المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِبَابُ الْعِتْقِ عَلَى جُعْلٍ (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى - العناية شرح الهداية - بهامش فتح القدير ط الحلبي - جـ ٥

[البابرتي]

فهرس الكتاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِبَابُ الْعِتْقِ عَلَى جُعْلٍ

(وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ) وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَإِنَّمَا يُعْتَقُ بِقَبُولِهِ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ إذْ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَمِنْ قَضِيَّةِ الْمُعَاوَضَةِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَبُولِ الْعِوَضِ لِلْحَالِ كَمَا

‌بَابُ الْعِتْقِ عَلَى جُعْلٍ

الْجُعْلُ بِالضَّمِّ مَا جُعِلَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ يَفْعَلُهُ، وَكَذَلِكَ الْجِعَالَةُ بِالْكَسْرِ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ لِكَوْنِ الْمَالِ غَيْرِ أَصْلٍ فِي بَابِ الْعِتْقِ (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ) أَيِّ مَالٍ كَانَ مِنْ عُرُوضٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ غَيْرِهِمَا (مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ) أَوْ عَلَى أَنَّ لِي عَلَيْك أَلْفًا أَوْ عَلَى أَلْفٍ تُؤَدِّيهَا أَوْ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفًا أَوْ عَلَى أَنْ تَجِيئَنِي بِأَلْفٍ (فَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ) سَاعَةَ قَبُولِهِ. لَا يُقَالُ كَلِمَةُ عَلَى لِلشَّرْطِ فَيَكُونُ الْعِتْقُ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ أَدَاءِ الْأَلْفِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا لَا لِمَا قِيلَ إنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ لِلشَّرْطِ إذَا دَخَلَتْ فِيمَا يَكُونُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْأَعْيَانِ لِأَنَّ بَعْضَ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ دَخَلَتْ فِيهِ عَلَى الْأَفْعَالِ، بَلْ لِمَا قِيلَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا كَانَ مُرَادُهُ التَّنْجِيزَ بِعِوَضٍ لَا التَّعْلِيقَ فَكَانَ الصَّارِفُ عَنْ الشَّرْطِيَّةِ دَلَالَةَ الْحَالِ (وَإِنَّمَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ بِقَبُولِهِ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ إذْ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ)

فَقَوْلُهُ إذْ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً بِغَيْرِ مَالٍ

ص: 3

فِي الْبَيْعِ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ حُرًّا، وَمَا شَرَطَ دَيْنٌ عَلَيْهِ حَتَّى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ، بِخِلَافِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ قِيَامُ الرِّقِّ عَلَى مَا عُرِفَ،

وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدَهَا أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ لِأَنَّهُ مَالٌ فَلَا يَمْلِكُ الْمَالَ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ كَانَ مَا بَذَلَهُ مِنْ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُهُ؛ فَكَانَ مَا بَذَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَالِ وَالثَّانِي الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِمَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سَقَطَ مِلْكُ الْمَوْلَى فِي ذَاتِهِ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ بِبَيْعِ نَفْسِهِ مِنْهُ فَكَانَ مَا بَذَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ. ذُكِرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ، وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَوْلَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ فَكَانَ مَا بَذَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ عِنْدَ الْمَوْلَى. وَالثَّالِثَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ بِهَذَا الْعَقْدِ لِكَوْنِهِ إسْقَاطًا فَلَمْ يَدْخُلْ بِهِ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ.

غَايَةُ مَا يُقَالُ إنَّهُ ثَبَتَ لَهُ بِهِ قُوَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَالٍ لَا مَحَالَةَ، فَكَانَ مَا بَذَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ بَلْ مَا هُوَ قُوَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْهُمَا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فَمِنْ قَضِيَّةِ الْمُعَاوَضَةِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَبُولِ الْعِوَضِ لِلْحَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ حُرًّا، وَإِنْ رَدَّ أَوْ أَعْرَضَ عَنْ الْمَجْلِسِ بِالْقِيَامِ أَوْ بِالِاشْتِغَالِ بِمَا يُعْلَمُ بِهِ قَطْعُ الْمَجْلِسِ بَطَلَ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ مَا شَرَطَ دَيْنًا عَلَيْهِ حَتَّى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ لِأَنَّهُ يَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ، بِخِلَافِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ حَيْثُ لَا تَصِحُّ بِهِ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ قِيَامُ الرِّقِّ، فَكَانَ ثُبُوتُهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، إذْ الْقِيَاسُ يَنْفِي أَنْ يَسْتَوْجِبَ الْمَوْلَى الدَّيْنَ عَلَى عَبْدِهِ، فَلَمَّا ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ضَرُورَةُ حُصُولِ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُكَاتَبِ وَحُصُولُ الْمَالِ لِلْمَوْلَى اقْتَصَرَ عَلَى مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْكَفَالَةِ. وَقَوْلُهُ (وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمَالِ يَنْتَظِمُ أَنْوَاعَهُ مِنْ النَّقْدِ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ.

ص: 4

وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمَالِ يَنْتَظِمُ أَنْوَاعَهُ مِنْ النَّقْدِ وَالْعَرَضِ وَالْحَيَوَانِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ فَشَابَهَ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَالصُّلْحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَكَذَا الطَّعَامُ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ، وَلَا تَضُرُّهُ جَهَالَةُ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّهَا يَسِيرَةٌ.

وَقَوْلُهُ (فَشَابَهَ النِّكَاحَ) يَعْنِي إذَا شَابَهَ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ هُنَا كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ (وَكَذَلِكَ الطَّعَامُ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ) كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ عَلَى مِائَةِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ (وَلَا يَضُرُّهُ جَهَالَةُ الْوَصْفِ) بِأَنْ لَمْ يَقُلْ إنَّهَا جَيِّدَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ رَبِيعِيَّةٌ أَوْ خَرِيفِيَّةٌ، فَإِنَّ جَهَالَةَ الْوَصْفِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ لِكَوْنِهَا يَسِيرَةً.

ص: 5

قَالَ: (وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ صَحَّ وَصَارَ مَأْذُونًا) وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَحَّ أَنَّهُ يُعْتَقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي الِانْتِهَاءِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنَّمَا صَارَ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّهُ رَغَّبَهُ فِي الِاكْتِسَابِ بِطَلَبِهِ الْأَدَاءَ مِنْهُ، وَمُرَادُهُ التِّجَارَةُ دُونَ التَّكَدِّي فَكَانَ إذْنًا لَهُ دَلَالَةً.

(وَإِنْ أَحْضَرَ الْمَالَ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى قَبْضِهِ وَعَتَقَ الْعَبْدُ) وَمَعْنَى الْإِجْبَارِ فِيهِ وَفِي سَائِرِ الْحُقُوقِ أَنَّهُ يَنْزِلُ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَفْظًا،

وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ صَحَّ) لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ: أَعْنِي قَوْلَهُ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ صِيغَةُ التَّعْلِيقِ فَيَتَعَلَّقُ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَبُولِ الْعَبْدِ وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ كَمَا فِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ.

وَقَوْلُهُ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُكَاتَبًا) يَعْنِي لَا تَثْبُتُ أَحْكَامُ الْمُكَاتَبِينَ، حَتَّى لَوْ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً فَالْمَالُ لِمَوْلَاهُ وَلَا يُؤَدِّي عَنْهُ، وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى فَالْعَبْدُ رَقِيقٌ يُورَثُ عَنْهُ مَعَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ أَكْسَابِهِ، وَلَوْ كَاتَبَ أَمَةً فَوَلَدَتْ ثُمَّ أَدَّتْ لَمْ يُعْتَقْ وَلَدُهَا، وَلَوْ حَطَّ الْمَالَ أَوْ أَبْرَأَهُ الْمَوْلَى لَمْ يُعْتَقْ، وَلَوْ كَانَ مُكَاتَبًا لَكَانَ الْحُكْمُ عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَ فِي الْجَمِيعِ. وَقَوْلُهُ (وَمُرَادُهُ التِّجَارَةُ) يَعْنِي مِنْ التَّرْغِيبِ فِي الِاكْتِسَابِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَشْرُوعَةُ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ (دُونَ التَّكَدِّي) لِأَنَّهُ يُدْنِئُ الْمَرْءَ وَيَخُسُّهُ.

وَقَوْلُهُ (وَفِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) يُرِيدُ بِهِ الثَّمَنَ وَبَدَلَ الْخُلْعِ وَبَدَلَ الْكِتَابَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا. وَقَوْلُهُ (أَنَّهُ) يَعْنِي الْمَوْلَى (يَنْزِلُ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ) بِرَفْعِ الْمَانِعِ سَوَاءٌ قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِجْبَارِ مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ الْإِكْرَاهِ بِالضَّرْبِ أَوْ الْحَبْسِ، وَقَوْلُهُ (إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَفْظًا) احْتِرَازٌ عَنْ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَعْلِيقٍ لَفْظِيٍّ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ كَاتَبْتُك

ص: 6

وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ وَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَلَا جَبْرَ عَلَى مُبَاشَرَةِ شُرُوطِ الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ وَالْبَدَلُ فِيهَا وَاجِبٌ.

وَلَنَا أَنَّهُ تَعْلِيقٌ نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ وَمُعَاوَضَةٌ نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّهُ مَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْأَدَاءِ إلَّا لِيَحُثَّهُ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ فَيَنَالَ الْعَبْدُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَوْلَى الْمَالَ بِمُقَابَلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ، وَلِهَذَا كَانَ عِوَضًا فِي الطَّلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ حَتَّى كَانَ بَائِنًا فَجَعَلْنَاهُ تَعْلِيقًا فِي الِابْتِدَاءِ عَمَلًا بِاللَّفْظِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى حَتَّى لَا يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ بَيْعُهُ، وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَجَعَلْنَاهُ مُعَاوَضَةً فِي الِانْتِهَاءِ عِنْدَ الْأَدَاءِ دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنْ الْعَبْدِ حَتَّى يُجْبَرَ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ،

عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ صَحَّتْ الْكِتَابَةُ وَلَيْسَ فِيهِ تَعْلِيقٌ لَفْظِيٌّ. لِعَدَمِ أَلْفَاظِ الشَّرْطِ فِيهِ.

وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ) تَوْضِيحٌ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفَ يَمِينٍ. وَقَوْلُهُ (وَلَا جَبْرَ عَلَى مُبَاشَرَةِ شُرُوطِ الْأَيْمَانِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ) تَقْرِيرُهُ: لَا جَبْرَ إلَّا بِاسْتِحْقَاقٍ وَلَا اسْتِحْقَاقَ (قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ) وَلِهَذَا يُمْكِنُهُ الْبَيْعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَفْظًا.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ (مُعَاوَضَةٌ وَالْبَدَلُ فِيهَا وَاجِبٌ) فَكَانَ الْجَبْرُ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ (وَلَنَا أَنَّهُ تَعْلِيقٌ نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ) كَمَا ذَكَرْنَا (وَمُعَاوَضَةٌ نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ لِأَنَّهُ مَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْأَدَاءِ إلَّا لِيَحُثَّهُ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ فَيَنَالُ الْعَبْدُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَوْلَى الْمَالَ بِمُقَابَلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ وَلِهَذَا كَانَ عِوَضًا فِي الطَّلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ) بِأَنْ يَقُولَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ (حَتَّى) لَوْ طَلَّقَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ (كَانَ بَائِنًا فَجَعَلْنَاهُ تَعْلِيقًا فِي الِابْتِدَاءِ عَمَلًا بِاللَّفْظِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى حَتَّى لَا يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ بَيْعُهُ وَلَا يَكُونَ الْعَبْدُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَلَا يَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَجَعَلْنَاهُ مُعَاوَضَةً فِي الِانْتِهَاءِ عِنْدَ الْأَدَاءِ دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنْ الْعَبْدِ) فَإِنَّهُ مَا تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ إلَّا لِيَنَالَ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ

ص: 7

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُعَاوَضَةً أَصْلًا لِأَنَّ الْبَدَلَ وَالْمُبْدَلَ كِلَاهُمَا عِنْدَ الْأَدَاءِ مِلْكٌ لِلْمَوْلَى، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ عَبْدٌ وَهُوَ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ عِنْدَ الْأَدَاءِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا ثَبَتَ شَرْطُ صِحَّتِهِ اقْتِضَاءً وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ أَحَقَّ بِالْمُؤَدَّى فَيَثْبُتُ هَذَا سَابِقًا عَلَى الْأَدَاءِ مَتَى وُجِدَ الْأَدَاءُ وَصَارَ كَمَا إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَكَانَ اكْتَسَبَ مَالًا قَبْلَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ أَحَقَّ بِذَلِكَ الْمَالِ، حَتَّى لَوْ أَدَّى ذَلِكَ عَتَقَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهِ مَنْسُوبًا إلَى مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ ثُبُوتَ مَعْنَى الْكِتَابَةِ هُوَ الْمُعَارِضُ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ حُصُولَ شَرْطِ صِحَّةِ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ لَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ فَضْلًا عَنْ حُصُولِهِ اقْتِضَاءً، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُمْ قَائِمٌ فِيهَا وَهِيَ مُعَاوَضَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيقِ، فَلَأَنْ يَصِحَّ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ وَفِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ أَوْلَى فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِالْكِتَابَةِ دَلَالَةً

ص: 8

فَعَلَى هَذَا يَدُورُ الْفِقْهُ وَتَخْرُجُ الْمَسَائِلُ نَظِيرُهُ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ.

وَلَوْ أَدَّى الْبَعْضَ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ الْكُلَّ لِعَدَمِ الشَّرْطِ كَمَا إذَا حَطَّ الْبَعْضَ وَأَدَّى الْبَاقِيَ. ثُمَّ لَوْ أَدَّى أَلْفًا اكْتَسَبَهَا قَبْلَ التَّعْلِيقِ رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ وَعَتَقَ لِاسْتِحْقَاقِهَا، وَلَوْ كَانَ اكْتَسَبَهَا بَعْدَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَتِهِ بِالْأَدَاءِ مِنْهُ،

وَقَوْلُهُ (فَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى الْعَمَلِ بِالشَّبَهَيْنِ (يَدُورُ الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ وَتَخْرِيجُ الْمَسَائِلِ) الْمُتَعَارِضَةِ: يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ أَلْحَقَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِمَحْضِ التَّعْلِيقِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَسَائِلِ الْقِيَاسِ مِنْ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَأَلْحَقَ فِي بَعْضِهَا بِالْكِتَابَةِ مِنْ جَبْرِ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ تَعْلِيقًا نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ وَمُعَاوَضَةً نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ عَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ: شَبَهِ التَّعْلِيقِ فِي حَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَشَبَهِ الْمُعَاوَضَةِ فِي حَالَةِ

ص: 9

ثُمَّ الْأَدَاءُ فِي قَوْلِهِ إنْ أَدَّيْت يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ تَخْيِيرٌ، وَفِي قَوْلِهِ إذَا أَدَّيْت لَا يَقْتَصِرُ؛ لِأَنَّ إذَا تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ

الِانْتِهَاءِ. كَمَا فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَإِنَّهَا هِبَةٌ ابْتِدَاءً حَتَّى لَمْ تَجُزْ فِي الْمُشَاعِ، وَاشْتَرَطَ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ وَبِيعَ انْتِهَاءً حَتَّى لَمْ يَتَمَكَّنْ الْوَاهِبُ مِنْ الرُّجُوعِ وَجَرَتْ الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ وَيَرُدُّ بِالْعَيْبِ، وَلَوْ أَدَّى الْبَعْضَ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ لِأَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ بَعْضُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ الْإِجْبَارُ عَلَى قَبُولِ الْكُلِّ ثَبَتَ فِي الْبَعْضِ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الزِّيَادَاتِ، وَقِيلَ هُوَ اسْتِحْسَانٌ.

وَمَا ذُكِرَ فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْبَعْضِ لِأَنَّ مَعْنَى الْكِتَابَةِ عِنْدَنَا يَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَتَقَ بِمَا أَدَّاهُ إلَى الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ أَدَاءُ جَمِيعِ الْمَالِ لَا يَثْبُتُ مَعْنَى الْكِتَابَةِ هُوَ الْقِيَاسُ، لَا أَنَّهُ بِأَدَاءِ الْبَعْضِ لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ الْكُلَّ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، كَمَا إذَا حَطَّ الْبَعْضَ وَأَدَّى الْبَعْضَ الْبَاقِيَ، لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجُودُ الْجَمِيعِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بَعْضُهُ كَانَ كَمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ كُلُّهُ، وَإِذَا حَطَّ الْجَمِيعَ لَمْ يُعْتَقْ لِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ فَكَذَلِكَ هَذَا، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمَالَ هُنَاكَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَيَتَحَقَّقُ إبْرَاؤُهُ عَنْهُ سَوَاءٌ أَبْرَأَهُ عَنْ الْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ، وَلَوْ أَدَّى أَلْفًا اكْتَسَبَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ وَعَتَقَ، أَمَّا الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ أُخْرَى مِثْلِهَا فَلِأَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي أَدَّاهَا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِأَدَائِهِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يَحُثَّهُ عَلَى الِاكْتِسَابِ لِيُؤَدِّيَ مِنْ كَسْبِهِ فَيَمْلِكُ الْمَوْلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ قَبْلَ هَذَا وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا أَنَّهُ عَتَقَ فَلِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ لِمَا أَنَّ كَوْنَ الْأَلْفِ مُسْتَحَقَّةً لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ شَرْطَ الْحِنْثِ كَمَا لَوْ غَصَبَ مَالَ إنْسَانٍ وَأَدَّاهُ (ثُمَّ الْأَدَاءُ فِي قَوْلِهِ إنْ أَدَّيْت يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ) وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ كَمَا فِي التَّعْلِيقِ

ص: 10

بِمَنْزِلَةِ مَتَى.

(وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ) لِإِضَافَةِ الْإِيجَابِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ غَدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ حَيْثُ يَكُونُ

بِسَائِرِ الشُّرُوطِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُخَيَّرُ الْعَبْدُ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْهُ فَكَانَ كَالتَّخْيِيرِ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَدَاءُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَجْلِسِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِذْنَ يَكُونُ فِي صُورَةِ إذَا أَدَّيْت أَوْ مَتَى أَدَّيْت، فَإِنَّ الْأَدَاءَ فِيهِمَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ، وَيَقْتَصِرُ الْأَدَاءُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَيَتَّجِرُ فِيهِ وَيُؤَدِّي الْمَالَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِالْأَبْدَانِ

(وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ) لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إضَافَةُ إيجَابِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِئَلَّا يَقَعَ الْقَبُولُ قَبْلَ الْإِيجَابِ (فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ غَدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ) لِأَنَّهُ إضَافَةُ إيجَابِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ إلَى زَمَانٍ وَالْقَبُولُ مُتَأَخِّرٌ إلَيْهِ لِئَلَّا يَقَعَ قَبْلَ الْإِيجَابِ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ حَيْثُ يَكُونُ

ص: 11

الْقَبُولُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ التَّدْبِيرِ فِي الْحَالِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْمَالُ لِقِيَامِ الرِّقِّ.

الْقَبُولُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ إيجَابَ التَّدْبِيرِ فِي الْحَالِ) عَلَى مَا سَيَجِيءُ فَيَكُونُ الْقَبُولُ كَذَلِكَ (إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْمَالُ) مَعَ قَبُولِهِ (لِقِيَامِ الرِّقِّ) إذْ التَّدْبِيرُ يُوجِبُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا حَقِيقَتَهَا فَيَكُونُ الرِّقُّ قَائِمًا وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا عَلَى عَبْدِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَالُ يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَوْلَى قَدْ يَسْتَوْجِبُ مَالًا عَلَى مُعْتَقِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَا لَمْ يَجِبْ الْمَالُ فِي الْمُدَبَّرِ عَلَى أَلْفٍ مَا الْفَائِدَةُ فِي تَعْلِيقِ التَّدْبِيرِ بِالْقَبُولِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهَا بَيَانُ أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالْقَبُولِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْمَالُ.

ص: 12

قَالُوا: لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، وَإِنْ قَبِلَ بَعْدِ الْمَوْتِ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْإِعْتَاقِ، وَهَذَا صَحِيحٌ.

وَقَوْلُهُ (قَالُوا) يَعْنِي الْمَشَايِخَ (لَا يُعْتَقُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ) أَيْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ (وَإِنْ قَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ) أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ الْقَاضِي (لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْإِعْتَاقِ) فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ قَوْلُهُمْ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ (صَحِيحٌ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إيجَابٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَهْلِيَّةُ الْمُوجِبِ شَرْطٌ عِنْدَ الْإِيجَابِ وَقَدْ عُدِمَتْ بِالْمَوْتِ، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ إيجَابٌ فِي الْحَالِ وَالْأَهْلِيَّةُ ثَابِتَةٌ وَالْمَوْتُ شَرْطٌ وَالْأَهْلِيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَوُجِدَ الشَّرْطُ وَهُوَ مَجْنُونٌ، وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَالتَّدْبِيرِ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَقْ إلَّا بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ الْعِتْقُ مُعَلَّقًا بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا لَا يُعْتَقُ إلَّا بِإِعْتَاقِ الْوَارِثِ لِانْتِقَالِ الْعَبْدِ إلَى مِلْكِ الْوَارِثِ

ص: 13

قَالَ: (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ فَقَبِلَ الْعَبْدُ فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ فِي مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ قِيمَةُ خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ)

قَبْلَ الْقَبُولِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّ عِتْقَهُ تَعَلَّقَ بِنَفْسِ الْمَوْتِ فَلَا يُشْتَرَطُ إعْتَاقُ الْوَارِثِ.

فَإِنْ قِيلَ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مَعْنَاهُ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفٍ فَيَكُونُ كَمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ مَعْنًى فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي الْحَالِ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْقَبُولُ أَيْضًا فِيهِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا يَمِينٌ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ، وَفِي الْأَيْمَانِ يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ إضَافَةُ الْحُرِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَفْظًا فَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ بَعْدَهُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَضَافَ الْحُرِّيَّةَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَفْظًا فَيُشْتَرَطُ الْقَبُولُ بَعْدَهُ.

قَالَ (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ) أَيْ وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَنْ تَخْدُمَنِي أَرْبَعَ سِنِينَ (فَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ، فَلَوْ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ فِي مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: الْأَوَّلُ عَلَيْهِ قِيمَةُ خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ.

ص: 14

أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْخِدْمَةَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ عِوَضًا فَيَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ وُجِدَ وَلَزِمَهُ خِدْمَةُ أَرْبَعِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ فَالْخِلَافِيَّةُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى خِلَافِيَّةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ مَنْ بَاعَ نَفْسَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِجَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْجَارِيَةُ أَوْ هَلَكَتْ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُمَا وَبِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ عِنْدَهُ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ. وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّهُ كَمَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْجَارِيَةِ بِالْهَلَاكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَى الْخِدْمَةِ بِمَوْتِ الْعَبْدِ،

أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّ الْخِدْمَةَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ جُعِلَتْ عِوَضًا عَنْ الْعِتْقِ) وَكُلُّ مَا جُعِلَ عِوَضًا عَنْ الْعِتْقِ فَالْعِتْقُ يَتَعَلَّقُ بِقَبُولِهِ لِأَنَّهُ الْحُكْمُ فِي الْأَعْوَاضِ كُلِّهَا، وَقَدْ وُجِدَ الْقَبُولُ فَنَزَلَ الْعِتْقُ وَلَزِمَهُ خِدْمَةُ أَرْبَعِ سِنِينَ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا لِحُدُوثِ حُكْمِ الْمَالِيَّةِ بِالْعَقْدِ وَلِهَذَا صَلُحَتْ صَدَاقًا مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ ابْتِغَاءَ الْأَبْضَاعِ بِالْأَمْوَالِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ فَالْخِلَافِيَّةُ بِنَاءً عَلَى خِلَافِيَّةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ مَنْ بَاعَ نَفْسَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِجَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْجَارِيَةَ أَوْ هَلَكَتْ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُمَا وَبِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ عِنْدَهُ وَهِيَ) أَيْ مَسْأَلَةُ بَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ بِالْجَارِيَةِ إذَا اُسْتُحِقَّتْ (مَعْرُوفَةٌ) فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَجْهَ الْبِنَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَجْهَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ ذَلِكَ.

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْخِدْمَةَ بَدَلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ الْعِتْقُ وَلَا قِيمَةَ لِلْعِتْقِ، وَقَدْ حَصَلَ الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ الْخِدْمَةِ بِمَوْتِهِ فَوَجَبَ تَسْلِيمُ قِيمَتِهَا.

وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْخِدْمَةَ بَدَلُ مَالٍ لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِ الْعَبْدِ لَكِنْ الْبَدَلُ لَمَّا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ وَهُوَ الْعَبْدُ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَوَجَبَ تَسْلِيمُ قِيمَتِهِ لِإِمْكَانِ ذَلِكَ هَذَا فِي الْمَبْنِيِّ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مُنَاقِضٌ لِمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ أَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ مِنْ وَجْهٍ لِمَا ذَكَرْنَا، وَشَابَهَ بِذَلِكَ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَغَيْرَهُمَا حَتَّى صَحَّ بِأَيِّ مَالٍ كَانَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ مِنْ وَجْهٍ بِالنَّظَرِ إلَى مَوْلَاهُ وَشَابَهَ بِذَلِكَ بَيْعَ عَبْدٍ بِجَارِيَةٍ، فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ وَوَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى الْجَارِيَةِ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.

وَأَمَّا الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ فَوَجْهُ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا بَدَلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ الْعِتْقُ، لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ إعْتَاقٌ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ إيفَاءِ الْبَدَلِ، وَلَيْسَ لِلْمُبْدَلِ وَهُوَ الْعِتْقُ قِيمَةٌ فَيَجِبُ قِيمَةُ الْبَدَلِ.

وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجَارِيَةَ بَدَلُ نَفْسِ الْعَبْدِ بِالْعِتْقِ فَيَجِبُ تَسْلِيمُ

ص: 15

وَكَذَا بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَصَارَ نَظِيرَهَا.

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: أَعْتِقْ أَمَتَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجْنِيهَا فَفَعَلَ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ)؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيَّ فَفَعَلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَيَقَعُ الْعِتْقُ عَلَى الْمَأْمُورِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ طَلِّقْ امْرَأَتَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيَّ فَفَعَلَ حَيْثُ يَجِبُ الْأَلْفُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَدَلِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فِي الطَّلَاقِ جَائِزٌ وَفِي الْعَتَاقِ لَا يَجُوزُ

قِيمَتِهِ، كَمَا إذَا تَبَايَعَا عَبْدًا بِجَارِيَةٍ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَتَفَاسَخَا الْعَقْدَ عَلَى الْجَارِيَةِ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا بِمَوْتِ الْمَوْلَى) يَعْنِي أَنَّ مَوْتَ الْمَوْلَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَوْتِ الْعَبْدِ فَصَارَ نَظِيرَ الْمَسْأَلَةِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءً.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ أَعْتِقْ أَمَتَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيَّ) لَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَيَّ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ عَلَيَّ عَلَى الْوُجُوبِ

ص: 16

وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. (وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ أَمَتَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا قُسِّمَتْ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَتِهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا، فَمَا أَصَابَ الْقِيمَةَ أَدَّاهُ الْآمِرُ، وَمَا أَصَابَ الْمَهْرَ بَطَلَ عَنْهُ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ عَنِّي تَضَمَّنَ الشِّرَاءُ اقْتِضَاءً عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَابَلَ الْأَلْفَ بِالرَّقَبَةِ شِرَاءً وَبِالْبُضْعِ نِكَاحًا فَانْقَسَمَ عَلَيْهِمَا، وَوَجَبَتْ حِصَّةُ مَا سَلَّمَ لَهُ وَهُوَ الرَّقَبَةُ وَبَطَلَ عَنْهُ مَا لَمْ يُسَلِّمْ وَهُوَ الْبُضْعُ، فَلَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَجَوَابُهُ أَنَّ مَا أَصَابَ قِيمَتَهَا سَقَطَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهِيَ لِلْمَوْلَى فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، وَمَا أَصَابَ مَهْرَ مِثْلِهَا كَانَ مَهْرًا لَهَا فِي الْوَجْهَيْنِ.

وَذَكَرَ فِي بَعْضِهَا لِلتَّأْكِيدِ وَالْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةٌ: وَقَوْلُهُ (وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي فِي الْخُلْعِ فِي مَسْأَلَةِ خُلْعِ الْأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى وَجْهِ الْإِشَارَةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ فِي بَابِ الطَّلَاقِ كَالْمَرْأَةِ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ شَيْءٍ لَهُمَا بِالطَّلَاقِ، إذْ الثَّابِتُ بِهِ سُقُوطُ مِلْكِ الزَّوْجِ عَنْهَا لَا غَيْرُ، فَكَمَا جَازَ الْتِزَامُ الْمَرْأَةِ بِالْمَالِ فَكَذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ، بِخِلَافِ الْعَتَاقِ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ لِلْعَبْدِ بِالْإِعْتَاقِ قُوَّةً حُكْمِيَّةً لَمْ تَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَانَ الْمَالُ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْأَجْنَبِيُّ كَالْعَبْدِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ بِهِ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا فَكَانَ اشْتِرَاطُ الْبَدَلِ عَلَيْهِ كَاشْتِرَاطِ الثَّمَنِ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَجُوزُ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَ أَعْتِقْ أَمَتَك عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا) أَيْ قَالَ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِيهَا فَفَعَلَ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ (قَسَمَتْ الْأَلْفَ عَلَى قِيمَتِهَا وَمَهْرِ مِثْلِهَا، فَمَا أَصَابَ الْقِيمَةَ أَدَّاهُ الْآمِرُ، وَمَا أَصَابَ الْمَهْرَ بَطَلَ عَنْهُ) وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.

وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا عُرِفَ) يَعْنِي فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيهِ شُبْهَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ بَيْعٌ بِمَا يَخُصُّهَا مِنْ الْأَلْفِ لَوْ قَسَمَ عَلَيْهَا وَعَلَى مَنَافِعِ بُضْعِهَا وَهُوَ فَاسِدٌ، وَلِأَنَّهُ إدْخَالُ صَفْقَةِ النِّكَاحِ فِي صَفْقَةِ الْبَيْعِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِدُونِ الْقَبْضِ وَلَا مِلْكَ هَاهُنَا فَيَجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ الْعِتْقُ إذْ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْبَيْعَ إذَا كَانَ فَاسِدًا وَيَجِبُ فِيهِ الْعِوَضُ تَجِبُ قِيمَةُ الْمَبِيعِ كَامِلَةً، وَالْقَوْلُ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الثَّمَنِ إنَّمَا هُوَ مُوجِبُ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ وَبَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ فِي الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا سَيَأْتِي. وَأَجَابَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عَنْ الْأُولَى بِأَنَّ الْأَمَةَ تَنْتَفِعُ بِهَذَا الْإِعْتَاقِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَصِيرُ قَابِضَةً نَفْسَهَا أَدْنَى قَبْضٍ، وَأَدْنَى الْقَبْضِ يَكْفِي فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَالْقَبْضِ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَنْ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ الْبَيْعَ مُنْدَرِجٌ فِي الْإِعْتَاقِ، فَأَخَذَ حُكْمَ الْإِعْتَاقِ فِي عَدَمِ الْفَسَادِ بِالشَّرْطِ فَلَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ بِشَرْطِ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الثَّمَنِ. وَقَوْلُهُ (فَلَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ) يَعْنِي فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ (لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ) فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ مَا أَصَابَ قِيمَتَهَا سَقَطَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَقُلْ فِيهِ عَنِّي لِعَدَمِ صِحَّةِ الضَّمَانِ وَهِيَ لِلْمَوْلَى فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ عَنِّي، وَمَا أَصَابَ مَهْرَ مِثْلِهَا كَانَ مَهْرًا لِلْأَمَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ.

ص: 17

‌بَابُ التَّدْبِيرِ

بَابُ التَّدْبِيرِ:

ذِكْرُ الْإِعْتَاقِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْمَوْتِ عَقِيبَ الْإِعْتَاقِ الْوَاقِعِ فِي الْحَيَاةِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ. وَالتَّدْبِيرُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ النَّظَرُ إلَى عَاقِبَةِ الْأَمْرِ. وَفِي الشَّرِيعَةِ هُوَ إيجَابُ الْعِتْقِ الْحَاصِلِ بَعْدَ مَوْتِ الْإِنْسَانِ بِأَلْفَاظٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ صَرِيحًا كَقَوْلِهِ دَبَّرْتُكَ أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ دَلَالَةً كَقَوْلِهِ إذَا مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ مَعَ مَوْتِي أَوْ فِي مَوْتِي، وَكَقَوْلِهِ أَوْصَيْت لَك بِنَفْسِك

ص: 18

(إذَا قَالَ الْمَوْلَى لِمَمْلُوكِهِ إذْ مِتَّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ قَدْ دَبَّرْتك فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا)؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحٌ فِي التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ

أَوْ بِرَقَبَتِك أَوْ بِثُلُثِ مَالِي. وَحُكْمُ التَّدْبِيرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا إلَى الْحُرِّيَّةِ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ،

ص: 19

(ثُمَّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا إلَى الْحُرِّيَّةِ) كَمَا فِي الْكِتَابَةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 20

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَمْتَنِعُ بِهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ وَكَمَا فِي الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَهِيَ غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ» وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا سَبَبَ غَيْرَهُ؛

فَإِذَا مَاتَ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَتَقَ ثُلُثُهُ وَسَعَى فِي ثُلُثَيْهِ

(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَمْتَنِعُ بِهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ) مِنْ دُخُولِ الدَّارِ وَمَجِيءِ رَأْسِ الشَّهْرِ وَغَيْرِهِمَا (وَكَمَا فِي الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ) فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ (وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ) حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ وَالْوَصِيَّةُ لَا تَمْنَعُ الْمُوصِيَ مِنْ التَّصَرُّفِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَمَا أَوْصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ (وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ») رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ التَّدْبِيرُ (سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ) فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ (وَلَا سَبَبَ غَيْرُهُ) ثُمَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي الْحَالِ أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ حَالَ بُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْحَالِ مَوْجُودٌ وَبَعْدَ الْمَوْتِ مَعْدُومٌ لِكَوْنِ كَلَامِهِ عَرَضًا لَا يَبْقَى فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي الْحَالِ: وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنَاقِضٌ

ص: 21

ثُمَّ جَعَلَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ أَوْلَى لِوُجُودِهِ فِي الْحَالِ وَعَدَمِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَالُ بُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ فَلَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَى زَمَانِ بُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ، بِخِلَافِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ السَّبَبِيَّةِ قَائِمٌ قَبْلَ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ وَالْيَمِينُ مَانِعٌ وَالْمَنْعُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَأَنَّهُ يُضَادُّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ،

لِمَا ذُكِرَ فِي آخِرِ بَابِ الْعَبْدِ يُعْتَقُ بَعْضُهُ حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْمُدَبَّرِ يَنْعَقِدُ السَّبَبُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَقُولُ قَوْلُهُ (ثُمَّ جَعْلُهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ أَوْلَى) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَعْلَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ، فَيُحْمَلُ مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ عَلَى غَيْرِ الْأَوْلَى فَيَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ وَيَكُونُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى رِوَايَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ اخْتَارَ جَوَازَهُ بِاجْتِهَادِهِ وَجَعْلُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَصْحَابُ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: فِي التَّدْبِيرِ تَعْلِيقٌ، وَلَيْسَ فِي التَّعْلِيقِ شَيْءٌ مِنْ السَّبَبِ ثَابِتًا فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَمَا بَالُ التَّدْبِيرِ خَالَفَ سَائِرَ التَّعْلِيقَاتِ وَهُوَ مُؤَدَّى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ السَّبَبِيَّةِ قَائِمٌ فِيهِ قَبْلَ الشَّرْطِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ غُمُوضًا لَا يَنْكَشِفُ عَلَى وَجْهِ التَّحْصِيلِ إلَّا بِزِيَادَةِ بَيَانٍ فَلَا بُدَّ مِنْهَا، فَنَقُولُ: الْمَانِعُ هُوَ مَا يَنْتَفِي بِهِ الشَّيْءُ مَعَ قِيَامِ مُقْتَضِيهِ، وَكُلُّ مَا يُنَافِي اللَّازِمَ يُنَافِي الْمَلْزُومَ، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا قُلْنَا الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ سَائِرُ التَّعْلِيقَاتِ أَسْبَابًا فِي الْحَالِ لَكِنْ الْمَانِعُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ فِي الْحَالِ وَهُوَ صِفَةُ كَوْنِ تَصَرُّفِ التَّعْلِيقِ يَمِينًا قَائِمٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَانِعٌ عَنْ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ اللَّازِمِ لِلْحُكْمِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ، وَمَا كَانَ مَانِعًا عَنْ تَحَقُّقِ اللَّازِمِ الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ كَانَ مَانِعًا عَنْ تَحَقُّقِ الْمَلْزُومِ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَإِنَّهُ يُضَادُّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَمَا كَانَ مَانِعًا لِلْحُكْمِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ فَصِفَةُ كَوْنِ تَصَرُّفِ التَّعْلِيقِ يَمِينًا تَمْنَعُ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحُكْمِ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ. فَإِنْ قُلْت: قَدْ يَكُونُ الْيَمِينُ يُعْقَدُ لِلْحَمْلِ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَدْ نَصَّ فِي الْكُتُبِ أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ أَوْ الْحَمْلِ فَكَيْفَ قَالَ: وَالْمَنْعُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْحَصْرَ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ؟ قُلْت: لَا يُقْصَدُ بِالْيَمِينِ إلَّا مَنْعُ الشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ هُوَ النَّفْيُ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَنْعُ مِنْهُ وَيَلْزَمُهُ الْحَمْلُ. فَإِنْ قُلْت: التَّدْبِيرُ يَمِينٌ أَوْ لَيْسَ بِيَمِينٍ، فَإِنْ كَانَ يَمِينًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِقِيَامِ الْمَانِعِ عَلَى مَا قَرَّرْتُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لَمْ يَسْتَقِمْ قَوْلُهُ بِخِلَافِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ إذْ السَّائِرُ بِمَعْنَى الْبَاقِي.

ص: 22

وَأَمْكَنَ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَى زَمَانِ الشَّرْطِ؛ لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَهُ فَافْتَرَقَا؛ وَلِأَنَّهُ وَصِيَّةُ خِلَافَةٍ فِي الْحَالِ كَالْوِرَاثَةِ وَإِبْطَالُ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ، وَفِي الْبَيْعِ وَمَا يُضَاهِيهِ ذَلِكَ.

قَالَ: (وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَيُؤَاجِرَهُ وَإِنْ

قُلْت: لَيْسَ بِيَمِينٍ لِتَعَلُّقِ عِتْقِهِ بِأَمْرٍ كَائِنٍ، وَاسْتِقَامَةُ إطْلَاقِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْيَمِينُ أَخَصَّ مِنْ التَّعْلِيقِ. وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا جَاءَ غَدٌ فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ بِأَمْرٍ كَائِنٍ وَلَيْسَ بِسَبَبٍ فِي الْحَالِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إضَافَةٌ لَا تَعْلِيقٌ. وَقَوْلُهُ (وَأَمْكَنَ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَى زَمَانِ الشَّرْطِ) لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ فَرْقٌ آخَرُ بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَسَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُمْكِنُ فِيهِ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ انْتِفَاءِ أَهْلِيَّةِ الْإِيجَابِ حِينَئِذٍ. وَأَمَّا سَائِرُ التَّعْلِيقَاتِ فَتَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ فِيهِ إلَى زَمَانِ الشَّرْطِ مُمْكِنٌ لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَهُ فَافْتَرَقَا. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ قِيَامَ الْأَهْلِيَّةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ جُنَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ قِيَامَ أَهْلِيَّتِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إذَا لَمْ يَكُنْ التَّعْلِيقُ ابْتِدَاءً بِحَالِ بُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فِي صُورَةِ الْمَجْنُونِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَهْلِيَّةَ إذْ ذَاكَ غَيْرُ شَرْطٍ.

وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ خِلَافَةٌ فِي الْحَالِ) فَرْقٌ آخَرُ بَيْنَهُمَا.

وَتَقْرِيرُهُ: التَّدْبِيرُ الْمُطْلَقُ وَصِيَّةٌ، وَالْوَصِيَّةُ سَبَبُ الْخِلَافَةِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ يَجْعَلُ الْمُوصَى لَهُ خَلَفًا فِي بَعْضِ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْوِرَاثَةِ فَإِنَّهَا سَبَبُ خِلَافَةٍ فِي الْحَالِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَصِيَّةً لَبَطَلَ إذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ سَيِّدَهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ لَا تَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، وَلَجَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمُوصِيَ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْمُوصَى بِهِ وَيَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْوَصِيَّةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا جَمِيعًا أَنَّ ذَلِكَ فِي وَصِيَّةٍ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيقِ لِأَنَّهَا الْوَصِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ وَالتَّدْبِيرُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَوَجْهُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ أَنَّ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ بِالْقَتْلِ وَجَوَازَ الْبَيْعِ وَكَوْنَهُ رُجُوعًا إنَّمَا يَصِحُّ فِي مُوصًى بِهِ يَقْبَلُ الْفَسْخَ وَالْبُطْلَانَ وَالتَّدْبِيرَ لِكَوْنِهِ إعْتَاقًا لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (وَإِبْطَالُ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ) تَتِمَّةُ الدَّلِيلِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةُ وَمَا بَيْنَهُمَا لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَتَرْكِيبِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، هَكَذَا التَّدْبِيرُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ، وَسَبَبُ الْحُرِّيَّةِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ، وَفِي الْبَيْعِ وَمَا يُشَابِهُهُ مِنْ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِمْهَارِ ذَلِكَ أَيْ إبْطَالُ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَجُوزُ.

قَالَ (وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَيُؤَاجِرَهُ) التَّدْبِيرُ لَا يُثْبِتُ الْحُرِّيَّةَ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا

ص: 23

كَانَتْ أَمَةً وَطِئَهَا وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ ثَابِتٌ لَهُ وَبِهِ تُسْتَفَادُ وِلَايَةُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ.

يُثْبِتُ اسْتِحْقَاقَ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَ الْمِلْكُ فِيهِ ثَابِتًا، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ دَخَلَ فِيهِ الْمُدَبَّرُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَيُؤَاجِرَهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَطِئَهَا وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِأَنَّ وِلَايَةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِالْمِلْكِ وَهُوَ ثَابِتٌ

ص: 24

(فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ الْمُدَبَّرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ) لِمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مُضَافٌ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ وَالْحُكْمُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ فَيَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ يَسْعَى فِي كُلِّ قِيمَتِهِ؛ لِتَقَدُّمِ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُ الْعِتْقِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ.

(وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ) وَعَلَى

فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ الْمُدَبَّرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ» (وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ لِكَوْنِهِ تَبَرُّعًا مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ) وَلَا نَعْنِي بِالْوَصِيَّةِ إلَّا ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ يَعْنِي الْعِتْقَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ اسْتِحْقَاقَ الْحُرِّيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، وَكُلُّ وَصِيَّةٍ تَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ رَقَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ يَسْعَى فِي كُلِّ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْعِتْقُ لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ) هَذِهِ هِيَ النُّسْخَةُ

ص: 25

ذَلِكَ نُقِلَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

الصَّحِيحَةُ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَوَلَدُ الْمُدَبَّرِ مُدَبَّرٌ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُدَبَّرِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَالْأَوَّلُ رَقِيقٌ لِمَوْلَاهَا، وَالثَّانِي يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي التَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَغَيْرِهِمَا دُونَ الْأَبِ. وَأَمَّا وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ فَهُوَ مُدَبَّرٌ نَقَلَ عَلَى ذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَخُوصِمَ إلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه فِي أَوْلَادِ مُدَبَّرَةٍ فَقَضَى بِأَنَّ مَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ عَبْدٌ يُبَاعُ، وَمَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ فَهُوَ مِثْلُهَا لَا يُبَاعُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ خِلَافٌ

ص: 26

(وَإِنْ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِمَوْتِهِ عَلَى صِفَةٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتَّ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ سَفَرِي هَذَا أَوْ مِنْ مَرَضِ كَذَا فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ)؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي الْحَالِ لِتَرَدُّدٍ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ (فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا عَتَقَ كَمَا يُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ) مَعْنَاهُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حُكْمُ التَّدْبِيرِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ؛ لِتَحَقُّقِ تِلْكَ الصِّفَةِ فِيهِ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ.

وَقَوْلُهُ (فَإِنْ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِمَوْتِهِ) بَيَانٌ لِلْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ التَّدْبِيرَ بِمَوْتِهِ عَلَى صِفَةٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتّ مِنْ مَرَضِي أَوْ سَفَرِي أَوْ مَرَضِ كَذَا فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي الْحَالِ لِلتَّرَدُّدِ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ فَرُبَّمَا يَرْجِعُ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ وَيَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَتَحْقِيقُهُ يُسْتَفَادُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِهِ إذَا كَانَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ كَانَ بِمَعْنَى الْيَمِينِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ صِفَةَ كَوْنِهِ يَمِينًا يَمْنَعُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ أَمْرًا كَائِنًا لَا مَحَالَةَ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ فَكَانَ سَبَبًا. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَنْعَقِدْ السَّبَبُ فِي الْحَالِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَنْعَقِدُ إذَا انْعَقَدَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ بِحَالِ أَهْلِيَّةِ الْإِيجَابِ، وَإِنْ انْعَقَدَ قَبْلَهُ كَيْفَ يَجُوزُ بَيْعُهُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا عَتَقَ كَمَا يُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُ التَّدْبِيرِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لِتَحَقُّقِ تِلْكَ الصِّفَةِ حِينَئِذٍ، وَإِنْ عَاشَ بَطَلَ التَّدْبِيرُ

ص: 27

وَمِنْ الْمُقَيَّدِ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتَّ إلَى سَنَةٍ أَوْ عَشْرِ سِنِينَ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ وَمِثْلُهُ لَا يَعِيشُ إلَيْهِ فِي الْغَالِبِ؛ لِأَنَّهُ كَالْكَائِنِ لَا مَحَالَةَ.

وَمِنْ الْمُقَيَّدِ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتّ إلَى سَنَةٍ أَوْ عَشْرَةِ سِنِينَ لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِلتَّرَدُّدِ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ، وَمِثْلُهُ لَا يَعِيشُ إلَيْهِ فِي الْغَالِبِ لِأَنَّهُ كَالْكَائِنِ لَا مَحَالَةَ) وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُنْتَقَى، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي نَوَازِلِهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إنْ مِتّ إلَى مِائَتَيْ سَنَةٍ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: هَذَا مُدَبَّرٌ مُقَيَّدٌ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ مُدَبَّرٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ لَوْ مَاتَ قَبْلَ السَّنَةِ فِي الْأَوَّلِ أَوْ قَبْلَ عَشْرِ سِنِينَ فِي الثَّانِي عَتَقَ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَهُمَا لَمْ يُعْتَقْ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فِي الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 28

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

‌بَابُ الِاسْتِيلَادِ:

ص: 29

بَابُ الِاسْتِيلَادِ

(وَإِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا تَمْلِيكُهَا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» أَخْبَرَ عَنْ إعْتَاقِهَا فَيَثْبُتُ بَعْضُ مَوَاجِبِهِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْبَيْعِ،

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ التَّدْبِيرِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الِاسْتِيلَادِ عَقِيبَهُ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا حَقِيقَتَهَا. وَالِاسْتِيلَادُ: طَلَبُ الْوَلَدِ، فَأُمُّ الْوَلَدِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ كَالصَّغِيرَةِ فِي الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ (إذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا) وَلَا هِبَتُهَا (وَلَا تَمْلِيكُهَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَمَّا وَلَدَتْ مَارِيَةُ إبْرَاهِيمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ لَهُ أَلَا تُعْتِقُهَا أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» أَخْبَرَ عَنْ إعْتَاقِهَا فَيَثْبُتُ بَعْضُ مُوجَبِهِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْبَيْعِ) لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ دَلَّ عَلَى تَنْجِيزِ الْحُرِّيَّةِ لَكِنْ عَارَضَهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا رَجُلٍ وَلَدَتْ أَمَتُهُ مِنْهُ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ» فَعَلِمْنَا بِهِمَا جَمِيعًا وَمَنَعْنَا الْبَيْعَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَالتَّنْجِيزَ بِالْحَدِيثِ الثَّانِي. وَلَا يُقَالُ مَحَلِّيَّةُ الْبَيْعِ مَعْلُومَةٌ فِيهَا بِيَقِينٍ فَلَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُهُ. لِأَنَّا نَقُولُ: الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى عِتْقِهَا مِنْ الْمَشَاهِيرِ، وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهَا الْإِجْمَاعُ اللَّاحِقُ فَرَفَعَتْهَا.

ص: 30

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 31

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 32

وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْمَاءَيْنِ قَدْ اخْتَلَطَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْمَيْزُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، إلَّا أَنَّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ تَبْقَى الْجُزْئِيَّةُ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً فَضَعُفَ السَّبَبُ فَأَوْجَبَ حُكْمًا مُؤَجَّلًا إلَى مَا بَعْدِ الْمَوْتِ،

وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْمَاءَيْنِ قَدْ اخْتَلَطَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ) وَهِيَ تَمْنَعُ بَيْعَهَا وَهِبَتَهَا لِأَنَّ بَيْعَ جُزْءِ الْحُرِّ وَهِبَتَهُ حَرَامٌ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُزْئِيَّةُ مُعْتَبَرَةً لَتَنَجَّزَ الْعِتْقُ لِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ تُوجِبُهُ وَلَسْتُمْ بِقَائِلِينَ بِهِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ) يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَعْلَمُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَبَعْدَ الِانْفِصَالِ (تَبْقَى الْجُزْئِيَّةُ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً فَضَعُفَ السَّبَبُ فَأَوْجَبَ حُكْمًا مُؤَجَّلًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ) فَتَعَاضَدَ الْمَنْقُولُ بِالْمَعْقُولِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُؤَجَّلِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ الْعِتْقُ فَيَحْرُمُ بَيْعُهَا فِي الْحَالِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ الْجُزْئِيَّةُ بَاقِيَةً حُكْمًا لَعَتَقَ مَنْ مَلَكَتْهُ امْرَأَتُهُ الَّتِي

ص: 33

وَبَقَاءُ الْجُزْئِيَّةِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ النَّسَبِ وَهُوَ مِنْ جَانِبِ الرِّجَالِ.

فَكَذَا الْحُرِّيَّةُ تَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّهِنَّ، حَتَّى إذَا مَلَكَتْ الْحُرَّةُ زَوْجَهَا وَقَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ لَمْ يُعْتَقْ الزَّوْجُ الَّذِي مَلَكَتْهُ بِمَوْتِهَا، وَبِثُبُوتِ عِتْقٍ مُؤَجَّلٍ يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ فَيُمْنَعُ جَوَازُ الْبَيْعِ وَإِخْرَاجُهَا لَا إلَى الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ وَيُوجِبُ عِتْقَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا مَمْلُوكًا لَهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فَإِنَّهُ فَرْعُ النَّسَبِ فَيُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ.

وَلَدَتْ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَبَقَاءُ الْجُزْئِيَّةِ حُكْمًا) وَمَعْنَاهُ أَنَّ بَقَاءَ الْجُزْئِيَّةِ حُكْمًا عِبَارَةٌ عَنْ ثَبَاتِ النَّسَبِ، وَالْأَصْلُ فِي ثَبَاتِ النَّسَبِ هُوَ الْأَبُ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إلَيْهِ وَالْأُمُّ أَيْضًا بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ يُقَالُ أُمُّ وَلَدِ فُلَانٍ (فَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ تَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّهِنَّ). وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا مَمْلُوكًا لَهُ) يَعْنِي لَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ لِأَنَّهُ فَرْعُ مَا لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ النَّسَبُ فَيُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ذَكَرَ فِي بَابِ الْعَبْدِ يُعْتَقُ بَعْضُهُ وَالِاسْتِيلَادُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ اسْتَوْلَدَ نَصِيبَهُ مِنْ مُدَبَّرَةٍ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ إلَخْ فَمَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ كَلَامَيْهِ؟.

ص: 34

قَالَ: (وَلَهُ وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَإِجَارَتُهَا وَتَزْوِيجُهَا) لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا قَائِمٌ فَأَشْبَهَتْ الْمُدَبَّرَةَ

أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَتَجَزَّأُ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالضَّمَانِ مَعَ مِلْكِ نَصِيبِهِ فَيَكْمُلُ الِاسْتِيلَادُ عَلَى مَا يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ نَصِيبَ صَاحِبِهِ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ بِضَمَانِ الْمُسْتَوْلِدِ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ وَقَعَ فِي الْقِنَّةِ وَهِيَ قَابِلَةٌ لِلِانْتِقَالِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَمَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ مِنْ تَجَزُّؤِ الِاسْتِيلَادِ فَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمُدَبَّرَةِ وَهِيَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلنَّقْلِ فَكَانَ الِاسْتِيلَادُ مُقْتَصِرًا عَلَى نَصِيبِهِ فَيَتَجَزَّأُ الِاسْتِيلَادُ ضَرُورَةً فَكَانَ دَفْعُ التَّنَاقُضِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ وَالْمُحَالِ وَبِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا جَعَلَا الِاسْتِيلَادَ مَقِيسًا عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ. ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، وَمِثْلُ هَذَا كَانَ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.

قَالَ (وَلَهُ وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَإِجَارَتُهَا وَتَزْوِيجُهَا) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا حَقِيقَتَهَا، فَكَانَ الْمِلْكُ فِيهَا قَائِمًا كَالْمُدَبَّرَةِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَيَسْتَخْدِمَهَا وَيُؤَجِّرَهَا وَيُزَوِّجَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا. فَإِنْ قِيلَ: شَغْلُ الرَّحِمِ بِمَائِهِ مُحْتَمَلٌ وَاحْتِمَالُ ذَلِكَ يَمْنَعُ جَوَازَ النِّكَاحِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ. أُجِيبَ بِأَنَّ مَحَلِّيَّةَ جَوَازِ النِّكَاحِ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ الْوَطْءِ وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهَا فَلَا تَرْتَفِعُ بِهِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْمَنْكُوحَةَ خَرَجَتْ عَنْ مَحَلِّيَّةِ نِكَاحِ الْغَيْرِ فَلَا تَعُودُ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ حَقِيقَةً وَذَلِكَ بَعْدَ الْعِدَّةِ.

ص: 35

(وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَا ثَبَّتَ النَّسَبُ بِالْعَقْدِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِالْوَطْءِ وَأَنَّهُ أَكْثَرُ إفْضَاءً أَوْلَى. وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ يُقْصَدُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ؛ لِوُجُودِ الْمَانِعِ عَنْهُ

وَقَوْلُهُ (وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا) أَيْ وَلَدِ الْأَمَةِ رُجُوعٌ إلَى مَا ابْتَدَأَ بِهِ أَوَّلَ الْبَابِ بِقَوْلِهِ: إذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا لِمَا أَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِغَيْرِ إقْرَارٍ، وَحُكْمُ الْمُدَبَّرَةِ كَحُكْمِ الْأَمَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا بِدُونِ دَعْوَةِ الْمَوْلَى.

وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ) أَيْ بِالْوَلَدِ وَالِاعْتِرَافُ بِالْوَطْءِ غَيْرُ مُلْزِمٍ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ بِالْعَقْدِ) أَيْ بِالنِّكَاحِ الَّذِي هُوَ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ (فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِهِ وَهُوَ أَكْثَرُ إفْضَاءً أَوْلَى. وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ يُقْصَدُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ عَنْهُ) أَيْ عَنْ طَلَبِ الْوَلَدِ وَهُوَ سُقُوطُ التَّقَوُّمِ عِنْدَهُ وَنُقْصَانُ الْقِيمَةِ عِنْدَهُمَا أَوْ عَدَمُ نَجَابَةِ

ص: 36

فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَةِ بِمَنْزِلَةِ مَالِكِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ، بِخِلَافِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَعَيَّنُ مَقْصُودًا مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الدَّعْوَةِ.

أَوْلَادِ الْإِمَاءِ عِنْدَهُمْ (فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَةِ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ) فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِيهِ بِغَيْرِ الدَّعْوَةِ (بِخِلَافِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَعَيَّنُ مَقْصُودًا مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الدَّعْوَةِ) لَا يُقَالُ: النَّسَبُ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ أَوْ بِمَا وُضِعَ لَهَا وَالْقَصْدُ وَعَدَمُهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَدَارَهُ لَثَبَتَ مِنْ الزَّانِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ إلَى الْمَوْضُوعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْعَقْدُ مَوْضُوعٌ لِذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّعْوَةِ وَوَطْءُ الْأَمَةِ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لَهَا فَيَحْتَاجُ إلَيْهَا.

ص: 37

(فَإِنْ)(جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِغَيْرِ إقْرَارِ) مَعْنَاهُ بَعْدَ اعْتِرَافٍ مِنْهُ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى الْوَلَدِ الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَلَدُ مَقْصُودًا مِنْهَا فَصَارَتْ فِرَاشًا كَالْمَعْقُودَةِ (إلَّا أَنَّهُ إذَا نَفَاهُ يَنْتَفِي بِقَوْلِهِ)؛ لِأَنَّ فِرَاشَهَا ضَعِيفٌ حَتَّى يَمْلِكَ نَقْلَهُ بِالتَّزْوِيجِ، بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ حَيْثُ لَا يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِنَفْيِهِ إلَّا بِاللِّعَانِ؛ لِتَأَكُّدِ الْفِرَاشِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ إبْطَالَهُ بِالتَّزْوِيجِ،

فَإِنْ جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ إذَا كَانَ قَدْ اعْتَرَفَ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَلَدُ مَقْصُودًا مِنْهَا فَصَارَتْ فِرَاشًا كَالْمَعْقُودَةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا نَفَاهُ يَنْتَفِي بِقَوْلِهِ) مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِهِ أَوْ لَمْ تَتَطَاوَلْ الْمُدَّةُ، فَأَمَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَقَدْ أَلْزَمَهُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّطَاوُلِ لِأَنَّهُ يُوجَدُ مِنْهُ دَلِيلُ الْإِقْرَارِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ قَبُولِ التَّهْنِئَةِ وَنَحْوِهِ، وَذَلِكَ كَالتَّصْرِيحِ بِالْإِقْرَارِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي مُدَّةِ التَّطَاوُلِ قَدْ سَبَقَ فِي اللِّعَانِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ فِرَاشَهَا ضَعِيفٌ) وَاضِحٌ.

ص: 38

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ حُكْمٌ. فَأَمَّا الدَّيَّانَةُ، فَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا وَحَصَّنَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ وَيَدَّعِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ، وَإِنْ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ يُقَابِلُهُ ظَاهِرٌ آخَرُ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ

قَوْلُهُ (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ) أَيْ عَدَمَ ثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِ الْأَمَةِ بِدُونِ الدَّعْوَةِ (حُكْمُ) قَضَاءِ الْقَاضِي (فَأَمَّا الدِّيَانَةُ) يَعْنِي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَالِاعْتِرَافُ بِهِ وَالدَّعْوَى إنْ وَطِئَهَا وَحَصَّنَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا، وَالْمُرَادُ بِالتَّحْصِينِ هُوَ أَنْ يَحْفَظَهَا عَمَّا يُوجِبُ رِيبَةَ الزِّنَا. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ) وَهُوَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ عِنْدَ التَّحْصِينِ وَعَدَمِ الْعَزْلِ (يُقَابِلُهُ) أَيْ يُعَارِضُهُ (ظَاهِرٌ آخَرُ) وَهُوَ الْعَزْلُ أَوْ تَرْكُ التَّحْصِينِ.

ص: 39

أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ أُخْرَيَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.

(فَإِنْ زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ أُمِّهِ)؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالتَّدْبِيرِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ حُرٌّ وَوَلَدَ الْقِنَّةِ رَقِيقٌ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا إذْ الْفَاسِدُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ،

وَقَوْلُهُ (وَفِيهِ رِوَايَتَانِ أُخْرَيَانِ) فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَخْرَوَانِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَقَوْلُهُ (عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ) قِيلَ فَائِدَةُ تَكْرَارِ " عَنْ " دَفْعُ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا بِاتِّفَاقِهِمَا فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِوَايَةٌ تُخَالِفُ رِوَايَةَ الْآخَرِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ فَهِيَ أَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدَّعِيَهُ سَوَاءٌ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يَعْزِلْ، حَصَّنَهَا أَوْ لَمْ يُحْصِنْهَا تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهَا وَحَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ فَهِيَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْهُ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْتِقَ الْوَلَدَ وَيَسْتَمْتِعَ بِهَا وَيُعْتِقَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ اسْتِلْحَاقَ نَسَبٍ لَيْسَ مِنْهُ لَا يَحِلُّ شَرْعًا فَيُحْتَاطُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَذَلِكَ فِي أَنْ لَا يَدَّعِيَ النَّسَبَ، وَلَكِنْ يُعْتَقُ الْوَلَدُ وَيُعْتِقُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ. وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ وَحَصَّنَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدَّعِيَ، وَإِنْ لَمْ يُحْصِنْ أَوْ عَزَلَ فَقَدْ وَقَعَ الِاحْتِمَالُ فَلَا يَلْزَمُهُ الِاعْتِرَافُ بِالشَّكِّ.

(فَإِنْ زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ أُمِّهِ) لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الْقَارَّةَ فِي الْأُمَّهَاتِ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ بِالنِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا بَعْدَمَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، وَمِنْ الْأَحْكَامِ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَعَدَمُ جَوَازِ الْبَيْعِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقًا بِالصَّحِيحِ كَانَ أَقْوَى مِنْ فِرَاشِ أُمِّ الْوَلَدِ. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى) مَعْنَاهُ إذَا زَوَّجَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِإِقْرَارِهِ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا كَلَامَهُ بِذَلِكَ لِيَسْتَقِيمَ قَوْلُهُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ ثَابِتَةٌ قَبْلَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ فَوَائِدِ مَوْلَانَا حُمَيْدِ الدِّينِ الضَّرِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِيرَ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ بِدَعْوَةِ الْوَلَدِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْأَصْلُ مِنْهُ كَيْفَ يَثْبُتُ الْفَرْعُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِيلَادِ كَافٍ لِثُبُوتِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ فِي ضِمْنِ شَيْءٍ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ الشَّيْءُ لِمُصَادَفَةِ إقْرَارِ الْمَوْلَى فِي مَحَلِّهِ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَهَذَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ الْمَوْلَى بِعُلُوقٍ سَبَقَ النِّكَاحَ أَوْ بِشُبْهَةٍ بَعْدَ النِّكَاحِ، إلَّا أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ النَّسَبِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْ النَّسَبِ فَبَقِيَ

ص: 40

وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِإِقْرَارِهِ.

(وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ) لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا يُجْعَلْنَ مِنْ الثُّلُثِ» .

مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْأُمِّ لِاحْتِيَاجِهَا إلَى أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ.

قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ) سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا أَوْ لَا لِمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا يُجْعَلْنَ مِنْ الثُّلُثِ» وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَمَرَ حَكَمَ لَا الْأَمْرُ الْمُصْطَلَحُ فَإِنَّهُنَّ يُعْتَقْنَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا نَكَّرَ الدَّيْنَ نَفْيًا لِلسِّعَايَةِ لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ وَلَا يُجْعَلُ مِنْ الثُّلُثِ تَأْكِيدٌ لِأَنَّهُ فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ

ص: 41

وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوَلَدِ أَصْلِيَّةٌ فَتُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ وَالدَّيْنِ كَالتَّكْفِينِ، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مِنْ زَوَائِدِ الْحَوَائِجِ

(وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فِي دَيْنِ الْمَوْلَى لِلْغُرَمَاءِ) لَمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ كَالْقِصَاصِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ.

فِي دَيْنٍ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوَلَدِ أَصْلِيَّةٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ كَمَا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إبْقَاءِ نَفْسِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ كَالتَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ (بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مِنْ زَوَائِدِ الْحَوَائِجِ).

وَقَوْلُهُ (وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ (فِي دَيْنِ الْمَوْلَى لِلْغُرَمَاءِ لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوَلَدِ أَصْلِيَّةٌ إلَخْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لِمَا رَوَيْنَا يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.

وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ " وَلَا يُبَعْنَ " دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَالِيَّةِ، وَإِذَا عُدِمَتْ مَالِيَّتُهَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا سِعَايَةٌ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهَا) يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ (لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ) حَتَّى لَوْ غَصَبَهَا رَجُلٌ وَمَاتَتْ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُهَا الْغَاصِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ مَالِيَّتَهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ (فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ كَالْقِصَاصِ) فَإِنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ إذَا مَاتَ وَهُوَ مَدْيُونٌ لَيْسَ لِأَرْبَابِ الدُّيُونِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ بِدَيْنِهِمْ وَيَسْتَوْفُوا مِنْهُ دُيُونَهُمْ بِمُقَابَلَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ مِنْ مَدْيُونِهِمْ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى يَأْخُذُوا مِنْهُ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْئًا مُتَقَوِّمًا، وَكَذَا إذَا قَتَلَ الْمَدْيُونُ شَخْصًا لَا يَقْدِرُ الْغُرَمَاءُ عَلَى مَنْعِ وَلِيِّ الْقِصَاصِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَكَذَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ مَدْيُونًا وَالْمَدْيُونُ قَدْ عَفَا لَا يَقْدِرُ الْغُرَمَاءُ عَلَى مَنْعِ الْمَدْيُونِ عَنْ

ص: 42

(وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا) وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَا تُعْتَقُ حَتَّى تُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: تُعْتَقُ فِي الْحَالِ وَالسِّعَايَةُ دَيْنٌ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا عُرِضَ عَلَى الْمَوْلَى الْإِسْلَامُ فَأَبَى، فَإِنْ أَسْلَمَ تَبْقَى عَلَى حَالِهَا. لَهُ أَنَّ إزَالَةَ الذُّلِّ عَنْهَا بَعْدَمَا أَسْلَمَتْ وَاجِبَةٌ وَذَلِكَ بِالْبَيْعِ أَوْ الْإِعْتَاقِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْبَيْعُ فَتَعَيَّنَ الْإِعْتَاقُ.

وَلَنَا أَنَّ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي جَعْلِهَا مُكَاتَبَةً؛ لِأَنَّهُ يَنْدَفِعُ الذُّلُّ عَنْهَا بِصَيْرُورَتِهَا حُرَّةً يَدًا وَالضَّرَرُ عَنْ الذِّمِّيِّ لِانْبِعَاثِهَا عَلَى الْكَسْبِ نَيْلًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ فَيَصِلُ الذِّمِّيُّ إلَى بَدَلِ مِلْكِهِ، أَمَّا لَوْ أُعْتِقَتْ وَهِيَ مُفْلِسَةٌ تَتَوَانَى فِي الْكَسْبِ وَمَالِيَّةُ أُمُّ الْوَلَدِ يَعْتَقِدُهَا الذِّمِّيُّ مُتَقَوِّمَةً فَيُتْرَكُ وَمَا يَعْتَقِدُهُ،

الْعَفْوِ.

(وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا) وَهِيَ ثُلُثُ قِيمَتِهَا قِنَّةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَاسْتَشْكَلَ الْقَوْلَ بِالسِّعَايَةِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ أَنَّ مَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالسِّعَايَةِ قَوْلٌ بِالتَّقَوُّمِ إذْ السِّعَايَةُ بَدَلُ مَا ذَهَبَ مِنْ مَالِيَّتِهَا. قَوْلُهُ (وَمَالِيَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ يَعْتَقِدُهَا الذِّمِّيُّ مُتَقَوِّمَةً فَيُتْرَكُ وَمَا يَعْتَقِدُهُ) جَوَابٌ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ.

ص: 43

وَلِأَنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ مُحْتَرَمَةٌ، وَهَذَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ الْمُشْتَرَكِ إذَا عَفَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ يَجِبُ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ.

(وَلَوْ مَاتَ مَوْلَاهَا عَتَقَتْ بِلَا سِعَايَةٍ)؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَوْ عَجَزَتْ فِي حَيَاتِهِ لَا تُرَدُّ قِنَّةً؛ لِأَنَّهَا لَوْ رُدَّتْ قِنَّةً أُعِيدَتْ مُكَاتَبَةً لِقِيَامِ الْمُوجِبِ

(وَمَنْ اسْتَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ،

وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهَا) يَعْنِي مَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ (إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ مُحْتَرَمَةٌ وَهَذَا) أَيْ كَوْنُهَا مُحْتَرَمَةً (يَكْفِي لِوُجُوبِ الضَّمَانِ) جَوَابٌ آخَرُ لِذَلِكَ الْإِشْكَالِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الِاحْتِرَامَ لَوْ كَانَ كَافِيًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَوَجَبَ عَلَى غَاصِبِ أُمِّ الْوَلَدِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ فِي الْغَصْبِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ مَالِيَّتِهَا لِانْتِفَاءِ تَقَوُّمِهَا وَبَيْنَ مَا يَضْمَنُ بِهِ مِنْ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مِثْلِهِ. وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي الْقِصَاصِ الْمُشْتَرَكِ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْقِصَاصُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ وَعَفَا أَحَدُهُمْ يَجِبُ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ مَالًا مُتَقَوِّمًا لَكِنَّهُ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِاحْتِبَاسِ نَصِيبِ الْآخَرِينَ عِنْدَهُ بِعَفْوِ أَحَدِهِمْ.

(وَلَوْ مَاتَ مَوْلَاهَا) وَهُوَ النَّصْرَانِيُّ (عَتَقَتْ بِلَا سِعَايَةٍ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ وَلَوْ عَجَزَتْ فِي حَيَاتِهِ لَا تُرَدُّ قِنَّةً، لِأَنَّهَا لَوْ رُدَّتْ قِنَّةً أُعِيدَتْ مُكَاتَبَةً لِقِيَامِ الْمُوجِبِ) وَهُوَ إسْلَامُهَا مَعَ كُفْرِ مَوْلَاهَا.

ص: 44

وَلَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِمِلْكِ يَمِينٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ ثُمَّ مَلَكَهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَنَا، وَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ وَهُوَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ. لَهُ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ فَلَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ كَمَا إذَا عَلِقْت مِنْ الزِّنَا ثُمَّ مَلَكَهَا الزَّانِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَالْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ.

وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُزْئِيَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَالْجُزْئِيَّةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمُلَا وَقَدْ ثَبَتَ النَّسَبُ

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ اسْتَوْلَدَهَا) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ. وَتَقْرِيرُ وَجْهِ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ: وَمَنْ عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِمَنْ عَلِقَتْ مِنْهُ، لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا لِأَنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: أَيْ فِي حَالَةِ الْعُلُوقِ وَالْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ. وَفِي صُورَةِ النِّزَاعِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمَّ رَقِيقَةٌ لِمَوْلَاهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: أَيْ فِي حَالَةِ الْعُلُوقِ، فَلَوْ انْعَلَقَ الْوَلَدُ حُرًّا كَانَ الْجُزْءُ مُخَالِفًا لِلْكُلِّ.

وَقَوْلُهُ (كَمَا إذَا عَلِقَتْ مِنْ الزِّنَا ثُمَّ مَلَكَهَا الزَّانِي) أَنَّهَا لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لِكَوْنِ الْعُلُوقِ لَيْسَ مِنْ مَوْلَاهَا، قِيلَ فِي كَلَامِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِيلَادِ كَوْنُ الْعُلُوقِ مِنْ مَوْلَاهَا وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ إذَا عَلِقَتْ مِنْ الزِّنَا.

وَقَوْلُهُ (وَهَذَا لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْعِلَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَذَلِكَ مُغَايِرٌ لِلْأَوَّلِ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هُوَ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا عِنْدَهُ لَيْسَ إلَّا، وَفِي صُورَةِ الزِّنَا إنَّمَا لَمْ تَثْبُتْ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ انْعَلَقَ رَقِيقًا لِأَنَّ الْمَزْنِيَّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِلْكُ مَوْلَاهَا (وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِيلَادِ هُوَ الْجُزْئِيَّةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ) أَوَّلَ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ، وَالْجُزْئِيَّةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَلًا، وَقَدْ

ص: 45

فَتَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ، بِخِلَافِ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ فِيهِ لِلْوَلَدِ إلَى الزَّانِي، وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَى الزَّانِي إذَا مَلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ حَقِيقَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. نَظِيرُهُ مَنْ اشْتَرَى أَخَاهُ مِنْ الزِّنَا لَا يُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ نِسْبَتِهِ إلَى الْوَالِدِ وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ.

(وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ

ثَبَتَ النَّسَبُ بِالنِّكَاحِ فَثَبَتَتْ الْجُزْئِيَّةُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْجُزْئِيَّةُ ثَبَتَتْ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ.

وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الزِّنَا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا إذَا عَلِقَتْ بِالزِّنَا لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ فِيهِ: أَيْ فِي الزِّنَا (لِلْوَلَدِ إلَى الزَّانِي) فَلَا تَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْبَابِ وَهُوَ الْجُزْئِيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ فَلَا تَثْبُتُ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْ الزَّانِي فَعَلَامَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ الْوَلَدُ مِنْ الزِّنَا إذَا مَلَكَهُ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَى الزَّانِي إذَا مَلَكَهُ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ حَقِيقَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ)، بِخِلَافِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِوَاسِطَةِ نِسْبَةِ الْوَلَدِ وَالنِّسْبَةُ عَنْ الزَّانِي مُنْقَطِعَةٌ فَكَانَ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ مِنْ الزِّنَا (نَظِيرُ مَنْ اشْتَرَى أَخَاهُ مِنْ الزِّنَا لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْأَخُ (يُنْسَبُ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ نِسْبَتِهِ إلَى الْوَالِدِ وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ) وَالْمُرَادُ بِالْأَخِ الْأَخُ لِأَبٍ، وَأَمَّا الْأَخُ لِأُمٍّ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ الزِّنَا لِأَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ.

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ) ظَاهِرٌ.

ص: 46

وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُقْرُهَا وَلَا قِيمَةُ وَلَدِهَا) وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ بِدَلَائِلِهَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهُ انْعَلَقَ حُرَّ الْأَصْلِ لِاسْتِنَادِ الْمِلْكِ إلَى مَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ.

(وَإِنْ وَطِئَ أَبُو الْأَبِ مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ لَمْ يَثْبُتُ النَّسَبُ)؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْجَدِّ حَالَ قِيَامِ الْأَبِ (وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا ثَبَتَ مِنْ الْجَدِّ كَمَا يَثْبُتُ مِنْ الْأَبِ)؛ لِظُهُورِ وِلَايَتِهِ عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ، وَكُفْرُ الْأَبِ وَرِقُهُ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَاطِعٌ لِلْوِلَايَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 47

(وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسُبُّهُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي نِصْفِهِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ ثَبَتَ فِي الْبَاقِي ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ؛ لِمَا أَنَّ سَبَبَهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْعُلُوقُ إذْ الْوَلَدُ الْوَاحِدُ لَا يَنْعَلِقُ مِنْ مَاءَيْنِ.

(وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ)؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَصِيرُ نَصِيبُهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ثُمَّ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَ صَاحِبَهُ إذْ هُوَ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا)؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ لَمَّا اسْتَكْمَلَ الِاسْتِيلَادَ وَيَضْمَنُ نِصْفَ عُقْرِهَا؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً، إذْ الْمِلْكُ يَثْبُتُ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَعَقَّبُهُ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْأَبِ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَالِكَ يَثْبُتُ شَرْطًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَقَدَّمُهُ فَصَارَ وَاطِئًا مِلْكَ نَفْسِهِ (وَلَا يَغْرَمُ قِيمَةَ وَلَدِهَا)؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا مَمْلُوكًا، وَلَكِنْ كَانَ ذِكْرُهَا هُنَاكَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الِاسْتِيلَادَ يُخْرِجُ الْأَمَةَ إلَى حَقِّ الْحُرِّيَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَإِلَى حَقِيقَتِهَا بَعْدَهُ، وَذِكْرُهَا هُنَا بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَبَيَانُ مَا أُرِيدَ بِعَدَمِ تَجَزِّي الِاسْتِيلَادِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ وَتَمَلُّكِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَضَمَانِ نِصْفِ الْعُقْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ فَلَا يُعَدُّ تَكْرَارًا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ خَلَا مَا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا) لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ فِي نِصْفِهِ إلَخْ) يَرِدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لِمَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَ غَيْرِهِ لَا يَثْبُتُ فِي الْبَاقِي ضَرُورَةً أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِتَغْلِيبِ جَانِبِ الْمُثْبِتِ لِلنَّسَبِ احْتِيَاطًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَيَجِبُ الْعُقْرُ، فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ.

وَقَوْلُهُ (فَيَتَعَقَّبُهُ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَذَا عَلَى اخْتِيَارِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَأَمَّا الْأَصَحُّ مِنْ الْمَذْهَبِ فَالْحُكْمُ مَعَ عِلَّتِهِ يَفْتَرِقَانِ لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالتَّعَقُّبِ التَّعَقُّبَ الذَّاتِيَّ دُونَ الزَّمَانِيِّ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ وَارِدًا عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْأَبِ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ يَثْبُتُ شَرْطًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَقَدَّمُهُ) وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَالْوَالِدِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مِلْكَ الشَّرِيكِ فِي النِّصْفِ قَائِمٌ وَقْتَ الْعُلُوقِ، وَذَلِكَ يَكْفِي فِي الِاسْتِيلَادِ فَيَجْعَلُ تَمَلُّكَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَكُونُ الْوَطْءُ وَاقِعًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَدَّ لَكِنَّهُ سَقَطَ بِشُبْهَةِ

ص: 48

فَلَمْ يَتَعَلَّقْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ.

الشَّرِيكِ فَيَجِبُ الْعُقْرُ، وَأَمَّا الْأَبُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكٌ فِي الْجَارِيَةِ وَقَدْ اسْتَوْلَدَهَا فَيَجْعَلُ مِلْكَهُ فِيهَا شَرْطًا لِلِاسْتِيلَادِ فِي مِلْكِهِ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ فَيَكُونُ الْوَطْءُ فِي مِلْكِهِ وَالْوَطْءُ فِيهِ لَا يُوجِبُ الْعُقْرَ. وَالْمُرَادُ بِالْعُقْرِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَيَكُونُ الشَّرِيكُ ضَامِنًا لِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا، هَكَذَا فِي مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ. وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْمُحِيطِ: الْعُقْرُ قَدْرُ مَا تُسْتَأْجَرُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ لَوْ كَانَ الِاسْتِئْجَارُ لِلزِّنَا حَلَالًا. وَقَوْلُهُ (فَلَمْ يَنْعَلِقْ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ) لِأَنَّهُ كَمَا عَلِقَ انْعَلَقَ حُرُّ الْأَصْلِ لِأَنَّ نِصْفَهُ انْعَلَقَ عَلَى مِلْكِهِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الرِّقِّ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْجِيحِ مُثْبَتِ النَّسَبِ.

ص: 49

(وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا) مَعْنَاهُ إذَا حَمَلَتْ عَلَى مِلْكِهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْقَافَةِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ مِنْ شَخْصَيْنِ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْ مَاءَيْنِ مُتَعَذِّرٌ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ، وَقَدْ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِ الْقَائِفِ فِي أُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.

وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا) قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ إذَا حَمَلَتْ عَلَى مِلْكِهِمَا) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْحَمْلُ عَلَى مِلْكِ أَحَدِهِمَا نِكَاحًا ثُمَّ اشْتَرَاهَا هُوَ وَآخَرُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْهَا صَارَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَالِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَثْبُتُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَيْضًا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الْقَافَةِ) وَهِيَ جَمْعُ الْقَائِفِ كَالْبَاعَةِ فِي جَمْعِ الْبَائِعِ، وَهُوَ الَّذِي يَتْبَعُ آثَارَ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ، مِنْ قَافَ أَثَرَهُ: إذَا اتَّبَعَهُ، وَالْقِيَافَةُ فِي بَنِي مُدْلِجٍ مِنْهُمْ الْمُجَزِّزُ (لِأَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ مِنْ شَخْصَيْنِ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْ مَاءَيْنِ) أَيْ مِنْ مَاءِ فَحْلَيْنِ (مُتَعَذَّرٌ، فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ وَقَدْ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِ الْقَائِفِ فِي أُسَامَةَ) رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَأَسَارِيرُ وَجْهِهِ تَبْرُقُ مِنْ السُّرُورِ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ مَرَّ بِأُسَامَةَ وَزَيْدٍ وَهُمَا تَحْتَ قَطِيفَةٍ قَدْ غَطَّيَا وُجُوهَهُمَا وَأَرْجُلُهُمَا بَادِيَةٌ فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ بِالشَّبَهِ بَاطِلًا لَمَا جَازَ إظْهَارُ السُّرُورِ وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَالْإِنْكَارُ

ص: 50

وَلَنَا كِتَابُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَى شُرَيْحٍ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ: لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَ لَهُمَا، هُوَ ابْنُهُمَا

وَلَنَا كِتَابُ عُمَرَ إلَى شُرَيْحٍ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ: لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَا لَهُمَا، هُوَ ابْنُهُمَا

ص: 51

يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا، وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِثْلُ ذَلِكَ. وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ، وَالنَّسَبُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَجَزَّأُ وَلَكِنْ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مُتَجَزِّئَةٌ، فَمَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمَا عَلَى التَّجْزِئَةِ، وَمَا لَا يَقْبَلُهَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمُلَا كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ

يَرِثَانِهِ وَيَرِثُهُمَا، وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا) أَيْ الْوَلَدُ يَكُونُ لِلْأَبِ الْبَاقِي مِنْ الْأَبَوَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا حَتَّى يَكُونَ كُلُّ الْمِيرَاثِ لِلْأَبِ الْحَيِّ دُونَ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ لِوَرَثَةِ الْأَبِ الْمَيِّتِ. وَقَوْلُهُ (وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ) يَرُومُ بِهِ إبْرَازُهُ فِي مُبْرَزِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ (فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ) يَعْنِي الْمِلْكَ، وَقِيلَ: الدَّعْوَةُ.

وَقَوْلُهُ (أَحْكَامٌ مُتَجَزِّئَةٌ) يُرِيدُ بِهَا مِثْلَ النَّفَقَةِ وَوِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَالْحَضَانَةَ وَالْمِيرَاثَ، فَمَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ كَالْمِيرَاثِ يَثْبُتُ عَلَى التَّجْزِئَةِ فِي حَقِّهِمَا، وَمَا لَا يَقْبَلُهَا كَثُبُوتِ النَّسَبِ وَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ.

ص: 52

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 53

إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَبًا لِلْآخِرِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا لِوُجُودِ الْمُرَجِّحِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَفِي حَقِّ الْأَبِ وَهُوَ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ فِي نَصِيبِ الِابْنِ، وَسُرُورُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رُوِيَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَكَانَ قَوْلُ الْقَائِفِ مُقْطِعًا لِطَعْنِهِمْ فَسُرَّ بِهِ (وَكَانَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا)؛ لِصِحَّةِ دَعْوَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ فِي الْوَلَدِ فَيَصِيرُ نَصِيبُهُ مِنْهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ تَبَعًا لِوَالِدِهَا

وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا لَا يَقْبَلُهَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَلًا. وَقَوْلُهُ (وَسُرُورُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَقَدْ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ أَكْثَرُ مِنْ اثْنَيْنِ، فَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَنَفَاهُ أَبُو يُوسُفَ، وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدٌ إلَى الثَّلَاثَةِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِقَضِيَّةِ عُمَرَ فَلَا يَتَعَدَّاهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الثَّلَاثَةُ قَرِيبَةٌ مِنْ اثْنَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: سَبَبُ الْجَوَازِ الْمِلْكُ وَالدَّعْوَةُ وَقَدْ وُجِدَا.

وَقَوْلُهُ (فَيَصِيرُ نَصِيبُهُ مِنْهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ تَبَعًا لِوَلَدِهَا) يَعْنِي تَخْدُمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمًا كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ قَبْلَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلِاسْتِيلَادِ فِي إبْطَالِ مِلْكِ الْخِدْمَةِ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ وَلَا ضَمَانَ لِلشَّرِيكِ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُمَا بِعِتْقِهِمَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَسْعَى

ص: 54

(وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْعُقْرِ قِصَاصًا بِمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَرِثُ الِابْنُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ)؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمِيرَاثِهِ كُلِّهِ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ (وَيَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّسَبِ كَمَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ.

(وَإِذَا وَطِئَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ مُكَاتَبِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ اعْتِبَارًا بِالْأَبِ يَدَّعِي وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ حَتَّى لَا يَتَمَلَّكَهُ وَالْأَبُ يَمْلِكُ تَمَلُّكَهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِتَصْدِيقِ الِابْنِ.

فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلشَّرِيكِ الْحَيِّ عِنْدَهُمَا، وَلَوْ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ عَتَقَتْ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ لِشَرِيكِهِ وَلَا سِعَايَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ نِصْفَ قِيمَتِهَا أُمَّ وَلَدٍ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا إنْ كَانَ مُعْسِرًا (وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْعُقْرِ قِصَاصًا بِمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ) بِفَتْحِ اللَّامِ: أَيْ بِاَلَّذِي لَهُ.

وَقَوْلُهُ (كَمَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ) يَعْنِي إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَإِذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ابْنٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ كَانَ الْحُكْمُ هَكَذَا فَكَذَا هَاهُنَا.

وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ مُكَاتَبِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَإِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُكَاتَبُ أَوْ لَا، فَإِنْ صَدَّقَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ أَيْضًا (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ بَلْ يَثْبُتُ) نَسَبُهُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَةِ الْمَوْلَى النَّسَبَ كَمَا فِي الْأَبِ. وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ جَارِيَةَ الْمُكَاتَبِ كَسْبُ كَسْبِ الْمَوْلَى، وَجَارِيَةَ الِابْنِ كَسْبُ كَسْبُ الْأَبِ (وَوَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْفَرْقُ) بَيْنَ اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الِابْنِ حَيْثُ يَثْبُتُ فِيهِ النَّسَبُ بِغَيْرِ تَصْدِيقٍ وَجَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ حَيْثُ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّصْدِيقُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ بِحَجْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالدَّعْوَةُ

ص: 55

قَالَ: (وَعَلَيْهِ عُقْرُهَا)؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُهُ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ كَافٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ لِمَا نَذْكُرُهُ.

تَصَرُّفٌ فَلَا يَمْلِكُهَا الْمَوْلَى إلَّا بِتَصْدِيقِهِ، وَالْأَبُ يَمْلِكُ تَمَلُّكَ مَالِ ابْنِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْجُرْ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِتَصْدِيقِهِ، وَإِنَّمَا لَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِ إذَا صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ ثَابِتٌ لَهُ فِي كَسْبِهِ، وَذَلِكَ كَافٍ لِإِثْبَاتِ نَسَبِ الْوَلَدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بِعَجْزِهِ يَنْقَلِبُ حَقِيقَةَ مِلْكٍ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى التَّمَلُّكِ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ فِي مَالِ الْوَلَدِ مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النَّسَبِ مِنْهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَمَلُّكِ الْجَارِيَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ سَابِقًا وَوَقَعَ الْوَطْءُ فِي مِلْكِهِ وَوَلَدَتْ مِنْهُ فَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. وَقَوْلُهُ (وَعَلَيْهِ عُقْرُهَا) أَيْ عَلَى الْمَوْلَى عُقْرُ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتَقَدَّمُ الْوَطْءَ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ حَقِّ الْمِلْكِ كَافٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ فَكَانَ الْوَطْءُ وَاقِعًا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْحَدَّ أَوْ الْعُقْرَ وَقَدْ سَقَطَ الْأَوَّلُ بِالشُّبْهَةِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي. وَقَوْلُهُ (لِمَا نَذْكُرُهُ) أَيْ نَذْكُرُ الْحَقَّ الَّذِي لِلْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ، قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ كَافٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ ثُبُوتُ اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ وَالْمَنْصُوصُ فِي الْكُتُبِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَثْبُتُ وَهُوَ نَفْسُهُ يُصَرِّحُ بِهَذَا بَعْدَ خَطَّيْنِ بِقَوْلِهِ وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ: أَيْ لِلْمَوْلَى، فَإِذَا لَمْ تَصِرْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَمِنْ أَيْنَ يَصِحُّ الِاسْتِيلَادُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ دَلَالَةَ لَفْظِ الِاسْتِيلَادِ عَلَى طَلَبِ نَسَبِ الْوَلَدِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ فَكَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ لِصِحَّةِ نَسَبِ الْوَلَدِ

ص: 56

قَالَ: (وَقِيمَةُ وَلَدِهَا)؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَغْرُورِ حَيْثُ إنَّهُ اعْتَمَدَ دَلِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ كَسْبُ كَسْبِهِ فَلَمْ يَرْضَ بِرِقِّهِ فَيَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ (وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا حَقِيقَةً كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ (وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَكَاتِبُ فِي النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ)؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِ (فَلَوْ مَلَكَهُ يَوْمًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ)؛ لِقِيَامِ الْمُوجِبِ وَزَوَالِ حَقِّ الْمُكَاتَبِ إذْ هُوَ الْمَانِعُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي سَطْرَيْنِ تَنَاقُضٌ. وَقَوْلُهُ (وَقِيمَةُ وَلَدِهَا) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عُقْرُهَا.

وَقَوْلُهُ (وَهُوَ أَنَّهُ) قِيلَ أَيْ الْوَلَدُ: يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ حَصَلَ لَهُ (مِنْ كَسْبِ كَسْبِهِ) فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ كَسْبُهُ، وَجَارِيَةَ الْمُكَاتَبِ كَسْبُ كَسْبِهِ، وَفِيهِ نَوْعُ تَكَلُّفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنَّهُ: أَيْ الْجَارِيَةُ كَسْبُ كَسْبِهِ، وَذَكَرَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إلَى الْخَبَرِ وَهُوَ كَسْبُ الضَّمِيرِ فِي رِقِّهِ يَعُودُ إلَى الْوَلَدِ. قِيلَ فِي قَوْلِهِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ نَظَرٌ، وَحَقُّ الْكَلَامِ كَمَا فِي الْمَغْرُورِ بِدُونِ ذِكْرِ الْوَلَدِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْجَارِيَةَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَوْلَى لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِيهَا حَقِيقَةً كَمَا أَنَّ الْجَارِيَةَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدِ الْمَغْرُورِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِيهَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَيَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْوَلَدِ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا حَقِيقَةً، فَتَقْدِيرُهُ كَمَا فِي أُمِّ وَلَدِ الْمَغْرُورِ. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَذَّبَهُ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ مَلَكَهُ) يَعْنِي وَلَدَ الْجَارِيَةِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَكَذَّبَهُ الْمُكَاتَبُ (يَوْمًا) مِنْ الدَّهْرِ (ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لِقِيَامِ الْمُوجِبِ) وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيلَادِ (وَزَوَالُ الْمَانِعِ) وَهُوَ حَقُّ الْمُكَاتَبِ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَإِذَا مَلَكَ الْمَوْلَى.

ص: 57

‌كِتَابُ الْأَيْمَانِ

الْجَارِيَةَ: أَيْ فِي صُورَةِ التَّصْدِيقِ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُكَاتَبُ ثُمَّ مَلَكَهُ يَوْمًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمَحَلِّ كَانَ مُثْبِتًا لِلنَّسَبِ مِنْهُ عِنْدَ صِحَّةِ الدَّعْوَةِ: إلَّا أَنَّ بِمُعَارَضَةِ الْمُكَاتَبِ إيَّاهُ بِالتَّكْذِيبِ امْتَنَعَ صِحَّةُ دَعْوَتِهِ، وَقَدْ زَالَتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ حِينَ مَلَكَهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَآبُ.

كِتَابُ الْأَيْمَانِ:

الْمُنَاسَبَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا بَيْنَ الْكُتُبِ إلَى هَاهُنَا اقْتَضَتْ التَّرْتِيبَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ الْأَيْمَانَ عَقِيبَ الْعَتَاقِ

ص: 58

قَالَ: (الْأَيْمَانُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ) الْيَمِينُ الْغَمُوسُ

لِمُنَاسَبَتِهَا لَهُ فِي عَدَمِ تَأْثِيرِ الْهَزْلِ وَالْإِكْرَاهِ فِيهِمَا. وَالْيَمِينُ فِي اللُّغَةِ الْقُوَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} " وَفِي الشَّرِيعَةِ: عَقْدٌ قَوِيَ بِهِ عَزْمُ الْحَالِفِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ. وَشَرْطُهَا كَوْنُ الْحَالِفِ مُكَلَّفًا. وَسَبَبُهَا إرَادَةُ تَحْقِيقِ مَا قَصَدَهُ. وَرُكْنُهَا اللَّفْظُ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ.

وَحُكْمُهُ الْبَرُّ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْبَرُّ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ فَوَاتِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِيمَا يَجِبُ الْبَرُّ فِيهِ لِأَنَّ مِنْ الْأَيْمَانِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْحِنْثُ عَلَى مَا سَيَأْتِي (وَالْأَيْمَانُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ) لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ إمَّا أَنْ

ص: 59

وَيَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، وَيَمِينُ لَغْوٍ. (فَالْغَمُوسُ هُوَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِيهِ، فَهَذِهِ الْيَمِينُ يَأْثَمُ فِيهَا صَاحِبُهَا) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ كَاذِبًا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ» (وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إلَّا التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: فِيهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِرَفْعِ ذَنْبٍ هَتَكَ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَحَقَّقَ بِالِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا فَأَشْبَهَ الْمَعْقُودَةَ. وَلَنَا أَنَّهَا كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ،

يَكُونَ فِيهَا مُؤَاخَذَةٌ أَوْ لَا؛ فَإِنْ كَانَتْ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ دُنْيَوِيَّةً فَهِيَ الْمُنْعَقِدَةُ، أَوْ أُخْرَوِيَّةً فَهِيَ الْغَمُوسُ؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَهِيَ اللَّغْوُ (فَالْغَمُوسُ هِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِيهِ) وَذِكْرُ الْمُضِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ هُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْغَالِبِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ إنَّهُ لَزَيْدٌ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزَيْدٍ كَانَ غَمُوسًا (فَهَذِهِ الْيَمِينُ يَأْثَمُ فِيهَا صَاحِبُهَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ كَاذِبًا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ») وَلَوْلَا الْإِثْمُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَاسْمُهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ مَا سُمِّيَ غَمُوسًا إلَّا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ ثُمَّ فِي النَّارِ.

وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ وَهَذِهِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْكَبِيرَةُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ، وَلَكِنْ سَمَّاهُ يَمِينًا مَجَازًا لِأَنَّ ارْتِكَابَ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ بِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْيَمِينِ كَمَا سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْعَ الْحُرِّ بَيْعًا مَجَازًا لِأَنَّ ارْتِكَابَ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ بِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْبَيْعِ وَالتَّعْرِيفُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ (وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا، لَكِنْ فِيهَا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ شُرِعَتْ لِرَفْعِ ذَنْبِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَحَقَّقَ) ذَلِكَ الذَّنْبُ (بِالِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا) فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِهِ وَذَلِكَ بِالْكَفَّارَةِ كَمَا فِي الْمَعْقُودَةِ (وَلَنَا أَنَّهَا) أَيْ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ (كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ وَذَكَرَ مِنْهَا الْغَمُوسَ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَبِيرَةٌ

ص: 60

وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ فَلَا تُنَاطُ بِهَا، بِخِلَافِ الْمَعْقُودَةِ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ، وَلَوْ كَانَ فِيهَا ذَنْبٌ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارِ مُبْتَدَإٍ، وَمَا فِي الْغَمُوسِ مُلَازِمٌ فَيَمْتَنِعُ الْإِلْحَاقُ.

مَحْضَةٌ لَا تُنَاطُ بِهَا الْعِبَادَةُ لِمَا أَنَّ أَسْبَابَ الْعِبَادَاتِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ أُمُورًا مُبَاحَةً كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ (وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ فَلَا تُنَاطُ الْغَمُوسُ بِهَا، بِخِلَافِ الْمَعْقُودَةِ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ) فَجَازَ أَنْ تُنَاطَ بِهَا الْعِبَادَةُ. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا لَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُظَاهِرِ لِكَوْنِ الظِّهَارِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَهَذَا نَقْضٌ إجْمَالِيٌّ. الثَّانِي لَمَّا وَجَبَتْ بِالْأَدْنَى وَجَبَتْ بِالْأَعْلَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى الثَّالِثِ الْكَبِيرَةُ سَيِّئَةٌ وَالْعِبَادَةُ حَسَنَةٌ وَاتِّبَاعُهَا إيَّاهَا مُبَاحٌ لَهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» وَهَاتَانِ مُعَارَضَتَانِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَمْ تَجِبْ بِالظِّهَارِ بَلْ بِالْعَوْدِ الَّذِي هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ وَهُوَ مُبَاحٌ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ الْأَضْعَفِ بِشَيْءٍ رَفْعُ الْأَقْوَى بِهِ وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْحَسَنَةَ تَمْحُو السَّيِّئَةَ الْمُقَابِلَةَ لَهَا، وَمُقَابَلَةُ هَذِهِ الْحَسَنَةِ لِهَذِهِ السَّيِّئَةِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ الْمَظْنُونُ خِلَافُ الْمُقَابَلَةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ " الْحَدِيثَ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ فِيهَا ذَنْبٌ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْمُبَاحُ هُوَ مَا لَا يَكُونُ فِيهِ ذَنْبٌ وَالْمُنْعَقِدَةُ فِيهَا ذَنْبٌ فَلَا تَكُونُ مُبَاحَةً فَلَا تُنَاطُ بِهَا الْعِبَادَةُ كَمَا ذَكَرْتُمْ. وَتَقْرِيرُهُ: لَوْ كَانَ فِي الْمُنْعَقِدَةِ ذَنْبٌ لَهَتَكَ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ وَقْتِ الِانْعِقَادِ بِاخْتِيَارٍ مُبْتَدَإٍ لَمْ يَدْخُلْ فِي السَّيِّئَةِ وَيَرْفَعُهَا عِنْدَ الطَّرَيَانِ، بِخِلَافِ الْغَمُوسِ فَإِنَّ الذَّنْبَ فِيهَا لَازِمٌ لَا يُفَارِقُهُ لَا ابْتِدَاءً وَلَا انْتِهَاءً (فَيَمْتَنِعُ الْإِلْحَاقُ) أَيْ إلْحَاقُ الْغَمُوسِ بِالْمُنْعَقِدَةِ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ

ص: 61

(وَالْمُنْعَقِدَةُ مَا يَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلَهُ وَإِذَا حَنِثَ فِي ذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا

تَلْوِيحٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ فَأَشْبَهَ الْمَعْقُودَةَ.

(وَالْمُنْعَقِدَةُ مَا يَحْلِفُ عَلَى أَمْرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.

ص: 62

(وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَهَذِهِ الْيَمِينُ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهِ صَاحِبَهَا) وَمِنْ اللَّغْوِ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ إنَّهُ لَزَيْدٌ وَهُوَ يَظُنُّهُ زَيْدًا وَإِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} الْآيَةَ، إلَّا أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ لِلِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِهِ. .

وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ) إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى تَعْلِيقِ مُحَمَّدٍ نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ بِالرَّجَاءِ بِقَوْلِهِ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهَا صَاحِبَهَا وَعَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ؟ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنْ صُورَةُ تِلْكَ الْيَمِينِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَإِنَّمَا عَلَّقَ بِالرَّجَاءِ نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي اللَّغْوِ بِالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالنَّصِّ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ تَفْسِيرِ اللَّغْوِ مَرْوِيٌّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي كَلَامِهِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه، فَإِنَّ عِنْدَهُ اللَّغْوَ مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَاضِي أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. وَرَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ: لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ. وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا فِيمَا يَكُونُ خَبَرًا عَنْ الْمَاضِي، فَإِنَّ اللَّغْوَ مَا يَكُونُ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ وَالْخَبَرُ فِي الْمَاضِي خَالٍ عَنْ فَائِدَةِ الْيَمِينِ لِأَنَّ فَائِدَتَهَا الْمَنْعُ أَوْ الْحَمْلُ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَاضِي فَكَانَ لَغْوًا، أَمَّا فِي الْخَبَرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَعَدَمُ الْقَصْدِ لَا يَعْدَمُ فَائِدَةَ الْيَمِينِ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْهَزْلَ وَالْجِدَّ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي حَصْرِ الْأَيْمَانِ عَلَى الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ وَاَللَّهِ إنِّي لَقَائِمٌ الْآنَ فِي حَالِ قِيَامِهِ مَثَلًا يَمِينٌ، وَلَيْسَ مِنْ الضُّرُوبِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَلْتَزِمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ لِمَا مَرَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا، وَإِنَّمَا

ص: 63

قَالَ: (وَالْقَاصِدُ فِي الْيَمِينِ وَالْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي سَوَاءٌ) حَتَّى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْيَمِينُ»

هَذَا قَسَمٌ وَهُوَ جُمْلَةٌ إنْشَائِيَّةٌ أُكِّدَتْ بِهَا جُمْلَةٌ أُخْرَى.

(وَالْقَاصِدُ فِي الْيَمِينِ وَالْمُكْرَهُ وَالنَّاسِي) وَهُوَ أَنْ يَذْهَلَ عَنْ التَّلَفُّظِ بِالْيَمِينِ ثُمَّ يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِالْيَمِينِ نَاسِيًا. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ذِكْرُ الْخَاطِئِ مَكَانَ النَّاسِي، وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يُسَبِّحَ مَثَلًا فَيَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ الْيَمِينُ (سَوَاءٌ حَتَّى تَجِبَ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْيَمِينُ») فَإِنْ قُلْت: الْيَمِينُ عَقْدٌ يَقْوَى بِهَا عَزْمُ الْحَالِفِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ فَهُوَ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ النَّاسِي فِيهِ كَالْقَاصِدِ؟ قُلْت: ذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ وَقَدْ تُرِكَ بِالنَّصِّ. لَا يُقَالُ: النَّصُّ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» الْحَدِيثَ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ وَنَصُّ الْيَمِينِ مُفَسِّرٌ.

ص: 64

وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ، وَسَنُبَيِّنُ فِي الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا فَهُوَ سَوَاءٌ)؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ وَهُوَ الشَّرْطُ، وَكَذَا إذَا فَعَلَهُ وَهُوَ مَغْمِيٌّ عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونٌ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً، وَلَوْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ رَفْعَ الذَّنْبِ فَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِهِ وَهُوَ الْحِنْثُ لَا عَلَى حَقِيقَةِ الذَّنْبِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. .

وَقَوْلُهُ (وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ) يَعْنِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي (وَسَنُبَيِّنُ فِي الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى).

(وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا فَهُوَ سَوَاءٌ) أَيْ فَهُوَ وَمَنْ فَعَلَهُ مُخْتَارًا سَوَاءٌ. تَرَكَهُ لِدَلَالَةِ فَحْوَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ وُجُودُ الْفِعْلِ حَقِيقَةً وَقَدْ وُجِدَ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ، (وَكَذَا إذَا فَعَلَهُ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونٌ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً) وَهُوَ وُجُودُ الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ رَفْعَ الذَّنْبِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْحِكْمَةُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ رَفْعُ الذَّنْبِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونُ لَا ذَنْبَ لَهُمَا لِعَدَمِ فَهْمِ الْخِطَابِ فَكَيْفَ تَجِبُ عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ.

وَتَقْرِيرُهُ: الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ دَائِرٌ مَعَ دَلِيلِ الذَّنْبِ وَهُوَ الْحِنْثُ لَا مَعَ حَقِيقَةِ الذَّنْبِ، كَوُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ دَائِرٌ مَعَ دَلِيلِ شَغْلِ الرَّحِمِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ لَا مَعَ حَقِيقَةِ الشَّغْلِ حَتَّى أَنَّهُ يَجِبُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الشَّغْلُ أَصْلًا بِأَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِكْرًا أَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ امْرَأَةٍ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إقَامَةُ الدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ لِدَوَرَانِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْمَدْلُولُ أَمْرًا خَفِيًّا فِي الْأَصْلِ فَيَدُورُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ

ص: 65

‌بَابُ مَا يَكُونُ يَمِينًا وَمَا لَا يَكُونُ يَمِينًا

قَالَ: (وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا كَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ) لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا مُتَعَارَفٌ، وَمَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْقُوَّةُ حَاصِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ فَصَلُحَ ذِكْرُهُ حَامِلًا وَمَانِعًا. .

الْمَدْلُولُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا ذَكَرْت مِنْ شَغْلِ الرَّحِمِ، وَالْمَدْلُولُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهُوَ الذَّنْبُ عِنْدَ الْحِنْثِ مُحَقَّقٌ ظَاهِرٌ فَلَا يَصِحُّ إقَامَةُ الدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ.

بَابُ مَا يَكُونُ يَمِينًا وَمَا لَا يَكُونُ يَمِينًا:

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ ضُرُوبِ الْأَيْمَانِ بَيَّنَ مَا يَكُونُ يَمِينًا مِنْ الْأَلْفَاظِ وَمَا لَا يَكُونُ يَمِينًا (وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ) أَيْ بِهَذَا الِاسْمِ (أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَائِهِ كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا كَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ) وَالْمُرَادُ بِالِاسْمِ هَاهُنَا لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَةٍ كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَبِالصِّفَةِ الْمَصَادِرُ الَّتِي تَحْصُلُ عَنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَاءِ فَاعِلِيهَا كَالرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْعِزَّةِ. وَالصِّفَةُ عَلَى نَوْعَيْنِ: صِفَةِ ذَاتٍ وَصِفَةِ فِعْلٍ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَجُوزَ الْوَصْفُ بِهِ وَبِضِدِّهِ أَوْ لَا. وَالثَّانِي صِفَةِ الذَّاتِ كَالْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْعِلْمِ. وَالْأَوَّلُ صِفَةُ الْفِعْلِ كَالرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ رَحِمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَرْحَمْ الْكَافِرِينَ وَغَضِبَ عَلَى الْيَهُودِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَشَايِخُنَا الْعِرَاقِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِ الذَّاتِ يَمِينٌ وَبِصِفَاتِ الْفِعْلِ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ وَعِلْمُ اللَّهِ يَمِينًا، وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُ الْقِيَاسُ وَلَكِنَّهُ تُرِكَ لِمَجِيئِهِ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ، وَمَشَايِخُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِكُلِّ صِفَةٍ تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهَا يَمِينٌ وَبِكُلِّ صِفَةٍ لَمْ يَتَعَارَفُوهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا مُتَعَارَفٌ (قَوْلُهُ وَمَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْقُوَّةُ إلَخْ) ذَكَرَهُ اسْتِظْهَارًا لِأَنَّهُ لَمَّا بَنَى الْأَيْمَانَ عَلَى

ص: 66

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 67

قَالَ (إلَّا قَوْلَهُ وَعِلْمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ. وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ، يُقَالُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ عِلْمَك فِينَا: أَيْ مَعْلُومَك (وَلَوْ)(قَالَ وَغَضَبِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا) وَكَذَا وَرَحْمَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا غَيْرُ مُتَعَارَفٍ؛ وَلِأَنَّ الرَّحْمَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا أَثَرُهُ، وَهُوَ الْمَطَرُ أَوْ الْجَنَّةُ وَالْغَضَبُ وَالسَّخَطُ يُرَادُ بِهِمَا الْعُقُوبَةُ

الْعُرْفِ كَانَ وُجُودُهُ مُغْنِيًا عَنْ النَّظَرِ إلَى غَيْرِهِ.

وَقَوْلُهُ (إلَّا قَوْلَهُ وَعِلْمُ اللَّهِ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا. فَإِنَّ الْيَمِينَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ عَنْ الْعُرْفِ مُنْقَطِعًا، وَالْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْقُوَّةُ حَاصِلٌ فِي أَنَّهُ مَذْكُورٌ لِلِاسْتِظْهَارِ. نَعَمْ الْعِرَاقِيُّونَ يَحْتَاجُونَ إلَى ذِكْرِ مَعْذِرَةٍ عَنْ وُرُودِهِ عَلَى أَصْلِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الرَّحْمَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا أَثَرُهَا) مَنْقُوضٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يُقَالُ اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُرَادُ أَثَرُهُ، وَإِلَّا لَكَانَ بِمَعْنَى الْمَقْدُورِ لِكَوْنِ الْقُدْرَةِ غَيْرِ مَرْئِيَّةٍ فَتَكُونُ كَالْعِلْمِ وَمَعَ ذَلِكَ يُحْلَفُ بِهَا. وَالْحَقُّ أَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، فَمَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ كَانَ يَمِينًا. وَالْحَلِفُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَارَفٌ، وَبِعِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَغَضَبِهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَمَانَةُ اللَّهِ يَمِينٌ، ثُمَّ لَمَّا سُئِلَ عَنْ مَعْنَاهُ قَالَ: لَا أَدْرِي، فَكَأَنَّهُ وَجَدَ الْعَرَبَ تَحْلِفُ بِأَمَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَادَةً فَجَعَلَهُ يَمِينًا كَأَنَّهُ قَالَ

ص: 68

(وَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا كَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» (وَكَذَا إذَا حَلَفَ بِالْقُرْآنِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ، أَمَّا لَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ التَّبَرِّي مِنْهُمَا كُفْرٌ. .

قَالَ (وَالْحَلِفُ بِحُرُوفِ الْقَسَمِ، وَحُرُوفُ الْقَسَمِ الْوَاوُ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَالْبَاءُ كَقَوْلِهِ بِاَللَّهِ وَالتَّاءُ كَقَوْلِهِ تَاللَّهِ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَعْهُودٌ فِي الْأَيْمَانِ وَمَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ

وَاَللَّهِ الْأَمِينِ.

(وَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ وَالنَّبِيُّ وَالْقُرْآنُ وَالْكَعْبَةُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ») رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَدْرَكَ عُمَرَ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (أَمَّا لَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ التَّبَرِّي مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ النَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ (كُفْرٌ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: سَلَّمْنَا أَنَّ التَّبَرِّي مِنْهُمَا وَكَذَا مِنْ كُلِّ كِتَابٍ سَمَاوِيٍّ كُفْرٌ، لَكِنْ كَوْنُهُ كُفْرًا لَيْسَ بِيَمِينٍ وَلَا يَسْتَلْزِمُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِحَيَاتِك لَأَفْعَلَن كَذَا وَاعْتَقَدَ أَنَّ الْبَرَّ بِهِ وَاجِبٌ كَفَرَ وَلَيْسَ بِيَمِينٍ. وَالْجَوَابُ سَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ.

قَالَ (وَالْحَلِفُ بِحُرُوفِ الْقَسَمِ) الْحَلِفُ بِاَللَّهِ إنَّمَا يَكُونُ بِحَرْفِ الْقَسَمِ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا، وَبَحْثُ حُرُوفِ الْقَسَمِ وَكَوْنِ

ص: 69

(وَقَدْ يُضْمِرُ الْحَرْفَ فَيَكُونُ حَالِفًا كَقَوْلِهِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا) لِأَنَّ حَذْفَ الْحَرْفِ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إيجَازًا، ثُمَّ قِيلَ يُنْصَبُ لِانْتِزَاعِ الْحَرْفِ الْخَافِضِ، وَقِيلَ يُخْفَضُ فَتَكُونُ الْكِسْرَةُ دَالَّةً عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِلَّهِ فِي الْمُخْتَارِ لِأَنَّ الْبَاءَ تُبَدَّلُ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {آمَنْتُمْ لَهُ} . أَيْ آمَنْتُمْ بِهِ

الْبَاءِ أَصْلًا وَغَيْرِهَا بَدَلًا وَجَوَازُ إضْمَارِ الْحُرُوفِ وَالنَّصْبِ بَعْدَ الْإِضْمَارِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْبَصْرِيُّونَ أَوْ الْجَرُّ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْكُوفِيُّونَ كُلُّهُ وَظِيفَةٌ نَحْوِيَّةٌ فِي الْأَصْلِ، وَالْأُصُولِيُّ يَبْحَثُ عَنْهَا مِنْ حَيْثُ اسْتِنْبَاطُ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْهَا وَالْوَاصِلُ إلَى حَدِّ الِاشْتِغَالِ بِكِتَابِ الْهِدَايَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَفَ ذَلِكَ وَرَآهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِضْمَارِ وَالْحَذْفِ بَقَاءُ أَثَرِ الْمُضْمَرِ دُونَ الْمَحْذُوفِ. وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ الْإِضْمَارَ فِي الرِّوَايَةِ وَالْحَذْفَ فِي التَّعْلِيلِ بِطَرِيقِ الْمُسَاهَلَةِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَطْلَقَ الْإِضْمَارَ بِالنَّظَرِ إلَى الْجَرِّ وَالْحَذْفَ بِالنَّظَرِ إلَى النَّصْبِ.

وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا قَالَ لِلَّهِ فِي الْمُخْتَارِ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أُكَلِّمَ فُلَانًا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ لِأَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ النَّذْرِ وَيَحْتَمِلُ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَلَا أَثَرَ لِتَغْيِيرِ الْإِعْرَابِ فِي الْمُقْسَمِ بِهِ نَصْبًا وَجَرًّا فِي مَنْعِ صِحَّةِ الْقَسَمِ لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ

ص: 70

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَقِيَتُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ الْحَقِّ وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ. وَلَهُمَا أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى، إذْ الطَّاعَاتُ حُقُوقُهُ فَيَكُونُ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ، قَالُوا: وَلَوْ قَالَ وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا، وَلَوْ قَالَ حَقًّا لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُنَكَّرُ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ.

وُجُوهِ الْإِعْرَابِ.

وَقَوْلُهُ (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْمُنْكَرُ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ) يُرِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ وَالْحَقِّ

ص: 71

(وَلَوْ قَالَ أُقْسِمُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَهُوَ حَالِفٌ)؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْحَلِفِ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ لِلْحَالِ حَقِيقَةً وَتُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةٍ فَجُعِلَ حَالِفًا فِي الْحَالِ، وَالشَّهَادَةُ يَمِينٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} ثُمَّ قَالَ {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} وَالْحَلِفُ بِاَللَّهِ هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَشْرُوعُ وَبِغَيْرِهِ مَحْظُورٌ فَصُرِفَ إلَيْهِ. وَلِهَذَا قِيلَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ. وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِاحْتِمَالِ الْعِدَّةِ وَالْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ.

وَحَقًّا بِأَنَّ الْمُعَرَّفَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ فَيَكُونُ يَمِينًا. وَأَمَّا الْمُنَكَّرُ فَهُوَ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ لَا مَحَالَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْحَلِفِ فَضْلًا عَنْ الْيَمِينِ.

(وَلَوْ قَالَ أُقْسِمُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ) ظَاهِرٌ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْيَمِينَ مَا كَانَ حَامِلًا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ مُوجِبًا لِلْبَرِّ، وَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْبَرِّ. ثُمَّ قَوْلُهُ أُقْسِمُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا مِنْ الْبَرِّ شَيْئًا بِمُجَرَّدِهِ لِأَنَّهُ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ يَمِينًا، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَكُونُ لِسَتْرِ الذَّنْبِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ بِسَبَبِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ فِي أُقْسِمُ مُجَرَّدًا هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ أُقْسِمُ صِيغَةُ فِعْلٍ مُضَارِعٍ فَكَمَا تَكُونُ هِيَ لِلْحَالِ كَذَلِكَ تَكُونُ لِلِاسْتِقْبَالِ، فَلَوْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لِلْحَالِ لَمْ تَجِبْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لِلِاسْتِقْبَالِ وَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً قَبْلَ هَذَا فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْحُدُودِ حَتَّى إنَّهَا إذَا اجْتَمَعَتْ تَدَاخَلَتْ كَالْحُدُودِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَلْحَقَ بِقَوْلِهِ عَلَيَّ يَمِينٌ وَهُوَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ لِلْإِيجَابِ وَالْيَمِينُ لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا مُوجِبُهُ يُوصَفُ بِذَلِكَ وَمُوجِبُهُ الْبَرُّ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ هُنَا أَوْ خَلْفَهُ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فَيُجْعَلُ كَلَامُهُ إقْرَارًا بِالْكَفَّارَةِ صَوْنًا لِكَلَامِهِ عَنْ الْإِلْغَاءِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أُقْسِمُ إخْبَارٌ عَنْ الْقَسَمِ فِي الْحَالِ وَمَا ثَمَّ قَسَمٌ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ جُمْلَةٍ إنْشَائِيَّةٍ يُؤَكِّدُ بِهَا جُمْلَةً أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ شَيْءٌ فَيُجْعَلُ إقْرَارًا عَنْ مُوجِبِ مُوجِبِ الْيَمِينِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لِذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ إقْرَارًا بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى وُجُوبِ الْبَرِّ ابْتِدَاءً وَلَا إلَى تَصْوِيرِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ وَلَا إلَى جَعْلِ تِلْكَ الصِّيغَةِ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ أُقْسِمُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ،

ص: 72

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَمَّا إذَا قَالَ أُقْسِمُ لَأَفْعَلَن كَذَا أَوْ عَلَيَّ يَمِينٌ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارًا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ قَوِيَ بِهِ عَزْمُ الْحَالِفِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَالْعَادَةُ قَدْ جَرَتْ بِالْيَمِينِ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} فَكَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ الْقَسَمِ مُضْمَرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْسَمُ بِهِ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى زُفَرَ فِي عَدَمِ جَوَازِهِ بِدُونِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ. ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي النِّيَّةِ إذَا لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقِيلَ: لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِاحْتِمَالِ الْعِدَّةِ وَالْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ.

ص: 73

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 74

(وَلَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ سوكند ميخورم بخداي يَكُونُ يَمِينًا)؛ لِأَنَّهُ لِلْحَالِ. وَلَوْ قَالَ سوكند خورم قِيلَ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَلَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ سوكند خورم بِطَلَاقِ زنم لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ.

قَالَ: (وَكَذَا قَوْلُهُ لَعَمْرُ اللَّهِ وَأَيْمُ اللَّهِ) لِأَنَّ عَمْرُ اللَّهِ بَقَاءُ اللَّهِ، وَأَيْمُ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَيْمَنُ اللَّهِ وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ وَأَيْمُ صِلَةٌ كَالْوَاوِ، وَالْحَلِفُ بِاللَّفْظَيْنِ مُتَعَارَفٌ.

(وَكَذَا قَوْلُهُ وَعَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ) لِأَنَّ الْعَهْدَ يَمِينٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} وَالْمِيثَاقُ عِبَارَةٌ عَنْ

قَالَ (وَكَذَا قَوْلُهُ لَعَمْرُ اللَّهِ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ أُقْسِمُ إلَخْ، وَالْعَمْرُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ الْبَقَاءُ إلَّا أَنَّ الْفَتْحَ غَلَبَ فِي الْقَسَمِ لَا يَجُوزُ فِيهِ الضَّمُّ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَعَمْرُ اللَّهِ يَمِينٌ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَعَمْرُكَ} وَالْعَمْرُ هُوَ الْبَقَاءُ وَالْبَقَاءُ صِفَاتُ الذَّاتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ الْبَاقِي (وَأَيْمُ اللَّهِ) مَعْنَاهُ أَيْمَنُ اللَّهِ وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ.

وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: مَعْنَاهُ وَاَللَّهِ وَكَلِمَةُ أَيْمٌ صِلَةٌ: أَيْ كَلِمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَالْوَاوِ وَالْبَحْثُ فِي قَطْعِ هَمْزَتِهِ وَوَصْلِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ وَظِيفَةٌ نَحْوِيَّةٌ. قَوْلُهُ (وَالْحَلِفُ بِاللَّفْظَيْنِ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لَعَمْرُك وَأَيْمُ اللَّهِ (مُتَعَارَفٌ) يُحْلَفُ بِهِمَا فِي الْعَادَةِ وَلَمْ يَرِدْ نَهْيٌ مِنْ الشَّرْعِ فَيَكُونُ يَمِينًا.

وَقَوْلُهُ (وَكَذَا قَوْلُهُ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ) ظَاهِرٌ. وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ أَنْ لَا أَفْعَلَ كَذَا كَانَ يَمِينًا.

ص: 75

الْعَهْدِ

(وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»

لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ").

ص: 76

(وَإِنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ يَهُودِيُّ أَوْ نَصْرَانِيُّ أَوْ كَافِرٌ تَكُونُ يَمِينًا)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ عَلَمًا عَلَى الْكُفْرِ فَقَدْ اعْتَقَدَهُ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ لِغَيْرِهِ بِجَعْلِهِ يَمِينًا كَمَا تَقُولُ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ.

وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ عَقَدَ فِعْلَهُ فَهُوَ الْغَمُوسُ، وَلَا يَكْفُرُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَقِيلَ يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ تَنْجِيزُ مَعْنًى فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِيهِمَا إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِالْحَلِفِ يَكْفُرُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْكُفْرِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ

وَمَنْ قَالَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ مَجُوسِيٌّ كَانَ يَمِينًا، لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ عَلَمًا عَلَى الْكُفْرِ فَقَدْ اعْتَقَدَهُ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ لِغَيْرِهِ بِجَعْلِهِ يَمِينًا كَمَا تَقُولُ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ) وَهَذَا جَوَابُ. مَنْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْكَعْبَةِ أَوْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ الْبَرَاءَةُ عَنْ وَاجِبِ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ لِغَيْرِهِ فَكَانَ يَمِينًا، هَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا هُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُمَا يَمِينَانِ، وَإِنْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ تَامٌّ بِذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَفِي الثَّانِي كَلَامٌ وَاحِدٌ حِينَ ذَكَرَ الشَّرْطَ مَرَّةً وَاحِدَةً.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ قَدْ فَعَلَهُ) يَعْنِي لَوْ حَلَفَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ (فَهُوَ الْغَمُوسُ وَلَا يَكْفُرُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَقْبَلِ) يَعْنِي كَمَا لَوْ حَلَفَ بِهِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَانَ يَمِينًا يَكْفُرُ، وَلَا يَكْفُرُ الْحَالِفُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي الْمَاضِي (وَقِيلَ) وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ (يَكْفُرُ لِأَنَّهُ) عَلَّقَ الْكُفْرَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ وَالتَّعْلِيقُ بِالْمَوْجُودِ (تَنْجِيزٌ) فَكَأَنَّهُ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَمِينٌ فَلَا يَكْفُرُ بِهِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِالْحَلِفِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ فَقَدْ رَضِيَ بِالْكُفْرِ.

ص: 77

(وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ سَخَطُ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَلِفٍ) لِأَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ (وَكَذَا إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا زَانٍ أَوْ سَارِقٌ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ آكُلُ رِبًا)؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَالتَّبْدِيلَ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ الِاسْمِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَالتَّبْدِيلَ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَمَّا الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ فَإِنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ النَّسْخَ، وَلَكِنْ ذَلِكَ الْفِعْلُ الْمَقْصُودُ بِالزِّنَا وَالْعَيْنُ الْمَقْصُودَةُ بِالسَّرِقَةِ بِعَيْنِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا لَهُ بِوَجْهِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ فَسَمَّى احْتِمَالَ انْقِلَابِهِمَا مِنْ الْحُرْمَةِ إلَى الْحِلِّ بِالسَّبَبِ الشَّرْعِيِّ نَسْخًا وَتَبْدِيلًا، وَأَمَّا الْخَمْرُ وَالرِّبَا فَيَحْتَمِلَانِ النَّسْخَ. أَمَّا الْخَمْرُ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا كَانَتْ حَلَالًا ثُمَّ انْتَسَخَ، وَأَمَّا الرِّبَا فَيَحْتَمِلُ النَّسْخَ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ النَّسْخُ فِي حَقِّهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَأَقُولُ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَفٌّ وَنَشْرٌ عَلَى غَيْرِ السَّنَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ نَسْخًا مُتَعَلِّقٌ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الرِّبَا. وَقَوْلُهُ تَبْدِيلًا بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَيُرَادُ بِالتَّبْدِيلِ انْقِلَابُ الْمَحَلِّ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَهَذَا إفَادَةٌ وَالْحَمْلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ إعَادَةٌ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْأُولَى أَوْلَى، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ حُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ حُرْمَتَهُ لَا تَحِلُّ فِي حَالٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْيَمِينُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ (وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ) فَلَا يَكُونُ يَمِينًا.

ص: 78

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 79

(فَصْلٌ فِي الْكَفَّارَةِ)

قَالَ (كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عِتْقُ رَقَبَةٍ يُجْزِي فِيهَا مَا يُجْزِي فِي الظِّهَارِ وَإِنْ شَاءَ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ وَاحِدٍ ثَوْبًا فَمَا زَادَ، وَأَدْنَاهُ مَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كَالْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ)

فَصْلٌ فِي الْكَفَّارَةِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْمُوجِبِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمُوجَبِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ، لَكِنْ هِيَ مُوجَبُ الْعَيْنِ عِنْدَ الِانْقِلَابِ

ص: 80

وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الْآيَةَ، وَكَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخَيُّرِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ.

قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُخَيَّرُ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ. وَلَنَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَهِيَ كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ.

لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ تُشْرَعْ لِلْكَفَّارَةِ بَلْ تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً لَهَا عِنْدَ انْتِقَاضِهَا بِالْحِنْثِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَكَوْنُ الْوَاجِبِ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ عَلَى التَّخْيِيرِ أَوْ وَاحِدًا مُعَيَّنًا عِنْدَ اللَّهِ إنْ كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَنَا، وَعَدَمُ حَمْلِ الشَّافِعِيِّ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ

ص: 81

ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فِي بَيَانِ أَدْنَى الْكِسْوَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَدْنَاهُ مَا يَسْتُرُ عَامَّةَ بَدَنِهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ السَّرَاوِيلَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ لَابِسَهُ يُسَمَّى عُرْيَانًا فِي الْعُرْفِ، لَكِنَّ مَا لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكِسْوَةِ يُجْزِيه عَنْ الطَّعَامِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ.

مَذْهَبِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي التَّقْرِيرِ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ.

وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ فِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إنْ أَعْطَى السَّرَاوِيلَ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَعْطَى الرَّجُلَ يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ رَدُّ الْعُرْيِ بِقَدْرِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ، لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ، أَمَّا مَا زَادَ عَلَيْهِ فَفَضْلٌ يُعْتَبَرُ لِلتَّجَمُّلِ أَوْ لِلتَّدَثُّرِ فَلَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ فِي الْكِسْوَةِ كَمَا لَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ الْإِدَامُ فِي الطَّعَامِ.

وَقَوْلُهُ (لَكِنْ مَا لَا يَجْزِيهِ عَنْ الْكِسْوَةِ يَجْزِيهِ عَنْ الطَّعَامِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ) يَعْنِي لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْكِسْوَةِ لِأَنَّ الِاكْتِسَاءَ لَا يَحْصُلُ بِهِ وَلَكِنَّهُ

ص: 82

(وَإِنْ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَمْ يُجْزِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِيهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ

يَجْزِيهِ مِنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَ نِصْفَ ثَوْبٍ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا بَيْنَهُمْ وَهُوَ ثَوْبٌ كَثِيرُ الْقِيمَةِ يُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ لِأَنَّهُ لَا يَكْتَسِي بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَكِنْ يَجْزِيهِ مِنْ الطَّعَامِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ أَوْ لَا؟ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَجْزِيهِ نَوَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ أَوْ لَمْ يَنْوِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا نَوَى أَنْ يَكُونَ عَنْ الطَّعَامِ يَجْزِيهِ عَنْ الطَّعَامِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يُجْزِهِ.

(وَإِنْ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَمْ يُجْزِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجْزِيهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ) لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَى

ص: 83

فَأَشْبَهَ التَّكْفِيرَ بَعْدَ الْجَرْحِ. وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ وَلَا جِنَايَةَ هَاهُنَا، وَلَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِأَنَّهُ مَانِعٌ غَيْرُ مُفْضٍ، بِخِلَافِ الْجَرْحِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ.

الْيَمِينِ، يُقَالُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا حَقِيقَةً، وَالْأَدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ جَائِزٌ لَا مَحَالَةَ (فَأَشْبَهَ التَّكْفِيرَ بَعْدَ الْجُرْحِ. وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ وَلَا جِنَايَةَ هَاهُنَا) لِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ بِالْحِنْثِ. وَقَوْلُهُ (وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّبَبَ مَا يَكُونُ مُفْضِيًا، وَالْيَمِينُ غَيْرُ مُفْضٍ إلَى الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ بَعْدَ نَقْضِهَا بِالْحِنْثِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إلَيْهَا لِأَنَّهَا تَجِبُ بِحِنْثٍ بَعْدَ الْيَمِينِ كَمَا تُضَافُ الْكَفَّارَةُ إلَى الصَّوْمِ (بِخِلَافِ الْجُرْحِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ) إلَى الْمَوْتِ.

ص: 84

(ثُمَّ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْمِسْكِينِ) لِوُقُوعِهِ صَدَقَةً.

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَوْ لَا يُكَلِّمَ أَبَاهُ أَوْ لَيَقْتُلَنَّ فُلَانًا يَنْبَغِي أَنْ يُحْنِثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ»

وَقَوْلُهُ (ثُمَّ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْمِسْكِينِ) قِيلَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَمْ يُجْزِهِ: يَعْنِي وَإِنْ لَمْ يَقَعْ كَفَّارَةً إذَا دَفَعَ إلَى الْمِسْكِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ لَكِنْ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَصَدَ شَيْئَيْنِ سَتْرَ الْجِنَايَةِ وَحُصُولَ الثَّوَابِ، وَلَمْ يَحْصُلْ الْأَوَّلُ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ فَيَحْصُلُ الثَّانِي فَتَكُونُ قَدْ وَقَعَتْ صَدَقَةً فَلَا رُجُوعَ فِيهَا.

(وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَوْ لَا يُكَلِّمَ أَبَاهُ أَوْ لَيَقْتُلَن فُلَانًا يَنْبَغِي أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ») مَعْنَاهُ مَنْ حَلَفَ عَلَى مُقْسَمٍ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ لِأَنَّ الْيَمِينَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ

ص: 85

وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَاهُ تَفْوِيتُ الْبِرِّ إلَى جَارٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَلَا جَابِرَ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ضِدِّهِ.

(وَإِذَا حَلَفَ الْكَافِرُ ثُمَّ حَنِثَ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْيَمِينِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مُعَظِّمًا وَلَا هُوَ أَهْلُ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ.

مُقْسَمٍ بِهِ وَهُوَ بِاَللَّهِ وَمُقْسَمٍ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ لَأَفْعَلَن أَوْ لَا أَفْعَلُ فَكَانَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ. وَفِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ «وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا» فَالْمُدَّعِي مُطْلَقٌ، وَالدَّلِيلُ مَشْرُوطٌ بِرُؤْيَةِ غَيْرِهِ خَيْرًا. وَالْجَوَابُ أَنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ يَقْتَضِي أَنْ يَرَى تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ خَيْرًا مِنْهَا فَيَجْعَلَ الشَّرْطَ مَوْجُودًا نَظَرًا إلَى حَالِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا) يَعْنِي أَدَاءَ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْحِنْثِ (تَفْوِيتَ الْبَرِّ إلَى جَابِرٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ) لِمَا أَنَّ الْجَابِرَ يَقْتَضِي سَبْقَ خَلَلِ الْمَجْبُورِ وَهُوَ خَلَلُ الْيَمِينِ بِالْحِنْثِ فِيمَا قُلْنَا فَتَصْلُحُ الْكَفَّارَةُ جَابِرَةً (وَلَا جَابِرَ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ضِدِّهِ) أَيْ فِي ضِدِّ مَا قُلْنَا أَيْ لَا جَابِرَ لِمَعْصِيَةِ الْحِنْثِ فِيمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ الْحِنْثَ لَمَّا تَأَخَّرَ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ تَصْلُحْ الْكَفَّارَةُ السَّابِقَةُ جَابِرَةً لِذَلِكَ الْحِنْثِ لِأَنَّ الْجَابِرَ لَا يَتَقَدَّمُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.

وَقَالَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ: وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا: أَيْ فِي تَحْنِيثِ النَّفْسِ وَالتَّكْفِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْوِيتُ الْبَرِّ إلَى جَابِرٍ وَالْجَابِرُ هُوَ الْكَفَّارَةُ، وَالْفَوَاتُ إلَى جَابِرٍ كَلَا فَوَاتٍ فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ الْحَاصِلَةُ بِتَفْوِيتِ الْبَرِّ كَلَا مَعْصِيَةٍ لِوُجُودِ الْجَابِرِ، أَمَّا إذَا أَتَى بِالْبَرِّ وَهُوَ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَقَطْعُ الْكَلَامِ عَنْ الْأَبِ وَقَتْلُ فُلَانٍ بِغَيْرِ حَقٍّ تَحْصُلُ الْمَعْصِيَةُ بِلَا جَبْرٍ لَهَا فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ قَائِمَةً لَا مَحَالَةَ، فَلِهَذَا قُلْنَا يُحَنِّثُ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ صَحِيحٌ وَالثَّانِي أَنْسَبُ.

(وَإِذَا حَلَفَ الْكَافِرُ ثُمَّ حَنِثَ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَلَا حِنْثَ) أَيْ لَا كَفَّارَةَ (عَلَيْهِ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُكَفِّرُ بِالْمَالِ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبَرِّ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَكَانَ اعْتِقَادُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْبَرِّ وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ (وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْيَمِينِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَمَعَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مُعَظَّمًا) إذْ الْكُفْرُ إهَانَةٌ وَاسْتِخْفَافٌ بِالْخَالِقِ وَهُوَ يُنَافِي التَّعَظُّمَ (وَلَا هُوَ أَهْلٌ لِلْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ) بِخِلَافِ الِاسْتِحْلَافِ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ظُهُورُ حَقِّ الْمُدَّعِي بِالنُّكُولِ أَوْ الْإِقْرَارِ، وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ.

ص: 86

(وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَمْلِكُهُ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ)

قَالَ (وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَمْلِكُهُ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي ثَوْبِي هَذَا أَوْ طَعَامِي هَذَا، (لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ) أَيْ إنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا حَنِثَ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ

ص: 87

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَهُوَ الْيَمِينُ. وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ إحْمَالُهُ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لِغَيْرِهِ بِإِثْبَاتِ مُوجِبِ الْيَمِينِ فَيُصَارُ إلَيْهِ،

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ) وَقَلْبُ الْمَشْرُوعِ (لَا يَنْعَقِدُ بِهِ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَهُوَ الْيَمِينُ) كَعَكْسِهِ وَهُوَ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ (وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ) فَإِمَّا أَنْ تَثْبُتَ بِهِ حُرْمَةٌ لِعَيْنِهَا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ كَمَا ذَكَرْتُمْ أَوْ لِغَيْرِهَا (بِإِثْبَاتِ مُوجِبِ الْيَمِينِ) وَفِي إعْمَالِ اللَّفْظِ وَالْمَصِيرِ إلَى إعْمَالِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ فَيُصَارُ إلَيْهِ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ إنَّ بَيْنَ قَوْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ تَنَافِيًا لِأَنَّ الِاسْتِبَاحَةَ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِيمَا إذَا كَانَ ثَمَّةَ تَحْرِيمٌ. وَقَوْلُهُ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا يُنَافِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا مَعْنَاهُ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ. وَقَوْلُهُ إنْ اسْتَبَاحَهُ إشَارَةٌ إلَى الْحُرْمَةِ لِغَيْرِهِ. وَعُورِضَ بِأَنَّ الْيَمِينَ إمَّا أَنْ يُذْكَرَ مُقْسَمٌ بِهِ

ص: 88

ثُمَّ إذَا فَعَلَ مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا حَنِثَ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ الْمَعْنَى مِنْ الِاسْتِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا ثَبَتَ تَنَاوَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ.

وَهُوَ عِنْدَ ذِكْرِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ بِأَنْ يُذْكَرَ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِمَوْجُودٍ فَكَيْفَ صَارَ يَمِينًا. وَأُجِيبَ بِسُقُوطِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} بَعْدَ قَوْلِهِ {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} فِي تَحْرِيمِ الْعَسَلِ أَوْ تَحْرِيمِ مَارِيَةَ، أَطْلَقَ الْأَيْمَانَ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَفَرَضَ تَحِلَّةَ الْأَيْمَانِ، وَالرَّأْيُ لَا يُعَارِضُ النُّصُوصَ السَّمْعِيَّةَ.

ص: 89

(وَلَوْ قَالَ كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ كَمَا فَرَغَ لِأَنَّهُ بَاشَرَ فِعْلًا مُبَاحًا وَهُوَ التَّنَفُّسُ وَنَحْوُهُ، هَذَا قَوْلُ زَفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْبِرُّ لَا يَتَحَصَّلُ مَعَ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ يَنْصَرِفُ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِلْعُرْفِ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَتَنَاوَلُ عَادَةً. وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ. وَإِذَا نَوَاهَا كَانَ إيلَاءً وَلَا تُصْرَفُ الْيَمِينُ عَنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَهَذَا كُلُّهُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَمَشَايِخُنَا قَالُوا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عَنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى،

وَلَوْ قَالَ كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ كَمَا فَرَغَ) لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ فِعْلًا حَلَالًا وَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا حَلَالًا وَهُوَ التَّنَفُّسُ وَفَتْحُ الْعَيْنَيْنِ فَيَحْنَثُ (وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبَرِّ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ مَعَ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ) لِامْتِنَاعِ أَنْ لَا يَتَنَفَّسَ وَأَنْ لَا يَفْتَحَ الْعَيْنَيْنِ فَيَعْلَمَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ عَدَمَ إرَادَةِ الْعُمُومِ فَيُصَارُ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ لِلْعُرْفِ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْمُتَنَاوَلَاتِ (وَ) إذَا لَمْ يَكُنْ الْعُمُومُ مُرَادًا (لَا يَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَإِذَا نَوَاهَا كَانَ إيلَاءً) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَمِينٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، وَهُوَ مِنْ صُوَرِ الْإِيلَاءِ (وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَمَشَايِخُ بَلْخِي) كَأَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ وَالْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ وَبَعْضِ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ (قَالُوا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى)

ص: 90

وَكَذَا يَنْبَغِي فِي قَوْلِهِ حَلَالٌ يُرْوَى حَرَامٌ لِلْعُرْفِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ هرجه بردست رَاسَتْ كيرم بِرِوَيْ حَرَامٌ أَنَّهُ هَلْ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُجْعَلُ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِلْعُرْفِ.

(وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ)

وَقَوْلُهُ (وَكَذَا يَنْبَغِي) ظَاهِرٌ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ قَالَ هرجه بدست جُبْ كيرم بِرِوَيْ وَخِيَارْ فَقَدْ قِيلَ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى. وَلَوْ قَالَ هرجه بدست كيرم كَانَ طَلَاقًا قِيلَ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ. وَقِيلَ لَا يَقَعُ إلَّا بِالنِّيَّةِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِشَيْءٍ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ

ص: 91

لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى» .

(وَإِنْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِشَرْطٍ فَوُجِدَ الشَّرْطُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَفْسِ النَّذْرِ) لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ،

لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى» ).

(وَإِنْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِشَرْطٍ) سَوَاءٌ كَانَ شَرْطًا أَرَادَ كَوْنَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْ (فَوُجِدَ الشَّرْطُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَفْسِ النَّذْرِ) وَلَا تَنْفَعُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ (لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ) فَإِنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ

ص: 92

وَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ: إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ أَوْ صَدَقَةُ مَا أَمْلِكُهُ أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله) وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى أَيْضًا. وَهَذَا إذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْمَنْعُ وَهُوَ بِظَاهِرِهِ نَذْرٌ فَيَتَخَيَّرُ وَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَرْطًا يُرِيدُ كَوْنَهُ كَقَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْيَمِينِ فِيهِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الصَّحِيحُ.

بَيْنَ كَوْنِ النَّذْرِ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ (وَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ) وَلَوْ نَجَّزَ النَّذْرَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَمْ تُجْزِهِ الْكَفَّارَةُ فَكَذَا هَاهُنَا (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ) أَيْ عَنْ تَعْيِينِ الْوَفَاءِ بِنَفْسِ النَّذْرِ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ (وَقَالَ إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ صَدَقَةُ مَا أَمْلِكُهُ أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى أَيْضًا) حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْسِرًا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَنْ يَصُومَ شَهْرًا.

وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ. وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ مُسْنَدًا إلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» قَالُوا (هَذَا إذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ) لِأَنَّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ كَمَا تَرَى تَعَارُضًا. فَحَمَلْنَا الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ عَلَى النَّذْرِ الْمُرْسَلِ وَعَلَى مُقَيَّدٍ أَرَادَ الْحَالِفُ كَوْنَهُ. وَالثَّانِيَ عَلَى مُقَيَّدٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ جَمْعًا بَيْنَ الْآثَارِ، وَالْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ كَلَامَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى النَّذْرِ وَالْيَمِينِ جَمِيعًا، أَمَّا مَعْنَى النَّذْرِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَعْنَى الْيَمِينِ فَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْمَنْعَ عَنْ إيجَادِ الشَّرْطِ (فَيَتَخَيَّرُ وَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ) وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَائِزٌ كَالْعَبْدِ إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِالْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ أَدَاءِ الظُّهْرِ أَرْبَعًا. وَالنَّذْرُ وَالْيَمِينُ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ لِأَنَّ النَّذْرَ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ وَاجِبٌ لِعَيْنِهِ، وَالْيَمِينُ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ صِيَانَةُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَرْطًا يُرِيدُ كَوْنَهُ كَقَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْيَمِينِ فِيهِ) وَهُوَ الْمَنْعُ لِأَنَّ قَصْدَهُ إظْهَارُ الرَّغْبَةِ فِيمَا جَعَلَهُ شَرْطًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا التَّفْصِيلُ) أَيْ الَّذِي ذَكَرْنَا بَيْنَ شَرْطٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ وَبَيْنَ شَرْطٍ يُرِيدُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ حَصْرَ الصِّحَّةِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَإِنْ أَرَادَ حَصْرَهَا فِيهِ مِنْ حَيْثُ الدِّرَايَةُ لِدَفْعِ التَّعَارُضِ فَالدَّفْعُ مُمْكِنٌ مِنْ حَيْثُ حَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْمُرْسَلِ وَالْآخَرِ عَلَى الْمُعَلَّقِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ مَا يُرِيدُ كَوْنَهُ وَمَا لَا يُرِيدُهُ، عَلَى أَنَّ فِيهِ إيمَاءً إلَى الْقُصُورِ فِي الذَّهَابِ إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

ص: 93

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ» إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاتِّصَالِ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ رُجُوعٌ وَلَا رُجُوعَ فِي الْيَمِينِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ) أَيْ عَلَى مُقْسَمٍ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهم. وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ» ) مَعْنَاهُ لَا يَحْنَثُ أَبَدًا لِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ (وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاتِّصَالِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ رُجُوعٌ وَلَا رُجُوعَ فِي الْيَمِينِ) فَإِنْ قُلْت: هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَإِنَّ الْحَدِيثَ بِإِطْلَاقِهِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْمُنْفَصِلِ وَالْمُتَّصِلِ. قُلْت: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ مِنْ النُّصُوصِ وَغَيْرِهَا عَلَى لُزُومِ الْعُقُودِ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الِاتِّصَالَ، فَإِنَّ جَوَازَ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْفَصِلًا يُفْضِي إلَى إخْرَاجِ الْعُقُودِ كُلِّهَا مِنْ الْبُيُوعِ وَالْأَنْكِحَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُلْزِمَةً، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى،

ص: 94

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الدُّخُولِ وَالسُّكْنَى)

وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُوَافِقُ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ، فَيُحْمَلُ حَدِيثُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاتِّصَالِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ جَوَازُ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْفَصِلًا وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الدُّخُولِ وَالسُّكْنَى)

لَمَّا كَانَ انْعِقَادُ الْيَمِينِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذِكْرِ أَنْوَاعِ الْأَفْعَالِ الْوَارِدَةِ فِي الْيَمِينِ فَذَكَرَهَا فِي أَبْوَابٍ وَقَدَّمَ الدُّخُولَ وَالسُّكْنَى عَلَى غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا لِأَنَّ أَوَّلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ الَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْيَمِينُ بَعْدَ وُجُودِهِ مَسْكَنٌ يَدْخُلُ فِيهِ وَيَسْكُنُهُ ثُمَّ يَتَوَارَدُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَفْعَالِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} الْآيَةَ، وَالدُّخُولُ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْتِقَالِ مِنْ الظَّاهِرِ إلَى الْبَاطِنِ، وَالسُّكْنَى

ص: 95

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الْكَعْبَةَ أَوْ الْمَسْجِدَ أَوْ الْبِيعَةَ أَوْ الْكَنِيسَةَ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْبَيْتَ مَا أُعِدَّ لِلْبَيْتُوتَةِ وَهَذِهِ الْبِقَاعُ مَا بُنِيَتْ لَهَا (وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزًا أَوْ ظُلَّةَ بَابِ الدَّارِ) لِمَا ذَكَرْنَا، وَالظُّلَّةُ مَا تَكُونُ عَلَى السِّكَّةِ، وَقِيلَ إذَا كَانَ الدِّهْلِيزُ بِحَيْثُ لَوْ أُغْلِقَ الْبَابُ يَبْقَى دَاخِلًا وَهُوَ مُسْقَفٌ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ عَادَةً

عِبَارَةٌ عَنْ الْكَوْنِ فِي مَكَان عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ مَبِيتًا لِأَهْلِهِ (قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا) ظَاهِرٌ وَالْبِيعَةُ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى وَالْكَنِيسَةُ لِلْيَهُودِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْبَيْتَ مَا أُعِدَّ لِلْبَيْتُوتَةِ وَهَذِهِ الْبِقَاعُ مَا أُعِدَّتْ لَهَا) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّهَ سَمَّى الْكَعْبَةَ بَيْتًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} الْآيَةَ، وَسَمَّى الْمَسَاجِدَ بُيُوتًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ} الْآيَةَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعُرْفِ لَا عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ: أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ بَيْتًا وَمُطْلَقُ اسْمِ الْبَيْتِ فِي الْيَمِينِ لَا يَتَنَاوَلُهُ.

وَاسْتُشْكِلَ بِمَا قَالَهُ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ إذَا حَلَفَ لَا يَهْدِمُ بَيْتًا فَهَدَمَ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ حَنِثَ، وَسَيَجِيءُ الْجَوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ (وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزَ أَوْ ظُلَّةَ بَابِ الدَّارِ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: ظُلَّةُ الْبَابِ هِيَ السُّدَّةُ الَّتِي فَوْقَ الْبَابِ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَالظُّلَّةُ تَكُونُ عَلَى السِّكَّةِ) أَرَادَ بِهَا السَّابَاطَ الَّذِي يَكُونُ عَلَى بَابِ الدَّارِ وَلَا يَكُونُ فَوْقَهُ بِنَاءٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيْتِ وَلِعَدَمِ الْبَيْتُوتَةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فَوْقَهُ بِنَاءٌ، إلَّا أَنَّ مِفْتَحَهُ إلَى الطَّرِيقِ لَا يَحْنَثُ إذَا كَانَ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى بَيْتِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ بَيْتِهِ (قَوْلُهُ وَقِيلَ إذَا كَانَ الدِّهْلِيزُ) ظَاهِرٌ

ص: 96

(وَإِنْ دَخَلَ صُفَّةً حَنِثَ) لِأَنَّهَا تُبْنَى لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَصَارَ كَالشَّتْوِيِّ وَالصَّيْفِيِّ. وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الصُّفَّةُ ذَاتَ حَوَائِطَ أَرْبَعَةٍ، وَهَكَذَا كَانَتْ صِفَافُهُمْ. وَقِيلَ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ) لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، يَقُولُ دَارٌ عَامِرَةٌ، وَقَدْ شَهِدَتْ أَشْعَارُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ

قَوْلُهُ وَإِنْ دَخَلَ صُفَّةً حَنِثَ لِأَنَّهَا تُبْنَى لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَصَارَ كَالشَّتْوِيِّ وَالصَّيْفِيِّ) الَّذِي يُبْنَى لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ شِتَاءً أَوْ صَيْفًا، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الصُّفَّةُ ذَاتَ حَوَائِطَ أَرْبَعَةٍ (وَهَكَذَا كَانَتْ صِفَافُهُمْ) أَيْ صِفَافُ أَهْلِ الْكُوفَةِ. ذُكِرَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي أَنَّ هَذِهِ أَشْكَلَتْ عَلَيَّ حَتَّى دَخَلْت الْكُوفَةَ، فَرَأَيْت صِفَافَهُمْ مُبَوَّبَةً فَعَلِمْت أَنَّ الْأَيْمَانَ وَضْعُهَا عَلَى تَعَارُفِهِمْ (وَقِيلَ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ) يَعْنِي سَوَاءً كَانَتْ ذَاتَ حَوَائِطَ أَرْبَعَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ (وَهُوَ الصَّحِيحُ) دُونَ الْحَمْلِ عَلَى عُرْفِهِمْ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَبْنًى مُسْقَفٍ مَدْخَلُهُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ بُنِيَ لِلْبَيْتُوتَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الصُّفَّةِ، إلَّا أَنَّ مَدْخَلَهَا أَوْسَعُ فَيَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْبَيْتِ فَيَحْنَثُ.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَمَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ) لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، يُقَالُ دَارٌ عَامِرَةٌ وَدَارٌ غَامِرَةٌ، وَقَدْ شَهِدَتْ أَشْعَارُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ فَمِنْهَا مَا قَالَ لَبِيدٌ:

عَفَتْ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا

بِمِنًى تَأَبَّدَ غُولُهَا فَرِجَامُهَا

عَفَا يَعْفُو مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ وَهُنَا لَازِمٌ، وَتَأَبَّدَ الْمَنْزِلُ: أَيْ أَقْفَرَ فَأَلِفَتْهُ الْوُحُوشُ، وَالْغُولُ وَالرِّجَامُ مَوْضِعَانِ. يَقُولُ: عَفَتْ دِيَارُ الْأَحْبَابِ مَا كَانَ مِنْهَا لِلْحُلُولِ وَمَا كَانَ مِنْهَا لِلْإِقَامَةِ، وَهَذِهِ الدِّيَارُ كَانَتْ بِمِنًى وَقَدْ تَوَحَّشَتْ الدِّيَارُ الْغُولِيَّةُ وَالرِّجَامِيَّةُ.

وَقَالَ قَائِلُهُمْ:

الدَّارُ دَارٌ وَإِنْ زَالَتْ حَوَائِطُهَا

وَالْبَيْتُ لَيْسَ بِبَيْتٍ بَعْدَ تَهْدِيمِ

ص: 97

وَالْبِنَاءُ وَصْفٌ فِيهَا غَيْرَ أَنَّ الْوَصْفَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ.

وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْبِنَاءُ وَصْفٌ فِيهَا غَيْرَ أَنَّ الْوَصْفَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ) لِمَا ذُكِرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَعْلُومًا. فَإِذَا كَانَ مُشَارًا إلَيْهَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا فَلَا حَاجَةَ إلَى مُعَرَّفٍ بِخِلَافِ الْمُنَكَّرِ فَإِنَّهُ لَا مُعَرِّفَ لَهُ سِوَى الْوَصْفِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا. وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الصِّفَةَ لَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الْمُنَكَّرِ لَمَا وَقَعَ الْمُشْتَرَاةُ لِلْمُوَكِّلِ إذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ دَارٍ فَاشْتَرَى دَارًا خَرِبَةً لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ وَهَذَا نَقْضٌ إجْمَالِيٌّ.

وَالثَّانِي أَنَّ الْبِنَاءَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْمُسَمَّى أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ دَاخِلًا وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْحَالُ بِالْغَيْبَةِ وَالْحُضُورِ فِي الدُّخُولِ كَالْعَرْصَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْحَالُ أَيْضًا فِي عَدَمِ الدُّخُولِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ رَجُلًا لَا يَتَقَيَّدُ يَمِينُهُ بِرَجُلٍ قَاعِدٍ عَالِمٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَارِجِيَّةِ عَنْهُ وَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الدَّارَ فِي الْوَكَالَةِ تُعُرِّفَتْ بِوَجْهٍ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِشِرَائِهَا إنَّمَا يَصِحُّ عِنْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ وَالْمَحَلَّةِ وَلَيْسَتْ فِي الْيَمِينِ كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ انْعِقَادِ الْوَكَالَةِ صِحَّةُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِلَا صِفَةٍ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْبِنَاءَ صِفَةٌ مُتَعَيِّنَةٌ لِلدَّارِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِحُكْمِ الْعُرْفِ لِتَعَيُّنِهِ وَفِي الرِّجَالِ التَّزَاحُمُ فِي الصِّفَاتِ ثَابِتٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ بِأَسْرِهَا تَمْتَنِعُ إرَادَتُهَا عَادَةً، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فِي الْإِرَادَةِ فَتَمْتَنِعُ

ص: 98

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْإِرَادَةُ أَصْلًا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ مُحَالًا عَلَى الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْبِنَاءَ ضِدُّهُ الْخَرَابُ فَكَانَ الدَّارُ مَحَلَّ تَوَارُدِهِمَا فَكَيْفَ صَارَ الْبِنَاءُ صِفَةً مُتَعَيِّنَةً فَهُوَ فِي حَيِّزِ النِّزَاعِ. وَأَقُولُ فِي جَوَابِ الْمُعَارَضَةِ الْمَذْكُورُ مِنْ التَّقْسِيمِ غَيْرُ حَاضِرٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْمُنَكَّرِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّعْرِيفِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْمُعَرَّفِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ.

ص: 99

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرِبَتْ ثُمَّ بُنِيَتْ أُخْرَى فَدَخَلَهَا يَحْنَثُ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ بَعْدَ الِانْهِدَامِ، (وَإِنْ جُعِلَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ دَارًا لِاعْتِرَاضِ اسْمٍ آخَرَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَ انْهِدَامِ الْحَمَّامِ وَأَشْبَاهِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ اسْمَ الدَّارِيَةِ.

(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَدَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ وَصَارَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ) لِزَوَالِ اسْمِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاتُ فِيهِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ الْحِيطَانُ وَسَقَطَ السَّقْفُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ وَالسَّقْفُ وَصْفٌ فِيهِ (وَكَذَا إذَا بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرِبَتْ ثُمَّ بُنِيَتْ أُخْرَى فَدَخَلَهَا حَنِثَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ بَعْدَ الِانْهِدَامِ، وَإِنْ جُعِلَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ) لِاعْتِرَاضِ اسْمٍ آخَرَ عَلَيْهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ حُدُوثِ هَذَا الِاسْمِ زَوَالُ ذَلِكَ الِاسْمِ، وَالْيَمِينُ قَدْ انْعَقَدَتْ بِمَا يُسَمَّى دَارًا وَلَمْ يَبْقَ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا دَخَلَ بَعْدَ انْهِدَامِ الْحَمَّامِ) ظَاهِرٌ.

قَالَ (وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَدَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ وَصَارَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ لِزَوَالِ اسْمِ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ لَا يُبَاتُ فِيهِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ الْحِيطَانُ وَسَقَطَ السَّقْفُ حَنِثَ لِبَقَاءِ الِاسْمِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} فِي بُيُوتٍ مُنْهَدِمَةِ السُّقُوفِ (وَلِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ فَكَانَ السَّقْفُ وَصْفًا فِيهِ وَكَذَا إذَا بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ)

ص: 100

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَوَقَفَ عَلَى سَطْحِهَا حَنِثَ) لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ. وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ. قَالَ (وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزَهَا) وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ

وَأَنَّهُ صَارَ بَيْتًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ، وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَيْنِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْبَيْتِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَوَقَفَ عَلَى سَطْحِهَا) بِالصُّعُودِ إلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ (حَنِثَ لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ) لِأَنَّ الدَّارَ عِبَارَةٌ عَمَّا أَحَاطَ بِهِ الدَّائِرَةُ وَهُوَ حَاصِلٌ فِي عُلُوِّهَا وَسُفْلِهَا (أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ) وَلَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ السَّقْفَ مِنْ الْبِنَاءِ فَيُتَوَهَّمُ التَّنَاقُضُ بَيْنَ كَلَامَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ قَبْلُ وَالْبِنَاءُ وَصْفٌ فِيهَا، وَقِيلَ إذَا وَقَفَ عَلَى السَّطْحِ لَا يَحْنَثُ فِي عُرْفِنَا. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي النَّوَازِلِ: إنْ كَانَ الْحَالِفُ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ دُخُولًا فِي الدَّارِ (وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزَهَا يَحْنَثُ) ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ مُطْلَقًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ) يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ وَإِذَا أَغْلَقَ الْبَابَ يَبْقَى دَاخِلًا وَهُوَ مُسْقَفٌ.

ص: 101

(وَإِنْ وَقَفَ فِي طَاقِ الْبَابِ بِحَيْثُ إذَا أُغْلِقَ الْبَابُ كَانَ خَارِجًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْبَابَ لِإِحْرَازِ الدَّارِ وَمَا فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ الْخَارِجُ مِنْ الدَّارِ.

قَوْلُهُ (وَإِنْ وَقَفَ فِي طَاقِ الْبَابِ) ظَاهِرٌ.

ص: 102

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ بِالْقُعُودِ حَتَّى يَخْرُجَ ثُمَّ يَدْخُلَ) اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّ الدَّوَامَ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدُّخُولَ لَا دَوَامَ لَهُ لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ.

وَقَوْلُهُ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ) تَقْرِيرُهُ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ: يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ لِلدَّوَامِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ لَكِنْ فِيمَا لَهُ دَوَامٌ، وَالدُّخُولُ لَا دَوَامَ لَهُ لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ وَلَيْسَ لَهُ دَوَامٌ، وَإِطْلَاقُ الِانْتِقَالِ بَدَلَ الِانْفِصَالِ أَوْلَى لِكَوْنِهِ حَرَكَةَ أَبْنِيَةٍ تُسَمَّى نُقْلَةً.

ص: 103

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ فَنَزَعَهُ فِي الْحَالِ لَمْ يَحْنَثْ) وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ هَذِهِ الدَّابَّةَ وَهُوَ رَاكِبُهَا فَنَزَلَ مِنْ سَاعَتِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ سَاكِنُهَا فَأَخَذَ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَحْنَثُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ قَلَّ. وَلَنَا أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ زَمَانُ تَحْقِيقِهِ (فَإِنْ لَبِثَ عَلَى حَالِهِ سَاعَةً حَنِثَ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ لَهَا دَوَامٌ بِحُدُوثِ أَمْثَالِهَا؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهَا مُدَّةٌ يُقَالُ رَكِبْت يَوْمًا وَلَبِسْت يَوْمًا بِخِلَافِ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ دَخَلْت يَوْمًا بِمَعْنَى الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ وَلَوْ نَوَى الِابْتِدَاءَ الْخَالِصَ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُ زُفَرَ قِيَاسٌ وَقَوْلُهُمْ اسْتِحْسَانٌ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ الْأَفْعَالَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٍ يَقْبَلُ الِامْتِدَادَ وَضَرْبٍ لَا يَقْبَلُهُ وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا قَبُولُ التَّأْقِيتِ وَعَدَمِهِ فَمَا قَبِلَ التَّأْقِيتَ قَبِلَ الِامْتِدَادَ وَمَا لَا فَلَا. وَالِاسْتِدَامَةُ عَلَى الْمُمْتَدِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ فَلَا تَمْكُثْ قَاعِدًا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعِظُ النَّاسَ قَاعِدًا، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: إذَا قَالَ لَهَا كُلَّمَا رَكِبْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَكَثَتْ سَاعَةً يُمْكِنُهَا النُّزُولُ فِيهَا طَلُقَتْ، وَإِنْ مَكَثَتْ مِثْلَهَا طَلُقَتْ أُخْرَى لِأَنَّ لِلدَّوَامِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ، وَكَلِمَةُ كُلَّمَا تَعُمُّ الْأَفْعَالَ فَيَتَكَرَّرُ الْجَزَاءُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ. وَنُوقِضَ بِمَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا رَكِبْت دَابَّةً فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَرَكِبَ دَابَّةً فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ فِي الرُّكُوبِ، وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا لَلَزِمَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ فِيمَا يَمْتَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِنْشَاءُ الْخَالِصُ غَيْرَ مُرَادٍ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ إذَا كَانَ رَاكِبًا وَقْتَ الْيَمِينِ لَزِمَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُمْكِنُهُ النُّزُولُ وَالرُّكُوبُ دِرْهَمٌ لِكَوْنِ الْإِنْشَاءِ الْخَالِصِ غَيْرَ مُرَادٍ، وَإِنَّمَا قَالَ بِمَعْنَى الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ احْتِرَازٌ عَمَّا يُقَالُ فِي مَجَارِي كَلَامِهِمْ دَخَلْت يَوْمًا وَخَرَجْت يَوْمًا وَلَكِنْ لَا بِمَعْنَى الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ نَوَى الِابْتِدَاءَ الْخَالِصَ يَصْدُقُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامٍ) سَمَّاهُ مُحْتَمَلًا وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ لَا يَرْكَبُ حَقِيقَةً فِي الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ رَاكِبًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ رَاكِبًا فَالِابْتِدَاءُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِهِ.

ص: 104

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ وَأَهْلِهِ فِيهَا وَلَمْ يُرِدْ الرُّجُوعَ إلَيْهَا حَنِثَ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ سَاكِنَهَا بِبَقَاءِ أَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ فِيهَا عُرْفًا، فَإِنَّ السُّوقِيَّ عَامَّةَ نَهَارِهِ فِي السُّوقِ وَيَقُولُ أَسْكُنُ سِكَّةَ كَذَا، وَالْبَيْتُ وَالْمَحَلَّةُ

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ) يَعْنِي وَهُوَ مُتَأَهِّلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَخَرَجَ وَمَتَاعُهُ وَأَهْلُهُ فِيهَا. وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَأَهِّلًا بَلْ هُوَ مِمَّنْ يَعُولُهُ غَيْرُهُ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ وَالْمُتَأَهِّلُ إذَا حَلَفَ، فَأَمَّا إنْ حَلَفَ عَلَى الدَّارِ أَوْ الْمِصْرِ أَوْ الْقَرْيَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ أَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ يَكْتَفِي بِنَقْلِهِ إلَى مِصْرٍ آخَرَ عَلَى مَا رُوِيَ

ص: 105

بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ. وَلَوْ كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الْمِصْرِ لَا يَتَوَقَّفُ الْبِرُّ عَلَى نَقْلِ الْمَتَاعِ وَالْأَهْلِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاكِنًا فِي الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ عُرْفًا. بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالْقَرْيَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ كُلِّ الْمَتَاعِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ وَتَدٌ يَحْنَثُ لِأَنَّ السُّكْنَى قَدْ ثَبَتَ بِالْكُلِّ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ. يُعْتَبَرُ نَقْلُ الْأَكْثَرِ لِأَنَّ نَقْلَ الْكُلِّ قَدْ يَتَعَذَّرُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: يُعْتَبَرُ نَقْلُ مَا يَقُومُ بِهِ كَدَخْدَائِيَّتِهِ لِأَنَّ مَا وَرَاء ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّكْنَى. قَالُوا: هَذَا أَحْسَنُ وَأَرْفَقُ بِالنَّاسِ

عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ حَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى الدَّارِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْمِصْرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ لَيْسَ إلَّا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ النَّقْلِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ سُكْنَاهُ كَانَ بِجَمِيعِ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَتَاعِ، فَإِذَا أَخْرَجَ بَعْضَهُ انْتَفَى سُكْنَاهُ لِأَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْبَعْضِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْءٍ حَقِيقِيٍّ لَا اعْتِبَارِيٍّ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ.

ص: 106

وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ بِلَا تَأْخِيرٍ حَتَّى يَبَرَّ، فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى السِّكَّةِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ قَالُوا لَا يَبَرُّ، دَلِيلُهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ بِعِيَالِهِ مِنْ مِصْرِهِ فَمَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ يَبْقَى وَطَنُهُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ بِلَا تَأْخِيرٍ حَتَّى يَبَرَّ) وَقَالَ فِي الشَّافِي: إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ النَّقْلُ مِنْ سَاعَتِهِ بِعُذْرِ اللَّيْلِ أَوْ بِمَنْعِ ذِي سُلْطَانٍ أَوْ عَدَمِ مَوْضِعٍ آخَرَ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ حَالَةَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَدَّ عَلَيْهِ الْبَابَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّقْلَةِ أَوْ كَانَ شَرِيفًا أَوْ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى نَقْلِ الْمَتَاعِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَنْقُلُهَا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يَنْقُلُهَا وَيَلْحَقُ الْمَوْجُودُ بِالْمَعْدُومِ لِلْعَذَارِ. وَنُوقِضَ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ أَنَّ مَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَنْزِلِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَقَيَّدَ وَمَنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ يَحْنَثُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ فِي مَنْزِلِ وَالِدِهَا إنْ لَمْ تَحْضُرِي اللَّيْلَةَ مَنْزِلِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَنَعَهَا الْوَالِدُ عَنْ الْحُضُورِ حَنِثَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ شَرْطَ الْحِنْثِ السُّكْنَى، وَأَنَّهُ فِعْلٌ وُجُودِيٌّ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الِاخْتِيَارِ. وَلَا يَحْصُلُ الِاخْتِيَارُ مَعَ وُجُودِ الْمَوَانِعِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَمَّا فِي صُورَةِ النَّقْضِ فَشَرْطُ الْحِنْثِ عَدَمُ الْخُرُوجِ وَالْعَدَمُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اخْتِيَارٍ (فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى السِّكَّةِ أَوْ الْمَسْجِدِ قَالُوا: لَا يَبَرُّ) وَقِيلَ يَبَرُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ سَاكِنًا، وَدَلِيلُ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ بِعِيَالِهِ مِنْ مِصْرِهِ فَمَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ يَبْقَى وَطَنُهُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا. وَصُورَتُهُ: كُوفِيٌّ نَقَلَ عِيَالَهُ إلَى

ص: 107

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخُرُوجِ وَالْإِتْيَانِ وَالرُّكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَحَمَلَهُ فَأَخْرَجَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ مُضَافٌ إلَى الْآمِرِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَكِبَ دَابَّةً فَخَرَجَتْ (وَلَوْ أَخْرَجَهُ مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِ لِعَدَمِ الْأَمْرِ (وَلَوْ حَمَلَهُ بِرِضَاهُ لَا بِأَمْرِهِ لَا يَحْنَثُ)

مَكَّةَ لِيَتَوَطَّنَ بِهَا فَلَمَّا دَخَلَهَا وَتَوَطَّنَ بِهَا بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى خُرَاسَانَ فَمَرَّ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهَا رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ انْتَقَضَ بِوَطَنِهِ بِمَكَّةَ، وَإِنْ بَدَا لَهُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ أَنْ لَا يَسْتَوْطِنَ مَكَّةَ وَيَرْجِعَ إلَى خُرَاسَانَ فَمَرَّ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالْكُوفَةِ أَرْبَعًا لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ قَائِمٌ مَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ، فَكَذَا هَذَا.

وَفِي بَعْضِ الشُّرَّاحِ قَوْلُهُ قَالُوا لَا يَبَرُّ مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي طَلَبِ مَسْكَنٍ آخَرَ، أَمَّا إذَا كَانَ وَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا فَلَا يَحْنَثُ فِي الصَّحِيحِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِلْ إلَى السِّكَّةِ أَوْ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ طَرْحُ الْأَمْتِعَةِ فِي السِّكَّةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى لِلضَّرُورَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخُرُوجِ وَالْإِتْيَانِ وَالرُّكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)

ذِكْرُ الْخُرُوجِ هَاهُنَا ظَاهِرُ التَّنَاسُبِ لِأَنَّ لَهُ مُنَاسَبَةَ الْمُضَادَّةِ بِالدُّخُولِ، وَأَمَّا الْإِتْيَانُ وَالرُّكُوبُ فَمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَاسْتَصْحَبَهُمَا ذِكْرُ الْخُرُوجِ. قَوْلُهُ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ) ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الدَّارِ وَالْبَيْتِ. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَخْرَجَهُ مُكْرَهًا) صُورَتُهُ أَنْ يَحْمِلَهُ إنْسَانٌ فَيُخْرِجَهُ مُكْرَهًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْفِعْلُ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، وَأَمَّا إذَا هَدَّدَهُ غَيْرُهُ فَخَرَجَ خَوْفًا مِنْ الْمُكْرِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ لِوُجُودِ الْفِعْلِ مِنْهُ، ثُمَّ هَلْ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ إذَا حَمَلَ مُكْرَهًا، قِيلَ تَنْحَلُّ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَهَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ وَأَلْقَتْهُ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ وَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ، وَقِيلَ لَا تَنْحَلُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

ص: 108

فِي الصَّحِيحِ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ بِالْأَمْرِ لَا بِمُجَرَّدِ الرِّضَا.

قَالَ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ إلَّا إلَى جِنَازَةٍ فَخَرَجَ إلَيْهَا ثُمَّ أَتَى حَاجَةً أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْمَوْجُودَ خُرُوجٌ مُسْتَثْنًى، وَالْمُضِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ.

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ يُرِيدُهَا ثُمَّ رَجَعَ حَنِثَ) لِوُجُودِ الْخُرُوجِ عَلَى قَصْدِ مَكَّةَ وَهُوَ الشَّرْطُ، إذْ الْخُرُوجُ هُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتِيهَا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَدْخُلَهَا) لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُصُولِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا} وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذْهَبُ إلَيْهَا قِيلَ هُوَ كَالْإِتْيَانِ، وَقِيلَ هُوَ كَالْخُرُوجِ

وَقَوْلُهُ (فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّهُ يَحْنَثُ لِمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِامْتِنَاعِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ صَارَ كَالْآمِرِ بِالْإِخْرَاجِ.

وَقَوْلُهُ (وَالْمُضِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ) يَعْنِي أَنَّ الْخُرُوجَ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْتِقَالِ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ وَلَمْ يُوجَدْ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ) هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ: الْخُرُوجُ وَالْإِتْيَانُ وَالذَّهَابُ وَالْأَوَّلُ شَرْطُ الْحِنْثِ بِهِ الِانْفِصَالُ بِمُجَاوَزَةِ عِمْرَانِ مِصْرِهِ قَاصِدًا لِذَلِكَ دُونَ الْوُصُولِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَأَرَادَ بِهِ الِانْفِصَالَ.

وَالثَّانِي شَرْطُهُ الْوُصُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ} فَإِذَا وَصَلَ حَنِثَ سَوَاءٌ كَانَ قَاصِدًا أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَالثَّالِثُ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ قَالَ نَصْرُ بْنُ يَحْيَى هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِتْيَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِتْيَانُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ}

ص: 109

وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الزَّوَالِ.

(وَإِنْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّ الْبَصْرَةَ فَلَمْ يَأْتِهَا حَتَّى مَاتَ حَنِثَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ) لِأَنَّ الْبِرَّ قَبْلَ ذَلِكَ مَرْجُوٌّ.

(وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ غَدًا إنْ اسْتَطَاعَ فَهَذَا عَلَى اسْتِطَاعَةِ الصِّحَّةِ دُونَ الْقُدْرَةِ، وَفَسَّرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ: إذَا لَمْ يَمْرَضْ وَلَمْ يَمْنَعْهُ السُّلْطَانُ وَلَمْ يَجِئْ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِهِ فَلَمْ يَأْتِهِ حَنِثَ، وَإِنْ عَنَى اسْتِطَاعَةَ الْقَضَاءِ دَيْنٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى) وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِطَاعَةِ فِيمَا يُقَارِنُ الْفِعْلَ وَيُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَى سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ فِي الْمُتَعَارَفِ. فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَتَصِحُّ نِيَّةُ الْأَوَّلِ دِيَانَةً لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ثُمَّ قِيلَ وَتَصِحُّ قَضَاءً أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا، وَقِيلَ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ.

وَالْإِذْهَابُ الْإِزَالَةُ، فَيَكُونُ الذَّهَابُ زَوَالًا فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوُصُولُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الزَّوَالِ).

(وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ غَدًا إنْ اسْتَطَاعَ فَهَذَا عَلَى اسْتِطَاعَةِ الصِّحَّةِ دُونَ الْقُدْرَةِ) اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ تُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدِهِمَا صِحَّةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} وَفَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. وَالثَّانِي الْقُدْرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَهِيَ نَوْعٌ عَلَى حِدَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْفِعْلُ عِنْدَ إرَادَتِهِ إرَادَةً جَازِمَةً يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ عِنْدَنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} إذَا عَرَفْت هَذَا فَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَلَامُهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَإِنْ عَنَى الثَّانِيَ وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْتِطَاعَةِ الْقَضَاءِ صَدَقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى أَيْ أَرَادَ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ. وَقِيلَ يَصْدُقُ قَضَاءً أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ. وَقِيلَ لَا يَصِحُّ قَضَاءً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَى نَفْسِهِ.

ص: 110

(وَمَنْ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ فِي كُلِّ خُرُوجٍ) لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى خُرُوجٌ مَقْرُونٌ بِالْإِذْنِ، وَمَا وَرَاءَهُ دَاخِلٌ فِي الْحَظْرِ الْعَامِّ. وَلَوْ نَوَى الْإِذْنَ مَرَّةً يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ

وَلَوْ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ احْتَاجَ إلَى الْإِذْنِ لِكُلِّ خُرْجَةٍ) حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بِلَا إذْنٍ حَنِثَ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى خُرُوجٌ مَقْرُونٌ بِالْإِذْنِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ وَاَللَّهِ لَا تَخْرُجِي إلَّا خُرُوجًا مُلْصَقًا بِإِذْنِي لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَيَقْتَضِي مُلْصَقًا وَمُلْصَقًا بِهِ فَيَكُونُ مَا وَرَاءَهُ: أَيْ مَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى دَاخِلًا تَحْتَ الْحَظْرِ الْعَامِّ (وَلَوْ نَوَى الْإِذْنَ مَرَّةً صَدَقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ) لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْبَاءِ. وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ

ص: 111

(وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ هَذِهِ كَلِمَةُ غَايَةٍ فَتَنْتَهِي الْيَمِينُ بِهِ كَمَا إذَا قَالَ حَتَّى آذَنَ لَك.

آذَنَ لَك كَفَى إذْنٌ وَاحِدٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} وَكَانَ تَكْرَارُ الْإِذْنِ لَازِمًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} وَتَمَامُ التَّقْدِيرِ فِيهِ ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَنْوَارِ وَالتَّقْدِيرِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ هَذِهِ كَلِمَةُ غَايَةٍ: أَيْ كَلِمَةٌ تُفِيدُ مَعْنَى الْغَايَةِ لِأَنَّ إلَّا أَنَّ لَيْسَ مَوْضُوعًا لَهَا بَلْ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَتَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِذْنِ حَتَّى يُسْتَثْنَى الْإِذْنُ مِنْهُ فَيُجْعَلُ مَجَازًا عَنْ حَتَّى لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ مَا قَبْلَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا بَعْدَهَا، كَمَا أَنَّ حُكْمَ مَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ يُخَالِفُ حُكْمَ مَا بَعْدَهُ.

ص: 112

(وَلَوْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ الْخُرُوجَ فَقَالَ إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَجَلَسَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ) وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ رَجُلٌ ضَرْبَ عَبْدِهِ فَقَالَ لَهُ آخَرُ إنْ ضَرَبْته فَعَبْدِي حُرٌّ فَتَرَكَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ وَهَذِهِ تُسَمَّى يَمِينَ فَوْرٍ. وَتَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله بِإِظْهَارِهِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ الرَّدُّ عَنْ تِلْكَ الضَّرْبَةِ وَالْخُرْجَةِ عُرْفًا، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَيْهِ. (وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ

قَالَ (وَلَوْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ الْخُرُوجَ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ (وَتُسَمَّى هَذِهِ الْيَمِينُ يَمِينَ فَوْرٍ) وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ فَارَتْ الْقِدْرُ إذَا غَلَتْ، فَاسْتُعِيرَ لِلسُّرْعَةِ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَا لَبْثَ، فَقِيلَ جَاءَ فُلَانٌ وَخَرَجَ فُلَانٌ مِنْ فَوْرِهِ: أَيْ مِنْ سَاعَتِهِ (وَتَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله بِإِظْهَارِهِ) أَيْ بِاسْتِنْبَاطِهِ، وَكَانَ النَّاسُ قَبْلَهُ يَعْلَمُونَ الْيَمِينَ عَلَى نَوْعَيْنِ: مُؤَبَّدَةٍ، وَمُؤَقَّتَةٍ لَفْظًا. ثُمَّ اسْتَنْبَطَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا النَّوْعَ الثَّالِثَ وَهُوَ الْمُؤَبَّدُ لَفْظًا وَالْمُؤَقَّتُ مَعْنًى، وَقَدْ أَخَذَهُ مِنْ

ص: 113

اجْلِسْ فَتَغَدَّ عِنْدِي قَالَ إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَخَرَجَ فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ وَتَغَدَّى لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ كَلَامَهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ فَيَنْطَبِقُ عَلَى السُّؤَالِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْغَدَاءِ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ فَيُجْعَلُ مُبْتَدَءًا.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةَ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ مَدْيُونٍ أَوْ غَيْرِ مَدْيُونٍ

حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِهِ رضي الله عنهما حِينَ دُعِيَا إلَى نُصْرَةِ رَجُلٍ فَحَلَفَا أَنْ لَا يَنْصُرَاهُ ثُمَّ نَصَرَاهُ وَلَمْ يَحْنَثَا، وَاعْتُبِرَ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ فَإِنَّ الْحَالِفَ فِي الْعَادَةِ يَقْصِدُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَنْعَهُمَا عَنْ الْخُرْجَةِ الَّتِي تَهَيَّأَتْ لَهَا إلَّا مِنْ الْخُرُوجِ عَلَى التَّأْيِيدِ، فَإِذَا عَادَتْ فَقَدْ تَرَكَتْ تِلْكَ الْخُرْجَةَ وَانْتَهَتْ الْيَمِينُ فَلَا يَحْنَثُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ خَرَجَتْ وَالْعُرْفُ لَهُ اعْتِبَارٌ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ؛ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ الرَّجُلُ ضَرْبَ عَبْدِهِ فَقَالَ آخَرُ إنْ ضَرَبْته فَعَبْدِي حُرٌّ يَتَقَيَّدُ بِتِلْكَ الضَّرْبَةِ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لَهُ اجْلِسْ تَغَدَّ عِنْدِي فَقَالَ إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ. وَلَوْ قَالَ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ يُجْعَلُ مُبْتَدِئًا لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى مِقْدَارِ الْجَوَابِ. فَفِي تَطْبِيقِهِ عَلَى السُّؤَالِ إلْغَاءُ الزِّيَادَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الزِّيَادَةُ لَا تَضُرُّ كَوْنُهُ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} فِي جَوَابِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} كَيْفَ زَادَ عَلَى مِقْدَارِ الْجَوَابِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ عَصَايَ وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ كَوْنِهِ جَوَابًا. أُجِيبَ بِأَنَّ كَلِمَةَ " مَا " تُسْتَعْمَلُ لِلسُّؤَالِ عَنْ الذَّاتِ وَالسُّؤَالِ عَنْ الصِّفَاتِ، وَحَيْثُ وَقَعَتْ فِي حَيِّزِ السُّؤَالِ اشْتَبَهَ عَلَى مُوسَى عليه السلام أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ الذَّاتِ أَوْ الصِّفَةِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِيَكُونَ مُجِيبًا عَلَى كُلِّ حَالٍ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: إلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَاغَةِ قَالُوا: إنَّ " مَا " يُسْأَلُ بِهَا عَنْ وَصْفِ الْعُقَلَاءِ وَالْعَصَا لَمْ تَكُنْ عَاقِلَةً سَلَّمْنَا، وَلَكِنْ الْأَفْعَالُ الْمُسْنَدَةُ إلَى مُوسَى عليه السلام لَا تَكُونُ أَوْصَافًا؛ وَلَئِنْ كَانَتْ لَا تَكُونُ أَوْصَافًا لِلْعَصَا. وَأَقُولُ: الزِّيَادَةُ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ لَا تَصْرِفُهُ عَنْ كَوْنِهِ جَوَابًا لَهُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ كَلَامًا مُبْتَدَأً إذَا كَانَ ثَمَّةَ مَصْرِفٌ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ إعْمَالًا لِلزِّيَادَةِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذَلِكَ فَلَمْ يُصْرَفْ عَنْ كَوْنِهِ جَوَابًا يَلُوحُ إلَى هَذَا قَوْلُهُ فَيُجْعَلُ مُبْتَدِئًا.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ) الدَّابَّةُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ مَا يَدِبُّ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ:

ص: 114

لَمْ يَحْنَثْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَا يَحْنَثُ وَإِنَّ نَوَى لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِيهِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَنْوِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِلْمَوْلَى لَكِنَّهُ يُضَافُ إلَى الْعَبْدِ عُرْفًا، وَكَذَا شَرْعًا قَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَهُوَ لِلْبَائِعِ» الْحَدِيثَ فَتَخْتَلُّ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا: يَحْنَثُ إذَا نَوَاهُ لِاخْتِلَالِ الْإِضَافَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ إذْ الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ لِلسَّيِّدِ عِنْدَهُمَا.

أَيْ يَتَحَرَّكُ مَشْيًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وَيَتَعَلَّقُ الرُّكُوبُ بِهَا بِعَيْنِ مَا يَرْكَبُ مِنْهَا مُرَادًا كَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ وَالْحِمَارِ وَالْبَقَرِ وَالْجَامُوسِ وَالْفِيلِ فِي الْقِيَاسِ. وَاسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ فِي عَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى مَا يُرْكَبُ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ وَهُوَ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ أَخْذًا مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} ذَكَرَ مِنَّةَ الرُّكُوبِ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ: فَأَمَّا فِي الْأَنْعَامِ فَقَدْ ذَكَرَ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} الْآيَةَ، وَبِالْعُرْفِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ رَكِبَ فُلَانٌ دَابَّةً لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ رَكِبَ الْبَقَرَ أَوْ الْفِيلَ وَإِنْ كَانَ يَرْكَبُ فِي بِلَادِ الْهِنْدِ، إلَّا إذَا نَوَى جَمِيعَ ذَلِكَ فَيَكُونُ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةَ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ مَدْيُونٍ أَوْ غَيْرِ مَدْيُونٍ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ، فَأَمَّا إذَا نَوَى وَرَكِبَ دَابَّةَ الْعَبْدِ فَيَحْنَثُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ نَوَى لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِيهِ عِنْدَهُ: أَيْ فِيمَا مَلَكَهُ الْعَبْدُ الْمَدْيُونُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَ عَبْدِهِ لَا يُعْتَقُ وَتَلْمَحُ مِمَّا ذَكَرْنَا الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي أَظْهَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَنْوِهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِلْمَوْلَى لَكِنَّهُ يُضَافُ إلَى الْعَبْدِ عُرْفًا حَيْثُ يُقَالُ دَابَّةُ عَبْدِ فُلَانٍ وَلَمْ يَقُلْ دَابَّةَ فُلَانٍ. وَشَرْعًا قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِمَوْلَاهُ» فَتَخْتَلُّ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْنَثُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَهِيَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ إذَا نَوَى.

وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى عِنْدَهُ إلَّا أَنَّهُ يُضَافُ إلَى الْعَبْدِ فَتَخْتَلُّ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَوْلَى فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْإِضَافَةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لِلسَّيِّدِ إذْ الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ لِلسَّيِّدِ عِنْدَهُمَا.

ص: 115

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ)

بَابُ الْيَمِينِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ)

قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَوَّلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ الْمَسْكَنُ ثُمَّ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ الْيَمِينِ عَلَيْهِمَا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَصِلُ إلَى جَوْفِ الْإِنْسَانِ لَا يَخْلُو عَنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: مَأْكُولٍ، وَمَشْرُوبٍ. وَمَمْصُوصٍ، وَمَلْعُوقٍ؛ فَالْمَأْكُولُ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ وَالْهَشْمُ لَا الْمَمْضُوغُ، حَتَّى لَوْ ابْتَلَعَ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ مِنْ غَيْرِ مَضْغٍ يُسَمَّى آكِلًا. وَالْمَشْرُوبُ مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ، فَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا فَشَرِبَهُ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُهُ فَثَرَدَ فِيهِ وَأَكَلَ لَمْ يَحْنَثْ.

ص: 116

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَهُوَ عَلَى ثَمَرِهَا) لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى مَا لَا يُؤْكَلُ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَهُوَ الثَّمَرُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ فَيَصْلُحُ مَجَازًا عَنْهُ، لَكِنَّ الشَّرْطَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ بِصُنْعِهِ جَدِيدَةً حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِالنَّبِيذِ وَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ الْمَطْبُوخِ.

وَالْمَمْصُوصُ هُوَ مَا يَحْصُلُ بِعِلَاجِ اللَّهَاةِ؛ فَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا فَمَضَغَهُ وَرَمَى ثِقَلَهُ وَابْتَلَعَ مَاءً لَمْ يَحْنَثْ لَا فِي الْأَكْلِ وَلَا فِي الشُّرْبِ. وَالْمَعْلُوقُ هُوَ مَا يُتَنَاوَلُ بِالْجَسِّ بِالْأُصْبُعِ وَالشِّفَاهِ، فَإِذَا عُرِفَ هَذَا رَجَعْنَا إلَى مَا فِي الْكِتَابِ، فَقَوْلُهُ فَهُوَ عَلَى ثَمَرِهَا: يَعْنِي إذَا كَانَتْ لَهَا ثَمَرَةٌ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَالْيَمِينُ تَقَعُ عَلَى ثَمَنِهَا لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى مَا لَا يُؤْكَلُ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إذَا تَعَذَّرَتْ يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ صَالِحٌ لِكَوْنِهِ

ص: 117

(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَصَارَ رُطَبًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ أَوْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَصَارَ تَمْرًا أَوْ صَارَ اللَّبَنُ شِيرَازًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ صِفَةَ الْبُسُورَةِ وَالرُّطُوبَةِ دَاعِيَةٌ إلَى الْيَمِينِ، وَكَذَا كَوْنُهُ لَبَنًا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ، وَلِأَنَّ اللَّبَنَ مَأْكُولٌ فَلَا يَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ أَوْ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ لِأَنَّ هِجْرَانَ الْمُسْلِمِ بِمَنْعِ الْكَلَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الدَّاعِي دَاعِيًا فِي الشَّرْعِ.

مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ: أَيْ مَا لَا يُؤْكَلُ سَبَبٌ لَهُ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَذِكْرُ السَّبَبِ وَإِرَادَةُ الْمُسَبَّبِ مَجَازٌ شَائِعٌ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ بِصَنْعَةٍ جَدِيدَةٍ لِأَنَّ مَا يُصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَرِ لَيْسَ بِثَمَرٍ فَلَا يَحْنَثُ بِالنَّبِيذِ وَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ الْمَطْبُوخِ، وَقَيَّدَ بِالْمَطْبُوخِ وَإِنْ كَانَ الدِّبْسُ لَا يَكُونُ إلَّا مَطْبُوخًا احْتِرَازًا عَمَّا إذَا أَطْلَقَ اسْمَ الدِّبْسِ عَلَى مَا يَسِيلُ مِنْ الرُّطَبِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ) ظَاهِرٌ، وَكَلَامُهُ يُشِيرُ إلَى قَاعِدَةٍ هِيَ أَنَّ الْيَمِينَ إذَا انْعَقَدَتْ عَلَى عَيْنٍ بِوَصْفٍ يَدْعُو ذَلِكَ الْوَصْفُ إلَى الْيَمِينِ فَيَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِبَقَاءِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَحْنَثُ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ أَوْ الرُّطَبِ أَوْ اللَّبَنِ فَتَغَيَّرَ ذَلِكَ الْوَصْفُ بِصَيْرُورَةِ الْبُسْرِ رُطَبًا وَالرُّطَبِ تَمْرًا وَاللَّبَنِ شِيرَازًا وَهُوَ الَّذِي اُسْتُخْرِجَ مَاؤُهُ فَصَارَ كَالْفَالُوذَجِ الْخَاثِرِ. فَإِنْ قِيلَ:

ص: 118

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ هَذَا الْحَمَلِ فَأَكَلَ بَعْدَمَا صَارَ كَبْشًا حَنِثَ) لِأَنَّ صِفَةَ الصِّغَرِ فِي هَذَا لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ عَنْهُ أَكْثَرُ امْتِنَاعًا عَنْ لَحْمِ الْكَبْشِ.

فَعَلَى هَذَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ أَوْ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ لِأَنَّ الصِّبَا مَظِنَّةُ السَّفَهِ وَالشَّبَابُ شُعْبَةٌ مِنْ الْجُنُونِ فَكَانَا وَصْفَيْنِ دَاعِيَيْنِ إلَى الْيَمِينِ وَقَدْ زَالَا عِنْدَ الشَّيْخُوخَةِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَحْنَثَ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ إلَخْ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمَذْكُورَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ لَكِنْ الشَّرْعُ أَسْقَطَ اعْتِبَارَهَا لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ هِجْرَانِ الْمُسْلِمِ بِمَنْعِ الْكَلَامِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» الْحَدِيثَ. وَالْمَهْجُورُ شَرْعًا كَالْمَهْجُورِ عَادَةً، فَانْعَقَدَتْ الْيَمِينُ عَلَى الذَّاتِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ حَالَةَ الشَّيْخُوخَةِ فَيَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ. وَاعْتُرِضَ عَلَى دَلِيلِ الْكِتَابِ بِأَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ هِجْرَانَ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، لَكِنْ الْحَرَامُ يَقَعُ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَيَشْرَبَنَّ الْيَوْمَ خَمْرًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْحَقِيقَةَ يَجُوزُ أَنْ تُتْرَكَ بِهِجْرَانِ الشَّرْعِ فِيمَا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مُحْتَمِلًا لِلْمَجَازِ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصَّلَاحِ، وَأَمَّا أَنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ عَلَى الْحَرَامِ الْمَحْضِ فَلَا كَلَامَ فِيهِ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ هَذَا الْحَمَلِ) ظَاهِرٌ.

ص: 119

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبُسْرٍ.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا وَلَا بُسْرًا فَأَكَلَ مُذَنِّبًا حَنِثَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا لَا يَحْنَثُ فِي الرُّطَبِ) يَعْنِي بِالْبُسْرِ الْمُذَنِّبِ وَلَا فِي الْبُسْرِ بِالرُّطَبِ الْمُذَنِّبِ لِأَنَّ الرُّطَبَ الْمُذَنِّبَ يُسَمَّى رُطَبًا وَالْبُسْرَ الْمُذَنِّبَ يُسَمَّى بُسْرًا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الشِّرَاءِ. وَلَهُ أَنَّ الرُّطَبَ الْمُذَنِّبَ مَا يَكُونُ فِي ذَنَبِهِ قَلِيلُ بُسْرٍ، وَالْبُسْرَ الْمُذَنِّبَ عَلَى عَكْسِهِ فَيَكُونُ آكِلُهُ آكِلَ الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مَقْصُودٌ فِي الْأَكْلِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ يُصَادِفُ الْجُمْلَةَ فَيَتْبَعُ الْقَلِيلُ فِيهِ الْكَثِيرَ. (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي رُطَبًا فَاشْتَرَى كِبَاسَةَ بُسْرٍ فِيهَا رُطَبٌ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُصَادِفُ الْجُمْلَةَ وَالْمَغْلُوبَ تَابِعٌ (وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْأَكْلِ يَحْنَثُ) لِأَنَّ الْأَكْلَ يُصَادِفُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَقْصُودًا وَصَارَ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَعِيرًا أَوْ لَا يَأْكُلُهُ فَاشْتَرَى حِنْطَةً فِيهَا حَبَّاتُ شَعِيرٍ وَأَكَلَهَا يَحْنَثُ فِي الْأَكْلِ دُونَ الشِّرَاءِ لِمَا قُلْنَا.

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذْنِبًا بِكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ مَا بَدَا الْإِرْطَابُ مِنْ قِبَلِ ذَنَبِهِ وَهُوَ مَا سَفَلَ مِنْ جَانِبِ الْقِمْعِ وَالْعَلَّاقَةِ وَتَفْسِيرُهُ هُوَ الَّذِي عَامَّتُهُ بُسْرٌ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ الرُّطَبِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ فِي قَوْلِهِمْ. وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا مُذْنِبًا وَهُوَ الَّذِي عَامَّتُهُ رُطَبٌ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبُسْرِ حَنِثَ فِي قَوْلِهِمْ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبُسْرِ حَنِثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَحْنَثُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ بُسْرًا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الرُّطَبِ حَنِثَ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا عَلَى رِوَايَةِ الْكِتَابِ. وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ: لَهُمَا أَنَّ الرُّطَبَ الْمُذْنِبَ يُسَمَّى رُطَبًا، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا وَأَكَلَ الرُّطَبَ الْمُذْنِبَ فَقَدْ أَكَلَ الرُّطَبَ لَا الْبُسْرَ فَلَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ وَصَارَ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي رُطَبًا فَاشْتَرَى بُسْرًا مُذْنِبًا لَا يَحْنَثُ.

(وَلَهُ أَنَّ الرُّطَبَ الْمُذْنِبَ مَا يَكُونُ فِي ذَنَبِهِ قَلِيلُ بُسْرٍ وَالْبُسْرُ الْمُذْنِبُ عَلَى عَكْسِهِ فَيَكُونُ آكِلُهُ آكِلَ الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ) فَيَحْنَثُ فِي الصُّورَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَالِبًا وَالْآخَرُ مَغْلُوبًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَيَّزَهُ فَأَكَلَهُ حَنِثَ بِالِاتِّفَاقِ. فَكَذَا إذَا أَكَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ. وَاسْتُشْكِلَ بِمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ هَذَا اللَّبَنَ فَصَبَّ فِيهِ مَاءً وَالْمَاءُ غَالِبٌ فَشَرِبَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ شَرِبَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَزِيَادَةً، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ (وَكُلُّ وَاحِدٍ مَقْصُودٌ فِي الْأَكْلِ) يَعْنِي بِخِلَافِ صُورَةِ اللَّبَنِ، فَإِنَّ اللَّبَنَ لَمَّا صُبَّ فِيهِ الْمَاءُ شَاعَ وَمَاعَ فِي جَمِيعِ. أَجْزَاءِ. اللَّبَنِ فَصَارَ مُسْتَهْلَكًا. وَلِهَذَا لَا يُرَى مَكَانُهُ فَلَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا بِالشُّرْبِ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الشِّرَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا صُورَةَ النِّزَاعِ عَلَى الشِّرَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ:(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي رُطَبًا)

ص: 120

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لَا يَحْنَثُ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّهُ يُسَمَّى لَحْمًا فِي الْقُرْآنِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّ اللَّحْمَ مُنْشَؤُهُ مِنْ الدَّمِ وَلَا دَمَ فِيهِ لِسُكُونِهِ فِي الْمَاءِ

كَالْبَيَانِ لِلْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لَا يَحْنَثُ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا تَنَاوَلَ أَفْرَادًا وَفِي بَعْضِهَا نَوْعُ قَصْرٍ لَا يَدْخُلُ الْقَاصِرُ تَحْتَهُ، وَلَحْمُ السَّمَكِ فِيهِ قُصُورٌ لِأَنَّ اللَّحْمَ مِنْ الِالْتِحَامِ وَالِالْتِحَامُ بِالِاشْتِدَادِ وَالِاشْتِدَادُ بِالدَّمِ وَالدَّمُ فِي السَّمَكِ ضَعِيفٌ.

وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: لَا دَمَ فِيهِ، جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ

ص: 121

(وَإِنْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ لَحْمَ إنْسَانٍ يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقِيٌّ إلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ. وَالْيَمِينُ قَدْ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ مِنْ الْحَرَامِ

لِكَوْنِهِ يَسْكُنُ الْمَاءَ فَكَانَ مَعْنَى اللَّحْمِ قَاصِرًا فِيهِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ وَمَوْضُوعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ (وَإِنْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ إنْسَانٍ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقِيٌّ إلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ، وَالْيَمِينُ قَدْ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ مِنْ الْحَرَامِ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَلَا يُنَاطُ وُجُوبُهَا بِمَا هُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ، وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْإِنْسَانِ حَرَامٌ مَحْضٌ فَكَيْفَ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِهِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ مُغَالَطَةٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بَعْدَ يَمِينٍ نُقِضَتْ بِالْحِنْثِ وَقَدْ وُجِدَتْ، وَكَوْنُ الْحِنْثِ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ

ص: 122

(وَكَذَا إذَا أَكَلَ كَبِدًا أَوْ كَرِشًا) لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً فَإِنَّ نُمُوَّهُ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ. وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ لَحْمًا.

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْتَرِي شَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا فِي شَحْمِ الْبَطْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يَحْنَثُ فِي شَحْمِ الظَّهْرِ أَيْضًا) وَهُوَ اللَّحْمُ السَّمِينُ لِوُجُودِ خَاصِّيَّةِ الشَّحْمِ فِيهِ وَهُوَ الذَّوْبُ بِالنَّارِ. وَلَهُ أَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً؛ أَلَا تَرَاهُ أَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَهُ وَتَحْصُلُ بِهِ قُوَّتُهُ وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى أَكْلِ اللَّحْمِ، وَلَا يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى بَيْعِ الشَّحْمِ، وَقِيلَ هَذَا بِالْعَرَبِيَّةِ، فَأَمَّا اسْمُ بِيه بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَقَعُ عَلَى شَحْمِ الظَّهْرِ بِحَالٍ.

أَوْ حَرَامٍ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَشَارَ إلَى هَذَا قَوْلُهُ وَالْيَمِينُ قَدْ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ مِنْ الْحَرَامِ. قَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا أَكَلَ كَبِدًا) ظَاهِرٌ.

ص: 123

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا أَوْ شَحْمًا فَاشْتَرَى أَلْيَةً أَوْ أَكَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ نَوْعٌ ثَالِثٌ حَتَّى لَا يُسْتَعْمَلَ اسْتِعْمَالَ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 124

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْضِمَهَا، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: إنْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا حَنِثَ أَيْضًا) لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْهُ عُرْفًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً مُسْتَعْمَلَةً فَإِنَّهَا تُقْلَى وَتُغْلَى وَتُؤْكَلُ قَضْمًا وَهِيَ قَاضِيَةٌ عَلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ. وَلَوْ قَضَمَهَا حَنِثَ عِنْدَهُمَا هُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْمَجَازِ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي الْخُبْزِ حَنِثَ أَيْضًا.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْضِمَهَا) وَالْقَضْمُ: الْأَكْلُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ مِنْ بَابِ لَبِسَ، وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْحِنْطَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِأَنَّهُ إذَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى أَكْلِ حِنْطَةٍ لَا بِعَيْنِهَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْجَوَابِ عِنْدَهُمَا. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَكَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي أَيْمَانِ الْأَصْلِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَوْجُهٍ: أَحَدِهَا أَنْ لَا يَأْكُلَ حَبًّا كَمَا هِيَ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا أَوْ سَوِيقِهَا لَا يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ أَرَادَ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَيَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِهَا. وَالثَّانِي أَنْ يَنْوِيَ أَنْ لَا يَأْكُلَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ عَيْنِهَا كَذَلِكَ. وَالثَّالِثِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ فَأَكَلَ

ص: 125

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهِ حَنِثَ) لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَانْصَرَفَ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ (وَلَوْ اسْتَفَّهُ كَمَا هُوَ لَا يَحْنَثُ) هُوَ الصَّحِيحُ لِتَعَيُّنِ الْمَجَازِ مُرَادًا.

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُعْتَادُ أَهْلُ الْمِصْرِ أَكْلَهُ خُبْزًا) وَذَلِكَ خُبْزُ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ (وَلَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِ الْقَطَائِفِ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خُبْزًا مُطْلَقًا إلَّا إذَا نَوَاهُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ (وَكَذَا لَوْ أَكَلَ خُبْزَ الْأُرْزِ بِالْعِرَاقِ لَمْ يَحْنَثْ)

مِنْ خُبْزِهَا لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا. وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ. وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ وَعِنْدَهُمَا بِالْعَكْسِ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ.

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهِ حَنِثَ) بِالِاتِّفَاقِ (لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ) فَكَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُتَعَذِّرَةً فَيُصَارُ إلَى الْمَجَازِ وَهُوَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ (وَلَوْ اسْتَفَّهُ) أَيْ أَكَلَهُ مِنْ غَيْرِ مَضْغٍ (لَا يَحْنَثُ هُوَ الصَّحِيحُ) وَإِنَّمَا قَالَ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ أَكَلَ الدَّقِيقَ حَقِيقَةً، وَالْعُرْفُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ فَالْحَقِيقَةُ لَا تَسْقُطُ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ عَيْنَ الدَّقِيقِ مَأْكُولٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ مَهْجُورَةٌ، وَلَمَّا انْصَرَفَتْ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ لِلْعُرْفِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ، كَمَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ نَكَحْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَزَنَى بِهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَمَّا انْصَرَفَ إلَى الْعَقْدِ لَمْ يَتَنَاوَلْ حَقِيقَةَ الْوَطْءِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا) عَلَى مَا ذَكَرَهُ ظَاهِرٌ. وَطَبَرِسْتَانُ هِيَ آمُلُ وَوِلَايَتُهَا، وَقِيلَ أَصْلُهَا

ص: 126

لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ عِنْدَهُمْ حَتَّى لَوْ كَانَ بِطَبَرِسْتَانَ أَوْ فِي بَلْدَةٍ طَعَامُهُمْ ذَلِكَ يَحْنَثُ.

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشِّوَاءَ فَهُوَ عَلَى اللَّحْمِ دُونَ الْبَاذِنْجَانِ وَالْجَزَرِ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ اللَّحْمُ الْمَشْوِيُّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَا يُشْوَى مِنْ بِيضٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمَكَانِ الْحَقِيقَةِ.

(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الطَّبِيخَ فَهُوَ عَلَى مَا يُطْبَخُ مِنْ اللَّحْمِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْمِيمَ مُتَعَذِّرٌ فَيُصْرَفُ إلَى خَاصٍّ هُوَ مُتَعَارَفٌ وَهُوَ اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ بِالْمَاءِ إلَّا إذَا نَوَى غَيْرَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا، وَإِنْ أَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ يَحْنَثْ لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى طَبِيخًا.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ وَيُبَاعُ فِي الْمِصْرِ) وَيُقَالُ يُكْنَسُ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا فَهُوَ عَلَى

تَبَرِسْتَانُ لِأَنَّ أَهْلَهَا يُحَارِبُونَ بِالتِّبْرِ وَهُوَ الْفَاسُ فَعَرَّبُوهُ إلَى طَبَرِسْتَانَ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشِّوَاءَ) ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْمِيمَ مُتَعَذِّرٌ) لِأَنَّ الدَّوَاءَ الْمُسْهِلَ مَطْبُوخٌ وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ (فَيُصْرَفُ إلَى خَاصٍّ هُوَ مُتَعَارَفٌ وَهُوَ اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ بِالْمَاءِ) قَالُوا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ بِالْمَاءِ لِأَنَّ الْقَلِيلَةَ الْيَابِسَةَ فَلَا تُسَمَّى مَطْبُوخًا فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهَا.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ) أَيْ يُطَمُّ بِهِ التَّنُّورُ: يَعْنِي يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ كَبَسَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ إذَا أَدْخَلَهُ فِيهِ (وَيُبَاعُ فِي الْمِصْرِ) لِأَنَّ رَأْسَ الْجَرَادِ رَأْسٌ حَقِيقَةً وَلَيْسَ بِمُرَادٍ فَيُصْرَفُ

ص: 127

رُءُوسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الْغَنَمِ خَاصَّةً، وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ كَانَ الْعُرْفُ فِي زَمَنِهِ فِيهِمَا وَفِي زَمَنِهِمَا فِي الْغَنَمِ خَاصَّةً وَفِي زَمَانِنَا يُفْتَى عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُخْتَصَرِ.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً فَأَكَلَ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا أَوْ رُطَبًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَكَلَ تُفَّاحًا أَوْ بِطِّيخًا وَمِشْمِشًا حَنِثَ،

إلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ، وَفَسَّرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَالْإِنْسَانِ لَا يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَعَ ذَلِكَ يَحْنَثُ بِالْأَكْلِ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، وَأُجِيبَ بِمَا حَاصِلُهُ الْفَرْقُ بِأَنَّ الرَّأْسَ غَيْرُ مَأْكُولٍ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ لِأَنَّ مِنْهَا الْعَظْمَ فَكَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُتَعَذِّرَةً فَيُصَارُ إلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ وَيُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَأَمَّا اللَّحْمُ فَيُؤْكَلُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَكَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُمْكِنَةً فَلَا تُتْرَكُ فَيَحْنَثُ بِأَكْلِ لَحْمِ الْإِنْسَانِ وَالْخِنْزِيرِ. فَإِنْ قُلْت: الْحَقِيقَةُ إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَعَذِّرَةً فَهِيَ مَهْجُورَةٌ شَرْعًا، وَالْمَهْجُورُ شَرْعًا كَالْمَهْجُورِ عَادَةً، وَفِي الْمَهْجُورِ شَرْعًا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ كَمَا فِي الْمَهْجُورِ عَادَةً. قُلْت: الْمَهْجُورُ شَرْعًا هُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِهِ مَعْمُولًا بِهِ كَالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ كَلَامِ الصَّبِيِّ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لَا يَطَّرِدُ فِي الشِّرَاءِ فَإِنَّ الرَّأْسَ يُشْتَرَى بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَلَمْ تَكُنْ الْحَقِيقَةُ مُتَعَذِّرَةً. وَأُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ الرُّءُوسِ مَا لَا يَجُوزُ إضَافَةُ الشِّرَاءِ إلَيْهِ كَرَأْسِ النَّمْلِ وَالذُّبَابِ وَالْآدَمِيِّ فَكَانَتْ مُتَعَذِّرَةً.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً فَأَكَلَ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا أَوْ رُطَبًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَكَلَ تُفَّاحًا أَوْ بِطِّيخًا أَوْ مِشْمِشًا حَنِثَ،

ص: 128

وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: حَنِثَ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ أَيْضًا) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفَاكِهَةَ اسْمٌ لِمَا يُتَفَكَّهُ بِهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ: أَيْ يُتَنَعَّمُ بِهِ زِيَادَةً عَلَى الْمُعْتَادِ، وَالرُّطَبُ وَالْيَابِسُ فِيهِ سَوَاءً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ التَّفَكُّهُ بِهِ مُعْتَادًا حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِيَابِسِ الْبِطِّيخِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي التُّفَّاحِ وَأَخَوَاتِهِ فَيَحْنَثُ بِهَا وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْبُقُولِ بَيْعًا وَأَكْلًا فَلَا يَحْنَثُ بِهِمَا. وَأَمَّا الْعِنَبُ وَالرُّطَبُ وَالرُّمَّانُ فَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ مَعْنَى التَّفَكُّهِ مَوْجُودٌ فِيهَا فَإِنَّهَا أَعَزُّ الْفَوَاكِهِ وَالتَّنَعُّمُ بِهَا يَفُوقُ التَّنَعُّمَ بِغَيْرِهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهَا وَيُتَدَاوَى بِهَا فَأَوْجَبَ قُصُورًا فِي مَعْنَى التَّفَكُّهِ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَةِ الْبَقَاءِ وَلِهَذَا كَانَ الْيَابِسُ مِنْهَا مِنْ التَّوَابِلِ أَوْ مِنْ الْأَقْوَاتِ.

وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَحْنَثُ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ أَيْضًا) يَعْنِي لَا فِي الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ يَمِينُهُ عَلَى ثَمَرِ كُلِّ شَجَرٍ سِوَى الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الرَّطْبُ وَالْيَابِسُ. وَفِي وَجْهٍ لَا يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الْخِيَارَ وَالْقِثَّاءَ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ مَعَ الْبُقُولِ. وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُوَ الْعِنَبُ وَالرُّطَبُ وَالرُّمَّانُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ إلَّا مَا نَذْكُرُهُ، فَقَوْلُهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُعْتَادِ: أَيْ عَلَى الْغَدَاءِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى تُسَمَّى النَّارُ فَاكِهَةً وَالْمِزَاحُ فَاكِهَةً لِوُجُودِ زِيَادَةِ التَّنَعُّمِ فِيهَا. وَقَوْلُهُ (وَالرَّطْبُ وَالْيَابِسُ فِيهِ سَوَاءٌ) يَعْنِي أَنَّ مَا كَانَ فَاكِهَةً لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ رَطْبِهِ وَيَابِسِهِ، وَيَابِسُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُعَدُّ فَاكِهَةً فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَطْبُهَا كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُمَا مِنْ الْبُقُولِ بَيْعًا) فَإِنَّ بَائِعَ الْبُقُولِ هُوَ الَّذِي يَبِيعُهَا لَا غَيْرُ، وَأَمَّا أَكْلًا فَإِنَّهُمَا يُوضَعَانِ عَلَى الْمَوَائِدِ حَيْثُ يُوضَعُ النَّعْنَاعُ وَالْبَصَلُ. وَقَوْلُهُ (إنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهَا) يَعْنِي الْعِنَبَ وَالرُّطَبَ (وَيُتَدَاوَى بِهَا) يَعْنِي الرُّمَّانَ (وَلِهَذَا كَانَ الْيَابِسُ مِنْهَا مِنْ التَّوَابِلِ) كَيَابِسِ الرُّمَّانِ (أَوْ مِنْ الْأَقْوَاتِ) كَيَابِسِ الْعِنَبِ، فَالتَّوَابِلُ جَمْعُ التَّابَلِ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ اللَّفْظَ إذَا أُطْلِقَ عَلَى أَفْرَادٍ فِي بَعْضِهَا دَلَالَةٌ عَلَى زِيَادَةِ مَعْنًى لَيْسَ فِي مَفْهُومِ اشْتِقَاقِهِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صُورَةِ النُّقْصَانِ فِي اللَّحْمِ.

ص: 129

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتَدِمُ فَكُلُّ شَيْءٍ اُصْطُبِغَ بِهِ فَهُوَ إدَامٌ وَالشِّوَاءُ لَيْسَ بِإِدَامٍ وَالْمِلْحُ إدَامٌ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا فَهُوَ إدَامٌ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِدَامَ مِنْ الْمُوَادَمَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَكُلُّ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ مُوَافِقٌ لَهُ كَاللَّحْمِ وَالْبِيضِ وَنَحْوِهِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْإِدَامَ مَا يُؤْكَلُ تَبَعًا، وَالتَّبَعِيَّةُ فِي الِاخْتِلَاطِ حَقِيقَةٌ لِيَكُونَ قَائِمًا بِهِ، وَفِي أَنْ يُؤْكَلَ عَلَى الِانْفِرَادِ حُكْمًا، وَتَمَامُ الْمُوَافَقَةِ فِي الِامْتِزَاجِ أَيْضًا، وَالْخَلُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ لَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ بَلْ يُشْرَبُ، وَالْمِلْحُ لَا يُؤْكَلُ بِانْفِرَادِهِ عَادَةً وَلِأَنَّهُ يَذُوبُ فَيَكُونُ تَبَعًا، بِخِلَافِ اللَّحْمِ وَمَا يُضَاهِيهِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ وَحْدَهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ، وَالْعِنَبُ وَالْبِطِّيخُ لَيْسَا بِإِدَامٍ هُوَ الصَّحِيحُ.

قَالَ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتَدِمُ فَكُلُّ شَيْءٍ اُصْطُبِغَ بِهِ) اصْطَبَغَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ كَذَا كَانَ مُقَيَّدًا بِخَطِّ الثِّقَاتِ وَهُوَ اُفْتُعِلَ مِنْ الصَّبْغِ، وَيُقَالُ اُصْطُبِخَ بِالْخَلِّ وَفِي الْخَلِّ وَلَا يُقَالُ اصْطَبَغَ الْخُبْزُ بِالْخَلِّ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتَدِمُ) أَيْ لَا يَأْكُلُ إدَامًا (فَكُلُّ شَيْءٍ اُصْطُبِغَ بِهِ فَهُوَ إدَامٌ) وَلَا يَنْعَكِسُ فَالْخَلُّ وَالزَّيْتُ وَاللَّبَنُ وَالْمِلْحُ وَالزُّبْدُ إدَامٌ، وَالشِّوَاءُ لَيْسَ بِإِدَامٍ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا فَهُوَ إدَامٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) وَحَاصِلُ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مَا يُصْطَبَغُ بِهِ فَهُوَ إدَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْبِطِّيخُ وَالْعِنَبُ وَالتَّمْرُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ غَالِبًا لَيْسَ بِإِدَامٍ بِالِاتِّفَاقِ. وَفِي الْبَيْضِ وَاللَّحْمِ وَالْجُبْنِ اخْتِلَافٌ، جَعَلَهَا مُحَمَّدٌ إدَامًا خِلَافًا لَهُمَا. لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِدَامَ مِنْ الْمُؤَادَمَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَكُلُّ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ مُوَافِقٌ لَهُ كَاللَّحْمِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْإِدَامَ مَا يُؤْكَلُ تَبَعًا فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. وَالتَّبَعِيَّةُ عَلَى نَوْعَيْنِ: حَقِيقِيَّةٍ وَذَلِكَ فِي الِاخْتِلَاطِ لِتَكُونَ قَائِمَةً بِهِ. وَحُكْمِيَّةٍ وَهِيَ أَنْ لَا تُؤْكَلَ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَاللَّحْمُ لَا يَخْتَلِطُ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا حَقِيقَةً وَيُؤْكَلُ مُنْفَرِدًا فَلَا يَكُونُ تَبَعًا حُكْمًا فَلَا يَكُونُ إدَامًا.

وَقَوْلُهُ (وَتَمَامُ الْمُوَافَقَةِ بِالِامْتِزَاجِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْإِدَامَ مِنْ الْمُؤَادَمَةِ: يَعْنِي سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ الْمُؤَادَمَةُ التَّامَّةُ الْكَامِلَةُ فِي الِامْتِزَاجِ أَيْضًا وَلَمْ تُوجَدْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ، بِخِلَافِ الْخَلِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ فَإِنَّهَا لَا تُؤْكَلُ وَحْدَهَا بَلْ تُشْرَبُ وَالْمِلْحُ لَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ وَيَذُوبُ فَيَتْبَعُ فَكَانَ إدَامًا (وَالْعِنَبُ وَالْبِطِّيخُ لَيْسَا بِإِدَامٍ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا (هُوَ الصَّحِيحُ) كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ.

ص: 130

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 131

(وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَالْغَدَاءُ الْأَكْلُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ وَالْعَشَاءُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ) لِأَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ يُسَمَّى عِشَاءً وَلِهَذَا تُسَمَّى الظُّهْرُ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ فِي الْحَدِيثِ (وَالسُّحُورُ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ السَّحَرِ وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ.

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَالْغَدَاءُ الْأَكْلُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَذَا تَوَسُّعٌ فِي الْعِبَارَةِ، وَمَعْنَاهُ أَكْلُ الْغَدَاءِ وَالْعِشَاءِ وَالسُّحُورِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَدَاءَ اسْمٌ لِطَعَامِ الْغَدَاةِ لَا اسْمُ أَكْلٍ. وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا تُسَمَّى الظُّهْرُ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ فِي الْحَدِيثِ) ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ فِي بَابِ الْحَلِفِ عَلَى الْغَدَاءِ فَقَالَ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ» يُرِيدُ بِهِ الرَّاوِي الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ.

ص: 132

ثُمَّ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الشِّبَعُ عَادَةً وَتُعْتَبَرُ عَادَةُ أَهْلِ كُلِّ بَلْدَةٍ فِي حَقِّهِمْ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الشِّبَعِ.

(وَمَنْ قَالَ إنْ لَبِسْت أَوْ أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَعَبْدِي حُرٌّ، وَقَالَ عَنَيْت شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ) لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ وَالثَّوْبُ وَمَا يُضَاهِيهِ غَيْرُ مَذْكُورٍ تَنْصِيصًا وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ فَلَغَتْ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ فِيهِ (وَإِنْ قَالَ إنْ لَبِسْت ثَوْبًا أَوْ أَكَلْت طَعَامًا أَوْ شَرِبْت شَرَابًا لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي مَحَلِّ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ فَعُمِلَتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ.

وَقَوْلُهُ (وَتُعْتَبَرُ عَادَةُ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ فِي حَقِّهِمْ) يَعْنِي إنْ كَانَتْ خُبْزًا فَخُبْزٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَحْمًا فَلَحْمٌ، حَتَّى أَنَّ الْحَضَرِيَّ إذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْغَدَاءِ فَشَرِبَ اللَّبَنَ لَمْ يَحْنَثْ، وَالْبَدَوِيُّ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ غِذَاءٌ فِي الْبَادِيَةِ. وَقَوْلُهُ (وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الشِّبَعِ) رَوَاهُ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ مَا تَغَدَّيْت وَمَا تَعَشَّيْت.

(وَمَنْ قَالَ إنْ أَكَلْت أَوْ شَرِبْت أَوْ لَبِسْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَقَالَ عَنَيْت شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ لَمْ يَصْدُقْ قَضَاءً) وَلَا دِيَانَةً (لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ) لِأَنَّهَا لِتَعْيِينِ بَعْضِ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ (وَالثَّوْبُ وَمَا يُضَاهِيهِ غَيْرُ مَلْفُوظٍ) فَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ غَيْرُ مَلْفُوظٍ تَنْصِيصًا أَلَيْسَ أَنَّهُ ثَابِتٌ مُقْتَضًى وَالْمُقْتَضَى كَالْمَلْفُوظِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ فَلَغَتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ) فَإِنْ قِيلَ: الْمُقْتَضَى أَمْرٌ شَرْعِيٌّ وَافْتِقَارُ الْأَكْلِ إلَى الطَّعَامِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْرِفُهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الشَّرْعَ. قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ اخْتَارَ مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ الْمُقْتَضَى هُوَ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَلَا يَكُونُ مَنْطُوقًا بِهِ، لَكِنْ يَكُونُ مِنْ ضَرُورَةِ اللَّفْظِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا. فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَوَى السَّفَرَ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ دِيَانَةً مَعَ أَنَّ السَّفَرَ أَوْ الْخُرُوجَ غَيْرُ مَذْكُورٍ لَفْظًا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا وَنَوَى بِهِ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ النِّيَّةَ صَحِيحَةٌ مَعَ أَنَّ الْمَسْكَنَ غَيْرُ مَذْكُورٍ لَفْظًا، حَتَّى لَوْ سَكَنَ مَعَهُ فِي الدَّارِ لَا يَحْنَثُ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْأُولَى مَمْنُوعَةٌ مَنَعَهَا الْقُضَاةُ الْأَرْبَعُ أَبُو هُشَيْمٍ وَأَبُو خَازِمٍ وَأَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ وَالْقَاضِي الْقُمِّيُّ. وَلَئِنْ سَلِمَ فَقَوْلُهُ إنْ خَرَجْت وَلَا يُسَاكِنُ فِعْلَانِ يَدُلَّانِ عَلَى الْمَصْدَرِ لُغَةً، وَقَدْ وَقَعَ الثَّانِي فِي صَرِيحِ النَّفْيِ وَالْأَوَّلُ فِي مَعْنَاهُ فَتَنَاوَلَا بِعُمُومِهِمَا الْخُرُوجَ فِي السَّفَرِ وَالسَّكَنَ فَجَازَ تَخْصِيصُهُمَا إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ.

ص: 133

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 134

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 135

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ) حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا كَرْعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: إذَا شَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفُ الْمَفْهُومِ. وَلَهُ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَحَقِيقَتُهُ فِي الْكَرْعِ وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ إجْمَاعًا فَمُنِعَتْ الْمَصِيرَ إلَى الْمَجَازِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَارَفًا.

وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا كَرْعًا) أَيْ حَتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى دِجْلَةَ بِعَيْنِهَا وَيَشْرَبَ يُقَالُ كَرَعَ فِي الْمَاءِ إذَا مَدَّ عُنُقَهُ نَحْوَهُ لِيَشْرَبَ مِنْهُ وَمِنْهُ كَرِهَ عِكْرِمَةُ الْكَرْعَ فِي النَّهْرِ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْبَهِيمَةِ تُدْخِلُ فِيهِ أَكَارِعَهَا، وَالْكُرَاعُ مُسْتَدَقُّ السَّاقِ، وَهَذَا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقَالَا: إذَا شَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ حَنِثَ) وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا بِالْعَكْسِ، أَمَّا كَوْنُ الْمَجَازِ مُتَعَارَفًا فَظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَهْلُ فُلَانٍ يَشْرَبُونَ مِنْ دِجْلَةَ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ مَائِهَا، وَأَمَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ فَلِأَنَّ النَّاسَ يَكْرَعُونَ مِنْ الْأَنْهَارِ وَالْأَوْدِيَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْمٍ نَزَلَ عِنْدَهُمْ «هَلْ عِنْدَكُمْ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ، وَإِلَّا كَرَعْنَا» وَلِهَذَا إذَا كَرَعَ حَنِثَ بِالْإِجْمَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحِنْثَ فِي الْكَرْعِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْحَقِيقَةِ مُسْتَعْمَلَةً بَلْ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ بِعُمُومِ الْمَجَازِ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَحْنَثَ بِالشُّرْبِ بِالْإِنَاءِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي عُمُومِ الْمَجَازِ كَذَلِكَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى عُمُومِ الْمَجَازِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ أَوْ هِجْرَانِهَا، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَعْمَلَةً فَلَا مَصِيرَ إلَيْهِ.

ص: 136

(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ حَنِثَ) لِأَنَّهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بَقِيَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَهُوَ الشَّرْطُ فَصَارَ كَمَا إذَا شَرِبَ مِنْ مَاءِ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْ دِجْلَةَ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ) ظَاهِرٌ.

ص: 137

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 138

(مَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ) يَعْنِي إذَا مَضَى الْيَوْمُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَأَصْلُهُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَبَقَائِهِ تُصَوَّرُ الْبِرِّ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تُعْقَدُ لِلْبِرِّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْبِرِّ لِيُمْكِنَ إيجَابُهُ. وَلَهُ أَنَّهُ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِانْعِقَادِهِ مُوجِبًا لِلْبِرِّ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْخُلْفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ. قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ لِيَنْعَقِدَ فِي حَقِّ الْخُلْفِ وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ الْغَمُوسُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ (وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً؛ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَحْنَثُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)

قَالَ (وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ) عَلِمَ عَدَمَ الْمَاءِ فِي الْكُوزِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ (فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ فِيهِ الْمَاءُ وَفِيمَا لَمْ يَكُنْ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْوَجْهِ لِلْجَانِبَيْنِ فَوَاضِحٌ. وَاعْتُرِضَ عَلَى وَجْهِهِمَا بِأَنَّ الْبَرَّ مُتَصَوَّرٌ فِي صُورَةِ الْإِرَاقَةِ، لِأَنَّ إعَادَةَ الْقَطَرَاتِ الْمِهْرَاقَةِ مُمْكِنَةٌ فَكَانَ مُتَصَوَّرًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَرَّ إنَّمَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ بِحَيْثُ لَا يَسَعُ فِيهِ غَيْرَهُ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ فِيهِ بِإِعَادَةِ الْمَاءِ فِي الْكُوزِ وَشُرْبِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً) أَيْ عَنْ ذِكْرِ الْيَوْمِ (فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ) يَعْنِي فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكُوزِ مَاءٌ (لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي) وَهُوَ أَنْ يَكُونُ فِيهِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ (يَحْنَثُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.

ص: 139

فَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُوَقَّتِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ التَّوْقِيتَ لِلتَّوْسِعَةِ فَلَا يَجِبُ الْفِعْلُ إلَّا فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَلَا يَحْنَثُ قَبْلَهُ، وَفِي الْمُطْلَقِ يَجِبُ الْبِرُّ كَمَا فُرِغَ وَقَدْ عَجَزَ فَيَحْنَثُ فِي الْحَالِ وَهُمَا فَرَّقَا بَيْنَهُمَا. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْمُطْلَقِ يَجِبُ الْبِرُّ كَمَا فُرِغَ، فَإِذَا فَاتَ الْبِرُّ بِفَوَاتِ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ وَالْمَاءُ بَاقٍ؛ أَمَّا فِي الْمُؤَقَّتِ فَيَجِبُ الْبِرُّ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوَقْتِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَمْ تَبْقَ مَحَلِّيَّةُ الْبِرِّ لِعَدَمِ التَّصَوُّرِ فَلَا يَجِبُ الْبِرُّ فِيهِ فَتَبْطُلُ الْيَمِينُ كَمَا إذَا عَقَدَهُ ابْتِدَاءً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

فَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ) فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِي الْكُوزِ مَاءٌ بَيْنَ الْمُطْلَقِ عَنْ ذِكْرِ الْيَوْمِ وَبَيْنَ الْمُؤَقَّتِ بِهِ، فَقَالَ فِي الْمُطْلَقِ إنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ، وَفِي الْمُؤَقَّتِ حِنْثُهُ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ إلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ.

وَوَجْهُهُ مَا ذُكِرَ أَنَّ التَّوْقِيتَ لِلتَّوْسِعَةِ فَلَا يَجِبُ الْفِعْلُ إلَّا فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَلَا يَحْنَثُ قَبْلَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْيَمِينَ مَتَى عُقِدَتْ عَلَى فِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ مُمْتَدٍّ يَتَعَيَّنُ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ لِلِانْعِقَادِ لِأَنَّ الْوَقْتَ ظَرْفٌ لَهُ فَيَلْزَمُ فِي جُزْءٍ مِنْهُ وَيَتَعَيَّنُ آخِرُهُ، وَفِي الْمُطْلَقِ يَجِبُ الْبَرُّ كَمَا فَرَغَ وَقَدْ عَجَزَ فَيَحْنَثُ فِي الْحَالِ، كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ.

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: فَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُؤَقَّتِ: أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا كَانَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ اللَّيْلِ فَقَالَ فِي الْمُطْلَقِ يَحْنَثُ حَالَ وَقْتِ الْإِرَاقَةِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ إلَى اللَّيْلِ، وَفِي الْمُؤَقَّتِ لَا يَحْنَثُ فِي الْحَالِ بَلْ يَتَوَقَّفُ حِنْثُهُ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ، وَهُمَا فَرَّقَا بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُؤَقَّتِ: يَعْنِي فِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ وَالْمَاءُ بَاقٍ إلَى أَنَّ بَقَاءَ الْمَحَلِّ شَرْطٌ لِلْبَرِّ كَبَقَاءِ الْحَالِفِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ كَمَا إذَا عَقَدَهُ ابْتِدَاءً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا أَنَّ وُجُودَ الْمَحَلِّ كَمَا هُوَ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ كَذَلِكَ لِبَقَائِهَا.

ص: 140

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَيَصْعَدَن السَّمَاءَ أَوْ لَيَقْلِبَن هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَحَنِثَ عَقِيبَهَا) وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً فَأَشْبَهَ الْمُسْتَحِيلَ حَقِيقَةً فَلَا يَنْعَقِدُ. وَلَنَا أَنَّ الْبِرَّ مُتَصَوَّرٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ الصُّعُودَ إلَى السَّمَاءِ مُمْكِنٌ حَقِيقَةً؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَصْعَدُونَ السَّمَاءَ وَكَذَا تَحَوُّلُ الْحَجَرِ ذَهَبًا بِتَحْوِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ حَلَفَ لَيَصْعَدَن السَّمَاءَ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ ظَاهِرٌ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ تَصَوُّرَ الْبَرِّ لَوْ كَانَ كَافِيًا فِي خَلْفِيَّةِ الْكَفَّارَةِ لَوَجَبَتْ فِي الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إعَادَةِ الزَّمَانِ الْمَاضِي وَقَدْ فَعَلَهَا لِسُلَيْمَانَ صلى الله عليه وسلم وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَصَوُّرَ الْبَرِّ فِي الْغَمُوسِ بِأَنْ يَجْعَلَ الْفِعْلَ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ مَوْجُودًا مِنْهُ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ

ص: 141

مُتَصَوَّرًا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ مُوجِبًا لِخُلْفِهِ ثُمَّ يَحْنَثُ بِحُكْمِ الْعَجْزِ الثَّابِتِ عَادَةً. كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ مَعَ احْتِمَالِ إعَادَةِ الْحَيَاةِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ، لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَقْتَ الْحَلِفِ وَلَا مَاءَ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَمْ يَنْعَقِدْ.

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ)

مُتَصَوَّرًا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِيجَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَعْتَمِدُ التَّصَوُّرَ دُونَ الْقُدْرَةِ فِيمَا لَهُ حَلَفَ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي وَلَمْ تَكُنْ لَهُ قُدْرَةٌ لِمَكَانِ التَّصَوُّرِ وَالْحَلِفِ وَكَذَلِكَ هَهُنَا حَنِثَ عَقِيبَ وُجُوبِ الْبَرِّ فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ لِلْعَجْزِ الثَّابِتِ عَادَةً كَمَا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ هُنَاكَ عَقِيبَ وُجُوبِ الصَّوْمِ.

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ):

لَمَّا ذَكَرَ بَيَانَ أَيْمَانِ السُّكْنَى وَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا شَرَعَ فِي بَيَانِ الْفِعْلِ الْجَامِعِ الَّذِي يَسْتَتْبِعُ الْأَبْوَابَ الْمُتَفَرِّقَةَ وَهُوَ الْكَلَامُ؛ إذْ الْيَمِينُ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْيَمِينُ فِي الْحَجِّ

ص: 142

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ إلَّا أَنَّهُ نَائِمٌ حَنِثَ) لِأَنَّهُ قَدْ كَلَّمَهُ وَوَصَلَ إلَى سَمْعِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِنَوْمِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا نَادَاهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِتَغَافُلِهِ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ شَرْطٌ أَنْ يُوقِظَهُ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَنَبَّهْ كَانَ إذَا نَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ وَهُوَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ.

وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ، فَذِكْرُ الْجِنْسِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذِكْرِ النَّوْعِ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ إلَّا أَنَّهُ نَائِمٌ حَنِثَ) نَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ التَّكْلِيمَ عِبَارَةٌ عَنْ إسْمَاعِ كَلَامِهِ كَمَا فِي تَكْلِيمِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إسْمَاعِ نَفْسِهِ، إلَّا أَنَّ إسْمَاعَ الْغَيْرِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَأُقِيمَ السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ مَقَامَهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ أَصْغَى إلَيْهِ أُذُنَهُ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ مَانِعٌ مِنْ السَّمَاعِ لَسَمِعَ وَدَار الْحُكْمُ مَعَهُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ الْإِسْمَاعِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (لِتَغَافُلِهِ) أَيْ لِغَفْلَتِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ) يُرِيدُ مَا رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ فَنَادَاهُ وَأَيْقَظَهُ يَحْنَثُ فِيهِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ الْإِيقَاظِ لِلْحِنْثِ. وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَنَادَاهُ أَوْ أَيْقَظَهُ، وَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى نَادَاهُ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ يَقْظَانَ لَسَمِعَ صَوْتَهُ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يُوقِظْهُ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ

ص: 143

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا، وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.

ص: 144

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ حَتَّى كَلَّمَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ الْإِذْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَذَانِ الَّذِي هُوَ الْإِعْلَامُ، أَوْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالسَّمَاعِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِطْلَاقُ، وَأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْآذِنِ كَالرِّضَا. قُلْنَا: الرِّضَا مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، وَلَا كَذَلِكَ الْإِذْنُ عَلَى مَا مَرَّ.

قَالَ (وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَهُوَ مِنْ حِينِ حَلَفَ) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لَتَأَبَّدَ الْيَمِينُ فَذَكَرَ الشَّهْرَ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ فَبَقِيَ الَّذِي يَلِي يَمِينَهُ

وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْإِذْنِ كَالرِّضَا) يَعْنِي أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِرِضَاهُ فَرَضِيَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْحَالِفُ فَكَلَّمَهُ لَا يَحْنَثُ لِمَا أَنَّ الرِّضَا يَتِمُّ بِالرَّاضِي، فَكَذَلِكَ الْإِذْنُ يَتِمُّ بِالْآذِنِ. قُلْنَا: الرِّضَا مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فَيَتِمُّ بِالرَّاضِي وَلَا كَذَلِكَ الْإِذْنُ عَلَى مَا مَرَّ أَنَّهُ إمَّا مِنْ الْأَذَانِ الَّذِي هُوَ الْإِعْلَامُ، أَوْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي السَّمَاعَ وَلَمْ يُوجَدْ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَارَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ لَكِنَّهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا فَلَمْ يَكُنْ الْإِذْنُ مُحْتَاجًا إلَى الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِذْنَ هَذَا فَكُّ الْحَجْرِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ فَيَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ، وَأَمَّا فِي الْيَمِينِ فَلَمَّا حَرَّمَ كَلَامَهُ بِالْيَمِينِ إلَّا عِنْدَ الْإِذْنِ صَارَ الْإِذْنُ مُثْبِتًا لِإِبَاحَةِ الْكَلَامِ لِلْحَالِفِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعْلَامِ بِذَلِكَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَمْرُهُ وَاضِحٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّ

(وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَهُوَ مِنْ حِينِ حَلَفَ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لِتَأَبُّدِ الْيَمِينِ) لِأَنَّ مَا يَلِي الْيَمِينَ صَالِحٌ لِمَحَلِّيَّةِ الْبَرِّ: أَيِّ جُزْءٍ كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ وَقَعَتْ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَانَ الْيَمِينُ مُؤَبَّدًا فَذَكَرَ الشَّهْرَ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ عَمَلًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهِيَ الْغَيْظُ الَّذِي لَحِقَهُ فِي الْحَالِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَن شَهْرًا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لَمْ تَتَأَبَّدْ الْيَمِينُ، إمَّا لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّأْبِيدِ لِتَخَلُّلِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ لِتَقْدِيرِ الصَّوْمِ

ص: 145

دَخْلًا عَمَلًا بِدَلَالَةِ حَالِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ شَهْرًا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لَمْ تَتَأَبَّدْ الْيَمِينُ فَكَانَ ذِكْرُهُ لِتَقْدِيرِ الصَّوْمِ بِهِ وَأَنَّهُ مُنَكِّرٌ فَالتَّعْيِينُ إلَيْهِ

(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ فِي صَلَاتِهِ لَا يَحْنَثُ. وَإِنْ قَرَأَ فِي غَيْرِ صَلَاتِهِ حَنِثَ) وَعَلَى هَذَا التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ، وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ فِيهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقَةٌ. وَلَنَا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكَلَامٍ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا، قَالَ عليه الصلاة والسلام «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ» وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بَلْ قَارِئًا وَمُسَبِّحًا

وَأَنَّهُ مُنَكَّرٌ فَالنِّيَّةُ تُعَيِّنُهُ

. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ) ظَاهِرٌ.

ص: 146

(وَلَوْ قَالَ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَأَمْرَأَتْهُ طَالِقٌ فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) لِأَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} وَالْكَلَامُ لَا يَمْتَدُّ (وَإِنْ عَنِيَ النَّهَارَ خَاصَّةً دِينَ فِي الْقَضَاءِ) لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ أَيْضًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُتَعَارَفِ

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا) هَاهُنَا ثَلَاثُ عِبَارَاتٍ نَهَارَ أُكَلِّمُ فُلَانًا وَلَيْلَةَ أُكَلِّمُ فُلَانًا وَيَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا، فَالْأُولَى لِبَيَاضِ النَّهَارِ خَاصَّةً. فَلَوْ كَلَّمَهُ لَيْلًا لَمْ يَحْنَثْ.

ص: 147

(وَلَوْ قَالَ لَيْلَةَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ كَالنَّهَارِ لِلْبَيَاضِ خَاصَّةً، وَمَا جَاءَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ (وَلَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ قَالَ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ قَالَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَأْذَنَ فُلَانٌ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَكَلَّمَهُ قَبْلَ الْقُدُومِ وَالْإِذْنِ حَنِثَ، وَلَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ الْقُدُومِ وَالْإِذْنِ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ غَايَةٌ

وَالثَّانِيَةُ لِسَوَادِهِ خَاصَّةً، فَلَوْ كَلَّمَهُ نَهَارًا لَمْ يَحْنَثْ. وَمَا جَاءَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ وَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ سَوْدَاءَ تَمْرَةً

لَيَالِي لَاقَيْنَا جُذَامًا وَحَمِيرًا

مُرَادًا بِهِ الْوَقْتُ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ وَمَا فِي الشِّعْرِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَذِكْرُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْآخَرِ وَذَلِكَ أَصْلٌ آخَرُ غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَالثَّالِثَةُ يُعْتَبَرُ بِمَا قُرِنَ بِهِ، إنْ قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} وَالْكَلَامُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ، وَإِنْ قُرِنَ بِهِ مَا يَمْتَدُّ كَالصَّوْمِ يُرَادُ بَيَاضُ النَّهَارِ، وَالْبَحْثُ فِيهِ وَظِيفَةٌ أُصُولِيَّةٌ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ، فَإِنْ عَنَى فِي قَوْلِهِ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا النَّهَارَ خَاصَّةً صَدَقَ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وَالْمُرَادُ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ غَايَةٌ) أَمَّا فِي كَلِمَةِ حَتَّى فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي إلَّا أَنْ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُنَاسَبَةِ مَعْنَى

ص: 148

وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ قَبْلَ الْغَايَةِ وَمُنْتَهِيَةٌ بَعْدَهَا فَلَا يَحْنَثُ بِالْكَلَامِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْيَمِينِ (وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ سَقَطَتْ الْيَمِينُ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْهُ كَلَامٌ يَنْتَهِي بِالْإِذْنِ وَالْقُدُومِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ فَسَقَطَتْ الْيَمِينُ. وَعِنْدَهُ التَّصَوُّرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَعِنْدَ سُقُوطِ الْغَايَةِ تَتَأَبَّدُ الْيَمِينُ.

الِاسْتِثْنَاءِ مَعْنَى الْغَايَةِ وَكَوْنُهُ مَجَازًا لِلْغَايَةِ. قَوْلُهُ (وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ) يَعْنِي الَّذِي أَسْنَدَ إلَيْهِ الْقُدُومَ أَوْ الْإِذْنَ سَقَطَ الْيَمِينُ لِانْتِفَاءِ تَصَوُّرِ الْبَرِّ. فَإِنْ قِيلَ: إعَادَةُ الْحَيَاةِ مُمْكِنَةٌ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَبْطُلَ الْيَمِينُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ عَلَى الْقُدُومِ أَوْ الْإِذْنِ فِي حَيَاتِهِ الْقَائِمَةِ لَا الْمُعَادَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهِيَ غَيْرُ الْمُعَادَةِ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا قَالَ لَأَقْتُلَن فُلَانًا

ص: 149

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ وَلَمْ يَنْوِ عَبْدًا بِعَيْنِهِ أَوْ امْرَأَةَ فُلَانٍ أَوْ صَدِيقَ فُلَانٍ فَبَاعَ فُلَانٌ عَبْدَهُ أَوْ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ أَوْ عَادَى صَدِيقَهُ فَكَلَّمَهُمْ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ وَاقِعٍ فِي مَحَلٍّ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ، إمَّا إضَافَةُ مِلْكٍ أَوْ إضَافَةُ نِسْبَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَحْنَثُ، قَالَ هَذَا فِي إضَافَةِ الْمِلْكِ بِالِاتِّفَاقِ. وَفِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ كَالْمَرْأَةِ

وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَلَمْ يَعْلَمْ الْحَالِفُ بِمَوْتِهِ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى الْحَيَاةِ الْقَائِمَةِ.

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ) إذَا وَقَعَتْ الْيَمِينُ عَلَى فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِمُرَكَّبٍ إضَافِيٍّ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِضَافَةِ إشَارَةٌ أَوْ لَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ إضَافَةَ مِلْكٍ أَوْ إضَافَةَ نِسْبَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَ الْإِضَافَةِ إشَارَةٌ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ وَلَمْ يَنْوِ عَبْدًا بِعَيْنِهِ أَوْ امْرَأَةً أَوْ صَدِيقَ فُلَانٍ فَالْمُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي إضَافَةِ الْمِلْكِ بِالِاتِّفَاقِ،

ص: 150

وَالصِّدِّيقِ. قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لِلتَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَالصَّدِيقَ مَقْصُودَانِ بِالْهِجْرَانِ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ كَمَا فِي الْإِشَارَةِ. وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ هِجْرَانَهُ لِأَجْلِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ فَلَا يَحْنَثُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ بِالشَّكِّ (وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ بِأَنْ

وَكَذَا فِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْتَبَرُ وُجُودُ النِّسْبَةِ وَقْتَ الْحَلِفِ، فَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ فُلَانٌ عَبْدَهُ فَكَلَّمَهُ لَمْ يَحْنَثْ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ عَادَى صَدِيقَهُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ كَذَا قَالَهُ فِي الزِّيَادَاتِ.

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ لِلتَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَالصَّدِيقَ قَدْ يُهْجَرَانِ لِذَاتِهِمَا مَقْصُودًا لَا لِأَجْلِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَمَا كَانَ لِلتَّعْرِيفِ لَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ، أَيْ بِعَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. كَمَا فِي الْإِشَارَةِ بِأَنْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ صَدِيقَ فُلَانٍ هَذَا أَوْ زَوْجَةَ فُلَانٍ هَذِهِ (وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا) يَعْنِي عَدَمَ الْحِنْثِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) فَإِنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي الزِّيَادَاتِ وَقَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَلَمْ يُذْكَرْ لِأَبِي يُوسُفَ قَوْلٌ.

وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ هِجْرَانَهُ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ لِأَجْلِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ، وَيُحْتَمَلُ

ص: 151

قَالَ عَبْدُ فُلَانٍ هَذَا أَوْ امْرَأَةُ فُلَانٍ بِعَيْنِهَا أَوْ صَدِيقُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي الْعَبْدِ وَحَنِثَ فِي الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ فِي الْعَبْدِ أَيْضًا) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ (وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ فَبَاعَهَا ثُمَّ دَخَلَهَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ) وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّعْرِيفِ وَالْإِشَارَةِ أَبْلَغُ مِنْهَا فِيهِ لِكَوْنِهَا قَاطِعَةً لِلشَّرِكَةِ، بِخِلَافِ الْإِضَافَةِ فَاعْتُبِرَتْ الْإِشَارَةُ وَلُغِيَتْ الْإِضَافَةُ وَصَارَ كَالصَّدِيقِ وَالْمَرْأَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ الدَّاعِي إلَى الْيَمِينِ مَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَا تُهْجَرُ وَلَا تُعَادَى لِذَوَاتِهَا، وَكَذَا الْعَبْدُ لِسُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ بَلْ لِمَعْنًى فِي مُلَّاكِهَا فَتَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِحَالِ قِيَامِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْإِضَافَةُ إضَافَةَ نِسْبَةٍ كَالصَّدِيقِ وَالْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يُعَادَى لِذَاتِهِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ وَالدَّاعِي الْمَعْنَى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، بِخِلَافِ، مَا تَقَدَّمَ

أَنْ لَا يَكُونَ فَلَا يَحْنَثُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ بِالشَّكِّ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِضَافَةِ إشَارَةٌ بِأَنْ قَالَ عَبْدَ فُلَانٍ هَذَا أَوْ امْرَأَةُ فُلَانٍ هَذِهِ أَوْ صَدِيقُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي الْعَبْدِ، وَحَنِثَ فِي الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ فِي الْعَبْدِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّعْرِيفِ. وَتَقْرِيرُهُ: الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ وَمَا هُوَ لِلتَّعْرِيفِ يَلْغُو عِنْدَ وُجُودِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ فِيهِ، وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ مِنْهَا فِيهِ لِكَوْنِهَا قَاطِعَةً لِلشَّرِكَةِ لِكَوْنِهَا بِمَنْزِلَةِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْإِضَافَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِفُلَانٍ عَبِيدٌ فَاعْتُبِرَتْ الْإِشَارَةُ وَلَغَتْ الْإِضَافَةُ وَصَارَ كَالصَّدِيقِ وَالْمَرْأَةِ.

وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْيَمِينِ مَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّعْرِيفِ بَلْ لِبَيَانِ أَنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْيَمِينِ مَعْنَى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ: أَيْ الدَّارُ وَالدَّابَّةُ وَالثَّوْبُ لَا تُهْجَرُ وَلَا تُعَادَى لِذَوَاتِهَا، وَكَذَا الْعَبْدُ لِسُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ بَلْ لِمَعْنًى فِي مُلَّاكِهَا فَتَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِحَالِ قِيَامِ الْمِلْكِ لِقِيَامِ الْمَعْنَى الدَّاعِي إذْ ذَاكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْإِضَافَةُ إضَافَةَ نِسْبَةٍ كَالصَّدِيقِ وَالْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يُعَادَى لِذَاتِهِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ، وَالدَّاعِي لِمَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِعَدَمِ التَّعَيُّنِ: أَيْ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الْمُضَافِ إلَيْهِ لِلْهِجْرَانِ لِكَوْنِ الْمُضَافِ أَيْضًا صَالِحًا لِذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ لِلتَّعْرِيفِ لَمْ يَشْتَرِطْ دَوَامَهَا لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، يَعْنِي إضَافَةَ الْمِلْكِ لِتَعْيِينِ الْمُضَافِ إلَيْهِ لِذَلِكَ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الدَّابَّةَ وَالدَّارَ وَالْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تُهْجَرَ لِذَاتِهَا لِشُؤْمِهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ احْتِمَالٌ

ص: 152

قَالَ (وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ فَبَاعَهُ ثُمَّ كَلَّمَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا التَّعْرِيفَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادَى لِمَعْنًى فِي الطَّيْلَسَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَشَارَ إلَيْهِ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ وَقَدْ صَارَ شَيْخًا حَنِثَ) لِأَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ إذْ الصِّفَةُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ.

لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عُرْفٌ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا

. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَتْ الصِّفَةُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوًا لَحَنِثَ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا صَارَ تَمْرًا. وَتَقْرِيرُهُ: الصِّفَةُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ إذَا لَمْ تَكُنْ دَاعِيَةً إلَى الْيَمِينِ، وَهَذِهِ كَذَلِكَ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ: يَعْنِي فِي أَوَّلِ بَابِ الْيَمِينِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، بِخِلَافِ الرُّطَبِ فَإِنَّ صِفَتَهَا دَاعِيَةٌ إلَى الْيَمِينِ.

ص: 153

(فَصْلٌ)

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ حِينًا أَوْ زَمَانًا أَوْ الْحِينَ أَوْ الزَّمَانَ فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ) لِأَنَّ الْحِينَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الزَّمَانُ الْقَلِيلُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} وَقَدْ يُرَادُ بِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} وَهَذَا هُوَ الْوَسَطُ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْيَسِيرَ لَا يُقْصَدُ بِالْمَنْعِ لِوُجُودِ

فَصْلٌ)

لَمَّا كَانَتْ الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ نَوْعِ الْكَلَامِ مُتَعَلِّقَةً بِالْأَزْمَانِ سَمَّاهُ فَصْلًا (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا حِينًا أَوْ زَمَانًا أَوْ الْحِينَ أَوْ الزَّمَانَ وَلَا نِيَّةَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْوَقْتِ فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّ الْحِينَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الزَّمَانُ الْقَلِيلُ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وَالْمُرَادُ بِهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} أَيْ كُلَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَمِنْ وَقْتِ الطَّلْعِ إلَى وَقْتِ الرُّطَبِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَمِنْ وَقْتِ الرُّطَبِ إلَى وَقْتِ الطَّلْعِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يَنْقَطِعُ نَفْعُهَا أَلْبَتَّةَ (وَهَذَا هُوَ الْوَسَطُ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ) إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ.

وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ الِانْصِرَافُ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ (لِأَنَّ الْقَصِيرَ لَا يُقْصَدُ بِالْمَنْعِ) لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْيَمِينِ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ الْكَلَامِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ فِيهَا عَادَةً بِلَا يَمِينٍ، وَالْمَدِيدُ لَا يُقْصَدُ غَالِبًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَدِ لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ يَقُولُ أَبَدًا فِي الْعُرْفِ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ الْحِينَ، وَلَوْ سَكَتَ تَأَبَّدَ الْيَمِينُ

ص: 154

الِامْتِنَاعِ فِيهِ عَادَةً، وَالْمُؤَبَّدُ لَا يُقْصَدُ غَالِبًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَدِ، وَلَوْ سَكَتَ عَنْهُ يَتَأَبَّدُ فَيَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرْنَا.

وَكَذَا الزَّمَانُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ، يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ حِينٍ وَمُنْذُ زَمَانٍ بِمَعْنَى وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، أَمَّا إذَا نَوَى شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ (وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ عِنْدَهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الدَّهْرُ لَا أَدْرِي مَا هُوَ) وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْمُنَكَّرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَمَّا الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْأَبَدُ عُرْفًا. لَهُمَا أَنَّ دَهْرًا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ وَالزَّمَانِ يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ حِينٍ وَمُنْذُ دَهْرٍ بِمَعْنَى وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَقَّفَ فِي تَقْدِيرِهِ لِأَنَّ اللُّغَاتِ لَا تُدْرَكُ قِيَاسًا وَالْعُرْفُ لَمْ يُعْرَفْ اسْتِمْرَارُهُ لِاخْتِلَافٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ

فَحَيْثُ ذُكِرَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَائِدَةٍ سِوَى الْمُسْتَفَادِ عِنْدَ عَدَمِ ذِكْرِهِ وَإِلَّا لَا يَكُونُ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ فَتَعَيَّنَ الْأَوْسَطُ.

وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الزَّمَانُ) ظَاهِرٌ (وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) يَعْنِي يَقَعُ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ الْمُنَكَّرُ وَالْمُعَرَّفُ سَوَاءٌ (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الدَّهْرُ لَا أَدْرِي مَا هُوَ) وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْمُنَكَّرِ.

وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ لَا فَرْقَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ قَوْلِهِ دَهْرًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ الدَّهْرِ، وَإِذَا كَانَ

ص: 155

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الِاخْتِلَافُ فِي الْمُنَكَّرِ فَالْمُعَرَّفُ يَكُونُ مُتَّفِقًا عَلَيْهِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ كَمَا قَالَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَقَعُ عَلَى الْأَبَدِ كَمَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّ الدَّهْرَ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ يَقَعُ عَلَى الْأَبَدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ أَمَّا الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيُرَادُ بِهِ الْأَبَدُ عُرْفًا.

وَوَجْهُ الْجَانِبَيْنِ فِي الْمُنَكَّرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ. فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَأَجْمَعُوا فِيمَنْ قَالَ إنْ كَلَّمْتُك دُهُورًا أَوْ أَزْمِنَةً أَوْ شُهُورًا أَوْ سِنِينَ أَوْ جُمَعًا أَوْ أَيَّامًا يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لِأَنَّهَا أَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا قَائِلًا فِي دُهُورٍ مُنَكَّرَةٍ بِثَلَاثَةٍ مِنْهَا، فَكُلُّ دَهْرٍ سِتَّةُ أَشْهُرٍ كَمَا هُوَ قَوْلُهُمَا، وَالْحُكْمُ فِي الْجَمْعِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِفْرَادِ فَكَيْفَ حَكَمَ فِي الْجَمْعِ وَتَوَقَّفَ فِي الْمُفْرَدِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ تَفْرِيعٌ لِمَسْأَلَةِ الدَّهْرِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الدَّهْرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ وَقَفَ عَلَى مَعْنَى الدَّهْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ فِي الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ مِنْهُ بِثَلَاثَةٍ كَمَا فِي الْأَزْمِنَةِ وَالشُّهُورِ كَمَا فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ. وَبَيَانُ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ أَنَّ مُعَرَّفَهُ يَقَعُ الْأَبَدُ بِخِلَافِ الْحِينِ وَالزَّمَانِ، وَيُقَالُ دَهْرِيٌّ لِمَنْ قَالَ الدَّهْرُ وَأَنْكَرَ الصَّانِعَ. وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا تَسُبُّوا بِالدَّهْرِ فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ» فَهَذَا اسْمٌ لَمْ يُوقَفْ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ وَالتَّوَقُّفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ.

ص: 156

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ ذُكِرَ مُنَكَّرًا فَيُتَنَاوَلُ أَقَلَّ الْجَمْعِ وَهُوَ الثَّلَاثُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: عَلَى أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الشُّهُورَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَهُ. وَعِنْدَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لِأَنَّ اللَّامَ لِلْمَعْهُودِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهُ يَدُورُ عَلَيْهَا. وَلَهُ أَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى أَقْصَى مَا يُذْكَرُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ أَنَّهُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَهُ كَمَا فِي الْمُعَرَّفِ. قَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ أَصَحُّ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْأَيَّامَ بِالتَّنْكِيرِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْجِنْسِ وَالْعَهْدِ فَيَقَعُ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: عَلَى أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ حَرْفَ التَّعْرِيفِ إذَا دَخَلَ عَلَى اسْمِ الْجَمْعِ يَنْصَرِفُ إلَى أَقْصَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْعَشَرَةُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ فِي الْعُرْفِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُونَ: أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَمِائَةَ يَوْمٍ وَأَلْفَ يَوْمٍ، فَلَمَّا كَانَتْ الْعَشَرَةُ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ لَفْظُ الْجَمْعِ كَانَتْ هِيَ الْمُرَادَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ حَيْثُ يَقَعُ الْيَمِينُ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِتَعَذُّرِ صَرْفِهِ إلَى أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ اسْمُ النِّسَاءِ، وَعِنْدَهُمَا يُنْظَرُ إنْ كَانَ ثَمَّةَ مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَإِلَّا يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ الْعُمُرِ، وَفِي الْأَيَّامِ الْمَعْهُودِ فِي عُرْفِ النَّاسِ أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ فَكَانَتْ مُرَادَةً، وَفِي الشُّهُورِ الْمَعْهُودُ شُهُورُ السَّنَةِ فَكَانَتْ مُرَادَةً وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَلَا مَعْهُودَ فِي الْجَمْعِ وَالسِّنِينَ فَيَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى جَمِيعِ الْعُمُرِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يَدُورُ عَلَيْهَا) قِيلَ أَيْ لِأَنَّ الشُّهُورَ تَدُورُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ،

ص: 157

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهَا تَدُورُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ أَوَّلَ بِالْمَذْكُورِ فِي الْأَوَّلِ وَبِالْإِفْرَادِ فِي الثَّانِي.

ص: 158

(وَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَهُ فِي الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ) وَعِنْدَهُمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْعُمُرِ لِأَنَّهُ لَا مَعْهُودَ دُونَهُ

(وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ خَدَمْتنِي أَيَّامًا كَثِيرَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَالْأَيَّامُ الْكَثِيرَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عَشَرَةُ أَيَّامٍ) لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْأَيَّامِ، وَقَالَا: سَبْعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا تَكْرَارٌ. وَقِيلَ لَوْ كَانَ الْيَمِينُ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ فِيهَا بِلَفْظِ الْفَرْدِ دُونَ الْجَمْعِ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ لَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ بِالْفَارِسِيَّةِ) يَعْنِي مِثْلَ أَنْ يَقُول اكر خدمت كنى مراروزهاي بِسَيَّارِ توازاذي غَرْمُ خُدِمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَ لِأَنَّ فِي لِسَانِنَا يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْأَعْدَادِ لَفْظَةَ روز فَلَا يَجِيءُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ انْتِهَاءِ لَفْظِ الْجَمْعِ إلَى عَشَرَةٍ؛ فَلِذَلِكَ أُرِيدَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَكْثَرُ مَا يَنْطَلِقُ

ص: 159

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عَلَيْهِ اسْمُ الْأَيَّامِ، لِأَنَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ أَيَّامٌ بَلْ يُقَالُ إحْدَى عَشَرَ يَوْمًا وَمِائَةَ يَوْمٍ وَأَلْفَ يَوْمٍ. وَقِيلَ فِي تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْفَرْدِ بِالْفَارِسِيَّةِ إمَّا أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِ أَوْ لَا، فَإِنْ فُهِمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَرَبِيُّ وَالْفَارِسِيُّ سَوَاءً وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْأُسْبُوعُ مُرَادًا أَيْضًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِ. وَقَوْلُهُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَرَبِيُّ وَالْفَارِسِيُّ سَوَاءً، قُلْنَا: مَمْنُوعٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْفَارِسِيِّ وَإِنْ أَفَادَ مَعْنَى الْجَمْعِ لَكِنْ لَا يَنْتَهِي إلَى الْعَشَرَةِ وَتَخْصِيصُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ لِكَوْنِهِ الْمَعْهُودَ أَوْ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ.

ص: 160

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ)

(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا طَلُقَتْ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ) لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مَوْلُودٌ فَيَكُونُ وَلَدًا حَقِيقَةً وَيُسَمَّى بِهِ فِي الْعُرْفِ، وَيُعْتَبَرُ وَلَدًا فِي الشَّرْعِ حَتَّى

بَابُ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ)

:

قَدَّمَ هَذَا الْبَابَ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهِمَا أَكْثَرُ وُقُوعًا فَكَانَ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ أَهَمَّ مِنْ غَيْرِهِ (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا طَلُقَتْ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأَمَتِهِ وَعَلَّقَ بِهِ الْحُرِّيَّةَ عَتَقَتْ) لِأَنَّ الشَّرْطَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مَوْلُودٌ حَقِيقَةً وَعُرْفًا وَحُكْمًا؛ أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ عُرْفًا لِأَنَّهُ يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ وَلَدًا، وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَهُ وَلَدًا حَتَّى تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ وَالدَّمُ بَعْدَهُ نِفَاسٌ وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطُ

ص: 161

تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ، وَالدَّمُ بَعْدَهُ نِفَاسٌ وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ فَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَهُوَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ

(وَلَوْ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا ثُمَّ آخَرَ حَيًّا عَتَقَ الْحَيُّ وَحْدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ لَا إلَى جَزَاءٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْحُرِّيَّةِ وَهِيَ الْجَزَاءُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْوَلَدِ مُقَيَّدٌ بِوَصْفِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ قَصَدَ إثْبَاتَ الْحُرِّيَّةِ جَزَاءً وَهِيَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ تَظْهَرُ فِي دَفْعِ تَسَلُّطِ الْغَيْرِ وَلَا تَثْبُتُ فِي الْمَيِّتِ فَيَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ الْحَيَاةِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا حَيًّا، بِخِلَافِ جَزَاءِ الطَّلَاقِ وَحُرِّيَّةِ الْأُمِّ

ثَبَتَ الْحُكْمُ

(وَلَوْ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا ثُمَّ آخَرَ حَيًّا عَتَقَ الْحَيُّ وَحْدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا) أَنَّ الْمَوْجُودَ مَوْلُودٌ إلَخْ لَكِنْ الْمَيِّتُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلْحُرِّيَّةِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ لَكِنْ لَا إلَى جَزَاءٍ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ الدَّارَ بَعْدَمَا أَبَانَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ لَا إلَى جَزَاءٍ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْوَلَدِ مُقَيَّدٌ بِوَصْفِ الْحَيَاةِ) يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فِي اللَّفْظِ لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِوَصْفِ الْحَيَاةِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إثْبَاتَ الْحُرِّيَّةِ لَهُ جَزَاءً وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا حَيًّا وَلَمْ يُوجَدْ، بِخِلَافِ جَزَاءِ الطَّلَاقِ وَحُرِّيَّةِ الْأُمِّ لِأَنَّهُ أَيْ الْجَزَاءُ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا لِاسْتِغْنَائِهِمَا عَنْ حَيَاةِ الْوَلَدِ فَلَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ إلَّا وِلَادَةَ الْوَلَدِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَاسْتُشْكِلَ بِمَا لَوْ قَالَ إذَا اشْتَرَيْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا لِغَيْرِهِ انْحَلَّتْ يَمِينُهُ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ عَبْدًا لِنَفْسِهِ لَمْ يُعْتَقْ مَعَ أَنَّهُ جَعَلَ شِرَاءَ الْعَبْدِ شَرْطًا لِحُرِّيَّتِهِ وَعَبْدُ الْغَيْرِ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْحُرِّيَّةِ عَنْ الْمُشْتَرِي لِعَدَمِ مِلْكِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِضْمَارَ إنَّمَا يَكُونُ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ، وَالْحَاجَةُ إلَى إضْمَارِ الْمِلْكِ لِتَصْحِيحِهِ لَيْسَتْ كَالْحَاجَةِ إلَى إضْمَارِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ بِدُونِ الْحَيَاةِ لَا تُتَصَوَّرُ أَصْلًا، وَفِي مِلْكِ الْغَيْرِ تُتَصَوَّرُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجَازَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ إضْمَارِ

ص: 162

لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا

(وَإِذَا قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ اشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا عَتَقَ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ (فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا ثُمَّ آخَرَ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ) لِانْعِدَامِ التَّفَرُّدِ فِي الْأَوَّلَيْنِ وَالسَّبَقِ فِي الثَّالِثِ فَانْعَدَمَتْ الْأَوَّلِيَّةُ (وَإِنْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه وَحْدَهُ فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ الثَّالِثُ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّفَرُّدُ فِي حَالَةِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ وَحْدَهُ لِلْحَالِ لُغَةً وَالثَّالِثُ سَابِقٌ فِي هَذَا الْوَصْفِ (وَإِنْ قَالَ آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُعْتَقْ) لِأَنَّ الْآخَرَ اسْمٌ لِفَرْدٍ لَاحِقٍ وَلَا سَابِقَ لَهُ فَلَا يَكُونُ لَاحِقًا (وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ عَتَقَ الْآخَرُ) لِأَنَّهُ فَرْدٌ لَاحِقٌ فَاتَّصَفَ بِالْآخِرِيَّةِ (وَيُعْتَقُ يَوْمَ اشْتَرَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله حَتَّى يَعْتَبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَقَالَا: يُعْتَقُ يَوْمَ مَاتَ)

الْحَيَاةِ إضْمَارُ الْمِلْكِ

(وَلَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ) عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ وَحْدَهُ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ. وَاسْتُشْكِلَ بِمَا لَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ وَاحِدًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا ثُمَّ اشْتَرَى آخَرَ لَا يُعْتَقُ الثَّالِثُ مَعَ أَنَّ مَعْنَى التَّفَرُّدِ فِيهِمَا عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ وَاحِدًا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُشَارَكَةِ فِي الذَّاتِ، وَوَحْدُهُ يَقْتَضِيهِ فِي الْفِعْلِ الْمَقْرُونِ بِهِ دُونَ الذَّاتِ وَلِهَذَا صَدَقَ الرَّجُلُ فِي قَوْلِهِ فِي الدَّارِ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِيهَا صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ وَكَذَبَ فِي ذَلِكَ إذَا قَالَ وَحْدَهُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قُلْنَا: إذَا قَالَ وَاحِدًا أَنَّهُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى أَوَّلِ عَبْدٍ مُطْلَقٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاحِدًا لَمْ يُفِدْ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى مَا أَفَادَهُ لَفْظُ أَوَّلُ فَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِهِ، وَإِذَا قَالَ وَحْدَهُ فَقَدْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى أَوَّلِ عَبْدٍ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِي التَّمَلُّكِ وَالثَّالِثُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيُعْتَقُ. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ قَالَ آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ) وَاضِحٌ.

قَوْلُهُ (وَيُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ) يَعْنِي إذَا كَانَ اشْتَرَاهُ فِي الصِّحَّةِ

ص: 163

حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْآخِرِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِعَدَمِ شِرَاءِ غَيْرِهِ بَعْدَهُ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْتِ فَكَانَ الشَّرْطُ مُتَحَقِّقًا عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَوْتَ مُعَرَّفٌ فَأَمَّا اتِّصَافُهُ بِالْآخِرِيَّةِ فَمِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَيَثْبُتُ مُسْتَنِدًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَعْلِيقُ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ بِهِ، وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي جَرَيَانِ الْإِرْثِ وَعَدَمِهِ

وَقَوْلُهُ (حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ) يَعْنِي عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ آخِرِيَّةُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى وَهِيَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِعَدَمِ شِرَاءِ غَيْرِهِ بَعْدَهُ وَعَدَمُ شِرَاءِ غَيْرِهِ يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْتِ فَكَانَ الشَّرْطُ مُتَحَقِّقًا عِنْدَهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَوْتَ مُعَرَّفٌ.

وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ تَثْبُتُ صِفَةُ الْآخِرِيَّةِ فِيهِ، لَكِنْ كَانَتْ بِعَرَضِيَّةِ أَنْ يَزُولَ بِشِرَاءِ غَيْرِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ؛ فَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يَشْتَرِ غَيْرَهُ عَرَفْنَا تَقَرُّرَ صِفَةِ الْآخِرِيَّةِ عَلَيْهِ فَيُعْتَقُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ إذَا حِضْت فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَرَأَتْ الدَّمَ لَا تُعْتَقُ لِجَوَازِ أَنْ يَنْقَطِعَ الدَّمُ فِيمَا دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَتَقَتْ مِنْ حِينِ رَأَتْ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَأَتْهُ كَانَ حَيْضًا حِينَ رَأَتْ الدَّمَ، إلَى هَذَا أَشَارَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ؛ وَفِيهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ بَابِ الِاسْتِنَادِ وَمَا مَثَّلَ بِهِ مِنْ بَابِ التَّبْيِينِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْغَرَضُ مِنْ التَّمْثِيلِ بَيَانُ عَدَمِ الِاقْتِصَارِ وَالِاسْتِنَادُ وَالتَّبْيِينُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.

وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَعْلِيقُ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ بِهِ) أَيْ بِوَصْفِ الْآخِرِيَّةِ كَمَا إذَا قَالَ آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ امْرَأَةً ثُمَّ مَاتَ عِنْدَهُمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَقْصُورًا عَلَى الْمَوْتِ حَتَّى تَسْتَحِقَّ الْمِيرَاثَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَقَعُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ التَّزَوُّجِ فَلَا تَسْتَحِقُّهُ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالثَّلَاثِ جَازَ أَنْ

ص: 164

(وَمَنْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ بَشَّرَنِي بِوِلَادَةِ فُلَانَةَ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ ثَلَاثَةٌ مُتَفَرِّقِينَ عَتَقَ الْأَوَّلُ) لِأَنَّ الْبِشَارَةَ اسْمٌ لِخَبَرٍ يُغَيِّرُ بَشَرَةَ الْوَجْهِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ سَارًّا بِالْعُرْفِ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَوَّلِ (وَإِنْ بَشَّرُوهُ مَعًا عَتَقُوا) لِأَنَّهَا تَحَقَّقَتْ مِنْ الْكُلِّ

يَكُونَ بَيَانَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فَإِنَّ بِهِ يَكُونُ الزَّوْجُ فَارًّا وَتَرِثُ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُمَا.

قَالَ (وَمَنْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ بَشَّرَنِي بِوِلَادَةِ فُلَانَةَ) الْبِشَارَةُ اسْمٌ لِخَبَرٍ غَابَ عَنْ الْمُخْبَرِ عِلْمُهُ وَقَدْ يَكُونُ بِالْخَيْرِ وَقَدْ يَكُونُ بِالشَّرِّ إلَّا أَنَّهُ فِي الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَسُرُّ وَيَنْفِي الْحُزْنَ وَيَتَحَقَّقُ مِنْ وَاحِدٍ فَأَكْثَرَ؛ فَإِذَا قَالَ كُلُّ عَبْدٍ بَشَّرَنِي بِوِلَادَةِ فُلَانَةَ (فَبَشَّرَهُ ثَلَاثَةٌ) فَإِنْ أَخْبَرُوهُ مَعًا عَتَقُوا لِأَنَّ الْبِشَارَةَ حَصَلَتْ مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} وَإِنْ أَخْبَرُوا مُتَفَرِّقِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ عَتَقَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ حَصَلَتْ مِنْهُ، وَيُعَضِّدُهُ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَقَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، فَابْتَدَرَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما لِلْبِشَارَةِ، فَسَبَقَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ بِهَا، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا ذَكَرَ ذَلِكَ يَقُولُ بَشَّرَنِي أَبُو بَكْرٍ وَأَخْبَرَنِي عُمَرُ» وَإِنْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يَنْوِي بِهِ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ: أَيْ شَرْطَ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْفِيرِ قِرَانُ نِيَّةِ التَّكْفِيرِ بِعِلَّةِ الْعِتْقِ وَهِيَ الْيَمِينُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِنَّمَا وُجِدَ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَهُوَ شَرْطُ الْعِتْقِ لَا عِلَّتُهُ فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا، حَتَّى لَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْيَمِينِ أَجْزَأَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِي بِهِ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ. وَوَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ النِّيَّةَ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْعِلَّةِ وَالشِّرَاءُ

ص: 165

(وَلَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يَنْوِي بِهِ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قِرَانُ النِّيَّةِ بِعِلَّةِ الْعِتْقِ وَهِيَ الْيَمِينُ، فَأَمَّا الشِّرَاءُ فَشَرْطُهُ (وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِي عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ. لَهُمَا أَنَّ الشِّرَاءَ شَرْطُ الْعِتْقِ، فَأَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ الْقَرَابَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَتُهُ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ. وَلَنَا أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» جَعَلَ نَفْسَ الشِّرَاءِ إعْتَاقًا لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ غَيْرُهُ وَصَارَ نَظِيرُ قَوْلِهِ سَقَاهُ فَأَرْوَاهُ

شَرْطُ الْعِتْقِ لَا عِلَّتُهُ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ هِيَ الْقَرَابَةُ فَلَا تُفِيدُ النِّيَّةُ عِنْدَ الشِّرَاءِ

(وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ الشِّرَاءِ شَرْطًا لَا عِلَّةً لِأَنَّ الشِّرَاءَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالْإِعْتَاقُ لَيْسَ إثْبَاتًا لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ إزَالَتُهُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ فَلَا يَكُونُ الشِّرَاءُ إعْتَاقًا. وَلَنَا أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ جَعَلَ نَفْسَ الشِّرَاءِ إعْتَاقًا لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ غَيْرَهُ. وَقَوْلُهُ (وَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِهِ سَقَاهُ فَأَرْوَاهُ)

ص: 166

(وَلَوْ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ لَمْ يُجِزْهُ) وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ لِأَمَةٍ قَدْ اسْتَوْلَدَهَا بِالنِّكَاحِ:

جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ عَطَفَ الْإِعْتَاقَ عَلَى الشِّرَاءِ بِالْفَاءِ وَهُوَ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ بِزَمَانٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَإِنْ لَطَفَ فَلَا يَكُونُ نَفْسَهُ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفِعْلَ إذَا عُطِفَ عَلَى فِعْلٍ آخَرَ بِالْفَاءِ كَانَ الثَّانِي ثَابِتًا بِالْأَوَّلِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؛ يُقَالُ: ضَرَبَهُ فَأَوْجَعَهُ وَأَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ: أَيْ بِذَلِكَ الْفِعْلِ لَا بِغَيْرِهِ. وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ هَلْ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي الْقَرِيبِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ أَثْبَتَهُ لَا يُزِيلُهُ لِأَنَّ الْمُثْبَتَ بِعَيْنِهِ لَا يَكُونُ مُزِيلًا، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ. لَا يُقَالُ: شِرَاءُ الْقَرِيبِ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لَكِنْ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي تَقْرِيبِ إعْتَاقٍ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَكَوْنُ ثُبُوتِ الشَّيْءِ إزَالَةً لَهُ مُحَالٌ بِالْبَدِيهَةِ. وَلَا يُقَالُ: شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ بِوَاسِطَةِ مُوجِبِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ اسْتِحَالَةً لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُثْبِتُ الشَّيْءِ وَنَفْسُ ثُبُوتِهِ إزَالَةً لَهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُمْ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرْعَ أَخْرَجَ الْقَرِيبَ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْمِلْكِ بَقَاءً كَمَا أَنَّهُ أَخْرَجَ الْحُرَّ عَنْ مَحَلِّيَّتِهِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ إلَّا فِي الْمِلْكِ، فَلَوْ لَمْ يَقُلْ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً لَمْ يُتَصَوَّرْ زَوَالُهُ، وَمَنْ قَالَ لِأَمَةٍ قَدْ اسْتَوْلَدَهَا بِالنِّكَاحِ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي فَإِنَّهَا تُعْتَقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَا يَجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا

ص: 167

إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَإِنَّهَا تُعْتَقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا يَجْزِيه عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالِاسْتِيلَادِ فَلَا تَنْضَافُ إلَى الْيَمِينِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِقِنَّةٍ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي حَيْثُ يَجْزِيه عَنْهَا إذَا اشْتَرَاهَا لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى فَلَمْ تَخْتَلَّ الْإِضَافَةُ إلَى الْيَمِينِ وَقَدْ قَارَنَتْهُ النِّيَّةُ

(وَمَنْ)(قَالَ إنْ تُسُرِّيت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ)

مُسْتَحَقَّةٌ بِالِاسْتِيلَادِ فَلَا تُضَافُ إلَى الْيَمِينِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْوَاجِبُ بِالْيَمِينِ مَا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ بِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَرِيبُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِتْقِ بِالْقَرَابَةِ كَمَا أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ مُسْتَحِقَّةٌ لَهُ بِالِاسْتِيلَادِ فَمَا بَالُهَا لَمْ تُعْتَقْ إذَا اشْتَرَاهَا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ التَّعْلِيقِ كَمَا عَتَقَ الْقَرِيبُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَوْلِدِ فَكَانَتْ الْحُرِّيَّةُ مِنْ جِهَتَيْنِ: جِهَةِ الِاسْتِيلَادِ وَالشِّرَاءِ فَلَمْ يَقَعْ عَنْ الْكَفَّارَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ الْقَرِيبِ جِهَةٌ فِي حُرِّيَّتِهِ سِوَى الشِّرَاءِ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ نَاوِيًا لِلْكَفَّارَةِ كَانَتْ الْحُرِّيَّةُ عَنْ الْكَفَّارَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا)(قَالَ لِقِنَّةٍ) ظَاهِرٌ.

قَالَ (وَمَنْ قَالَ إنْ تَسَرَّيْت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ) مَعْنَى تَسَرَّيْت اتَّخَذَتْ سُرِّيَّةً، وَهِيَ فِعْلِيَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إلَى السِّرِّ وَهُوَ الْجِمَاعُ أَوْ الْإِخْفَاءُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُسِرُّهُ، وَإِنَّمَا ضُمَّتْ سِينُهُ لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ قَدْ تَتَغَيَّرُ فِي النِّسْبَةِ كَمَا قَالُوا فِي النِّسْبَةِ إلَى الدَّهْرِ دُهْرِيٌّ بِضَمِّ الدَّالِ لِلْمُعَمَّرِ. وَالتَّسَرِّي عِبَارَةٌ عَنْ التَّحْصِينِ وَالْجِمَاعِ طَلَبَ الْوَلَدَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْوَلَدِ مَعَ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ وَطِئَهَا وَعَزَلَ عَنْهَا لَا يَكُونُ تَسَرِّيًا عِنْدَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَسْتَلْزِمْ مِلْكَ الرَّقَبَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِالنِّكَاحِ

ص: 168

فَتَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ عَتَقَتْ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ فِي حَقِّهَا لِمُصَادَفَتِهَا الْمِلْكَ وَهَذَا لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مُنَكَّرَةٌ فِي هَذَا الشَّرْطِ فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ جَارِيَةٍ عَلَى الِانْفِرَادِ (وَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّاهَا لَمْ تُعْتَقْ) خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: التَّسَرِّي لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرَ الْمِلْكِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ يَصِيرُ التَّزَوُّجُ مَذْكُورًا

أَوْ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، فَإِذَا قَالَ إنْ تَسَرَّيْت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ (فَتَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ عَتَقَتْ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ فِي حَقِّهَا لِمُصَادَفَتِهَا الْمِلْكَ) وَكُلُّ مَا انْعَقَدَ فِي حَقِّهِ الْيَمِينُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فِيهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ.

وَقَوْلُهُ (وَهَذَا لِأَنَّ الْجَارِيَةَ) تَوْضِيحٌ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فِي حَقِّهَا (وَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّاهَا لَمْ تُعْتَقْ خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: التَّسَرِّي لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرَ الْمِلْكِ، وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ يَصِيرُ التَّزَوُّجُ مَذْكُورًا) فَإِنْ قِيلَ: هَذَا قَوْلٌ بِالِاقْتِضَاءِ وَزُفَرُ لَا يَقُولُ بِالِاقْتِضَاءِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ إثْبَاتَ الْمِلْكِ هَاهُنَا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ لَا بِالِاقْتِضَاءِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الثَّابِتَ دَلَالَةً مَا يَكُونُ مَفْهُومًا مِنْ اللَّفْظِ بِلَا تَأَمُّلٍ وَاجْتِهَادٍ كَمَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمُؤْذِيَةِ مَفْهُومًا مِنْ النَّهْيِ عَنْ التَّأْفِيفِ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُقْتَضِي لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لَا يُفْهَمُ

ص: 169

وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ يَصِيرُ مَذْكُورًا ضَرُورَةٌ صِحَّةُ التَّسَرِّي وَهُوَ شَرْطٌ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ وَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ،

مِنْ ذِكْرِ الْمُقْتَضَى، ثُمَّ إذَا قِيلَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عِنْدَ فُلَانٍ سُرِّيَّةٌ يُرَادُ بِهَا جَارِيَةٌ مَمْلُوكَةٌ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمِلْكُ مَفْهُومًا مِنْ التَّسَرِّي بِلَا تَأَمُّلٍ وَاجْتِهَادٍ كَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَا بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَبَقِيَّةُ الشَّارِحِينَ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلَالَةِ هُوَ مَا يَكُونُ بِطَرِيقِ إلْحَاقِ صُورَةٍ بِأُخْرَى بِأَمْرٍ جَامِعٍ كَالضَّرْبِ الْمُلْحَقِ بِالتَّأْفِيفِ بِوَاسِطَةِ الْأَذَى؛ وَلِهَذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّ الدَّلَالَةَ قِيَاسٌ لِوُجُودِ أَصْلٍ وَفَرْعٍ وَعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا، وَالْمِلْكُ مِنْ التَّسَرِّي لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَأَقُولُ: هَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ بِمَعْنَى إنْ وَطِئْت مَمْلُوكَةً لِي فَكَانَتْ الدَّلَالَةُ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ مَجَازًا. أَوْ نَقُولُ هَذَا الْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ عَنْ زُفَرَ وَلَمْ يَقُلْ بِالِاقْتِضَاءِ كَانَ مُنَاقِضًا فَكُفِينَا مَئُونَةَ الْجِدَالِ مَعَهُ (وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ يَصِيرُ مَذْكُورًا ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّسَرِّي) وَتَقْرِيرُهُ: سَلَّمْنَا أَنَّ ذِكْرَهُ ذِكْرُ الْمِلْكِ، وَلَكِنْ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّسَرِّي لِكَوْنِهِ شَرْطًا، وَمَا يَثْبُتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا (وَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ اقْتِضَاءً

ص: 170

وَفِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّرْطِ دُونَ الْجَزَاءِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا فَهَذِهِ وِزَانُ مَسْأَلَتِنَا

(وَمَنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ تُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ وَعَبِيدُهُ) لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي هَؤُلَاءِ، إذْ الْمِلْكُ ثَابِتٌ فِيهِمْ رَقَبَةً وَيَدًا

وَقَوْلُهُ (وَفِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا إذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ.

وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْت مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَالْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِيهَا مِلْكُ النِّكَاحِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى صِحَّةِ الْجَزَاءِ (حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا وَطَلَّقَهَا لَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا فَهَذِهِ وِزَانُ مَسْأَلَتِنَا) مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ثَبَتَ شَرْطُ الشَّرْطِ لِصِحَّةِ الشَّرْطِ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى صِحَّةِ الْجَزَاءِ، وَأَمَّا وِزَانُ مَسْأَلَةِ زُفَرَ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ إنْ تَسَرَّيْت جَارِيَةً فَعَبْدِي حُرٌّ فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّى بِهَا عَتَقَ الْعَبْدُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ فِي الْعَبْدِ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُ عِتْقِهِ بِشَرْطٍ سَيُوجَدُ

(وَمَنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ عَتَقَ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ وَعَبِيدُهُ لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي هَؤُلَاءِ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ لِي كَامِلٌ (إذْ الْمِلْكُ ثَابِتٌ فِيهِمْ رَقَبَةً وَيَدًا) وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ كَذَلِكَ دَخَلُوا تَحْتَ كَلِمَةِ كُلِّ فَيُعْتَقُونَ، وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الرِّجَالَ خَاصَّةً صَدَقَ دِيَانَةً خَاصَّةً، أَمَّا تَصْدِيقُهُ دِيَانَةً فَلِأَنَّ لَفْظَ الْمَمْلُوكِ وُضِعَ لِلْمُذَكَّرِ، وَأَمَّا عَدَمُ تَصْدِيقِهِ قَضَاءً فَلِأَنَّهُمْ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ يُسْتَعْمَلُ فِيهِمْ لَفْظُ الْمُذَكَّرِ عُرْفًا، وَلَوْ نَوَى الْإِنَاثَ لَغَتْ نِيَّتُهُ، وَإِنْ قَالَ لَمْ أَنْوِ الْمُدَبَّرِينَ لَمْ يَصْدُقْ فِي الْقَضَاءِ عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْعَتَاقِ وَلَمْ يَصْدُقْ

ص: 171

(وَلَا يُعْتَقُ مُكَاتَبُوهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ) لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ ثَابِتٍ يَدًا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْمُكَاتَبَةِ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ فَاخْتَلَّتْ الْإِضَافَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ

(وَمَنْ قَالَ لِنِسْوَةٍ لَهُ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَلُقَتْ الْأَخِيرَةُ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ) لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَقَدْ أَدْخَلَهَا بَيْنَ الْأَوَّلِيَّيْنِ ثُمَّ عَطَفَ الثَّالِثَةَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ لِأَنَّ الْعَطْفَ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْحُكْمِ فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَهَذِهِ (وَكَذَا إذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا عَتَقَ الْأَخِيرُ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَوَّلَيْنِ) لِمَا بَيَّنَّا.

لَا قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ (وَلَا يُعْتَقُ مُكَاتَبُوهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ ثَابِتٍ يَدًا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ) الْأَمَةِ (الْمُكَاتَبَةِ) فَكَانَ الْمُكَاتَبُ مَمْلُوكًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ (بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ فَاخْتَلَّتْ الْإِضَافَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ)

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ لِنِسْوَةٍ لَهُ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّهِ) أَيْ بِمَحَلِّ الْحُكْمِ وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ لِأَنَّ الْكَلَامَ سِيقَ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْعَطْفَ كَمَا يَصِحُّ عَلَى مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ يَصِحُّ أَيْضًا عَلَى مَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْحُكْمِ فَيُعْطَفُ عَلَى مَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا وَفُلَانًا، فَإِنَّهُ إنْ كَلَّمَ الْأَوَّلَ حَنِثَ، وَإِنْ كَلَّمَ أَحَدَ الْآخَرِينَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُكَلِّمَهُمَا، وَيَكُونُ الثَّالِثُ مَعْطُوفًا عَلَى الثَّانِي الَّذِي لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ مُنْفَرِدًا وَهَذَا لِأَنَّ الْجَمْعَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَاتَانِ فَحِينَئِذٍ كَانَ هُوَ مُخَيَّرًا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، إنْ شَاءَ أَوْقَعَ عَلَى الْأُولَى، وَإِنْ شَاءَ أَوْقَعَ عَلَى الْأُخْرَيَيْنِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْته هُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ، فَأَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا وَفُلَانًا فِي أَنَّ الثَّالِثَ مَعْطُوفٌ عَلَى الثَّانِي الَّذِي لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ هُوَ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ إذَا دَخَلَتْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ تَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا نَكِرَةً، إلَّا أَنَّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ الْإِثْبَاتِ، وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ فَتَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا، فَإِذَا عَطَفَ الثَّالِثَ عَلَى أَحَدِهِمَا صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَهَذِهِ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى هَذَا كَانَ الْحُكْمُ مَا قُلْنَا، أَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ فَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ النَّفْيِ وَهِيَ فِيهِ

ص: 172

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تَعُمُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَلَا فُلَانًا، فَلَمَّا ذَكَرَ الثَّالِثَ بِحَرْفِ الْوَاوِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَوْ هَذَيْنِ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى هَذَا كَانَ الْحُكْمُ هَكَذَا فَكَذَا هَاهُنَا

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)

يُرِيدُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَالضَّرْبَ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ فِي الْأَيْمَانِ كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا بَعْدَهُ فَلِذَلِكَ قَدَّمَهُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: ثُمَّ الضَّابِطُ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لِأَصْحَابِنَا رحمهم الله فِيمَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَفِيمَا لَا يَحْنَثُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ تَرْجِعُ الْحُقُوقُ فِيهِ إلَى الْمُبَاشِرِ، فَالْحَالِفُ لَا يَحْنَثُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ، وَكُلُّ فِعْلٍ تَرْجِعُ الْحُقُوقُ فِيهِ إلَى مَنْ وَقَعَ حُكْمُ الْفِعْلِ لَهُ يَحْنَثُ. وَالثَّانِي أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَحْتَمِلُ حُكْمُهُ الِانْتِقَالَ إلَى غَيْرِهِ، فَالْحَالِفُ فِيهِ لَا يَحْنَثُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ، وَكُلُّ فِعْلٍ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ يَحْنَثُ. قِيلَ وَكُلُّ مَا يَسْتَغْنِي الْمَأْمُورُ فِي مُبَاشَرَتِهِ عَنْ إضَافَتِهِ إلَى الْآمِرِ فَالْآمِرُ لَا يَحْنَثُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ يَحْنَثُ. وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى رَجَعَتْ حُقُوقُهُ إلَى مَنْ وَقَعَ حُكْمُ الْعَقْدِ لَهُ فَمَقْصُودُ الْحَالِفِ مِنْ الْحَلِفِ التَّوَقِّي عَنْ حُكْمِ الْعَقْدِ لَهُ وَعَنْ حُقُوقِهِ وَكِلَاهُمَا يَرْجِعَانِ إلَيْهِ، وَمَتَى رَجَعَتْ حُقُوقُهُ إلَى الْعَاقِدِ لَا إلَى مَنْ وَقَعَ حُكْمُ الْعَقْدِ لَهُ فَمَقْصُودُهُ مِنْ الْحَلِفِ التَّوَقِّي مِنْ رُجُوعِ الْحُقُوقِ إلَيْهِ وَهِيَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ. ثُمَّ مِمَّا يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ النِّكَاحُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْقَرْضُ وَالِاسْتِقْرَاضُ وَضَرْبُ الْعَبْدِ وَالذَّبْحُ وَالْإِيدَاعُ وَقَبُولُ الْوَدِيعَةِ وَالْإِعَارَةُ وَالِاسْتِعَارَةُ وَخِيَاطَةُ الثَّوْبِ وَالْبِنَاءُ، فَإِنَّ الْحَالِفَ كَمَا يَحْنَثُ فِيهَا بِفِعْلِ نَفْسِهِ يَحْنَثُ أَيْضًا

ص: 173

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ أَوْ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يُؤَاجِرُ فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ لَهُ مِنْ الْعَاقِدِ حَتَّى كَانَتْ الْحُقُوقُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْعَاقِدُ هُوَ الْحَالِفُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ الشَّرْطُ وَهُوَ الْعَقْدُ مِنْ الْآمِرِ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا أَوْ يَكُونَ الْحَالِفُ ذَا سُلْطَانٍ لَا يَتَوَلَّى الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا يَعْتَادُهُ

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ أَوْ لَا يُطَلِّقُ أَوْ لَا يُعْتِقُ فَوَكَّلَ بِذَلِكَ حَنِثَ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي هَذَا سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ وَلِهَذَا لَا يُضِيفُهُ إلَى نَفْسِهِ بَلْ إلَى الْآمِرِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْآمِرِ لَا إلَيْهِ (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يَدِينَ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً) وَسَنُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ. وَأَمَّا مَا لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَهُوَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْإِجَارَةُ وَالِاسْتِئْجَارُ وَالصُّلْحُ عَنْ الْمَالِ وَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ أَلْحَقَ الْخُصُومَةَ بِهَذَا الْقِسْمِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا ظَهَرَ مَعْنَى كَلَامِهِ إلَّا أَلْفَاظًا نُنَبِّهُ عَلَيْهَا.

وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَنْوِيَ) اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ: أَيْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنْ لَا يَأْمُرَ غَيْرَهُ أَيْضًا فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ. وَقَوْلُهُ (أَوْ يَكُونُ الْحَالِفُ ذَا سُلْطَانٍ) يَعْنِي إذَا بَاشَرَهُ الْمَأْمُورُ

ص: 174

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ أَوْ لَا يَذْبَحُ شَاتَه فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ) لِأَنَّ الْمَالِكَ لَهُ وِلَايَةُ ضَرْبِ عَبْدِهِ وَذَبْحِ شَاتِه فَيَمْلِكُ تَوْلِيَتَهُ غَيْرَهُ ثُمَّ مَنْفَعَتَهُ رَاجِعَةً إلَى الْآمِرِ فَيَجْعَلُ هُوَ مُبَاشِرًا إذْ لَا حُقُوقَ لَهُ تَرْجِعُ إلَى الْمَأْمُورِ (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِي دِينَ فِي الْقَضَاءِ) بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ إلَّا تَكَلُّمًا بِكَلَامٍ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ مِثْلُ التَّكَلُّمِ بِهِ وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا، فَإِذَا نَوَى التَّكَلُّمَ بِهِ فَقَدْ نَوَى الْخُصُوصَ فِي الْعَامِّ فَيَدِينُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، أَمَّا الذَّبْحُ وَالضَّرْبُ فَفِعْلٌ حِسِّيٌّ يُعْرَفُ بِأَثَرِهِ، وَالنِّسْبَةُ إلَى الْآمِرِ بِالتَّسْبِيبِ مَجَازٌ، فَإِذَا نَوَى الْفِعْلَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ نَوَى الْحَقِيقَةَ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً

حَنِثَ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الْيَمِينِ مَنْعُ نَفْسِهِ عَمَّا هُوَ مُعْتَادُهُ وَمُعْتَادُهُ الْأَمْرُ لِلْغَيْرِ، فَلَمَّا أَمَرَ غَيْرَهُ وَفَعَلَ الْمَأْمُورَ حَنِثَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ حَنِثَ أَيْضًا لِوُجُودِ الْبَيْعِ مِنْهُ حَقِيقَةً.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمَالِكَ لَهُ وِلَايَةُ ضَرْبِ عَبْدِهِ) يَلُوحُ إلَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِضَرْبِ حُرٍّ وَقَدْ حَلَفَ عَلَى ضَرْبِهِ فَضَرَبَهُ الْمَأْمُورُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ (وَوَجْهُ الْفَرْقِ) هُوَ الْفَرْقُ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِهِ سَنُشِيرُ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا نَوَى الْخُصُوصَ فِي الْعُمُومِ يَصْدُقُ دِيَانَةً

ص: 175

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَضَرَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ) فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ضَرْبِ الْوَلَدِ عَائِدَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ التَّأَدُّبُ وَالتَّثَقُّفُ فَلَمْ يَنْسِبْ فَعَلَهُ إلَى الْآمِرِ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِضَرْبِ الْعَبْدِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الِائْتِمَارِ بِأَمْرِهِ عَائِدَةٌ إلَى الْآمِرِ فَيُضَافُ الْفِعْلُ إلَيْهِ (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ إنْ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَدَسَّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ فِي ثِيَابِ الْحَالِفِ فَبَاعَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ دَخَلَ عَلَى الْبَيْعِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلَهُ بِأَمْرِهِ إذْ الْبَيْعُ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَلَمْ تُوجَدْ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ بِعْت ثَوْبًا لَك حَيْثُ يَحْنَثُ إذَا بَاعَ ثَوْبًا مَمْلُوكًا لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ دَخَلَ عَلَى الْعَيْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ فَيَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَنَظِيرُهُ الصِّيَاغَةُ وَالْخِيَاطَةُ وَكُلُّ مَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَضَرْبِ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِيهِ فِي الْوَجْهَيْنِ.

لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ. وَإِذَا نَوَى الْحَقِيقَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ صَدَقَ قَضَاءً وَدِيَانَةً، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ يُصْرَفُ إلَى حَقِيقَتِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ؛ فَإِذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ كَانَ الصَّرْفُ إلَيْهَا أَوْلَى.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ضَرْبِ الْوَلَدِ عَائِدَةٌ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْوَلَدِ، وَذَكَرَ ضَمِيرَ الْمَنْفَعَةِ نَظَرًا إلَى الْخَبَرِ وَهُوَ التَّأَدُّبُ وَالتَّثَقُّفُ. وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ إنْ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ. وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ لَامَ الِاخْتِصَاصِ إذَا اتَّصَلَ بِضَمِيرٍ عَقِيبَ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، فَإِمَّا أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَفْعُولِهِ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْ الْمَفْعُولِ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ الْفِعْلُ النِّيَابَةَ أَوْ لَا، فَإِنْ احْتَمَلَهَا وَتَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا كَانَ اللَّامُ لِاخْتِصَاصِ الْفِعْلِ، وَشَرَطَ حِنْثَ وُقُوعِ الْفِعْلِ لِأَجْلِ مَنْ لَهُ الضَّمِيرُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْعَيْنُ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَمْرِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ الْمَفْعُولِ كَانَ اخْتِصَاصُ الْعَيْنِ بِهِ وَشَرْطُ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُ سَوَاءً كَانَ الْفِعْلُ وَقَعَ لِأَجْلِهِ أَوْ لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهَا لَا يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِي الْوَجْهَيْنِ: أَيْ فِي التَّوَسُّطِ وَالتَّأَخُّرِ بَلْ يَحْنَثُ إذَا فَعَلَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ النِّيَابَةَ لَمْ يُمْكِنْ انْتِقَالُهُ إلَى غَيْرِ الْفَاعِلِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِاخْتِصَاصِ الْعَيْنِ صَوْنًا لِلْكَلَامِ عَنْ الْإِلْغَاءِ، وَمَعْنَى دَسَّ أَخْفَى، وَالْمُرَادُ بِالْغُلَامِ إمَّا الْعَبْدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ وَإِمَّا الْوَلَدُ

ص: 176

(وَمَنْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ إنْ بِعْته فَبَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْمِلْكُ فِيهِ قَائِمٌ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ

كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ ضَرْبَ الْعَبْدِ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِضَرْبِهِ حَنِثَ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَعُودُ إلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قُبَيْلَ هَذَا، وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ وَجَّهَ الْأَوَّلَ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَكَالَةِ وَالنِّيَابَةِ وَكَالَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُقُوقٌ يَرْجِعُ بِهَا الْوَكِيلُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَلَيْسَ لِلضَّرْبِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَأَجَابَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْهَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَتَخْطِئَةٌ لَهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا حُقُوقَ لَهُ تَرْجِعُ إلَى الْمَأْمُورِ، وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلَهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ.

قَالَ (وَمَنْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ إنْ بِعْته فَبَاعَهُ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ عَتَقَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْمِلْكُ فِيهِ قَائِمٌ) لِأَنَّ خِيَارَهُ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِالِاتِّفَاقِ (فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ) قِيلَ لَوْ كَانَ الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِ إفَادَةِ الْحُكْمِ كَافِيًا لِوُقُوعِ مَا عُلِّقَ بِهِ لَكَانَ النِّكَاحُ كَذَلِكَ، فَإِذَا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالنِّكَاحِ وَوَجَدَ النِّكَاحَ فَاسِدًا وَجَبَ أَنْ يَنْزِلَ الْجَزَاءُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ لَيْسَ مِنْ الْمُنَافِي، وَجَوَازُ النِّكَاحِ مَعَ الْمُنَافِي؛ لِأَنَّهُ رِقٌّ وَالْإِنْسَانِيَّة تُنَافِيهِ، فَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ

ص: 177

(وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ) أَيْضًا لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الشِّرَاءُ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ فِيهِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ، وَكَذَا عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ بِتَعْلِيقِهِ وَالْمُعَلَّقُ كَالْمُنْجَزِ، وَلَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ سَابِقًا عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا

فَاسِدًا اُعْتُضِدَ فَسَادُهُ بِمَا يُخَالِفُ الدَّلِيلَ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلدَّلِيلِ فَكَانَ مَوْجُودًا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْمَحَلِّ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ الْحُكْمَ؛ وَلَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ عَتَقَ أَيْضًا لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الشِّرَاءُ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ فِيهِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهُ عِنْدَهُمَا، وَكَذَا عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ بِتَعْلِيقِهِ وَالْمُعَلَّقُ كَالْمُنَجَّزِ، وَلَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ انْفَسَخَ الْخِيَارُ وَثَبَتَ الْمِلْكُ وَوَقَعَ الْعِتْقُ فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ. وَرُدَّ بِأَنَّ فِي التَّنْجِيزِ لَوْ لَمْ يَنْفَسِخْ الْخِيَارُ لَبَطَلَ التَّنْجِيزُ أَصْلًا لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ التَّأْخِيرَ، وَفِي التَّعْلِيقِ لَوْ لَمْ يَنْفَسِخْ لَمْ يَبْطُلْ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ التَّنْجِيزِ بِفَسْخِ الْخِيَارِ صِحَّةُ حُكْمِ التَّعْلِيقِ بِهِ فِي الْحَالِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعِتْقَ يُحْتَاطُ فِي تَعْجِيلِهِ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِإِيقَاعِهِ فِي الْحَالِ بِفَسْخِ الْخِيَارِ فَلَا يُؤَخَّرُ إلَى مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَطُولِبَ هَاهُنَا فَرْقَانِ: فَرْقٌ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَهَا وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَإِنَّهُ قَدْ اشْتَرَاهُ وَلَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ قَرِيبَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَسْقُطْ الْخِيَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ بِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ، وَمَتَى كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ وَبَيْنَ الثَّانِيَتَيْنِ بِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ كَلِمَةُ الْإِعْتَاقِ بَعْدَ الشِّرَاءِ حَتَّى يَسْقُطَ بِهَا الْخِيَارُ فَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسْقِطْهُ، وَأَمَّا فِي الْإِيجَابِ الْمُعَلَّقِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَائِلًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ أَنْتَ حُرٌّ فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ ضَرُورَةً لِوُجُودِ مَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ، وَوَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ يُفِيدُ أَنَّ الْبَيْعَ إذَا كَانَ بَاتًّا لَا يُعْتَقُ وَإِنْ وُجِدَ الْبَيْعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْمَعْلُولِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، فَكَمَا تَمَّ الْبَيْعُ زَالَ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِهِ وَالْجَزَاءُ لَا يَنْزِلُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ مَا فِيهِ الشَّرْطُ فَإِنَّهُمَا

ص: 178

(وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَبِعْ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذِهِ الْأَمَةَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَأَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ عَدَمُ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ

(وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا تَزَوَّجْت عَلَيَّ فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ ثَلَاثًا طَلُقَتْ هَذِهِ الَّتِي حَلَّفَتْهُ فِي الْقَضَاءِ)

يَتَعَاقَبَانِ فِيهِ

(وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَبِعْ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذِهِ الْأَمَةَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَأَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ عَدَمُ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ) وَهَذَا فِي إعْتَاقِ الْعَبْدِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي التَّدْبِيرِ وَالْأَمَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانٍ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يَجُوزُ بَيْعُهُ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ، وَالْأَمَةُ يَجُوزُ أَنْ تَرْتَدَّ فَتُسْبَى بَعْدَ اللِّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُدَبَّرِ مَا دَامَ مُدَبَّرًا، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ يُفْسَخُ التَّدْبِيرُ وَيَكُونُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ بَيْعَ الْقِنِّ لَا بَيْعَ الْمُدَبَّرِ، وَفَوَاتُ الْمَحَلِّيَّةِ إنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ التَّدْبِيرِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى غَيْرُ مَخْلَصٍ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ فَوَاتَ الْمَحَلِّيَّةِ بِبَقَاءِ التَّدْبِيرِ وَالتَّدْبِيرُ قَدْ يَزُولُ فَلَا تَفُوتُ الْمَحَلِّيَّةُ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ، وَالْأَوْلَى فِي الْبَيَانِ أَنْ يُقَالَ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ لَا يَجُوزُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ أَقْدَمَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَضَاءِ بِمَا لَا يَجُوزُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَصْلُ عَدَمُ مَا يَحْدُثُ فَكَانَ عَدَمُ فَوَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِبَيْعِهِ مُخَالِفًا لِلظَّاهِرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَإِنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ لَا تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ فِي التَّعْلِيقِ بِعَدَمِ بَيْعِهَا بِاعْتِبَارِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَطْلُقُ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمِلْكِ وَقَدْ انْتَهَى ذَلِكَ الْمِلْكُ بِالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ)(قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا) ظَاهِرٌ.

ص: 179

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ جَوَابًا فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ غَرَضَهُ إرْضَاؤُهَا وَهُوَ بِطَلَاقِ غَيْرِهَا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ عُمُومُ الْكَلَامِ وَقَدْ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ فَيُجْعَلُ مُبْتَدِئًا، وَقَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ إيحَاشُهَا حِينَ اعْتَرَضَتْ عَلَيْهِ فِيمَا أَحَلَّهُ الشَّرْعُ وَمَعَ التَّرَدُّدِ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا، وَإِنْ نَوَى غَيْرَهَا يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ) أَيْ أَصْلِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْجَوَابَ الْمُطَابِقَ لَقَالَ إنْ فَعَلْت فَهِيَ طَالِقٌ: فَلَمَّا ذَكَرَ كَلِمَةَ كُلَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الْعُمُومُ فَيَعْمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ فَكَانَ مُبْتَدِئًا. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ إيحَاشَهَا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ الْغَرَضَ إرْضَاؤُهَا

ص: 180

‌بَابُ الْيَمِينِ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ

(وَمَنْ قَالَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ فَعَلَيْهِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَاقَ دَمًا) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَاجِبَةٍ وَلَا مَقْصُودَةٍ فِي الْأَصْلِ، مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إيجَابَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ زِيَارَةُ

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ)

قَدَّمَ هَذَا الْبَابَ عَلَى بَابِ اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ فِي هَذَا ذِكْرَ الْعِبَادَاتِ وَذِكْرُهَا مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ عَمَّا تَقَدَّمَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ. وَمَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ يَلْزَمُهُ إمَّا حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَفِي وَجْهٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَذَلِكَ، وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ.

أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَفِيمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ. وَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَوْ إلَى بَكَّةَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي مَكَّةَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَزِمَهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ بِهَا وَاخْتَارَ الْحَجَّ يُحْرِمُ مِنْ الْحَرَمِ وَيَخْرُجُ إلَى عَرَفَاتٍ مَاشِيًا، فَإِنْ رَكِبَ لَزِمَهُ شَاةٌ، وَإِنْ اخْتَارَ الْعُمْرَةَ خَرَجَ إلَى التَّنْعِيمِ وَيُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَخْرُجُ إلَى التَّنْعِيمِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: جَازَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَقْتَ الرَّوَاحِ إلَى التَّنْعِيمِ لِأَنَّ الرَّوَاحَ إلَيْهِ لَيْسَ بِمَشْيٍ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَإِنَّمَا الْمَشْيُ إلَيْهِ وَقْتَ الرُّجُوعِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمْشِي وَقْتَ الرَّوَاحِ أَيْضًا لِأَنَّ الرَّوَاحَ إلَيْهِ لِلْإِحْرَامِ فَكَانَ مَشْيًا إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ بِهَذَا النَّذْرِ شَيْءٌ (لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَاجِبَةٍ) لِأَنَّ الْمَشْيَ أَمْرٌ مُبَاحٌ (وَلَا مَقْصُودَةَ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي لِذَاتِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ لَا نَفْسُهُ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ النَّذْرُ بِهِ بَاطِلًا لَكِنْ تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ وَالْعُرْفِ. أَمَّا الْأَثَرُ فَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: بَلَغَنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: مَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَجَّ مَاشِيًا حَجَّ رَاكِبًا وَذَبَحَ شَاةً لِرُكُوبِهِ. كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ، وَلَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِمَا نَحْنُ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَجَّ مَاشِيًا بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَقَالَ آخَرُونَ:

ص: 181

الْبَيْتِ مَاشِيًا فَيَلْزَمُهُ مَاشِيًا، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَرَاقَ دَمًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَنَاسِكِ (وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ الْخُرُوجُ أَوْ الذَّهَابُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْتِزَامَ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ (وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ) وَلَوْ قَالَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ. لَهُمَا أَنَّ الْحَرَمَ شَامِلٌ عَلَى الْبَيْتِ، وَكَذَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَصَارَ ذِكْرُهُ كَذِكْرِهِ، بِخِلَافِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنْهُ. وَلَهُ أَنَّ الْتِزَامَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَامْتَنَعَ أَصْلًا

رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ أَجَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ عَلَيْهِ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً وَهَذَا مُطَابِقٌ. وَقَدْ رَوَى شَيْخِي فِي شَرْحِهِ «أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُحْرِمَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ» .

وَأَمَّا الْعُرْفُ فَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إيجَابَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ مَاشِيًا فَيَلْزَمُهُ مَاشِيًا، وَإِنْ رَكِبَ وَأَرَاقَ دَمًا فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَنَاسِكِ. وَإِيجَابُ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِهَذَا النَّذْرِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ مِنْ بَابِ ذِكْرِ السَّبَبِ وَإِرَادَةِ الْمُسَبَّبِ، وَلِهَذَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّاذِرُ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ اسْتِعَارَةً لِالْتِزَامِ الْحَجِّ كَانَ اللَّفْظُ غَيْرَ مَنْظُورٍ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَضْرِبَ بِثَوْبِهِ حَطِيمَ الْكَعْبَةِ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْمَشْيُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ هُنَاكَ ضَرْبُ الْحَطِيمِ بِثَوْبِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ إهْدَاءُ الثَّوْبِ إلَى مَكَّةَ لِكَوْنِ اللَّفْظِ عِبَارَةً عَنْهُ. أُجِيبَ بِأَنَّ لِلْحَجِّ مَاشِيًا فَضِيلَةً لَيْسَتْ لَهُ رَاكِبًا، قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَجَّ مَاشِيًا فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ، قِيلَ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: وَاحِدَةٌ بِسَبْعِمِائَةٍ» فَاعْتُبِرَ لَفْظُهُ لِإِيجَابِ الْمَشْيِ لِإِحْرَازِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ، وَمَعْنَاهُ فِي إيجَابِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَعَارَفِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.

وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْعُرْفِ تُسْتَعْمَلُ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ مَاشِيًا لَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُرَادَةٌ بِلَفْظِهِ وَمَجَازُهُ بِمَعْنَاهُ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَفِيمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ الْخُرُوجُ أَوْ الذَّهَابُ أَوْ السَّعْيُ أَوْ السَّفَرُ أَوْ الرُّكُوبُ أَوْ الْإِتْيَانُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الْمَشْيُ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِعَدَمِ الْأَثَرِ وَالْعُرْفِ فِيهِ فَكَانَ بَاقِيًا عَلَى الْقِيَاسِ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَفِيمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَزِمَهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ لِأَنَّ الْحَرَمَ شَامِلٌ لِلْبَيْتِ (وَكَذَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَصَارَ ذِكْرُهُ كَذِكْرِهِ، بِخِلَافِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنْهُ. وَلَهُ أَنَّ الْتِزَامَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ) حَتَّى يَصِيرَ مَجَازًا (وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَامْتَنَعَ أَصْلًا)

ص: 182

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 183

(وَمَنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ، وَقَالَ: حَجَجْتُ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ ضَحَّى الْعَامَ بِالْكُوفَةِ لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ

وَمَنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ) ظَاهِرٌ.

ص: 184

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُعْتَقُ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ التَّضْحِيَةُ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ الْحَجِّ فَيَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ. وَلَهُمَا أَنَّهَا قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَفْيُ الْحَجِّ لَا إثْبَاتُ التَّضْحِيَةِ لِأَنَّهُ لَا مَطَالِبَ لَهَا فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ الْعَامَ. غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا النَّفْيَ مِمَّا يُحِيطُ عِلْمُ الشَّاهِدِ بِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يُمَيَّزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ تَيْسِيرًا

وَقَوْلُهُ (لَكِنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ تَيْسِيرًا) نُوقِضَ بِمَسْأَلَةِ السَّيْرِ الْكَبِيرِ: رَجُلَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّا سَمِعْنَاهُ يَقُولُ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ النَّصَارَى فَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ وَصَلْت بِقَوْلِي قَوْلَ النَّصَارَى جَازَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى نَفْيِ شَيْءٍ أَحَاطَ بِهِ عِلْمُ الشَّاهِدِ.

وَأَجَابَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ بِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ وُجُودِيٍّ وَهُوَ سُكُوتُ الزَّوْجِ عَقِيبَ قَوْلِهِ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلَكِنْ قَالَ الْإِمَامَانِ الْعَلَمَانِ فِي التَّحْقِيقِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ: إذَا قَالَ الشَّاهِدَانِ الزَّوْجُ لَمْ يَقُلْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا هَذَا بَيَانٌ مِنْهُمَا لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِمَا بِذَلِكَ، فَكَانَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ مُعْتَبَرًا، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مُخْتَارَ الْمُصَنِّفِ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحَرَجِ.

ص: 185

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى الصَّوْمَ وَصَامَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ يَوْمِهِ حَنِثَ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ إذْ الصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ يَوْمًا أَوْ صَوْمًا فَصَامَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ لَا يَحْنَثُ)

قَوْلُهُ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ) ظَاهِرٌ.

ص: 186

لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ التَّامُّ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا وَذَلِكَ بِإِنْهَائِهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ صَرِيحٌ فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ بِهِ

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ سَجَدَ مَعَ ذَلِكَ ثُمَّ قَطَعَ حَنِثَ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ بِالِافْتِتَاحِ اعْتِبَارًا بِالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَرْكَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَمَا لَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِهَا لَا يُسَمَّى صَلَاةً، بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَيَتَكَرَّرُ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ التَّامُّ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا) أَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَن هَذَا الْيَوْمَ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ صَحَّ يَمِينُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالصَّوْمُ مَقْرُونٌ بِالْيَوْمِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُرِدْ بِهِ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ فَإِنَّ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ بَعْدَ الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ لَيْسَ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ كَوْنُ الْيَمِينِ بَعْدَ الْأَكْلِ أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ فَانْصَرَفَ إلَى الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ وَانْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي) ظَاهِرٌ.

ص: 187

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ لِلنَّهْيِ عَنْ الْبُتَيْرَاءِ.

وَقَوْلُهُ (لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) قِيلَ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِمُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِالرَّكْعَتَيْنِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالْقَعْدَةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً بِدُونِ الْقَعْدَةِ شَرْعًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ صَلَاةٍ تَامَّةٍ، وَتَمَامُهَا شَرْعًا إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَعْدَةِ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 188

‌بَابُ الْيَمِينِ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ

(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَبِسْتِ مِنْ غَزْلِكِ فَهُوَ هَدْيٌ فَاشْتَرَى قُطْنًا فَغَزَلَتْهُ وَنَسَجَتْهُ فَلَبِسَهُ فَهُوَ هَدْيٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ حَتَّى تَغْزِلَ مِنْ قُطْنٍ مَلَكَهُ يَوْمَ حَلَفَ) وَمَعْنَى الْهَدْيِ التَّصَدُّقُ بِهِ بِمَكَّةَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَيْهَا. لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ اللُّبْسَ وَغَزْلَ الْمَرْأَةِ لَيْسَا مِنْ أَسْبَابِ مِلْكِهِ. وَلَهُ أَنَّ غَزْلَ الْمَرْأَةِ عَادَةً يَكُونُ مِنْ قُطْنِ الزَّوْجِ وَالْمُعْتَادُ هُوَ الْمُرَادُ

بَابُ الْيَمِينِ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ)

:

قَدَّمَ يَمِينَ لُبْسِ الثِّيَابِ وَغَيْرَهُ عَلَى الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، إمَّا لِأَنَّ يَمِينَ لُبْسِ الثِّيَابِ أَكْثَرُ مِنْهُ وُجُودًا، وَإِمَّا لِأَنَّ الْيَمِينَ بِهِ مَشْرُوعٌ وُجُودًا وَعَدَمًا، بِخِلَافِ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَبِسْت مِنْ غَزْلِك فَهُوَ هَدْيٌ) أَيْ صَدَقَةٌ أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْمُعْتَادُ هُوَ الْمُرَادُ) يَعْنِي فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ مِنْ قُطْنِي

ص: 189

وَذَلِكَ سَبَبٌ لِمِلْكِهِ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ إذَا غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ وَقْتَ النَّذْرِ لِأَنَّ الْقُطْنَ لَمْ يَصِرْ مَذْكُورًا.

أَوْ مِنْ قُطْنٍ سَأَمْلِكُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ الْغَزْلُ مِنْ قُطْنِ الزَّوْجِ (سَبَبٌ لِمِلْكِ الزَّوْجِ لِمَا غَزَلَتْهُ) يَعْنِي مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا) إيضَاحٌ لِقَوْلِهِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِمِلْكِهِ: يَعْنِي أَنَّهَا إذَا غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لِلزَّوْجِ وَقْتَ الْحَلِفِ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لَأَنْ يَمْلِكَ الزَّوْجُ غَزْلَهَا مَعَ أَنَّ الْقُطْنَ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ هُنَاكَ، وَمَا ذَاكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ غَزْلَ الْمَرْأَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ

ص: 190

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حُلِيًّا فَلَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا حَتَّى أُبِيحَ اسْتِعْمَالُهُ لِلرِّجَالِ وَالتَّخَتُّمُ بِهِ لِقَصْدِ الْخَتْمِ (وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ حَنِثَ) لِأَنَّهُ حُلِيٌّ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ لِلرِّجَالِ. (وَلَوْ لَبِسَ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ غَيْرِ مُرَصَّعٍ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ حُلِيٌّ حَقِيقَةً حَتَّى سُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَلَهُ أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّى بِهِ عُرْفًا إلَّا مُرَصَّعًا، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ. وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ،

الزَّوْجِ لِمَا غَزَلَتْهُ فِي الْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقُطْنُ مَمْلُوكًا وَقْتَ الْحَلِفِ أَوْ لَمْ يَكُنْ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حَلْيًا) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ مَا يَتَحَلَّى بِهِ النِّسَاءُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ جَوْهَرٍ، وَاسْتَدَلَّ بِإِبَاحَةِ اسْتِعْمَالِهِ لِلرِّجَالِ عَلَى أَنَّ الْخَاتَمَ مِنْ فِضَّةٍ لَيْسَ بِحَلْيٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَلْيًا لَحَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ لِأَنَّ التَّزَيُّنَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَلَمَّا جَازَ التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ لَهُمْ لِقَصْدِ الْخَتْمِ أَوْ لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ حَلْيًا أَوْ كَانَ نَاقِصًا فِي كَوْنِهِ حَلْيًا فَكَانَ مُبَاحًا (وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ حَنِثَ) يَعْنِي كَيْفَمَا كَانَ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ فَصٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ. قِيلَ الْخَوَاتِيمُ ثَلَاثَةٌ، الذَّهَبُ مُطْلَقًا، وَالْفِضَّةُ الْمَفْصُوصَةُ وَالْحَالِفُ أَنْ لَا يَلْبَسَ حَلْيًا يَحْنَثُ بِلُبْسِهِمَا، وَالْفِضَّةُ الْغَيْرُ الْمَفْصُوصَةُ وَالْحَالِفُ لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ لَبِسَ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ) ظَاهِرٌ، وَالْعِقْدُ بِالْكَسْرِ هُوَ الْقِلَادَةُ، وَالتَّرْصِيعُ التَّرْكِيبُ، يُقَالُ تَاجٌ مُرَصَّعٌ بِالْجَوَاهِرِ. وَقَوْلُهُ (حَتَّى سُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ) أَيْ بِالْحَلْيِ يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وقَوْله تَعَالَى {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} جَعَلَ اللُّؤْلُؤَ حَلْيًا بِجَعْلِهِ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى " {يُحَلَّوْنَ} "

ص: 191

وَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ التَّحَلِّيَ بِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ مُعْتَادٌ

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَنَامَ عَلَيْهِ وَفَوْقَهُ قِرَامٌ حَنِثَ) لِأَنَّهُ تَبَعُ الْفِرَاشِ فَيُعَدُّ نَائِمًا عَلَيْهِ (وَإِنْ جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَنَامَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ فَقَطَعَ النِّسْبَةَ عَنْ الْأَوَّلِ

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ حَصِيرٍ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ لِبَاسُهُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ حَائِلًا (وَإِنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ فَوْقَهُ بِسَاطٌ أَوْ حَصِيرٌ حَنِثَ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ جَالِسًا عَلَيْهِ، وَالْجُلُوسُ عَلَى السَّرِيرِ فِي الْعَادَةِ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ فَوْقَهُ سَرِيرًا آخَرَ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ فَقَطَعَ النِّسْبَةَ عَنْهُ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ)(حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ) يُرِيدُ عَلَى فِرَاشٍ بِعَيْنِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَإِنْ جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَنَامَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُنَكَّرًا لَحَنِثَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ نَامَ عَلَى فِرَاشٍ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ حَائِلًا) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ نَزَعَ ثَوْبَهُ وَطَرَحَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ ثَوْبُهُ تَبَعًا لَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْبِسَاطِ وَالْحَصِيرِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ) ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.

ص: 192

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ)

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ إنْ ضَرَبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَاتَ فَضَرَبَهُ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ) لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ، وَالْإِيلَامُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ، وَمَنْ يُعَذَّبُ فِي الْقَبْرِ تُوضَعُ فِيهِ الْحَيَاةُ فِي قَوْلِ الْعَامَّةِ

بَابُ الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ)

يُرِيدُ بِالْغَيْرِ الْغُسْلَ وَالْكِسْوَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ إنْ ضَرَبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَاتَ فَضَرَبَهُ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ) وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ لِانْتِفَاءِ الْإِيلَامِ فِيهِ، وَنُوقِضَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} فَقَدْ بَرَّ أَيُّوبُ عليه السلام فِي يَمِينِهِ بِالضَّرْبِ بِهَذَا الَّذِي ذُكِرَ، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِيلَامُ لِمَا أَنَّ الضِّغْثَ عِبَارَةٌ عَنْ الْحُزْمَةِ الصَّغِيرَةِ مِنْ رَيْحَانٍ أَوْ حَشِيشٍ فَلَمْ يَكُنْ لِمَجْمُوعِهِ إيلَامٌ فَكَيْفَ لِأَجْزَائِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا بِالنَّصِّ فِي حَقِّ أَيُّوبَ عليه الصلاة والسلام خَاصَّةً إكْرَامًا لَهُ فِي حَقِّ امْرَأَتِهِ تَخْفِيفًا عَلَيْهَا لِعَدَمِ جِنَايَتِهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَجْزَاءِ الضِّغْثِ إيلَامٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي تَفْسِيرِ الضِّغْثِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الضِّغْثَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَبْضَةِ مِنْ الشَّجَرِ فَجَازَ أَنْ يُصِيبَهَا أَلَمُ أَجْزَائِهَا فَكَانَ حُكْمُهُ بَاقِيًا فِي شَرِيعَتِنَا أَيْضًا، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ فِي الْكَشَّافِ وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَمَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَن فُلَانًا مِائَةَ سَوْطٍ فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً إنْ وَصَلَ إلَيْهِ كُلُّ سَوْطٍ بِحِيَالِهِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَالْإِيلَامُ شَرْطٌ فِيهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الضَّرْبِ الْإِيلَامُ. وَقَوْلُهُ (وَمَنْ يُعَذَّبُ فِي الْقَبْرِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ

ص: 193

وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَمِنْهُ الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِنْ الْمَيِّتِ لَا يَتَحَقَّقُ

قَوْلُكُمْ الْإِيلَامُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ يُشْكِلُ بِعَذَابِ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِ الْعَامَّةِ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ أَبِي الْحُسَيْنِ الصَّالِحِيِّ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ عِنْدَهُ يُعَذَّبُ مِنْ غَيْرِ حَيَاةٍ وَلَا يَشْتَرِطُ الْحَيَاةَ لِتَعْذِيبِ الْمَيِّتِ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ) يَعْنِي إنْ قَالَ إنْ كَسَوْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَكَسَاهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَحْنَثُ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ) أَيْ الْكِسْوَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِكْسَاءِ (التَّمْلِيكُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَمِنْهُ الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِنْ الْمَيِّتِ لَا يَتَحَقَّقُ

ص: 194

إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ السَّتْرَ، وَقِيلَ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى اللُّبْسِ (وَكَذَا الْكَلَامُ وَالدُّخُولُ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ الْإِفْهَامُ وَالْمَوْتُ يُنَافِيهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ زِيَارَتُهُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ يُزَارُ قَبْرُهُ لَا هُوَ

(وَلَوْ قَالَ: إنْ غَسَّلْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَغَسَّلَهُ بَعْدَ مَا مَاتَ يَحْنَثُ) لِأَنَّ الْغُسْلَ هُوَ الْإِسَالَةُ وَمَعْنَاهُ التَّطْهِيرُ

إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ) أَيْ الْكِسْوَةِ (السَّتْرَ) فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى اللُّبْسِ) دُونَ التَّمْلِيكِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبُو اللَّيْثِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ فُلَانًا فَأَلْبَسَهُ وَهُوَ مَيِّتٌ حَنِثَ لِأَنَّ الْإِلْبَاسَ عِبَارَةٌ عَنْ السَّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ وَالْمَيِّتُ مَحَلٌّ لِذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الْكَلَامُ وَالدُّخُولُ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ فَكَلَّمَهُ أَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْدَمَا مَاتَ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ الْإِفْهَامُ وَالْمَوْتُ يُنَافِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ زِيَارَتُهُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ يُزَارُ قَبْرُهُ لَا هُوَ) فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ

ص: 195

وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَمَدَّ شَعْرَهَا أَوْ خَنَقَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ) لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْإِيلَامُ، (وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ فِي حَالِ الْمُلَاعَبَةِ) لِأَنَّهُ يُسَمَّى مُمَازَحَةً لَا ضَرْبًا

«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلَّمَ أَصْحَابَ الْقَلِيبِ حَيْثُ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَقَالَ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَقَدْ وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا؟» أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُعْجِزَةً لَهُ صلى الله عليه وسلم.

وَقَوْلُهُ (وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ) يَعْنِي التَّطْهِيرَ (فِي الْمَيِّتِ) أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى وَهُوَ يَحْمِلُ مَيِّتًا مُسْلِمًا لَمْ يُغَسَّلْ لَا تَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مَغْسُولًا جَازَتْ

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَمَدَّ شَعْرَهَا أَوْ خَنَقَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ) يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ (وَقَدْ تَحَقَّقَ الْإِيلَامُ) مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ (وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ فِي حَالِ الْمُلَاعَبَةِ) وَإِنْ أَوْجَعَهَا وَآلَمَهَا لِأَنَّهُ يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ مُمَازَحَةً لَا ضَرْبًا، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ كَمَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَقَالَ فِيهِ: وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْكُوزَ لَا مَاءَ فِيهِ فَحَلَفَ وَقَالَ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ حَنِثَ بِالِاتِّفَاقِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى شُرْبِ الْمَاءِ الْمَوْجُودِ فِي الْكُوزِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَإِنْ أَحْدَثَ فِي الْكُوزِ مَاءً فَلَيْسَ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي الْكُوزِ وَقْتَ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الشُّرْبُ لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ إذْ الْحَادِثُ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ إذْ كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِ فُلَانٍ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ فِي فُلَانٍ، فَإِذَا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ فُلَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} وَكَانَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ مُتَوَهَّمًا، وَالْعَادِيُّ مَنْسُوبٌ إلَى الْعَادَةِ كَالْإِرَادِيِّ مَنْسُوبٌ إلَى الْإِرَادَةِ، فَإِنَّ تَاءَ التَّأْنِيثِ تُحْذَفُ فِي النِّسْبَةِ.

ص: 196

(وَمَنْ قَالَ: إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ حَنِثَ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى حَيَاةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِيهِ وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ فَيَنْعَقِدُ ثُمَّ يَحْنَثُ لِلْعَجْزِ الْعَادِيِّ (فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى حَيَاةٍ كَانَتْ فِيهِ وَلَا تُتَصَوَّرُ فَيَصِيرُ قِيَاسُ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلُ الْعِلْمِ هُوَ الصَّحِيحَ.

‌بَابُ الْيَمِينِ فِي تَقَاضِي الدَّرَاهِمِ

بَابُ الْيَمِينِ فِي تَقَاضِي الدَّرَاهِمِ)

:

لَمَّا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ مِنْ الْوَسَائِلِ دُونَ الْمَقَاصِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِهَا أَخَّرَ الْيَمِينَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا وَخَصَّ الدَّرَاهِمَ

ص: 197

(وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ إلَى قَرِيبٍ فَهُوَ عَلَى مَا دُونَ الشَّهْرِ، وَإِنْ قَالَ إلَى بَعِيدٍ فَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهْرِ) لِأَنَّ مَا دُونَهُ يُعَدُّ قَرِيبًا، وَالشَّهْرُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ يُعَدُّ بَعِيدًا، وَلِهَذَا يُقَالُ عِنْدَ بُعْدِ الْعَهْدِ مَا لَقِيتُك مُنْذُ شَهْرٍ

(وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا دَيْنَهُ الْيَوْمَ فَقَضَاهُ ثُمَّ وَجَدَ فُلَانٌ بَعْضَهَا زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ مُسْتَحَقَّةً لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ) لِأَنَّ الزِّيَافَةَ عَيْبٌ وَالْعَيْبُ لَا يُعْدِمُ الْجِنْسَ، وَلِهَذَا لَوْ تَجُوزُ بِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا،

بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا، وَلَقَّبَ الْبَابَ بِالتَّقَاضِي وَالْمَسَائِلَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ بِلَفْظِ الْقَضَاءِ وَالْقَبْضِ وَالْعَدَدِ لِأَنَّ التَّقَاضِيَ سَبَبٌ لِلْقَضَاءِ وَالْقَبْضِ فَلُقِّبَ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِيهِ، هَذَا مَا قَالَهُ الشَّارِحُونَ. وَأَقُولُ: جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْمَسَائِلِ مَبْنَاهُ عَلَى التَّقَاضِي عَلَى مَا أُصَرِّحُ بِذِكْرِهِ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، وَأَنَّ الْعَيْبَ لَا يَعْدَمُ الْجِنْسَ، وَأَنَّ مَا دُونَ الشَّهْرِ قَرِيبٌ وَمَا فَوْقَهُ بَعِيدٌ. قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ). تَقَاضَى الرَّجُلُ دَيْنَهُ وَأَلَحَّ فَحَلَفَ غَرِيمُهُ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ (إلَى قَرِيبٍ فَهُوَ مَا دُونَ الشَّهْرِ، وَإِنْ قَالَ إلَى بَعِيدٍ فَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهْرِ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَجَعَلَ الشَّهْرَ أَيْضًا بَعِيدًا لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ يُعَدُّ بَعِيدًا

وَإِنْ زَادَ فِي التَّقَاضِي (فَحَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ الْيَوْمَ فَقَضَاهُ ثُمَّ وَجَدَ فُلَانٌ بَعْضَهَا زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ مُسْتَحَقَّةً بَرَّ فِي يَمِينِهِ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَالزَّيْفُ مَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ، وَالنَّبَهْرَجُ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.

ص: 198

فَوُجِدَ شَرْطُ الْبِرِّ وَقَبْضُ الْمُسْتَحَقَّةِ صَحِيحٌ وَلَا يَرْتَفِعُ بِرَدِّهِ الْبِرَّ الْمُتَحَقِّقَ (وَإِنْ وَجَدَهَا رَصَاصًا أَوْ سَتُّوقَةً حَنِثَ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّجَوُّزُ بِهِمَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ (وَإِنْ بَاعَهُ بِهَا عَبْدًا وَقَبَضَهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ) لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ طَرِيقُهُ الْمُقَاصَّةُ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الْقَبْضَ لِيَتَقَرَّرَ بِهِ

وَقَوْلُهُ (فَوُجِدَ شَرْطُ بَرِّهِ) يَعْنِي قَضَاءَ دَيْنِهِ فِي الْيَوْمِ (وَقَبْضُ الْمُسْتَحَقَّةِ صَحِيحٌ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِهَا شَيْئًا فَأَخَذَهَا الْمُسْتَحَقُّ بَقِيَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُ الْمُسْتَحَقَّةِ لَبَطَلَ الْبَيْعُ لِكَوْنِهِ بِلَا ثَمَنٍ (وَلَا يَرْتَفِعُ بِرَدِّهِ) أَيْ بِرَدِّ مَا قَضَى مِنْ الزُّيُوفِ أَوْ النَّبَهْرَجَةِ أَوْ الْمُسْتَحَقَّةِ (الْبَرُّ الْمُتَحَقَّقُ) لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمَّا انْحَلَّتْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لَمْ يَقْبَلْ الْفَسْخَ وَالِانْتِفَاضَ كَالْكِتَابَةِ، فَإِنَّ مَوْلَى الْمُكَاتَبِ إذَا رَدَّ الْبَدَلَ لِكَوْنِهِ زَيْفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ اسْتَرَدَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يُنْتَقَضُ الْعِتْقُ، بِخِلَافِ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يُنْتَقَضُ بِرَدِّ الْمَقْبُوضِ لِعَيْبٍ أَوْ اسْتِحْقَاقٍ لِأَنَّ مَبْنَاهُ الْمُقَاصَّةُ وَقَدْ زَالَتْ. قَوْلُهُ (وَإِنْ وَجَدَهَا رَصَاصًا) ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ طَرِيقُهُ الْمُقَاصَّةُ) بَيَانُهُ أَنَّ مَا يَقْبِضُهُ رَبُّ الدَّيْنِ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقْبِضُهُ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، وَلِرَبِّ الدَّيْنِ عَلَى الْمَدْيُونِ مِثْلُهُ، أَيْ مِثْلُ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا (وَقَدْ تَحَقَّقَتْ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ) لِأَنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ آخِرُ الدَّيْنَيْنِ فَيَكُونُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا كَانَ طَرِيقُ قَضَاءِ الدَّيْنِ الْمُقَاصَّةَ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ حَقِيقَةً لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يُصَادِفُ الْعَيْنَ وَحَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِي وَصْفٍ فِي الذِّمَّةِ وَلِهَذَا قَالُوا الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا. وَقَوْلُهُ (فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الْقَبْضَ) كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ لَوْ تَحَقَّقَتْ الْمُقَاصَّةُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ لَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَيَقْبِضُهُ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ لِيَكُونَ هَذَا الدَّيْنُ مِثْلَ الدَّيْنِ الَّذِي لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهِ لِأَنَّ مَالَهُ مِنْ الدَّيْنِ عَلَيْهِ مُتَقَرِّرٌ وَثَمَنُ الْعَبْدِ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِمَوْتِهِ،

ص: 199

(وَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ) يَعْنِي الدَّيْنَ (لَمْ يَبَرَّ) لِعَدَمِ الْمُقَاصَّةِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَعَلَهُ، وَالْهِبَةُ إسْقَاطٌ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ بَعْضَهُ

فَإِذَا قَبَضَهُ صَارَ مُتَقَرِّرًا فَيَكُونُ مِثْلَهُ فَيَتَقَاصَّانِ (وَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ) أَيْ إنْ وَهَبَ الدَّائِنُ دَيْنَهُ لِلْمَدْيُونِ (لَمْ يَبَرَّ) الْحَالِفُ (لِعَدَمِ الْمُقَاصَّةِ) لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَهُوَ الْقَضَاءُ (وَالْهِبَةُ) لَيْسَتْ فِعْلَهُ لِأَنَّهَا (إسْقَاطٌ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ) وَإِنَّمَا قَالَ لَمْ يَبَرَّ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ الْحِنْثِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَبَرَّ وَلَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِفَوَاتِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ الدَّيْنُ، وَفَوَاتُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا جِهَةٌ فِي بُطْلَانِ الْيَمِينِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: وَلَنَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ ارْتِفَاعُ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ فَاسِدٌ بِمَرَّةٍ لِأَنَّ الْبَرَّ نَقِيضُ الْحِنْثِ، فَمِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُ ارْتِفَاعُ الْآخَرِ وَمِنْ ارْتِفَاعِ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُ وُجُودُ الْآخَرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَا جَمِيعًا. وَأَقُولُ: لَيْسَا بِنَقِيضَيْنِ عَلَى اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْمَعْقُولِ وَغَيْرُ الْحَالِفِ لَا يَتَّصِفُ بِأَحَدِهِمَا وَشَأْنُ النَّقِيضَيْنِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِذَا بَطَلَ الْيَمِينُ بِفَوَاتِ تَصَوُّرِ الْبَرِّ صَارَ كَغَيْرِ الْحَالِفِ مِنْ النَّاسِ فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَتَّصِفَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَإِذَا تَقَاضَى دَيْنَهُ فَقَالَ أَقْضِيهَا مُنَجَّمًا فَحَلَفَ (لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ بَعْضَهُ

ص: 200

لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْبِضَ جَمِيعَهُ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَبْضُ الْكُلِّ وَلَكِنَّهُ بِوَصْفِ التَّفَرُّقِ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ أَضَافَ الْقَبْضَ إلَى دَيْنٍ مُعَرَّفٍ مُضَافٍ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ إلَى كُلِّهِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِهِ (فَإِنْ قَبَضَ دَيْنَهُ فِي وَزَنَيْنَ لَمْ يَتَشَاغَلْ بَيْنَهُمَا إلَّا بِعَمَلِ الْوَزْنِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَفْرِيقٍ) لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ قَبْضُ الْكُلِّ دُفْعَةً وَاحِدَةً عَادَةً فَيَصِيرُ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى عَنْهُ

(وَمَنْ قَالَ: إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عُرْفًا نَفْيُ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمِائَةِ اسْتِثْنَاؤُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا (وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غَيْرَ مِائَةٍ أَوْ سِوَى مِائَةٍ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَدَاةُ الِاسْتِثْنَاءِ.

لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْبِضَ الْجَمِيعَ) مُتَفَرِّقًا لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ أَمْرٌ مُرَكَّبٌ مِنْ قَبْضِ الْكُلِّ بِوَصْفِ التَّفَرُّقِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْقَبْضَ إلَى دَيْنٍ مُعَرَّفٍ مُضَافٍ إلَيْهِ، وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا لَهُ عَلَيْهِ (فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ) وَالْمُرَكَّبُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَحْنَثْ، وَهَاهُنَا إنْ فَاتَ عَدَمُ التَّفَرُّقِ لَمْ يُوجَدْ قَبْضُ الْجَمِيعِ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ قَبَضَ دَيْنَهُ فِي وَزْنَيْنِ) ظَاهِرٌ.

وَمَنْ تَقَاضَى مِنْ غَرِيمِهِ مِائَتَيْنِ فَقَالَ لَا أَمْلِكُ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ فَقَالَ (إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَمْ يَمْلِكْ إلَّا خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَحْنَثْ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ. قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمِائَةِ اسْتِثْنَاؤُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا) يَعْنِي فَكَانَ اسْتِثْنَاءُ الْخَمْسِينَ دَاخِلًا تَحْتَ اسْتِثْنَاءِ الْمِائَةِ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ مِنْ أَجْزَاءِ الْمِائَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ

ص: 201

مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ] (وَإِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبَدًا) لِأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ مُطْلَقًا فَعَمَّ الِامْتِنَاعُ ضَرُورَةَ عُمُومِ النَّفْيِ (وَإِنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا فَفَعَلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً بَرَّ فِي يَمِينِهِ) لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ فِعْلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَيْنٍ، إذْ الْمَقَامُ مَقَامُ الْإِثْبَاتِ فَيَبَرُّ بِأَيِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِمَوْتِهِ أَوْ بِفَوْتِ مَحَلِّ الْفِعْلِ.

مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ]

أَيْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي أَذْكُرُهَا مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ، وَمِنْ دَأْبِ الْمُصَنِّفِينَ ذِكْرُ مَا شَذَّ مِنْ الْأَبْوَابِ فِي آخِرِ الْكِتَابِ (وَإِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبَدًا) الْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ أَوْ تَرْكِهِ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ كَيَوْمٍ وَشَهْرٍ أَوْ مُطْلَقَةٍ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى التَّرْكِ تَرَكَهُ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْفِعْلِ بَرَّ بِفِعْلِهِ مَرَّةً عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا مُخْتَارًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصْدَرِهِ اشْتِمَالَ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ، وَهُوَ مُنَكَّرٌ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى التَّعْرِيفِ، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ فَيُوجِبُ عُمُومَ الِامْتِنَاعِ، وَفِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ، فَإِنْ فَعَلَهُ فِي صُورَةِ النَّفْيِ مَرَّةً حَنِثَ، وَإِنْ فَعَلَهُ فِي صُورَةِ الْإِثْبَاتِ مَرَّةً بَرَّ (وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِمَوْتِ الْحَالِفِ أَوْ بِفَوْتِ مَحَلِّ الْفِعْلِ) فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِيهِ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ وَإِنْ وَقَعَ الْيَأْسُ بِمَوْتِهِ أَوْ بِفَوْتِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْوَقْتَ مَانِعٌ مِنْ الِانْحِلَالِ، إذْ لَوْ

ص: 202

(وَإِذَا اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لِيُعْلِمَنَّهُ بِكُلِّ دَاعِرٍ دَخَلَ الْبَلَدَ فَهَذَا عَلَى حَالِ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ دَفْعُ شَرِّهِ أَوْ شَرِّ غَيْرِهِ بِزَجْرِهِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ بَعْدَ زَوَالِ سَلْطَنَتِهِ، وَالزَّوَالُ بِالْمَوْتِ وَكَذَا بِالْعَزْلِ إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ

(وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ) خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالْبَيْعِ

انْحَلَّ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّوْقِيتِ فَائِدَةٌ

(وَإِذَا اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لِيُعْلِمَنهُ بِكُلِّ دَاعِرٍ) أَيْ مُفْسِدٍ خَبِيثٍ مِنْ الدَّعَارَةِ وَهِيَ الْخُبْثُ وَالْفَسَادُ (دَخَلَ الْبَلَدَ كَانَ الْإِعْلَامُ وَاجِبًا حَالَ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً) وَلَيْسَ يَلْزَمُ الْإِعْلَامُ حَالَ دُخُولِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُؤَخِّرَ الْإِعْلَامَ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَالِي أَوْ عَزْلِهِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْإِعْلَامِ (دَفْعُ شَرِّهِ) أَيْ شَرُّ نَفْسِ الدَّاعِرِ (أَوْ شَرُّ غَيْرِهِ بِزَجْرِهِ) فَإِنَّ الْوَالِيَ إذَا زَجَرَهُ وَأَدَّبَهُ لِدِعَارَتِهِ يَنْزَجِرُ غَيْرُهُ مِنْ الدَّعَارَةِ لَوْ كَانَتْ فِي قَصْدِهِ أَوْ نِيَّتِهِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ إنَّمَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ إذَا كَانَ الْوَالِي قَادِرًا عَلَى تَنْفِيذِهِ وَذَلِكَ بِالسَّلْطَنَةِ وَالسَّلْطَنَةُ تَزُولُ بِالْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ (وَكَذَلِكَ بِالْعَزْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِعْلَامُ عَلَى الْحَالِفِ بَعْدَ عَزْلِ الْمُسْتَحْلَفِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُفِيدٌ فِي الْجُمْلَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ)(حَلَفَ أَنْ يَهَبَ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبُولِ، فَمِنْهُمْ مَنْ

ص: 203

لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِثْلُهُ. وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَلِهَذَا يُقَالُ وُهِبَ وَلَمْ يَقْبَلْ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ السَّمَاحَةِ وَذَلِكَ

قَالَ بِثُبُوتِهِ إلَّا أَنَّهُ بِالرَّدِّ يُنْتَقَضُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِعَدَمِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مَحْرَمًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الضَّرَرِ فَيَتَوَقَّفُ الثُّبُوتُ عَلَى الْقَبُولِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَكُلِّ عَقْدٍ فِيهِ بَدَلٌ لِأَنَّهُ

ص: 204

يَتِمُّ بِهِ، أَمَّا الْبَيْعُ فَمُعَاوَضَةٌ فَاقْتَضَى الْفِعْلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ

(وَمَنْ حَلَفَ

تَمَلُّكٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ تَمَامُهُ بِهِمَا

(وَمَنْ

ص: 205

لَا يَشُمُّ رَيْحَانًا فَشَمَّ وَرْدًا أَوْ يَاسَمِينًا لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ وَلَهُمَا سَاقٌ

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى دُهْنِهِ) اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَلِهَذَا يُسَمَّى بَائِعُهُ بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ وَالشِّرَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ

حَلَفَ لَا يَشُمُّ رَيْحَانًا فَشَمَّ وَرْدًا أَوْ يَاسَمِينًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ وَلَهُمَا سَاقٌ) قِيلَ هَذَا تَفْسِيرُ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَقَلَّدَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَالْمُصَنِّفُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي قَوَانِينِ اللُّغَةِ الرَّيْحَانُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَصْلًا. وَجَوَابُهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ أَنَّ لِسَاقِهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً كَمَا لِوَرَقِهِ اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي اللُّغَةِ، عَلَى أَنَّ نَفْيَهُ فِي اللُّغَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ فِي أَوْضَاعِ اللُّغَةِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ. وَقِيلَ فِي الضَّابِطِ بَيْنَ الْوَرْدِ وَالرَّيْحَانِ أَنَّ مَا يَنْبُتُ مِنْ بِزْرِهِ مِمَّا لَا شَجَرَ لَهُ وَلِعَيْنِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ فَهُوَ رَيْحَانٌ، وَمَا يَنْبُتُ مِنْ الشَّجَرِ وَلِوَرَقِهِ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ فَهُوَ وَرْدٌ

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا فَاشْتَرَى دُهْنَ بَنَفْسَجٍ حَنِثَ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَلِهَذَا يُسَمَّى بَائِعُهُ بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ وَالشِّرَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْبَيْعِ وَهَذَا فِي عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ

ص: 206

وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ (وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الْوَرْدِ فَالْيَمِينُ عَلَى الْوَرَقِ) لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَالْعُرْفُ مُقَرِّرٌ لَهُ، وَفِي الْبَنَفْسَجِ قَاضٍ عَلَيْهِ.

وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الْوَرْدِ فَالْيَمِينُ عَلَى الْوَرَقِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَرْدَ (حَقِيقَةٌ فِيهِ) أَيْ فِي الْوَرَقِ (وَالْعُرْفُ مُقَرِّرٌ لَهُ) أَيْ لِوُقُوعِ الْيَمِينِ عَلَى الْحَقِيقَةِ: يَعْنِي أَنَّ اسْمَ الْوَرْدِ عَلَى الْوَرَقِ حَقِيقَةٌ، وَفِي الْعُرْفِ أَيْضًا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ فَكَانَ الْعُرْفُ مُقَرِّرًا لِلْوُقُوعِ عَلَى الْحَقِيقَةِ (وَفِي الْبَنَفْسَجِ قَاضٍ عَلَيْهِ) أَيْ غَالِبٌ رَاجِحٌ: يَعْنِي أَنَّ اسْمَ الْبَنَفْسَجِ يَقَعُ عَلَى عَيْنِ الْبَنَفْسَجِ حَقِيقَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا عَلَى دُهْنِهِ، وَلَكِنْ الْعُرْفُ غَيْرُ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ مِنْ عَيْنِهِ إلَى دُهْنِهِ فَكَانَ الْعُرْفُ غَالِبًا وَرَاجِحًا فِي اسْمِ الْبَنَفْسَجِ عَلَى حَقِيقَتِهِ

ص: 207

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 208

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 209

‌كِتَابُ الْحُدُودِ

كِتَابُ الْحُدُودِ)

:

لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْأَيْمَانِ وَكَفَّارَتِهَا الدَّائِرَةِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ أَوْرَدَ عَقِيبَهَا الْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةَ. وَمَحَاسِنُ الْحُدُودِ كَثِيرَةٌ لِمَا أَنَّهَا تَرْفَعُ الْفَسَادَ الْوَاقِعَ فِي الْعَالَمِ وَتَحْفَظُ النُّفُوسَ وَالْأَعْرَاضَ وَالْأَمْوَالَ سَالِمَةً عَنْ الِابْتِذَالِ. وَأَمَّا سَبَبُهَا فَسَبَبُ كُلٍّ مِنْهَا مَا أُضِيفَ إلَيْهِ مِثْلَ حَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ الْقَذْفِ وَغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ لُغَةً وَشَرِيعَةً وَالْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ

ص: 210

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مِنْ شَرْعِهِ وَهُوَ الْحُكْمُ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ

1 -

ص: 211

قَالَ: الْحَدُّ لُغَةً: هُوَ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ الْحَدَّادُ لِلْبَوَّابِ. وَفِي الشَّرِيعَةِ: هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ. وَالْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِهِ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ، وَالطَّهَارَةُ لَيْسَتْ أَصْلِيَّةً فِيهِ بِدَلِيلِ شَرْعِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ.

وَقَوْلُهُ (الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ) يُرِيدُ بِهِ إفْسَادَ الْفُرُشِ وَإِضَاعَةَ الْأَنْسَابِ وَإِتْلَافَ الْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ، وَكَلَامُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْحُدُودَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَقْصِدٍ أَصْلِيٍّ يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّاسِ كَافَّةً وَهُوَ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ. وَغَيْرُ أَصْلِيٍّ وَهُوَ الطَّهَارَةُ عَنْ الذُّنُوبِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ يُجَوِّزُ زَوَالَ الذُّنُوبِ عَنْهُ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَلِهَذَا شُرِعَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ وَلَا يَطْهُرُ عَنْ ذَنْبِهِ بِإِجْرَاءِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.

ص: 212

قَالَ (الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ) وَالْمُرَادُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَا الْإِقْرَارُ لِأَنَّ الصِّدْقَ فِيهِ مُرَجَّحٌ لَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِثُبُوتِهِ مَضَرَّةٌ وَمَعَرَّةٌ، وَالْوُصُولُ إلَى الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ مُتَعَذِّرٌ، فَيُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ.

قَالَ (الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ) الزِّنَا يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، فَالْقَصْرُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْمَدُّ لِأَهْلِ نَجْدٍ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

أَبَا حَاضِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفُ زِنَاؤُهُ

وَمَنْ يَشْرَبْ الْخُرْطُومَ يُصْبِحُ مُسْكَرًا

يُخَاطِبُ رَجُلًا يُكَنَّى أَبَا حَاضِرٍ، وَالْخُرْطُومُ الْخَمْرُ، وَالْمُسْكَرُ بِفَتْحِ الْكَافِ الْمَخْمُورُ. وَتَفْسِيرُهُ فِي الشَّرْعِ قَضَاءُ الْمُكَلَّفِ شَهْوَتَهُ فِي قُبُلِ امْرَأَةٍ خَالِيَةٍ عَنْ الْمِلْكَيْنِ وَشُبْهَتِهِمَا لَا شُبْهَةَ الِاشْتِبَاهِ وَتَمْكِينِ الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ. وَاخْتِيرَ لَفْظُ الْقَضَاءِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِيلَاجِ زِنًا، وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِهِ الْغُسْلُ، وَالْمُكَلَّفُ لِيَخْرُجَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ، وَالْمُرَادُ بِالْمِلْكَيْنِ مِلْكُ النِّكَاحِ وَمِلْكُ الْيَمِينِ وَبِشُبْهَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ مَا إذَا وَطِئَ امْرَأَةً تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَمَا أَشْبَهَهُ. وَبِشُبْهَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ، مَا إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ، وَبِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ مَا إذَا وَطِئَ الِابْنُ جَارِيَةَ أَبِيهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ. وَالزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْمُرَادُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ) وَإِنَّمَا قَالَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الزِّنَا عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ يَثْبُتُ بِفِعْلِهِمَا وَيَتَحَقَّقُ فِي الْخَارِجِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَا بَيِّنَةَ وَلَا إقْرَارَ، وَإِنَّمَا انْحَصَرَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ ثُبُوتُهُ بِعِلْمِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وَقَوْلُهُ (مَعَرَّةً وَمَضَرَّةً) الْمَضَرَّةُ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ عَلَى

ص: 213

قَالَ (فَالْبَيِّنَةُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ عَلَى رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ بِالزِّنَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} «وَقَالَ عليه الصلاة والسلام لِلَّذِي قَذَفَ امْرَأَتَهُ ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِكَ» وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى السَّتْرِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَالْإِشَاعَةُ ضِدُّهُ

الْبَدَنِ، وَالْمَعَرَّةُ ضَرَرٌ يَتَّصِلُ بِبَدَنِهِ وَيَسْرِي إلَى بَاطِنِهِ مِنْ لُحُوقِ الْعَارِ بِانْتِسَابِهِ إلَى الزِّنَا. وَقَوْلُهُ (فَالْبَيِّنَةُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ) ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ تَحْقِيقَ مَعْنَى السَّتْرِ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا اشْتَرَطَ الْأَرْبَعَ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِاثْنَيْنِ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَاحِدِ كَمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَذَلِكَ يَثْبُتُ بِهَا فِعْلُ الِاثْنَيْنِ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّ السَّتْرَ عَلَى عِبَادِهِ وَشَرَطَ زِيَادَةَ الْعَدَدِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى السَّتْرِ. وَقَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ السَّتْرُ (مَنْدُوبٌ إلَيْهِ) قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ» وَقَالَ «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» (وَالْإِشَاعَةُ ضِدُّهُ) أَيْ إظْهَارُ الزِّنَا ضِدُّ سَتْرِ الزِّنَا، فَكَانَ وَصْفُ الْإِشَاعَةِ عَلَى ضِدِّ وَصْفِ السَّتْرِ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ لَمَّا

ص: 214

(، وَإِذَا شَهِدُوا سَأَلَهُمْ الْإِمَامُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَمَتَى زَنَى وَبِمَنْ زَنَى؟) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام اسْتَفْسَرَ مَاعِزًا عَنْ الْكَيْفِيَّةِ وَعَنْ الْمُزَنِيَّةِ،

كَانَ السَّتْرُ أَمْرًا مَنْدُوبًا إلَيْهِ كَانَتْ الْإِشَاعَةُ أَمْرًا مَذْمُومًا

(وَإِذَا شَهِدُوا سَأَلَهُمْ الْإِمَامُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ) احْتِرَازًا عَنْ الْغَلَطِ فِي الْمَاهِيَّةِ (وَكَيْفَ هُوَ) احْتِرَازًا عَنْ الْغَلَطِ فِي الْكَيْفِيَّةِ (وَأَيْنَ زَنَى) احْتِرَازًا عَنْهُ فِي الْمَكَانِ وَمَتَى زَنَى احْتِرَازًا عَنْهُ فِي الزَّمَانِ (وَعَنْ الْمُزَنِيَّةِ) احْتِرَازًا عَنْهُ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السُّؤَالِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ مَاعِزًا» إلَى أَنْ ذَكَرَ الْكَافَ وَالنُّونَ ": يَعْنِي كَلِمَةَ نُكْت

ص: 215

وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ عَسَاهُ غَيْرُ الْفِعْلِ فِي الْفَرْجِ عَنَاهُ أَوْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي الْمُتَقَادِمِ مِنْ الزَّمَانِ أَوْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ لَا يَعْرِفُهَا هُوَ وَلَا الشُّهُودُ

لِكَوْنِهِ صَرِيحًا فِي الْبَابِ وَالْبَاقِي كِنَايَةٌ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ الْفِعْلُ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ عَنَاهُ فَلَا يَكُونُ مَاهِيَّةُ الزِّنَا وَلَا كَيْفِيَّتُهُ مَوْجُودَةً، أَوْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، أَوْ فِي الْمُتَقَادِمِ مِنْ الزَّمَانِ وَذَلِكَ يُسْقِطُ الْحَدَّ، أَوْ كَانَ لَهُ فِي الْمُزَنِيَّةِ شُبْهَةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الشُّهُودُ كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ فَيَسْتَقْصِي فِي ذَلِكَ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ؛ فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَقَالُوا رَأَيْنَاهُ وَطِئَهَا فِي فَرْجِهَا بَيَانًا لِمَاهِيَّتِه وَالْمَزْنِيِّ بِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ بَيَانَ كَيْفِيَّتِهِ وَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمْ فَعَدَلُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَمْ يَكْتَفِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِذَلِكَ وَقَالَ «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ اكْتَفَى

ص: 216

كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ فَيَسْتَقْصِي فِي ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ (فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَقَالُوا رَأَيْنَاهُ وَطِئَهَا فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمْ فَعُدِّلُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ) وَلَمْ يَكْتَفِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْحُدُودِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، «قَالَ عليه الصلاة والسلام ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَتَعْدِيلُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ نُبَيِّنُهُ فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ فِي الْأَصْلِ: يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لِلِاتِّهَامِ بِالْجِنَايَةِ

فِيهِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَتَعْدِيلُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ يَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ فِي الْأَصْلِ (يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ) لِأَنَّهُ لَوْ خَلَّى سَبِيلَهُ هَرَبَ فَلَا يَظْفَرُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا وَجْهَ لِأَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْهُ لِأَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ نَوْعُ احْتِيَاطٍ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا فِيمَا بُنِيَ عَلَى الدَّرْءِ. فَإِنْ قِيلَ: الِاحْتِيَاطُ فِي الْحَبْسِ أَظْهَرُ. أُجِيبَ بِأَنَّ حَبْسَهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ لِلِاتِّهَامِ بِالْجِنَايَةِ وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ»

ص: 217

وَقَدْ حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ، بِخِلَافِ الدُّيُونِ حَيْثُ لَا يُحْبَسُ فِيهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ، وَسَيَأْتِيك الْفَرْقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ (وَالْإِقْرَارُ أَنْ يُقِرَّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ، كَمَا أَقَرَّ رَدَّهُ الْقَاضِي) فَاشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَوْ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ. وَاشْتِرَاطُ الْأَرْبَعِ مَذْهَبُنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَكْتَفِي بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ، وَتَكْرَارُ الْإِقْرَارِ لَا يُفِيدُ زِيَادَةَ الظُّهُورِ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ. وَلَنَا حَدِيثُ مَاعِزٍ «فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَخَّرَ الْإِقَامَةَ إلَى أَنْ تَمَّ الْإِقْرَارُ مِنْهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ» فَلَوْ ظَهَرَ بِمَا دُونَهَا لَمَا أَخَّرَهَا

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْيُونِ سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ (وَالْإِقْرَارُ أَنْ يُقِرَّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ (قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْحُقُوقِ) يَعْنِي فِي سَائِرِ الْعَدَدِ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ) يَعْنِي أَنَّهَا تُفِيدُ زِيَادَةً فِي طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَتَكْرَارُ الْكَلَامِ لَيْسَ كَذَلِكَ.

ص: 218

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَلَنَا حَدِيثُ «مَاعِزٍ فَإِنَّهُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ زَنَيْت فَطَهِّرْنِي، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الثَّالِثِ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الرَّابِعِ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْآنَ أَقْرَرْت أَرْبَعًا فَبِمَنْ زَنَيْت قَالَ بِفُلَانَةَ، قَالَ لَعَلَّك قَبَّلْتهَا لَعَلَّك بَاشَرْتهَا، فَأَبَى إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِصَرِيحِ الزِّنَا، فَقَالَ أَبِكَ خَبَلٌ أَبِكَ جُنُونٌ وَفِي رِوَايَةٍ بَعَثَ إلَى أَهْلِهِ فَقَالَ هَلْ تُنْكِرُونَ مِنْ عَقْلِهِ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: لَا، فَسَأَلَ عَنْ إحْصَانِهِ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ مُحْصَنٌ، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ» وَعَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَاعِزًا لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَلَمْ يُقِرَّ لَمْ يَرْجُمْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كَانَ مُتَعَارَفًا فِيمَا بَيْنَهُمْ.

وَوَجْهُ الِاسْتِلَالِ بِحَدِيثِ مَاعِزٍ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ أَخَّرَ الْإِقَامَةَ. وَبَيَانُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ إقَامَةَ الْحَدِّ إلَى أَنْ تَمَّ الْإِقْرَارُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ مَرَّةً وَاحِدَةً كَافِيًا لَمْ يُؤَخِّرْ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ عِنْدَ ظُهُورِهِ وَاجِبَةٌ، وَتَأْخِيرُ الْوَاجِبِ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ اعْتَرَفَ بِوَطْءٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَجِبُ الْمَهْرُ، وَإِذَا وَجَبَ الْمَهْرُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ مِنْ بَعْدُ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَالْحَدَّ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَطْءٍ وَاحِدٍ.

أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لَمَّا اُعْتُبِرَ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ الزِّنَا لَمْ يَتَعَلَّقْ وُجُوبُ الْمَهْرِ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ تَمَّتْ الْحُجَّةُ وَجَبَ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ وَجَبَ الْمَهْرُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَعْرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ اسْتَرَابَ فِي عَقْلِهِ فَقَدْ جَاءَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَصَرَّ عَلَى الْإِقْرَارِ وَدَامَ عَلَى نَهْجِ الْعُقَلَاءِ قَبِلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَزَالَ الشُّبْهَةَ بِالسُّؤَالِ فَقَالَ أَبِكَ خَبَلٌ أَبِكَ جُنُونٌ. أُجِيبَ أَمَّا تَغَيُّرُ الْحَالِ فَإِنَّهُ دَلِيلُ التَّوْبَةِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا دَلِيلُ الْجُنُونِ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبِكَ جُنُونٌ تَلْقِينًا لِمَا يَدْرَأُ بِهِ الْحَدَّ كَمَا قَالَ لَعَلَّك قَبَّلْت وَطِئْتهَا لِيَرْجِعَ عَنْ الزِّنَا إلَى الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ، وَكَمَا قَالَ لِلسَّارِقِ أَسَرَقْت مَا أَخَالُهُ سَرَقَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ لِمَاعِزٍ لَمَّا أَقَرَّ ثَلَاثًا إنْ أَقْرَرْت الرَّابِعَةَ رَجَمَك، فَثَبَتَ

ص: 219

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ كَانَ ظَاهِرًا عِنْدَهُمْ.

ص: 220

لِثُبُوتِ الْوُجُوبِ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ اخْتَصَّتْ فِيهِ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَكَذَا الْإِقْرَارُ إعْظَامًا لِأَمْرِ الزِّنَا وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى السَّتْرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ لِمَا رَوَيْنَا،

وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ اعْتِبَارِهِ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ سَائِرَ الْحُقُوقِ لَيْسَ نِصَابُ الشَّهَادَةِ فِيهِ أَرْبَعَةً وَنِصَابُهَا هُنَا ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَتْ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ مُخْتَصَّةً بِزِيَادَةٍ لَيْسَتْ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَكَذَلِكَ فِي الْحُجَّةِ الْأُخْرَى إعْظَامًا لِأَمْرِ الزِّنَا وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى السَّتْرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ الْإِقَامَةَ إلَى أَنْ تَمَّ الْإِقْرَارُ مِنْهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ

ص: 221

وَلِأَنَّ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَثَرًا فِي جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ؛ فَعِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْإِقْرَارِ، وَالْإِقْرَارُ قَائِمٌ بِالْمُقِرِّ فَيُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجْلِسِهِ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي. وَالِاخْتِلَافُ بِأَنْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي كُلَّمَا أَقَرَّ فَيَذْهَبَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ ثُمَّ يَجِيءَ فَيُقِرَّ، هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام طَرَدَ مَاعِزًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ.

قَالَ (فَإِذَا تَمَّ إقْرَارُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ سَأَلَهُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَبِمَنْ زَنَى، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْحَدُّ) لِتَمَامِ الْحُجَّةِ، وَمَعْنَى السُّؤَالِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَيَّنَّاهُ فِي الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ السُّؤَالَ فِيهِ عَنْ الزَّمَانِ، وَذَكَرَهُ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ. وَقِيلَ لَوْ سَأَلَهُ جَازَ لِجَوَازِ أَنَّهُ زَنَى فِي صِبَاهُ

(فَإِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ فِي وَسَطِهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ)

وَلِأَنَّ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَثَرًا فِي جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ، فَعِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ الِاتِّحَادِ (تَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْإِقْرَارِ) أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ مِنْ إقْرَارِهِ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَكَانَ مِنْهَا مَرَّتَانِ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ نَعْتَبِرْ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ (وَالْإِقْرَارُ قَائِمٌ بِالْمُقِرِّ فَيُعْتَبَرُ اتِّحَادُ مَجْلِسِهِ) فِي دَفْعِ الْحَدِّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَيُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجْلِسِهِ أَيْ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَقِيلَ يُعْتَبَرُ مَجْلِسُ الْقَاضِي، وَرَدَّهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي. وَقَوْلُهُ (وَالِاخْتِلَافُ بِأَنْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي) ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ) دَلِيلُهُ أَنَّ التَّقَادُمَ فِي الشَّهَادَةِ مَانِعٌ

ص: 222

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: لِأَنَّهُ وَجَبَ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ وَإِنْكَارِهِ كَمَا إذَا وَجَبَ بِالشَّهَادَةِ وَصَارَ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ. وَلَنَا أَنَّ الرُّجُوعَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ كَالْإِقْرَارِ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكَذِّبُهُ فِيهِ فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ فِي الْإِقْرَارِ. بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ لِوُجُودِ مَنْ يُكَذِّبُهُ، وَلَا كَذَلِكَ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ الشَّرْعِ

(وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ فَيَقُولَ لَهُ: لَعَلَّك لَمَسْت أَوْ قَبَّلْت)«لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِمَاعِزٍ لَعَلَّك لَمَسْتهَا أَوْ قَبَّلْتهَا» قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ الْإِمَامُ: لَعَلَّك تَزَوَّجْتهَا أَوْ وَطِئْتهَا بِشُبْهَةٍ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى.

لِتُهْمَةِ الْحِقْدِ وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْإِقْرَارِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ التَّقَادُمِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا.

وَقَوْلُهُ (كَمَا إذَا وَجَبَ بِالشَّهَادَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْحَدَّ لَا يَبْطُلُ بِإِنْكَارِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ، فَكَذَا لَا يَبْطُلُ بِإِنْكَارِهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُمَا حُجَّتَانِ فِيهِ فَتُعْتَبَرُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَصَارَ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ لَا يَقْبَلَانِ الرُّجُوعَ بَعْدَ الثُّبُوتِ بِالْإِقْرَارِ. وَقَوْلُهُ (فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ فِي الْإِقْرَارِ) يَعْنِي بِالتَّعَارُضِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ الْمُحْتَمِلَيْنِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ لِأَحَدِهِمَا.

وَقَوْلُهُ (وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى) أَيْ قَوْلُهُ لَعَلَّك تَزَوَّجْتهَا وَوَطِئْتهَا بِشُبْهَةٍ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ لَعَلَّك مَسِسْتهَا فِي الْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَلْقِينٌ لِلرُّجُوعِ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَعَمْ سَقَطَ الْحَدُّ.

ص: 223

‌فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَدِّ وَإِقَامَتِهِ

(وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ وَكَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا رَجَمَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَجَمَ مَاعِزًا وَقَدْ أَحْصَنَ» . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ»

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَدِّ وَإِقَامَتِهِ)

ذَكَرَ هَذَا الْفَصْلَ عَقِيبَ ذِكْرِ وُجُوبِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ بَعْدَ وُجُوبِهِ وُقُوعًا فَأَخَّرَهُ ذِكْرًا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.

ص: 224

وَعَلَى هَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. قَالَ (وَيُخْرِجُهُ إلَى أَرْضٍ فَضَاءٍ وَيَبْتَدِئُ الشُّهُودُ بِرَجْمِهِ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ) كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَتَجَاسَرُ عَلَى الْأَدَاءِ ثُمَّ يَسْتَعْظِمُ الْمُبَاشَرَةَ فَيَرْجِعُ فَكَانَ فِي بُدَاءَتِهِ احْتِيَالٌ لِلدَّرْءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تُشْتَرَطُ بُدَاءَتُهُ اعْتِبَارًا بِالْجَلْدِ. قُلْنَا: كُلُّ أَحَدٍ لَا يُحْسِنُ الْجَلْدَ فَرُبَّمَا يَقَعُ مُهْلِكًا وَالْإِهْلَاكُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَلَا كَذَلِكَ الرَّجْمُ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ.

وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ) أَيْ عَلَى وُجُوبِ الرَّجْمِ إذَا كَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا، وَذَهَبَ الْخَوَارِجُ إلَى أَنَّ الْحَدَّ فِي الزِّنَا الْجَلْدُ لَيْسَ إلَّا لِأَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ أَخْبَارَ الْآحَادِ، وَذَلِكَ خَرْقٌ مِنْهُمْ لِلْإِجْمَاعِ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ مَاعِزٍ مَشْهُورٌ

ص: 225

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بِالْقَبُولِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِمِثْلِهِ جَائِزَةٌ

ص: 226

(فَإِنْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ مِنْ الِابْتِدَاءِ سَقَطَ الْحَدُّ) لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ،

وَقَوْلُهُ (فَإِنْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ) قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: وَلَوْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ أَوْ بَعْضُهُمْ أَوْ كَانُوا غُيَّبًا أَوْ مَاتُوا أَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ أَوْ عَمِيَ بَعْضُهُمْ أَوْ خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ ارْتَدَّ أَوْ قَذَفَ فَحُدَّ لَمْ يُرْجَمْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ إذَا امْتَنَعُوا أَوْ غَابُوا رَجَمَ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَكَذَا فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا، فَعَلَى هَذَا مَا قَيَّدَهُ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ رَاجِعٌ إلَى امْتِنَاعِ الشُّهُودِ عَنْ الرَّجْمِ بَعْدَ الْحُضُورِ إلَخْ، وَلَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِقَوْلِهِ وَكَذَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا، وَإِذَا سَقَطَ بِامْتِنَاعِ أَحَدِهِمْ هَلْ تُحَدُّ الشُّهُودُ أَوْ لَا؟ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ لِأَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا

ص: 227

وَكَذَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ

(وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ) كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه. «وَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغَامِدِيَّةَ بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ وَكَانَتْ قَدْ اعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا»

(وَيُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ)«لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي مَاعِزٍ اصْنَعُوا بِهِ كَمَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ» وَلِأَنَّهُ قُتِلَ بِحَقٍّ فَلَا يَسْقُطُ الْغُسْلُ كَالْمَقْتُولِ قِصَاصًا «وَصَلَّى النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْغَامِدِيَّةِ بَعْدَمَا رُجِمَتْ»

وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ يُفْضِي إلَى اعْتِبَارِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فَتَأَمَّلْ، وَالْغَامِدِيَّةُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ حَيٌّ مِنْ الْأَزْدِ، وَفِي حَدِيثِهَا «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ» .

ص: 228

(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا وَكَانَ حُرًّا فَحَدُّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} إلَّا أَنَّهُ انْتَسَخَ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَعْمُولًا بِهِ.

وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ انْتَسَخَ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ) بَيَانُهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} الْآيَةَ عَامٌّ فِي الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ انْتَسَخَ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ بِآيَةٍ أُخْرَى نَسَخَتْ تِلَاوَتَهَا وَبَقِيَ حُكْمُهَا. رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه خَطَبَ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنِّي خَشِيت إنْ طَالَ بِالنَّاسِ الزَّمَانُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عز وجل، فَالرَّجْمُ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا كَانَ مُحْصَنًا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوْ اعْتِرَافٌ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتهَا يُرِيدُ بِهِ: الشَّيْخَ وَالشَّيْخَةَ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ هَذِهِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْ حُكْمَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا} فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ،

ص: 229

قَالَ (يَأْمُرُ الْإِمَامُ بِضَرْبِهِ بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ ضَرْبًا مُتَوَسِّطًا) لِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ كَسَرَ ثَمَرَتَهُ.

وَانْتَسَخَتْ تِلَاوَتُهَا بِصَرْفِهَا عَنْ الْقُلُوبِ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ (بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ) قَالَ فِي الصِّحَاحِ: ثَمَرُ السِّيَاطِ عُقَدُ أَطْرَافِهَا، وَمِنْهُ يَأْمُرُ الْإِمَامُ بِضَرْبِهِ بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ: يَعْنِي الْعُقْدَةَ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالثَّمَرَةِ ذَنَبُهُ وَطَرَفُهُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ تَصِيرُ الضَّرْبَةُ ضَرْبَتَيْنِ، وَهَذَا أَصَحُّ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه جَلَدَ الْوَلِيدَ بِسَوْطٍ لَهُ طَرَفَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ذَنَبَانِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، فَكَانَتْ الضَّرْبَةُ ضَرْبَتَيْنِ.

وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْكُتُبِ. الْمُبَرِّحُ مَأْخُوذٌ مِنْ بُرَحَاءِ الْحُمَّى وَغَيْرِهَا، يُقَالُ: بَرِحَ بِهِ الْأَمْرُ تَبْرِيحًا: أَيْ غَلُظَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ. وَالْمَذَاكِيرُ جَمْعُ الذَّكَرِ الَّذِي هُوَ الْعُضْوُ، وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، كَأَنَّهُمْ فَرَّقُوا بِذَلِكَ الْجَمْعِ بَيْنَ الذَّكَرِ الَّذِي هُوَ الْفَحْلُ وَبَيْنَ الذَّكَرِ الَّذِي هُوَ الْعُضْوُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ هَاهُنَا مَعَ إفْرَادِ قَرِينِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ ذَلِكَ الْعُضْوَ الْمُعَيَّنَ وَمَا حَوْلَهُ، كَقَوْلِهِمْ: شَابَتْ مَفَارِقُ رَأْسِهِ كَذَا فِي الصِّحَاحِ.

ص: 230

وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْمُبَرِّحِ وَغَيْرِ الْمُؤْلِمِ لِإِفْضَاءِ الْأَوَّلِ إلَى الْهَلَاكِ وَخُلُوِّ الثَّانِي عَنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ (وَتُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ) مَعْنَاهُ دُونَ الْإِزَارِ لِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَانَ يَأْمُرُ بِالتَّجْرِيدِ فِي الْحُدُودِ، وَلِأَنَّ التَّجْرِيدَ أَبْلَغُ فِي إيصَالِ الْأَلَمِ إلَيْهِ. وَهَذَا الْحَدُّ مَبْنَاهُ عَلَى الشِّدَّةِ فِي الضَّرْبِ وَفِي نَزْعِ الْإِزَارِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فَيَتَوَقَّاهُ (وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى أَعْضَائِهِ) لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ قَدْ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ لَا مُتْلِفٌ. قَالَ (إلَّا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَفَرْجَهُ)«لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِلَّذِي أَمَرَهُ بِضَرْبِ الْحَدِّ اتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ» وَلِأَنَّ الْفَرْجَ مَقْتَلٌ وَالرَّأْسَ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ، وَكَذَا الْوَجْهُ وَهُوَ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ أَيْضًا فَلَا يُؤْمَنُ فَوَاتُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالضَّرْبِ وَذَلِكَ إهْلَاكٌ مَعْنًى فَلَا يُشْرَعُ حَدًّا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 231

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يَضْرِبُ الرَّأْسَ أَيْضًا رَجَعَ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَضْرِبُ سَوْطًا لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا. قُلْنَا: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِيمَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ. وَيُقَالُ: إنَّهُ وَرَدَ فِي حَرْبِيٍّ كَانَ مِنْ دُعَاةِ الْكَفَرَةِ وَالْإِهْلَاكُ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ (وَيُضْرَبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا قَائِمًا غَيْرَ مَمْدُودٍ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: يُضْرَبُ الرِّجَالُ فِي الْحُدُودِ قِيَامًا وَالنِّسَاءُ قُعُودًا، وَلِأَنَّ مَبْنَى إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ، وَالْقِيَامُ أَبْلَغُ فِيهِ. ثُمَّ قَوْلُهُ: غَيْرَ مَمْدُودٍ، فَقَدْ قِيلَ الْمَدُّ أَنْ يُلْقَى عَلَى الْأَرْضِ

وَقَوْلُهُ (مِنْ دُعَاةِ الْكَفَرَةِ) الدُّعَاةُ جَمْعُ دَاعٍ كَالْقُضَاةِ جَمْعُ قَاضٍ: أَيْ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ إلَيْهِمْ.

ص: 232

وَيُمَدَّ كَمَا يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا، وَقِيلَ أَنْ يَمُدَّ السَّوْطَ فَيَرْفَعَهُ الضَّارِبُ فَوْقَ رَأْسِهِ، وَقِيلَ أَنْ يَمُدَّهُ بَعْدَ الضَّرْبِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُفْعَلُ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ

(وَإِنْ كَانَ عَبْدًا جَلَدَهُ خَمْسِينَ جَلْدَةً) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} نَزَلَتْ فِي الْإِمَاءِ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُنْقِصٌ لِلنِّعْمَةِ فَيَكُونُ مُنْقِصًا لِلْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عِنْدَ تَوَافُرِ النِّعَمِ أَفْحَشُ فَيَكُونُ أَدْعَى إلَى التَّغْلِيظِ

(وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ)؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ تَشْمَلُهُمَا (غَيْرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يُنْزَعُ مِنْ ثِيَابِهَا إلَّا الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ)

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ) قَالُوا: إلَّا أَنْ يُعْجِزَهُمْ عَنْ الضَّرْبِ قَائِمًا فَلَا بَأْسَ. حِينَئِذٍ أَنْ يَشُدُّوا بِسَارِيَةٍ وَنَحْوِهَا.

قَالَ (وَإِنْ كَانَ عَبْدًا) أَوْ أَمَةً (جَلَدَهُ) أَيْ إنْ كَانَ مَنْ زَنَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً جَلَدَهُ الْإِمَامُ (خَمْسِينَ جَلْدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى){فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} نَزَلَتْ فِي الْإِمَاءِ وَدَخَلَ تَحْتَ حُكْمِهَا الْعَبِيدُ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْهُودِ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ أَنْ تَدْخُلَ النِّسَاءُ تَحْتَ حُكْمِ الرِّجَالِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَكَأَنَّ هَذَا الْأُسْلُوبَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَسْبَابَ السِّفَاحِ فِيهِنَّ وَدَعْوَتَهُنَّ إلَيْهِ غَالِبَةٌ كَمَا فِي تَقْدِيمِهِنَّ فِي قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ثُمَّ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْجَلْدُ دُونَ الرَّجْمِ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَصَّفُ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عِنْدَ تَوَافُرِ النِّعَمِ أَفْحَشُ) أَصْلُهُ

ص: 233

لِأَنَّ فِي تَجْرِيدِهَا كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ يَمْنَعَانِ وُصُولَ الْأَلَمِ إلَى الْمَضْرُوبِ وَالسَّتْرُ حَاصِلٌ بِدُونِهِمَا فَيُنْزَعَانِ (وَتُضْرَبُ جَالِسَةً) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا (وَإِنْ حُفِرَ لَهَا فِي الرَّجْمِ جَازَ)؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَفَرَ لِلْغَامِدِيَّةِ إلَى ثُنْدُوَتِهَا، وَحَفَرَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ وَإِنْ تَرَكَ لَا يَضُرُّهُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ وَهِيَ مَسْتُورَةٌ بِثِيَابِهَا، وَالْحَفْرُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ وَيُحْفَرُ إلَى الصَّدْرِ لِمَا رَوَيْنَا (وَلَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ)؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَا حَفَرَهُ لِمَاعِزٍ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْإِقَامَةِ عَلَى التَّشْهِيرِ فِي الرِّجَالِ، وَالرَّبْطُ وَالْإِمْسَاكُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ

قَوْله تَعَالَى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}

وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: يُضْرَبُ الرِّجَالُ فِي الْحُدُودِ قِيَامًا وَالنِّسَاءُ قُعُودًا. وَالثَّنْدُوَةُ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْوَاوِ وَبِالضَّمِّ وَالْهَمْزِ مَكَانَ الْوَاوِ وَالدَّالُ فِي الْحَالَتَيْنِ مَضْمُومَةٌ: ثَدْيُ الرَّجُلِ أَوْ لَحْمُ الثَّدْيَيْنِ. والهمدانية بِسُكُونِ الْمِيمِ مَنْسُوبَةٌ إلَى هَمْدَانَ بِسُكُونِ الْمِيمِ حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ حَيْثُ حُفِرَ لَهَا إلَى الثَّنْدُوَةِ وَقَوْلُهُ (وَالرَّبْطُ وَالْإِمْسَاكُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ) يَعْنِي إلَّا أَنْ يُعْجِزَهُمْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.

ص: 234

(وَلَا يُقِيمُ الْمَوْلَى الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً مُطْلَقَةً عَلَيْهِ كَالْإِمَامِ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ فَصَارَ كَالتَّعْزِيرِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْحُدُودَ» وَلِأَنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْهَا إخْلَاءُ الْعَالِمِ عَنْ الْفَسَادِ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ فَيَسْتَوْفِيهِ مَنْ هُوَ نَائِبٌ عَنْ الشَّرْعِ وَهُوَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلِهَذَا يُعَزَّرُ الصَّبِيُّ، وَحَقُّ الشَّرْعِ مَوْضُوعٌ عَنْهُ.

وَقَوْلُهُ (وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ» وَذَكَرَ مِنْهَا الْحُدُودَ) رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ: الصَّدَقَاتُ، وَالْجُمُعَاتُ، وَالْفَيْءُ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى) حَقُّ اللَّهِ مَشْرُوعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ نَفْعُ الْعَالَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالتَّنْكِيرُ لِيَتَنَاوَلَ مَا لَنَا وَمَا عَلَيْنَا، وَقَوْلِي عَلَى الْإِطْلَاقِ لِإِخْرَاجِ حَقِّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ نَفْعُ الْعَالَمِ بِالتَّخْصِيصِ كَحُرْمَةِ مَالِ الْغَيْرِ مَثَلًا فَإِنَّهَا حَقُّ الْعَبْدِ لِتَعَلُّقِ صِيَانَةِ مَا لَهُ بِهَا فَلِهَذَا يُبَاحُ بِإِبَاحَةِ الْمَالِكِ وَلَا يُبَاحُ الزِّنَا بِإِبَاحَةِ الْمَرْأَةِ وَلَا بِإِبَاحَةِ أَهْلِهَا، وَتَمَامُ التَّقْرِيرِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي التَّقْرِيرِ.

ص: 235

قَالَ (وَإِحْصَانُ الرَّجْمِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ) فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ شَرْطٌ لِأَهْلِيَّةِ الْعُقُوبَةِ إذْ لَا خِطَابَ دُونَهُمَا، وَمَا وَرَاءَهُمَا يُشْتَرَطُ لِتَكَامُلِ الْجِنَايَةِ بِوَاسِطَةِ تَكَامُلِ النِّعْمَةِ إذْ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ يَتَغَلَّظُ عِنْدَ تَكَثُّرِهَا،

وَقَوْلُهُ (وَإِحْصَانُ الرَّجْمِ) إنَّمَا قَيَّدَ الْإِحْصَانَ بِالرَّجْمِ احْتِرَازًا عَنْ إحْصَانِ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ غَيْرُ هَذَا عَلَى مَا يَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. إحْصَانُ الرَّجْمِ مَشْرُوطٌ بِسَبْعِ شَرَائِطَ (أَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ) هَذَا عَلَى قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَقَدْ قَالُوا: شَرَائِطُ الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ مِنْهَا شَيْئَانِ: الْإِسْلَامُ، وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِثْلُهُ. وَهَذَا الشَّرْطُ الثَّانِي مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَشَرْطٌ لِأَهْلِيَّةِ الْعُقُوبَةِ لِعَدَمِ الْخِطَابِ بِدُونِهِمَا، وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَشَرْطُ تَكْمِيلِ الْعُقُوبَةِ بِوَاسِطَةِ تَكَامُلِ النِّعْمَةِ، وَالْمُصَنِّفُ وَافَقَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي جَعْلِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ شَرْطًا لِأَهْلِيَّةِ الْعُقُوبَةِ، وَجَعَلَ الْبَاقِيَةَ شَرْطًا لِتَكَامُلِ الْجِنَايَةِ بِوَاسِطَةِ تَكَامُلِ النِّعْمَةِ لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ يَتَغَلَّظُ عِنْدَ تَكَثُّرِهَا وَتَغَلُّظُهُ يَسْتَدْعِي أَغْلَظَ الْعُقُوبَاتِ

ص: 236

وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ. وَقَدْ شُرِعَ الرَّجْمُ بِالزِّنَا عِنْدَ اسْتِجْمَاعِهَا فَيُنَاطُ بِهِ.

وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ) فَكُفْرَانُهَا يَكُونُ سَبَبًا لِأَفْحَشِ الْعُقُوبَاتِ وَهُوَ الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ إلَى الْمَوْتِ لِيَكُونَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَدْرِ سَبَبِهِ، وَانْحَصَرَ الشَّرَائِطُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ لِأَنَّ الرَّجْمَ بِالزِّنَا قَدْ شُرِعَ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِهَا فَيُنَاطُ بِهَا، وَالشَّرَفُ وَالْعِلْمُ وَالْجَمَالُ وَالْحَسَبُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِاعْتِبَارِهَا

ص: 237

بِخِلَافِ الشَّرَفِ وَالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِاعْتِبَارِهِمَا وَنَصْبُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ مُتَعَذِّرٌ، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُمْكِنَةٌ مِنْ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ مُمْكِنٌ مِنْ الْوَطْءِ الْحَلَالِ، وَالْإِصَابَةُ شِبَعٌ بِالْحَلَالِ، وَالْإِسْلَامُ يُمَكِّنُهُ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ وَيُؤَكِّدُ اعْتِقَادَ الْحُرْمَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ مَزْجَرَةً عَنْ الزِّنَا. وَالْجِنَايَةُ بَعْدَ تَوَفُّرِ الزَّوَاجِرِ أَغْلَظُ وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ لَهُمَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام «رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ قَدْ زَنَيَا» قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ثُمَّ نُسِخَ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» .

وَنَصْبُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ مُتَعَذِّرٌ) وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ دَلِيلٌ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى تِلْكَ الشَّرَائِطِ يَتَضَمَّنُ أَنَّ لَهَا مَدْخَلًا فِي الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الزِّنَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُمَكِّنَةٌ مِنْ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ) لِأَنَّ الْحُرَّ يَتَوَلَّى أُمُورَ نَفْسِهِ لَيْسَ تَحْتَ وِلَايَةِ أَحَدٍ.

(وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ مُمَكِّنٌ مِنْ الْوَطْءِ الْحَلَالِ) لَا مَحَالَةَ وَالدُّخُولُ بِهِ شِبَعٌ بِالْحَلَالِ (وَالْإِسْلَامُ مُمَكِّنٌ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ وَمُؤَكِّدٌ اعْتِقَادَ الْحُرْمَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ مَزْجَرَةً عَنْ الزِّنَا، وَالْجِنَايَةُ عِنْدَ تَوَافُرِ الزَّوَاجِرِ أَغْلَظُ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الزِّنَا مِنْ الْفَسَادِ عَاجِلًا وَالْعُقُوبَةِ آجِلًا مِنْ الزَّوَاجِرِ لَا مَحَالَةَ، وَالْجَمَالُ فِي الْمَنْكُوحَةِ مُقْنِعٌ لِلزَّوْجِ عَنْ النَّظَرِ إلَى غَيْرِهَا، وَالشَّرَفُ يَرْدَعُ عَنْ لُحُوقِ مَعَرَّةِ الزِّنَا وَعِقَابِهِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرَائِطِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُسْلِمَ النَّاشِئَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرْت، وَالْجَمَالُ وَالشَّرَفُ لَيْسَ لَهُمَا حَدٌّ مَعْلُومٌ يُضْبَطَانِ بِهِ فَلَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً.

وَأَمَّا وَجْهُ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ فَسَنَذْكُرُهُ (وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ) مُسْتَدِلِّينَ بِمَا رَوَى مُسْنَدًا إلَى ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه «أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الزِّنَا؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ إنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ ثُمَّ جَعَلَ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَك، فَرَفَعَهَا فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالَ: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا» قُلْنَا كَانَ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ثُمَّ نُسِخَ، يُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ»

ص: 238

وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدُّخُولِ إيلَاجٌ فِي الْقُبُلِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ.

وَقَوْلُهُ (وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدُّخُولِ إيلَاجٌ فِي الْقُبُلِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ) لِبَيَانِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ مِنْ الْجِمَاعِ،

ص: 239

وَشَرْطُ صِفَةِ الْإِحْصَانِ فِيهِمَا عِنْدَ الدُّخُولِ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِالْمَنْكُوحَةِ الْكَافِرَةِ أَوْ الْمَمْلُوكَةِ أَوْ الْمَجْنُونَةِ أَوْ الصَّبِيَّةِ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا، وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مَوْصُوفًا بِإِحْدَى هَذِهِ الصِّفَاتِ وَهِيَ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ عَاقِلَةٌ بَالِغَةٌ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ بِذَلِكَ لَا تَتَكَامَلُ إذْ الطَّبْعُ يَنْفِرُ عَنْ صُحْبَةِ الْمَجْنُونَةِ، وَقَلَّمَا يَرْغَبُ فِي الصَّبِيَّةِ لِقِلَّةِ رَغْبَتِهَا فِيهِ وَفِي الْمَمْلُوكَةِ حَذَرًا عَنْ رِقِّ الْوَلَدِ وَلَا ائْتِلَافَ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ. وَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله يُخَالِفُهُمَا فِي الْكَافِرَةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ وَلَا الْحُرَّةَ الْعَبْدُ»

قَالَ (وَلَا يُجْمَعُ فِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَجْمَعْ،

وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَالْإِصَابَةُ شِبَعٌ بِالْحَلَالِ، فَإِنَّ الشِّبَعَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِنْزَالِ دُونَ الْإِيلَاجِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا حَتَّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِك» بِالتَّصْغِيرِ.

وَقَوْلُهُ (وَشَرْطُ صِفَةِ الْإِحْصَانِ فِيهِمَا) ظَاهِرٌ. وَقِيلَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَافِرًا وَالْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ صُورَتَهُ أَنْ يَكُونَا كَافِرَيْنِ فَأَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِالْإِبَاءِ عِنْدَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ فَهُمَا زَوْجَانِ وَقَدْ مَرَّ (وَأَبُو يُوسُفَ يُخَالِفُهُمَا فِي الْكَافِرَةِ) فِي أَنَّ إسْلَامَ الْمَنْكُوحَةِ وَقْتُ الدُّخُولِ بِهَا شَرْطُ إحْصَانِ الزَّانِي. فَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِالْمَنْكُوحَةِ الْكَافِرَةِ يَصِيرُ مُحْصَنًا (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى أَبِي يُوسُفَ (مَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ وَلَا ائْتِلَافَ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ. وَقَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ " «لَا تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ وَلَا الْحُرَّةُ الْعَبْدَ» ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مُرْسَلًا فِي مَبْسُوطِهِ.

قَالَ (وَلَا يَجْمَعُ فِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِمَا رَوَى عُبَادَةَ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ» وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي مَاعِزٍ وَلَا فِي الْغَامِدِيَّةِ وَلَا الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ. وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} وَحَدِيثُ مَاعِزٍ بَعْدَهُ فَيَكُونُ نَاسِخًا.

ص: 240

وَلِأَنَّ الْجَلْدَ يَعْرَى عَنْ الْمَقْصُودِ مَعَ الرَّجْمِ؛ لِأَنَّ زَجْرَ غَيْرِهِ يَحْصُلُ بِالرَّجْمِ إذْ هُوَ فِي الْعُقُوبَةِ أَقْصَاهَا وَزَجْرُهُ لَا يَحْصُلُ بَعْدَ هَلَاكِهِ.

قَالَ (وَلَا يُجْمَعُ فِي الْبِكْرِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ) وَالشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَدًّا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ بَابِ الزِّنَا لِقِلَّةِ الْمَعَارِفِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا} جَعَلَ الْجَلْدَ كُلَّ الْمُوجَبِ رُجُوعًا إلَى حَرْفِ الْفَاءِ وَإِلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ،

وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْجَلْدَ يَعْرَى) ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (وَالشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَدًّا) أَيْ فِي حَدِّ الزِّنَا بِنَفْيِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا (لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ») وَلِأَنَّ التَّغْرِيبَ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِّ، فَكَمَا أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ فِي حَقِّ الْجَلْدِ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ التَّغْرِيبِ (وَلِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي التَّغْرِيبِ (حَسْمَ مَادَّةِ الزِّنَا لِقِلَّةِ الْمَعَارِفِ) أَيْ لِقِلَّةِ مَنْ يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَهُ مِنْ الْأَحِبَّاءِ وَالْحَبِيبَاتِ، لِمَا أَنَّ الزِّنَا إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ الصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ وَالتَّغْرِيبُ قَاطِعٌ لِذَلِكَ (وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا} جَعَلَ الْجَلْدَ كُلَّ الْمُوجِبِ رُجُوعًا إلَى حَرْفِ الْفَاءِ) وَرُجُوعًا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْفَاءَ لِلْجَزَاءِ، وَإِذَا ذُكِرَ الْجَزَاءُ بَعْدَ الشَّرْطِ بِالْفَاءِ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ هُوَ الْجَزَاءُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَيْسَ جَزَاءُ الشَّرْطِ إلَّا مَا هُوَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الْفَاءِ.

وَقَوْلُهُ (وَإِلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ) أَيْ رُجُوعًا إلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ذَكَرَ الْجَلْدَ دُونَ النَّفْيِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْبَيَانِ، فَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَزِمَ الْإِخْلَالُ فِي الْبَيَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ

ص: 241

وَلِأَنَّ فِي التَّغْرِيبِ فَتْحَ بَابِ الزِّنَا لِانْعِدَامِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ الْعَشِيرَةِ ثُمَّ فِيهِ قَطْعُ مَوَادِّ الْبَقَاءِ، فَرُبَّمَا تَتَّخِذُ زِنَاهَا مَكْسَبَةً وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ وُجُوهِ الزِّنَا، وَهَذِهِ الْجِهَةُ مُرَجَّحَةٌ لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةٌ، وَالْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ كَشَطْرِهِ،

وَالْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ نَسْخٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِي التَّغْرِيبِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ فِيهِ) أَيْ فِي التَّغْرِيبِ (قَطْعَ مَادَّةِ الْبَقَاءِ) يَعْنِي مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَلْبُوسِ (فَرُبَّمَا تَتَّخِذُ زِنَاهَا مَكْسَبَةً وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ وُجُوهِ الزِّنَا) لَا زِيَادَةَ شَهْوَةٍ.

وَقَوْلُهُ (وَهَذِهِ الْجِهَةُ مُرَجِّحَةٌ لِقَوْلِ عَلِيٍّ) نُقِلَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا؛ فَوَجْهُ الْفَتْحِ أَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ مِنْ الْعِلَّةِ أَقْوَى مِنْ عِلَّةِ الْخَصْمِ بِشَهَادَةِ قَوْلِ عَلِيٍّ لِصِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ.

وَوَجْهُ الْكَسْرِ أَنَّ الْخَصْمَ يُنْكِرُ صِحَّةَ نَقْلِ قَوْلِ عَلِيٍّ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْجِهَةُ مِنْ جِهَاتِ الْعِلَلِ تُؤَيِّدُ صِحَّةَ قَوْلِ عَلِيٍّ، فَكَانَتْ اللَّامُ لِلصِّلَةِ دَاخِلَةً عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ أَنَّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا وَهَذِهِ الْجِهَةُ عِلَّةٌ فَكَيْفَ صَلَحَتْ مُرَجِّحَةً.

أُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ لَيْسَتْ بِمُثْبِتَةٍ لِلْحَدِّ بَلْ هِيَ نَافِيَةٌ، مَعَ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ بِحُكْمٍ وَاجِبٍ فِي الْحَدِّ فَيَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ، فَفِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُذْكَرُ الْعِلَلُ مُوَضِّحًا بَعْضُهَا بَعْضًا، وَمَا أَرَى اخْتِيَارَ الْمُصَنِّفِ لَفْظَ الْجِهَةِ عَلَى لَفْظِ الْعِلَّةِ إلَّا لِهَذَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَالْحَدِيثُ) يَعْنِي قَوْلَهُ «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» (مَنْسُوخٌ كَشَطْرِهِ

ص: 242

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 243

وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» وَقَدْ عُرِفَ طَرِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ (إلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً فَيُغَرِّبَهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى) وَذَلِكَ تَعْزِيرٌ وَسِيَاسَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفِيدُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَكُونُ الرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّفْيُ الْمَرْوِيُّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ

وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» وَقَدْ عُرِفَ طَرِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ) قِيلَ يَعْنِي فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إثْبَاتُ النَّسْخِ: بِالْقِيَاسِ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ بَيَانٌ لِكَوْنِ الْحَدِيثِ مَنْسُوخًا بِنَاسِخٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ النَّاسِخَ مَا هُوَ. وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ إمْسَاكَ الزَّوَانِي فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ وَالْإِيذَاءَ بِاللِّسَانِ، فَانْتُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» ثُمَّ اُنْتُسِخَ هَذَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} .

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «خُذُوا عَنِّي» وَلَوْ كَانَ انْتِسَاخُ إمْسَاكِ الزَّوَانِي فِي الْبُيُوتِ بِقَوْلِهِ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} لَقَالَ عليه الصلاة والسلام خُذُوا عَنْ اللَّهِ. وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ الَّتِي هِيَ دَلَالَةُ التَّقَدُّمِ هَاهُنَا مِثْلُ دَلَالَةِ التَّقَدُّمِ فِي حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ وَقَدْ عُرِفَ طَرِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ: أَيْ دَلَّ فِي حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «اسْتَنْزِهُوا الْبَوْلَ» وَهُوَ جَوَازُ الْمُثْلَةِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا دَلَّ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ.

وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَرَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَجْمَعُ فِي الْبِكْرِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ يَعْنِي إذَا رَأَى الْإِمَامُ تَغْرِيبَ الزَّانِي مَصْلَحَةً لِدِعَارَتِهِ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ وَالسِّيَاسَةِ (لِأَنَّهُ قَدْ يُفِيدُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَكُونُ الرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّفْيُ الْمَرْوِيُّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ) رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه جَلَدَ بِكْرَيْنِ وَنَفَاهُمَا إلَى فَدَكَ، وَعُمَرُ رضي الله عنه سَمِعَ قَائِلَةً تَقُولُ:

ص: 244

(وَإِذَا زَنَى الْمَرِيضُ وَحَدُّهُ الرَّجْمُ رُجِمَ)؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مُسْتَحَقٌّ فَلَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ (وَإِنْ كَانَ حَدُّهُ الْجَلْدَ لَمْ يُجْلَدْ حَتَّى يَبْرَأَ) كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى الْهَلَاكِ وَلِهَذَا لَا يُقَامُ الْقَطْعُ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ

(وَإِنْ زَنَتْ الْحَامِلُ لَمْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا) كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى هَلَاكِ الْوَلَدِ وَهُوَ نَفْسٌ مُحْتَرَمَةٌ (وَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الْجَلْدَ لَمْ تُجْلَدْ حَتَّى تَتَعَالَى مِنْ نِفَاسِهَا) أَيْ تَرْتَفِعَ يُرِيدُ بِهِ تَخْرُجُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعُ مَرَضٍ فَيُؤَخَّرُ إلَى زَمَانِ الْبُرْءِ. بِخِلَافِ الرَّجْمِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لِأَجْلِ الْوَلَدِ وَقَدْ انْفَصَلَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يَسْتَغْنِيَ وَلَدُهَا عَنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ

هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا

أَوْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ

إلَى فَتًى مَاجِدِ الْأَعْرَاقِ مُقْتَبِلٍ

سَهْلِ الْمُحَيَّا كَرِيمٍ غَيْرِ مِلْجَاجِ

فَطَلَبَ نَصْرًا وَنَفَاهُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ النَّفْيَ، وَلَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ ظَهَرَتْ لَهُ، فَقَالَ: مَا ذَنْبِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: لَا ذَنْبَ لَك، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لِي حَيْثُ لَا أُطَهِّرُ دَارَ الْهِجْرَةِ مِنْكَ. وَعُثْمَانُ رضي الله عنه جَلَدَ زَانِيًا وَنَفَاهُ إلَى مِصْرَ، وَعَلِيٌّ رضي الله عنه جَلَدَ وَنَفَى ثُمَّ قَالَ: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً، وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ وَالتَّعْزِيرِ.

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا زَنَى الْمَرِيضُ إلَخْ) ظَاهِرٌ.

ص: 245

صِيَانَةَ الْوَلَدِ عَنْ الضَّيَاعِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ بَعْدَمَا وَضَعَتْ ارْجِعِي حَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُك» ثُمَّ الْحُبْلَى تُحْبَسُ إلَى أَنْ تَلِدَ إنْ كَانَ الْحَدُّ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ كَيْ لَا تَهْرُبَ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ عَامِلٌ فَلَا يُفِيدُ الْحَبْسُ.

(بَابُ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي لَا يُوجِبُهُ)

وَقَوْلُهُ (قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ) رُوِيَ «أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ لَمَّا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ حَامِلًا قَالَ لَهَا عليه الصلاة والسلام: ارْجِعِي حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِك، فَلَمَّا وَضَعَتْ جَاءَتْ ثَانِيًا وَأَقَرَّتْ، فَقَالَ: لَهَا ارْجِعِي حَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُك، فَقَالَتْ: أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أُحَدَّ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا أَقُومُ بِتَرْبِيَةِ وَلَدِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِهَا»

فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ التَّأْخِيرُ عَنْ هَذَا الزَّمَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا مُرَبٍّ

(بَابُ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي لَا يُوجِبُهُ):

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ إقَامَةِ الْحَدِّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَمَا لَا يُوجِبُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَعْرِيفَ الزِّنَا فِي أَوَّلِ

ص: 246

قَالَ (الْوَطْءُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ هُوَ الزِّنَا) وَإِنَّهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَاللِّسَانِ: وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَشُبْهَةِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ، وَالْحُرْمَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ التَّعَرِّي عَنْ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ،

كِتَابِ الْحُدُودِ، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ لِأَنَّ الزِّنَا يَصْدُقُ فِي فِعْلِ الْمَرْأَةِ هَذَا الْفِعْلَ وَلِهَذَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا بِالزِّنَا حَدَّ الْقَذْفِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَةِ الْمِلْكِ لَيْسَ بِصَادِقٍ عَلَيْهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَصْلِ وَالْمَرْأَةُ تَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا لِمَا سَيَجِيءُ بَعْدَ هَذَا

ص: 247

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 248

يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ثُمَّ الشُّبْهَةُ نَوْعَانِ: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ وَتُسَمَّى شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ، وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ وَتُسَمَّى شُبْهَةً حُكْمِيَّةً.

أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا يَجِبُ فِيهِ عَلَى الرَّجُلِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ. فَإِنْ قُلْت: قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ تَعْلِيلٌ وَاقِعٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِأَنَّهُ فِي التَّصَوُّرَاتِ. قُلْت: التَّعْلِيلُ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ التَّعْرِيفِ وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ اعْتِبَارِهِمْ انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ فِي تَحْقِيقِ الزِّنَا.

وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ أَنَّ مَا اعْتَبَرُوا أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ شُبْهَةِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَمَالُ، لِأَنَّ النَّاقِصَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يُوجِبُ عُقُوبَةً كَامِلَةً وَالْكَمَالُ فِي الْحَظْرِ عِنْدَ التَّعَرِّي عَنْ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ (يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ثُمَّ الشُّبْهَةُ) وَهِيَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَلَى مَا قَالُوا (نَوْعَانِ: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ وَتُسَمَّى شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ) أَيْ هِيَ شُبْهَةٌ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ بِشُبْهَةٍ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيَّ حُدَّ (وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ وَتُسَمَّى شُبْهَةً حُكْمِيَّةً) وَتُسَمَّى شُبْهَةَ مِلْكٍ أَيْضًا فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ

ص: 249

فَالْأُولَى تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يُظَنَّ غَيْرُ الدَّلِيلِ دَلِيلًا وَلَا بُدَّ مِنْ الظَّنِّ لِيَتَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ.

وَالثَّانِيَةُ تَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ. وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالنَّوْعَيْنِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ. وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي الثَّانِيَةِ إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الْأُولَى وَإِنْ ادَّعَاهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ زِنًا فِي الْأُولَى؛ وَإِنْ سَقَطَ الْحَدُّ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إلَيْهِ وَهُوَ اشْتِبَاهُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَمَحَّضْ فِي الثَّانِيَةِ فَشُبْهَةُ الْفِعْلِ فِي ثَمَانِيَةِ

فَالْأُولَى تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَظُنَّ غَيْرَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا) كَمَا إذَا ظَنَّ أَنَّ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ تَحِلُّ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ نَوْعُ اسْتِخْدَامٍ وَاسْتِخْدَامُ الْجَارِيَةِ يَحِلُّ فَكَذَا الْوَطْءُ فَيَكُونُ تَحَقُّقُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الظَّانِّ (وَالثَّانِيَةُ تَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ) لَكِنْ لَا يَكُونُ عَامِلًا لِمَانِعٍ اتَّصَلَ بِهَا (وَ) هَذِهِ (لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالنَّوْعَيْنِ) جَمِيعًا (لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ) لَكِنْ فِي الْأُولَى عِنْدَ الظَّنِّ وَفِي الثَّانِيَةِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ (وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي الثَّانِي) أَيْ فِي الْوَطْءِ الثَّانِي، وَقِيلَ أَيْ فِي الْمَذْكُورِ الثَّانِي، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي (إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ وَلَا يَثْبُتُ فِي الْأَوَّلِ وَإِنْ ادَّعَاهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ) أَيْ خَلَصَ (زِنًا فِي) الشُّبْهَةِ (الْأُولَى وَإِنْ سَقَطَ الْحَدُّ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْوَاطِئِ. وَقِيلَ هَذَا لَيْسَ بِمُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ يَثْبُتُ فِيهَا النَّسَبُ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ فِي شُبْهَةِ

ص: 250

مَوَاضِعَ: جَارِيَةُ أَبِيهِ وَأُمُّهُ وَزَوْجَتُهُ، وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَبَائِنًا بِالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَأُمُّ وَلَدٍ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَجَارِيَةُ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَالْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ.

الْعَقْدِ فَيَكْفِي لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ. وَفِي الْإِيضَاحِ: الْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ بِعِوَضٍ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَعَدَّ شُبْهَةَ الْفِعْلِ وَهِيَ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ كَمَا ذَكَرَ، فَإِذَا قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي فَلَا حَدَّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَفِعُ بِمَالِ هَؤُلَاءِ حَسْبَ انْتِفَاعِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ فَكَانَ هَذَا ظَنًّا فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَيَمْتَنِعُ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ وَقَالَتْ الْجَارِيَةُ ظَنَنْت أَنَّهُ يَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِدَعْوَى الشُّبْهَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَلِأَنَّ الزِّنَا يَقُومُ بِهِمَا، فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَرْأَةِ سَقَطَ عَنْ الرَّجُلِ لِمَكَانِ الشَّرِكَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الِاشْتِبَاهِ فِي الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثِ حَتَّى لَا يُحَدَّ إذَا قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي.

أُجِيبَ بِأَنَّ وَجْهَهُ بَقَاءُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بَعْدَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَحُرْمَةِ نِكَاحِ الْأُخْتِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ حَتَّى لَوْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: بَيْنَ النَّاسِ اخْتِلَافٌ فِي أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا هَلْ يَقَعُ أَوْ لَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ خِلَافٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ حَتَّى لَوْ قَضَى بِهِ الْقَاضِي لَمْ يَنْفُذْ قَضَاؤُهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَالٍ فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ عَلَى مَا يَجِيءُ، وَشُبْهَةُ أُمِّ وَلَدٍ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا هِيَ مَا قُلْنَا فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ قِيَامِ أَثَرِ الْفِرَاشِ فَكَانَ الظَّنُّ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، وَشُبْهَةُ الْعَبْدِ فِي جَارِيَةِ الْمَوْلَى انْبِسَاطُ يَدِ الْعَبْدِ فِي مَالِ مَوْلَاهُ وَالْجَارِيَةُ مِنْ مَالِهِ فَجَازَ أَنْ يَظُنَّ حِلَّ الِانْبِسَاطِ فِيهَا بِالْوَطْءِ (وَالْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ) يَعْنِي إذَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ سَوَاءٌ ادَّعَى الظَّنَّ أَوْ لَمْ يَدَّعِ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةً انْعَقَدَ لَهُ فِيهَا سَبَبُ الْمِلْكِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَشْتَبِهْ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا انْعَقَدَ لَهُ فِيهَا سَبَبُ الْمِلْكِ

ص: 251

فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ إذَا قَالَتْ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي. وَلَوْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ وَجَبَ الْحَدُّ. وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: جَارِيَةُ ابْنِهِ، وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا بِالْكِنَايَاتِ، وَالْجَارِيَةُ الْمَبِيعَةُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَالْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَالْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ. فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ.

لِأَنَّهُ بِالْهَلَاكِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ مِنْ وَقْتِ الرَّهْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ انْعَقَدَ لَهُ فِيهَا سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ وَيَحْصُلُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْهَلَاكِ.

وَوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ هُوَ أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ عَقْدٌ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ فَقِيَامُهُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً حُكْمِيَّةً قِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ، فَمَا أَوْرَثَ قِيَامَهَا فِي الْمَحَلِّ شُبْهَةٌ حُكْمِيَّةٌ وَعَلَى هَذَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ اشْتَبَهَ أَوْ لَمْ يَشْتَبِهْ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلْخِدْمَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اشْتِبَاهٍ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَالِ فِي الْجُمْلَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي الرَّهْنِ وَقَدْ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ مِلْكٍ فِي حَقِّ الْمَالِ فَيَشْتَبِهُ أَنَّهُ هَلْ يَثْبُتُ لَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِلْكُ الْمُتْعَةِ أَوْ لَا، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الثَّابِتَ بِهَا مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبَ مِلْكِ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ فَقَدْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا لَا يَشْتَبِهُ، وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الْمِلْكَ حَالَ قِيَامِ الْجَارِيَةِ وَمِلْكُ الْمَالِ حَالَ قِيَامِ الْجَارِيَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فَقَدْ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَهَاهُنَا إنَّمَا يَمْلِكُ مَالِيَّةَ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الْهَلَاكِ وَمِلْكُ الْمَالِ بَعْدَ الْهَلَاكِ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ. ثُمَّ عَدَّ الشُّبْهَةَ فِي الْمَحَلِّ وَهِيَ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ عَلَى مَا ذَكَرَهَا (جَارِيَةُ ابْنِهِ) لِقِيَامِ الْمُقْتَضَى لِلْمِلْكِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» (وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا بِالْكِنَايَاتِ) لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي كَوْنِهَا رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً (وَالْجَارِيَةُ الْمَبِيعَةُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ) لِأَنَّ الْيَدَ الَّتِي كَانَ بِهَا مُتَسَلِّطًا عَلَى الْوَطْءِ بَاقِيَةٌ بَعْدُ فَصَارَتْ شُبْهَةً فِي الْمَحَلِّ (وَالْمَمْهُورَةُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ) لِقِيَامِ مِلْكِ الْيَدِ (وَالْمُشْتَرَكَةُ) لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِي النِّصْفِ (وَالْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ) وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَهُ (فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يُحَدُّ) بِكُلِّ تَقْدِيرٍ، وَهَذَانِ النَّوْعَانِ

ص: 252

ثُمَّ الشُّبْهَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا تَثْبُتُ إذَا عَلِمَ بِتَحْرِيمِهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ عَلَى مَا يَأْتِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إذَا عَرَفْنَا هَذَا

(وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ) لِزَوَالِ الْمِلْكِ الْمُحَلَّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَكُونُ الشُّبْهَةُ مُنْتَفِيَةً

مِنْ الشُّبْهَةِ هُوَ مَا كَانَ رَاجِعًا إلَى الْفَاعِلِ وَالْقَائِلِ.

وَثَمَّ شُبْهَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ فَإِنَّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَثْبُتُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاطِئُ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ أَوْ جَاهِلًا بِهَا (وَعِنْدَ) الْعُلَمَاءِ (الْبَاقِينَ لَا تَثْبُتُ إذَا عَلِمَ بِتَحْرِيمِهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ عَلَى مَا يَأْتِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. إذَا عَرَفْنَا هَذَا) أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ بَيَانِ نَوْعَيْ الشُّبْهَةِ سَهْلُ تَخْرِيجِ الْفُرُوعِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ وَاضِحٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ.

ص: 253

وَقَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ بِانْتِفَاءِ الْحِلِّ وَعَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ، وَلَوْ قَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي مَوْضِعِهِ لِأَنَّ أَثَرَ الْمِلْكِ قَائِمٌ فِي حَقِّ النَّسَبِ وَالْحَبْسِ وَالنَّفَقَةِ فَاعْتُبِرَ ظَنُّهُ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ، وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَالْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ عَلَى مَالٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَقِيَامِ بَعْضِ الْآثَارِ فِي الْعِدَّةِ

(وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِّيَّةٌ أَوْ أَمْرُك بِيَدِك فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَمْ يُحَدَّ) لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِيهِ؛ فَمِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي سَائِرِ الْجِنَايَاتِ

وَقَوْلُهُ (وَقَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} وَقَوْلُهُ (وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ فِيهِ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَ الزَّيْدِيَّةِ وَالْإِمَامِيَّةِ، فَإِنَّ الزَّيْدِيَّةَ تَقُولُ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جُمْلَةً لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَالْإِمَامِيَّةُ تَقُولُ إنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ أَصْلًا لِكَوْنِهِ خِلَافَ السُّنَّةِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه (لِأَنَّهُ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاخْتِلَافَ أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ مُخْتَلِفًا وَالْمَقْصِدُ وَاحِدًا، وَالْخِلَافُ أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا مُخْتَلِفًا. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (فِي حَقِّ النَّسَبِ) يَعْنِي النَّسَبَ بِاعْتِبَارِ الْعُلُوقِ السَّابِقِ عَلَى الطَّلَاقِ لَا النَّسَبِ بِهَذَا الْوَطْءِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ.

ص: 254

وَكَذَا إذَا نَوَى ثَلَاثًا لِقِيَامِ الِاخْتِلَافِ مَعَ ذَلِكَ

(وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ) لِأَنَّ الشُّبْهَةَ حُكْمِيَّةٌ لِأَنَّهَا نَشَأَتْ عَنْ دَلِيلٍ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَنْتِ وَمَالُك لِأَبِيك» وَالْأُبُوَّةُ

وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا نَوَى ثَلَاثًا لِقِيَامِ الِاخْتِلَافِ مَعَ ذَلِكَ) أَيْ كَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا نَوَى مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يُحَدُّ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ لَا يَرْتَفِعُ بِنِيَّةِ الثَّلَاثِ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ قَائِمَةً فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ) يَعْنِي وَإِنْ كَانَ وَلَدُهُ حَيًّا، وَقَدْ يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ

ص: 255

قَائِمَةٌ فِي حَقِّ الْجَدِّ. قَالَ (وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ

(وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى قَاذِفِهِ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ، وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ) لِأَنَّ بَيْنَ هَؤُلَاءِ انْبِسَاطًا فِي الِانْتِفَاعِ فَظَنَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ فَكَانَ شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ إلَّا أَنَّهُ زِنًا

تَعْلِيلُ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْأُبُوَّةُ قَائِمَةٌ فِي حَقِّ الْجَدِّ. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ) أَيْ فِي بَابِ نِكَاحِ الرَّقِيقِ.

ص: 256

حَقِيقَةً فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْجَارِيَةُ: ظَنَنْت أَنَّهُ يَحِلُّ لِي وَالْفَحْلُ لَمْ يَدَّعِ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ

(وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ عَمِّهِ وَقَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي حُدَّ) لِأَنَّهُ لَا انْبِسَاطَ فِي الْمَالِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَكَذَا سَائِرُ الْمَحَارِمِ سِوَى الْوِلَادِ لِمَا بَيَّنَّا.

قَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْجَارِيَةُ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ. وَقَوْلُهُ (فِي الظَّاهِرِ) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ وَكَذَا أَيْ لَا حَدَّ عَلَى الْعَبْدِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ) فَوُرُودُ الشُّبْهَةِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يَكْفِي لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ هَذَا بِمَا إذَا زَنَى الْبَالِغُ بِصَبِيَّةٍ حَيْثُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْبَالِغِ دُونَ الصَّبِيَّةِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ هُنَاكَ أَيْضًا وَاحِدٌ. أُجِيبَ بِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ فِي جَانِبِ الصَّبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَاتِ وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا تَمَكَّنَتْ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ شُبْهَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ

(وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ عَمِّهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي حُدَّ لِأَنَّهُ لَا انْبِسَاطَ فِي الْمَالِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَكَذَا سَائِرُ الْمَحَارِمِ سِوَى الْوِلَادِ لِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ لَا انْبِسَاطَ فِي الْمَالِ فِيمَا بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يُجْعَلْ هَذَا كَالسَّرِقَةِ يَعْنِي إذَا سَرَقَ مَالَ أَخُوهُ أَوْ أُخْتِهِ لَا يُقْطَعُ. أُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ هُنَاكَ يَدْخُلُ بَيْتَ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَلَا حِشْمَةٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَاكَ الْحِرْزُ وَالْقَطْعُ دَائِرٌ مَعَ هَتْكِ الْحِرْزِ، وَأَمَّا هُنَا فَالْحِلُّ دَائِرٌ مَعَ الْمِلْكِ أَوْ الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمِلْكُ وَلَا شُبْهَتُهُ وَلَا الْعَقْدُ فَيَجِبُ الْحَدُّ.

ص: 257

(وَمَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ وَقَالَتْ النِّسَاءُ: إنَّهَا زَوْجَتُك فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ) قَضَى بِذَلِكَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَبِالْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهُ اعْتَمَدَ دَلِيلًا وَهُوَ الْإِخْبَارُ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِأَنَّ الْمِلْكَ مُنْعَدِمٌ حَقِيقَةً

(وَمَنْ وَجَدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَوَطِئَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ بَعْدَ طُولِ الصُّحْبَةِ فَلَمْ يَكُنْ الظَّنُّ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ، وَهَذَا

قَالَ (وَمَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ) هَذَا مِنْ بَابِ الشُّبْهَةِ فِي الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْفِعْلَ صَدَرَ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ أَطْلَقَ الشَّرْعُ لَهُ الْعَمَلَ بِهِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَجَعَلَ الْمِلْكَ كَالثَّابِتِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْغُرُورِ كَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ اُعْتُبِرَ الْمِلْكُ كَالثَّابِتِ لِدَفْعِ الْغُرُورِ كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَلِهَذَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَلَوْ كَانَتْ الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْلِ لَمَا ثَبَتَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. قَوْلُهُ (وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) يَعْنِي أَنَّهُ يَقُولُ فِيهَا إنَّ إحْصَانَهُ لَمْ يَسْقُطْ بِهَذَا الْفِعْلِ لِأَنَّهُ بَنَى الْحُكْمَ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَدْ كَانَ هَذَا الْوَطْءُ حَلَالًا فِي الظَّاهِرِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ إحْصَانُهُ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمِلْكَ مُنْعَدِمٌ حَقِيقَةً فَلَمْ يَبْقَ الظَّاهِرُ إلَّا شُبْهَةً وَبِهَا يَسْقُطُ الْحَدُّ وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ.

ص: 258

لِأَنَّهُ قَدْ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا غَيْرُهَا مِنْ الْمَحَارِمِ الَّتِي فِي بَيْتِهَا، وَكَذَا إذَا كَانَ أَعْمَى لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ بِالسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ، إلَّا إنْ كَانَ دَعَاهَا فَأَجَابَتْهُ أَجْنَبِيَّةٌ وَقَالَتْ: أَنَا زَوْجَتُك فَوَاقَعَهَا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ دَلِيلٌ

(وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فَوَطِئَهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَلَكِنْ يُوجَعُ عُقُوبَةً إذَا كَانَ عَلِمَ بِذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَيَلْغُو كَمَا إذَا أُضِيفَ إلَى الذُّكُورِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ، وَحُكْمُهُ الْحِلُّ وَهِيَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْعَقْدَ صَادَفَ مَحَلَّهُ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يُقْبَلُ مَقْصُودُهُ، وَالْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ قَابِلَةٌ لِلتَّوَالُدِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ،

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ قَدْ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا غَيْرُهَا مِنْ الْمَحَارِمِ الَّتِي فِي بَيْتِهَا) يَعْنِي فَلَا يَصْلُحُ مُجَرَّدُ النَّوْمِ عَلَى فِرَاشِهَا دَلِيلًا شَرْعِيًّا فَكَانَ مُقَصِّرًا فَيَجِبُ الْحَدُّ. وَإِنَّمَا قَالَ (وَقَالَتْ أَنَا زَوْجَتُك) لِأَنَّهَا إذَا أَجَابَتْ بِالْفِعْلِ وَلَمْ تَقُلْ ذَلِكَ فَوَاقَعَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَذَا فِي الْإِيضَاحِ

(وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فَوَطِئَهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَكِنْ يُوجَعُ عُقُوبَةً إذَا كَانَ عَلِمَ بِذَلِكَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ عَلِمَ بِذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ) وَكُلُّ عَقْدٍ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ يَلْغُو (كَمَا إذَا أُضِيفَ إلَى الذُّكُورِ) قَوْلُهُ (وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ عَقْدٌ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ (مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ) وَهَذَا الْمَحَلُّ لَيْسَ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ (لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحِلُّ وَهِيَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَقْدَ صَادَفَ مَحَلَّهُ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ قَابِلًا لِمَقْصُودِهِ) وَهُوَ التَّوَالُدُ هَاهُنَا (وَبَنَاتُ آدَمَ قَابِلَةٌ لِذَلِكَ) قَوْلُهُ وَهَذَا الْمَحَلُّ لَيْسَ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ. قُلْنَا: لَيْسَ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ أَصْلًا أَوْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ كَانَ مَحَلًّا لَهُ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلِنَا. وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ كَوْنُهُ مَحَلًّا فِي الْجُمْلَةِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ فَإِنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ زِنًا لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الزِّنَا وَغَيْرِهِ إلَّا بِالْعَقْدِ

ص: 259

وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ حَقِيقَةِ الْحِلِّ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ لَا نَفْسَ الثَّابِتِ، إلَّا أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ

وَالْفَرْضُ وُجُودُهُ، وَأَوْلَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ مَحَارِمِهِمْ لَا تُنْسَبُ إلَى الزِّنَا فِي الْعُرْفِ وَهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَلَا يُقَرُّونَ عَلَى الزِّنَا بَلْ يُحَدُّونَ عَلَيْهِ (وَ) إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَقْدَ صَادَفَ مَحَلَّهُ (كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ حَقِيقَةِ الْحِلِّ) بِتَحْرِيمِ الشَّرْعِ فِي دِينِنَا (فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ إلَّا أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ)

ص: 260

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 261

(وَمَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يُعَزَّرُ) لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ

(وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ أَوْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ عليه السلام فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُعَزَّرُ، وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَيُودَعُ فِي السِّجْنِ، وَقَالَا: هُوَ كَالزِّنَا فَيُحَدُّ) وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ،

قَوْلُهُ (وَمَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ) أَيْ فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَالتَّفْخِيذِ وَالتَّبْطِينِ (عُزِّرَ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُنْكَرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ)

قَوْلُهُ (وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً) قِيلَ يُرِيدُ أَجْنَبِيَّةً لِأَنَّهُ إذَا أَتَى امْرَأَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ (فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ) أَيْ الدُّبُرِ لَا يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا عِنْدَهُمَا أَيْضًا وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الزِّيَادَاتِ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَحِلُّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَحَلٍّ وَمَحَلٍّ (أَوْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُعَزَّرُ. وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَيُودَعُ فِي السِّجْنِ، وَقَالَا: هُوَ كَالزِّنَا فَيُحَدُّ) حَدَّ الزِّنَا جَلْدًا إنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ وَرَجْمًا إنْ كَانَ مُحْصَنًا (وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله.

ص: 262

وَقَالَ فِي قَوْلٍ يُقْتَلَانِ بِكُلِّ حَالٍ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ» وَيُرْوَى «فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ» وَلَهُمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهٍ تَمَحَّضَ حَرَامًا لِقَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ. وَلَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي مُوجِبِهِ مِنْ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ وَهَدْمِ الْجِدَارِ وَالتَّنْكِيسِ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ بِاتِّبَاعِ الْأَحْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إضَاعَةُ الْوَلَدِ وَاشْتِبَاهُ الْأَنْسَابِ، وَكَذَا هُوَ أَنْدَرُ وُقُوعًا لِانْعِدَامِ الدَّاعِي مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالدَّاعِي إلَى الزِّنَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ أَوْ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ عِنْدَهُ لِمَا بَيَّنَّاهُ

وَقَالَ فِي قَوْلٍ آخَرَ: يُقْتَلَانِ بِكُلِّ حَالٍ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُونَا (لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ» وَيُرْوَى «فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ» وَلَهُمَا أَنَّهُ) أَيْ اللِّوَاطَ (فِي مَعْنَى الزِّنَا) وَقِيلَ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ وَفِعْلِ اللِّوَاطِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: إنَّهُمَا فِي مَعْنَى الزِّنَا (لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهٍ تَمَحَّضَ حَرَامًا لِقَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ وَهُوَ مَنَاطُ الْحَدِّ فِي الزِّنَا) فَيَلْحَقُ بِهِ اللِّوَاطُ فِي الدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَدْخُلُ فِيمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ (وَلَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي مُوجِبِهِ مِنْ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ وَهَدْمِ الْجِدَارِ عَلَيْهِ وَالتَّنْكِيسِ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ بِإِتْبَاعِ الْأَحْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ) مِنْ الْحَبْسِ فِي أَنْتَنِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى يَمُوتَا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي مُوجِبِ الزِّنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا (وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إضَاعَةُ الْوَلَدِ وَاشْتِبَاهُ الْأَنْسَابِ) بِخِلَافِ الزِّنَا (وَكَذَا هُوَ أَنْدَرُ وُقُوعًا) مِنْ الزِّنَا (لِانْعِدَامِ الدَّاعِي فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ) يَعْنِي عَلَى مَا هُوَ الْجِبِلَّةُ السَّلِيمَةُ (وَالدَّاعِي إلَى الزِّنَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ) وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً فَبَقِيَ الْقِيَاسُ وَالْقِيَاسُ فِي مِثْلِهِ بَاطِلٌ (وَمَا رَوَاهُ) مِنْ قَتْلِهِمَا أَوْ رَجْمِهِمَا (مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ أَوْ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ) لِلْكُفْرِ بِذَلِكَ (إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ. قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: وَالرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ إنْ شَاءَ قَتَلَهُ إنْ اعْتَادَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ ضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ؛ فَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا.

ص: 263

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 264

(وَمَنْ وَطِئَ بَهِيمَةً لَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الزِّنَا فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً وَفِي وُجُودِ الدَّاعِي لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَنْفِرُ عَنْهُ وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ نِهَايَةُ السَّفَهِ أَوْ فَرْطُ الشَّبَقِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ سَتْرُهُ إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنَّهُ تُذْبَحُ الْبَهِيمَةُ وَتُحْرَقُ فَذَلِكَ لِقَطْعِ التَّحَدُّثِ بِهِ

وَمَنْ وَطِئَ بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الزِّنَا فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً) إذْ لَيْسَ فِيهِ تَضْيِيعُ الْوَلَدِ وَلَا إفْسَادُ الْفِرَاشِ (وَ) لَا (فِي وُجُودِ الدَّاعِي لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَنْفِرُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ نِهَايَةُ السَّفَهِ أَوْ فَرْطُ الشَّبَقِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ سَتْرُهُ) أَيْ سَتْرُ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ، وَإِنَّمَا أُضْمِرَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُهُ لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَهِيمَةِ يَسْتَلْزِمُهُ فَكَانَ مَرْجِعُهُ حُكْمِيًّا (إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ» شَاذٌّ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ فَتَأْوِيلُهُ مُسْتَحِلُّ ذَلِكَ الْفِعْلِ (وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنْ تُذْبَحَ الْبَهِيمَةُ) وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ أَتَى بِرَجُلٍ أَتَى بَهِيمَةً فَأَمَرَ بِالْبَهِيمَةِ فَذُبِحَتْ وَأُحْرِقَتْ بِالنَّارِ (فَذَلِكَ لِقَطْعِ التَّحَدُّثِ بِهِ)

ص: 265

وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ

(وَمَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ). وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يُحَدُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِإِسْلَامِهِ أَحْكَامَهُ أَيْنَمَا كَانَ مَقَامُهُ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِانْزِجَارُ وَوِلَايَةُ الْإِمَامِ مُنْقَطِعَةٌ فِيهِمَا فَيُعَرَّى الْوُجُوبُ عَنْ الْفَائِدَةِ، وَلَا تُقَامُ بَعْدَ

كَيْ لَا يُعَيَّرَ بِهَا الرَّجُلُ إذَا كَانَتْ الْبَهِيمَةُ بَاقِيَةً (لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ)

قَالَ (وَمَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا) وَأَقَرَّ عِنْدَ الْإِمَامِ بِالزِّنَا (لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُحَدُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِإِسْلَامِهِ أَحْكَامَهُ أَيْنَمَا كَانَ مُقَامُهُ. وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ»).

وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ عَدَمِ الْإِقَامَةِ حِسًّا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْرِفُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْإِمَامِ عَنْهَا فَكَانَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ الْإِقَامَةِ عَدَمَ وُجُوبِ الْحَدِّ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ {فَاجْلِدُوا} فَلَا يُقْبَلُ. أُجِيبَ بِأَنَّ مَوَاضِعَ الشُّبْهَةِ خُصَّتْ مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ حُجَّةً قَطْعِيَّةً عَلَى هَذَا أَطْبَقَ الشَّارِحُونَ، وَفِيهِ نَظَرٌ يُعْرَفُ بِاسْتِحْضَارِ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ. وَهُوَ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِهِمَا إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ بِلَفْظٍ مُقَارَنٍ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بِمَوْجُودٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ حَصَلَ التَّخْصِيصُ بِلَفْظٍ مُقَارَنٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} فَإِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إلَى الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ. وَالزِّنَا وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَخَرَجَ مِنْهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ رَجُلًا. وَإِذَا خَصَّ مُقَارَنًا جَازَ التَّخْصِيصُ بَعْدَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِانْزِجَارُ) يَعْنِي أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ لَيْسَ لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلِانْزِجَارِ، وَالِانْزِجَارُ يَحْصُلُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَالِاسْتِيفَاءُ مُتَعَذَّرٌ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْإِمَامِ. فَلَوْ وَجَبَ الْحَدُّ لَعَرَى عَنْ الْفَائِدَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لَا يُقَامُ بَعْدَمَا خَرَجَ لِئَلَّا يَقَعَ الْحُكْمُ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ بِتَأْوِيلِ الْفَاحِشَةِ،

ص: 266

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أَوْ بِتَأْوِيلِ الْوَطْأَةِ

ص: 267

مَا خَرَجَ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً فَلَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً.

وَلَوْ غَزَا مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ بِنَفْسِهِ كَالْخَلِيفَةِ وَأَمِيرِ مِصْرَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى فِي مُعَسْكَرِهِ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ، بِخِلَافِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ وَالسَّرِيَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ تُفَوَّضْ إلَيْهِمَا الْإِقَامَةُ.

(وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَزَنَى بِذِمِّيَّةٍ أَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِحَرْبِيَّةٍ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ وَالذِّمِّيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ وَالْحَرْبِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي الذِّمِّيِّ) يَعْنِي إذَا زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ، فَأَمَّا إذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ بِذِمِّيَّةٍ لَا يُحَدَّانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَوَّلًا (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يُحَدُّونَ كُلُّهُمْ) وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ. لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي دَارِنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ، كَمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ الْتَزَمَهَا مُدَّةَ عُمُرِهِ وَلِهَذَا يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا،

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ غَزَا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (فِي مُعَسْكَرِهِ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ مِنْ مُعَسْكَرِهِ وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَزَنَى فِيهَا ثُمَّ خَرَجَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ (وَالسَّرِيَّةُ) قِيلَ هُمْ الَّذِينَ يَسِيرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَخْتَفُونَ بِالنَّهَارِ، وَمِنْهُ «خَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ»

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ) حَاصِلُ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شُمُولُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمِّيِّ وَالذِّمِّيَّةِ وَشُمُولُ الْعَدَمِ فِي الْحَرْبِيِّ وَالْحَرْبِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا الشُّمُولُ لَا يَتَغَيَّرُ بِمُغَايَرَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لِلْآخَرِ بِكَوْنِهِ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَدَمُ التَّغَيُّرِ ثَابِتٌ فِي جَانِبِ الْحَرْبِيِّ وَالْحَرْبِيَّةِ. وَأَمَّا فِي جَانِبِ الذِّمِّيِّ فَيَتَفَاوَتُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ حَالُهُمَا حَيْثُ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ وَلَا تُحَدُّ الْحَرْبِيَّةُ، وَفِي الْعَكْسِ لَا يُحَدَّانِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، وَقَالَ آخِرًا بِشُمُولِ الْوُجُوبِ فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا (لَهُ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي دَارِنَا كَمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ الْتَزَمَهَا مُدَّةَ عُمُرِهِ) وَمَنْ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا تَنْفُذُ عَلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ (وَلِهَذَا يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا) فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ

ص: 268

بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ. وَلَهُمَا أَنَّهُ مَا دَخَلَ لِلْقَرَارِ بَلْ لِحَاجَةٍ كَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَلِهَذَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ بِهِ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ مِنْ الْحُكْمِ مَا يَرْجِعُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ حُقُوقُ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَمِعَ فِي الْإِنْصَافِ يَلْتَزِمْ الِانْتِصَافَ، وَالْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِهِمْ، أَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَمَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ. وَلِمُحَمَّدٍ رحمه الله وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي بَابِ الزِّنَا فِعْلُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ، أَمَّا الِامْتِنَاعُ فِي حَقِّ التَّبَعِ لَا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْأَصْلِ. نَظِيرُهُ إذَا زَنَى الْبَالِغُ بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ وَتَمْكِينُ الْبَالِغَةِ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ

مِنْ أَحْكَامِنَا. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ) فَإِنْ قُلْت: فَهُوَ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَقَذْفِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَصَّ مِنْهُ وَلَا يُحَدُّ لِقَذْفِهِ. قُلْت: الْمَعْنَى بِاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا، وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْقَذْفِ حَرَامٌ فِي دِينِهِمْ، فَإِبَاحَتُهُمْ ذَلِكَ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ، وَإِنَّمَا هُوَ هَوًى وَتَعَصُّبٌ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْتِزَامَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا هُوَ بِالْتِزَامِ الْقَرَارِ فِي الدَّارِ، لِأَنَّ الِاتِّصَافَ بِكَوْنِهِ مِنْ دَارِنَا إنَّمَا يَكُونُ بِذَلِكَ، وَالْحَرْبِيُّ مَا الْتَزَمَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَخَلَ لِحَاجَةٍ كَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَلِهَذَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ بِهِ) وَإِذَا لَمْ يَصِرْ مِنْ دَارِنَا وَكَانَ دُخُولُهُ لِحَاجَةٍ (كَانَ مُلْتَزِمًا مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَرْجِعُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ حُقُوقُ الْعِبَادِ) لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدْخُلْ إلَّا طَامِعًا فِي الْإِنْصَافِ: أَيْ الْعَدْلِ لِأَجْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ (يَلْتَزِمُ الِانْتِصَافَ) أَيْ الْعَدْلَ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ. (وَالْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ) فَكَانَ دَاخِلًا فِي الِانْتِصَافِ (وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَمَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ) فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ شَرَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي إثْبَاتِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ (الْأَصْلُ فِي بَابِ الزِّنَا فِعْلُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةُ تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَا يَأْتِي؛ فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ) فِيمَا إذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ بِذِمِّيَّةٍ (يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ) وَإِلَّا لَا يَكُونُ تَبَعًا فَكَانَ خَلَفًا (وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ فِي حَقِّ التَّبَعِ) فِيمَا إذَا زَنَى الذِّمِّيُّ بِحَرْبِيَّةٍ (فَلَا يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ) وَإِلَّا لَكَانَ مُسْتَتْبَعًا فَكَانَ أَصْلًا، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ تَبَعٌ وَذَلِكَ خَلَفٌ بَاطِلٌ (نَظِيرُ ذَلِكَ إذَا زَنَى الْبَالِغُ بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ) فَإِنَّهُ يُحَدُّ الْبَالِغُ دُونَهُمَا لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ التَّبَعِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ (وَتَمْكِينُ الْبَالِغَةِ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ) فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ

ص: 269

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِيهِ أَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ زِنًا لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْحُرُمَاتِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ عَلَى أَصْلِنَا وَالتَّمْكِينُ مِنْ فِعْلٍ هُوَ زِنًا مُوجِبٌ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَا يُخَاطَبَانِ، وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا زَنَى الْمُكْرَهُ بِالْمُطَاوِعَةِ تُحَدُّ الْمُطَاوِعَةُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لَا تُحَدُّ.

الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يَسْتَلْزِمُهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ زِنًا حَقِيقَةً لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْحُرُمَاتِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ عَلَى أَصْلِنَا) وَلِهَذَا لَوْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِوُجُوبِ تَبْلِيغِهِ مَأْمَنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَمْكِينُ الْمَرْأَةِ مِنْهُ زِنًا لِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنْ فِعْلِ الزِّنَا زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ وَهُوَ تَبْلِيغُهُ مَأْمَنَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْحُرُمَاتِ تَرْكُ الِامْتِثَالِ بِالْأَوَامِرِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ النَّوَاهِي، فَإِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْعِبَادَاتِ مِنْ حَيْثُ التَّرْكُ تَضْعِيفًا لِلْعَذَابِ عَلَيْهِمْ (قَوْلُهُ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا الْعِرَاقِيِّينَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِكَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ بِالشَّرَائِعِ كُلِّهَا بِالْعِبَادَاتِ وَالْحُرُمَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ عَلَى أَصْلِنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا الْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالشَّرَائِعِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَمَشَايِخُ دِيَارِنَا يَقُولُونَ: إنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِأَدَاءِ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ مِنْ الْعِبَادَاتِ.

وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ) جَوَابٌ عَنْ مُسْتَشْهَدِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ الْأَصْلِ يُوجِبُ السُّقُوطَ مِنْ التَّبَعِ.

وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ نَظِيرَ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا يُخَاطَبَانِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُمَا زِنًا، وَالتَّمْكِينُ مِنْ غَيْرِ الزِّنَا لَيْسَ بِزِنًا فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَالْحَرْبِيُّ مُخَاطَبٌ فَفِعْلُهُ زِنًا، وَالتَّمْكِينُ مِنْ الزِّنَا زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ (وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا زَنَى الْمُكْرَهُ بِالْمُطَاوِعَةِ تُحَدُّ الْمُطَاوِعَةُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُحَدُّ).

ص: 270

قَالَ (وَإِذَا زَنَى الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ بِامْرَأَةٍ طَاوَعَتْهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا). وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ

(وَإِنْ زَنَى صَحِيحٌ بِمَجْنُونَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ يُجَامَعُ مِثْلُهَا حُدَّ الرَّجُلُ خَاصَّةً) وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا أَنَّ الْعُذْرَ مِنْ جَانِبِهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ فَكَذَا الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِهِ.

وَلَنَا أَنَّ فِعْلَ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلُّ الْفِعْلِ وَلِهَذَا يُسَمَّى هُوَ وَاطِئًا وَزَانِيًا وَالْمَرْأَةُ مَوْطُوءَةً وَمَزْنِيًّا بِهَا، إلَّا أَنَّهَا سُمِّيَتْ زَانِيَةً مَجَازًا تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَالرَّاضِيَةِ فِي مَعْنَى

قَالَ (وَإِذَا زَنَى الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ) صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ، وَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ قِيَاسُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْآخَرِ

قَالَا: (الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِهَا) كَمَا فِي صُورَةِ الْإِجْمَاعِ (لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ فَكَذَا الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِهِ) وَهُوَ فِي الصُّورَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ مِنْ جَانِبِهَا، وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِهِ، وَدَلِيلُنَا ظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا آنِفًا لِمُحَمَّدٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّكْرَارِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ غَيْرَ الْمُحْصَنِ إذَا زَنَى بِالْمُحْصَنَةِ يَجِبُ الرَّجْمُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الرَّجُلِ فَعَدَمُ الرَّجْمِ عَلَى الْأَصْلِ لَا يُوجِبُ عَدَمَهُ عَلَى التَّبَعِ فَلْيَكُنْ نَفْسُ الْحَدِّ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي أَنَّ الصَّبِيَّ أَوْ الْمَجْنُونَ إذَا زَنَى بِالْمُطَاوِعَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْمَهْرُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو عَنْ

ص: 271

الْمَرْضِيَّةِ، أَوْ لِكَوْنِهَا مُسَبِّبَةً بِالتَّمْكِينِ فَتَعَلَّقَ الْحَدُّ فِي حَقِّهَا بِالتَّمْكِينِ مِنْ قَبِيحِ الزِّنَا وَهُوَ فِعْلُ مَنْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِالْكَفِّ عَنْهُ وَمُؤْتَمٌّ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يُنَاطُ بِهِ الْحَدُّ.

أَحَدِ الْمُوجِبَيْنِ: إمَّا الْحَدُّ أَوْ الْمَهْرُ. وَقَدْ أَوْرَدَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ فِيمَا إذَا طَاوَعَتْهُ الْمَرْأَةُ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إحْصَانِ الزَّانِي إحْصَانُ الزَّانِيَةِ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ مَوْقُوفٌ عَلَى شَرَائِطَ أُخَرَ، وَيَلْزَمُ مِنْ تَحْقِيقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُ تَحْقِيقُهُ مِنْهَا بِسَبَبِ التَّمْكِينِ لِأَنَّ تَمْكِينَهَا سَبَبٌ لِفِعْلِ الرَّجُلِ فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ فِي حَقِّهَا. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا الْمَهْرَ عَلَى الصَّبِيِّ فِيمَا إذَا طَاوَعَتْهُ لَخَلَا الْإِيجَابُ عَنْ الْفَائِدَةِ، لِأَنَّ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمَّا طَاوَعَتْهُ صَارَتْ آمِرَةً لِلصَّبِيِّ بِالزِّنَا مَعَهَا وَقَدْ لَحِقَهُ بِذَلِكَ غُرْمٌ، وَصَحَّ الْأَمْرُ مِنْ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ لَهَا وِلَايَةً عَلَى نَفْسِهَا فَلَا يُفِيدُ الْإِيجَابَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ صَبِيَّةً فَإِنَّ الْمُكْرَهَةَ لَيْسَتْ بِآمِرَةٍ وَالصَّبِيَّةَ لَا يَصِحُّ أَمْرُهَا لِعَدَمِ وِلَايَتِهَا عَلَى نَفْسِهَا فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُكْرَهَةِ، فَإِيجَابُ الْمَهْرِ كَانَ مُفِيدًا ثَمَّةَ، إذْ لَيْسَ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ حِينَئِذٍ أَنْ

ص: 272

قَالَ (وَمَنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ حَتَّى زَنَى فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ) وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يَقُولُ أَوَّلًا يُحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَعْدَ انْتِشَارِ الْآلَةِ وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ. ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَقَالَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْمُلْجِئَ قَائِمٌ ظَاهِرًا، وَالِانْتِشَارُ دَلِيلٌ مُتَرَدِّدٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ قَصْدٍ لِأَنَّ الِانْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لَا طَوْعًا كَمَا فِي النَّائِمِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَإِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ حُدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَهُمَا قَدْ يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِهِ. وَلَهُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَدُومُ إلَّا نَادِرًا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالسُّلْطَانِ أَوْ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِنَفْسِهِ بِالسِّلَاحِ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا الْخُرُوجُ بِالسِّلَاحِ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَا

(وَمَنْ أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَقَالَتْ هِيَ: تَزَوَّجَنِي أَوْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا وَقَالَ الرَّجُلُ تَزَوَّجْتهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي ذَلِكَ) لِأَنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَهُوَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ تَعْظِيمًا

يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ إلَخْ) ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي ذَلِكَ) يَعْنِي فِي كِلْتَا

ص: 273

لِخَطَرِ الْبُضْعِ

(وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ) مَعْنَاهُ: قَتَلَهَا بِفِعْلِ الزِّنَا لِأَنَّهُ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَيُوَفِّرُ عَلَى

الصُّورَتَيْنِ: دَعْوَى الرَّجُلِ النِّكَاحَ وَدَعْوَاهُ الْمَرْأَةَ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْمَهْرُ فِيمَا إذَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِالزِّنَا لِأَنَّهَا تَنْفِي وُجُوبَ الْمَهْرِ فَكَيْفَ وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ وَهِيَ مُنْكِرَةٌ لِلنِّكَاحِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ النِّكَاحَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ وَالزَّوْجُ يَدَّعِي النِّكَاحَ فَبِدَعْوَاهُ النِّكَاحَ انْتَفَى الْحَدُّ عَنْهُ فِي هَذَا الْوَطْءِ لِأَنَّهُ فِي دَعْوَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُصَدَّقًا أَوْ مُكَذَّبًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ أَثْبَتَ النِّكَاحَ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَاحْتِمَالُ الصِّدْقِ قَائِمٌ لَا مَحَالَةَ، وَالِاحْتِمَالُ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُلْحَقٌ بِالْيَقِينِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ، وَسُقُوطُهُ يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الْمَهْرِ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو عَنْ غَرَامَةٍ أَوْ عُقُوبَةٍ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْمَلْزُومُ بِدُونِ اخْتِيَارِهَا تَحَقَّقَ اللَّازِمُ كَذَلِكَ فَيَثْبُتُ لَهَا الْمَهْرُ وَإِنْ رَدَّتْهُ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ) إنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَارِيَةِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ الْحُرَّةِ

ص: 274

كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ تَقَرُّرَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ سَبَبٌ لَمِلْكِ الْأَمَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهَا بَعْدَ مَا زَنَى بِهَا

وَالْجَارِيَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْحُرَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَا أَنَّ شُبْهَةَ عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ إنَّمَا تَرِدُ فِي حَقِّ الْجَارِيَةِ لَا فِي حَقِّ الْحُرَّةِ، لِأَنَّ الْأَمَةَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِلزَّانِي عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ بِشُبْهَةِ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، كَمَا إذَا زَنَى بِهَا فَأَذْهَبَ عَيْنَهَا وَهُوَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ص: 275

وَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَاعْتِرَاضُ سَبَبِ الْمِلْكِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ يُوجِبُ سُقُوطَهُ، كَمَا إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَطْعِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ ضَمَانُ قَتْلٍ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ، وَلَوْ كَانَ يُوجِبُهُ فَإِنَّمَا يُوجِبُهُ فِي الْعَيْنِ كَمَا فِي هِبَةِ الْمَسْرُوقِ لَا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ لِأَنَّهَا اُسْتُوْفِيَتْ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا فَلَا يَظْهَرُ فِي الْمُسْتَوْفَى لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِهَا فَأَذْهَبَ عَيْنَهَا حَيْثُ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَالِكَ يَثْبُتُ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ وَهِيَ عَيْنٌ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.

وَقَوْلُهُ (وَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ) أَيْ شِرَاءُ الْجَارِيَةِ بَعْدَ الزِّنَا بِهَا قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُحَدُّ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَكَانَ رَدُّ الْمُخْتَلَفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ، لَكِنْ الْخِلَافُ فِي الْمُشْتَرَاةِ بَعْدَ الزِّنَا مَذْكُورٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ (وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ ضَمَانُ قَتْلٍ وَضَمَانَ الْقَتْلِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ) وَالدَّمُ بِمَا لَا يَمْلِكُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَرَّرُ هَكَذَا لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ، وَضَمَانُ الدَّمِ يَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ يُوجِبُهُ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَكِنْ إنَّمَا يُوجِبُهُ فِي الْعَيْنِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فِي هَيْئَةِ الْمَسْرُوقِ لَا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ لِأَنَّهَا اُسْتُوْفِيَتْ وَتَلَاشَتْ فَلَمْ تَكُنْ قَابِلَةً لِلْمِلْكِ حَالَةَ الضَّمَانِ وَلَا مُسْتَنِدَةً لِأَنَّ الْمُسْتَنِدَ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَعْدُومِ وَالْمَنَافِعُ الْمُسْتَوْفَاةُ مَعْدُومَةٌ. قِيلَ فَلْيَكُنْ الْمِلْكُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ التَّبَيُّنِ لِئَلَّا يُشْتَرَطَ الْوُجُودُ كَمَا فِي الْحَيْضِ دَرْءًا فِي بَابِ الْحُدُودِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّبَيُّنَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حُكْمٍ مُغَيَّا بِغَايَةٍ يُنْتَظَرُ الْوُصُولُ إلَيْهَا، فَإِنْ وَصَلَ حُكِمَ بِثُبُوتِهِ وَإِلَّا فَلَا كَمَا فِي الْحَيْضِ، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِهَا) جَوَابٌ لِصُورَةٍ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَشْهِدَ بِهَا أَبُو يُوسُفَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.

وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الزَّانِيَ بِالضَّمَانِ يَمْلِكُ الْجُثَّةَ الْعَمْيَاءَ لِكَوْنِهَا قَابِلَةً لِلْمِلْكِ إذْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فَتُورِثُ الشُّبْهَةَ، وَهَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ الْجَوَابِ دُونَ التَّنَزُّلِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمِلْكُ يَثْبُتُ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ مُسْتَنِدًا فَلَا يَظْهَرُ فِي الْمُسْتَوْفِي: أَعْنِي الْمَنَافِعَ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً، وَأَمَّا إذَا نَظَرْت إلَى أَصْلِ الْجَوَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ إنَّهُ ضَمَانُ قَتْلٍ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ وَهُوَ لَيْسَ بِعَيْنٍ تُمْلَكُ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ

ص: 276

قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْإِمَامُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ وَبِالْأَمْوَالِ) لِأَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِقَامَتُهَا إلَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ، بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِيهِ وَلِيُّ الْحَقِّ إمَّا بِتَمْكِينِهِ أَوْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقِصَاصُ وَالْأَمْوَالُ مِنْهَا.

وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ قَالُوا الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بِالنَّظَرِ إلَى التَّنَزُّلِ أَيْضًا بِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِيهِ أَيْضًا لَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ فَتَكُونُ فِي الْمَنَافِعِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا حَقِيقَةً فَيَكُونُ فِي الْمَنَافِعِ الشُّبْهَةُ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ، لَكِنْ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُشِيرُ إلَى هَذَا أَصْلًا

(وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْإِمَامُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ) وَفَسَّرَهُ أَبُو اللَّيْثِ بِالْخَلِيفَةِ (فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا الْقِصَاصُ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ وَبِالْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِقَامَتُهَا إلَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ) قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ» وَعَدَّ مِنْهَا إقَامَةَ الْحُدُودِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقَّ الشَّرْعِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُحَدَّ الْمُسْتَأْمَنُ إذَا قَذَفَ كَمَا لَوْ زَنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُحَدُّ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقَّيْنِ لَا مَحَالَةَ فَيُعْمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَمَا يَلِيقُ بِالْحَرْبِيِّ أَنْ يَكُونَ حَقَّ الْعَبْدِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ، وَمَا يَلِيقُ بِالْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ يَسْتَوْفِيهِ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 277

(بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا)

(وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِحَدٍّ مُتَقَادِمٍ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ إقَامَتِهِ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ خَاصَّةً)

بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا)

قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ثُبُوتَ الزِّنَا عِنْدَ الْإِمَامِ إنَّمَا يَكُونُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ لَا غَيْرُ، وَهُمَا الشَّهَادَةُ وَالْإِقْرَارُ، وَأَخَّرَ الشَّهَادَةَ هَاهُنَا عَنْ الْإِقْرَارِ لِقِلَّةِ ثُبُوتِ الزِّنَا بِالشَّهَادَةِ وَنُدْرَتِهِ حَتَّى لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ ثُبُوتُ الزِّنَا عِنْدَ الْإِمَامِ بِالشَّهَادَةِ، إذْ رُؤْيَةُ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ عُدُولٍ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ كَمَا فِي الْكِلَابِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ. قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِحَدٍّ مُتَقَادِمٍ وَلَمْ يَكُونُوا بِعِيدَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ خَاصَّةً) وَأَعَادَ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى زِيَادَةِ إيضَاحٍ وَهِيَ تَعْدِيدُ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ صَرِيحًا مِنْ السَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا، وَزِيَادَةِ الْحِينِ الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ قَدْرَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي التَّقَادُمِ، وَزِيَادَةِ إثْبَاتِ الضَّمَانِ فِي السَّرِقَةِ؛ ثُمَّ كَمَا

ص: 278

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: (وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِسَرِقَةٍ أَوْ بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ بِزِنًا بَعْدَ حِينٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ وَضَمِنَ السَّرِقَةَ)

لَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لَا تُحَدُّ الشُّهُودُ أَيْضًا حَدَّ الْقَذْفِ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ وَالْأَهْلِيَّةُ لِلشَّهَادَةِ مَوْجُودَةٌ

ص: 279

وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْخَالِصَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى تَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، هُوَ يَعْتَبِرُهَا بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَبِالْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ الشَّاهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالسَّتْرِ، فَالتَّأْخِيرُ إنْ كَانَ لِاخْتِيَارِ السَّتْرِ فَالْإِقْدَامُ عَلَى الْأَدَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ لِضَغِينَةٍ هَيَّجَتْهُ أَوْ لِعَدَاوَةٍ حَرَّكَتْهُ فَيُتَّهَمُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لَا لِلسَّتْرِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا فَتَيَقَّنَّا بِالْمَانِعِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ، فَحَدُّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِحَّ الرُّجُوعُ عَنْهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَيَكُونَ التَّقَادُمُ فِيهِ مَانِعًا، وَحَدُّ الْقَذْفِ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَالتَّقَادُمُ غَيْرُ مَانِعٍ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلِأَنَّ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطٌ فَيُحْمَلُ تَأْخِيرُهُمْ عَلَى انْعِدَامِ الدَّعْوَى فَلَا يُوجِبُ تَفْسِيقَهُمْ، بِخِلَافِ حَدِّ السَّرِقَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ

وَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ أَجْرَيْنِ مَطْلُوبَيْنِ لَهُ يُقَالُ احْتَسَبْت بِكَذَا أَجْرًا، وَالِاسْمُ الْحِسْبَةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَهِيَ الْأَجْرُ وَالْجَمْعُ الْحِسَبُ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ حَدِّ السَّرِقَةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِسَرِقَةٍ مُتَقَادِمَةٍ لَمْ تُقْبَلْ، فَعَلِمَ بِهَذَا أَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بَعْدَ التَّقَادُمِ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ الدَّعْوَى.

وَوَجْهُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ لِلْحَدِّ لِأَنَّهُ

ص: 280

لِلْحَدِّ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنَّمَا شُرِطَتْ لِلْمَالِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى كَوْنِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ التُّهْمَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ، وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ تُقَامُ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ الْمَالِكِ فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إعْلَامُهُ فَبِالْكِتْمَانِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا، ثُمَّ التَّقَادُمُ كَمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْقَضَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ حَتَّى لَوْ هَرَبَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أُخِذَ بَعْدَ مَا تَقَادَمَ الزَّمَانُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ

خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا مَرَّ، وَالدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ لِلْمَالِ وَهُوَ حَقُّ الْعَبْدِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ) جَوَابٌ آخَرُ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُبْطِلَ لِلشَّهَادَةِ فِي التَّقَادُمِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ تُهْمَةُ الضَّغِينَةِ وَالْعَدَاوَةِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى كَوْنِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ وُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي كُلِّ فَرْدٍ أَوْ لَا، كَمَا أُدِيرَ الرُّخْصَةُ عَلَى السَّفَرِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى وُجُودِ الْمَشَقَّةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ) جَوَابٌ آخَرُ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّرِقَةَ (تُقَامُ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ) لِأَنَّهَا تُوجَدُ فِي ظُلْمِ اللَّيَالِيِ غَالِبًا (عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ الْمَالِكِ) فَلَا يَكُونُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ عَارِفًا بِالشَّهَادَةِ حَتَّى يَسْتَشْهِدَ بِالشَّاهِدِ (فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إعْلَامُهُ) فَإِذَا كَتَمَهُ صَارَ آثِمًا. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ التَّقَادُمُ كَمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ) أَيْ الِاسْتِيفَاءَ (مِنْ الْقَضَاءِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ إمَّا إعْلَامُ مَنْ لَهُ الْقَضَاءُ أَوْ التَّمْكِينُ لِمَنْ لَهُ الْقَضَاءُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِالْقَضَاءِ،

ص: 281

الْحُدُودِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ التَّقَادُمِ، وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ حِينٍ، وَهَكَذَا أَشَارَ الطَّحَاوِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ وَفَوَّضَهُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، أَمَّا إذَا كَانَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ. وَالتَّقَادُمُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ كَذَلِكَ

وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ يَحْصُلَانِ بِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ تَمَامُهُ إلَى الِاسْتِيفَاءِ، وَأَمَّا اللَّهُ تبارك وتعالى فِي حُقُوقِهِ فَمُسْتَغْنٍ عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا النِّيَابَةَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاسْتِيفَاءِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى

(وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ التَّقَادُمِ، وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ حِينٍ) كَمَا ذَكَرْنَا (وَهَكَذَا أَشَارَ الطَّحَاوِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدَّرْ فِي ذَلِكَ) نَقَلَ النَّاطِفِيُّ فِي الْأَجْنَاسِ عَنْ نَوَادِرِ الْمُعَلَّى. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: جَهَدْنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُوَقِّتَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا فَأَبَى، وَفَوَّضَهُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) ذَكَرَ فِي الْمُجَرَّدِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ سَأَلَ الْقَاضِي مَتَى زَنَى بِهَا فَقَالُوا مُنْذُ أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ أُقِيمَ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالُوا شَهْرٌ أَوْ أَكْثَرُ دُرِئَ الْحَدُّ. قَالَ النَّاطِفِيُّ: فَقَدْ قَدَّرَهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِشَهْرٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَصْلُهُ مَسْأَلَةُ الْيَمِينِ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَ فُلَانٍ عَاجِلًا فَقَضَاهُ فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ. وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الْأَصَحُّ) يَعْنِي تَقْدِيرَ التَّقَادُمِ بِشَهْرٍ. وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ الَّذِي قُلْنَا مِنْ تَقْدِيرِ التَّقَادُمِ بِشَهْرٍ (إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، أَمَّا إذَا كَانَ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَانِعَ بَعْدَهُمْ عَنْ الْإِمَامِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ التُّهْمَةُ)

ص: 282

عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَفُلَانَةُ غَائِبَةٌ فَإِنَّهُ يُحَدُّ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ) وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالْغَيْبَةِ تَنْعَدِمُ الدَّعْوَى وَهِيَ شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ دُونَ الزِّنَا، وَبِالْحُضُورِ يُتَوَهَّمُ دَعْوَى الشُّبْهَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَوْهُومِ

قَالَ (وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَفُلَانَةُ غَائِبَةٌ فَإِنَّهُ يُحَدُّ) وَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ (وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ. وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالْغَيْبَةِ تَنْعَدِمُ الدَّعْوَى) لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ عَلَى الْغَائِبِ (وَهِيَ شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ دُونَ الزِّنَا وَبِالْحُضُورِ يُتَوَهَّمُ دَعْوَى الشُّبْهَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَوْهُومِ) لِأَنَّهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ، فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الشُّبْهَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا لِئَلَّا يَنْسَدَّ بَابُ إقَامَةِ الْحُدُودِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً وَادَّعَتْ النِّكَاحَ سَقَطَ الْحَدُّ لِمَكَانِ شُبْهَةِ الصِّدْقِ مَعَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ، فَإِذَا كَانَتْ غَائِبَةً كَانَ الثَّابِتُ عِنْدَ غَيْبَتِهَا احْتِمَالَ وُجُودِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ الْمَعْنَى بِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُ أَوْلِيَاءِ الْقِصَاصِ غَائِبًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَحْضُرَ الْغَائِبُ فَيُقِرُّ بِالْعَفْوِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ وَأَقَرَّ بِهِ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِحَقِيقَةِ الْعَفْوِ لَا بِشُبْهَتِهِ، فَإِذَا كَانَ غَائِبًا تَثْبُتُ

ص: 283

(وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ (وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ حُدَّ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمَتُهُ أَوْ امْرَأَتُهُ

(وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ فَاسْتَكْرَهَهَا وَآخَرَانِ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ (وَقَالَا: يُحَدُّ الرَّجُلُ خَاصَّةً) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمُوجِبِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، بِخِلَافِ جَانِبِهَا؛ لِأَنَّ طَوَاعِيَتَهَا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْمُوجِبِ فِي حَقِّهَا وَلَمْ يَثْبُتْ لِاخْتِلَافِهِمَا. وَلَهُ أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا،

شُبْهَةُ الْعَفْوِ لَا شُبْهَةُ شُبْهَتِهِ

(وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَزْنِيَ، وَالشُّهُودُ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِشَهَادَتِهِمْ (وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ) أَيْ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا (حُدَّ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ).

(وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ فَاسْتَكْرَهَهَا وَآخَرَانِ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَقَالَا: يُحَدُّ الرَّجُلُ خَاصَّةً لِاتِّفَاقِهِمَا) أَيْ لِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ (عَلَى الْمُوجِبِ) لِلْحَدِّ (وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، بِخِلَافِ جَانِبِهَا) فَإِنَّ الْمُوجِبَ لَمْ يَتَحَقَّقْ (لِأَنَّ طَوَاعِيَتَهَا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْمُوجِبِ فِي حَقِّهَا فَلَمْ يَثْبُتْ لِاخْتِلَافِهِمَا) فِيهَا وَعَدَمُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهَا لِمَعْنًى غَيْرِ مُشْتَرَكٍ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُوجِبِ فِي حَقِّهِ كَمَا فِي وَطْءِ الصَّغِيرَةِ الْمُشْتَهَاةِ أَوْ الْمَجْنُونَةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ قَدْ اخْتَلَفَ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا) وَكُلُّ مَا هُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا لَا يَتَّصِفُ بِوَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا لَهُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، لِأَنَّ الطَّوْعَ يُوجِبُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الزِّنَا وَالْكُرْهَ يُوجِبُ انْفِرَادَ الرَّجُلِ بِهِ وَاجْتِمَاعُهُمَا مُتَعَذَّرٌ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلًا

ص: 284

وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ صَارَا قَاذِفَيْنِ لَهَا. وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُمَا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ زِنَاهَا مُكْرَهَةً يُسْقِطُ إحْصَانَهَا فَصَارَا خَصْمَيْنِ فِي ذَلِكَ

(وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالْكُوفَةِ وَآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا بِالْبَصْرَةِ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا)؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الزِّنَا وَقَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ خِلَافًا لِزُفَرَ

خِلَافَ الْآخَرِ فَاخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ بِهِ وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ) دَلِيلٌ آخَرُ.

وَتَقْرِيرُهُ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ (صَارَا قَاذِفَيْنِ) لِعَدَمِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ وَالْقَاذِفُ خَصْمٌ وَلَا شَهَادَةَ لِلْخَصْمِ وَإِذَا انْتَفَتْ شَهَادَتُهُمَا نَقَصَ نِصَابُ الشَّهَادَةِ فَلَا يُقَامُ بِهَا الْحَدُّ وَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي إقَامَةَ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ (وَلَكِنْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ زِنَاهَا مُكْرَهَةً يَسْقُطُ إحْصَانُهَا) لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الزِّنَا مِنْهَا لَكِنْ لَا تَأْثَمُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالْكُوفَةِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (خِلَافًا لِزُفَرَ)

ص: 285

لِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الصُّورَةِ وَالْمَرْأَةِ

(وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ) مَعْنَاهُ: أَنْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى الزِّنَى فِي زَاوِيَةٍ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ وَالِانْتِهَاءُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى بِالِاضْطِرَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَيَحْسِبُهُ مَنْ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الْمُقَدَّمِ وَمَنْ فِي الْمُؤَخَّرِ فِي الْمُؤَخَّرِ فَيَشْهَدُ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ

يَعْنِي أَنَّهُ يَقُولُ يُحَدُّونَ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تُقْبَلْ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا، كَثَلَاثَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ. وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (لِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ) يُرِيدُ شُبْهَةَ اتِّحَادِ الْمَشْهُودِ بِهِ.

وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشُّبْهَةَ دَارِئَةٌ فِي الْحُدُودِ بِالْحَدِيثِ وَقَدْ وُجِدَتْ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا وَلَهُمْ أَهْلِيَّةٌ كَامِلَةٌ وَعَدَدٌ كَامِلٌ عَلَى زِنَا وَاحِدٍ صُورَةً فِي زَعْمِهِمْ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ صُورَةِ النِّسْبَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْهُمْ وَاتِّحَادِ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الِاخْتِلَافُ بِذِكْرِ الْمَكَانِ فَيَثْبُتُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَيَدْرَأُ الْحَدَّ. قِيلَ وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْأَوَّلِ لَمْ تُحَدَّ الشُّهُودُ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الثَّانِي لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ) ظَاهِرٌ. وَلَا يُقَالُ: إنَّ ذَلِكَ احْتِيَالٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَالْحُدُودُ يُحْتَالُ لِدَرْئِهَا لَا لِإِثْبَاتِهَا، لِأَنَّ هَذَا احْتِيَالٌ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالشَّهَادَةُ حُجَّةٌ يَجِبُ تَصْحِيحُهَا مَا أَمْكَنَ، ثُمَّ إذَا قُبِلَتْ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ قَبُولِهَا وُجُوبُ الْحَدِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَا بَالُكُمْ لَمْ تُصَحِّحُوا الشَّهَادَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوَاعِيَةُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ عَنْ إكْرَاهٍ وَانْتِهَاؤُهُ عَنْ طَوْعٍ. أُجِيبَ بِأَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوَاعِيَةِ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إكْرَاهًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهُ إكْرَاهًا وَآخِرُهُ طَوْعًا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ عَنْ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِعْلُ الزِّنَا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ إكْرَاهًا أَوْ أَوَّلُهُ إكْرَاهًا وَآخِرُهُ طَوْعًا، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِي شَهَادَتِهِمْ اخْتِلَافُ الْمَشْهُودِ بِهِ

ص: 286

(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالنُّخَيْلَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَأَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِدَيْرِ هِنْدٍ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا) أَمَّا عَنْهُمَا فَلِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرِ عَيْنٍ، وَأَمَّا عَنْ الشُّهُودِ فَلِاحْتِمَالِ صِدْقِ كُلِّ فَرِيقٍ

كَمَا ذَكَرْنَا.

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالنُّخَيْلَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَأَرْبَعَةٌ زَنَى بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِدَيْرِ هِنْدٍ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا) النُّخَيْلَةُ تَصْغِيرُ نَخْلَةٍ الَّتِي هِيَ وَاحِدَةُ النَّخْلِ: مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ الْكُوفَةِ، وَالْبَاءُ الْمُوَحَّدَةُ الْمَفْتُوحَةُ وَالْجِيمُ تَصْحِيفٌ لِأَنَّهُ اسْمُ حَيٍّ مِنْ الْيَمَنِ، وَدَيْرُ هِنْدٍ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَيْضًا مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ الْكُوفَةِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (فَلِاحْتِمَالِ صِدْقِ كُلِّ فَرِيقٍ) يَعْنِي أَنَّ احْتِمَالَ الصِّدْقِ فِي كَلَامِ كُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ

ص: 287

(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا وَهِيَ بِكْرٌ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَعَنْهُمْ)؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ، وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النِّسَاءَ نَظَرْنَ إلَيْهَا فَقُلْنَا إنَّهَا بِكْرٌ، وَشَهَادَتُهُنَّ حُجَّةٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ وَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي إيجَابِهِ فَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ

(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَهُمْ عُمْيَانٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ أَوْ أَحَدُهُمْ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ) وَلَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ الْمَالُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْحَدُّ وَهُمْ لَيْسُوا

قَائِمٌ، وَشُبْهَةُ الزِّنَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ.

وَقَوْلُهُ (دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَعَنْهُمْ) تَوْضِيحُهُ أَنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الْبَكَارَةِ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ حُجَّةٌ فِيمَا لَا اطِّلَاعَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِ خُصُوصًا فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ فَيَسْقُطُ عَنْهُمَا، وَأَمَّا عَنْهُمْ فَلِأَنَّهُ تَكَامَلَ نِصَابُ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ حُكْمُهَا بِقَوْلِ النِّسَاءِ وَلَا مَدْخَلَ لِقَوْلِهِنَّ فِي إثْبَاتِ الْحُدُودِ.

وَقَوْلُهُ (فَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَهُمْ عُمْيَانٌ) ظَاهِرٌ.

ص: 288

مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ فَلَمْ تَثْبُتْ شُبْهَةُ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْأَدَاءِ (وَإِنْ شَهِدُوا بِذَلِكَ وَهُمْ فُسَّاقٌ أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ فُسَّاقٌ لَمْ يُحَدُّوا)؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ وَالتَّحَمُّلِ وَإِنْ كَانَ فِي أَدَائِهِ نَوْعُ قُصُورٍ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ.

وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ فَاسِقٍ يَنْفُذُ عِنْدَنَا، وَيَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ شُبْهَةُ الزِّنَا، وَبِاعْتِبَارِ قُصُورٍ فِي الْأَدَاءِ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ يَثْبُتُ شُبْهَةُ عَدَمِ الزِّنَا فَلِهَذَا امْتَنَعَ الْحَدَّانِ، وَسَيَأْتِي فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَهُوَ كَالْعَبْدِ عِنْدَهُ

(وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ حُدُّوا)؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ إذْ لَا حِسْبَةَ عِنْدَ

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْأَدَاءِ) أَيْ يَظْهَرُ عِنْدَ الْإِمَامِ بِأَدَاءِ الشُّهُودِ الشَّهَادَةَ، وَلَا أَدَاءَ لِلْعُمْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ لَا كَامِلًا وَلَا نَاقِصًا، فَانْقَلَبَتْ شَهَادَتُهُمْ قَذْفًا لِأَنَّهُمْ نَسَبُوهُمَا إلَى الزِّنَا وَلَمْ تَكُنْ نِسْبَتُهُمَا إلَى الزِّنَا شَهَادَةً فَكَانَتْ قَذْفًا ضَرُورَةً.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ وَالتَّحَمُّلِ) يَعْنِي بِالنَّصِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَثَبَّتُوا فَالْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَمَا أُمِرَ بِالتَّثَبُّتِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا شَهِدَ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ لَا بِالتَّثَبُّتِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ أَنَّ الشُّهُودَ ثَلَاثَةٌ: شَاهِدٌ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَهُوَ الْعَدْلُ، وَشَاهِدٌ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ لَكِنْ بِصِفَةِ النُّقْصَانِ وَالْقُصُورِ وَهُوَ الْفَاسِقُ، وَشَاهِدٌ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَلَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ كَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهِمَا

(وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ حُدُّوا لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ، إذْ لَا حِسْبَةَ عِنْدَ

ص: 289

نُقْصَانِ الْعَدَدِ وَخُرُوجِ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَذْفِ بِاعْتِبَارِهَا

(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَضُرِبَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ وُجِدَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ)؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ إذْ الشُّهُودُ ثَلَاثَةٌ (وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ أَرْشُ الضَّرْبِ، وَإِنْ رُجِمَ فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: أَرْشُ الضَّرْبِ أَيْضًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ إذَا كَانَ جَرَحَهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَاتَ مِنْ الضَّرْبِ، وَعَلَى هَذَا إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ لَا يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ. لَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِشَهَادَتِهِمْ مُطْلَقُ الضَّرْبِ، إذْ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْجَرْحِ خَارِجٌ عَنْ الْوُسْعِ فَيَنْتَظِمُ الْجَارِحُ وَغَيْرُهُ فَيُضَافُ إلَى شَهَادَتِهِمْ فَيَضْمَنُونَ بِالرُّجُوعِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الرُّجُوعِ تَجِبُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِعْلُ الْجَلَّادِ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ فِي مَالِهِمْ فَصَارَ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ.

نُقْصَانِ الْعَدَدِ) فَإِنَّ الشَّاهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ وَهَاهُنَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ حِسْبَةُ السَّتْرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا حِسْبَةَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَيْضًا لِنُقْصَانِ عَدَدِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ الْحِسْبَةُ ثَبَتَ الْقَذْفُ لِأَنَّ خُرُوجَ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَذْفِ إنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ الْحِسْبَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ) أَيْ أَرْشَ الْجِرَاحَةِ إذَا لَمْ يَمُتْ وَالدِّيَةُ إنْ مَاتَ. (قَوْلُهُ فَصَارَ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ) يَعْنِي إذَا شَهِدُوا الشُّهُودُ فَرُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَوْ قُتِلَ ثُمَّ رَجَعُوا يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ.

وَوَجْهُ

ص: 290

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْجَلْدُ وَهُوَ ضَرْبٌ مُؤْلِمٌ غَيْرُ جَارِحٍ وَلَا مُهْلِكٍ، فَلَا يَقَعُ جَارِحًا ظَاهِرًا إلَّا لِمَعْنًى فِي الضَّارِبِ وَهُوَ قِلَّةُ هِدَايَتِهِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي الصَّحِيحِ كَيْ لَا يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنْ الْإِقَامَةِ مَخَافَةَ الْغَرَامَةِ

(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَمْ يُحَدَّ) لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الشُّبْهَةِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَحَمُّلِهَا

أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (فِي الصَّحِيحِ) يَعْنِي فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ، ذَكَرَ فِي مَبْسُوطِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْجَلَّادِ فَلَهُ وَجْهٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِضَرْبٍ مُؤْلِمٍ لَا جَارِحٍ وَلَا كَاسِرٍ وَلَا قَاتِلٍ، فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ الضَّرْبُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ يَقَعُ فِعْلُهُ تَعَدِّيًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِيضَاحِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهًا حَسَنًا، وَهُوَ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الشُّهُودِ مِنْ حَيْثُ الْإِيجَابُ دُونَ الْإِيجَادِ، وَالْأَثَرُ الْحَاصِلُ مُوجِبٌ وُجُودَ الضَّرْبِ لَا مُوجِبٌ وُجُوبَهُ فَلَمْ يَكُنْ مُضَافًا إلَى الشَّهَادَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الضَّمَانُ.

وَقَوْلُهُ (لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الشُّبْهَةِ) مَعْنَاهُ لِمَا فِيهَا مِنْ شُبْهَةٍ زَادَتْ عَلَى الْأَصْلِ لَمْ تَكُنْ فِيهِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إذَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسِنَةُ يُمْكِنُ

ص: 291

(فَإِنْ جَاءَ الْأَوَّلُونَ فَشَهِدُوا عَلَى الْمُعَايَنَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا) مَعْنَاهُ شَهِدُوا عَلَى ذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ قَدْ رُدَّتْ مِنْ وَجْهٍ بِرَدِّ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ فِي عَيْنِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ إذْ هُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُمْ بِالْأَمْرِ وَالتَّحْمِيلِ، وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ؛ لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ وَامْتِنَاعُ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ عَلَيْهِ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ. وَهِيَ كَافِيَةٌ لِدَرْءِ الْحَدِّ لَا لِإِيجَابِهِ

(وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرُجِمَ فَكُلَّمَا رَجَعَ وَاحِدٌ حُدَّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ وَغَرِمَ رُبْعَ الدِّيَةِ) أَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَيَكُونُ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ الرَّاجِعِ رُبْعَ الْحَقِّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْقَتْلُ دُونَ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الْحَدُّ فَمَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ.

وَقَالَ زُفَرُ

فِيهِ زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ. قَوْلُهُ (إذْ هُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُمْ) أَيْ الْفُرُوعُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْأَصْلِ، فَكَانَ الرَّدُّ لِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ رَدًّا لِشَهَادَةِ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأُصُولِ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرِدُ يَتَعَدَّى رَدُّهَا إلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ شُبْهَةٌ. وَقَوْلُهُ (وَلَا تُحَدُّ الشُّهُودُ) يَعْنِي الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ (لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ) وَالْأَهْلِيَّةُ مَوْجُودَةٌ (وَامْتِنَاعُ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ) وَهُوَ شُبْهَةُ عَدَمِ التَّحْمِيلِ فِي الْفُرُوعِ، وَشُبْهَةُ الرَّدِّ فِي الْأُصُولِ (وَهِيَ كَافِيَةٌ لِلدَّرْءِ لَا لِإِيجَابِهِ) لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مُسْقِطَةٌ لِلْحَدِّ لَا مُوجِبَةٌ لَهُ.

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا) هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ

ص: 292

لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الرَّاجِعُ قَاذِفَ حَيٍّ فَقَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ قَاذِفَ مَيِّتٍ فَهُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْقَاضِي فَيُورِثُ ذَلِكَ شُبْهَةً. وَلَنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ بِهِ تُفْسَخُ شَهَادَتُهُ فَجُعِلَ لِلْحَالِ قَذْفًا لِلْمَيِّتِ وَقَدْ انْفَسَخَتْ الْحُجَّةُ فَيَنْفَسِخُ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ فَلَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقِيَامِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ

لِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَاذِفٌ حَيٌّ فَقَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ) يَعْنِي لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ (وَإِنْ كَانَ قَاذِفٌ مَيِّتٌ فَهُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْقَاضِي) وَذَلِكَ إنْ لَمْ يُسْقِطْ الْإِحْصَانَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ إيرَاثِ الشُّبْهَةِ وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِهَا (وَلَنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ تَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ) عَنْهَا لِأَنَّهَا تَنْفَسِخُ بِهِ، وَإِذَا انْفَسَخَتْ كَانَتْ قَذْفًا لِانْتِفَاءِ الْحِسْبَتَيْنِ جَمِيعًا (فَجُعِلَ لِلْحَالِ قَذْفًا لِلْمَيِّتِ) وَإِذَا انْقَلَبَتْ قَذْفًا فَقَدْ انْفَسَخَتْ حُجِّيَّتُهَا، وَإِذَا انْفَسَخَتْ حُجِّيَّتُهَا انْفَسَخَ مَا يُبْنَى عَلَيْهَا وَهُوَ الْقَضَاءُ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْقَضَاءُ انْدَفَعَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مَرْجُومًا بِحُكْمِ الْقَاضِي فَلَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ وَلَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ فَيَجِبُ حَدُّ قَاذِفِهِ، لَكِنْ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَزَعْمُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقِيَامِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي زَعْمِهِ صَحِيحٌ مُتَقَرَّرٌ، فَكَانَ قَذْفُهُ وَاقِعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحْصَنِ فَلَا يَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَضَاءُ لَوْ كَانَ قَائِمًا فِي زَعْمِهِمْ وَجَبَ الْحَدُّ لَا مَحَالَةَ، فَإِذَا كَانَ قَائِمًا فِي زَعْمٍ دُونَ زَعْمٍ كَانَ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَمِثْلُهُ يُورِثُ الشُّبْهَةَ الدَّارِئَةَ لِلْحَدِّ. وَاعْتُرِضَ أَيْضًا بِأَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ لَوْ ظَهَرَ عَبْدًا بَعْدَ الرَّجْمِ لَمْ يُحَدَّ الشُّهُودُ حَدَّ الْقَذْفِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ ظَهَرَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا بَعْدَ الْجَلْدِ حُدَّ وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّ الْقَذْفَ إنْ ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ ثَبَتَ مِنْ وَقْتِ الشَّهَادَةِ كَمَا قَالَ زُفَرُ. وَمَنْ قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ الْمَقْذُوفُ لَا يُحَدُّ الْقَاذِفُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا ظَهَرَ عَبْدًا عُلِمَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً بَلْ كَانَتْ قَذْفًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَقَدْ قَذَفَ حَيًّا فَيُحَدُّ، وَإِنْ كَانَ رَجْمًا قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَلَا يُحَدُّ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهَا كَانَتْ شَهَادَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَبِالرُّجُوعِ انْقَلَبَتْ قَذْفًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ

ص: 293

(فَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حُدُّوا جَمِيعًا وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حُدَّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَأَكَّدَتْ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا فِي حَقِّ الرَّاجِعِ، كَمَا إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ حُدُّوا جَمِيعًا. وَقَالَ زُفَرُ: يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَقِيَ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ (فَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ وَهُوَ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ (فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ حُدَّا وَغَرِمَا رُبْعَ الدِّيَةِ) أَمَّا الْحَدُّ فَلِمَا ذَكَرْنَا

قَاذِفًا لِلْمَيِّتِ فَيُحَدُّ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي لِكَوْنِهِ صَرِيحًا فِيهِ لَكِنْ سُلِبَ عَنْهُ ذَلِكَ إذَا صَارَ شَهَادَةً (وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَقِيَ قَذْفًا) وَهَذَا يُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: إنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ وَهَاهُنَا قَالَ: إنَّهَا قَذْفٌ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى مَا كَانَ بِالرُّجُوعِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَرِدُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ فِيمَا قَالَ أَصْحَابُنَا مُؤَاخَذَةَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ بِذَنْبِ مَنْ رَجَعَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لِأَنَّ الْكُلَّ قَذَفَةٌ عِنْدَ عَدَمِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ مُؤَاخَذٌ بِذَنْبِهِ لَا بِذَنْبِ غَيْرِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ) يَعْنِي بَعْدَ الرَّجْمِ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (فَلِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ مِنْ قَبْلُ. وَلَنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا إلَخْ،

ص: 294

وَأَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ، وَالْمُعْتَبَرُ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ عَلَى مَا عُرِفَ

(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَزُكُّوا فَرُجِمَ فَإِذَا الشُّهُودُ مَجُوسٌ أَوْ عَبِيدٌ فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) مَعْنَاهُ إذَا رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ (وَقَالَا هُوَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ) وَقِيلَ هَذَا إذَا قَالُوا تَعَمَّدْنَا التَّزْكِيَةَ مَعَ عِلْمِنَا بِحَالِهِمْ، لَهُمَا أَنَّهُمْ

وَمَعْنَاهُ يُحَدَّانِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ الثَّانِي لَمْ يَبْقَ مِنْ الشُّهُودِ مَنْ تَتِمُّ بِهِ الْحُجَّةُ، وَقَدْ انْفَسَخَتْ الشَّهَادَةُ فِي حَقِّهِمَا بِالرُّجُوعِ فَيُحَدَّانِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا حِينَ رَجَعَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ وَلَا ضَمَانٌ، فَلَوْ لَزِمَهُ ذَلِكَ لَكَانَ لُزُومُهُ بِرُجُوعِ الثَّانِي وَرُجُوعُ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ بِالْحَدِّ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ لَا لِانْعِدَامِ السَّبَبِ بَلْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ بَقَاءُ الْحُجَّةِ التَّامَّةِ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ بِرُجُوعِ الثَّانِي وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْأَوَّلِ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَرَّرِ لَا بِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَلَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُمْ لَوْ رَجَعُوا مَعًا لَمْ يُحَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِرُجُوعِهِ وَحْدَهُ لَوْ ثَبَتَ أَصْحَابُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ.

قَالَ (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَزُكُّوا) التَّزْكِيَةُ مِنْ زَكَّى نَفْسَهُ إذَا مَدَحَهَا، وَتَزْكِيَةُ الشُّهُودِ الْوَصْفُ بِكَوْنِهِمْ أَزْكِيَاءَ، وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَزُكُّوا (فَرُجِمَ فَظَهَرَ الشُّهُودُ مَجُوسًا أَوْ عَبِيدًا فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، مَعْنَاهُ إذَا رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ) أَيْ الضَّمَانُ (عَلَى بَيْتِ الْمَالِ) وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بِأَنْ يَقُولُوا أَخْطَأْنَا وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ بِالِاتِّفَاقِ وَأَنْ يَكُونَ بِأَنْ يَقُولُوا تَعَمَّدْنَا التَّزْكِيَةَ مَعَ عِلْمِنَا بِحَالِهِمْ وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. قَالَ (وَقِيلَ هَذَا إذَا قَالُوا) يَعْنِي لَوْ قَالُوا أَخْطَأْنَا لَمَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِالِاتِّفَاقِ، قَالَا: الْمُزَكُّونَ مَا أَثْبَتُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ لِأَنَّهُ هُوَ الزِّنَا وَمَا تَعَرَّضُوا لَهُ، وَإِنَّمَا أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَكَانَ كَمَا إذَا أَثْنَوْا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خَيْرًا فَكَانُوا فِي الْمَعْنَى كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ، إذْ إنَّ أُولَئِكَ أَثْبَتُوا خِصَالًا حَمِيدَةً فِي الزَّانِي وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا

ص: 295

أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَثْنَوْا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خَيْرًا بِأَنْ شَهِدُوا بِإِحْصَانِهِ. وَلَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً عَامِلَةً بِالتَّزْكِيَةِ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهَا بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ الشَّرْطِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا شَهِدُوا بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ أَخْبَرُوا، وَهَذَا إذَا أَخْبَرُوا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، أَمَّا إذَا قَالُوا هُمْ عُدُولٌ وَظَهَرُوا عَبِيدًا لَا يَضْمَنُونَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً، وَلَا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفُوا حَيًّا وَقَدْ مَاتَ فَلَا يُورَثُ عَنْهُ

خِصَالًا حَمِيدَةً فِي الشَّاهِدِ، فَكَمَا لَا ضَمَانَ عَلَى أُولَئِكَ كَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَى هَؤُلَاءِ. وَقَوْلُهُ (وَلَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) يَعْنِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً) فِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ كَلَامَ كُلٍّ مِنْهُمْ يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ وَقَدْ اتَّصَلَ بِهِ الْقَضَاءُ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَلَمْ يَتَّصِلْ الْقَضَاءُ بِكَلَامِهِمْ فَلَمْ يَصِرْ شَهَادَةً. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا تَحُدُّ الشُّهُودَ؟ قُلْت: لِأَنَّهُمْ قَذَفُوا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَلَا يُورَثُ عَنْهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي الْكِتَابِ. لَا يُقَالُ: لِمَ لَمْ يُجْعَلْ قَذْفًا لِلْمَيِّتِ لِلْحَالِ بِطَرِيقِ الِانْقِلَابِ كَمَا فِي صُورَةِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ. لِأَنَّا نَقُولُ: عِلَّةُ الِانْقِلَابِ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يُوجَدْ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَكُونُ ظُهُورُهُمْ عَبِيدًا أَوْ مَجُوسًا عِلَّةً لِلِانْقِلَابِ كَالرُّجُوعِ؟

ص: 296

(وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ فَضَرَبَ رَجُلٌ عُنُقَهُ ثُمَّ وَجَدَ الشُّهُودَ عَبِيدًا فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ) وَفِي الْقِيَاسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَضَاءَ صَحِيحٌ ظَاهِرًا وَقْتَ الْقَتْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَصِرْ حُجَّةً بَعْدُ، وَلِأَنَّهُ ظَنَّهُ مُبَاحَ الدَّمِ مُعْتَمِدًا عَلَى دَلِيلٍ مُبِيحٍ فَصَارَ كَمَا إذَا ظَنَّهُ حَرْبِيًّا وَعَلَيْهِ عَلَامَتُهُمْ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ، وَالْعَوَاقِلُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ، وَيَجِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ (وَإِنْ رُجِمَ ثُمَّ وُجِدُوا عَبِيدًا فَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ)؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْإِمَامِ فَنَقَلَ فِعْلَهُ

فَالْجَوَابُ أَنَّ الِانْقِلَابَ صَيْرُورَةُ الشَّهَادَةِ قَذْفًا، وَكَلَامُهُمْ لَمْ يَقَعْ شَهَادَةً.

وَقَوْلُهُ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَضَاءَ صَحِيحٌ ظَاهِرًا وَقْتَ الْقَتْلِ) يَعْنِي أَنَّ الْقَضَاءَ وُجِدَ صُورَةً وَصُورَةُ قَضَاءِ الْقَاضِي تَكْفِي لِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً كَانَ مُبِيحًا لِلدَّمِ، فَصُورَتُهُ تَكُونُ شُبْهَةً كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُجْعَلُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْوَلِيِّ إذَا جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ رَجَمَ) عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ: أَيْ الرَّجُلُ الَّذِي ضَرَبَ عُنُقَهُ لَمْ يَضْرِبْهُ وَإِنَّمَا رَجَمَهُ (ثُمَّ وُجِدُوا) أَيْ الشُّهُودُ (عَبِيدًا فَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْإِمَامِ فَنَقَلَ فِعْلَهُ)

ص: 297

إلَيْهِ، وَلَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِرْ أَمْرَهُ

(وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ)؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ لَهُمْ ضَرُورَةَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ فَأَشْبَهَ الطَّبِيبَ وَالْقَابِلَةَ

(وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَلَهُ امْرَأَةٌ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ) مَعْنَاهُ أَنْ يُنْكِرَ الدُّخُولَ بَعْدَ وُجُودِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِثَبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ حُكْمٌ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَّقَهَا يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ وَالْإِحْصَانَ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ

أَيْ فِعْلَ الرَّاجِمِ (إلَى الْإِمَامِ، وَلَوْ بَاشَرَهُ) الْإِمَامُ (بِنَفْسِهِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا) أَنَّ فِعْلَ الْجَلَّادِ يَنْتَقِلُ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ فِي مَالِهِمْ (كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِرْ أَمْرَهُ) لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالرَّجْمِ دُونَ حَزِّ الرَّقَبَةِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ فِعْلُهُ إلَيْهِ.

قَوْلُهُ (وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ) إلَى مَوْضِعِ الزِّنَا مِنْ الزَّانِيَيْنِ (قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ) لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِإِقْرَارِهِمْ بِالْفِسْقِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ النَّظَرَ إلَى عَوْرَةِ الْغَيْرِ قَصْدًا فِسْقٌ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إذَا لَمْ يُبَيِّنُوا كَيْفِيَّةَ النَّظَرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: النَّظَرُ إلَى عَوْرَةِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ يَجُوزُ شَرْعًا، فَإِنَّ الْخَتَّانَ يَنْظُرُ وَالْقَابِلَةَ تَنْظُرُ وَالنِّسَاءَ يَنْظُرْنَ لِمَعْرِفَةِ الْبَكَارَةِ، وَبِالشُّهُودِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَا لَمْ يَرَوْا كَالرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ وَالْمَيْلِ فِي الْمُكْحُلَةِ لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا.

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْإِحْصَانُ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ) أَيْ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَنَا، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا يَثْبُتُ الدُّخُولُ الَّذِي هُوَ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ بِالْحُكْمِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ.

ص: 298

(فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِالْإِحْصَانِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ رُجِمَ) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ؛ فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ شَهَادَتَهُنَّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، وَزُفَرُ يَقُولُ إنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَغَلَّظُ عِنْدَهُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَأَشْبَهَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَى ذِمِّيٍّ زَنَى عَبْدُهُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الزِّنَا لَا تُقْبَلُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ، وَأَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الزِّنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ،

وَقَوْلُهُ (خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ، وَزُفَرُ جَعَلَ الْإِحْصَانَ شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَغَلَّظُ عِنْدَهُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَأَشْبَهَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ) وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ بِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا تُقْبَلُ فِيهِ. وَالثَّانِي أَنَّ شُهُودَ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي، لِأَنَّ شُهُودَ الْعِلَّةِ يَضْمَنُونَ عِنْدَ الرُّجُوعِ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَوْلُهُ (فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَى ذِمِّيٍّ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ الزَّانِيَ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لِذِمِّيٍّ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَشَهِدَ ذِمِّيَّانِ أَنَّ مَوْلَاهُ الذِّمِّيَّ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الزِّنَا يُرْجَمُ مَعَ أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الذِّمِّيِّ بِالْعِتْقِ مَقْبُولَةٌ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا تَكْمِيلَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي أَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ (وَلَنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ) بَعْضُهَا لَيْسَ مِنْ صُنْعِ الْمَرْءِ كَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ، وَبَعْضُهَا فُرِضَ عَلَيْهِ كَالْإِسْلَامِ، وَبَعْضُهَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالدُّخُولِ بِالْمَنْكُوحَةِ (وَالْحَالُ أَنَّهُ مَانِعٌ عَنْ الزِّنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا) قَبْلَ بَابِ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَكُونُ الْكُلُّ مَزْجَرَةً، وَكُلُّ مَا يَكُونُ مَانِعًا عَنْ الزِّنَا لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْعُقُوبَةِ الْغَلِيظَةِ (وَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا بِهِ) أَيْ بِالنِّكَاحِ (فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ) يَعْنِي

ص: 299

بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُ (فَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ لَا يَضْمَنُونَ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَهُوَ فَرْعُ مَا تَقَدَّمَ.

لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ وَدَخَلَ بِهَا فِي غَيْرِ حَالَةِ الزِّنَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا (بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ) يَعْنِي زُفَرَ مِنْ شَهَادَةِ الذِّمِّيَّيْنِ عَلَى ذِمِّيٍّ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ قَبْلَ الزِّنَا (لِأَنَّ الْعِتْقَ) هُنَاكَ (يَثْبُتُ) أَيْضًا (بِشَهَادَتِهِمَا وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ لِأَنَّهُ) تَارِيخٌ (يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ) مِنْ حَيْثُ إقَامَةُ الْعُقُوبَةِ الْكَامِلَةِ عَلَيْهِ، وَمَا يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. فَلَوْ قُلْنَا بِجَوَازِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِجَوَازِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ لَا يَضْمَنُونَ) أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَرَتِّبَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 300

(بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ)

(وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَأُخِذَ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ أَوْ جَاءُوا بِهِ سَكْرَانَ فَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ،

بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ:

إنَّمَا أَخَّرَ حَدَّ الشُّرْبِ عَنْ حَدِّ الزِّنَا؛ لِأَنَّ جَرِيمَةَ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ جَرِيمَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ النَّفْسِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ ذِكْرَهُ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَقَتْلِ النَّفْسِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} وَلِهَذَا لَمْ يَحِلَّ فِي دَيْنٍ مِنْ الْأَدْيَانِ وَأَخَّرَ حَدَّ الْقَذْفِ عَنْ حَدِّ الشُّرْبِ لِمَا أَنَّ جَرِيمَةَ الشُّرْبِ مُتَيَقَّنٌ بِهَا، بِخِلَافِ جَرِيمَةِ الْقَذْفِ فَإِنَّ الْقَذْفَ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَلِهَذَا كَانَ ضَرْبُ حَدِّ الْقَذْفِ أَخَفَّ مِنْ ضَرْبِ حَدِّ الشُّرْبِ لِضَعْفٍ فِي ثُبُوتِ الْقَذْفِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي نِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا فَلَا يَكُونُ قَذْفًا (وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَأُخِذَ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ أَوْ جَاءُوا بِهِ سَكْرَانَ فَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الشَّارِبِ (بِذَلِكَ) أَيْ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَوُجُودِ الرَّائِحَةِ مِنْ بَابِ قَوْله تَعَالَى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} (أَوْ شَهِدُوا عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ مَعَ مَجِيئِهِمْ بِهِ وَهُوَ سَكْرَانُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الرَّائِحَةُ بَعْدَمَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِالسُّكْرِ مِنْ الْخَمْرِ، وَلَكِنْ الرِّوَايَاتُ فِي الشُّرُوحِ مُقَيَّدَةٌ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

ص: 301

وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ) لِأَنَّ جِنَايَةَ الشُّرْبِ قَدْ ظَهَرَتْ وَلَمْ يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ» .

(وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَهَابِ رَائِحَتِهَا لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُحَدُّ) وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رِيحُهَا وَالسُّكْرُ لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُحَدُّ، فَالتَّقَادُمُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ،

وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَدِّ بِالشَّهَادَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ (وَالْأَصْلُ فِيهِ) أَيْ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ» قِيلَ تَمَامُ الْحَدِيثِ «فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ» وَهُوَ مَتْرُوكُ الْعَمَلِ بِهِ فَلْيَكُنْ الْبَاقِي كَذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ لِمُعَارِضٍ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» وَلَيْسَ شُرْبُ الْخَمْرِ مِنْهَا، فَبَقِيَ الْبَاقِي مَعْمُولًا بِهِ لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ.

وَقَوْلُهُ (فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَهَابِ رَائِحَتِهَا) وَاضِحٌ.

ص: 302

غَيْرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِحَدِّ الزِّنَا، وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَالرَّائِحَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا قِيلَ:

يَقُولُونَ لِي انْكَهْ شَرِبْت مُدَامَةً

فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا

وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ.

وَقَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الشَّهْرُ (اعْتِبَارًا بِحَدِّ الزِّنَا) وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) يَعْنِي تَقْدِيرَ الزَّمَانِ وَعَدَمَ اعْتِبَارِ الرَّائِحَةِ (لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ) فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ زَمَانٍ، وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَوْ شَهْرٌ وَاحِدٌ فَيُعْلَمُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ

(وَأَمَّا عَدَمُ اعْتِبَارِ الرَّائِحَةِ فَلِأَنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِهَا كَمَا قِيلَ: يَقُولُونَ لِي انْكِهِ قَدْ شَرِبْت مُدَامَةً فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا) وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُطَرِّزِيِّ بِكَلِمَةِ قَدْ، وَقَدْ رُوِيَ بِدُونِهَا وَهِيَ رِوَايَةُ الْفُقَهَاءِ، فَعَلَى الْأُولَى تَسْقُطُ هَمْزَةُ الْوَصْلِ مِنْ انْكِهِ فِي اللَّفْظِ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ تُحَرَّكُ بِالْكَسْرِ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَالْمُدَامَةُ بِمَعْنَى الْمُدَامِ وَهُوَ الْخَمْرُ (وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ)

ص: 303

وَلِأَنَّ قِيَامَ الْأَثَرِ مِنْ أَقْوَى دَلَالَةٍ عَلَى الْقُرْبِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ، وَإِنَّمَا تَشْتَبِهُ عَلَى الْجُهَّالِ. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالتَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ. وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ، لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلَا إجْمَاعَ إلَّا بِرَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ شَرَطَ قِيَامَ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا.

وَلِأَنَّ) الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْقُرْبُ وَ (قِيَامُ الْأَثَرِ) وَهُوَ الرَّائِحَةُ (مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى الْقُرْبِ) وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ) جَوَابٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ بِالزَّمَانِ: أَيْ إنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْأَثَرِ.

وَقَوْلُهُ (وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالرَّائِحَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ (وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالتَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ) أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُتَّهَمًا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ (وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ، لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلَا إجْمَاعَ إلَّا بِرَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ شَرَطَ قِيَامَ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ " فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ " وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى ثُبُوتِ حَدِّ الشُّرْبِ بِاتِّفَاقِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي شَرَطَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ

ص: 304

(وَإِنْ أَخَذَهُ الشُّهُودُ وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْهُ أَوْ سَكْرَانُ فَذَهَبُوا بِهِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ فِيهِ الْإِمَامُ فَانْقَطَعَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا بِهِ حُدَّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ كَبُعْدِ الْمَسَافَةِ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالشَّاهِدُ لَا يُتَّهَمُ فِي مِثْلِهِ.

(وَمَنْ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ حُدَّ)

قِيَامُ الرَّائِحَةِ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْبَاقُونَ، وَأَيْضًا كَلَامُ ابْنِ مَسْعُودٍ شَرْطِيَّةٌ وَالشَّرْطِيَّةُ تُفِيدُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ لَا غَيْرُ. وَجَوَابُ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ لَيْسَ مِنْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ بَلْ مِنْ انْتِفَاءِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مَدْفُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا، وَأَيْضًا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ» وَقَالَ هَاهُنَا إنَّهُ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ، وَأَيْضًا اشْتِرَاطُ الرَّائِحَةِ مُنَافٍ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ»

وَقَوْلُهُ (وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْهُ) ظَاهِرٌ.

قَالَ (وَمَنْ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ حُدَّ) النَّبِيذُ يَقَعُ عَلَى نَبِيذِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، وَمَا يُتَّخَذُ مِنْ الزَّبِيبِ شَيْئَانِ: نَقِيعٌ وَنَبِيذٌ. فَالنَّقِيعُ أَنْ يُنْقَعَ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ وَيُتْرَكَ أَيَّامًا حَتَّى تَخْرُجَ حَلَاوَتُهُ إلَى الْمَاءِ ثُمَّ يُطْبَخَ أَدْنَى طَبْخٍ، فَمَا دَامَ حُلْوًا يَحِلُّ شُرْبُهُ، وَإِذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ يَحْرُمُ. وَأَمَّا النَّبِيذُ فَهُوَ الَّذِي مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ يَحِلُّ شُرْبُهُ مَا دَامَ حُلْوًا فَإِذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ يَحِلُّ شُرْبُهُ مَا دُونَ السُّكْرِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ. وَمَا يُتَّخَذُ مِنْ التَّمْرِ ثَلَاثَةٌ: السُّكْرُ وَالْفَضِيخُ وَالنَّبِيذُ. فَالنَّبِيذُ هُوَ مَاءُ التَّمْرِ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ يَحِلُّ شُرْبُهُ فِي قَوْلِهِمْ مَا دَامَ حُلْوًا، وَإِذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَحِلُّ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي وَالتَّقَوِّي إلَّا الْقَدَحَ الْمُسْكِرَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَحِلُّ. وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَسَيَجِيءُ بَيَانُهُ فِي الْأَشْرِبَةِ.

ص: 305

لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى أَعْرَابِيٍّ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ. وَسَنُبَيِّنُ الْكَلَامَ فِي حَدِّ السُّكْرِ وَمِقْدَارِ حَدِّهِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي حَدِّ السُّكْرِ وَمِقْدَارِ حَدِّهِ فَسَيُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 306

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 307

(وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا) لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ، وَكَذَا الشُّرْبُ قَدْ يَقَعُ عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ اضْطِرَارٍ (وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ

وَقَوْلُهُ (وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا) يَعْنِي إذَا لَمْ يُشَاهَدْ مِنْهُ الشُّرْبُ (لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ) فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّعْلِيلُ مُنَاقِضٌ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ.

أُجِيبَ بِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي نَفْسِ الرَّوَائِحِ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّمْيِيزُ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْصَاءِ أَوْ التَّمْيِيزُ مُمْكِنٌ لِمَنْ عَايَنَ الشُّرْبَ وَالِاحْتِمَالُ لِمَنْ لَمْ يُعَايِنْهُ. وَأَقُولُ: وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَحْسَنُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُسْتَدِلِّ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ هُوَ مَنْ مَعَهُ دَلِيلٌ وَهُوَ مُعَايَنَةُ الشُّرْبِ وَالْجَاهِلُ هُوَ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الشُّرْبُ قَدْ يَقَعُ عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ اضْطِرَارٍ) عَلَى قَوْلِهِمَا. وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ

ص: 308

وَشَرِبَهُ طَوْعًا) لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْمُبَاحِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ، وَكَذَا شُرْبُ الْمُكْرَهِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ (وَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ) تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ.

وَشَرِبَهُ طَوْعًا لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْمُبَاحِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ) وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ إبَاحَةِ الْبَنْجِ مُوَافِقٌ لِعَامَّةِ الْكُتُبِ خَلَا رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ، فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ: السُّكْرُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْبَنْجِ حَرَامٌ مَعَ أَنَّهُ مَأْكُولٌ فَمِنْ الْمَشْرُوبِ أَوْلَى. كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ الْحَاصِلَ مِنْ الْبَنْجِ حَرَامٌ لَا عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ حَرَامٌ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ مُبَاحٌ وَلَا

ص: 309

(وَحَدُّ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ فِي الْحُرِّ ثَمَانُونَ سَوْطًا) لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا

(وَحَدُّ الْخَمْرِ وَ) حَدُّ (السُّكْرِ) مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ (فِي الْحُرِّ ثَمَانُونَ سَوْطًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم،

ص: 310

(يُفَرَّقُ عَلَى بَدَنِهِ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ) ثُمَّ يُجَرَّدُ فِي الْمَشْهُودِ مِنْ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ إظْهَارًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ. وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّا أَظْهَرْنَا التَّخْفِيفَ مَرَّةً فَلَا يُعْتَبَرُ ثَانِيًا (وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَحَدُّهُ أَرْبَعُونَ سَوْطًا) لِأَنَّ الرِّقَّ مُتَّصِفٌ عَلَى مَا عُرِفَ.

(وَمَنْ أَقَرَّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّكَرِ ثُمَّ رَجَعَ

يُفَرَّقُ عَلَى بَدَنِهِ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ) فِي أَنَّهُ يُضْرَبُ كُلُّ الْبَدَنِ مَا خَلَا الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ وَالْفَرْجَ (ثُمَّ يُجَرَّدُ) عَنْ ثِيَابِهِ (فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ عَنْ ثِيَابِهِ إظْهَارًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ) أَيْ بِالْحَدِّ (نَصٌّ) قَاطِعٌ أَوْ بِالتَّجْرِيدِ (وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّا أَظْهَرْنَا التَّخْفِيفَ مَرَّةً) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ حَيْثُ لَمْ نَجْعَلْهُ مِائَةً كَمَا فِي الزِّنَا (فَلَا يُعْتَبَرُ ثَانِيًا) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُجْمِعِينَ التَّصَرُّفُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالثَّانِي أَنَّ الثَّمَانِينَ تَغْلِيظٌ لَا تَخْفِيفٌ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ ضَرَبُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَكْمَامِ وَبِالْأَيْدِي وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ ثُمَّ جَلَدَ عُمَرُ أَرْبَعِينَ، فَالتَّقْدِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ تَغْلِيظٌ لَا تَخْفِيفٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ إنَّا أَظْهَرْنَا التَّخْفِيفَ كَلَامٌ عَنْ لِسَانِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالتَّخْفِيفُ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَازَ لَهُ أَنْ يُقَدِّرَ حَدَّ الشُّرْبِ مِائَةً كَحَدِّ الزِّنَا إذْ هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ، وَحَيْثُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ كَانَ تَخْفِيفًا مِنْهُ، وَلَمَا جَعَلَهُ الصَّحَابَةُ مُعْتَبَرًا بِحَدِّ الْمُفْتَرِينَ ظَهَرَ التَّخْفِيفُ فَلَمْ يُقَدِّرُوا بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا أَظْهَرُوا التَّخْفِيفَ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا بِتَرْكِ التَّنْصِيصِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ أَظْهَرْنَا التَّخْفِيفَ، وَلِلَّهِ دَرُّ لَطَائِفِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَقَرَّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّكَرِ) بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ عَصِيرُ الرُّطَبِ

ص: 311

لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.

(وَيَثْبُتُ الشُّرْبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَ) يَثْبُتُ (بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ الْإِقْرَارَ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي السَّرِقَةِ، وَسَنُبَيِّنُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ (وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ) لِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ وَتُهْمَةَ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ.

(وَالسَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَلَا يَعْقِلُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ الَّذِي يَهْذِي وَيَخْتَلِطُ كَلَامُهُ) لِأَنَّهُ هُوَ السَّكْرَانُ فِي الْعُرْفِ، وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ

إذَا اشْتَدَّ، وَقِيلَ السُّكْرُ كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ

(وَيَثْبُتُ الشُّرْبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَيَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ: يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّتَيْنِ فِي مَجْلِسَيْنِ اعْتِبَارًا لِعَدَدِ الْإِقْرَارِ بِعَدَدِ الشُّهُودِ (وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي السَّرِقَةِ، وَسَنُبَيِّنُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ) فِي حَدِّ الشُّرْبِ أَيْضًا (لِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ وَتُهْمَةَ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ) يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} إلَى قَوْلِهِ {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} وَإِنَّمَا قَالَ شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ دُونَ حَقِيقَةِ الْبَدَلِيَّةِ، لِأَنَّ اسْتِشْهَادَ النِّسَاءِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَازَتْ شَهَادَتُهُنَّ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِشْهَادِ الرِّجَالِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَبْدَالِ، وَلَكِنْ فِيهِ صُورَةُ الْبَدَلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ النَّظْمُ "

(وَالسَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَلَا يَعْقِلُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ) هَذَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْخِلَافِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: هُوَ الَّذِي يَهْذِي وَيَخْتَلِفُ كَلَامُهُ) أَيْ يَكُونُ غَالِبُ كَلَامِهِ الْهَذَيَانَ، فَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ مُسْتَقِيمًا فَلَيْسَ بِسَكْرَانَ (لِأَنَّهُ السَّكْرَانُ فِي الْعُرْفِ وَإِلَيْهِ) أَيْ إلَى قَوْلِهِمَا (مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ) وَعَنْ ابْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: سَأَلْت

ص: 312

وَلَهُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ بِأَقْصَاهَا دَرْءًا لِلْحَدِّ. وَنِهَايَةُ السَّكْرَانِ يَغْلِبُ السُّرُورُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَسْلُبُهُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدَحِ الْمُسْكِرُ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ مَا قَالَاهُ بِالْإِجْمَاعِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ

أَبَا يُوسُفَ عَنْ السَّكْرَانِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ قَالَ: أَنْ يُسْتَقْرَأَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقُلْت لَهُ: كَيْفَ عَيَّنْت هَذِهِ السُّورَةَ وَرُبَّمَا أَخْطَأَ فِيهَا الصَّاحِي؟ قَالَ: لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ نَزَلَ فِيمَنْ شُرِعَ فِيهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ قِرَاءَتَهَا. وَحُكِيَ أَنَّ أَئِمَّةَ بَلْخِي اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِقْرَاءِ هَذِهِ السُّورَةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُدُودَ يُؤْخَذُ فِي أَسْبَابِهَا بِأَقْصَاهَا دَرْءًا لِلْحَدِّ، وَنِهَايَةُ السُّكْرِ أَنْ يَغْلِبَ السُّرُورُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَسْلُبُهُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ) يَعْنِي أَنَّهُ إذَا كَانَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِعَقْلِهِ مَعَ مَا بِهِ مِنْ السُّرُورِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نِهَايَةً فِي السُّكْرِ وَفِي النُّقْصَانِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِهَذَا وَافَقَهُمَا فِي السُّكْرِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَهُ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ هُوَ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّهَايَةِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ يُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدَحِ الْمُسْكِرِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ مَا قَالَاهُ بِالْإِجْمَاعِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ) لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَقَدَ حُرْمَةَ الْقَدَحِ الَّذِي يَلْزَمُ الْهَذَيَانُ وَاخْتِلَاطُ الْكَلَامِ عِنْدَهُ يَمْتَنِعُ عَنْهُ، فَلَمَّا امْتَنَعَ عَنْهُ وَهُوَ الْأَدْنَى فِي حَدِّ السُّكْرِ كَانَ مُمْتَنِعًا

ص: 313

وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ ظُهُورَ أَثَرِهِ فِي مِشْيَتِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَأَطْرَافِهِ وَهَذَا مِمَّا يَتَفَاوَتُ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِهِ.

(وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ) لِزِيَادَةِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ

عَنْ الْأَعْلَى فِيهِ وَهُوَ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ ظُهُورُ الْأَثَرِ فِي مِشْيَتِهِ (مِمَّا يَخْتَلِفُ) فَإِنَّ السَّكْرَانَ رُبَّمَا يَتَمَايَلُ فِي مِشْيَتِهِ وَالصَّاحِيَ رُبَّمَا يَزْلَقُ أَوْ يَعْثِرُ فِي مِشْيَتِهِ فَيُرَى التَّمَايُلُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا.

وَقَوْلُهُ (وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ) يَعْنِي فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ

ص: 314

فَيَحْتَالُ لِدَرْئِهِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَالسَّكْرَانُ فِيهِ كَالصَّاحِي عُقُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، وَلَوْ ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ السُّكْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ، فَإِذَا صَدَرَ مِنْ سَكْرَانَ مِهْذَارٍ زَادَ احْتِمَالُهُ (فَيَحْتَالُ لِدَرْئِهِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ، وَالسَّكْرَانُ فِيهِ كَالصَّاحِي عُقُوبَةً عَلَيْهِ) بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، فَإِنَّهُمْ قَالُوا إذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِينَ ثَمَانُونَ. فَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ. فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُقُوقِ كَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ (وَلَوْ ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الْإِعْتَاقِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ السُّكْرِ) وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ صَنَعَ طَعَامًا فَدَعَا بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَأَكَلُوا وَسَقَاهُمْ خَمْرًا وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا، فَأَمَّهُمْ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَوْ غَيْرُهُ وَقَرَأَ سُورَةَ الْكَافِرُونَ بِطَرْحِ اللَّاءَاتِ مَعَ أَنَّ اعْتِقَادَهَا كُفْرٌ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُفْرًا مِنْ ذَلِكَ الْقَارِئِ، فَعُلِمَ أَنَّ السَّكْرَانَ لَا يَكْفُرُ بِمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ لَفْظِ الْكُفْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 315

(بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ)

(وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ رَجُلًا مُحْصَنًا أَوْ امْرَأَةً مُحْصَنَةً بِصَرِيحِ الزِّنَا

بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ:

الْقَذْفُ فِي اللُّغَةِ الرَّمْيُ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ نِسْبَةٌ مِنْ أَحْصَنَ إلَى الزِّنَا صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً (إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ رَجُلًا مُحْصَنًا أَوْ امْرَأَةً مُحْصَنَةً بِصَرِيحِ الزِّنَا) الْخَالِي عَنْ الشُّبْهَةِ الَّذِي لَوْ أَقَامَ الْقَاذِفُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ

ص: 316

وَطَالَبَ الْمَقْذُوفُ بِالْحَدِّ حَدَّهُ الْحَاكِمُ ثَمَانِينَ سَوْطًا إنْ كَانَ حُرًّا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إلَى أَنْ قَالَ {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ الرَّمْيُ بِالزِّنَا بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي النَّصِّ إشَارَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ إذْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالزِّنَا، وَيُشْتَرَطُ مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّهُ مِنْ حَيْثُ دَفْعُ الْعَارِ وَإِحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لِمَا تَلَوْنَا

الْمَقْذُوفُ لَزِمَهُ حَدُّ الزِّنَا (وَطَالَبَ الْمَقْذُوفُ بِالْحَدِّ) وَعَجَزَ الْقَاذِفُ عَنْ إثْبَاتِ مَا قَذَفَهُ بِهِ (حَدَّهُ الْحَاكِمُ ثَمَانِينَ سَوْطًا إنْ كَانَ حُرًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إلَى أَنْ قَالَ {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ) بِقَوْلِهِ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} (الرَّمْيُ بِالزِّنَا بِالْإِجْمَاعِ) وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي النَّصِّ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالزِّنَا. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِصَرِيحِ الزِّنَا غَيْرُ مُفِيدٍ لِتَحَقُّقِهِ بِدُونِهِ بِأَنْ قَالَ لَسْت لِأَبِيك، وَبِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تَجِبَ الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ غَالِبٌ، وَالْمَقْلُوبُ فِي مُقَابَلَتِهِ كَالْمُسْتَهْلَكِ، وَلَئِنْ وَجَبَتْ فَلَيْسَتْ مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ بِلَازِمَةٍ، فَإِنَّ ابْنَهُ إذَا طَالَبَهُ حُدَّ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا قَذَفَهُ بِصَرِيحِ الزِّنَا وَوَجَدَ الشَّرْطَ وَجَبَ الْحَدُّ لَا مَحَالَةَ فَتِلْكَ قَضِيَّةٌ صَادِقَةٌ، وَأَمَّا إذَا قَذَفَهُ بِنَفْيِ النَّسَبِ لَا يَجِبُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ لِإِخْرَاجِ مَا كَانَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: يَا زَانِي فَقَالَ آخَرُ صَدَقْت لَا لِإِخْرَاجِ مَا ذَكَرْتُمْ، وَحَقُّ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا لَكِنْ يَصْلُحُ اشْتِرَاطُ مُطَالَبَتِهِ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ، وَابْنُ الْمَقْذُوفِ إنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَقْذُوفِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ إلَّا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مَيِّتًا لِيَتَحَقَّقَ قِيَامُهُ مَقَامَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ

ص: 317

قَالَ (وَيُفَرَّقُ عَلَى أَعْضَائِهِ) لِمَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا (وَلَا يُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ) لِأَنَّ سَبَبَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ فَلَا يُقَامُ عَلَى الشِّدَّةِ، بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا (غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ

وَقَوْلُهُ وَيُفَرَّقُ) يَعْنِي الضَّرْبَ (عَلَى أَعْضَاءِ الْقَاذِفِ عَلَى مَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا) وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ (وَلَا يُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ لِأَنَّ سَبَبَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْقَاذِفُ صَادِقًا فِي نِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا عَلَى الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ لَا تَكَادُ تَحْصُلُ (فَلَا يُقَامُ عَلَى الشِّدَّةِ بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا) حَيْثُ يُجَرَّدُ فِيهِ مِنْ ثِيَابِهِ لِأَنَّ سَبَبَهُ مُعَايَنٌ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ، وَهَاهُنَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَذْفِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ يَتَوَقَّفُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ كَذِبُهُ فِي النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا وَهُوَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِهِ. وَقَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ

ص: 318

عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ) لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ إيصَالَ الْأَلَمِ بِهِ (وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا جُلِدَ أَرْبَعِينَ سَوْطًا لِمَكَانِ الرِّقِّ. وَالْإِحْصَانُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا عَفِيفًا عَنْ فِعْلِ الزِّنَا) أَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} أَيْ الْحَرَائِرِ، وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ لِأَنَّ الْعَارَ لَا يَلْحَقُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا، وَالْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» وَالْعِفَّةُ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَفِيفِ لَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ، وَكَذَا الْقَاذِفُ صَادِقٌ فِيهِ.

عَنْهُ الْحَشْوُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يُجَرَّدُ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ ذَلِكَ) يَعْنِي الْفَرْوَ وَالْحَشْوَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْإِحْصَانُ) بَيَانُ شَرْطِهِ. وَقَوْلُهُ (لِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا) قِيلَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحُدَّ مَنْ قَذَفَ الْمَجْنُونَ الَّذِي زَنَى فِي حَالِ جُنُونِهِ وَلَا يُحَدُّ وَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا الزِّنَا الَّذِي يُؤَثِّمُ صَاحِبَهُ وَيُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْوَطْءُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُمَا، وَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا كَانَ الْقَاذِفُ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ وَلَا عَلَى الْمَقْذُوفِ كَمَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: وَالْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» تَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ حَدَّ الْقَذْفِ بِقَذْفِ الْمُحْصَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ. وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ

ص: 319

(وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك فَإِنَّهُ يُحَدُّ) وَهَذَا إذَا كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً، لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَذْفٌ لِأُمِّهِ لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يَنْفِي عَنْ الزَّانِي لَا عَنْ غَيْرِهِ.

وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك يُحَدُّ إنْ كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَذَفَ أُمَّهُ) لِأَنَّهُ نَفَى النَّسَبَ (وَالنَّسَبُ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الزَّانِي لَا عَنْ غَيْرِهِ) وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ مَعْرُوفَيْنِ وَنَسَبُهُ مِنْ الْأُمِّ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وَنَفَاهُ عَنْ الْأَبِ الْمَعْرُوفِ فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ زَنَى بِأُمِّهِ وَفِي ذَلِكَ قَذْفٌ لِأُمِّهِ لَا مَحَالَةَ. قِيلَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالَّتِي بَعْدَهَا. وَقِيلَ يَجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ هَاهُنَا وَإِنْ كَانَ قَذَفَهُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْفِيَ النَّسَبَ عَنْ أَبِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ زَانِيَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ تَكُونَ مَوْطُوءَةً بِشُبْهَةٍ وَلَدَتْ فِي عِدَّةِ الْوَاطِئِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْته وَجْهُ الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ فِيهَا بِالِاسْتِحْسَانِ بِالْأَثَرِ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَإِنَّمَا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «لَا حَدَّ إلَّا فِي قَذْفِ مُحْصَنَةٍ أَوْ نَفْيِ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ» .

ص: 320

(وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي غَضَبٍ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ لِأَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى لَهُ يُحَدُّ، وَلَوْ قَالَ فِي غَيْرِ غَضَبٍ لَا يُحَدُّ) لِأَنَّ عِنْدَ الْغَضَبِ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ سَبًّا لَهُ، وَفِي غَيْرِهِ يُرَادُ بِهِ الْمُعَاتَبَةُ بِنَفْيِ مُشَابَهَتِهِ أَبَاهُ فِي أَسْبَابِ الْمُرُوءَةِ (وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ يَعْنِي جَدَّهُ لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ، وَلَوْ نَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ لَا يُحَدُّ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يُنْسَبُ إلَيْهِ مَجَازًا.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي غَضَبٍ إلَخْ) ظَاهِرٌ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ أَوْ غَيْرِهَا لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ وَلَا بِابْنِ فُلَانَةَ وَهِيَ أُمُّهُ الَّتِي تُدْعَى لَهُ حَيْثُ لَا يَكُونُ قَذْفًا مَعَ أَنَّ الْقَذْفَ يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَا بِابْنِ فُلَانَةَ نَفْيٌ عَنْهَا، وَإِنَّمَا يَنْتَفِي عَنْ أُمِّهِ بِانْتِفَاءِ الْوِلَادَةِ فَكَانَ نَفْيًا لِلْوِلَادَةِ، وَنَفْيُ الْوِلَادَةِ نَفْيُ الْوَطْءِ وَنَفْيُ الْوَطْءِ نَفْيُ الزِّنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَفَى عَنْ الْوَالِدِ، وَوِلَادَةُ الْوَلَدِ ثَابِتَةٌ مِنْ أُمِّهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ أَنْتَ وَلَدُ

ص: 321

(وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ مُحْصَنَةٌ فَطَالَبَ الِابْنُ بِحَدِّهِ حُدَّ الْقَاذِفُ) لِأَنَّهُ قَذَفَ مُحْصَنَةً بَعْدَ مَوْتِهَا (وَلَا يُطَالِبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إلَّا مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ وَهُوَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ) لِأَنَّ الْعَارَ يَلْتَحِقُ بِهِ لِمَكَانِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلًا لَهُ مَعْنًى. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِكُلِّ وَارِثٍ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يُورَثُ عِنْدَهُ عَلَى

الزِّنَا.

قَالَ (وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَةَ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ مُحْصَنَةٌ فَطَالَبَ الِابْنُ بِحَدِّهِ حُدَّ الْقَاذِفُ لِأَنَّهُ قَذَفَ مُحْصَنَةً بَعْدَ مَوْتِهَا) بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَهَا ثُمَّ مَاتَتْ فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ (وَلَا يُطَالِبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إلَّا مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ وَهُوَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ) يَعْنِي الْأَبَ وَالْجَدَّ وَإِنْ عَلَا، وَالْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ، نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ، ثُمَّ قَالَ: كَذَا وَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي، وَنَقَلَ غَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ عَنْ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (لِأَنَّ الْعَارَ يُلْتَحَقُ بِهِ) أَيْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ (لِمَكَانِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلًا لَهُ مَعْنًى) وَرُدَّ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْجُزْئِيَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا غَائِبًا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِحَدِّهِ إذْ ذَاكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَابِ هُوَ الْمَقْذُوفُ لَا مَحَالَةَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ جُزْئِيَّةٌ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَإِنَّمَا يَقُومُ الشَّيْءُ مَقَامَ غَيْرِهِ إذَا وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْيَأْسُ بِمَوْتِهِ فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَقَوْلُهُ (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ)

ص: 322

مَا نُبَيِّنُ، وَعِنْدَنَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ لَيْسَتْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا لِلْمَحْرُومِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ، وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْبِنْتِ كَمَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الِابْنِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ حَالَ قِيَامِ الْوَلَدِ خِلَافًا لِزُفَرَ.

ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ الْعَارَ يُلْتَحَقُ بِهِ. وَقَوْلُهُ (كَمَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الِابْنِ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ (خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ لَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الْبِنْتِ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ. إلَى أَبِيهِ لَا إلَى أُمِّهِ فَلَا يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِزِنَا أَبِي أُمِّهِ. وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: النَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَيَصِيرُ الْوَلَدُ بِهِ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ (وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ حَالَ قِيَامِ الْوَلَدِ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَيْسَ لِوَلَدِ الْوَلَدِ حَالَ قِيَامِ الْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ، لِأَنَّ الشَّيْنَ الَّذِي يَلْحَقُ الْوَلَدَ فَوْقَ الَّذِي يَلْحَقُ وَلَدَ الْوَلَدِ، فَصَارَ وَلَدُ الْوَلَدِ مَعَ قِيَامِ الْوَلَدِ كَالْوَلَدِ مَعَ بَقَاءِ الْمَقْذُوفِ، وَاعْتُبِرَ هَذَا بِطَلَبِ الْكَفَاءَةِ فَإِنَّهُ لَا خُصُومَةَ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْأَقْرَبِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: حَقُّ الْخُصُومَةِ بِاعْتِبَارِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الشَّيْنِ بِنِسْبَتِهِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ وَلَدِ الْوَلَدِ كَوُجُودِهِ فِي حَقِّ الْوَالِدِ، فَأَيُّهُمَا خَاصَمَ يُقَامُ الْحَدُّ لِخُصُومَتِهِ، بِخِلَافِ الْمَقْذُوفِ فَإِنَّ حَقَّ الْخُصُومَةِ. لَهُ. بِاعْتِبَارِ تَنَاوُلِ الْقَاذِفِ مِنْ عِرْضِهِ مَقْصُودًا، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ وَلَدِهِ، وَبِخِلَافِ الْكَفَاءَةِ فَإِنَّ طَلَبَهَا إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْأَقْرَبِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْإِنْكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ» وَفِي الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الْعُصُوبَةِ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ عَلَى الْأَبْعَدِ.

ص: 323

(وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا جَازَ لِابْنِهِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ) خِلَافًا لِزُفَرَ. هُوَ يَقُولُ: الْقَذْفُ يَتَنَاوَلُهُ مَعْنًى لِرُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى. وَلَنَا أَنَّهُ عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ فَيَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي الَّذِي يُنْسَبُ إلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا

وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا) وَهُوَ مَيِّتٌ (جَازَ لِابْنِهِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ، خِلَافًا لِزُفَرَ. هُوَ يَقُولُ: الْقَذْفُ تَنَاوَلَهُ مَعْنًى لِرُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ عِنْدَنَا) لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ (فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى) فِي رُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِأَنْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ ابْتِدَاءً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ إحْصَانِ الْمَقْذُوفِ، فَكَذَا إذَا تَنَاوَلَهُ مَعْنًى. قِيلَ قَوْلُهُ وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ غَيْرُ مُفِيدٍ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ، لِأَنَّ الْمَانِعَ عَنْ الْإِرْثِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْكُفْرُ أَوْ الرِّقُّ. وَقِيلَ تَحْرِيرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْحَدَّ إمَّا أَنْ يَجِبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى الْقَاذِفِ لِقَذْفِهِ أُمَّ الْمَقْذُوفِ أَوْ لِقَذْفِ نَفْسِ هَذَا الِابْنِ الْكَافِرِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أُمِّهِ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُورَثُ وَلَا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ وَهُوَ كَمَا تَرَى (وَلَنَا أَنَّهُ عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ وَكُلُّ مَنْ عَيَّرَ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِحَدِّهِ لِأَنَّهُ تَعْيِيرٌ عَلَى الْكَمَالِ فَيَقْتَضِي زَاجِرًا. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ (وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي الَّذِي يُنْسَبُ إلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا،

ص: 324

التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إلَى وَلَدِهِ، وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ، بِخِلَافِ إذَا تَنَاوَلَ الْقَذْفُ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّعْيِيرُ عَلَى الْكَمَالِ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فِي الْمَنْسُوبِ إلَى الزِّنَا (وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ مَوْلَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ، وَلَا لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ) لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ عَبْدِهِ، وَكَذَا الْأَبُ بِسَبَبِ ابْنِهِ، وَلِهَذَا لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَانْعِدَامِ الْمَانِعِ.

التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إلَى وَلَدِهِ) فَجَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَدِّ. فَإِنْ قِيلَ: جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ مَوْجُودًا فَلَا يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُقْتَضَى. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ) أَيْ اسْتِحْقَاقَ أَهْلِيَّةِ الْخُصُومَةِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِاعْتِبَارِ لُحُوقِ الشَّيْنِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْوَلَدِ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ لِأَنَّ النِّسْبَةَ لَا تَنْقَطِعُ بِالرِّقِّ وَالْكُفْرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَنَاوَلَ الْقَذْفَ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ التَّعْيِيرُ عَلَى الْكَمَالِ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فِي الْمَنْسُوبِ إلَى الزِّنَا. قَالَ (وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ مَوْلَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ وَلَا لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ) أَوْ جَدَّهُ وَإِنْ عَلَا (بِقَذْفِ أُمِّهِ) وَجَدَّتِهِ وَإِنْ عَلَتْ، وَلَا أُمَّهُ وَلَا جَدَّتَهُ وَإِنْ عَلَتْ بِقَذْفِ نَفْسِهِ (لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ عَبْدِهِ) قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ» فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَسَبَبُهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ حَدُّ الْقَذْفِ وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَسَبَبُهُ وَهُوَ الْقَذْفُ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِيمَا نَسَبَهُ إلَيْهِ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ) وَاضِحٌ.

ص: 325

(وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ فَمَاتَ الْمَقْذُوفُ بَطَلَ الْحَدُّ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَبْطُلُ (وَلَوْ مَاتَ بَعْدَمَا أُقِيمَ بَعْضُ الْحَدِّ بَطَلَ الْبَاقِي) عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُورَثُ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يُورَثُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الشَّرْعِ وَحَقَّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَقُّ الْعَبْدِ، ثُمَّ إنَّهُ شُرِعَ زَاجِرًا وَمِنْهُ سُمِّيَ حَدًّا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الزَّاجِرِ إخْلَاءُ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ، وَهَذَا آيَةُ حَقِّ الشَّرْعِ وَبِكُلِّ ذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَحْكَامُ. وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْجِهَتَانِ

وَقَوْلُهُ (وَبِكُلِّ ذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَحْكَامُ) أَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ أَنَّهُ يُسْتَوْفَى بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِخُصُومَةٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَوْفَى بِخُصُومَةٍ مَا هُوَ حَقُّهُ، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَإِنَّ خُصُومَتَهُ هُنَاكَ لِلْمَالِ دُونَ الْحَدِّ، حَتَّى لَوْ بَطَلَ الْحَدُّ لِمَعْنَى الشُّبْهَةِ لَا يَبْطُلُ الْمَالُ، وَيُقَامُ هَذَا الْحَدُّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْمُسْتَأْمَنُ بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَيُقَدَّمُ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَى حَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ السَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، حَتَّى أَنَّ رَجُلًا لَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَالْقَذْفُ وَفَقْءُ عَيْنِ رَجُلٍ يُبْدَأُ بِالْقِصَاصِ فِي الْعَيْنِ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ بِالتَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ يَخَافُ الْفَوْتَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، إذَا بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ.

وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَشْهَدُ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ

ص: 326

فَالشَّافِعِيُّ مَالَ إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ تَقْدِيمًا لِحَقِّ الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ وَغِنَى الشَّرْعِ، وَنَحْنُ صِرْنَا إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الشَّرْعِ لِأَنَّ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ يَتَوَلَّاهُ مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ مَرْعِيًّا بِهِ، وَلَا كَذَلِكَ عَكْسُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ الشَّرْعِ إلَّا نِيَابَةً عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمَشْهُورُ الَّذِي يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ الْفُرُوعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا مِنْهَا الْإِرْثُ، إذْ الْإِرْثُ يَجْرِي فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا فِي حُقُوقِ الشَّرْعِ. وَمِنْهَا الْعَفْوُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَفْوُ الْمَقْذُوفِ عِنْدَنَا وَيَصِحُّ عِنْدَهُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ وَعِنْدَهُ لَا يَجْرِي. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعَفْوِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْغَالِبَ حَقُّ الْعَبْدِ

أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إلَى الْإِمَامِ، وَالْإِمَامُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَاسْتِيفَاؤُهُ إلَيْهِ، وَلَا يَحْلِفُ فِيهِ الْقَاذِفُ وَلَا يَنْقَلِبُ مَالًا عِنْدَ السُّقُوطِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ إلَخْ) قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ حَقُّ الْعَبْدِ غَالِبًا إذَا اجْتَمَعَ الْحَقَّانِ أَصْلًا. وَهُوَ خِلَافُ الْأُصُولِ وَالْمَنْقُولِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ مِمَّا اجْتَمَعَا فِيهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ غَالِبٌ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يُنَافِي الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمَقْذُوفِ وَشَيْءٌ مِنْ الْحَقَّيْنِ لَا يَسْقُطُ بِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نَقُولُ إنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ خُصُومَةُ الْمَقْذُوفِ وَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْخُصُومَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ) يُرِيدُ بِهِ صَدْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا الْيُسْرِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي مَبْسُوطِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالْمَعْقُولُ

ص: 327

وَخَرَّجَ الْأَحْكَامَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

قَالَ (وَمَنْ‌

‌ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ ثُمَّ رَجَعَ

لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ) لِأَنَّ لِلْمَقْذُوفِ فِيهِ حَقًّا فَيُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ، بِخِلَافِ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ.

(وَمَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْأَخْلَاقِ أَوْ عَدَمِ الْفَصَاحَةِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَسْت بِعَرَبِيٍّ لِمَا قُلْنَا.

يَشْهَدُ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ مُنْتَفِعٌ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ. وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ كَالْقِصَاصِ إلَّا أَنَّهُ فَوَّضَ إقَامَتَهُ إلَى الْإِمَامِ لِأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي كُلُّ أَحَدٍ إلَى إقَامَةِ الْجَلْدِ.

وَقَوْلُهُ (وَخَرَّجَ الْأَحْكَامَ) أَيْ أَجَابَ عَنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ بِجَوَابٍ يُوَافِقُ الْمَذْهَبَ فَقَالَ فِي التَّفْوِيضِ إلَى الْإِمَامِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَهْتَدِي إلَى إقَامَةِ الْجَلْدِ. وَقَالَ فِي عَدَمِ الْإِرْثِ إنَّ عَدَمَهُ لَا يَسْتَوْجِبُ كَوْنَهُ حَقَّ اللَّهِ كَالشُّفْعَةِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّ الْإِرْثَ يَجْرِي فِي الْأَعْيَانِ.

وَأَجَابَ عَنْ كَوْنِ الْقِصَاصِ يُورَثُ بِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مِلْكِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إتْلَافَ الْعَيْنِ وَمِلْكُ الْإِتْلَافِ مِلْكُ الْعَيْنِ عِنْدَ النَّاسِ. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَ الطَّعَامِ إلَّا لِلْإِتْلَافِ وَهُوَ الْأَكْلُ، فَصَارَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ كَالْمَمْلُوكِ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ وَهُوَ بَاقٍ فَيَمْلِكُهُ الْوَارِثُ فِي حَقِّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ.

وَقَوْلُهُ (وَالْأَوَّلُ) وَهُوَ أَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ (أَظْهَرُ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلِيلِ غَلَبَةِ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، وَلِأَنَّ عَامَّةَ أَصْحَابِنَا عَلَيْهِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَظْهَرَ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ) مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَشْهَدُ بِكَوْنِهِ حَقَّ الْعَبْدِ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ) ظَاهِرٌ. وَالنِّبْطُ جِيلٌ مِنْ النَّاسِ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِقُرَشِيٍّ يَا نَبَطِيُّ فَقَالَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ إلَخْ.

ص: 328

(وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْجُودِ وَالسَّمَاحَةِ وَالصَّفَاءِ، لِأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ (وَإِنْ نَسَبَهُ إلَى عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ إلَى زَوْجِ أُمِّهِ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يُسَمَّى أَبًا، أَمَّا الْأَوَّلُ

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ) أَيْ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَمَاءُ السَّمَاءِ هُوَ لَقَبُ أَبِي الْمُزَيْقِيَاءِ، وَالْمُزَيْقِيَاءُ هُوَ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، لُقِّبَ بِالْمُزَيْقِيَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ يُمَزِّقُ فِي كُلِّ يَوْمٍ حُلَّتَيْنِ يَلْبَسُهُمَا وَيَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِيهِمَا وَيَأْنَفَ أَنْ يَلْبَسَهُمَا غَيْرُهُ، وَأَبُوهُ عَامِرُ بْنُ حَارِثَةَ الْأَزْدِيُّ كَانَ يُلَقَّبُ بِمَاءِ السَّمَاءِ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْقَحْطِ كَانَ يُقِيمُ مَالَهُ مَقَامَ الْقَطْرِ عَطَاءً وَجُودًا

ص: 329

فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمَّا لَهُ. وَالثَّانِي لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْخَالُ أَبٌ» . وَالثَّالِثُ لِلتَّرْبِيَةِ.

(وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ زَنَأْتَ فِي الْجَبَلِ وَقَالَ عَنَيْتُ صُعُودَ الْجَبَلِ حُدَّ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُحَدُّ) لِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةٌ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ:

وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ

وَذِكْرُ الْجَبَلِ يُقَرِّرُهُ مُرَادًا

وَقَوْلُهُ (وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمًّا لَهُ) أَيْ لِيَعْقُوبَ، فَإِنَّ إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ابْنَا إبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ بْنَ إِسْحَاقَ فَكَانَ إسْمَاعِيلُ عَمًّا لَهُ فَأَدْخَلُوهُ تَحْتَ الْآبَاءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَمَّ يُسَمَّى أَبًا.

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ زَنَأَتْ فِي الْجَبَلِ) بِالْهَمْزِ (وَقَالَ عَنَيْت صُعُودَ الْجَبَلِ حُدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةً) وَاسْتَشْهَدَ الْمُصَنِّفُ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ

قَالَ (وَذِكْرُ الْجَبَلِ يُقَرِّرُهُ) أَيْ يُقَرِّرُ الصُّعُودَ (مُرَادًا) تَأْكِيدًا لِكَوْنِ الْمَهْمُوزِ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةً

ص: 330

وَلَهُمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَاحِشَةِ مَهْمُوزًا أَيْضًا لِأَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ كَمَا يُلَيِّنُ الْمَهْمُوزَ، وَحَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ الْفَاحِشَةَ مُرَادًا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَالَ يَا زَانِي أَوْ قَالَ زَنَأْت، وَذِكْرُ الْجَبَلِ إنَّمَا يُعَيِّنُ الصُّعُودَ مُرَادًا إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِكَلِمَةِ عَلَى إذْ هُوَ لِلْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ لَا يُحَدُّ لِمَا قُلْنَا، وَقِيلَ يُحَدُّ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ يَا زَانِي فَقَالَ لَا بَلْ أَنْتِ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ) لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا بَلْ أَنْتَ زَانٍ

وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ إلَخْ) وَاضِحٌ. وَقِيلَ كَلَامُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمَهْمُوزَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفَاحِشَةِ وَالصُّعُودِ، وَحَالَةِ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ أَحَدَ الْمُحْتَمَلَيْنِ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الصُّعُودِ مَجَازٌ فِي الْفَاحِشَةِ وَحِينَئِذٍ يَتَرَجَّحُ قَوْلُهُ لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا دَارَ بَيْنَ كَوْنِهِ مُشْتَرَكًا وَحَقِيقَةً وَمَجَازًا فَالثَّانِي يَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَوَّلِ لِعَدَمِ إخْلَالِهِ بِالْفَهْمِ وَلِأَنَّ الْبَابَ بَابُ الْحَدِّ فَيَحْتَالُ لِلدَّرْءِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِكَلِمَةِ عَلَى. وَقَوْلُهُ (لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَحَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ الْفَاحِشَةَ مُرَادًا

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ يَا زَانِي) ظَاهِرٌ. وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ فَيَصِيرُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَوَّلِ مَذْكُورًا فِي الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ هُوَ قَوْلُهُ يَا زَانِي وَمَا ثَمَّةَ خَبَرٌ أَصْلًا.

ص: 331

إذْ هِيَ كَلِمَةُ عَطْفٍ يُسْتَدْرَكُ بِهَا الْغَلَطُ فَيَصِيرُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَوَّلِ مَذْكُورًا فِي الثَّانِي.

(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ لَا بَلْ أَنْتَ حُدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَا لِعَانَ) لِأَنَّهُمَا قَاذِفَانِ وَقَذْفُهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَقَذْفُهَا الْحَدَّ، وَفِي الْبَدَاءَةِ بِالْحَدِّ إبْطَالُ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ وَلَا إبْطَالَ فِي عَكْسِهِ أَصْلًا فَيُحْتَالُ لِلدَّرْءِ، إذْ اللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ (وَلَوْ قَالَتْ زَنَيْت بِكَ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ) مَعْنَاهُ قَالَتْ بَعْدَمَا قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ الزِّنَا قَبْلَ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْحَدُّ دُونَ اللِّعَانِ لِتَصْدِيقِهَا إيَّاهُ وَانْعِدَامِهِ مِنْهُ

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ الْجُزْءُ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ لِأَنَّ الْخَبَرَ جُزْءٌ أَخَصُّ فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ لِلْأَعَمِّ

(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ لَا بَلْ أَنْتَ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلِّعَانِ) دَلِيلُهُ أَنَّ أَهْلِيَّةَ اللِّعَانِ تَعْتَمِدُ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ وَإِقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ تُبْطِلُ أَهْلِيَّةَ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا إبْطَالَ فِي عَكْسِهِ أَصْلًا) يَعْنِي لَوْ قَدَّمْنَا اللِّعَانَ لَا يَبْطُلُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ إحْصَانَ الرَّجُلِ لَا يَبْطُلُ بِجَرَيَانِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ اللِّعَانَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا عَنْ فِعْلِ الزِّنَا فَيَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الْمَرْأَةِ احْتِيَالًا لِدَرْءِ اللِّعَانِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْحَدِّ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَتْ زَنَيْت بِك) يَعْنِي فِي جَوَابِ قَوْلِهِ لَهَا يَا زَانِيَةُ. وَقَوْلُهُ (وَانْعِدَامُهُ) أَيْ انْعِدَامُ التَّصْدِيقِ مِنْ الزَّوْجِ.

ص: 332

وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ زِنَايَ مَا كَانَ مَعَك بَعْدَ النِّكَاحِ لِأَنِّي مَا مَكَّنْت أَحَدًا غَيْرَك. وَهُوَ الْمُرَادُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَجِبُ اللِّعَانُ دُونَ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِوُجُودِ الْقَذْفِ مِنْهُ وَعَدَمِهِ مِنْهَا فَجَاءَ مَا قُلْنَا.

(وَمَنْ أَقَرَّ بِوَلَدٍ ثُمَّ نَفَاهُ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ) لِأَنَّ النَّسَبَ لَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ وَبِالنَّفْيِ بَعْدَهُ صَارَ قَاذِفًا فَيُلَاعَنُ (وَإِنْ نَفَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ حُدَّ) لِأَنَّهُ لَمَّا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَطَلَ اللِّعَانُ لِأَنَّهُ حَدٌّ ضَرُورِيٌّ صُيِّرَ إلَيْهِ ضَرُورَةَ التَّكَاذُبِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ. فَإِذَا بَطَلَ التَّكَاذُبُ يُصَارُ إلَى الْأَصْلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي اللِّعَانِ (وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ) فِي الْوَجْهَيْنِ لِإِقْرَارِهِ بِهِ سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا،

وَقَوْلُهُ (وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ زِنَايَ مَا كَانَ مَعَك بَعْدَ النِّكَاحِ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْوَطْءَ بَعْدَ النِّكَاحِ لَا يُسَمَّى زِنًا فَلَا يَصْلُحُ مَحْمَلًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الزِّنَا يُطْلَقُ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} حَمَلَهَا عَلَى ذَلِكَ لِتَرْكِيبِ فَرْطِ غَيْظِهَا بِإِطْلَاقِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ لَا تَكُونُ مُصَدِّقَةً لِزَوْجِهَا فَيَجِبُ اللِّعَانُ عَلَى الزَّوْجِ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَفِي حَالٍ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَيَجِبُ اللِّعَانُ عَلَى الزَّوْجِ، وَفِي حَالٍ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ، فَوَقَعَ الشَّكُّ وَجَاءَ مَا قُلْنَا أَنَّهُ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ.

قَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ اللِّعَانَ (حَدٌّ ضَرُورِيٌّ صَيَّرَ إلَيْهِ ضَرُورَةُ التَّكَاذُبِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةَ (وَإِذَا بَطَلَ التَّكَاذُبُ) بِإِكْذَابِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ (يُصَارُ إلَى الْأَصْلِ وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ فِي الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّ ثُمَّ نَفَى وَعَكْسِهِ. قَوْلُهُ (لِإِقْرَارِهِ بِهِ سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا) أَيْ لِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْوَلَدِ سَابِقًا عَلَى النَّفْيِ فِيمَا إذَا أَقَرَّ ثُمَّ نَفَى أَوْ لَاحِقًا

ص: 333

وَاللِّعَانُ يَصِحُّ بِدُونِ قَطْعِ النَّسَبِ كَمَا يَصِحُّ بِدُونِ الْوَلَدِ (وَإِنْ قَالَ لَيْسَ بِابْنِي وَلَا بِابْنِك فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ) لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الْوِلَادَةَ وَبِهِ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا.

(وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَةً وَمَعَهَا أَوْلَادٌ لَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ أَبٌ أَوْ قَذَفَ الْمُلَاعَنَةَ بِوَلَدٍ وَالْوَلَدُ حَيٌّ أَوْ قَذَفَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا مِنْهَا وَهِيَ وِلَادَةُ وَلَدٍ لَا أَبَ لَهُ فَفَاتَتْ الْعِفَّةُ نَظَرًا إلَيْهَا وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ

فِيمَا إذَا نَفَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَاللِّعَانُ يَصِحُّ بِدُونِ قَطْعِ النَّسَبِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ سَبَبَ اللِّعَانِ هُنَا هُوَ نَفْيُ الْوَلَدِ فَلَمَّا لَمْ يَنْتِفْ الْوَلَدُ وَجَبَ أَنْ لَا يَجْرِيَ بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْمُتَضَمِّنِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْمُتَضَمَّنِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ قَطْعَ النَّسَبِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اللِّعَانِ فَاعْتُبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَيْ مِنْ نِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا وَمَنْ نَفَى الْوَلَدَ مُنْفَصِلًا عَنْ الْآخَرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى الزِّنَا مِنْ غَيْرِ نَفْيِ الْوَلَدِ بِأَنْ قَالَ يَا زَانِيَةُ وَفِيهِ اللِّعَانُ، فَكَذَا هَاهُنَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَطَاوَلَتْ مُدَّةُ وِلَادَةِ مَنْكُوحَتِهِ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ثُمَّ قَالَ لَيْسَ بِابْنِي فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ مَعَ أَنَّ سَبَبَ اللِّعَانِ نَفْيُ الْوَلَدِ، وَلَمْ يَنْتِفْ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ زَانِيَةٌ. قَوْلُهُ (وَإِنْ قَالَ لَيْسَ بِابْنِي وَلَا بِابْنِك) ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (أَوْ قَذَفَ الْمُلَاعَنَةَ بِوَلَدٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ كَذَا نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بِخَطِّ شَيْخِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَمَعْنَاهُ الَّتِي لَاعَنَتْ بِوَلَدٍ كَذَا فِي الْكَافِي. وَقَوْلُهُ (بِوَلَدٍ) يَتَّصِلُ بِالْمُلَاعَنَةِ.

وَقَوْلُهُ (فَفَاتَتْ الْعِفَّةُ نَظَرَ إلَيْهَا) أَيْ إلَى إمَارَةِ الزِّنَا (وَهُوَ) أَيْ الْعِفَّةُ وَذَكَرَهُ نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ شَرْطٌ وَمَعْنَاهُ الْعِفَّةُ شَرْطُ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ وَهِيَ فَائِتَةٌ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ.

ص: 334

(وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَاعَنَتْ بِغَيْرِ وَلَدٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِانْعِدَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا.

فَقَالَ (وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ) لِفَوَاتِ الْعِفَّةِ وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ، وَلِأَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ،

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَاعَنَتْ بِغَيْرِ وَلَدٍ) ظَاهِرٌ. فَإِنْ قِيلَ: اللِّعَانُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا فَقَدْ وَجَدَ أَمَارَةَ الزِّنَا مِنْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ نَظَرًا إلَى هَذَا. قُلْنَا: بَلَى لَكِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ فَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُحْصَنَةً فَتَعَارَضَ الْوَجْهَانِ فَتَسَاقَطَا فَبَقِيَ الْقَذْفُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ فَوَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَوَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي فِي جَوَابِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ. قُلْنَا: نَعَمْ إنَّ اللِّعَانَ فِي جَانِبِهَا قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّوْجِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ، فَكَانَتْ هِيَ مُحْصَنَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ الزَّوْجِ فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا.

قَالَ (وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ) اعْلَمْ أَنَّ الْوَطْءَ الْحَرَامَ بِالْقِسْمَةِ الْأَوَّلِيَّةِ عَلَى نَوْعَيْنِ:

ص: 335

وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا لِعَيْنِهِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا هُوَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ لِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِغَيْرِهِ يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا فَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ وَكَذَا الْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ، وَالْحُرْمَةُ مُؤَبَّدَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُؤَقَّتَةً فَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَشْتَرِطُ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ

أَحَدُهُمَا حَرَامٌ لِعَيْنِهِ، وَالْآخَرُ لِغَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ مَنْشَأُ حُرْمَتِهِ شَيْئَانِ: حُصُولُهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَوَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَحُصُولُهُ فِي امْرَأَةٍ هِيَ حَرَامٌ عَلَى الْوَاطِئِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً كَوَطْءِ أَمَتِهِ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي كَوَطْءِ أَمَتِهِ الْمَجُوسِيَّةِ وَوَطْءِ أَمَتَيْهِ الْأُخْتَيْنِ، وَالْقَاذِفُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ بِوَجْهَيْهِ لَا يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ لِفَوَاتِ الْعِفَّةِ وَهُوَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ، وَلِأَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ لِأَنَّ الزِّنَا هُوَ الْوَطْءُ الْحَرَامُ لِعَيْنِهِ (وَأَبُو حَنِيفَةَ شَرَطَ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ) كَمَوْطُوءَةٍ لِلْأَبِ بَعْدَ مِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ إذَا اشْتَرَاهَا ابْنُهُ فَوَطِئَهَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ

ص: 336

أَوْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ لِتَكُونَ ثَابِتَةً مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ (وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ (وَكَذَا إذَا قَذَفَ امْرَأَةً زَنَتْ فِي نَصْرَانِيَّتِهَا) لِتَحَقُّقِ الزِّنَا مِنْهَا شَرْعًا لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ.

(وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا أَتَى أَمَتَهُ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ أَوْ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ مُكَاتَبَةٌ لَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَهِيَ مُؤَقَّتَةٌ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ وَطْءَ الْمُكَاتَبَةِ يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ زَائِلٌ فِي حَقِّ الْوَطْءِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ بِالْوَطْءِ، وَنَحْنُ نَقُولُ مِلْكُ الذَّاتِ بَاقٍ وَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ إذْ هِيَ مُؤَقَّتَةٌ.

أَوْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ) كَحُرْمَةِ وَطْءِ الْمَنْكُوحَةِ بِلَا شُهُودٍ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا نِكَاحَ إلَّا بِالشُّهُودِ» وَهُوَ مَشْهُورٌ. وَفِي النَّوْعِ الثَّانِي يُحَدُّ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِيهِ بِعَارِضٍ عَلَى وَجْهِ الزَّوَالِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجُوسِيَّةَ إذَا أَسْلَمَتْ

ص: 337

(وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا يُحَدُّ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُؤَبَّدَةٌ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ (وَلَوْ قَذَفَ مُكَاتَبًا مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً لَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ لِمَكَانِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ.

(وَلَوْ قَذَفَ مَجُوسِيًّا تَزَوَّجَ بِأُمِّهِ ثُمَّ أَسْلَمَ يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَزَوُّجَ الْمَجُوسِيِّ بِالْمَحَارِمِ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا. وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ.

(وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا حُدَّ) لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَقَدْ الْتَزَمَ إيفَاءَ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلِأَنَّهُ طَمِعَ فِي أَنْ لَا يُؤْذِيَ فَيَكُونَ مُلْتَزَمًا أَنْ لَا يُؤْذِيَ وَمُوجِبُ أَذَاهُ الْحَدُّ (وَإِذَا حُدَّ الْمُسْلِمُ فِي قَذْفٍ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْبَلُ إذَا تَابَ وَهِيَ تُعْرَفُ فِي الشَّهَادَاتِ (وَإِذَا حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ) لِأَنَّ لَهُ الشَّهَادَةَ عَلَى جِنْسِهِ فَتُرَدُّ تَتِمَّةً لَحَدِّهِ (فَإِنْ أَسْلَمَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ اسْتَفَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَدْخُلْ

أَوْ أَخْرَجَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ حَلَّ لَهُ الْوَطْءُ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَبَقِيَّةُ كَلَامِهِ ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: بِوَطْئِهَا لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ الْمُبِيحُ لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ كَوَطْءِ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ أَوْ الْمَجُوسِيَّةِ أَوْ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ الْمُحَرَّمَةُ أَوْ أَمَتُهُ الَّتِي زَوَّجَهَا وَهِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ قَائِمٌ بِبَقَاءِ سَبَبِهِ. وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ تَنَافِيًا، فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا يَنْتَفِي الْآخَرُ، وَالْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةٌ فَيَنْتَفِي الْحِلُّ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ مَالِكَ الْحِلِّ قَائِمٌ بِبَقَاءِ سَبَبِهِ، قُلْنَا: السَّبَبُ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ إلَّا فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلْحِلِّ فِي حَقِّهِ لَا يَثْبُتُ مِلْكُ الْحِلِّ فَكَانَ فِعْلُهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا وَقَوْلُهُ (لِمَكَانِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ) يَعْنِي فِي أَنَّهُ مَاتَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا عَلَى مَا يَجِيءُ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ (وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ) أَيْ فِي بَابِ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ.

وَقَوْلُهُ (فَقَذَفَ مُسْلِمًا حُدَّ) جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ حَدِّ الزِّنَا. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ اسْتَفَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَدْخُلْ

ص: 338

تَحْتَ الرَّدِّ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ ثُمَّ أُعْتِقَ حَيْثُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُ أَصْلًا فِي حَالِ الرِّقِّ فَكَانَ رَدُّ شَهَادَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ.

(وَإِنْ ضُرِبَ سَوْطًا فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ضُرِبَ مَا بَقِيَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ) لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمٌ لِلْحَدِّ فَيَكُونُ صِفَةً لَهُ وَالْمُقَامُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ

تَحْتَ الرَّدِّ) رُدَّ بِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَفَادَ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَدْ كَانَتْ الْأَهْلِيَّةُ مَوْجُودَةً وَقَدْ صَارَتْ مَجْرُوحَةً بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ اسْتَفَادَ بِالْإِسْلَامِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ تَبَعًا لِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ غَيْرُ مَا كَانَتْ حِينَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَإِنَّ تِلْكَ كَانَتْ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهَذِهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَشْرَافِ تَقْتَضِي أَهْلِيَّتَهَا عَلَى الْأَخَسِّ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: سَلَّمْنَا وُجُودَ الْمُقْتَضِي لَكِنْ الْمَانِعُ وَهُوَ الرَّدُّ أَوَّلًا مَوْجُودٌ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْعَبْدِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْعَبْدُ إذَا قَذَفَ فَضُرِبَ الْحَدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَكَيْفَ قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ؟ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمَعْقُولَ هُنَا انْعِكَاسُ حُكْمِهِمَا. لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْكَافِرِ شَهَادَةٌ فِي جِنْسِهِ يَجِبُ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ بِحَدِّ الْقَذْفِ تَتْمِيمًا لِحَدِّ الْقَذْفِ ثُمَّ يَدُومُ ذَلِكَ الرَّدُّ إلَى مَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ شَهَادَةٌ فِي شَيْءٍ أَصْلًا لَمْ يَنْعَقِدْ الْحَدُّ حَالَ وُجُودِهِ مُوجِبًا لِرَدِّ الشَّهَادَةِ فَكَيْفَ يَنْقَلِبُ مُوجِبًا لِلرَّدِّ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي كَانَتْ فِي جِنْسِهِ مَرْدُودَةٌ بِحَدِّ الْقَذْفِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، وَالشَّهَادَةُ الْمَقْبُولَةُ هِيَ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ اكْتَسَبَهَا بِالْإِسْلَامِ فَلَا تُرَدُّ، وَلَمْ نَقُلْ فِي الْعَبْدِ بِأَنَّ غَيْرَ الْمُوجِبِ انْقَلَبَ مُوجِبًا، وَإِنَّمَا تَوَقَّفْنَا فِي إيجَابِهِ إلَى حِينِ إمْكَانِ الْمُوجِبِ وَهُوَ الرَّدُّ. قَوْلُهُ (وَإِنْ ضُرِبَ سَوْطًا فِي قَذْفٍ) ظَاهِرٌ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمَقَامَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إنْ كَانَ بَعْضَ الْحَدِّ فَالْمَقَامُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَذَلِكَ، فَكَمَا لَا يَكُونُ رَدُّ الشَّهَادَةِ صِفَةً لِمَا أُقِيمَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا أُقِيمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، بَلْ جَعْلُهُ صِفَةً لِمَا أُقِيمَ بَعْدَ

ص: 339

بَعْضُ الْحَدِّ فَلَا يَكُونُ رَدُّ الشَّهَادَةِ صِفَةً لَهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إذْ الْأَقَلُّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

قَالَ (وَمَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَحُدَّ فَهُوَ لِذَلِكَ كُلِّهِ)

الْإِسْلَامِ أَوْلَى لِمَا أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا كَانَتْ ذَاتَ وَصْفَيْنِ فَالِاعْتِبَارُ لِلْوَصْفِ الْأَخِيرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّا لَمْ نَجْعَلْ الرَّدَّ صِفَةً لَا لِلْمَقَامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَلَا لِلْمَقَامِ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الرَّدَّ صِفَةٌ لِلْحَدِّ وَالْحَدُّ ثَمَانُونَ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ تَتَرَتَّبْ التَّتِمَّةُ. وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ النَّصُّ. وَرَدَ بِالْأَمْرِ بِالْحَدِّ وَالنَّهْيِ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَكُلُّ. وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُرَتَّبٍ عَلَى الْآخَرِ نَصًّا فَيَتَعَلَّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يُمْكِنُ، وَالْمُمْكِنُ زَمَانَ النَّهْيِ رَدُّ شَهَادَةٍ قَائِمَةٍ لِلْحَالِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَالْأَقَلُّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ) فَكَأَنَّ الْكُلَّ وُجِدَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا (وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْأَمْرِ بِالْحَدِّ وَالنَّهْيِ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ إلَخْ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَذَفَ أَوْ زَنَى إلَخْ) ظَاهِرٌ. وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ قَالَ يَا أَيُّهَا الزُّنَاةُ، أَوْ كَلِمَاتٍ

ص: 340

أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى الِانْزِجَارُ، وَاحْتِمَالُ حُصُولِهِ بِالْأَوَّلِ قَائِمٌ فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ فِي الثَّانِي، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى وَقَذَفَ وَسَرَقَ وَشَرِبَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَتَدَاخَلُ. وَأَمَّا الْقَذْفُ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ عِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ اخْتَلَفَ الْمَقْذُوفُ أَوْ الْمَقْذُوفُ بِهِ وَهُوَ الزِّنَا لَا يَتَدَاخَلُ، لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَهُ.

مُتَفَرِّقَةٍ بِأَنْ قَالَ يَا زَيْدُ أَنْتَ زَانٍ وَيَا عَمْرُو أَنْتَ زَانٍ وَيَا خَالِدُ أَنْتَ زَانٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ قَذَفَهُمْ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ يُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ حَقُّ الْمَقْذُوفِ عِنْدَهُ فَلَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ فَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.

ص: 341

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 342

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 343

فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ

فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الزَّوَاجِرِ الْمُقَدَّرَةِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ الزَّوَاجِرَ الَّتِي دُونَهَا فِي الْقَدْرِ وَقُوَّةِ الدَّلِيلِ وَهُوَ التَّعْزِيرُ، وَهُوَ تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْعَزْرِ بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالرَّدْعِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ مَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ بِكَبِيرَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ يَجِبُ التَّعْزِيرُ. قَالَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ: اعْلَمْ أَنَّ التَّعْزِيرَ قَدْ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يَكُونُ بِالصَّفْعِ وَتَعْرِيكِ الْأُذُنِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْكَلَامِ الْعَنِيفِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالضَّرْبِ، وَقَدْ يَكُونُ بِنَظَرِ الْقَاضِي إلَيْهِ بِوَجْهٍ عَبُوسٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَالِ، وَقَدْ قِيلَ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ

ص: 344

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التَّعْزِيرَ مِنْ السُّلْطَانِ بِأَخْذِ الْمَالِ جَائِزٌ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ أَنَّ التَّعْزِيرَ الَّذِي يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَلِي إقَامَتَهُ كُلُّ

ص: 345

(وَمَنْ قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ كَافِرًا بِالزِّنَا عُزِّرَ)

أَحَدٍ بِعِلَّةِ النِّيَابَةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً) ظَاهِرٌ.

ص: 346

لِأَنَّهُ جِنَايَةُ قَذْفٍ، وَقَدْ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ (وَكَذَا إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا بِغَيْرِ الزِّنَا فَقَالَ يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ أَوْ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا سَارِقُ) لِأَنَّهُ آذَاهُ وَأَلْحَقَ الشَّيْنَ بِهِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ، إلَّا أَنَّهُ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ غَايَتَهُ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، وَفِي الثَّانِيَةِ: الرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ (وَلَوْ قَالَ يَا حِمَارُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ لَمْ يُعَزَّرْ) لِأَنَّهُ مَا أُلْحِقَ الشَّيْنُ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِنَفْيِهِ. وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ شَيْنًا، وَقِيلَ إنْ كَانَ الْمَسْبُوبُ مِنْ الْأَشْرَافِ كَالْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْوَحْشَةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَامَّةِ لَا يُعَزَّرُ،

وَقَوْلُهُ (فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى) يَعْنِي مَا إذَا قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ بِالزِّنَا (لِأَنَّهُ) أَيْ الْقَذْفَ بِالزِّنَا (مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ) وَقَوْلُهُ (فِي الثَّانِيَةِ) يَعْنِي قَوْلَهُ يَا فَاسِقُ إلَخْ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مَا أَلْحَقَ الشَّيْنَ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِنَفْيِهِ) قِيلَ بَلْ يَلْحَقُ الشَّيْنُ بِالْقَاذِفِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ أَنَّهُ آدَمِيٌّ، وَأَنَّ الْقَاذِفَ كَاذِبٌ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» نُقِلَ بِتَخْفِيفِ بَلَغَ مِنْ الْبُلُوغِ وَهُوَ السَّمَاعُ. وَأَمَّا مَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ مِنْ التَّثْقِيلِ إنْ

ص: 347

وَهَذَا أَحْسَنُ. .

وَالتَّعْزِيرُ أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا وَأَقَلُّهُ ثَلَاثُ جَلَدَاتٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» وَإِذَا تَعَذَّرَ تَبْلِيغُهُ حَدًّا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَا إلَى أَدْنَى الْحَدِّ وَهُوَ حَدُّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ فَصَرَفَاهُ إلَيْهِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ سَوْطًا فَنَقَصَا مِنْهُ سَوْطًا. وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ أَقَلَّ الْحَدِّ فِي الْأَحْرَارِ إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْحُرِّيَّةُ ثُمَّ نَقَصَ سَوْطًا فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ نَقَصَ خَمْسَةً وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ فَقَلَّدَهُ

صَحَّ فَعَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ، وَالتَّقْدِيرُ مَنْ بَلَّغَ التَّعْزِيرَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ، وَفِيهِ نَبْوَةٌ تُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّحِيحِ، وَأَرَى أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ مَنْ بَلَّغَ الضَّرْبَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ.

(فَإِذَا تَعَذَّرَ تَبْلِيغُهُ حَدًّا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَا إلَى أَدْنَى الْحَدِّ) وَهُوَ حَدُّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ (فَصَرَفَاهُ إلَيْهِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ فَنَقَصَا مِنْهُ سَوْطًا) وَهَذَا حَقٌّ لِأَنَّ مَنْ اعْتَبَرَ حَدَّ الْأَحْرَارِ فَقَدْ بَلَغَ حَدًّا وَهُوَ حَدُّ الْعَبْدِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي الْحَدِيثِ يُنَافِيهِ. وَوَجْهُ نُقْصَانِ السَّوْطِ الْوَاحِدِ فِي الْمَذْهَبَيْنِ جَمِيعًا هُوَ أَنَّ الْبُلُوغَ إلَى تَمَامِ الْحَدِّ تَعَذَّرَ وَلَيْسَ بَعْدَهُ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ كَرُبُعٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ عُشْرٍ فَيُصَارُ إلَى أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ وَنَظِيرُهُ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْكُلَّ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا وَلَيْسَ بَعْدَهُ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ صُيِّرَ إلَى أَقَلَّ مَا يُمْكِنُ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.

ص: 348

ثُمَّ قَدَّرَ الْأَدْنَى فِي الْكِتَابِ بِثَلَاثِ جَلَدَاتٍ لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ، وَذَكَرَ مَشَايِخُنَا أَنَّ أَدْنَاهُ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ لِأَنَّهُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 349

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجُرْمِ وَصِغَرِهِ، وَعَنْهُ أَنْ يُقَرَّبَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ بَابِهِ؛ فَيُقَرَّبُ الْمَسُّ وَالْقُبْلَةُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا، وَالْقَذْفُ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ. .

قَالَ (وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَضُمَّ إلَى الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ الْحَبْسَ فَعَلَ) لِأَنَّهُ صَلُحَ تَعْزِيرًا وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ فَجَازَ أَنْ يُضَمَّ إلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْرَعْ فِي التَّعْزِيرِ بِالتُّهْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ كَمَا شُرِعَ فِي الْحَدِّ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعْزِيرِ.

وَقَوْلُهُ (فَيَقْرَبُ اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا) يَعْنِي فَيَكُونُ فِيهِ أَكْثَرُ الْجَلَدَاتِ. وَقَوْلُهُ (وَالْقَذْفُ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ) يَعْنِي فَيَكُونُ فِيهِ أَقَلُّ الْجَلَدَاتِ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) يَعْنِي الْحَبْسَ (صَلَحَ تَعْزِيرًا) وَقَوْلُهُ (وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ) أَيْ بِالْحَبْسِ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ رَجُلًا لِلتَّعْزِيرِ» (وَقَوْلُهُ وَلِهَذَا لَمْ يَشْرَعْ فِي التَّعْزِيرِ بِالتُّهْمَةِ) لِإِيضَاحِ أَنَّ الْحَبْسَ يَصْلُحُ لِلتَّعْزِيرِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ: أَيْ لَمْ يُشْرَعْ الْحَبْسُ بِسَبَبِ التُّهْمَةِ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُوجِبُ التَّعْزِيرَ لَوْ ثَبَتَ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِأَنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ عَلَى أَنَّهُ قَذَفَ مُحْصَنًا فَقَالَ يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ فَلَا يُحْبَسُ الْمُتَّهَمُ قَبْلَ تَعْدِيلِ الشُّهُودِ. وَفِي فَصْلِ الْحَدِّ يُحْبَسُ بِالتُّهْمَةِ لِأَنَّ فِي بَابِ الْحَدِّ شَيْئًا آخَرَ فَوْقَ الْحَبْسِ وَهُوَ إقَامَةُ الْحَدِّ عِنْدَ وُجُودِ مُوجِبِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ فِي تُهْمَتِهِ لِتَنَاسُبِ إقَامَةِ الْعُقُوبَةِ الْأَدْنَى بِمُقَابَلَةِ الذَّنْبِ الْأَدْنَى. وَفِي بَابِ الْأَمْوَالِ وَالتَّعْزِيرِ لَا يُحْبَسُ بِالتُّهْمَةِ لِأَنَّ الْأَقْصَى فِيهِمَا عُقُوبَةُ الْحَبْسِ، فَلَوْ حُبِسَا بِالتُّهْمَةِ فِيهِمَا لَكَانَ إقَامَةُ الْعُقُوبَةِ الْأَعْلَى بِمُقَابَلَةِ الذَّنْبِ الْأَدْنَى وَهُوَ مِمَّا يَأْبَاهُ الشَّرْعُ، وَلَمَّا لَمْ يُشْرَعْ الْحَبْسُ عِنْدَ تُهْمَةِ مُوجِبِ التَّعْزِيرِ عُلِمَ أَنَّ الْحَبْسَ مِنْ التَّعْزِيرِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَبْسُ مِنْ التَّعْزِيرِ لَحُبِسَ عِنْدَ تُهْمَةِ مُوجِبِ التَّعْزِيرِ كَمَا يُحْبَسُ عِنْدَ تُهْمَةِ مُوجِبِ الزِّنَا فَلَمَّا كَانَ الْحَبْسُ مِنْ التَّعْزِيرِ بِهَذَا الدَّلِيلِ جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى الضَّرْبِ إنْ رَأَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ لِلْإِمَامِ الرَّأْيَ

ص: 350

قَالَ (وَأَشَدُّ الضَّرْبِ التَّعْزِيرُ) لِأَنَّهُ جَرَى التَّخْفِيفُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَلَا يُخَفَّفُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى فَوَاتِ الْمَقْصُودِ، وَلِهَذَا لَمْ يُخَفَّفْ مِنْ حَيْثُ التَّفْرِيقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ قَالَ (ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا) لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ، وَحَدُّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ جِنَايَةً حَتَّى شُرِعَ فِيهِ الرَّجْمُ (ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ) لِأَنَّ سَبَبَهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ (ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ) لِأَنَّ سَبَبَهُ مُحْتَمِلٌ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَادِقًا وَلِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّغْلِيظُ مِنْ حَيْثُ رَدُّ الشَّهَادَةِ فَلَا يُغَلَّظُ مِنْ حَيْثُ

فِي تَقْدِيرِ الضَّرَبَاتِ فَكَذَلِكَ فِي ضَمِّ الْحَبْسِ إلَى الضَّرْبِ. قَالَ: وَأَشَدُّ الضَّرْبِ التَّعْزِيرُ. قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي: وَضَرْبُ التَّعْزِيرِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الزَّانِي، وَضَرْبُ الزَّانِي أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشَّارِبِ، وَضَرْبُ الشَّارِبِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاذِفِ، وَضَرْبُ الْقَاذِفِ أَخَفُّ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ ضَرْبُ التَّعْزِيرِ أَشَدَّ لِأَنَّهُ نَاقِصُ الْمِقْدَارِ وَهُوَ تَخْفِيفٌ.

(فَلَا يُخَفَّفُ ثَانِيًا فِي وَصْفِهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ الْمَقْصُودِ) وَهُوَ الزَّجْرُ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي شِدَّتِهِ، قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْجَمْعُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ بِجَمْعِ الْأَسْوَاطِ بِعُضْوٍ وَاحِدٍ وَلَا يُفَرَّقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَلْ شِدَّتُهُ فِي الضَّرْبِ لَا فِي الْجَمْعِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا أَقْسَمَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها فَضَرَبَهُ عُمَرُ رضي الله عنه ثَلَاثِينَ سَوْطًا كُلُّهَا يُبْضِعُ وَيَحْدُرُ: أَيْ يَشُقُّ وَيُوَرِّمُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه ضَرَبَهُ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ رحمه الله اخْتَارَهُ يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ وَلِهَذَا لَمْ يُخَفَّفْ مِنْ حَيْثُ التَّفْرِيقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ، فَلَوْ كَانَ الشِّدَّةُ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ التَّفْرِيقِ لَزِمَ تَوْضِيحُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا) ظَاهِرٌ.

ص: 351

الْوَصْفُ.

(وَمَنْ‌

‌ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ

فَدَمُهُ هَدَرٌ) لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْفِصَادِ وَالْبَزَّاغِ، بِخِلَافِ الزَّوْجِ إذَا عَزَّرَ زَوْجَتَهُ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِيهِ، وَالْإِطْلَاقَاتُ تَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ خَطَأٌ فِيهِ، إذْ التَّعْزِيرُ لِلتَّأْدِيبِ غَيْرَ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَفْعَ عَمَلِهِ يَرْجِعُ عَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْغُرْمُ فِي مَالِهِمْ. قُلْنَا لَمَّا اسْتَوْفَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ صَارَ كَأَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ. .

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ) ذَكَرَ مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي السَّلَامَةَ فِي إتْيَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْأُخْرَى عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ نَقِيضُهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ لِطَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ مِنْ الْإِثْبَاتَاتِ وَهِيَ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُشْبِهُ الْقِمَارَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْمَأْمُورِ ذَلِكَ الْفِعْلُ بِالْأَمْرِ فَيَأْتِي الْمَأْمُورُ بِمَا فِي وُسْعِهِ غَيْرَ مُرَاقِبٍ لِلسَّلَامَةِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَتَحَقَّقُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ فَيَبْقَى الْمَأْمُورُ فِي ضَرْبِ الْوُجُوبِ، وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ فَإِسْقَاطٌ لِكَوْنِهِ رَفْعُ الْقَيْدِ وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيقِ فَيَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُطْلَقَ فِي اخْتِيَارِ فَاعِلِهِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْفَاعِلِ إنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي تَرْكِ وَصْفِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي التَّعْزِيرِ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ خَطَأٌ فِيهِ إذْ التَّعْزِيرُ لِلتَّأْدِيبِ، غَيْرَ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَفْعَ عَمَلِهِ يَعُودُ إلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْغُرْمُ فِي مَالِهِمْ. قُلْنَا: إنَّهُ لَمَّا اسْتَوْفَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ صَارَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَاتَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 352

‌كِتَابُ السَّرِقَةِ

كِتَابُ السَّرِقَةِ:

لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الزَّوَاجِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصِيَانَةِ النُّفُوسِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ الزَّوَاجِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ،

ص: 353

السَّرِقَةُ فِي اللُّغَةِ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ، وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} وَقَدْ زِيدَتْ عَلَيْهِ أَوْصَافٌ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ مُرَاعًى فِيهَا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَوْ ابْتِدَاءً لَا غَيْرَ،

لِأَنَّ صِيَانَةَ النَّفْسِ أَقْدَمُ مِنْ صِيَانَةِ الْمَالِ، وَالسَّرِقَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وقَوْله تَعَالَى {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} مَعْنَاهُ اسْتَمَعَ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَقَدْ زِيدَتْ عَلَيْهِ أَوْصَافٌ فِي الشَّرِيعَةِ) هِيَ أَنْ يُقَالَ: السَّرِقَةُ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ نِصَابًا مُحْرَزًا لِلتَّمَوُّلِ غَيْرَ مُتَسَارِعٍ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ (وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ) وَهُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ أَمْرٌ (مُرَاعًى فِيهَا) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: اعْلَمْ أَنَّ

ص: 354

كَمَا إذَا نَقَبَ الْجِدَارَ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ وَأَخَذَ الْمَالَ مِنْ الْمَالِكِ مُكَابَرَةً عَلَى الْجِهَارِ. وَفِي الْكُبْرَى: أَعْنِي قَطْعَ الطَّرِيقِ مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَدِّي لِحِفْظِ الطَّرِيقِ بِأَعْوَانِهِ. وَفِي الصُّغْرَى: مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ.

قَالَ (وَإِذَا سَرَقَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَجَبَ الْقَطْعُ) وَالْأَصْلُ فِيهِ

مَا نَقَلَهُ الشَّارِعُ إلَيْنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا مَا هُوَ الْمُقَرَّرُ عَلَى مَا أَنْبَأَنَا بِهِ اللُّغَةُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} وَالثَّانِي مَا هُوَ الْمَعْدُولُ عَمَّا أَنْبَأَنَا بِهِ اللُّغَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ شَرْعًا عِبَارَةٌ عَنْ الْأَرْكَانِ الْمَعْهُودَةِ وَلَيْسَ لَهَا إنْبَاءٌ لُغَوِيٌّ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا. وَالثَّالِثُ مَا أَنْبَأَنَا بِهِ اللُّغَةُ مُقَرَّرٌ مَعَ زِيَادَةِ شَيْءٍ فِيهِ شَرْعًا كَالسَّرِقَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ وَهِيَ مُقَرَّرَةٌ فِي الشَّرْعِ مَعَ زِيَادَةِ أَوْصَافٍ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَالزَّكَاةُ هُوَ النَّمَاءُ وَالْحَجُّ هُوَ الْقَصْدُ، وَالْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ مَعَ زِيَادَةِ أَوْصَافٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ نَظَرٌ عَلَى الْمِثَالِ وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ وَقَوْلُهُ (كَمَا إذَا نَقَبَ الْجِدَارَ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ) نَظِيرُ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ مَوْجُودًا فِيهِ ابْتِدَاءً وَتَرَكَ نَظِيرَ الْأَوَّلِ لِظُهُورِهِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقْطَعَ فِيمَا إذَا نَقَبَ الْجِدَارَ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ وَأَخَذَ الْمَالَ مِنْ الْمَالِكِ مُكَابَرَةً: أَيْ مُقَاتَلَةً بِسِلَاحٍ لِأَنَّ رُكْنَ السَّرِقَةِ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ، وَالْخُفْيَةُ إنْ وُجِدَتْ وَقْتَ الدُّخُولِ لَمْ تُوجَدْ وَقْتَ الْأَخْذِ فَإِنَّ الْأَخْذَ حَصَلَ بِطَرِيقِ الْمُغَالَبَةِ لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا بِوُجُوبِ الْقَطْعِ لِأَنَّهُمْ لَوْ اعْتَبَرُوا الْخُفْيَةَ وَقْتَ الْأَخْذِ لَامْتَنَعَ الْقَطْعُ فِي أَكْثَرِ السَّرِقَاتِ لِأَنَّ أَكْثَرَهَا فِي اللَّيَالِيِ يَصِيرُ مُغَالَبَةً فِي الِانْتِهَاءِ لِأَنَّهُ وَقْتٌ لَا يَلْحَقُ الْغَوْثُ وَقَوْلُهُ (أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ) يَعْنِي الْمُودِعَ وَالْمُسْتَعِيرَ وَالْمُضَارِبَ وَالْغَاصِبَ وَالْمُرْتَهِنَ.

قَالَ (وَإِذَا سَرَقَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ ذَلِكَ مَضْرُوبَةً مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ) عَلَى مَا سَيَظْهَرُ لَك مَعْنَاهُ (وَجَبَ الْقَطْعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى

ص: 355

قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الْآيَةَ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَتَحَقَّقُ دُونَهُمَا وَالْقَطْعُ جَزَاءُ الْجِنَايَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالْمَالِ الْخَطِيرِ لِأَنَّ الرَّغَبَاتِ تَفْتُرُ فِي الْحَقِيرِ، وَكَذَا أَخْذُهُ لَا يَخْفَى فَلَا يَتَحَقَّقُ رُكْنُهُ وَلَا حِكْمَةُ الزَّجْرِ لِأَنَّهَا فِيمَا يَغْلِبُ، وَالتَّقْدِيرُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَذْهَبُنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّقْدِيرُ بِرُبْعِ دِينَارٍ. وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ. لَهُمَا أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَأَقَلُّ مَا نُقِلَ فِي تَقْدِيرِهِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَالْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ أَوْلَى،

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا تَرَتَّبَ عَلَى صِفَةٍ كَانَ مَصْدَرُهَا عِلَّةً لَهُ كَمَا عُرِفَ، وَالْآيَةُ كَمَا تَرَى عَامٌّ، لَكِنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لِأَنَّهُ خِطَابُ الشَّرْعِ فَهُوَ تَكْلِيفٌ، وَلَا تَكْلِيفَ إلَّا مَعَ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِمَا لِتَحَقُّقِ الْجِنَايَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْجَزَاءِ.

وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْمَالِ فَلِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَلَا يَعْتَبِرُونَ النِّصَابَ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رضي الله عنه مُسْتَدِلًّا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى النِّصَابِ أَصْلًا، بِخِلَافِ كَوْنِهِ مَالًا مُحْرَزًا فَإِنَّ لَفْظَ السَّرِقَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمُبَاحِ يُسَمَّى اصْطِيَادًا أَوْ احْتِطَابًا لَا سَرِقَةً، وَكَذَلِكَ مَا لَيْسَ بِمُحْرَزٍ فَأَخْذُهُ لَا يُسَمَّى سَرِقَةً لِانْعِدَامِ مُسَارَقَةِ عَيْنِ الْحَافِظِ. وَقُلْنَا: مَعْنَى اسْمِ السَّارِقِ يَدُلُّ عَلَى خَطَرِ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ السَّرِقَةِ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْ الْحَرِيرِ فَلَا بُدَّ

ص: 356

غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله يَقُولُ: «كَانَتْ قِيمَةُ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا» وَالثَّلَاثَةُ رُبْعُهَا. وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْلَى احْتِيَالًا لِدَرْءِ الْحَدِّ. وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْأَقَلِّ شُبْهَةَ عَدَمِ الْجِنَايَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْحَدِّ، وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ، أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ»

مِنْ التَّقْدِيرِ بِالْمَالِ الْخَطِيرِ مُحَافَظَةً عَلَى الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، وَالتَّقْدِيرُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا قَطْعَ

ص: 357

وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَضْرُوبَةِ عُرْفًا فَهَذَا يُبَيِّنُ لَك اشْتِرَاطَ الْمَضْرُوبِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ رِعَايَةً لِكَمَالِ الْجِنَايَةِ،

إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ.

وَقَوْلُهُ (وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَضْرُوبَةِ عُرْفًا) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٌ. وَاسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِ بِلَفْظِ الدَّرَاهِمِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُدُورِيُّ.

وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الْأَصَحُّ) احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَضْرُوبَةَ وَغَيْرَهَا سَوَاءٌ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ. فَإِنْ قُلْت: رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها «أَنَّ يَدَ السَّارِقِ لَمْ تُقْطَعْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 358

حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةً تِبْرًا قِيمَتُهَا أَنْقَصُ مِنْ عَشَرَةٍ مَضْرُوبَةٍ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ، وَالْمُعْتَبَرُ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي عَامَّةِ الْبِلَادِ. وَقَوْلُهُ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ غَيْرَ الدَّرَاهِمِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِهَا وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا، وَلَا بُدَّ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ دَارِئَةٌ، وَسَنُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. .

إلَّا فِي ثَمَنِ مِجَنِّ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ»، وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» . وَقَدْ أَخَذَ بِهِ مَالِكٌ رضي الله عنه. وَرَوَتْ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْطَعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» ، وَبِهِ أَخَذَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فَمَا وَجْهُ دَفْعِ ذَلِكَ؟ قُلْت: مَدْلُولُ الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ لِأَنَّ قِيمَةَ الدِّينَارِ كَانَتْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثَلَاثُ دَرَاهِمَ كَانَتْ رُبُعَ دِينَارٍ، وَيُعَارِضُهُمَا مَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ وَشَرْحِ الْآثَارِ مُسْنَدًا إلَى عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ رَجُلًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ» ، وَلَمَّا تَعَارَضَا وَلَا مُرَجِّحَ صِرْنَا إلَى إطْلَاقِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا قَطَعَ إلَّا فِي دِينَارٍ» الْحَدِيثَ، وَإِلَى الْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِمَذْهَبِنَا يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِمَذْهَبِهِمَا مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ.

ص: 359

قَالَ (وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي الْقَطْعِ سَوَاءٌ) لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَصِّلْ، وَلِأَنَّ التَّنْصِيفَ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَكَامَلُ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ.

(وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ) وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمَا فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّهُ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأُخْرَى وَهِيَ الْبَيِّنَةُ كَذَلِكَ اعْتَبَرْنَا فِي الزِّنَا. وَلَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ ظَهَرَتْ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً

قَالَ (وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي الْقَطْعِ سَوَاءٌ) قَدَّمَ ذِكْرَ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ لِكَوْنِهِ أَهَمَّ لِأَنَّ عَدَمَ التَّسَاوِي إنَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ جِهَتِهِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ وَبَيَانٌ.

قَوْلُهُ (أَنَّ السَّرِقَةَ، قَدْ ظَهَرَتْ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً) السَّرِقَةُ ظَهَرَتْ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا تَظْهَرُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، وَكُلُّ مَا يَظْهَرُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ يَظْهَرُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَغَيْرِهِمَا، وَكُلُّ مَا يَظْهَرُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً يُكْتَفَى بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الزِّيَادَةِ، وَإِذَا تَلَمَّحْتَ هَذَا الْبَيَانَ وَجَدْت الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ الزِّنَا أَيْضًا يَظْهَرُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً سَاقِطًا

ص: 360

فَيُكْتَفَى بِهِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تُفِيدُ فِيهَا تَقْلِيلَ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَلَا تُفِيدُ فِي الْإِقْرَارِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ. وَبَابُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْحَدِّ لَا يَنْسَدُّ بِالتَّكْرَارِ وَالرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْمَالِ لَا يَصِحُّ أَصْلًا لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يُكَذِّبُهُ، وَاشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ فِي الزِّنَا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ.

قَوْلُهُ وَلَا اعْتِبَارَ بِالشَّهَادَةِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى بِبَيَانِ الْفَارِقِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ تُفِيدُ فِيهَا تَقْلِيلُ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَلَا تُفِيدُ فِي الْإِقْرَارِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ.

وَقَوْلُهُ (وَبَابُ الرُّجُوعِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ التَّكْرَارُ لِقَطْعِ احْتِمَالِ الرُّجُوعِ كَمَا فِي الزِّنَا. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ مِرَارًا كَثِيرَةً ثُمَّ رَجَعَ صَحَّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ الْحَدِّ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ، بِخِلَافِ الرُّجُوعِ عَنْ الْمَالِ فَإِنَّ لَهُ فِيهِ مُكَذِّبًا وَهُوَ صَاحِبُ الْمَالِ فَلَا يَصِحُّ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنْ لَا فَائِدَةَ فِي تَكْرَارِ الْإِقْرَارِ لَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَلَا فِي حَقِّ إسْقَاطِ ضَمَانِ الْمَالِ بِالْإِقْرَارِ. وَقَوْلُهُ (وَاشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ فِي الزِّنَا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ اعْتَبَرْنَا فِي الزِّنَا،

ص: 361

قَالَ (وَيَجِبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ) لِتَحَقُّقِ الظُّهُورِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا الْإِمَامُ عَنْ كَيْفِيَّةِ السَّرِقَةِ وَمَاهِيَّتِهَا وَزَمَانِهَا وَمَكَانِهَا لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ كَمَا مَرَّ فِي الْحُدُودِ، وَيَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لِلتُّهْمَةِ. .

(وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا الْإِمَامُ عَنْ كَيْفِيَّةِ السَّرِقَةِ) فَيَقُولَ لَهُ كَيْفَ سَرَقْت لِجَوَازِ أَنَّهُ نَقَبَ الْبَيْتَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (وَعَنْ مَاهِيَّتِهَا) لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ شَيْئًا تَافِهًا وَلَا قَطْعَ فِيهِ، وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ مَاهِيَّةَ السَّرِقَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا لَا يَذْكُرُهَا إلَّا آحَادُ الْفُقَهَاءِ فَيَحْتَاجُ إلَى حُضُورِ الْفُقَهَاءِ شَرْطًا لِظُهُورِهِ، وَفِي ذَلِكَ سَدُّ بَابِ الْقَطْعِ (وَعَنْ زَمَانِهَا) فِيمَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ لِجَوَازِ تَقَادُمِ الْعَهْدِ الْمَانِعِ عَنْ الْقَطْعِ لِوُجُودِ التُّهْمَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ فِيهِ لَيْسَ بِمَانِعٍ لِعَدَمِهَا فَلَا يَسْأَلُ عَنْ الزَّمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: الشَّاهِدُ فِي تَأْخِيرِ الشَّهَادَةِ هُنَا غَيْرُ مُتَّهَمٍ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ بِدُونِ الدَّعْوَى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْأَلَ فِيمَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا لَا يَسْأَلُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ. قُلْنَا: إنَّ الْجَوَابَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا (وَعَنْ مَكَانِهَا) لِجَوَازِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَيَسْأَلُهُمَا عَنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَعَلَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ حَاضِرٌ يُخَاصِمُ وَالشُّهُودُ تَشْهَدُ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ (وَيَحْبِسُهُ) أَيْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالسَّرِقَةِ فَيُحْبَسُ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ» .

ص: 362

(قَالَ وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ فَأَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَقَلُّ لَا يُقْطَعُ) لِأَنَّ الْمُوجِبَ سَرِقَةُ النِّصَابِ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجِنَايَتِهِ فَيُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي حَقِّهِ.

‌بَابُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ) ظَاهِرٌ. وَاسْتُشْكِلَ بِمَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ كُلُّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْقَتْلُ عَلَى الْكَمَالِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ يَتَعَلَّقُ بِإِخْرَاجِ الرُّوحِ وَهُوَ لَا يَتَجَزَّأُ فَيُضَافُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ:

لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ تَفْسِيرِ السَّرِقَةِ وَشُرُوطِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَسْرُوقًا يُوجِبُ الْقَطْعَ وَمَسْرُوقًا لَا يُوجِبُهُ وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ النِّصَابُ، وَلَا يَرِدُ مَا قِيلَ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَهُ وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ فِي هَذَا الْبَابِ،

ص: 363

(وَلَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْخَشَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالسَّمَكِ وَالطَّيْرِ وَالصَّيْدِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْمَغَرَةِ وَالنُّورَةِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ الْيَدُ لَا تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» ، أَيْ الْحَقِيرِ، وَمَا يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا، فِي الْأَصْلِ بِصُورَتِهِ غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ حَقِيرٌ تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ

لِأَنَّهُ. إنْ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ كَانَ مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَقَلُّ كَانَ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِيهِ لِأَنَّ هَذَا الْبَابَ لِبَيَانِ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ (قَوْلُهُ لَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا) ظَاهِرٌ، وَالْمَغَرَةُ بِالْفَتَحَاتِ الثَّلَاثِ الطِّينُ الْأَحْمَرُ، وَتَسْكِينُ الْغَيْنِ فِيهِ لُغَةٌ.

وَقَوْلُهُ (وَمَا يُوجَدُ جِنْسُهُ) مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ حَقِيرٌ خَبَرُهُ. وَقَوْلُهُ (بِصُورَتِهِ) احْتِرَازٌ عَنْ الْأَبْوَابِ وَالْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْخَشَبِ وَالْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ، فَإِنَّ فِي سَرِقَتِهَا الْقَطْعَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا مِنْ الْخَشَبِ، وَأَصْلُ الْحَصِيرِ يُوجَدُ مُبَاحًا لِتَغَيُّرِهَا عَنْ صُورَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ بِالصَّنْعَةِ الْمُتَقَوِّمَةِ. وَقَوْلُهُ (غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهِ) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوَاهِرِ فَإِنَّهَا تُوجَدُ مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهَا مَرْغُوبٌ فِيهَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا سَرَقَهَا عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي تُوجَدُ مُبَاحَةً وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مُخْتَلِطَةً بِالْحَجَرِ وَالتُّرَابِ لَا يُقْطَعُ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَافِهٍ جِنْسًا، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ لَا يَتْرُكُهُ عَادَةً.

وَقَوْلُهُ (تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ) جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ.

ص: 364

وَالطِّبَاعُ لَا تَضَنُّ بِهِ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ أَخْذُهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْ الْمَالِكِ فَلَا حَاجَةَ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ وَلِأَنَّ الْحِرْزَ فِيهَا نَاقِصٌ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْخَشَبَ يُلْقَى عَلَى الْأَبْوَابِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الدَّارِ لِلْعِمَارَةِ لَا لِلْإِحْرَازِ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ وَالصَّيْدُ يَفِرُّ وَكَذَا الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ تُورِثُ الشُّبْهَةَ، وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِهَا. وَيَدْخُلُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحُ وَالطَّرِيُّ، وَفِي الطَّيْرِ الدَّجَاجُ وَالْبَطُّ وَالْحَمَامُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ»

وَقَوْلُهُ (وَالطِّبَاعُ لَا تَضَنُّ بِهِ) أَيْ لَا تَبْخَلُ بِفَتْحِ الضَّادِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَجَاءَ بِالْكَسْرِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ (فَقَلَّمَا يُوجَدُ أَخْذُهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْ الْمَالِكِ) أَيْ قَلِيلٌ وُجُودُ لُحُوقِ الْمَلَالَةِ بِالْمَالِكِ عِنْدَ أَخْذِ الْأَشْيَاءِ مِنْهُ، بَلْ يَرْضَى بِالْأَخْذِ تَوَقِّيًا عَنْ لُحُوقِ سِمَةِ خَسَاسَةِ الْهِمَّةِ وَتَفَادِيًا عَنْ نِسْبَتِهِ إلَى دَنَاءَةِ الطَّبِيعَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى شَرْعِ الزَّوَاجِرِ. وَقَوْلُهُ (وَالطَّيْرُ يَطِيرُ وَالصَّيْدُ يَفِرُّ) يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ قَلَّتْ الرَّغْبَةُ فَلَا تُشْرَعُ الزَّوَاجِرُ فِي مِثْلِهِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ الْخَشَبُ يُلْقَى عَلَى الْأَبْوَابِ.

وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ) أَيْ فِيمَا يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا (وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ) أَيْ الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ الْأَبْوَابِ وَالْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْخَشَبِ كَمَا ذَكَرْنَا (تُورِثُ الشُّبْهَةَ) أَيْ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ إحْرَازِهِ (وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِهَا) وَفِي التَّعْبِيرِ بِالشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الْكَلَأِ، وَالْمَاءِ، وَالنَّارِ» وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ وَالصَّيْدُ يَفِرُّ وَالسَّمَكُ الْمَالِحُ هُوَ الْمُقَدَّدُ الَّذِي فِيهِ الْمِلْحُ.

ص: 365

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا الطِّينَ وَالتُّرَابَ وَالسِّرْقِينَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا ذَكَرْنَا.

قَالَ: (وَلَا قَطْعَ فِيمَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا فِي كَثَرٍ» وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ، وَقِيلَ الْوَدِيُّ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ» وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَالْمُهَيَّأِ لِلْأَكْلِ مِنْهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَاللَّحْمِ وَالثَّمَرِ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحِنْطَةِ وَالسُّكَّرِ إجْمَاعًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ فِيهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ أَوْ الْجِرَانُ قُطِعَ»

وَقَوْلُهُ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي حَدِيثَ عَائِشَةَ وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ وَالْجِمَارُ شَحْمُ النَّخْلِ وَهُوَ شَيْءٌ أَبْيَضُ يُقْطَعُ مِنْ رُءُوسِ النَّخْلِ وَيُؤْكَلُ، وَالْوَدْيُ صِغَارُ النَّخْلِ.

وَقَوْلُهُ (كَالْمُهَيَّإِ لِلْأَكْلِ) يَعْنِي مِثْلَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَأَمْثَالَهُمَا لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحِنْطَةِ وَالسُّكَّرِ بِالْإِجْمَاعِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَامُ عَامَ مَجَاعَةٍ وَقَحْطٍ، أَمَّا إذَا كَانَ فَلَا قَطْعَ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ أَوْ لَا. وَقَوْلُهُ (كَاللَّحْمِ وَالثَّمَرِ) اللَّحْمُ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ كَالْمُهَيَّإِ لِلْأَكْلِ مِنْهُ، وَالثَّمَرُ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَكَانَ كَلَامُهُ لَفًّا وَنَشْرًا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: يُقْطَعُ فِيهَا) أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ اللَّبَنِ وَاللَّحْمِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ وَالطَّعَامِ (وَالْجَرِينُ) الْمِرْبَدُ: وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ الرُّطَبُ لِيَجِفَّ، وَقِيلَ هُوَ مَوْضِعٌ يُدَّخَرُ فِيهِ التَّمْرُ (وَالْجِرَانُ) مُقَدَّمُ عُنُقِ الْبَعِيرِ مِنْ مَذْبَحِهِ إلَى مَنْخَرِهِ، وَالْجَمْعُ جُرُنٌ فَجَازَ أَنْ يُسَمَّى الْجِرَابُ الْمُتَّخَذُ مِنْهُ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَحَدَ الظَّرْفَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنْ الرَّاوِي

ص: 366

قُلْنَا: أَخْرَجَهُ عَنْ وِفَاقِ الْعَادَةِ، وَاَلَّذِي يُؤْوِيهِ الْجَرِينُ فِي عَادَتِهِمْ هُوَ الْيَابِسُ مِنْ الثَّمَرِ وَفِيهِ الْقَطْعُ.

قَالَ (وَلَا قَطْعَ فِي الْفَاكِهَةِ عَلَى الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُحْصَدْ) لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ

قُلْنَا: أَخْرَجَهُ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ) فَإِنَّ فِي عَادَتِهِمْ أَنَّ الْجَرِينَ لَا يُؤْوِي إلَّا الْيَابِسَ مِنْ الثَّمَرِ وَفِيهِ الْقَطْعُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ. قَالَ (وَلَا قَطْعَ فِي الْفَاكِهَةِ عَلَى الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ) وَكَانَ هَذَا مَعْلُومًا مِنْ قَوْلِهِ وَالْفَاكِهَةُ الرَّطْبَةُ، لَكِنْ أَعَادَهُ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ وَالزَّرْعُ الَّذِي لَمْ يُحْصَدْ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فِيهَا.

ص: 367

(وَلَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ) لِأَنَّ السَّارِقَ يَتَأَوَّلُ فِي تَنَاوُلِهَا الْإِرَاقَةَ، وَلِأَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَفِي مَالِيَّةِ بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ فَتَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمَالِيَّةِ. قَالَ (وَلَا فِي الطُّنْبُورِ) لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعَازِفِ (وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُقْطَعُ إذَا بَلَغَتْ الْحِلْيَةُ نِصَابًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمُصْحَفِ فَتُعْتَبَرُ بِانْفِرَادِهَا. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْآخِذَ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَكْتُوبِ وَإِحْرَازُهُ لِأَجْلِهِ لَا لِلْجِلْدِ وَالْأَوْرَاقِ وَالْحِلْيَةِ وَإِنَّمَا هِيَ تَوَابِعُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّبَعِ، كَمَنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ وَقِيمَةُ الْآنِيَةِ تَرْبُو عَلَى النِّصَابِ.

وَلَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ) أَيْ الْمُسْكِرَةِ: قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الطَّرَبُ خِفَّةٌ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ لِشِدَّةِ حُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ، وَفَسَّرَ السُّكْرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِأَنَّهُ غَلَبَةُ سُرُورٍ فِي الْعَقْلِ فَالْتَقَيَا فِي مَعْنَى السُّرُورِ فَلِذَلِكَ اُسْتُعِيرَ الْإِطْرَابُ لِلْإِسْكَارِ. قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ: لَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَهُوَ يُؤْذِنُ بِصِحَّةِ تَفْسِيرِ الْمُطْرِبَةِ بِالْمُسْكِرَةِ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ بِمَالٍ) أَيْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ كَالْخَمْرِ (وَفِي مَالِيَّةِ بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ) يَعْنِي كَالْمُنَصَّفِ وَالْبَاذِقِ وَمَاءِ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ لِأَنَّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه مُتَقَوِّمَةٌ خِلَافًا لَهُمَا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْأَشْرِبَةَ بِكَوْنِهَا مُطْرِبَةً لِمَا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ، وَيُقْطَعُ فِي الْخَلِّ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَنَقَلَ النَّاطِفِيُّ عَنْ كِتَابِ الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَا قَطْعَ فِي الْخَلِّ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ خَمْرًا مَرَّةً (وَلَا فِي الطُّنْبُورِ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعَازِفِ) وَالْمَعَازِفُ آلَاتُ اللَّهْوِ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا الْوَاحِدُ عَزْفٌ رِوَايَةٌ عَنْ الْعَرَبِ. قَوْلُهُ (وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ) ظَاهِرٌ.

ص: 368

(وَلَا قَطْعَ فِي أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ) لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فَصَارَ كَبَابِ الدَّارِ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يُحَرَّزُ بِبَابِ الدَّارِ مَا فِيهَا وَلَا يُحَرَّزُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ مَا فِيهِ حَتَّى لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَتَاعِهِ. قَالَ (وَلَا الصَّلِيبِ مِنْ الذَّهَبِ وَلَا الشِّطْرَنْجِ وَلَا النَّرْدِ) لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ مَنْ أَخَذَهَا الْكَسْرَ نَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ، بِخِلَافِ الدِّرْهَمِ الَّذِي عَلَيْهِ التِّمْثَالُ لِأَنَّهُ مَا أُعِدَّ لِلْعِبَادَةِ فَلَا تَثْبُتُ شُبْهَةُ إبَاحَةِ الْكَسْرِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الصَّلِيبُ فِي الْمُصَلَّى لَا يُقْطَعُ لِعَدَمِ الْحِرْزِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ آخَرَ يُقْطَعُ لِكَمَالِ الْمَالِيَّةِ وَالْحِرْزِ.

(وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الصَّبِيِّ الْحُرِّ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ) لِأَنَّ الْحُرَّ لَيْسَ بِمَالٍ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُلِيِّ تَبَعٌ لَهُ، وَلِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الصَّبِيَّ إسْكَاتَهُ أَوْ حَمْلَهُ إلَى مُرْضِعَتِهِ.

وَالصَّلِيبُ) شَيْءٌ مُثَلَّثٌ كَالتِّمْثَالِ يَعْبُدُهُ النَّصَارَى (وَالشِّطْرَنْجُ) بِكَسْرِ الشِّينِ (وَالنَّرْدُ) مَعْرُوفَانِ، وَلَا قَطْعَ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ. وَقَوْلُهُ (إنْ كَانَ الصَّلِيبُ فِي الْمُصَلَّى) أَيْ فِي مَوْضِعِ صَلَاةِ النَّصَارَى وَهُوَ مَعْبَدُهُمْ.

وَقَوْلُهُ (وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُلِيِّ تَابِعٌ) لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مِنْ الْأَخْذِ هُوَ الْحُلِيُّ فَلَا يَكُونُ تَابِعًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَقْصُودَهُ لَأَخَذَ الْحُلِيَّ وَتَرَكَ الصَّبِيَّ.

ص: 369

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ هُوَ نِصَابٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَحْدَهُ فَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ إنَاءَ فِضَّةٍ فِيهِ نَبِيذٌ أَوْ ثَرِيدٌ. وَالْخِلَافُ فِي الصَّبِيِّ لَا يَمْشِي وَلَا يَتَكَلَّمُ كَيْ لَا يَكُونَ فِي يَدِ نَفْسِهِ.

(وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الْكَبِيرِ) لِأَنَّهُ غَصْبٌ أَوْ خِدَاعٌ (وَيُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ) لِتَحَقُّقِهَا بِحَدِّهَا إلَّا إذَا كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ هُوَ وَالْبَالِغُ سَوَاءٌ فِي اعْتِبَارِ يَدِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَكَلَّمُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ،

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَحْدَهُ فَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ) مَعْنَاهُ سَرَقَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ وَمَا لَا يَجِبُ، وَضَمُّ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إلَى مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ لَا يُسْقِطُهُ، كَمَا لَوْ سَرَقَ ثَوْبًا خَلَقًا لَا يُسَاوِي نِصَابًا وَفِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٌ. وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ إنَاءَ فِضَّةٍ) ظَاهِرٌ.

ص: 370

وَلَهُمَا أَنَّهُ مَالٌ مُطْلَقٌ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ أَوْ بِعَرْضِ أَنْ يَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهِ إلَّا أَنَّهُ انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ.

(وَلَا قَطْعَ فِي الدَّفَاتِرِ كُلِّهَا) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهَا وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ (إلَّا فِي دَفَاتِرِ الْحِسَابِ) لِأَنَّ مَا فِيهَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْكَوَاغِدَ. قَالَ (وَلَا فِي سَرِقَةِ كَلْبٍ وَلَا فَهْدٍ) لِأَنَّ مِنْ جِنْسِهَا يُوجَدُ مُبَاحُ الْأَصْلِ غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ظَاهِرٌ فِي مَالِيَّةِ الْكَلْبِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.

(وَلَا قَطْعَ فِي دُفٍّ وَلَا طَبْلٍ وَلَا بَرْبَطٍ وَلَا مِزْمَارٍ) لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا قِيمَةَ لَهَا

(وَالدَّفَاتِرُ) جَمْعُ دَفْتَرٍ وَهِيَ الْكَرَارِيسُ، وَلَا قَطْعَ فِيهَا كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ لِلتَّفْسِيرِ أَوْ لِلْحَدِيثِ أَوْ لِلْفِقْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا مَا فِيهَا وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ إلَّا فِي دَفَاتِرِ الْحِسَابِ؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْأَوْرَاقُ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، فَإِذَا بَلَغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا يُقْطَعُ. وَعُمُومُ كَلَامِهِ يُشْعِرُ بِأَنَّ دَفَاتِرَ الْأَشْعَارِ كَدَفَاتِرِ الْفِقْهِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْقَطْعِ لِكَوْنِهَا مُحْتَاجًا إلَيْهَا لِمَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ، وَالْحَاجَةُ وَإِنْ قَلَّتْ كَفَتْ لِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَلْحَقَهَا بِدَفَاتِرِ الْحِسَابِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ (وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ كَلْبٍ وَلَا فَهْدٍ) وَهُوَ ظَاهِرٌ.

(وَلَا فِي دُفٍّ وَلَا طَبْلٍ) وَالدُّفُّ بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا الَّذِي يُلْعَبُ بِهِ، وَهُوَ نَوْعَانِ مُدَوَّرٌ وَمُرَبَّعٌ، وَالْمُرَادُ بِالطَّبْلِ طَبْلُ اللَّهْوِ، وَأَمَّا طَبْلُ الْغُزَاةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ. وَاخْتَارَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ عَدَمَ وُجُوبِ الْقَطْعِ لِأَنَّهُ كَمَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ الشُّبْهَةُ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا قِيمَةَ لَهَا)

ص: 371

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ آخِذُهَا يَتَأَوَّلُ الْكَسْرَ فِيهَا.

(وَيُقْطَعُ فِي السَّاجِ وَالْقِنَا وَالْآبَنُوسِ وَالصَّنْدَلِ) لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مُحَرَّزَةٌ لِكَوْنِهَا عَزِيزَةً عِنْدَ النَّاسِ وَلَا تُوجَدُ بِصُورَتِهَا مُبَاحَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. قَالَ (وَيُقْطَعُ فِي الْفُصُوصِ الْخُضْرِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ) لِأَنَّهَا مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ وَأَنْفَسِهَا وَلَا تُوجَدُ مُبَاحَةَ الْأَصْلِ بِصُورَتِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهَا فَصَارَتْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

(وَإِذَا اتَّخَذَ مِنْ الْخَشَبِ أَوَانِيَ وَأَبْوَابًا قُطِعَ فِيهَا) لِأَنَّهُ بِالصَّنْعَةِ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُحَرَّزُ بِخِلَافِ الْحَصِيرِ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ فِيهِ لَمْ تَغْلِبْ عَلَى الْجِنْسِ حَتَّى يُبْسَطُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ، وَفِي الْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ قَالُوا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي سَرِقَتِهَا لِغَلَبَةِ الصَّنْعَةِ عَلَى الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي غَيْرِ الْمُرَكَّبِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ خَفِيفًا لَا يَثْقُلُ عَلَى الْوَاحِدِ حَمْلُهُ لِأَنَّ الثَّقِيلَ مِنْهُ لَا يُرْغَبُ فِي سَرِقَتِهِ

بِدَلِيلِ أَنَّ مُتْلِفَهُ لَا يَضْمَنُهُ (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَإِنْ كَانَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ فَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ، لَكِنْ (آخِذُهَا يَتَأَوَّلُ الْكَسْرَ فِيهَا) فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً.

(وَالسَّاجُ) خَشَبٌ يُجْلَبُ مِنْ الْهِنْدِ (وَالْقِنَاءُ) بِالْكَسْرِ جَمْعُ قَنَاةٍ وَهِيَ خَشَبَةُ الرُّمْحِ (وَالْآبَنُوسُ) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ مَعْرُوفٌ. وَقَوْلُهُ (وَلَا تُوجَدُ بِصُورَتِهَا مُبَاحَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ كُلَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا اُتُّخِذَ مِنْ الْخَشَبِ أَوَانٌ) فَرَّقَ بَيْنَ الْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ بِالْخَشَبِ وَالْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ بِالْحَشِيشِ بِغَلَبَةِ الصَّنْعَةِ عَلَى الْأَصْلِ فَفِي الْخَشَبِ تَغْلِبُ الصَّنْعَةُ عَلَى الْجِنْسِ فَتُخْرِجُهُ عَنْ الْجِنْسِ الْمُبَاحِ بِازْدِيَادٍ يَحْصُلُ فِي قِيمَتِهِ وَيُعَزِّزُهُ بِحَيْثُ إنَّهُمْ يُدْخِلُونَهُ فِي الْحِرْزِ.

وَأَمَّا فِي الْحَشِيشِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلِهَذَا يَفْرِشُونَهُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ، حَتَّى لَوْ غَلَبَ الصَّنْعَةُ عَلَى الْأَصْلِ كَالْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ يَجِبُ الْقَطْعُ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَطْعُ) أَيْ فِي الْأَبْوَابِ (فِي غَيْرِ الْمُرَكَّبِ) بِالْجِدَارِ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُرَكَّبَةً فِي الْجِدَارِ فَقَلَعَهَا فَأَخَذَهَا فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَالٍ مُحْرَزٍ لَا فِيمَا يُحْرَزُ بِهِ، وَمَا فِي الْبَيْتِ مِنْ الْمَتَاعِ فَإِنَّمَا يُحْرَزُ بِالْأَبْوَابِ الْمُرَكَّبَةِ فَلَا تَكُونُ مُحْرَزَةً، قِيلَ هَذَا فِي الْبَابِ الْبَرَانِيِّ، وَأَمَّا فِي الْبَابِ الثَّانِي فِي الدَّاخِلِ فَفِيهِ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ بِالْبَرَانِيِّ. وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ خَفِيفًا) ظَاهِرٌ.

ص: 372

(وَلَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ) لِقُصُورٍ فِي الْحِرْزِ (وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ) لِأَنَّهُ يُجَاهِرُ بِفِعْلِهِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا قَطْعَ فِي مُخْتَلِسٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا خَائِنٍ»

وَقَوْلُهُ (وَلَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ) الْخِيَانَةُ هُوَ أَنْ يَخُونَ الْمُودِعُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الشَّيْءِ الْمَأْمُونِ. وَالِانْتِهَابُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى وَجْهِ الْعَلَانِيَةِ قَهْرًا مِنْ ظَاهِرِ بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ. وَالِاخْتِلَاسُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْبَيْتِ سُرْعَةً جَهْرًا، وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.

ص: 373

(وَلَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْقَطْعُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ» وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُحْرَزٌ بِحِرْزِ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ فِيهِ. وَلَهُمَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام

قَالَ (وَلَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ) اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي مَسْأَلَةِ النَّبَّاشِ؛ فَقَالَ عُمَرُ وَعَائِشَةُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه بِوُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَى النَّبَّاشِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ مَنْ بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِ مَرْوَانَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ نَبَّاشًا أَتَى بِهِ مَرْوَانُ. فَسَأَلَ الصَّحَابَةَ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَثْبُتُوا فِيهِ شَيْئًا، فَعَزَّرَهُ أَسْوَاطًا وَلَمْ يَقْطَعْهُ. وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ. وَبِالْأَوَّلِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ (لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَمَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ» وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُحْرَزٌ بِحِرْزٍ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ فِيهِ) أَمَّا أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ، فَإِنَّ إلْبَاسَ الثَّوْبِ لِلْمَيِّتِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ التَّقَوُّمِ، وَأَمَّا أَنَّهُ مُحْرَزٌ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُضَيِّعٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ إذَا كَفَّنَا الصَّبِيَّ مِنْ مَالِهِ لَا يَضْمَنَانِ، وَمَا لَا يَكُونُ مُحْرَزًا يَكُونُ مُضَيَّعًا وَفِيهِ الضَّمَانُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ (بِحِرْزٍ مِثْلِهِ) بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَلِمَا بَيَّنَهُ الطَّحَاوِيُّ: حِرْزُ كُلِّ شَيْءٍ مُعْتَبَرٌ بِحِرْزِ مِثْلِهِ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا سَرَقَ دَابَّةً مِنْ إصْطَبْلٍ يُقْطَعُ، وَلَوْ سَرَقَ لُؤْلُؤَةً مِنْ الْإِصْطَبْلِ لَمْ يُقْطَعْ. وَإِذَا سَرَقَ شَاةً مِنْ الْحَظِيرَةِ يُقْطَعُ، وَلَوْ كَانَ فِيهَا ثَوْبٌ فَسَرَقَهُ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّ الشَّاةَ لَا تُحْرَزُ بِأَحْصَنَ مِنْهَا إذَا كَانَ بَابُهَا بِحَيْثُ يَمْنَعُ إخْرَاجَ الشَّاةِ دُونَ دُخُولِ الْآدَمِيِّ وَإِخْرَاجِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ

ص: 374

«لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي» وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَمَكَّنَتْ فِي الْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَيِّتِ حَقِيقَةً وَلَا لِلْوَارِثِ لِتَقَدُّمِ حَاجَةِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِي نَفْسِهَا نَادِرَةُ الْوُجُودِ وَمَا رَوَاهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ لِمَا قُلْنَا

وَمُحَمَّدٍ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ) بِسُكُونِ الْقَافِ مِنْ أَقْفَلَ الْبَابَ. وَقَوْلُهُ (فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ) بَيَانُهُ مَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيمَا إذَا كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ سَوَاءٌ كَانَ نَبْشُ الْقَبْرِ لِلْكَفَنِ أَوْ سَرَقَ مَالًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ لِأَنَّ بِوَضْعِ الْقَبْرِ فِيهِ اخْتَلَّ صِفَةُ الْحِرْزِ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ، فَإِنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ تَأْوِيلًا بِالدُّخُولِ فِيهِ لِزِيَارَةِ الْقَبْرِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا سَرَقَ مِنْ تَابُوتٍ فِي الْقَافِلَةِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ بِالْقَافِلَةِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ لِاخْتِلَالِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة فِي الْكَفَنِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ.

ص: 375

وَكَذَا إذَا سَرَقَ مِنْ تَابُوتٍ فِي الْقَافِلَةِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ لِمَا بَيَّنَّاهُ.

(وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) لِأَنَّهُ مَالُ الْعَامَّةِ وَهُوَ مِنْهُمْ. قَالَ (وَلَا مِنْ مَالٍ لِلسَّارِقِ فِيهِ شَرِكَةٌ)

وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي» وَالْمَعْقُولُ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَيِّتِ حَقِيقَةً.

وَقَوْلُهُ (وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) ظَاهِرٌ.

ص: 376

لِمَا قُلْنَا.

(وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَسَرَقَ مِنْهُ مِثْلَهَا لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ)، وَالْحَالُّ وَالْمُؤَجَّلُ فِيهِ سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، وَكَذَا إذَا سَرَقَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ يَصِيرُ شَرِيكًا فِيهِ (وَإِنْ سَرَقَ مِنْهُ عُرُوضًا قُطِعَ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ إلَّا بَيْعًا بِالتَّرَاضِي. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِ أَوْ رَهْنًا بِحَقِّهِ. قُلْنَا: هَذَا قَوْلٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ فَلَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ اتِّصَالِ الدَّعْوَى بِهِ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ ظَنٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ دَرَاهِمَ فَسَرَقَ مِنْهُ دَنَانِيرَ قِيلَ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ، وَقِيلَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ النُّقُودَ جِنْسٌ وَاحِدٌ

وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مَالُ الْعَامَّةِ وَهُوَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ لِلسَّارِقِ فِيهِ حَقًّا وَلِمَا قُلْنَا إشَارَةٌ إلَيْهِ.

قَالَ (وَالْحَالُّ وَالْمُؤَجَّلُ فِيهِ) أَيْ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ (سَوَاءٌ) أَمَّا إذَا كَانَ حَالًّا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا فَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَيْسَ إلَّا لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، وَأَمَّا نَفْسُ وُجُوبِ الدَّيْنِ فَثَابِتٌ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ أَيْضًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَا لَا يُبَاحُ لَهُ الْأَخْذُ كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَخْذَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا لِمَكَانِ الْأَجَلِ كَانَ لَهُ شُبْهَةُ الْأَخْذِ وَهِيَ كَافِيَةٌ لِلدَّرْءِ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا سَرَقَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ) يُرِيدُ بِهِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: وَإِنْ ظَفِرَ بِخِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ رَهْنًا بِحَقِّهِ، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ يُورِثُ الشُّبْهَةَ (قُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ) الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَأْخُذَ جِنْسَ حَقِّهِ فِي الدَّيْنِ الْحَالِّ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْوَصْفِ فِي الْحَقِيقَةِ. وَهَذَا عَيْنٌ لَكِنْ تَرَكْنَاهُ فِيهِ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، وَلَا كَذَلِكَ خِلَافُ الْجِنْسِ لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ فَلَا يُتْرَكُ الْقِيَاسُ (وَلَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ اتِّصَالِ الدَّعْوَى بِهِ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ) أَيْ أَنَّهُ أَخَذَهُ قَضَاءً لِحَقِّهِ أَوْ رَهْنًا بِهِ (دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُ) لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ شُبْهَةٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ التَّأْوِيلِ عِنْدَنَا. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ دَرَاهِمَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ لَا يُقْطَعُ) قِيلَ: هُوَ الْأَصَحُّ (لِأَنَّ النُّقُودَ جِنْسٌ وَاحِدٌ) كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالشُّفْعَةِ.

ص: 377

(وَمَنْ سَرَقَ عَيْنًا فَقُطِعَ فِيهَا فَرَدَّهَا ثُمَّ عَادَ فَسَرَقَهَا وَهِيَ بِحَالِهَا لَمْ يُقْطَعْ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُتَكَامِلَةٌ كَالْأُولَى بَلْ أَقْبَحُ لِتَقَدُّمِ الزَّاجِرِ، وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ثُمَّ كَانَتْ السَّرِقَةُ. وَلَنَا أَنَّ الْقَطْعَ أَوْجَبَ سُقُوطَ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ إنْ عَادَتْ حَقِيقَةُ الْعِصْمَةِ بَقِيَتْ شُبْهَةُ السُّقُوطِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ، وَقِيَامُ الْمُوجِبِ وَهُوَ الْقَطْعُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ، وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الْجِنَايَةِ مِنْهُ نَادِرٌ لِتَحَمُّلِهِ مَشَقَّةَ الزَّاجِرِ فَتُعَرَّى الْإِقَامَةُ عَنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجِنَايَةِ،

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ سَرَقَ عَيْنًا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُتَكَامِلَةٌ كَالْأُولَى) وَجْهُ التَّشْبِيهِ هُوَ أَنَّ الْمَتَاعَ بَعْدَ رَدِّهِ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِي حَقِّ السَّارِقِ كَعَيْنٍ أُخْرَى فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، حَتَّى لَوْ غَصَبَهَا أَوْ أَتْلَفَهَا كَانَ ضَامِنًا، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَطْعِ لِمَا أَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ كَامِلُ الْمِقْدَارِ أُخِذَ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ. وَبِهَذِهِ الْأَوْصَافِ لَزِمَهُ الْقَطْعُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ أَقْبَحَ فَظَاهِرٌ لِتَقَدُّمِ الزَّاجِرِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّ الْقَطْعَ أَوْجَبَ سُقُوطَ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ بَعْدُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ بَعْدَ أَوْرَاقٍ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَمَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ» إلَخْ. وَسُقُوطُ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْقَاطِعِ، فَإِنْ قِيلَ: الْعِصْمَةُ وَإِنْ سَقَطَتْ بِالْقَطْعِ لَكِنَّهَا عَادَتْ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَبِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ إنْ عَادَتْ حَقِيقَةُ الْعِصْمَةِ بَقِيَتْ شُبْهَةُ السُّقُوطِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ وَقِيَامِ الْمُوجِبِ وَهُوَ الْقَطْعُ فِيهِ) فَقَوْلُهُ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ تَبَدَّلَ الْمِلْكُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ إلَخْ. وَقَوْلُهُ وَالْمَحَلُّ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا تَبَدَّلَ الْمَحَلُّ كَمَا فِي صُورَةِ الْغَزْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِيمَا يَجِيءُ بِقَوْلِهِ فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ غَزْلًا إلَخْ (وَقَوْلُهُ وَقِيَامُ الْمُوجِبِ) أَيْ مُوجِبُ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا كَانَ قَبْلَ الْقَطْعِ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ) يَعْنِي أَبَا يُوسُفَ مِنْ صُورَةِ الْبَيْعِ (لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ)، وَأَصْلُهُ حَدِيثُ بَرِيرَةَ وَهُوَ مَعْرُوفٌ. وَقَوْلُهُ (أَوْ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْجِنَايَةِ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَنَا

ص: 378

وَصَارَ كَمَا إذَا قَذَفَ الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ الْمَقْذُوفَ الْأَوَّلَ. قَالَ (فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَزْلًا فَسَرَقَهُ وَقُطِعَ فَرَدَّهُ ثُمَّ نُسِجَ فَعَادَ فَسَرَقَهُ قُطِعَ) لِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَبَدَّلَتْ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ عَلَامَةُ التَّبَدُّلِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ،

أَنَّ الْقَطْعَ فَهُوَ دَلِيلٌ آخَرُ. وَتَقْرِيرُهُ تَكْرَارُ الْجِنَايَةِ مِنْهُ بِالْعَوْدِ إلَى سَرِقَةِ مَا قُطِعَ فِيهِ نَادِرٌ جِدًّا لِتَحَمُّلِهِ مَشَقَّةَ الزَّاجِرِ، وَالنَّادِرُ يَعْرَى عَنْ مَقْصُودِ الْإِقَامَةِ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجِنَايَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا (وَصَارَ كَمَا إذَا قَذَفَ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ الْمَقْذُوفَ الْأَوَّلَ) بِالزِّنَا الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ نَظَرًا إلَى عَرَائِهِ عَنْ مَقْصُودِ الْإِقَامَةِ. فَإِنْ قِيلَ: نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا حَدُّ الزِّنَا فِي كَوْنِ الْحَدِّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، حَتَّى أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ مَرَّةً أُخْرَى يُحَدُّ ثَانِيًا، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ خُصُوصًا عَلَى أَصْلِ الْخَصْمِ، وَخُصُومَةُ الْمَقْذُوفِ فِي الْحَدِّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ كَذِبِ الْقَاذِفِ وَدَفْعُ الْعَارِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالْمَرَّةِ الْأُولَى. أُجِيبَ بِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذَا حَدٌّ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِخُصُومَةٍ فَلَا يَتَكَرَّرُ إلَّا بِتَكْرَارِ الْخُصُومَةِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ كَحَدِّ الْقَذْفِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَصُورَةِ الزِّنَا أَنَّ الْحَدَّ فِي الزِّنَا إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَوْفَى، وَالْمُسْتَوْفَى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ الْمُسْتَوْفَى فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَلَاشَى وَاضْمَحَلَّ. وَالْمَسْرُوقُ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْمَسْرُوقُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا) ظَاهِرٌ، وَالْقَطْعِ بِالْجَرِّ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ اتِّحَادِ.

ص: 379

وَإِذَا تَبَدَّلَتْ انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ، وَالْقَطْعُ فِيهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ ثَانِيًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

‌فَصْلٌ فِي الْحِرْزِ وَالْأَخْذِ مِنْهُ

(وَمَنْ سَرَقَ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ) فَالْأَوَّلُ وَهُوَ الْوِلَادُ لِلْبُسُوطَةِ فِي الْمَالِ وَفِي

فَصْلٌ فِي الْحِرْزِ وَالْأَخْذِ مِنْهُ:

لَمَّا كَانَ تَحَقُّقُ السَّرِقَةِ مَوْقُوفًا عَلَى كَوْنِ الْمَسْرُوقِ مَالًا مُحْرَزًا وَفَرَغَ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْحِرْزِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْوَصْفُ، ثُمَّ الْعِلَّةُ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ عَنْ قَرَابَةِ الْوِلَادِ أَمْرَانِ: الْبُسُوطَةُ فِي الْمَالِ وَفِي حَقِّ الدُّخُولِ

ص: 380

الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ. وَالثَّانِي لِلْمَعْنَى الثَّانِي، وَلِهَذَا أَبَاحَ الشَّرْعُ النَّظَرَ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْهَا، بِخِلَافِ الصَّدِيقَيْنِ لِأَنَّهُ عَادَاهُ بِالسَّرِقَةِ. وَفِي الثَّانِي خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّهُ أَلْحَقَهَا بِالْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْعَتَاقِ (وَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مَتَاعَ غَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ، وَلَوْ سَرَقَ مَالَهُ مِنْ بَيْتِ غَيْرِهِ يُقْطَعُ) اعْتِبَارًا لِلْحِرْزِ وَعَدَمِهِ

فِي الْحِرْزِ وَعَنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَمْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْبُسُوطَةُ فِي الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ.

(وَلِهَذَا أَبَاحَ الشَّرْعُ النَّظَرَ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ) الْوَجْهِ وَالْكَفِّ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ (وَفِي الثَّانِي) يَعْنِي وَفِي ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ (خِلَافُ الشَّافِعِيِّ) فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ يَجِبُ الْقَطْعُ (لِأَنَّهُ أَلْحَقَهَا بِالْغَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْعَتَاقِ) وَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مَتَاعَ غَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ لِعَدَمِ الْحِرْزِ (وَلَوْ سَرَقَ مَالَهُ) أَيْ مَالَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ (مِنْ بَيْتِ غَيْرِهِ قُطِعَ) لِوُجُودِ الْحِرْزِ.

ص: 381

(وَإِنْ سَرَقَ مِنْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ قُطِعَ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ، بِخِلَافِ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ لِانْعِدَامِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا عَادَةً. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا قَرَابَةَ وَالْمَحْرَمِيَّةُ بِدُونِهَا لَا تُحْتَرَمُ كَمَا إذَا ثَبَتَتْ بِالزِّنَا وَالتَّقْبِيلِ عَنْ شَهْوَةٍ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّضَاعَ قَلَّمَا يَشْتَهِرُ فَلَا بُسُوطَةَ تَحَرُّزًا عَنْ مَوْقِفِ التُّهْمَةِ بِخِلَافِ النَّسَبِ.

(وَإِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ الْعَبْدُ مِنْ سَيِّدِهِ أَوْ مِنْ امْرَأَةِ سَيِّدِهِ أَوْ مِنْ زَوْجِ سَيِّدَتِهِ لَمْ يُقْطَعْ) لِوُجُودِ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ عَادَةً، وَإِنْ سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ حِرْزٍ الْآخَرِ خَاصَّةً لَا يَسْكُنَانِ فِيهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله لِبُسُوطَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْوَالِ

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ سَرَقَ مِنْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ) ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (وَالْمَحْرَمِيَّةُ بِدُونِهَا) أَيْ بِدُونِ الْقَرَابَةِ (لَا تُحْتَرَمُ) أَيْ لَا تُجْعَلُ حُرْمَةً قَوِيَّةً عَادَةً (كَمَا إذَا ثَبَتَتْ) يَعْنِي الْمَحْرَمِيَّةَ (بِالزِّنَا) فَإِنَّهُ إذَا سَرَقَ مِنْ بَيْتِ بِنْتِ الْمَرْأَةِ الَّتِي زَنَى بِهَا لَا يُعَدُّ شُبْهَةً فِي قَطْعِ الْيَدِ بَلْ تُقْطَعُ وَإِنْ كَانَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ مَوْجُودَةً، وَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَتْ بِالتَّقْبِيلِ عَنْ شَهْوَةٍ. وَقَوْلُهُ (وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِنْ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالزِّنَا (الْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ) يَعْنِي: أَنَّ الْأُمَّ مِنْ الرَّضَاعِ أَشْبَهُ إلَى الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ مِنْ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالزِّنَا، ثُمَّ السَّرِقَةُ مِنْ بَيْتِ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ كَذَلِكَ. وَوَجْهُ الْأَقْرَبِيَّةِ أَنَّ إلْحَاقَ الرَّضَاعِ بِالرَّضَاعِ أَقْرَبُ مِنْ إلْحَاقِهِ بِالزِّنَا. وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ الْقَطْعُ مَعَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ (لِأَنَّ الرَّضَاعَ قَلَّمَا يُشْتَهَرُ فَلَا بُسُوطَةَ تَحَرُّزًا عَنْ مَوْقِفِ التُّهْمَةِ بِخِلَافِ النَّسَبِ).

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ) ظَاهِرٌ.

ص: 382

عَادَةً وَدَلَالَةً وَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ.

(وَلَوْ سَرَقَ الْمَوْلَى مِنْ مُكَاتَبِهِ لَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّ لَهُ فِي أَكْسَابِهِ حَقًّا (وَكَذَلِكَ السَّارِقُ مِنْ الْمَغْنَمِ) لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دَرْءًا وَتَعْلِيلًا.

وَقَوْلُهُ (وَدَلَالَةُ) مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمَّا بَذَلَتْ نَفْسَهَا وَهِيَ أَنْفَسُ مِنْ الْأَمْوَالِ فَلَأَنْ تَبْذُلَ الْمَالَ أَوْلَى (وَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ) فَإِنَّ شَهَادَةَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ تُقْبَلُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ بَلْ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ هَذِهِ الْبُسُوطَةَ لَمَّا مَنَعَتْ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَلَأَنْ تَمْنَعَ الْقَطْعَ وَهُوَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى.

(قَوْلُهُ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه دَرْءًا وَتَعْلِيلًا) يُرِيدُ بِهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ سَرَقَ مِنْ الْمَغْنَمِ فَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ وَقَالَ إنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا.

ص: 383

وَقَالَ (وَالْحِرْزُ عَلَى نَوْعَيْنِ حِرْزٌ لِمَعْنًى فِيهِ كَالْبُيُوتِ وَالدُّورِ. وَحِرْزٌ بِالْحَافِظِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: الْحِرْزُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّ الِاسْتِسْرَارَ لَا يَتَحَقَّقُ دُونَهُ، ثُمَّ هُوَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَكَانِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِإِحْرَازِ الْأَمْتِعَةِ كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ وَالصُّنْدُوقِ وَالْحَانُوتِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْحَافِظِ كَمَنْ جَلَسَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ مَتَاعُهُ فَهُوَ مُحَرَّزٌ بِهِ، وَقَدْ «قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ سَرَقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ» (وَفِي الْمُحَرَّزِ بِالْمَكَانِ لَا يُعْتَبَرُ

قَالَ (وَالْحِرْزُ عَلَى نَوْعَيْنِ) الْحِرْزُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ الْحَصِينِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مَا يُرَادُ بِهِ حِفْظُ الْأَمْوَالِ. وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ (حِرْزٍ لِمَعْنًى فِيهِ) وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ، وَيَخْتَلِفُ، ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَمْوَالِ (كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ وَالصُّنْدُوقِ وَالْحَانُوتِ) وَالْحَظِيرَةِ لِلْغَنَمِ وَالْبَقَرِ (وَحِرْزٍ بِالْحَافِظِ كَمَنْ جَلَسَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ مَتَاعُهُ فَإِنَّهُ مُحْرَزٌ بِهِ) وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَكُّ عَنْ الْآخَرِ (وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ مَنْ سَرَقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ») وَهُوَ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْإِحْرَازَ، وَإِذَا سَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَابٌ أَوْ لَهُ بَابٌ وَلَكِنَّهُ مَفْتُوحٌ وَصَاحِبُهُ لَيْسَ عِنْدَهُ يُقْطَعُ (فَفِي الْحِرْزِ بِالْمَكَانِ لَا يُعْتَبَرُ،

ص: 384

الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ هُوَ الصَّحِيحُ) لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِدُونِهِ وَهُوَ الْبَيْتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَابٌ أَوْ كَانَ وَهُوَ مَفْتُوحٌ حَتَّى يُقْطَعَ السَّارِقُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْبِنَاءَ لِقَصْدِ الْإِحْرَازِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْهُ لِقِيَامِ يَدِهِ فِيهِ قَبْلَهُ. بِخِلَافِ الْمُحَرَّزِ بِالْحَافِظِ حَيْثُ يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهِ، كَمَا أُخِذَ لِزَوَالِ يَدِ الْمَالِكِ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ فَتَتِمُّ السَّرِقَةُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا أَوْ نَائِمًا وَالْمَتَاعُ تَحْتَهُ أَوْ عِنْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَدُّ النَّائِمُ عِنْدَ مَتَاعِهِ حَافِظًا لَهُ فِي الْعَادَةِ.

الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ) فَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتٍ مَأْذُونٍ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ لَكِنْ مَالِكُهُ يَحْفَظُهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْحِرْزُ بِالْمَكَانِ. وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْطَعُ فِيهِ.

وَوَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْحِرْزَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْحِرْزُ بِالْمَكَانِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ وُصُولَ الْيَدِ إلَى الْمَالِ وَيَكُونُ الْمَالُ مُخْتَفِيًا بِهِ، وَأَمَّا الْحِرْزُ بِالْحَافِظِ فَإِنَّهُ وَإِنْ مَنَعَ وُصُولَ الْيَدِ إلَيْهِ لَكِنْ الْمَالُ لَا يَخْتَفِي بِهِ، ثُمَّ الْمُحْرَزُ بِالْمَكَانِ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِهَتْكِهِ إلَّا بِإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ مِنْهُ لِقِيَامِ يَدِهِ قَبْلَهُ، وَالْمُحْرَزُ بِالْحَافِظِ يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهِ إذَا أَخَذَ الْمَالَ (لِزَوَالِ يَدِ الْمَالِكِ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ فَتَتِمُّ السَّرِقَةُ) وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْحِرْزَ بِالْمَكَانِ أَقْوَى

(وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا أَوْ نَائِمًا وَالْمَتَاعُ عِنْدَهُ أَوْ تَحْتَهُ) هُوَ الصَّحِيحُ (لِأَنَّ النَّائِمَ عِنْدَ مَتَاعِهِ يُعَدُّ حَافِظًا لِمَتَاعِهِ) وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا إنَّ صَاحِبَ الْمَتَاعِ إنَّمَا يَكُونُ مُحْرِزًا لِمَتَاعِهِ فِي حَالِ نَوْمِهِ إذَا جَعَلَ الْمَتَاعَ تَحْتَ رَأْسِهِ أَوْ تَحْتَ جَنْبِهِ، أَمَّا إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُحْرِزًا فِي حَالِ نَوْمِهِ، أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْأَصْلِ الْمُسَافِرُ يَنْزِلُ فِي الصَّحْرَاءِ فَيَجْمَعُ مَتَاعَهُ وَيَبِيتُ عَلَيْهِ فَسَرَقَ مِنْهُ رَجُلٌ قُطِعَ. قَالُوا: قَوْلُهُ يَبِيتُ عَلَيْهِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُقْطَعُ إذَا نَامَ عَلَيْهِ، وَمَالَ إلَى الْأَوَّلِ

ص: 385

وَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَضْيِيعٍ، بِخِلَافِ مَا اخْتَارَهُ فِي الْفَتَاوَى. .

قَالَ (وَمَنْ سَرَقَ شَيْئًا مِنْ حِرْزٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ قُطِعَ) لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحَرَّزًا بِأَحَدِ الْحِرْزَيْنِ (وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَالًا مِنْ حَمَّامٍ أَوْ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ) لِوُجُودِ الْإِذْنِ عَادَةً أَوْ حَقِيقَةً فِي الدُّخُولِ فَاخْتَلَّ الْحِرْزُ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ حَوَانِيتُ التُّجَّارِ وَالْخَانَاتُ، إلَّا إذَا سَرَقَ مِنْهَا لَيْلًا لِأَنَّهَا بُنِيَتْ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ يَخْتَصُّ بِالنَّهَارِ (وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَتَاعًا وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ قُطِعَ) لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِالْحَافِظِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ

شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ (الْمُودِعُ وَالْمُسْتَعِيرُ لَا يَضْمَنَانِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَضْيِيعٍ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ فِي الْفَتَاوَى) يَعْنِي قَالَ فِيهَا إنَّهُمَا يَضْمَنَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَقَالُوا إنَّمَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ إذَا وَضَعَ الْوَدِيعَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَنَامَ فِيمَا إذَا نَامَ قَاعِدًا، وَأَمَّا إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْحَضَرِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي السَّفَرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ نَامَ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ حَمَّامٍ) يَعْنِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ (أَوْ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ عَادَةً) يَعْنِي فِي الْحَمَّامِ (أَوْ حَقِيقَةً) يَعْنِي فِي الْبَيْتِ الَّذِي أُذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ (وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي قَوْلِهِ أَوْ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ. وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا سَرَقَ مِنْهَا لَيْلًا) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا قَطْعَ. وَقَوْلُهُ (وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَتَاعًا) ظَاهِرٌ.

ص: 386

مَا بُنِيَ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَالُ مُحَرَّزًا بِالْمَكَانِ، بِخِلَافِ الْحَمَّامِ وَالْبَيْتِ الَّذِي أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ حَيْثُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ بُنِيَ لِلْإِحْرَازِ فَكَانَ الْمَكَانُ حِرْزًا فَلَا يُعْتَبَرُ الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ.

(وَلَا قَطْعَ عَلَى الضَّيْفِ إذَا سَرَقَ مِمَّنْ أَضَافَهُ) لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَبْقَ حِرْزًا فِي حَقِّهِ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِي دُخُولِهِ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً لَا سَرِقَةً.

(وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً فَلَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ الدَّارِ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّ الدَّارَ كُلَّهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِخْرَاجِ مِنْهَا، وَلِأَنَّ الدَّارَ وَمَا فِيهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا مَعْنًى فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ عَدَمِ الْأَخْذِ)(فَإِنْ كَانَتْ دَارٌ فِيهَا مَقَاصِيرُ فَأَخْرَجَهَا مِنْ الْمَقْصُورَةِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ قُطِعَ) لِأَنَّ كُلَّ مَقْصُورَةٍ بِاعْتِبَارِ سَاكِنِهَا حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ (وَإِنْ أَغَارَ إنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الْمَقَاصِيرِ عَلَى مَقْصُورَةٍ فَسَرَقَ مِنْهَا قُطِعَ)

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً) أَيْ مَالًا وَسَمَّى الشَّيْءَ الْمَسْرُوقَ سَرِقَةً مَجَازًا، وَمِنْهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ: إذَا كَانَتْ السَّرِقَةُ مُصْحَفًا.

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا) أَيْ فِي الدَّارِ (مَقَاصِيرُ) يَعْنِي حُجُرَاتٌ وَبُيُوتٌ. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ أَغَارَ إنْسَانٌ) أَيْ دَخَلَ بِسُرْعَةٍ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ نَاقِلًا عَنْ الْمُغْرِبِ: إنْ أَغَارَ لَفْظُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَالضَّمْرِيِّ، وَأَمَّا لَفْظُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ وَإِنْ أَعَانَ إنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الْمَقَاصِيرِ إنْسَانًا عَلَى مَتَاعِ مَنْ يَسْكُنُ مَقْصُورَةً أُخْرَى. وَلَفْظُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ كَذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْإِغَارَةَ فِي بَابِ السَّرِقَةِ غَيْرُ لَائِقَةٍ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ أَخْذُ مَالٍ فِي خَفَاءٍ وَحِيلَةٍ فَلِذَلِكَ سَمَّى السَّارِقَ بِهِ لِأَنَّهُ يُسَارِقُ عَيْنَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَالْإِغَارَةُ أَخْذٌ فِي الْمُجَاهَرَةِ مُكَابَرَةً وَمُغَالَبَةً. وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَقَاصِيرِ يَدْخُلُ عَلَى بَعْضٍ آخَرَ بِاللَّيْلِ جَهْرًا وَمُكَابَرَةً وَمُخْتَفِيًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَلِيقُ بِهِ

ص: 387

لِمَا بَيَّنَّا.

(وَإِذَا نَقَبَ اللِّصُّ الْبَيْتَ فَدَخَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَنَاوَلَهُ آخَرَ خَارِجَ الْبَيْتِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِخْرَاجُ لِاعْتِرَاضِ يَدٍ مُعْتَبَرَةٍ عَلَى الْمَالِ قَبْلَ خُرُوجِهِ. وَالثَّانِي لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ هَتْكُ الْحِرْزِ فَلَمْ تَتِمَّ السَّرِقَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: إنْ أَخْرَجَ الدَّاخِلُ يَدَهُ وَنَاوَلَهَا الْخَارِجَ فَالْقَطْعُ عَلَى الدَّاخِلِ، وَإِنْ أَدْخَلَ الْخَارِجُ يَدَهُ فَتَنَاوَلَهَا مِنْ يَدِ الدَّاخِلِ فَعَلَيْهِمَا الْقَطْعُ. وَهِيَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ تَأْتِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ وَخَرَجَ فَأَخَذَهُ قُطِعَ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَطْعِ

إلَّا الْإِغَارَةُ، وَإِذَا صَحَّ الْمَعْنَى جَازَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْإِغَارَةِ مَرْوِيًّا عَنْ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَسَرَقَ مِنْهَا بَعْدَ قَوْلِهِ أَغَارَ إشَارَةٌ إلَى هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَقْصُورَةٍ إلَخْ.

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا نَقَبَ اللِّصُّ الْبَيْتَ) ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (وَهِيَ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ تَأْتِي بَعْدَ هَذَا) إشَارَةٌ إلَى مَسْأَلَةِ نَقْبِ الْبَيْتِ (قَوْلُهُ وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ) وَاضِحٌ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ يَدَهُ تَثْبُتُ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ ثُمَّ بِالرَّمْيِ إلَى الطَّرِيقِ لَمْ تَزُلْ يَدُهُ حُكْمًا لِعَدَمِ اعْتِرَاضِ

ص: 388

كَمَا لَوْ خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْ، وَكَذَا الْأَخْذُ مِنْ السِّكَّةِ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ. وَلَنَا أَنَّ الرَّمْيَ حِيلَةٌ يَعْتَادُهَا السُّرَّاقُ لِتَعَذُّرِ الْخُرُوجِ مَعَ الْمَتَاعِ، أَوْ لِيَتَفَرَّغَ لِقِتَالِ صَاحِبِ الدَّارِ أَوْ لِلْفِرَارِ وَلَمْ تَعْتَرِضْ عَلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاعْتُبِرَ الْكُلُّ فِعْلًا وَاحِدًا، فَإِذَا خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ فَهُوَ مُضَيِّعٌ لَا سَارِقٌ. قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ حَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ فَسَاقَهُ وَأَخْرَجَهُ) لِأَنَّ سَيْرَهُ مُضَافٌ إلَيْهِ لِسَوْقِهِ.

(وَإِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ جَمَاعَةٌ فَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ الْأَخْذَ قُطِعُوا جَمِيعًا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ الْحَامِلُ وَحْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رحمه الله؛

يَدٍ أُخْرَى عَلَى يَدِهِ. وَإِذَا بَقِيَتْ يَدُهُ حُكْمًا وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِالْأَخْذِ الثَّانِي وَجَبَ الْقَطْعُ (قَوْلُهُ وَلَمْ تَعْتَرِضْ عَلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّ هُنَاكَ يَدًا مُعْتَبَرَةً اعْتَرَضَتْ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَتْ سُقُوطَ الْيَدِ الْحُكْمِيَّةِ لِلسَّارِقِ فَلَمَّا لَمْ تَسْقُطْ الْيَدُ الْحُكْمِيَّةُ هُنَا لَمْ يَرِدْ مَا ذَكَرَهُ زُفَرُ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْحِرْزِ وَلَا مَالَ فِي يَدِهِ. وَقَوْلُهُ (فَاعْتُبِرَ الْكُلُّ) أَيْ إلْقَاؤُهُ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ أَخْذُهُ مِنْهُ (فِعْلًا وَاحِدًا) كَمَا إذَا أَخَذَ الْمَالَ وَخَرَجَ مَعَهُ مِنْ الْحِرْزِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ وَاحِدٌ كَذَلِكَ. هَذَا وَقَوْلُهُ (فَإِذَا خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا لَوْ خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إنْ حَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ) ظَاهِرٌ.

قَالَ (وَإِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ جَمَاعَةٌ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي دُخُولِ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّهُمْ إذَا اشْتَرَكُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ لَكِنْ دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْبَيْتَ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ وَلَمْ يَدْخُلْ غَيْرُهُ فَالْقَطْعُ عَلَى مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ إنْ عُرِفَ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ فَعَلَيْهِمْ التَّعْزِيرُ، وَلَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ الدَّاخِلِ يُعِينُ الدَّاخِلَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَدْخُلُوا الْبَيْتَ لَمْ يَتَأَكَّدْ مُعَاوَنَتُهُمْ بِهَتْكِ الْحِرْزِ بِالدُّخُولِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ اشْتِرَاكُهُمْ لِمَا أَنَّ كَمَالَ هَتْكِ الْحِرْزِ إنَّمَا يَكُونُ بِالدُّخُولِ وَقَدْ وُجِدَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَاعْتُبِرَ اشْتِرَاكُهُمْ، قَالُوا: هَذَا إذَا كَانَ الْآخِذُ الْحَامِلُ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ بِأَنْ كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْآخِذُ الْحَامِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَامِلِ فِي هَذَا الْفِعْلِ تَبَعٌ لِلْآخِذِ الْحَامِلِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ عَلَى مَنْ هُوَ أَصْلٌ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ هُوَ تَبَعٌ وَإِنْ كَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْحَمْلَ وَالْإِخْرَاجَ كَبِيرًا لَكِنْ فِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْكُلِّ وَاحِدٌ وَقَدْ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ

ص: 389

لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ وُجِدَ مِنْهُ فَتَمَّتْ السَّرِقَةُ بِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ الْكُلِّ مَعْنًى لِلْمُعَاوَنَةِ كَمَا فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَادَ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ يَحْمِلَ الْبَعْضُ الْمَتَاعَ وَيَتَشَمَّرَ الْبَاقُونَ لِلدَّفْعِ، فَلَوْ امْتَنَعَ الْقَطْعُ لَأَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ. .

قَالَ (وَمَنْ نَقَبَ الْبَيْتَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَأَخَذَ شَيْئًا لَمْ يُقْطَعْ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْمَالَ مِنْ الْحِرْزِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ فِيهِ، كَمَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي صُنْدُوقِ الصَّيْرَفِيِّ فَأَخْرَجَ الْغِطْرِيفِيَّ. وَلَنَا أَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَمَالُ تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ وَالْكَمَالِ فِي الدُّخُولِ، وَقَدْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ وَالدُّخُولُ هُوَ الْمُعْتَادُ. بِخِلَافِ الصُّنْدُوقِ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ فِيهِ إدْخَالُ الْيَدِ دُونَ الدُّخُولِ، وَبِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَمْلِ الْبَعْضِ الْمَتَاعَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ. قَالَ (وَإِنْ طَرَّ صُرَّةً خَارِجَةً مِنْ الْكُمِّ

فِي فِعْلِ بَعْضِهِمْ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْبَاقِينَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجِبُ الْقَطْعُ إلَّا عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ نَقَبَ الْبَيْتَ) وَاضِحٌ. وَالْغِطْرِيفِيُّ هُوَ الدِّرْهَمُ الْمَنْسُوبُ إلَى غِطْرِيفِ بْنِ عَطَاءٍ الْكِنْدِيِّ أَمِيرِ خُرَاسَانَ أَيَّامَ الرَّشِيدِ، وَالدَّرَاهِمُ الْغِطْرِيفِيَّةُ كَانَتْ مِنْ أَعَزِّ النُّقُودِ بِبُخَارَى كَذَا فِي الْمُغْرِبِ. وَيُؤَيِّدُ وَجْهَ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: اللِّصُّ إذَا كَانَ ظَرِيفًا لَا يُقْطَعُ، قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنْ يَنْقُبَ الْبَيْتَ وَيُدْخِلَ يَدَهُ وَيُخْرِجَ الْمَتَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الصُّنْدُوقِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي صُنْدُوقِ الصَّيْرَفِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْكَمَالُ فِي هَتْكِ الْحِرْزِ شَرْطًا تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ لَمَا وَجَبَ الْقَطْعُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَمْلِ بَعْضِ الْقَوْمِ الْمَتَاعَ دُونَ بَعْضٍ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ. أَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ (وَإِنْ طَرَّ صُرَّةً) الطَّرَّارُ هُوَ الَّذِي يَطُرُّ الْهِمْيَانَ: أَيْ

ص: 390

لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ يُقْطَعُ) لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الرِّبَاطَ مِنْ خَارِجٍ، فَبِالطَّرِّ يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ مِنْ الظَّاهِرِ فَلَا يُوجَدُ هَتْكُ الْحِرْزِ. وَفِي الثَّانِي الرِّبَاطُ مِنْ دَاخِلٍ، فَبِالطَّرِّ يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ وَهُوَ الْكُمُّ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الطَّرِّ حَلُّ الرِّبَاطِ، ثُمَّ الْأَخْذُ فِي الْوَجْهَيْنِ يَنْعَكِسُ الْجَوَابُ لِانْعِكَاسِ الْعِلَّةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يُقْطَعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ إمَّا بِالْكُمِّ أَوْ بِصَاحِبِهِ. قُلْنَا: الْحِرْزُ هُوَ الْكُمُّ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُهُ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ

يَشُقُّهَا وَيَقْطَعُهَا، وَالصُّرَّةُ وِعَاءُ الدَّرَاهِمِ، يُقَالُ صَرَرْت الصُّرَّةَ: أَيْ شَدَدْتهَا، وَالْمُرَادُ بِالصُّرَّةِ هُنَا نَفْسُ الْكُمِّ الْمَشْدُودِ فِيهِ الدَّرَاهِمُ.

وَفِي هَذَا التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِأَنَّ الطَّرَّارَ يُقْطَعُ لَيْسَ بِمُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ مَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ فَطَرَّهَا (قَوْلُهُ فَلَا يُوجَدُ هَتْكُ الْحِرْزِ) يَعْنِي إدْخَالَ الْيَدِ فِي الْكُمِّ وَإِخْرَاجَ الدَّرَاهِمِ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ (فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ مِنْ الْخَارِجِ وَالدَّاخِلِ. وَقَوْلُهُ (يَنْعَكِسُ الْجَوَابُ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ حَلَّ الرِّبَاطَ خَارِجَ الْكُمِّ يَجِبُ الْقَطْعُ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ الرِّبَاطَ الَّذِي كَانَ خَارِجَ الْكُمِّ وَقَعَتْ الدَّرَاهِمُ فِي الْكُمِّ فَاحْتَاجَ فِي أَخْذِ الدَّرَاهِمِ إلَى إدْخَالِ الْيَدِ فِي الْكُمِّ، فَلَمَّا أَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ مِنْ الْكُمِّ فَقَدْ هَتَكَ الْحِرْزَ. بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ حَلَّ الرِّبَاطَ فِي دَاخِلِ الْكُمِّ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ الرِّبَاطَ فِي دَاخِلِ الْكُمِّ بَقِيَتْ الدَّرَاهِمُ خَارِجَ الْكُمِّ ظَاهِرَةً مَحْلُولَةً، فَكَانَ الْأَخْذُ مِنْ خَارِجِ الْكُمِّ فَلَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْتِكْ الْحِرْزَ فِي أَخْذِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ أَدْخَلَ الْيَدَ فِي الْكُمِّ إلَّا أَنَّهُ أَدْخَلَهَا لِحَلِّ الرِّبَاطِ لَا لِأَخْذِ الْمَالِ مِنْ الْكُمِّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ يَنْعَكِسُ الْجَوَابُ لِانْعِكَاسِ الْعِلَّةِ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُهُ) أَيْ لِأَنَّ صَاحِبَ الْكُمِّ يَعْتَمِدُ الْكُمَّ فِي حِفْظِ الْمَالِ لَا قِيَامَ

ص: 391

أَوْ الِاسْتِرَاحَةِ فَأَشْبَهَ الْجُوَالِقَ.

(وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْقِطَارِ بَعِيرًا أَوْ حِمْلًا لَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّزٍ مَقْصُودًا فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّائِقَ وَالْقَائِدَ وَالرَّاكِبَ يَقْصِدُونَ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَنَقْلَ الْأَمْتِعَةِ دُونَ الْحِفْظِ. حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَ الْأَحْمَالِ مَنْ يَتْبَعُهَا لِلْحِفْظِ قَالُوا يُقْطَعُ (وَإِنْ شَقَّ الْحِمْلَ وَأَخَذَ مِنْهُ قُطِعَ) لِأَنَّ الْجُوَالِقَ فِي مِثْلِ هَذَا حِرْزٌ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِوَضْعِ الْأَمْتِعَةِ فِيهِ صِيَانَتَهَا كَالْكُمِّ فَوُجِدَ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ فَيُقْطَعُ (وَإِنْ سَرَقَ جُوَالِقًا فِيهِ مَتَاعٌ وَصَاحِبُهُ يَحْفَظُهُ أَوْ نَائِمٌ عَلَيْهِ قُطِعَ) وَمَعْنَاهُ إنْ كَانَ الْجُوَالِقُ فِي مَوْضِعٍ هُوَ لَيْسَ بِحِرْزٍ كَالطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ حَتَّى يَكُونَ مُحَرَّزًا بِصَاحِبِهِ لِكَوْنِهِ مُتَرَصِّدًا لِحِفْظِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْحِفْظُ الْمُعْتَادُ وَالْجُلُوسُ عِنْدَهُ وَالنَّوْمُ عَلَيْهِ يُعَدُّ حِفْظًا عَادَةً وَكَذَا النَّوْمُ بِقُرْبٍ مِنْهُ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

نَفْسِهِ عِنْدَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ قَصْدَ صَاحِبِ الْكُمِّ مِنْ وُجُودِهِ عِنْدَ الْمَالِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: قَطْعِ الْمَسَافَةِ، أَوْ الِاسْتِرَاحَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ الْمَشْيِ أَوْ فِي غَيْرِ حَالَتِهِ، فَفِي الْأَوَّلِ قَصْدُهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ لَا حِفْظُ الْمَالِ، وَفِي الثَّانِي قَصْدُهُ الِاسْتِرَاحَةُ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ شَقَّ الْجُوَالِقَ الَّذِي عَلَى إبِلٍ تَسِيرُ وَأَخَذَ الدَّرَاهِمَ مِنْهُ يُقْطَعُ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ اعْتَمَدَ الْجُوَالِقَ حِرْزًا لَهَا فَكَانَ سَارِقُ الدَّرَاهِمِ مِنْ الْجُوَالِقِ هَاتِكًا لِلْحِرْزِ فَيُقْطَعُ. وَمَنْ سَرَقَ الْجُوَالِقَ بِمَا فِيهِ وَالْجُوَالِقُ عَلَى إبِلٍ تَسِيرُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ السَّائِقَ وَالْقَائِدَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِفِعْلِهِ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَالسَّوْقَ لَا الْحِفْظَ فَلَمْ يَصِرْ الْجُوَالِقُ مُحْرَزًا بِهِ مَقْصُودًا عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْقِطَارِ بَعِيرًا) الْقِطَارُ: الْإِبِلُ تَقْطُرُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ وَالْجَمْعُ قُطُرٌ، وَمِنْهُ تَقَاطَرَ الْقَوْمُ إذَا جَاءُوا أَرْسَالًا.

ص: 392

وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَصَاحِبُهُ نَائِمٌ عَلَيْهِ أَوْ حَيْثُ يَكُونُ حَافِظًا لَهُ، وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

‌فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ وَإِثْبَاتِهِ

قَالَ (وَيُقْطَعُ يَمِينَ السَّارِقِ مِنْ الزَّنْدِ وَيُحْسَمُ) فَالْقَطْعُ لِمَا تَلَوْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَالْيَمِينُ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، وَمِنْ الزَّنْدِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْيَدَ إلَى الْإِبِطِ، وَهَذَا الْمَفْصِلُ: أَعْنِي الرُّسْغَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ،

وَقَوْلُهُ (وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ) يُرِيدُ قَوْلَهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ وَإِثْبَاتِهِ):

لَمَّا ذَكَرَ وُجُوبَ قَطْعِ الْيَدِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ وَهَذَا الْفَصْلُ فِي بَيَانِهِ. الزَّنْدُ مَفْصِلُ طَرَفِ الذِّرَاعِ مِنْ الْكَفِّ. وَالْحَسْمُ مِنْ حَسَمَ الْعِرْقَ: كَوَاهُ بِحَدِيدَةٍ مُحْمَاةٍ لِئَلَّا يَسِيلَ دَمُهُ (فَالْقَطْعُ لِمَا تَلَوْنَاهُ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الْآيَةَ (وَالْيَمِينُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ) فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا وَهِيَ مَشْهُورَةٌ جَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهَا عَلَى الْكِتَابِ وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأُصُولِ (وَمِنْ الزَّنْدِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْيَدَ إلَى الْإِبِطِ، وَهَذَا الْمَفْصِلُ: أَعْنِي الرُّسْغَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ) مِنْ حَيْثُ الْقَطْعُ وَالْمَقْطُوعُ لِكَوْنِهِ أَقَلَّ، فَقَوْلُنَا مِنْ حَيْثُ الْقَطْعُ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ إنَّ الْمُسْتَحَقَّ قَطْعُ الْأَصَابِعِ فَقَطْ لِأَنَّ بَطْشَهُ كَانَ بِالْأَصَابِعِ فَتُقْطَعُ أَصَابِعُهُ لِيَزُولَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْبَطْشِ بِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ قَطْعًا مُكَرَّرًا، وَفِيمَا قُلْنَا قَطْعٌ وَاحِدٌ عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ الْيَدُ، وَقَوْلُنَا مِنْ حَيْثُ الْمَقْطُوعُ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ تُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ مِنْ الْمَنْكِبِ لِأَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِلْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْآبَاطِ لِأَنَّ فِيهِ

ص: 393

كَيْفَ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنْ الزَّنْدِ، وَالْحَسْمُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَاقْطَعُوهُ وَاحْسِمُوهُ» وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْسَمْ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ لَا مُتْلِفٌ

تَكْثِيرًا لِلْمَقْطُوعِ.

وَقَوْلُهُ (كَيْفَ وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَطْعِ السَّارِقِ مِنْ الزَّنْدِ وَالْحَسْمِ») رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا سَرَقَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: مَا إخَالُهُ سَرَقَ. فَقَالَ السَّارِقُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ. ثُمَّ احْسِمُوهُ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْسَمْ) ظَاهِرٌ.

ص: 394

(فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا لَمْ يُقْطَعْ وَخُلِّدَ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَتُوبَ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَيُعَزَّرُ أَيْضًا، ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ رحمهم الله. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فِي الثَّالِثَةِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَفِي الرَّابِعَةِ تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُمْنَى لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ» وَيُرْوَى مُفَسَّرًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ، وَلِأَنَّ الثَّالِثَةَ مِثْلُ الْأُولَى فِي كَوْنِهَا جِنَايَةً بَلْ فَوْقَهَا فَتَكُونُ أَدْعَى إلَى شَرْعِ الْحَدِّ.

وَقَوْلُهُ (وَخُلِّدَ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَتُوبَ) حَاصِلُهُ أَنَّ السَّارِقَ لَا يُؤْتَى عَلَى أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ بِالْقَطْعِ؛ وَإِنَّمَا يُقْطَعُ يَمِينُهُ أَوَّلَ سَرِقَةٍ. وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى ثَانِيهَا، ثُمَّ يُعَزَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُحْبَسُ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ الرَّابِعَةِ يُحْبَسُ. وَعِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ يُقْتَلُ. وَقَوْلُهُ (وَيُرْوَى مُفَسَّرًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ هُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى. وَفِي الثَّانِيَةِ الرِّجْلُ الْيُسْرَى، وَفِي الثَّالِثَةِ الْيَدُ الْيُسْرَى، وَفِي الرَّابِعَةِ الرِّجْلُ الْيُمْنَى» (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الثَّالِثَةَ) ظَاهِرٌ.

ص: 395

وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِيهِ: إنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا وَرِجْلًا يَمْشِي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 396

عَلَيْهَا، بِهَذَا حَاجَّ بَقِيَّةَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَحَجَّهُمْ فَانْعَقَدَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ إهْلَاكٌ مَعْنًى لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ، وَلِأَنَّهُ نَادِرُ الْوُجُودِ وَالزَّجْرُ فِيمَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُسْتَوْفَى مَا أَمْكَنَ جَبْرًا لِحَقِّهِ. وَالْحَدِيثُ طَعَنَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى السِّيَاسَةِ

قَوْلُهُ فَحَجَّهُمْ) أَيْ غَلَبَهُمْ فِي الْحُجَّةِ، يُقَالُ حَاجَّهُ فَحَجَّهُ: أَيْ نَاظَرَهُ فِي الْحُجَّةِ فَغَلَبَهُ بِهَا (وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: لَوْ قَطَعَ رَجُلٌ أَرْبَعَةَ أَطْرَافٍ اُقْتُصَّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ هُنَاكَ مَوْجُودٌ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا وَرِجْلٌ يَمْشِي عَلَيْهَا. وَفِيهِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَنَادِرُ الْوُجُودِ. وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْعِبَادِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ يُرَاعَى فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ بِالنَّصِّ (وَالْحَدِيثُ) الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ دَلِيلًا عَلَى دَعْوَاهُ هَذِهِ (طَعَنَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ) قَالَ: تَتَبَّعْنَا هَذِهِ الْآثَارَ فَلَمْ نَجِدْ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا أَشَارَ بِهَا إلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ: قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إنَّهُ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَقِينَاهُ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ يُنْكِرُونَهُ وَيَقُولُونَ: لَمْ نَجِدْ لَهُ أَصْلًا (أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى السِّيَاسَةِ) بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْقَتْلِ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ.

ص: 397

(وَإِذَا كَانَ السَّارِقُ أَشَلَّ الْيَدِ الْيُسْرَى أَوْ أَقْطَعَ أَوْ مَقْطُوعَ الرِّجْلِ الْيُمْنَى لَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بَطْشًا أَوْ مَشْيًا، وَكَذَا إذَا كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى شَلَّاءَ لِمَا قُلْنَا (وَكَذَا إذَا كَانَتْ إبْهَامُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً أَوْ شَلَّاءَ أَوْ الْأُصْبُعَانِ مِنْهَا سِوَى الْإِبْهَامِ) لِأَنَّ قِوَامَ الْبَطْشِ بِالْإِبْهَامِ (فَإِنْ كَانَتْ أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ سِوَى الْإِبْهَامِ مَقْطُوعَةً أَوْ شَلَّاءَ قُطِعَ) لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَاحِدَةِ لَا يُوجِبُ خَلَلًا ظَاهِرًا فِي الْبَطْشِ، بِخِلَافِ فَوَاتِ الْأُصْبُعَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَتَنَزَّلَانِ مَنْزِلَةَ الْإِبْهَامِ فِي نُقْصَانِ الْبَطْشِ.

قَالَ (وَإِذَا قَالَ الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ اقْطَعْ يَمِينَ هَذَا فِي سَرِقَةٍ سَرَقَهَا فَقَطَعَ يَسَارَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ وَيَضْمَنُ فِي الْعَمْدِ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: يَضْمَنُ فِي الْخَطَأِ أَيْضًا وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالْمُرَادُ بِالْخَطَأِ هُوَ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ،

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بَطْشًا) يَعْنِي إنْ كَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى مُؤَفَّةً (أَوْ مَشْيًا) إنْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى كَذَلِكَ وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ.

قَالَ (وَإِذَا قَالَ الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ اقْطَعْ يَمِينَ هَذَا السَّارِقِ) الْحَدَّادُ هُوَ الَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ فَعَّالٌ مِنْهُ كَالْجَلَّادِ مِنْ الْجَلْدِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ يَمِينَ هَذَا لِأَنَّهُ إذَا قَالَ اقْطَعْ يَدَهُ مُطْلَقًا فَقَطَعَ الْحَدَّادُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ. فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِقَطْعِ الْيَدِ وَالْيُسْرَى يَدٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ مَا إذَا قَطَعَ الْيَمِينَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ اقْطَعْ. وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْيَدِ قَدْ سَقَطَتْ بِقَضَاءِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ. فَالْقَاطِعُ اسْتَوْفَى يَدًا لَا قِيمَةَ لَهَا فَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، لَكِنْ أَدَّبَهُ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ حِينَ قَطَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ الْإِمَامُ بِهِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.

ص: 398

وَأَمَّا الْخَطَأُ فِي مَعْرِفَةِ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ لَا يُجْعَلُ عَفْوًا. وَقِيلَ يُجْعَلُ عُذْرًا أَيْضًا. لَهُ أَنَّهُ قَطَعَ يَدًا مَعْصُومَةً وَالْخَطَأُ فِي حَقِّ الْعِبَادِ غَيْرُ مَوْضُوعٍ فَيَضْمَنُ. قُلْنَا إنَّهُ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ، إذْ لَيْسَ فِي النَّصِّ تَعْيِينُ الْيَمِينِ، وَالْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ مَوْضُوعٌ. وَلَهُمَا أَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا مَعْصُومًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا تَأْوِيلٍ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الظُّلْمَ فَلَا يُعْفَى وَإِنْ كَانَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ لِلشُّبْهَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ أَتْلَفَ وَأَخْلَفَ مِنْ جِنْسِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فَلَا يُعَدُّ إتْلَافًا كَمَنْ شَهِدَ عَلَى غَيْرِهِ بِبَيْعِ مَالِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَطَعَهُ غَيْرُ الْحَدَّادِ لَا يَضْمَنُ أَيْضًا هُوَ الصَّحِيحُ.

وَقَوْلُهُ (بِغَيْرِ حَقٍّ) دَلِيلُهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْيَمِينِ فِي السَّرِقَةِ وَهُوَ أَيْضًا لَمْ يَقْطَعْ يَسَارَ أَحَدٍ لِيَكُونَ حَقُّ الْقَطْعِ الْيَسَارِ قِصَاصًا (وَلَا تَأْوِيلَ) حَيْثُ لَمْ يُخْطِئْ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا تَعَمَّدَ فِي قَطْعِ الْيَسَارِ (فَلَا يُعْفَى) كَمَا لَوْ قَطَعَ رِجْلَهُ أَوْ أَنْفَهُ (وَإِنْ كَانَ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ) لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُعَذَّرُ فِيمَا إذَا أَخْطَأَ إذَا كَانَ الدَّلِيلُ ظَاهِرًا كَالْحُكْمِ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا (وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ لِلشُّبْهَةِ) وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يُوجِبُ تَنَاوُلَ الْيَدَيْنِ جَمِيعًا فَصَارَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْقِصَاصِ، إذْ الْقِصَاصُ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ، بِخِلَافِ ضَمَانِ الْمَالِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) تَقْرِيرُهُ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا مَعْصُومًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا تَأْوِيلَ، لَكِنَّهُ أَخْلَفَ مِنْ جِنْسِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فَلَا يُعَدُّ إتْلَافًا (وَعَلَى هَذَا) التَّقْرِيرِ (لَوْ قَطَعَهُ غَيْرُ الْحَدَّادِ) أَيْ لَوْ قَطَعَ يَسَارَ السَّارِقِ غَيْرُ الْحَدَّادِ بَعْدَ حُكْمِ الْقَاضِي بِقَطْعِ يَمِينِهِ (لَا يَضْمَنُ) شَيْئًا لِأَنَّ امْتِنَاعَ قَطْعِ الْيَمِينِ بَعْدَ قَطْعِ الْيَسَارِ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَاطِعُ الْيَسَارِ مَأْمُورَ الْحَاكِمِ أَوْ أَجْنَبِيًّا غَيْرَ مَأْمُورٍ

(وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَقَالَ فِيهِ: وَلَوْ قَطَعَ غَيْرُهُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَإِنَّ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصَ وَفِي الْخَطَإِ الدِّيَةَ، وَسَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ فِي الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ أَدَّى إلَى الِاسْتِهْلَاكِ، وَيَرُدُّ السَّرِقَةَ إنْ كَانَ قَائِمًا وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ فِي الْهَالِكِ

ص: 399

وَلَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ يَسَارَهُ وَقَالَ هَذِهِ يَمِينِي لَا يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ قَطْعَهُ بِأَمْرِهِ. ثُمَّ فِي الْعَمْدِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ حَدًّا. وَفِي الْخَطَأِ كَذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَعَلَى طَرِيقَةِ الِاجْتِهَادِ لَا يَضْمَنُ

(وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ فَيُطَالِبُ بِالسَّرِقَةِ) لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْإِقْرَارِ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ لَا تَظْهَرُ إلَّا بِخُصُومَتِهِ،

قَوْلُهُ وَلَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ يَسَارَهُ) ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ ثُمَّ فِي الْعَمْدِ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى السَّارِقِ (ضَمَانُ الْمَالِ) الْمَسْرُوقِ إنْ كَانَ هَالِكًا (لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ حَدًّا) وَإِنَّمَا خَصَّ أَبَا حَنِيفَةَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى السَّارِقِ بِالِاتِّفَاقِ دَفْعًا لِمَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ قَطْعَ الْيَسَارِ وَقَعَ حَدًّا عِنْدَهُ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْحَدَّادِ، فَأَزَالَ ذَلِكَ بِبَيَانِ وُجُوبِ الضَّمَانِ إيذَانًا بِأَنَّ الْقَطْعَ لَمْ يَقَعْ حَدًّا، إذْ الْقَطْعُ حَدًّا وَالضَّمَانُ لَا يَجْتَمِعَانِ وَعَدَمُ الضَّمَانِ عَلَى الْحَدَّادِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَخْلَفَ خَيْرًا لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَطْعَ وَقَعَ حَدًّا، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِهِمَا فَظَاهِرٌ لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ لِأَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الْحَدَّادَ فِي الْعَمْدِ فَلَا يَقَعُ الْقَطْعُ حَدًّا لَا مَحَالَةَ فَيَضْمَنُ السَّارِقُ لِعَدَمِ لُزُومِ الْجَمْعِ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالْقَطْعِ حَدًّا.

وَقَوْلُهُ (وَفِي الْخَطَإِ كَذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ) أَيْ عَلَى طَرِيقَةِ أَنَّ الْقَطْعَ لَمْ يَقَعْ حَدًّا لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقَعْ حَدًّا لَمْ يُوجَدْ مَا يُنَافِي الضَّمَانَ وَالْمُقْتَضِي وَهُوَ الْإِتْلَافُ مَوْجُودٌ فَيَجِبُ الضَّمَانُ أَلْبَتَّةَ (وَعَلَى طَرِيقَةِ الِاجْتِهَادِ) الَّذِي قُلْنَا فِي طَرِيقِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ ضَمَانَ الْيَدِ عَلَى الْحَدَّادِ بَطَلَ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ (لَا يَضْمَنُ) السَّارِقُ الْمَالَ لِوُقُوعِ الْقَطْعِ مَوْقِعَ الْحَدِّ بِالِاجْتِهَادِ وَالضَّمَانُ وَالْقَطْعُ حَدًّا لَا يَجْتَمِعَانِ.

قَالَ (وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اشْتِرَاطِ حُضُورِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَطَلَبِهِ السَّرِقَةَ لِلْقَطْعِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ حِسْبَةً

ص: 400

وَكَذَا إذَا غَابَ عِنْدَ الْقَطْعِ عِنْدَنَا، لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ

(وَلِلْمُسْتَوْدَعِ وَالْغَاصِبِ وَصَاحِبِ الرِّبَا أَنْ يَقْطَعُوا السَّارِقَ مِنْهُمْ) وَلِرَبِّ الْوَدِيعَةِ أَنْ يَقْطَعَهُ أَيْضًا، وَكَذَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ.

وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَوْدَعِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُضَارِبُ وَالْمُسْتَبْضِعُ وَالْقَابِضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمُرْتَهِنُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ يَدٌ حَافِظَةٌ سِوَى الْمَالِكِ، وَيُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ فِي السَّرِقَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ إنَّمَا يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ

كَالزِّنَا، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ أَقَرَّ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَنْبَنِي عَلَى الدَّعْوَى فِي الْحَالِ، فَمَا لَمْ يَحْضُرْ هُوَ أَوْ نَائِبُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ غَابَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ.

وَعِنْدَنَا حُضُورُهُ شَرْطٌ فِي الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ جَمِيعًا عِنْدَ الْأَدَاءِ وَعِنْدَ الْقَطْعِ، لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ لِقِيَامِ احْتِمَالِ رَدِّ الْإِقْرَارِ وَالْإِقْرَارُ لَهُ بِالْمِلْكِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَبِهِ تَنْتَفِي السَّرِقَةُ، وَكُلُّ مَا هُوَ شَرْطُ الشَّيْءِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ فَكَانَ الْقَطْعُ قَبْلَ حُضُورِهِ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ مَعَ قِيَامِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَكَلَامُهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ خَلَا أَنَّ فِيهِ تَوَهُّمَ التَّكْرَارِ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ لَا تَظْهَرُ إلَّا بِخُصُومَةٍ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِهَا: أَيْ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ وَهِيَ الْجِنَايَةُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ بِأَنَّ الْأَوَّلَ تَعْلِيلٌ لِاشْتِرَاطِ الْحُضُورِ، وَالثَّانِيَ لِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ قَدْ تَقَدَّمَ.

(قَوْلُهُ وَصَاحِبُ الرِّبَا) قِيلَ صُورَتُهُ: رَجُلٌ بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَقَبَضَهُ فَسُرِقَ مِنْهُ يُقْطَعُ السَّارِقُ بِخُصُومَتِهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَاقِدَ الْآخَرَ مِنْ عَاقِدَيْ الرِّبَا فَكَأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مِلْكٌ وَلَا يَدٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ، بِخِلَافِ رَبِّ الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَإِنَّ الْمِلْكَ لَهُمَا بَاقٍ (قَوْلُهُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ يَدٌ حَافِظَةٌ) يُرِيدُ مُتَوَلِّيَ الْوَقْفِ وَالْأَبَ وَالْوَصِيَّ، وَلَوْ سَرَقَ سَارِقٌ مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ وَخَاصَمَ الْمَالِكُ قُطِعَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ السَّرِقَةُ مِنْ عِنْدِهِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وَقَدْ اخْتَلَفَ نُسَخُ الْهِدَايَةِ فِيهِ، فَفِي بَعْضِهَا إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ إنَّمَا يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ حَالَ قِيَامِ الرَّهْنِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ بَعْدَهُ، وَفِي بَعْضِهَا حَالَ قِيَامِ الرَّهْنِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ. وَاسْتَصْوَبَهُ الشَّارِحُونَ نَقْلًا وَعَقْلًا؛ أَمَّا نَقْلًا فَلِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ

ص: 401

حَالَ قِيَامِ الرَّهْنِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْعَيْنِ بِدُونِهِ. وَالشَّافِعِيُّ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ أَنْ لَا خُصُومَةَ لِهَؤُلَاءِ فِي الِاسْتِرْدَادِ عِنْدَهُ. وَزُفَرُ يَقُولُ: وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ ضَرُورَةُ الْحِفْظِ فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ الصِّيَانَةِ. وَلَنَا أَنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ فِي نَفْسِهَا، وَقَدْ ظَهَرَتْ عِنْدَ الْقَاضِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَقِيبَ خُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ مُطْلَقًا إذْ الِاعْتِبَارُ لِحَاجَتِهِمْ إلَى الِاسْتِرْدَادِ فَيَسْتَوْفِي الْقَطْعَ.

الْإِيضَاحِ وَالْمُحِيطِ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ: إذَا سُرِقَ الرَّهْنُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَقْطَعَهُ وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْطَعَهُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى أَخْذِ الرَّهْنِ. قَالَ: وَإِنْ قَضَى الرَّاهِنُ الدَّيْنَ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ. وَكَذَا فِي الْإِيضَاحِ.

وَأَمَّا عَقْلًا فَلِأَنَّ السَّارِقَ إنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ بِخُصُومَةِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ ذَلِكَ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّهْنِ الْمَرْهُونُ، وَالضَّمِيرُ فِي (بِدُونِهِ) رَاجِعٌ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَعَلَى النُّسْخَةِ الْأُولَى إلَى قِيَامِ الرَّهْنِ فَكَانَ شَرْطُ جَوَازِ الْقَطْعِ بِخُصُومَةِ الرَّاهِنِ أَمْرَيْنِ: قِيَامَ الْمَرْهُونِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا سَبِيلَ لِلرَّاهِنِ عَلَيْهِ لِبُطْلَانِ دَيْنِهِ عَنْهُ.

وَقَضَاءُ الدَّيْنِ لِحُصُولِ وِلَايَةِ الِاسْتِرْدَادِ حِينَئِذٍ، وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ اتَّفَقَا فِي الْحُكْمِ وَاخْتَلَفَا فِي تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ (فَالشَّافِعِيُّ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ أَنْ لَا خُصُومَةَ لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي الِاسْتِرْدَادِ عِنْدَهُ) إذَا جَحَدَ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَالِكُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ لَا يُلْتَفَتُ إلَى خُصُومِهِمْ (وَزُفَرُ يَقُولُ: وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي الِاسْتِرْدَادِ ضَرُورَةُ الْحِفْظِ) وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا (فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ لِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي ظُهُورِهَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ (تَفْوِيتَ الصِّيَانَةِ) لِأَنَّ الْمَالَ مَضْمُونٌ عَلَى السَّارِقِ، فَلَوْ اسْتَوْفَى الْقَطْعَ سَقَطَ الضَّمَانُ فَيَكُونُ فِيهِ تَضْيِيعٌ لَا صِيَانَةٌ وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ (وَلَنَا أَنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ فِي نَفْسِهَا) وَهَذَا ظَاهِرٌ (وَ) السَّرِقَةُ (قَدْ ظَهَرَتْ عِنْدَ الْقَاضِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَقِيبَ خُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ مُطْلَقًا) أَيْ غَيْرِ ضَرُورِيَّةٍ، فَالْمُوجِبُ لِلْقَطْعِ قَدْ ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَإِنَّمَا قَالَ إنَّ الْخُصُومَةَ غَيْرُ ضَرُورِيَّةٍ (لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى اسْتِرْدَادِ الْيَدِ)

ص: 402

وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْخُصُومَةِ إحْيَاءُ حَقِّهِ وَسُقُوطُ الْعِصْمَةِ ضَرُورَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِشُبْهَةٍ مَوْهُومَةِ الِاعْتِرَاضِ كَمَا إذَا حَضَرَ الْمَالِكُ وَغَابَ الْمُؤْتَمَنُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ

وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْمَالِكِ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ خُصُومَةِ الْمَالِكِ لِحَاجَتِهِ إلَى إظْهَارِ السَّرِقَةِ لِإِعَادَةِ الْيَدِ عَلَى الْمَحَلِّ تَحْصِيلًا لِلْأَغْرَاضِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْيَدِ. وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي هَؤُلَاءِ، أَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُسْتَعِيرُ فَلِاحْتِيَاجِهِمَا إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمَحَلِّ، وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ وَالْمُودَعُ فَلِلرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ تَخْلِيصًا لِلذِّمَّةِ عَنْ عُهْدَةِ الضَّمَانِ وَالْتِزَامِ الْحِفْظِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخُصُومَةَ مُطْلَقَةٌ انْدَفَعَ مَا قَالَ زُفَرُ إنَّهَا ضَرُورَةُ الْحِفْظِ فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْخُصُومَةِ) أَيْ مَقْصُودُ صَاحِبِ الْيَدِ (إحْيَاءُ حَقِّ الْمَالِكِ وَسُقُوطُ) الضَّمَانِ بِسُقُوطِ (الْعِصْمَةِ) مِنْ ضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَكَانَ ضِمْنِيًّا وَالضِّمْنِيُّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ زُفَرَ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ الصِّيَانَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِشُبْهَةٍ مَوْهُومَةِ الِاعْتِرَاضِ) جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ أَنْ يُقَالَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ السَّارِقُ بِدُونِ حَضْرَةِ الْمَالِكِ كَمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةٍ قُبَيْلَ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ أَقَرَّ لِلسَّارِقِ بِالْمَسْرُوقِ. وَتَوْجِيهُ الْجَوَابِ هَذِهِ شُبْهَةٌ مَوْهُومَةُ الِاعْتِرَاضِ فَلَا تُعْتَبَرُ (كَمَا إذَا حَضَرَ الْمَالِكُ وَغَابَ الْمُؤْتَمَنُ) فَإِنَّ فِيهِ شُبْهَةً مَوْهُومَةً أَيْضًا وَهُوَ أَنْ يَحْضُرَ الْمُؤْتَمَنُ وَيَقُولَ إنَّهُ كَانَ ضَيْفًا عِنْدِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي سُرِقَ ذَلِكَ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِطْ حُضُورَ الْمُؤْتَمَنِ بَلْ يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ

ص: 403

فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ شُبْهَةُ الْإِذْنِ فِي دُخُولِ الْحِرْزِ ثَابِتَةً

(وَإِنْ قُطِعَ سَارِقٌ بِسَرِقَةٍ فَسُرِقَتْ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا لِرَبِّ السَّرِقَةِ أَنْ يَقْطَعَ السَّارِقَ الثَّانِي) لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ السَّارِقِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالْهَلَاكِ فَلَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً فِي نَفْسِهَا، وَلِلْأَوَّلِ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي الِاسْتِرْدَادِ فِي رِوَايَةٍ لِحَاجَتِهِ إذْ الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ

فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) وَقَيَّدَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازًا عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَالِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ حَالَ غَيْبَةِ الْمُودِعِ لِأَنَّ السَّارِقَ لَمْ يَسْرِقْ مِنْ الْمَالِكِ وَإِنَّمَا سُرِقَ مِنْ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالِبَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَبَيْنَ مَا إذَا أَقَرَّ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ فِي غَيْبَةِ الْمَالِكِ حَيْثُ لَا يُقْطَعُ مَا لَمْ يَحْضُرْ مَعَ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ إنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ فِي نَفْسِهَا وَقَدْ ظَهَرَتْ عِنْدَ الْقَاضِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ الْإِقْرَارُ مَوْجُودَةٌ وَشُبْهَةُ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ أَوْ الْإِقْرَارِ بِالْمَسْرُوقِ لِلسَّارِقِ مَوْهُومَةُ الِاعْتِرَاضِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقْطَعُ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ قَدْ ظَهَرَتْ فِيهِ السَّرِقَةُ عَقِيبَ خُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ فَلَمْ تُؤَثِّرْ الشُّبْهَةُ فِي دَفْعِ الْعِلَّةِ عَنْ مُقْتَضَاهَا لِقُوَّتِهَا، بِخِلَافِ صُورَةِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ. .

قَالَ (وَإِنْ قُطِعَ سَارِقٌ بِسَرِقَةٍ) الْمَسْرُوقُ إذَا سُرِقَ مِنْ السَّارِقِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ قُطِعَ يَدُهُ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ لَهُ: أَيْ لِلسَّارِقِ وَلَا لِلْمَالِكِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَ السَّارِقِ الثَّانِي، أَمَّا السَّارِقُ فَلِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا (أَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَا يَجِبَ الضَّمَانُ بِالْهَلَاكِ فَلَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً فِي نَفْسِهَا) وَالثَّانِيَ أَنَّ يَدَهُ لَمْ تَبْقَ مِنْ الْأَيْدِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ مِلْكٍ وَضَمَانٍ الْوَدِيعَةٍ وَخُصُومَةٍ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْقَطْعِ وَأَمَّا الْمَالِكُ فَلِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ.

وَقَوْلُهُ (وَلِلْأَوَّلِ) أَيْ السَّارِقِ الْأَوَّلِ (وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي الِاسْتِرْدَادِ فِي رِوَايَةٍ لِحَاجَتِهِ إذْ الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ) وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ لِكَوْنِ الْيَدِ الصَّحِيحَةِ عِبَارَةً عَنْ أَنْ تَكُونَ يَدَ مَالِكٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ أَمَانَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ كَانَ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ، وَكَذَا خُرُوجُ يَدِهِ عَنْ كَوْنِهَا يَدَ ضَمَانٍ كَانَ لِذَلِكَ وَقَدْ انْتَفَى ذَلِكَ فَصَارَ كَالْغَاصِبِ وَالدَّرْءُ بِالشُّبْهَةِ

ص: 404

(وَلَوْ سَرَقَ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يُقْطَعَ الْأَوَّلُ أَوْ بَعْدَ مَا دُرِئَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْأَوَّلِ) لِأَنَّ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ ضَرُورَةُ الْقَطْعِ وَلَمْ يُوجَدْ فَصَارَ كَالْغَاصِبِ

(وَمَنْ)(سَرَقَ سَرِقَةً فَرَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ قَبْلَ الِارْتِفَاعِ) إلَى الْحَاكِمِ (لَمْ يُقْطَعْ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْطَعُ اعْتِبَارًا بِمَا إذَا رَدَّهُ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ حُجَّةَ ضَرُورَةِ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ الْخُصُومَةُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ لِانْتِهَاءِ الْخُصُومَةِ لِحُصُولِ مَقْصُودِهَا فَتَبْقَى تَقْدِيرًا

لِعَدَمِ الْقَطْعِ هَاهُنَا وَلِهَذَا قَرَنَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهُمَا.

(وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً فَرَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ) فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهَا (قَبْلَ الِارْتِفَاعِ إلَى الْحَاكِمِ) أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يُقْطَعْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْطَعُ اعْتِبَارًا بِمَا إذَا رَدَّهُ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ) بِجَامِعِ أَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ اللَّهِ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْخُصُومَةِ فَكَانَ مَا قَبْلَ الِارْتِفَاعِ وَمَا بَعْدَهُ سَوَاءً (وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ حُجَّةً ضَرُورَةَ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ) يَعْنِي أَنَّ السَّرِقَةَ تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ ضَرُورَةِ قَطْعِ الْخُصُومَةِ وَقَطْعُ الْخُصُومَةِ بِدُونِهَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ (وَالْخُصُومَةُ قَدْ انْقَطَعَتْ) بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ فَشَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ قَدْ انْقَطَعَ، وَإِذَا انْقَطَعَ شَرْطُ ظُهُورِهَا

ص: 405

(وَإِذَا قُضِيَ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَطْعِ فِي سَرِقَةٍ فَوُهِبَتْ لَهُ لَمْ يُقْطَعْ) مَعْنَاهُ إذَا سُلِّمَتْ إلَيْهِ (وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهَا الْمَالِكُ إيَّاهُ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ تَمَّتْ انْعِقَادًا وَظُهُورًا، وَبِهَذَا الْعَارِضِ لَمْ يَتَبَيَّنْ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ السَّرِقَةِ فَلَا شُبْهَةَ.

وَلَنَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالِاسْتِيفَاءِ، إذْ الْقَضَاءُ لِلْإِظْهَارِ وَالْقَطْعُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَهُ،

انْقَطَعَ ظُهُورُهَا وَلَا قَطْعَ بِدُونِ ظُهُورِهَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ قُطِعَ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَنْقَطِعْ بَلْ انْتَهَى بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَهُوَ اسْتِرْدَادُ الْمَالِ إلَى الْمَالِكِ، وَالشَّيْءُ يَتَقَرَّرُ بِانْتِهَائِهِ لَا أَنَّهُ يَبْطُلُ كَالنِّكَاحِ يَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ لَا أَنَّهُ يَبْطُلُ، لَكِنَّهَا أَعْنِي الْخُصُومَةَ تُجْعَلُ بَاقِيَةً تَقْدِيرًا لِاسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ، وَالرَّدُّ إلَى ابْنِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَإِلَى أَخِيهِ وَعَمِّهِ وَخَالِهِ وَهُمْ فِي عِيَالِهِ وَكَذَا إلَى امْرَأَتِهِ أَوْ أَجِيرِهِ مُشَاهَرَةً أَوْ عَبْدِهِ، وَكَذَا الرَّدُّ إلَى أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ جَدِّهِ سَوَاءٌ كَانُوا فِي عِيَالِهِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا كَالرَّدِّ إلَى نَفْسِهِ اسْتِحْسَانًا.

(وَإِذَا قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِالْقَطْعِ فِي سَرِقَةٍ فَوَهَبَهُ الْمَالِكُ) وَسَلَّمَهُ إيَّاهُ (أَوْ بَاعَهُ إيَّاهُ لَمْ يُقْطَعْ) وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْمُصَنِّفُ كَلَامَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ إذَا سُلِّمَتْ لِأَنَّ الْهِبَةَ إذَا لَمْ تَتَّصِلْ بِالتَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ لَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ (وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، قَالُوا: لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ تَمَّتْ انْعِقَادًا) بِأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ إذْ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي ذَلِكَ (وَظُهُورًا) لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ قَضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ ظُهُورِهَا (وَبِهَذَا الْعَارِضِ) يَعْنِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلسَّارِقِ بِسَبَبِ الْهِبَةِ أَوْ الْبَيْعِ (لَمْ يَتَبَيَّنْ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ السَّرِقَةِ) لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِهِمَا إنَّمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَقْتِ ثُبُوتِ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ، وَهَذَا احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا أَقَرَّ بِهِ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ لِلسَّارِقِ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ يَظْهَرُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُقِرِّ لَهُ مِنْ الْمِلْكِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلسَّارِقِ وَقْتَ وُجُودِ السَّرِقَةِ فَيَكُونُ شُبْهَةً (وَلَنَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ) يَعْنِي أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ مِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِ الْقَاضِي حَكَمْت أَوْ قَضَيْت بِالْقَطْعِ أَوْ بِالرَّجْمِ أَوْ بِالْحَدِّ (فِي هَذَا الْبَابِ) يَعْنِي بَابَ الْحُدُودِ (لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْقَضَاءِ (بِالِاسْتِيفَاءِ) يَعْنِي أَنَّ الْقَضَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يُغْنِي غِنَاءَهُ: أَيْ لَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ إلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ (لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِلْإِظْهَارِ) وَلَا إظْهَار هَاهُنَا (لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ اللَّهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَهُ) فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ الِاسْتِيفَاءُ قَضَاءً فِي هَذَا

ص: 406

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَصَارَ كَمَا إذَا مَلَكَهَا مِنْهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ.

قَالَ (وَكَذَا إذَا نَقَصَتْ قِيمَتُهَا مِنْ النِّصَابِ) يَعْنِي قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ اعْتِبَارًا بِالنُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا يُشْتَرَطُ قِيَامُهُ عِنْدَ الْإِمْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ النُّقْصَانِ

الْبَابِ لَعَرَى عَنْ الْفَائِدَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ بَاطِلٌ. بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْقَضَاءَ فِيهَا يُفِيدُ إظْهَارَ الْحَقِّ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَلَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِ الْإِمْضَاءِ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ، وَهَذَا فِقْهُ تَفْوِيضِ اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ إلَى الْأَئِمَّةِ دُونَ سَائِرِ الْحُقُوقِ (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ) أَيْ إذَا كَانَ الْإِمْضَاءُ مِنْ الْقَضَاءِ (يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ) كَمَا يُشْتَرَطُ وَقْتَ ابْتِدَاءِ الْقَاضِي الْقَضَاءَ وَقَدْ انْتَفَى ذَلِكَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَهَذَا لِأَنَّ مَا يَكُونُ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ يُرَاعَى وُجُودُهُ إلَى وَقْتِ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ بِدَلِيلِ الْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالرِّدَّةِ وَالْفِسْقِ فِي الشُّهُودِ، فَإِنَّ الْحُدُودَ لَا تُسْتَوْفَى إذَا كَانَتْ الشُّهُودُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ (وَقَوْلُهُ وَصَارَ كَمَا إذَا مَلَكَهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ) يَعْنِي صَارَ الْمِلْكُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمِلْكِ الْحَادِثِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُمْ الْخُصُومَةَ بَاقِيَةً تَقْدِيرًا فِي صُورَةِ رَدِّ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ وَلَمْ يَكُنْ الِاسْتِيفَاءُ ثَمَّةَ مِنْ الْقَضَاءِ حَتَّى أَوْجَبْتُمْ الْقَطْعَ، وَهَاهُنَا جَعَلْتُمْ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحَدِّ وَجَعَلْتُمْ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ دَافِعًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَمَا ذَلِكَ إلَّا تَنَاقُضٌ صِرْفٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُطْلَقًا، لَكِنْ فِي صُورَةِ الرَّدِّ لَمْ يَحْصُلْ بِالرَّدِّ سَرَى الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ، وَهَاهُنَا حَدَثَ بَيْنَهُمَا تَصَرُّفٌ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ وَكَانَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ.

(وَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَتْ قِيمَتُهَا مِنْ النِّصَابِ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَوَهَبْت لَهُ. وَقَوْلُهُ (يَعْنِي قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ) بَيَانٌ لِذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَانَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ.

وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِالنُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ) يَعْنِي بِأَنْ هَلَكَ دِرْهَمٌ مِنْ الْعَشَرَةِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ السَّرِقَةِ وَيَوْمَ الْقَطْعِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَإِنْ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَطْعِ فِي الْعَيْنِ لَمْ يَمْنَعْ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ لِتَرَاجُعِ السِّعْرِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ اعْتِبَارًا بِالْأَوَّلِ بِجَامِعِ وُجُودِ سَرِقَةِ النِّصَابِ فِيهِمَا. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ (أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا) فِي الِابْتِدَاءِ (يُشْتَرَطُ قِيَامُهُ عِنْدَ الْإِمْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا) أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّقْصَانِ

ص: 407

فِي الْعَيْنِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَكَمُلَ النِّصَابُ عَيْنًا وَدَيْنًا، كَمَا إذَا اُسْتُهْلِكَ كُلُّهُ، أَمَّا نُقْصَانُ السِّعْرِ فَغَيْرُ مَضْمُونٍ فَافْتَرَقَا.

(وَإِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ مِلْكُهُ سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِالسَّرِقَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ سَارِقٌ فَيُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ. وَلَنَا أَنَّ الشُّبْهَةَ دَارِئَةٌ وَتَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِلِاحْتِمَالِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا قَالَ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ

(وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلَانِ بِسَرِقَةٍ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا هُوَ مَالِي لَمْ يُقْطَعَا) لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَامِلٌ فِي حَقِّ الرَّاجِعِ وَمُورِثٌ لِلشُّبْهَةِ فِي حَقِّ الْآخَرِ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِمَا

فِي الْعَيْنِ (أَنَّ النُّقْصَانَ فِي الْعَيْنِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى السَّارِقِ وَالضَّمَانُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَضْمُونِ فَكَانَ النِّصَابُ كَامِلًا عَيْنًا وَقْتَ الْأَخْذِ وَدَيْنًا وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ (كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَ كُلَّهُ، أَمَّا نُقْصَانُ السِّعْرِ فَغَيْرُ مَضْمُونٍ) فَكَانَ النِّصَابُ نَاقِصًا عِنْدَ الْقَطْعِ فَصَارَ شُبْهَةً (فَافْتَرَقَا).

(وَإِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ مِلْكُهُ سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ) وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (مَعْنَاهُ بَعْدَمَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِالسَّرِقَةِ) وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِالِاتِّفَاقِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِإِفْضَائِهِ إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ حَيْثُ لَا يَعْجِزُ سَارِقٌ عَنْ ذَلِكَ. وَلَنَا أَنَّ الشُّبْهَةَ دَارِئَةٌ وَ) الشُّبْهَةُ (تَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى) لِاحْتِمَالِ الصِّدْقِ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا قَالَ) إنَّهُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ سَارِقٌ (بِدَلِيلِ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ صَحِيحٌ) وَمَا مِنْ مُقِرٍّ إلَّا وَيَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ فَكَذَا هَذَا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ وَالْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ لِمَا عُرِفَ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُورِثُ الشُّبْهَةِ فِي الْحُجَّةِ الْقَاصِرَةِ مُورِثًا لَهَا فِي الْكَامِلَةِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَمَالَ وَالْقُصُورَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّعَدِّي إلَى الْغَيْرِ وَعَدَمِهِ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقِرِّ فَهُمَا سَوَاءٌ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلَانِ بِسَرِقَةٍ) مَبْنَاهُ عَلَى صِحَّةِ الرُّجُوعِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَامِلٌ فِي حَقِّ الرَّاجِعِ) يَعْنِي لِعَدَمِ الْمُكَذِّبِ (وَمُورِثٌ لِلشُّبْهَةِ فِي حَقِّ الْآخَرِ لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِمَا

ص: 408

عَلَى الشَّرِكَةِ

(فَإِنْ سَرَقَا ثُمَّ غَابَ أَحَدُهُمَا وَشَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى سَرِقَتِهِمَا قُطِعَ الْآخَرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا) وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ رُبَّمَا يَدَّعِي الشُّبْهَةَ.

وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْغَيْبَةَ تَمْنَعُ ثُبُوتَ السَّرِقَةِ عَلَى الْغَائِبِ فَيَبْقَى مَعْدُومًا وَالْمَعْدُومُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَوَهُّمِ حُدُوثِ الشُّبْهَةِ عَلَى مَا مَرَّ

(وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَرِقَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا فَإِنَّهُ يُقْطَعُ وَتُرَدُّ السَّرِقَةُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُقْطَعُ وَالْعَشَرَةُ لِلْمَوْلَى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُقْطَعُ وَالْعَشَرَةُ لِلْمَوْلَى وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَمَعْنَاهُ إذَا كَذَّبَهُ الْمَوْلَى (وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُسْتَهْلَكٍ قُطِعَتْ يَدُهُ

عَلَى الشَّرِكَةِ) فَيَكُونُ فِعْلًا وَاحِدًا.

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ رُبَّمَا يَدَّعِي الشُّبْهَةَ) يَعْنِي وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْحَدِّ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْحَاضِرِ، فَلَوْ قَطَعْنَا الْحَاضِرَ قَطَعْنَاهُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ (وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْغَيْبَةَ تَمْنَعُ ثُبُوتَ السَّرِقَةِ عَلَى الْغَائِبِ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ الْغَائِبَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَأَنَّهُ مَعْدُومٌ (وَالْمَعْدُومُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ) فِي حَقِّ الْمَوْجُودِ وَهَذَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هِيَ الْمُحَقَّقَةُ الْمَوْجُودَةُ لَا الْمَوْهُومَةُ (عَلَى مَا مَرَّ) يُرِيدُ قَوْلَهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِشُبْهَةٍ مَوْهُومَةِ الِاعْتِرَاضِ.

قَالَ (وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَرِقَةِ مَالٍ) إذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَوْ مُسْتَهْلَكًا، وَكُلٌّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى أَوْ صَدَّقَهُ، فَإِنْ صَدَّقَهُ يُقْطَعُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ قُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَالثَّلَاثَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ بِمَالٍ قَائِمٍ أَوْ مُسْتَهْلَكٍ، وَيُرَدُّ الْقَائِمُ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ مُسْتَهْلَكٍ قُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ قَائِمٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقْطَعُ يَدُهُ وَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى. حُكِيَ عَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت أُسْتَاذِي ابْنَ أَبِي عِمْرَانَ يَقُولُ: الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. فَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ أَخَذَ بِهِ مُحَمَّدٌ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، فَأَخَذَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَطْعَ أَصْلٌ أَوْ الْمَالَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَطْعُ أَصْلٌ وَالْمَالُ تَابِعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَبْغِي الْمَالَ

ص: 409

وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ يُقْطَعُ فِي الْوَجْهَيْنِ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُقْطَعُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَرِدُ عَلَى نَفْسِهِ وَطَرَفِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَالُ الْمَوْلَى، وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْغَيْرِ غَيْرُ مَقْبُولٍ إلَّا أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ وَالْمَالِ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ بِهِ لِكَوْنِهِ مُسَلَّطًا عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ.

وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ أَيْضًا، وَنَحْنُ نَقُولُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ

وَلَا أَبْغِي الْقَطْعَ لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: كُلٌّ مِنْهُمَا أَصْلٌ، أَمَّا أَصَالَةُ الْقَطْعِ فِيمَا قَالُوا فِي الْحُرِّ إذَا أَقَرَّ وَقَالَ سَرَقْت هَذَا الْمَالَ مِنْ زَيْدٍ وَهُوَ فِي يَدِ عَمْرٍو وَكَذَّبَهُ عَمْرٌو، وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ دُونَ الْمَالِ، وَأَمَّا أَصَالَةُ الْمَالِ فَلِأَنَّهُ إذَا سَرَقَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يُقْطَعُ وَالْخُصُومَةُ شَرْطٌ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَالَ أَصْلٌ لَوَجَبَ الْقَطْعُ بِدُونِهَا لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يُسْتَوْفَى بِلَا طَلَبٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَالُ أَصْلٌ وَالْقَطْعُ تَبَعٌ، وَوَجْهُهُ وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ فِي أَصَالَةِ الْمَالِ

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ مَا فِي الْكِتَابِ سِوَى أَلْفَاظٍ نُبَيِّنُهَا، فَقَوْلُهُ (فِي الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَوْ مُسْتَهْلَكًا.

وَقَوْلُهُ (فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ، وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَوْ مُسْتَهْلَكًا. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى نَفْسِهِ) يَعْنِي فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِقَتْلِ الْغَيْرِ عَمْدًا (أَوْ طَرَفِهِ) يَعْنِي فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ. وَقَوْلُهُ (يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ) يَعْنِي فِي الْمُسْتَهْلَكِ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَالُ) يَعْنِي إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ.

وَقَوْلُهُ (مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آدَمِيٌّ مُخَاطَبٌ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ، وَالْعَبْدُ فِي ذَلِكَ كَالْحُرِّ

ص: 410

ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى الْمَالِيَّةِ فَيَصِحُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ، وَلِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَضْرَارِ، وَمِثْلُهُ مَقْبُولٌ عَلَى الْغَيْرِ. لِمُحَمَّدٍ فِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ بَاطِلٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْغَصْبِ فَيَبْقَى مَالُ الْمَوْلَى، وَلَا قَطْعَ عَلَى الْعَبْدِ فِي سَرِقَةِ مَالِ الْمَوْلَى. يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمَالَ أَصْلٌ فِيهَا وَالْقَطْعُ تَابِعٌ حَتَّى تُسْمَعَ الْخُصُومَةُ فِيهِ بِدُونِ الْقَطْعِ وَيَثْبُتُ الْمَالُ دُونَهُ، وَفِي عَكْسِهِ لَا تُسْمَعُ وَلَا يَثْبُتُ، وَإِذَا بَطَلَ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ بَطَلَ فِي التَّبَعِ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ صَحِيحٌ فَيَصِحُّ فِي حَقِّ الْقَطْعِ تَبَعًا. وَلِأَبِي يُوسُف أَنَّهُ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ:

فَإِقْرَارُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّ كَإِقْرَارِ الْحُرِّ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَمَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى الْإِقْرَارَ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ فَالْعَبْدُ فِيهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْحُرِّ كَالطَّلَاقِ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى الْمَالِيَّةِ فَيَصِحُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ) يَعْنِي لَمَا صَحَّ إقْرَارُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ يَصِحُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ أَيْضًا بِالسِّرَايَةِ إلَيْهَا لِأَنَّ آدَمِيَّتَهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ مَالِيَّتِهِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْعَبْدِ (مِنْ الْأَضْرَارِ) لِأَنَّ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ بِاسْتِيفَاءِ الْعُقُوبَةِ مِنْهُ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ الْمَوْلَى (وَمِثْلُهُ مَقْبُولٌ عَلَى الْغَيْرِ) أَيْ وَمِثْلُ مَا كَانَ ضَرَرُ الْإِقْرَارِ فِيهِ سَارِيًا إلَى الْمُقِرِّ وَإِلَى الْغَيْرِ يُسْمَعُ عَلَى الْغَيْرِ أَيْضًا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِانْعِدَامِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ فِي ذَلِكَ الْإِقْرَارِ، كَمَا إذَا شَهِدَ الْوَاحِدُ عِنْدَ الْإِمَامِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَفِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ يَقْبَلُ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ حَيْثُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ كَمَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ الْمَدْيُونُ الْمُفْلِسُ إذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ دُيُونِ الْغُرَمَاءِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا قَطْعَ عَلَى الْعَبْدِ فِي سَرِقَتِهِ) أَيْ فِي سَرِقَةِ مَالِ مَوْلَاهُ. وَقَوْلُهُ (يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمَالَ أَصْلٌ فِيهَا) إشَارَةٌ إلَى مَا مَهَّدْنَا مِنْ الْأَصْلِ. وَقَوْلُهُ (حَتَّى تُسْمَعَ فِيهِ الْخُصُومَةُ بِدُونِ الْقَطْعِ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَطْلُبُ مِنْهُ الْمَالَ دُونَ الْقَطْعِ وَيَثْبُتُ الْمَالُ دُونَهُ كَمَا إذَا شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ رَجَعَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَالَ وَلَا يُقْطَعُ (وَفِي عَكْسِهِ) بِأَنْ قَالَ أَطْلُبُ الْقَطْعَ دُونَ الْمَالِ (لَا تُسْمَعُ) الْخُصُومَةُ (وَلَا يَثْبُتُ) الْقَطْعُ دُونَ الْمَالِ.

ص: 411

بِالْقَطْعِ وَهُوَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَصِحُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَبِالْمَالِ وَهُوَ عَلَى الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ فِيهِ، وَالْقَطْعُ يُسْتَحَقُّ بِدُونِهِ؛ كَمَا إذَا قَالَ الْحُرُّ الثَّوْبُ الَّذِي فِي يَدِ زَيْدٍ سَرَقْته مِنْ عَمْرٍو وَزَيْدٌ يَقُولُ هُوَ ثَوْبِي يُقْطَعُ يَدُ الْمُقِرِّ وَإِنْ كَانَ لَا يُصَدَّقُ فِي تَعْيِينِ الثَّوْبِ حَتَّى لَا يُؤْخَذَ مِنْ زَيْدٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَطْعِ قَدْ صَحَّ مِنْهُ لِمَا بَيَّنَّا فَيَصِحُّ بِالْمَالِ بِنَاءً عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يُلَاقِي حَالَةَ الْبَقَاءِ، وَالْمَالُ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ تَابِعٌ لِلْقَطْعِ حَتَّى تَسْقُطَ عِصْمَةُ الْمَالِ بِاعْتِبَارِهِ وَيُسْتَوْفَى الْقَطْعُ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ. بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَجِبُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ الْمُودَعِ.

أَمَّا لَا يَجِبُ بِسَرِقَةِ الْعَبْدِ مَالَ الْمَوْلَى فَافْتَرَقَا

وَقَوْلُهُ (فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ فِيهِ) أَيْ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فِي الْمَالِ.

وَقَوْلُهُ (وَالْقَطْعُ يُسْتَحَقُّ بِدُونِهِ) أَيْ بِدُونِ الْمَالِ لِأَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ الْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ كَمَا إذَا شَهِدَ بِهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْقَطْعُ دُونَ الْمَالِ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُسْتَهْلَكٍ. قَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ. وَقَوْلُهُ (فَيَصِحُّ بِالْمَالِ بِنَاءً عَلَيْهِ) أَيْ لِمَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ أَنَّهُ لِغَيْرِ الْمَوْلَى بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالْقَطْعِ لِمَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ أَصْلِهِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يُلَاقِي حَالَةَ الْبَقَاءِ) يُرِيدُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالشَّيْءِ إظْهَارُ أَمْرٍ قَدْ كَانَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ سَابِقًا عَلَى الْإِخْبَارِ. وَقَوْلُهُ (حَتَّى تَسْقُطُ) بِالرَّفْعِ لِأَنَّ حَتَّى بِمَعْنَى الْفَاءِ. قَوْلُهُ (بِاعْتِبَارِهِ) أَيْ بِاعْتِبَارِ الْقَطْعِ لِمَا يَجِيءُ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الضَّمَانِ، ثُمَّ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ وَالتَّقَوُّمُ فِي حَقِّ السَّارِقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَصْلًا لَمَا تَغَيَّرَ حَالُهُ مِنْ التَّقَوُّمِ إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ مَقْصُودِيَّتَهُ إنَّمَا تَكُونُ بِالتَّقَوُّمِ، وَكَذَلِكَ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، إذْ لَا وُجُودَ لِلتَّابِعِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْأَصْلِ.

وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحُرِّ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ بِقَوْلِهِ إذَا قَالَ الْحُرُّ الثَّوْبُ الَّذِي فِي يَدِ زَيْدٍ إلَخْ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْحُرَّ لَمَّا لَمْ يَسْمَعْ قَوْلَهُ سَرَقْته مِنْ عَمْرٍو فِي حَقِّ الرَّدِّ إلَى عَمْرٍو لَا يَلْزَمُهُ عَدَمُ الْقَطْعِ، بَلْ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمُقَرَّ لَهُ وَهُوَ عَمْرٌو بِمَنْزِلَةِ الْمُودِعِ فَلَا يُوجِبُ رَدَّ الْمَالِ إلَيْهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ السَّارِقَ إذَا سَرَقَ الْمَالَ مِنْ الْمُودَعِ يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ إلَيْهِ الْمَالَ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَوْ لَمْ يَرُدَّ الْمَالَ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَالُ مَالَ الْمَوْلَى. فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا سَرَقَ مَالَ الْمَوْلَى لَا تُقْطَعُ يَدُهُ.

ص: 412

وَلَوْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى يُقْطَعُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا لِزَوَالِ الْمَانِعِ

قَالَ (وَإِذَا قُطِعَ السَّارِقُ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ رُدَّتْ عَلَى صَاحِبِهَا) لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ (وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً لَمْ يَضْمَنْ) وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَشْمَلُ الْهَلَاكَ وَالِاسْتِهْلَاكَ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ قَدْ اخْتَلَفَ سَبَبَاهُمَا فَلَا يَمْتَنِعَانِ فَالْقَطْعُ حَقُّ الشَّرْعِ وَسَبَبُهُ تَرْكُ الِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ. وَالضَّمَانُ حَقُّ الْعَبْدِ وَسَبَبُهُ أَخْذُ الْمَالِ فَصَارَ كَاسْتِهْلَاكِ صَيْدٍ مَمْلُوكٍ فِي الْحَرَمِ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ مَمْلُوكَةٍ لِذِمِّيٍّ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام

ثُمَّ اتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ عَلَى قَطْعِ يَدِ الْعَبْدِ، فَقَدْ جَعَلَاهُ سَارِقًا مَالَ غَيْرِ الْمَوْلَى فَيَرُدُّ إلَى الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ. (قَوْلُهُ وَلَوْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى) قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ.

قَالَ (وَإِذَا قُطِعَ السَّارِقُ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (كَاسْتِهْلَاكِ صَيْدٍ مَمْلُوكٍ فِي الْحَرَمِ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَجِبُ قِيمَتُهُ لِلْمَالِكِ وَقِيمَةٌ أُخْرَى جَزَاءَ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ (أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ لِلذِّمِّيِّ) يَعْنِي عَلَى أَصْلِكُمْ، فَإِنَّ ضَمَانَ الْخَمْرِ بِالِاسْتِهْلَاكِ لَا يَجِبُ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ لِلذِّمِّيِّ (وَلَنَا مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 413

«لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَمَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ» وَلِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يُنَافِي الْقَطْعَ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَنْتَفِي الْقَطْعُ لِلشُّبْهَةِ وَمَا يُؤَدِّي إلَى انْتِفَائِهِ فَهُوَ الْمُنْتَفِي، وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَبْقَى مَعْصُومًا حَقًّا لِلْعَبْدِ، إذْ لَوْ بَقِيَ لَكَانَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ فَيَنْتَفِي الْقَطْعُ لِلشُّبْهَةِ فَيَصِيرُ مُحَرَّمًا حَقًّا لِلشَّرْعِ كَالْمَيْتَةِ وَلَا ضَمَانَ فِيهِ

«لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَمَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ» ) لَا يُقَالُ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً لَا تُرَدُّ إلَى صَاحِبِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى غُرْمًا. وَقَوْلُهُ (وَمَا يُؤَدِّي إلَى انْتِفَائِهِ) إنَّمَا كَانَ مَا يُؤَدِّي إلَى انْتِفَائِهِ هُوَ الْمُنْتَفِي لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِالْإِجْمَاعِ.

وَقَوْلُهُ (إذْ لَوْ بَقِيَ) يَعْنِي مَعْصُومًا حَقًّا لِلْعَبْدِ (لَكَانَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ) لِأَنَّهُ عَرَفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ مَا هُوَ حَرَامٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَهُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ وَكَانَ الْمَالُ لِلسَّارِقِ حَرَامًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ (فَيَنْتَفِي الْقَطْعُ لِلشُّبْهَةِ) إذْ الشُّبْهَةُ هُوَ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَحِينَئِذٍ يُدْرَأُ بِالْحَدِيثِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْعَبْدِ يَصِيرُ مُحَرَّمًا (حَقًّا لِلشَّرْعِ كَالْمَيْتَةِ وَلَا ضَمَانَ فِيهِ) وَهَذَا مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا صَارَتْ الْمَالِيَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَحَلِّ لَمْ يَبْقَ لِلْعَبْدِ فَالْتُحِقَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَكِنْ هَذَا لَا يَتَقَرَّرُ إلَّا بِاسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ لَا مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَتَمَامُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ، فَكَانَ حُكْمُ الْأَخْذِ مُرَاعًى إنْ اسْتَوْفَى بِهِ الْقَطْعَ يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ كَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجِبُ ضَمَانُ الْعَبْدِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ تَبَيَّنَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ كَانَ لِلْعَبْدِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ

ص: 414

إلَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ لَا يَظْهَرُ سُقُوطُهَا فِي حَقِّ الِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ آخَرُ غَيْرِ السَّرِقَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا الشُّبْهَةُ تُعْتَبَرُ فِيمَا هُوَ السَّبَبُ دُونَ غَيْرِهِ.

وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ إتْمَامُ الْمَقْصُودِ فَتُعْتَبَرُ الشُّبْهَةُ فِيهِ، وَكَذَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ سُقُوطِهَا فِي حَقِّ الْهَلَاكِ لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ.

وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ الْعِصْمَةُ لَمَّا انْتَقَلَتْ لِلَّهِ تَعَالَى وَصَارَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ كَالْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِيهِ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ إنَّمَا كَانَ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ الْقَطْعِ، وَمَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَحَلِّهَا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى فِعْلٍ آخَرَ هُوَ الِاسْتِهْلَاكُ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْقَطْعَ وَلَا مِنْ لَوَازِمِهِ (وَكَذَا الشُّبْهَةُ) وَهُوَ كَوْنُهُ حَرَامًا لِغَيْرِهِ (تُعْتَبَرُ فِيمَا هُوَ السَّبَبُ) وَهُوَ السَّرِقَةُ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الشُّبْهَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِجَعْلِ السَّبَبِ فِي الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ غَيْرَ مُوجِبٍ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ وَالِاسْتِهْلَاكُ لَيْسَ بِسَبَبٍ فَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشُّبْهَةُ (وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ) وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ كَمَا فِي الْهَلَاكِ (أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ إتْمَامُ الْمَقْصُودِ) بِالسَّبَبِ وَهُوَ السَّرِقَةُ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَرَقَ لِيَصْرِفَهُ إلَى بَعْضِ حَوَائِجِهِ فَكَانَ تَتِمَّةً لِلسَّبَبِ لَا أَنَّهُ فِعْلٌ آخَرُ (فَتُعْتَبَرُ الشُّبْهَةُ فِيهِ) لِإِسْقَاطِ الضَّمَانِ كَاعْتِبَارِهَا فِي نَفْسِ السَّبَبِ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ سُقُوطِهَا فِي حَقِّ الْهَلَاكِ لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ لِأَنَّ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ فِي فَصْلِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ فِي فَصْلِ الْهَلَاكِ. وَأَقُولُ: مَعْنَاهُ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ سُقُوطِهَا فِي الْهَلَاكِ وَالْمَلْزُومُ ثَابِتٌ فَاللَّازِمُ كَذَلِكَ، وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَتْ الْعِصْمَةُ بَاقِيَةً فِي الِاسْتِهْلَاكِ مُوجِبَةً وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَسْتَوْجِبُ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَضْمُونِ وَالْمَضْمُونِ بِهِ بِالنَّصِّ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ بِهِ مَالٌ مَعْصُومٌ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ، حَتَّى لَوْ غَصَبَهُ أَحَدٌ ضَمِنَهُ هَلَكَ عِنْدَهُ أَوْ اسْتَهْلَكَ، وَالْمَضْمُونُ وَهُوَ الْمَسْرُوقُ مَعْصُومٌ فِي الِاسْتِهْلَاكِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ دُونَ الْهَلَاكِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَعْصُومِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَالْمَعْصُومِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَالَ لِأَنَّهُ أَيْ لِأَنَّ سُقُوطَ الضَّمَانِ مِنْ

ص: 415

قَالَ (وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَاتٍ فَقُطِعَ فِي إحْدَاهَا فَهُوَ لِجَمِيعِهَا، وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: يَضْمَنُ كُلَّهَا إلَّا الَّتِي قُطِعَ لَهَا) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا حَضَرَ أَحَدُهُمْ، فَإِنْ حَضَرُوا جَمِيعًا وَقُطِعَتْ يَدُهُ لِخُصُومَتِهِمْ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا بِالِاتِّفَاقِ فِي السَّرِقَاتِ كُلِّهَا. لَهُمَا أَنَّ الْحَاضِرَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْغَائِبِ. وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُصُومَةِ لِتَظْهَرَ السَّرِقَةُ فَلَمْ تَظْهَرْ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَائِبَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ الْقَطْعُ لَهَا فَبَقِيَتْ أَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةً. وَلَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْكُلِّ قَطْعٌ وَاحِدٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُلِ وَالْخُصُومَةُ شَرْطٌ لِلظُّهُورِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِذَا اسْتَوْفَى فَالْمُسْتَوْفَى كُلُّ الْوَاجِبِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَرْجِعُ نَفْعُهُ

ضَرُورَاتِ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ: يَعْنِي أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ سُقُوطُ الضَّمَانِ. وَهَذَا لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَسْرُوقِ وَضَمَانِهِ فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ سَاقِطُ الْعِصْمَةِ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ حَقًّا لِلشَّرْعِ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ. وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ السَّارِقِ مَالٌ مَعْصُومٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ لِعَيْنِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِانْتِفَاءِ الْمُعَادَلَةِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ لَا يُسَاعِدُهُ فَتَأَمَّلْ.

قَالَ (وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَاتٍ فَقُطِعَ فِي إحْدَاهَا فَهُوَ بِجَمِيعِهَا) كَلَامُهُ وَاضِحٍ (وَقَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ الْحَاضِرَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْغَائِبِ) تَقْرِيرُهُ الْحَاضِرُ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْغَائِبِ، وَمَنْ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْغَائِبِ لَيْسَ لَهُ الْخُصُومَةُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُصُومَةِ لِأَنَّهَا شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ فَلَمْ تَظْهَرْ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَائِبِينَ فَلَمْ يَقَعْ الْقَطْعُ لَهَا، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ الْقَطْعُ لَهَا بَقِيَتْ أَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةً وَالْمَالُ الْمَعْصُومُ مَضْمُونٌ لَا مَحَالَةَ (وَلَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْكُلِّ) أَيْ بِكُلِّ السَّرِقَاتِ (قَطْعٌ وَاحِدٌ) لِأَنَّهُ يَجِبُ (حَقًّا لِلَّهِ) وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَدَاخَلُ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ (وَالْخُصُومَةُ شَرْطُ الظُّهُورِ عِنْدَ الْحَاكِمِ) وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمِيعِ لِأَنَّ الشَّرْطَ يُرَاعَى وُجُودُهُ لَا وُجُودُهُ قَصْدًا (فَإِذَا اسْتَوْفَى) يَعْنِي ذَلِكَ الْقَطْعَ الْوَاحِدَ (فَالْمُسْتَوْفَى كُلُّ الْوَاجِبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَفْعَهُ) وَهُوَ الِانْزِجَارُ يَرْجِعُ إلَى الْكُلِّ. فَإِنْ قِيلَ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ ضِمْنًا لَا يَرْبُو عَلَى الثَّابِتِ صَرِيحًا، وَالْقَطْعُ يَتَضَمَّنُ الْبَرَاءَةَ عَنْ ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ الْوَاحِدُ عَنْ ضَمَانِ الْكُلِّ نَصًّا لَمْ يَبْرَأْ فَكَيْفَ يَبْرَأُ إذَا ثَبَتَ ضِمْنًا؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا كَبَيْعِ الشُّرْبِ وَوَقْفِ الْمَنْقُولِ، ثُمَّ هَاهُنَا لَمَّا وَقَعَ الْقَطْعُ فِي حَقِّ الْكُلِّ بِالْإِجْمَاعِ تَبِعَهُ مَا هُوَ الثَّابِتُ فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ سُقُوطُ الضَّمَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ وُقُوعَ الْقَطْعِ بِجَمِيعِ السَّرِقَاتِ بِالْإِجْمَاعِ، فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الضَّمَانِ. فَالْقَوْلُ بِالضَّمَانِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ فَذَلِكَ تَنَاقُضٌ.

ص: 416

إلَى الْكُلِّ فَيَقَعُ عَنْ الْكُلِّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَتْ النُّصُبُ كُلُّهَا لِوَاحِدٍ فَخَاصَمَ فِي الْبَعْضِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(بَابُ مَا يُحْدِثُ السَّارِقُ فِي السَّرِقَةِ)

(وَمَنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَشَقَّهُ فِي الدَّارِ بِنِصْفَيْنِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَهُوَ يُسَاوِي عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ سَبَبَ الْمِلْكِ وَهُوَ الْخَرْقُ الْفَاحِشُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ وَتَمَلُّكَ الْمَضْمُونِ وَصَارَ كَالْمُشْتَرِي إذَا سَرَقَ مَبِيعًا فِيهِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ

وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ النُّصُبُ كُلُّهَا لِوَاحِدٍ) يَعْنِي لَوْ سَرَقَ النُّصُبَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَخَاصَمَ فِي الْبَعْضِ فَقُطِعَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَضْمَنُ النُّصُبَ الْبَاقِيَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

بَابُ مَا يُحْدِثُ السَّارِقُ فِي السَّرِقَةِ:

لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ السَّرِقَةِ وَكَيْفِيَّةَ الْقَطْعِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يَسْقُطُ بِهِ الْقَطْعُ بِسَبَبِ إحْدَاثِ الصَّنْعَةِ لِلشُّبْهَةِ وَالشُّبْهَةُ أَبَدًا تَتْلُو الثَّابِتَ ذِكْرًا (وَمَنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَشَقَّهُ فِي الدَّارِ بِنِصْفَيْنِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَهُوَ يُسَاوِي) بَعْدَ الشَّقِّ (عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قُطِعَ) قَيَّدَ بِقَيْدَيْنِ: أَنْ يَكُونَ الشَّقُّ فِي الدَّارِ، وَأَنْ يُسَاوِيَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بَعْدَ الشَّقِّ فِي الدَّارِ، لِأَنَّهُ إذَا أَخْرَجَهُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ وَهُوَ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ شَقَّهُ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ بِالشَّقِّ مِنْ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ وَلِأَنَّهُ إذَا شَقَّ فِي الدَّارِ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنْ الْعَشَرَةِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ تَمَّتْ عَلَى النِّصَابِ الْكَامِلِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لَهُ فِي شُبْهَةِ الْمِلْكِ وَهُوَ الْخَرْقُ الْفَاحِشُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ وَتَمَلُّكَ الْمَضْمُونِ) وَلِهَذَا قُلْنَا الْمَالِكُ بَعْدَ الشَّقِّ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ مَلَّكَهُ الثَّوْبَ بِالضَّمَانِ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ لَمَا وَجَبَ التَّمْلِيكُ بِكُرْهٍ مِنْ السَّارِقِ (وَصَارَ كَالْمُشْتَرِي إذَا سَرَقَ مَبِيعًا فِيهِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ) ثُمَّ فَسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ عَلَى عَيْنٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِلسَّارِقِ لَكِنْ وَرَدَ عَلَيْهِ سَبَبُ الْمِلْكِ

ص: 417

(وَلَهُمَا أَنَّ الْأَخْذَ وُضِعَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ لَا لِلْمِلْكِ، وَإِنَّمَا الْمِلْكُ يُثْبِتُ ضَرُورَةَ أَدَاءِ الضَّمَانِ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ، وَمِثْلُهُ لَا يُوَرِّثُ) الشُّبْهَةَ كَنَفْسِ الْأَخْذِ، وَكَمَا إذَا سَرَقَ الْبَائِعُ مَعِيبًا بَاعَهُ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ وَأَخْذَ الثَّوْبِ،

وَلَهُمَا أَنَّ الْأَخْذَ) أَيْ هَذَا الْأَخْذَ الَّذِي فِيهِ خَرْقٌ فَاحِشٌ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَمِثْلُهُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ كَنَفْسِ الْأَخْذِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَهُ فِيهِ سَبَبَ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْأَخْذَ الْمَعْهُودَ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْضُوعٌ سَبَبًا لِلضَّمَانِ فَكَانَ لَهُ سَبَبُ الضَّمَانِ لَا سَبَبُ الْمِلْكِ (وَإِنَّمَا الْمِلْكُ يُثْبِتُ لَهُ ضَرُورَةَ أَدَاءِ الضَّمَانِ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ وَمِثْلُهُ) أَيْ وَمِثْلُ هَذَا الْأَخْذِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ (لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لِلْمِلْكِ (كَنَفْسِ الْأَخْذِ) فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ سَبَبًا بَعْدَ الضَّمَانِ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ تُعْتَبَرْ شُبْهَةً

(وَكَمَا إذَا سَرَقَ الْبَائِعُ مَعِيبًا بَاعَهُ) وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ وَإِنْ انْعَقَدَ سَبَبُ الرَّدِّ وَهُوَ الْعَيْبُ، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا يُقْطَعُ وَإِنْ انْعَقَدَ سَبَبُ الضَّمَانِ وَهُوَ الشَّقُّ (بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ) أَيْ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُهُ كَالْمُشْتَرِي إذَا سَرَقَ مَبِيعًا فِيهِ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ مَوْجُودٌ فِيهِ (إذْ الْبَيْعُ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ وَأَخَذَ الثَّوْبَ) لَا يُقَالُ: الْأَصْلُ عِنْدَكُمْ أَنَّ الْقَطْعَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ؛ فَإِذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ كَيْفَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَطْعِ لِأَنَّ ضَمَانَ النُّقْصَانِ وَجَبَ بِجِنَايَةٍ أُخْرَى قَبْلَ الْإِخْرَاجِ وَهِيَ مَا فَاتَ مِنْ الْعَيْنِ وَالْقَطْعِ بِإِخْرَاجِ الْبَاقِي كَمَا لَوْ أَخَذَ ثَوْبَيْنِ، فَأَحْرَقَ أَحَدَهُمَا فِي الْبَيْتِ وَأَخْرَجَ الْآخَرَ وَقِيمَتُهُ نِصَابٌ. وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ الِاسْتِهْلَاكَ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ

ص: 418

فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْقِيمَةِ وَتَرْكَ الثَّوْبِ عَلَيْهِ لَا يُقْطَعُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ فَصَارَ كَمَا إذَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ النُّقْصَانُ فَاحِشًا، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا يُقْطَعُ بِالِاتِّفَاقِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ إذْ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارُ تَضْمِينِ كُلِّ الْقِيمَةِ

فَإِنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ السَّرِقَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ. وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ إنْ اخْتَارَ الْقَطْعَ لَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَطْعَ لِلْبَاقِي بَعْدَ الْحَرْقِ وَلَيْسَ فِيهِ ضَمَانٌ، بِخِلَافِ الْمُسْتَهْلَكِ فَإِنَّ الْقَطْعَ كَانَ لِأَجْلِهِ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ (فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ قِيمَةِ الثَّوْبِ كُلَّهَا وَتَرَكَ الثَّوْبَ عَلَيْهِ لَا يُقْطَعُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ فَصَارَ كَمَا إذَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ) فَإِنَّهُ إذَا وَهَبَ لَهُ بَعْدَ تَمَامِ السَّرِقَةِ يَسْقُطُ الْقَطْعُ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ إذَا مَلَكَهُ قَبْلَ تَمَامِ السَّرِقَةِ أَوْلَى (وَهَذَا كُلُّهُ) أَيْ هَذَا الْخِلَافُ مَعَ هَذِهِ التَّفْصِيلَاتِ (إذَا كَانَ النُّقْصَانُ فَاحِشًا) وَهُوَ الَّذِي يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ (فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا) وَهُوَ مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ فِي الصَّحِيحِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ الْفَاحِشِ وَالْيَسِيرِ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ (يُقْطَعُ بِالِاتِّفَاقِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ إذْ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارُ تَضْمِينِ كُلِّ الْقِيمَةِ)

ص: 419

(وَإِنْ سَرَقَ شَاةً فَذَبَحَهَا ثُمَّ أَخْرَجَهَا لَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ عَلَى اللَّحْمِ وَلَا قَطْعَ فِيهِ

(وَمَنْ سَرَقَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ فَصَنَعَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ قُطِعَ فِيهِ وَتَرَكَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: لَا سَبِيلَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ عَلَيْهِمَا) وَأَصْلُهُ فِي الْغَصْبِ فَهَذِهِ صَنْعَةٌ مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ، ثُمَّ وُجُوبُ الْحَدِّ لَا يُشْكِلُ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ قَبْلَ الْقَطْعِ، وَقِيلَ يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالصَّنْعَةِ شَيْئًا آخَرَ فَلَمْ يَمْلِكْ عَيْنَهُ

قَوْلُهُ وَإِنْ سَرَقَ شَاةً فَذَبَحَهَا) ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ سَرَقَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ) أَيْ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ (فَصَنَعَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ قُطِعَ فِيهِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَأَصْلُهُ فِي الْغَصْبِ) يُرِيدُ أَنَّ مَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الْمَغْصُوبِ مِنْ الصَّنْعَةِ يَقْطَعُ حَقَّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ مِنْ الْمَسْرُوقِ، وَهَذِهِ الصَّنْعَةُ تَقْطَعُهُ (عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ) لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الصَّنْعَةَ تُبَدَّلُ الْعَيْنَ اسْمًا وَحُكْمًا وَمَقْصُودًا، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ، كَمَا إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ صُفْرًا فَضَرَبَهُ قَمْقَمَةً أَوْ حَدِيدًا فَجَعَلَهُ ذِرَاعًا فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ. وَلَهُ أَنَّ عَيْنَ الْمَسْرُوقِ بَاقٍ وَالصَّنْعَةُ الْحَادِثَةُ وَالِاسْمُ الْحَادِثُ لَيْسَا بِلَازِمَيْنِ، فَإِنَّ إعَادَتَهَا إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى مُمْكِنَةٌ، وَالصَّنْعَةُ هَاهُنَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ حَتَّى لَوْ كَسَرَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ أَخْذُهُ وَتَضْمِينُ الصَّنْعَةِ وَالْعَيْنُ الْمَسْرُوقَةُ مُتَقَوِّمَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اعْتِبَارُ الْبَاقِي الْمُتَقَوِّمِ أَوْلَى مِنْ الزَّائِلِ الْغَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ (قَوْلُهُ فَلَمْ يَمْلِكْ عَيْنَهُ) أَيْ عَيْنَ الْمَسْرُوقِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَيْنَهُمَا أَيْ عَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَإِنَّمَا مَلَكَ شَيْئًا غَيْرَهُمَا فَإِنَّ الْأَعْيَانَ تَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الصِّفَاتِ أَصْلُهُ حَدِيثُ بَرِيرَةَ.

ص: 420

(فَإِنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَصَبْغَهُ أَحْمَرَ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ الثَّوْبُ وَلَمْ يَضْمَنْ قِيمَةَ الثَّوْبِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُؤْخَذُ مِنْهُ الثَّوْبُ وَيُعْطَى مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ) اعْتِبَارًا بِالْغَصْبِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا كَوْنُ الثَّوْبِ أَصْلًا قَائِمًا وَكَوْنُ الصَّبْغِ تَابِعًا. وَلَهُمَا أَنَّ الصَّبْغَ قَائِمٌ صُورَةً وَمَعْنًى، حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَخْذَهُ مَصْبُوغًا يَضْمَنُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، وَحَقُّ الْمَالِكِ فِي الثَّوْبِ قَائِمٌ صُورَةً لَا مَعْنًى؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى السَّارِقِ بِالْهَلَاكِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ السَّارِقِ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ، لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ صُورَةً وَمَعْنًى فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْمَالِكِ بِمَا ذَكَرْنَا (وَإِنْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ

وَقَوْلُهُ (فَإِنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ سَرَقَ ثَوْبًا فَقُطِعَ فِيهِ ثُمَّ صَبَغَهُ أَحْمَرَ إلَخْ، فَإِنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّارِقِ يَسْرِقُ الثَّوْبَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَقَدْ صَبَغَ الثَّوْبَ أَحْمَرَ قَالَ: لَيْسَ لِصَاحِبِهِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ. وَهَذَا كَمَا تَرَى لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ ثُمَّ صَبَغَهُ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ وَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ، وَلَكِنْ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ إلَى آخِرِهِ) إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَتْ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ مَا قَالَ، وَتَحْرِيرُ الْمَذْهَبَيْنِ وَاعْتِبَارُ مُحَمَّدٍ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (أَنَّ الصَّبْغَ قَائِمٌ صُورَةً وَمَعْنًى) أَمَّا صُورَةً فَظَاهِرٌ فَإِنَّ الْحُمْرَةَ فِيهِ مَحْسُوسَةٌ، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ لَوْ أَخَذَ الثَّوْبَ مَصْبُوغًا ضَمِنَ الصَّبْغَ (وَحَقُّ الْمَالِكِ فِي الثَّوْبِ قَائِمٌ صُورَةً) لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ (لَا مَعْنًى) لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى السَّارِقِ بِالْهَلَاكِ أَوْ الِاسْتِهْلَاكِ، فَكَانَ جَانِبُ السَّارِقِ مُرَجَّحًا كَالْمَوْهُوبِ لَهُ إذَا صَبَغَ فَإِنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ يَنْقَطِعُ عَنْهُ (بِخِلَافِ) مَسْأَلَةِ (الْغَصْبِ) يَعْنِي الَّتِي اعْتَبَرَ بِهَا صُورَةَ النِّزَاعِ (لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ صُورَةً وَمَعْنًى فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) يَعْنِي الْوُجُودَ (فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْمَالِكِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الثَّوْبِ أَصْلًا قَائِمًا وَكَوْنِ الصَّبْغِ تَابِعًا) وَإِنْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ

ص: 421

أُخِذَ مِنْهُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ) يَعْنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّ السَّوَادَ زِيَادَةٌ عِنْدَهُ كَالْحُمْرَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ زِيَادَةٌ أَيْضًا كَالْحُمْرَةِ وَلَكِنَّهُ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ السَّوَادُ نُقْصَانٌ فَلَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ.

(بَابُ قَطْعِ الطَّرِيقِ)

قَالَ (وَإِذَا خَرَجَ جَمَاعَةٌ مُمْتَنِعِينَ أَوْ وَاحِدٌ يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَقَصَدُوا قَطْعَ الطَّرِيقِ فَأُخِذُوا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا

أُخِذَ مِنْهُ الثَّوْبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَا يُؤْخَذُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ السَّوَادَ زِيَادَةٌ عِنْدَهُ كَالْحُمْرَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ السَّوَادَ عِنْدَهُ نُقْصَانٌ فَلَمْ يَكُنْ حَقُّ السَّارِقِ قَائِمًا فِيهِ مَعْنًى (فَلَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ) وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّ السَّوَادَ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَيْضًا كَالْحُمْرَةِ لَكِنْ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ قَطْعِ الطَّرِيقِ:

اعْلَمْ أَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ يُسَمَّى سَرِقَةً كُبْرَى، أَمَّا تَسْمِيَتُهَا سَرِقَةً فَلِأَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ يَأْخُذُ الْمَالَ سِرًّا مِمَّنْ إلَيْهِ حِفْظُ الطَّرِيقِ وَهُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، كَمَا أَنَّ السَّارِقَ يَأْخُذُ الْمَالَ سِرًّا مِمَّنْ إلَيْهِ حِفْظُ الْمَكَانِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَهُوَ الْمَالِكُ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا كُبْرَى فَلِأَنَّ ضَرَرَ قَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ وَعَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِانْقِطَاعِ الطَّرِيقِ، وَضَرَرَ السَّرِقَةِ الصُّغْرَى يَخُصُّ الْمُلَّاكَ بِأَخْذِ مَالِهِمْ وَهَتْكِ حِرْزِهِمْ وَلِهَذَا غَلَّظَ الْحَدَّ فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ عَنْ السَّرِقَةِ الصُّغْرَى لِأَنَّهَا أَكْثَرُ وُجُودًا مِنْهُ. قَوْلُهُ (وَإِذَا خَرَجَ جَمَاعَةٌ) قِيلَ ذَكَرَ لَفْظَ الْجَمَاعَةِ لِيَتَنَاوَلَ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ وَالْحَرْبِيَّ وَالْحُرَّ وَالْعَبْدَ، وَأَرَادَ بِالِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يُدَافِعَ تَعَرُّضَ الْغَيْرِ

ص: 422

مَالًا وَيَقْتُلُوا نَفْسًا حَبَسَهُمْ الْإِمَامُ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً، وَإِنْ أَخَذُوا مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، وَالْمَأْخُوذُ إذَا قُسِّمَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا أَوْ مَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ذَلِكَ قَطَعَ الْإِمَامُ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا قَتَلَهُمْ الْإِمَامُ حَدًّا) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ التَّوْزِيعُ عَلَى الْأَحْوَالِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَالرَّابِعَةُ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى

عَنْ نَفْسِهِ بِقُوَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (قَتَلَهُمْ حَدًّا) أَيْ لَا يَسْقُطُ الْقَتْلُ بِعَفْوِ الْأَوْلِيَاءِ وَيُسَمَّى قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مُحَارَبِينَ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْبَرَارِيِّ مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا أَخَذُوهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ كَانَ فِي صُورَةِ الْمُحَارَبِ (قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ التَّوْزِيعُ عَلَى الْأَحْوَالِ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ كَلِمَةِ أَوْ.

وَقَوْلُهُ (وَهِيَ أَرْبَعَةٌ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ) يَعْنِي قَوْلَهُ فَأُخِذُوا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا مَالًا وَيَقْتُلُوا نَفْسًا، وَقَوْلُهُ وَإِنْ أَخَذُوا مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا. وَالرَّابِعَةُ مَا يُذْكَرُ بُعَيْدَ هَذَا مِنْ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ.

ص: 423

وَلِأَنَّ الْجِنَايَاتِ تَتَفَاوَتُ عَلَى الْأَحْوَالِ فَاللَّائِقُ تَغَلُّظُ الْحُكْمِ بِتَغَلُّظِهَا. أَمَّا الْحَبْسُ فِي الْأُولَى فَلِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ نَفْيٌ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ بِدَفْعِ شَرِّهِمْ عَنْ أَهْلِهَا، وَيُعَزَّرُونَ أَيْضًا لِمُبَاشَرَتِهِمْ مُنْكَرَ الْإِخَافَةِ. وَشَرْطُ الْقُدْرَةِ عَلَى الِامْتِنَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُحَارَبَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ كَمَا بَيَّنَّاهَا لِمَا تَلَوْنَاهُ. وَشَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لِتَكُونَ الْعِصْمَةُ مُؤَبَّدَةً، وَلِهَذَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ. وَشَرْطُ كَمَالِ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ كَيْ لَا يُسْتَبَاحَ طَرَفُهُ إلَّا بِتَنَاوُلِهِ مَالَهُ خَطَرٌ، وَالْمُرَادُ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ كَمَا بَيَّنَّاهَا لِمَا تَلَوْنَاهُ (وَيُقْتَلُونَ حَدًّا، حَتَّى لَوْ عَفَا الْأَوْلِيَاءُ عَنْهُمْ لَا يُلْتَفَت إلَى عَفْوِهِمْ)

وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْجِنَايَاتِ تَتَفَاوَتُ عَلَى الْأَحْوَالِ) أَيْ عَلَى حَسَبِ الْأَحْوَالِ الْوَاقِعَةِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ (فَاللَّائِقُ تَغَلُّظُ الْحُكْمِ) أَيْ الْجَزَاءِ (بِتَغَلُّظِ الْجِنَايَةِ) بِتَفَاوُتِ الْأَحْوَالِ لَا التَّخْيِيرِ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مُقَابَلَةَ الْجِنَايَةِ الْغَلِيظَةِ بِجَزَاءٍ خَفِيفٍ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَحْثِ قَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ مُسْتَوْفًى (قَوْلُهُ فَلِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ) يَعْنِي عِنْدَنَا، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: الْمُرَادُ بِهِ الطَّلَبُ لِيَهْرُبُوا مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ بِالْحَبْسِ مَشْرُوعَةٌ وَالْأَخْذُ بِمَا يُوجَدُ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ (قَوْلُهُ وَشَرْطُ كَمَالِ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ إلَخْ) قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْعَشَرَةِ فِي مَوْضِعٍ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِأَخْذِهَا عُضْوًا وَاحِدًا وَهَا هُنَا الْمُسْتَحَقُّ عُضْوَانِ، وَلَا يُقْطَعُ عُضْوَانِ فِي السَّرِقَةِ إلَّا فِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا. وَقُلْنَا: يُغَلَّظُ الْحَدُّ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ تَغَلُّظِ فِعْلِهِمْ بِاعْتِبَارِ

ص: 424

لِأَنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ.

(وَ) الرَّابِعَةُ (إذَا قَتَلُوا وَأَخْذُو الْمَالَ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ وَقَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ وَلَا يُقْطَعُ) لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا تُوجِبُ حَدَّيْنِ، وَلِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يَدْخُلُ فِي النَّفْسِ فِي بَابِ الْحَدِّ

الْمُحَارَبَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ لَا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمَالِ الْمَأْخُوذِ، فَفِي النِّصَابِ هَذَا الْحَدُّ وَحَدُّ السَّرِقَةِ سَوَاءٌ. وَقَوْلُهُ (كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ) حَتَّى إذَا كَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى شَلَّاءَ أَوْ مَقْطُوعَةً لَمْ تُقْطَعْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةً فَإِنَّهُ تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى. وَقَوْلُهُ (فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْإِمَامَ بِالْخِيَارِ فِي جَمْعِ الْعُقُوبَتَيْنِ بَيْنَ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مَعَ الْقَتْلِ أَوْ الصَّلْبِ وَبَيْنَ الْقَتْلِ أَوْ الصَّلْبِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ، وَكَذَلِكَ لِلْإِمَامِ الْخِيَارُ عِنْدَ اخْتِيَارِ تَرْكِ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ، وَكَانَ الْخِيَارُ لِلْإِمَامِ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَهُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ وَلَا يُقْطَعُ) وَذَكَرَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ قَطْعَ الطَّرِيقِ (جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا تُوجِبُ حَدَّيْنِ، وَلِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ دَخَلَ فِي النَّفْسِ فِي بَابِ الْحَدِّ

ص: 425

كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَالرَّجْمِ. وَلَهُمَا أَنَّ هَذِهِ عُقُوبَةٌ وَاحِدَةٌ تَغَلَّظَتْ لِتَغَلُّظِ سَبَبِهَا، وَهُوَ تَفْوِيتُ الْأَمْنِ عَلَى التَّنَاهِي بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ، وَلِهَذَا كَانَ قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مَعًا فِي الْكُبْرَى حَدًّا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَا فِي الصُّغْرَى حَدَّيْنِ، وَالتَّدَاخُلُ فِي الْحُدُودِ لَا فِي حَدٍّ وَاحِدٍ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ التَّخْيِيرَ بَيْن الصَّلْبِ وَتَرْكِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُهُ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ التَّشْهِيرُ لِيَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ. وَنَحْنُ نَقُولُ أَصْلُ التَّشْهِيرِ بِالْقَتْلِ وَالْمُبَالَغَةِ بِالصَّلْبِ فَيُخَيَّرُ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ (وَيُصْلَبُ حَيًّا وَيُبْعَجُ بَطْنُهُ بِرُمْحٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ) وَمِثْلَهُ عَنْ الْكَرْخِيِّ. وَعَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ تَوَقِّيًا عَنْ الْمُثْلَةِ.

وَجْهُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الصَّلْبَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَبْلَغُ فِي الرَّدْعِ وَهُوَ

كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَالرَّجْمِ) فَإِنَّ السَّارِقَ إذَا زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ. قَوْلُهُ (وَلَهُمَا) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ (وَالتَّدَاخُلُ فِي الْحُدُودِ لَا فِي حَدٍّ وَاحِدٍ) أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَلَدَاتِ فِي الزِّنَا لَا تَتَدَاخَلُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ حَدًّا وَاحِدًا لَمَا جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَدَعَ الْقَطْعَ كَمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ الْجَلَدَاتِ. أُجِيبَ بِأَنَّ وِلَايَةَ تَرْكِ الْقَطْعِ لَيْسَ بِطَرِيقِ التَّدَاخُلِ بَلْ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَيْهِ فِي إجْزَاءِ حَدٍّ وَاحِدٍ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْقَتْلِ لِذَلِكَ، ثُمَّ إذَا قَتَلَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي اشْتِغَالِهِ بِالْقَطْعِ بَعْدَهُ كَمَا إذَا ضَرَبَ الزَّانِيَ، خَمْسِينَ جَلْدَةً فَمَاتَ فَإِنَّهُ يَتْرُكُ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إقَامَتِهِ وَالْبَعْجُ الشَّقُّ مِنْ حَدٍّ مُنِعَ. قَوْلُهُ (وَعَنْ الْكَرْخِيِّ مِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: يُصْلَبُ وَهُوَ حَيٌّ وَيُطْعَنُ بِالرُّمْحِ حَتَّى يَمُوتَ. وَقَوْلُهُ (تَوَقِّيًا عَنْ الْمُثْلَةِ) لِأَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ» .

ص: 426

الْمَقْصُودُ بِهِ.

قَالَ (وَلَا يُصْلَبُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ بَعْدَهَا فَيَتَأَذَّى النَّاسُ بِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُتْرَكُ عَلَى خَشَبَةٍ حَتَّى يَتَقَطَّعَ فَيَسْقُطَ لِيَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ.

قُلْنَا: حَصَلَ الِاعْتِبَارُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَالنِّهَايَةُ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ.

قَالَ (وَإِذَا قَتَلَ الْقَاطِعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي مَالٍ أَخَذَهُ) اعْتِبَارًا بِالسَّرِقَةِ الصُّغْرَى وَقَدْ بَيَّنَّاهُ

(فَإِنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ أَحَدُهُمْ أَجْرَى الْحَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَجْمَعِهِمْ) لِأَنَّهُ جَزَاءَ الْمُحَارَبَةِ، وَهِيَ تَتَحَقَّقُ بِأَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ رِدْءًا لِلْبَعْضِ حَتَّى إذَا زَلَّتْ أَقْدَامُهُمْ انْحَازُوا إلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ الْقَتْلُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَقَدْ تَحَقَّقَ. قَالَ (وَالْقَتْلُ وَإِنْ كَانَ بَعْضًا أَوْ بِحَجَرٍ أَوْ بِسَيْفٍ فَهُوَ سَوَاءٌ) لِأَنَّهُ يَقَعُ قَطْعًا لِلطَّرِيقِ بِقَطْعِ الْمَارَّةِ

(وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ الْقَاطِعُ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا وَقَدْ جَرَحَ اُقْتُصَّ مِنْهُ فِيمَا فِيهِ الْقِصَاصُ، وَأُخِذَ الْأَرْشُ مِنْهُ فِيمَا فِيهِ الْأَرْشُ وَذَلِكَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ) لِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ فَظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَيَسْتَوْفِيهِ الْوَلِيُّ (وَإِنْ أَخَذَ مَالًا ثُمَّ جَرَحَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرَجْلُهُ وَبَطَلَتْ الْجِرَاحَاتُ) لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ سَقَطَتْ عِصْمَةُ النَّفْسِ

وَقَوْلُهُ (بِمَا ذَكَرْنَا) أَيْ بِالصَّلْبِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

قَالَ (وَإِذَا قَتَلَ الْقَاطِعَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) إذَا قَتَلَ قَاطِعَ الطَّرِيقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي مَالٍ أَخَذَهُ كَمَا لَوْ سَرَقَ فَقَطَعَ يَدَهُ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.

وَقَوْلُهُ (انْحَازُوا إلَيْهِمْ) أَيْ انْضَمُّوا.

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ الْقَاطِعُ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا وَقَدْ جَرَحَ) جَعَلَهُ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ حَالَةً خَامِسَةً مِنْ أَحْوَالِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْإِجْمَالِ بَلْ قَالَ هِيَ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ الْأَحْوَالُ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْأَجْزِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي النَّصِّ حَدًّا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ. قَوْلُهُ (سَقَطَتْ عِصْمَةُ النَّفْسِ

ص: 427

حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا تَسْقُطُ عِصْمَةُ الْمَالِ (وَإِنْ أُخِذَ بَعْدَ مَا تَابَ وَقَدْ قَتَلَ عَمْدًا فَإِنْ شَاءَ الْأَوْلِيَاءُ قَتَلُوهُ وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا عَنْهُ) لِأَنَّ الْحَدَّ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ لَا يُقَامُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ، وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى رَدِّ الْمَالِ وَلَا قَطْعَ فِي مِثْلِهِ، فَظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ أَوْ يَعْفُوَ،

حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا تَسْقُطُ عِصْمَةُ الْمَالِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يَجْرِي مَجْرَى الْأَمْوَالِ فَكَانَ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الْمَالِ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الْجُرْحِ لِأَنَّ مُوجِبَ الْأَرْشِ هُوَ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ لَصَارَتْ شُبْهَةً فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ؛ إذْ الْجِنَايَةُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ قَطْعُ الطَّرِيقِ، فَإِذَا ظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ عُلِمَ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهِ وَقَدْ ظَهَرَ حَقُّ اللَّهِ حَيْثُ وَجَبَ الْقَطْعُ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ شَاءَ الْأَوْلِيَاءُ قَتَلُوهُ) يَعْنِي قِصَاصًا. وَقَوْلُهُ (لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ) يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ قَوْلَهُ {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} هَاهُنَا نَظِيرُهُ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} قِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا جُمْلَتَانِ كَامِلَتَانِ عُطِفَتَا عَلَى جُمْلَتَيْنِ كَامِلَتَيْنِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} لَا يَصْلُحُ جَزَاءً، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَاعْتُرِضَ أَيْضًا بِأَنَّ التَّوْبَةَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ أَوَّلًا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَا يَسْتَقِيمُ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى رَدِّ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ الْوَجْهُ الثَّانِي دَاخِلًا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ جُزْءَ عِلَّةٍ وَعِلَّةً مُسْتَقِلَّةً بِالنِّسْبَةِ إلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِنَفْسِ التَّوْبَةِ وَهِيَ الْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ وَالِاجْتِنَابُ فِي الْمَآلِ وَالنَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهِ أَبَدًا، وَلَمْ يَجْعَلُوا التَّوْبَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى مَوْقُوفَةً عَلَى رَدِّ الْمَالِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ مَا لَمْ يَرُدَّ الْمَالَ فَجَعَلُوا الرَّدَّ مِنْ تَمَامِهَا، فَالْمُصَنِّفُ جَمَعَ بَيْنَ قَوْلَيْ الْمَشَايِخِ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ، ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا قَطْعَ فِي مِثْلِهِ) أَيْ فِي مِثْلِ مَا إذَا رَدَّ الْمَالَ إلَى الْمَالِكِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ تَنْقَطِعُ بِرَدِّ الْمَالِ إلَيْهِ وَهِيَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ. وَقَوْلُهُ (فَظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ) يَعْنِي لَمَّا انْتَفَى حَقُّ الشَّرْعِ وَهُوَ الْقَطْعُ بِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْخُصُومَةُ بِرَدِّ الْمَالِ (ظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ أَوْ يَعْفُوَ)

ص: 428

وَيَجِبُ الضَّمَانُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ

(وَإِنْ كَانَ مِنْ الْقُطَّاعِ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْبَاقِينَ) فَالْمَذْكُورُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ الْعُقَلَاءُ يُحَدُّ الْبَاقُونَ وَعَلَى هَذَا السَّرِقَةُ الصُّغْرَى.

وَقَوْلُهُ (وَيَجِبُ الضَّمَانُ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ وُجُودَ الضَّمَانِ لِسُقُوطِ الْحَدِّ وَسُقُوطُ الْحَدِّ بِالتَّوْبَةِ وَالتَّوْبَةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى رَدِّ الْمَالِ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْهَلَاكُ أَوْ الِاسْتِهْلَاكُ بَعْدَ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّا نَفْرِضُ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا تَابَ رَدَّ بَعْضَ الْمَالِ بِأَنْ يَرُدَّ مَالَ بَعْضِ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ

ص: 429

لَهُ أَنَّ الْمُبَاشِرَ أَصْلٌ، وَالرَّدُّ تَابِعٌ وَلَا خَلَلَ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَاقِلِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْخَلَلِ فِي التَّبَعِ، وَفِي عَكْسِهِ يَنْعَكِسُ الْمَعْنَى وَالْحُكْمُ.

وَلَهُمَا أَنَّهُ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ قَامَتْ بِالْكُلِّ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ فِعْلُ بَعْضِهِمْ مُوجِبًا كَانَ فِعْلُ الْبَاقِينَ بَعْضَ الْعِلَّةِ وَبِهِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فَصَارَ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ.

وَأَمَّا ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَقَدْ قِيلَ تَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ الْمَالُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُطْلَقٌ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ

الطَّرِيقُ وَاسْتَهْلَكَ مَالَ الْبَعْضِ الْآخَرِ أَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ حَيْثُ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ وَيَجِبُ الضَّمَانُ. وَأَقُولُ: هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَتْ التَّوْبَةُ مُتَوَقِّفَةً عَلَى رَدِّ الْمَالِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُتَوَقِّفَةً عَلَى رَدِّ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ فَلَا يَتِمُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْوَضْعُ إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ الْآخَرِ مِنْ الْمَشَايِخِ.

وَقَوْلُهُ (وَفِي عَكْسِهِ يَنْعَكِسُ الْمَعْنَى وَالْحُكْمُ) يَعْنِي إذَا بَاشَرَ غَيْرُ الْعُقَلَاءِ صَارَ الْخَلَلُ فِي الْأَصْلِ، وَلَهُ الِاعْتِبَارُ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْكُلِّ. وَقَوْلُهُ (فَصَارَ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ) يَعْنِي إذَا رَمَى بِسَهْمٍ إلَى إنْسَانٍ عَمْدًا وَرَمَاهُ آخَرُ خَطَأً وَأَصَابَهُ السَّهْمَانِ مَعًا وَمَاتَ مِنْهُمَا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْعَامِدِ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ فَيَكُونُ فِعْلُ الْخَاطِئِ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْعَامِدِ. وَقَوْلُهُ (فَقَدْ قِيلَ تَأْوِيلُهُ) ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ إلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمَالُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ، وَفِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْبَاقِينَ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ شَيْءٌ وَاحِدٌ؛ فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَحَدِهِمْ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ امْتَنَعَ عَنْ الْبَاقِينَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَالٌ مُفْرَدٌ فَالْحَدُّ يَجْرِي عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِغَيْرِهِ، كَمَا لَوْ سَرَقُوا مِنْ حِرْزِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَحَدِهِمْ مَالًا وَمِنْ حِرْزِ أَجْنَبِيٍّ مَالًا آخَرَ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَرَقُوا مِنْ حِرْزِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مَالَهُ وَمَالَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هُنَاكَ فِي الْحِرْزِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْحِرْزِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ فَكُلُّ وَاحِدٍ حَافِظٌ لِمَالِهِ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُطْلَقٌ) أَيْ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِكَوْنِ الْمَالِ مُشْتَرَكًا (لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ)

ص: 430

فَالِامْتِنَاعُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهِمْ مُسْتَأْمَنٌ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّهِ لِخَلَلٍ فِي الْعِصْمَةِ وَهُوَ يَخُصُّهُ، أَمَّا هُنَا الِامْتِنَاعُ لِخَلَلٍ فِي الْحِرْزِ، وَالْقَافِلَةُ حِرْزٌ وَاحِدٌ (وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ صَارَ الْقَتْلُ إلَى الْأَوْلِيَاءِ) لِظُهُورِ حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ (فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا).

(وَإِذَا قَطَعَ بَعْضُ الْقَافِلَةِ الطَّرِيقَ عَلَى الْبَعْضِ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ) لِأَنَّ الْحِرْزَ وَاحِدٌ فَصَارَتْ الْقَافِلَةُ كَدَارٍ وَاحِدَةٍ

(وَمَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فِي الْمِصْرِ أَوْ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ فَلَيْسَ بِقَاطِعِ الطَّرِيقِ) اسْتِحْسَانًا.

وَفِي الْقِيَاسِ يَكُونُ قَاطِعَ الطَّرِيقِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِوُجُودِهِ حَقِيقَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ إذَا كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ إنْ كَانَ بِقُرْبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ.

لِأَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ (فَالِامْتِنَاعُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ) بِخِلَافِ السَّرِقَةِ مِنْ حِرْزٍ ثُمَّ مِنْ حِرْزٍ آخَرَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهِمْ مُسْتَأْمَنٌ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ قَطْعُ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْقَطْعِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، ثُمَّ وُجُودُ هَذَا فِي الْقَافِلَةِ يُسْقِطُ الْحَدَّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ وُجُودُ الْمُسْتَأْمَنِ فِيهِمْ أَيْضًا. وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ (أَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ لِخَلَلٍ فِي الْعِصْمَةِ وَهُوَ) أَيْ الْخَلَلُ (يَخُصُّ الْمُسْتَأْمَنَ) فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ

ص: 431

وَعَنْهُ إنْ قَاتَلُوا نَهَارًا بِالسِّلَاحِ أَوْ لَيْلًا بِهِ أَوْ بِالْخَشَبِ فَهُمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ لِأَنَّ السِّلَاحَ لَا يَلْبَثُ وَالْغَوْثُ يُبْطِئُ بِاللَّيَالِيِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ بِقَطْعِ الْمَارَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَيَقْرُبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لُحُوقُ الْغَوْثِ، إلَّا أَنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ بِرَدِّ الْمَالِ أَيْضًا لَا لِلْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَيُؤَدَّبُونَ وَيُحْبَسُونَ لِارْتِكَابِهِمْ الْجِنَايَةَ، وَلَوْ قَتَلُوا فَالْأَمْرُ فِيهِ إلَى الْأَوْلِيَاءِ لِمَا بَيَّنَّا

(وَمَنْ خَنَقَ رَجُلًا حَتَّى قَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ، وَسَنُبَيِّنُ فِي بَابِ الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِنْ خَنَقَ فِي الْمِصْرِ غَيْرَ مَرَّةٍ قُتِلَ بِهِ)؛ لِأَنَّهُ صَارَ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَيُدْفَعُ شَرُّهُ بِالْقَتْلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

كَمَا إذَا سَرَقَ الْخَمْرَ وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَأَمَّا وُجُودُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي الْحِرْزِ؛ لِأَنَّ الْقَافِلَةَ بِمَنْزِلَةِ بَيْتٍ وَاحِدٍ فَكَانَ هَذَا كَقَرِيبٍ سَرَقَ مَالَ الْقَرِيبِ وَمَالَ الْأَجْنَبِيِّ مِنْ بَيْتِ الْقَرِيبِ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِشُبْهَةٍ تَمَكَّنَتْ فِي الْحِرْزِ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَبِقُرْبٍ مِنْهُ) قَدْرُ الْبُعْدِ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ وَبَيْنَ الْقُطَّاعِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِظُهُورِ حَقِّ الْعَبْدِ.

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ خَنَقَ رَجُلًا) بِالتَّخْفِيفِ مِنْ خَنَقَهُ إذَا عَصَرَ حَلْقَهُ، وَالْخِنَاقُ فَاعِلُهُ وَمَصْدَرُهُ الْخَنِقُ بِكَسْرِ النُّونِ وَلَا يُقَالُ بِالسُّكُونِ، كَذَا عَنْ الْفَارَابِيِّ

ص: 432

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 433

(كِتَابُ السِّيَرِ)

السِّيَرُ جَمْعُ سِيرَةٍ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ فِي الْأُمُورِ، وَفِي الشَّرْعِ تَخْتَصُّ بِسِيَرِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فِي مَغَازِيهِ.

كِتَابُ السِّيَرِ:

قَدَّمَ الْحُدُودَ عَلَى السِّيَرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ يَتَأَدَّى بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ إلَّا أَنَّ الْحُدُودَ مُعَامَلَةٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ غَالِبًا أَوْ عَلَى الْخُصُوصِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ. وَفِي السِّيَرِ الْمُعَامَلَةُ مَعَ الْكُفَّارِ وَتَقْدِيمُ مَا بِالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى (وَالسِّيَرُ جَمْعُ سِيرَةٍ) وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنْ السِّيَرِ (وَهِيَ الطَّرِيقَةُ فِي الْأُمُورِ. وَفِي الشَّرْعِ تَخْتَصُّ بِسِيَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَغَازِيهِ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: أَصْلُ السِّيرَةِ حَالَةُ السَّيْرِ، إلَّا أَنَّهَا غَلَبَتْ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ عَلَى أُمُورِ الْمَغَازِي وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا كَالْمَنَاسِكِ عَلَى أُمُورِ الْحَجِّ، وَالْمَغَازِي جَمْعُ الْمَغْزَاةِ مِنْ غَزَوْت الْعَدُوَّ قَصَدْته لِلْقِتَالِ، وَهِيَ الْغَزْوَةُ وَالْغُزَاةُ وَالْمَغْزَاةُ.

ص: 434

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 435

قَالَ (الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ

قَالَ (الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ)

ص: 436

إذَا قَامَ بِهِ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ) أَمَّا الْفَرْضِيَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}

قِيلَ: الْجِهَادُ هُوَ الدُّعَاءُ إلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَالْقِتَالُ مَعَ مَنْ امْتَنَعَ عَنْ الْقَبُولِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ. وَسَبَبُهُ كَوْنُ الْكُفَّارِ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ (إذَا قَامَ بِهِ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ. أَمَّا الْفَرْضِيَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وَهُوَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ فَيُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ

ص: 437

وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَأَرَادَ بِهِ فَرْضًا بَاقِيًا، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا فُرِضَ لِعَيْنِهِ إذْ هُوَ إفْسَادٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا فُرِضَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْ الْعِبَادِ،

وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» أَيْ نَافِذٌ، مِنْ مَضَى فِي الْأَرْضِ مُضِيًّا إذَا نَفَذَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ التَّمَسُّكُ عَلَى دَعْوَى الْفَرْضِيَّةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. أُجِيبَ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا تَأَيَّدَ بِالْحُجَّةِ الْقَطْعِيَّةِ صَحَّ إضَافَةُ الْفَرْضِيَّةِ إلَيْهِ، وَهَاهُنَا تَأَيَّدَ هَذَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا} وَبِالْإِجْمَاعِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا تَأَيَّدَ بِالْقَطْعِيِّ أَفَادَ الْفَرْضِيَّةَ، فَإِنَّ الْفَرْضِيَّةَ حِينَئِذٍ تَكُونُ ثَابِتَةً بِذَلِكَ الْقَطْعِيِّ لَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْخَبَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ بَلْ لِبَيَانِ دَوَامِهِ وَبَقَائِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ فَإِنَّ الدَّلَائِلَ الْقَطْعِيَّةَ فِي الْبَابِ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَا احْتَمَلَهُ النَّصُّ (وَأَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ فَلِأَنَّهُ مَا فُرِضَ لِعَيْنِهِ لِكَوْنِهِ إفْسَادًا فِي نَفْسِهِ) بِتَخْرِيبِ الْبِلَادِ وَإِفْنَاءِ الْعِبَادِ، لَكِنْ (لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْ الْعِبَادِ

ص: 438

فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْبَعْضِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَرَدِّ السَّلَامِ (فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ جَمِيعُ النَّاسِ بِتَرْكِهِ) لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْكُلِّ، وَلِأَنَّ فِي اشْتِغَالِ الْكُلِّ بِهِ قَطْعَ مَادَّةِ الْجِهَادِ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَيَجِبُ عَلَى الْكِفَايَةِ (إلَّا أَنْ)(يَكُونُ النَّفِيرُ عَامًّا) فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ

فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْبَعْضِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَرَدِّ السَّلَامِ) وَالْمُرَادُ بِكُرَاعِ الْخَيْلِ.

ص: 439

لِقَوْلِهِ تَعَالَى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} الْآيَةَ. وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْجِهَادُ وَاجِبٌ إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي سَعَةٍ حَتَّى يُحْتَاجَ إلَيْهِمْ، فَأَوَّلُ هَذَا الْكَلَامِ إشَارَةٌ إلَى الْوُجُوبِ عَلَى الْكِفَايَةِ

وقَوْله تَعَالَى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} أَيْ رُكْبَانًا وَمُشَاةً أَوْ شُبَّانًا وَشُيُوخًا أَوْ مَهَازِيلَ وَسِمَانًا أَوْ صِحَاحًا وَمِرَاضًا. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} عَامٌّ فَمَا وَجْهُ تَقْيِيدِهِ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ رَفْعُ الْحَرَجِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ مَعَ تَخَلُّفِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ اخْتِصَاصُهُ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} إلَى قَوْله تَعَالَى {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْقَاعِدِينَ عَنْ الْجِهَادِ الْحُسْنَى، وَلَوْ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ لَاسْتَحَقَّ الْقَاعِدُ الْوَعِيدَ لَا الْوَعْدَ. ثُمَّ الْجِهَادُ يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ عَلَى مَنْ يَقْرَبُ مِنْ الْعَدُوِّ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ وَرَاءَهُمْ فَلَا يَكُونُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ إلَّا إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِمْ، إمَّا لِعَجْزِ الْقَرِيبِ عَنْ الْمُقَاوَمَةِ مَعَ الْعَدُوِّ، وَإِمَّا لِلتَّكَاسُلِ فَحِينَئِذٍ يُفْرَضُ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ ثُمَّ وَثُمَّ إلَى أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ شَرْقًا وَغَرْبًا عَلَى هَذَا التَّدْرِيجِ.

وَقَوْلُهُ (فَأَوَّلُ هَذَا الْكَلَامِ إشَارَةٌ إلَى الْوُجُوبِ عَلَى الْكِفَايَةِ) أَرَادَ بِالْأَوَّلِ قَوْلَهُ رحمه الله: الْجِهَادُ وَاجِبٌ، إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي سِعَةٍ، إذْ الِاسْتِثْنَاءُ

ص: 440

وَآخِرُهُ إلَى النَّفِيرِ الْعَامِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَتَحَصَّلُ إلَّا بِإِقَامَةِ الْكُلِّ فَيُفْتَرَضُ عَلَى الْكُلِّ (وَقِتَالُ الْكُفَّارِ وَاجِبٌ) وَإِنْ لَمْ يَبْدَءُوا لِلْعُمُومَاتِ

تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثَّنِيَّا فَكَانَ فِي مَجْمُوعِ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ (وَآخِرُهُ) وَهُوَ قَوْلُهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَيْهِمْ إلَى النَّفِيرِ الْعَامِّ. قَالَ (وَقِتَالُ الْكُفَّارِ) الَّذِينَ امْتَنَعُوا عَنْ الْإِسْلَامِ وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ (وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَبْدَءُوا بِالْقِتَالِ لِلْعُمُومَاتِ) الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} وَغَيْرُهَا. فَإِنْ قِيلَ الْعُمُومَاتُ مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِتَالَ الْكُفَّارِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا بَدَءُوا بِالْقِتَالِ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَبَيَانُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ مَأْمُورًا بِالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} ثُمَّ أُمِرَ بِالدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْمُجَادَلَةِ بِالْأَحْسَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} الْآيَةَ ثُمَّ أَذِنَ بِالْقِتَالِ إذَا كَانَتْ الْبُدَاءَةُ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الْآيَةَ، وَبِقَوْلِهِ {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} ثُمَّ أُمِرَ بِالْقِتَالِ ابْتِدَاءً فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الْآيَةَ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْبُدَاءَةِ بِالْقِتَالِ مُطْلَقًا فِي الْأَزْمَانِ كُلِّهَا وَفِي الْأَمَاكِنِ بِأَسْرِهَا فَقَالَ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} الْآيَةَ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} الْآيَةَ.

ص: 441

(وَلَا يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى صَبِيٍّ)؛ لِأَنَّ الصِّبَا مَظِنَّةُ الْمَرْحَمَةِ (وَلَا عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ) التَّقَدُّمُ حَقُّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ (وَلَا أَعْمَى وَلَا مُقْعَدٍ وَلَا أَقْطَعَ لِعَجْزِهِمْ، فَإِنْ هَجَمَ الْعَدُوُّ عَلَى بَلَدٍ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الدَّفْعُ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا وَالْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى) لِأَنَّهُ صَارَ فَرْضَ عَيْنٍ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ وَرِقُ النِّكَاحِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ النَّفِيرِ؛ لِأَنَّ بِغَيْرِهِمَا مَقْنَعًا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى

وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى صَبِيٍّ) ظَاهِرٌ.

ص: 442

إبْطَالِ حَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ

(وَيُكْرَهُ الْجُعَلُ مَا دَامَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيْءٌ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْأَجْرَ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ (فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَوِّيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا) لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْأَعْلَى بِإِلْحَاقِ الْأَدْنَى، يُؤَيِّدُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَخَذَ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ» وَعُمَرُ رضي الله عنه كَانَ يُغْزِي الْأَعْزَبَ عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ، وَيُعْطِي الشَّاخِصَ فَرَسَ الْقَاعِدِ.

وَقَوْلُهُ (وَيُكْرَهُ الْجُعْلُ مَا دَامَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيْءٌ) أَرَادَ بِالْجُعْلِ مَا يَضْرِبُهُ الْإِمَامُ لِلْغُزَاةِ عَلَى النَّاسِ بِمَا يَتَقَوَّى بِهِ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ إلَى الْجِهَادِ (لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْأُجْرَةَ) وَحَقِيقَةُ الْأُجْرَةِ حَرَامٌ فَمَا يُشْبِهُ الْأُجْرَةَ يَكُونُ مَكْرُوهًا. وَقَوْلُهُ (يُغْزِي الْأَعْزَبُ) يُقَالُ أَغْزَى الْأَمِيرُ الْجَيْشَ إذَا بَعَثَهُ إلَى الْعَدُوِّ، وَيُقَالُ رَجُلٌ عَزَبٌ بِالتَّحْرِيكِ لِمَنْ لَا زَوْجَ لَهُ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ «وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ» وَالشُّخُوصُ الذَّهَابُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 443

(بَابُ كَيْفِيَّةِ الْقِتَالِ)

(وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ دَارَ الْحَرْبِ فَحَاصَرُوا مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا دَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ) لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام

بَابُ كَيْفِيَّةِ الْقِتَالِ:

لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ الْقِتَالَ بَدَأَ بِبَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ وَالْمَدِينَةُ مَعْرُوفَةٌ وَالْحِصْنُ بِكَسْرِ الْحَاءِ كُلُّ مَكَان مَحْمِيٍّ مُحْرَزٍ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَا فِي جَوْفِهِ فَالْمَدِينَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْحِصْنِ (قَوْلُهُ دَعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ) قِيلَ: لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُقَاتِلُوا قَوْمًا بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ أَوْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ حَتَّى يُدْعَوْا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْأَفْضَلُ ذَلِكَ، «وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا قَاتَلَ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا فَرَغَ جَدَّدَ الدَّعْوَةَ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِتَالِ» .

ص: 444

مَا قَاتَلَ قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» قَالَ (فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْ قِتَالِهِمْ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ.

وَقَوْلُهُ (كَفُّوا عَنْ قِتَالِهِمْ) أَيْ امْتَنَعُوا عَنْ قِتَالِهِمْ أَوْ مَنَعُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْهُ فَكَفَّ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ.

ص: 445

(وَإِنْ امْتَنَعُوا دَعَوْهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ) بِهِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام أُمَرَاءَ الْجُيُوشِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ، وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، وَمَنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ لَا فَائِدَةَ فِي دُعَائِهِمْ إلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} (فَإِنْ بَذَلُوهَا فَلَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِيَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا، وَالْمُرَادُ بِالْبَذْلِ الْقَبُولُ وَكَذَا الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ الْمَذْكُورِ فِيهِ فِي الْقُرْآنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

(وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إلَى الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ يَدْعُوهُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي وَصِيَّةِ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ «فَادْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَلِأَنَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ يَعْلَمُونَ أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الدِّينِ لَا عَلَى سَلْبِ الْأَمْوَالِ وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ فَلَعَلَّهُمْ يُجِيبُونَ فَنُكْفَى مُؤْنَةُ الْقِتَالِ، وَلَوْ قَاتَلَهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ أَثِمَ لِلنَّهْيِ، وَلَا غَرَامَةَ لِعَدَمِ الْعَاصِمِ وَهُوَ الدِّينُ أَوْ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ فَصَارَ كَقَتْلِ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ) مُبَالَغَةً فِي الْإِنْذَارِ، وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ» . «وَعَهِدَ إلَى أُسَامَةَ رضي الله عنه أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا ثُمَّ يُحَرِّقَ» وَالْغَارَةُ لَا تَكُونُ بِدَعْوَةٍ.

وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ) يُرِيدُ قَوْله تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} (قَوْلُهُ وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ) ظَاهِرٌ

(قَوْلُهُ فَنُكْفَى) بِالنُّونِ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ مُؤْنَةَ الْقِتَالِ بِنَصْبِ مُؤْنَةِ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي (قَوْلُهُ لِلنَّهْيِ) إشَارَةٌ إلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَلِيًّا فِي سَرِيَّةٍ، وَقَالَ: لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» . وَقَوْلُهُ (لِعَدَمِ الْعَاصِمِ) أَيْ الْمُوجِبِ لِلْغَرَامَةِ (وَهُوَ الدِّينُ) عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ (أَوْ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ) عَلَى مَذْهَبِنَا. وَقَوْلُهُ (مُبَالَغَةً فِي الْإِنْذَارِ)«لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا قَاتَلَ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ دَعَا ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ الْفَرَاغِ جَدَّدَ الدَّعْوَةَ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ» . وَقَوْلُهُ (أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ) أَيْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ خِبَائِهِمْ بِهُجُومِهِ عَلَيْهِمْ (وَهْم غَارُّونَ) أَيْ غَافِلُونَ. وَأُبْنَى عَلَى وَزْنِ حُبْلَى مَوْضِعٌ بِالشَّامِ، وَقِيلَ اسْمُ قَبِيلَةٍ (وَالْغَارَةُ لَا تَكُونُ بِدَعْوَةٍ) لِأَنَّ فِيهَا سَتْرَ الْأَمْرِ وَالْإِسْرَاعَ، لِأَنَّهَا اسْمُ مَصْدَرٍ لِلْإِغَارَةِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ أَغَارَ الثَّعْلَبُ أَوْ الْفَرَسُ إغَارَةً وَغَارَةً: إذَا أَسْرَعَ فِي الْعَدْوِ.

ص: 446

قَالَ (فَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ اسْتَعَانُوا بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَحَارَبُوهُمْ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ «فَإِنَّ أَبَوْا ذَلِكَ فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، إلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ أَبَوْهَا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ» وَلِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ النَّاصِرُ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْمُدَمِّرُ عَلَى أَعْدَائِهِ فَيُسْتَعَانُ بِهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ.

قَالَ (وَنَصَبُوا عَلَيْهِمْ الْمَجَانِيقَ) كَمَا نَصَبَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى الطَّائِفِ (وَحَرَّقُوهُمْ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَحْرَقَ الْبُوَيْرَةَ.

قَالَ (وَأَرْسَلُوا عَلَيْهِمْ الْمَاءَ وَقَطَّعُوا أَشْجَارَهُمْ وَأَفْسَدُوا زُرُوعَهُمْ) لِأَنَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلْحَاقَ الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ بِهِمْ وَكَسْرَةَ شَوْكَتِهِمْ وَتَفْرِيقَ جَمْعِهِمْ فَيَكُونُ مَشْرُوعًا، (وَلَا بَأْسَ بِرَمْيِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُسْلِمٌ أَسِيرٌ أَوْ تَاجِرٌ) لِأَنَّ فِي الرَّمْيِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ، وَقَتْلُ الْأَسِيرِ وَالتَّاجِرِ ضَرَرٌ خَاصٌّ،

وَقَوْلُهُ (الْبُوَيْرَةُ) عَلَى وَزْنِ الدُّوَيْرَةِ مُصَغَّرُ الدَّارِ وَالْكَبْتُ هُوَ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أَسِيرٌ مُسْلِمُ أَوْ تَاجِرٌ) رُدَّ لِمَا قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ مُسْلِمًا وَأَنَّهُ يَتْلَفُ بِهَذَا الصُّنْعِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ وَتَرْكُ قَتْلِ الْكَافِرِ جَائِزٌ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يَقْتُلَ الْأَسَارَى لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (وَقُلْنَا فِي رَمْيِهِمْ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ) أَيْ مُجْتَمَعِهِ لِلشَّبَهِ الْمَعْنَوِيِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَيْضَةِ النَّعَامَةِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ الْبَيْضَةَ مُجْتَمَعُ الْوَلَدِ (وَقَتْلُ الْأَسِيرِ وَالتَّاجِرِ ضَرَرٌ خَاصٌّ) وَإِذَا

ص: 447

وَلِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو حِصْنٌ عَنْ مُسْلِمٍ، فَلَوْ امْتَنَعَ بِاعْتِبَارِهِ لَانْسَدَّ بَابُهُ (وَإِنَّ تَتَرَّسُوا بِصِبْيَانِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِالْأُسَارَى لَمْ يَكُفُّوا عَنْ رَمْيِهِمْ) لِمَا بَيَّنَّاهُ (وَيَقْصِدُونَ بِالرَّمْيِ الْكُفَّارَ) لِأَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فِعْلًا فَلَقَدْ أُمْكِنَ قَصْدًا، وَالطَّاعَةُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَمَا أَصَابُوهُ مِنْهُمْ لَا دِيَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ وَالْغَرَامَاتُ لَا تُقْرَنُ بِالْفُرُوضِ.

اجْتَمَعَا يُقَدَّمُ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ (وَلِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو حِصْنٌ مِنْ حُصُونِهِمْ عَنْ مُسْلِمٍ) أَسِيرٍ أَوْ تَاجِرٍ (فَلَوْ امْتَنَعَ) عَنْ الرَّمْيِ (بِاعْتِبَارِهِ لَانْسَدَّ بَابُهُ) أَيْ بَابُ الْجِهَادِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ فِي الرَّمْيِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ إلَخْ. وَقَوْلُهُ (وَمَا أَصَابُوهُ مِنْهُمْ لَا دِيَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا كَفَّارَةَ) يَعْنِي عِنْدَنَا.

وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ هَذَا هُوَ عَيْنُ صُورَةِ قَتْلِ الْخَطَإِ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِالرَّمْيِ الْكَافِرَ فَيُصِيبُ الْمُسْلِمَ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ حَالِ مَنْ يُصِيبُهُ عِنْدَ الرَّمْيِ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ خَطَأً بَلْ كَانَ مُبَاحًا مَحْضًا، وَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ. وَلَنَا أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ وَكُلُّ مَا هُوَ فَرْضٌ (فَالْغَرَامَاتُ لَا تُقْرَنُ بِهِ) لِأَنَّ الْفَرْضَ مَأْمُورٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ، وَسَبَبُ الْغَرَامَاتِ عُدْوَانٌ مَحْضٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُعَارَضَةِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ مُفْرَجٌ» أَيْ مُهْدَرٌ، وَالتَّعْلِيلُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ بَاطِلٌ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ عَامٌّ خَصَّ مِنْهُ الْبُغَاةَ وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ فَتُخَصُّ صُورَةُ النِّزَاعِ بِمَا قُلْنَاهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْقِرَانَ شَرْطٌ وَهُوَ مَمْنُوعٌ. وَأَقُولُ: قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ» مَعْنَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ

ص: 448

بِخِلَافِ حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ مَخَافَةَ الضَّمَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ نَفْسِهِ.

أَمَّا الْجِهَادُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى إتْلَافِ النَّفْسِ فَيُمْتَنَعُ حِذَارَ الضَّمَانِ

وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ) جَوَابٌ عَمَّا قَاسَ عَلَيْهِ الْحَسَنُ، وَقَالَ: إطْلَاقُ الرَّمْيِ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْجِهَادِ لَا يَنْفِي الضَّمَانَ كَتَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ يُطْلَقُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَيَجِبُ الضَّمَانُ. وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ الْجَائِعَ يُقَدَّمُ عَلَى التَّنَاوُلِ عِنْدَ دَفْعِ الْخَطَرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَمَانٌ (لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ نَفْسِهِ) وَهُوَ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ يَتَحَمَّلُ بِسَبَبِهَا ضَرَرَ الضَّمَانِ (أَمَّا الْجِهَادُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى إتْلَافِ النَّفْسِ) أَيْ نَفْسِ سَوَادِ الْكُفَّارِ وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا مُسْلِمٌ، فَلَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ بِقِتَالِهِمْ لَامْتَنَعُوا عَنْ الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ إيجَابُ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى الْإِمَامِ فِيمَا إذَا مَاتَ الزَّانِي الْبِكْرُ مِنْ الْجَلْدِ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ الْقَاضِي عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْجِهَادَ مَبْنِيٌّ عَلَى إتْلَافِ النَّفْسِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ إمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَقَدْ يُصَادِفُ الْمُسْلِمَ أَوْ يُقْتَلَ، فَلَوْ أَلْزَمْنَا الضَّمَانَ امْتَنَعَ عَنْ الْجِهَادِ الْفَرْضِ لِكَوْنِهِ خَاسِرًا فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَضْمَنْ. وَقَوْلُهُ (حِذَارَ الضَّمَانِ) مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ.

ص: 449

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِ النِّسَاءِ وَالْمَصَاحِفِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا عَسْكَرًا عَظِيمًا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ السَّلَامَةُ وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ (وَيُكْرَهُ إخْرَاجُ ذَلِكَ فِي سَرِيَّةً لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا) لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَهُنَّ عَلَى الضَّيَاعِ وَالْفَضِيحَةِ وَتَعْرِيضَ الْمَصَاحِفِ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِهَا مُغَايَظَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ» وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ الْمُصْحَفَ إذَا كَانُوا قَوْمًا يَفُونَ بِالْعَهْدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّعَرُّضِ، وَالْعَجَائِزُ يَخْرُجْنَ فِي الْعَسْكَرِ الْعَظِيمِ لِإِقَامَةِ عَمَلٍ يَلِيقُ بِهِنَّ كَالطَّبْخِ وَالسَّقْيِ وَالْمُدَاوَاةِ، فَأَمَّا الشَّوَابُّ فَمَقَامُهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أَدْفَعُ لِلْفِتْنَةِ

وَقَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِ النِّسَاءِ وَالْمَصَاحِفِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ سِوَى مَا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ. السَّرِيَّةُ عَدَدٌ قَلِيلٌ يَسِيرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَكْمُنُونَ بِالنَّهَارِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه: أَقَلُّ السَّرِيَّةِ مِائَةٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: أَفْضَلُ مَا يُبْعَثُ فِي السَّرِيَّةِ أَدْنَاهُ ثَلَاثَةٌ، وَلَوْ بَعَثَ بِمَا دُونَهُ جَازَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ قَوْلِ نَفْسِهِ: أَقَلُّ السَّرِيَّةِ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَأَقَلُّ الْجَيْشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَقَوْلُهُ (وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ») رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَأَمَّا قَيْدُ التَّأْوِيلِ بِالصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَمَّا قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقُمِّيُّ: النَّهْيُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ قِلَّةِ الْمَصَاحِفِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الطَّحَاوِيِّ.

ص: 450

وَلَا يُبَاشِرْنَ الْقِتَالَ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا عِنْدَ ضَرُورَةٍ، وَلَا يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُهُنَّ لِلْمُبَاضَعَةِ وَالْخِدْمَةِ، فَإِنْ كَانُوا لَا بُدَّ مُخْرَجِينَ فَبِالْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ

(وَلَا تُقَاتِلُ الْمَرْأَةُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا وَلَا الْعَبْدُ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ) لِمَا بَيَّنَّا (إلَّا أَنْ يَهْجُمَ الْعَدُوُّ عَلَى بَلَدٍ لِلضَّرُورَةِ)

وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَغْدِرُوا وَلَا يَغُلُّوا وَلَا يُمَثِّلُوا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَغْلُو وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا» وَالْغُلُولُ: السَّرِقَةُ مِنْ الْمَغْنَمِ، وَالْغَدْرُ: الْخِيَانَةُ وَنَقْضُ الْعَهْدِ،

وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فِي الْبَابِ السَّابِقِ لِتَقَدُّمِ حَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ. وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَهْجُمَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا تُقَاتِلْ: يَعْنِي عِنْدَ الضَّرُورَةِ يُقَاتِلُونَ لِأَنَّ الْجِهَادَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ وَلَا يَظْهَرُ حَقُّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ عِنْدَهُ.

ص: 451

وَالْمُثْلَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخَةٌ بِالنَّهْيِ الْمُتَأَخِّرِ هُوَ الْمَنْقُولُ

(وَلَا يَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا وَلَا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا مُقْعَدًا وَلَا أَعْمَى) لِأَنَّ الْمُبِيحَ لِلْقَتْلِ عِنْدَنَا هُوَ الْحِرَابُ وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا لَا يَقْتُلُ يَابِسُ الشَّقِّ وَالْمَقْطُوعُ الْيُمْنَى وَالْمَقْطُوعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ. وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ يُخَالِفُنَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي وَالْمُقْعَدِ وَالْأَعْمَى

وَقَوْلُهُ (وَالْمُثْلَةُ الْمَرْوِيَّةُ) يُقَالُ مَثَّلْت بِالرَّجُلِ أُمَثِّلُ بِهِ مَثَلًا وَمُثْلَةً إذَا سَوَّدْت وَجْهَهُ أَوْ قَطَعْت أَنْفَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقِصَّةُ مُثْلَةِ الْعُرَنِيِّينَ مَشْهُورَةٌ وَقَدْ اُنْتُسِخَتْ بِالنَّهْيِ الْمُتَأَخِّرِ. رَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَامَ فِينَا خَطِيبًا بَعْدَمَا مُثِّلَ بِالْعُرَنِيِّينَ إلَّا كَانَ يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ» فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ دَلِيلٌ عَلَى تَأْكِيدِ الْحُرْمَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا شَيْخًا فَانِيًا) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: هَذَا الْجَوَابُ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الْفَانِي الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ وَلَا عَلَى الصِّيَاحِ عِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِحْبَالِ وَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ، أَمَّا إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ يُقْتَلُ لِأَنَّهُ بِقِتَالِهِ مُحَارِبٌ وَبِصِيَاحِهِ مُحَرِّضٌ عَلَى الْقِتَالِ وَبِالْإِحْبَالِ يَكْثُرُ الْمُحَارِبُ،

ص: 452

لِأَنَّ الْمُبِيحَ عِنْدَهُ الْكُفْرُ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّا، وَقَدَّ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ وَالذَّرَارِيِّ» «وَحِينَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةً مَقْتُولَةٌ قَالَ: هَاهْ، مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ فَلِمَ قُتِلَتْ؟» قَالَ (إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ فِي الْحَرْبِ أَوْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَلِكَةً) لِتَعَدِّي ضَرَرِهَا إلَى الْعِبَادِ، وَكَذَا يُقْتَلُ مَنْ

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمُبِيحَ عِنْدَهُ) أَيْ لِلْقِتَالِ هُوَ (الْكُفْرُ) وَعِنْدَنَا هُوَ الْحِرَابُ.

وَقَوْلُهُ (مَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ يَابِسُ الشِّقِّ وَهُوَ الْمَفْلُوجُ. قِيلَ وَالْمُرَادُ بِالذَّرَارِيِّ هُنَا النِّسَاءُ. وَقَوْلُهُ (هَاهْ) كَلِمَةُ تَنْبِيهٍ أُلْحِقَتْ بِآخِرِهَا هَاءُ السَّكْتِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ فِي الْحَرْبِ) لِمَا صَحَّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 453

قَاتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ دَفْعَا لِشَرِّهِ، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ مُبِيحٌ حَقِيقَةً

(وَلَا يَقْتُلُ مَجْنُونًا) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ فَيُقْتَلَ دَفْعًا لِشَرِّهِ، غَيْرَ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ يُقْتَلَانِ مَا دَامَا يُقَاتِلَانِ، وَغَيْرُهُمَا لَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ بَعْدَ الْأَسْرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ نَحْوَهُ، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَهُوَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ كَالصَّحِيحِ

(وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ الرَّجُلُ أَبَاهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيَقْتُلَهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إحْيَاؤُهُ بِالْإِنْفَاقِ فَيُنَاقِضُهُ الْإِطْلَاقُ فِي إفْنَائِهِ (فَإِنْ أَدْرَكَهُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ اقْتِحَامِهِ الْمَأْثَمَ، وَإِنْ قَصَدَ الْأَبُ قَتْلَهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الدَّفْعُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهَرَ الْأَبُ الْمُسْلِمُ سَيْفَهُ عَلَى ابْنِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ يَقْتُلهُ لِمَا بَيَّنَّا فَهَذَا أَوْلَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

قَتَلَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ وَكَانَ ابْنَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً» وَفِي رِوَايَةٍ «ابْنَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً» لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ رَأْيٍ

(قَوْلُهُ فَهُوَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ كَالصَّحِيحِ) يَعْنِي يُقْتَلُ سَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ كَالصَّحِيحِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ، لَكِنَّهُ إنَّمَا يُقْتَلُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يُقَاتِلُ وَيُخَاطِبُ.

(قَوْلُهُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ) أَيْ يَقِفُ عِنْدَهُ وَيُعَالِجُهُ فَيَضْرِبُ قَوَائِمَ فَرَسِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الدَّفْعُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

ص: 454

(بَابُ الْمُوَادَعَةِ وَمَنْ يَجُوزُ أَمَانَهُ)

(وَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُصَالِحَ أَهْلَ الْحَرْبِ أَوْ فَرِيقًا مِنْهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} «وَوَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَضَعَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ» ، وَلِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ جِهَادٌ مَعْنًى إذَا كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ

بَابُ الْمُوَادَعَةِ وَمَنْ يَجُوزُ أَمَانَهُ:

وَالْمُوَادَعَةُ الْمُصَالَحَةُ، وَسُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّهَا مُتَارَكَةٌ وَهِيَ مِنْ الْوَدْعِ وَهُوَ التَّرْكُ، وَذِكْرُ تَرْكِ الْقِتَالِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقِتَالِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ (قَوْلُهُ وَكَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً) قِيلَ عَلَيْهِ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِالْمَصْلَحَةِ فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِهِ مُخَالِفًا لِلْمُدَّعِي. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ فِي الْمُصَالَحَةِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِدَلِيلِ آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} وَبِدَلِيلِ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِتَالِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّنَاقُضُ لِمَا أَنَّ مُوجِبَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ مُخَالِفٌ لِمُوجِبِ الْأَمْرِ بِالْمُصَالَحَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ بِمَا

ص: 455

دَفْعُ الشَّرِّ حَاصِلٌ بِهِ، وَلَا يُقْتَصَرُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَرْوِيَّةِ لِتَعَدِّي الْمَعْنَى إلَى مَا زَادَ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ خَيْرًا؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْجِهَادَ صُورَةً وَمَعْنًى

ذَكَرْنَا بِدَلِيلِ «مُوَادَعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ مَكَّةَ» عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ (وَلَا يَقْتَصِرُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَرْوِيَّةِ) وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ فَكَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ الْمَرْوِيَّةُ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي لَا تَمْنَعُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ لِأَنَّ مُدَّةَ الْمُوَادَعَةِ تَدُورُ مَعَ الْمَصْلَحَةِ وَهِيَ قَدْ تَزِيدُ وَقَدْ تَنْقُصُ. وَقَوْلُهُ (لِتَعَدِّي الْمَعْنَى) وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ خَيْرًا) حَيْثُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَادِعَهُمْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} وَلِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ تَرْكُ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى، أَمَّا صُورَةً فَظَاهِرٌ حَيْثُ تَرَكُوا الْقِتَالَ، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْمُوَادَعَةِ دَفْعُ الشَّرِّ فَلَمْ يَحْصُلْ الْجِهَادُ مَعْنًى أَيْضًا. وَقَوْلُهُ نَبَذَ إلَيْهِمْ. نَبَذَ الشَّيْءَ مِنْ يَدِهِ: طَرَحَهُ وَرَمَى بِهِ نَبْذًا

ص: 456

(وَإِنْ صَالَحَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ رَأَى نَقْضَ الصُّلْحِ أَنْفَعَ نَبَذَ إلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَبَذَ الْمُوَادَعَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ» ، وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمَّا تَبَدَّلَتْ كَانَ النَّبْذُ جِهَادًا وَإِيفَاءُ الْعَهْدِ تَرْكُ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَا بُدَّ مِنْ النَّبْذِ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «فِي الْعُهُودِ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ» وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ يَبْلُغُ فِيهَا خَبَرُ النَّبْذِ إلَى جَمِيعِهِمْ، وَيَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ مَلِكُهُمْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالنَّبْذِ مِنْ إنْفَاذِ الْخَبَرِ إلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَنْتَفِي الْغَدْرُ.

قَالَ (وَإِنَّ بَدَءُوا بِخِيَانَةٍ قَاتَلَهُمْ وَلَمْ يُنْبِذْ إلَيْهِمْ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِهِمْ) لِأَنَّهُمْ صَارُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نَقْضِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ حَيْثُ لَا يَكُونُ هَذَا نَقْضًا لِلْعَهْدِ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَانِيَةً يَكُونُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ فِي حَقِّهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَلِكِهِمْ فَفِعْلُهُمْ لَا يُلْزِمُ غَيْرَهُمْ حَتَّى لَوْ كَانَ بِإِذْنِ مَلِكِهِمْ صَارُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ لِأَنَّهُ بِاتِّفَاقِهِمْ مَعْنًى.

وَنَبَذَ الْعَهْدَ نَقَضَهُ، وَهُوَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ طَرْحٌ لَهُ.

وَقَوْلُهُ (نَبَذَ إلَيْهِمْ) أَيْ بَعَثَ إلَيْهِمْ مَنْ يُعْلِمُهُمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «فِي الْعُهُودِ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ» أَيْ هِيَ وَفَاءٌ. (قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ إلَخْ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} أَيْ عَلَى سَوَاءٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ قَبْلَ النَّبْذِ وَقَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ لِيَعُودُوا إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّحَصُّنِ وَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ.

ص: 457

(وَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ مُوَادَعَةَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَنْ يَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ مَالًا فَلَا بَأْسَ بِهِ) لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ الْمُوَادَعَةُ بِغَيْرِ الْمَالِ فَكَذَا بِالْمَالِ، لَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْ الْمَالِ يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْجِزْيَةِ، هَذَا إذَا لَمْ يَنْزِلُوا بِسَاحَتِهِمْ بَلْ أَرْسَلُوا رَسُولًا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، أَمَّا إذَا أَحَاطَ الْجَيْشُ بِهِمْ ثُمَّ أَخَذُوا الْمَالَ فَهُوَ غَنِيمَةٌ يُخَمِّسُهَا وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِالْقَهْرِ مَعْنًى (وَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَيُوَادِعُهُمْ الْإِمَامُ حَتَّى يَنْظُرَ فِي أَمْرِهِمْ) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَرْجُوٌّ مِنْهُمْ فَجَازَ تَأْخِيرُ قِتَالِهِمْ طَمَعًا فِي إسْلَامِهِمْ

وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي قَوْلَهُ إنَّهُ تَرْكُ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى. وَقَوْلُهُ (إذَا لَمْ يَنْزِلُوا بِسَاحَتِهِمْ) أَيْ إذَا لَمْ يَنْزِلْ الْمُسْلِمُونَ بِدَارِ الْكُفَّارِ لِلْحَرْبِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِالْقَهْرِ مَعْنًى) يَعْنِي فَيَكُونُ كَالْمَأْخُوذِ قَهْرًا صُورَةً وَمَعْنًى،

ص: 458

(وَلَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ مَالًا) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ لِمَا نُبَيِّنُ (وَلَوْ أَخَذَهُ لَمْ يَرُدَّهُ) لِأَنَّهُ مَالٌ غَيْرُ مَعْصُومٍ.

وَلَوْ حَاصَرَ الْعَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ وَطَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُهُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ لَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ لِمَا فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الدَّنِيَّةِ وَإِلْحَاقِ الْمَذَلَّةِ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ إلَّا إذَا خَافَ الْهَلَاكَ،

وَهُوَ الْمَأْخُوذُ بَعْدَ الْفَتْحِ بِالْقِتَالِ.

وَقَوْلُهُ (لِمَا فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الدَّنِيَّةِ) أَيْ النَّقِيصَةِ. وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا خَافَ الْهَلَاكَ) يَعْنِي عَلَى نَفْسِهِ وَنَفْسِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِدَفْعِ الْمَالِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَحَاطُوا بِالْخَنْدَقِ وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى» هُنَالِكَ اُبْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَنْ مَعَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، فَأَبَى إلَّا النِّصْفَ، فَلَمَّا حَضَرَ رُسُلُهُ لِيَكْتُبُوا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ سَيِّدَا الْأَنْصَارِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كَانَ عَنْ وَحْيٍ فَامْضِ لِمَا أُمِرْت بِهِ، وَإِنْ كَانَ رَأْيًا رَأَيْته فَقَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لَنَا وَلَا لَهُمْ دِينٌ وَكَانُوا لَا يَطْمَعُونَ فِي ثِمَارِ الْمَدِينَةِ إلَّا بِشِرَاءٍ أَوْ قِرًى؛ فَإِذَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالدِّينِ وَبَعَثَ إلَيْنَا رَسُولَهُ نُعْطِيهِمْ الدَّنِيَّةَ، لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: إنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَحْبَبْت أَنْ أَصْرِفَهُمْ عَنْكُمْ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْتُمْ وَذَاكَ، اذْهَبُوا فَلَا نُعْطِيكُمْ إلَّا السَّيْفَ» فَقَدْ مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الصُّلْحِ فِي الِابْتِدَاءِ لَمَّا أَحَسَّ الضَّعْفَ بِالْمُسْلِمِينَ، فَحِينَ رَأَى الْقُوَّةَ

ص: 459

لِأَنَّ دَفْعَ الْهَلَاكِ وَاجِبٌ بِأَيِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُ

(وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ السِّلَاحُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَا يُجَهَّزُ إلَيْهِمْ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَحَمْلِهِ إلَيْهِمْ،

فِيهِمْ بِمَا قَالَ السَّعْدَانُ امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ (قَوْلُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُ) قِيلَ فِي هَذَا التَّعْمِيمِ شُبْهَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوْ بِقَتْلِ غَيْرِهِ أَوْ بِالزِّنَا، فَإِنَّ دَفْعَ الْهَلَاكِ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ هُوَ مُرَخَّصٌ فِيهِ حَتَّى لَوْ قُتِلَ فِيهَا بِصَبْرِهِ عَنْهَا كَانَ شَهِيدًا. وَأُجِيبَ عَنْهَا بِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ بِأَيِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُ سِوَى الْأُمُورِ الَّتِي رُخِّصَ فِيهَا وَلَمْ يَجِبْ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا. وَأَقُولُ: الْوَاجِبُ بِمَعْنَى الثَّابِتِ فَتَنْدَفِعُ بِهِ أَيْضًا.

وَقَوْلُهُ (وَلَا يُجْهِزُ إلَيْهِمْ)

ص: 460

وَلِأَنَّ فِيهِ تَقْوِيَتَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَا الْكُرَاعُ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ لِأَنَّهُ أَصْلُ السِّلَاحِ، وَكَذَا بَعْدَ الْمُوَادَعَةِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى شَرَفِ النَّقْضِ أَوْ الِانْقِضَاءِ فَكَانُوا حَرْبًا عَلَيْنَا، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الطَّعَامِ وَالثَّوْبِ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ «فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمْرَ ثُمَامَةَ أَنْ يَمِيرَ أَهْلَ مَكَّةَ وَهُمْ حَرْبٌ عَلَيْهِ» .

أَيْ لَا يَبْعَثُ التُّجَّارَ إلَيْهِمْ بِالْجِهَازِ وَهُوَ فَاخِرُ الْمَتَاعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا السِّلَاحُ وَالْكُرَاعُ وَالْحَدِيدُ. وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ وَلِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَيُقَالُ مَارَ أَهْلَهُ: أَيْ أَتَاهُمْ بِالطَّعَامِ.

ص: 461

(فَصْلٌ)

(إذَا أَمَّنَ رَجُلٌ حُرٌّ أَوْ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ كَافِرًا أَوْ جَمَاعَةً أَوْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ صَحَّ أَمَانُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» أَيْ أَقَلُّهُمْ

فَصْلٌ:

لَمَّا كَانَ الْأَمَانُ نَوْعًا مِنْ الْمُوَادَعَةِ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْقِتَالِ كَالْمُوَادَعَةِ ذَكَرَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ) أَيْ بِعَهْدِهِمْ وَأَمَانِهِمْ (أَدْنَاهُمْ: أَيْ أَقَلُّهُمْ

ص: 462

وَهُوَ الْوَاحِدُ

وَهُوَ الْوَاحِدُ) لِأَنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْأَدْنَى هَاهُنَا بِالْأَقَلِّ احْتِرَازًا عَنْ تَفْسِيرِ مُحَمَّدٍ حَيْثُ فَسَّرَهُ بِالْعَبْدِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ الدَّنَاءَةِ وَالْعَبْدُ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ.

ص: 463

وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَيَخَافُونَهُ إذْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَنَعَةِ فَيَتَحَقَّقُ الْأَمَانُ مِنْهُ لِمُلَاقَاتِهِ مَحَلَّهُ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ سَبَبَهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَكَذَا الْأَمَانُ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَتَكَامَلُ كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ.

قَالَ (إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ. فَيَنْبِذُ إلَيْهِمْ) كَمَا إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي النَّبْذِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ

وَقَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ) أَيْ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ (مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ) أَمَّا الرَّجُلُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَبِالتَّسَبُّبِ بِالْمَالِ أَوْ الْعَبِيدِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» مَعْنَاهُ بِنَفْسِهَا. وَقَوْلُهُ (لِمُلَاقَاتِهِ) أَيْ لِمُلَاقَاةِ الْأَمَانِ (مَحَلَّهُ) لِأَنَّ مَحَلَّهُ هُوَ مَحَلُّ الْخَوْفِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا.

وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يَتَعَدَّى) أَيْ الْأَمَانُ (إلَى غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ الَّذِي أَمِنَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي شَهَادَةِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ الصَّوْمَ يَلْزَمُ مَنْ شَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ سَبَبَهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْإِيمَانُ) أَيْ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ (فَكَذَا الْأَمَانُ لَا يَتَجَزَّأُ) فَإِذَا تَحَقَّقَ مِنْ الْبَعْضِ فَإِمَّا أَنْ يَبْطُلَ أَوْ يَكْمُلَ، لَا يَجُوزُ الْأَوَّلُ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ فَيَتَحَقَّقُ الثَّانِي، كَمَا إذَا وُجِدَ الْإِنْكَاحُ مِنْ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُتَسَاوِيَةِ فِي الدَّرَجَةِ صَحَّ النِّكَاحُ فِي حَقِّ الْكُلِّ لِأَنَّ سَبَبَ وِلَايَتِهِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ فَلَا تَتَجَزَّأُ الْوِلَايَةُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَدَلَّ بِالْمَعْقُولِ عَلَى وَجْهَيْنِ: جَعَلَ الْمَنَاطَ فِي أَحَدِهِمَا كَوْنَ مَنْ يُعْطِي الْأَمَانَ مِمَّنْ يَخَافُونَهُ وَفِي الْآخَرِ الْإِيمَانَ، وَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ أَمَانِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ وَالتَّاجِرِ وَالْأَسِيرِ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي جَوَازَهُ، وَلَوْ جَعَلَهُمَا عِلَّةً وَاحِدَةً بِحَذْفِ الْوَاوِ مِنْ الثَّانِي لِيَقَعَ عِلَّةً لِقَوْلِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ كَانَ أَوْلَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَوَّلَ عِلَّةً وَالثَّانِيَ شَرْطًا وَسَمَّاهُ سَبَبًا مَجَازًا، وَالشَّيْءُ يَبْقَى عَلَى عَدَمِهِ عِنْدَ عَدَمِ شَرْطِهِ وَسَيَجِيءُ فِي كَلَامِهِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا. وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ صَحَّ أَمَانُهُمْ. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّاهُ)

ص: 464

وَلَوْ حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا وَأَمِنَ وَاحِدٌ مِنْ الْجَيْشِ وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ يَنْبِذُ الْإِمَامُ لِمَا بَيَّنَّا، وَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى رَأْيِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ بِالتَّأْخِيرِ فَكَانَ مَعْذُورًا (وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ ذِمِّيٍّ) لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِهِمْ، وَكَذَا لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ (وَلَا أَسِيرٍ وَلَا تَاجِرٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّهُمَا مَقْهُورَانِ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ فَلَا يَخَافُونَهُمَا وَالْأَمَانُ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْخَوْفِ وَلِأَنَّهُمَا يُجْبَرَانِ عَلَيْهِ فِيهِ فَيَعْرَى الْأَمَانُ عَنْ الْمَصْلَحَةِ، وَلِأَنَّهُمْ كُلَّمَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ يَجِدُونَ أَسِيرًا أَوْ تَاجِرًا فَيَتَخَلَّصُونَ بِأَمَانِهِ فَلَا يَنْفَتِحُ لَنَا بَابُ الْفَتْحِ.

وَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِمَا بَيَّنَّا (وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْقِتَالِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِحُّ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِي رِوَايَةٍ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ

يَعْنِي فِي بَابِ الْمُوَادَعَةِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ صَالَحَهُمْ مُدَّةً إلَخْ وَإِلَيْهِ أَيْضًا أَشَارَ بِقَوْلِهِ (لِمَا بَيَّنَّا) قِيلَ قَوْلُهُ (وَلَوْ حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا وَأَمِنَ وَاحِدٌ مِنْ الْجَيْشِ) تَكْرَارٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ. وَأَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحَاصِرَ الْإِمَامُ وَهَذَا بَعْدَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعَادَهُ تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ وَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى رَأْيِهِ: أَيْ لِسَبْقِهِ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَحَقِيقَةُ الِافْتِيَاتِ الِاسْتِبْدَادُ بِالرَّأْيِ وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ الْفَوْتِ وَهُوَ السَّبْقُ (قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ ذِمِّيٍّ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِهِمْ) أَيْ بِالْكُفَّارِ لِلِاتِّحَادِ فِي الِاعْتِقَادِ.

وَقَوْلُهُ (لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ وَالْأَمَانُ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْخَوْفِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ إلَخْ) اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَمَانَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ صَحِيحٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدًا كَتَبَ عَلَى سَهْمِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ مترسيت وَرَمَى بِهِ إلَى قَوْمٍ مَحْصُورِينَ، فَرُفِعَ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَأَجَازَ أَمَانَهُ وَقَالَ إنَّهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْعَبْدُ كَانَ مُقَاتِلًا لِأَنَّ الرَّمْيَ فِعْلُ الْمُقَاتِلِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَنْ الْقِتَالِ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَصِحُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ

ص: 465

لِمُحَمَّدٍ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَمَانُ الْعَبْدِ أَمَانٌ» رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُمْتَنِعٌ فَيَصِحُّ أَمَانُهُ اعْتِبَارًا بِالْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ وَبِالْمُؤَيَّدِ مِنْ الْأَمَانِ، فَالْإِيمَانُ لِكَوْنِهِ شَرْطًا لِلْعِبَادَةِ، وَالْجِهَادُ عِبَادَةٌ، وَالِامْتِنَاعُ لِتَحَقُّقِ إزَالَةِ الْخَوْفِ بِهِ، وَالتَّأْثِيرُ إعْزَازُ الدِّينِ وَإِقَامَةُ الْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ إذْ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسَايَفَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْطِيلِ مَنَافِعِ الْمُوَلَّى وَلَا تَعْطِيلَ فِي مُجَرَّدِ الْقَوْلِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ فَلَمْ يُلَاقِ الْأَمَانُ مَحَلَّهُ،

الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ، وَذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْهُ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ، وَاسْتِدْلَالُ مُحَمَّدٍ بِالْحَدِيثِ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُمْتَنِعٌ) أَيْ ذُو قُوَّةٍ وَامْتِنَاعٍ إشَارَةٌ إلَى شَرْطِ جَوَازِ الْأَمَانِ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَإِلَى عِلَّتِهِ وَهُوَ الْخَوْفُ لِأَنَّ الْخَوْفَ إنَّمَا يَحْصُلُ مِمَّنْ لَهُ قُوَّةٌ وَامْتِنَاعٌ. وَقَوْلُهُ (وَبِالْمُؤَبَّدِ مِنْ الْأَمَانِ) يَعْنِي عَقْدَ الذِّمَّةِ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا عَقَدَ عَقْدَ الذِّمَّةِ مَعَ الْعَبْدِ وَقَبِلَ الْجِزْيَةَ وَقَبِلَ الْعَبْدُ مِنْهُ هَذَا الْعَقْدَ يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ وَالْقَبُولُ مِنْ الْعَبْدِ وَيَصِيرُ ذِمِّيًّا بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ الْمَنْعِ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَقِصَاصِ قَاتِلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ (فَالْإِيمَانُ لِكَوْنِهِ شَرْطًا لِلْعِبَادَةِ) يَعْنِي شَرَطْنَا الْإِيمَانَ فِي قَوْلِنَا وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُمْتَنِعٌ فَيَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلْعِبَادَةِ (وَالْجِهَادُ عِبَادَةٌ) وَهَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَسَيَجِيءُ فِي كَلَامِهِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا. وَقَوْلُهُ (وَالِامْتِنَاعُ) يَعْنِي وَشَرَطْنَا الِامْتِنَاعَ لِيَتَحَقَّقَ إزَالَةُ الْخَوْفِ بِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَالتَّأْثِيرُ إعْزَازُ الدِّينِ) يَعْنِي الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ فِي قِيَاسِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ إعْزَازُ الدِّينِ وَإِقَامَةُ الْمَصْلَحَةِ إلَخْ. وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ فِي أَمَانِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ الِامْتِنَاعُ وَشَرْطُهُ الْإِيمَانُ، وَهَذَا الْوَصْفُ مُعَلَّلٌ بِظُهُورِهِ أَثَرِهِ وَهُوَ إعْزَازُ الدِّينِ وَإِقَامَةُ الْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَيْنِ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ الْأَمَانُ فِي الْحُرِّ، فَإِذَا وُجِدَ فِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ صَحَّ تَعْدِيَتُهُ إلَيْهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَقْيِسَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسَايَفَةَ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْأَصْلُ فِي الْجِهَادِ هُوَ الْمُسَايَفَةُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ فَلَا يَمْلِكُ الْأَمَانَ أَيْضًا، وَتَقْرِيرُهُ إنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسَايَفَةَ (لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْطِيلِ مَنَافِعِ الْمَوْلَى) وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ (وَلَا تَعْطِيلَ) لِمَنَافِعِهِ (فِي مُجَرَّدِ الْقَوْلِ) وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ) يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُمَانِعَهُ. وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الِامْتِنَاعِ لِأَنَّ

ص: 466

بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنْهُ مُتَحَقِّقٌ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسَايَفَةَ لِمَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْرِي عَنْ احْتِمَالِ الضَّرَرِ فِي حَقِّهِ، وَالْأَمَانُ نَوْعُ قِتَالٍ وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ، وَفِيهِ سَدُّ بَابِ الِاسْتِغْنَامِ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ وَالْخَطَأُ نَادِرٌ لِمُبَاشَرَتِهِ الْقِتَالَ، وَبِخِلَافِ الْمُؤَبَّدِ لِأَنَّهُ خَلَفَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مُقَابَلٌ بِالْجِزْيَةِ وَلِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمْ ذَلِكَ، وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ نَفْعٌ فَافْتَرَقَا.

الِامْتِنَاعَ إنَّمَا يَكُونُ لِتَحَقُّقِ إزَالَةِ الْخَوْفِ وَهُمْ لَا يَخَافُونَهُ، وَأَنْ يَكُونَ مُعَارَضَةً وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ وَكُلُّ مَحْجُورٍ عَنْ الْقِتَالِ لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْخَوْفَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُودِهِ وَلَا عَدَمِهِ، فَالْكُفَّارُ مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ عَبْدٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَخَافُونَهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ يُعْلَمُ بِتَرْكِ الْمُسَايَفَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا شَابًّا مُقْتَدِرًا عَلَى الْقِتَالِ مَعَ الْمُقَاتِلِينَ وَلَا يَحْمِلُ سِلَاحًا وَلَا يُقَاتِلُهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ مِمَّنْ لَهُ الْمَنْعُ. وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ إنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ وَالْأَمَانُ نَوْعُ قِتَالٍ لَكَانَ أَسْهَلَ إثْبَاتًا لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه فَتَأَمَّلْ. وَقَوْلُهُ (وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ) يُرِيدُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْرَى عَنْ احْتِمَالِ الضَّرَرِ. وَقَوْلُهُ (وَفِيهِ سَدُّ بَابِ الِاسْتِغْنَامِ) أَيْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ ضَرَرٌ فِي حَقِّهِمْ، فَإِذَا كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ الضَّرَرِ لِلْمَوْلَى فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُ مَا يَضُرُّ الْمَوْلَى وَالْمُسْلِمِينَ.

وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ الْمُؤَبَّدِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ مُحَمَّدٍ صُورَةَ النِّزَاعِ عَلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْأَمَانَ الْمُؤَبَّدَ (خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ) مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ الْمَطْلُوبُ بِهِ إسْلَامُ الْحَرْبِيِّ (فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ نَفْعٌ (وَلِأَنَّهُ مُقَابَلٌ بِالْجِزْيَةِ) وَهِيَ نَفْعٌ (وَلِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمْ ذَلِكَ) يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ إذَا طَلَبُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ يُفْتَرَضُ عَلَى الْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ (وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ نَفْعٌ فَافْتَرَقَا)

ص: 467

وَلَوْ أَمِنَ الصَّبِيُّ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ لَا يَصِحُّ كَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ فَعَلَى الْخِلَافِ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ.

وَقَوْلُهُ (فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ) يَعْنِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ. وَقَوْلُهُ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ) أَيْ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا لَيْسَ عَلَى الْخِلَافِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ كَالْبَيْعِ فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ الْإِذْنِ.

ص: 468

(بَابُ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا)

(وَإِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً) أَيْ قَهْرًا (فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ) كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ

بَابُ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا:

أَخَّرَ بَابَ الْغَنَائِمِ وَحُكْمَهَا عَنْ فَصْلِ الْأَمَانِ لِأَنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ الْمُحَاصَرَةِ إمَّا أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ أَوْ يَقْتُلَهُمْ وَيَسْتَغْنِمَ أَمْوَالَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْأَمَانِ ذَكَرَ الْغَنَائِمَ وَقِسْمَتَهَا. وَالْغَنِيمَةُ مَا نِيلَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ عَنْوَةً وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ. وَحُكْمُهَا أَنْ تُخَمَّسَ وَالْبَاقِي بَعْدَ الْخُمُسِ لِلْغَانِمِينَ خَاصَّةً (وَإِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً أَيْ قَهْرًا) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: قَوْلُهُ قَهْرًا لَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ لُغَةً لِأَنَّ عَنَا عُنُوًّا بِمَعْنَى ذَلَّ وَخَضَعَ وَهُوَ لَازِمٌ وَقَهَرَ مُتَعَدٍّ، بَلْ يَكُونُ هُوَ تَفْسِيرُهُ مِنْ طَرِيقِ شُعُورِ الذِّهْنِ لِأَنَّ مِنْ الذِّلَّةِ يَلْزَمُ الْقَهْرُ أَوْ أَنَّ الْفَتْحَ بِالذِّلَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْقَهْرَ (فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَسَمَهُ) أَيْ قَسَمَ الْبَلْدَةَ بِتَأْوِيلِ الْبَلَدِ (بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ،

ص: 469

(وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهُ عَلَيْهِ وَوَضَعَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهمْ الْخَرَاجَ) كَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه بِسَوَادِ الْعِرَاقِ بِمُوَافَقَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُحْمَدْ مَنْ خَالَفَهُ،

وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهُ عَلَيْهِ وَوَضَعَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ، كَذَا فَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه بِسَوَادِ الْعِرَاقِ بِمُوَافَقَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ) فَإِنْ قِيلَ: قَدْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَلَمْ يَحْمَدْ مَنْ خَالَفَهُ) يُرِيدُ بِهِ نَفَرًا يَسِيرًا مِنْهُمْ بِلَالٌ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ فَمَا حَالَ الْحَوْلُ وَفِيهِمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ: أَيْ مَاتُوا

ص: 470

وَفِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ قُدْوَةٌ فَيَتَخَيَّرُ.

وَقِيلَ الْأَوْلَى هُوَ الْأَوَّلُ عِنْدَ حَاجَةِ الْغَانِمِينَ، وَالثَّانِي عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ لِيَكُونَ عِدَّةً فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، وَهَذَا فِي الْعَقَارِ. أَمَّا فِي الْمَنْقُولِ الْمُجَرَّدِ لَا يَجُوزُ الْمَنُّ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ فِيهِ،

جَمِيعًا (وَفِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ قُدْوَةٌ فَيَتَخَيَّرُ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ يَصِيرُ قُدْوَةً عَلَى خِلَافِ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ لَمْ يَصِلْ إلَى حَدِّ الْإِجْمَاعِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى أَيِّ جِهَةٍ فَعَلَهُ يُحْمَلُ عَلَى أَدْنَى مَنَازِلِ أَفْعَالِهِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ وَحِينَئِذٍ لَا يَسْتَوْجِبُ الْعَمَلَ لَا مَحَالَةَ، فَإِذَا ظَهَرَ دَلِيلُ الصَّحَابِيِّ جَازَ أَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَعَلَ ذَلِكَ وُجُوبًا، فَإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه فَعَلَ مَا فَعَلَ مُسْتَنْبِطًا مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} بَعْدَ قَوْله تَعَالَى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} فَيَكُونُ ثَابِتًا بِإِشَارَةِ النَّصِّ وَهِيَ تُفِيدُ الْقَطْعَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ أَحَدَهُمَا يَتَعَيَّنُ بِفِعْلِ الْإِمَامِ كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، فَفَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحَدَهُمَا وَعُمَرُ الْآخَرَ (وَقِيلَ) فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ (الْأَوْلَى هُوَ الْأَوَّلُ عِنْدَ حَاجَةِ الْغَانِمِينَ) كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ (وَالثَّانِي عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ) كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه (لِيَكُونَ عُدَّةً فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، وَهَذَا) أَيْ إقْرَارُ أَهْلِ بَلَدٍ عَلَى بَلَدِهِمْ بِالْمَنِّ عَلَيْهِمْ (فِي الْعَقَارِ، أَمَّا فِي الْمَنْقُولِ الْمُجَرَّدِ فَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ بِالرَّدِّ) بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِمْ مَجَّانًا وَيُنْعِمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْمَنْقُولَ بِالْمُجَرَّدِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِالْمَنْقُولِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْعَقَارِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالرِّقَابِ وَالْأَرَاضِي يَدْفَعُ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ بِقَدْرِ مَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ الْعَمَلُ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ) أَيْ بِالْمَنِّ (الشَّرْعُ فِيهِ) أَيْ فِي الْمَنْقُولِ الْمُجَرَّدِ

ص: 471

وَفِي الْعَقَارِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ فِي الْمَنِّ إبْطَالَ حَقِّ الْغَانِمِينَ أَوْ مِلْكِهِمْ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ يُعَادَلُ، وَالْخَرَاجُ غَيْرُ مُعَادَلٍ لِقَتْلِهِ، بِخِلَافِ الرِّقَابِ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُمْ رَأْسًا بِالْقَتْلِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا؛ لِأَنَّهُمْ كَالْأُكْرَةِ الْعَامِلَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الْعَالِمَةِ بِوُجُوهِ الزِّرَاعَةِ وَالْمُؤَنِ مُرْتَفِعَةٌ مَعَ مَا إنَّهُ يَحْظَى بِهِ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ، وَالْخَرَاجُ وَإِنْ قَلَّ حَالًا فَقَدْ جَلَّ مَآلًا لِدَوَامِهِ، وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالرِّقَابِ وَالْأَرَاضِيِ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ بِقَدْرِ مَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ الْعَمَلُ لِيَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ.

وَفِي الْعَقَارِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ) فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَنُّ فِيهِ. قَالَ (لِأَنَّ فِي الْمَنِّ إبْطَالَ حَقِّ الْغَانِمِينَ) عِنْدَكُمْ لِأَنَّ حَقَّهُمْ قَدْ ثَبَتَ وَتَأَكَّدَ بِالْإِحْرَازِ فَقَدْ صَارَ مُحْرَزًا بِفَتْحِ الْبَلْدَةِ وَإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ (أَوْ مَلَكَهُمْ) يَعْنِي عِنْدِي، فَإِنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ لَهُمْ بِنَفْسِ الْإِحْرَازِ (فَلَا يَجُوزُ) يَعْنِي إبْطَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَقِّ وَالْمِلْكِ (مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ يُعَادِلُهُ) فَإِنْ قِيلَ: الْخَرَاجُ يُعَادِلُهُ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْخَرَاجُ غَيْرُ مُعَادِلٍ لِقَتْلِهِ) فَإِنْ قِيلَ: فَالْحَقُّ أَوْ الْمِلْكُ ثَبَتَ فِي رِقَابِهِمْ أَيْضًا وَجَازَ لَهُ أَنْ لَا يَقْسِمَهَا. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ الرِّقَابِ) يَعْنِي أَنَّ حَقَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا (وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُمْ رَأْسًا بِالْقَتْلِ) فَكَذَا لَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ بِالْخَلْفِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ، وَهَذَا لِأَنَّهَا خُلِقَتْ فِي الْأَصْلِ أَحْرَارًا وَالْمِلْكُ ثَبَتَ بِعَارِضٍ، فَالْإِمَامُ إذَا اسْتَرَقَّهُمْ فَقَدْ بَدَّلَ حُكْمَ الْأَصْلِ، فَإِذَا جَعَلَهُمْ أَحْرَارًا فَقَدْ بَقِيَ حُكْمُ الْأَصْلِ فَكَانَ جَائِزًا (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مِنْ فِعْلِ عُمَرَ رضي الله عنه. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا) يَعْنِي أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ فِي إقْرَارِ أَهْلِهَا عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَوْ قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَقَعَدُوا عَنْ الْجِهَادِ فَكَانَ يَكُرُّ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ، وَرُبَّمَا لَا يَهْتَدُونَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ أَيْضًا، فَإِذَا تَرَكَهَا فِي أَيْدِيهِمْ وَهُمْ عَارِفُونَ بِالْعَمَلِ صَارُوا (كَالْأُكْرَةِ) أَيْ الْمُزَارِعِينَ (الْعَامِلَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الْعَالِمَةِ بِوُجُوهِ الزِّرَاعَةِ وَالْمُؤَنُ مُرْتَفِعَةٌ مَعَ مَا أَنَّهُ يَحْظَى بِهِ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ) كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ جَائِزًا. قَوْلُهُ (وَالْخَرَاجُ وَإِنْ قَلَّ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالْخَرَاجُ غَيْرُ مُعَادِلٍ لِقَتْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ الْخَرَاجَ وَإِنْ قَلَّ (حَالًا) لِكَوْنِهِ بَعْضَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ فِي سَنَةٍ (فَقَدْ جَلَّ مَآلًا لِدَوَامِهِ) بِوُجُوبِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ. قَوْلُهُ (وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ) ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (لِيَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ) مَعْنَاهُ مَا قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ، فَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ

ص: 472

قَالَ (وَهُوَ فِي الْأُسَارَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَدْ قَتَلَ» ، وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ مَادَّةِ الْفَسَادِ (وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ) لِأَنَّ فِيهَا دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَنْفَعَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ (وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ) لِمَا بَيَّنَّاهُ (إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ)

بِرِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيهِمْ وَقَسَمَ النِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ وَسَائِرَ الْأَمْوَالِ جَازَ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْأَرَاضِيِ بِدُونِ الْمَالِ، وَلَا بَقَاءَ لَهُمْ بِدُونِ مَا يُمْكِنُ بِهِ تَرْجِيَةُ الْعُمُرِ إلَّا أَنْ يَدَعَ لَهُمْ مَا يُمْكِنُهُمْ بِهِ الْعَمَلُ فِي الْأَرَاضِي،

قَالَ (وَهُوَ فِي الْأَسَارَى بِالْخِيَارِ) الْإِمَامُ فِيمَا حَصَلَ تَحْتَ يَدِهِ مِنْ الْأَسَارَى مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ: إنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ «لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَتَلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بَعْدَمَا حَصَلَا فِي يَدِهِ، وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِمْ» ، فَإِنْ أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ الْقَتْلُ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ وَجَبَتْ لِلْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ، فَإِذَا زَالَ الْكُفْرُ سَقَطَ الْقَتْلُ (وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَنْفَعَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) فَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ الرِّقُّ لِأَنَّ الرِّقَّ جَزَاءُ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ أَوْلَى النَّاسِ بِنَفْسِهِ قَبْلَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ وَالْأَخْذُ (وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ فِعْلِ عُمَرَ رضي الله عنه. فَإِنْ قِيلَ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} يُنَافِي تَرْكَ قَتْلِهِمْ فَلَا يَجُوزُ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَا فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِفِعْلِ عُمَرَ رضي الله عنه. وَقَوْلُهُ (إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَالْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ مَادَّةِ الْقِتَالِ وَذَلِكَ وَاجِبٌ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ قَالَ: لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَنْفَعَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ كَالْأَوَّلِ وَأَقْوَى. ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِمَا فَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه بِقَوْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَهُوَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَا فَعَلَهُ وَاجِبًا وَإِلَّا لَزِمَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ

ص: 473

عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ) لِأَنَّ فِيهِ تَقْوِيَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ أَسْلَمُوا لَا يَقْتُلُهُمْ لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ بِدُونِهِ (وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ) تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ إسْلَامِهِمْ قَبْلَ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ السَّبَبُ بَعْدُ (وَلَا يُفَادَى بِالْأُسَارَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يُفَادَى بِهِمْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ فِيهِ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَتْلِ الْكَافِرِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ. وَلَهُ أَنَّ فِيهِ مَعُونَةً لِلْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَدَفْعُ شَرِّ حَرْبِهِ خَيْرٌ مِنْ اسْتِنْقَاذِ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ كَانَ ابْتِلَاءً فِي حَقِّهِ غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْنَا، وَالْإِعَانَةُ بِدَفْعِ أَسِيرَهُمْ إلَيْهِمْ مُضَافٌ إلَيْنَا.

وَغَيْرِهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمُورِ وَاجِبٌ وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهَا كَمَا فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُمْ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يُفَادِي بِالْأَسَارَى) وَالْمُفَادَاةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، يُقَالُ فَادَاهُ إذَا أَطْلَقَهُ وَأَخَذَ فِدْيَتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَلَا يُفَادِي بِالْأَسَارَى: أَيْ لَا يُعْطَى أَسَارَى الْكُفَّارِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْمَالُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُفَادِي بِهِمْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَجُوزُ الْفِدْيَةُ بِالْمَالِ. وَجَعَلَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ قَوْلَهُمَا أَظْهَرَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ فِيهِ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَتْلِ الْكَافِرِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ. وَقَوْلُهُ (وَلَهُ أَنَّ فِيهِ تَقْوِيَةً) فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَعُونَةٌ ظَاهِرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْرُزَ هَذَا فِي مُبْرِزِ دَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِتَحَمُّلِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ كَمَا مَرَّ فِي صُورَةِ الرَّمْيِ عِنْدَ التَّتَرُّسِ بِالْمُسْلِمِينَ.

ص: 474

أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِمَا بَيَّنَّا. وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتَدَلَّا بِأُسَارَى بَدْرٍ، وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ فِي أَيْدِينَا لَا يُفَادَى بِمُسْلِمٍ أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا إذَا طَابَتْ نَفْسُهُ بِهِ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إسْلَامِهِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى الْأُسَارَى خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ «مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}» وَلِأَنَّهُ بِالْأَسْرِ وَالْقَسْرِ ثَبَتَ حَقُّ الِاسْتِرْقَاقِ فِيهِ

وَأَمَّا الْمُفَادَاةُ بِأَخْذِ الْمَالِ مِنْهُمْ) فِي إطْلَاقِ أَسْرَاهُمْ (فَلَا تَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّ فِيهِ تَقْوِيَةً أَوْ مَعُونَةً لِلْكَفَرَةِ بِعَوْدِهِمْ حَرْبًا عَلَيْنَا (وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأُسَارَى بَدْرٍ) وَسَيَجِيءُ جَوَابُهُ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ) الْمُرَادُ بِالْمَنِّ عَلَيْهِمْ هُوَ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَتْرُكَهُمْ مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ اسْتِرْقَاقٍ وَلَا ذِمَّةٍ وَلَا قَتْلٍ (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: «مَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ يَعْنِي أَبَا عَزَّةَ الْجُمَحِيَّ» (وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَلِأَنَّهُ بِالْأَسْرِ وَالْقَسْرِ ثَبَتَ حَقُّ الِاسْتِرْقَاقِ فِيهِ) لِلْغَانِمِينَ.

ص: 475

فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَعِوَضٍ، وَمَا رَوَاهُ مَنْسُوخٌ بِمَا تَلَوْنَا

(وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ الْعَوْدَ وَمَعَهُ مَوَاشٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَقْلِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ذَبَحَهَا وَحَرَقَهَا وَلَا يَعْقِرُهَا وَلَا يَتْرُكْهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتْرُكُهَا؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «نَهَى عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ إلَّا لِمَأْكَلَةٍ» .

وَلَنَا أَنَّ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ يَجُوزُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ،

فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَعِوَضٍ) كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمَغْنُومَةِ (وَمَا رَوَاهُ) مِنْ الْمَنِّ عَلَى أَبِي عَزَّةَ فَهُوَ (مَنْسُوخٌ بِمَا تَلَوْنَا) وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وَكَذَلِكَ قِصَّةُ أُسَارَى بَدْرٍ، لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ كَانَتْ آخِرَ مَا نَزَلَ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ وُجُوبَ الْقَتْلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فَكَانَ نَاسِخًا لِمَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ خَصَّ مِنْهُ الذِّمِّيَّ وَالْمُسْتَأْمَنَ فَجَازَ أَنْ يَخُصَّ مِنْهُ الْأَسِيرَ قِيَاسًا عَلَيْهِمْ أَوْ بِحَدِيثِ أَبِي عَزَّةَ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ قِيَاسَ الْأَسِيرِ عَلَى الذِّمِّيِّ فَاسِدٌ لِوُجُودِ الذِّمَّةِ فِيهِ دُونَ

ص: 476

وَلَا غَرَضَ أَصَحُّ مِنْ كَسْرِ شَوْكَةِ الْأَعْدَاءِ، ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ لِيَنْقَطِعَ مَنْفَعَتُهُ عَنْ الْكُفَّارِ وَصَارَ كَتَخْرِيبِ الْبُنْيَانِ بِخِلَافِ التَّحْرِيقِ قَبْلَ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَبِخِلَافِ الْعَقْرِ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَتُحْرَقُ الْأَسْلِحَةُ أَيْضًا، وَمَا لَا يَحْتَرِقُ مِنْهَا يُدْفَنُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ إبْطَالًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ.

الْأَسِيرِ وَهِيَ الْمَنَاطُ، وَكَذَا عَنْ الْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ رَقَبَتِهِ، وَحَدِيثُ أَبِي عَزَّةَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْآيَةِ، وَغَيْرُهُمَا غَيْرُ مَوْجُودٍ أَوْ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يَصِحُّ التَّخْصِيصُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَوَاشِي جَمْعُ مَاشِيَةٍ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْمَأْكُلَةُ بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا بِمَعْنًى، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.

ص: 477

(وَلَا يُقَسِّمُ غَنِيمَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُخْرِجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْغَانِمِينَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ وَيَبْتَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ ذَكَرْنَاهَا فِي الْكِفَايَةِ. لَهُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الِاسْتِيلَاءُ إذَا وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فِي الصَّيُودِ، وَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِيلَاءِ سِوَى إثْبَاتِ الْيَدِ وَقَدْ تَحَقَّقَ. وَلَنَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ» ، وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيهِ، وَالْقِسْمَةُ بَيْعٌ مَعْنًى فَتَدْخُلُ تَحْتَهُ، وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْحَافِظَةِ وَالنَّاقِلَةِ وَالثَّانِي مُنْعَدِمٌ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الِاسْتِنْقَاذِ وَوُجُودِهِ ظَاهِرًا.

قَالَ (وَلَا يَقْسِمُ غَنِيمَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ) قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ جَازَ، وَالتَّأْخِيرُ إلَى الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَحَبُّ إلَيَّ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ. وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ ذَكَرْنَاهَا فِي الْكِفَايَةِ) أَيْ كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى. مِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ الْغَنَائِمِ لَا لِحَاجَةِ الْغُزَاةِ أَوْ بَاعَ أَحَدُ الْغُزَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا لِعَدَمِ الْمِلْكِ، وَكَذَا لَوْ أَتْلَفَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَضْمَنْ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ لَا يُورَثُ سَهْمُهُ، وَلَوْ لَحِقَ الْجَيْشَ مَدَدٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَارَكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ.

وَقَوْلُهُ (لَهُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ) ظَاهِرٌ. قَوْلُهُ (وَالثَّانِي) أَيْ إثْبَاتُ الْيَدِ النَّاقِلَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ (مُنْعَدِمٌ لِقُدْرَتِهِمْ) أَيْ لِقُدْرَةِ الْكَفَرَةِ عَلَى الِاسْتِنْقَاذِ (وَوُجُودِهِ) أَيْ وُجُودِ الِاسْتِنْقَاذِ (ظَاهِرًا) لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَارِهِمْ.

ص: 478

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 479

ثُمَّ قِيلَ: مَوْضِعُ الْخِلَافِ تَرَتُّبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْقِسْمَةِ إذَا قَسَّمَ الْإِمَامُ لَا عَنْ اجْتِهَادٍ، لِأَنَّ حُكْمَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ. وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقَسِّمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ رَاجِحٌ،

وَقَوْلُهُ (ثُمَّ قِيلَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ) أَيْ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا صَدَرَتْ الْقِسْمَةُ عَنْ الْإِمَامِ بِدُونِ الِاجْتِهَادِ هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُ الْمِلْكِ لِمَنْ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ وَسَائِرِ الِانْتِفَاعِ أَوْ لَا؟ فَعِنْدَهُ يَثْبُتُ. وَعِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ حُكْمَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ) أَيْ بِدُونِ الْمِلْكِ. مَعْنَاهُ أَنَّ تَرَتُّبَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْعِلْمِ بِجَوَازِ الْقِسْمَةِ. فَعِنْدَهُ مُتَرَتِّبَةٌ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ الصَّادِرَةِ لَا عَنْ اجْتِهَادٍ فَيَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ. وَعِنْدَنَا لَيْسَتْ بِمُتَرَتِّبَةٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ عِلَّةٌ لِتَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ وَقَدْ وُجِدَ الْمَعْلُولُ فَيَلْزَمُ وُجُودُ الْعِلَّةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ وَعِنْدَنَا لَمْ يُوجَدْ الْمَعْلُولُ فَيَلْزَمُ عَدَمُ وُجُودِ الْعِلَّةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَخَلُّفُ الْعِلَّةِ عَنْ الْمَعْلُولِ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْقِسْمَةَ بِقَوْلِهِ لَا عَنْ اجْتِهَادٍ لِيَظْهَرَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ، فَإِنَّهُ إذَا قَسَمَ مُجْتَهِدًا جَازَ بِالِاتِّفَاقِ. قَوْلُهُ (وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ) أَيْ حُكْمُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى مَذْهَبِنَا الْكَرَاهَةُ لَا عَدَمُ الْجَوَازِ لِمَا فِي الْقِسْمَةِ مِنْ قَطْعِ شَرِكَةِ الْمَدَدِ فَيَقِلُّ بِهَا رَغْبَتُهُمْ فِي اللُّحُوقِ بِالْجَيْشِ وَلِأَنَّهُ إذَا قَسَمَ تَفَرَّقُوا فَرُبَّمَا يَكُرُّ الْعَدُوُّ عَلَى بَعْضِهِمْ وَهَذَا أَمْرٌ وَرَاءَ مَا تَتِمُّ بِهِ الْقِسْمَةُ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَهَا (وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَفْضَلُ

ص: 480

إلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ سَلَبِ الْجَوَازِ فَلَا يَتَقَاعَدُ عَنْ إيرَاثِ الْكَرَاهَةِ.

(وَالرِّدْءُ وَالْمُقَاتِلُ فِي الْعَسْكَرِ سَوَاءٌ) لِاسْتِوَائِهِمْ فِي السَّبَبِ وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ أَوْ شُهُودُ الْوَقْعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُقَاتِلْ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا (وَإِذَا لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجُوا الْغَنِيمَةَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ شَارَكُوهُمْ فِيهَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ

أَنْ يَقْسِمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَفِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْأَفْضَلِيَّةُ مَنْقُولَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ. وَفِي الْجُمْلَةِ هَذَا الْمَوْضِعُ لَا يَخْلُو عَنْ تَسَامُحٍ. وَالْمَخْلَصُ عَنْهُ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَقْسِمُ غَنِيمَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: الْمُرَادُ بِهِ عَدَمُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ حَتَّى لَا تَثْبُتَ الْأَحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْقِسْمَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِ الْكَرَاهَةُ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ. وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ رَاجِحٌ لِكَوْنِهِ مُحَرِّمًا وَالْمُحَرِّمُ رَاجِحٌ عَلَى الْمُبِيحِ (إلَّا أَنْ تَقَاعَدَ عَنْ سَلْبِ الْجَوَازِ) بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيَجُوزُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَيَجُوزُ إذَا احْتَاجَ الْغُزَاةُ إلَى الثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (فَلَا يَتَقَاعَدُ عَنْ إيرَاثِ الْكَرَاهَةِ) لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمَرْجُوحَ لَمَّا لَمْ يَبْطُلْ بِالْكُلِّيَّةِ حَصَلَ مِنْ مُعَارَضَةِ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ الْكَرَاهَةُ كَمَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ.

قَالَ (وَالرِّدْءُ وَالْمُقَاتِلُ فِي الْعَسْكَرِ سَوَاءٌ) الرِّدْءُ هُوَ الْعَوْنُ، وَالْمُقَاتِلُ هُوَ الْمُبَاشِرُ فِي الْعَسْكَرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ (لِاسْتِوَائِهِمْ فِي السَّبَبِ) وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ بِنِيَّةِ الْقِتَالِ عِنْدَنَا (أَوْ شُهُودِ الْوَقْعَةِ) عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه (عَلَى مَا عُرِفَ. وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُقَاتِلْ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ الِاسْتِوَاءِ فِي السَّبَبِ. قَوْلُهُ (وَإِذَا لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ) ظَاهِرٌ.

ص: 481

وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ عِنْدَنَا بِالْإِحْرَازِ أَوْ بِقِسْمَةِ الْإِمَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بِبَيْعِهِ الْمَغَانِمَ فِيهَا، لِأَنَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَتِمُّ الْمِلْكُ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ شَرِكَةِ الْمَدَدِ. قَالَ (وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ سُوقِ الْعَسْكَرِ فِي الْغَنِيمَةِ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يُسْهِمُ لَهُمْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ» وَلِأَنَّهُ وَجَدَ الْجِهَادَ مَعْنًى بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ.

وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ تُوجَدُ الْمُجَاوَزَةُ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَانْعَدَمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ الْقِتَالُ فَيُفِيدُ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا عِنْدَ الْقِتَالِ، وَمَا رَوَاهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه

وَقَوْلُهُ (بِنَاءً عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ) يُرِيدُ مَا مَرَّ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ عِنْدَهُ هُوَ الْأَخْذُ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ بِهِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْإِحْرَازُ. فَإِذَا شَارَكَ الْمَدَدُ الْجَيْشَ فِي الْإِحْرَازِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ السَّبَبُ شَارَكُوهُ فِي تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِهِ كَمَا لَوْ الْتَحَقُوا بِهِمْ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ (وَإِنَّمَا تَنْقَطِعُ الْمُشَارَكَةُ بِالْإِحْرَازِ أَوْ بِقِسْمَةِ الْإِمَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بِبَيْعِهِ الْمَغَانِمَ فِيهَا لِأَنَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَتِمُّ الْمِلْكُ فَتَنْقَطِعُ شَرِكَةُ الْمَدَدِ) (وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ سُوقِ الْعَسْكَرِ فِي الْغَنِيمَةِ) بِإِطْلَاقِهِ يُفِيدُ نَفْيَ السَّهْمِ الْكَامِلِ وَالرَّضْخِ. وَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ. وَعُلِّلَ بِأَنَّ قَصْدَهُمْ التِّجَارَةُ لَا إعْزَازُ دِينِ اللَّهِ وَإِرْهَابُ الْعَدُوِّ (إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا) فَلَهُمْ السَّهْمُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُسْهَمُ لَهُمْ فِي قَوْلٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ» وَلِأَنَّهُ وُجِدَ الْجِهَادُ مَعْنًى بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ) وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْمُجَاوَزَةُ) وَاضِحٌ (وَمَا رَوَاهُ) مِنْ قَوْلِهِ: «الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ» (مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه) وَمِثْلُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يَرَى تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ

ص: 482

أَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنْ يُشْهِدَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ.

(وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْإِمَامِ حَمُولَةٌ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْغَنَائِمُ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ قِسْمَةَ إيدَاعٍ لِيَحْمُوَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا مِنْهُمْ فَيُقَسِّمَهَا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ رِضَاهُمْ وَهُوَ رِوَايَةُ السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَالْجُمْلَةُ فِي هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا وَجَدَ فِي الْمَغْنَمِ حَمُولَةً يَحْمِلُ الْغَنَائِمَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحَمُولَةَ وَالْمَحْمُولَ مَالُهُمْ.

وَكَذَا إذَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَضْلُ حَمُولَةٍ لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ لِلْغَانِمِينَ أَوْ لِبَعْضِهِمْ لَا يُجْبِرُهُمْ فِي رِوَايَةِ السِّيَرِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إجَارَةٍ وَصَارَ كَمَا إذَا نَفَقَتْ دَابَّتُهُ فِي مَفَازَةٍ وَمَعَ رَفِيقِهِ فَضْلُ حَمُولَةٍ،

أَوْ تَأْوِيلُهُ أَنْ يَشْهَدَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ) أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَشْهَدُونَهَا وَلَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ

(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ حَمُولَةٌ) بِفَتْحِ الْحَاءِ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيرٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ أَوْ حِمَارٍ (قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ قِسْمَةَ إيدَاعٍ) وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إجَارَةٍ) أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا احْتِرَازٌ عَنْ إجَارَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِجَارَةِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّفِينَةِ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ سَفِينَةً شَهْرًا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا إجَارَةٌ أُخْرَى بِأَجْرِ الْمِثْلِ بِغَيْرِ رِضَا الْمَالِكِ.

وَقَوْلُهُ (وَصَارَ كَمَا إذَا نَفَقَتْ دَابَّتُهُ) يَعْنِي فِي كَوْنِهِ ابْتِدَاءَ إجَارَةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

ص: 483

وَيُجْبِرُهُمْ فِي رِوَايَةِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لِأَنَّهُ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِتَحْمِيلِ ضَرَرٍ خَاصٍّ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَنَائِمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ) لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَهَا، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَصْلَ (وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ إخْرَاجِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَنَصِيبُهُ لِوَرَثَتِهِ) لِأَنَّ الْإِرْثَ يَجْرِي فِي الْمِلْكِ، وَلَا مِلْكَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، وَإِنَّمَا الْمِلْكُ بَعْدَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْهَزِيمَةِ يُورَثُ نَصِيبُهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِيهِ عِنْدَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. .

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْلِفَ الْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيَأْكُلُوا مَا وَجَدُوهُ مِنْ الطَّعَامِ) قَالَ رضي الله عنه: أَرْسَلَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْحَاجَةِ، وَقَدْ شَرَطَهَا فِي رِوَايَةٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي أُخْرَى. وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا لِحَاجَةٍ كَمَا فِي الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ. وَجْهُ الْأُخْرَى قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي طَعَامِ خَيْبَرَ كُلُوهَا وَاعْلِفُوهَا وَلَا تَحْمِلُوهَا» وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لِأَنَّ الْغَازِيَ لَا يَسْتَصْحِبُ قُوتَ نَفْسِهِ وَعَلَفَ ظَهْرِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِيهَا وَالْمِيرَةُ مُنْقَطِعَةٌ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لِلْحَاجَةِ بِخِلَافِ السِّلَاحِ لِأَنَّهُ يَسْتَصْحِبُهُ فَانْعَدَمَ دَلِيلُ الْحَاجَةِ، وَقَدْ تُمَسُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ فَتُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهَا فَيَسْتَعْمِلُهُ ثُمَّ يَرُدُّهُ فِي الْمَغْنَمِ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ، وَالدَّابَّةُ مِثْلُ السِّلَاحِ، وَالطَّعَامُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ.

قَالَ (وَيَسْتَعْمِلُوا الْحَطَبَ) وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ: الطِّيبَ،

وَقَوْلُهُ (وَيُجْبِرُهُمْ فِي رِوَايَةِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ) ظَاهِرٌ، وَيَكُونُ الْأَجْرُ مِنْ الْغَنَائِمِ يُبْتَدَأُ بِهِ قَبْلَ الْخُمُسِ، لِأَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ مَنْفَعَةً لِلْغَانِمِينَ فَهُوَ كَالِاسْتِئْجَارِ لِسَوْقِ الْغَنَمِ وَالرَّمَكِ، وَحَقُّ أَصْحَابِ الْحَمُولَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِئْجَارِ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ هِيَ الَّتِي لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِئْجَارِ لَا شَرِكَةَ الْحَقِّ كَمَا فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَنَائِمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ) وَاضِحٌ مِمَّا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ (وَلَا مِلْكَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ) فِيهَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ بِكُلٍّ مِنْهَا يَتِمُّ الْمِلْكُ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْعِ الْغَنَائِمِ فِيهَا هَاهُنَا اعْتِمَادًا عَلَى ذِكْرِهِ هُنَاكَ أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ لِعَارِضِ الْحَاجَةِ وَالِاعْتِبَارُ لِلْأُمُورِ الْأَصْلِيَّةِ. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّاهُ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.

قَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْلِفَ الْعَسْكَرُ) أَيْ دَوَابَّهُمْ الْعَلَفَ (فِي دَارِ الْحَرْبِ) وَقَوْلُهُ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْحَاجَةِ يَعْنِي الْقُدُورِيَّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَقَدْ شَرَطَهَا) يَعْنِي مُحَمَّدًا (فِي رِوَايَةٍ) هِيَ رِوَايَةُ السِّيَرِ الصَّغِيرِ (وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي أُخْرَى) وَهِيَ رِوَايَةُ السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَوَجْهُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَعَلَفَ ظَهْرِهِ) أَيْ دَابَّتَهُ وَاسْتَعَارَ لَفْظَ الظَّهْرِ لَهَا وَالْمِيرَةُ الطَّعَامُ (فَيُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهَا) أَيْ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ فِي السِّلَاحِ. وَقَوْلُهُ (وَالدَّابَّةُ مِثْلُ السِّلَاحِ) يَعْنِي فِي اعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْحَاجَةِ لَكِنْ إذَا اُعْتُبِرَ حَاجَةُ الرُّكُوبِ، أَمَّا إذَا اُعْتُبِرَ فِيهَا الْأَكْلُ فَهِيَ كَالطَّعَامِ (وَيَسْتَعْمِلُوا الْحَطَبَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الطِّيبُ) قِيلَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْقُدُورِيَّ نَفْسَهُ قَالَ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ بِعَدَمِ

ص: 484

(وَيُدْهِنُوا بِالدُّهْنِ وَيُوقِحُوا بِهِ الدَّابَّةَ) لِمَسَاسِ الْحَاجَةِ إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ (وَيُقَاتِلُوا بِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ السِّلَاحِ، كُلُّ ذَلِكَ بِلَا قِسْمَةٍ) وَتَأْوِيلُهُ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِلَاحٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ) لِأَنَّ الْبَيْعَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا هُوَ إبَاحَةٌ وَصَارَ كَالْمُبَاحِ لَهُ الطَّعَامُ، وَقَوْلُهُ وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَبِيعُونَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعُرُوضِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ بَاعَهُ أَحَدُهُمْ رَدَّ الثَّمَنَ إلَى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ عَيْنٍ كَانَتْ لِلْجَمَاعَةِ.

وَأَمَّا الثِّيَابُ وَالْمَتَاعُ فَيُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِلِاشْتِرَاكِ، إلَّا أَنَّهُ يُقَسِّمُ الْإِمَامُ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا احْتَاجُوا إلَى الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْمَتَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ يُسْتَبَاحُ لِلضَّرُورَةِ فَالْمَكْرُوهُ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْمَدَدِ مُحْتَمَلٌ، وَحَاجَةُ هَؤُلَاءِ مُتَيَقَّنٌ بِهَا فَكَانَ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِسْمَةَ فِي السِّلَاحِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ إذَا احْتَاجَ وَاحِدٌ يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَإِنْ احْتَاجَ الْكُلُّ يُقَسِّمُ فِي الْفَصْلَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا احْتَاجُوا إلَى السَّبْيِ حَيْثُ لَا يُقَسِّمُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ مِنْ فُضُولِ الْحَوَائِجِ.

جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالطِّيبِ، أَمَّا الْحَطَبُ فَلِتَعَذُّرِ النَّقْلِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا فِي الْعَلَفِ.

وَأَمَّا الْإِدْهَانُ بِالدُّهْنِ فَالْمُرَادُ بِهِ الدُّهْنُ الْمَأْكُولُ كَالزَّيْتِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَأْكُولًا كَانَ صَرْفُهُ إلَى بَدَنِهِ كَصَرْفِهِ إلَى أَكْلِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَلْ يَرُدُّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ. قَوْلُهُ (وَيُوقِحُوا بِهِ الدَّابَّةَ) التَّوْقِيحُ تَصْلِيبُ حَافِرِهَا بِالشَّحْمِ الْمُذَابِ إذَا خَفَى مِنْ كَثْرَةِ الْمَشْيِ، وَنُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِالرَّاءِ مِنْ التَّرْقِيحِ وَهُوَ الْإِصْلَاحُ، قَالَ: هَكَذَا قَرَأْنَا عَلَى الْمَشَايِخِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: وَالرَّاءُ خَطَأٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هَاهُنَا أَوْلَى وَأَلْيَقُ. قُلْت: هَذَا التَّعْلِيلُ إنْ كَانَ مَنْقُولًا عَنْهُ فَهُوَ مُنَاقَضٌ لِأَنَّ تَرْكَ الْأَوْلَى لَا يُسَمَّى خَطَأً.

وَقَوْلُهُ (وَتَأْوِيلُهُ إلَخْ) إنَّمَا احْتَاجَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا احْتَاجَ الْغَازِي إلَى اسْتِعْمَالِ سِلَاحِ الْغَنِيمَةِ بِسَبَبِ صِيَانَةِ سِلَاحِهِ لَا يَجُوزُ. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ السِّلَاحِ لِأَنَّهُ يَسْتَصْحِبُهُ إلَخْ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعُوا) أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ) أَيْ يَبِيعُونَهُ بِالْعُرُوضِ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ فِي الْفَصْلَيْنِ) أَيْ فِي فَصْلِ السِّلَاحِ وَفَصْلِ الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ.

ص: 485

قَالَ (وَمَنْ)(أَسْلَمَ مِنْهُمْ) مَعْنَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ) إنَّمَا احْتَاجَ الْمُصَنِّفُ إلَى قَوْلِهِ مَعْنَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِيَقَعَ الِاحْتِرَازُ بِهِ عَنْ مُسْتَأْمَنٍ دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ فِيهَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ أَوْلَادَهُ وَأَمْوَالَهُ كُلَّهَا فَيْءٌ، وَالْفَيْءُ مَا نِيلَ مِنْ الْكُفَّارِ بَعْدَمَا تَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَتَصِيرُ الدَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ.

ص: 486

(أَحْرَزَ بِإِسْلَامِهِ نَفْسَهُ) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الِاسْتِرْقَاقِ (وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ) لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا (وَكُلُّ مَالٍ هُوَ فِي يَدِهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» وَلِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدَهُ الْحَقِيقِيَّةَ إلَيْهِ يَدُ الظَّاهِرِينَ عَلَيْهِ (أَوْ وَدِيعَةً فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ)

قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الِاسْتِرْقَاقِ) لِأَنَّهُ يَقَعُ جَزَاءً لِاسْتِنْكَافِهِ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ عز وجل، فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَنْكَفَ عَنْ عُبُودِيَّةِ رَبِّهِ جَازَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ صَيَّرَهُ عَبْدَ عَبِيدِهِ، وَلَمَّا كَانَ مُسْلِمًا وَقْتَ الِاسْتِيلَاءِ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الِاسْتِرْقَاقِ وَهُوَ الِاسْتِنْكَافُ فَلَا يُوجَدُ الْمَشْرُوطُ، وَاحْتُرِزَ بِذَلِكَ عَنْ الِاسْتِرْقَاقِ حَالَةَ الْبَقَاءِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ (وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ وَكُلَّ مَالٍ) مَنْصُوبَانِ بِالْعَطْفِ عَلَى مَفْعُولِ أَحْرَزَ.

ص: 487

لِأَنَّهُ فِي يَدٍ صَحِيحَةٍ مُحْتَرَمَةٍ وَيَدُهُ كَيَدِهِ (فَإِنْ ظَهَرْنَا عَلَى دَارِ الْحِرَابِ فَعَقَارُهُ فَيْءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ لَهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَالْمَنْقُولِ.

وَلَنَا أَنَّ الْعَقَارَ فِي يَدِ أَهْلِ الدَّارِ وَسُلْطَانُهَا إذَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً، وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ. وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ هُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَدَ حَقِيقَةً لَا تَثْبُتُ عَلَى الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَثْبُتُ (وَزَوْجَتُهُ فَيْءٌ) لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ حَرْبِيَّةٌ لَا تَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ (وَكَذَا حَمْلُهَا فَيْءٌ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. هُوَ يَقُولُ إنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا كَالْمُنْفَصِلِ.

وَلَنَا أَنَّهُ جُزْؤُهَا

وَقَوْلُهُ (فِي يَدٍ صَحِيحَةٍ) احْتِرَازٌ عَنْ يَدِ الْغَاصِبِ. وَقَوْلُهُ (مُحْتَرَمَةٍ) احْتِرَازٌ عَنْ يَدِ الْحَرْبِيِّ. قَوْلُهُ (وَقِيلَ هَذَا) أَيْ كَوْنُ عَقَارِهِ (فَيْئًا) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَمَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ لَهُ إلَّا الْعَقَارَ فَإِنَّهُ فَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَسْتَحْسِنُ فِي الْعَقَارِ أَنْ أَجْعَلَهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ لَهُ كَالْمَنْقُولِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْكِتَابِ بِاعْتِبَارِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، إلَّا إنْ كَانَ عَنْهُ أَيْضًا رِوَايَتَانِ فَقَدْ هَانَ الْخَطْبُ إذْ ذَاكَ. قَوْلُهُ (عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْبِقَاعِ إنَّمَا تَثْبُتُ حُكْمًا وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِدَارِ الْأَحْكَامِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِيَدِهِ فِيهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَبَعْدَ الظُّهُورِ يَدُ الْغَانِمِينَ فِيهَا أَقْوَى مِنْ يَدِهِ لِغَلَبَتِهِمْ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَثْبُتُ

(وَزَوْجَتُهُ فَيْءٌ) لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ لَا تَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَزَوَّجُ الْكِتَابِيَّةَ وَتَبْقَى كِتَابِيَّةً وَلَا تَصِيرُ مُسْلِمَةً تَبَعًا لِزَوْجِهَا إذْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ (وَكَذَا حَمْلُهَا فَيْءٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه) فِي الْحَمْلِ (هُوَ يَقُولُ إنَّهُ) أَيْ الْحَمْلَ (مُسْلِمٌ) بِتَبَعِيَّةِ أَبِيهِ وَالْمُسْلِمُ لَا يُسْتَرَقُّ كَالْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ (وَلَنَا أَنَّهُ جُزْؤُهَا) وَهِيَ قَدْ صَارَتْ فَيْئًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَثْنَى الْجَنِينُ

ص: 488

فَيَرِقُّ بِرِقِّهَا وَالْمُسْلِمُ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْمُنْفَصِلِ لِأَنَّهُ حُرٌّ لِانْعِدَامِ الْجُزْئِيَّةِ عِنْدَ ذَلِكَ (وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ) لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ حَرْبِيُّونَ وَلَا تَبَعِيَّةَ (وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ عَبِيدِهِ فَيْءٌ) لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَرَّدَ عَلَى مَوْلَاهُ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ فَصَارَ تَبَعًا لِأَهْلِ دَارِهِمْ (وَمَا كَانَ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ) غَصْبًا كَانَ أَوْ وَدِيعَةً؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِمُحْتَرَمَةٍ (وَمَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ فَيْئًا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ رحمه الله:

فِي إعْتَاقِ الْأُمِّ كَمَا لَا يُسْتَثْنَى سَائِرُ أَجْزَائِهَا؛ فَكَمَا أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَصِيرُ عَبْدًا عِنْدَ إعْتَاقِ الْأُمِّ مُسْتَثْنًى بِحَالٍ، فَكَذَا فِي الِاسْتِرْقَاقِ لَا يَصِيرُ الْجَنِينُ مُسْتَثْنًى بَعْدَمَا ثَبَتَ الرِّقُّ فِي الْأُمِّ. وَقَوْلُهُ (وَالْمُسْلِمُ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ إنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا. وَتَقْرِيرُهُ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَكِنْ الْمُسْلِمُ مَحَلُّ التَّمَلُّكِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، كَمَا إذَا تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ أَمَةَ الْغَيْرِ يَكُونُ الْوَلَدُ رَقِيقًا بِتَبَعِيَّةِ الْأُمِّ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ.

وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمُنْفَصِلِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَالْمُنْفَصِلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ، وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ عَبِيدِهِ فَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَرَّدَ عَلَى مَوْلَاهُ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ وَصَارَ تَبَعًا لِأَهْلِ الدَّارِ) وَأَهْلُ الدَّارِ فَيْءٌ، وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَلَيْسَ بِفَيْءٍ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُ. وَقَوْلُهُ (وَمَا كَانَ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ غَصْبًا كَانَ أَوْ وَدِيعَةً لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِمُحْتَرَمَةٍ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَا قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ إنَّمَا يَعْمَلُ بِوَصْفِ الْأَصْلِ لَا بِوَصْفِ نَفْسِهِ كَالتُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ فِي التَّيَمُّمِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَرْبِيُّ مَقَامَ الْمُودَعِ الْمُسْلِمِ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ كَيَدِ الْمُسْلِمِ مُحْتَرَمًا نَظَرًا إلَى نَفْسِهِ لَا غَيْرَ مُحْتَرَمٍ نَظَرًا إلَى الْحَرْبِيِّ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ قِيَامَ يَدِ الْمُودَعِ عَلَى الْوَدِيعَةِ حَقِيقِيٌّ وَقِيَامَ يَدِ الْمَالِكِ عَلَيْهَا حُكْمِيٌّ، وَاعْتِبَارُ الْحُكْمِيِّ إنْ أَوْجَبَ الْعِصْمَةَ فَاعْتِبَارُ الْحَقِيقِيِّ يَمْنَعُهَا، وَالْعِصْمَةُ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً لِأَنَّ الْمَالَ فِي أَصْلِهِ عَلَى صِفَةِ الْإِبَاحَةِ وَعِصْمَتُهُ تَابِعَةٌ لِعِصْمَةِ الْمَالِكِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ التَّبَعِيَّةُ أَنْ لَوْ ثَبَتَ يَدُ الْمَالِكِ الْمَعْصُومِ لَهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا مَعَ الِاحْتِرَامِ، لِأَنَّهُ بِدُونِ الِاحْتِرَامِ يُعَارِضُهَا جِهَةُ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ.

وَقَوْلُهُ (وَمَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ) اخْتَلَفَ نُسَخُ الْهِدَايَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَبَعْضُهَا وَقَعَ هَكَذَا (وَمَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا لَا يَكُونُ فَيْئًا، قَالَ رضي الله عنه:

ص: 489

كَذَا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَذَكَرُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ.

لَهُمَا أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ، وَقَدْ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ فَيَتْبَعُهَا مَالُهُ فِيهَا.

وَلَوْ أَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ فَيُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ وَالنَّفْسُ لَمْ تَصِرْ مَعْصُومَةً بِالْإِسْلَامِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ

كَذَا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ) وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ بِلَفْظٍ قَالَا، بَلْ لَيْسَ لِأَبِي يُوسُفَ فِيهِ ذِكْرٌ وَبَعْضُهَا وَقَعَ هَكَذَا، وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه وَهُوَ أَيْضًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَبَعْضُهَا وَقَعَ هَكَذَا فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ فَيْئًا. قَالَ رضي الله عنه: كَذَا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَذَكَرُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُطَابِقُ لِرِوَايَةِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَشَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (لَهُمَا أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ) لِكَوْنِهِ وِقَايَةً لَهَا (وَالنَّفْسُ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِالْإِسْلَامِ فَيَبِعْهَا مَالَهُ فِيهَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ) أَيْ الْمَالَ الَّذِي غَصَبَهُ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ مِنْ الْحَرْبِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ (مَالٌ مُبَاحٌ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ نَائِبِهِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَهُوَ لَيْسَ بِنَائِبٍ. بِخِلَافِ الْمُودَعِ وَكُلُّ مَالٍ مُبَاحٍ يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ بِلَا خِلَافٍ.

وَقَوْلُهُ (وَالنَّفْسُ لَمْ تَصِرْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَقَدْ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ. وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ (أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ) حَتَّى لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ عَلَى قَاتِلِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ تَكُنْ مَعْصُومَةً لَمَا كَانَتْ مُحَرَّمَ التَّعَرُّضِ كَالْحَرْبِيِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

ص: 490

إلَّا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ التَّعَرُّضُ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا وَإِبَاحَةُ التَّعَرُّضِ بِعَارِضِ شَرِّهِ وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ عُرْضَةً لِلِامْتِهَانِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ وَلَيْسَتْ فِي يَدِهِ حُكْمًا فَلَمْ تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ.

(وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْلِفُوا مِنْ الْغَنِيمَةِ وَلَا يَأْكُلُوا مِنْهَا) لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ ارْتَفَعَتْ، وَالْإِبَاحَةُ بِاعْتِبَارِهَا، وَلِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَأَكَّدَ حَتَّى يُوَرِّثَ نَصِيبَهُ وَلَا كَذَلِكَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ (وَمَنْ فَضَلَ مَعَهُ عَلَفٌ أَوْ طَعَامٌ رَدَّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ تُقَسَّمْ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِنَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ اعْتِبَارًا بِالْمُتَلَصِّصِ. وَلَنَا أَنَّ الِاخْتِصَاصَ ضَرُورَةُ الْحَاجَةِ وَقَدْ زَالَتْ، بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِهِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فَكَذَا بَعْدَهُ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ تَصَدَّقُوا بِهِ إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَانْتَفَعُوا بِهِ إنْ كَانُوا مَحَاوِيجَ

أَجَابَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّهَا مُحَرَّمُ التَّعَرُّضِ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ التَّعَرُّضِ لَيْسَتْ لِكَوْنِهَا مَعْصُومَةً. وَإِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّفْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُحَرَّمُ التَّعَرُّضِ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهَا مُكَلَّفَةً لِتَقُومَ بِمَا كُلِّفَتْ بِهِ (وَإِبَاحَةُ التَّعَرُّضِ) إنَّمَا هِيَ (بِعَارِضِ شَرِّهِ. وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْإِسْلَامِ) فَعَادَتْ إلَى أَصْلِهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مَعْصُومَةٌ (بِخِلَافِ الْمَالِ لِأَنَّهُ خُلِقَ عُرْضَةً لِلِامْتِهَانِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ) فَكَانَ الْمُقْتَضِي مَوْجُودًا وَالْمَانِعُ مُنْتَفِيًا لِأَنَّ الْمَانِعَ كَوْنُهُ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا مَعَ الِاحْتِرَامِ، وَهَذَا لَيْسَ فِي يَدِهِ حُكْمًا لِأَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ لَيْسَتْ بِنَائِبَةٍ عَنْ يَدِ الْمَالِكِ فَلَمْ تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ فَكَانَ فَيْئًا.

قَوْلُهُ (وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (مَعْنَاهُ إذَا لَمْ تُقْسَمْ) يَعْنِي الْغَنِيمَةَ. وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِالْمُتَلَصِّصِ) فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ دَارَ الْحَرْبِ مُغِيرِينَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَأَخَذُوا شَيْئًا فَهُوَ لَهُمْ، وَلَا يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ إذْ الْغَنِيمَةُ هُوَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَهُوَ مُبَاحٌ سَبَقَتْ أَيْدِيهِمْ إلَيْهِ. قَوْلُهُ (وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ تَصَدَّقُوا بِهِ) أَيْ إذَا جَاءُوا بِمَا فَضَلَ مِنْ طَعَامٍ أَوْ عَلَفٍ أَخَذُوا مِنْ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ قِسْمَةِ الْإِمَامِ

ص: 491

لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَى الْغَانِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا انْتَفَعُوا بِهِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ تُرَدُّ قِيمَتُهُ إلَى الْمَغْنَمِ إنْ كَانَ لَمْ يُقَسَّمْ، وَإِنْ قُسِّمَتْ الْغَنِيمَةُ فَالْغَنِيُّ يَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ وَالْفَقِيرُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِقِيَامِ مَقَامِ الْأَصْلِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ. .

(فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ)

قَالَ (وَيُقَسِّمُ الْإِمَامُ الْغَنِيمَةَ فَيُخْرِجُ خُمُسَهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} اسْتَثْنَى الْخُمُسَ (وَيُقَسِّمُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ»

الْغَنِيمَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَصَدَّقُوا بِهِ. وَيُقَالُ رَجُلٌ مَحُوجٌ: أَيْ مُحْتَاجٌ، وَقَوْمٌ مَحَاوِيجُ. وَقَوْلُهُ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَى الْغَانِمِينَ يَعْنِي لِتَفَرُّقِهِمْ.

وَقَوْلُهُ (فَأَخَذَ حُكْمَهُ) أَيْ أَخَذَتْ الْغَنِيمَةُ حُكْمَ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ضَمِيرَ الْغَنِيمَةِ عَلَى تَأْوِيلِ مَا يَقُومُ أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ: يَعْنِي لَوْ كَانَ فَاضِلُ الْغَنِيمَةِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ فَقَدْ حَلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ فَكَذَا يَحِلُّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ.

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ:

لَمَّا بَيَّنَ أَحْكَامَ الْغَنَائِمِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ كَيْفِيَّةِ قِسْمَتِهَا، وَالْقِسْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ جَمْعِ النَّصِيبِ الشَّائِعِ فِي مَكَان مُعَيَّنٍ (وَيَقْسِمُ الْإِمَامُ الْغَنِيمَةَ فَيُخْرِجُ خُمُسَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} اسْتَثْنَى الْخُمُسَ) أَيْ أَخْرَجَهُ، اسْتَعَارَ الِاسْتِثْنَاءَ لِلْإِخْرَاجِ لِوُجُودِ مَعْنَاهُ فِيهِ (وَيَقْسِمُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ) بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} أَضَافَ الْغَنِيمَةَ إلَى الْغَانِمِينَ وَهُمْ الْغُزَاةُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} فَكَانَ بَيَانَ ضَرُورَةِ أَنَّ بَقِيَّةَ الْأَخْمَاسِ لِلْغُزَاةِ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ لِلْغَانِمِينَ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ أَيْضًا إيصَالًا لِلْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ.

ص: 492

(ثُمَّ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَقَالَا: لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» وَلِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْغِنَاءِ وَغِنَاؤُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْثَالِ الرَّاجِلِ؛ لِأَنَّهُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالثَّبَاتِ، وَالرَّاجِلُ لِلثَّبَاتِ لَا غَيْرُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا» فَتَعَارَضَ فِعْلَاهُ، فَيُرْجَعُ إلَى قَوْلِهِ وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ» كَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَسَّمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ»

ثُمَّ كَيْفِيَّةُ الْقِسْمَةِ أَنْ يُعْطِيَ الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه. وَقَالَا: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه لِلْفَارِسِ: ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ) وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَالْغِنَاءِ بِالْمَدِّ وَالْفَتْحِ الْإِجْزَاءُ وَالْكِفَايَةُ وَالْكَرُّ الْحَمَلَةُ وَالْفَرُّ بِمَعْنَى الْفِرَارِ، وَالْفِرَارُ إذَا كَانَ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْكَرُّ أَشَدَّ كَانَ مِنْ الْجِهَادِ، وَالْفِرَارُ فِي مَوْضِعِهِ مَحْمُودٌ لِئَلَّا يَرْتَكِبَ الْمَنْهِيَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَكِنْ طَرِيقَةُ اسْتِدْلَالِهِ مُخَالِفَةٌ لِقَوَاعِدِ الْأُصُولِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَتَعَذَّرَ التَّوْفِيقُ وَالتَّرْجِيحُ يُصَارُ إلَى مَا بَعْدَهُ لَا إلَى مَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَتَعَارَضَ فِعْلَاهُ فَيَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ وَالْمَسْلَكُ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ وَيَقُولُ فِعْلُهُ لَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ لِكَوْنِ الْقَوْلِ أَقْوَى بِالِاتِّفَاقِ.

ص: 493

وَإِذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ تُرَجَّحَ رِوَايَةُ غَيْرِهِ،

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ تُرَجَّحُ رِوَايَةُ غَيْرِهِ) أَيْ سَلِمَتْ عَنْ الْمُعَارَضَةِ فَيُعْمَلُ بِهَا: يَعْنِي رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ

ص: 494

وَلِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ غِنَاؤُهُ مِثْلَيْ غِنَاءِ الرَّاجِلِ فَيَفْضُلُ عَلَيْهِ بِسَهْمٍ وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَلِلْفَارِسِ سَبَبَانِ النَّفْسُ وَالْفَرَسُ، وَلِلرَّاجِلِ سَبَبٌ وَاحِدٌ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ عَلَى ضَعْفِهِ. .

وَقَوْلُهُ (فَيَكُونُ غِنَاؤُهُ مِثْلَ غِنَاءِ الرَّجُلِ) لِأَنَّ نَفْسَ الْفِرَارِ لَيْسَ بِمَحْمُودٍ، بَلْ الْفِرَارُ إنَّمَا يَحْسُنُ إذَا فُعِلَ لِأَجْلِ الْكَرِّ، فَيَكُونَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ (وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهِ) يَعْنِي قَدْ يَزِيدُ الْفَارِسُ عَلَى فَارِسٍ آخَرَ وَالرَّاجِلُ عَلَى رَاجِلٍ آخَرَ فِي الْغِنَاءِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى تِلْكَ الزِّيَادَةِ مُتَعَذَّرٌ لِأَنَّهَا تَظْهَرُ عِنْدَ الْمُسَايَفَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمْ مَشْغُولٌ بِرُوحِهِ، وَإِذَا كَانَ مُتَعَذِّرًا وَلَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ أُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ (وَلِلْفَارِسِ سَبَبَانِ نَفْسُهُ وَالْفَرَسُ، وَلِلرَّاجِلِ سَبَبٌ وَاحِدٌ) وَهُوَ نَفْسُهُ (فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْفَارِسِ عَلَى ضِعْفِهِ)

ص: 495

(وَلَا يُسْهِمُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُسْهِمُ لِفَرَسَيْنِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ» وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَعْيَا فَيَحْتَاجُ إلَى الْآخَرِ، وَلَهُمَا «أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ أَوْسٍ قَادَ فَرَسَيْنِ فَلَمْ يُسْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ» وَلِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَتَحَقَّقُ بِفَرَسَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا يَكُونُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مُفْضِيًا إلَى الْقِتَالِ عَلَيْهِمَا فَيُسْهِمُ لِوَاحِدٍ، وَلِهَذَا لَا يُسْهِمُ لِثَلَاثَةِ أَفْرَاسٍ،

قَوْلُهُ وَلَا يُسْهَمُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ) وَاضِحٌ. حَاصِلُ الدَّلِيلَيْنِ وُقُوعُ التَّعَارُضِ بَيْنَ رِوَايَتَيْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَالرُّجُوعُ إلَى مَا بَعْدَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ بِقَوْلِهِ (وَلِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَتَحَقَّقُ بِفَرَسَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً) فَلَا يَكُونُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ مُفْضِيًا إلَى زِيَادَةِ الْغِنَاءِ بِالْقِتَالِ عَلَيْهِمَا فَيُسْهَمُ لِوَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا يُسْهَمُ لِثَلَاثَةِ أَفْرَاسٍ.

ص: 496

وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْفِيلِ كَمَا أَعْطَى سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ سَهْمَيْنِ وَهُوَ رَاجِلٌ

وَقَوْلُهُ (وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْفِيلِ إلَخْ) اسْتِظْهَارٌ فِي تَقْوِيَةِ الدَّلِيلِ لِأَنَّ مَا رَوَاهُ لَمَّا سَقَطَ بِالْمُعَارَضَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى

ص: 497

(وَالْبَرَاذِينُ وَالْعَتَاقُ سَوَاءٌ) لِأَنَّ الْإِرْهَابَ مُضَافٌ إلَى جِنْسِ الْخَيْلِ فِي الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وَاسْمُ الْخَيْلِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَرَاذِينِ وَالْعِرَابِ وَالْهَجِينِ وَالْمَقْرِفِ إطْلَاقًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّ الْعَرَبِيَّ إنْ كَانَ فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ أَقْوَى فَالْبِرْذَوْنُ أَصَبْرُ وَأَلْيَنُ عَطْفًا، فَفِي كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاسْتَوَيَا.

(وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَنَفَقَ فَرَسُهُ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، وَمَنْ دَخَلَ رَاجِلًا فَاشْتَرَى فَرَسًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ رَاجِلٍ) وَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى عَكْسِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ،

جَوَابٍ عَنْهُ أَوْ تَأْوِيلٍ لَهُ (وَالْبَرَاذِينُ وَالْعَتَاقُ سَوَاءٌ) الْبَرَاذِينُ جَمْعُ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ فَرَسُ الْعَجَمِ، وَالْعَتَاقُ الْكَرَائِمُ. يُقَالُ عَتَاقُ الْخَيْلِ وَالطَّيْرِ لِكَرَائِمِهِمَا، وَالْعِرَابُ خِلَافُ فَرَسِ الْعَجَمِ. وَالْهَجِينُ مَا يَكُونُ أَبُوهُ مِنْ الْكَوَادِنِ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةً، وَالْكَوْدَنُ الْبِرْذَوْنُ وَيُشْبِهُ بِهِ الْبَلِيدُ، وَالْمَقْرِفُ عَكْسُ الْهَجِينِ، وَإِنَّمَا تَصَدَّى لِذِكْرِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْبِرْذَوْنِ وَالْعَتَاقِ لِأَنَّ أَهْلَ الشَّامِ يَقُولَانِ لَا يُسْهَمُ لِلْبَرَاذِينِ وَرَوَوْا فِيهِ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاذًّا، وَحُجَّتُنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (أَلْيَنَ عَطْفًا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا، فَمَعْنَى الْفَتْحِ الْإِمَالَةُ، وَمَعْنَى الْكَسْرِ الْجَانِبُ.

قَالَ (وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا) هَذَا الْبَيَانُ وَقْتَ إقَامَةِ السَّبَبِ الظَّاهِرِ مَقَامَ مَا يُوجِبُ زِيَادَةَ السَّهْمِ وَهُوَ

ص: 498

وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا حَالَةُ الْمُجَاوَزَةِ، وَعِنْدَهُ حَالَةُ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ لَهُ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ وَالْقِتَالُ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ عِنْدَهُ وَالْمُجَاوَزَةُ وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ كَالْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ، وَتَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْقِتَالِ يَدُلُّ عَلَى إمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَعَذَّرَ أَوْ تَعَسَّرَ تَعَلَّقَ بِشُهُودِ الْوَقْعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِتَالِ.

وَلَنَا أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ نَفْسَهَا قِتَالٌ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْخَوْفُ بِهَا وَالْحَالُ بَعْدَهَا حَالَةُ الدَّوَامِ

وَقْتُ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ عِنْدَنَا. وَقَوْلُهُ (وَهَكَذَا) أَيْ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه (رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه فِي الْفَصْلِ الثَّانِي) يَعْنِي مَا إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا وَقَاتَلَ فَارِسًا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ (وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا فِي وَقْتِ إقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَ ذَلِكَ حَالَةَ الْمُجَاوَزَةِ) أَيْ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الدَّرْبُ الْبَابُ الْوَاسِعُ عَلَى السِّكَّةِ وَعَلَى كُلِّ مَدْخَلٍ مِنْ مَدَاخِلِ الرُّومِ دَرْبٌ مِنْ دُرُوبِهَا، لَكِنْ الْمُرَادُ بِالدَّرْبِ هَاهُنَا هُوَ الْبَرْزَخُ الْحَاجِزُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ، حَتَّى لَوْ جَاوَزْت الدَّرْبَ دَخَلْت فِي حَدِّ دَارِ الْحَرْبِ، وَلَوْ جَاوَزَ أَهْلُ دَارِ الْحَرْبِ الدَّرْبَ دَخَلُوا فِي حَدِّ دَارِ الْإِسْلَامِ (وَعِنْدَهُ حَالَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ) أَيْ تَمَامُهَا وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْهُ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ مُجَرَّدَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ، وَدَلِيلُهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ الْمُصَنِّفُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ حَالَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ إلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَبِالدَّلِيلِ إلَى الْأُخْرَى لِأَنَّ قَوْلَهُ (يُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ الْقِتَالِ إشَارَةٌ إلَى حَالِ شُهُودِ الْوَقْعَةِ لَا إلَى حَالِ انْقِضَائِهَا. وَقَوْلُهُ (وَالْمُجَاوَزَةُ وَسِيلَةٌ) رَدٌّ لِمَذْهَبِنَا. وَقَوْلُهُ (كَالْخُرُوجِ مِنْ مَبِيتٍ) يَعْنِي لِلْقِتَالِ، فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي اعْتِبَارِ حَالِ الْغَازِي مِنْ كَوْنِهِ رَاجِلًا أَوْ فَارِسًا، وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْوَسِيلَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَتَعْلِيقُ الْأَحْكَامِ) جَوَابٌ عَمَّا سَنَذْكُرُ فِي تَعْلِيلِنَا أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ مُتَعَسِّرٌ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَعَلَّقَتْ بِوُجُودِ الْقِتَالِ حَقِيقَةً كَإِعْطَاءِ الرَّضْخِ لِلصَّبِيِّ إذَا قَاتَلَ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالذِّمِّيُّ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُتَعَسِّرًا لَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا عُسْرَهُ لَكِنْ يَجِبُ تَعَلُّقُ حُكْمِ كَوْنِهِ رَاجِلًا أَوْ فَارِسًا بِحَالَةٍ هِيَ أَقْرَبُ إلَى الْقِتَالِ وَهِيَ شُهُودُ الْوَقْعَةِ لَا مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ (وَلَنَا أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ نَفْسَهَا قِتَالٌ) لِأَنَّ الْقِتَالَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَقَعُ بِهِ لِلْعَدُوِّ خَوْفٌ، وَمُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ قَهْرًا، وَشَوْكَةٌ تَحْصُلُ لَهُمْ الْخَوْفُ فَكَانَ قِتَالًا. وَإِذَا وُجِدَ أَصْلُ الْقِتَالِ فَارِسًا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُهُ بِتَغَيُّرِ أَحْوَالِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ (حَالَةُ دَوَامِ الْقِتَالِ

ص: 499

وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ مُتَعَسِّرٌ؛ وَكَذَا عَلَى شُهُودِ الْوَقْعَةِ لِأَنَّ حَالَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ فَتُقَامُ الْمُجَاوَزَةُ مَقَامَهُ؛ إذْ هُوَ السَّبَبُ الْمُفْضِي إلَيْهِ ظَاهِرًا إذَا كَانَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ بِحَالَةِ الْمُجَاوَزَةِ فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا.

وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا وَقَاتَلَ رَاجِلًا لِضِيقِ الْمَكَانِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أَوْ وَهَبَ أَوْ أَجَّرَ أَوْ رَهَنَ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ اعْتِبَارًا لِلْمُجَاوَزَةِ.

وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الرَّجَّالَةِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ بِالْمُجَاوَزَةِ الْقِتَالُ فَارِسًا.

وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يَسْقُطْ سَهْمُ الْفُرْسَانِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ عِنْدَ الْبَعْضِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ التِّجَارَةُ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ يَنْتَظِرُ عِزَّتَهُ

وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِدَوَامِ الْقِتَالِ لِأَنَّ الْفَارِسَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقَاتِلَ فَارِسًا دَائِمًا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ فِي بَعْضِ الْمَضَايِقِ خُصُوصًا فِي الْمَشْجَرَةِ أَوْ فِي الْحِصْنِ أَوْ فِي الْبَحْرِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ) وَاضِحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.

ص: 500

(وَلَا يُسْهِمُ لِمَمْلُوكٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا ذِمِّيٍّ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ لَا يُسْهِمُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَكَانَ يَرْضَخُ لَهُمْ» وَلَمَّا اسْتَعَانَ عليه الصلاة والسلام بِالْيَهُودِ عَلَى الْيَهُودِ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ: يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ، وَلِأَنَّ الْجِهَادَ عِبَادَةٌ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ عَاجِزَانِ عَنْهُ وَلِهَذَا لَمْ يَلْحَقْهُمَا فَرْضُهُ، وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُوَلَّى وَلَهُ مَنْعُهُ، إلَّا أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُمْ تَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ مَعَ إظْهَارِ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهِمْ، وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ لِقِيَامِ الرِّقِّ وَتَوَهُّمِ عَجْزِهِ فَيَمْنَعُهُ الْمُوَلَّى عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْقِتَالِ

قَوْلُهُ (وَتَوَهُّمِ عَجْزِهِ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْجِزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَيَعُودَ إلَى الرِّقِّ، وَحِينَئِذٍ كَانَ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ الْمَنْعِ فَيُمْنَعُ فِي الْحَالِ لِوُجُودِ التَّوَهُّمِ.

ص: 501

ثُمَّ الْعَبْدُ إنَّمَا يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ لِأَنَّهُ دَخَلَ لِخِدْمَةِ الْمُوَلَّى فَصَارَ كَالتَّاجِرِ، وَالْمَرْأَةُ يَرْضَخُ لَهَا إذَا كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، وَتَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى لِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْقِتَالِ فَيُقَامُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِعَانَةِ مَقَامَ الْقِتَالِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ، وَالذِّمِّيُّ إنَّمَا يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ أَوْ دَلَّ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَمْ يُقَاتِلْ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ يُزَادُ عَلَى السَّهْمِ فِي الدَّلَالَةِ إذَا كَانَتْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ السَّهْمَ إذَا قَاتَلَ؛ لِأَنَّهُ جِهَادٌ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي حُكْمِ الْجِهَادِ.

قَوْلُهُ لِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْقِتَالِ) ظَاهِرٌ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَاجِزَةً لَمَا صَحَّ أَمَانُهَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ يُخَافُ مِنْهُ الْقِتَالُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْقِتَالِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَمَانَ صِحَّتُهُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ، بَلْ تَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْقِتَالِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِعَاجِزَةٍ عَنْ شُبْهَةِ الْقِتَالِ بِمَالِهَا وَعَبِيدِهَا، وَأَمَّا السَّهْمُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِحَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِتَالِ وَهِيَ عَاجِزَةٌ عَنْهَا (وَلَا يَبْلُغُ بِهِ السَّهْمُ إذَا قَاتَلَ لِأَنَّهُ جِهَادٌ) فَلَا يَبْلُغُ بِسَهْمِهِ سَهْمَ الْمُجَاهِدِينَ (وَالْأَوَّلُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ) أَيْ الدَّلَالَةُ لَيْسَتْ مِنْ عَمَلِ الْجِهَادِ فَكَانَتْ عَمَلًا كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ فَيَبْلُغُ

ص: 502

(وَأَمَّا الْخُمُسُ فَيُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ وَيُقَدَّمُونَ، وَلَا يُدْفَعُ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُمْ خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ

أَجْرُهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ.

قَالَ (وَأَمَّا الْخُمُسُ فَيُقْسَمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٍ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٍ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ) أَيْ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ أَيْتَامَ ذَوِي الْقُرْبَى يَدْخُلُونَ فِي سَهْمِ الْيَتَامَى وَيُقَدَّمُونَ عَلَيْهِمْ، وَمَسَاكِينُ ذَوِي الْقُرْبَى يَدْخُلُونَ فِي سَهْمِ الْمَسَاكِينِ، وَأَبْنَاءُ السَّبِيلِ مِنْهُمْ يَدْخُلُونَ فِي أَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَسَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الِاحْتِيَاجُ، غَيْرَ أَنَّ سَبَبَهُ مُخْتَلِفٌ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْيُتْمِ وَالْمَسْكَنَةِ وَكَوْنُهُ ابْنَ السَّبِيلِ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا مُسْتَحِقُّونَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ صَرَفَ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ عِنْدَنَا كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ (وَلَا يَدْفَعُ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: لَهُمْ خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، وَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ) مِنْ بَنِي عَبْدَ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ

ص: 503

لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} مِنْ غَيْرِ فَصْلِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.

وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ الرَّاشِدِينَ قَسَّمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَاهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَأَوْسَاخَهُمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ» وَالْعِوَضُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْمُعَوَّضُ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ.

لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ) فَيَشْتَرِكَانِ (وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ رضي الله عنهم قَسَمُوا الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةٍ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً) وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصْرَفْ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ شَيْءٌ لِأَنَّهُ قَالَ «يَا بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ وَأَوْسَاخَهُمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ» وَالْعِوَضُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْمُعَوَّضُ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ) يَعْنِي أَنَّ الْمُعَوَّضَ وَهُوَ الزَّكَاةُ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْأَغْنِيَاءِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِوَضَ الزَّكَاةِ وَهُوَ خُمُسُ

ص: 504

وَالنَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام عَلَّلَ فَقَالَ: «إنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مَعِي هَكَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّصْرِ قُرْبُ النُّصْرَةِ لَا قُرْبُ الْقَرَابَةِ.

الْغَنَائِمِ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِمْ لِأَنَّ الْعِوَضَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ فَاتَ عَنْهُ الْمُعَوَّضُ وَإِلَّا لَا يَكُونُ عِوَضًا لِذَلِكَ الْمُعَوَّضِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا صَحِيحًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يَقْسِمَ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَأَنْتُمْ تَقْسِمُونَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَهُوَ مُخَالَفَةٌ مِنْكُمْ لِلْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا إثْبَاتُ الْعِوَضِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي فَاتَ عَنْهُ الْمُعَوَّضُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِيَةُ جَعْلُهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَلَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ الْخُمُسِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَهُوَ فِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى تَغْيِيرِ الْعِوَضِ مِمَّنْ فَاتَ عَنْهُ الْمُعَوَّضُ فَقُلْنَا بِهِ، كَمَا تَمَسَّكَ الْخَصْمُ عَلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ صَلَاةً» وَهُوَ لَا يَقُولُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ، وَلَكِنْ يَقُولُ لِلْحَدِيثِ دَلَالَتَانِ، فَإِحْدَاهُمَا بَاقِيَةٌ وَإِنْ انْتَفَتْ الْأُخْرَى. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا بِجَمِيعِ مُقَدِّمَاتِهِ لَمَا أَعْطَاهُمْ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام عَلَّلَ فَقَالَ:«إنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مَعِي هَكَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» ) وَقِصَّتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ قَالَ «لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكَ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، فَانْطَلَقْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَك اللَّهُ بِهِ فِيهِمْ، فَمَا بَالُ إخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتهمْ وَتَرَكْتنَا وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: أَنَا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَأَشَارَ إلَى نُصْرَتِهِمْ» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّصِّ) أَعْنِي قَوْلَهُ وَلِذِي الْقُرْبَى (قُرْبُ النُّصْرَةِ لَا قُرْبُ الْقَرَابَةِ) وَالْمُرَادُ بِالنُّصْرَةِ نُصْرَةُ الِاجْتِمَاعِ فِي الشُّعَبِ لَا نُصْرَةُ الْقِتَالِ، يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ:

ص: 505

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

«لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ» وَلِهَذَا يَصْرِفُ لِلنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ لَا لِلْقَرَابَةِ وَقَدْ انْتَهَتْ النُّصُرَاتُ انْتَهَى الْإِعْطَاءُ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ.

ص: 506

قَالَ (فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخُمُسِ فَإِنَّهُ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ تَبَرُّكًا بِاسْمِهِ، وَسَهْمُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ وَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ كَانَ عليه الصلاة والسلام يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِثْلَ دِرْعٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَارِيَةٍ.

قَالَ (فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخُمُسِ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ سُقُوطِ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى بَيَّنَ وَجْهَ سُقُوطِ مَا سِوَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي النَّصِّ فَقَالَ: فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخُمُسِ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (فَإِنَّهُ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ تَبَرُّكًا بِذِكْرِهِ، وَسَهْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ) بِالْإِجْمَاعِ (لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ) لِأَنَّ الْحُكْمَ مَتَى تَرَتَّبَ عَلَى الْمُشْتَقِّ فَيَكُونُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ عِلَّةً (وَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ. وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ كَانَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ دِرْعٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَارِيَةٍ) اصْطَفَى ذَا الْفَقَارِ مِنْ غَنَائِمِ بَدْرٍ، وَاصْطَفَى

ص: 507

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصْرَفُ سَهْمُ الرَّسُولِ إلَى الْخَلِيفَةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ (وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالنُّصْرَةِ) لِمَا رَوَيْنَا.

قَالَ (وَبَعْدُ بِالْفَقْرِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: سَهْمُ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ سَاقِطٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ نَظَرًا إلَى الْمَصْرِفِ فَيُحَرِّمُهُ كَمَا حَرَّمَ الْعِمَالَةَ.

وَجْهُ الْأَوَّلِ

صَفِيَّةَ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: يُصْرَفُ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْخَلِيفَةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ) أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ (وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالنُّصْرَةِ لِمَا رَوَيْنَا) أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ. لَا يُقَالُ: قَوْلُهُ وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى وَقَعَ مُكَرَّرًا حُكْمًا وَتَعْلِيلًا. لِأَنَّا نَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا كَانَ فِي حَيِّزِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقِسْمَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَهَذَا نَقْلٌ لِكَلَامِ صَاحِبِ الْقُدُورِيِّ. قَالَ: أَيْ الْقُدُورِيُّ (وَبَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام (بِالْفَقْرِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ اسْتِحْقَاقُهُمْ بِالْفَقْرِ (قَوْلُ الْكَرْخِيِّ: وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ سَهْمُ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ سَاقِطٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ) يَعْنِي قَوْلَهُ: وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ الرَّاشِدِينَ رضي الله عنهم قَسَمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ النَّصُّ أَوْ مَنَعُوا حَقَّ ذَوِي الْقُرْبَى فَكَانَ إجْمَاعُهُمْ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ اسْتِحْقَاقٌ لِأَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ. وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه الْإِجْمَاعَ، وَسَنَدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهم قَالَ: كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ فِي الْخُمُسِ رَأْيَ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما وَالْإِجْمَاعُ بِدُونِ أَهْلِ الْبَيْتِ لَا يَنْعَقِدُ. وَقُلْنَا: لَا يَحِلُّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَتْرُكَ رَأْيَ نَفْسِهِ بِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ احْتِشَامًا لَهُ، فَإِنْ ثَبَتَ مَا رُوِيَ دَلَّ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُخَالَفَةَ لِأَنَّهُ رَأَى الْحُجَّةَ مَعَهُمَا فَقَدْ خَالَفَهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ حِينَ ظَهَرَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى (مَعْنَى الصَّدَقَةِ) لِأَنَّ الْهَاشِمِيَّ الَّذِي يُصْرَفُ إلَيْهِ فَقِيرٌ، إذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَيْهِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَصْحَابِنَا، فَلَمَّا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ حُرِمَ ذَوُو الْقُرْبَى إيَّاهُ كَمَا حُرِمَ الْهَاشِمِيُّ الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ الْعِمَالَةُ وَهُوَ مَا يُعْطَى عَلَى عَمَلِهِ، وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ إنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْحَابِنَا فَهُوَ تَامٌّ، وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فَلَيْسَ بِذَاكَ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمَصْرِفِ فَقِيرًا لَيْسَ إلَّا فِي حَيِّزِ النِّزَاعِ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ (وَجْهُ الْأَوَّلِ) يَعْنِي قَوْلَ الْكَرْخِيِّ،

ص: 508

وَقِيلَ هُوَ الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ، وَالْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ، أَمَّا فُقَرَاؤُهُمْ فَيَدْخُلُونَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ.

(وَإِذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ دَارَ الْحَرْبِ مُغِيرَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَأَخَذُوا شَيْئًا لَمْ يُخَمَّسْ) لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ هُوَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا وَغَلَبَةً لَا اخْتِلَاسًا وَسَرِقَةً، وَالْخُمُسُ وَظِيفَتُهَا، وَلَوْ دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ الْتَزَمَ نُصْرَتَهُمْ بِالْإِمْدَادِ فَصَارَ كَالْمَنَعَةِ (فَإِنْ دَخَلَتْ جَمَاعَةٌ لَهَا مَنَعَةٌ فَأَخَذُوا شَيْئًا خُمِّسَ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ الْإِمَامُ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ قَهْرًا وَغَلَبَةً فَكَانَ غَنِيمَةً، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ إذْ لَوْ خَذَلَهُمْ كَانَ فِيهِ وَهْنُ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نُصْرَتُهُمْ.

وَقِيلَ هُوَ الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ، وَالْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ) يَعْنِي إجْمَاعَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ الرَّاشِدِينَ كَمَا مَرَّ (أَمَّا فُقَرَاؤُهُمْ فَيَدْخُلُونَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ، وَكَرَّرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِلْإِيضَاحِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَقِيلَ هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَبْسُوطِ اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ أَنَّ الْفُقَرَاءَ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ، وَإِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ إلَيْهِمْ مُجَازَاةً عَلَى النُّصْرَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُخْتَارُ الْقُدُورِيِّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ: وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالنُّصْرَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ) ظَاهِرٌ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْعَدَدَ الْيَسِيرَ إنَّمَا يَدْخُلُونَ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ لَا لِإِعْزَازِ الدِّينِ، فَصَارَ كَتَاجِرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ. فَإِنْ قُلْت: قَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} مُطْلَقٌ فَيَجِبُ الْخُمُسُ وُجِدَ الْإِذْنُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْغَنِيمَةَ اسْمٌ لِمَا هُوَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا وَغَلَبَةً وَمَا أَخَذَهُ اللِّصُّ سَرِقَةً وَمَا أَخَذَهُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ خِلْسَةً فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْغَنِيمَةِ. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ دَخَلَ جَمَاعَةٌ لَهَا مَنَعَةٌ) الْمَنَعَةُ السَّرِيَّةُ. نَقَلَ النَّاطِفِيُّ عَنْ كِتَابِ الْخَرَاجِ لِابْنِ شُجَاعٍ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ فَغَنِمَ وَلَا عَسْكَرَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يُخَمَّسُ مَا أَخَذَهُ حَتَّى يَصِيرُوا تِسْعَةً، فَإِذَا بَلَغُوا ذَلِكَ فَهُمْ سَرِيَّةٌ (قَوْلُهُ إذَا لَوْ خَذَلَهُمْ) أَيْ تَرَكَ عَوْنَهُمْ (كَانَ فِيهِ وَهَنُ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ ضَعْفُهُمْ.

ص: 509

(فَصْلٌ فِي التَّنْفِيلِ)

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُنَفِّلَ الْإِمَامُ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَيُحَرِّضَ بِهِ عَلَى الْقِتَالِ فَيَقُولَ " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَيَقُولَ لِلسَّرِيَّةِ قَدْ جَعَلْت لَكُمْ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا رَفَعَ الْخُمُسَ لِأَنَّ التَّحْرِيضَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى

فَصْلٌ فِي التَّنْفِيلِ:

التَّنْفِيلُ نَوْعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ، فَفُصِلَ عَمَّا قَبْلَهُ بِفَصْلٍ، يُقَالُ نَفَلَ الْإِمَامُ الْغَازِيَ. أَيْ أَعْطَاهُ زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ بِقَوْلِهِ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» (قَوْلُهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْفُلَ الْإِمَامُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: كَلِمَةُ لَا بَأْسَ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى لَيْسَ بِمُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ التَّنْفِيلَ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ تَحْرِيضٌ وَالتَّحْرِيضُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} فَإِنْ قِيلَ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْوُجُوبِ فَمَا الصَّارِفُ عَنْهُ إلَى الِاسْتِحْبَابِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُعَارِضُهُ دَلِيلُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَانْصَرَفَ إلَى الِاسْتِحْبَابِ (قَوْلُهُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا) تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ

ص: 510

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} وَهَذَا نَوْعُ تَحْرِيضٍ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ التَّنْفِيلُ بِمَا ذَكَرَ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْكُلِّ، فَإِنْ فَعَلَهُ مَعَ السَّرِيَّةِ جَازَ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ (وَلَا يُنَفِّلُ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ) لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ قَدْ تَأَكَّدَ فِيهِ بِالْإِحْرَازِ. قَالَ (إلَّا مِنْ الْخُمُسِ) لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِي الْخُمُسِ

قَوْلُهُ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ التَّنْفِيلُ بِمَا ذُكِرَ) يَعْنِي التَّنْفِيلَ بِالسَّلْبِ (وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ) نَحْوَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَوْمَ بَدْرٍ بِسَيْفِ أَبِي جَهْلٍ وَكَانَ عَلَيْهِ فِضَّةٌ» (وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْكُلِّ، وَإِنْ فَعَلَهُ مَعَ السَّرِيَّةِ جَازَ) لِمَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: إذَا قَالَ الْإِمَامُ لِلْعَسْكَرِ جَمِيعًا مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ نَفْلًا بِالسَّوِيَّةِ بَعْدَ الْخُمُسِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّنْفِيلِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا خَصَّ الْبَعْضَ بِالتَّنْفِيلِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَ الْخُمُسِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ الْخُمُسِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْغَنِيمَةِ وَإِبْطَالَ حَقِّ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ: وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِي الْخُمُسِ) فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَانِمِينَ فَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْأَصْنَافِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ جَوَازَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُنْفَلَ لَهُ جُعِلَ وَاحِدًا مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ إبْطَالُ حَقِّهِمْ إذْ يَجُوزُ صَرْفُ الْخُمُسِ عَلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا مُسْتَحِقُّونَ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُنْفَلُ لَهُ الَّذِي جُعِلَ وَاحِدًا مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فَقِيرًا لِأَنَّ الْخُمُسَ حَقُّ الْمُحْتَاجِينَ لَا حَقُّ الْأَغْنِيَاءِ فَجَعْلُهُ لِلْغَنِيِّ إبْطَالُ حَقِّ الْمُحْتَاجِينَ

ص: 511

(وَإِذَا لَمْ يَجْعَلْ السَّلْبَ لِلْقَاتِلِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السَّلْبُ لِلْقَاتِلِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُسْهِمَ لَهُ وَقَدْ قَتَلَهُ مُقْبِلًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَصْبُ شَرْعٍ لِأَنَّهُ بَعَثَهُ لَهُ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ مُقْبِلًا أَكْثَرَ غِنَاءً فَيَخْتَصُّ بِسَلَبِهِ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَيَكُونُ غَنِيمَةً فَيُقَسِّمُ الْغَنَائِمَ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام لِحَبِيبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ «لَيْسَ لَك مِنْ سَلَبِ قَتِيلِك إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك» وَمَا رَوَاهُ يَحْتَمِلُ نَصْبَ الشَّرْعِ وَيَحْتَمِلُ التَّنْفِيلَ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الثَّانِي لِمَا رَوَيْنَاهُ.

وَقَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَمَا رَوَاهُ يَحْتَمِلُ نَصْبَ الشَّرِّ وَيَحْتَمِلُ التَّنْفِيلَ) قِيلَ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ نَصْبَ الشَّرْعِ إذَا قَالَ بِالْمَدِينَةِ فِي مَسْجِده وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ ذَلِكَ إلَّا يَوْمَ بَدْرٍ وَحُنَيْنٍ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ، وَكَمَا قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَدْ قَالَ «مَنْ أَخَذَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ» ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّنْفِيلِ فَكَذَلِكَ فِي السَّلَبِ (فَيُحْمَلُ عَلَى الثَّانِي) يَعْنِي عَلَى التَّنْفِيلِ (لِمَا رَوَيْنَا) مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ.

ص: 512

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 513

وَزِيَادَةُ الْغِنَاءِ لَا تُعْتَبَرُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.

(وَالسَّلَبُ مَا عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ثِيَابِهِ وَسِلَاحِهِ وَمَرْكَبِهِ، وَكَذَا مَا كَانَ عَلَى مَرْكَبِهِ مِنْ السَّرْجِ وَالْآلَةِ، وَكَذَا مَا مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ مَالِهِ فِي حَقِيبَتِهِ أَوْ عَلَى وَسَطِهِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَيْسَ بِسَلَبٍ)

وَقَوْلُهُ (وَزِيَادَةُ الْغِنَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُقْبِلًا أَكْثَرُ غِنَاءً (قَوْلُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ) إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي فَصْلِ كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ

ص: 514

وَمَا كَانَ مَعَ غُلَامِهِ عَلَى دَابَّةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ بِسَلَبِهِ، ثُمَّ حُكْمُ التَّنْفِيلِ قَطَعَ حَقَّ الْبَاقِينَ، فَأَمَّا الْمِلْكُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، حَتَّى لَوْ قَالَ الْإِمَامُ مَنْ أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ لَهُ فَأَصَابَهَا مُسْلِمٌ وَاسْتَبْرَأَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَكَذَا لَا يَبِيعُهَا. وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَيَبِيعَهَا، لِأَنَّ التَّنْفِيلَ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَهُ كَمَا يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبِالشِّرَاءِ مِنْ الْحَرْبِيِّ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ قَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْحَافِظَةِ وَالنَّافِلَةِ فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ تَثْبُتْ النَّافِلَةُ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَاءُ، وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَاءُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ التَّنْفِيلَ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَهُ) دَلِيلُهُ أَنَّ الْمَدَدَ لَا يُشَارِكُونَهُ فِيهَا (كَمَا يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ) وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَّفَقٍ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ قِسْمَةُ الْإِمَامِ لَا تَعْدَمُ الْمَانِعَ مِنْ تَمَامِ الْقَهْرِ وَهُوَ كَوْنُهُمْ مَقْهُورِينَ دَارًا وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ لِعَدَمِ شُهْرَتِهِ. وَقَوْلُهُ (وَوُجُوبُ الضَّمَانِ) مُرَاعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقَوْلُهُ (قَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ) خَبَرُهُ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَقَدْ قِيلَ بِالْوَاوِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ الْمِلْكُ: أَيْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لِلْمُنْفَلِ لَهُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ مِنْ الْغُزَاةِ سَلَبَهُ الَّذِي أَصَابَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ دَفْعًا لِشُبْهَةٍ تَرِدُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْمُتْلِفَ لِسَلَبِ مَنْ نَفَلَهُ الْإِمَامُ يَضْمَنُ لِأَنَّ

ص: 515

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْحَقَّ مُتَأَكَّدٌ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْخِلَافَ، فَوَرَدَ الضَّمَانُ شُبْهَةً عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الضَّمَانَ دَلِيلُ تَمَامِ الْمِلْكِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ الْوَطْءُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا أَيْضًا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَقَالَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ إنَّهُ أَيْضًا عَلَى الِاخْتِلَافِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ. وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 516