. .
قَالَ (وَإِذَا ارْتَدَّا مَعًا ثُمَّ أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا) اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ زُفَرٌ: يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ رِدَّةَ أَحَدِهِمَا مُنَافِيَةٌ، وَفِي رِدَّتِهِمَا رِدَّةُ أَحَدِهِمَا.
لَكِنَّهُ يَقَعُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَالرِّدَّةُ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً، وَتَوَقَّفَ تَحْصِيلُ مِلْكِ الْعَيْنِ بِالشِّرَاءِ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً. وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ تَابِعٌ لِإِمْكَانِ ظُهُورِ أَثَرِهِ، وَحَيْثُ كَانَتْ الْمَحَلِّيَّةُ مُتَصَوَّرَةَ الْعَوْدِ بِالتَّوْبَةِ أَمْكَنَ ظُهُورُ أَثَرِهِ وَكَانَ مُعْتَبَرًا، بِخِلَافِ الْمَحْرَمِيَّةِ فَإِنَّ الْمَحَلِّيَّةَ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ أَبَدًا فَلَا يُمْكِنُ ظُهُورُ أَثَرِهِ. وَعَنْ هَذَا قَالُوا: إذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْمَرْأَةِ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ فَكَانَ مُنَافِيًا لِلطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، فَإِنْ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ وَهُوَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ قَدْ ارْتَفَعَ، وَمَحَلِّيَّةُ الطَّلَاقِ بِالْعِدَّةِ وَهِيَ قَائِمَةٌ فَيَقَعُ. وَإِذَا ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ سَقَطَتْ عَنْهَا عِنْدَهُ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ،؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ كَالْمَيِّتِ فِي حَقِّنَا، وَبَقَاءُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ مُسْتَحِيلٌ وَالْعِدَّةُ مَتَى سَقَطَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِعَوْدِ سَبَبِهَا، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ هُنَاكَ بَاقِيَةٌ بِبَقَاءِ مَحَلِّهَا؛ لِأَنَّهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ كَانَ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ الْمَانِعُ وَالْعِدَّةُ بَاقِيَةٌ وَقَعَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ بَاقِيَةٌ عِنْدَهُ. وَقَوْلُهُ: (وَلِهَذَا تَتَوَقَّفُ الْفُرْقَةُ) تَوْضِيحٌ لِكَوْنِ الرِّدَّةِ مُنَافِيَةً لِلطَّلَاقِ دُونَ الْإِبَاءِ. وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (وَلَا نَفَقَةَ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ فَلَهَا كُلُّ مَهْرِهَا إنْ دَخَلَ بِهَا لَا إلَى مَا يَلِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَةَ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجِهَا فَحِينَئِذٍ لَا يَرْتَابُ أَحَدٌ فِي عَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ فِي الْمُرْتَدَّةِ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا. وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ قَبْلِهَا) يَعْنِي فَكَانَتْ كَالنَّاشِزَةِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا.
وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ ارْتَدَّا مَعًا) وَاضِحٌ. وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ بَنِي حَنِيفَةَ وَهْم حَيٌّ مِنْ الْعَرَبِ ارْتَدُّوا بِمَنْعِ الزَّكَاةِ
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ بَنِي حَنِيفَةَ ارْتَدُّوا ثُمَّ أَسْلَمُوا، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ، وَالِارْتِدَادُ مِنْهُمْ وَاقِعٌ مَعًا لِجَهَالَةِ التَّارِيخِ. وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الِارْتِدَادِ مَعًا فَسَدَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لِإِصْرَارِ الْآخَرِ عَلَى الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُنَافٍ كَابْتِدَائِهَا. .
وَبَعَثَ إلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الْجُيُوشَ فَأَسْلَمُوا وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ، وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرَةٌ فَحِلُّ ذَلِكَ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ. فَإِنْ قِيلَ: الِارْتِدَادُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ دَفْعَةً. أَجَابَ بِقَوْلِهِ: (وَالِارْتِدَادُ وَاقِعٌ مِنْهُمْ مَعًا حُكْمًا لِجَهَالَةِ التَّارِيخِ)، فَإِنَّ التَّارِيخَ إذَا جُهِلَ لَمْ يُحْكَمْ بِتَقَدُّمِ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ وُجِدَ جُمْلَةً وَاحِدَةً (وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الِارْتِدَادِ) أَيْ: بَعْدَ ارْتِدَادِهِمَا (فَسَدَ النِّكَاحُ لِإِصْرَارِ الْآخَرِ عَلَى الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُنَافٍ كَابْتِدَائِهَا) عَلَى مَا تَقَدَّمَ؛ ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ فَلَا شَيْءَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ جَانِبِهَا بِالْإِصْرَارِ عَلَى الرِّدَّةِ فَإِنَّ الْإِصْرَارَ بَعْدَ إسْلَامِ الْآخَرِ كَإِنْشَاءِ الرِّدَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْقَسْمِ
(بَابُ الْقَسْمِ):
كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ لَمَّا ذَكَرَ جَوَازَ عَدَدٍ مِنْ النِّسَاءِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ بَيَانِ الْعَدْلِ الْوَارِدِ مِنْ الشَّارِعِ فِي حَقِّهِنَّ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ، لَكِنَّ اعْتِرَاضَ مَا هُوَ أَهَمُّ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيَانِ جَوَازِ النِّكَاحِ وَعَدَمِهِ الرَّاجِعَيْنِ إلَى أَمْرِ الْفُرُوجِ وَغَيْرِهِمَا أَوْجَبَ تَأْخِيرَهُ. وَالْقَسْمُ بِفَتْحِ الْقَافِ مَصْدَرٌ، قَسَمَ الْقَسَّامُ الْمَالَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ: فَرَّقَهُ بَيْنَهُمْ وَعَيَّنَ أَنْصِبَاءَهُمْ، وَمِنْهُ الْقَسْمُ بَيْنَ النِّسَاءِ،
وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ بِكْرَيْنِ كَانَتَا أَوْ ثَيِّبَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا بِكْرًا وَالْأُخْرَى ثَيِّبًا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ وَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا فِي الْقَسْمِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَعْدِلُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ. وَكَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ: يَعْنِي زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ» وَلَا فَصْلَ فِيمَا رَوَيْنَا. وَالْقَدِيمَةُ وَالْجَدِيدَةُ سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا
وَقَدْ وَقَعَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ. (وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ) بِتَذْكِيرِ كَانَ مَعَ إسْنَادِهِ إلَى الْمُؤَنَّثِ الْحَقِيقِيِّ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ كَمَا فِي قَوْلِك حَضَرَ الْقَاضِي الْيَوْمَ امْرَأَةٌ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ:(وَلَا فَصْلَ فِيمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، (وَالْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا) مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَتْ الْجَدِيدَةُ بِكْرًا يَفْضُلُهَا بِسَبْعِ لَيَالٍ وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَبِثَلَاثٍ، ثُمَّ التَّسْوِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «تُفَضَّلُ الْبِكْرُ بِسَبْعٍ وَالثَّيِّبُ بِثَلَاثٍ» ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَفِي تَفْضِيلِ الْجَدِيدَةِ عَلَى الْقَدِيمَةِ، فَنَفَى الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلَ بِقَوْلِهِ: وَلَا فَصْلَ فِيمَا رَوَيْنَا، وَالثَّانِي بِقَوْلِهِ: لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْضِيلِ بِالْبُدَاءَةِ دُونَ الزِّيَادَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:«إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَك وَسَبَّعْتُ لَهُنَّ» وَنَحْنُ نَقُولُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْجَدِيدَةِ، وَلَكِنْ
وَلِأَنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ، وَالِاخْتِيَارُ فِي مِقْدَارِ الدَّوْرِ إلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّسْوِيَةُ دُونَ طَرِيقِهِ.
وَالتَّسْوِيَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْبَيْتُوتَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ؛ لِأَنَّهَا تُبْتَنَى عَلَى النَّشَاطِ. .
بِشَرْطِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا (وَلِأَنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ) كَالنَّفَقَةِ، وَلَا تَفَاوَتَ فِي ذَلِكَ بَيْن الْبِكْر وَالثَّيِّبِ وَالْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ، كَمَا لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ وَالْبَالِغَةِ وَالْمُرَاهِقَةِ وَالْمَجْنُونَةِ وَالْعَاقِلَةِ وَالْمَرِيضَةِ وَالصَّحِيحَةِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُنَّ فِي سَبَبِ هَذَا الْحَقِّ وَهُوَ الْحِلُّ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ فِي طَرَفِ الرَّجُلِ الْمَجْبُوبِ وَالْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ وَالْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ إذَا دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَسْمُ. وَقَوْلُهُ:(وَالِاخْتِيَارُ فِي مِقْدَارِ الدُّورِ لِلزَّوْجِ) ظَاهِرٌ.
وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا حُرَّةً وَالْأُخْرَى أَمَةً فَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ) بِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ، وَلِأَنَّ حِلَّ الْأَمَةِ أَنْقَصُ مِنْ حِلِّ الْحُرَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ النُّقْصَانِ فِي الْحُقُوقِ. وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِنَّ قَائِمٌ. .
قَالَ (وَلَا حَقَّ لَهُنَّ فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ فَيُسَافِرُ الزَّوْجُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرُ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقُرْعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ، لِمَا رُوِيَ
وَقَوْلُهُ: (بِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ) يَعْنِي مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «لِلْحُرَّةِ ثُلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ» ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ خِلَافُهُ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ. وَقَوْلُهُ:(وَلِأَنَّ حِلَّ الْأَمَةِ أَنْقَصُ مِنْ حِلِّ الْحُرَّةِ) يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُهَا مَعَ الْحُرَّةِ وَلَا بَعْدَهَا وَإِنَّمَا يَحِلُّ قَبْلَهَا وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ، (فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ النُّقْصَانِ فِي الْحُقُوقِ)؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ، (وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِنَّ قَائِمٌ) فَيَكُونُ لَهُنَّ الثُّلُثُ مِنْ الْقَسْمِ كَالْأَمَةِ.
وَقَوْلُهُ: (وَلَا حَقَّ لَهُنَّ فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ) هَذَا الْكَلَامُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا أَنَّ الْقُرْعَةَ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
«أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ» إلَّا أَنَّا نَقُولُ: إنَّ الْقُرْعَةَ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِهِنَّ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْبَابِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ مُسَافَرَةِ الزَّوْجِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَسْتَصْحِبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَكَذَا لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمُدَّةِ.
(وَإِنْ رَضِيَتْ إحْدَى الزَّوْجَاتِ بِتَرْكِ قَسْمِهَا لِصَاحِبَتِهَا جَازَ)؛ لِأَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ رضي الله عنها
مُسْتَحَقَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ إذَا سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ ثُمَّ رَجَعَ هَلْ لِلْبَاقِيَاتِ أَنْ يَحْتَسِبْنَ تِلْكَ الْمُدَّةَ أَوْ لَا؟ عِنْدَنَا لَيْسَ لَهُنَّ ذَلِكَ خِلَافًا لَهُ، وَهَذِهِ بِنَاءً عَلَى الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْإِقْرَاعَ إذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا وَلَمْ يَفْعَلْهُ كَانَتْ مُدَّةُ سَفَرِهِ نَوْبَةً الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْأُخْرَى مِثْلُ ذَلِكَ لِيَتَحَقَّقَ الْعَدْلُ، وَلَكِنَّنَا نَقُولُ: وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ فِي وَقْتِ
«سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام أَنْ يُرَاجِعَهَا وَتَجْعَلَ يَوْمَ نَوْبَتِهَا لِعَائِشَةَ رضي الله عنها» (وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِي ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقًّا لَمْ يَجِبْ بَعْدُ فَلَا يَسْقُطُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .
اسْتِحْقَاقِ الْقَسْمِ عَلَيْهِ وَفِي حَالَةِ السَّفَرِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ فَلَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الْمُدَّةُ مَحْسُوبَةً مِنْ نَوْبَتِهَا. وَالثَّالِثَةُ أَنَّ بَعْضَهُنَّ إنْ رَضِيَتْ بِتَرْكِ قَسْمِهَا لِصَاحِبَتِهَا جَازَ، وَإِنْ رَجَعَتْ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقًّا لَمْ يَجِبْ بَعْدُ فَلَا يَسْقُطُ) تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْإِسْقَاطَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَائِمِ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ الرُّجُوعُ عَنْهُ امْتِنَاعًا لَا إسْقَاطًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ، وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ مَتَى شَاءَ لِمَا قُلْنَا فَكَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
كِتَابُ الرَّضَاعِ
قَالَ (قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ إذَا حَصَلَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَثْبُتُ
كِتَابُ الرَّضَاعِ
لَمْ يَذْكُرْ عَامَّةَ مَسَائِلِ الرَّضَاعِ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَتَى بِكِتَابٍ لَهُ عَلَى حِدَةٍ لِمَا أَنَّ لَهُ أَحْكَامًا جَمَّةً مَخْصُوصَةً بِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ. وَسَبَبُ الْحُرْمَةِ بِالرَّضَاعِ الْجُزْئِيَّةُ بِنُشُورِ الْعَظْمِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ كَالْجُزَيْئَةِ بِالْإِعْلَاقِ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْإِعْلَاقَ أَمْرٌ خَفِيٌّ وَلَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ أُقِيمَ مَقَامَهُ وَهُوَ الْوَطْءُ، كَذَلِكَ نُشُورُ الْعَظْمِ وَإِنْبَاتُ اللَّحْمِ أَمْرٌ خَفِيٌّ وَلَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْإِرْضَاعُ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ، وَالرَّضَاعُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَبِكَسْرِهَا وَهُوَ لُغَةً فِيهِ مَصُّ اللَّبَنِ مِنْ الثَّدْيِ. وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مَصِّ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا رَضِيعًا مِنْ ثَدْيٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ ثَدْيُ الْآدَمِيَّةِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدُ (وَقَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ إذَا حَصَلَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَثْبُتُ الرَّضَاعُ إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ يَكْتَفِي الصَّبِيُّ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا.
التَّحْرِيمُ إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ» .
لِقَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ» وَالْمَصَّةُ فِعْلُ الرَّضِيعِ وَالْإِمْلَاجَةُ فِعْلُ الْمُرْضِعِ وَهُوَ الْإِرْضَاعُ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْحَصِرًا فِي خَمْسٍ مُشْبِعَاتٍ فَلَيْسَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ لَكِنْ لَمَّا انْتَفَى بِهِ مَذْهَبُ خَصْمِهِ ثَبَتَ مَذْهَبُهُ لِعَدَمِ الْقَائِلِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بِالْفَصْلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ مَنْ يَقُولُ بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ مُشْبِعَاتٍ، وَلَوْ تَمَسَّكَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ:«كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ فَنُسِخْنَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُتْلَى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» كَانَ أَدَلَّ عَلَى الْمَطْلُوبِ، لَكِنَّ قَوْلَهَا مِمَّا يُتْلَى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُضَعِّفُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا نَسْخَ بَعْدَهُ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِنُشُوءِ الْعَظْمِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ لَكِنَّهُ أَمْرٌ مُبْطَنٌ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِفِعْلِ الْإِرْضَاعِ، وَمَا رَوَاهُ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ أَوْ مَنْسُوخٌ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ لِمَا نُبَيِّنُ. .
(ثُمَّ مُدَّةُ الرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا سَنَتَانِ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله.
مِنْ النَّسَبِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ: يَعْنِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا تَجُوزُ عَلَى مَا مَرَّ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ يَتَضَمَّنُ جَوَابَ: سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ بِاعْتِبَارِ إنْشَارِ الْعَظْمِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ الْحُرْمَةُ، وَإِنْ كَانَتْ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِنُشُورِ الْعَظْمِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ، لَكِنَّهُ أَمْرٌ مُبَطَّنٌ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِفِعْلِ الْإِرْضَاعِ. وَقَوْلُهُ:(وَمَا رَوَاهُ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْخَصْمِ بِأَنَّ مَا رَوَيْتُمْ إمَّا مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ أَقْوَى عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ قَبْلَهُ أَوْ مَنْسُوخٌ إنْ كَانَ بَعْدَهُ. وَالْإِنْشَارُ بِالرَّاءِ: الْإِحْيَاءُ، وَفِي التَّنْزِيلِ {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} وَمِنْهُ:«لَا رَضَاعَ إلَّا مَا أَنْشَرَ الْعَظْمَ وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ» أَيْ قَوَّاهُ وَشَدَّهُ كَأَنَّهُ أَحْيَاهُ، وَيُرْوَى بِالزَّايِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ. قَوْلُهُ:(وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ) ظَاهِرٌ.
وَقَالَ زُفَرٌ: ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ حَسَنٌ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَوْلَيْنِ لِمَا نُبَيِّنُ فَيُقَدَّرُ بِهِ. وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} وَمُدَّةُ الْحَمْلِ أَدْنَاهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَبَقِيَ لِلْفِصَالِ حَوْلَانِ. وَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام «لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ» وَلَهُ هَذِهِ الْآيَةُ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَضَرَبَ لَهُمَا مُدَّةً فَكَانَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهَا كَالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلدَّيْنَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ قَامَ الْمُنْقِصُ فِي أَحَدِهِمَا فَبَقِيَ فِي الثَّانِي عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَغَيُّرِ الْغِذَاءِ لِيَنْقَطِعَ الْإِنْبَاتُ بِاللَّبَنِ وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ الصَّبِيُّ فِيهَا غَيْرَهُ فَقُدِّرَتْ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّهَا مُغَيَّرَةٌ، فَإِنَّ غِذَاءَ الْجَنِينِ يُغَايِرُ غِذَاءَ الرَّضِيعِ كَمَا يُغَايِرُ غِذَاءَ الْفَطِيمِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مُدَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ،
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّ الْحَوْلَ حَسَنٌ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ) بِاعْتِبَارِ حَوَلَانِ الْحَوْلِ الْمُوجِبِ لِتَغْيِيرِ الطِّبَاعِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَوْلَيْنِ لِمَا تَبَيَّنَ: يَعْنِي فِي وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: فَتُقَدَّرُ، أَيْ: الزِّيَادَةُ بِهِ: أَيْ بِالْحَوْلِ. وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ جَعَلَ مُدَّةَ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا، وَمُدَّةُ الْحَمْلِ أَدْنَاهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَبَقِيَ لِلْفِصَالِ حَوْلَانِ. وَقَوْلُهُ:(عليه الصلاة والسلام «لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله هَذِهِ الْآيَةُ) يَعْنِي: قَوْله تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} (وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ شَيْئَيْنِ) يَعْنِي الْحَمْلَ وَالْفِصَالَ، (وَضَرَبَ لَهُمَا مُدَّةً) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {ثَلاثُونَ شَهْرًا} وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ الْمُدَّةُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهَا كَمَا فِي الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلدَّيْنَيْنِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ إلَى شَهْرَيْنِ، يَكُونُ الشَّهْرَانِ أَجَلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّيْنَيْنِ بِكَمَالِهِ إلَّا أَنَّهُ قَامَ الْمُنْقَصُ فِي أَحَدِهِمَا: يَعْنِي الْحَمْلَ وَهُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ: «الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِفَلْكَةِ مِغْزَلٍ» .
فَإِنْ قُلْت: هَذَا الْمُنْقَصُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ حَدِيثًا يَلْزَمُ بِهِ تَغْيِيرُ الْكِتَابِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْكِتَابَ مُؤَوَّلٌ. فَإِنَّ عَامَّةَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ جَعَلُوا الْأَجَلَ الْمَضْرُوبَ لِلدَّيْنَيْنِ مُتَوَزِّعًا عَلَيْهِمَا، فَلَمْ يَكُنْ دَلَالَةُ الْكِتَابِ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ قَطْعِيَّةً، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَجِيءَ بِهَا إلَى عُثْمَانَ فَشَاوَرَ فِي رَجْمِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنْ خَاصَمْتُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ خَصَمْتُكُمْ، قَالُوا كَيْفَ؟ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} ، وَقَالَ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فَحَمْلُهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَفِصَالُهُ حَوْلَانِ، فَتَرَكَهَا. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ دَلَالَتُهَا عَلَى ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ التَّغْيِيرُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ إثْبَاتُ مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ بِآيَةٍ مُؤَوَّلَةٍ وَلَا بُعْدَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَغَيُّرِ الْغِذَاءِ لِيَنْقَطِعَ الْإِنْبَاتُ بِاللَّبَنِ وَيَحْصُلَ تَغَيُّرٌ إبْقَاءً لِحَيَاتِهِ، وَذَلِكَ أَيْ: التَّغَيُّرُ بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ الصَّبِيُّ فِيهَا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ عَنْ اللَّبَنِ دَفْعَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَوَّدَ غَيْرَهُ مُهْلِكٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَعَدَهُ الْمُصَنِّفُ لِزُفَرَ لَكِنَّهُ قَدَّرَهُ بِسَنَةٍ كَمَا فِي الْعِنِّينِ، وَقَدَّرْنَاهُ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّهَا مُغَيِّرَةٌ، فَإِنَّ غِذَاءَ الْجَنِينِ يُغَايِرُ غِذَاءَ الرَّضِيعِ، فَإِنَّ غِذَاءَ الْجَنِينِ كَانَ غِذَاءَ أُمِّهِ ثُمَّ صَارَ لَبَنًا خَالِصًا كَمَا أَنَّ غِذَاءَ الرَّضِيعِ يُغَايِرُ غِذَاءَ الْفَطِيمِ؛ لِأَنَّ غِذَاءَ الرَّضِيعِ اللَّبَنُ، وَغِذَاءَ الْفَطِيمِ اللَّبَنُ مَرَّةً وَالطَّعَامُ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ يُفْطَمُ تَدْرِيجًا، فَكَانَ الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَغْيِيرِ الْغِذَاءِ، وَتَغْيِيرُ الْغِذَاءِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
وَقَوْلُهُ: وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ يَعْنِي قَوْلَهُ: عليه الصلاة والسلام «لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ» مَحْمُولٌ عَلَى مُدَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَأَبْهَمَ الْمُصَنِّفُ الِاسْتِحْقَاقَ
وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّصُّ الْمُقَيَّدُ بِحَوْلَيْنِ فِي الْكِتَابِ.
قَالَ (وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّضَاعِ تَحْرِيمٌ) لِقَوْلِهِ
؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ: لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ: لَا يَسْتَحِقُّ الْوَلَدُ الرَّضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَفْيُ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ قَالُوا: إنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ عَلَى الْأَبِ مُقَدَّرَةٌ بِحَوْلَيْنِ عِنْدَ الْكُلِّ حَتَّى لَا تَسْتَحِقَّ الْمُطَلَّقَةُ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام:" لَا رَضَاعَ " لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَعَيْنُهُ قَدْ تُوجَدُ بَعْدَ حَوْلَيْنِ، فَكَانَ عَدَمُ الْوُجُوبِ وَعَدَمُ الْجَوَازِ مُحْتَمَلَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً، وَعَلَيْهِ أَيْ: وَعَلَى الِاسْتِحْقَاقِ يُحْمَلُ النَّصُّ الْمُقَيَّدُ بِحَوْلَيْنِ فِي الْكِتَابِ: يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} بِدَلِيلٍ قَوْله تَعَالَى بَعْدَهُ {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ} فَإِنَّهُ ذُكِرَ بِحَرْفِ الْفَاءِ مُعَلَّقًا لَهُ بِالتَّرَاضِي، وَلَوْ كَانَ الرَّضَاعُ بَعْدَهُ حَرَامًا لَمْ يُعَلَّقْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلرِّضَا فِي إزَالَةِ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا
(قَوْلُهُ: وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّضَاعِ تَحْرِيمٌ) سَوَاءٌ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ، وَإِذَا فُطِمَ قَبْلَهَا لَمْ يُعْتَبَرْ الْفِطَامُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى لَوْ فُطِمَ صَبِيٌّ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ أَوْ قَبْلَ ثَلَاثِينَ شَهْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ أَرْضَعَتْهُ امْرَأَةٌ بَلْ أَنْ نُمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةَ الرَّضَاعِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ دُونَ رِوَايَةِ الْحَسَنِ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ، وَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الصَّغِيرِ
عليه الصلاة والسلام «لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ» وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ النُّشُوءِ وَذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ إذْ الْكَبِيرُ لَا يَتَرَبَّى بِهِ،
وَالْكَبِيرِ فِي حُرْمَةِ الرَّضَاعِ تَشَبُّثًا بِظَوَاهِر النُّصُوصِ وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الرَّضَاعُ وَهُوَ يَقْتَضِي رَضِيعًا لَا مَحَالَةَ وَالْكَبِيرُ لَا يُسَمَّى رَضِيعًا. رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ سُئِلَ عَنْ رَضَاعِ الْكَبِيرِ فَأَوْجَبَ الْحُرْمَةَ، ثُمَّ أَتَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَتَرَوْنَ هَذَا الْأَشْمَطَ رَضِيعًا فِيكُمْ؟ فَلَمَّا بَلَغَ أَبَا مُوسَى
وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ قَبْلَ الْمُدَّةِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ. وَوَجْهُهُ انْقِطَاعُ النُّشُوءِ بِتَغَيُّرِ الْغِذَاءِ وَهَلْ يُبَاحُ الْإِرْضَاعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ؟ فَقِيلَ لَا يُبَاحُ؛ لِأَنَّ إبَاحَتَهُ ضَرُورِيَّةٌ لِكَوْنِهِ جُزْءُ الْآدَمِيِّ. .
قَالَ (وَ
يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ)
لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا (إلَّا أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَجُوزُ) أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ
قَالَ: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ. وَقَدْ اتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا.
قَالَ: (وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ لِمَا رَوَيْنَا) مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: " يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ " إلَّا صُورَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَهُوَ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ: (إلَّا أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ) جَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْأُخْتِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ أُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَهَا أُمٌّ مِنْ النَّسَبِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ الَّتِي كَانَتْ أُمَّهَا مِنْ النَّسَبِ، وَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْأُمِّ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أُخْتٌ مِنْ النَّسَبِ وَلَهَا أُمٌّ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ الَّتِي كَانَتْ أُمَّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِمَا جَمِيعًا، مِثْلُ أَنْ يَجْتَمِعَ الصَّبِيُّ وَالصَّبِيَّةُ الْأَجْنَبِيَّانِ عَلَى ثَدْيِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ وَلِلصَّبِيَّةِ أُمٌّ أُخْرَى مِنْ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِذَلِكَ الصَّبِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ الَّتِي كَانَتْ الْأُمُّ مِنْ الرَّضَاعَةِ الَّتِي انْفَرَدَتْ
مِنْ النَّسَبِ)؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ أُمَّهُ أَوْ مَوْطُوءَةَ أَبِيهِ، بِخِلَافِ الرَّضَاعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، وَلَا
بِهَا رَضِيعًا.
وَقَوْلُهُ: لِمَا رَوَيْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ»
يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَطِئَ أُمَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الرَّضَاعِ. .
(وَامْرَأَةُ أَبِيهِ أَوْ امْرَأَةُ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَذَكَرَ الْأَصْلَابَ فِي النَّصِّ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. .
(وَلَبَنُ الْفَحْلِ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ أَنْ تُرْضِعَ الْمَرْأَةُ صَبِيَّةً فَتَحْرُمُ هَذِهِ الصَّبِيَّةُ عَلَى زَوْجِهَا وَعَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ وَيَصِيرُ الزَّوْجُ الَّذِي نَزَلَ لَهَا مِنْهُ اللَّبَنُ أَبًا لِلْمُرْضَعَةِ) وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ: لَبَنُ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ
وَقَوْلُهُ: (لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي) فَإِنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ الْمُتَبَنَّى كَانَتْ حَرَامًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِإِسْقَاطِ حَلِيلَةِ ابْنِ الرَّضَاعِ أَوْ لِإِسْقَاطِهِمَا جَمِيعًا. وَمَا وَجْهُ تَرْجِيحِ جَانِبِ حَلِيلَةِ الِابْنِ الْمُتَبَنَّى فِي الْإِسْقَاطِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ حُرْمَةَ حَلِيلَةِ ابْنِ الرَّضَاعِ ثَابِتَةٌ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» فَحَمَلْنَاهُ عَلَى حَلِيلَةِ الِابْنِ الْمُتَبَنَّى لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّدَافُعُ بَيْنَ مُوجِبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ.
وَقَوْلُهُ: (وَلَبَنُ الْفَحْلِ)
لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ وَاللَّبَنُ بَعْضُهَا لَا بَعْضُهُ. وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَالْحُرْمَةُ بِالنَّسَبِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَذَا بِالرَّضَاعِ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام لِعَائِشَةَ رضي الله عنها:«لِيَلِجْ عَلَيْكِ أَفْلَحُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ مِنْ الرَّضَاعَةِ»
مِنْ بَابِ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى سَبَبِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اللَّبَنِ إنَّمَا هُوَ الْفَحْلُ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ: (عليه الصلاة والسلام لِعَائِشَةَ «لِيَلِجَ عَلَيْكِ أَفْلَحُ فَإِنَّهُ عَمُّك مِنْ الرَّضَاعَةِ») دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ عَائِشَةَ ارْتَضَعَتْ مِنْ امْرَأَةِ أَبِي الْقُعَيْسِ وَكَانَ اسْمُ أَخِي أَبِي قُعَيْسٍ أَفْلَحَ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ أُمًّا لَهَا كَانَ زَوْجُهَا أَبًا لَهَا وَأَخُو الزَّوْجِ عَمًّا لَهَا لَا مَحَالَةَ، وَرُوِيَ أَنَّهَا «قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ دَخَلَ عَلَيَّ وَأَنَا فِي ثِيَابِ فَضْلٍ، فَقَالَ: لِيَلِجَ عَلَيْك فَإِنَّهُ عَمُّك مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَتْ: إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ لَا الرَّجُلُ، فَقَالَ: عَمُّك مِنْ الرَّضَاعَةِ» وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ
وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِنُزُولِ اللَّبَنِ مِنْهَا فَيُضَافُ إلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا (وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِأُخْتِ أَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعِ)؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ إذَا كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ جَازَ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. .
(وَكُلُّ صَبِيَّيْنِ اجْتَمَعَا عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى) هَذَا هُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ أُمَّهُمَا وَاحِدَةٌ فَهُمَا أَخٌ وَأُخْتٌ (وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُرْضَعَةَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ الَّتِي أَرْضَعَتْ)؛ لِأَنَّهُ أَخُوهَا
لَبَنِ الْفَحْلِ؛ وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِنُزُولِ اللَّبَنِ مِنْهَا فَيُضَافُ إلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا. فَإِنْ قِيلَ: مَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ دُونَهُ لَا مَحَالَةَ، وَهَاهُنَا لَوْ ارْتَضَعَ الصَّبِيُّ مِنْ ثُنْدُوَةِ الرَّجُلِ نَفْسِهِ إذَا نَزَلَ مِنْهُ اللَّبَنُ لَا يَثْبُتُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِارْتِضَاعِ اللَّبَنِ بِسَبَبِهِ وَلَا تَثْبُتُ مِنْ اللَّبَنِ الْحَاصِلِ مِنْ نَفْسِهِ أُجِيبَ بِأَنَّ افْتِرَاقَ الْحُكْمِ لِافْتِرَاقِ الْوَصْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ لَا يُوجَدُ فِي إرْضَاعِ الرَّجُلِ، فَإِنَّ مَا يَنْزِلُ مِنْ ثُنْدُوَةِ الرَّجُلِ لَا يَتَغَذَّى بِهِ الصَّبِيُّ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ إنْبَاتُ اللَّحْمِ، وَهُوَ نَظِيرُ وَطْءِ الْمَيِّتَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مَوْجُودًا، وَإِنَّمَا اخْتَارُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَهِيَ مُلْبِسَةٌ فَإِنَّهَا تُوهِمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَنْزِلُ مِنْ ثُنْدُوَتِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَنْزِلُ مِنْ الْمَرْأَةِ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ أَوْ الْحَمْلِ مِنْ زَوْجِهَا، حَتَّى لَوْ نَزَلَ لَهَا اللَّبَنُ بِدُونِهِمَا كَمَا يَنْزِلُ لِلْبِكْرِ كَانَ ذَلِكَ لَبَنَ الْمَرْأَةِ خَاصَّةً لَا لَبَنَ الْفَحْلِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ تَحْتَ زَوْجِهَا. وَلَيْسَ حِلُّ الْوَطْءِ فِي الْإِحْبَالِ شَرْطَ الْحُرْمَةِ حَتَّى لَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَأَرْضَعَتْ بِهَذَا اللَّبَنِ صَبِيَّةً كَانَ لَبَنُ الْفَحْلِ لَا يَحِلُّ لِلزَّانِي هَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَذِهِ الصَّبِيَّةِ وَلَا لِأَبِيهِ وَلَا لِابْنِهِ وَلَا لِأَبْنَاءِ أَوْلَادِهِ لِوُجُودِ الْبَعْضِيَّةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الزَّانِي. وَقَوْلُهُ:(وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ) وَاضِحٌ.
صَبِيَّيْنِ اجْتَمَعَا عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدَةٍ وَقَوْلُهُ: (وَكُلُّ صَبِيَّيْنِ اجْتَمَعَا) غَلَّبَ الصَّبِيَّ عَلَى الصَّبِيَّةِ كَمَا فِي الْقَمَرَيْنِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدَةٍ: أَيْ: ثَدْيِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُمَا لَوْ اجْتَمَعَا عَلَى ضَرْعِ بَهِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ كَمَا سَيَجِيءُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِلَبَنِ الْآدَمِيَّةِ دُونَ الْأَنْعَامِ. وَقَوْلُهُ:(وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُرْضَعَةُ أَحَدًا مِنْ وُلْدِ الَّتِي أَرْضَعَتْ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْمُرْضَعَةُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى
وَلَا وَلَدُ وَلَدِهَا)؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أَخِيهَا. .
(وَلَا يَتَزَوَّجُ الصَّبِيُّ الْمُرْضَعُ أُخْتَ زَوْجِ الْمُرْضَعَةِ؛ لِأَنَّهَا عَمَّتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ وَاللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ مَوْجُودٌ فِيهِ حَقِيقَةً، وَنَحْنُ نَقُولُ
الْفَاعِلِيَّةِ وَنَصَبَ أَحَدًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ مِنْ وُلْدِ الَّتِي عَلَى طَرِيقِ الْإِضَافَةِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ مِنْ النُّسَخِ، وَفِي نُسْخَةٍ أُخْرَى: وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُرْضِعَةَ أَحَدٌ مِنْ وُلْدِ الَّتِي أَرْضَعَتْ بِعَكْسِ الْأُولَى فِي الْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِيَّةِ، وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ وَكَانَ كِلَاهُمَا بِخَطِّ شَيْخِي، وَنُسْخَتَانِ أُخْرَيَانِ لَيْسَتَا بِصَحِيحَتَيْنِ وَهُمَا بَعْدَ صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي الْمُرْضِعَةِ كَوْنُهَا فَاعِلَةً أَوْ مَفْعُولَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنْ هَذَا التَّقْدِيرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ الْوَلَدِ الَّذِي أَرْضَعَتْهُ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ وَاللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبُ) فَسَّرَ مُحَمَّدٌ الْغَلَبَةَ قَالَ: إنْ لَمْ يُغَيِّرْ الدَّوَاءُ اللَّبَنَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ وَإِنْ غَيَّرَ لَا تَثْبُتُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ غَيَّرَ طَعْمَ اللَّبَنِ وَلَوْنَهُ لَا يَكُونُ رَضَاعًا، وَإِنْ غَيَّرَ أَحَدَهُمَا يَكُونُ رَضَاعًا. وَقَوْلُهُ:(خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) فَإِنَّ عِنْدَهُ إذَا اخْتَلَطَ مِقْدَارُ مَا يَحْصُلُ بِهِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ مِنْ اللَّبَنِ فِي جُبِّ الْمَاءِ فَشَرِبَهُ الصَّبِيُّ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ، هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا،؛ لِأَنَّ الْمَحْسُوسَ لَا يُنْكَرُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: مَغْلُوبٌ، وَالْمَغْلُوبُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ غَيْرُ مَوْجُودٍ حُكْمًا كَمَا فِي الْيَمِينِ. حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنًا فَشَرِبَ لَبَنًا مَخْلُوطًا بِالْمَاءِ، وَالْمَاءُ غَالِبٌ عَلَى اللَّبَنِ لَا يَحْنَثُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا إنْ اُعْتُبِرَتْ جِهَةُ الْحُكْمِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ وَإِنْ اُعْتُبِرَتْ جِهَةُ الْحَقِيقَةِ تَثْبُتُ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً، وَإِنْ قِيلَ: فَعِنْدَ التَّعَارُضِ تُرَجَّحُ الْحُرْمَةُ احْتِيَاطًا. أُجِيبَ بِأَنَّ التَّعَارُضَ لَمْ يَثْبُتْ؛ لِأَنَّ التَّعَارُضَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقَابُلِ الْحُجَّتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، وَهَاهُنَا لَمْ تَثْبُتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ لِلْغَالِبِ فَضْلًا ذَاتِيًّا، وَلِلْمَغْلُوبِ فَضْلًا حَالِيًّا وَهُوَ جِهَةُ الْحُرْمَةِ، وَكَانَ التَّرْجِيحُ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الذَّاتِ لَا لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الْحَالِ، وَهَذَا كَمَا يُرَى مُتَنَاقِضٌ؛ لِأَنَّهُ نَفَى التَّعَارُضَ وَأَثْبَتَ التَّرْجِيحَ لِلْفَضْلِ الذَّاتِيِّ، وَلَا تَرْجِيحَ إلَّا بَعْدَ التَّعَارُضِ.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَا تَعَارُضَ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تُعَارِضُ الْحُكْمَ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ، فَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحُكْمِ مَوْجُودًا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ. سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ تَعَارَضَ ضَرْبًا تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ وَالْآخَرُ إلَى الْحَالِ،
الْمَغْلُوبُ غَيْرُ مَوْجُودٍ حُكْمًا حَتَّى لَا يَظْهَرَ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ كَمَا فِي الْيَمِينِ (وَإِنْ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: إذَا كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ قَالَ رضي الله عنه: قَوْلُهُمَا فِيمَا إذَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، حَتَّى لَوْ طَبَخَ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. لَهُمَا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ كَمَا فِي الْمَاءِ إذَا لَمْ يُغَيِّرْهُ شَيْءٌ عَنْ حَالِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الطَّعَامَ أَصْلٌ وَاللَّبَنُ تَابِعٌ لَهُ فِي حَقِّ الْمَقْصُودِ فَصَارَ كَالْمَغْلُوبِ،
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَمَوْضِعُهُ الْأُصُولُ. وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مَا إذَا وَقَعَ قَطْرَةٌ مِنْ الدَّمِ أَوْ الْخَمْرِ فِي جُبٍّ مِنْ الْمَاءِ نَجَّسَهُ وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَالِبًا حُكْمًا؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ الْمَاءِ فِي الْحُكْمِ هُوَ أَنْ يَكُونَ عَشْرًا فِي عَشْرٍ وَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْقَلِيلِ، فَلَمْ تَكُنْ الْحَقِيقَةُ مُعَارِضَةً لِلْحُكْمِ بَلْ كَانَتْ مَوْجُودَةً مَعَهُ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِالطَّعَامِ) وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ: (لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا، أَمَّا إذَا كَانَ مَغْلُوبًا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَ غَالِبًا فَلِأَنَّهُ إذَا طُبِخَ بِالطَّعَامِ يَصِيرُ اللَّبَنُ تَبَعًا لِلطَّعَامِ وَإِنْ كَانَ غَالِبًا حَتَّى لَا يُسَمَّى لَبَنًا مُطْلَقًا. وَقَوْلُهُ:(فَصَارَ كَالْمَغْلُوبِ) فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ غَيْرُ مَوْجُودٍ حُكْمًا، أَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا أَوْ يَكُونُ كَالْمَغْلُوبِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ
وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَقَاطُرِ اللَّبَنِ مِنْ الطَّعَامِ عِنْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ التَّغَذِّي بِالطَّعَامِ إذْ هُوَ الْأَصْلُ. .
(وَإِنْ اخْتَلَطَ بِالدَّوَاءِ وَاللَّبَنُ غَالِبٌ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ)؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ يَبْقَى مَقْصُودًا فِيهِ، إذْ الدَّوَاءُ لِتَقْوِيَتِهِ عَلَى الْوُصُولِ، وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِلَبَنِ الشَّاةِ وَهُوَ الْغَالِبُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ (وَإِنْ غَلَبَ لَبَنُ الشَّاةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ) اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ كَمَا فِي الْمَاءِ. .
(وَإِذَا اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَتَيْنِ تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِأَغْلَبِهِمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله)؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ شَيْئًا وَاحِدًا فَيُجْعَلُ الْأَقَلُّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ) وَزُفَرٌ (يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِهِمَا)؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَصِيرُ
بِمَوْجُودٍ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ مُنَاقَشَةٌ لَفْظِيَّةٌ تَنْدَفِعُ بِجَعْلِ الْكَافِ زَائِدَةً. وَقَوْلُهُ: (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ إذَا لَمْ يَتَقَاطَرْ اللَّبَنُ مِنْ الطَّعَامِ عِنْدَ حَمْلِ اللُّقْمَةِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَتَقَاطَرُ مِنْهُ فَتَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقَطْرَةَ مِنْ اللَّبَنِ إذَا دَخَلَتْ حَلْقَ الصَّبِيِّ كَانَتْ كَافِيَةً لِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ التَّغَذِّيَ بِالطَّعَامِ هُوَ الْأَصْلُ دُونَ اللَّبَنِ، وَالْمُعْتَبَرُ لِمَا يَقَعُ بِهِ التَّغَذِّي الْمُوجِبُ لِإِنْبَاتِ اللَّحْمِ.
وَإِنْ خُلِطَ بِالدَّوَاءِ وَاللَّبَنُ غَالِبٌ فِيهِ تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ يَبْقَى مَقْصُودًا فِيهِ حَيْثُ جُعِلَ غَالِبًا وَالدَّوَاءُ يُخْلَطُ بِهِ لِيُقَوِّيَهُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ. فَإِنْ قُلْت: إذَا كَانَ الدَّوَاءُ لِتَقْوِيَتِهِ عَلَى الْوُصُولِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ الْغَالِبُ وَالْمَغْلُوبُ؛ لِأَنَّ وُصُولَ قَطْرَةٍ مِنْهُ يَحْرُمُ. قُلْت: النَّظَرُ هَاهُنَا إلَى الْمَقْصُودِ، فَإِنْ كَانَ غَالِبًا كَانَ الْقَصْدُ إلَى التَّغَذِّي بِهِ وَالدَّوَاءُ لِتَقْوِيَتِهِ عَلَى الْوُصُولِ، وَإِذَا كَانَ مَغْلُوبًا كَانَ الْقَصْدُ إلَى التَّدَاوِي وَاللَّبَنِ لِتَسْوِيَةِ الدَّوَاءِ، يَلُوحُ إلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَإِذَا خُلِطَ دُونَ اخْتَلَطَ، وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ اللَّبَن يَبْقَى مَقْصُودًا. قَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِلَبَنِ شَاةٍ). صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ، وَكَذَا تَعْلِيلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَغْلُوبَ كَالْمُسْتَهْلَكِ لِعَدَمِ بَقَاءِ مَنْفَعَتِهِ. كَمَا إذَا صُبَّ كُوزٌ مِنْ الْمَاءِ الْعَذْبِ فِي الْبَحْرِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الْغَلَبَةَ هَاهُنَا غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ، إذْ الْغَلَبَةُ بِالِاسْتِهْلَاكِ وَالشَّيْءُ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ بِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْمُسْتَهْلَكِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْمَقْصُودِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا مُتَّحِدٌ، وَإِذَا لَمْ يَتَصَوَّرْ الْغَلَبَةَ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْمَقْصُودِ فَيَتَحَقَّقُ الرَّضَاعُ مِنْ الْقَلِيلِ صُورَةً وَمَعْنًى فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ قَوْلُهُ: كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَفِي رِوَايَةٍ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَيْمَانِ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ فَخُلِطَ لَبَنُهَا بِلَبَنِ بَقَرَةٍ أُخْرَى وَهُوَ غَالِبٌ فَشَرِبَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا
مُسْتَهْلَكًا فِي جِنْسِهِ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا رِوَايَتَانِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَيْمَانِ.
(وَإِذَا نَزَلَ لِلْبِكْرِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ صَبِيًّا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) لِإِطْلَاقِ النَّصِّ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ النُّشُوءِ فَتَثْبُتُ بِهِ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ. .
(وَإِذَا حَلَبَ لَبَنَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَوْجَرَ الصَّبِيَّ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، هُوَ يَقُولُ: الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَرْأَةُ ثُمَّ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا بِوَاسِطَتِهَا، وَبِالْمَوْتِ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لَهَا، وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ وَطْؤُهَا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ. وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ شُبْهَةُ الْجُزْئِيَّةِ وَذَلِكَ فِي اللَّبَنِ لِمَعْنَى الْإِنْشَازِ وَالْإِنْبَاتِ وَهُوَ قَائِمٌ بِاللَّبَنِ، وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَيِّتَةِ دَفْنًا
الِاخْتِلَافِ، عَنْهُ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ كَالْمُسْتَهْلَكِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَكَثَّرُ بِجِنْسِهِ وَلَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا.
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا نَزَلَ لِلْبِكْرِ لَبَنٌ) ظَاهِرٌ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا حَلَبَ لَبَنَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأُوجِرَ الصَّبِيُّ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) قُيِّدَ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَبَ قَبْلَ الْمَوْتِ وَأُوجِرَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ قَوْلُهُ: كَقَوْلِنَا عَلَى الْأَظْهَرِ. هُوَ يَقُولُ: الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَبَتَتْ بَيْنَهُمَا ثُمَّ تَتَعَدَّى مِنْهَا إلَى غَيْرِهَا بِوَاسِطَةٍ وَبِالْمَوْتِ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لَهَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ وَطْؤُهَا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ فِي الْحُرْمَةِ وَلَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لَهَا حَتَّى تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا.
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ شُبْهَةُ الْجُزْئِيَّةِ وَذَلِكَ فِي اللَّبَنِ بِمَعْنَى الْإِنْشَارِ وَالْإِنْبَاتِ، وَهُوَ قَائِمٌ بِاللَّبَنِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ كَوْنِهِ مُغَذِّيًا كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ لَحْمُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَالْفَائِدَةُ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي ظُهُورِ الْحُرْمَةِ فِيهَا بَلْ تَظْهَرُ فِي الْمَيِّتَةِ دَفْنًا وَتَيَمُّمًا بِأَنْ كَانَ لِهَذِهِ الْمُرْضِعَةِ الَّتِي أُوجِرَ لَبَنُ هَذِهِ الْمَيِّتَةِ فِي فَمِهَا زَوْجٌ فَإِنَّ لِهَذَا الزَّوْجِ أَنْ يَدْفِنَ وَيُيَمِّمَ الْمَيِّتَةَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَحْرَمًا لَهَا حَيْثُ صَارَتْ أُمَّ امْرَأَتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا الْحُرْمَةُ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ وَطْؤُهَا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ: يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ بِالْوَطْءِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِمُلَاقَاتِهِ بِمَحَلِّ الْحَرْثِ لِتَثْبُتَ بِهِ الْحُرْمَةُ وَمَحَلُّ الْحَرْثِ قَدْ زَالَ
وَتَيَمُّمًا. أَمَّا الْحُرْمَةُ فِي الْوَطْءِ لِكَوْنِهِ مُلَاقِيًا لِمَحَلِّ الْحَرْثِ وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ فَافْتَرَقَا. .
(وَإِذَا احْتَقَنَ الصَّبِيُّ بِاللَّبَنِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ كَمَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُفْسِدَ فِي الصَّوْمِ إصْلَاحُ الْبَدَنِ وَيُوجَدُ ذَلِكَ فِي الدَّوَاءِ. فَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فِي الرَّضَاعِ فَمَعْنَى النُّشُوءِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الِاحْتِقَانِ؛ لِأَنَّ الْمُغَذِّي
بِالْمَوْتِ فَافْتَرَقَا.
احْتَقَنَ الصَّبِيُّ بِاللَّبَنِ وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا احْتَقَنَ بِاللَّبَنِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: صَوَابُهُ حُقِنَ لَا احْتَقَنَ، يُقَالُ: حَقَنَ الْمَرِيضَ دَاوَاهُ بِالْحُقْنَةِ، وَاحْتَقَنَ الصَّبِيُّ غَيْرُ صَحِيحٍ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ، وَاحْتُقِنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ غَيْرُ جَائِزٍ فَتَعَيَّنَ حَقَنَ، وَلَكِنْ ذُكِرَ فِي تَاجِ الْمَصَادِرِ الِاحْتِقَانُ حَقَنَهُ كَرَدَنَ فَجَعَلَهُ مُتَعَدِّيًا فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَبْنِيًّا
وُصُولُهُ مِنْ الْأَعْلَى. .
(وَإِذَا نَزَلَ لِلرَّجُلِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيًّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَبَنٍ عَلَى التَّحْقِيقِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّشُوءُ وَالنُّمُوُّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ. .
(وَإِذَا شَرِبَ صَبِيَّانِ مِنْ لَبَنِ شَاةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ)؛ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِهَا.
لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.
نَزَلَ لِلرَّجُلِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيًّا
(قَوْلُهُ: وَهَذَا لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ) بَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ اللَّبَنَ فِي الْأَصْلِ لِغِذَاءِ الْوَلَدِ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ لِسَائِرِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِ لِيَقُومَ مَقَامَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَلِهَذَا اخْتَصَّ اللَّبَنُ عَلَى التَّحْقِيقِ بِمَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَهَذَا لَا يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ بِمَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ إذَا تَأَمَّلْت لَكِنَّ اخْتِصَاصَهُ بِالْأُنْثَى الْوَلُودِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ أَذُونًا لَا صَمُوخًا فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ لَمْ يَخْتَلِفْ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا فِي الْآدَمِيِّ فِي الذَّكَرِ لَيْسَ بِلَبَنٍ عَلَى التَّحْقِيقِ كَدَمِ السَّمَكِ.
(وَإِذَا شَرِبَ صَبِيَّانِ مِنْ لَبَنِ شَاةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ؛ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِهَا) وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي هَذَا حِكَايَةٌ وَهِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ صَاحِبَ الْأَخْبَارِ كَانَ
وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ حُرِّمَتَا عَلَى الزَّوْجِ)؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ رَضَاعًا وَذَلِكَ حَرَامٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نَسَبًا (ثُمَّ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ فَلَا مَهْرَ لَهَا)؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا
يَقُولُ: تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ، فَإِنَّهُ دَخَلَ بُخَارَى فِي زَمَانِ الشَّيْخِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ وَجَعَلَ يُفْتِي فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّك لَسْت هُنَاكَ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ نُصْحَهُ حَتَّى اسْتَفْتَى عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَفْتَى بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فَاجْتَمَعُوا وَأَخْرَجُوهُ مِنْ بُخَارَى.
قَالَ: (وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ حَرُمَتَا عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ رَضَاعًا وَذَلِكَ حَرَامٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نَسَبًا) فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ فَإِنَّ حُرْمَتَهَا مُؤَبَّدَةٌ، وَكَذَلِكَ الصَّغِيرَةُ إنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا جَازَ التَّزَوُّجُ بِالصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا رَبِيبَةٌ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا (ثُمَّ إنَّهُ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ فَلَا مَهْرَ لَهَا) إنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ؛ (لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا) قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَلِلصَّغِيرَةِ
قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا (وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ)؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ لَا مِنْ جِهَتِهَا، وَالِارْتِضَاعُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مِنْهَا لَكِنَّ فِعْلَهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا كَمَا إذَا قَتَلَتْ مُوَرِّثَهَا (وَيَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْكَبِيرَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ بِهِ الْفَسَادَ، وَإِنْ لَمْ تَتَعَمَّدْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ عَلِمَتْ بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ امْرَأَتُهُ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ أَكَّدَتْ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ لَكِنَّهَا مُسَبَّبَةٌ فِيهِ إمَّا لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ لَيْسَ بِإِفْسَادٍ لِلنِّكَاحِ وَضْعًا وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ،
قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا (وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَجِئْ مِنْ قِبَلِهَا) فَإِنْ قِيلَ: الْعِلَّةُ لِلْفُرْقَةِ الِارْتِضَاعُ وَهِيَ فِعْلُهَا فَلِمَ لَمْ تُضَفْ الْفُرْقَةُ إلَيْهَا؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: (وَالِارْتِضَاعُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مِنْهَا لَكِنْ فِعْلُهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا) أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ قَتَلَتْ مُوَرِّثَهَا لَمْ تُحْرَمْ مِنْ الْمِيرَاثِ؟. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِصَغِيرَةٍ مُسْلِمَةٍ تَحْتَ مُسْلِمٍ ارْتَدَّ أَبَوَاهَا وَلَحِقَا بِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا وَلَا يُقْضَى لَهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ وَلَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ مِنْهَا.
وَالْجَوَابُ: إنَّا قَدْ قُلْنَا كُلَّمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا وَلَمْ يَلْزَمْ أَنَّ كُلَّمَا لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَحِقَهَا أَمْرٌ أَخْرَجَهَا عَنْ مَحَلِّيَّةِ النِّكَاحِ كَالرِّدَّةِ الْحَاصِلَةِ بِتَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ أَسْقَطَ حَقَّهَا (وَيُرْجَعُ بِهِ) أَيْ: بِمَا أَدَّى مِنْ نِصْفِ مَهْرِ الصَّغِيرَةِ (عَلَى الْكَبِيرَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ) بِأَنْ قَصَدَتْ بِالْإِرْضَاعِ إفْسَادَ النِّكَاحِ، (وَإِنْ لَمْ تَتَعَمَّدْ) بِأَنْ قَصَدَتْ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْهَا جُوعًا (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ الصَّغِيرَةَ امْرَأَةُ زَوْجِهَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِي الْوَجْهَيْنِ) جَمِيعًا يَعْنِي فِي تَعَمُّدِ الْفَسَادِ وَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُسَبِّبَ كَالْمُبَاشِرِ وَلِهَذَا جُعِلَ فَتْحُ بَابِ الْقَفَصِ وَالْإِصْطَبْلِ وَحَلُّ قَيْدِ الْآبِقِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَفِي الْمُبَاشَرَةِ الْمُتَعَدِّي وَغَيْرُ الْمُتَعَدِّي سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ فِي التَّسَبُّبِ، (وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ أَكَّدَتْ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ) بِتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ إذَا بَلَغَتْ حَدًّا تُشْتَهَى، (وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ) فِي إيجَابِ الضَّمَانِ، (لَكِنَّهَا مُسَبِّبَةٌ فِي ذَلِكَ) بِالتَّأْكِيدِ لَا مُبَاشِرَةٌ، (إمَّا لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ لَيْسَ بِإِفْسَادِ النِّكَاحِ وَضْعًا)؛ لِأَنَّ وَضْعَهُ لِتَرْبِيَةِ الصَّغِيرِ لَا لِإِفْسَادِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْإِفْسَادُ
أَوْ لِأَنَّ إفْسَادَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِسُقُوطِهِ، إلَّا أَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ عَلَى
بِاتِّفَاقِ الْحَالِ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ نِكَاحًا، أَوْ لِأَنَّ إفْسَادَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَقَوِّمٍ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكِ عَيْنٍ وَلَا مَنْفَعَةٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلِهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ وَإِيجَارِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِلْكٌ ضَرُورِيٌّ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِسُقُوطِهِ؛ لِأَنَّ مَا يَفُوتُ بِهِ الْمُبْدَلُ يَفُوتُ بِهِ الْبَدَلُ أَيْضًا.
وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ: الْكَبِيرَةُ بِإِرْضَاعِهَا مُسَبِّبَةٌ فِي تَأْكِيدِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ لَا مُبَاشِرَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ لَيْسَ بِإِفْسَادِ النِّكَاحِ وَضْعًا كَمَا تَقَرَّرَ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِرْضَاعَ إفْسَادُ النِّكَاحِ لَكِنَّ إفْسَادَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ لِمَا تَقَرَّرَ أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِإِلْزَامِهِ كَيْفَ وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ
مَا عُرِفَ، لَكِنَّ مِنْ شَرْطِهِ إبْطَالَ النِّكَاحِ، وَإِذَا كَانَتْ مُسَبَّبَةً يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدِّي كَحَفْرِ الْبِئْرِ ثُمَّ إنَّمَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً إذَا عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَقَصَدَتْ بِالْإِرْضَاعِ الْفَسَادَ، أَمَّا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ أَوْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَلَكِنَّهَا قَصَدَتْ دَفْعَ الْجُوعِ وَالْهَلَاكِ عَنْ الصَّغِيرَةِ دُونَ الْفَسَادِ لَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِذَلِكَ، وَلَوْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ تَعْلَمْ بِالْفَسَادِ لَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً أَيْضًا، وَهَذَا مِنَّا اعْتِبَارُ الْجَهْلِ لِدَفْعِ قَصْدِ الْفَسَادِ لَا لِدَفْعِ الْحُكْمِ. .
الْمَهْرِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي بَابِ الْمَهْرِ، وَالْمُتْعَةُ تَجِبُ بِالنَّصِّ ابْتِدَاءً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَتِّعُوهُنَّ} ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَادَ إلَيْهَا سَالِمًا، لَكِنْ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ: أَيْ: وُجُوبِ نِصْفِ الْمَهْرِ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ إبْطَالُ النِّكَاحِ فَكَانَتْ صَاحِبَةَ شَرْطٍ فَهِيَ مُسَبِّبَةٌ، وَإِذَا كَانَتْ مُسَبِّبَةً يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدِّي كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً إذَا عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَعَلِمَتْ أَنَّ الْإِرْضَاعَ مُفْسِدٌ وَقَصَدَتْ بِهِ الْفَسَادَ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ أَوْ عَلِمَتْ بِهِ وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْإِرْضَاعَ مُفْسِدٌ أَوْ عَلِمَتْ بِهِ لَكِنْ قَصَدَتْ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْ الصَّغِيرَةِ جُوعًا لَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً لِكَوْنِهَا مَأْمُورَةً بِذَلِكَ أَيْ: بِالْإِرْضَاعِ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ. فَإِنْ قِيلَ: الْجَهْلُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِعُذْرٍ فَكَيْفَ جُعِلَ جَهْلُ الْمَرْأَةِ بِفَسَادِ النِّكَاحِ عُذْرًا فِي حَقِّ عَدَمِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهَا؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: وَهَذَا مِنَّا اعْتِبَارُ الْجَهْلِ لِدَفْعِ قَصْدِ الْفَسَادِ لَا لِدَفْعِ الْحُكْمِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ يَعْتَمِدُ التَّعَدِّيَ وَالتَّعَدِّي بِمَا يَحْصُلُ بِقَصْدِ الْفَسَادِ وَالْقَصْدُ إلَى الْفَسَادِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْفَسَادِ، فَإِذَا انْتَفَى الْعِلْمُ بِالْفَسَادِ انْتَفَى قَصْدُ الْفَسَادِ، وَكَانَ اعْتِبَارُ الْجَهْلِ لِدَفْعِ قَصْدِ الْفَسَادِ لَا لِدَفْعِ الْحُكْمِ. فَإِنْ قُلْت: دَفْعُ قَصْدِ الْفَسَادِ يَسْتَلْزِمُ دَفْعَ الْحُكْمِ فَكَانَ اعْتِبَارُ
وَلَا تُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِالْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ فَتَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ. وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي بَابِ النِّكَاحِ
الْجَهْلِ لِدَفْعِ الْحُكْمِ. قُلْت: لَزِمَ ذَلِكَ ضِمْنًا فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: (وَلَا تُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ) أَيْ: عَنْ الرِّجَالِ أَجْنَبِيَّاتٍ كُنَّ أَوْ أُمَّهَاتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ أَكْثَرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ. وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدَةٍ إذَا اتَّصَفَتْ بِالْعَدَالَةِ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الرَّضَاعَ يَكُونُ بِالثَّدْيِ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ رَجُلٌ لِحُرْمَةِ النَّظَرِ إلَيْهِ، وَعِنْدَهُ أَنَّ شَهَادَةَ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ شَرْطٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِتَقُومَ كُلُّ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ. وَقُلْنَا: هُوَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ يَحِلُّ لَهُمْ النَّظَرُ إلَى ثَدْيِهَا.
وَوَجْهُ قَوْلِ
وَإِبْطَالُ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ التَّنَاوُلِ تَنْفَكُّ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فَاعْتُبِرَ أَمْرًا دِينِيًّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مَالِكٍ أَنَّ الْحُرْمَةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ فَيَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ وَلَا يُطْعِمَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ أَخْبَرَهُ بِحُرْمَةِ الْعَيْنِ وَبُطْلَانِ الْمِلْكِ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ، ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ لَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ عَلَى بَائِعِهِ وَلَا أَنْ يَحْبِسَ الثَّمَنَ عَنْ الْبَائِعِ. وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
كِتَابُ الطَّلَاقِ
لَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ مُتَأَخِّرًا عَنْ النِّكَاحِ طَبْعًا أَخَّرَهُ عَنْهُ وَضْعًا لِيُوَافِقَ الْوَضْعُ الطَّبْعَ.
وَالطَّلَاقُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْقَيْدِ. وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِرَفْعِ الْقَيْدِ النِّكَاحِيِّ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ. وَسَبَبُهُ الْحَاجَةُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْمُحْوِجَةُ إلَيْهِ. وَشَرْطُهُ كَوْنُ الْمُطَلِّقِ عَاقِلًا بَالِغًا وَالْمَرْأَةُ فِي النِّكَاحِ أَوْ عِدَّتِهِ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ، وَحُكْمُهُ زَوَالُ الْمِلْكِ عَنْ الْمَحَلِّ. وَأَقْسَامُهُ مَا يَذْكُرُهُ.
بَابُ طَلَاقِ السُّنَّةِ)
بَابُ طَلَاقِ السُّنَّةِ:
ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ لَيْسَ بِمُبَاحٍ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «لَعَنَ اللَّهُ كُلَّ ذَوَّاقٍ مِطْلَاقٍ» وَالْعَامَّةُ عَلَى إبَاحَتِهِ بِالنُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَأَمْثَالِهِمَا. وَأَقْسَامُهُ ثَلَاثَةٌ: حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ، وَبِدْعِيٌّ
قَالَ (الطَّلَاقُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ، وَبِدْعِيٌّ. فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ وَيَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا)؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ لَا يَزِيدُوا فِي الطَّلَاقِ عَلَى وَاحِدَةٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَإِنَّ هَذَا أَفْضَلُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَهَا الرَّجُلُ ثَلَاثًا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ النَّدَامَةِ وَأَقَلُّ ضَرَرًا بِالْمَرْأَةِ وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي الْكَرَاهَةِ
عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ النَّدَامَةِ) حَيْثُ أَبْقَى لِنَفْسِهِ مُكْنَةَ التَّدَارُكِ بِأَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا بِتَجْدِيدٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَالٍ، وَأَقَلُّ ضَرَرًا بِالْمَرْأَةِ حَيْثُ لَمْ تَبْطُلْ مَحَلِّيَّتُهَا نَظَرًا إلَيْهَا؛ لِأَنَّ اتِّسَاعَ الْمَحَلِّيَّةِ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهِنَّ فَلَا يَتَكَامَلُ ضَرَرُ الْإِيحَاشِ. وَقَوْلُهُ:(وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي الْكَرَاهَةِ) أَيْ: فِي عَدَمِ الْكَرَاهَةِ يَعْنِي
(وَالْحَسَنُ هُوَ طَلَاقُ السُّنَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ) وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: إنَّهُ بِدْعَةٌ وَلَا يُبَاحُ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ لِحَاجَةِ الْخَلَاصِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْوَاحِدَةِ. وَلَنَا قَوْلُهُ
لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِكَرَاهَةِ هَذَا الطَّلَاقِ. وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ)؛ لِأَنَّهُ قَطْعُ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ سُنَّةٌ فَيَكُونُ مَحْظُورًا. وَقَوْلُهُ: (وَالْإِبَاحَةُ لِحَاجَةِ الْخَلَاصِ) الضَّرُورَةُ التَّخْلِيصُ عَنْهَا بِتَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَتَنَافُرِ الطِّبَاعِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِالْوَاحِدَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الثَّانِيَةِ. وَلَنَا قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مُسْنَدًا إلَى نَافِعٍ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ وَأَشَارَ بِهِ إلَى قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَالَ: إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ» ، خُيِّرَ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالطَّلَاقِ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ الثَّانِي بِدْعَةً لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ، كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ. وَلَيْسَ هَذَا شَرْحَ مَا فِي
صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً» وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ، فَالْحَاجَةُ كَالْمُتَكَرِّرَةِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا، ثُمَّ قِيلَ: الْأَوْلَى أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِيقَاعَ إلَى آخِرِ الطُّهْرِ احْتِرَازًا عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا طَهُرَتْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ رُبَّمَا يُجَامِعُهَا، وَمِنْ قَصْدِهِ التَّطْلِيقُ فَيُبْتَلَى بِالْإِيقَاعِ عَقِيبَ الْوَقَاعِ.
(وَ
طَلَاقُ الْبِدْعَةِ
أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ
الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا شَرْحُهُ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِابْنِ عُمَرَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ: مَا هَكَذَا أَمَرَك اللَّهُ تَعَالَى، إنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا وَيُطَلِّقَهَا لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً»، (وَقَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ) بَيَانُهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ. وَالْإِبَاحَةُ لِلْحَاجَةِ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ، وَالْحَاجَةُ بِسَبَبِ الْعَجْزِ أَمْرٌ مُبَطَّنٌ فَأُقِيمَ دَلِيلُ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ مَقَامَهُ، وَكُلَّمَا تَكَرَّرَ دَلِيلُ الْحَاجَةِ جُعِلَتْ كَأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الطَّلَاقِ تَكَرَّرَتْ فَأُبِيحَ تَكْرَارُ الطَّلَاقِ الْمُفَرَّقِ عَلَى الْأَطْهَارِ، (وَقَوْلُهُ: ثُمَّ قِيلَ) اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي هَذَا الطَّلَاقِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يُؤَخَّرُ الْإِيقَاعُ إلَى آخِرِ الطُّهْرِ احْتِرَازًا عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُطَلِّقُهَا كَمَا طَهُرَتْ، لِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ رُبَّمَا يُجَامِعُهَا، وَمَنْ قَصْدُهُ التَّطْلِيقُ فَيُبْتَلَى بِالْإِيقَاعِ عَقِيبَ الْوِقَاعِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا طَهُرَتْ، جُعِلَ هَذَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ.
(وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا، لَكِنَّهُ إذَا فَعَلَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَبَانَتْ مِنْهُ وَحَرُمَتْ حُرْمَةً غَلِيظَةً
وَكَانَ عَاصِيًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: كُلُّ الطَّلَاقِ مُبَاحٌ
وَكَانَ عَاصِيًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ طَلَاقٍ مُبَاحٌ) يَعْنِي فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا قُلْت ذَلِكَ لِئَلَّا يَرِدَ عَلَى تَعْمِيمِهِ الطَّلَاقُ حَالَةَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْحَيْضِ وَفِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ حَرَامٌ عِنْدَهُ أَيْضًا. قَالَ فِي تَعْلِيلِهِ:
لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ حَتَّى يُسْتَفَادَ بِهِ الْحُكْمُ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ لَا تُجَامِعُ الْحَظْرَ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا الطَّلَاقِ. وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ النِّكَاحِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ
الْمَصَالِحُ
الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ وَالْإِبَاحَةُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ
لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ حَتَّى يُسْتَفَادَ بِهِ الْحُكْمُ) وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَكُلُّ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لَا يَكُونُ مَحْظُورًا؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعِيَّةَ لَا تُجَامِعُ الْحَظْرَ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ الْعُمُومُ وَالطَّلَاقُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ حَرَامٌ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: (بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا الطَّلَاقِ) وَكَذَلِكَ يَقُولُ الْمُحَرَّمُ فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ الْتِبَاسُ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا فِيهِ يَلْتَبِسُ أَمْرُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا يَدْرِي أَهِيَ حَامِلٌ فَتَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ حَائِلٌ فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ.
ثُمَّ قَالَ: لَا أَعْرِفُ فِي الْجَمْعِ بِدْعَةً وَلَا فِي التَّفْرِيقِ سُنَّةً بَلْ الْكُلُّ مُبَاحٌ (وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ النِّكَاحِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ
الْمَصَالِحُ
الدِّينِيَّةُ) مِنْ تَحْصِينِ الْفَرْجِ عَنْ الزِّنَا الْمُحَرَّمِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ (وَالدُّنْيَوِيَّةُ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَسْكَنِ وَالِازْدِوَاجِ وَاكْتِسَابِ الْوَلَدِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ وُقُوعُهُ
وَهِيَ فِي الْمُفَرَّقِ عَلَى الْأَطْهَارِ ثَانِيَةً نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا، وَالْحَاجَةُ فِي نَفْسِهَا بَاقِيَةٌ فَأَمْكَنَ تَصْوِيرُ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا، وَالْمَشْرُوعِيَّةُ فِي ذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إزَالَةُ الرِّقِّ لَا تُنَافِي الْحَظْرَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ،
فِي الشَّرْعِ إلَّا أَنَّهُ أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَمَا لَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ فَكَذَا لَا حَاجَةَ إلَى الْمُفَرَّقِ عَلَى الْأَطْهَارِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَهِيَ) أَيْ الْحَاجَةُ (فِي الْمُفَرَّقِ عَلَى الْأَطْهَارِ ثَابِتَةٌ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا) وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ لِكَوْنِهَا أَمْرًا مُبَطَّنًا. فَإِنْ قِيلَ: دَلِيلُ الْحَاجَةِ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الْحَاجَةِ فِيمَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهَا وَهَاهُنَا لَا يُتَصَوَّرُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْخَلَاصِ عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَعَ ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بِالْأَوَّلِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ: (وَالْحَاجَةُ فِي نَفْسِهَا بَاقِيَةٌ) يَعْنِي لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ سَيِّئَةَ الْأَخْلَاقِ بَذِيَّةَ اللِّسَانِ فَيُسَدُّ عَلَى الزَّوْجِ بَابُ إمْكَانِ التَّدَارُكِ مَعَ صَفَائِهِ عَنْ عُرُوضِ النَّدَمِ.
قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاحَ الثَّلَاثُ جُمْلَةً لَكِنَّهَا عِلَّةٌ تُعَارِضُ النَّصَّ فَلَمْ تُؤَثِّرْ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ أَرَادَ بِالنَّصِّ قَوْله تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُفَرَّقٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِابْنِ عُمَرَ:«إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا» الْحَدِيثَ (قَوْلُهُ: وَالْمَشْرُوعِيَّة فِي ذَاتِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَالْمَشْرُوعِيَّة لَا تُجَامِعُ الْحَظْرَ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَشْرُوعَ لِذَاتِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا لِذَاتِهِ
وَكَذَا إيقَاعُ الثِّنْتَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِدْعَةٌ؛ لِمَا قُلْنَا. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ. قَالَ فِي الْأَصْلِ: إنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ صِفَةٍ زَائِدَةٍ فِي الْخَلَاصِ وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ، وَفِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ نَاجِزًا.
(وَالسُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: سُنَّةٌ فِي الْوَقْتِ وَسُنَّةٌ فِي الْعَدَدِ فَالسُّنَّةُ فِي الْعَدَدِ)(يَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا) وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا (وَالسُّنَّةُ فِي الْوَقْتِ تَثْبُتُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا خَاصَّةً، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ)
أَمَّا إذَا كَانَتْ الْمَشْرُوعِيَّةُ لِذَاتِهِ وَالْحَظْرُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ فَوَاتِ
مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا
فَلَا تَنَافِي إذْ ذَاكَ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ، وَكَذَا إيقَاعُ الثِّنْتَيْنِ فِي الطُّهْرِ الْوَاحِدِ بِدْعَةٌ لِمَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ. وَقَوْلُهُ: (وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ) ظَاهِرٌ.
قَالَ (وَالسُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا فِي الْوَقْتِ، وَالْآخَرِ فِي الْعَدَدِ، فَالسُّنَّةُ فِي الْعَدَدِ يَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا) وَهِيَ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الْوَاحِدَةِ وَسَمَّى الْوَاحِدَ عَدَدًا مَجَازًا لِكَوْنِهِ أَصْلَ الْعَدَدِ وَهُوَ مَا يَكُونُ نِصْفَ حَاشِيَتَيْهِ، (وَالسُّنَّةُ فِي الْوَقْتِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا خَاصَّةً وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ،
لِأَنَّ الْمُرَاعَى دَلِيلُ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ،
أَمَّا زَمَانُ الْحَيْضِ فَزَمَانُ النَّفْرَةِ، وَبِالْجِمَاعِ مَرَّةً فِي الطُّهْرِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ (وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا يُطَلِّقُهَا فِي حَالَةِ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ) خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله، هُوَ يَقِيسُهَا عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا. وَلَنَا أَنَّ الرَّغْبَةَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا صَادِقَةٌ لَا تَقِلُّ بِالْحَيْضِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ مِنْهَا، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا تَتَجَدَّدُ بِالطُّهْرِ. .
قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا
وَالْمُرَاعَى دَلِيلُهَا، (وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ، أَمَّا زَمَانُ الْحَيْضِ زَمَانُ النُّفْرَةِ، وَبِالْجِمَاعِ مَرَّةً فِي الطُّهْرِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ) فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمَا دَلِيلُ الْحَاجَةِ لِيُقَامَ مَقَامَهُ، وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا حَيْثُ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا شَيْئًا فَالرَّغْبَةُ فِيهَا بَاقِيَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَفِي حَالَةِ الطُّهْرِ فَلَمْ يَخْرُجْ طَلَاقُهَا عَنْ السُّنِّيِّ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ (خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَقِيسُهَا عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا) وَقَوْلُهُ: وَلَنَا وَاضِحٌ. وَعُورِضَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: عليه الصلاة والسلام لِابْنِ عُمَرَ «إنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ» بِإِطْلَاقِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَلَا عِبْرَةَ لِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخُصُوصَ لَمْ يَثْبُتْ لِخُصُوصِ السَّبَبِ، بَلْ «لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِعُمَرَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»
، (وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ
أُخْرَى، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى)؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} إلَى أَنْ قَالَ {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} وَالْإِقَامَةُ فِي حَقِّ الْحَيْضِ خَاصَّةً حَتَّى يُقَدَّرَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي حَقِّهَا بِالشَّهْرِ
فِي حَقِّهَا قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} يَعْنِي إنْ أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ حُكْمُ اعْتِدَادِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ فَحُكْمُهُنَّ هَذَا. وَقَوْلُهُ: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَقَوْلُهُ: (وَالْإِقَامَةُ فِي حَقِّ الْحَيْضِ خَاصَّةً) قِيلَ هُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّهْرَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ خَاصَّةً دُونَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ جَمِيعًا كَمَا اخْتَارَهُ آخَرُونَ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّ الَّتِي لَا تَحِيضُ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فِي حَقِّ الَّتِي تَحِيضُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الشَّهْرُ فِي حَقِّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ فِي حَقِّ الَّتِي تَحِيضُ حَتَّى يَتَقَدَّرَ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَيُفْصَلَ بِهِ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ الْحَيْضُ، وَلَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ تَجَدُّدُ الْحَيْضِ إلَّا بِتَخَلُّلِ الطُّهْرِ، وَفِي الشُّهُورِ يَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى فَكَانَ الشَّهْرُ قَائِمًا مَقَامَ مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّ الشَّهْرَ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الْحَيْضِ، فَإِذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ مِنْ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ كَانَ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ فَكَانَ حَرَامًا كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ. وَالثَّانِي مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ الشَّهْرَ لَوْ قَامَ مَقَامَ الْحَيْضِ خَاصَّةً لَمَا اُحْتِيجَ إلَى إقَامَةِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مَقَامَ ثَلَاثِ حِيَضٍ بَلْ يُكْتَفَى بِإِقَامَةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ مَقَامَ ثَلَاثِ حِيَضٍ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ أَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَمُدَّةُ ثَلَاثِ حِيَضٍ تَحْصُلُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ لَكِنَّ اللَّازِمَ مُنْتَفٍ فَيَنْتَفِي الْمَلْزُومُ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ طُهْرٌ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْحِيَضِ، وَمَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِلَّا كَانَ عَيْنَهُ لَا قَائِمًا مَقَامَهُ، فَكَانَ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ خَاصَّةً، أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الْجِمَاعِ فِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ حَرَامٌ وَفِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ لَيْسَ بِحَرَامٍ؟ وَلَوْ كَانَ الْأَشْهُرُ بَدَلًا عَنْ الْأَقْرَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَكَانَ مُحَرَّمًا كَمَا فِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْأَشْهُرَ
وَهُوَ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الشُّهُورُ بِالْأَهِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهِ فَبِالْأَيَّامِ فِي حَقِّ التَّفْرِيقِ، وَفِي حَقِّ الْعِدَّةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُكْمِلُ الْأَوَّلَ بِالْأَخِيرِ وَالْمُتَوَسِّطَانِ بِالْأَهِلَّةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِجَازَاتِ. قَالَ (وَيَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِزَمَانٍ)
مَقَامَ حِيَضٍ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ، وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ غَالِبًا، فَأُقِيمَتْ الْأَشْهُرُ مَقَامَ الْحِيَضِ الَّتِي كَانَتْ تُوجَدُ فِيهَا وَلَمْ تَقُمْ الْأَشْهُرُ مَقَامَ مُدَّةِ الْحَيْضِ حَتَّى يُكْتَفَى بِشَهْرٍ وَاحِدٍ وَلَمْ تَظْهَرْ لِي فَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ. وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّ ثَمَرَتَهُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ إلْزَامِ الْحُجَّةِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي الِاسْتِبْرَاءِ يُكْتَفَى بِالْحَيْضِ لَا غَيْرٍ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ إلَى الطُّهْرِ، وَالشَّهْرُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي حَقِّ الَّتِي لَا تَحِيضُ عَلِمْنَا أَنَّ الشَّهْرَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا يَعْمَلُ فِيهِ الْأَصْلُ، وَاشْتِرَاطُ الْحَيْضِ مَعَ الطُّهْرِ فِي ثَلَاثِ حِيَضٍ إنَّمَا كَانَ لِتَحَقُّقِ عَدَدِ الثَّلَاثِ لَا لِذَاتِ الطُّهْرِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ، وَلَوْ كَانَ لِذَاتِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ مِنْ الْحَيْضِ فَكَانُوا مَحْجُوجِينَ بِمَا قُلْنَا إلَى هَذَا لَفْظُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ كَمَا تَرَى،؛ لِأَنَّ إلْزَامَ الْحُجَّةِ عَلَى أَحَدِ الْمُخْتَلِفِينَ لَا يَكُونُ فَائِدَةَ الِاخْتِلَافِ، إذْ الْبَدِيهَةُ تَشْهَدُ بِأَنَّ غَرَضَ الْإِنْسَانِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي مَسْأَلَةٍ لَا يَكُونُ إلْزَامَ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ. قَالَ:(ثُمَّ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ) إذَا كَانَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الشُّهُورُ الْقَائِمَةُ مَقَامَ الْحَيْضِ بِالْأَهِلَّةِ كَامِلَةً كَانَتْ أَوْ نَاقِصَةً، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهِ فَبِالْأَيَّامِ فِي حَقِّ التَّفْرِيقِ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي حَقِّ الْعِدَّةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إلَّا بِتَمَامِ تِسْعِينَ يَوْمًا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَعِنْدَهُمَا يَكْمُلُ الْأَوَّلُ بِالْأَخِيرِ وَالْمُتَوَسِّطَانِ بِالْأَهِلَّةِ (وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِجَارَاتِ) عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ:(وَيَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا) أَيْ: الْآيِسَةَ أَوْ الصَّغِيرَةَ (وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِزَمَانٍ) قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: وَكَانَ شَيْخُنَا يَقُولُ: هَذَا إذَا كَانَتْ
وَقَالَ زُفَرُ: يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِشَهْرٍ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْحَيْضِ؛ وَلِأَنَّ بِالْجِمَاعِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ، وَإِنَّمَا تَتَجَدَّدُ بِزَمَانٍ وَهُوَ الشَّهْرُ: وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ الْحَبَلُ فِيهَا، وَالْكَرَاهِيَةُ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ بِاعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يُشْتَبَهُ وَجْهُ الْعِدَّةِ،
صَغِيرَةً لَا يُرْجَى مِنْهَا الْحَيْضُ وَالْحَبَلُ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً يُرْجَى مِنْهَا الْحَيْضُ وَالْحَبَلُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِشَهْرٍ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ لَا تُنَافِي الْجَوَازَ (وَقَالَ زُفَرُ: يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِشَهْرٍ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْحَيْضِ) فِيمَنْ لَا تَحِيضُ، وَفِيهَا يُفْصَلُ بَيْنَ طَلَاقِهَا وَوَطْئِهَا بِحَيْضَةٍ فَكَذَا هَاهُنَا بِشَهْرٍ، وَلِأَنَّ الرَّغْبَةَ تُعْتَبَرُ بِالْجِمَاعِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إذَا جُومِعَتْ فِي الطُّهْرِ، وَإِنَّمَا تَتَجَدَّدُ الرَّغْبَةُ بِزَمَانٍ فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ الشَّهْرُ، (وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ الْحَبَلُ فِيهَا) أَيْ: فِي الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مِنْ الْآيِسَةِ أَوْ الصَّغِيرَةِ، (وَالْكَرَاهِيَةُ) أَيْ كَرَاهِيَةُ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْجِمَاعِ (فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الْحَبَلِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يُشْتَبَهُ وَجْهُ الْعِدَّةِ) فَلَا يَدْرِي أَنَّ انْقِضَاءَهَا يَكُونُ بِوَضْعِ
وَالرَّغْبَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَفْتُرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ لَكِنْ تَكْثُرُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يَرْغَبُ فِي وَطْءٍ غَيْرِ مُعَلَّقٍ فِرَارًا عَنْ مُؤَنِ الْوَلَدِ فَكَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ رَغْبَةٍ وَصَارَ كَزَمَانِ الْحَبَلِ.
(وَ
طَلَاقُ الْحَامِلِ
يَجُوزُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى اشْتِبَاهِ وَجْهِ الْعِدَّةِ، وَزَمَانُ الْحَبَلِ زَمَانُ الرَّغْبَةِ فِي الْوَطْءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَلَّقٍ أَوْ يَرْغَبُ فِيهَا لِمَكَانِ وَلَدِهِ مِنْهَا فَلَا تَقِلُّ الرَّغْبَةُ بِالْجِمَاعِ (وَيُطَلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ ثَلَاثًا يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِشَهْرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ) وَزُفَرُ (لَا يُطَلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً)
الْحَمْلِ أَوْ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، (قَوْلُهُ: وَالرَّغْبَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَفْتُرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ) جَوَابُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الرَّغْبَةَ بِالْجِمَاعِ تَفْتُرُ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ جِهَةَ الرَّغْبَةِ وَالْفُتُورِ لَمَّا تَعَارَضَتَا تَسَاقَطَتَا بِالْمُعَارَضَةِ فَرَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ لِمَا مَرَّ فَيَحْرُمُ عَدَمُ الْفَصْلِ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا، وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إيجَابِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْوَطْءِ وَالطَّلَاقِ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُهُ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ أَصْلًا أَوْ لَا يَتَكَرَّرُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنَّمَا الْمَدْخَلُ فِي ذَلِكَ لِدَلِيلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ، وَقَدْ سَقَطَتْ جِهَةُ الرَّغْبَةِ بِالْمُعَارَضَةِ فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الدَّائِرُ عَلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ الْفَصْلُ
(قَوْلُهُ: وَطَلَاقُ الْحَامِلِ يَجُوزُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ) وَاضِحٌ.
لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّفْرِيقِ عَلَى فُصُولِ الْعِدَّةِ، وَالشَّهْرُ فِي حَقِّ الْحَامِلِ لَيْسَ مِنْ فُصُولِهَا فَصَارَ كَالْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا. وَلَهُمَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ وَالشَّهْرُ دَلِيلُهَا كَمَا فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجِبِلَّةُ السَّلِيمَةُ فَصَلَحَ عِلْمًا وَدَلِيلًا، بِخِلَافِ الْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ فِي حَقِّهَا إنَّمَا
وَقَوْلُهُ: (وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّفْرِيقِ عَلَى فُصُولِ الْعِدَّةِ) يَعْنِي: قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ: لِأَطْهَارِ عِدَّتِهِنَّ، فَفِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فُرِّقَ عَلَى الْأَطْهَارِ، وَفِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ عَلَى الْأَشْهُرِ لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِنَّ كَالْأَقْرَاءِ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَالشَّهْرُ فِي حَقِّ الْحَامِلِ لَيْسَ مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ وَإِنْ طَالَتْ فَهُوَ طُهْرٌ وَاحِدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فَصَارَ كَالْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا فَإِنَّ طُهْرَهَا وَإِنْ امْتَدَّ شُهُورًا فَهُوَ فَصْلٌ وَاحِدٌ لَا تُفَرَّقُ التَّطْلِيقَاتُ فِيهِ. وَلَهُمَا أَنَّ إبَاحَةَ الطَّلَاقِ لِلْحَاجَةِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحَظْرُ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ التَّقَصِّي عَنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالشَّهْرُ دَلِيلُ الْحَاجَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَهَذَا أَيْ: كَوْنُ الشَّهْرِ دَلِيلًا فِي حَقِّ الْحَامِلِ كَمَا فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجِبِلَّةُ السَّلِيمَةُ فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ عَلَمًا وَدَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الْحَاجَةِ، (وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِهَا) فَإِذَا وُجِدَ وُجِدَ مَا أُبِيحَ لِأَجْلِهِ الطَّلَاقُ فَيَكُونُ مُبَاحًا. وَقَوْلُهُ:(بِخِلَافِ الْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَصْلُحُ الشَّهْرُ أَنْ يَكُونَ عَلَمًا؛ لِأَنَّ الْعَلَمَ عَلَى الْحَاجَةِ فِي حَقِّهَا الطُّهْرُ: أَيْ: تُجَدِّدُهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ
هُوَ الطُّهْرُ وَهُوَ مَرْجُوٌّ فِيهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلَا يُرْجَى مَعَ الْحَبَلِ.
(وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَقَعَ الطَّلَاقُ)؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا يَنْعَدِمُ مَشْرُوعِيَّتُهُ (وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا) «لِقَوْلِهِ
؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، وَلَا يُرْجَى تَجَدُّدُ الطُّهْرِ مَعَ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ
قَالَ: (وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا)، أَمَّا الْوُقُوعُ فَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا: يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ: لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الطَّلَاقُ لَا تَكُونُ مَحْسُوبَةً مِنْهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا. نَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ شَيْخِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ هَاهُنَا هُوَ النَّهْيُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضِدِّ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ: لِأَطْهَارِ عِدَّتِهِنَّ أَوْ الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ فِي «قَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام لِعُمَرَ مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا» لِمَا أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِرَفْعِ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ الْحَيْضِ لِأَجْلِ الْحَيْضِ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ إيقَاعِهِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} وَالنَّهْيُ إذَا كَانَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ الْمَشْرُوعِيَّةَ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ.
وَأَمَّا الِاسْتِحْبَابُ «فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِعُمَرَ: مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا»
عليه الصلاة والسلام لِعُمَرَ مُرْ ابْنَكَ فَلْيُرَاجِعْهَا» وَقَدْ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ. وَهَذَا يُفِيدُ الْوُقُوعَ وَالْحَثَّ عَلَى الرَّجْعَةِ ثُمَّ الِاسْتِحْبَابُ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَرَفْعًا لِلْمَعْصِيَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ بِرَفْعِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْعِدَّةُ وَدَفْعًا لِضَرَرِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ. قَالَ (فَإِذَا طَهُرَتْ وَحَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ)، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا. قَالَ: وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي
وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ، (وَهَذَا) الْحَدِيثُ (يُفِيدُ الْوُقُوعَ) بِاقْتِضَائِهِ (وَالْحَثُّ عَلَى الرَّجْعَةِ) بِعِبَارَتِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ:(ثُمَّ الِاسْتِحْبَابُ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ) وَوَجْهُهُ أَنَّ أَدْنَى الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لَهُ وَلَا وُجُوبَ عَلَى الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ، (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ) قِيلَ: الْأَمْرُ لِعُمَرَ وَحَقِيقَةُ الْوُجُوبِ عَلَى عُمَرَ أَنْ يَأْمُرَ ابْنَهُ بِذَلِكَ، وَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى ابْنِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِعْلَ النَّائِبِ كَفِعْلِ الْمَنُوبِ فَصَارَ كَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَثَبَتَ الْوُجُوبُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فَلْيُرَاجِعْهَا أَمْرٌ لِابْنِ عُمَرَ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْمُرَاجَعَةُ. وَقَوْلُهُ:(وَرَفْعًا لِلْمَعْصِيَةِ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: عَمَلًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ رَفْعَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ، وَرَفْعُهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا إنَّمَا هُوَ بِرَفْعِ أَثَرِهِ أَيْ: أَثَرِ الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ وَهُوَ الْعِدَّةُ وَدَفْعًا لِضَرَرِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ بِرَفْعِهَا بِالْمُرَاجَعَةِ. وَقَوْلُهُ: (قَالَ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ: (فَإِذَا طَهُرَتْ) يَعْنِي بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ (وَحَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا) قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي
يَلِي الْحَيْضَةَ الْأُولَى. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ (مَا ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُهُمَا) وَوَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كُلِّ طَلَاقَيْنِ بِحَيْضَةٍ وَالْفَاصِلُ هَاهُنَا بَعْضُ الْحَيْضَةِ فَتَكْمُلُ بِالثَّانِيَةِ وَلَا تَتَجَزَّأُ فَتَتَكَامَلُ. وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ أَثَرَ الطَّلَاقِ قَدْ انْعَدَمَ بِالْمُرَاجَعَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِي الْحَيْضِ فَيُسَنُّ تَطْلِيقُهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ.
يَلِي الْحَيْضَةَ) وَوَفَّقَ الْكَرْخِيُّ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَقَالَ: مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ قَوْلُهُمَا وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ وَجْهَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي الْبَابِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ مَرْوِيَّةٌ فِي الْحَدِيثِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ مُسْنَدًا إلَى نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعُمَرَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ مُسْنِدًا إلَى سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِعُمَرَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إذَا طَهُرَتْ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ ذَهَبَ الْمُصَنِّفُ إلَى
(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً)؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْوَقْتِ وَوَقْتُ السُّنَّةِ طُهْرٌ لَا جِمَاعَ فِيهِ (وَإِنْ نَوَى أَنْ تَقَعَ الثَّلَاثُ السَّاعَةَ أَوْ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ وَاحِدَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى) سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَوْ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْجَمْعِ
بَيَانِ وَجْهِهِمَا بِالْمَعَانِي الْفِقْهِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ
(قَوْلُهُ: وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ) اعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ أَوْ الْأَشْهُرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ، أَوْ نَوَى شَيْئًا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً، وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ السَّاعَةَ أَوْ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ وَاحِدَةً فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ حَالَةَ الْحَيْضِ أَوْ حَالَةَ الطُّهْرِ، وَكَذَا رَأْسُ كُلِّ شَهْرٍ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَهِيَ ضِدُّ السُّنَّةِ وَضِدُّ الشَّيْءِ لَا يُرَادُ بِهِ. وَلَنَا أَنَّ اللَّامَ فِيهِ أَيْ: فِي قَوْلِهِ لِلسُّنَّةِ لِلْوَقْتِ، وَالسُّنَّةُ تَكُونُ تَارَةً كَامِلَةً إيقَاعًا وَوُقُوعًا وَتَارَةً وُقُوعًا فَقَطْ، فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُحْتَمَلًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَانَ مُطْلَقًا، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَهُوَ السُّنَّةُ إيقَاعًا وَوُقُوعًا فَيَقَعُ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ تَطْلِيقَةٌ، وَإِذَا نَوَى صَرْفَ لَفْظِهِ إلَى السُّنَّةِ وُقُوعًا لِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً أَوْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَهُوَ سُنِّيٌّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَرَفَ صِحَّةَ وُقُوعِهِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِ» فَإِنْ قِيلَ: الْوُقُوعُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّهُ انْفِعَالُهُ فَإِذَا صَحَّ الْوُقُوعُ صَحَّ الْإِيقَاعُ فَكَانَ سُنِّيًّا وُقُوعًا وَإِيقَاعًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْوُقُوعَ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهُ
لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَهِيَ ضِدُّ السُّنَّةِ. وَلَنَا أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَفْظَهُ؛ لِأَنَّهُ سُنِّيٌّ وُقُوعًا مِنْ حَيْثُ إنَّ وُقُوعَهُ بِالسُّنَّةِ لَا إيقَاعًا فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ وَيَنْتَظِمُهُ عِنْدَ نِيَّتِهِ (وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ وَقَعَتْ السَّاعَةَ وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى)؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا دَلِيلُ الْحَاجَةِ كَالطُّهْرِ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (وَإِنْ نَوَى أَنْ يَقَعَ الثَّلَاثُ السَّاعَةَ وَقَعْنَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لَمَا قُلْنَا)
لَيْسَ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ لَا يُوصَفُ بِالْبِدْعَةِ وَالْإِيقَاعُ يُوصَفُ بِهَا لِكَوْنِهِ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ، وَكَانَ الْوُقُوعُ أَشْبَهَ بِالسُّنَّةِ الْمَرْضِيَّةِ فَلِهَذَا قَالَ: سُنِّيٌّ وُقُوعًا، (وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ (وَقَعَتْ السَّاعَةَ وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا دَلِيلُ الْحَاجَةِ) عَلَى مَا بَيَّنَّا قَبْلَ هَذَا أَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ، (وَإِنْ نَوَى أَنْ يَقَعَ الثَّلَاثَ السَّاعَةَ وَقَعْنَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِمَا قُلْنَا) إنَّهُ سُنِّيٌّ وُقُوعًا، وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى الثَّلَاثِ، إنْ كَانَتْ طَاهِرَةً لَمْ يُجَامِعْهَا وَقَعَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ لَمْ يَقَعْ السَّاعَةَ، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إيقَاعُ تَطْلِيقَةٍ مُخْتَصَّةٍ
بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى الثَّلَاثِ حَيْثُ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْجَمْعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ إنَّمَا صَحَّتْ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْوَقْتِ فَيُفِيدُ تَعْمِيمَ الْوَقْتِ
بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ بِاللَّامِ وَهِيَ تِلْكَ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا جُمْلَةً قَالَ الْمُصَنِّفُ لَا تَصِحُّ، قِيلَ هَكَذَا ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَصَاحِبُ الْمُخْتَلِفَاتِ وَعَلَاءُ الدِّينِ السَّمَرْقَنْدِيُّ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ إنْ صَحَّتْ فَإِنَّمَا تَصِحُّ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْوَقْتِ، وَوَقْتُ طَلَاقِ السُّنَّةِ مُتَعَدِّدٌ فَيُفِيدُ تَعْمِيمَ الْوَقْتِ، مِنْ ضَرُورَةِ تَعْمِيمِ الْوَقْتِ تَعْمِيمُ الْوَاقِعِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَقْتَ ظَرْفًا لِلْوَاقِعِ وَقَدْ تَكَرَّرَ الظَّرْفُ فَيَتَكَرَّرُ الْمَظْرُوفُ، فَإِذَا نَوَى الْجَمْعَ بَطَلَ تَعْمِيمُ الْوَقْتِ فَيَبْطُلُ تَعْمِيمُ
وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَعْمِيمُ الْوَاقِعِ فِيهِ، فَإِذَا نَوَى الْجَمْعَ بَطَلَ تَعْمِيمُ الْوَقْتِ فَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ.
الْوَاقِعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْمُقْتَضِي يُوجِبُ بُطْلَانَ الْمُقْتَضَى فَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مَذْكُورٌ صَرِيحًا فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ صَحِيحَةٌ جُمْلَةً كَمَا لَوْ ذَكَرَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ الْمُخْتَصَّةَ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ بِاللَّامِ نَوْعَانِ: حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ. فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ. وَالْحَسَنُ أَنْ يُطَلِّقَ الثَّلَاثَ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى أَحَدَ نَوْعَيْ التَّطْلِيقَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالسُّنَّةِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ أَوْ طَلَاقًا لِلسُّنَّةِ. كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى وُقُوعُهَا جُمْلَةً، وَدَلِيلُهُ يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِيقِ عَلَى الْأَطْهَارِ كَمَا تَرَى. وَنَقَلَ قَاضِي خَانْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ الْأَصْلِ أَنَّهُ يَقَعُ جُمْلَةً كَمَا لَوْ ذَكَرَ ثَلَاثًا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّسَاوِي بَيْنَ الْعِبَارَةِ وَالِاقْتِضَاءِ
فَصْلٌ
(وَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ زَوْجٍ إذَا كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا
وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ» وَلِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْعَقْلِ الْمُمَيِّزِ وَهُمَا عَدِيمَا الْعَقْلِ
فِي الْعُمُومِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّ الْمُقْتَضِيَ لَا عُمُومَ لَهُ عِنْدَنَا، وَلَعَلَّهُ سَبَبُ اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ عَدَمَ الْوُقُوعِ جُمْلَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ لَمَّا ذَكَرَ طَلَاقَ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَذَكَرَ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ يَقَعُ طَلَاقُهُ وَمَنْ لَا يَقَعُ، (وَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ زَوْجٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ دُونَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ» )
وَالنَّائِمُ عَدِيمُ الِاخْتِيَارِ.
(وَ
طَلَاقُ الْمُكْرَهِ
وَاقِعٌ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، هُوَ يَقُولُ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُجَامِعُ الِاخْتِيَارَ وَبِهِ يُعْتَبَرُ التَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ، بِخِلَافِ الْهَازِلِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ. وَلَنَا أَنَّهُ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي مَنْكُوحَتِهِ فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَعْرَى عَنْ قَضِيَّتِهِ دَفْعًا لِحَاجَتِهِ اعْتِبَارًا بِالطَّائِعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ وَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا، وَهَذَا آيَةُ الْقَصْدِ
وَالْمُرَادُ بِالْجَوَازِ النَّفَاذُ دُونَ الْحِلِّ الَّذِي يُقَابِلُ الْحُرْمَةَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَالنُّفُوذُ بِالْوُقُوعِ، فَمَعْنَاهُ: كُلُّ طَلَاقٍ نَافِذٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَلِأَنَّ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ بِالْعَقْلِ الْمُمَيِّزِ وَلَا عَقْلَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، أَمَّا الْمَجْنُونُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا هُوَ الْمُعْتَدِلُ مِنْهُ، وَالصَّبِيُّ وَإِنْ اتَّصَفَ بِالْعَقْلِ حَتَّى صَحَّ إسْلَامُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُعْتَدِلٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَا لَهُ فِيهِ مَضَرَّةٌ، (وَالنَّائِمُ عَدِيمُ الِاخْتِيَارِ) فِي التَّكَلُّمِ، وَشَرْطُ التَّصَرُّفِ الِاخْتِيَارُ فِيهِ
، (وَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَاقِعٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، هُوَ يَقُولُ: إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُجَامِعُ الِاخْتِيَارَ) لِإِفْسَادِهِ إيَّاهُ، وَاعْتِبَارُ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ إنَّمَا هُوَ بِالِاخْتِيَارِ (بِخِلَافِ الْهَازِلِ فَإِنَّهُ مُخْتَارٌ) فَكَانَ شَرْطُ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَوْجُودًا، وَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ فِي التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: اسْقِنِي فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا لِحُكْمِهِ لِكَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي التَّكَلُّمِ؟ (وَلَنَا أَنَّهُ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي مَنْكُوحَتِهِ فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَعْرَى عَنْ قَضِيَّتِهِ) أَيْ: حُكْمِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ عِلَّتِهِ. وَقَوْلُهُ: قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ مُكْرَهًا فَإِنَّهُ لَغْوٌ لِكَوْنِهِ خَبَرًا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَقِيَامُ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذْ كَانَ كَذِبًا فَبِالْإِخْبَارِ عَنْهُ لَا يَصِيرُ صِدْقًا. وَقَوْلُهُ: فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
وَتَقْرِيرُ حُجَّتِهِ أَنَّ الْمُكْرَهَ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي مَنْكُوحَتِهِ فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ
وَالِاخْتِيَارُ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُخِلٍّ بِهِ كَالْهَازِلِ.
(وَ
طَلَاقُ السَّكْرَانِ
وَاقِعٌ) وَاخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْقَصْدِ بِالْعَقْلِ وَهُوَ زَائِلُ الْعَقْلِ فَصَارَ كَزَوَالِهِ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ.
الْهَلَاكَ وَالطَّلَاقَ وَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا، وَاخْتِيَارُ أَهْوَنِ الشَّرَّيْنِ آيَةُ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكُلُّ مَنْ قَصَدَ إيقَاعَهُ كَذَلِكَ لَا يَعْرَى فِعْلُهُ عَنْ حُكْمِهِ كَمَا فِي الطَّائِعِ؛ إذْ الْعِلَّةُ فِيهِ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُكْرَهِ لِحَاجَتِهِ أَنْ يَتَخَلَّصَ عَمَّا تُوُعِّدَ بِهِ مِنْ الْقَتْلِ أَوْ الْجُرْحِ. وَقَوْلُهُ: إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ الْمُكْرَهُ مُخْتَارًا لَمَا كَانَ لَهُ اخْتِيَارُ فَسْخِ الْعُقُودِ الَّتِي بَاشَرَهَا مُكْرَهًا مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ فَكَانَ لَهُ فَسْخُ الْعُقُودِ وَأَمَّا هَاهُنَا فَعَدَمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِهِ كَالْهَازِلِ وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُ السَّبَبَ دُونَ الْحُكْمِ. فَإِنْ قِيلَ: بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالْهَازِلِ فَرْقٌ وَهُوَ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَهُ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ وَلِلْهَازِلِ اخْتِيَارٌ كَامِلٌ، وَالْفَاسِدُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْهَازِلِ الْوُقُوعُ فِي الْمُكْرَهِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْهَازِلَ اخْتِيَارًا كَامِلًا فِي السَّبَبِ، أَمَّا فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ السَّبَبِ فَلَا اخْتِيَارَ لَهُ أَصْلًا فَكَانَ اخْتِيَارُ الْهَازِلِ أَيْضًا غَيْرَ كَامِلٍ بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ فَكَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فَكَانَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ جَائِزًا.
(وَطَلَاقُ السَّكْرَانِ وَاقِعٌ وَاخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ عَدَمَهُ) وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ، خَلَا أَنَّ فِي كَلَامِهِ تَسَامُحًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَقْلَ زَائِلًا بِالسُّكْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ وَلَا خِطَابَ بِلَا عَقْلٍ بَلْ هُوَ مَغْلُوبٌ، وَلَمَّا كَانَ الْمَغْلُوبُ
وَلَنَا أَنَّهُ زَالَ (بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ فَجُعِلَ بَاقِيًا حُكْمًا زَجْرًا لَهُ، حَتَّى لَوْ شَرِبَ فَصُدِعَ وَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ نَقُولُ إنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ).
كَالْمَعْدُومِ وَأَطْلَقَ الزَّوَالَ مُجَارَاةً لِلْخَصْمِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ. وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ شُرْبَ الْمُسْكِرِ كَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فَمَا بَالُ السَّفَرِ صَارَ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ دُونَ شُرْبِ الْمُسْكِرِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا جُعِلَ الْعَقْلُ بَاقِيًا فِي الطَّلَاقِ حُكْمًا زَجْرًا لَهُ كَانَتْ الرِّدَّةُ وَالْإِقْرَارُ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ وَالْعُقُوبَةَ هُنَاكَ أَتَمُّ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الشُّرْبَ نَفْسَهُ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ فِيهِ إمْكَانُ انْفِصَالٍ وَلَا جِهَةُ إبَاحَةٍ تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ التَّخْفِيفِ إلَيْهَا فَجُعِلَ بَاقِيًا زَجْرًا، بِخِلَافِ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّ نَفْسَ السَّفَرِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ وَأَمْكَنَ انْفِصَالُهَا عَنْهُ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَكَانَتْ جِهَةُ إبَاحَتِهِ تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ التَّخْفِيفِ وَالتَّرَخُّصِ إلَيْهَا. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الرُّكْنَ فِي الرِّدَّةِ الِاعْتِقَادُ، وَالسَّكْرَانُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ فَلَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ لِانْعِدَامِ رُكْنِهَا لَا لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ.
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْحُدُودِ فَإِنَّ السَّكْرَانَ لَا يَكَادُ يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ فَيُجْعَلُ رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَيُؤَثِّرُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ. وَفِي قَوْلِهِ: بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ إشَارَةً إلَى شَيْئَيْنِ: أَحَدِهِمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الشُّرْبِ وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُرَتَّبٌ عَلَى سُكْرٍ يَكُونُ مَحْظُورًا.
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُبَاحٍ كَالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ وَالْخَمْرِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا بِالْقَتْلِ فَهُوَ كَالْإِغْمَاءِ فِي حَقِّ مَنْعِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (حَتَّى لَوْ شَرِبَ فَصَدَعَ وَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ نَقُولُ: إنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ زَوَالُهُ بِمَعْصِيَةٍ. وَاعْتُرِضَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بِأَنَّ الصُّدَاعَ أَثَرُ الشُّرْبِ فَكَانَ عِلَّةَ الْعِلَّةِ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَيْهَا كَمَا يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ، فَمَا بَالُهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْعِلَّةِ إنَّمَا تَكُونُ إذَا لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ صَالِحَةً لِلْإِضَاقَةِ، وَهَاهُنَا صَالِحَةٌ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ زَوَالَ
(وَ
طَلَاقُ الْأَخْرَسِ
وَاقِعٌ بِالْإِشَارَةِ)؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَعْهُودَةً فَأُقِيمَتْ مَقَامَ الْعِبَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، وَسَتَأْتِيكَ وُجُوهُهُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(طَلَاقُ الْأَمَةِ
ثِنْتَانِ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا، وَطَلَاقُ الْحُرَّةِ ثَلَاثٌ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَدَدُ الطَّلَاقِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ» ،
الْعَقْلِ مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ كَمَا إذَا جُنَّ.
وَقَوْلُهُ: (وَطَلَاقُ الْأَخْرَسِ وَاقِعٌ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ: (وَطَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ) أَنَّثَ الطَّلَاقَ بِاعْتِبَارِ التَّطْلِيقَةِ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ لَهُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ» أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَابَلَ الطَّلَاقَ بِالْعِدَّةِ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنْسٍ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ اعْتِبَارُ الْعِدَّةِ بِالنِّسَاءِ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الطَّلَاقِ بِالرِّجَالِ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ؛ وَلِأَنَّ صِفَةَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَامَةٌ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَرَامَةٌ فَالْآدَمِيَّةُ مُسْتَدْعِيَةٌ لَهَا لِكَوْنِهِ مُكَرَّمًا بِتَكْرِيمِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} الْآيَةَ، وَمَعْنَى الْآدَمِيَّةِ فِي الْحُرِّ أَكْمَلُ لِصَلَاحِيَّتِهِ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْعَبْدُ مِنْ الْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَلِخُلُوصِهِ
لِأَنَّ صِفَةَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَامَةٌ وَالْآدَمِيَّةُ مُسْتَدْعِيَةٌ لَهَا، وَمَعْنَى الْآدَمِيَّةِ فِي الْحُرِّ أَكْمَلُ فَكَانَتْ مَالِكِيَّتُهُ أَبْلَغَ وَأَكْثَرَ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ»
عَنْ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُ الْمَمْلُوكَ فِي قَرْنِ الْبَهَائِمِ مَلْزُوزًا، (فَكَانَتْ مَالِكِيَّتُهُ أَبْلَغَ) فَإِنْ قُلْت: الدَّلِيلُ أَخَصُّ مِنْ الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى أَنَّ الطَّلَاقَ بِالزَّوْجِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، وَالدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ حُرًّا كَانَ مَالِكًا.
قُلْت: إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لِلْحُرِّ ثَبَتَ لِلْعَبْدِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ، وَمَذْهَبُهُ قَوْلُ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ (وَلَنَا قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» ) وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام ذَكَرَ الْأَمَةَ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَعْهُودٌ فَكَانَ لِلْجِنْسِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ طَلَاقُ هَذَا الْجِنْسِ ثِنْتَيْنِ، فَلَوْ كَانَ اعْتِبَارُ الطَّلَاقِ بِالرِّجَالِ لَكَانَ لِبَعْضِ الْإِمَاءِ ثِنْتَانِ فَلَمْ تَبْقَ اللَّامُ لِلْجِنْسِ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْأَمَةَ تَحْتَ عَبْدٍ عَمَلًا بِالْحَدِيثَيْنِ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يَكُونَ الْهَاءُ فِي " وَعِدَّتُهَا " عَائِدَةٌ إلَيْهَا فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لَهَا بِكَوْنِ عِدَّتِهَا حَيْضَتَيْنِ، إذْ لَا مَرْجِعَ لِلضَّمِيرِ سِوَاهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ سَوَاءٌ كَانَتْ تَحْتَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ بِالِاتِّفَاقِ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاسْتِخْدَامِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَمَةِ الْأَمَةَ تَحْتَ عَبْدٍ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ
وَلِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهَا، وَلِلرِّقِّ أَثَرٌ فِي تَنْصِيفِ النِّعَمِ إلَّا أَنَّ الْعُقْدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَتَكَامَلَتْ عُقْدَتَانِ، وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّ الْإِيقَاعَ بِالرِّجَالِ.
(وَإِذَا)(تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً) بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَطَلَّقَهَا (وَقَعَ طَلَاقُهُ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ مَوْلَاهُ عَلَى امْرَأَتِهِ)؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَكُونُ الْإِسْقَاطُ إلَيْهِ دُونَ الْمَوْلَى.
إلَى مُطْلَقِ الْأَمَةِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ خَطَابَةٌ لَا تُجْدِي فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ؛ (وَلِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ) أَيْ: حِلَّ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَحَلَّ النِّكَاحِ نِعْمَةٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إلَى دُرُورِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالسُّكْنَى وَالِازْدِوَاجِ وَتَحْصِينِ الْفَرْجِ وَغَيْرِهَا، وَمَا هُوَ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهَا يَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ، فَإِنَّ لِلرِّقِّ أَثَرًا فِي تَنْصِيفِ النِّعَمِ فِي الرِّجَالِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مِنْ التَّزَوُّجِ مَا فَوْقَ الِاثْنَتَيْنِ فَكَذَا فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ مَعَ الْحُرَّةِ وَلَا بَعْدَهَا، وَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَمْلِكَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا إلَّا عُقْدَةً وَنِصْفًا: أَيْ: طَلْقَةً وَنِصْفَ طَلْقَةٍ تَنْقِيصًا لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ، (إلَّا أَنَّ الْعُقْدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَتَكَامَلَتْ عُقْدَتَانِ)، وَمَذْهَبُنَا قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ.
وَقَوْلُهُ: (وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ) يَعْنِي قَوْلَهُ: «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ» أَنَّ الْإِيقَاعَ بِالرِّجَالِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَعْلُومٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ خَاصَّةً. أُجِيبَ بَلْ كَانَ إلَى ذِكْرِهِ حَاجَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا كَرِهَتْ الزَّوْجَ غَيَّرَتْ الْبَيْتَ وَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا مِنْهَا فَرُفِعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ»
(وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً وَطَلَّقَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ مَوْلَاهُ عَلَى امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ حَقُّ الْعَبْدِ) لِكَوْنِهِ مِنْ خَوَاصِّ الْآدَمِيَّةِ، وَالْعَبْدُ مُبْقًى فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ النِّكَاحَ دُونَ إذْنِ مَوْلَاهُ، لَكِنْ لَوْ قُلْنَا بِهِ تَضَرَّرَ الْمَوْلَى فِيهِ فَتَرَكْنَاهُ لِأَجْلِهِ.