المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌(بَابُ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ) (إذَا غَلَبَ التُّرْكُ عَلَى الرُّومِ - العناية شرح الهداية - بهامش فتح القدير ط الحلبي - جـ ٦

[البابرتي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

(بَابُ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ)

(إذَا غَلَبَ التُّرْكُ عَلَى الرُّومِ فَسَبَوْهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ مَلَكُوهَا)؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ فِي مَالٍ مُبَاحٍ وَهُوَ السَّبَبُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (فَإِنْ غَلَبْنَا عَلَى التُّرْكِ حَلَّ لَنَا مَا نَجِدُهُ مِنْ ذَلِكَ) اعْتِبَارًا بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ.

(وَإِذَا غَلَبُوا عَلَى أَمْوَالِنَا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ مَلَكُوهَا)

(بَابُ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ اسْتِيلَائِنَا عَلَى الْكُفَّارِ أَعْقَبَهُ بِذِكْرِ عَكْسِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فَكَانَ خَلِيقًا بِتَبْوِيبِ بَابٍ لَهُ، وَافْتَتَحَ بِذِكْرِ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ بِذِكْرِ غَلَبَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالتُّرْكُ جَمْعُ التُّرْكِيِّ، وَالرُّومُ جَمْعُ الرُّومِيِّ: أَيْ الرِّجَالُ الْمَنْسُوبُونَ إلَى بِلَادِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهِ كُفَّارُ التُّرْكِ وَنَصَارَى الرُّومِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (حَلّ لَنَا مَا نَجِدُهُ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِمَّا أَخَذَهُ التُّرْكُ مِنْ أَهْلِ الرُّومِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ صَارَ مِلْكًا لِلتُّرْكِ

ص: 3

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُونَهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ مَحْظُورٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَالْمَحْظُورُ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَاعِدَةِ الْخَصْمِ.

كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ مَحْظُورٌ ابْتِدَاءً) أَيْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ (وَانْتِهَاءً) أَيْ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَاعِدَةِ الْخَصْمِ) أَنَّ الْمَحْظُورَ وَلَوْ بِوَجْهٍ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ؛ وَأَمَّا الْمَحْظُورُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْبَاطِلِ كَالْبَيْعِ بِالْمَيْتَةِ أَوْ الدَّمِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ

ص: 4

وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فَيَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ دَفْعًا لِحَاجَةِ الْمُكَلَّفِ كَاسْتِيلَائِنَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ عَلَى مُنَافَاةِ الدَّلِيلِ لِضَرُورَةِ تَمَكُّنِ الْمَالِكِ مِنْ الِانْتِفَاعِ، فَإِذَا زَالَتْ الْمُكْنَةُ عَادَ مُبَاحًا كَمَا كَانَ، غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الِاقْتِدَارِ عَلَى الْمَحَلِّ حَالًا وَمَآلًا،

الْمِلْكَ بِالِاتِّفَاقِ (وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ) وَوُرُودُ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ (يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ دَفْعًا لِحَاجَةِ الْمُكَلَّفِ كَاسْتِيلَائِنَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ) وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي الْمَالِ لِكُلِّ مَنْ تَثْبُتُ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ إنَّمَا تَثْبُتُ عَلَى مُنَافَاةِ الدَّلِيلِ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مَالٌ مَا مَعْصُومًا لِشَخْصٍ مَا، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ (لِضَرُورَةِ تَمَكُّنِ الْمَالِكِ مِنْ الِانْتِفَاعِ، فَإِذَا زَالَتْ الْمُكْنَةُ) بِالِاسْتِيلَاءِ (عَادَ مُبَاحًا كَمَا كَانَ. غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ، لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ (عِبَارَةٌ عَنْ الِاقْتِدَارِ عَلَى الْمَحَلِّ حَالًا وَمَآلًا) وَالْكُفَّارُ مَا دَامُوا

ص: 5

وَالْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ إذَا صَلُحَ سَبَبًا لِكَرَامَةٍ تَفُوقُ الْمِلْكَ وَهُوَ الثَّوَابُ الْآجِلُ فَمَا ظَنُّك بِالْمِلْكِ الْعَاجِلِ؟.

فِي دَارِ الْإِسْلَامِ اقْتَدَرُوا عَلَى الْمَحَلِّ حَالًا، وَإِنَّمَا يَقْتَدِرُونَ عَلَيْهِ مَآلًا بِالْإِحْرَازِ لِأَنَّهُمْ مَا دَامُوا فِي دَارِنَا فَهُمْ مَقْهُورُونَ بِالدَّارِ، وَالِاسْتِرْدَادُ بِالنُّصْرَةِ مُحْتَمَلٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الْخَصْمِ إنَّ الِاسْتِيلَاءَ مَحْظُورٌ. وَتَقْرِيرُهُ: سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَحْظُورٌ لَكِنَّهُ مَحْظُورٌ لِغَيْرِهِ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ (إذَا صَلُحَ سَبَبًا لِكَرَامَةٍ تَفُوقُ الْمِلْكَ) كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ أَعْلَى النِّعَمِ وَهُوَ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ، فَلَأَنْ تَصْلُحَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فِي الدُّنْيَا أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْكَافِرِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ لَمَا ثَبَتَ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ مِنْ الْغَازِي الَّذِي وَقَعَ فِي قِسْمَتِهِ أَوْ مِنْ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِدُونِ رِضَا الْغَازِي. أُجِيبَ بِأَنَّ بَقَاءَ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ لِحَقِّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ لَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الْمِلْكِ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ وَالْإِعَادَةَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ بِدُونِ رِضَا الْمَوْهُوبِ لَهُ مَعَ زَوَالِ مِلْكِ الْوَاهِبِ فِي الْحَالِ، وَكَذَا الشَّفِيعُ يَأْخُذُ الدَّارَ مِنْ

ص: 6

(فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدَهَا الْمَالِكُونَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهِيَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ إنْ أَحَبُّوا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِيهِ «إنْ وَجَدْته قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْته بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَك بِالْقِيمَةِ» وَلِأَنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ زَالَ مِلْكُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ نَظَرًا لَهُ، إلَّا أَنَّ فِي الْأَخْذِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ضَرَرًا بِالْمَأْخُوذِ مِنْهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ الْخَاصِّ فَيَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَالشَّرِكَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَامَّةٌ فَيَقِلُّ الضَّرَرُ فَيَأْخُذُهُ بِغَيْرِ قِيمَةٍ.

(وَإِنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرٌ فَاشْتَرَى ذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَمَالِكُهُ الْأَوَّلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ)؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِالْأَخْذِ مَجَّانًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الْعِوَضَ بِمُقَابَلَتِهِ فَكَانَ اعْتِدَالُ النَّظَرِ فِيمَا قُلْنَاهُ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ، وَلَوْ وَهَبُوهُ لِمُسْلِمٍ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ مِلْكٌ خَاصٌّ فَلَا يُزَالُ إلَّا بِالْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ مَغْنُومًا

الْمُشْتَرِي بِحَقِّ الشُّفْعَةِ بِدُونِ رِضَا الْمُشْتَرِي مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ) وَاضِحٌ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ مِلْكٌ خَاصٌّ فَلَا يُزَالُ إلَّا بِالْقِيمَةِ) قِيلَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مَجَّانًا فَلَا يَتَضَرَّرُ بِالْأَخْذِ مِنْهُ مَجَّانًا، بِخِلَافِ مَا ثَبَتَ لِأَحَدِ الْغُزَاةِ بِالْقِسْمَةِ لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ إنَّمَا تَعَيَّنَ لَهُ بِإِزَاءِ مَا انْقَطَعَ مِنْ حَقِّهِ عَمَّا فِي أَيْدِي الْبَاقِينَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمِلْكَ هَاهُنَا أَيْضًا ثَبَتَ بِالْعِوَضِ مَعْنًى لِمَا أَنَّ الْمُكَافَأَةَ مَقْصُودَةٌ فِي الْهِبَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فَجُعِلَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي إثْبَاتِ حَقِّهِ فِي الْقِيمَةِ وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ مَغْنُومًا) يَعْنِي لَوْ كَانَ مَا أَخَذَهُ الْكُفَّارُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَغْنُومًا: أَيْ

ص: 7

وَهُوَ مِثْلِيٌّ يَأْخُذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَا يَأْخُذُهُ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَكَذَا إذَا كَانَ مَوْهُوبًا لَا يَأْخُذُهُ لِمَا بَيَّنَّا. وَكَذَا إذَا كَانَ مُشْتَرًى بِمِثْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا.

قَالَ: (فَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ وَأَخَذَ أَرْشَهَا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي أُخِذَ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ) أَمَّا الْأَخْذُ بِالثَّمَنِ فَلِمَا قُلْنَا (وَلَا يَأْخُذُ الْأَرْشَ)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ صَحِيحٌ، فَلَوْ أَخَذَهُ أَخَذَهُ بِمِثْلِهِ وَهُوَ لَا يُفِيدُ وَلَا يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمَّا تَحَوَّلَتْ إلَى الشَّفِيعِ صَارَ الْمُشْتَرَى فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ

مَأْخُوذًا بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ (وَهُوَ مِثْلِيٌّ) كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ (يَأْخُذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ) وَلَا يَأْخُذُهُ بَعْدَهَا (لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَوْهُوبًا لَا يَأْخُذُهُ لِمَا بَيَّنَّاهُ) أَنَّ الْأَخْذَ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُفِيدٍ (وَكَذَا إذَا كَانَ مُشْتَرًى بِمِثْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا) يَعْنِي إذَا كَانَ مَا أَخَذَهُ الْكُفَّارُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلِيًّا فَاشْتَرَاهُ مِنْ مُسْلِمٍ بِمِثْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهُ الْقَدِيمُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ اشْتَرَاهُ الْمُسْلِمُ بِأَقَلَّ قَدْرًا مِنْهُ أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ أَوْ بِجِنْسِهِ وَلَكِنَّهُ أَرْدَأُ مِنْهُ وَصْفًا فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِمِثْلِ مَا أَعْطَاهُ الْمُشْتَرِي وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رِبًا لِأَنَّهُ إنَّمَا فَدَى لِيَسْتَخْلِصَ مِلْكَهُ وَيُعِيدَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ لَا أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ ابْتِدَاءً.

قَالَ (فَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا) إذَا أَخَذَ الْكُفَّارُ عَبْدًا وَدَخَلُوا بِهِ دَارَ الْحَرْبِ (فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ وَأُخِذَ أَرْشُهَا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي أُخِذَ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ، أَمَّا الْأَخْذُ بِالثَّمَنِ فَلِمَا قُلْنَا) إنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَضَرَّرُ بِالْأَخْذِ مَجَّانًا (وَلَا يَأْخُذُ الْأَرْشَ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي صَحِيحٍ) فَكَانَ الْأَرْشُ حَاصِلًا فِي مِلْكِهِ وَلَيْسَ فِيهِ الْإِعَادَةُ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ حَتَّى يَكُونَ الْمَوْلَى أَحَقَّ بِهِ كَالرَّقَبَةِ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَخَذَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ بِمِثْلِهِ لِأَنَّ الْأَرْشَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَهُوَ لَا يُفِيدُ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ صَحِيحٌ) احْتِرَازٌ عَنْ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا، فَإِنَّ الْأَوْصَافَ هُنَاكَ مَضْمُونَةٌ (وَلَا يَحُطُّ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ). وَاسْتَشْكَلَ هَذَا التَّعْلِيلُ هَاهُنَا لِأَنَّ الْأَوْصَافَ إنَّمَا لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ

ص: 8

الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ فِيهِ كَمَا فِي الْغَصْبِ، أَمَّا هَاهُنَا الْمِلْكُ صَحِيحٌ فَافْتَرَقَا.

إذَا لَمْ يَصِرْ التَّنَاوُلُ مَقْصُودًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ وَأَخَذَ الْأَرْشَ ثُمَّ قَصَدَ بَيْعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنَّهُ يُحَطُّ مِنْ الثَّمَنِ مَا يَخُصُّ الْعَيْنَ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالتَّنَاوُلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اعْوَرَّتْ.

وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُحَطُّ فِي الْمُرَابَحَةِ لِلشُّبْهَةِ لِأَنَّهُ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآخَرِ مُرَابَحَةً لِمَا أَنَّ الشُّبْهَةَ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الْمُرَابَحَةِ تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ، وَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِلشُّبْهَةِ فِيهِ، بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ فَإِنَّ الْأَوْصَافَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فِيهَا، حَتَّى لَوْ اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي شَيْئًا مِنْ الدَّارِ سَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي الَّذِي وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبُ الرَّدِّ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ فِي الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا كَمَا فِي الْغَصْبِ، فَإِنَّ مَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَذَهَبَتْ إحْدَى عَيْنَيْهَا ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا. فَإِنْ قِيلَ: شِرَاءُ التَّاجِرِ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا فِي الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ. أُجِيبَ بِأَنَّ إلْحَاقَ مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ بِالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الرَّدِّ إلَى الشَّفِيعِ، وَمِنْ حَيْثُ وُجُوبُ عَرْضِ الْبَائِعِ الدَّارَ عَلَى الْجَارِ أَوَّلًا، ثُمَّ الْبَيْعُ إنْ رَغِبَ عَنْهُ الْجَارُ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ صَارَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا فَصَارَ كَتَمَكُّنِ الْفَسَادِ فِي الْعَقْدِ، وَلَا كَذَلِكَ بَيْعُ الْكَافِرِ مِنْ التَّاجِرِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَرْضُ عَلَى الْمَالِكِ. قِيلَ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ أَيْضًا إذَا كَانَ هَلَاكُ بَعْضِ الْمُشْتَرِي بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يُقَابِلُ الْأَوْصَافَ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَلَمْ تَكُنْ مُخَالِفَةً لِمَسْأَلَةِ التَّاجِرِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ فِي صُورَةِ الْعَمْدِ، فَإِنَّ التَّاجِرَ إذَا فَقَأَ عَيْنَ الْجَارِيَةِ لَا يَلْزَمُهُ حَطُّ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَهْلَكَ

ص: 9

(وَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَسَرُوهُ ثَانِيًا وَأَدْخَلُوهُ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ لِلْمَوْلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ)؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ مَا وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ (وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ)؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ (ثُمَّ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِأَلْفَيْنِ إنْ شَاءَ)؛ لِأَنَّهُ قَامَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنَيْنِ فَيَأْخُذُهُ بِهِمَا، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ الثَّانِي غَائِبًا لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ حَضْرَتِهِ (وَلَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا أَهْلُ

الْمُشْتَرِي بَعْضَ الْأَشْجَارِ فِي الشُّفْعَةِ فَإِنَّهُ يَحُطُّ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا) صُورَتُهُ ظَاهِرَةٌ. وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ بِأَنَّا لَوْ أَثْبَتْنَا حَقَّ الْأَخْذِ لِلَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ الْعَدُوِّ أَوَّلًا تَضَرَّرَ الْمَالِكُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنَيْنِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ رِعَايَةَ حَقِّ مَنْ اشْتَرَاهُ مِنْ الْعَدُوِّ أَوَّلًا أَوْلَى، لِأَنَّ حَقَّهُ يَعُودُ فِي الْأَلْفِ الَّتِي نَقَدَهَا بِلَا عِوَضٍ يُقَابِلُهَا، وَالْمَالِكُ الْقَدِيمُ يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ وَلَكِنْ بِعِوَضٍ يُقَابِلُهُ وَهُوَ الْعَبْدُ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى

ص: 10

الْحَرْبِ بِالْغَلَبَةِ مُدَبَّرِينَا وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا وَمُكَاتَبِينَا وَأَحْرَارَنَا وَنَمْلِكُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي مَحَلِّهِ، وَالْمَحَلُّ الْمَالُ الْمُبَاحُ، وَالْحُرُّ مَعْصُومٌ بِنَفْسِهِ، وَكَذَا مَنْ سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ، بِخِلَافِ رِقَابِهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ عِصْمَتَهُمْ جَزَاءً عَلَى جِنَايَتِهِمْ وَجَعَلَهُمْ أَرِقَّاءَ وَلَا جِنَايَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ.

(وَإِذَا أَبَقَ عَبْدٌ لِمُسْلِمٍ فَدَخَلَ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ لَمْ يَمْلِكُوهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَمْلِكُونَهُ)؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لِحَقِّ الْمَالِكِ لِقِيَامِ يَدِهِ وَقَدْ زَالَتْ، وَلِهَذَا لَوْ أَخَذُوهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَلَكُوهُ. وَلَهُ أَنَّهُ ظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْخُرُوجِ مِنْ دَارِنَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِهِ لِتَحَقُّقِ يَدِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى فَظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ

وَقَوْلُهُ (وَكَذَا مَنْ سِوَاهُ) أَيْ مَنْ سِوَى الْحُرِّ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ رِقَابِهِمْ) أَيْ رِقَابِ أَحْرَارِ الْكُفَّارِ وَمُدَبَّرِيهِمْ وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِمْ. وَقَوْلُهُ (وَلَا جِنَايَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ) أَيْ مِنْ مُدَبَّرِينَا وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا وَمُكَاتَبِينَا وَأَحْرَارِنَا فَلَا يَمْلِكُهُمْ الْكُفَّارُ وَإِنْ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُمْ الْكُفَّارُ لَمْ يَمْلِكْهُمْ الْغُزَاةُ أَيْضًا، حَتَّى لَوْ كَانَ أَخَذَهُمْ أَهْلُ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُمْ لِمُلَّاكِهِمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ.

قَالَ (وَإِذَا أَبَقَ عَبْدٌ لِمُسْلِمٍ فَدَخَلَ إلَيْهِمْ) إذَا أَبَقَ عَبْدٌ لِمُسْلِمٍ قَالُوا: قَيْدُ " لِمُسْلِمٍ " اتِّفَاقِيٌّ لِأَنَّ عَبْدَ الذِّمِّيِّ كَذَلِكَ (فَدَخَلَ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ لَمْ يَمْلِكُوهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه وَقَالَا: يَمْلِكُونَهُ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لِحَقِّ الْمَالِكِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِهِ) أَيْ اعْتِبَارِ يَدِ الْعَبْدِ (لِتَحَقُّقِ يَدِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى فَظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ) لِأَنَّهُ حِينَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى عَنْهُ لَا إلَى مَنْ يَخْلُفُهُ، لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ كَيْفَ شَاءَ، وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَيَصِيرُ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ تَمْنَعُ الْإِحْرَازَ فَتَمْنَعُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ بِدُونِ الْإِحْرَازِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا زَالَتْ

ص: 11

وَصَارَ مَعْصُومًا بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَبْقَ مَحِلًّا لِلْمِلْكِ، بِخِلَافِ الْمُتَرَدِّدِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ لِقِيَامِ يَدِ أَهْلِ الدَّارِ فَمَنَعَ ظُهُورَ يَدِهِ. وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ مَوْهُوبًا كَانَ أَوْ مُشْتَرًى أَوْ مَغْنُومًا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ يُؤَدَّى عِوَضُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إعَادَةُ الْقِسْمَةِ لِتَفَرُّقِ الْغَانِمِينَ وَتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمْ

لَا إلَى مَنْ يَخْلُفُهُ فَإِنَّ يَدَ الْكَفَرَةِ قَدْ خَلَفَتْ يَدَ الْمَوْلَى لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ فِي أَيْدِيهِمْ. أُجِيبَ بِأَنَّ بَيْنَ الدَّارَيْنِ حَدًّا لَا يَكُونُ فِي يَدِ أَحَدٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَظْهَرُ يَدُ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ يَدَ الدَّارِ يَدٌ حُكْمِيَّةٌ وَيَدَ الْعَبْدِ يَدٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلَا تَنْدَفِعُ بِيَدِ الدَّارِ، إلَيْهِ أَشَارَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ حُصُولَ الْيَدِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلْعَبْدِ فِي حَيِّزِ النِّزَاعِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْيَدَ كَمَا ذَكَرْنَا عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ كَيْفَ شَاءَ، وَعِنْدَ دُخُولِ الْعَبْدِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ اسْتِيلَاءِ الْكَفَرَةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ حَصَلَ لَهُ يَدٌ حَقِيقِيَّةٌ لَعَتَقَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أُجِيبَ بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ لِأَنَّ ظُهُورَ يَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَوْلَى، فَإِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَارَ غَاصِبًا مِلْكَ الْمَوْلَى، وَجَازَ أَنْ تُوجَدَ الْيَدُ بِلَا مِلْكٍ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّ الْمِلْكَ لِلْمَوْلَى وَالْيَدَ لِغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمُتَرَدِّدِ) يَعْنِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا لِقِيَامِ يَدِ أَهْلِ الدَّارِ فَمَنَعَ ظُهُورَ يَدِهِ، وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ كَانَ قَابِضًا لَهُ. فَبَقَاءُ الْيَدِ حُكْمًا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْيَدِ لَهُ، فَإِنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مَلَكُوهُ (وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ إذَا كَانَ مَوْهُوبًا أَوْ مُشْتَرًى) أَمَّا إذَا كَانَ مَوْهُوبًا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَتَضَرَّرُ بِالْأَخْذِ مِنْهُ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ تَمَلَّكَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، حَتَّى لَوْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ مَغْنُومًا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَهَا فَيُؤَدِّي عِوَضَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ قَدْ اُسْتُحِقَّ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شُرَكَائِهِ فِي الْغَنِيمَةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِتَفَرُّقِهِمْ وَتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمْ فَيُعَوَّضُ

ص: 12

وَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْمَالِكِ جُعْلُ الْآبِقِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ إذْ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ مِلْكُهُ.

(وَإِنْ نَدَّ بَعِيرٌ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ) لِتَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ إذْ لَا يَدَ لِلْعَجْمَاءِ لِتَظْهَرَ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِنَا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. (وَإِنْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ فَصَاحِبُهُ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ) لِمَا بَيَّنَّا

(فَإِنْ أَبَقَ عَبْدٌ إلَيْهِمْ وَذَهَبَ مَعَهُ بِفَرَسٍ وَمَتَاعٍ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَاشْتَرَى رَجُلٌ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْعَبْدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالْفَرَسَ وَالْمَتَاعَ بِالثَّمَنِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَأْخُذُ الْعَبْدَ وَمَا مَعَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ) اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ فِي كُلِّ فَرْدٍ

(وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يُعْتَقُ)؛ لِأَنَّ الْإِزَالَةَ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً بِطَرِيقٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْبَيْعُ وَقَدْ انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْجَبْرِ عَلَيْهِ فَبَقِيَ فِي يَدِهِ عَبْدًا.

مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ لَهُ) أَيْ لِلْغَازِي أَوْ لِلتَّاجِرِ (جَعْلُ الْآبِقِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ إذْ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ مِلْكُهُ) وَالْجُعْلُ إنَّمَا يَجِبُ إذَا أَخَذَهُ الْآخِذُ عَلَى قَصْدِ الرَّدِّ إلَى مَالِكِهِ.

قَوْلُهُ (وَإِنْ نَدَّ إلَيْهِمْ بَعِيرٌ) ظَاهِرٌ

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (فَإِنْ أَبَقَ عَبْدٌ إلَيْهِمْ وَذَهَبَ مَعَهُ بِفَرَسٍ وَمَتَاعٍ). وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْمَالِكُ الْمَتَاعَ أَيْضًا بِغَيْرِ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ يَدُ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ ظَهَرَتْ عَلَى الْمَالِ أَيْضًا لِانْقِطَاعِ يَدِ الْمَوْلَى عَنْ الْمَالِ لِأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيَدُ الْعَبْدِ أَسْبَقُ مِنْ يَدِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ ظَهَرَتْ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ الرِّقُّ فَكَانَتْ ظَاهِرَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَجَعَلْنَاهَا ظَاهِرَةً فِي حَقِّ نَفْسِهِ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ فِي حَقِّ الْمَالِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا) أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ أَسْلَمَ

ص: 13

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ عَنْ ذُلِّ الْكَافِرِ وَاجِبٌ، فَيُقَامُ الشَّرْطُ وَهُوَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ مَقَامَ الْعِلَّةِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ تَخْلِيصًا لَهُ، كَمَا يُقَامُ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ مَقَامَ التَّفْرِيقِ

أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْعَبِيدِ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَالذِّمِّيِّ يُسْلِمُ عَبْدُهُ. فَإِنْ قِيلَ: الذِّمِّيُّ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَجَازَ إجْبَارُهُ عَلَى بَيْعِ عَبْدِهِ الَّذِي أَسْلَمَ وَالْحَرْبِيُّ لَيْسَ كَذَلِكَ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَمَانَ يُنَافِي إبْقَاءَهُمْ فِي مِلْكِهِ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِذْلَالًا لِلْمُسْلِمِ وَإِعْطَاءُ الْأَمَانِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ فَكَانَ الْأَمَانُ مُلْتَزِمًا تَرْكَ إذْلَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيَلْزَمُهُ. وَوَجْهُهُمَا ظَاهِرٌ. وَوَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ (أَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ عَنْ ذُلِّ الْكَافِرِ وَاجِبٌ) عَلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَبِالْجَبْرِ عَلَى الْبَيْعِ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ مَالَ الْمُسْتَأْمَنِ مَعْصُومٌ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِمُقْتَضَى الْأَمَانِ، فَإِذَا أَدْخَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ زَالَتْ عِصْمَةُ مَالِهِ، فَلَوْ كَانَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إجْبَارُهُ عَلَى الْعِتْقِ لِإِزَالَةِ عِصْمَةِ مَالِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ يُقِيمُ شَرْطَ زَوَالِ عِصْمَةِ الْمَالِ وَهُوَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ مَقَامَ عِلَّةِ الْإِزَالَةِ وَهِيَ الْإِعْتَاقُ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ يُقَامُ مَقَامَ الْعِلَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهَا كَحَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ. فَإِنْ قِيلَ: إقَامَةُ الشَّرْطِ هَاهُنَا مَقَامَ الْعِلَّةِ يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ الْمُثْبِتِ لِلشَّيْءِ مُزِيلًا لَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى عَبْدٍ مُسْلِمٍ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ مَلَكُوهُ، فَكَانَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ عِلَّةً لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِ وَهَاهُنَا جَعَلْتُمُوهُ مُزِيلًا لَهُ، وَفِيهِ أَيْضًا نَقْضٌ لِقَاعِدَةٍ مُطَّرِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَإِنَّ هَذَا يُفِيدُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ دُونَ بَقَائِهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ مُثْبِتٌ لِلْمِلْكِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا، وَالْمِلْكُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ثَابِتٌ بِالشِّرَاءِ دُونَ التَّبَايُنِ فَجُعِلَ مُزِيلًا فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ تَخْلِيصًا لِلْمُسْلِمِ عَنْ ذُلِّ الْكَافِرِ. عَلَى أَنَّ مَا جَعَلْنَاهُ مُزِيلًا وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ قَائِمًا مَقَامَ الْمُزِيلِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَلَمْ يَكُنْ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مُزِيلًا غَيْرَ مُزِيلٍ وَهُوَ الْمُمْتَنِعُ، وَبَقَاءُ الشَّيْءِ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ إذَا لَمْ يَعْتَرِ الْبَقَاءَ مَا يُزِيلُ سُهُولَتَهُ وَهَاهُنَا بَقَاءُ الْمُسْلِمِ فِي يَدِ الْكَافِرِ صَعْبٌ يُزِيلُ سُهُولَتَهُ. وَقَوْلُهُ (كَمَا يُقَامُ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ) تَمْثِيلٌ لِلْمَسْأَلَةِ فِي قِيَامِ الشَّرْطِ مَقَامَ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ انْقِضَاءَ ثَلَاثِ حِيَضٍ شَرْطُ الْبَيْنُونَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أُقِيمَ مَقَامَ عِلَّةِ الْبَيْنُونَةِ وَهِيَ عَرْضُ الْقَاضِي الْإِسْلَامَ وَتَفْرِيقُهُ بَعْدَ

ص: 14

فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.

(وَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا أَوْ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَهُوَ حُرٌّ، وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ عَبِيدُهُمْ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ أَحْرَارٌ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَبِيدًا مِنْ عَبِيدِ الطَّائِفِ أَسْلَمُوا وَخَرَجُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَضَى بِعِتْقِهِمْ وَقَالَ: هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ» وَلِأَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ بِالْخُرُوجِ إلَيْنَا مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ أَوْ بِالِالْتِحَاقِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، إذَا ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ، وَاعْتِبَارُ يَدِهِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ يَدِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهَا أَسْبَقُ ثُبُوتًا عَلَى نَفْسِهِ،

الْإِبَاءِ لِعَجْزِ الْقَاضِي عَنْ حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِدَارِ الْحَرْبِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ (أَنَّ عَبِيدًا مِنْ عَبِيدِ الطَّائِفِ أَسْلَمُوا) رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَاصَرَ الطَّائِفَ قَالَ: أَيُّمَا عَبْدٍ خَرَجَ إلَيْنَا فَهُوَ حُرٌّ فَخَرَجَ سِتَّةُ أَعْبُدٍ أَوْ سَبْعَةٌ مِنْهَا، فَلَمَّا فُتِحَتْ جَاءَ مَوَالِيهِمْ وَتَكَلَّمُوا فِيهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ» . وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ أَحْرَزَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا. وَقَوْلُهُ (أَوْ بِالِالْتِحَاقِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ أَوْ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ. وَقِيلَ بِقَوْلِهِ مُرَاغِمًا: أَيْ مُغَاضِبًا وَمُنَابِذًا لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ طَائِعًا لِمَوْلَاهُ يُبَاعُ

ص: 15

فَالْحَاجَةُ فِي حَقِّهِ إلَى زِيَادَةِ تَوْكِيدٍ وَفِي حَقِّهِمْ إلَى إثْبَاتِ الْيَدِ ابْتِدَاءً فَلِهَذَا كَانَ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فِيهِ وَثَمَنُهُ لِلْحَرْبِيِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ فَصَارَ كَمَالِ الْحَرْبِيِّ الَّذِي دَخَلَ بِهِ مُسْتَأْمَنًا إلَى دَارِنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 16

(بَابُ الْمُسْتَأْمَنِ)

(وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلَا مِنْ دِمَائِهِمْ)؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُمْ بِالِاسْتِئْمَانِ، فَالتَّعَرُّضُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ غَدْرًا وَالْغَدْرُ حَرَامٌ، إلَّا إذَا غَدَرَ بِهِمْ مَلِكُهُمْ فَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ أَوْ حَبَسَهُمْ أَوْ فَعَلَ غَيْرُهُ بِعِلْمِ الْمَلِكِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ؛ لِأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ بِخِلَافِ الْأَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَأْمَنٍ فَيُبَاحُ لَهُ التَّعَوُّضُ، وَإِنْ أَطْلَقُوهُ طَوْعًا (فَإِنْ غَدَرَ بِهِمْ) أَعْنِي التَّاجِرُ (فَأَخَذَ شَيْئًا وَخَرَجَ بِهِ) (

بَابُ الْمُسْتَأْمَنِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الِاسْتِيلَاءِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الِاقْتِدَارِ عَلَى الْمَحَلِّ قَهْرًا وَغَلَبَةً شَرَعَ فِي بَيَانِ الِاسْتِئْمَانِ، لِأَنَّ طَلَبَ الْأَمَانِ إنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يَكُونُ فِيهِ قَهْرٌ وَغَلَبَةٌ، وَقَدَّمَ اسْتِئْمَانَ الْمُسْلِمِ تَعْظِيمًا لَهُ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ (قَوْلُهُ وَالْغَدْرُ حَرَامٌ) دَلِيلُهُ «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِ السَّرَايَا وَلَا تَغْدِرُوا» . وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْأَسِيرِ) يَعْنِي أَنَّ الْغَدْرَ لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْأُسَرَاءَ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ غِيلَةً وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَفَعَلُوا ذَلِكَ وَخَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ فَكُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً (فَيُبَاحُ لَهُمْ التَّعَرُّضُ وَإِنْ أَطْلَقُوهُمْ طَوْعًا) لِأَنَّهُ

ص: 17

مَلَكَهُ مِلْكًا مَحْظُورًا) لِوُرُودِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ، إلَّا أَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ الْغَدْرِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خُبْثًا فِيهِ (فَيُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ) وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ لِغَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.

(وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ أَوْ أَدَانَ هُوَ حَرْبِيًّا أَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا وَاسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ لَمْ يُقْضَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ) أَمَّا الْإِدَانَةُ فَلِأَنَّ الْقَضَاءَ

لَمْ يَسْتَأْمِنْ صَرِيحًا حَتَّى يَكُونَ غَادِرًا بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ (قَوْلُهُ مَلَكَهُ مِلْكًا مَحْظُورًا) أَيْ خَبِيثًا، حَتَّى لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً كُرِهَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَطَأَهَا لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَائِعِ، وَوَطْؤُهَا لِلْبَائِعِ كَانَ مَكْرُوهًا فَكَذَا الْمُشْتَرِي (قَوْلُهُ وَهَذَا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ مَلَكَهُ مِلْكًا مَحْظُورًا: يَعْنِي أَنَّ مَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ وَالْحَظْرُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَمَانُ فَلَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ سَبَبِ الْمِلْكِ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) يَعْنِي فِي أَوَائِلِ بَابِ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ وَالْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ إذَا صَلُحَ سَبَبًا لِكَرَامَةٍ تَفُوقُ الْمِلْكَ إلَخْ.

(وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ) أَيْ بَاعَ بِالدَّيْنِ فَإِنَّ الْإِدَانَةَ الْبَيْعُ بِالدَّيْنِ وَالِاسْتِدَانَةُ الِابْتِيَاعُ بِالدَّيْنِ

ص: 18

يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَلَا وِلَايَةَ وَقْتَ الْإِدَانَةِ أَصْلًا وَلَا وَقْتَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِيمَا مَضَى مِنْ أَفْعَالِهِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَمَّا الْغَصْبُ فَلِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلَّذِي غَصَبَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ لِمُصَادَفَتِهِ مَالًا غَيْرَ مَعْصُومٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ فَعَلَا ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ لِمَا قُلْنَا (وَلَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ قُضِيَ بِالدَّيْنِ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُقْضَ بِالْغَصْبِ) أَمَّا الْمُدَايَنَةُ فَلِأَنَّهَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً لِوُقُوعِهَا بِالتَّرَاضِي، وَالْوِلَايَةُ ثَابِتَةٌ حَالَةَ الْقَضَاءِ لِالْتِزَامِهِمَا الْأَحْكَامَ بِالْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْغَصْبُ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مِلْكُهُ وَلَا خُبْثَ

قَوْلُهُ وَلَا وِلَايَةَ وَقْتَ الْإِدَانَةِ أَصْلًا) أَيْ لَا عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَا عَلَى الْحَرْبِيِّ (وَلَا وَقْتَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَإِذَا لَمْ يَقْضِ عَلَى الْحَرْبِيِّ لَمْ يَقْضِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَيْضًا تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا. وَقَوْلُهُ (وَأَمَّا الْغَصْبُ فَلِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلَّذِي غَصَبَهُ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْغَاصِبُ كَافِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مُسْلِمًا مُسْتَأْمَنًا فِيهَا لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مُبَاحًا وَقْتَ الْغَصْبِ فِي حَقِّهِ فَمَلَكَهُ بِالْغَصْبِ، إلَّا أَنَّ الْغَاصِبَ إنْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمُ يُفْتَى بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْمَالِكِ وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَهُمْ بِأَمَانٍ الْتَزَمَ أَنْ لَا يَغْدِرَ بِهِمْ، وَفِي أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَدْرٌ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّا) يَعْنِي فِيمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا غَصْبُ الْكَافِرِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِيلَاءِ بِقَوْلِهِ إنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ، وَأَمَّا غَصْبُ الْمُسْلِمِ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِيمَا إذَا دَخَلَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ مُغِيرَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَأَخَذُوا شَيْئًا فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهُ. وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ إنَّ الْقَضَاءَ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ إلَخْ. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ) ظَاهِرٌ.

ص: 19

فِي مِلْكِ الْحَرْبِيِّ حَتَّى يُؤْمَرَ بِالرَّدِّ.

(وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَغَصَبَ حَرْبِيًّا ثُمَّ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ أُمِرَ بِرَدِّ الْغَصْبِ وَلَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ) أَمَّا عَدَمُ الْقَضَاءِ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالرَّدِّ وَمُرَادُهُ الْفَتْوَى بِهِ فَلِأَنَّهُ فَسَدَ الْمِلْكُ لِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ نَقْصُ الْعَهْدِ

(وَإِذَا دَخَلَ مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ) أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الدُّخُولِ بِالْأَمَانِ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا بِمَنَعَةٍ، وَلَا مَنَعَةَ دُونَ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ،

وَقَوْلُهُ (فَغَصَبَ حَرْبِيًّا) أَيْ غَصَبَ شَيْئًا مِنْ حَرْبِيٍّ وَلَيْسَ هَذَا مُنْحَصِرًا فِي خُرُوجِهِمَا مُسْلِمَيْنِ، بَلْ لَوْ خَرَجَ الْمُسْلِمُ الْغَاصِبُ وَالْحَرْبِيُّ مُسْتَأْمَنًا فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ (فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ) يَعْنِي فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ لِأَنَّهُ قَتَلَ شَخْصًا مَعْصُومًا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَيَجِبُ بِقَتْلِهِ مَا يَجِبُ بِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّ تَكْثِيرَ سَوَادِهِمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِتَوَطُّنِهِ فِيهِمْ كَانَ يُسْقِطُ الْعِصْمَةَ، فَتَكْثِيرُهُ مِنْ وَجْهٍ يُورِثُ الشُّبْهَةَ فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ. وَقَوْلُهُ (أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (وَأَمَّا الدِّيَةُ فَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الدُّخُولِ بِالْأَمَانِ) لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ كَانَ كَأَنَّهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَقْدِيرًا حَتَّى أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْهُمْ لَمَّا كَانَ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى لَا يُقْتَلَ الذِّمِّيُّ بِهِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لِمَا ذُكِرَ

ص: 20

وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ؛ وَفِي الْخَطَإِ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الصِّيَانَةِ مَعَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَالْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ عَلَى اعْتِبَارِ تَرْكِهَا.

(وَإِنْ كَانَا أَسِيرَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ تَاجِرٌ أَسِيرًا) فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا:(فِي الْأَسِيرَيْنِ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ)؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الْأَسْرِ كَمَا لَا تَبْطُلْ بِعَارِضِ الِاسْتِئْمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَامْتِنَاعُ الْقِصَاصِ؛ لِعَدَمِ الْمَنَعَةِ وَيَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِمَا قُلْنَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِالْأَسْرِ صَارَ تَبَعًا لَهُمْ؛ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْهُورًا فِي أَيْدِيهِمْ، وَلِهَذَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِإِقَامَتِهِمْ وَمُسَافِرًا بِسَفَرِهِمْ فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِحْرَازُ أَصْلًا وَصَارَ كَالْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا،

فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.

وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الدُّخُولِ بِالْأَمَانِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّ بِالْأَسْرِ صَارَ تَبَعًا لَهُمْ) يَعْنِي وَأَهْلُ الْحَرْبِ أُصُولٌ وَالْأُصُولُ غَيْرُ مَعْصُومِينَ فَكَذَلِكَ الْأَتْبَاعُ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا) تَوْضِيحٌ لِلتَّبَعِيَّةِ. وَقَوْلُهُ (فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِحْرَازُ أَصْلًا) أَيْ يَبْطُلُ الْإِحْرَازُ بِالْعِصْمَةِ الْمُقَوَّمَةِ بِالْكُلِّيَّةِ (وَصَارَ كَالْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا)

ص: 21

وَخَصَّ الْخَطَأَ بِالْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي الْعَمْدِ عِنْدَنَا.

فَصْلٌ

قَالَ: (وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا مُسْتَأْمَنًا لَمْ يُمَكَّنْ أَنْ يُقِيمَ فِي دَارِنَا سَنَةً وَيَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ: إنْ أَقَمْتَ تَمَامَ السَّنَةِ وَضَعْتُ عَلَيْك الْجِزْيَةُ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةٍ دَائِمَةٍ فِي دَارِنَا إلَّا بِالِاسْتِرْقَاقِ أَوْ الْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَيْنًا لَهُمْ وَعَوْنًا عَلَيْنَا فَتَلْتَحِقُ الْمَضَرَّةُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَيُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ الْيَسِيرَةِ؛ لِأَنَّ فِي مَنْعِهَا قَطْعَ الْمِيرَةِ وَالْجَلَبِ وَسَدَّ بَابِ التِّجَارَةِ، فَفَصَلْنَا بَيْنَهُمَا بِسَنَةٍ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ تَجِبُ فِيهَا الْجِزْيَةُ فَتَكُونُ الْإِقَامَةُ

لِمَصْلَحَةِ

الْجِزْيَةِ، ثُمَّ إنْ رَجَعَ بَعْدَ مَقَالَةِ الْإِمَامِ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ إلَى وَطَنِهِ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، وَإِذَا مَكَثَ سَنَةً فَهُوَ ذِمِّيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ سَنَةً بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ إلَيْهِ صَارَ مُلْتَزِمًا الْجِزْيَةَ فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَقِّتَ فِي ذَلِكَ مَا دُونَ السَّنَةِ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرَيْنِ (وَإِذَا أَقَامَهَا بَعْدَ مَقَالَةِ الْإِمَامِ يَصِيرُ ذِمِّيًّا)

بِجَامِعِ تَبَعِيَّةِ أَهْلِ الدَّارِ بِالتَّوَطُّنِ فَلَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى تِلْكَ الْعِصْمَةِ، بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِالْعِصْمَةِ الْمُؤَثِّمَةِ وَهِيَ بِالْإِسْلَامِ.

(فَصْلٌ):

فَصَلَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ عَمَّا قَبْلَهَا لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهَا، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ، وَالْعَيْنُ: هُوَ الْجَاسُوسُ، وَالْعَوْنُ: الظَّهِيرُ عَلَى الْأَمْرِ وَالْجَمْعُ الْأَعْوَانُ، وَالْمِيرَةُ: الطَّعَامُ يَمْتَارُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَارَ يَمِيرُ، وَالْجَلَبُ وَالْأَجْلَابُ الَّذِينَ يَجْلِبُونَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ لِلْبَيْعِ. وَقَوْلُهُ (بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ) يُقَالُ تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْأَمِيرُ بِكَذَا أَوْ فِي كَذَا إذَا أَمَرَهُ بِهِ. وَقَوْلُهُ (وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُوَقِّتَ فِي ذَلِكَ مَا دُونَ السَّنَةِ) يَعْنِي أَنَّ تَقْدِيرَ الْحَوْلِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ لَوْ قَدَّرَ الْإِمَامُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ جَازَ لَكِنْ إنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ مُدَّةً فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحَوْلُ (فَإِذَا أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي دَارِنَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا) قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ:

ص: 22

لِمَا قُلْنَا (ثُمَّ لَا يُتْرَكُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ)؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَا يُنْقَضُ، كَيْفَ وَأَنَّ فِيهِ قَطْعَ الْجِزْيَةِ وَجَعْلَ وَلَدِهِ حَرْبًا عَلَيْنَا وَفِيهِ مَضَرَّةٌ بِالْمُسْلِمِينَ.

(فَإِنْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَهُوَ ذِمِّيٌّ)؛ لِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ خَرَاجِ الرَّأْسِ، فَإِذَا الْتَزَمَهُ صَارَ مُلْتَزِمًا الْمَقَامَ فِي دَارِنَا، أَمَّا بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِيهَا لِلتِّجَارَةِ، وَإِذَا لَزِمَهُ خَرَاجُ الْأَرْضِ فَبَعْدَ ذَلِكَ تَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ لِسَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِلُزُومِ الْخَرَاجِ

فَإِذَا مَضَتْ سَنَةٌ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ كَانَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِمُجَاوَزَةِ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ فَيُعْتَبَرُ الْحَوْلُ بَعْدَمَا صَارَ ذِمِّيًّا إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا جَاوَزَ السَّنَةَ يَأْخُذُ الْخَرَاجَ فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ سَنَةً بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ صَارَ مُلْتَزِمًا لِلْجِزْيَةِ.

وَقَوْلُهُ (فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَهُوَ ذِمِّيٌّ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَكَذَلِكَ لَوْ لَزِمَهُ عَشْرٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِأَنْ اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ مُؤَنِ الْأَرْضِ (لِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ خَرَاجِ الرَّأْسِ) إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَحْكَامِ دَارِنَا، فَلَمَّا رَضِيَ بِوُجُوبِ الْخَرَاجِ عَلَيْهِ

ص: 23

فَتُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ.

وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَهُوَ ذِمِّيٌّ تَصْرِيحٌ بِشَرْطِ الْوَضْعِ فَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ جَمَّةٌ فَلَا تَغْفُلْ عَنْهُ.

(وَإِذَا دَخَلَتْ حَرْبِيَّةٌ بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا صَارَتْ ذِمِّيَّةً)؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمُقَامَ تَبَعًا لِلزَّوْجِ (وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا)؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَيَرْجِعُ إلَى بَلَدِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُلْتَزِمًا الْمُقَامَ.

(وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَتَرَكَ وَدِيعَةً عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمْ فَقَدْ صَارَ دَمُهُ مُبَاحًا بِالْعَوْدِ)؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ أَمَانَهُ (وَمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالِهِ عَلَى خَطَرٍ، فَإِنْ أُسِرَ أَوْ ظُهِرَ

رَضِيَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَقَوْلُهُ (فَتُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ) أَيْ وُجُوبِ الْخَرَاجِ (وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ) أَيْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَهُوَ ذِمِّيٌّ تَصْرِيحٌ مِنْ مُحَمَّدٍ بِشَرْطِ الْوَضْعِ) أَيْ بِأَنَّ وَضْعَ الْخَرَاجِ عَلَيْهِ شَرْطٌ فِي جَعْلِهِ ذِمِّيًّا، وَالْمُرَادُ مِنْ وَضْعِ الْخَرَاجِ الْتِزَامُ خَرَاجِ أَرْضٍ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ وَهُوَ الزِّرَاعَةُ أَوْ تَعْطِيلُهَا عَنْهَا مَعَ التَّمَكُّنِ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ.

وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ، لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ وَحَكَمَ الشَّرْعُ فِيهَا بِوُجُوبِ الْخَرَاجِ صَارَ مُلْتَزِمًا حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، كَذَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِيهَا لِلتِّجَارَةِ. وَقَوْلُهُ (فَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى أَنَّ الْوَضْعَ شَرْطٌ (أَحْكَامٌ جَمَّةٌ فَلَا تَغْفُلْ عَنْهُ) أَيْ عَنْ شَرْطِ الْوَضْعِ وَهِيَ الْمَنْعُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَجَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي إتْلَافِ خَمْرِهِ وَخِنْزِيرِهِ وَوُجُوبِ الدِّيَةِ بِقَتْلِهِ خَطَأً، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ إنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ كَوْنِهِ ذِمِّيًّا لَا قَبْلَهُ، وَبِوَضْعِ الْخَرَاجِ يَصِيرُ ذِمِّيًّا فَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يُغْفَلَ عَنْ شَرْطِ الْوَضْعِ.

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا دَخَلَتْ حَرْبِيَّةٌ بِأَمَانٍ) ظَاهِرٌ، وَكَذَا عَكْسُهُ،

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ)

ص: 24

عَلَى الدَّارِ فَقُتِلَ سَقَطَتْ دُيُونُهُ وَصَارَتْ الْوَدِيعَةُ فَيْئًا) أَمَّا الْوَدِيعَةُ فَلِأَنَّهَا فِي يَدِهِ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِهِ فَيَصِيرُ فَيْئًا تَبَعًا لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْمُطَالَبَةِ وَقَدْ سَقَطَتْ، وَيَدُ مَنْ عَلَيْهِ أَسْبَقُ إلَيْهِ مِنْ يَدِ الْعَامَّةِ فَيَخْتَصُّ بِهِ فَيَسْقُطُ (وَإِنْ قُتِلَ وَلَمْ يُظْهَرْ عَلَى الدَّارِ فَالْقَرْضُ الْوَدِيعَةُ لِوَرَثَتِهِ) وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَصِرْ مَغْنُومَةً فَكَذَلِكَ مَالُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ بَاقٍ فِي مَالِهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ.

قَالَ: (وَمَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ قِتَالٍ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُصْرَفُ الْخَرَاجُ) قَالُوا: هُوَ مِثْلُ الْأَرَاضِي الَّتِي أَجْلَوْا أَهْلَهَا عَنْهَا وَالْجِزْيَةِ وَلَا خُمُسَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِمَا الْخُمُسُ اعْتِبَارًا بِالْغَنِيمَةِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَخَذَ الْجِزْيَةَ وَكَذَا عُمَرُ وَمُعَاذٌ، وَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ يُخَمَّسْ

خَلَا أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِهِ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ فَإِنَّهَا تَكُونُ فَيْئًا فَلَمْ تَكُنْ يَدُ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ إذَا اتَّفَقَا عِصْمَةً وَقْتَ الْإِيدَاعِ، وَفِي صُورَةِ النَّقْضِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَيْسَتْ دَارَ عِصْمَةٍ.

قَالَ (وَمَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ) يُقَالُ وَجَفَ الْفَرَسُ أَوْ الْبَعِيرُ غَدَا وَجِيفًا وَأَوْجَفَهُ صَاحِبُهُ إيجَافًا. وَقَوْلُهُ (وَمَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ) أَيْ أَعْمَلُوا خَيْلَهُمْ وَرِكَابَهُمْ فِي تَحْصِيلِهِ. وَالْجَلَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ الْخُرُوجُ عَنْ الْوَطَنِ أَوْ الْإِخْرَاجُ، يُقَالُ جَلَا السُّلْطَانُ الْقَوْلَ عَلَى أَوْطَانِهِمْ وَأَجْلَاهُمْ فَجَلَوْا: أَيْ أَخْرَجَهُمْ فَخَرَجُوا، كِلَاهُمَا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. وَقَوْلُهُ (وَالْجِزْيَةِ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ الْأَرَاضِي أَيْ هُوَ مِثْلُ الْأَرَاضِي الَّتِي أَجْلَوْا عَنْهَا أَهْلَهَا وَمِثْلُ الْجِزْيَةِ. وَقَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِيهِمَا) أَيْ فِي الْأَرَاضِيِ الَّتِي أَجْلَوْا عَنْهَا أَهْلَهَا وَفِي الْجِزْيَةِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: فِيهَا

ص: 25

وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِمُبَاشَرَةِ الْغَانِمِينَ وَبِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَحَقَّ الْخُمُسَ بِمَعْنًى وَاسْتَحَقَّهُ الْغَانِمُونَ بِمَعْنًى، وَفِي هَذَا السَّبَبِ وَاحِدٌ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْخُمُسِ.

(وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَلَهُ امْرَأَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَوْلَادٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ وَمَالٌ أَوْدَعَ بَعْضَهُ ذِمِّيًّا وَبَعْضَهُ حَرْبِيًّا وَبَعْضَهُ مُسْلِمًا فَأَسْلَمَ هَاهُنَا ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَذَلِكَ كُلُّهُ فَيْءٌ)

أَيْ فِي الْأَرَاضِي وَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ) أَيْ وَلِأَنَّ مَا أَوْجَفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَالِ. وَقَوْلُهُ (مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ) يَعْنِي بَلْ بِوُقُوعِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ مِنْ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ (بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْغَنِيمَةَ بِتَأْوِيلِ الْمَغْنُومِ (مَمْلُوكٌ) بِسَبَبَيْنِ وَهُمَا مُبَاشَرَةُ الْغَانِمِينَ وَقُوَّةُ الْمُسْلِمِينَ (فَاسْتَحَقَّ الْخُمُسَ بِمَعْنًى) وَهُوَ الرُّعْبُ (وَاسْتَحَقَّ الْغَانِمُونَ الْبَاقِيَ بِمَعْنًى) وَهُوَ مُبَاشَرَةُ الْغَانِمِينَ الْقِتَالَ (وَفِي هَذَا) أَيْ فِيمَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ (السَّبَبُ وَاحِدٌ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ)

ص: 26

أَمَّا الْمَرْأَةُ وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُمْ حَرْبِيُّونَ كِبَارٌ وَلَيْسُوا بِأَتْبَاعٍ، وَكَذَلِكَ مَا فِي بَطْنِهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا لِمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ. وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَلِأَنَّ الصَّغِيرَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِإِسْلَامِ أَبِيهِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ وَتَحْتَ وِلَايَتِهِ، وَمَعَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ، وَكَذَا أَمْوَالُهُ لَا تَصِيرُ مُحْرَزَةً بِإِحْرَازِهِ نَفْسَهُ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فَبَقِيَ الْكُلُّ فَيْئًا وَغَنِيمَةً (وَإِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ جَاءَ فَظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ) تَبَعًا لِأَبِيهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَ وِلَايَتِهِ حِينَ أَسْلَمَ إذْ الدَّارُ وَاحِدَةٌ (وَمَا كَانَ مِنْ مَالٍ أَوْدَعَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَهُوَ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ فِي يَدٍ مُحْتَرَمَةٍ وَيَدُهُ كَيَدِهِ (وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَيْءٌ) أَمَّا الْمَرْأَةُ وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَلِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِ الْحَرْبَى؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَعْصُومًا؛ لِأَنَّ يَدَ الْحَرْبِيِّ لَيْسَتْ يَدًا مُحْتَرَمَةً.

(وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَهُ وَرَثَةٌ مُسْلِمُونَ هُنَاكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ أَرَاقَ دَمًا مَعْصُومًا (لِوُجُودِ الْعَاصِمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ) لِكَوْنِهِ مُسْتَجْلِبًا لِلْكَرَامَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ أَصْلُهَا الْمُؤْثِمَةُ؛ لِحُصُولِ أَصْلِ الزَّجْرِ بِهَا

يَعْنِي قَوْلَهُ أَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْخُمُسِ

(قَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ) أَيْ فِي بَابِ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَزَوْجَتُهُ فَيْءٌ لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ حَرْبِيَّةٌ إلَخْ. وَقَوْلُهُ (وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ) ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَمَا كَانَ مِنْ مَالٍ أَوْدَعَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا) إنَّمَا قَيَّدَ بِالْإِيدَاعِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ غَصْبًا فِي أَيْدِيهِمَا يَكُونُ فَيْئًا لِعَدَمِ النِّيَابَةِ (قَوْلُهُ فَلِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ حَرْبِيُّونَ كِبَارٌ وَلَيْسُوا بِأَتْبَاعٍ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَهُ وَرَثَةٌ مُسْلِمُونَ هُنَاكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَإِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ لِأَنَّهُ أَرَاقَ دَمًا مَعْصُومًا لِوُجُودِ الْعَاصِمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ لِكَوْنِهِ مُسْتَجْلِبًا لِلْكَرَامَةِ) وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ نِعْمَةً وَكَرَامَةً فَتُعَلَّقَ بِمَا لَهُ أَثَرٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ إذْ بِهِ تَحْصُلُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ لَا بِالدَّارِ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ لَا أَثَرَ لَهَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ، وَمَنْ أَرَاقَ دَمًا مَعْصُومًا إنْ كَانَ خَطَأً فَفِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ (وَهَذَا) أَيْ وُجُوبُ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ إنَّمَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى وُجُودِ الْعَاصِمِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ (لِأَنَّ الْعِصْمَةَ أَصْلُهَا الْمُؤَثِّمَةُ لِحُصُولِ أَصْلِ الزَّجْرِ بِهَا)

ص: 27

وَهِيَ ثَابِتَةٌ إجْمَاعًا، وَالْمُقَوَّمَةُ كَمَالٍ فِيهِ لِكَمَالِ الِامْتِنَاعِ بِهِ فَيَكُونُ وَصْفًا فِيهِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَا عُلِّقَ بِهِ الْأَصْلُ.

وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} الْآيَةَ. جَعَلَ التَّحْرِيرَ كُلَّ الْمُوجِبِ رُجُوعًا إلَى حَرْفِ الْفَاءِ أَوْ إلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ فَيَنْتَفِي غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤْثِمَةَ بِالْآدَمِيَّةِ

فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِقَتْلٍ يَنْزَجِرُ عَنْهُ نَظَرًا إلَى الْجِبِلَّةِ السَّلِيمَةِ عَنْ الْمَيْلِ عَنْ الِاعْتِدَالِ (وَهِيَ ثَابِتَةٌ) فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (إجْمَاعًا) فَإِنَّهُ لَا قَائِلَ بِعَدَمِ الْإِثْمِ عَلَى مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ (وَالْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ كَمَالٍ فِيهِ) أَيْ فِي أَصْلِ الْعِصْمَةِ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ الْإِثْمُ وَالْمَالُ كَانَ ذَلِكَ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ الْإِثْمُ دُونَ الْمَالِ، فَكَانَتْ الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى الْعِصْمَةِ الَّتِي هِيَ الْمُؤَثِّمَةُ (فَتُعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَصْلُ) وَهُوَ الْعِصْمَةُ الْمُؤَثِّمَةُ وَالْعِصْمَةُ الْمُؤَثِّمَةُ تَعَلَّقَتْ بِالْإِسْلَامِ، فَالْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ كَذَلِكَ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْحَرْبِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا (وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه يُؤَوِّلُ هَذِهِ الْآيَةَ بِاَلَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ أَيْضًا.

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَيَّزَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَنَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ الْمُخْتَصِّ بِالْقَتْلِ، فَجَعَلَ الْحُكْمَ فِي الْأَوَّلِ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وَفِي الثَّانِي الْكَفَّارَةُ دُونَ الدِّيَةِ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ذُكِرَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَإِنَّهُ لِلْجَزَاءِ وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ كَافِيًا، فَإِذَا كَانَ كَافِيًا كَانَ كُلُّ الْمُوجِبِ ضَرُورَةً. وَالثَّانِي أَنَّهُ كُلُّ الْمَذْكُورِ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ غَيْرِهِ لِأَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي مِثْلِهِ إخْرَاجُ الْعَبْدِ عَنْ عُهْدَةِ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْحَادِثَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيَانِ كُلِّ الْحُكْمِ بِلَا إخْلَالٍ، فَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ تَتِمَّةِ هَذَا الْحُكْمِ لَذَكَرَهُ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤَثِّمَةَ بِالْآدَمِيَّةِ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى عَدَمِ الْعِصْمَةِ الْمُقَوِّمَةِ الْمُوجِبَةِ لِلدِّيَةِ

ص: 28

لِأَنَّ الْآدَمِيَّ خُلِقَ مُتَحَمِّلًا أَعْبَاءَ التَّكْلِيفِ، وَالْقِيَامَ بِهَا بِحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ، وَالْأَمْوَالُ تَابِعَةٌ لَهَا. أَمَّا الْمُقَوَّمَةُ فَالْأَصْلُ فِيهَا الْأَمْوَالُ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ يُؤْذِنُ بِجَبْرِ الْفَائِتِ وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ النُّفُوسِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ التَّمَاثُلَ، وَهُوَ فِي الْمَالِ دُونَ النَّفْسِ فَكَانَتْ النُّفُوسُ تَابِعَةً، ثُمَّ الْعِصْمَةُ الْمُقَوَّمَةُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ؛ لِأَنَّ الْعِزَّةَ بِالْمَنَعَةِ فَكَذَلِكَ فِي النُّفُوسِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ مَنَعَةِ الْكَفَرَةِ؛ لِمَا أَنَّهُ أَوْجَبَ إبْطَالَهَا. وَالْمُرْتَدُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ حُكْمًا لِقَصْدِهِمَا الِانْتِقَالَ إلَيْهَا

فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ أَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُقَوِّمَةَ لَيْسَتْ بِوَصْفِ كَمَالٍ فِي الْعِصْمَةِ الْمُؤَثِّمَةِ فَتَكُونُ تَابِعَةً لَهَا. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤَثِّمَةَ بِالْآدَمِيَّةِ (لِأَنَّ الْآدَمِيَّ خُلِقَ مُتَحَمِّلًا أَعْبَاءَ التَّكَالِيفِ) أَيْ أَثْقَالَهَا، وَمَنْ خُلِقَ لِشَيْءٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ فَالْآدَمِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِأَعْبَاءِ التَّكَالِيفِ (وَالْقِيَامُ بِهَا بِحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ) أَيْ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ لَهُ الْقِيَامُ بِهَا إذَا كَانَ حَرَامَ التَّعَرُّضِ، فَالْآدَمِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حَرَامَ التَّعَرُّضِ مُطْلَقًا، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْطَلَ ذَلِكَ فِي الْكَافِرِ بِعَارِضِ الْكُفْرِ، فَإِذَا زَالَ الْكُفْرُ بِالْإِسْلَامِ عَادَ إلَى الْأَصْلِ (وَالْأَمْوَالُ تَابِعَةٌ لَهَا) أَيْ لِلْآدَمِيَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ الْمُؤَثِّمَةُ لَهَا لِأَنَّهَا خُلِقَتْ فِي الْأَصْلِ مُبَاحَةً، وَإِنَّمَا صَارَتْ مَعْصُومَةً لِتَمَكُّنِ الْآدَمِيِّ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي حَاجَتِهِ فَكَانَتْ تَابِعَةً لِلْآدَمِيَّةِ (أَمَّا الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ فَالْأَصْلُ فِيهَا الْأَمْوَالُ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ يُؤْذِنُ بِجَبْرِ الْفَائِتِ) لِأَنَّ الْمُتَقَوِّمَ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ وَاجِبَ الْإِبْقَاءِ وَالدَّوَامِ بِالْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ (وَذَلِكَ) أَيْ جَبْرُ الْفَائِتِ (فِي الْأَمْوَالِ دُونَ النُّفُوسِ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى فَقَطْ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ النُّفُوسِ وَمَا يُجْبَرُ بِهِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ (فَكَانَتْ النُّفُوسُ تَابِعَةً) لِلْأَمْوَالِ فِي الْعِصْمَةِ، وَمِنْ هَذَا عُلِمَ أَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤَثِّمَةَ أَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي شَيْءٍ وَالْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ أَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي شَيْءٍ آخَرَ

وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِكَمَالٍ فِي الْآخَرِ وَلَا وَصْفٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ لِأَنَّهَا عِزَّةٌ وَالْعِزَّةُ بِالْمَنَعَةِ، فَالْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْمَنَعَةِ وَالدَّارُ إنَّمَا تَكُونُ بِالْمَنَعَةِ فَلِهَذَا تَعَرَّضَ لِذِكْرِهَا، وَإِذَا كَانَتْ الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْمَنَعَةِ فَكَذَلِكَ فِي النُّفُوسِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا لِمَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ لَا مَنَعَةَ لِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ مَنَعَةِ الْكُفْرِ لِمَا أَنَّهُ أَوْجَبَ إبْطَالَهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَنَعَةٌ لَا يُوجَدُ الْإِحْرَازُ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الْإِحْرَازُ لَا تُوجَدُ الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ، وَهَذَا فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ، خَلَا أَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنْ لَا يَمْلِكُوا أَمْوَالَنَا بِالْإِحْرَازِ إلَى الدَّارِ كَمَا قَالَ بِهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه. وَدَفَعَهُ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ مَنَعَتِهِمْ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي دَارِهِمْ، وَأَمَّا إذَا وَقَعَ خُرُوجُهُمْ إلَى دَارِنَا وَأَحْرَزُوا أَمْوَالَنَا بِالْيَدِ الْحَافِظَةِ وَالنَّاقِلَةِ فَقَدْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ كَمَا مَرَّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ (وَالْمُرْتَدُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّهُمَا مُحْرَزَانِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ذَاتًا فَيَجِبُ أَنْ يَتَقَوَّمَا وَلَمْ يَتَقَوَّمَا حَتَّى لَا تَجِبُ الدِّيَةُ

ص: 29

(وَمَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً لَا وَلِيَّ لَهُ أَوْ قَتَلَ حَرْبِيًّا دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِلْإِمَامِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ)؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً خَطَأً فَتُعْتَبَرُ بِسَائِرِ النُّفُوسِ الْمَعْصُومَةِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ لِلْإِمَامِ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ (وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ)؛ لِأَنَّ النَّفْسَ مَعْصُومَةٌ، وَالْقَتْلَ عَمْدٌ، وَالْوَلِيَّ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْعَامَّةُ أَوْ السُّلْطَانُ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» وَقَوْلُهُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ مَعْنَاهُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ وَهُوَ الْقَوَدُ عَيْنًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ أَنْفَعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْقَوَدِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْمَالِ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ)؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْعَامَّةِ وَوِلَايَتُهُ نَظَرِيَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إسْقَاطُ حَقِّهِمْ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.

بِقَتْلِهِمَا وَكَوْنُ الْمُسْتَأْمَنِ مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ حُكْمًا لِقَصْدِهِ الِانْتِقَالَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْصِدُهُ هَرَبًا مِنْ الْقَتْلِ

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً إلَخْ) وَاضِحٌ. وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْعَامَّةُ أَوْ السُّلْطَانُ بِأَنَّ التَّرَدُّدَ فِيمَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقِصَاصِ يُوجِبُ سُقُوطَهُ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ إذَا قَتَلَ عَنْ وَفَاءٍ وَلَهُ وَارِثٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِمَامَ هَاهُنَا نَائِبٌ عَنْ الْعَامَّةِ فَصَارَ كَأَنَّ الْوَلِيَّ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ.

ص: 30

(بَابُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ)

قَالَ: (أَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا أَرْضُ عُشْرٍ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ إلَى أَقْصَى حَجَرٍ بِالْيُمْنِ بِمَهْرَةَ إلَى حَدِّ الشَّامِّ

بَابُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ)

لَمَّا ذَكَرَ مَا يَصِيرُ بِهِ الْحَرْبِيُّ ذِمِّيًّا شَرَعَ فِي بَيَانِ الْخَرَاجِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ الْعُشْرَ اسْتِطْرَادًا لِأَنَّ سَبَبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ، وَقَدَّمَهُ عَلَى الْخَرَاجِ لِكَوْنِهِ مِنْ الْوَظَائِفِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَالْعُشْرُ بِضَمِّ الْعَيْنِ أَحَدُ أَجْزَاءِ الْعَشَرَةِ، وَالْخَرَاجُ اسْمٌ لَمَا يُخْرَجُ مِنْ غَلَّةِ الْأَرْضِ أَوْ الْغُلَامِ، ثُمَّ سُمِّيَ مَا يَأْخُذُهُ السُّلْطَانُ خَرَاجًا فَيُقَالُ أَدَّى فُلَانٌ خَرَاجَ أَرْضِهِ وَأَدَّى أَهْلُ الذِّمَّةِ خَرَاجَ رُءُوسِهِمْ: يَعْنِي الْجِزْيَةَ. وَالْعُذَيْبُ مَاءٌ لِتَمِيمٍ، وَالْحَجَرُ بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى الصَّخْرِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي أَمَالِي أَبِي يُوسُفَ: الصَّخْرُ مَوْضِعُ الْحَجَرِ، وَيَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ رَوَى بِسُكُونِ الْجِيمِ وَفَسَّرَهُ بِالْجَانِبِ فَقَدْ حَرَّفَ. وَمَهْرَةُ بِالْفَتْحِ وَالسُّكُونِ اسْمُ رَجُلٍ، وَقِيلَ اسْمُ قَبِيلَةٍ يُنْسَبُ إلَيْهَا الْإِبِلُ الْمَهْرِيَّةُ سُمِّيَ ذَلِكَ الْمَقَامُ بِهِ فَيَكُونُ بِمَهْرَةَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ بِالْيَمَنِ، وَهَذَا طُولُهَا، وَمِنْ يَبْرِينَ وَالدَّهْنَاءِ وَرَمْلِ عَالِجٍ أَسْمَاءُ مَوَاضِعَ إلَى مَشَارِفِ الشَّامِ: أَيْ قُرَاهَا عَرْضُهَا، وَالسَّوَادُ: أَيْ أَرَاضِي سَوَادِ الْعِرَاقِ: أَيْ قُرَاهَا سُمِّيَ بِالسَّوَادِ لِخُضْرَةِ أَشْجَارِهِ وَزُرُوعِهِ، وَحَدُّهُ عَرْضًا مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى عُقْبَةِ حُلْوَانَ وَهُوَ اسْمُ بَلَدٍ، وَمِنْ الثَّعْلَبِيَّةِ وَهِيَ مَنَازِلُ الْبَادِيَةِ إلَى عَبَّادَانِ وَهُوَ حِصْنٌ صَغِيرٌ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ طُولُهُ. وَقِيلَ فِي مَوْضِعٍ الثَّعْلَبِيَّةُ الْعَلْثُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى

ص: 31

وَالسَّوَادُ أَرْضُ خَرَاجٍ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ إلَى عَقَبَةِ حُلْوَانَ، وَمِنْ الثَّعْلَبِيَّةِ وَيُقَالُ مِنْ الْعَلْثِ إلَى عَبَّادَانَ)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَأْخُذُوا الْخَرَاجَ مِنْ أَرَاضِي الْعَرَبِ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَيْءِ فَلَا يَثْبُتُ فِي أَرَاضِيِهِمْ كَمَا لَا يَثْبُتُ فِي رِقَابِهِمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْخَرَاجِ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهَا عَلَى الْكُفْرِ كَمَا فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ، وَعُمَرُ حِينَ فَتَحَ السَّوَادَ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَيْهَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَوَضَعَ عَلَى مِصْرَ حِينَ افْتَتَحَهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَكَذَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى الشَّامِ.

قَالَ: (وَأَرْضُ السَّوَادِ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا يَجُوزُ بَيْعُهُمْ لَهَا وَتَصَرُّفُهُمْ فِيهَا)؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَتَحَ أَرْضًا عَنْوَةً وَقَهْرًا لَهُ أَنْ يُقِرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَيَضَعَ عَلَيْهَا وَعَلَى رُءُوسِهِمْ الْخَرَاجَ فَتَبْقَى الْأَرَاضِي مَمْلُوكَةً لِأَهْلِهَا وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

قَالَ (: وَكُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ)؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ التَّوْظِيفِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْعُشْرُ أَلْيَقُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَكَذَا هُوَ أَخَفُّ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْخَارِجِ.

الْعَلَوِيَّةِ وَهُوَ أَوَّلُ الْعِرَاقِ شَرْقِيَّ دِجْلَةَ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.

وَقَوْلُهُ (قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ بَابِ الْغَنَائِمِ.

ص: 32

(وَكُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَأُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ) وَكَذَا إذَا صَالَحَهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ التَّوْظِيفِ عَلَى الْكَافِرِ وَالْخَرَاجُ أَلْيَقُ بِهِ، وَمَكَّةُ مَخْصُوصَةٌ مِنْ هَذَا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَحَهَا عَنْوَةً وَتَرَكَهَا لِأَهْلِهَا، وَلَمْ يُوَظِّفْ الْخَرَاجَ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَوَصَلَ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ، وَمَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ وَاسْتُخْرِجَ مِنْهَا عَيْنٌ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ)؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْضِ النَّامِيَةِ، وَنَمَاؤُهَا بِمَائِهَا فَيُعْتَبَرُ السَّقْيُ بِمَاءِ الْعُشْرِ أَوْ بِمَاءِ الْخَرَاجِ.

قَوْلُهُ وَالْخَرَاجُ أَلْيَقُ بِهِ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، وَإِنَّ فِيهِ تَغْلِيظًا لِوُجُوبِهِ وَإِنْ لَمْ يُزْرَعْ، وَالْكَافِرُ أَلْيَقُ بِالْعُقُوبَةِ وَالتَّغْلِيظِ. وَكَانَ الْقِيَاسُ «فِي أَرْضِ مَكَّةَ أَنْ تَكُونَ خَرَاجِيَّةً لِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً: أَيْ قَهْرًا، لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوَظِّفْ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ»، وَكَمَا لَا رِقَّ عَلَى الْعَرَبِ فَكَذَا لَا خَرَاجَ فِي أَرْضِهِمْ (قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، إلَى قَوْلِهِ: فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ) يَعْنِي سَوَاءٌ قُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ أَوْ أُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا، وَذُكِرَ لَفْظُ

ص: 33

قَالَ: (وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَيِّزِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ) وَمَعْنَاهُ بِقُرْبِهِ (فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ)، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ

الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَيِّزِهَا) قِيلَ هَذَا الْإِطْلَاقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْمُحْيِي مُسْلِمًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ ذِمِّيًّا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ

ص: 34

(وَالْبَصْرَةُ عِنْدَهُ عُشْرِيَّةٌ) بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ حَيِّزَ الشَّيْءِ يُعْطَى لَهُ حُكْمُهُ، كَفِنَاءِ الدَّارِ يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الدَّارِ حَتَّى يَجُوزَ لِصَاحِبِهَا الِانْتِفَاعُ بِهِ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْبَصْرَةِ أَنْ تَكُونَ خَرَاجِيَّةً؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ، إلَّا أَنَّ الصَّحَابَةَ وَظَّفُوا عَلَيْهَا الْعُشْرَ فَتُرِكَ الْقِيَاسُ لِإِجْمَاعِهِمْ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ أَحْيَاهَا بِبِئْرٍ حَفَرَهَا أَوْ بِعَيْنٍ اسْتَخْرَجَهَا أَوْ مَاءِ دِجْلَةَ أَوْ الْفُرَاتِ أَوْ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ) وَكَذَا إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ (وَإِنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الَّتِي احْتَفَرَهَا الْأَعَاجِمُ) مِثْلَ نَهْرِ الْمَلِكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدْ (فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْمَاءِ إذْ هُوَ السَّبَبُ لِلنَّمَاءِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَوْظِيفُ الْخَرَاجِ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُسْلِمِ كَرْهًا فَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْمَاءُ؛ لِأَنَّ السَّقْيَ بِمَاءِ الْخَرَاجِ دَلَالَةُ الْتِزَامِهِ.

قَالَ: (وَالْخَرَاجُ الَّذِي وَضَعَهُ عُمَرُ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ مِنْ كُلِّ

الْعُشْرِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا وَجَبَ أَنْ يُقَيَّدَ قَوْلُهُمْ الْمُسْلِمُ لَا يُبْتَدَأُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ صَنِيعٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَهُوَ السَّقْيُ مِنْ مَاءِ الْخَرَاجِ، إذْ الْخَرَاجُ يَجِبُ جَبْرًا لِلْمُقَاتِلَةِ فَيَخْتَصُّ وُجُوبُ الْخَرَاجِ بِمَا يُسْقَى بِمَاءٍ حَمَتْهُ الْمُقَاتِلَةُ، وَالْمَاءُ الَّذِي حَمَتْهُ الْمُقَاتِلَةُ مَاءُ الْخَرَاجِ، فَلِهَذَا يَجِبُ الْخَرَاجُ إذَا سَقَاهُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ، إلَى هَذَا أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ (قَوْلُهُ وَالْبَصْرَةُ عِنْدَهُ عُشْرِيَّةٌ) جَوَابُ إشْكَالٍ يَرُدُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّ الْإِحْيَاءَ فِي حَيِّزِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ يَجْعَلُ الْأَرْضَ خَرَاجِيَّةً، وَالْبَصْرَةُ فِي حَيِّزِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ وَإِنْ أَحْيَا فِيهَا مُسْلِمٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ ذَلِكَ لَكِنْ تُرِكَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ حَيِّزَ الشَّيْءِ يُعْطِي لَهُ حُكْمَهُ) دَلِيلُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَذْهَبِهِ (قَوْلُهُ كَفِنَاءِ الدَّارِ) يَعْنِي فِنَاءَ الدَّارِ يُعْطِي لَهُ حُكْمَ الدَّارِ فِي حَقِّ الِانْتِفَاعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفِنَاءُ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِ الدَّارِ لِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا تُعْطَى هَذِهِ الْأَرْضُ الْمُحْيَاةُ حُكْمَ جِوَارِهَا لِاتِّصَالِهَا بِهِ، وَلَا يُظَنُّ فِي إعَادَةِ قَوْلِهِ:" وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْبَصْرَةِ أَنْ تَكُونَ خَرَاجِيَّةً " تَكْرَارٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ وَالثَّانِي ذَكَرَهُ شَرْحًا لِذَلِكَ. وَنَهْرُ الْمَلِكِ عَلَى طَرِيقِ الْكُوفَةِ مِنْ بَغْدَادَ، وَيَزْدَجْرِدُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ (قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ قَبْلُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعُشْرَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْضِ النَّامِيَةِ وَنَمَاؤُهَا بِمَائِهَا.

قَالَ (وَالْخَرَاجُ الَّذِي وَضَعَهُ عُمَرُ رضي الله عنه) اعْلَمْ أَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى نَوْعَيْنِ: خَرَاجُ وَظِيفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِي الذِّمَّةِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ (فِي كُلِّ

ص: 35

جَرِيبٍ يَبْلُغُهُ الْمَاءُ قَفِيزٌ هَاشِمِيٌّ وَهُوَ الصَّاعُ وَدِرْهَمٌ، وَمِنْ جَرِيبِ الرَّطْبَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَمِنْ جَرِيبِ الْكَرْمِ الْمُتَّصِلِ وَالنَّخِيلِ الْمُتَّصِلِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ) وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عُمَرَ، فَإِنَّهُ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ حَتَّى يَمْسَحَ سَوَادَ الْعِرَاقِ، وَجَعَلَ حُذَيْفَةَ مُشْرِفًا عَلَيْهِ، وَكَوَّنَهُ فَبَلَغَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ وَوَضَعَ عَلَى ذَلِكَ مَا قُلْنَا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ.

جَرِيبٍ) وَهُوَ أَرْضٌ طُولُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهَا سِتُّونَ بِذِرَاعِ الْمَلِكِ كِسْرَى وَهُوَ يَزِيدُ عَلَى ذِرَاعِ الْعَامَّةِ بِقَبْضَةٍ (قَفِيزٌ هَاشِمِيٌّ وَهُوَ الصَّاعُ) مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ عَلَى مَا قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتْوَاهُ أَوْ مِمَّا يُزْرَعُ فِيهَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ (وَدِرْهَمٌ)

ص: 36

وَلِأَنَّ الْمُؤَنَ مُتَفَاوِتَةٌ فَالْكَرْمُ أَخَفُّهَا مُؤْنَةً وَالْمَزَارِعَ أَكْثَرُهَا مُؤْنَةً وَالرُّطَبُ بَيْنَهُمَا، وَالْوَظِيفَةُ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِهَا فَجُعِلَ الْوَاجِبُ فِي الْكَرْمِ أَعْلَاهَا وَفِي الزَّرْعِ أَدْنَاهَا وَفِي الرُّطَبَةِ أَوْسَطَهَا.

قَوْلُهُ فَالْكَرْمُ أَخَفُّهَا) يَعْنِي وَأَكْثَرُهَا رِيعًا لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى الْأَبَدِ بِلَا مُؤْنَةٍ (وَالْمَزَارِعُ أَكْثَرُهَا مُؤْنَةً) لِاحْتِيَاجِهَا إلَى الزِّرَاعَةِ وَإِلْقَاءُ الْبَذْرِ فِي كُلِّ عَامٍ (وَالرُّطَبُ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهَا تَبْقَى أَعْوَامًا وَلَا تَدُومُ دَوَامَ الْكُرُومِ فَكَانَتْ مُؤْنَتُهَا فَوْقَ مُؤْنَةِ الْكُرُومِ وَدُونَ مُؤْنَةِ الْمَزَارِعِ. وَخَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ كَالْخُمُسِ وَالسُّدُسِ

ص: 37

قَالَ: (وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَصْنَافِ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْبُسْتَانِ وَغَيْرِهِ يُوضَعُ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الطَّاقَةِ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَوْظِيفُ عُمَرَ وَقَدْ اعْتَبَرَ الطَّاقَةَ فِي ذَلِكَ فَنَعْتَبِرُهَا فِيمَا لَا تَوْظِيفَ فِيهِ. قَالُوا: وَنِهَايَةُ الطَّاقَةِ أَنْ يَبْلُغَ الْوَاجِبُ نِصْفَ الْخَارِجِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيفَ عَيْنُ الْإِنْصَافِ لِمَا كَانَ لَنَا أَنْ نُقَسِّمَ الْكُلَّ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَالْبُسْتَانُ كُلُّ أَرْضٍ يَحُوطُهَا حَائِطٌ وَفِيهَا نَخِيلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَأَشْجَارٌ أُخَرُ، وَفِي دِيَارِنَا وَظَّفُوا مِنْ الدَّرَاهِمِ فِي الْأَرَاضِي كُلِّهَا وَتُرِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ. قَالَ (فَإِنْ لَمْ تُطِقْ مَا وُضِعَ عَلَيْهَا نَقَصَهُمْ الْإِمَامُ) وَالنُّقْصَانُ عِنْدَ قِلَّةِ الرِّيعِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عُمَرَ: لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ، فَقَالَا: لَا بَلْ حَمَّلْنَاهَا مَا تُطِيقُ، وَلَوْ زِدْنَا لَأَطَاقَتْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النُّقْصَانِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عِنْدَ زِيَادَةِ الرِّيعِ يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا بِالنُّقْصَانِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَزِدْ حِينَ أُخْبِرَ بِزِيَادَةِ الطَّاقَةِ، (وَإِنْ غَلَبَ عَلَى أَرْضِ الْخَرَاجِ الْمَاءُ أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهَا أَوْ اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ)

وَنَحْوِ ذَلِكَ (لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَوْظِيفُ عُمَرَ) فَنَعْتَبِرُ فِيهِ الطَّاقَةَ كَمَا اعْتَبَرَهَا فِي الْمُوَظَّفِ، وَمِنْ الْإِنْصَافِ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَى النِّصْفِ (قَوْلُهُ وَالْبُسْتَانُ كُلُّ أَرْضٍ يَحُوطُهَا حَائِطٌ) ظَاهِرٌ (وَإِنْ غَلَبَ عَلَى أَرْضِ الْخَرَاجِ الْمَاءُ أَوْ انْقَطَعَ عَنْهَا فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ) بِالِاتِّفَاقِ

ص: 38

لِأَنَّهُ فَاتَ التَّمَكُّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ، وَهُوَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْخَرَاجِ، وَفِيمَا إذَا اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَاتَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ وَكَوْنُهُ نَامِيًا فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ شَرْطٌ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ أَوْ يُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ خُرُوجِ الْخَارِجِ.

قَالَ (وَإِنْ عَطَّلَهَا صَاحِبُهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ)؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ كَانَ ثَابِتًا وَهُوَ الَّذِي فَوَّتَهُ.

لِأَنَّهُ فَاتَ التَّمَكُّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَهُوَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْخَرَاجِ، وَفِيمَا إذَا اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ) أَيْ اسْتَأْصَلَهُ حَرٌّ شَدِيدٌ أَوْ بَرْدٌ شَدِيدٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَلَا خَرَاجَ أَيْضًا (لِأَنَّهُ فَاتَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ) الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ النَّمَاءِ الْحَقِيقِيِّ (فِي بَعْضِ الْحَوْلِ وَكَوْنُهُ نَامِيًا فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ شَرْطٌ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ) فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً لِلتِّجَارَةِ فَمَضَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ نَوَاهَا لِلْخِدْمَةِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْقَ نَامِيَةً فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ (أَوْ) يُقَالُ (يُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ خُرُوجِ الْخَارِجِ) يَعْنِي أَنَّ النَّمَاءَ التَّقْدِيرِيَّ كَانَ قَائِمًا مَقَامَ الْحَقِيقِيِّ، فَلَمَّا وُجِدَ الْحَقِيقِيُّ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ لِكَوْنِهِ الْأَصْلَ وَقَدْ هَلَكَ فَيَهْلَكُ مَعَهُ الْخَرَاجُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَاصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ لَمْ تَسْقُطْ الْأُجْرَةُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَرَاجِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ إلَى وَقْتِ هَلَاكِ الزَّرْعِ لَا بَعْدَهُ، وَلَيْسَ الْأَجْرُ كَالْخَرَاجِ لِأَنَّهُ وُضِعَ عَلَى مِقْدَارِ الْخَارِجِ إذَا صَلُحَتْ الْأَرْضُ لِلزِّرَاعَةِ، فَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ جَازَ إسْقَاطُهُ وَالْأَجْرُ لَمْ يُوضَعْ عَلَى مِقْدَارِ الْخَارِجِ فَجَازَ إيجَابُهُ وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ. ثُمَّ قَالَ مَشَايِخُنَا: مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ بِالِاصْطِلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ السَّنَةِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ أَنْ تُزْرَعَ الْأَرْضُ ثَانِيًا، أَمَّا إذَا بَقِيَ فَلَا يَسْقُطُ الْخَرَاجُ. قَالَ (وَإِنْ عَطَّلَهَا صَاحِبُهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ) إذَا عَطَّلَ الْأَرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ صَاحِبُهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ كَانَ ثَابِتًا وَهُوَ الَّذِي فَوَّتَهُ. قِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ وَالْمَالِكُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَعَطَّلَهَا، أَمَّا إذَا عَجَزَ الْمَالِكُ عَنْ الزِّرَاعَةِ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ قُوَّتِهِ وَأَسْبَابِهِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ مُزَارَعَةً وَيَأْخُذَ الْخَرَاجَ مِنْ نَصِيبِ الْمَالِكِ وَيُمْسِكَ الْبَاقِيَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ آجَرَهَا وَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ شَاءَ

ص: 39

قَالُوا: مَنْ انْتَقِلْ إلَى أَخَسِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ خَرَاجُ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَ الزِّيَادَةَ، وَهَذَا يُعْرَفُ وَلَا يُفْتَى بِهِ كَيْ لَا يَتَجَرَّأَ الظَّلَمَةُ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ.

(وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ أُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ عَلَى حَالِهِ)؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَيُعْتَبَرُ مُؤْنَةً فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَأَمْكَنَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ (وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُسْلِمُ أَرْضَ الْخَرَاجِ مِنْ الذِّمِّيِّ وَيُؤْخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ لِمَا قُلْنَا)، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ اشْتَرَوْا أَرَاضِيَ الْخَرَاجِ وَكَانُوا يُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا،

زَرَعَهَا بِنَفَقَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَقْبَلُ ذَلِكَ بَاعَهَا وَأَخَذَ الْخَرَاجَ مِنْ ثَمَنِهَا، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ حَجْرٍ وَهُوَ ضَرَرٌ وَلَكِنَّهُ إلْحَاقُ ضَرَرٍ بِوَاحِدٍ لِلْعَامَّةِ (قَوْلُهُ قَالُوا) يَعْنِي الْمَشَايِخَ (مَنْ انْتَقَلَ إلَى أَخَسِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ) بِأَنْ كَانَتْ الْأَرْضُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ لِلْأَعْلَى وَهُوَ الزَّعْفَرَانُ مَثَلًا فَزَرَعَ الشَّعِيرَ مَثَلًا (وَجَبَ خَرَاجُ الزَّعْفَرَانِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَ الزِّيَادَةَ، وَهَذَا يُعْرَفُ وَلَا يُفْتَى بِهِ كَيْ لَا يَتَجَرَّأَ الظَّلَمَةُ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ) وَرُدَّ بِأَنَّهُ كَيْفَ يَجُوزُ الْكِتْمَانُ وَأَنَّهُمْ لَوْ أَخَذُوا كَانَ فِي مَوْضِعِهِ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَوْ أَفْتَيْنَا بِذَلِكَ لَادَّعَى كُلُّ ظَالِمٍ فِي أَرْضٍ لَيْسَ شَأْنُهَا ذَلِكَ أَنَّهَا قَبْلَ هَذَا كَانَتْ تُزْرَعُ الزَّعْفَرَانَ فَيَأْخُذُ خَرَاجَ ذَلِكَ وَهُوَ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ) ظَاهِرٌ.

ص: 40

فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ وَأَخْذِ الْخَرَاجِ وَأَدَائِهِ لِلْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ (وَلَا عُشْرَ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ وَجَبَا فِي مَحِلَّيْنِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلَا يَتَنَافَيَانِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ» ،

قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ) احْتِرَازٌ عَمَّا يَقُولُهُ الْمُتَقَشِّفَةُ وَهْم طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ إنَّهُ مَكْرُوهٌ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى شَيْئًا مِنْ آلَاتِ الْحِرَاثَةِ فَقَالَ: مَا دَخَلَ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إلَّا ذَلُّوا» ظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ بِالذُّلِّ الْتِزَامُ الْخَرَاجِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَقَعَدُوا عَنْ الْجِهَادِ كَرَّ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ وَجَعَلَهُمْ أَذِلَّةً، وَلِأَنَّ الصَّغَارَ إنْ كَانَ قَائِمًا يَكُونُ فِي الْوَضْعِ ابْتِدَاءً وَأَمَّا بَقَاءً فَلَا، بِخِلَافِ خَرَاجِ الرُّءُوسِ فَإِنَّهُ ذُلٌّ وَصَغَارٌ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً فَلِذَلِكَ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ. (قَوْلُهُ وَجَبَا فِي مَحَلَّيْنِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ) يَعْنِي وَلِمَصْرِفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَمَّا اخْتِلَافُ الْمَحَلِّ فَلِأَنَّ الْخَرَاجَ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ وَالْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ، وَأَمَّا اخْتِلَافُ السَّبَبِ فَلِأَنَّ سَبَبَ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ تَقْدِيرًا، وَسَبَبُ الْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ تَحْقِيقًا.

وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْمَصْرِفِ فَإِنَّ مَصْرِفَ الْخَرَاجِ الْمُقَاتِلَةُ وَمَصْرِفَ الْعُشْرِ الْفُقَرَاءُ (فَلَا يَتَنَافَيَانِ) لِأَنَّ التَّنَافِيَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ (وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ») رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 41

وَلِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا، وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً قَهْرًا، وَالْعُشْرُ فِي أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا طَوْعًا، وَالْوَصْفَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، وَسَبَبُ الْحَقَّيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْعُشْرِ تَحْقِيقًا وَفِي الْخَرَاجِ تَقْدِيرًا، وَلِهَذَا يُضَافَانِ إلَى الْأَرْضِ،

قَوْلُهُ وَالْوَصْفَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ) لِأَنَّ الطَّوْعَ ضِدُّ الْكُرْهِ الْحَاصِلِ مِنْ الْقَهْرِ، وَإِذَا لَمْ يَجْتَمِعْ السَّبَبَانِ لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمَانِ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا يُضَافَانِ إلَى الْأَرْضِ) يُقَالُ عُشْرُ الْأَرْضِ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ.

ص: 42

وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزَّكَاةُ مَعَ أَحَدِهِمَا.

(وَلَا يَتَكَرَّرُ الْخَرَاجُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ فِي سَنَةٍ)؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يُوَظِّفْهُ مُكَرَّرًا، بِخِلَافِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ عُشْرًا إلَّا بِوُجُوبِهِ فِي كُلِّ خَارِجٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ)(الْجِزْيَةِ)

وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزَّكَاةُ مَعَ أَحَدِهِمَا) أَيْ الْعُشْرُ أَوْ الْخَرَاجُ. صُورَتُهُ: رَجُلٌ اشْتَرَى أَرْضَ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ مَعَ الْعُشْرِ أَوْ الْخَرَاجِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ مَعَ الْعُشْرِ أَوْ الْخَرَاجِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَمَفْرَعُهُمَا تَوَهُّمُ اخْتِلَافِ الْمَحَلَّيْنِ أَنَّ مَحَلَّ الْعُشْرِ الْخَارِجُ وَمَحَلَّ الزَّكَاةِ عَيْنُ مَالِ التِّجَارَةِ وَهُوَ الْأَرْضُ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْآخَرِ كَالدَّيْنِ مَعَ الْعُشْرِ. وَلَنَا أَنَّ الْمَحَلَّ وَاحِدٌ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ وَظِيفَةُ الْمَالِ النَّامِي وَهُوَ الْأَرْضُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجِبُ بِسَبَبِ مِلْكِ مَالٍ وَاحِدٍ حَقَّانِ لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا لَا تَجِبُ زَكَاةُ السَّائِمَةِ وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ مَالٍ وَاحِدٍ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. قُلْنَا الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ صَارَا وَظِيفَتَيْنِ لَازِمَتَيْنِ لِهَذِهِ الْأَرْضِ فَلَا يَسْقُطَانِ بِإِسْقَاطِ الْمَالِكِ وَهُوَ أَسْبَقُ ثُبُوتًا مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ الَّتِي كَانَ وُجُوبُهَا بِنِيَّةٍ فَلِهَذَا بَقِيَتْ عُشْرِيَّةً وَخَرَاجِيَّةً كَمَا كَانَتْ وَبِقَوْلِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ وُجُوبِ الدَّيْنِ مَعَ الْعُشْرِ، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَجِبُ لِلْعَبْدِ وَالْعُشْرَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا فَيَجِبَانِ وَإِنْ كَانَا بِسَبَبِ مِلْكٍ وَاحِدٍ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ.

بَابُ الْجِزْيَةِ:

لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ خَرَاجِ الْأَرَاضِي ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ خَرَاجَ الرُّءُوسِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ، إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ

ص: 43

(وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ)(: جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ فَتَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ) كَمَا «صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ» ، وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ التَّرَاضِي فَلَا يَجُوزُ التَّعَدِّي إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ

الْعُشْرَ يُشَارِكُهُ فِي سَبَبِهِ، وَفِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَبَيَانُ الْقُرُبَاتِ مُقَدَّمٌ. وَالْجِزْيَةُ اسْمٌ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْجَمْعُ الْجِزَى كَاللِّحْيَةِ وَاللِّحَى، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّهَا تُجْزِي عَنْ الذِّمِّيِّ: أَيْ تَقْضِي وَتَكْفِي عَنْ الْقَتْلِ، فَإِنَّهُ إذَا قَبِلَهَا سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَإِنْ قِيلَ الْكُفْرُ مَعْصِيَةٌ وَهُوَ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَخْذُ الْبَدَلِ عَلَى تَقْرِيرِهِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَمْ تَكُنْ بَدَلًا عَنْ تَقْرِيرِ الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا هِيَ عِوَضٌ عَنْ تَرْكِ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ الْوَاجِبَيْنِ فَجَازَ كَإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ بِعِوَضٍ، أَوْ هِيَ عُقُوبَةٌ عَلَى الْكُفْرِ فَيَجُوزُ كَالِاسْتِرْقَاقِ (قَوْلُهُ وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ) ظَاهِرٌ. وَنَجْرَانُ بِلَادٌ وَأَهْلُهَا نَصَارَى، وَالْحُلَّةُ إزَارٌ وَرِدَاءٌ هُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَا تُسَمَّى حُلَّةً حَتَّى تَكُونَ ثَوْبَيْنِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ التَّرَاضِي) أَيْ الْمُوجِبُ لِتَقْرِيرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ مِنْ الْمَالِ هُوَ التَّرَاضِي لَا الْمُوجِبُ لِوُجُوبِ الْجِزْيَةِ، فَإِنَّ مُوجِبَهُ فِي الْأَصْلِ

ص: 44

(وَجِزْيَةٌ يَبْتَدِئُ الْإِمَامُ وَضْعَهَا إذَا غَلَبَ الْإِمَامُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ الظَّاهِرِ الْغِنَى فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَأْخُذُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. وَعَلَى وَسَطِ الْحَالِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمَيْنِ، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمًا)

وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضَعُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ مَا يَعْدِلُ الدِّينَارَ، وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ «لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِمُعَاذٍ خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا

اخْتِيَارُهُمْ الْبَقَاءَ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ غَلَبُوا. وَقَوْلُهُ (فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ الظَّاهِرِ الْغِنَى) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: مَنْ مَلَكَ مَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ أَوْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا لَكِنَّهُ مُعْتَمِلٌ فَعَلَيْهِ اثْنَا عَشَرَ، وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا إلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَهُوَ مُعْتَمِلٌ أَيْضًا فَعَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَمَنْ مَلَكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ مُعْتَمِلٌ أَيْضًا فَعَلَيْهِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا شَرْطُ الْمُعْتَمِلِ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ عُقُوبَةٌ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ الزَّمِنَ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ وَإِنْ كَانَ مُفْرِطًا فِي الْيَسَارِ. قَالَ: وَالْمُعْتَمِلُ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ حِرْفَةً. وَكَانَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ يَقُولُ: يُنْظَرُ إلَى عَادَةِ كُلِّ بَلَدٍ لِأَنَّ عَادَةَ الْبُلْدَانِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْغِنَى، أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ خَمْسِينَ أَلْفًا بِبَلْخٍ يُعَدُّ مِنْ الْمُكْثِرِينَ وَإِنْ كَانَ بِبَغْدَادَ أَوْ بِالْبَصْرَةِ لَا يُعَدُّ مِنْ الْمُكْثِرِينَ، وَفِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ صَاحِبُ عَشَرَةِ آلَافٍ يُعَدُّ مِنْ الْمُكْثِرِينَ، فَيَعْتَبِرُ عَادَةُ كُلِّ بَلَدٍ

وَذُكِرَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ

ص: 45

أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ كَالذَّرَارِيِّ وَالنِّسْوَانِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْتَظِمُ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ. وَمَذْهَبُنَا مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ وَلِأَنَّهُ وَجَبَ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ فَتَجِبُ عَلَى التَّفَاوُتِ بِمَنْزِلَةِ خَرَاجِ الْأَرْضِ،

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ» مَعْنَاهُ بَالِغٌ وَبَالِغَةٌ (أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ) أَيْ أَوْ خُذْ مِثْلَ دِينَارٍ بُرْدًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يُقَالُ ثَوْبٌ مَعَافِرِيٌّ مَنْسُوبٌ إلَى مَعَافِرِ بْنِ مُرٍّ ثُمَّ صَارَ لَهُ اسْمًا بِغَيْرِ نِسْبَةٍ. وَذُكِرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ مَعَافِرٌ حَيٌّ مِنْ هَمْدَانَ يُنْسَبُ إلَيْهِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الثِّيَابِ وَعَدْلُ الشَّيْءِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ إذَا كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ وَبِالْكَسْرِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ وَجَبَ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ) وَكُلُّ مَا وَجَبَ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ وَجَبَ مُتَفَاوِتًا (كَمَا فِي خَرَاجِ الْأَرْضِ)

ص: 46

وَهَذَا لِأَنَّهُ وَجَبَ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِكَثْرَةِ الْوَفْرِ وَقِلَّتِهِ، فَكَذَا أُجْرَتُهُ هُوَ بَدَلُهُ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ صُلْحًا، وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ مِنْ الْحَالِمَةِ وَإِنْ كَانَتْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا الْجِزْيَةُ.

وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ وَجَبَ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ: يَعْنِي وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ تَجِبُ عَلَيْهِ النُّصْرَةُ لِلدَّارِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} لَكِنَّ الْكَافِرَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ لِنُصْرَتِنَا لِمَيْلِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ اعْتِقَادًا قَامَ الْخَرَاجُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْمَصْرُوفُ إلَى الْغُزَاةِ مَقَامَ النُّصْرَةِ بِالنَّفْسِ، ثُمَّ النُّصْرَةُ مِنْ الْمُسْلِمِ تَتَفَاوَتُ إذْ الْفَقِيرُ يَنْصُرُ دَارَنَا رَاجِلًا، وَمُتَوَسِّطُ الْحَالِ يَنْصُرُهَا رَاكِبًا وَرَاجِلًا وَالْمُوسِرُ بِالرُّكُوبِ بِنَفْسِهِ وَإِرْكَابِ غَيْرِهِ. ثُمَّ الْأَصْلُ لَمَّا كَانَ مُتَفَاوِتًا تَفَاوَتَ الْخَرَاجُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ. فَإِنْ قِيلَ: النُّصْرَةُ طَاعَةُ اللَّهِ وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ فَكَيْفَ تَكُونُ الْعُقُوبَةُ خَلَفًا عَنْ الطَّاعَةِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ عَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْقُوَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يُثَابُونَ عَلَى تِلْكَ الزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ أَمْوَالِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعَارُوا دَوَابَّهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ (وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صُلْحًا) وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالْأَخْذِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْجِزْيَةُ لَا تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ.

ص: 47

قَالَ: (وَتُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} الْآيَةَ، «وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجِزْيَةَ عَلَى الْمَجُوسِ». قَالَ:(وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ) وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ. هُوَ يَقُولُ: إنَّ الْقِتَالَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ} إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَ تَرْكِهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَفِي حَقِّ الْمَجُوسِ بِالْخَبَرِ فَبَقِيَ مَنْ وَرَاءَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ. وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ فَيَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى سَلْبِ النَّفْسِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ وَيُؤَدِّي إلَى الْمُسْلِمِينَ وَنَفَقَتُهُ فِي كَسْبِهِ،

قَالَ (وَتُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ) سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ الْعَجَمِ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} وَعَلَى الْمَجُوسِ لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى الْمَجُوسِ» رَوَى الْبُخَارِيُّ «أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ» وَهَجَرُ اسْمُ بَلَدٍ فِي الْبَحْرَيْنِ (وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ) وَهُوَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ الْعَجَمِ احْتِرَازًا عَنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ لَا تُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ (وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ (وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ) وَكُلُّ مَنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ يَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ (لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى سَلْبِ النَّفْسِ مِنْهُمْ) أَمَّا الِاسْتِرْقَاقُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ نَفْعَ الرَّقِيقِ يَعُودُ إلَيْنَا جُمْلَةً، وَأَمَّا الْجِزْيَةُ فَلِأَنَّ الْكَافِرَ يُؤَدِّيهَا مِنْ كَسْبِهِ، وَالْحَالُ أَنَّ نَفَقَتَهُ فِي كَسْبِهِ فَكَانَ إذًا كَسْبُهُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ حَيَاتِهِ إلَى الْمُسْلِمِينَ دَارَّةً رَاتِبَةً فِي مَعْنَى أَخْذِ النَّفْسِ مِنْهُ حُكْمًا. وَنُوقِضَ بِأَنَّ مَنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ

ص: 48

(وَإِنْ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ)؛ لِجَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ (وَلَا تُوضَعُ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَلَا الْمُرْتَدِّينَ) لِأَنَّ كُفْرَهُمَا قَدْ تَغَلَّظَ، أَمَّا مُشْرِكُو الْعَرَبِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ.

وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ؛ فَلِأَنَّهُ كَفَرَ بِرَبِّهِ بَعْدَمَا هُدِيَ لِلْإِسْلَامِ وَوَقَفَ عَلَى مَحَاسِنِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يُسْتَرَقُّ مُشْرِكُو الْعَرَبِ،

لَوْ جَازَ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ لَجَازَ ضَرْبُهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ بَدَلُ النُّصْرَةِ وَلَا نُصْرَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ فَكَذَا بَدَلُهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِدَافِعٍ بَلْ هُوَ مُقَرِّرٌ لِلنَّقْضِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ قَبُولَ الْمَحَلِّ شَرْطُ تَأْثِيرِ الْمُؤَثِّرِ فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَكُلُّ مَنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ يَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا، وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ لَيْسَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ الْكَسْبِ وَهُمَا عَاجِزَانِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ (قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ قَبْلَ وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ (فَهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ) أَيْ غَنِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِجَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ (وَلَا تُوضَعُ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَلَا الْمُرْتَدِّينَ لِأَنَّ كُفْرَهُمَا قَدْ تَغَلُّظَ) عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَكُلُّ مَنْ تَغَلُّظَ كُفْرُهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا السَّيْفُ أَوْ الْإِسْلَامُ. (زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ) عَلَيْهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مَنْقُوضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ تَغَلُّظَ كُفْرُهُمْ، فَإِنَّهُمْ عَرَفُوا النَّبِيَّ مَعْرِفَةً تَامَّةً مُمَيِّزَةً مُشَخِّصَةً وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرُوهُ وَغَيَّرُوا اسْمَهُ وَنَعْتَهُ مِنْ الْكُتُبِ وَقَدْ قَبِلَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ. وَأَيْضًا الْفَصْلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ بِجَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ دُونَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أَوْطَاسٍ «لَوْ جَرَى رِقٌّ عَلَى عَرَبِيٍّ لَجَرَى الْيَوْمَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقِيَاسَ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ بِالْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الْآيَةَ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مُرَادَهُ عليه الصلاة والسلام عَرَبِيُّ الْأَصْلِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَإِنْ سَكَنُوا فِيمَا بَيْنَ الْعَرَبِ

ص: 49

وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا (وَإِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ فَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ) لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه اسْتَرَقَّ نِسْوَانَ بَنِي حَنِيفَةَ وَصِبْيَانِهِمْ لَمَّا ارْتَدُّوا وَقَسَّمَهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ (وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ رِجَالِهِمْ قُتِلَ) لِمَا ذَكَرْنَا.

(وَلَا جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ) لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ أَوْ عَنْ الْقِتَالِ وَهُمَا لَا يُقْتَلَانِ وَلَا يُقَاتِلَانِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ. قَالَ (وَلَا زَمِنٍ وَلَا أَعْمَى) وَكَذَا الْمَفْلُوجُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ

وَتَوَالَدُوا فَهُمْ لَيْسُوا بِعَرَبٍ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا الْعَرَبُ فِي الْأَصْلِ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُمْ أُمِّيُّونَ. وَقَوْلُهُ (وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّ كُفْرَهُمَا قَدْ تَغَلُّظَ. وَقَوْلُهُ (وَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ (فَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ) إلَّا أَنَّ ذَرَارِيَّ الْمُرْتَدِّينَ وَنِسَاءَهُمْ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ ذَرَارِيِّ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَنِسَائِهِمْ، لِأَنَّ الْإِجْبَارَ عَلَى الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ، وَذَرَارِيُّ الْمُرْتَدِّينَ قَدْ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ فَيُجْبَرُونَ عَلَيْهِ. وَالْمُرْتَدَّاتُ كُنَّ مُقِرَّاتٍ بِالْإِسْلَامِ فَيُجْبَرْنَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ ذَرَارِيِّ الْعَبَدَةِ وَنِسَائِهِمْ. وَحَنِيفَةُ أَبُو حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِبَنِي حَنِيفَةَ رَهْطُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ (وَقَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ) يَعْنِي فِي حَقِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ (أَوْ عَنْ الْقِتَالِ) أَيْ عَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَجِبُ الْبَدَلُ إلَّا عَلَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ

ص: 50

لِمَا بَيَّنَّا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ (وَلَا عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. لَهُ إطْلَاقُ حَدِيثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه. وَلَنَا أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه لَمْ يُوَظِّفْهَا عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَلِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ لَا يُوَظَّفُ عَلَى أَرْضٍ لَا طَاقَةَ لَهَا فَكَذَا هَذَا الْخَرْجُ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعْتَمِلِ (وَلَا تُوضَعُ عَلَى الْمَمْلُوكِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ) لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا، وَعَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي لَا تَجِبُ فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ (وَلَا يُؤَدِّي عَنْهُمْ مَوَالِيهِمْ)

الْأَصْلُ، وَالْأَصْلُ وَهُوَ الْقَتْلُ أَوْ الْقِتَالُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَكَذَا الْبَدَلُ. وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ وَهُمَا لَا يُقْتَلَانِ وَلَا يُقَاتِلَانِ. وَقَوْلُهُ (لَهُ إطْلَاقُ حَدِيثِ مُعَاذٍ) هُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ» وَقَوْلُهُ (وَعَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي لَا تَجِبُ) يَعْنِي أَنَّ الْجِزْيَةَ بَدَلٌ عَنْ الْأَمْرَيْنِ كَمَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ يَجِبُ وَضْعُ الْجِزْيَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَمَالِيكِ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ الْحَرْبِيَّ يُقْتَلُ فَيَتَحَقَّقُ الْبَدَلُ أَيْضًا،

ص: 51

لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الزِّيَادَةَ بِسَبَبِهِمْ (وَلَا تُوضَعُ عَلَى الرُّهْبَانِ الَّذِينَ لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ) كَذَا ذَكَرَ هَاهُنَا. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوضَعُ عَلَيْهِمْ إنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ، وَهُوَ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَجْهُ الْوَضْعِ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَهَا فَصَارَ كَتَعْطِيلِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ.

وَوَجْهُ الْوَضْعِ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ، وَالْجِزْيَةُ فِي حَقِّهِمْ لِإِسْقَاطِ الْقَتْلِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَمِلُ صَحِيحًا وَيَكْتَفِي بِصِحَّتِهِ فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ.

(وَمَنْ أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ جِزْيَةٌ سَقَطَتْ عَنْهُ) وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ كَافِرًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِمَا. لَهُ أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ أَوْ عَنْ السُّكْنَى وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ الْمُعَوَّضُ

وَعَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى النُّصْرَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَلُهُ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الزِّيَادَةَ بِسَبَبِهِمْ) أَيْ صَارَ مَوَالِيهِمْ بِسَبَبِهِمْ مِنْ صِنْفِ الْأَغْنِيَاءِ أَوْ وَسَطِ الْحَالِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِمْ زِيَادَةٌ عَلَى مِقْدَارِ الْوَاجِبِ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ، فَلَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا عَلَى الْمَوَالِي بِسَبَبِهِمْ لَكَانَ وُجُوبُ الْجِزْيَةِ مَرَّتَيْنِ بِسَبَبِ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَقَوْلُهُ (وَلَا تُوضَعُ عَلَى الرُّهْبَانِ) وَاضِحٌ.

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ جِزْيَةٌ سَقَطَتْ عَنْهُ) إذَا أَسْلَمَ مَنْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ أَوْ مَاتَ كَافِرًا أَوْ عَمِيَ أَوْ صَارَ زَمِنًا أَوْ مُقْعَدًا أَوْ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ الْعَمَلَ أَوْ فَقِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ سَقَطَتْ عَنْهُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله. لَهُ أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ أَوْ عَنْ السُّكْنَى وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ الْمُعَوَّضُ) وَكُلُّ مَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ

ص: 52

فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعِوَضُ بِهَذَا الْعَارِضِ كَمَا فِي الْأُجْرَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ.»

وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ الْمُعَوَّضُ (لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعِوَضُ بِهَذَا الْعَارِضِ) أَيْ بِالْإِسْلَامِ أَوْ الْمَوْتِ (كَمَا فِي الْأُجْرَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ) فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إذَا اسْتَوْفَى مَنَافِعَ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْأُجْرَةُ لِأَنَّ الْمُعَوَّضَ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ وَهِيَ مَنَافِعُ الدَّارِ، وَكَذَا إذَا قَتَلَ الذِّمِّيُّ رَجُلًا عَمْدًا ثُمَّ صَالَحَ عَنْ الدَّمِ عَلَى بَدَلٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْبَدَلُ لِأَنَّ الْمُعَوَّضَ وَهُوَ نَفْسُهُ قَدْ سُلِّمَ لَهُ، وَإِنَّمَا رَدَّدَ فِي قَوْلِهِ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ أَوْ السُّكْنَى لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا عَمَّا ذَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْقِتَالِ وَمَدَّهُ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ إعْطَاءُ الْجِزْيَةِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ السُّكْنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الشِّرْكِ لَا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَصِيرُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِمَا يُؤَدُّونَ مِنْ الْجِزْيَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ الَّتِي فَاتَتْ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَأُعِيدُهُ هَاهُنَا تَوْضِيحًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِقَبُولِ الذِّمَّةِ وَلِهَذِهِ الدَّارِ دَارٌ مُعَادِيَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهَا، وَلَا تَصْلُحُ أَبْدَانُهُمْ لِهَذِهِ النُّصْرَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ يَمِيلُونَ إلَى أَهْلِ الدَّارِ الْمُعَادِيَةِ لِاتِّحَادِهِمْ فِي الِاعْتِقَادِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الشَّرْعُ الْجِزْيَةَ لِتُؤْخَذَ مِنْهُمْ فَتُصْرَفَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ فَتَكُونَ خَلَفًا عَنْ النُّصْرَةِ.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الْأَعْمَى وَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالْمَعْتُوهِ وَالْمُقْعَدِ مَعَ أَنَّهُمْ مُشَارِكُونَ فِي السُّكْنَى لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُمْ أَصْلُ النُّصْرَةِ بِأَبْدَانِهِمْ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ. وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ» رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَهُوَ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، بَلْ الْإِنْصَافُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا تَكُونُ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، إذْ لَوْ لَمْ تَسْقُطْ لَصَدَقَ أَنَّ عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ جِزْيَةً.

ص: 53

وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ وَلِهَذَا تُسَمَّى جِزْيَةً وَهِيَ وَالْجَزَاءُ وَاحِدٌ، وَعُقُوبَةُ الْكُفْرِ تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ وَلَا تُقَامُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّ شَرْعَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا لَا يَكُونُ إلَّا لِدَفْعِ الشَّرِّ وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا وَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَالْعِصْمَةُ تَثْبُتُ بِكَوْنِهِ آدَمِيًّا وَالذِّمِّيُّ يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا

وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً إلَخْ) ظَاهِرٌ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ أَلْحَقَ ضَرْبَ الْجِزْيَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ بِالِاسْتِرْقَاقِ بِالْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ فَيَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى سَلْبِ النَّفْسِ مِنْهُمْ فَكَيْفَ افْتَرَقَا فِي الْبَقَاءِ حَيْثُ يَبْقَى الْعَبْدُ رَقِيقًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَا تَبْقَى الْجِزْيَةُ بَعْدَهُ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي الِابْتِدَاءِ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ لِكُفْرِهِمْ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ أَدَاءَ الْجِزْيَةِ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِوَصْفِ الصَّغَارِ، وَمَا شُرِعَ بِوَصْفٍ لَا يَبْقَى بِدُونِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَالْإِسْلَامُ يُنَافِي الصَّغَارَ فَتَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِهِ، بِخِلَافِ الِاسْتِرْقَاقِ فَإِنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (وَالْعِصْمَةُ تَثْبُتُ بِكَوْنِهِ آدَمِيًّا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ إنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا مِنْ الْعِصْمَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعِصْمَةَ ثَابِتَةٌ لِلْآدَمِيِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ خُلِقَ مُتَحَمِّلًا أَعْبَاءَ التَّكَالِيفِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ الطَّارِئَةُ بَدَلًا عَنْهَا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: سَلَّمْنَا أَنَّهَا ثَابِتَةٌ لِلْآدَمِيَّةِ وَلَكِنَّهَا سَقَطَتْ بِالْكُفْرِ، فَالْجِزْيَةُ تُعِيدُهَا عَلَى مَا كَانَتْ فَكَانَتْ بَدَلًا.

وَالْجَوَابُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَنْ عِصْمَةٍ فِيمَا مَضَى أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُغْنِي عَنْهَا. وَقَوْلُهُ (وَالذِّمِّيُّ يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ أَوْ السُّكْنَى، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الذِّمِّيَّ يَمْلِكُ مَوْضِعَ السُّكْنَى بِالشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ، فَلَا يَجُوزُ إيجَابُ الْبَدَلِ بِسُكْنَاهُ فِي مَوْضِعٍ مَمْلُوكٍ لَهُ، فَلَوْ كَانَتْ الْجِزْيَةُ أُجْرَةً كَانَ وُجُوبُهَا بِالْإِجَارَةِ لَا مَحَالَةَ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا

ص: 54

مَعْنَى لِإِيجَابِ بَدَلِ الْعِصْمَةِ وَالسُّكْنَى.

(وَإِنْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَوْلَانِ تَدَاخَلَتْ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَنْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ حَتَّى مَضَتْ السَّنَةُ وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى لَمْ يُؤْخَذْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يُؤْخَذُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله (وَإِنْ مَاتَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ) أَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَوْتِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا. وَقِيلَ خَرَاجُ الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَقِيلَ لَا تَدَاخُلَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ. لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْخَرَاجَ وَجَبَ عِوَضًا، وَالْأَعْوَاضُ إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا تُسْتَوْفَى، وَقَدْ أَمْكَنَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَعْدَ تَوَالِي السِّنِينَ،

التَّأْقِيتُ لِأَنَّ الْإِبْهَامَ يُبْطِلُهَا، وَحَيْثُ لَمْ يُشْتَرَطْ التَّأْقِيتُ فِي السُّكْنَى دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَمْ تَكُنْ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ وَالسُّكْنَى فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ اسْتَعَانَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَاتَلُوا مَعَهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ جِزْيَةُ تِلْكَ السَّنَةِ، فَلَوْ كَانَتْ بَدَلًا عَنْهَا لَسَقَطَتْ لِأَنَّهُ قَدْ نُصِرَ بِنَفْسِهِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهَا إنَّمَا لَمْ تَسْقُطْ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ طَرِيقَ النُّصْرَةِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ الْمَالَ دُونَ النَّفْسِ.

قَالَ (فَإِنْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَوْلَانِ) أَنَّثَ فِعْلَ الْحَوْلَيْنِ، إمَّا بِاعْتِبَارِ حَذْفِ الْمُضَافِ: أَيْ اجْتَمَعَتْ جِزْيَةُ الْحَوْلَيْنِ، وَإِمَّا بِتَأْوِيلِ السَّنَتَيْنِ، وَأَتَى بِعِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِتَفْصِيلٍ فِي اللَّفْظِ وَلِإِبْهَامٍ فِي قَوْلِهِ وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى عَلَى مَا بَيَّنَهُ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ لَا تَدَاخُلَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ) يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخَرَاجَ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ مُؤْنَةٌ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إلَى مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، وَلِهَذَا إذَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً يَجِبُ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَجَازَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ، بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ فَإِنَّهَا عُقُوبَةٌ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَلِهَذَا لَمْ تُشْرَعْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ أَصْلًا وَالْعُقُوبَاتُ تَتَدَاخَلُ. وَقَوْلُهُ (لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ) أَيْ فِيمَا إذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْحَوْلَانِ (أَنَّ الْخَرَاجَ وَجَبَ عِوَضًا) عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَكُلُّ مَا وَجَبَ عِوَضًا إذَا اجْتَمَعَ وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ يُسْتَوْفَى كَمَا فِي سَائِرِ الْأَعْوَاضِ

ص: 55

بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ لَوْ بَعَثَ عَلَى يَدِ نَائِبِهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، بَلْ يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِنَفْسِهِ فَيُعْطِيَ قَائِمًا، وَالْقَابِضُ مِنْهُ قَاعِدٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَأْخُذُ بِتَلْبِيبِهِ وَيَهُزُّهُ هَزًّا وَيَقُولُ: أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا ذِمِّيُّ فَثَبَتَ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ، وَالْعُقُوبَاتُ إذَا اجْتَمَعَتْ تَدَاخَلَتْ كَالْحُدُودِ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا كَمَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يُسْتَوْفَى لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ لَا لِحِرَابٍ مَاضٍ، وَكَذَا النُّصْرَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ وَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عَنْهُ. ثُمَّ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجِزْيَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى، حَمَلَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَلَى الْمُضِيِّ مَجَازًا.

وَقَدْ أَمْكَنَ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ حَيٌّ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَالِ مِنْ الْحَيِّ مُمْكِنٌ إذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْإِسْلَامُ (بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ) وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ تَكَرَّرَ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ أَوْ السُّكْنَى أَوْ الْعِصْمَةِ، وَتَكَرَّرَ أَيْضًا فِيهِ أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ؛ وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ غَيْرُ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ عَنْ شَيْءٍ فَيَلْزَمُ تَوَارُدُ عِلَّتَيْنِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهَا عُقُوبَةً لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ كَوْنِهِ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ لِأَنَّ إيجَابَ النُّصْرَةِ لِغَيْرِ أَهْلِ دِينِهِ يَسْتَلْزِمُ عُقُوبَةً لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا) تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّلْبِيبُ أَخْذُ مَوْضِعِ اللَّبَبِ مِنْ الثِّيَابِ، وَاللَّبَبُ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنْ الصَّدْرِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ) اسْتِدْلَالٌ مِنْ جِهَةِ الْمَلْزُومِ، وَمَا تَقَدَّمَ كَانَ مِنْ جِهَةِ اللَّازِمِ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَقَوْلُهُ (حَمَلَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَلَى الْمُضِيِّ مَجَازًا) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي قَوْلِهِ جَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ مَضَتْ حَتَّى يَتَحَقَّقَ اجْتِمَاعُهُمَا لِأَنَّهَا عِنْدَ آخِرِ الْحَوْلِ تَجِبُ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الْمَجَازِ لِأَنَّ مَجِيءَ كُلِّ شَهْرٍ بِمَجِيءِ أَوَّلِهِ. وَأَقُولُ فِي مُجَوِّزِ الْمَجَازِ أَنَّ مَجِيءَ الشَّهْرِ يَسْتَلْزِمُ مَجِيءَ الْآخَرِ لَا مَحَالَةَ وَذِكْرُ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةُ اللَّازِمِ مَجَازٌ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ دُخُولُ أَوَّلِهَا لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ وَالتَّأْخِيرُ إلَى آخِرِهِ تَخْفِيفٌ وَتَأْجِيلٌ

ص: 56

وَقَالَ: الْوُجُوبُ بِآخِرِ السَّنَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُضِيِّ لِيَتَحَقَّقَ الِاجْتِمَاعُ فَتَتَدَاخَلَ.

وَعِنْدَ الْبَعْضِ هُوَ مُجْرًى عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْوُجُوبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ فَيَتَحَقَّقُ الِاجْتِمَاعُ بِمُجَرَّدِ الْمَجِيءِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَنَا فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي آخِرِهِ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ. وَلَنَا أَنَّ مَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فَتَعَذَّرَ إيجَابُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ فَأَوْجَبْنَاهُ فِي أَوَّلِهِ.

(فَصْلٌ)

(وَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ بِيعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ)؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ» وَالْمُرَادُ إحْدَاثُهَا

عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى هَذَا يَتَحَقَّقُ التَّدَاخُلُ عِنْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ بِلَا ارْتِكَابِ الْمَجَازِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يُسْتَوْفَى لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ لَا لِحِرَابٍ مَاضٍ إلَخْ، وَيَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ عَنْ الزَّكَاةِ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي آخِرِ الْحَوْلِ لِأَنَّهَا تَجِبُ فِي الْمَالِ النَّامِي وَحَوَلَانُ الْحَوْلِ هُوَ الْمُمْكِنُ مِنْ الِاسْتِنْمَاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى مَا مَرَّ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْحَوْلِ لِيَتَحَقَّقَ شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ.

فَصْلٌ:

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ بِسُكْنَاهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالسُّكْنَى (وَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ بِيعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ») وَالْخِصَاءُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْمَدِّ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ مَصْدَرُ خَصَاهُ: إذَا نَزَعَ خُصْيَتَيْهِ، وَالْإِخْصَاءُ فِي مَعْنَاهُ خَطَأٌ

ص: 57

(وَإِنْ انْهَدَمَتْ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا) لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى دَائِمًا، وَلَمَّا أَقَرَّهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ عَهِدَ إلَيْهِمْ الْإِعَادَةَ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ نَقْلِهَا؛ لِأَنَّهُ إحْدَاثٌ فِي الْحَقِيقَةِ،

ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ ذِكْرِ الْخِصَاءِ وَالْكَنِيسَةُ هِيَ أَنَّ إحْدَاثَ الْكَنِيسَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إزَالَةٌ لِفُحُولِيَّةِ أَهْلِ دَارِهِ مَعْنًى، كَمَا أَنَّ الْخِصَاءَ إزَالَةٌ لِفُحُولِيَّةِ الْحَيَوَانِ إنْ كَانَ الْخِصَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّبَتُّلَ وَالِامْتِنَاعَ عَنْ النِّسَاءِ بِمُلَازَمَةِ الْكَنَائِسِ فَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " وَلَا كَنِيسَةَ " إحْدَاثُهَا فَهُوَ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ: أَيْ لَا تُحْدَثُ كَنِيسَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيُقَالُ كَنِيسَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمُتَعَبَّدِهِمْ، وَكَذَا الْبِيعَةُ كَانَ مُطْلَقًا فِي الْأَصْلِ،

ص: 58

وَالصَّوْمَعَةُ لِلتَّخَلِّي فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْبِيعَةِ، بِخِلَافِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسُّكْنَى، وَهَذَا فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى؛ لِأَنَّ الْأَمْصَارَ هِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الشَّعَائِرُ فَلَا تُعَارَضُ بِإِظْهَارِ مَا يُخَالِفُهَا.

وَقِيلَ فِي دِيَارِنَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِيهَا بَعْضَ الشَّعَائِرِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ فِي قُرَى الْكُوفَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ. وَفِي أَرْضِ الْعَرَبِ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِهَا وَقُرَاهَا

ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْكَنِيسَةِ لِمُتَعَبَّدِ الْيَهُودِ وَالْبِيعَةِ لِمُتَعَبَّدِ النَّصَارَى. وَقَوْلُهُ (وَالصَّوْمَعَةُ لِلتَّخَلِّي فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْبِيعَةِ) أَيْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إحْدَاثِ الصَّوْمَعَةِ الَّتِي يَتَخَلَّوْنَ فِيهَا أَيْضًا لِلْعِبَادَةِ (بِخِلَافِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ) أَيْ صَلَاةِ الذِّمِّيِّ (فِي الْبَيْتِ) فَإِنَّهُمْ يُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ (لِأَنَّهُ تَبَعُ السُّكْنَى) وَقَوْلُهُ (وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه

ص: 59

لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» .

قَالَ (وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَيُّزِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زِيِّهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَسُرُوجِهِمْ وَقَلَانِسِهِمْ فَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِالسِّلَاحِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِإِظْهَارِ الْكُسْتِيجَاتِ وَالرُّكُوبِ عَلَى السُّرُوجِ الَّتِي هِيَ كَهَيْئَةِ الْأَكُفِّ) وَإِنَّمَا يُؤْخَذُونَ بِذَلِكَ إظْهَارًا لِلصَّغَارِ عَلَيْهِمْ وَصِيَانَةً لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُكْرَمُ، وَالذِّمِّيُّ يُهَانُ، وَلَا يُبْتَدَأُ بِالسَّلَامِ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ

وَالْمُرَادُ بِالْمَرْوِيِّ هُوَ مَا ذَكَرَهُ آنِفًا بِقَوْلِهِ وَهَذَا فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى. وَقَوْلُهُ (فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) قِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَتْ أَرْضُ الْعَرَبِ بِالْجَزِيرَةِ لِأَنَّ بَحْرَ فَارِسَ وَبَحْرَ الْحَبَشِ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتَ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا.

وَقَوْلُهُ (وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَيُّزِ) ظَاهِرٌ. وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِكَوْنِهَا كَالتَّفْسِيرِ لِمَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ كَأَنَّهُ قَالَ: وَكَيْفِيَّةُ التَّمَيُّزِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَخْ. وَالْكِسْتِيجُ خَيْطٌ غَلِيظٌ بِقَدْرِ الْأُصْبُعِ يَشُدُّهُ الذِّمِّيُّ فَوْقَ ثِيَابِهِ دُونَ مَا يَتَزَيَّنُونَ بِهِ مِنْ الزَّنَانِيرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ. وَقَوْلُهُ (صِيَانَةً لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ الضَّعَفَةِ فِي الدِّينِ لَا الْبَدَنِ: أَيْ يُفْعَلُ

ص: 60

عَلَامَةٌ مُمَيِّزَةٌ فَلَعَلَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ وَالْعَلَامَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ خَيْطًا غَلِيظًا مِنْ الصُّوفِ يَشُدُّهُ عَلَى وَسَطِهِ دُونَ الزُّنَّارِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ فَإِنَّهُ جَفَاءٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَيَجِب أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ عَنْ نِسَائِنَا فِي الطُّرُقَاتِ وَالْحَمَّامَاتِ، وَيُجْعَلُ عَلَى دُورِهِمْ عَلَامَاتٌ كَيْ لَا يَقِفَ عَلَيْهَا سَائِلٌ يَدْعُوَ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ.

قَالُوا: الْأَحَقُّ أَنْ لَا يُتْرَكُوا أَنْ يَرْكَبُوا إلَّا لِلضَّرُورَةِ. وَإِذَا رَكِبُوا لِلضَّرُورَةِ فَلِيَنْزِلُوا فِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَزِمَتْ الضَّرُورَةُ اتَّخَذُوا سُرُوجًا

ذَلِكَ بِهِمْ لِكَيْ يَكُونُوا فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَصَلَّبُوا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَذِلَّاءَ صَاغِرِينَ حَتَّى لَا يَمِيلُوا إلَى الْكُفْرِ بِسَبَبِ سِعَتِهِمْ فِي الرِّزْقِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ وَرَوْنَقِ حَالِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَأْخُذْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَلَا نَصَارَى نَجْرَانَ وَلَا مَجُوسِ هَجَرَ بِذَلِكَ فَيَكُونَ بِدْعَةً. أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا مَعْرُوفِينَ فِي الْمَدِينَةِ لَا يَشْتَبِهُ حَالُهُمْ فَلَمْ يَقَعْ الِاحْتِيَاجُ إلَى ذَلِكَ، ثُمَّ فِي زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ مِمَّنْ يُعْرَفُ مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَكَانَ صَوَابًا. قَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَيْنَمَا دَارَ عُمَرُ فَالْحَقُّ مَعَهُ» وَقَوْلُهُ (فَإِنَّهُ جَفَاءٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الْإِسْلَامِ) أَيْ تَرْكُ حُسْنِ الْعِشْرَةِ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ فِي الْأَمْرِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ بِتَمَيُّزِهِمْ بِمَا يُوجِبُ إعْزَازَهُمْ مِنْ اتِّخَاذِ الزُّنَّارِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ إهَانَةً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ مَنْ أَعَزَّ عَدُوَّ صَدِيقِهِ فَقَدْ أَهَانَ صَدِيقَهُ مَعْنًى. وَقَوْلُهُ (أَنْ لَا يَرْكَبُوا إلَّا لِلضَّرُورَةِ) يَعْنِي كَالْخُرُوجِ إلَى الرُّسْتَاقِ وَذَهَابِ الْمَرِيضِ

ص: 61

بِالصِّفَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ لِبَاسٍ يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالشَّرَفِ.

(وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْجِزْيَةِ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ سَبَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ) لِأَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي بِهَا الْقِتَالُ الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ لَا أَدَاؤُهَا وَالِالْتِزَامُ بَاقٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سَبُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ نَقْضًا؛ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ إيمَانَهُ فَكَذَا يَنْقُضُ أَمَانَهُ إذْ عَقْدُ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْهُ.

وَلَنَا أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُفْرٌ مِنْهُ، وَالْكُفْرُ الْمُقَارِنُ لَا يَمْنَعُهُ فَالطَّارِئُ لَا يَرْفَعُهُ.

إلَى مَوْضِعٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ. وَقَوْلُهُ (بِالصِّفَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ) يَعْنِي كَهَيْئَةِ الْأَكُفِّ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يَنْقُضُ إيمَانَهُ) يَعْنِي لَوْ كَانَ مُسْلِمًا وَيَسُبُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ نُقِضَ إيمَانُهُ (فَكَذَا يُنْقَضُ أَمَانُهُ) وَذِمَّتُهُ.

ص: 62

قَالَ (وَلَا يُنْقَضُ الْعَهْدُ إلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ يَغْلِبُوا عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَنَا)؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا فَيُعَرَّى عَقْدُ الذِّمَّةِ عَنْ الْفَائِدَةِ وَهُوَ دَفْعُ شَرِّ الْحِرَابِ.

(وَإِذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ) مَعْنَاهُ فِي الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ بِاللَّحَاقِ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَاتِ، وَكَذَا فِي حُكْمِ مَا حَمَلَهُ مِنْ مَالِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ أُسِرَ يُسْتَرَقُّ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ.

(فَصْلٌ)

(وَنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الزَّكَاةِ)؛ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه صَالَحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ (وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ صِبْيَانِهِمْ) لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى الصَّدَقَةِ

قَوْلُهُ (وَكَذَا فِي حُكْمِ مَا حَمَلَهُ مِنْ مَالِهِ) يَعْنِي أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَفِي يَدِهِ مَالٌ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ فَيْئًا، كَالْمُرْتَدِّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَالِهِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ كَانَ مَالُهُ فَيْئًا. وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ لَوْ أُسِرَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ: يَعْنِي بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَرَقُّ بَلْ يُقْتَلُ إنْ أَصَرَّ عَلَى ارْتِدَادِهِ.

فَصْلٌ:

ذَكَرَ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ، لِأَنَّ لَهُمْ أَحْكَامًا مَخْصُوصَةً بِهِمْ تُخَالِفُ أَحْكَامَ سَائِرِ النَّصَارَى،

ص: 63

الْمُضَاعَفَةِ، وَالصَّدَقَةُ تَجِبُ عَلَيْهِنَّ دُونَ الصِّبْيَانِ فَكَذَا الْمُضَاعَفُ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله لَا يُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ جِزْيَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ: هَذِهِ جِزْيَةٌ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ، وَلِهَذَا تُصْرَفُ مَصَارِفَ الْجِزْيَةِ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسْوَانِ.

وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِهِ الصُّلْحُ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ مِثْلِهِ عَلَيْهَا وَالْمَصْرِفُ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِزْيَةِ؛

وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ بِإِسْنَادِهِ إلَى دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ بَنِي تَغْلِبَ مَنْ قَدْ عَلِمْت شَوْكَتَهُمْ وَإِنَّهُمْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، فَإِنْ ظَاهَرُوا عَلَيْك الْعَدُوَّ اشْتَدَّتْ الْمُؤْنَةُ، فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُعْطِيَهُمْ شَيْئًا فَافْعَلْ، قَالَ: فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ عَلَى أَنْ لَا يَغْمِسُوا أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِهِمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَتُضَاعَفُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ، وَعَلَى أَنْ تَسْقُطَ الْجِزْيَةُ عَنْ رُءُوسِهِمْ، فَكُلُّ نَصْرَانِيٍّ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ لَهُ غَنَمٌ سَائِمَةٌ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً سَائِمَةً فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا أَرْبَعٌ مِنْ الْغَنَمِ، وَعَلَى هَذَا الْحِسَابِ تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ، وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ إذَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ فَعَلَى التَّغْلِبِيِّ مِثْلُهُ مَرَّتَيْنِ، وَنِسَاؤُهُمْ كَرِجَالِهِمْ فِي الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الصِّبْيَانُ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ أَرَاضِيِهِمْ الَّتِي كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ يَوْمَ صُولِحُوا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ الضِّعْفُ مِمَّا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ مِثْلِهِ) أَيْ مِثْلِ مَالٍ وَجَبَ بِالصُّلْحِ.

ص: 64

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُهَا (وَيُوضَعُ عَلَى مَوْلَى التَّغْلِبِيِّ الْخَرَاجُ) أَيْ الْجِزْيَةُ (وَخَرَاجُ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَوْلَى الْقُرَشِيِّ) وَقَالَ زُفَرُ: يُضَاعَفُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ يَلْحَقُ بِهِ فِي حَقِّ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ.

وَلَنَا أَنَّ هَذَا تَخْفِيفٌ وَالْمَوْلَى لَا يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِيهِ، وَلِهَذَا تُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى مَوْلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ نَصْرَانِيًّا، بِخِلَافِ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَأُلْحِقَ الْمَوْلَى بِالْهَاشِمِيِّ فِي حَقِّهِ،

وَقَوْلُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُهَا) أَيْ فِيمَا أُخِذَ مِنْهُمْ مِنْ الْمُضَاعَفَةِ شَرَائِطُ الْجِزْيَةِ مِنْ وَصْفِ الصِّغَارِ كَعَدَمِ الْقَبُولِ مِنْ يَدِ النَّائِبِ وَالْإِعْطَاءِ قَائِمًا وَالْقَابِضُ قَاعِدٌ، وَأَخْذِ التَّلْبِيبِ عَلَى مَا مَرَّ. قَوْلُهُ (وَيُوضَعُ عَلَى مَوْلَى التَّغْلِبِيِّ الْخَرَاجُ: أَيْ الْجِزْيَةُ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَوْلَى الْقُرَشِيِّ) أَيْ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ مِنْ الْقُرَشِيِّ وَتُؤْخَذُ مِنْ مُعْتَقِهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ مُعْتَقِ التَّغْلِبِيِّ وَإِنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ التَّغْلِبِيِّ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ هَذَا) أَيْ أَخْذَ مُضَاعَفِ الزَّكَاةِ (تَخْفِيفٌ) يَعْنِي لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ وَصْفُ الصَّغَارِ بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ (وَالْمَوْلَى لَا يُلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِيهِ) أَيْ فِي التَّخْفِيفِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمَوْلَى لَا يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِي التَّخْفِيفِ (تُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى مَوْلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ نَصْرَانِيًّا) وَلَمْ يَلْحَقْ بِمَوْلَاهُ فِي تَرْكِ الْجِزْيَةِ وَإِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ أَعْلَى أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ وَأَوْلَاهَا. فَإِنْ قِيلَ: حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ لَيْسَتْ بِتَغْلِيظٍ بَلْ هِيَ تَخْفِيفٌ بِالتَّخْلِيصِ عَنْ التَّدَنُّسِ بِالْآثَامِ وَقَدْ أُلْحِقَ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ فِيهَا بِالْهَاشِمِيِّ أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ إلَخْ. وَقَوْلُهُ (فِي حَقِّهِ) أَيْ فِيمَا هُوَ حَقُّ مَوْلَاهُ وَهُوَ حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُ مَوْلَى الْغَنِيِّ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ فِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ وَالْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ أَنَّ الْحُرُمَاتِ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ مَوْجُودَةٌ؟.

ص: 65

وَلَا يَلْزَمُ مَوْلَى الْغَنِيِّ حَيْثُ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، لِأَنَّ الْغَنِيَّ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا الْغَنِيُّ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، أَمَّا الْهَاشِمِيُّ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِهَذِهِ الصِّلَةِ أَصْلًا لِأَنَّهُ صِينَ لِشَرَفِهِ وَكَرَامَتِهِ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فَأُلْحِقَ بِهِ مَوْلَاهُ.

قَالَ: (وَمَا جَبَاهُ الْإِمَامُ مِنْ الْخَرَاجِ وَمِنْ أَمْوَالِ بَنِي تَغْلِبَ وَمَا أَهْدَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى الْإِمَامِ

أَجَابَ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْغَنِيَّ مِنْ أَهْلِهَا) أَيْ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَلِهَذَا حَلَّتْ لَهُ إذَا كَانَ عَامِلًا (وَإِنَّمَا الْغَنِيُّ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَأَمَّا الْهَاشِمِيُّ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لَهَا أَصْلًا لِأَنَّهُ صِينَ لِشَرَفِهِ. وَكَرَامَتِهِ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فَأُلْحِقَ بِهِ مَوْلَاهُ) وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ تَشْرِيفٌ لَهُمْ، وَفِي إلْحَاقِ الْمَوَالِي بِهِمْ زِيَادَةٌ فِي التَّشْرِيفِ وَحُرْمَتُهَا عَلَى الْغَنِيِّ لِغِنَاهُ، وَفِي إلْحَاقِ مَوْلَاهُ بِهِ لَا يَزْدَادُ غِنًى، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ زُفَرُ مِنْ الْحَدِيثِ وَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ لَيْسَ كَهُوَ فِي الْكَفَاءَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ التَّأْوِيلُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مِنْ الْقَوْمِ يَقُومُ بِنُصْرَتِهِمْ.

وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: الْقِيَاسُ فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَلْحَقَ مَوْلَى الْقَوْمِ بِهِمْ إلَّا أَنَّ وُرُودَ الْحَدِيثِ كَانَ فِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَهُوَ مَا رُوِيَ:«أَنَّ أَبَا رَافِعٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا، أَنْتَ مَوْلَانَا وَمَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ لَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِإِظْهَارِ فَضِيلَةِ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إلْحَاقِهِمْ مَوْلَاهُمْ بِهِمْ وَمَوْلَى التَّغْلِبِيِّ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ.

وَقَوْلُهُ (وَمَا جَبَاهُ الْإِمَامُ) أَيْ جَمْعُهُ، وَالثُّغُورُ جَمْعُ

ص: 66

وَالْجِزْيَةُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدِّ الثُّغُورِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ، وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُمَّالُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ، وَيُدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقُ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ)؛ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّهُ وَصَلَ إلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَهُوَ مُعَدٌّ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ عَمَلَتُهُمْ وَنَفَقَةُ الذَّرَارِيِّ عَلَى الْآبَاءِ، فَلَوْ لَمْ يُعْطَوْا كِفَايَتَهُمْ لَاحْتَاجُوا إلَى الِاكْتِسَابِ فَلَا يَتَفَرَّغُونَ لِلْقِتَالِ (وَمَنْ مَاتَ فِي نِصْفِ السَّنَةِ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْعَطَاءِ) لِأَنَّهُ نَوْعُ صِلَةٍ وَلَيْسَ بِدَيْنٍ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ عَطَاءً فَلَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَأَهْلُ الْعَطَاءِ فِي زَمَانِنَا مِثْلُ الْقَاضِي وَالْمُدَرِّسِ وَالْمُفْتِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ثَغْرٍ وَهُوَ مَوْضِعُ مَخَافَةِ الْبُلْدَانِ، وَالْقَنْطَرَةُ مَا لَا يُرْفَعُ، وَالْجِسْرُ مَا يُرْفَعُ. (قَوْلُهُ وَهَؤُلَاءِ عَمَلَتُهُمْ) أَيْ الْقُضَاةُ وَعُمَّالُهُمْ وَالْعُلَمَاءُ عَمَلَةُ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَمَلَةُ جَمْعُ عَامِلٍ (قَوْلُهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْعَطَاءِ) الْعَطَاءُ مَا يُكْتَبُ لِلْغُزَاةِ فِي الدِّيوَانِ وَلِكُلِّ مَنْ قَامَ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ كَالْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَالْمُدَرِّسِ، وَفِي الِابْتِدَاءِ كَانَ يُعْطِي كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ ضَرْبُ مَزِيَّةٍ فِي الْإِسْلَامِ كَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَوْلَادِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ فِي آخِرِ السَّنَةِ لَا يُورَثُ الْعَطَاءُ لِأَنَّهُ صِلَةٌ فَلَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي نِصْفِ السَّنَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي آخِرِ السَّنَةِ يُسْتَحَبُّ صَرْفُ ذَلِكَ إلَى قَرِيبِهِ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْفَى عَنَاءَهُ فَيُسْتَحَبُّ الصَّرْفُ إلَى قَرِيبِهِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْوَفَاءِ.

ص: 67

‌بَابُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ

قَالَ (وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ كُشِفَتْ عَنْهُ) لِأَنَّهُ عَسَاهُ اعْتَرَتْهُ شُبْهَةٌ فَتُزَاحُ، وَفِيهِ دَفْعُ شَرِّهِ بِأَحْسَنِ الْأَمْرَيْنِ، إلَّا أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى مَا قَالُوا غَيْرُ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ بَلَغَتْهُ. قَالَ (وَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْمُرْتَدُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَى قُتِلَ) وَتَأْوِيلُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَسْتَمْهِلُ فَيُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ

بَابُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ:

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحْكَامَ الْكُفْرِ الطَّارِئِ، لِأَنَّ الطَّارِئَ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ وُجُودِ الْأَصْلِيِّ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى مَا قَالُوا غَيْرُ وَاجِبٍ) ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: وَيُسْتَحَبُّ عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ لِأَنَّ رَجَاءَ الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ ثَابِتٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الرِّدَّةَ كَانَتْ بِاعْتِرَاضِ شُبْهَةٍ. وَقَوْلُهُ (وَتَأْوِيلُ الْأَوَّلِ) يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ وَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (أَنَّهُ يُسْتَمْهَلُ) أَيْ يَطْلُبُ الْمُهْلَةَ فَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَطْلُبْ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ فِي ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ، إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَتَابَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ كَافِرٍ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ. فَإِنْ قِيلَ: تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ هَاهُنَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ نَصَبَ الْحُكْمَ بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَقَادِيرِ. أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، لِأَنَّ وُرُودَ النَّصِّ فِي خِيَارِ الْبَيْعِ بِثَلَاثَةِ

ص: 68

لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ارْتِدَادَ الْمُسْلِمِ يَكُونُ عَنْ شُبْهَةٍ ظَاهِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ التَّأَمُّلُ فَقَدَّرْنَاهَا بِالثَّلَاثَةِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الْإِمْهَالِ، وَكَذَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ فَيُقْتَلُ لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ اسْتِمْهَالٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لِإِطْلَاقِ الدَّلَائِلِ.

أَيَّامٍ وَرَدَ فِيهِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هُنَاكَ إنَّمَا كَانَ لِلتَّأَمُّلِ، وَالتَّقْدِيرُ بِهَا هَاهُنَا أَيْضًا لِلتَّأَمُّلِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ) بَيَانُهُ أَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ لَا مَحَالَةَ وَلَيْسَ بِمُسْتَأْمَنٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ الْأَمَانَ وَلَا ذِمِّيٍّ لِأَنَّهُ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فَكَانَ حَرْبِيًّا. وَقَوْلُهُ (لِإِطْلَاقِ الدَّلَائِلِ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام

ص: 69

وَكَيْفِيَّةُ تَوْبَتِهِ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سِوَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ، وَلَوْ تَبَرَّأَ عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ كَفَاهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ.

«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (وَكَيْفِيَّةُ تَوْبَتِهِ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا) يَعْنِي بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ

ص: 70

قَالَ (فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ كُرِهَ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ) وَمَعْنَى الْكَرَاهِيَةِ هَاهُنَا تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ وَانْتِفَاءُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِلْقَتْلِ، وَالْعَرْضُ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ.

(وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقْتَلُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُقْتَلُ لِمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ رِدَّةَ الرَّجُلِ مُبِيحَةٌ لِلْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ مُتَغَلَّظَةٌ فَتُنَاطُ بِهَا عُقُوبَةٌ مُتَغَلَّظَةٌ وَرِدَّةُ الْمَرْأَةِ تُشَارِكُهَا فِيهَا فَتُشَارِكُهَا فِي مُوجِبِهَا.

(وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقْتَلُ) فَإِنْ قَتَلَهَا رَجُلٌ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}

ص: 71

وَلَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ» ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ تَأْخِيرُ الْأَجْزِيَةِ إلَى دَارِ الْآخِرَةِ إذْ تَعْجِيلُهَا يُخِلُّ بِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْهُ دَفْعًا لِشَرٍّ نَاجِزٍ وَهُوَ الْحِرَابُ، وَلَا يَتَوَجَّهُ ذَلِكَ مِنْ النِّسَاءِ؛ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْبِنْيَةِ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَصَارَتْ الْمُرْتَدَّةُ كَالْأَصْلِيَّةِ قَالَ (وَلَكِنْ تُحْبَسُ حَتَّى تُسْلِمَ)؛ لِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ عَنْ إيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَتُجْبَرُ عَلَى إيفَائِهِ بِالْحَبْسِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَتُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً.

وَلِأَنَّ رِدَّةَ الرَّجُلِ مُبِيحَةٌ لِلْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ مُتَغَلِّظَةٌ) وَكُلُّ مَا هُوَ جِنَايَةٌ مُتَغَلِّظَةٌ (يُنَاطُ بِهَا عُقُوبَةٌ مُتَغَلِّظَةٌ، وَرِدَّةُ الْمَرْأَةِ تُشَارِكُ رِدَّةَ الرَّجُلِ فِي هَذِهِ الْعِلَّةِ فَيَجِبُ أَنْ تُشَارِكَهَا فِي مُوجَبِهَا) لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْعِلَّةِ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمَعْلُولِ وَصَارَ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ مَا يُدْرَأُ بِالرَّأْيِ وَلَنَا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ» وَلِأَنَّ الْقَتْلَ جَزَاءُ الْكُفْرِ (وَالْأَصْلُ فِي الْأَجْزِيَةِ تَأْخِيرُهَا إلَى دَارِ الْجَزَاءِ وَهِيَ الْآخِرَةُ لِأَنَّ تَعْجِيلَهَا يُخِلُّ بِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ) الَّذِي هُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إظْهَارُ عِلْمِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَمْتَنِعُونَ خَوْفًا مِنْ لُحُوقِهِ فَصَارُوا فِي الْمَعْنَى كَالْمَجْبُورِينَ وَفِيهِ إخْلَالٌ بِالِابْتِلَاءِ (وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْهُ) أَيْ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إلَى تَعْجِيلِ بَعْضِهَا (دَفْعًا لِشَرٍّ نَاجِزٍ وَهُوَ الْحِرَابُ، وَلَا يَتَوَجَّهُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ) لِأَنَّ بِنْيَتَهُنَّ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِذَلِكَ (بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَصَارَتْ الْمُرْتَدَّةُ كَالْأَصْلِيَّةِ) وَالْكَافِرَةُ الْأَصْلِيَّةُ لَا تُقْتَلُ فَكَذَا الْمُرْتَدَّةُ. وَمَا قِيلَ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ مُرْتَدَّةً» فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَقْتُلْهَا بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ بَلْ لِأَنَّهَا كَانَتْ سَاحِرَةً شَاعِرَةً تَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ لَهَا ثَلَاثُونَ ابْنًا وَهِيَ تُحَرِّضُهُمْ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِقَتْلِهَا. وَالْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُجْرًى عَنْ ظَاهِرِهِ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ عَامٌّ لِحَقِّهِ خُصُوصٌ فَيُخَصَّصُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ (وَلَكِنْ تُحْبَسُ) ظَاهِرٌ وَأَعَادَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى ذِكْرِ الْجَبْرِ وَالْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ.

ص: 72

وَالْأَمَةُ يُجْبِرُهَا مَوْلَاهَا) أَمَّا الْجَبْرُ فَلِمَا ذَكَرْنَا، وَمِنْ الْمَوْلَى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، وَيُرْوَى تُضْرَبُ فِي كُلِّ أَيَّامٍ مُبَالَغَةً فِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِسْلَامِ.

قَالَ (وَيَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ أَمْوَالِهِ بِرِدَّتِهِ زَوَالًا مُرَاعًى،

وَقَوْلُهُ (وَالْأَمَةُ يُجْبِرُهَا مَوْلَاهَا) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا ارْتَدَّتْ الْأَمَةُ وَاحْتَاجَ الْمَوْلَى إلَى خِدْمَتِهَا دُفِعَتْ إلَيْهِ وَأَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (أَمَّا الْجَبْرُ فَلِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي أَنَّهَا امْتَنَعَتْ عَنْ إيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ (وَمِنْ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ) أَيْ الْجَبْرِ وَالِاسْتِخْدَامِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْكِتَابِ حَاجَةُ الْمَوْلَى إلَى خِدْمَتِهَا وَهِيَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَشَرَطَهَا فِي رِوَايَةٍ. قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُدْفَعُ إلَى الْمَوْلَى احْتَاجَ إلَيْهَا أَوْ اسْتَغْنَى. وَقَالَ: وَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ طَلَبُ الْمَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: لِلْمَوْلَى حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ جَمِيعًا فَكَيْفَ دُفِعَتْ إلَيْهِ الْأَمَةُ دُونَ الْعَبْدِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَبَى قُتِلَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الدَّفْعِ إلَى الْمَوْلَى

قَالَ (وَيَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ أَمْوَالِهِ بِرِدَّتِهِ زَوَالًا مُرَاعًى) أَيْ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالُهُ،

ص: 73

فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَتْ عَلَى حَالِهَا، قَالُوا: هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَزُولُ مِلْكُهُ)؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ، فَإِلَى أَنْ يُقْتَلَ يَبْقَى مِلْكُهُ كَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ. وَلَهُ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا حَتَّى يُقْتَلَ، وَلَا قَتْلَ إلَّا بِالْحِرَابِ، وَهَذَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ مَدْعُوٌّ إلَى الْإِسْلَامِ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ وَيُرْجَى عَوْدُهُ إلَيْهِ فَتَوَقَّفْنَا فِي أَمْرِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ جُعِلَ الْعَارِضُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا وَلَمْ يَعْمَلْ السَّبَبُ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلَحَاقِهِ اسْتَقَرَّ كُفْرُهُ فَيَعْمَلُ السَّبَبُ عَمَلَهُ وَزَالَ مِلْكُهُ.

فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَتْ عَلَى حَالِهَا، قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ (هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَزُولُ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ) وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ يَجِبُ عَدَمُ زَوَالِ مِلْكِهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ مُوجَبِ التَّكْلِيفِ إلَّا بِالْمِلْكِ، فَيَبْقَى مِلْكُهُ (إلَى أَنْ يُقْتَلَ كَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ) وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُكَلَّفٌ مُبَاحُ الدَّمِ (وَلَهُ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا) بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقْتَلُ (وَلَا قَتْلَ إلَّا بِالْحِرَابِ) فَكَانَ الْقَتْلُ هَاهُنَا مُسْتَلْزِمًا لِلْحِرَابِ لِأَنَّ نَفْسَ الْكُفْرِ لَيْسَ بِمُبِيحٍ لَهُ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ الْأَعْمَى وَالْمُقْعَدُ وَالشَّيْخُ الْفَانِي، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْمَلْزُومُ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِمَّنْ يَقْتُلُ فَلَا بُدَّ مِنْ لَازِمِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ حَرْبِيًّا (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُهُ حَرْبِيًّا مَقْهُورًا تَحْتَ أَيْدِينَا (يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ) لِأَنَّ الْمَقْهُورِيَّةَ أَمَارَةُ الْمَمْلُوكِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ مَقْهُورًا ارْتَفَعَتْ مَالِكِيَّتُهُ، وَارْتِفَاعُهَا يَسْتَلْزِمُ ارْتِفَاعَ الْمِلْكِ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْمَالِكِيَّةِ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ مُحَالٌ (غَيْرَ أَنَّهُ مَدْعُوٌّ إلَى الْإِسْلَامِ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ وَعَوْدُهُ مَرْجُوٌّ) وَذَلِكَ يُوجِبُ بَقَاءَ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّهُ حَيٌّ مُكَلَّفٌ يَحْتَاجُ إلَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ أَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الْأَوَّلِ يَزُولُ مِلْكُهُ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الثَّانِي لَا يَزُولُ (فَتَوَقَّفْنَا فِي أَمْرِهِ) وَقُلْنَا بِزَوَالٍ مَوْقُوفٍ (فَإِنْ أَسْلَمَ جُعِلَ الْعَارِضُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا وَلَمْ يَعْمَلْ السَّبَبُ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلَحَاقِهِ اسْتَقَرَّ كُفْرُهُ فَعَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ وَزَالَ مِلْكُهُ) لَا يُقَالُ: إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَخْرُجَ الْمَالُ عَنْ مِلْكِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى هَذَا الدَّلِيلِ

ص: 74

قَالَ (وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ انْتَقَلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي إسْلَامِهِ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَيْئًا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: كِلَاهُمَا لِوَرَثَتِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كِلَاهُمَا فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ، ثُمَّ هُوَ مَالُ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ فَيَكُونُ فَيْئًا. وَلَهُمَا أَنَّ مِلْكَهُ فِي الْكَسْبَيْنِ بَعْدَ الرِّدَّةِ بَاقٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَيَنْتَقِلُ بِمَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ وَيَسْتَنِدُ إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ إذْ الرِّدَّةُ سَبَبُ الْمَوْتِ فَيَكُونُ تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ.

فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ إذَا تَسَاوَى الْجِهَتَانِ وَأَفْضَى إلَى الشَّكِّ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ جِهَةَ الْخُرُوجِ ظَنٌّ وَجِهَةُ عَدَمِهِ دُونَهُ فَيَلْزَمُ التَّوَقُّفُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ احْتِرَازًا عَنْ إحْبَاطِ طَاعَاتِهِ وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَتَجْدِيدِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الِارْتِدَادَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا قَدْ عَمِلَ عَمَلَهُ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ) أَعَادَهُ لِأَنَّهُ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ رحمه الله، وَالْأَوَّلُ كَانَ لَفْظُهُ ذَكَرَهُ شَرْحًا لِلْكَلَامِ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ هُوَ مَالُ حَرْبِيٍّ فَيَكُونُ فَيْئًا) يَعْنِي يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِيَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ إلَخْ. وَقَوْلُهُ (وَيَسْتَنِدُ) يَعْنِي التَّوْرِيثَ (إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ) فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ فَوَرِثَهُ وَرَثَتُهُ مِنْهُ مِنْ وَقْتِ الْإِسْلَامِ

ص: 75

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ لِعَدَمِهِ قَبْلَهَا وَمِنْ شَرْطِهِ وُجُودُهُ، ثُمَّ إنَّمَا يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ حَالَةَ الرِّدَّةِ وَبَقِيَ وَارِثًا إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا لِلِاسْتِنَادِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ عِنْدَ الرِّدَّةِ، وَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ عِنْدَ الْمَوْتِ

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ) أَيْ اسْتِنَادُ التَّوْرِيثِ (فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِهِ) أَيْ لِوُجُودِ الْكَسْبِ (قَبْلَ الرِّدَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ لِعَدَمِهِ قَبْلَهَا) أَيْ لِعَدَمِ الْكَسْبِ قَبْلَ الرِّدَّةِ (وَمِنْ شَرْطِهِ وُجُودُهُ) قَبْلَهَا أَيْ وَمِنْ شَرْطِ اسْتِنَادِ التَّوْرِيثِ وُجُودُ الْكَسْبِ قَبْلَ الرِّدَّةِ لِيَكُونَ فِيهِ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ. لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا بِالتَّوْرِيثِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ لَزِمَ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ (ثُمَّ إنَّمَا يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ حَالَةَ الرِّدَّةِ وَبَقِيَ وَارِثًا إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ) حَتَّى لَوْ حَدَثَ لَهُ وَارِثٌ بَعْدَ الرِّدَّةِ بِأَنْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ أَوْ وَلَدٌ لَهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ رِدَّتِهِ لَا يَرِثُهُ (فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ (اعْتِبَارًا لِلِاسْتِنَادِ) يَعْنِي أَنَّ الرِّدَّةَ يَثْبُتُ بِهَا الْإِرْثُ بَعْدَ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ وَالْحُكْمِ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ قَبْلَ وُجُودِهَا، فَإِذَا وُجِدَتْ صَارَ كَأَنَّ الْوَارِثَ وَرِثَهُ حِينَ الرِّدَّةِ فَلِأَجْلِ هَذَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا إلَى وُجُودِ أَحَدِهِمَا (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (أَنَّهُ يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ عِنْدَ الرِّدَّةِ ثُمَّ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ) أَيْ بِمَوْتِ الْوَارِثِ (بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ) فِي التَّوْرِيثِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ قَبْلَ قِسْمَةِ مِيرَاثِهِ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ وَلَكِنْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ فَهَذَا كَذَلِكَ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، قِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ (أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ عِنْدَ الْمَوْتِ) يَعْنِي أَحَدَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا

ص: 76

لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَالْحَادِثِ قَبْلَ انْعِقَادِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الْحَادِثِ مِنْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.

وَتَرِثُهُ امْرَأَتُهُ الْمُسْلِمَةُ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فَارًّا، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ الرِّدَّةِ.

وَقْتَ الرِّدَّةِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَهُ (لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَالْحَادِثِ قَبْلَ انْعِقَادِهِ كَمَا فِي الْوَلَدِ الْحَادِثِ مِنْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ) فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ فَيَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ.

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ يُشْتَرَطُ الْوَصْفَانِ وَهُمَا كَوْنُهُ وَارِثًا وَقْتَ الرِّدَّةِ وَكَوْنُهُ بَاقِيًا إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ وَارِثًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ أَوْ حَدَثَ وَارِثٌ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَإِنَّهُمَا لَا يَرِثَانِ. وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يُشْتَرَطُ الْوَصْفُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي. وَعَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ يُشْتَرَطُ الْوَصْفُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ

(وَتَرِثُهُ امْرَأَتُهُ الْمُسْلِمَةُ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فَارًّا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا) لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلْهَلَاكِ كَالْمَرَضِ فَأَشْبَهَ رِدَّتَهُ الَّتِي حَصَلَتْ بِهَا الْبَيْنُونَةُ لِلطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، وَالطَّلَاقُ الْبَائِنُ حَالَةَ الْمَرَضِ يُوجِبُ الْإِرْثَ إذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَبُو حَنِيفَةَ يُسْنِدُ التَّوْرِيثَ إلَى مَا قَبْلَ الرِّدَّةِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَتَفَاوَتَ الْحُكْمُ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّ الرِّدَّةَ مَوْتٌ وَامْرَأَةُ الْمَيِّتِ تَرِثُهُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَوْتَ الْحَقِيقِيَّ سَبَبٌ لِلْإِرْثِ حَقِيقَةً فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُهَا، وَأَمَّا الرِّدَّةُ فَإِنَّهَا جُعِلَتْ مَوْتًا حُكْمًا لِيَكُونَ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَهِيَ ضَعِيفَةٌ فِي السَّبَبِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْوِيَتِهَا بِمَا هُوَ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ مِنْ الدُّخُولِ وَقِيَامِ الْعِدَّةِ. .

ص: 77

وَالْمُرْتَدَّةُ كَسْبُهَا لِوَرَثَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا حِرَابَ مِنْهَا فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْفَيْءِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيَرِثُهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ إنْ ارْتَدَّتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ لِقَصْدِهَا إبْطَالَ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَا يَرِثُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُ بِمَالِهَا بِالرِّدَّةِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ.

قَالَ: (وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَحَلَّتْ

وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه) فَإِنَّ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا حِرَابَ مِنْهَا، وَمَعْنَاهُ فَلَا قَتْلَ إذْ ذَاكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُلَازَمَةِ.

وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْتَلُ وَالرَّجُلُ يُقْتَلُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ عِصْمَةَ الْمَالِ تَبَعٌ لِعِصْمَةِ النَّفْسِ، وَبِالرِّدَّةِ لَا تَزُولُ عِصْمَةُ نَفْسِهَا حَتَّى لَا تُقْتَلَ فَكَذَلِكَ عِصْمَةُ مَالِهَا بِخِلَافِ الرَّجُلِ، فَلَمَّا كَانَتْ عِصْمَةُ مَالِهَا بَاقِيَةً بَعْدَ رِدَّتِهَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ مِلْكَهَا فَيَكُونُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهَا (وَيَرِثُهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ إنْ ارْتَدَّتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرِثَهَا لِأَنَّ فِرَارَ الزَّوْجِ إنَّمَا كَانَ يَتَحَقَّقُ إذَا مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي مَرَضِهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي عِدَّتِهِ ثُمَّ هَاهُنَا لَا عِدَّةَ عَلَى الرَّجُلِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرِثَهَا الزَّوْجُ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (لِقَصْدِهَا إبْطَالَ حَقِّهِ) وَبَيَانُهُ أَنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِمَالِهَا بِمَرَضِهَا فَكَانَتْ بِالرِّدَّةِ قَاصِدَةً إبْطَالَ حَقِّهِ فَارَّةً عَنْ مِيرَاثِهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهَا قَصْدُهَا كَمَا فِي جَانِبِ الزَّوْجِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً حِينَ ارْتَدَّتْ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ فَلَمْ تَصِرْ مُشْرِفَةً عَلَى الْهَلَاكِ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَلَا يَكُونُ فِي حُكْمِ الْفَارَّةِ الْمَرِيضَةِ فَلَا يَرِثُ زَوْجُهَا مِنْهَا

(قَوْلُهُ وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا) إنْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحَكَمَ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ (عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَحَلَّتْ

ص: 78

الدُّيُونُ الَّتِي عَلَيْهِ وَنُقِلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ إلَى وَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ). وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْقَى مَالُهُ مَوْقُوفًا كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ غَيْبَةٍ فَأَشْبَهَ الْغَيْبَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَلَنَا أَنَّهُ بِاللَّحَاقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَهُمْ أَمْوَاتٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ كَمَا هِيَ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ الْمَوْتَى فَصَارَ كَالْمَوْتِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ لَحَاقُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَيْنَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ مَوْتُهُ ثَبَتَتْ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَاهَا كَمَا فِي الْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا عِنْدَ لَحَاقِهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ اللَّحَاقَ هُوَ السَّبَبُ وَالْقَضَاءُ

الدُّيُونُ الَّتِي عَلَيْهِ، وَنُقِلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ) عِنْدَنَا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: يَبْقَى مَالُهُ مَوْقُوفًا) وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِهِ (لِأَنَّهُ نَوْعُ غَيْبَةٍ فَأَشْبَهَ الْغَيْبَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) وَالْجَامِعُ كَوْنُهُ غَيْبَةً كَمَا تَرَى وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا (وَلَنَا أَنَّهُ بِاللِّحَاقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا) أَمَّا حَقِيقَةً فَلِأَنَّهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَاعْتِقَادُهُ كَاعْتِقَادِهِمْ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ لَمَّا أَبْطَلَ إحْرَازَهُ نَفْسَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ حِينَ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ صَارَ حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأُعْطِيَ حُكْمَ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُمْ كَالْمَيِّتِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ مُنْقَطِعَةٌ عَنْهُمْ (كَمَا هِيَ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ الْمَوْتَى إلَّا أَنَّ لِحَاقَهُ لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَيْنَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَوْتُهُ الْحُكْمِيُّ تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَاهَا) يَعْنِي قَوْلَهُ عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ إلَخْ (كَمَا فِي الْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ)(قَوْلُهُ ثُمَّ يُعْتَبَرُ) ظَاهِرٌ، وَالضَّمِيرُ فِي لِتَقَرُّرِهِ لِلِّحَاقِ، وَقِيلَ

ص: 79

لِتَقَرُّرِهِ بِقَطْعِ الِاحْتِمَالِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَقْتَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَوْتًا بِالْقَضَاءِ، وَالْمُرْتَدَّةُ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. .

(وَتُقْضَى الدُّيُونُ الَّتِي لَزِمَتْهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ، وَمَا لَزِمَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ مِنْ الدُّيُونِ يُقْضَى مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعَنْهُ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ وَعَنْهُ عَلَى عَكْسِهِ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالسَّبَبَيْنِ مُخْتَلِفٌ. وَحُصُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ فَيُقْضَى كُلُّ دَيْنٍ مِنْ الْكَسْبِ الْمُكْتَسَبِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ.

وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ مِلْكُهُ حَتَّى يَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهِ، وَمِنْ شَرْطِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ الْفَرَاغُ عَنْ حَقِّ الْمُوَرِّثِ

لِلسَّبَبِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ

(قَوْلُهُ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) هُوَ رِوَايَةُ زُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه (أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكَسْبِ الْإِسْلَامِ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (قَوْلُهُ وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ (عَلَى عَكْسِهِ) وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ بِكَسْبِ الرِّدَّةِ (قَوْلُهُ وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالسَّبَبَيْنِ) أَيْ الْمُدَايَنَتَيْنِ (مُخْتَلِفٌ) وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالسَّبَبَيْنِ مُخْتَلِفٌ وَالْمُؤَدَّى مِنْ كَسْبٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ، فَالْمُسْتَحَقُّ بِالسَّبَبَيْنِ غَيْرُ مُؤَدًّى مِنْ كَسْبٍ وَاحِدٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَدَائِهِ مِنْ كَسْبَيْنِ تَحْقِيقًا لِلِاخْتِلَافِ وَحُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الْمُسْتَحَقُّ وَهُوَ الدَّيْنُ فَيُضَافُ أَدَاؤُهُ إلَيْهِ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ وَقَوْلُهُ (وَجْهُ الثَّانِي) تَقْرِيرُهُ أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ مِلْكُهُ وَكُلُّ مَا هُوَ مِلْكُهُ يَخْلُفُهُ الْوُرَّاثُ فِيهِ، وَمِنْ شَرْطِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ

ص: 80

فَيُقَدَّمُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ، أَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ؛ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالرِّدَّةِ عِنْدَهُ فَلَا يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى مِنْهُ، كَالذِّمِّيِّ إذَا مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ يَكُونُ مَالُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُقْضَى مِنْهُ كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَجْهُ الثَّالِثِ أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَكَسْبَ الرِّدَّةِ خَالِصُ حَقِّهِ، فَكَانَ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ أَوْلَى إلَّا إذَا تَعَذَّرَ بِأَنْ لَمْ يَفِ بِهِ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ تَقْدِيمًا لِحَقِّهِ.

الْفَرَاغُ عَنْ حَقِّ الْمُوَرِّثِ فَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ، وَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالرِّدَّةِ عِنْدَهُ فَلَا يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبُ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِلْكَهُ كَيْفَ يُؤَدَّى مِنْهُ دَيْنُهُ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (كَالذِّمِّيِّ إذَا مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ) فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مِلْكٌ فِيمَا اكْتَسَبَهُ بَلْ يَكُونُ مَالُهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُقْضَى مِنْهُ. وَقَوْلُهُ (وَجْهُ الثَّالِثِ أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ حَقُّ الْوَرَثَةِ) تَقْرِيرُهُ: كَسْبُ الْإِسْلَامِ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَكَسْبُ الرِّدَّةِ خَالِصُ حَقِّهِ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ أَوْلَى مِنْهُ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ بِأَنْ لَمْ يَفِ بِهِ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ تَقْدِيمًا لِحَقِّهِ. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ مَا قِيلَ إنَّ هَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: أَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالرِّدَّةِ.

وَالثَّانِي أَنَّ كَوْنَ كَسْبِ الْإِسْلَامِ حَقَّ الْوَرَثَةِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ حَقَّهُمْ إنَّمَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالتَّرِكَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنْ حَقِّ الْمُوَرِّثِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ وَاجِبٌ وَمِنْ حَقِّ غَيْرِهِ مُمْتَنِعٌ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ فَكَانَ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ أَوْلَى. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ خُلُوصِ الْحَقِّ هَاهُنَا هُوَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ حَقُّ الْغَيْرِ بِهِ كَمَا ثَبَتَ التَّعَلُّقُ فِي مَالِ الْمَرِيضِ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ خَالِصَ حَقِّهِ كَوْنُهُ مِلْكًا لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ خَالِصُ حَقِّهِ وَلَيْسَ بِمِلْكٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا آنِفًا. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الدَّيْنَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، لَا بِمَا زَالَ مِنْ قَبْلُ، وَكَسْبُ الْإِسْلَامِ قَدْ زَالَ وَانْتَقَلَ بِالرِّدَّةِ إلَى الْوَرَثَةِ، وَكَسْبُهُ فِي الرِّدَّةِ هُوَ مَالُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِهِ. وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ خَالِصَ حَقِّهِ بِالتَّوْبَةِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا خَالِصَ حَقِّهِ، وَالْآخَرُ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ خَالِصَ حَقِّهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْلَى. هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه. وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْ الْكَسْبَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا

ص: 81

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ الْكَسْبَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُهُ حَتَّى يَجْرِيَ الْإِرْثُ فِيهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: (وَمَا بَاعَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ أَمْوَالِهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ أَسْلَمَ صَحَّتْ عُقُودُهُ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ مَا صَنَعَ فِي الْوَجْهَيْنِ. اعْلَمْ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عَلَى أَقْسَامٍ: نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالِاسْتِيلَادِ وَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَتَمَامِ الْوِلَايَةِ. وَبَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالنِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَلَا مِلَّةَ لَهُ.

مِلْكُهُ حَتَّى يَجْرِيَ الْإِرْثُ فِيهِمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَذْهَبِهِمَا.

قَالَ (وَمَا بَاعَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ) ذَكَرَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رحمهم الله فِي نَفَاذِهِ وَتَوَقُّفِهِ وَقَالَ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنَّمَا قَالَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْقُدُورِيِّ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِيهِ مَذْكُورًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَ أَقْسَامَ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ وَهُوَ وَاضِحٌ إلَّا مَا نَذْكُرُهُ، فَقَوْلُهُ يَجُوزُ مَا صُنِعَ فِي الْوَجْهَيْنِ يُرِيدُ بِأَحَدِهِمَا الْإِسْلَامَ وَبِالثَّانِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ وَاللِّحَاقَ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَتَمَامِ الْوِلَايَةِ نَشْرٌ لِقَوْلِهِ كَالِاسْتِيلَادِ وَالطَّلَاقِ، فَقَوْلُهُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ: يَعْنِي فِي الِاسْتِيلَادِ، فَلَوْ وُلِدَتْ جَارِيَتُهُ وَادَّعَى نَسَبَهُ يَثْبُتُ مِنْهُ وَيَرِثُهُ هَذَا الْوَلَدُ مَعَ وَرَثَتِهِ وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مَالِهِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْأَبِ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ وَاسْتِيلَادُ الْأَبِ صَحِيحٌ، فَكَذَلِكَ اسْتِيلَادُهُ حَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا يُكْتَفَى فِيهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ. وَقَوْلُهُ (وَتَمَامُ الْوِلَايَةِ) يَعْنِي فِي الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ مَعَ قُصُورِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْفُرْقَةُ تَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالِارْتِدَادِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الطَّلَاقُ مِنْ الْمُرْتَدِّ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يَقَعُ طَلَاقُهُ كَمَا لَوْ أَبَانَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا عَلَى مَا عُرِفَ، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُوجَدَ الِارْتِدَادُ وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ كَمَا لَوْ ارْتَدَّا مَعًا (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ (يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَلَا مِلَّةَ لَهُ) لِأَنَّهُ تَرْكُ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَا يُقَرُّ عَلَى مَا دَخَلَ فِيهِ لِوُجُوبِ الْقَتْلِ. وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِلَّةِ إنْ كَانَ الْإِسْلَامُ يَنْتَقِضُ بِنِكَاحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَبَائِحِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْمِلَّةَ السَّمَاوِيَّةَ يَنْتَقِضُ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مِلَّةٌ سَمَاوِيَّةٌ لَا مُقَرَّرَةٌ

ص: 82

وَمَوْقُوفٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالْمُفَاوَضَةِ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُرْتَدِّ مَا لَمْ يُسْلِمْ. وَمُخْتَلَفٌ فِي تَوَقُّفِهِ وَهُوَ مَا عَدَدْنَاهُ. لَهُمَا أَنَّ الصِّحَّةَ تَعْتَمِدُ الْأَهْلِيَّةَ وَالنَّفَاذَ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ، وَلَا خَفَاءَ فِي وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا، وَكَذَا الْمِلْكُ لِقِيَامِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلِهَذَا لَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ يَرِثُهُ وَلَوْ مَاتَ وَلَدُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ لَا يَرِثُهُ فَتَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ.

إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَصِحُّ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُهُ إلَى الْإِسْلَامِ، إذْ الشُّبْهَةُ تُزَاحُ فَلَا يُقْتَلُ وَصَارَ كَالْمُرْتَدَّةِ.

وَلَا مُحَرَّفَةٌ، وَقَدْ حُكِمَ بِصِحَّةِ نِكَاحِهِمْ وَلِهَذَا يَحْكُمُ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَجَرَيَانِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْهُمْ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِلَّةِ مَا يَتَدَيَّنُونَ بِهِ نِكَاحًا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ وَيَجْرِي بِهِ التَّوَارُثُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِأَنَّ مَا هُوَ الْغَرَضُ مِنْ النِّكَاحِ يَحْصُلُ عِنْدَ ذَلِكَ وَهُوَ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ، وَالْمُرْتَدُّ وَالْمُرْتَدَّةُ لَيْسَا عَلَى تِلْكَ الْمِلَّةِ فَلَا يَصِحُّ نِكَاحُهُمَا، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ وَالْمُرْتَدَّةُ تُحْبَسُ فَكَيْفَ يَتِمُّ لَهُمَا هَذِهِ الْأَغْرَاضُ مِنْ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ الْمَجُوسِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ فَإِنَّهُمْ دَانُوا دِينًا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ إنْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ مِنْ مَحَارِمِهِ فَكَانَتْ الْمَصَالِحُ مُنْتَظِمَةً. وَقَوْلُهُ (كَالْمُفَاوَضَةِ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إنْ فَاوَضَ مُسْلِمًا تَوَقَّفَ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ قَضَى بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ بِالِاتِّفَاقِ (قَوْلُهُ وَهُوَ مَا عَدَدْنَاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَمَا بَاعَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ إلَخْ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ يَحْتَاجُ إلَخْ. وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا لَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ) تَوْضِيحٌ لِوُجُودِ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ: يَعْنِي فَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ زَائِلًا لِمَا وَرِثَهُ هَذَا الْوَلَدُ لِكَوْنِ عُلُوقِهِ بَعْدَ الِارْتِدَادِ. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ مَاتَ وَلَدُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ) يَعْنِي لَوْ مَاتَ وَلَدُهُ الْمَوْلُودُ قَبْلَ الرِّدَّةِ بَعْدَهَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ لَا يَرِثُهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِلْكُهُ قَائِمًا بَعْدَ الرِّدَّةِ لَوَرِثَهُ هَذَا الْوَلَدُ لِأَنَّهُ كَانَ حَيًّا وَقْتَ رِدَّةِ الْأَبِ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُ الْأَهْلِيَّةِ وَقِيَامُ الْمِلْكِ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ لَكِنْ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ.

ص: 83

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِحُّ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ مَنْ انْتَحَلَ إلَى نِحْلَةٍ لَا سِيَّمَا مُعْرِضًا عَمَّا نَشَأَ عَلَيْهِ قَلَّمَا يَتْرُكُهُ فَيُفْضِي إلَى الْقَتْلِ ظَاهِرًا، بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَوَقُّفِ الْمِلْكِ وَتَوَقُّفُ التَّصَرُّفَاتِ بِنَاءً عَلَيْهِ، وَصَارَ كَالْحَرْبِيِّ يَدْخُلُ دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ فَيُؤْخَذُ وَيُقْهَرُ وَتَتَوَقَّفُ تَصَرُّفَاتُهُ؛ لِتَوَقُّفِ حَالِهِ، فَكَذَا الْمُرْتَدُّ، وَاسْتِحْقَاقُهُ الْقَتْلَ لِبُطْلَانِ سَبَبِ الْعِصْمَةِ فِي الْفَصْلَيْنِ فَأَوْجَبَ خَلَلًا فِي الْأَهْلِيَّةِ، بِخِلَافِ الزَّانِي وَقَاتِلِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِي ذَلِكَ جَزَاءٌ عَلَى الْجِنَايَةِ.

وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَوَقُّفِ الْمِلْكِ) إشَارَةٌ إلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَهُ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا (وَتَوَقُّفِ التَّصَرُّفَاتِ بِنَاءً عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى تَوَقُّفِ الْمِلْكِ. وَقَوْلُهُ (لِتَوَقُّفِ حَالِهِ) أَيْ حَالِ الْحَرْبِيِّ بَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ وَالْقَتْلِ وَالْمَنِّ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الْمُرْتَدُّ) يَعْنِي: حَالُهُ يَتَوَقَّفُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْإِسْلَامِ، ثُمَّ هُنَاكَ إنْ اُسْتُرِقَّ أَوْ قُتِلَ بَطَلَ وَإِنْ تُرِكَ نَفَذَ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الَّذِي دَخَلَ دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ يَكُونُ فَيْئًا فَكَيْفَ تَتَوَقَّفُ تَصَرُّفَاتُهُ، وَالِاعْتِرَافُ بِجَوَازِ الْمَنِّ يُسْقِطُ الِاعْتِرَاضَ. وَقَوْلُهُ (وَاسْتِحْقَاقُهُ الْقَتْلَ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلَا خَفَاءَ فِي الْأَهْلِيَّةِ. وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْأَهْلِيَّةِ لِأَنَّ الصِّحَّةَ تَقْتَضِي أَهْلِيَّةً كَامِلَةً وَلَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فِي الْمُرْتَدِّ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فِي الْحَرْبِيِّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ لِبُطْلَانِ سَبَبِ الْعِصْمَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ آدَمِيًّا مُسْلِمًا وَذَلِكَ يُوجِبُ الْخَلَلَ فِي الْأَهْلِيَّةِ. وَقَوْلُهُ (فِي الْفَصْلَيْنِ) يُرِيدُ بِهِ فَصْلَ الْحَرْبِيِّ وَفَصْلَ الْمُرْتَدِّ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ اسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ مُوجِبًا لِخَلَلٍ فِي الْأَهْلِيَّةِ مُؤَثِّرًا فِي تَوَقُّفِ التَّصَرُّفَاتِ لَكَانَ تَصَرُّفَاتُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الرَّجْمَ وَقَاتِلِ الْعَمْدِ مَوْقُوفَةً لِاسْتِحْقَاقِهِمَا الْقَتْلَ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِي ذَلِكَ) يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ الْمُوجِبَ لِلْخَلَلِ وَهُوَ مَا كَانَ بِاعْتِبَارِ بُطْلَانِ سَبَبِ الْعِصْمَةِ، وَالزَّانِي وَالْقَاتِلُ لَيْسَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِيهِمَا (جَزَاءٌ عَلَى الْجِنَايَةِ) وَقَوْلُهُ

ص: 84

وَبِخِلَافِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حَرْبِيَّةً؛ وَلِهَذَا لَا تُقْتَلُ.

(فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا فَمَا وَجَدَهُ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ مِنْ مَالِهِ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ)؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِيهِ لِاسْتِغْنَائِهِ، وَإِذَا عَادَ مُسْلِمًا احْتَاجَ إلَيْهِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا أَزَالَهُ الْوَارِثُ عَنْ مِلْكِهِ، وَبِخِلَافِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ صَحَّ بِدَلِيلٍ مُصَحَّحٍ فَلَا يُنْقَضُ، وَلَوْ جَاءَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا لِمَا ذَكَرْنَا.

وَبِخِلَافِ الْمَرْأَةِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَصَارَ كَالْمُرْتَدَّةِ.

قَالَ (فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِلِحَاقِهِ) أَيْ إذَا عَادَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ (مُسْلِمًا فَمَا وَجَدَهُ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ مِنْ مَالِهِ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ) لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِيهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ حَيْثُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ (وَإِذَا عَادَ مُسْلِمًا احْتَاجَ إلَيْهِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَارِثِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رحمه الله فِي هَذَا: وَلَوْ كَانَ هَذَا بَعْدَ مَوْتِهِ حَقِيقَةً بِأَنْ أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَعَادَهُ إلَى الدُّنْيَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ هَكَذَا إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ (بِخِلَافِ مَا إذَا أَزَالَهُ الْوَارِثُ عَنْ مِلْكِهِ) فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ لِأَنَّهُ أَزَالَهُ فِي وَقْتٍ كَانَ فِيهِ بِسَبِيلٍ مِنْ الْإِزَالَةِ فَنَفَذَتْ (وَبِخِلَافِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالْمُدَبَّرِينَ) فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِمْ (لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِعِتْقِهِمْ قَدْ صَحَّ بِدَلِيلٍ مُصَحَّحٍ) وَهُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ عَنْ وِلَايَةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ أَنْ يُمِيتَهُ حَقِيقَةً، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ وِلَايَتِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُمِيتَهُ حُكْمًا، فَإِذَا كَانَ قَضَاؤُهُ عَنْ وِلَايَةٍ نَفَذَ، وَالْعِتْقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ (وَلَوْ جَاءَ مُسْلِمًا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا) فَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ عَلَى حَالِهِمْ لَا يَعْتِقُونَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الدُّيُونِ فَهُوَ إلَى أَجَلِهِ كَمَا كَانَتْ (لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ

ص: 85

(وَإِذَا وَطِئَ الْمُرْتَدُّ جَارِيَةً نَصْرَانِيَّةً كَانَتْ لَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ ارْتَدَّ فَادَّعَاهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ وَهُوَ ابْنُهُ وَلَا يَرِثُهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مُسْلِمَةً وَرِثَهُ الِابْنُ إنْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ) أَمَّا صِحَّةُ الِاسْتِيلَادِ فَلِمَا قُلْنَا، وَأَمَّا الْإِرْثُ فَلِأَنَّ الْأُمَّ إذَا كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً وَالْوَلَدُ تَبَعٌ لَهُ لِقُرْبِهِ إلَى الْإِسْلَامِ لِلْجَبْرِ عَلَيْهِ فَصَارَ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ الْمُرْتَدَّ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُسْلِمَةً فَالْوَلَدُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا خَيْرُهُمَا دِينًا وَالْمُسْلِمُ يَرِثُ الْمُرْتَدَّ.

إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ لِحَاقُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي.

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا وَطِئَ الْمُرْتَدُّ جَارِيَةً نَصْرَانِيَّةً) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (فَلِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ ثُمَّ حُكْمُ تَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حُكْمُ الْأَكْثَرِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ أَبَاهُ الْمُرْتَدَّ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ نَصْرَانِيَّةً، لِأَنَّا تَيَقَّنَّا حِينَئِذٍ بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَيَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبِيهِ، وَأَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ

ص: 86

(وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِمَالِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَهُوَ فَيْءٌ، فَإِنْ لَحِقَ ثُمَّ رَجَعَ وَأَخَذَ مَالًا وَأَلْحَقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَظُهِرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَوَجَدَتْهُ الْوَرَثَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُدَّ عَلَيْهِمْ)؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَالٌ لَمْ يَجْرِ فِيهِ الْإِرْثُ، وَالثَّانِيَ انْتَقَلَ إلَى الْوَرَثَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَكَانَ الْوَارِثُ مَالِكًا قَدِيمًا.

(وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ عَبْدٌ فَقُضِيَ بِهِ لِابْنِهِ وَكَاتَبَهُ الِابْنُ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا فَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ،

لَمْ يَتَيَقَّنْ بِعُلُوقِ الْوَلَدِ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَلَا يُجْعَلُ الْوَلَدُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْأَبِ قَبْلَ الرِّدَّةِ

(وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِمَالِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَهُوَ فَيْءٌ) أَيْ الْمَالُ فَيْءٌ دُونَ نَفْسِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فَيْئًا دُونَ نَفْسِهِ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ (وَإِنْ لَحِقَ ثُمَّ رَجَعَ) يَعْنِي وَإِنْ لَحِقَ وَحَكَمَ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ ثُمَّ رَجَعَ (وَأَخَذَ مَالًا وَأَلْحَقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَظَهَرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَوَجَدَتْهُ الْوَرَثَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُدَّ عَلَيْهِمْ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَالٌ لَمْ يَجْرِ فِيهِ الْإِرْثُ فَهُوَ مَالُ الْحَرْبِيِّ، وَإِذَا ظَهَرَ عَلَى مَالِ الْحَرْبِيِّ فَهُوَ فَيْءٌ لَا مَحَالَةَ (وَالثَّانِي انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ فَكَانَ الْوَارِثُ مَالِكًا قَدِيمًا) وَالْمَالِكُ الْقَدِيمُ إذَا وَجَدَ مَالَهُ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ مَجَّانًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي حَكَمَ بِلِحَاقِهِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا؛ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُرَدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَتَى لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَعُودُ فَكَانَ مَيِّتًا ظَاهِرًا. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ السِّيَرِ يَكُونُ فَيْئًا لَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ إلَّا بِالْقَضَاءِ

(وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ عَبْدٌ فَقَضَى بِهِ لِابْنِهِ فَكَاتَبَهُ الِابْنُ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا فَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ،

ص: 87

وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْوَلَاءُ لِلْمُرْتَدِّ الَّذِي أَسْلَمَ)؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى بُطْلَانِ الْكِتَابَةِ لِنُفُوذِهَا بِدَلِيلٍ مُنَفِّذٍ، فَجَعَلْنَا الْوَارِثَ الَّذِي هُوَ خَلَفُهُ كَالْوَكِيلِ مِنْ جِهَتِهِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ فِيهِ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَالْوَلَاءُ لِمَنْ يَقَعُ الْعِتْقُ عَنْهُ.

(وَإِذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ قَتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَالدِّيَةُ فِي مَالٍ اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ خَاصَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: الدِّيَةُ فِيمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ جَمِيعًا)؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمُرْتَدَّ؛ لِانْعِدَامِ النُّصْرَةِ فَتَكُونُ فِي مَالِهِ. وَعِنْدَهُمَا الْكَسْبَانِ جَمِيعًا مَالُهُ؛ لِنُفُوذِ تَصَرُّفَاتِهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَلِهَذَا يَجْرِي الْإِرْثُ فِيهِمَا عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَهُ مَالُهُ الْمُكْتَسَبُ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِنَفَاذِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ دُونَ الْمَكْسُوبِ فِي الرِّدَّةِ؛ لِتَوَقُّفِ تَصَرُّفِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَوَّلُ مِيرَاثًا عَنْهُ، وَالثَّانِي فَيْئًا عِنْدَهُ.

(وَإِذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُسْلِمِ عَمْدًا فَارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ

وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْوَلَاءُ لِلْمُرْتَدِّ الَّذِي أَسْلَمَ) أَمَّا جَوَازُ الْكِتَابَةِ (فَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى بُطْلَانِهَا لِنُفُوذِهَا بِدَلِيلٍ مُنَفَّذٍ) وَهُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِاللِّحَاقِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَبْقَى الْمُكَاتَبُ عَلَى مِلْكِ الِابْنِ أَوْ يَنْتَقِلَ إلَى الْأَبِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُخِلُّ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا عَادَ مُسْلِمًا أَخَذَ مَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فِي يَدِ وَارِثِهِ، وَلَا إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَجَعَلْنَا الْوَارِثَ الَّذِي هُوَ خَلَفُهُ كَالْوَكِيلِ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّ فِي الْوَكَالَةِ خِلَافَةً احْتِيَالًا لِبَقَاءِ حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي صِحَّةِ الْكِتَابَةِ فَكَأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي كِتَابَةِ عَبْدِهِ (وَحُقُوقُ الْعَقْدِ فِيهِ) أَيْ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ (تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ) وَأَمَّا أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُرْتَدِّ الَّذِي أَسْلَمَ فَلِأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَالْعِتْقُ إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْهُ بَعْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ مُسْلِمًا بَعْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ الَّذِي كَانَ لَهُ لَمْ يَبْقَ قَائِمًا حِينَئِذٍ.

قَالَ (وَإِذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ رَجُلًا) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.

وَقَوْلُهُ (لِانْعِدَامِ النُّصْرَةِ) يَعْنِي أَنَّ التَّعَاقُلَ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ، وَأَحَدٌ لَا يَنْصُرُ الْمُرْتَدَّ فَتَكُونُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ كَسَائِرِ دُيُونِهِ وَمَالُهُ هُوَ الْمُكْتَسَبُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ دُونَ الرِّدَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه (وَعِنْدَهُمَا الْكَسْبَانِ جَمِيعًا مَالُهُ) فَقَوْلُهُ وَعِنْدَهُ مَالُهُ الْمُكْتَسَبُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَكَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا لِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِيَفْصِلَهُ

ص: 88

ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى الْقَاطِعِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ لِلْوَرَثَةِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ السِّرَايَةَ حَلَّتْ مَحَلًّا غَيْرَ مَعْصُومٍ فَأُهْدِرَتْ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُرْتَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِهْدَارَ لَا يَلْحَقُهُ الِاعْتِبَارُ، أَمَّا الْمُعْتَبَرُ قَدْ يُهْدَرُ بِالْإِبْرَاءِ فَكَذَا بِالرِّدَّةِ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا لَحِقَ وَمَعْنَاهُ إذَا قُضِيَ بِلَحَاقِهِ فَلِأَنَّهُ صَارَ مَيِّتًا تَقْدِيرًا، وَالْمَوْتُ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ، وَإِسْلَامُهُ حَيَاةٌ حَادِثَةٌ فِي التَّقْدِيرِ فَلَا يَعُودُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، فَإِذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ وَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: فِي جَمِيعِ ذَلِكَ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ الرِّدَّةِ أَهْدَرَ السِّرَايَةَ فَلَا يَنْقَلِبُ

عَنْ الصِّفَةِ

(قَوْلُهُ أَمَّا الْأَوَّلُ) يَعْنِي مَا إذَا مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ (قَوْلُهُ فَأُهْدِرَتْ) يَعْنِي السِّرَايَةَ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تُهْدَرْ لَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي الْخَطَإِ لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ صَارَ نَفْسًا (بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُرْتَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ) فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْقَاطِعُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مَعْصُومًا وَقْتَ السِّرَايَةِ (لِأَنَّ الْإِهْدَارَ لَا يَلْحَقُهُ الِاعْتِبَارُ) يَعْنِي إذَا لَمْ يَقَعْ مُعْتَبَرًا ابْتِدَاءً لَا يَنْقَلِبُ مُعْتَبَرًا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُوجِبِ لَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا (أَمَّا الْمُعْتَبَرُ فَقَدْ يُهْدَرُ بِالْإِبْرَاءِ فَكَذَلِكَ بِالرِّدَّةِ. قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ وَأَسْلَمَ) يَعْنِي إذَا قَطَعَ يَدَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ (قَوْلُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ) أَيْ فِيمَا إذَا مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا أَوْ لَمْ يَلْحَقْ وَأَسْلَمَ وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ اعْتِرَاضَ الرِّدَّةِ أَهْدَرَ السِّرَايَةَ فَلَا يَنْقَلِبُ

ص: 89

بِالْإِسْلَامِ إلَى الضَّمَانِ، كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ. وَلَهُمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ وَتَمَّتْ فِيهِ فَيَجِبُ ضَمَانُ النَّفْسِ، كَمَا إذَا لَمْ تَتَخَلَّلْ الرِّدَّةُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِقِيَامِ الْعِصْمَةِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ قِيَامُهَا فِي حَالِ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَفِي حَالِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَحَالَةُ الْبَقَاءِ بِمَعْزِلٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَصَارَ كَقِيَامِ الْمِلْكِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْيَمِينِ.

بِالْإِسْلَامِ إلَى الضَّمَانِ) دَلِيلُهُ أَنَّ الرِّدَّةَ مَعْنًى لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ بِالسِّرَايَةِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَمُتْ عَلَيْهِ كَعَبْدٍ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ بَاعَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَوْ تَفَاسَخَا الْبَيْعَ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ لَمْ يَجِبْ إلَّا دِيَةُ الْيَدِ كَمَا لَوْ مَاتَ عَلَى الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعْنًى لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ بِالسِّرَايَةِ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْبَيْعِ إبْرَاءٌ عَنْ الْجِنَايَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَصَارَ كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ سَوَاءٌ مَاتَ مِنْ الْقَطْعِ أَوْ لَمْ يَمُتْ حَيْثُ لَا يَجِبُ ضَمَانُ النَّفْسِ فِي الْأَوَّلِ وَلَا ضَمَانُ الْيَدِ فِي الثَّانِي بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَارِّ أَنَّ الْمُهْدَرَ لَا يَلْحَقُهُ الِاعْتِبَارُ (وَلَهُمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ) لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَتَمَّتْ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَمْ يَلْحَقْ وَأَسْلَمَ فَيَجِبُ ضَمَانُ النِّصْفِ وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ

وَقَوْلُهُ (وَصَارَ كَقِيَامِ الْمِلْكِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْيَمِينِ) يَعْنِي إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ عَتَقَ، أَمَّا لَوْ عُدِمَ الْمِلْكُ عِنْدَ الْيَمِينِ أَوْ عِنْدَ الْحِنْثِ لَمْ يَعْتِقْ. وَفَرَّقَ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالْبَيْعِ بِأَنَّ الرِّدَّةَ لَيْسَتْ بِإِبْرَاءٍ وَلَا مُسْتَلْزِمَةً لَهُ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِتَبْدِيلِ الدِّينِ وَتَصِحُّ مِنْ غَيْرِ إبْرَاءٍ، إلَّا أَنَّهُ إذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ لِهَدْرِ دَمِهِ بِالرِّدَّةِ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ وُضِعَ لِقَطْعِ مِلْكِهِ وَالضَّمَانُ بَدَلُ مِلْكِهِ، فَإِذَا قُطِعَ الْأَصْلُ قَصْدًا فَقَدْ قُطِعَ الْبَدَلُ أَيْضًا فَصَارَ كَالْإِبْرَاءِ. وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رحمه الله فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قِيَاسٌ، وَقَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رضي الله عنهما اسْتِحْسَانٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا

ص: 90

(وَاذَا ارْتَدَّ الْمُكَاتَبُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَاكْتَسَبَ مَالًا فَأُخِذَ بِمَالِهِ وَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَقُتِلَ فَإِنَّهُ يُوَفِّي مَوْلَاهُ مُكَاتَبَتَهُ وَمَا بَقِيَ فَلِوَرَثَتِهِ) وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّ كَسْبَ الرِّدَّةِ مِلْكُهُ إذَا كَانَ حُرًّا، فَكَذَا إذَا كَانَ مُكَاتَبًا. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ بِالْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ لَا تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ فَكَذَا أَكْسَابُهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ بِالْأَقْوَى وَهُوَ الرِّقُّ، فَكَذَا بِالْأَدْنَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.

كَانَ الْقَاطِعُ هُوَ الَّذِي ارْتَدَّ فَقُتِلَ وَمَاتَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ بِالسِّرَايَةِ مُسْلِمًا. وَحُكْمُهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَمْدًا فَلَا شَيْءَ لَهُ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْعَمْدِ الْقَوَدُ، وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّهُ حِين قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ كَانَ مُسْلِمًا، وَجِنَايَةُ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَتْ خَطَأً عَلَى عَاقِلَتِهِ وَتَبِينُ بِالسِّرَايَةِ أَنَّ جِنَايَتَهُ كَانَتْ قَتْلًا فَلِهَذَا كَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ كَانَتْ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ فِي مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ أَحَدٌ.

وَقَوْلُهُ (وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ كَسْبَهُ مِلْكًا لَهُ إذَا كَانَ حُرًّا وَجَعَلَهُ مِلْكًا لَهُ إذَا كَانَ مُكَاتَبًا.

وَجْهُ الْفَرْقِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ لَا يَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِحَقِيقَةِ الْمَوْتِ فَكَذَا بِاللِّحَاقِ الَّذِي هُوَ شِبْهُ الْمَوْتِ، وَإِذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ الْعَقْدُ لَمْ تَتَوَقَّفْ الْأَكْسَابُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِهِ وَاسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ) أَيْ الْمُكَاتَبَ (لَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ بِالْأَقْوَى وَهُوَ الرِّقُّ فَكَذَا بِالْأَدْنَى) يَعْنِي الرِّدَّةَ (بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى) وَإِنَّمَا كَانَ الرِّقُّ أَقْوَى مِنْ الرِّدَّةِ فِي الْمَانِعِيَّةِ عَنْ التَّصَرُّفِ لِأَنَّ بَعْضَ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ نَافِذٌ بِالْإِجْمَاعِ كَالِاسْتِيلَادِ وَالطَّلَاقِ. وَعِنْدَهُمَا عَامَّةُ تَصَرُّفَاتِهِ نَافِذَةٌ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَمَمْنُوعٌ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ كُلِّهَا، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَتَوَقَّفْ تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ مَعَ كَوْنِهِ رَقِيقًا لَمْ يَتَوَقَّفْ تَصَرُّفُهُ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ مُرْتَدٌّ أَوْلَى. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رحمه الله: قُلْت لِشَيْخِي رحمه الله فِي هَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ مَنْعِ الرِّقِّ الْمُكَاتَبَ عَنْ التَّصَرُّفِ عَدَمُ مَنْعِ الرِّدَّةِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ جَازَ أَنْ يَمْنَعَاهُ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، لِأَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرًا كَمَا فِي الشَّاهِدَيْنِ، ثُمَّ اجْتَمَعَ هَاهُنَا لِلْمُكَاتَبِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ كَوْنُهُ مُكَاتَبًا وَرَقِيقًا وَمُرْتَدًّا، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا عِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ. قَالَ رحمه الله: أَمَّا الْكِتَابَةُ فَهِيَ مُطْلَقَةٌ لِلتَّصَرُّفِ لَا مَانِعَةٌ، وَأَمَّا الرِّقُّ وَالرِّدَّةُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ فِي الْمَنْعِ عَنْ التَّصَرُّفِ بِانْفِرَادِهِ فَلَا

ص: 91

(وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَحَبِلَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَوَلَدَتْ وَلَدًا وَوُلِدَ لِوَلَدِهِمَا وَلَدٌ فَظُهِرَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا فَالْوَلَدَانِ فَيْءٌ)؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْتَرَقُّ فَيَتْبَعُهَا وَلَدُهَا، وَيُجْبَرُ الْوَلَدُ الْأَوَّلُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُجْبَرُ وَلَدُ الْوَلَدِ

يَثْبُتُ الرُّجْحَانُ بِزِيَادَةِ الْعِلَّةِ، كَمَا إذَا أَقَامَ أَحَدُ الْمُدَّعِينَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ، بَلْ الرُّجْحَانُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِوَصْفٍ فِي الْعِلَّةِ لَا بِالْعِلَّةِ نَفْسِهَا إلَى هَذَا لَفْظُهُ. وَأَرَى أَنَّ الْجَوَابَ بِحَسَبِ النَّظَرِ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلسُّؤَالِ لِأَنَّهُ مَا أُبْرِزَ السُّؤَالُ مِنْ حَيْثُ إنَّ إحْدَى عِلَّتَيْ الْمَنْعِ تُعَارِضُ عِلَّةَ الْإِطْلَاقِ وَتَتَرَجَّحُ بِالْأُخْرَى، بَلْ أُبْرِزَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَانِعًا عَنْ التَّصَرُّفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْهَيْئَةَ بِالِاجْتِمَاعِيَّةِ لَهَا مِنْ الْخَوَاصِّ مَا لَيْسَ لِكُلٍّ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَلَعَلَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ إنَّمَا يَكُونُ لَهَا زِيَادَةُ تَأْثِيرٍ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْ تَرْكِيبِهَا أَمْرٌ خَارِجِيٌّ أَوْ اعْتِبَارٌ حَقِيقِيٌّ لَا فَرْضِيٌّ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ مِنْ الرِّقِّ وَالرِّدَّةِ.

قَالَ (وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ) قِيلَ قَوْلُهُ فَحَبِلَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ تَقْيِيدُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ اتِّفَاقِيٌّ فَإِنَّهَا إنْ حَبِلَتْ فِي دَارِنَا ثُمَّ لَحِقَتْ بِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ ذَكَرَهُ لِفَائِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْعُلُوقَ إذَا كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الدَّارِ لِكَوْنِ الدَّارِ جِهَةً فِي الِاسْتِتْبَاعِ، فَالْجَبْرُ هُنَاكَ يَكُونُ جَبْرًا هَاهُنَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا يُجْبَرُ وَلَدُ الْوَلَدِ) وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِلْجَدِّ كَانَ تَبَعًا لِلْجَدِّ جَدُّهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ بِتَبَعِيَّةِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام وَلَوْ كَانَ تَبَعًا لِأَبِيهِ وَهُوَ تَبَعٌ لَكَانَ التَّبَعُ مُسْتَتْبِعًا لِغَيْرِهِ

ص: 92

وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْبَرُ تَبَعًا لِلْجَدِّ، وَأَصْلُهُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْإِسْلَام وَهِيَ رَابِعَةُ أَرْبَعِ مَسَائِلَ كُلُّهَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالثَّانِيَةُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ. وَالثَّالِثَةُ جَرُّ الْوَلَاءِ. وَالْأُخْرَى الْوَصِيَّةُ لِلْقَرَابَةِ.

وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنهما أَنَّهُ يُجْبَرُ تَبَعًا لِلْجَدِّ) لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ فِي حَقِّ الْأَبِ لِلتَّفَرُّعِ، وَالتَّفَرُّعُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْجَدِّ وَلِهَذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي النِّكَاحِ وَبَيْعِ مَالِ الصَّغِيرِ.

وَقَوْلُهُ (كُلُّهَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ) يَعْنِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَمْ يُجْعَلْ الْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جُعِلَ الْجَدُّ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، أَمَّا صَيْرُورَةُ الْوَلَدِ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ جَدِّهِ فَهِيَ مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا صُورَةُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَهِيَ أَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ فَقِيرًا أَوْ عَبْدًا وَالْجَدُّ مُوسِرٌ هَلْ تَجِبُ فِطْرَةُ الْحَافِدِ عَلَيْهِ أَوْ لَا؟ وَأَمَّا صُورَةُ جَرِّ الْوَلَاءِ فَلِأَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ الْجَدُّ وَالْحَافِدُ حُرٌّ وَالْأَبُ رَقِيقٌ هَلْ يَكُونُ وَلَاءُ الْحَافِدِ لِمَوَالِي الْجَدِّ أَوْ لَا يَكُونُ. وَصُورَةُ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ إذَا أَوْصَى رَجُلٌ لِذِي قَرَابَتِهِ لَا يَدْخُلُ الْوَالِدَانِ فِيهَا، وَهَلْ يَدْخُلُ الْجَدُّ أَوْلَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي شَرْحِ الْفَرَائِضِ السِّرَاجِيَّةِ

ص: 93

قَالَ (وَارْتِدَادُ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ ارْتِدَادٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ، وَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ لَا يَرِثُ أَبَوَيْهِ إنْ كَانَا كَافِرَيْنِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: ارْتِدَادُهُ لَيْسَ بِارْتِدَادٍ وَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: إسْلَامُهُ لَيْسَ بِإِسْلَامٍ وَارْتِدَادُهُ لَيْسَ بِارْتِدَادٍ. لَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِيهِ فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا. وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَحْكَامًا تَشُوبُهَا الْمَضَرَّةُ فَلَا يُؤَهَّلُ لَهُ. وَلَنَا فِيهِ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَسْلَمَ فِي صِبَاهُ، وَصَحَّحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إسْلَامَهُ، وَافْتِخَارُهُ بِذَلِكَ مَشْهُورٌ

وَشَرْحِ رِسَالَتِنَا.

وَقَوْلُهُ (وَارْتِدَادُ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ ارْتِدَادٌ) يَعْنِي يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ فَيَبْطُلُ نِكَاحُهُ وَيَحْرُمُ عَنْ الْمِيرَاثِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ وَإِنْ أُدْرِكَ كَافِرًا وَيُحْبَسُ، وَتَوْجِيهُ تَحْرِيرِ الْمَذَاهِبِ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (لَهُمَا) أَيْ لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (أَنَّهُ) أَيْ الصَّبِيَّ الَّذِي يَعْقِلُ (تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِيهِ) أَيْ فِي الْإِسْلَامِ (فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا) يَعْنِي يَصِحُّ إسْلَامُهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْأَبَوَيْنِ فَلَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، إذْ التَّبَعِيَّةُ دَلِيلُ الْعَجْزِ وَالْأَصَالَةُ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ، وَبَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ تَنَافٍ وَأَحَدُ الْمُتَنَافِيَيْنِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ مَوْجُودٌ بِالْإِجْمَاعِ فَيَنْتَفِي الْآخَرُ ضَرُورَةً. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ) دَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ وَاضِحٌ (قَوْلُهُ وَافْتِخَارُهُ بِذَلِكَ مَشْهُورٌ) يُشِيرُ إلَى مَا قَالَهُ رضي الله عنه:

سَبَقْتُكُمُو إلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا

غُلَامًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حُلْمِي

وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي سِنِّهِ حِين أَسْلَمَ رضي الله عنه وَحِينَ مَاتَ. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ فِي أَوَّلِ مَبْعَثِهِ وَمُدَّةُ الْبَعْثِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَالْخِلَافَةُ بَعْدَهُ ثَلَاثُونَ انْتَهَتْ بِمَوْتِ عَلِيٍّ، فَإِذَا ضَمَمْت خَمْسًا إلَى ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ صَارَ ثَمَانِيًا

ص: 94

وَلِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ عَنْ طَوْعٍ دَلِيلٌ عَلَى الِاعْتِقَادِ عَلَى مَا عُرِفَ وَالْحَقَائِقُ لَا تُرَدُّ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ وَنَجَاةٌ عَقْبَاوِيَّةٌ، وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَنَافِعِ وَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ، ثُمَّ يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهَا فَلَا يُبَالِي بِشَوْبِهِ.

وَخَمْسِينَ.

وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ) دَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى التَّصْدِيقِ: أَيْ هُوَ التَّصْدِيقُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مُبْتَدَأً، وَقَوْلُهُ سَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ خَبَرَهُ وَهُوَ الْأَوْلَى، وَهُوَ جَوَابٌ

ص: 95

وَلَهُمْ فِي الرِّدَّةِ أَنَّهَا مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ، بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ أَعْلَى الْمَنَافِعِ عَلَى مَا مَرَّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِيهَا أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ حَقِيقَةً، وَلَا مَرَدَّ لِلْحَقِيقَةِ

عَنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَحْكَامًا تَشُوبُهَا الْمَضَرَّةُ. وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ بِنَفْسِهِ وَقَعَ فَرْضًا لِأَنَّهُ لَا نَفْلَ فِي الْإِيمَانِ وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ فَرْضًا أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا بِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهُ فَرْضًا لَمْ يَصِحَّ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ. وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ فَرْضًا أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا. فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ وَصَلَّى وَقَعَ فَرْضًا وَلَيْسَ بِمُخَاطَبٍ بِهِ، وَمَنْ صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَقَعَ فَرْضًا وَهُوَ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ بِهِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِيهِ فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا أَنَّ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ مُؤَيَّدَةٌ بِالْأُخْرَى فَلَا يَكُونَانِ مُتَنَافِيَيْنِ، وَذَلِكَ كَالْجُنْدِيِّ إذَا سَافَرَ مَعَ السُّلْطَانِ وَنَوَى السَّفَرَ فَهُوَ مُسَافِرٌ بِنِيَّةٍ مَقْصُودَةٍ وَتَبَعًا لِلسُّلْطَانِ أَيْضًا (قَوْلُهُ وَلَهُمْ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رحمهم الله.

وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيهَا) أَيْ فِي الرِّدَّةِ (أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ حَقِيقَةً وَلَا مَرَدَّ لِلْحَقِيقَةِ

ص: 96

كَمَا قُلْنَا فِي الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لَهُ، وَلَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ، وَالْعُقُوبَاتُ مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِ مَرْحَمَةً عَلَيْهِمْ. وَهَذَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ.

كَمَا قُلْنَا فِي الْإِسْلَامِ) فَإِنَّ رَدَّ الرِّدَّةِ يَكُونُ بِالْعَفْوِ عَنْهَا وَذَلِكَ قَبِيحٌ، كَمَا أَنَّ رَدَّ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْحَجْرِ عَنْهُ وَهُوَ كَذَلِكَ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا اعْتِبَارُ مَا هُوَ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ بِمَا هُوَ مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِالْقِيَاسِ، وَفَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا، وَمِثْلُهُ فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ مِنَّا بِوُجُودِ شَيْءٍ وَتَحَقُّقِهِ بِوُجُودِ شَيْءٍ آخَرَ وَتَحَقُّقِهِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الرَّدِّ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّارِعَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا.

وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ) هَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ وَفِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ لِرِدَّتِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ وَالْعُقُوبَاتُ مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِ مَرْحَمَةٌ عَلَيْهِمْ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ عُقُوبَةَ الْقَتْلِ عَنْ الصَّبِيِّ الْمُرْتَدِّ مَرْحَمَةً لِصِبَاهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَهُوَ لَمْ يَرْحَمْ عَلَيْهِ حَتَّى عَاقَبَهُ فِي النَّارِ مُخَلَّدًا كَسَائِرِ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْأَسْرَارِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ التُّمُرْتَاشِيِّ

ص: 97

وَمَنْ لَا يَعْقِلُ مِنْ الصِّبْيَانِ لَا يَصِحُّ ارْتِدَادُهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَغَيُّرِ الْعَقِيدَةِ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَالسَّكْرَانُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ.

وَمُشَارٌ إلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَوْلَى مَا يُعَلَّلُ بِهِ فِي عَدَمِ قَتْلِ الصَّبِيِّ الْمُرْتَدِّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعْلِيلِ الْمَبْسُوطِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِنَّمَا لَا يُقْتَلُ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ رحمهم الله فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ فِي الصِّغَرِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 98

بَابُ الْبُغَاةِ

(بَابُ الْبُغَاةِ)

أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ عَنْ بَابِ الْمُرْتَدِّ لِقِلَّةِ وُجُودِهِ، وَالْبُغَاةُ جَمْعُ بَاغٍ كَالْقُضَاةِ جَمْعُ قَاضٍ،

ص: 99

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 100

(وَإِذَا تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدٍ وَخَرَجُوا مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ دَعَاهُمْ إلَى الْعَوْدِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ)؛ لِأَنَّ عَلِيًّا فَعَلَ كَذَلِكَ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ قَبْلَ قِتَالِهِمْ، وَلِأَنَّهُ أَهْوَنُ الْأَمْرَيْنِ. وَلَعَلَّ الشَّرَّ يَنْدَفِعُ بِهِ فَيُبْدَأُ بِهِ.

وَإِذَا تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدٍ وَخَرَجُوا مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ دَعَاهُمْ إلَى الْعَوْدِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ) وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعَدْلِ لَوْ قَاتَلُوا مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ إلَى الْعَوْدِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ. فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ (لِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه فَعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَمْدُودًا وَمَقْصُورًا: قَرْيَةٌ بِالْكُوفَةِ كَانَ بِهَا أَوَّلُ تَحْكِيمِ الْخَوَارِجِ وَاجْتِمَاعُهُمْ بِسَبَبِ تَحْكِيمِ عَلِيٍّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رضي الله عنهما بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ قَائِلِينَ إنَّ الْقِتَالَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} الْآيَةَ. وَعَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ بِالتَّحْكِيمِ وَهُوَ كُفْرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وَذَلِكَ أَنَّهُ رضي الله عنه أَنْفَذَ ابْنَ عَبَّاسٍ لِيَكْشِفَ شُبْهَتَهُمْ وَيَدْعُوَهُمْ إلَى الْعَوْدِ، فَلَمَّا ذَكَرُوا شُبْهَتَهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما

ص: 101

(وَلَا يَبْدَأُ بِقِتَالٍ حَتَّى يَبْدَءُوهُ، فَإِنْ بَدَءُوهُ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُفَرِّقَ جَمْعَهُمْ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ إذَا تَعَسْكَرُوا وَاجْتَمَعُوا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَبْدَءُوا بِالْقِتَالِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ إلَّا دَفْعًا وَهُمْ مُسْلِمُونَ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْكُفْرِ مُبِيحٌ عِنْدَهُ. وَلَنَا أَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالِامْتِنَاعُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ الْإِمَامُ حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ رُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ فَيُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّهِمْ،

هَذِهِ الْحَادِثَةُ لَيْسَتْ بِأَدْنَى مِنْ بَيْضِ حَمَامٍ، وَفِيهِ التَّحْكِيمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَكَانَ تَحْكِيمُ عَلِيٍّ رضي الله عنه مُوَافِقًا لِلنَّصِّ فَأَلْزَمَهُمْ الْحُجَّةَ، فَتَابَ الْبَعْضُ وَأَصَرَّ الْبَعْضُ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.

ص: 102

وَإِذَا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ لُزُومِ الْبَيْتِ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْإِمَامِ، أَمَّا إعَانَةُ الْإِمَامِ الْحَقِّ فَمِنْ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْغَنَاءِ وَالْقُدْرَةِ.

(فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ أُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَأُتْبِعَ مُوَلِّيهِمْ) دَفْعًا لِشَرِّهِمْ كَيْ لَا يَلْحَقُوا بِهِمْ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ لَمْ يُجْهَزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يُتْبَعْ مُوَلِّيهِمْ) لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ دُونَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ إذَا تَرَكُوهُ لَمْ يَبْقَ قَتْلُهُمْ دَفْعًا.

وَقَوْلُهُ (وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مِنْ لُزُومِ الْبَيْتِ) يُرِيدُ بِهِ مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفِتْنَةَ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ فَرَّ مِنْ الْفِتْنَةِ أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ مِنْ النَّارِ» (مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْإِمَامِ) أَمَّا إذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى إمَامٍ وَكَانُوا آمِنِينَ بِهِ وَالسُّبُلُ آمِنَةٌ فَخَرَجَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ نَصْرًا لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} فَإِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ.

وَقَوْلُهُ (أُجْهِزَ وَأُتْبِعَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ،

ص: 103

وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ دَلِيلُهُ لَا حَقِيقَتُهُ.

(وَلَا يُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ وَلَا يُقَسَّمُ لَهُمْ مَالٌ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ: وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ، وَهُوَ الْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَوْلُهُ فِي الْأَسِيرِ تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ يَقْتُلُ الْإِمَامُ الْأَسِيرَ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَالْإِسْلَامُ يَعْصِمُ النَّفْسَ وَالْمَالَ

(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحِهِمْ إنْ احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَالْكُرَاعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. لَهُ أَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ. وَلَنَا أَنَّ عَلِيًّا قَسَّمَ السِّلَاحَ فِيمَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالْبَصْرَةِ

وَيُقَالُ أَجْهَزْت عَلَى الْجَرِيحِ إذَا أَسْرَعْت قَتْلَهُ وَتَمَّمْت عَلَيْهِ

(قَوْلُهُ وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ) هُوَ مَقُولُ عَلِيٍّ رضي الله عنه (وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ) أَيْ لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ عَلِيٍّ رضي الله عنه سَأَلُوهُ قِسْمَةَ ذَلِكَ فَقَالَ: فَإِذَا قُسِمَتْ فَلِمَنْ تَكُونُ عَائِشَةُ رضي الله عنها. وَالْقُدْوَةُ اسْمٌ لِلِاقْتِدَاءِ كَالْأُسْوَةِ اسْمٌ لِلِائْتِسَاءِ، يُقَالُ فُلَانٌ قُدْوَةٌ: أَيْ يُقْتَدَى بِهِ (قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ، إلَى قَوْلِهِ وَيَحْبِسُهُمْ إلَى قَوْلِهِ دَفْعًا لِلشَّرِّ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ) مَعْطُوفٌ عَلَى

ص: 104

وَكَانَتْ قِسْمَتُهُ لِلْحَاجَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْعَادِلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَفِي مَالِ الْبَاغِي أَوْلَى وَالْمَعْنَى فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ الْأَدْنَى لِدَفْعِ الْأَعْلَى.

(وَيَحْبِسُ الْإِمَامُ أَمْوَالَهُمْ فَلَا يَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ وَلَا يُقَسِّمُهَا حَتَّى يَتُوبُوا فَيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ) أَمَّا عَدَمُ الْقِسْمَةِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ. وَأَمَّا الْحَبْسُ فَلِدَفْعِ شَرِّهِمْ بِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَلِهَذَا يَحْبِسُهَا عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، إلَّا أَنَّهُ يَبِيعُ الْكُرَاعَ؛ لِأَنَّ حَبْسَ الثَّمَنِ أَنْظَرُ وَأَيْسَرُ، وَأَمَّا الرَّدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَلِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ وَلَا اسْتِغْنَامَ فِيهَا. .

قَالَ: (وَمَا جَبَاهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي غَلَبُوا عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ لَمْ يَأْخُذْهُ الْإِمَامُ ثَانِيًا)؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْحِمَايَةِ وَلَمْ يَحْمِهِمْ (فَإِنْ كَانُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ أَجْزَأَ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ) لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ (وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ فَعَلَى أَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعِيدُوا ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى مُسْتَحِقِّهِ. قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: قَالُوا الْإِعَادَةُ عَلَيْهِمْ فِي الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُمْ مُقَاتِلَةٌ فَكَانُوا مَصَارِفَ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَفِي الْعُشْرِ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الزَّكَاةِ. وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِيهِمْ فِيهِ؛ لِظُهُورِ وِلَايَتِهِ.

(وَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَهُمَا مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ)؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِإِمَامِ

قَوْلِهِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه.

وَقَوْلُهُ (أَمَّا عَدَمُ الْقِسْمَةِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ: وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ، وَقَوْلُهُ

ص: 105

الْعَدْلِ حِينَ الْقَتْلِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا كَالْقَتْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.

(وَإِنْ غَلَبُوا عَلَى مِصْرٍ فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ عَمْدًا ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الْمِصْرِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ) وَتَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى أَهْلِهِ أَحْكَامُهُمْ وَأُزْعِجُوا قَبْلَ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ لَمْ تَنْقَطِعْ وِلَايَةُ الْإِمَامِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ.

(وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ بَاغِيًا فَإِنَّهُ يَرِثُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ الْبَاغِي وَقَالَ قَدْ كُنْت عَلَى حَقٍّ وَأَنَا الْآنَ عَلَى حَقٍّ وَرِثَهُ، وَإِنْ قَالَ قَتَلْته وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَرِثْهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَرِثُ الْبَاغِي فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَتْلَفَ نَفْسَ الْبَاغِي أَوْ مَالَهُ لَا يَضْمَنُ وَلَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِتَالِهِمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ، وَالْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَنَا وَيَأْثَمُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الْقَدِيمِ: إنَّهُ يَجِبُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا تَابَ الْمُرْتَدُّ، وَقَدْ أَتْلَفَ نَفْسًا أَوْ مَالًا. لَهُ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَعْصُومًا أَوْ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً فَيَجِبُ الضَّمَانُ اعْتِبَارًا بِمَا قَبْلَ الْمَنَعَةِ. وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ.

لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ.

قَوْلُهُ (وَأُزْعِجُوا) يَعْنِي أُقْلِعَ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْمِصْرِ (قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ قَبْلَ إجْرَاءِ أَحْكَامِهِمْ عَلَى أَهْلِهِ.

وَقَوْلُهُ (فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَالَ أَنَا عَلَى الْحَقِّ وَفِي الْوَجْهِ الَّذِي قَالَ أَنَا عَلَى الْبَاطِلِ وَقَوْلُهُ (رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ) قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا مُتَوَافِرِينَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ

ص: 106

وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَنْ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ إذَا ضُمَّتْ إلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ كَمَا فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَأْوِيلِهِمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْإِلْزَامِ أَوْ الِالْتِزَامِ، وَلَا الْتِزَامَ لِاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ عَنْ تَأْوِيلٍ، وَلَا إلْزَامَ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ، وَالْوِلَايَةُ بَاقِيَةٌ قَبْلَ الْمَنَعَةِ وَعِنْدَ عَدَمِ التَّأْوِيلِ ثَبَتَ الِالْتِزَامُ اعْتِقَادًا، بِخِلَافِ الْإِثْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنَعَةَ فِي حَقِّ الشَّارِعِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَتْلُ الْعَادِلِ الْبَاغِيَ قَتْلٌ بِحَقٍّ فَلَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ. وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي قَتْلِ الْبَاغِي الْعَادِلَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ وَالْحَاجَةُ هَاهُنَا إلَى اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فَلَا يَكُونُ التَّأْوِيلُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ. وَلَهُمَا فِيهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى دَفْعِ الْحِرْمَانِ أَيْضًا، إذْ الْقَرَابَةُ سَبَبُ الْإِرْثِ فَيُعْتَبَرُ الْفَاسِدُ فِيهِ، إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ بَقَاءَهُ عَلَى دِيَانَتِهِ، فَإِذَا قَالَ: كُنْت عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يُوجَدْ الدَّافِعُ فَوَجَبَ الضَّمَانُ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ‌

‌ بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ

وَفِي عَسَاكِرِهِمْ)؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ (وَلَيْسَ بِبَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ بَأْسٌ)؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي الْأَمْصَارِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ بَيْعُ نَفْسِ السِّلَاحِ لَا بَيْعُ مَا لَا يُقَاتَلُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَةٍ

كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُلُّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُلُّ مَالٍ أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ. قَوْلُهُ (وَلَا الْتِزَامَ لِاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْبَاغِيَ اعْتَقَدَ إبَاحَةَ أَمْوَالِ الْعَادِلِ بِأَنَّ الْعَادِلَ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُوجَبِ الْكِتَابِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا فِيهِ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رضي الله عنهما فِي قَتْلِ الْبَاغِي الْعَادِلِ.

وَقَوْلُهُ (فَيُعْتَبَرُ الْفَاسِدُ) أَيْ يُعْتَبَرُ التَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ فِي دَفْعِ الْحِرْمَانِ.

وَقَوْلُهُ (لَمْ يُوجَدْ الدَّافِعُ) أَيْ التَّأْوِيلُ الدَّافِعُ لِلضَّمَانِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ بِبَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ) تَقْيِيدُهُ بِالْكُوفَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْبُغَاةَ خَرَجُوا فِيهَا أَوَّلًا وَإِلَّا فَالْحُكْمُ فِي غَيْرِهَا كَذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ (إلَّا بِالصَّنْعَةِ) بِهِ يُرِيدُ الْحَدِيدَ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ سِلَاحًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ

ص: 107

أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَعَازِفِ وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ، وَعَلَى هَذَا الْخَمْرُ مَعَ الْعِنَبِ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَعَازِفِ) قِيلَ جَمْعُ مِعْزَفٍ ضَرْبٌ مِنْ الطَّنَابِيرِ يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الْيَمِينِ (وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مِعْزَفًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ مَعَ الْعِنَبِ) أَيْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعِنَبِ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه بَيْنَ كَرَاهَةِ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَعَدَمِ كَرَاهَةِ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

ص: 108

‌كِتَابُ اللَّقِيطِ

كِتَابُ اللَّقِيطِ

لَمَّا كَانَ فِي الِالْتِقَاطِ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِ الْمُلْتَقِطِ ذَكَرَهُ عَقِيبَ الْجِهَادِ الَّذِي فِيهِ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَاللَّقِيطُ: اسْمٌ لِشَيْءٍ مَنْبُوذٍ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْجَرِيحِ وَفِي الشَّرِيعَةِ اسْمٌ لِحَيٍّ مَوْلُودٍ طَرَحَهُ أَهْلُهُ

ص: 109

اللَّقِيطُ سُمِّيَ بِهِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ لِمَا أَنَّهُ يُلْقَطُ. وَالِالْتِقَاطُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهُ فَوَاجِبٌ. قَالَ (اللَّقِيطُ حُرٌّ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ إنَّمَا هُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَكَذَا الدَّارُ دَارُ الْأَحْرَارِ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ

(وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ

خَوْفًا مِنْ الْعَيْلَةِ أَوْ فِرَارًا مِنْ تُهْمَةِ الزِّنَا، مُضَيِّعُهُ آثِمٌ وَمُحْرِزُهُ غَانِمٌ لِأَنَّ فِيهِ الْإِحْيَاءَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} فَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَانَ تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ يُلْتَقَطُ وَهُوَ حُرٌّ أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ حَتَّى أَنَّ قَاذِفَهُ يُحَدُّ وَقَاذِفَ أُمِّهِ لَا يُحَدُّ، كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ) لِأَنَّهُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَهُمَا حُرَّانِ. وَالرِّقُّ إنَّمَا هُوَ لِعَارِضِ الْكُفْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْعَارِضِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَالْغَالِبُ فِيمَنْ يَسْكُنُ بِلَادَ الْإِسْلَامِ الْحُرِّيَّةُ.

وَقَوْلُهُ (هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما) رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: اللَّقِيطُ حُرٌّ وَعَقْلُهُ وَوَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مِثْلُهُ.

ص: 110

وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ عَاجِزٌ عَنْ التَّكَسُّبِ، وَلَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ فَأَشْبَهَ الْمُقْعَدَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ؛ وَلِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلِهَذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِيهِ. وَالْمُلْتَقِطُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِهِ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْوِلَايَةِ.

قَالَ (فَإِنْ الْتَقَطَهُ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حَقُّ الْحِفْظِ لَهُ لِسَبْقِ يَدِهِ (فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ ابْنُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ).

وَقَوْلُهُ (وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ) أَيْ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ، كَغَلَّةِ الْعَبْدِ الْمَعِيبِ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الرَّدِّ لِأَنَّهُ قَبْلَ الرَّدِّ فِي ضَمَانِهِ، يُقَالُ خَرَاجُ غُلَامِهِ: إذَا اتَّفَقَا عَلَى ضَرِيبَةٍ يُؤَدِّيهَا عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ.

وَقَوْلُهُ (فِيهِ) أَيْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَيُقَالُ بَرَعَ الرَّجُلُ وَبَرُعَ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ: إذَا فَضُلَ عَلَى أَقْرَانِهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمُتَفَضِّلِ الْمُتَبَرِّعُ.

وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْوِلَايَةِ) فِي قَوْلِهِ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ دَيْنًا إذَا قَالَ ذَلِكَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مُجَرَّدُ أَمْرِ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ يَكْفِي، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي نَافِذٌ عَلَيْهِ كَأَمْرِهِ بِنَفْسِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ وَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ كَانَ مَا يُنْفِقُ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَكَذَا إذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي. وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا يَرْجِعَ مَا لَمْ يَقُلْ الْقَاضِي ذَلِكَ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ لِلْحَثِّ وَالتَّرْغِيبِ فِي إتْمَامِ

ص: 111

مَعْنَاهُ: إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُلْتَقِطُ نَسَبَهُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُلْتَقِطِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إقْرَارٌ لِلصَّبِيِّ بِمَا يَنْفَعُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَشَرَّفُ بِالنَّسَبِ وَيُعَيَّرُ بِعَدَمِهِ. ثُمَّ قِيلَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ دُونَ إبْطَالِ يَدِ الْمُلْتَقِطِ. وَقِيلَ يُبْتَنَى عَلَيْهِ بُطْلَانُ يَدِهِ، وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ قِيلَ يَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأَصْلِ.

(وَإِنْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ

مَا شَرَعَ فِيهِ مِنْ التَّبَرُّعِ، وَإِنَّمَا يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ إذَا شُرِطَ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ (مَعْنَاهُ: إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُلْتَقِطُ نَسَبَهُ) يَعْنِي إذَا ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ وَرَجُلٌ آخَرُ فَالْمُلْتَقِطُ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الدَّعْوَى وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ فَكَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى.

وَقَوْلُهُ (ثُمَّ قِيلَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ) أَيْ فِي حَقِّ النَّسَبِ، وَقِيلَ يُبْتَنَى عَلَيْهِ بُطْلَانُ يَدِهِ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَقَّ بِحِفْظِ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ) أَيْ وَلَوْ ادَّعَى الْمُلْتَقِطُ نَسَبَ اللَّقِيطِ وَقَالَ هُوَ ابْنِي بَعْدَمَا قَالَ إنَّهُ لَقِيطٌ، قِيلَ يَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ بِدَعْوَاهُ حَقُّ أَحَدٍ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِي ذَلِكَ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ) أَيْ عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمِ الْقِيَاسِ مَعَ حُكْمِ الِاسْتِحْسَانِ: يَعْنِي فِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَصِحُّ كَمَا فِي دَعْوَى غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ، لَكِنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ هَاهُنَا غَيْرُ وَجْهِ الْقِيَاسِ فِي دَعْوَى غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ.

وَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِي دَعْوَى غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ هُوَ تَضَمُّنُ إبْطَالِ حَقِّ الْمُلْتَقِطِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ. وَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِي دَعْوَى الْمُلْتَقِطِ هُوَ تَنَاقُضُ كَلَامِهِ بِأَنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّهُ لَقِيطٌ كَانَ نَافِيًا نَسَبَهُ لِأَنَّ ابْنَهُ لَا يَكُونُ لَقِيطًا فِي يَدِهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَصِحُّ دَعْوَاهُ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَهُ فَهُوَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ يَكْتَسِبُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ، وَبِالِالْتِقَاطِ يَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ.

وَقَوْلُهُ (إنَّهُ مُتَنَاقِضٌ) قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ فِيمَا طَرِيقُهُ الْخَفَاءُ قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَى النَّاسِ حَالُ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَقِيطٌ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَلَدُهُ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ كَالْمُلَاعِنِ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ

(وَإِنْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ

ص: 112

فَهُوَ أَوْلَى بِهِ)؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِمُوَافَقَةِ الْعَلَامَةِ كَلَامَهُ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فَهُوَ ابْنُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ. وَلَوْ سَبَقَتْ دَعْوَةُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ ابْنُهُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي زَمَانٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ إلَّا إذَا أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى.

(وَإِذَا وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَادَّعَى ذِمِّيٌّ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ

فَهُوَ أَوْلَى بِهِ) أَيْ يَجِبُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَ اللَّقِيطَ إلَى الَّذِي وَصَفَ عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ وَأَصَابَ فِي وَصْفِهِ لِأَنَّ الْوَاصِفَ أَوْلَى بِذَلِكَ اللَّقِيطِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّقِيطِ وَاللُّقَطَةِ فَإِنَّ اللُّقَطَةَ إذَا تَنَازَعَ فِيهِ اثْنَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا وَأَصَابَ وَلَمْ يَصِفْ الْآخَرُ فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى لِصَاحِبِ الْوَصْفِ، بَلْ إذَا انْفَرَدَ الْوَاصِفُ يَحِلُّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ وَهَاهُنَا يَلْزَمُ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ الْإِصَابَةَ بِوَصْفِ أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَصَابَ لِأَنَّهُ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَصَابَ لِأَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ لَكِنَّهُ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ كَالْيَدِ فِي دَعْوَى النِّتَاجِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي فَصْلِ اللَّقِيطِ: قَدْ وُجِدَ مَا هُوَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الدَّعْوَةُ لِأَنَّهَا سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّ اللَّقِيطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ بِدَعْوَى اللَّقِيطِ قَضَى لَهُ بِهِ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَيُعْتَبَرُ الْوَصْفُ لِيَتَرَجَّحَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَأَمَّا فِي اللُّقَطَةِ فَالدَّعْوَى لَيْسَتْ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى يَتَرَجَّحَ بِالْوَصْفِ، فَلَوْ اُعْتُبِرَ الْوَصْفُ اُعْتُبِرَ لِأَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوَصْفُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لَهُ فَافْتَرَقَا.

قَوْلُهُ (وَإِنْ وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ.

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْحَاصِلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ كَالْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ فَيَكُونُ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي أَنْ يَجِدَهُ كَافِرٌ فِي مَكَانِ أَهْلِ الْكُفْرِ

ص: 113

مِنْهُ وَكَانَ مُسْلِمًا) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَضْمَنُ النَّسَبَ وَهُوَ نَافِعٌ لِلصَّغِيرِ، وَإِبْطَالُ الْإِسْلَامِ الثَّابِتِ بِالدَّارِ وَهُوَ يَضُرُّهُ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ.

(وَإِنْ وُجِدَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ كَانَ ذِمِّيًّا) وَهَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَاجِدُ ذِمِّيًّا رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْ ذِمِّيًّا فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ، فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ اللَّقِيطِ اُعْتُبِرَ الْمَكَانُ لِسَبْقِهِ، وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي بَعْضِ النُّسَخِ اُعْتُبِرَ الْوَاجِدُ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِقُوَّةِ الْيَدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَبَوَيْنِ فَوْقَ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ حَتَّى إذَا سُبِيَ مَعَ الصَّغِيرِ أَحَدُهُمَا يُعْتَبَرُ كَافِرًا، وَفِي بَعْضِ نُسَخِهِ اُعْتُبِرَ الْإِسْلَامُ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ.

كَالْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ فَيَكُونُ مَحْكُومًا لَهُ بِالْكُفْرِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَجِدَهُ كَافِرٌ فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ وَالرَّابِعُ أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فِي مَكَانِ الْكَافِرِينَ، فَفِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ. فَفِي كِتَابِ اللَّقِيطِ يَقُولُ: الْعِبْرَةُ لِلْمَكَانِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْوَاجِدِ بِالْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

وَقَوْلُهُ (فِي بَعْضِ النُّسَخِ) أَيْ فِي بَعْضِ نُسَخِ دَعْوَى الْمَبْسُوطِ.

ص: 114

(وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ ظَاهِرًا إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ (فَإِنْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ (وَكَانَ حُرًّا)؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ فَلَا تَبْطُلُ الْحُرِّيَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالشَّكِّ (وَالْحُرُّ فِي دَعْوَتِهِ اللَّقِيطَ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنْ الذِّمِّيِّ) تَرْجِيحًا لِمَا هُوَ الْأَنْظَرُ فِي حَقِّهِ.

قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ) ظَاهِرٌ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى خَصْمٍ مُنْكِرٍ وَلَا خَصْمَ هَاهُنَا لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَيْسَ بِوَلِيٍّ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا عَنْهُ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْخَصْمَ هُوَ الْمُلْتَقِطُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ عَنْهُ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِحِفْظِهِ فَلَا يَتَوَصَّلُ الْمُدَّعِي إلَى اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ عَلَيْهِ إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَضَمَّنَتْ شَيْئَيْنِ: النَّسَبُ وَهُوَ نَفْعٌ لِلصَّبِيِّ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الشَّرَفُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَالرِّقُّ وَهُوَ مَضَرَّةٌ فَيَثْبُتُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَسْتَلْزِمُهُ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ فَلَا تَبْطُلُ لَهُ الْحُرِّيَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالشَّكِّ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَرَّرَ بِجَعْلِ كَلَامِهِ دَلِيلَيْنِ عَلَى مَطْلُوبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ، وَكُلُّ مَا يَنْفَعُهُ يَثْبُتُ لَهُ. وَالثَّانِي أَنَّهُ حُرٌّ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ فَلَا يَكُونُ عَبْدًا، وَقَدْ تَلِدُ لَهُ الْأَمَةُ فَيَكُونُ عَبْدًا، وَالظَّاهِرُ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ فَلَا تَبْطُلُ بِالشَّكِّ. قَالَ (وَالْحُرُّ فِي دَعْوَتِهِ اللَّقِيطَ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ) إذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَهُمَا خَارِجَانِ أَوْ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَهُمَا خَارِجَانِ دَعْوَى مُجَرَّدَةً فَالْحُرُّ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنْ الذِّمِّيِّ، وَكَذَلِكَ إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا، حَتَّى لَوْ شَهِدَ لِلْمُسْلِمِ ذِمِّيَّانِ وَلِلذِّمِّيِّ مُسْلِمَانِ كَانَ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْآخَرِ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَكَانَ الْمُسْلِمُ أَوْلَى.

وَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ الَّذِي أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَلَا يُعْتَبَرُ التَّرْجِيحُ بِالْإِسْلَامِ، فَلَوْ ادَّعَى الذِّمِّيُّ صَبِيًّا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَأَقَامَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ بَيِّنَةً أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ قُضِيَ لِلذِّمِّيِّ بِالصَّبِيِّ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ الْعَبْدُ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الذِّمِّيِّ أَكْثَرُ إثْبَاتًا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ

ص: 115

(وَإِنْ وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُ) اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ. وَكَذَا إذَا كَانَ مَشْدُودًا عَلَى دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَيْهَا لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْوَاجِدُ إلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ صَرْفِ مِثْلِهِ إلَيْهِ. وَقِيلَ يَصْرِفُهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لِلَّقِيطِ ظَاهِرًا (وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ وَشِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ) كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِنْفَاقِ.

(وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُلْتَقِطِ) لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ مِنْ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَالسَّلْطَنَةِ.

قَالَ (وَلَا تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ الْمُلْتَقِطِ) اعْتِبَارًا بِالْأُمِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ لِتَثْمِيرِ الْمَالِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالرَّأْيِ الْكَامِلِ وَالشَّفَقَةِ الْوَافِرَةِ وَالْمَوْجُودُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدُهُمَا.

النَّسَبَ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْمُلْتَقِطِ وَالْخَارِجِ فَالتَّرْجِيحُ بِالْيَدِ لِقُوَّتِهَا، فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْمُسْلِمِ الْخَارِجِ

(وَإِذَا وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى دَابَّةٍ هُوَ عَلَيْهَا فَهُوَ لَهُ) وَكَذَا الدَّابَّةُ (اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ) لِأَنَّ اللَّقِيطَ لَمَّا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ حُرًّا مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، فَمَا كَانَ مَعَهُ فَهُوَ لَهُ ظَاهِرًا لِعَدَمِ الْيَدِ الثَّابِتَةِ عَلَيْهِ كَالْقَمِيصِ الَّذِي عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ يَكْفِي لِلدَّفْعِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ، فَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلَّقِيطِ بِهَذَا الظَّاهِرِ كَانَ الظَّاهِرُ حُجَّةً مُثْبِتَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ يَدْفَعُ دَعْوَى الْغَيْرِ (قَوْلُهُ ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْوَاجِدُ إلَيْهِ) ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (وَالْمَوْجُودُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الْمُلْتَقِطِ وَالْأُمِّ (أَحَدُهُمَا) لِأَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ رَأْيًا كَامِلًا

ص: 116

قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ لَهُ الْهِبَةَ)؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ عَاقِلًا وَتَمْلِكُهُ الْأُمُّ وَوَصِيُّهَا.

قَالَ (وَيُسَلِّمُهُ فِي صِنَاعَةٍ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَثْقِيفِهِ وَحِفْظِ حَالِهِ. قَالَ (وَيُؤَاجِرُهُ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذَا رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ، ذَكَرَهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَثْقِيفِهِ. وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ فَأَشْبَهَ الْعَمَّ. بِخِلَافِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَلَا شَفَقَةَ لَهُ، وَلِلْأُمِّ شَفَقَةٌ كَامِلَةٌ وَلَا رَأْيَ لَهَا

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَثْقِيفِهِ) التَّثْقِيفُ تَقْوِيمُ الْمُعْوَجِّ بِالثِّقَافِ وَهُوَ مَا يُسَوَّى بِهِ الرِّمَاحُ وَيُسْتَعَارُ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّهْذِيبِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْأُمِّ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ) أَيْ تَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ فَإِنَّهَا تَمْلِكُ اسْتِخْدَامَ وَلَدِهَا وَإِجَارَتَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 117

‌كِتَابُ اللُّقَطَةِ

قَالَ (اللُّقَطَةُ أَمَانَةٌ إذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا)

كِتَابُ اللُّقَطَةِ

اللَّقِيطُ وَاللُّقَطَةُ مُتَقَارِبَانِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَخُصَّ اللَّقِيطُ بِبَنِي آدَمَ وَاللُّقَطَةُ بِغَيْرِهِمْ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، وَقُدِّمَ الْأَوَّلُ لِشَرَفِ بَنِي آدَمَ عَلَى اللُّقَطَةِ وَهِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يَجِدُهُ مُلْقًى فَيَأْخُذُهُ أَمَانَةً (إذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا) لِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رحمهم الله

ص: 118

لِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْوَاجِبُ إذَا خَافَ الضَّيَاعَ عَلَى مَا قَالُوا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَصَادَقَا أَنَّهُ أَخَذَهَا لِلْمَالِكِ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا فَصَارَ كَالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَقَالَ الْآخِذُ أَخَذْته لِلْمَالِكِ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَضْمَنُ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِاخْتِيَارِهِ الْحِسْبَةَ دُونَ الْمَعْصِيَةِ،

قَوْلُهُ بَلْ هُوَ أَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا وَعَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ أَخْذُهُ جَائِزٌ وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّ صَاحِبَهَا إنَّمَا يَطْلُبُهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَتْ مِنْهُ، فَإِذَا تَرَكَهَا وَجَدَهَا صَاحِبُهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (قَوْلُهُ وَهُوَ الْوَاجِبُ إذَا خَافَ الضَّيَاعَ عَلَى مَا قَالُوا) وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللُّقَطَةَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَا يَكُونُ أَخْذُهُ وَاجِبًا وَهُوَ مَا إذَا خَافَ الضَّيَاعَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَإِذَا كَانَ وَلِيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُ مَالِهِ، وَبِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ مَالِهِ، فَإِذَا خَافَ عَلَى مَالِهِ الضَّيَاعَ وَجَبَ حِفْظُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا خَافَ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ وَمَا لَا يَكُونُ أَخْذُهُ وَاجِبًا، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَخَفْ الضَّيَاعَ فَقِيلَ رَفْعُهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَلِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ فَتَمْنَعَهَا عَنْ مَالِكِهَا. وَقِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صَاحِبَهَا إنَّمَا يَطْلُبُهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَتْ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ) أَيْ إذَا كَانَ أَخْذُهَا مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا (لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ) كَذَا وَكَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَهُوَ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ إذَا تَصَادَقَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ وَإِذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا إلَخْ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَإِذَا كَانَتْ أَمَانَةً لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا تَصَادَقَ الْمُلْتَقِطُ وَالْمَالِكُ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِلْمَالِكِ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا وَصَارَ كَمَا إذَا أَقَامَ الْمُلْتَقِطُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيُوَصِّلَهَا إلَى الْمَالِكِ (وَلَوْ أَقَرَّ) الْمُلْتَقِطُ (أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ أَخْذُ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَقَالَ الْآخِذُ أَخَذْتهَا لِلْمَالِكِ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَضْمَنُ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ) أَمَّا عَدَمُ الضَّمَانِ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِاخْتِيَارِهِ الْحِسْبَةَ دُونَ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ فِعْلَ

ص: 119

وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ وَادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ وَهُوَ الْأَخْذُ لِمَالِكِهِ وَفِيهِ وَقَعَ الشَّكُّ فَلَا يَبْرَأُ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الظَّاهِرِ يُعَارِضُهُ مِثْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَرِّفُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَيَكْفِيهِ فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ لُقَطَةً فَدُلُّوهُ عَلَيَّ وَاحِدَةً كَانَتْ اللُّقَطَةُ أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ.

الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا، وَاَلَّذِي يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا الْأَخْذُ لِلرَّدِّ لَا لِنَفْسِهِ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ فِعْلِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِشْهَادِ مِنْهُ، وَأَمَّا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فَلِأَنَّ صَاحِبَهَا يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ وَوُجُوبَ الْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ الْغَصْبَ. وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ) ظَاهِرٌ، قِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْإِشْهَادِ فِيمَا إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَشْهَدَ، أَمَّا إذَا لَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُشْهِدُهُ عِنْدَ الرَّفْعِ أَوْ خَافَ أَنَّهُ لَوْ أَشْهَدَ عِنْدَ الرَّفْعِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ الظَّالِمُ فَتَرَكَ الْإِشْهَادَ لَا يَكُونُ ضَامِنًا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُشْهِدُهُ فَلَمْ يُشْهِدْهُ حَتَّى جَاوَزَهُ ضَمِنَ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْإِشْهَادَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ (وَيَكْفِي فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ) ظَاهِرٌ.

ص: 120

قَالَ (فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَرَّفَهَا أَيَّامًا، وَإِنْ كَانَتْ عَشْرَةً فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلًا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَوْلُهُ أَيَّامًا مَعْنَاهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى. وَقَدَّرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ بِالْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» . وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلِ وَرَدَ فِي لُقَطَةٍ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَالْعَشَرَةُ وَمَا فَوْقَهَا فِي مَعْنَى الْأَلْفِ فِي تَعَلُّقِ الْقَطْعِ بِهِ فِي السَّرِقَةِ وَتَعَلُّقِ اسْتِحْلَالِ الْفَرْجِ بِهِ وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا فِي حَقِّ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ، فَأَوْجَبْنَا التَّعْرِيفَ بِالْحَوْلِ احْتِيَاطًا، وَمَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَلْفِ بِوَجْهٍ مَا فَفَوَّضْنَا إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ

وَقَوْلُهُ وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّ الطَّحَاوِيَّ رحمه الله قَالَ: وَإِذَا الْتَقَطَ لُقَطَةً فَإِنَّهُ يُعَرِّفُهَا سَنَةً سَوَاءٌ كَانَ الشَّيْءُ نَفِيسًا أَوْ خَسِيسًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (وَقَوْلُهُ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ) يُرِيدُ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحِ مُسْنَدًا إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَخَذْت صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتهَا فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْته ثَانِيًا فَقَالَ عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْته ثَالِثًا فَقَالَ: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَدَدَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا» . وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَأَقُولُ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ

ص: 121

وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُلْتَقِطِ يُعَرِّفُهَا إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا لَا يَبْقَى عَرَّفَهُ حَتَّى إذَا خَافَ أَنْ يَفْسُدَ تَصَدَّقَ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا. وَفِي الْجَامِعِ: فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْوُصُولِ إلَى صَاحِبِهَا، وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا كَالنَّوَاةِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ يَكُونُ إلْقَاؤُهُ إبَاحَةً حَتَّى جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ وَلَكِنَّهُ مُبْقًى عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ.

يَكُونُ حَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ سَاقِطَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ (وَقَوْلُهُ وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ) إشَارَةٌ إلَى مَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله.

وَقَوْلُهُ (كَالنَّوَاةِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ) يَعْنِي إذَا كَانَ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ فَجَمَعَهَا وَصَارَ بِحُكْمِ الْكَثْرَةِ لَهَا قِيمَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِأَنَّ الْقِيمَةَ ظَهَرَتْ بِالِاجْتِمَاعِ وَالِاجْتِمَاعُ حَصَلَ بِصُنْعِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، حَتَّى أَنَّ صَاحِبَهَا إذَا وَجَدَهَا فِي يَدِهِ بَعْدَمَا جَمَعَهَا جَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ مُتَفَرِّقًا دَلِيلٌ عَلَى الْإِذْنِ لَا عَلَى التَّمْلِيكِ، لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ. ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ

ص: 122

قَالَ (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا) إيصَالًا لِلْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَهُوَ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ بِإِيصَالِ عَيْنِهَا عِنْدَ الظَّفَرِ بِصَاحِبِهَا وَإِيصَالِ الْعِوَضِ وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى اعْتِبَارِ إجَازَةِ التَّصَدُّقِ بِهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا رَجَاءَ الظُّفْرِ بِصَاحِبِهَا قَالَ (فَإِنْ)(جَاءَ صَاحِبُهَا) يَعْنِي بَعْدَمَا تَصَدَّقَ بِهَا (فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ) وَلَهُ ثَوَابُهَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَإِنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِذْنِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْمَحِلِّ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لِثُبُوتِهِ بَعْدَ الْإِجَازَةِ فِيهِ

مُجْتَمِعَةً فِي مَوْضِعٍ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمَّا جَمَعَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا أَلْقَاهَا (قَوْلُهُ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقْ بِهَا) يَعْنِي إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ دَفَعَهَا إلَيْهِ أَيْضًا لَا لِعَيْنِ حَقِّهِ الْمُسْتَحَقِّ الدَّفْعُ إلَيْهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَجِئْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ (إنْ شَاءَ) تَصَدَّقَ بِهَا أَيْضًا لَا لِعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى اعْتِبَارِ إجَازَتِهِ التَّصَدُّقَ بِهَا عَلَى مُسْتَحِقِّهِ (وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا رَجَاءً) لِلظَّفَرِ بِصَاحِبِهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَمَا تَصَدَّقَ بِهَا

ص: 123

(وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ لِأَنَّهُ سَلَّمَ مَالَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ) إلَّا أَنَّهُ بِإِبَاحَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الضَّمَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمِسْكِينُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا أَخَذَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ الِالْتِقَاطُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا وُجِدَ الْبَعِيرُ وَالْبَقَرُ فِي الصَّحْرَاءِ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ.

الْمُلْتَقِطُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ وَلَهُ ثَوَابُهَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ إنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِذْنِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ التَّوَقُّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ يَقْتَضِي قِيَامَ الْمَحَلِّ عِنْدَهَا كَمَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ حَتَّى لَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ بَعْدَ هَلَاكِهَا صَحَّتْ الْإِجَازَةُ.

وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَمَّا كَانَ مَأْذُونًا فِي التَّصَدُّقِ شَرْعًا مَلَكَ الْفَقِيرُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عَلَى وُجُودِ الْمَحَلِّ عِنْدَ الْإِجَازَةِ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَمَا ثَبَتَ لِلْمَالِكِ حَقُّ الْأَخْذِ إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْفَقِيرِ. أُجِيبَ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِرْدَادِ كَالْوَاهِبِ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَكَالْمُرْتَدِّ إذَا عَادَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا بَعْدَمَا قُسِمَتْ أَمْوَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مَا وَجَدَهُ قَائِمًا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُمْ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ إجَازَةِ الْمَالِكِ بَيْعَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمَحَلِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ الْمَعْدُومَةِ وَكَمَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمَحَلِّ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَالْمَالِكِ أَيْضًا، وَسَيَجِيءُ تَمَامُهُ فِي الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ وَهُوَ ظَاهِرٌ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ تَضْمِينُهُ وَقَدْ تَصَدَّقَ بِهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّهُ بِإِبَاحَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ) يَعْنِي أَنَّ الْإِذْنَ كَانَ إبَاحَةً مِنْهُ لَا إلْزَامًا، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِذْنِ يُسْقِطُ الْإِثْمَ وَلَا يُنَافِي الضَّمَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ (وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمِسْكِينَ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ (وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ قَائِمَةً أَخَذَهَا لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ) وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَالِكَ إنْ لَمْ يُجِزْ الصَّدَقَةَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْفَقِيرِ أَوْ هَالِكَةً، فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً أَخَذَهَا، وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْفَقِيرَ، وَأَيَّهُمَا ضَمَّنَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَامِنٌ بِفِعْلِهِ: الْمُلْتَقِطُ بِالتَّسْلِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ وَالْفَقِيرُ بِالتَّسْلِيمِ بِدُونِهِ. لَا يُقَالُ: الْفَقِيرُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الْمُلْتَقِطِ فَيُرْجَعُ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّغْرِيرَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ لَا يُوجِبُ شَيْئًا.

وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ الِالْتِقَاطُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ) ظَاهِرٌ

ص: 124

وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْفَرَسُ. لَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ الْحُرْمَةُ وَالْإِبَاحَةُ مَخَافَةَ الضَّيَاعِ، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا مَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا يَقِلُّ الضَّيَاعُ وَلَكِنَّهُ يُتَوَهَّمُ فَيَقْضِي بِالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبُ إلَى التَّرْكِ.

وَلَنَا أَنَّهَا لُقَطَةٌ يُتَوَهَّمُ ضَيَاعُهَا فَيُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا وَتَعْرِيفُهَا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ كَمَا فِي الشَّاةِ (فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ) لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَنْ ذِمَّةِ الْمَالِكِ، وَإِنْ أَنْفَقَ بِأَمْرِهِ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً فِي مَالِ الْغَائِبِ نَظَرًا لَهُ وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ

سِوَى أَلْفَاظٍ نَذْكُرُهَا. وَقَوْلُهُ (وَالْإِبَاحَةُ) أَيْ إبَاحَةُ الْأَخْذِ. وَقَوْلُهُ (وَإِذَا كَانَ مَعَهَا) أَيْ مَعَ اللُّقَطَةِ مَا تَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهَا: يَعْنِي مَا يُهْلِكُهَا كَالْقَرْنِ فِي الْبَقَرِ وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي الْبَعِيرِ بِكَدْمِهِ وَنَفْحِهِ وَكَذَلِكَ فِي الْفَرَسِ.

وَقَوْلُهُ (فَيُقْضَى بِالْكَرَاهَةِ) أَيْ كَرَاهَةِ الْأَخْذِ.

ص: 125

(وَإِذَا رُفِعَ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ نَظَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْبَهِيمَةِ مَنْفَعَةٌ آجَرَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا) لِأَنَّ فِيهِ إبْقَاءَ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ إلْزَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْعَبْدِ الْآبِقِ (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ وَخَافَ أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا بَاعَهَا وَأَمَرَ بِحِفْظِ ثَمَنِهَا) إبْقَاءً لَهُ مَعْنًى عِنْدَ تَعَذُّرِ إبْقَائِهِ صُورَةً (وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا أَذِنَ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى مَالِكِهَا) لِأَنَّهُ نَصَبَ نَاظِرًا وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، قَالُوا: إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى رَجَاءَ أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهَا، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُ بِبَيْعِهَا لِأَنَّ دَارَّةَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصَلَةٌ فَلَا نَظَرَ فِي الْإِنْفَاقِ مُدَّةً مَدِيدَةً.

قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: وَفِي الْأَصْلِ شَرْطُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَصْبًا فِي يَدِهِ فَلَا يَأْمُرُ فِيهِ بِالْإِنْفَاقِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ فِي الْوَدِيعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ لِكَشْفِ الْحَالِ وَلَيْسَتْ الْبَيِّنَةُ تُقَامُ لِلْقَضَاءِ.

وَقَوْلُهُ (وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ) أَيْ مِنْ جَانِبِ الْمَالِكِ بِإِبْقَاءِ عَيْنِ مَالِهِ، وَمِنْ جَانِبِ الْمُلْتَقِطِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْمَالِكِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى اللُّقَطَةِ.

وَقَوْلُهُ (فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُهُ بِبَيْعِهَا) قِيلَ فَإِذَا أَمَرَ بِبَيْعِهَا فَبِيعَتْ أَعْطَى الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ مَا أَنْفَقَ بِأَمْرِهِ فِي الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَالُ صَاحِبِهَا وَالنَّفَقَةُ دَيْنٌ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مَعْلُومٌ لِلْقَاضِي فَيُعِينُهُ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ، لِأَنَّ الْغَرِيمَ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ (وَفِي الْأَصْلِ شَرْطُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ لُقَطَةٌ عِنْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْبَيِّنَةُ إنَّمَا تُقَامُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُنْكِرِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ هُنَا. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَتْ تُقَامُ لِلْقَضَاءِ) أَيْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ تُقَامُ

ص: 126

وَإِنْ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي بِقَوْلِ الْقَاضِي لَهُ أَنْفِقْ عَلَيْهِ إنْ كُنْت صَادِقًا فِيمَا قُلْت حَتَّى تَرْجِعَ عَلَى الْمَالِكِ إنْ كَانَ صَادِقًا، وَلَا يَرْجِعُ إنْ كَانَ غَاصِبًا.

وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَالِكِ بَعْدَ مَا حَضَرَ وَلَمْ تُبَعْ اللُّقَطَةُ إذَا شَرَطَ الْقَاضِي الرُّجُوعَ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ. قَالَ (وَإِذَا حَضَرَ) يَعْنِي (الْمَالِكُ فَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ حَتَّى يُحْضِرَ النَّفَقَةَ) لِأَنَّهُ حَيٌّ بِنَفَقَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ؛ وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ رَادُّ الْآبِقِ فَإِنَّ لَهُ الْحَبْسَ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعَلِ لِمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ لَا يَسْقُطُ دَيْنُ النَّفَقَةِ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ قَبْلَ الْحَبْسِ، وَيَسْقُطُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْحَبْسِ شَبِيهَ الرَّهْنِ.

لِاسْتِكْشَافِ الْحَالِ بِأَنَّهُ لُقَطَةٌ لَا لِلْقَضَاءِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي) أَيْ الْمُلْتَقِطُ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي عَلَى أَنَّهَا لُقَطَةٌ عِنْدِي وَلَكِنَّهَا لُقَطَةٌ يَقُولُ الْقَاضِي لِلْمُلْتَقِطِ أَنْفِقْ عَلَيْهَا إنْ كُنْت صَادِقًا فِيمَا قُلْت، وَإِنَّمَا يَقُولُ بِهَذَا التَّرْدِيدِ حَذَرًا عَنْ لُزُومِ أَحَدِ الضَّرَرَيْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَ قَطْعًا تَضَرَّرَ الْمَالِكُ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَلَى تَقْدِيرِ الْغَصْبِ، وَلَوْ لَمْ يَأْمُرْ تَضَرَّرَ الْمُلْتَقِطُ عَلَى تَقْدِيرِ اللُّقَطَةِ وَقَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا.

وَقَوْلُهُ (إذَا شَرَطَ الْقَاضِي الرُّجُوعَ عَلَى الْمَالِكِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إنَّمَا يَرْجِعُ: أَيْ إنَّمَا يَرْجِعُ الْمُلْتَقِطُ عَلَى الْمَالِكِ إذَا شَرَطَ الْقَاضِي الرُّجُوعَ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي مَسَائِلِ اللَّقِيطِ بِقَوْلِهِ وَالْأَصَحُّ أَنْ يَأْمُرَ الْقَاضِي الْمُلْتَقِطَ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنْ يَكُونَ دَيْنًا عَلَى اللَّقِيطِ، فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَى اللَّقِيطِ وَإِلَّا فَلَا، فَهَذَا احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا إنَّ مُجَرَّدَ أَمْرِ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ يَكْفِي لِلرُّجُوعِ. قَالَ (وَإِذَا حَضَرَ: يَعْنِي الْمَالِكَ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ حَيٌّ بِنَفَقَتِهِ، يُقَالُ

ص: 127

قَالَ (وَلُقَطَةُ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ التَّعْرِيفُ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ إلَى أَنْ يَجِيءَ صَاحِبُهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الْحَرَمِ «وَلَا يَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ» وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ، وَفِي التَّصَدُّقِ بَعْدَ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ إبْقَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي سَائِرِهَا، وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِالْتِقَاطُ إلَّا لِلتَّعْرِيفِ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْحُرْمِ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ التَّعْرِيفُ فِيهِ لِمَكَانِ أَنَّهُ لِلْغُرَبَاءِ ظَاهِرًا.

نَشَدْت الضَّالَّةَ: أَيْ عَرَّفْتهَا، وَأَنْشَدْتهَا: أَيْ طَلَبْتهَا. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله «لَا تَحِلُّ لُقَطَةُ مَكَّةَ إلَّا لِمُنْشِدِهَا» أَيْ طَالِبِهَا، وَهُوَ الْمَالِكُ عِنْدَهُ وَالْمُعَرَّفُ عِنْدَنَا الْعِفَاصُ وَهُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ النَّفَقَةُ مِنْ جِلْدٍ أَوْ خِرْقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْوِكَاءُ الرِّبَاطُ، يُقَالُ أَوْكَى السِّقَاءَ: شَدَّهُ بِالْوِكَاءِ وَهُوَ الرِّبَاطُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ.

وَقَوْلُهُ (إبْقَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ تَحْصِيلُ الثَّوَابِ (فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي سَائِرِهَا) أَيْ فِي سَائِرِ اللُّقَطَاتِ (وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ) مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدِهَا» أَيْ لَا يَحِلُّ الْتِقَاطُهَا إلَّا لِلتَّعْرِيفِ. فَإِنْ قِيلَ مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ هَذَا الْمَعْنَى بِالْحَرَمِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالتَّخْصِيصُ بِالْحَرَمِ) وَبَيَانُهُ أَنَّ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَكَانُ

ص: 128

(وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ فَادَّعَى اللُّقَطَةَ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ. فَإِنْ أَعْطَى عَلَامَتَهَا حَلَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ). وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يُجْبَرُ، وَالْعَلَامَةُ مِثْلُ أَنْ يُسَمِّيَ وَزْنَ الدَّرَاهِمِ وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا. لَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ يُنَازِعُهُ فِي الْيَدِ وَلَا يُنَازِعُهُ فِي الْمِلْكِ، فَيُشْتَرَطُ الْوَصْفُ لِوُجُودِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا تُشْتَرَطُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ لِعَدَمِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ وَجْهٍ.

وَلَنَا أَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ كَالْمِلْكِ فَلَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ وَهُوَ الْبَيِّنَةُ اعْتِبَارًا بِالْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الدَّفْعُ عِنْدَ إصَابَةِ الْعَلَامَةِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَعَرَفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ» وَهَذَا لِلْإِبَاحَةِ عَمَلًا بِالْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» الْحَدِيثَ

الْغُرَبَاءِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ إلَيْهَا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ بِحَيْثُ يَنْدُرُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلْغُرَبَاءِ لَا يُظَنُّ عَوْدُهُمْ فِي سَنَةٍ وَأَكْثَرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ التَّعْرِيفُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، فَأَزَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ «لَا يَحِلُّ رَفْعُ لُقَطَتِهَا إلَّا لِمُعَرِّفِهَا» كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْبِلَادِ.

وَقَوْلُهُ (لَهُمَا) أَيْ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ مُنَازَعٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيُكْتَفَى فِي الْحُجَّةِ بِذِكْرِ الْوَصْفِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ (وَلَنَا أَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ كَالْمِلْكِ) بِدَلِيلِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي غَصْبِ الْمُدَبَّرِ بِاعْتِبَارِ إزَالَةِ الْيَدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ مِلْكًا.

وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ الْأَمْرُ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَادْفَعْهَا (لِلْإِبَاحَةِ) أَيْ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ (لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِالْمَشْهُورِ) وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَحُمِلَ عَلَى الْوُجُوبِ لَزِمَ التَّعَارُضُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلتَّرْكِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ عَمَلًا بِالْمَشْهُورِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوَازِ الرَّفْعِ أَيْضًا، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْوُجُوبِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْجَوَازِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَقُلْ

ص: 129

وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا إذَا كَانَ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ اسْتِيثَاقًا، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ التَّكْفِيلِ لِوَارِثٍ غَائِبٍ عِنْدَهُ. وَإِذَا صُدِّقَ قِيلَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ كَالْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ إذَا صَدَّقَهُ.

وَقِيلَ يُجْبَرُ لِأَنَّ الْمَالِكَ هَاهُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ وَالْمُودِعُ مَالِكٌ ظَاهِرًا،

بِانْتِفَاءِ الْجَوَازِ لِانْتِفَاءِ الْوُجُوبِ، وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَاهُنَا فِي مَقَامِ الرَّفْعِ فَجَازَ أَنْ يَدْفَعَهُ عَلَى طَرِيقٍ يَلْتَزِمُهُ الْخَصْمُ.

وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْكَفِيلِ لِوَارِثٍ غَائِبٍ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَإِنَّمَا وَرَدَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ لِشُهْرَةِ حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، هَذَا إذَا دَفَعَ اللُّقَطَةَ بِذِكْرِ الْعَلَامَةِ، أَمَّا إذَا دَفَعَهَا بِإِقَامَةِ الْحَاضِرِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا لَهُ فَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ كَفِيلًا. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمَالِكَ هَاهُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ) يَعْنِي فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ هُوَ الَّذِي حَضَرَ، فَلَمَّا أَقَرَّ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ كَانَ إقْرَارُهُ مُلْزِمًا لِلدَّفْعِ إلَيْهِ (وَأَمَّا الْمُودِعُ فَإِنَّهُ مَالِكٌ ظَاهِرًا) فَبِالْإِقْرَارِ بِالْوَكَالَةِ لَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ بِيَقِينٍ، ثُمَّ فِي الْوَدِيعَةِ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ بَعْدَمَا صَدَّقَهُ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُودِعُ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ وَضَمِنَ الْمُودَعَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ وَهَاهُنَا لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ لِأَنَّ هُنَاكَ فِي زَعْمِ الْمُودِعِ أَنَّ الْوَكِيلَ عَامِلٌ لِلْمُودِعِ فِي قَبْضِهِ لَهُ بِأَمْرِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِضَامِنٍ بَلْ الْمُودِعُ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ إيَّاهُ، وَمَنْ ظُلِمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ

وَهَاهُنَا فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْقَابِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ

ص: 130

وَلَا يَتَصَدَّقُ بِاللُّقَطَةِ عَلَى غَنِيٍّ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ التَّصَدُّقُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَإِنْ لَمْ يَأْتِ» يَعْنِي صَاحِبَهَا، «فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ» وَالصَّدَقَةُ لَا تَكُونُ عَلَى غَنِيٍّ فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ (وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَنِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ رضي الله عنه «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَانْتَفِعْ بِهَا» وَكَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْفَقِيرِ حَمْلًا لَهُ عَلَى رَفْعِهَا صِيَانَةً لَهَا وَالْغَنِيُّ يُشَارِكُهُ فِيهِ.

وَلَنَا مَالُ الْغَيْرِ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ وَالْإِبَاحَةُ لِلْفَقِيرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ، أَوْ بِالْإِجْمَاعِ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْغَنِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَخْذِ لِاحْتِمَالِ افْتِقَارِهِ فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، وَالْفَقِيرُ قَدْ يَتَوَانَى لِاحْتِمَالِ اسْتِغْنَائِهِ فِيهَا

وَأَنَّهُ ضَامِنٌ بَعْدَمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ بِهَذَا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

وَقَوْلُهُ (وَكَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ) أَيْ الْأَغْنِيَاءِ جَمْعُ الْمَيْسُورِ ضِدُّ الْمَعْسُورِ. وَقَوْلُهُ (حَمْلًا لَهُ عَلَى رَفْعِهَا) أَيْ لِيَكُونَ حَامِلًا (وَبَاعِثًا عَلَى رَفْعِهَا) وَقَوْلُهُ (لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ) يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} إلَخْ وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَعْتَدُوا} وَقَوْلُهُ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (قَوْلُهُ وَالْإِبَاحَةُ لِلْفَقِيرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ» (قَوْلُهُ وَالْغَنِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَخْذِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْفَقِيرِ (حَمْلًا لَهُ عَلَى رَفْعِهَا).

ص: 131

وَانْتِفَاعُ أُبَيٍّ رضي الله عنه كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَائِزٌ بِإِذْنِهِ (وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ فَقِيرًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا) لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِهَذَا جَازَ الدَّفْعُ إلَى فَقِيرٍ غَيْرِهِ (وَكَذَا إذَا كَانَ الْفَقِيرُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ غَنِيًّا) لِمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ وَانْتِفَاعُ أُبَيِّ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِحَدِيثِ أُبَيِّ رضي الله عنه.

وَقَوْلُهُ (وَهُوَ جَائِزٌ) أَيْ الِانْتِفَاعُ لِلْغَنِيِّ جَائِزٌ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ.

وَقَوْلُهُ (لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ) يَعْنِي نَظَرَ الثَّوَابِ لِلْمَالِكِ وَنَظَرَ الِانْتِفَاعِ لِلْمُلْتَقِطِ.

وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 132

‌كِتَابُ الْإِبَاقِ

(الْآبِقُ أَخْذُهُ أَفْضَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ)

كِتَابُ الْإِبَاقِ

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رحمه الله: هَذِهِ الْكُتُبُ، أَعْنِي اللَّقِيطَ وَاللُّقَطَةَ وَالْإِبَاقَ وَالْمَفْقُودَ كُتُبٌ يُجَانِسُ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي كُلٍّ مِنْهَا عُرْضَةُ الزَّوَالِ وَالْهَلَاكِ. وَالْإِبَاقُ: هُوَ الْهَرَبُ، وَالْآبِقُ: هُوَ الْهَارِبُ مِنْ مَالِكِهِ قَصْدًا (وَالْآبِقُ أَخْذُهُ أَفْضَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَقْوَى) أَيْ يَقْدِرُ (عَلَيْهِ

ص: 133

لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ، وَأَمَّا الضَّالُّ فَقَدْ قِيلَ كَذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ فَيَجِدُهُ الْمَالِكُ وَلَا كَذَلِكَ الْآبِقُ ثُمَّ آخِذُ الْآبِقِ يَأْتِي بِهِ إلَى السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ، ثُمَّ إذَا رُفِعَ الْآبِقُ إلَيْهِ يَحْبِسُهُ، وَلَوْ رُفِعَ الضَّالُّ لَا يَحْبِسُهُ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى الْآبِقِ الْإِبَاقُ ثَانِيًا، بِخِلَافِ الضَّالِّ

قَالَ (وَمَنْ رَدَّ الْآبِقَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ عَلَيْهِ جُعْلُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَإِنْ رَدَّهُ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.

وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ إلَّا بِالشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِمَنَافِعِهِ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الضَّالَّ.

لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ) إذْ الْآبِقُ هَالِكٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيَكُونُ الرَّدُّ إحْيَاءً لَهُ (وَأَمَّا الضَّالُّ) هُوَ الَّذِي لَمْ يَهْتَدِ إلَى طَرِيقِ مَنْزِلِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَقِيلَ إنَّهُ كَذَلِكَ، وَقِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ فَيَجِدُهُ الْمَالِكُ، وَلَا كَذَلِكَ الْآبِقُ، ثُمَّ آخِذُ الْآبِقِ يَأْتِي بِهِ إلَى السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ (لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ بِنَفْسِهِ) وَهَذَا اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ، وَأَمَّا اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ فَهُوَ أَنَّ الرَّادَّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ حَفِظَهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ إلَى الْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ الضَّالُّ وَالضَّالَّةُ الْوَاجِدُ فِيهِمَا بِالْخِيَارِ.

وَقَوْلُهُ (ثُمَّ إذَا دُفِعَ الْآبِقُ إلَيْهِ يَحْبِسُهُ) ظَاهِرٌ.

ص: 134

وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْجُعْلِ، إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَا دُونَهَا، فَأَوْجَبْنَا الْأَرْبَعِينَ فِي مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَمَا دُونَهَا فِيمَا دُونَهُ تَوْفِيقًا وَتَلْفِيقًا بَيْنَهُمَا،

وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْجُعْلِ، إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَا دُونَهَا) قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي جُعْلِ الْآبِقِ دِينَارٌ أَوْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا.

وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي جُعْلِ الْآبِقِ دِينَارٌ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رضي الله عنه: إنْ رَدَّهُ فِي الْمِصْرِ فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَإِنْ رَدَّهُ فِي خَارِجِ الْمِصْرِ اسْتَحَقَّ أَرْبَعِينَ (فَأَوْجَبْنَا الْأَرْبَعِينَ فِي مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَمَا دُونَهَا فِيمَا دُونَهُ تَوْفِيقًا وَتَلْفِيقًا) أَيْ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ بِأَقَلِّ الْمَقَادِيرِ لِتَيَقُّنِهِ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ بِالْأَقَلِّ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ مَنْ أَفْتَى بِالْأَقَلِّ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِمَّا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ، وَقَوْلُ مَنْ أَفْتَى بِالْأَكْثَرِ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ السَّفَرِ، وَهَذَا أَوْلَى

ص: 135

وَلِأَنَّ إيجَابَ الْجُعْلِ أَصْلُهُ حَامِلٌ عَلَى الرَّدِّ إذْ الْحِسْبَةُ نَادِرَةٌ فَتَحْصُلُ صِيَانَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَالتَّقْدِيرُ بِالسَّمْعِ وَلَا سَمْعَ فِي الضَّالِّ فَامْتَنَعَ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى صِيَانَةِ الضَّالِّ دُونَهَا إلَى صِيَانَةِ الْآبِقِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَارَى وَالْآبِقُ يَخْتَفِي، وَيُقَدَّرُ الرَّضْخُ فِي الرَّدِّ عَمَّا دُونَ السَّفَرِ بِاصْطِلَاحِهِمَا أَوْ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَقِيلَ تُقَسَّمُ الْأَرْبَعُونَ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ إذْ هِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ السَّفَرِ.

قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يُقْضَى لَهُ بِقِيمَتِهِ إلَّا دِرْهَمًا) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهَا وَلِهَذَا

لِأَنَّهُ يُعْمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا.

وَقَوْلُهُ (وَالتَّقْدِيرُ بِالسَّمْعِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْآبِقِ عَلَى الضَّالِّ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْجُعْلِ. وَفِي قَوْلِهِ (وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ) إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ الْإِلْحَاقِ دَلَالَةً لِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّسَاوِيَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْمُلْحَقِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ. وَقَوْلُهُ (وَيُقَدَّرُ الرَّضْخُ) تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ وَإِنْ رَدَّهُ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ، فَإِنْ عَمِلُوا بِالْقِسْمَةِ كَانَ لِكُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ. قِيلَ وَالْأَشْبَهُ التَّفْوِيضُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ.

ص: 136

لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى الزِّيَادَةِ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَلَى الْأَقَلِّ لِأَنَّهُ حَطَّ مِنْهُ.

وَمُحَمَّدٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى الرَّدِّ لِيَحْيَا مَالُ الْمَالِكِ فَيَنْقُصُ دِرْهَمٌ لِيَسْلَمَ لَهُ شَيْءٌ تَحْقِيقًا لِلْفَائِدَةِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ إذَا كَانَ الرَّدُّ فِي حَيَاةٍ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ مِلْكِهِ؛ وَلَوْ رَدَّ بَعْدَ مَمَاتِهِ لَا جُعْلَ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الْقِنِّ، وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ أَبَا الْمَوْلَى أَوْ ابْنَهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا جُعْلَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَبَرَّعُونَ بِالرَّدِّ عَادَةً وَلَا يَتَنَاوَلُهُمْ إطْلَاقُ الْكِتَابِ.

قَوْلُهُ (وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ فِي هَذَا) أَيْ فِي وُجُوبِ الْجُعْلِ (بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ) لِأَنَّهُمَا مَمْلُوكَانِ لِلْمَوْلَى وَهُوَ يَسْتَكْسِبُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ، وَتَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله بِقَوْلِهِ (لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ مِلْكِهِ) أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِ غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ، لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا مَالِيَّةَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُمَا يَعْتِقَانِ بِالْمَوْتِ) بِإِطْلَاقِهِ ظَاهِرًا فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَفِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ الَّذِي لَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ السِّعَايَةُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى مَالٌ سِوَاهُ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ عَلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَحُرٌّ مَدْيُونٌ عِنْدَهُمَا، وَلَا جُعْلَ لِرَادِّ الْمُكَاتَبِ أَوْ الْحُرِّ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ أَبَا الْمَوْلَى أَوْ ابْنَهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عِيَالِهِ ظَاهِرًا، وَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ مَا إذَا لَمْ يَكُونَا فِي عِيَالِهِ. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَحِقَّ كُلٌّ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ الْجُعْلَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ، لَكِنْ اُسْتُحْسِنَ فَقِيلَ إذَا وَجَدَ عَبْدَ أَبِيهِ وَلَيْسَ فِي عِيَالِهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّ رَدَّ الْآبِقِ عَلَى أَبِيهِ مِنْ جُمْلَةِ الْخِدْمَةِ، وَخِدْمَةُ الْأَبِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا وَجَدَ الْأَبُ عَبْدَ ابْنِهِ وَلَيْسَ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ لِأَنَّ خِدْمَةَ الِابْنِ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ عَلَى الْأَبِ.

وَقَوْلُهُ (فَلَا يَتَنَاوَلُهُمْ إطْلَاقُ الْكِتَابِ) أَيْ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ رَدَّ الْآبِقَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَالَ

ص: 137

قَالَ (وَإِنْ أَبَقَ مِنْ الَّذِي رَدَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لَكِنَّ هَذَا إذَا أَشْهَدَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي اللُّقَطَةِ.

قَالَ رضي الله عنه وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَائِعِ مِنْ الْمَالِكِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْآبِقَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْجُعْلَ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ بِحَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ فِي يَدِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا. قَالَ (وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى كَمَا لَقِيَهُ صَارَ قَابِضًا بِالْإِعْتَاقِ) كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى، وَكَانَ إذَا بَاعَهُ مِنْ الرَّادِّ لِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لَهُ، وَالرَّادُّ وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْبَيْعِ.

وَإِنْ أَبَقَ مِنْ الَّذِي رَدَّهُ) أَيْ إذَا أَبَقَ الْآبِقُ مِنْ الَّذِي أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أَيْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ (لَكِنْ هَذَا إذَا أَشْهَدَ) عِنْدَ الْأَخْذِ، وَقَدْ (ذَكَرْنَاهُ فِي اللُّقَطَةِ) أَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ) أَيْ نُسَخِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ (لَا شَيْءَ لَهُ) أَيْ لَا جُعْلَ لِلرَّادِّ إذَا أَبَقَ الْآبِقُ مِنْهُ (وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ) أَيْ الرَّادَّ (فِي مَعْنَى الْبَائِعِ مِنْ الْمَالِكِ) لِأَنَّ عَامَّةَ مَنَافِعِ الْعَبْدِ زَالَتْ بِالْإِبَاقِ، وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُهَا الْمَوْلَى بِالرَّدِّ بِمَالٍ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَالْبَائِعُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ الْمَبِيعُ سَقَطَ الثَّمَنُ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا يَسْقُطُ الْجُعْلُ، وَاسْتُوْضِحَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ (وَكَذَا إذَا مَاتَ فِي يَدِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا) إنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ (وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى) أَيْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ (وَقْتَ لِقَائِهِ صَارَ قَابِضًا بِالْإِعْتَاقِ) فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجُعْلُ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ بِالْإِعْتَاقِ إلَى أَنَّهُ لَوْ دَبَّرَ مَكَانَ الْإِعْتَاقِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ لِلْمَالِيَّةِ فَيَصِيرُ بِهِ قَابِضًا كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَمَّا التَّدْبِيرُ فَلَيْسَ بِإِتْلَافٍ لِلْمَالِيَّةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى قَابِضًا إلَّا أَنْ يَصِلَ إلَى يَدِهِ (وَكَذَا إذَا بَاعَهُ مِنْ الرَّادِّ لِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لَهُ) وَهَذَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَصِيرُ بِهَا قَابِضًا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى يَدِهِ لِأَنَّ فِي الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَصِلْ الْعَبْدُ إلَى يَدِ الْمَوْلَى وَلَا يَدَ لَهُ فَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ الْقَبْضِ. وَقَوْلُهُ وَالرَّدُّ وَإِنْ

ص: 138

لَكِنَّهُ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَجَازَ.

قَالَ (وَيَنْبَغِي إذَا أَخَذَهُ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ لِيَرُدَّهُ) فَالْإِشْهَادُ حَتْمٌ فِيهِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، حَتَّى لَوْ رَدَّهُ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ وَقْتَ الْأَخْذِ لَا جُعْلَ لَهُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ أَمَارَةٌ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهُ مِنْ الْآخِذِ أَوْ اتَّهَبَهُ أَوْ وَرِثَهُ فَرَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ لَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ رَدَّهُ لِنَفْسِهِ، إلَّا إذَا أَشْهَدَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِيَرُدَّهُ فَيَكُونُ لَهُ الْجُعْلُ وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ

(وَإِنْ كَانَ الْآبِقُ رَهْنًا فَالْجُعْلُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ) لِأَنَّهُ أَحْيَا مَالِيَّتَهُ بِالرَّدِّ وَهِيَ حَقُّهُ، إذْ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهَا وَالْجُعْلُ بِمُقَابِلَةِ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ، وَالرَّدُّ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ، لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ فَبِقَدْرِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَالْبَاقِي عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّ حَقَّهُ بِالْقَدْرِ الْمَضْمُونِ فَصَارَ كَثَمَنِ الدَّوَاءِ

كَانَ لَهُ حُكْمُ الْبَيْعِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ قَدْ قُلْتُمْ مِنْ قَبْلُ إنَّ الرَّدَّ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ الْمَالِكِ ثُمَّ جَوَّزْتُمْ بَيْعَ الْمَالِكِ مِنْ الرَّادِّ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِدُخُولِهِ تَحْتَ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، وَالرَّدُّ لَيْسَ بِبَيْعٍ كَامِلٍ بَلْ هُوَ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إعَادَةُ مِلْكِ التَّصَرُّفِ إلَيْهِ فَقَطْ، لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لَا يَزُولُ عَنْ الْمَوْلَى بِالْإِبَاقِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ النَّهْيِ فَيَكُونُ جَائِزًا.

وَقَوْلُهُ (وَيَنْبَغِي إذَا أَخَذَهُ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ) ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (فَإِنْ كَانَ الْآبِقُ رَهْنًا) سَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ فِي الرَّهْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ (وَالْجُعْلُ بِمُقَابَلَةِ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ) فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إذَا رَدَّ أُمَّ الْوَلَدِ وَمَا ثَمَّةَ إحْيَاءُ الْمَالِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الرَّقَبَةِ، وَلَهَا مَالِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ كَسْبِهَا لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهَا وَقَدْ أَحْيَا الرَّادُّ ذَلِكَ بِرَدِّهِ.

ص: 139

وَتَخْلِيصُهُ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ قَضَاءَ الدَّيْنِ، وَإِنْ بِيعَ بُدِئَ بِالْجُعْلِ وَالْبَاقِي لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ فِيهِ كَالْمَوْقُوفِ فَتَجِبُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ جَانِيًا فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ، وَعَلَى الْأَوْلِيَاءِ إنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ لِعَوْدِهَا إلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَوْهُوبًا فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِنْ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الرَّدِّ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لِلْوَاهِبِ مَا حَصَلَتْ بِالرَّدِّ بَلْ بِتَرْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَعْدَ الرَّدِّ، وَإِنْ كَانَ لِصَبِيٍّ فَالْجُعْلُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ،

قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا) أَيْ الْعَبْدُ الْآبِقُ إذَا كَانَ مَدْيُونًا بِأَنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فَلَحِقَهُ الدَّيْنُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ اسْتَهْلَكَ مَالَ الْغَيْرِ وَأَقَرَّ بِهِ مَوْلَاهُ (قَوْلُهُ كَالْمَوْقُوفِ) يَعْنِي بَيْنَ أَنْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْمَوْلَى مَتَى اخْتَارَ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَصِيرَ لِلْغُرَمَاءِ مَتَى اخْتَارَ الْبَيْعَ، وَلَمَّا تَوَقَّفَ الْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ تَوَقَّفَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ وَهُوَ الْجُعْلُ (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ) أَيْ الْآبِقُ مَوْهُوبًا فَالْجُعْلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِنْ (رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الرَّدِّ) وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ الْوَاصِلَةَ هَذِهِ لِدَفْعِ شُبْهَةٍ تُرَدُّ عَلَى مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ فَتَجِبُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ لَهُ وَبِقَوْلِهِ فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ، فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْوَاهِبِ لِوُجُودِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي حَقِّهِ.

وَوَجْهُ الدَّفْعِ (أَنَّ الْمَنْفَعَةَ لِلْوَاهِبِ مَا حَصَلَتْ بِالرَّدِّ) أَيْ بِرَدِّ الْآبِقِ (بَلْ بِتَرْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَعْدَ الرَّدِّ) مِنْ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ التَّصَرُّفِ الَّذِي يَمْنَعُ الْوَاهِبَ عَنْ الرُّجُوعِ فِي هِبَتِهِ فَلَا يَجِبُ الْجُعْلُ عَلَى الْوَاهِبِ لِذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَنْفَعَةُ حَصَلَتْ لِلْوَاهِبِ بِالْمَجْمُوعِ وَهُوَ تَرْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْفِعْلَ وَرَدُّ الرَّادِّ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ، لَكِنَّ تَرْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْفِعْلَ آخِرُهُمَا وُجُودًا فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ كَمَا فِي الْقَرَابَةِ مَعَ الْمِلْكِ فَيُضَافُ الْعِتْقُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا، كَذَا هَذَا. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ لِصَبِيٍّ إلَى آخِرِهِ) ظَاهِرٌ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

ص: 140

وَإِنْ رَدَّهُ وَصِيُّهُ فَلَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الرَّدَّ فِيهِ.

‌كِتَابُ الْمَفْقُودِ

(إذَا غَابَ الرَّجُلُ فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَوْضِعٌ وَلَا يُعْلَمُ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ نَصَّبَ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ) لِأَنَّ الْقَاضِي نَصَّبَ نَاظِرًا لِكُلِّ عَاجِزٍ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْمَفْقُودُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَفِي نَصْبِ الْحَافِظِ لِمَالِهِ وَالْقَائِمِ عَلَيْهِ نَظَرٌ لَهُ. وَقَوْلُهُ يَسْتَوْفِي حَقَّهُ لِإِخْفَاءِ أَنَّهُ يَقْبِضُ غَلَّاتِهِ وَالدَّيْنَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ غَرِيمٌ مِنْ غُرَمَائِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ، وَيُخَاصِمُ فِي دَيْنٍ وَجَبَ بِعَقْدِهِ

كِتَابُ الْمَفْقُودِ:

قَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ هَذَا الْكِتَابِ هُنَا، وَالْمَفْقُودُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفَقْدِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْأَضْدَادِ، يُقَالُ فَقَدْت الشَّيْءَ: أَيْ أَضْلَلْته، وَفَقَدْته: أَيْ طَلَبْته، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْمَفْقُودِ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ أَهْلِهِ وَهُمْ فِي طَلَبِهِ. وَذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَفْهُومِهِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ (إذَا غَابَ الرَّجُلُ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَوْضِعٌ وَلَمْ يُعْلَمْ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ) وَقَوْلُهُ (نَصَّبَ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ) إشَارَةٌ إلَى بَيَانِ حُكْمِهِ فِي الشَّرْعِ،

ص: 141

لِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِي حُقُوقِهِ، وَلَا يُخَاصِمُ فِي الَّذِي تَوَلَّاهُ الْمَفْقُودُ وَلَا فِي نَصِيبٍ لَهُ فِي عَقَارٍ أَوْ عُرُوضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِلَا خِلَافٍ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ فِي الدَّيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا رَآهُ الْقَاضِي وَقَضَى بِهِ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، ثُمَّ مَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُ صُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَيَنْظُرُ لَهُ بِحِفْظِ الْمَعْنَى (وَلَا يَبِيعُ مَا لَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ فِي نَفَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ إلَّا فِي حِفْظِ مَالِهِ فَلَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُ حِفْظِ السُّورَةِ وَهُوَ مُمْكِنٌ.

وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ (قَوْلُهُ وَلَا فِي نَصِيبٍ لَهُ فِي عَقَارٍ أَوْ عُرُوضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ) بِأَنْ كَانَ الشَّيْءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَفْقُودِ وَغَيْرِهِ (قَوْلُهُ وَأَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلَ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي (لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِلَا خِلَافٍ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ فِي الدَّيْنِ) فَإِنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُهَا (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ) يَعْنِي أَنَّ وَكِيلَ الْقَاضِي لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ الْخُصُومَةَ كَانَ حُكْمُ الْقَاضِي بِتَنْفِيذِ الْخُصُومَةِ قَضَاءً بِالدَّيْنِ لِلْغَائِبِ، وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ وَلِلْغَائِبِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَالْخُصُومَةُ مِنْ الْغَائِبِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ (إلَّا إذَا رَآهُ الْقَاضِي) أَيْ جَعَلَ ذَلِكَ رَأْيًا لَهُ وَحَكَمَ بِهِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ إذَا لَاقَى فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ نَفَّذَهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُجْتَهَدُ فِيهِ نَفْسُ الْقَضَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ نَفَاذُهُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاضِي مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُجْتَهَدَ فِيهِ سَبَبٌ لِلْقَضَاءِ وَهُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ هَلْ تَكُونُ حُجَّةً مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ أَوْ لَا، فَإِذَا رَآهَا الْقَاضِي حُجَّةً وَقَضَى بِهَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ (قَوْلُهُ ثُمَّ مَا كَانَ يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ يَبِيعُهُ الْقَاضِي) ظَاهِرٌ.

ص: 142

قَالَ (وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ مِنْ مَالِهِ) وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى الْأَوْلَادِ بَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ قَرَابَةِ الْوِلَادِ.

وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ حَالَ حَضْرَتِهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ حِينَئِذٍ يَكُونُ إعَانَةً، وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فِي حَضْرَتِهِ إلَّا بِالْقَضَاءِ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي غَيْبَتِهِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حِينَئِذٍ تَجِبُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ مُمْتَنِعٌ، فَمِنْ الْأَوَّلِ الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَالْإِنَاثُ مِنْ الْكِبَارِ وَالزَّمِنِيُّ مِنْ الذُّكُورِ الْكِبَارِ، وَمِنْ الثَّانِي الْأَخُ وَالْأُخْتُ وَالْخَالُ وَالْخَالَةُ. وَقَوْلُهُ مِنْ مَالِهِ مُرَادُهُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي مَالِهِ يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ النَّقْدَانِ وَالتِّبْرُ بِمَنْزِلَتِهِمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ قِيمَةً كَالْمَضْرُوبِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَتْ وَدِيعَةً أَوْ دَيْنًا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمَا إذَا كَانَ الْمُودِعُ

قَوْلُهُ وَمِنْ الثَّانِي الْأَخُ وَالْأُخْتُ) إنَّمَا كَانَ مِنْ الثَّانِي لِأَنَّهَا نَفَقَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ (وَهِيَ مُجْتَهَدٌ فِيهَا فَلَا تَجِبُ إلَّا بِالْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا) وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْأَخْذُ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالرِّضَا.

وَقَوْلُهُ (فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ) يَعْنِي الْمَلْبُوسَ وَالْمَطْعُومَ فِي مَالِهِ (قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ إنْفَاقِ الْقَاضِي عَلَيْهِمْ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (إذَا كَانَتْ فِي يَدِ الْقَاضِي)

ص: 143

وَالْمَدْيُونُ مُقِرِّينَ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ وَالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُونَا ظَاهِرَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَا ظَاهِرَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَاهِرَ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ أَوْ النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ يَشْتَرِطُ الْإِقْرَارَ بِمَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.

فَإِنْ دَفَعَ الْمُودِعُ بِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي يَضْمَنُ الْمُودِعُ وَلَا يُبَرَّأُ الْمَدْيُونُ لِأَنَّهُ مَا أَدَّى إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا إلَى نَائِبِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِأَمْرِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَاضِي نَائِبٌ عَنْهُ،

وَهَذَا) أَيْ الِاحْتِيَاجُ إلَى الْإِقْرَارِ إنَّمَا هُوَ (إذَا لَمْ يَكُونَا) أَيْ الدَّيْنُ الْوَدِيعَةُ أَوْ النِّكَاحُ، وَالنَّسَبُ جَعْلُ الدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ شَيْئًا وَاحِدًا، وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُمَا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ

(قَوْلُهُ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ جَوَابِ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ إنَّهُ لَا يُنْفِقُ مِنْهُمَا عَلَيْهِمْ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُودَعِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْغَائِبِ، وَهُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ وَلَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُودَعُ مُقِرٌّ بِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْغَائِبِ، وَأَنَّ لِلزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ حَقَّ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ، وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ فِيمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ فَيَنْتَصِبُ هُوَ خَصْمًا بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى الْقَضَاءُ مِنْهُ إلَى الْمَفْقُودِ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْهُ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْ الْغَائِبِ

ص: 144

وَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ جَاحِدَيْنِ أَصْلًا أَوْ كَانَا جَاحِدَيْنِ الزَّوْجِيَّةَ وَالنَّسَبَ لَمْ يَنْتَصِبْ أَحَدٌ مِنْ مُسْتَحِقِّي النَّفَقَةِ خَصْمًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَدَّعِيه لِلْغَائِبِ لَمْ يَتَعَيَّنْ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ وَهُوَ النَّفَقَةُ، لِأَنَّهَا كَمَا تَجِبُ فِي هَذَا الْمَالِ تَجِبُ فِي مَالٍ آخَرَ لِلْمَفْقُودِ.

قَالَ (وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ) وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه هَكَذَا قَضَى فِي الَّذِي اسْتَهْوَاهُ الْجِنُّ بِالْمَدِينَةِ وَكَفَى

فِي الْقَبْضِ لِلْحِفْظِ وَلَا حِفْظَ فِي الْقَبْضِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى هَؤُلَاءِ فَلَا يَكُونُ نَائِبًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي إيفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ كَمَا هُوَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْحِفْظِ وَلِهَذَا جَازَ لَهُ أَنْ يُوفِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ إذَا عَلِمَ بِوُجُوبِهِ بِخِلَافِ الْمُودَعِ فَإِنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْحِفْظِ فَقَطْ. فَإِنْ قُلْت: إذَا دَفَعَ الْمُودَعُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي وَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَ لِأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى مَنْ فِي عِيَالِ الْمُودَعِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. أُجِيبَ بِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِمْ لَا يُوجِبُهُ إذَا كَانَ لِلْحِفْظِ وَالدَّفْعُ لِلْإِنْفَاقِ دَفْعٌ لِلْإِتْلَافِ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ لِلْغَائِبِ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ لَا تُسْمَعُ إلَّا مِنْ الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ وَالْمَالِكُ غَائِبٌ وَلَا نَائِبَ لَهُ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَمْ يُوَكَّلْ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا حُكْمًا لِأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ لِلْغَائِبِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ (وَهُوَ النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا كَمَا تَجِبُ فِي هَذَا الْمَالِ تَجِبُ فِي مَالٍ آخَرَ لِلْمَفْقُودِ) وَلَا يَكُونُ الثَّابِتُ حُكْمًا إلَّا فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَسَيَجِيءُ تَمَامُهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ (وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَقِصَّةُ مَنْ اسْتَهْوَتْهُ الْجِنُّ: أَيْ جَرَّتْهُ إلَى الْمَهَاوِي وَهِيَ الْمَهَالِكُ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أَنَا لَقِيت الْمَفْقُودَ فَحَدَّثَنِي حَدِيثَهُ قَالَ: أَكَلْت خَزِيرًا فِي أَهْلِي فَخَرَجْت فَأَخَذَنِي نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَمَكَثْت فِيهِمْ، ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فِي عِتْقِي فَأَعْتَقُونِي ثُمَّ أَتَوْا بِي قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا: أَتَعْرِفُ الْخَلِيلَ؟ فَقُلْت: نَعَمْ، فَخَلُّوا عَنِّي، فَجِئْت فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ أَبَانَ امْرَأَتِي بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ وَحَاضَتْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ، فَخَيَّرَنِي عُمَرُ رضي الله عنه بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيَّ وَبَيْنَ الْمَهْرِ. قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا مِمَّا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 145

بِهِ إمَامًا، وَلِأَنَّهُ مَنَعَ حَقَّهَا بِالْغَيْبَةِ فَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ اعْتِبَارًا بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ، وَبَعْدَ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَخَذَ الْمِقْدَارَ مِنْهُمَا الْأَرْبَعَ مِنْ الْإِيلَاءِ وَالسِّنِينَ مِنْ الْعُنَّةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ. وَلَنَا قَوْلُهُ «صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ» .

وَقَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِيهَا: هِيَ امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَسْتَبِينَ مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ

وَلِأَنَّهُ مَنَعَ حَقَّهَا بِالْغَيْبَةِ فَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ اعْتِبَارٍ بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ) وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مَنْعُ الزَّوْجِ حَقَّ الْمَرْأَةِ وَرَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهَا، فَإِنَّ الْعِنِّينَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ لِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَبَيْنَ الْمَوْلَى وَامْرَأَتِهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَلَكِنَّ عُذْرَ الْمَفْقُودِ أَظْهَرُ مِنْ عُذْرِ الْمَوْلَى وَالْعِنِّينِ، فَيَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِ الْمُدَّتَانِ فِي التَّرَبُّصِ بِأَنْ تُجْعَلَ السُّنُونَ مَكَانَ الشُّهُورِ فَتَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ (عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ)(قَوْلُهُ وَلَنَا) ظَاهِرٌ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْبَيَانَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام مُجْمَلٌ، وَقَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه

ص: 146

خَرَجَ بَيَانًا لِلْبَيَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَرْفُوعِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عُرِفَ ثُبُوتُهُ وَالْغَيْبَةُ لَا تُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَالْمَوْتُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ فَلَا يُزَالُ النِّكَاحُ بِالشَّكِّ، وَعُمَرُ رضي الله عنه رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِيلَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا مُعَجَّلًا فَاعْتُبِرَ فِي الشَّرْعِ مُؤَجَّلًا فَكَانَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ، وَلَا بِالْعُنَّةِ لِأَنَّ الْغَيْبَةَ تَعْقُبُ الْأَوَدَةَ، وَالْعُنَّةُ قَلَّمَا تَنْحَلُّ بَعْدَ اسْتِمْرَارِهَا سَنَةً.

قَالَ (وَإِذَا تَمَّ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِ) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذِهِ رِوَايَةُ

خَرَجَ بَيَانًا لِذَلِكَ الْمُبْهَمِ (قَوْلُهُ وَعُمَرُ رضي الله عنه رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه) رَوَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى (قَوْلُهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِيلَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ مَالِكٍ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ عَلَى الْإِيلَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْإِيلَاءَ إذَا كَانَ طَلَاقًا كَانَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ، بِخِلَافِ الْمَفْقُودِ فَإِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ طَلَاقٌ لَا مُعَجَّلٌ وَلَا مُؤَجَّلٌ (قَوْلُهُ وَلَا بِالْعُنَّةِ) جَوَابٌ عَنْ الْقِيَاسِ بِالْعُنَّةِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعُنَّةَ بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّتْ سَنَةً كَانَتْ طَبِيعَةً وَالطَّبِيعَةُ لَا تَنْحَلُّ فَفَاتَ حَقُّهَا عَلَى التَّأْبِيدِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ سَنَةٍ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا، بِخِلَافِ امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ فَإِنَّ حَقَّهَا مَرْجُوٌّ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعِ سِنِينَ وَبَعْدَهُ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا تَمَّ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً) اخْتَلَفَتْ رِوَايَاتُ أَصْحَابِنَا فِي مُدَّةِ الْمَفْقُودِ؛ فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ

ص: 147

الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ، وَفِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِتِسْعِينَ، وَالْأَقْيَسُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ. وَالْأَرْفَقُ أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ، وَإِذَا حُكِمَ بِمَوْتِهِ اعْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ (وَيُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ) كَأَنَّهُ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُعَايَنَةً إذْ الْحُكْمِيُّ مُعْتَبَرٌ بِالْحَقِيقِيِّ

أَنَّهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ، فَإِذَا مَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِ. قِيلَ: وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الطَّبَائِعِ وَالنُّجُومِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ حَيًّا حُكِمَ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ مَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَطَرِيقُهُ فِي الشَّرْعِ الرُّجُوعُ إلَى أَمْثَالِهِ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَمَهْرِ مِثْلِ النِّسَاءِ، وَبَقَاؤُهُ بَعْدَ مَوْتِ جَمِيعِ أَقْرَانِهِ نَادِرٌ وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ دُونَ النَّادِرِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ بِأَقْرَانِهِ فِي جَمِيعِ الدُّنْيَا أَوْ فِي الْإِقْلِيمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِ الْفَرَائِضِ السِّرَاجِيَّةِ، وَفِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِمِائَةِ سَنَةٍ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ لَا يَعِيشَ أَحَدٌ فِي زَمَانِنَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ بِتِسْعِينَ لِأَنَّهُ مُتَوَسِّطٌ لَيْسَ بِغَالِبٍ وَلَا نَادِرٍ، وَالْأَقْيَسُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمَقِيسُ عَلَى طَرِيقِ الشُّذُوذِ كَقَوْلِهِمْ: أَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النَّحْيَيْنِ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ كَالْمِائَةِ وَالتِّسْعِينَ وَلَكِنَّهُ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ بِشَيْءٍ أَصْلًا لَتَعَطَّلَ حُكْمُ الْمَفْقُودِ، وَالْأَرْفَقُ أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ الْمَقَادِيرِ (قَوْلُهُ وَإِذَا حُكِمَ بِمَوْتِهِ) ظَاهِرٌ.

ص: 148

(وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَرِثْ مِنْهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ بِمَوْتِهِ فِيهَا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مَعْلُومَةً (وَلَا يَرِثُ الْمَفْقُودُ أَحَدًا مَاتَ فِي حَالِ فَقْدِهِ) لِأَنَّ بَقَاءَهُ حَيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ

(وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِلْمَفْقُودِ وَمَاتَ الْمُوصِي) ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ الْمَفْقُودِ وَارِثٌ لَا يُحْجَبُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِهِ يُعْطَى أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي

وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِلْمَفْقُودِ وَمَاتَ الْمُوصِي) أَيْ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بَلْ تُوقَفُ. وَذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَإِذَا أَوْصَى

ص: 149

وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ يُحْجَبُ بِهِ لَا يُعْطَى أَصْلًا. بَيَانُهُ: رَجُلٌ مَاتَ عَنْ ابْنَتَيْنِ وَابْنِ مَفْقُودٍ وَابْنِ ابْنٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْأَجْنَبِيِّ وَتَصَادَقُوا عَلَى فَقْدِ الِابْنِ وَطَلَبَتْ الِابْنَتَانِ الْمِيرَاثَ تُعْطَيَانِ النِّصْفَ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ وَلَا يُعْطَى وَلَدَ الِابْنِ لِأَنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِالْمَفْقُودِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا فَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْمِيرَاثَ بِالشَّكِّ (وَلَا يُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْأَجْنَبِيِّ إلَّا إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ خِيَانَةٌ)

رَجُلٌ لِلْمَفْقُودِ بِشَيْءٍ فَإِنِّي لَا أَقْضِي بِهَا وَلَا أُبْطِلُهَا حَتَّى يَظْهَرَ حَالُ الْمَفْقُودِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَفِي الْمِيرَاثِ تُحْبَسُ حِصَّةُ الْمَفْقُودِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالْأَصْلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَتَصَادَقُوا) أَيْ الْوَرَثَةُ الْمَذْكُورُونَ وَالْأَجْنَبِيُّ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالتَّصَادُقِ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ الَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ إذَا قَالَ قَدْ مَاتَ الْمَفْقُودُ قَبْلَ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الثُّلُثَيْنِ إلَى الْبِنْتَيْنِ، لِأَنَّ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ فِيمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ ثُلُثَيْ مَا فِي يَدِهِ لَهُمَا فَيُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ إلَيْهِمَا. وَقَوْلُ أَوْلَادِ الِابْنِ أَبُونَا مَفْقُودٌ لَا يَمْنَعُ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ لِأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا بِهَذَا الْقَوْلِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي عَلَى يَدِ ذِي الْيَدِ حَتَّى يَظْهَرَ مُسْتَحِقُّهُ، هَذَا إذَا أَقَرَّ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ، أَمَّا لَوْ جَحَدَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي يَدِهِ لِلْمَيِّتِ فَأَقَامَتْ الْبِنْتَانِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُمَا مَاتَ وَتَرَكَ الْمَالَ مِيرَاثًا لَهُمَا وَلِأَخِيهِمَا الْمَفْقُودِ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَهُوَ الْوَارِثُ مَعَهُمَا، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَوَلَدُهُ الْوَارِثُ مَعَهُمَا فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَى الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ لِأَنَّهُمَا بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ تُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِأَبِيهِمَا فِي هَذَا الْمَالِ وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ يُدْفَعُ إلَيْهِمَا الْمُتَيَقَّنُ وَهُوَ النِّصْفُ، وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْبَاقِي عَلَى يَدِ عَدْلٍ، لِأَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ جَحَدَ وَهُوَ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَالْمَالُ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِ الِابْنَتَيْنِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحَوِّلَ الْمَالَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَلَا يَقِفَ مِنْهُ شَيْئًا لِلْمَفْقُودِ، وَمُرَادُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ أَيْدِيهِمَا لِأَنَّ النِّصْفَ صَارَ بَيْنَهُمَا بِيَقِينٍ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لِلْمَفْقُودِ مِنْ وَجْهٍ. وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ وَلَا يَقِفُ مِنْهُ شَيْئًا لِلْمَفْقُودِ أَنْ لَا يَجْعَلَ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ الِابْنَتَيْنِ مِلْكًا لِلْمَفْقُودِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ وَلَدَيْ الِابْنِ الْمَفْقُودِ فَطَلَبَتْ

ص: 150

وَنَظِيرُ هَذَا الْحَمْلُ فَإِنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ ابْنِ وَاحِدٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ آخَرُ إنْ كَانَ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ يُعْطَى كُلٌّ نَصِيبَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِالْحَمْلِ لَا يُعْطَى، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَغَيَّرُ بِهِ يُعْطِي الْأَقَلَّ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ كَمَا فِي الْمَفْقُودِ وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .

الْبِنْتَانِ مِيرَاثَهُمَا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الِابْنَ مَفْقُودٌ فَإِنَّهُ تُعْطَى الْبِنْتَانِ النِّصْفَ وَهُوَ أَدْنَى مَا يُصِيبُهُمَا وَتُرِكَ الْبَاقِي فِي يَدِ وَلَدَيْ الِابْنِ الْمَفْقُودِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْضَى بِهِ لَهُمَا وَلَا لِأَبِيهِمَا، لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا الِابْنَ الْمَفْقُودَ مَيِّتًا كَانَ نَصِيبُهُمَا الثُّلُثَيْنِ فَكَانَ النِّصْفُ مُتَيَقَّنًا بِهِ. قَوْلُهُ (وَنَظِيرُ هَذَا) يَعْنِي الْمَفْقُودَ الْحَمْلُ فِي حَقِّ تَوَقُّفِ النِّصْفِ فَإِنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ ابْنٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الرِّسَالَةِ وَشَرْحِهَا وَشَرْحِ الْفَرَائِضِ السِّرَاجِيَّةِ فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ. قَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ مَعَهُ) أَيْ مَعَ الْحَمْلِ (وَارِثٌ آخَرُ) إنْ كَانَ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ يُعْطَى كُلٌّ نَصِيبَهُ، كَمَا إذَا تَرَكَ امْرَأَةً حَامِلًا وَجَدَّةً فَإِنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهَا بِالْحَمْلِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً حَامِلًا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُعْطَى الثُّمُنَ لِأَنَّهُ لَا تَتَغَيَّرُ فَرِيضَتُهَا وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِالْحَمْلِ لَا تُعْطَى كَابْنِ الِابْنِ وَالْأَخِ أَوْ الْعَمِّ، فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ امْرَأَةً حَامِلًا وَأَخًا أَوْ عَمًّا لَا يُعْطَى الْأَخُ وَالْعَمُّ شَيْئًا، لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ ابْنًا فَيَسْقُطَ مَعَهُ الْأَخُ وَالْعَمُّ، فَلَمَّا كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِحَالٍ كَانَ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ مَشْكُوكًا فَلَا يُعْطَى شَيْئًا لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَغَيَّرُ بِهِ يُعْطَى الْأَقَلَّ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ كَالزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْحَمْلُ حَيًّا تَرِثُ الزَّوْجَةُ الثُّمُنَ وَالْأُمُّ السُّدُسَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا فَهُمَا يَرِثَانِ الرُّبْعَ وَالثُّلُثَ فَتُعْطَيَانِ الثُّمُنَ وَالسُّدُسَ لِلتَّيَقُّنِ كَمَا فِي الْمَفْقُودِ: يَعْنِي أَنَّهُ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ جَدَّةً وَابْنًا مَفْقُودًا فَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَمْلِ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ نَصِيبُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ أَخًا وَابْنًا مَفْقُودًا لَا يُعْطَى الْأَخُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ أُمًّا وَابْنًا مَفْقُودًا فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْمَفْقُودُ حَيًّا تَسْتَحِقُّ الْأُمُّ السُّدُسَ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا تَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ كَمَا فِي الْحَمْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 151

‌كِتَابُ الشِّرْكَةِ

(الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ)«لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ» ،

كِتَابُ الشَّرِكَةِ:

مُنَاسَبَةُ تَرْتِيبِ الْأَبْوَابِ الْمَارَّةِ انْسَاقَتْ إلَى هَاهُنَا عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. وَلَمَّا كَانَ لِلشَّرِكَةِ مُنَاسَبَةٌ خَاصَّةٌ بِالْمَفْقُودِ مِنْ حَيْثُ إنَّ نَصِيبَ الْمَفْقُودِ مِنْ مَالِ مُوَرِّثِهِ مُخْتَلِطٌ بِنَصِيبِ غَيْرِهِ كَاخْتِلَاطِ الْمَالَيْنِ فِي الشَّرِكَةِ ذَكَرَهَا عَقِيبَهُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ اخْتِلَاطِ نَصِيبَيْنِ فَصَاعِدًا بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ مِنْ الْآخَرِ ثُمَّ سُمِّيَ الْعَقْدُ الْخَاصُّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ اخْتِلَاطُ النَّصِيبَيْنِ لِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ لَهُ، وَالشَّرِكَةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ وَتَعَامَلَهَا النَّاسُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ.

ص: 152

قَالَ (الشِّرْكَةُ ضَرْبَانِ: شِرْكَةُ أَمْلَاكٍ، وَشِرْكَةُ عُقُودٍ. فَشِرْكَةُ الْأَمْلَاكِ: الْعَيْنُ يَرِثُهَا رَجُلَانِ أَوْ يَشْتَرِيَانِهَا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ) وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ تَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ كَمَا إذَا اتَّهَبَ رَجُلَانِ عَيْنًا أَوْ مَلَكَاهَا بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ اخْتَلَطَ مَالُهُمَا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدِهِمَا

وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ، وَشَرِكَةُ عُقُودٍ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.

ص: 153

أَوْ بِخَلْطِهِمَا خَلْطًا يَمْنَعُ التَّمْيِيزَ رَأْسًا أَوْ إلَّا بِحَرَجٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ وَمِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إلَّا فِي صُورَةِ الْخَلْطِ وَالِاخْتِلَاطِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى

(وَالضَّرْبُ الثَّانِي: شِرْكَةُ الْعُقُودِ، وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا شَارَكْتُك فِي كَذَا وَكَذَا وَيَقُولُ الْآخَرُ قَبِلْت)

وَقَوْلُهُ (خَلْطًا يَمْنَعُ التَّمْيِيزَ رَأْسًا) كَخَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ، أَوْ إلَّا بِحَرَجٍ كَخَلْطِهَا بِالشَّعِيرِ.

وَقَوْلُهُ (فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ) يَعْنِي الْبَيْعَ (مِنْ الْأَجْنَبِيِّ) إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى) قِيلَ الْفَرْقُ أَنَّ خَلْطَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَدِّي سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَخْلُوطِ إلَى الْخَالِطِ، فَإِذَا حَصَلَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ كَانَ سَبَبُ الزَّوَالِ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَاعْتُبِرَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ فِي حَقِّ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ غَيْرَ زَائِلٍ فِي حَقِّ الْبَيْعِ مِنْ الشَّرِيكِ كَأَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَ نَفْسِهِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ.

ص: 154

وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَقْدَ الشِّرْكَةِ قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ

(ثُمَّ هِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: مُفَاوَضَةٌ، وَعِنَانٌ، وَشِرْكَةُ الصَّنَائِعِ، وَشِرْكَةُ الْوُجُوهِ.

وَقَوْلُهُ (قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ) احْتِرَازٌ عَنْ الشَّرِكَةِ فِي التَّكَدِّي وَالِاحْتِشَاشِ وَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ يَقَعُ لِمَنْ بَاشَرَ سَبَبَهُ خَاصًّا لَا عَلَى وَجْهِ الِاشْتِرَاكِ: أَيْ شَرِكَةُ الْعُقُودِ كُلُّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِعَقْدِ الْوَكَالَةِ، ثُمَّ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ مِنْ بَيْنِهَا مَخْصُوصَةٌ بِتَضَمُّنِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ. ثُمَّ عُلِّلَ تَضَمُّنُ هَذِهِ الْعُقُودِ الْكَفَالَةَ بِقَوْلِهِ (لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَشَرْحُ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ إنَّمَا تَضَمَّنَتْ الْوَكَالَةَ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الشَّرِكَةِ ثُبُوتَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمُسْتَفَادِ بِالتِّجَارَةِ، وَلَا يَصِيرُ الْمُسْتَفَادُ بِالتِّجَارَةِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ وَفِي النِّصْفِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ حَتَّى يَصِيرَ الْمُسْتَفَادُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الشَّرِكَةِ.

وَقَوْلُهُ (ثُمَّ هِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ) ذُكِرَ فِي وَجْهِ الْحَصْرِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ إمَّا أَنْ يَذْكُرَا الْمَالَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَا. فَإِنْ ذَكَرَا، فَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَ اشْتِرَاطُ الْمُسَاوَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فِي رَأْسِهِ وَرِبْحِهِ أَوْ لَا. فَإِنْ لَزِمَ فَهِيَ الْمُفَاوَضَةُ وَإِلَّا فَالْعِنَانُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَاهُ فَإِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ الْعَمَلُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي مَالِ الْغَيْرِ أَوْ لَا، فَالْأَوَّلُ الصَّنَائِعُ وَالثَّانِي الْوُجُوهُ. وَمَعْنَى الْبَيْتِ: لَا يَصْلُحُ أُمُورُ النَّاسِ حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَسَاوِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أُمَرَاءُ وَسَادَاتٌ، فَإِنَّهُمْ إذَا كَانُوا مُتَسَاوِينَ تَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمْ، وَالسُّرَاةُ جَمْعُ السَّرِيِّ

ص: 155

فَأَمَّا شِرْكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي مَالِهِمَا وَتَصَرُّفِهِمَا وَدَيْنِهِمَا) لِأَنَّهَا شِرْكَةٌ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ يُفَوِّضُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرَ الشِّرْكَةِ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ هِيَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ، قَالَ قَائِلُهُمْ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ فَوْضَى لَا سُرَاةَ لَهُمْ وَلَا سُرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا أَيْ مُتَسَاوِيِينَ.

فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً

وَهُوَ جَمْعٌ عَزِيزٌ لَا يُعْرَفُ غَيْرُهُ. وَقِيلَ هُوَ اسْمُ جَمْعٍ لِلسَّرِيِّ.

وَقَوْلُهُ (فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً) أَمَّا ابْتِدَاءً فَظَاهِرٌ بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ مَأْخَذِ اشْتِقَاقِهِ، وَأَمَّا انْتِهَاءً فَلِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةَ الِامْتِنَاعِ بَعْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ فَكَانَ لِدَوَامِهَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، وَفِي ابْتِدَاءِ الْمُفَاوَضَةِ تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فَكَذَا فِي الِانْتِهَاءِ

ص: 156

وَذَلِكَ فِي الْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَصِحُّ الشِّرْكَةُ فِيهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا لَا يَصِحُّ الشِّرْكَةُ فِيهِ، وَكَذَا فِي التَّصَرُّفِ، لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا تَصَرُّفًا لَا يَمْلِكُ الْآخَرُ لَفَاتَ التَّسَاوِي، وَكَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ لِمَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَعْرِفُ مَا الْمُفَاوَضَةُ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الْوَكَالَةَ بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْكَفَالَةُ بِمَجْهُولٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِانْفِرَادِهِ فَاسِدٌ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «فَاوِضُوا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ»

وَقَوْلُهُ وَذَلِكَ) أَيْ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَالْعُرُوضِ وَالدُّيُونِ وَالْعَقَارِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عُرُوضٌ أَوْ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ لَا تَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ مَا لَمْ تُقْبَضْ الدُّيُونُ.

وَقَوْلُهُ (كُلُّ ذَلِكَ بِانْفِرَادِهِ فَاسِدٌ) أَيْ كُلٌّ مِنْ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ فِي الْمَجْهُولِ فَاسِدٌ، حَتَّى لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا وَقَالَ وَكَّلْتُك بِالشِّرَاءِ أَوْ بِشِرَاءِ الثَّوْبِ كَانَ فَاسِدًا، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ بِالْمَعْلُومِ بَاطِلٌ، فَالْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ بِالْمَجْهُولِ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ. فَإِنْ قِيلَ: الْوَكَالَةُ الْعَامَّةُ جَائِزَةٌ كَمَا إذَا قَالَ لِآخَرَ وَكَّلْتُك فِي مَالِي اصْنَعْ مَا شِئْت فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْعُمُومَ لَيْسَ بِمُرَادٍ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ فِي حَقِّ شِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ لِأَهْلِهِ،

ص: 157

وَكَذَا النَّاسُ يُعَامِلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَبِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ وَالْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ تَبَعًا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةُ لِبُعْدِ شَرَائِطِهَا عَنْ عِلْمِ الْعَوَامّ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَّا جَمِيعَ مَا تَقْتَضِيه تَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى. قَالَ (فَتَجُوزُ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْكَبِيرَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ لِتَحَقُّقِ التَّسَاوِي،

فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَامًّا كَانَ تَوْكِيلًا بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ فَلَا يَجُوزُ (قَوْلُهُ وَالْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ تَبَعًا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ) يَعْنِي: الْوَكَالَةُ بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ مَوْجُودَةٌ فِي الْمُضَارَبَةِ وَهِيَ جَائِزَةٌ هُنَاكَ تَبَعًا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، أَلَا تَرَى أَنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ تَصِحُّ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُسَمًّى عِنْدَ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضَةُ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ) يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةٌ، وَالْحَوَالَةُ بِشَرْطِ ضَمَانِ الْأَصِيلِ كَفَالَةٌ.

ص: 158

وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا تَجُوزُ أَيْضًا) لِمَا قُلْنَا (وَلَا تَجُوزُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ) لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ، لِأَنَّ الْحُرَّ الْبَالِغَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَالْكَفَالَةَ، وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ وَاحِدًا مِنْهُمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَالصَّبِيُّ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ.

قَالَ (وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ تَصَرُّفٍ يَمْلِكُهُ أَحَدُهُمَا كَالْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيِّ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ. وَيَتَفَاوَتَانِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَهْتَدِي إلَى الْجَائِزِ مِنْ الْعُقُودِ.

وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَالِ خُمُورًا أَوْ خَنَازِيرَ صَحَّ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُسْلِمٌ لَا يَصِحُّ

(وَلَا يَجُوزُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ

وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِتَحَقُّقِ التَّسَاوِي: أَيْ فِي كَوْنِهِمَا ذِمِّيَّيْنِ. وَقَوْلُهُ (وَلَا تَجُوزُ) أَيْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْحُرِّ وَبَيْنَ الْمَمْلُوكِ ظَاهِرٌ. وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَسَاوِيَ فِي التَّصَرُّفِ بِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَصِحُّ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ مَعَ أَنَّهُمَا لَا يَتَسَاوَيَانِ فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَوْقُوذَةِ لِاعْتِقَادِهِ الْمَالِيَّةَ فِيهَا، وَالْكِتَابِيُّ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ الْكِتَابِيُّ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ دُونَ الْمَجُوسِيِّ لِأَنَّ ذَبِيحَتَهُ لَا تَحِلُّ، وَكَذَلِكَ تَصِحُّ بَيْنَ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ مَعَ وُجُودِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْمُسَاوَاةِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ لَا مَحَالَةَ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْمَوْقُوذَةِ لَمْ يُعْتَبَرْ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ الْمَوْقُوذَةَ مَالًا مُتَقَوِّمًا لَا يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ، وَأَمَّا مُؤَاجَرَةُ نَفْسِهِ لِلذَّبْحِ فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ فِي ذَلِكَ مَعْنًى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَتَقَبَّلَ

ص: 159

وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ وَلَا بَيْنَ الْمُكَاتَبَيْنِ) لِانْعِدَامِ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُفَاوَضَةُ لِفَقْدِ شَرْطِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْعِنَانِ كَانَ عِنَانًا لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْعِنَانِ، إذْ هُوَ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُون عَامًّا.

قَالَ (وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ) أَمَّا الْوَكَالَةُ فَلِتَحَقُّقِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الشِّرْكَةُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا الْكَفَالَةُ: فَلِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا هُوَ مِنْ مُوَاجِبِ التِّجَارَاتِ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُمَا جَمِيعًا.

قَالَ (وَمَا يَشْتَرِيه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ عَلَى الشِّرْكَةِ إلَّا طَعَامَ أَهْلِهِ وَكِسْوَتَهُمْ) وَكَذَا كِسْوَتُهُ، وَكَذَا الْإِدَامُ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُسَاوَاةُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

ذَلِكَ الْعَمَلَ عَلَى أَنْ يُقِيمَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ، وَإِجَارَةُ الْمَجُوسِيِّ لِلذَّبْحِ صَحِيحَةٌ يَسْتَوْجِبُ بِهَا الْأَجْرَ وَإِنْ كَانَ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِلْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ جَمِيعًا لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالْمُحَاجَّةِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ وَالتَّصَرُّفِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ) يَعْنِي وَإِنْ أَذِنَ لَهُمَا أَبُوهُمَا لِأَنَّ مَبْنَى الْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْكَفَالَةِ وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَانِ. وَقَوْلُهُ (إذْ هُوَ) أَيْ الْعِنَانُ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُونُ عَامًّا: يَعْنِي قَدْ يَكُونُ عَامًّا فِي أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ وَقَدْ يَكُونُ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْهَا، وَالْمُفَاوَضَةُ عَامَّةٌ فِيهَا فَجَازَ أَنْ يَذْكُرَ لَفْظَ الْمُفَاوَضَةِ وَيُرَادَ مَعْنَى الْعِنَانِ، كَمَا يَجُوزُ إثْبَاتُ مَعْنَى الْخُصُوصِ بِلَفْظِ الْعُمُومِ.

(قَوْلُهُ وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ) أَيْ تَنْعَقِدُ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ كَعَامَّةِ الشَّرِكَاتِ لِيَتَحَقَّقَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا: يَعْنِي قَوْلَهُ لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا، وَعَلَى الْكَفَالَةِ هُوَ عَلَى مَعْنَى أَنْ يُطَالَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ بِمَا بَاشَرَهُ الْآخَرُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: لِتَتَحَقَّقَ الْمُسَاوَاةُ فِيمَا هُوَ مِنْ مُوجَبَاتِ التِّجَارَةِ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُمَا جَمِيعًا. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ تَعْلِيلُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ) وَهُوَ قَوْلُهُ قَدْ يَكُونُ عَلَى الشَّرِكَةِ.

ص: 160

قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ، وَكَانَ شِرَاءُ أَحَدِهِمَا كَشِرَائِهِمَا، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى عَنْ الْمُفَاوَضَةِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ الرَّاتِبَةَ مَعْلُومَةُ الْوُقُوعِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا التَّصَرُّفُ مِنْ مَالِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الشِّرَاءِ فَيَخْتَصُّ بِهِ ضَرُورَةً. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشِّرْكَةِ لِمَا بَيَّنَّا (وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهمَا شَاءَ) الْمُشْتَرِي بِالْأَصَالَةِ وَصَاحِبُهُ بِالْكَفَالَةِ، وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهِ مِمَّا أَدَّى لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا.

قَالَ (وَمَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الدُّيُونِ بَدَلًا عَمَّا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ فَالْآخَرُ ضَامِنٌ لَهُ) تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ، فَمِمَّا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ وَالِاسْتِئْجَارُ، وَمِنْ الْقِسْمِ الْآخَرِ الْجِنَايَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَعَنْ النَّفَقَةِ.

وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى هَذَا التَّعْلِيلِ. وَقَوْلُهُ (وَلِلْبَائِعِ) أَيْ لِبَائِعِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ (قَوْلُهُ فَمِمَّا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالِاسْتِئْجَارُ) أَمَّا صُورَةُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا صُورَةُ الِاسْتِئْجَارِ فَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَجِيرًا فِي تِجَارَتِهِمَا أَوْ دَابَّةً أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ لِلْمُؤَجَّرِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ بِالتِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْ اسْتَأْجَرَ إبِلًا إلَى مَكَّةَ يَحُجُّ عَلَيْهَا فَلِلْمُكَارِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ، إلَّا أَنَّ شَرِيكَهُ إذَا أَدَّى مِنْ خَالِصِ مَالِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ أَدَّى مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنَصِيبٍ مِنْ الْمُؤَدَّى، وَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُلْتَزِمُ بِالْعَقْدِ وَصَاحِبُهُ لَيْسَ بِكَفِيلٍ عَنْهُ. وَمِنْ الْقِسْمِ الْآخَرِ الْجِنَايَةُ عَلَى بَنِي آدَمَ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَعَنْ النَّفَقَةِ، فَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ جِرَاحَةً خَطَأً لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَاسْتَحْلَفَهُ فَحَلَفَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ شَرِيكَهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَا خُصُومَةَ لَهُ مَعَ شَرِيكِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا لَزِمَهُ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، فَأَمَّا مَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ الْآخَرُ كَفِيلًا بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الشَّرِيكِ مِنْ مُوجَبِهَا شَيْءٌ وَلَا خُصُومَةَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَهُ، وَكَذَا الْمَهْرُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ وَالنَّفَقَةِ إذَا ادَّعَاهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَحَلَّفَهُ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْآخَرَ لِمَا بَيَّنَّا وَصُورَةُ الْخُلْعِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَقَدَتْ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ ثُمَّ خَالَعَتْ مَعَ زَوْجِهَا فَمَا لَزِمَ عَلَيْهَا مِنْ بَدَلِ الْخُلْعِ لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهَا، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّتْ بِبَدَلِ الْخُلْعِ لَا يَلْزَمُ عَلَى شَرِيكِهَا، وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ صُورَةُ غَيْرِهِ

ص: 161

قَالَ (وَلَوْ كُفِّلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ عَنْ أَجْنَبِيٍّ لَزِمَ صَاحِبَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَلْزَمُهُ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ، وَلَوْ صَدَرَ مِنْ الْمَرِيضِ يَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ وَصَارَ كَالْإِقْرَاضِ وَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَمُعَاوَضَةُ بَقَاءً لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ بِمَا يُؤَدِّي عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَقَاءِ تَتَضَمَّنُهُ الْمُفَاوَضَةُ،

قَوْلُهُ وَلَوْ كَفَلَ أَحَدُهُمَا) ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَلَوْ صَدَرَ) يَعْنِي عَقْدُ الْكَفَالَةِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِحَالِ الْمَرَضِ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَوْ أَقَرَّ بِالْكَفَالَةِ السَّابِقَةِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَا يُلَاقِي حَالَ بَقَائِهَا، وَفِي حَالِ الْبَقَاءِ الْكَفَالَةُ مُعَاوَضَةٌ. (قَوْلُهُ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَقَاءِ تَتَضَمَّنُهُ الْمُفَاوَضَةُ) يَعْنِي وَحَاجَتُنَا هَاهُنَا إلَى الْبَقَاءِ إذْ الْمُطَالَبَةُ تَتَوَجَّهُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهَا حُكْمُهَا

ص: 162

وَبِالنَّظَرِ إلَى الِابْتِدَاءِ لَمْ تَصِحَّ مِمَّنْ ذَكَرَهُ وَتَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ مِنْ الْمَرِيضِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً. وَأَمَّا الْإِقْرَاضُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ صَاحِبَهُ، وَلَوْ سَلِمَ فَهُوَ إعَارَةٌ فَيَكُونُ لِمِثْلِهَا حُكْمُ عَيْنِهَا لَا حُكْمُ الْبَدَلِ حَتَّى لَا يَصِحَّ فِيهِ الْأَجَلُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مُعَاوَضَةً، وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ تَلْزَمْ صَاحِبَهُ فِي الصَّحِيحِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ.

وَمُطْلَقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً.

فَلَمَّا لَزِمَ الْمَالُ عَلَى الشَّرِيكِ الضَّامِنِ لَزِمَ عَلَى الْآخَرِ وَهَذَا هُوَ حَالَةُ الْبَقَاءِ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ كَلَامَنَا ثَمَّةَ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُهُ أَوْ لَا، فَاعْتَبَرْنَا جِهَةَ التَّبَرُّعِ فِيهِ وَلَمْ نَعْتَبِرْ هُنَا لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ ثَمَّةَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ، وَلَا كَذَلِكَ هُنَا لِصِحَّةِ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِ الضَّامِنِ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ دُونَ الصَّبِيِّ (قَوْلُهُ لَمْ يَصِحَّ مِمَّنْ ذَكَرَهُ يُرِيدُ بِهِ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ إلَخْ) وَأَمَّا الْإِقْرَاضُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يَعْنِي أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: إنْ أَقْرَضَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ (قَوْلُهُ وَلَئِنْ سَلَّمَ فَهُوَ إعَارَةٌ) أَيْ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ إقْرَاضَ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ فَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ لَا مُعَاوَضَةٌ بِدَلِيلِ جَوَازِهِ، إذْ لَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً لَكَانَ فِيهِ بَيْعُ النَّقْدِ بِالنَّسِيئَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْمُقْرِضُ بَعْدَ الْإِقْرَاضِ حُكْمُ عَيْنِ مَا أَقْرَضَهُ لَا حُكْمُ بَدَلِهِ كَمَا فِي الْإِعَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ (قَوْلُهُ حَتَّى لَا يَصِحَّ فِيهِ الْأَجَلُ) أَيْ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّ تَأْجِيلَ الْإِقْرَاضِ وَالْعَارِيَّةِ جَائِزٌ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ الْمُضِيُّ عَلَى ذَلِكَ التَّأْجِيلِ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ (قَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ) إشَارَةٌ

ص: 163

قَالَ (وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا مَا لَا يَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ أَوْ وَهَبَ لَهُ وَوَصَلَ إلَى يَدِهِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَصَارَتْ عِنَانًا) لِفَوَاتِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ إذْ هِيَ شَرْطٌ فِيهِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَهَذَا لِأَنَّ الْآخَرَ لَا يُشَارِكُهُ فِيمَا أَصَابَهُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ، إلَّا أَنَّهَا تَنْقَلِبُ عِنَانًا لِلْإِمْكَانِ، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ، وَلِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ (وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا عَرَضًا فَهُوَ لَهُ وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ) وَكَذَا الْعَقَارُ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ

إلَى نَفْيِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِإِطْلَاقِ جَوَابِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمُصَنِّفُ تَابَعَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا.

وَأَجَابَ عَنْ إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ: أَيْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِالْأَمْرِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَكُونُ مُعَاوَضَةَ انْتِهَاءٍ وَإِلَّا فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فَلَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يَعْنِي فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَيْضًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الشَّرِيكَ، وَتَلَمُّحُ تَحْرِيرِ الْمَذَاهِبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُظْهِرُ لَك سُقُوطَ مَا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي قَوْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي لُزُومِ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ الشَّرِيكَ فَلَا يَكُونُ لِتَخْصِيصِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا لِقَوْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَجْهٌ.

وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ضَمَانٌ وَجَبَ بِسَبَبٍ لَيْسَ هُوَ بِتِجَارَةٍ فَلَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ضَمَانُ تِجَارَةٍ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَالٍ مُحْتَمَلٍ لِلشَّرِكَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِأَصْلِ السَّبَبِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمَحَلِّ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ وَلِهَذَا مَلَكَ الْمَغْصُوبَ وَالْمُسْتَهْلَكَ بِالضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ لَهُ وَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ إقْرَارُ الصَّبِيِّ وَالْمَأْذُونِ لَهُ وَالْمُكَاتَبِ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ضَمَانَ تِجَارَةٍ لَمَا صَحَّ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا مَالًا) بِالتَّنْوِينِ أَيْ الْمَالَ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.

وَقَوْلُهُ (فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ) أَيْ فِي الْعِنَانِ ابْتِدَاءً، وَكُلُّ

ص: 164

فَلَا تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ.

مَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ابْتِدَاءً لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ دَوَامًا، لِأَنَّ لِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ عَقْدًا غَيْرَ لَازِمٍ، فَإِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْمُضِيِّ عَلَى مُوجَبِ الْعَقْدِ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ، وَتَأَمَّلْ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله تَأَمُّلَ عَالِمٍ بِالتَّحْقِيقِ تُدْرِكْ سُقُوطَ مَا اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَقْدٌ لَازِمٌ، وَمَعَ هَذَا فَلِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ حَتَّى أَنَّهَا لَا تَبْقَى بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَحِينَئِذٍ كَيْفَ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِعَدَمِ اللُّزُومِ لِإِثْبَاتِ مُدَّعَاهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ قُلْنَا: كُلُّ مَا هُوَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَلِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَنَضُمُّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ إلَى قَوْلِنَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الشَّرِكَةِ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَيَحْصُلُ لَنَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الشَّرِكَةِ لِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ أَيْضًا لِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ بِدَلِيلٍ فَلَا يَضُرُّ فِي مَطْلُوبِنَا لِأَنَّ الْمُوجَبَةَ

ص: 165

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْكُلِّيَّةَ لَا تَنْعَكِسُ كَنَفْسِهَا، وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا عَرْضًا فَهُوَ لَهُ، وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةَ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَمْنَعُ ابْتِدَاءً فَكَذَا لَا تَفْسُدُ بَقَاءً.

ص: 166

(فَصْلٌ)

(وَلَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ) وَقَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ

(فَصْلٌ)

لَمَّا كَانَ الْبَحْثُ عَمَّا تَنْعَقِدُ بِهِ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ غَيْرَ الْبَحْثِ عَنْهَا فُصِلَ عَمَّا قَبْلَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَتِهِ. وَقَالَ (وَلَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ) أَيْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا ذُكِرَ فِيهَا الْمَالُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِنَا إذَا ذُكِرَ فِيهَا الْمَالُ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَالِ لَيْسَ بِحَتْمٍ فِيهَا فَإِنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَجُوزُ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ وَالتَّقَبُّلِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْمَالُ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ، غَيْرَ أَنَّ فِي ذِكْرِ خِلَافِ مَالِكٍ رحمه الله نَظَرًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا أَعْرِفُ مَا الْمُفَاوَضَةُ إلَّا

ص: 167

أَيْضًا إذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ عَلَى رَأْسِ مَالٍ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ النُّقُودَ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهَا لِمَا فِيهَا مِنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ.

إذَا ثَبَتَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ، أَوْ يَكُونُ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِهَا صَنِيعُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُزَارَعَةِ. ثُمَّ قَوْلُهُ (لِأَنَّهَا عُقِدَتْ) يَعْنِي الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يَقْتَضِي جَوَازَهَا. وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُخْتَلِفًا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ مَالِكٌ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُضَارَبَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَإِنَّ الْمَالَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَكَأَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ الرِّبْحِ مَالٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ فِي ذَلِكَ الرِّبْحِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا فِيمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، وَأَمَّا فِي الشَّرِكَةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ

ص: 168

فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ. وَلَنَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ مَالِهِ وَتَفَاضَلَ الثَّمَنَانِ فَمَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدُهُمَا مِنْ الزِّيَادَةِ فِي مَالِ صَاحِبِهِ رِبْحُ مَا لَمْ يَمْلِكْ وَمَا لَمْ يَضْمَنْ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّ ثَمَنَ مَا يَشْتَرِيهِ فِي ذِمَّتِهِ إذْ هِيَ لَا تَتَعَيَّنُ فَكَانَ رِبْحُ مَا يَضْمَنُ، وَلِأَنَّ أَوَّلَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُرُوضِ الْبَيْعُ وَفِي النُّقُودِ الشِّرَاءُ، وَبَيْعُ أَحَدِهِمَا مَالَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ شَرِيكًا فِي ثَمَنِهِ لَا يَجُوزُ، وَشِرَاءُ أَحَدِهِمَا شَيْئًا بِمَالِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ جَائِزٌ.

وَأَمَّا الْفُلُوسُ النَّافِقَةُ فَلِأَنَّهَا تَرُوجُ رَوَاجَ الْأَثْمَانِ فَالْتَحَقَتْ بِهَا.

مِنْ الشَّرِيكَيْنِ يَعْمَلُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعُرُوض وَالنُّقُودُ كَمَا لَوْ عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ شَرِكَةٍ فَتَصِحُّ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ) وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا عَقَدَا الشَّرِكَةَ فِي الْعُرُوضِ ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا رَأْسَ مَالِهِ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ وَبَاعَ الْآخَرُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَصَحَّتْ الشَّرِكَةُ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الرِّبْحِ الَّذِي حَصَلَ فِي مَبِيعِ أَحَدِهِمَا فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ الَّذِي بَاعَ رَأْسَ مَالِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَالُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَمْ يُمْلَكْ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّ مَا يَشْتَرِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَأْسِ الْمَالِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَيْعُ، بَلْ يَثْبُتُ وُجُوبُ الثَّمَنِ فِي الذِّمَّةِ إذْ الْأَثْمَانُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَلَمَّا كَانَ الثَّمَنُ وَاجِبًا عَلَيْهِمَا فِي ذِمَّتِهِمَا كَانَ الثَّمَنُ وَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ مِنْهُ بَيْنَهُمَا ضَرُورَةً فَكَانَ الرِّبْحُ رِبْحَ مَا ضُمِنَ

وَمَعْنَى قَوْلِهِ (وَتَفَاضَلَ الثَّمَنَانِ) أَيْ فَضَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا تَفَاضُلُهُمَا مَعًا فَمُحَالٌ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ أَوَّلَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُرُوضِ) دَلِيلٌ آخَرُ وَقَدْ قَرَّرَهُ فِي النِّهَايَةِ عَلَى وَجْهٍ يَجُرُّهُ إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ لِأَنَّ صِحَّةَ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ يَكُونُ أَمِينًا، فَإِذَا شُرِطَ لَهُ جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ كَانَ هَذَا رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَهُوَ ضَامِنٌ بِالثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا شُرِطَ لَهُ جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ كَانَ رِبْحَ مَا قَدْ ضُمِنَ.

ص: 169

قَالُوا: هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالنُّقُودِ عِنْدَهُ حَتَّى لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ بِأَعْيَانِهَا عَلَى مَا عُرِفَ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ بِهَا لِأَنَّ ثُمْنِيَّتَهَا تَتَبَدَّلُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَتَصِيرُ سِلْعَةً. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ وَأَظْهَرُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ صِحَّةُ الْمُضَارَبَةِ بِهَا.

قَالَ (وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَتَعَامَلَ النَّاسُ بِالتِّبْرِ) وَالنُّقْرَةُ فَتَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهِمَا، هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَلَا تَكُونُ الْمُفَاوَضَةُ بِمَثَاقِيلِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ) وَمُرَادُهُ التِّبْرُ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ التِّبْرُ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَلَا تَصِحُّ رَأْسُ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَاتِ وَالشَّرِكَاتِ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّ النُّقْرَةَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ حَتَّى لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَا بِهَلَاكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ تَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ فِيهِمَا، وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّهُمَا خُلِقَا ثَمَنَيْنِ فِي الْأَصْلِ،

وَقَوْلُهُ (قَالُوا هَذَا) أَيْ جَوَازُ الشَّرِكَةِ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ (قَوْلُ مُحَمَّدٍ) وَقَيَّدَ (بِأَعْيَانِهَا) لِتَظْهَرَ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ فَلْسَيْنِ بِوَاحِدٍ مِنْ الْفُلُوسِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ الْمُرَكَّبِ.

وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِوُجُودِ النَّسِيئَةِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِهَذَا وَلِمَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ بِأَعْيَانِهِمَا فَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، وَسَيَجِيءُ تَمَامُ الْبَحْثِ فِيهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ (وَالْأَوَّلُ) يَعْنِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ (أَقْيَسُ) لِأَنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ فَلْسٍ بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِعَيْنِهِمَا كَانَا مُتَّفِقَيْنِ أَيْضًا فِي عَدَمِ جَوَازِ الشَّرِكَةِ بِالْفُلُوسِ وَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ فِي الْفُلُوسِ عِنْدَهُمَا كَانَ لِلْفُلُوسِ حُكْمُ الْعُرُوضِ، وَالْعُرُوضُ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهَا: أَيْ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ.

قَالَ (وَلَا تَجُوزُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ مُخْتَصَرُ الْقُدُورِيِّ رحمه الله (قَوْلُهُ تَصْلُحُ رَأْسُ الْمَالِ فِيهِمَا) أَيْ فِي الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ (قَوْلُهُ وَهَذَا لِمَا عُرِفَ) إشَارَةٌ إلَى (أَنَّ النُّقْرَةَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لِأَيِّهِمَا)

ص: 170

إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ خُلِقَتْ لِلتِّجَارَةِ فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالضَّرْبِ الْمَخْصُوصِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ لَا تُصْرَفُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ ظَاهِرًا إلَّا أَنْ يَجْرِيَ التَّعَامُلُ بِاسْتِعْمَالِهِمَا ثَمَنًا فَنَزَلَ التَّعَامُلُ بِمَنْزِلَةِ الضَّرْبِ فَيَكُونُ ثَمَنًا وَيَصْلُحُ رَأْسُ الْمَالِ.

ثُمَّ قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ وَالْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبَ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَنَا قَبْلَ الْخَلْطِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِبْحُ مَتَاعِهِ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ، وَإِنْ خَلَطَا ثُمَّ اشْتَرَكَا فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ مِلْكٍ لَا شَرِكَةُ عَقْدٍ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِحُّ شَرِكَةُ الْعَقْدِ. وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْمَالَيْنِ وَاشْتِرَاطِ التَّفَاضُلِ فِي الرِّبْحِ، فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بَعْدَ الْخَلْطِ كَمَا تَعَيَّنَ قَبْلَهُ.

أَيْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ) يَعْنِي رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (أَصَحُّ) وَجُعِلَ ذَلِكَ فِي الْمَبْسُوطِ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهَا) أَيْ لِأَنَّ مَثَاقِيلَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَجْرِيَ التَّعَامُلُ بِاسْتِعْمَالِهِمَا) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ. يَعْنِي أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الشَّرِكَةِ بِمَثَاقِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَصَحُّ، إلَّا عِنْدَ جَرَيَانِ التَّعَامُلِ بِاسْتِعْمَالِهِمَا فَحِينَئِذٍ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهِمَا كَذَا قِيلَ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ لَكِنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالضَّرْبِ الْمَخْصُوصِ بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ

(قَوْلُهُ وَلَا خِلَافَ فِيهِ) أَيْ فِي عَدَمِ جَوَازِ الشَّرِكَةِ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَبْلَ الْخَلْطِ فِيمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ خُلِطَ ثُمَّ اشْتَرَكَا فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ. وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْمَالَيْنِ وَاشْتِرَاطِ التَّفَاضُلِ فِي الرِّبْحِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَسْتَحِقُّ زِيَادَةَ الرِّبْحِ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الرِّبْحِ بِقَدْرِ مِلْكِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا (فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ) لِأَنَّهُ أَيْ الْمَذْكُورَ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ (يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بَعْدَ الْخَلْطِ كَمَا يَتَعَيَّنُ قَبْلَهُ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَشَرْطُ جَوَازِ الشَّرِكَةِ أَنْ

ص: 171

وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّهَا ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ بِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ. وَمَبِيعٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحَالَيْنِ، بِخِلَافِ الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ ثَمَنًا بِحَالٍ

وَلَوْ اخْتَلَفَا جِنْسًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ فَخُلِطَا لَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ. وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَخْلُوطَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَمِنْ جِنْسَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَتَتَمَكَّنُ الْجَهَالَةُ كَمَا فِي الْعُرُوضِ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ فَحُكْمُ الْخَلْطِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ.

لَا يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لِئَلَّا يَلْزَمَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ (وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا) أَيْ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ وَالْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبَ (ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ بِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَمَبِيعٌ) مِنْ وَجْهٍ (مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحَالَيْنِ) يَعْنِي الْخَلْطَ وَعَدَمَهُ فَلِشَبَهِهِمَا بِالْمَبِيعِ. قُلْنَا: لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا قَبْلَ الْخَلْطِ، وَلِشَبَهِهَا بِالثَّمَنِ قُلْنَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا بَعْدَ الْخَلْطِ، وَهَذَا لِأَنَّ إضَافَةَ الْعَقْدِ إلَيْهَا تَضْعُفُ بِاعْتِبَارِ الشَّبَهَيْنِ فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهَا عَلَى مَا يُقَوِّيهَا وَهُوَ الْخَلْطُ، لِأَنَّ بِالْخَلْطِ تَثْبُتُ شَرِكَةُ الْمِلْكِ فَتَتَأَكَّدُ بِهِ شَرِكَةُ الْعَقْدِ لَا مَحَالَةَ، بِخِلَافِ الْعُرُوضِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ ثَمَنًا بِحَالٍ.

فَلَوْ اخْتَلَفَا جِنْسًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ فَخُلِطَ لَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ، فَمُحَمَّدٌ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ الْمَخْلُوطَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، حَتَّى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَهُ يَضْمَنُ مِثْلَهُ فَيُمْكِنُ تَحْصِيلُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمِثْلِ فَتَزُولُ الْجَهَالَةُ وَمِنْ جِنْسَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ، فَإِنَّ مَنْ أَتْلَفَهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَإِذَا كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ فَتُمْكِنُ الْجَهَالَةُ كَمَا فِي الْعُرُوضِ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ كَحُكْمِ الْخَلْطِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: أَيْ قَضَاءِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَأَمَّا فِي هَذَا الْكِتَابِ فَقَدْ بَيَّنَهُ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ قَضَاءُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلُهُ قَدْ بَيَّنَّاهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي: يَعْنِي وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ كِتَابَ الْقَضَاءِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ لَقَالَ سَنُبَيِّنُهُ، وَاَلَّذِي بَيَّنَهُ هُنَا فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ أَنَّ الْحِنْطَةَ إذَا كَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ فَخَلَطَهَا

ص: 172

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الرَّجُلُ بِشَعِيرِ نَفْسِهِ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ إلَى الضَّمَانِ.

ص: 173

قَالَ (وَإِذَا أَرَادَ‌

‌ الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ

بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مَالِهِ بِنِصْفِ مَالِ الْآخَرِ، ثُمَّ عَقَدَا الشَّرِكَةَ) قَالَ (وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ مِلْكٌ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَتَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ قِيمَةُ مَتَاعِهِمَا عَلَى السَّوَاءِ،

قَالَ (وَإِذَا أَرَادَ الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ) لَمَّا كَانَ جَوَازُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ مُنْحَصِرًا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ وَفِي ذَلِكَ تَضْيِيقٌ عَلَى النَّاسِ ذَكَرَ الْحِيلَةَ فِي تَجْوِيزِ الْعَقْدِ بِالْعُرُوضِ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ فَقَالَ (وَإِذَا أَرَادَ الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مَالِهِ بِنِصْفِ مَا لِلْآخَرِ ثُمَّ عَقَدَا الشَّرِكَةَ) لِأَنَّهُ إذَا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مَالِهِ بِنِصْفِ مَا لِلْآخَرِ صَارَ نِصْفُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونًا عَلَى الْآخَرِ بِالثَّمَنِ فَكَانَ الرِّبْحُ الْحَاصِلُ رِبْحَ مَالٍ مَضْمُونٍ فَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَهَذِهِ شَرِكَةُ مِلْكٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ شَرِكَةٍ) وَاسْتَشْكَلَهُ الشَّارِحُونَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالشَّرِكَةِ شَرِكَةَ الْمِلْكِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى قَوْلِهِ ثُمَّ عَقَدَا الشَّرِكَةَ، وَبِأَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ إذَا لَمْ يَبِعْ أَحَدُهُمَا نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ عَرْضِ الْآخَرِ، أَمَّا إذَا بَاعَ فَهُوَ الْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ. ثُمَّ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ عَقْدُ الشَّرِكَةِ عَقْدُ شَرِكَةِ مِلْكٍ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُ وَهَذِهِ شَرِكَةُ مِلْكٍ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ غَرَضَ الْقُدُورِيِّ رحمه الله بَيَانُ الْحِيلَةِ فِي تَجْوِيزِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا شَرِكَةُ مِلْكٍ وَإِنْ عَقَدَا الشَّرِكَةَ، لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ كَلَا عَقْدَ لِكَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ عَرْضًا، وَنَظْمُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَا يُسَاعِدُهُ، وَأَنَا أَذْكُرُ لَك مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ شَيْخِي الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ لِأَنَّهُ حَلٌّ مُفِيدٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ: عَدَمُ جَوَازِ الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ كَمَا بَيَّنَّا، وَالثَّانِي جَهَالَةُ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ عَرْضِ الْآخَرِ ثُمَّ عَقَدَا الشَّرِكَةَ قَالَ الْقُدُورِيُّ يَجُوزُ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ الذَّخِيرَةِ وَصَاحِبُ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالْمُزَنِيُّ مِنْ

ص: 174

وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ يَبِيعُ صَاحِبُ الْأَقَلِّ بِقَدْرِ مَا تَثْبُتُ بِهِ الشَّرِكَةُ.

أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رحمهم الله، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ صَارَ مَعْلُومًا وَصَارَ نِصْفُ مَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْبَيْعِ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِهِ بِالثَّمَنِ فَكَانَ الرِّبْحُ الْحَاصِلُ مِنْ مَالَيْهِمَا رِبْحَ مَالٍ مَضْمُونٍ عَلَيْهِمَا فَيَجُوزُ

وَلِهَذَا لَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا عَرْضَهُ بِنِصْفِ دَرَاهِمِ صَاحِبِهِ ثُمَّ عَقَدَا شَرِكَةَ عِنَانٍ أَوْ مُفَاوَضَةٍ يَجُوزُ لِزَوَالِ الْجَهَالَةِ لِصَيْرُورَةِ الْعُرُوضِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا فَكَذَا هَذَا. وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَجُوزُ كَمَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بَعْدَ الْخَلْطِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَعَقْدُ الشَّرِكَةِ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَوْكِيلٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَقْدُ عَلَى الدَّرَاهِمِ. وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْدُ الشَّرِكَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ لِبَقَاءِ جَهَالَةِ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ، بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بَعْدَ الْخَلْطِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِزَوَالِ الْجَهَالَةِ أَصْلًا لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ دَرَاهِمِ صَاحِبِهِ ثُمَّ اشْتَرَكَا لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ بِهَذَا الْعَقْدِ صَارَتْ نِصْفَيْنِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ رَأْسَ مَالِهِمَا ثُمَّ يَثْبُتُ حُكْمُ الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ تَبَعًا، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا مَا لَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ كَبَيْعِ الشِّرْبِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ. ثُمَّ الْمُصَنِّفُ اخْتَارَ عَدَمَ الْجَوَازِ وَعَدَلَ عَمَّا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فَقَالَ: وَهَذِهِ شَرِكَةُ مِلْكٍ عِنْدِي لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ شَرِكَةُ عَقْدٍ وَلَا اعْتِبَارَ بِهَذَا الْعَقْدِ بَعْدَ الْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَنَظِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَنْوِيَ الطَّهَارَةَ، ثُمَّ عَدَلَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَالنِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَلَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ (يَبِيعُ صَاحِبُ الْأَقَلِّ بِقَدْرِ مَا تَثْبُتُ بِهِ الشَّرِكَةُ) نَظِيرُهُ مَا إذَا كَانَ قِيمَةُ عُرُوضِ أَحَدِهِمَا أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا وَقِيمَةُ عُرُوضِ الْآخَرِ مِائَةَ دِرْهَمٍ يَبِيعُ صَاحِبُ الْأَقَلِّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ عَرْضِهِ بِخُمُسِ عَرْضِ الْآخَرِ فَيَصِيرُ الْمَتَاعُ كُلُّهُ أَخْمَاسًا وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالَيْهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 175

قَالَ (وَأَمَّا‌

‌ شَرِكَةُ الْعِنَانِ

فَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ دُونَ الْكَفَالَةِ، وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فِي نَوْعِ بُرٍّ أَوْ طَعَامٍ، أَوْ يَشْتَرِكَانِ فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ وَلَا يَذْكُرَانِ الْكَفَالَةَ)، وَانْعِقَادُهُ عَلَى الْوَكَالَةِ لِتَحَقُّقِ مَقْصُودِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَلَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَعْرَاضِ يُقَالُ عَنَّ لَهُ: أَيْ عَرَضَ، وَهَذَا لَا يُنْبِئُ عَنْ الْكَفَالَةِ وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ لَا يَثْبُتُ بِخِلَافِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ

(وَيَصِحُّ التَّفَاضُلُ فِي الْمَالِ) لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَيْسَ مِنْ قَضِيَّةِ اللَّفْظِ الْمُسَاوَاةُ.

قَالَ (وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ) هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الشَّرِكَةِ، فَأَمَّا شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ وَالْعِنَانِ مَأْخُوذٌ مِنْ عَنَّ إذَا عَرَضَ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ عَرَضَ فِي هَذَا الْقَدْرِ لَا عَلَى عُمُومِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ. وَقِيلَ إنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ عِنَانِ الْفَرَسِ لِأَنَّ الْفَارِسَ يُمْسِكُ الْعِنَانَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَيَتَصَرَّفُ بِالْأُخْرَى، فَكَذَلِكَ الشَّرِيكُ هُنَا شَارَكَ فِي بَعْضِ مَالِهِ وَانْفَرَدَ بِالْبَاقِي وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (كَمَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَقْدَ الشَّرِكَةِ قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ.

ص: 176

(وَيَصِحُّ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْمَالِ وَيَتَفَاضَلَا فِي الرِّبْحِ). وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، فَإِنَّ الْمَالَ إذَا كَانَ نِصْفَيْنِ وَالرِّبْحَ أَثْلَاثًا فَصَاحِبُ الزِّيَادَةِ يَسْتَحِقُّهَا بِلَا ضَمَانٍ، إذْ الضَّمَانُ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ عِنْدَهُمَا فِي الرِّبْحِ لِلشَّرِكَةِ فِي الْأَصْلِ، وَلِهَذَا يَشْتَرِطَانِ الْخَلْطَ، فَصَارَ رِبْحُ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ نَمَاءِ الْأَعْيَانِ فَيُسْتَحَقُّ بِقَدْرِ الْمِلْكِ فِي الْأَصْلِ. وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وآله وسلم «الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ» وَلَمْ يَفْصِلْ، وَلِأَنَّ الرِّبْحَ كَمَا يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ؛ وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحْذَقَ وَأَهْدَى وَأَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقْوَى فَلَا يَرْضَى بِالْمُسَاوَاةِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفَاضُلِ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ جَمِيعِ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يَخْرُجُ الْعَقْدُ بِهِ مِنْ الشَّرِكَةِ وَمِنْ الْمُضَارَبَةِ أَيْضًا إلَى قَرْضٍ بِاشْتِرَاطِهِ لِلْعَامِلِ أَوْ إلَى بِضَاعَةٍ بِاشْتِرَاطِهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا الْعَقْدُ يُشْبِهُ الْمُضَارَبَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْمَلُ

وَيَصِحُّ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْمَالِ وَيَتَفَاضَلَا فِي الرِّبْحِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا إنْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا وَشَرَطَا التَّفَاوُتَ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّسَاوِي فِي رَأْسِ الْمَالِ جَازَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شُرِطَ وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ.

وَأَمَّا إذَا شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ شَرَطَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا جَازَ وَيَكُونُ مَالُ الَّذِي لَا عَمَلَ عَلَيْهِ بِضَاعَةً عِنْدَ الْعَامِلِ لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ، وَإِنْ شَرَطَا الرِّبْحَ لِلْعَامِلِ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ جَازَ أَيْضًا عَلَى الشَّرْطِ وَيَكُونُ مَالُ الدَّافِعِ عِنْدَ الْعَامِلِ مُضَارَبَةً؛ وَلَوْ شَرَطَا الرِّبْحَ لِلدَّافِعِ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لَا يَصِحُّ الشَّرْطُ وَيَكُونُ مَالُ الدَّافِعِ عِنْدَ الْعَامِلِ بِضَاعَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِبْحُ مَالِهِ وَالْوَضِيعَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا أَبَدًا (قَوْلُهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ) وَاضِحٌ (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَ الْعَاقِدَانِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ») رَوَاهُ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه (قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ) يَعْنِي بَيْنَ التَّفَاضُلِ وَالتَّسَاوِي (قَوْلُهُ كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إذَا أَلْحَقْتُمْ هَذَا الْعَقْدَ بِالْمُضَارَبَةِ صَارَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: اعْمَلْ فِي مَالِكَ وَرِبْحُهُ لَك، وَاعْمَلْ فِي مَالِي وَرِبْحُهُ بَيْنَنَا وَفِي الْمُضَارَبَةِ إذَا شُرِطَ عَمَلُ رَبِّ الْمَالِ فِيهَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَقَدْ جَوَّزْتُمْ هَذِهِ الشَّرِكَةَ وَإِنْ شُرِطَ عَمَلُهُمَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ هَذَا الْعَقْدُ مُضَارَبَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ أَنَّهُ يُشْبِهُهَا مِنْ وَجْهٍ، وَمَا أَشْبَهَ الشَّيْءَ مِنْ وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَأْخُذَ حُكْمَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ جَمِيعِ الرِّبْحِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا شُرِطَ جَمِيعُ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا لَا يَجُوزُ، فَكَذَا إذَا شُرِطَ الْفَضْلُ وَالْجَامِعُ الْعُدُولُ بِالرِّبْحِ عَنْ التَّقْسِيطِ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ.

وَوَجْهُ الْجَوَابِ أَنَّ بِشَرْطِ جَمِيعِ الرِّبْحِ يَخْرُجُ الْعَقْدُ مِنْ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ إلَى قَرْضٍ أَوْ بِضَاعَةٍ،

ص: 177

فِي مَالِ الشَّرِيكِ، وَيُشْبِهُ الشَّرِكَةَ اسْمًا وَعَمَلًا فَإِنَّهُمَا يَعْمَلَانِ فَعَمِلْنَا بِشَبَهِ الْمُضَارَبَةِ.

وَقُلْنَا: يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ وَيُشْبِهُ الشَّرِكَةَ حَتَّى لَا تَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ الْعَمَلِ عَلَيْهَا.

قَالَ (وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ مَالِهِ دُونَ الْبَعْضِ) لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمَالِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ إذْ اللَّفْظُ لَا يَقْتَضِيهِ (وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِمَا بَيَّنَّا) أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَصِحُّ بِهِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَا وَمِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا دَنَانِيرُ وَمِنْ الْآخَرِ دَرَاهِمُ، وَكَذَا مِنْ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ بِيضٌ وَمِنْ الْآخَرِ سُودٌ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ الْخَلْطِ وَعَدَمِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا شَرْطٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي مُخْتَلِفِي الْجِنْسِ، وَسَنُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ (وَمَا اشْتَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلشَّرِكَةِ طُولِبَ بِثَمَنِهِ دُونَ الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ دُونَ الْكَفَالَةِ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْحُقُوقِ.

قَالَ (ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْهُ) مَعْنَاهُ إذَا أَدَّى مِنْ مَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي حِصَّتِهِ فَإِذَا نَقَدَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ فَعَلَيْهِ الْحُجَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي وُجُوبَ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ

لِأَنَّهُ إنْ شُرِطَ الْجَمِيعُ لِلْعَامِلِ صَارَ قَرْضًا، وَإِنْ شُرِطَ لِرَبِّ الْمَالِ صَارَ بِضَاعَةً، وَهَذَا الْعَقْدُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُمَا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمُضَارَبَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْمَلُ فِي مَالِ الشَّرِيكِ وَيُشْبِهُ الشَّرِكَةَ أَيْ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ اسْمًا وَعَمَلًا فَإِنَّهُمَا يَعْمَلَانِ مَعًا فَعَمِلْنَا بِشَبَهِ الْمُضَارَبَةِ. وَقُلْنَا: يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ زِيَادَةِ الرِّبْحِ مَوْجُودٌ فِي الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ جَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ اشْتِرَاطَ زِيَادَةِ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَعَمِلْنَا بِشَبَهِ الشَّرِكَةِ حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِاشْتِرَاطِ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا.

قَالَ (وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَهَا كُلُّ وَاحِدٍ إلَخْ) أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ شَرِكَةَ الْعِنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ مَالِهِ دُونَ الْبَعْضِ، لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمَالِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ: أَيْ فِي هَذَا الْعَقْدِ، إذْ اللَّفْظُ: أَيْ لَفْظُ الْعِنَانِ لَا يَقْتَضِيهِ: أَيْ لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بِتَأْوِيلِ الِاسْتِوَاءِ، بِخِلَافِ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ (قَوْلُهُ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ. وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ) يَعْنِي إذَا لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ أَدَّى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ

ص: 178

الْآخَرِ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ

قَالَ (وَإِذَا هَلَكَ مَالُ الشَّرِكَةِ أَوْ أَحَدُ الْمَالَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَا شَيْئًا بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ) لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ الْمَالُ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِيهِ كَمَا فِي الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَبِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ كَمَا فِي الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الثَّمَنَانِ فِيهِمَا بِالتَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنَانِ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا هَلَكَ الْمَالَانِ، وَكَذَا إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِشَرِكَةِ صَاحِبِهِ فِي مَالِهِ إلَّا لِيُشْرِكَهُ فِي مَالِهِ، فَإِذَا فَاتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِشَرِكَتِهِ فَيَبْطُلُ

أَوْ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ إلَّا بِقَوْلِهِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِهِ مَعَ يَمِينِهِ.

(قَوْلُهُ فَإِذَا هَلَكَ مَالُ الشَّرِكَةِ) ظَاهِرٌ، وَقَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِالْمُفْرَدَةِ احْتِرَازًا عَنْ الْوَكَالَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ وَفِي ضِمْنِ عَقْدِ الرَّهْنِ فَإِنَّهَا فِيهِمَا تَبْطُلُ بِبُطْلَانِ مَا تَضَمَّنَهَا مِنْ الشَّرِكَةِ وَالرَّهْنِ لِأَنَّ الْمُتَضَمَّنَ يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْمُتَضَمِّنِ تَبَعًا، وَأَمَّا الْوَكَالَةُ الْمُفْرَدَةُ كَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ وَدَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ فَهَلَكَتْ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ، وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَقَدْ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ: بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ، حَتَّى إذَا هَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِيهَا بِالْقَبْضِ فَلَعَلَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ، (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِشَرِكَةِ صَاحِبِهِ فِي مَالِهِ) أَيْ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَهْلَكْ مَالُهُ مَا رَضِيَ بِشَرِكَةِ صَاحِبِهِ الَّذِي هَلَكَ مَالُهُ إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ بَقَاءِ مَالِهِ بِشَرِكَتِهِ فِي مَالِهِ

ص: 179

الْعَقْدُ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ، وَأَيُّهُمَا هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ؛ إنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ هَلَكَ فِي يَدِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْخَلْطِ حَيْثُ يَهْلِكُ عَلَى الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ فَيُجْعَلُ الْهَالِكُ مِنْ الْمَالَيْنِ.

(وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِمَالِهِ وَهَلَكَ مَالُ الْآخَرِ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَالْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا) لِأَنَّ الْمِلْكَ حِينَ وَقَعَ وَقَعَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لِقِيَامِ الشَّرِكَةِ وَقْتَ الشِّرَاءِ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِهَلَاكِ مَالِ الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ الشَّرِكَةُ شَرِكَةُ عَقْدٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، حَتَّى إنَّ أَيَّهُمَا بَاعَ جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ تَمَّتْ فِي الْمُشْتَرَى فَلَا يُنْتَقَضُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ تَمَامِهَا. قَالَ (وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّةٍ مِنْ ثَمَنِهِ) لِأَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهُ بِوَكَالَتِهِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، هَذَا إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ هَلَكَ مَالُ الْآخَرِ. أَمَّا إذَا هَلَكَ مَالُ أَحَدِهِمَا ثُمَّ اشْتَرَى الْآخَرُ بِمَالٍ الْآخَرِ، إنْ صَرَّحَا بِالْوَكَالَةِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ فَالْمُشْتَرَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنْ بَطَلَتْ فَالْوَكَالَةُ الْمُصَرَّحُ بِهَا قَائِمَةٌ فَكَانَ مُشْتَرَكًا بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ، وَيَكُونُ شَرِكَةَ مِلْكٍ وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ

كَمَا يَشْتَرِكُ هُوَ فِي مَالِ هَذَا (قَوْلُهُ وَأَيُّهُمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ) ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الشَّرِكَةُ شَرِكَةُ عَقْدٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ) فَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ جَوَازِ بَيْعِ الْكُلِّ. فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيُّهُمَا بَاعَهُ جَازَ بَيْعُهُ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ تَمَّتْ فِي الْمُشْتَرَى فَلَا تَنْتَقِضُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ تَمَامِهَا كَمَا لَوْ كَانَ الْهَلَاكُ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا. وَعِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ لَا يَنْفُذُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا إلَّا فِي حِصَّتِهِ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْعَقْدِ قَدْ بَطَلَتْ بِهَلَاكِ الْمَالِ كَمَا لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِمَالِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَا هُوَ حُكْمُ الشِّرَاءِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَكَانَتْ شَرِكَتُهُمَا فِي الْمَتَاعِ شَرِكَةَ مِلْكٍ (قَوْلُهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ مَعْنَاهُ إذَا أَدَّى مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إلَخْ (قَوْلُهُ أَمَّا إذَا هَلَكَ مَالُ أَحَدِهِمَا ثُمَّ اشْتَرَى الْآخَرُ) وَاضِحٌ.

ص: 180

لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ ذَكَرَا مُجَرَّدَ الشَّرِكَةِ وَلَمْ يَنُصَّا عَلَى الْوَكَالَةِ فِيهَا كَانَ الْمُشْتَرَى لِلَّذِي اشْتَرَاهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ عَلَى الشَّرِكَةِ لَهُ حُكْمُ الْوَكَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشَّرِكَةُ، فَإِذَا بَطَلَتْ يَبْطُلُ مَا فِي ضِمْنِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا صَرَّحَ بِالْوَكَالَةِ لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ.

قَالَ (وَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَإِنْ لَمْ يَخْلِطَا الْمَالَ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ لِأَنَّ الرِّبْحَ فَرْعُ الْمَالِ، وَلَا يَقَعُ الْفَرْعُ عَلَى الشَّرِكَةِ إلَّا بَعْدَ الشَّرِكَةِ فِي الْأَصْلِ وَأَنَّهُ بِالْخَلْطِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ هُوَ الْمَالُ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ، وَيُشْتَرَطُ تَعْيِينُ رَأْسِ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرِكَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ يَعْمَلُ لِرَبِّ الْمَالِ فَيَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ عِمَالَةً عَلَى عَمَلِهِ، أَمَّا هُنَا بِخِلَافِهِ، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ لَهُمَا حَتَّى يُعْتَبَرُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ.

(قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ

(قَوْلُهُ وَأَنَّهُ بِالْخَلْطِ) أَيْ الشَّرِكَةِ فِي الْأَصْلِ عَلَى تَأْوِيلِ الِاشْتِرَاكِ (قَوْلُهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الرِّبْحَ فَرْعُ الْمَالِ) يَعْنِي وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الرِّبْحَ فَرْعُ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَحَلَّ: أَيْ مَحَلَّ الشَّرِكَةِ هُوَ الْمَالُ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ، وَيُقَالُ عَقْدُ شَرِكَةِ الْمَالِ وَيُشْتَرَطُ تَعْيِينُ رَأْسِ الْمَالِ وَمَا اُعْتُبِرَ التَّعْيِينُ إلَّا لِتَكُونَ الشَّرِكَةُ فِي الثَّمَنِ مُسْتَنِدَةً إلَى الْمَالِ بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِدُونِ الْخَلْطِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرِكَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ فَيَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ عِمَالَةً عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ (قَوْلُهُ وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الرِّبْحَ فَرْعُ الْمَالِ (قَوْلُهُ حَتَّى يُعْتَبَرَ اتِّحَادُ الْجِنْسِ) يَعْنِي بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ وَالْآخَرِ دَنَانِيرَ تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا صَحِيحَةً عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا بِيضًا وَالْآخَرِ سُودًا.

وَلَا تَجُوزُ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ: أَيْ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لِانْعِدَامِ الْمَالِ. وَلَنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعَقْدِ دُونَ الْمَالِ، وَكُلُّ مَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إلَيْهِ هُوَ الْأَصْلُ، أَمَّا أَنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعَقْدِ فَلِأَنَّ الْعَقْدَ يُسَمَّى شَرِكَةً لَا الْمَالَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِ، وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إلَيْهِ فَهُوَ الْأَصْلُ فَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسْتَنَدِ إلَيْهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ وَذَلِكَ حَدُّ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لِأَنَّ الرِّبْحَ فِي الْحَقِيقَةِ يَحْصُلُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالتَّصَرُّفُ يَحْصُلُ مِنْ الْعَقْدِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَصَرَّفُ فِي الْكُلِّ فِي بَعْضِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَفِي بَعْضِهِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ، فَكَانَ الْعَقْدُ عِلَّةَ الْعِلَّةِ، وَجَازَ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَمَا جَازَ أَنْ يُضَافَ إلَى عَيْنِ الْعِلَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْعَقْدُ وَهُوَ مَوْجُودٌ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الرِّبْحُ وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِطْ الْمَالَانِ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنَانِ كَالشَّرْحِ لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ.

ص: 181

وَيُشْتَرَطُ الْخَلْطُ وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِ.

وَلَا تَجُوزُ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ وَالْأَعْمَالِ لِانْعِدَامِ الْمَالِ. وَلَنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعَقْدِ دُونَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يُسَمَّى شَرِكَةً فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ الْخَلْطُ شَرْطًا، وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فَلَا يُسْتَفَادُ الرِّبْحُ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ وَكِيلٌ. وَإِذَا تَحَقَّقَتْ الشَّرِكَةُ فِي التَّصَرُّفِ بِدُونِ الْخَلْطِ تَحَقَّقَتْ فِي الْمُسْتَفَادِ بِهِ وَهُوَ الرِّبْحُ بِدُونِهِ، وَصَارَ كَالْمُضَارَبَةِ

فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْعَقْدُ هُوَ الْأَصْلُ دُونَ الْمَالِ لَمَا بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَا بِهِ شَيْئًا لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَالِ وَبَقَاءَهُ إذْ ذَاكَ بِمَنْزِلَةٍ لِكَوْنِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْعَقْدُ قَدْ وُجِدَ وَالْمَالُ مَوْجُودٌ فَلَا يُبَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَقَائِهِ. أُجِيبَ بِأَنَّ بَقَاءَ الْأَصْلِ شَرْطٌ لِوُجُودِ الْفَرْعِ وَالْأَصْلُ قَدْ انْتَفَى بِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمَحَلُّ فَكَذَلِكَ الْفَرْعُ. وَاعْتُرِضَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَالَيْنِ إذَا لَمْ يَخْتَلِطَا بَقِيَا مُتَمَيِّزَيْنِ وَلَا شَرِكَةَ مَعَ التَّمْيِيزِ كَمَا فِي الْعُرُوضِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ عِلَّةَ فَسَادِ الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ لَيْسَتْ التَّمْيِيزَ بَلْ هِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِفْضَاءِ إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ. وَقَوْلُهُ (وَصَارَ كَالْمُضَارَبَةِ) يَعْنِي لَمَّا ظَهَرَ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعَقْدُ دُونَ الْمَالِ كَانَ الرِّبْحُ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ دُونَ الْمَالِ كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ خَلْطُ الْمَالَيْنِ وَالرِّبْحُ مُشْتَرَكٌ بِسَبَبِ الْعَقْدِ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ الْأَصْلُ بَطَلَ الْفُرُوعُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ فَلَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ وَالتَّسَاوِي

ص: 182

فَلَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ وَالتَّسَاوِي فِي الرِّبْحِ، وَتَصِحُّ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ.

قَالَ (وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ إذَا شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ مُسَمَّاةً مِنْ الرِّبْحِ) لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُوجِبُ انْقِطَاعَ الشَّرِكَةِ فَعَسَاهُ لَا يُخْرِجُ إلَّا قَدْرَ الْمُسَمَّى لِأَحَدِهِمَا، وَنَظِيرُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ.

قَالَ (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَشَرِيكَيْ الْعِنَانِ أَنْ يُبْضِعَ الْمَالَ) لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى الْعَمَلِ، وَالتَّحْصِيلُ بِغَيْرِ عِوَضٍ دُونَهُ فَيَمْلِكَهُ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يُودِعَهُ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ وَلَا يَجِدُ التَّاجِرُ مِنْهُ بُدًّا. قَالَ (وَيَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً)؛ لِأَنَّهَا دُونَ الشَّرِكَةِ فَتَتَضَمَّنَهَا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَوْعُ شَرِكَةٍ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ

فِي الرِّبْحِ وَتَصِحُّ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ

(قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ) وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَنَظِيرُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ) يَعْنِي أَنَّهُ إذَا شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانٌ مُسَمَّاةٌ كَانَتْ فَاسِدَةً لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَنْقَطِعُ بِهِ، وَمِنْ شَرْطِ الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا شَائِعًا.

قَالَ: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ. هَذَا بَيَانُ مَا يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ أَوْ عِنَانٍ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبْضِعَ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَالْمُعْتَادُ جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى الْعَمَلِ بِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ بِلَا خِلَافٍ، وَكُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ جَازَ لَهُ أَنْ يُبْضِعَ لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ تَحْصِيلٌ بِعِوَضٍ وَالْإِبْضَاعُ بِدُونِهِ فَكَانَ الِاسْتِئْجَارُ أَعْلَى وَمَنْ مَلَكَ الْأَعْلَى مَلَكَ الْأَدْنَى، وَأَنْ يُودِعَ الْمَالُ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ وَلَا يَجِدُ التَّاجِرُ مِنْهُ بُدًّا، وَأَنْ يَدْفَعَ مُضَارَبَةً لِأَنَّهَا دُونَ الشَّرِكَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُضَارِبِ شَيْءٌ مِنْ الْوَضِيعَةِ وَأَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَوْ فَسَدَتْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ فَيُمْكِنُ جَعْلُ الْمُضَارَبَةِ مُسْتَفَادَةً بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّهَا دُونَ الشَّرِكَةِ فَتَضَمَّنَتْهَا الشَّرِكَةُ، هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ) أَيْ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ (نَوْعُ شَرِكَةٍ) لِأَنَّهُ إيجَابُ الشَّرِكَةِ لِلْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُشَارِكَ مَعَ غَيْرِهِ بِمَالِ الشَّرِكَةِ فَكَذَا لَا يَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً (وَالْأَوَّلُ) أَيْ جَوَازُ الدَّفْعِ مُضَارَبَةً (أَصَحُّ وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ) يَعْنِي فِي الْمُضَارَبَةِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ

ص: 183

كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ بِأَجْرٍ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ بِدُونِ ضَمَانٍ فِي ذِمَّتِهِ، بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُهَا لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ. قَالَ (وَيُوَكِّلُ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ) لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَالشَّرِكَةُ انْعَقَدَتْ لِلتِّجَارَةِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ خَاصٌّ طُلِبَ مِنْهُ تَحْصِيلَ الْعَيْنِ فَلَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ

وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْمُضَارَبَةِ فَيَمْلِكُهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا، فَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ بِدُونِ ضَمَانٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ إذَا عَمِلَ وَلَمْ يَحْصُلْ الرِّبْحُ لَا يَجِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ شَيْءٌ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْأَجِيرَ إذَا عَمِلَ فِي التِّجَارَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ ضَامِنًا لِلْأُجْرَةِ، بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُهَا لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِتْبَاعِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُطْلِقَ فِي الْكَسْبِ وَأَسْبَابِهِ، وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ الْكَسْبِ الْمُطْلَقَةِ لَهُمَا لَا أَنَّهُ مِنْ الْمُسْتَتْبَعَاتِ، وَأَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.

ص: 184

قَالَ (وَيَدُهُ فِي الْمَالِ يَدُ أَمَانَةٍ) لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ مَقْصُودًا أَعْلَى حَالًا مِنْ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ شَيْءٍ آخَرَ لَا مَحَالَةَ، وَالْوَكِيلُ الَّذِي كَانَتْ وَكَالَتُهُ مَقْصُودَةً لَيْسَ لَهُ تَوْكِيلُ غَيْرِهِ، فَالْوَكِيلُ الَّذِي تَثْبُتُ وَكَالَتُهُ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ كَيْفَ جَازَ لَهُ تَوْكِيلُ غَيْرِهِ. وَأُجِيبَ بِذَلِكَ الْجَوَابِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا كَبَيْعِ الشِّرْبِ وَغَيْرِهِ، وَالشُّبْهَةُ وَجْهُ الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَجَوَابُهَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ. وَقَوْلُهُ (لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ) احْتِرَازٌ عَنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ قَبْضٌ لِأَجْلِ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ (قَوْلُهُ وَالْوَثِيقَةُ) احْتِرَازٌ عَنْ الرَّهْنِ فَإِنَّ الْمَرْهُونَ مَقْبُوضٌ لِأَجْلِ الْوَثِيقَةِ.

ص: 185

قَالَ (وَأَمَّا‌

‌ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ)

وَتُسَمَّى شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ (كَالْخَيَّاطِينَ وَالصَّبَّاغِينَ يَشْتَرِكَانِ عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَا الْأَعْمَالَ وَيَكُونُ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا)(فَيَجُوزُ ذَلِكَ) وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةٌ لَا تُفِيدُ مَقْصُودَهَا وَهُوَ التَّثْمِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ تُبْتَنَى عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ عَلَى أَصْلِهِمَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّحْصِيلُ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِالتَّوْكِيلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَكِيلًا فِي النِّصْفِ أَصِيلًا فِي النِّصْفِ تَحَقَّقَتْ الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ

وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ

قَالَ (وَأَمَّا شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لَا تُفِيدُ مَقْصُودَهُمَا) أَيْ مَقْصُودَ الشَّرِيكَيْنِ وَهُوَ التَّثْمِيرُ ظَاهِرٌ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: لَا تُفِيدُ مَقْصُودَهَا، أَضَافَ الْمَقْصُودَ إلَى الشَّرِكَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ لِلشَّرِيكَيْنِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَهُوَ تَلَبُّسُ الشَّرِيكَيْنِ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ.

(قَوْلُهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْعَقْدِ اتِّحَادُ الْعَمَلِ وَالْمَكَانِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، قَالَا: إنْ اتَّفَقَتْ الْأَعْمَالُ كَالْقَصَّارَيْنِ اشْتَرَكَا أَوْ صَبَّاغَيْنِ جَازَ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ كَصَبَّاغٍ

ص: 186

اتِّحَادُ الْعَمَلِ وَالْمَكَانِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَزُفَرَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لِلشَّرِكَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا يَتَفَاوَتُ

(وَلَوْ شَرَطَا الْعَمَلَ نِصْفَيْنِ وَالْمَالَ أَثْلَاثًا جَازَ) وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِقَدْرِ الْعَمَلِ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ لِتَأْدِيَتِهِ إلَيْهِ، وَصَارَ كَشَرِكَةِ الْوُجُوهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَا يَأْخُذُهُ لَا يَأْخُذُهُ رِبْحًا لِأَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عَمَلٌ وَالرِّبْحَ مَالٌ فَكَانَ بَدَلَ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ يُتَقَوَّمُ بِالتَّقْوِيمِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا قُوِّمَ بِهِ فَلَا يَحْرُمُ،

وَقَصَّارٍ اشْتَرَكَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَاجِزٌ عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَقَبَّلُهُ صَاحِبُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ صَنْعَتِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ. وَلَنَا أَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لِلشَّرِكَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّحْصِيلُ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِالتَّوْكِيلِ لَا تَتَفَاوَتُ بِاتِّحَادِ الْعَمَلِ وَالْمَكَانِ أَوْ اخْتِلَافِهِمَا،

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ صَحِيحٌ مِمَّنْ يُحْسِنُ مُبَاشَرَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَمِمَّنْ لَا يُحْسِنُ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُتَقَبِّلِ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِيَدَيْهِ، بَلْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ بِأَعْوَانِهِ وَأُجَرَائِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْ ذَلِكَ فَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ لَوْ عَمِلَ فِي دُكَّانٍ وَالْآخَرُ فِي دُكَّانٍ آخَرَ لَا يَتَفَاوَتُ الْحَالُ وَهُوَ ظَاهِرٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ الْفُرُوعِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى أَصْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْخَلْطِ أَنَّ شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ لَا تَجُوزُ فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُ زُفَرَ مَعَ مَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي جَوَازِهَا إذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ مُتَّفِقَةً؟ أُجِيبَ بِأَنَّ زُفَرَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي الْخَلْطَ قَوْلَانِ، فَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ حُكْمَ الرِّوَايَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا خَلْطُ الْمَالِ، وَذَكَرَ هُنَا حُكْمَ الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ وَلَكِنْ أَطْلَقَ فِي اللَّفْظِ وَلَمْ يَذْكُرْ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ فَيُرَى ظَاهِرُهُ مُتَنَاقِضًا.

(قَوْلُهُ وَلَوْ شَرَطَا الْعَمَلَ نِصْفَيْنِ) أَيْ إذَا شَرَطَا فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ وَلَمْ يَكُنْ مُفَاوَضَةٌ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ نِصْفَيْنِ وَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ أَثْلَاثًا جَازَ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِقَدْرِ مَا شُرِطَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ لِتَأْدِيَتِهِ إلَيْهِ: أَيْ إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَصَارَ كَشَرِكَةِ الْوُجُوهِ فِي أَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا فِي الرِّبْحِ لَا يَجُوز إذَا كَانَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَطَا التَّفَاوُتَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرَى فَيَجُوزُ التَّفَاوُتُ حِينَئِذٍ فِي الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ أَيْضًا.

وَقَوْلُهُ (وَلَكِنَّا نَقُولُ) بَيَانُ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ مَا يَأْخُذُهُ كُلٌّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَأْخُذُ رِبْحًا، لِأَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ آجَرَهَا بِثَوْبٍ يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ جَازَ لِمَا أَنَّ الرِّبْحَ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَتَّحِدْ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عَمَلٌ وَالرِّبْحَ مَالٌ فَكَانَ مَا يَأْخُذُهُ بَدَلَ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ يَتَقَوَّمُ بِالتَّقْوِيمِ، فَإِذَا رَضِيَا بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا تَقْوِيمًا لِلْعَمَلِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا قُوِّمَ بِهِ وَلَا يَحْرُمُ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَالِ مُتَّفِقٌ وَهُوَ الثَّمَنُ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِمَا دَرَاهِمَ كَانَتْ أَوْ دَنَانِيرَ وَالرِّبْحُ يَتَحَقَّقُ فِي الْجِنْسِ الْمُتَّفِقِ.

ص: 187

بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَالِ مُتَّفِقٌ وَالرِّبْحُ يَتَحَقَّقُ فِي الْجِنْسِ الْمُتَّفِقِ، وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ.

قَالَ (وَمَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ يَلْزَمُهُ وَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ) حَتَّى إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُطَالَبُ بِالْعَمَلِ وَيُطَالِبُ بِالْأَجْرِ (وَيَبْرَأُ الدَّافِعُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ) وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْمُفَاوَضَةِ وَفِي غَيْرِهَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ خِلَافُ ذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ وَقَعَتْ مُطْلَقَةً

وَقَوْلُهُ (وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ) تَقْدِيرُهُ لَوْ جَازَ اشْتِرَاطُ زِيَادَةِ الرِّبْحِ كَانَ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ، وَإِنَّمَا جَازَ فِيهَا لِوُقُوعِهِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فِي جَانِبِ الْمُضَارِبِ وَبِمُقَابَلَةِ الْمَالِ فِي جَانِبِ رَبِّ الْمَالِ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ وَلَا الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ الرِّبْحِ مَوْجُودًا فَيَلْزَمُ فِيهَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَا يَجُوزُ.

(قَوْلُهُ وَمَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ يَلْزَمُهُ وَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَيَبْرَأُ الدَّافِعُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ) أَيْ يَبْرَأُ دَافِعُ الْأُجْرَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ، قِيلَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَيَبْرَأُ الدَّافِعُ مِنْ كُلٍّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ: أَيْ إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ مَثَلًا لَوْ أَخَذَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ثَوْبًا لِلصَّبْغِ ثُمَّ دَفَعَ الْآخَرُ الثَّوْبَ مَصْبُوغًا إلَى صَاحِبِهِ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ.

وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى لُزُومِ الْعَمَلِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ (ظَاهِرٌ فِي الْمُفَاوَضَةِ وَفِي غَيْرِهَا) وَهُوَ الْعِنَانُ (اسْتِحْسَانٌ) أَيْ مَعْنَى الْكَفَالَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ. وَالْقِيَاسُ خِلَافُ ذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ وَقَعَتْ مُطْلَقَةً عَنْ ذِكْرِ الْكَفَالَةِ وَلَيْسَتْ الْكَفَالَةُ

ص: 188

وَالْكَفَالَةُ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ (مُقْتَضِيَةٌ لِلضَّمَانِ)؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ مَضْمُونٌ عَلَى الْآخَرِ، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِسَبَبِ نَفَاذِ تَقَبُّلِهِ عَلَيْهِ فَجَرَى مَجْرَى الْمُفَاوَضَةِ فِي ضَمَانِ الْعَمَلِ وَاقْتِضَاءِ الْبَدَلِ.

قَالَ (وَأَمَّا‌

‌ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ

فَالرَّجُلَانِ يَشْتَرِكَانِ وَلَا مَالَ لَهُمَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا وَيَبِيعَا فَتَصِحَّ الشَّرِكَةُ عَلَى هَذَا) سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِي بِالنَّسِيئَةِ إلَّا مَنْ كَانَ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ مُفَاوَضَةً لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَحْقِيقُ الْكَفَالَةِ وَالْوَكَالَةِ فِي الْأَبْدَالِ، وَإِذَا أُطْلِقَتْ تَكُونُ عِنَانًا لِأَنَّ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ.

قَالَ (كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ الْآخَرِ فِيمَا يَشْتَرِيهِ) لِأَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَكَالَةٍ أَوْ بِوِلَايَةٍ وَلَا وِلَايَةَ فَتَتَعَيَّنُ الْوَكَالَةُ (فَإِنْ شَرَطَا أَنَّ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ

مِنْ مُقْتَضَاهَا حَتَّى تَثْبُتَ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ، وَإِنَّمَا هِيَ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَهَا مَا لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَاهَا بِدُونِ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِهِ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ مُقْتَضِيَةٌ لِلضَّمَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ مَضْمُونٌ عَلَى الْآخَرِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْعَمَلِ مَضْمُونًا (يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِسَبَبِ نَفَاذِ تَقَبُّلِهِ) أَيْ تَقَبُّلِ صَاحِبِهِ (عَلَيْهِ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لَمَا اُسْتُحِقَّ الْأَجْرُ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (جَرَى) هَذَا الْعَقْدُ (مَجْرَى الْمُفَاوَضَةِ فِي ضَمَانِ الْعَمَلِ وَاقْتِضَاءِ الْبَدَلِ) وَفِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَتَأَمَّلْ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِجَرَيَانِهِ مَجْرَى الْمُفَاوَضَةِ فِي هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ لِأَنَّ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ لَمْ يَجْرِ هَذَا الْعَقْدُ مَجْرَاهَا حَتَّى قَالُوا: إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ مِنْ ثَمَنِ أُشْنَانٍ أَوْ صَابُونٍ أَوْ أَجْرِ أَجِيرٍ أَوْ أُجْرَةِ بَيْتٍ لِمُدَّةٍ مَضَتْ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَتَلْزَمُهُ خَاصَّةً لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْمُفَاوَضَةِ لَمْ يُوجَدْ، وَنَفَاذُ الْإِقْرَارِ يُوجِبُ الْمُفَاوَضَةَ.

قَالَ (وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فَالرَّجُلَانِ يَشْتَرِكَانِ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ) وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ وَلَا مَالَ لَهُمَا (عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا) أَيْ بِوَجَاهَتِهِمَا وَأَمَانَتِهِمَا عِنْدَ النَّاسِ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا (عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى كَوْنِهِمَا يَشْتَرِيَانِ بِوُجُوهِهِمَا: أَيْ سُمِّيَتْ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ

ص: 189

وَالرِّبْحَ كَذَلِكَ يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِيهِ، وَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَالرِّبْحُ كَذَلِكَ)، وَهَذَا لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْمَالِ أَوْ الْعَمَلِ أَوْ بِالضَّمَانِ فَرَبُّ الْمَالِ يَسْتَحِقُّهُ بِالْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَمَلِ، وَالْأُسْتَاذُ الَّذِي يُلْقِي الْعَمَلَ عَلَى التِّلْمِيذِ بِالنِّصْفِ بِالضَّمَانِ، وَلَا يُسْتَحَقُّ بِمَا سِوَاهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ تَصَرَّفْ فِي مَالِكِ عَلَى أَنَّ لِي رِبْحَهُ لَمْ يَحُزْ لِعَدَمِ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ بِالضَّمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالضَّمَانُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ فِي الْمُشْتَرَى وَكَانَ الرِّبْحُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْوُجُوهُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا، بِخِلَافِ الْعِنَانِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْمَلُ فِي مَالِ صَاحِبِهِ فَيُلْحَقُ بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

لَا يَشْتَرِي بِالنَّسِيئَةِ إلَّا مَنْ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ مُفَاوَضَةً إذَا كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُمْكِنُ تَحْقِيقُ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةُ فِي الْأَبْدَالِ: أَيْ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، فَيَكُونُ ثَمَنُ الْمُشْتَرَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَيَكُونُ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّلَفُّظِ بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ أَوْ بِمَا قَامَ مَقَامَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا أُطْلِقَتْ كَانَتْ عِنَانًا لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ الْمُعْتَادَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ وَهِيَ أَيْ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ وَهِيَ أَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَهُ فَرْعُ الْمَالِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الْمَالُ لَمْ تَنْعَقِدْ الشَّرِكَةُ. وَقُلْنَا إنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعَقْدِ إلَى آخِرِهِ (قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِيهِ) أَيْ فِي الرِّبْحِ، وَإِنْ شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا الْفَضْلُ بَطَلَ الشَّرْطُ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ ضَمَانِهِمَا (قَوْلُهُ وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى تَحَتُّمِ الْمُسَاوَاةِ فِي اشْتِرَاطِ الرِّبْحِ (قَوْلُهُ بِالنِّصْفِ) قَيْدٌ اتِّفَاقِيٌّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُلْقِيَ بِأَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِمَا سِوَاهَا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ لِزِيَادَةِ اهْتِدَائِهِ وَمَتَانَةِ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَعِلْمِهِ بِالتِّجَارَةِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ فِي الرِّبْحِ بِزِيَادَةِ الْعَمَلِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ فِي مَالٍ مَعْلُومٍ كَمَا فِي الْعِنَانِ وَالْمُضَارَبَةِ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا (وَقَوْلُهُ أَلَا تَرَى) تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِمَا سِوَاهَا (قَوْلُهُ وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ) عَوْدٌ إلَى الْمَبْحَثِ لِإِتْمَامِ الْمَطْلُوبِ يَعْنِي أَنَّ صُورَةَ النِّزَاعِ اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ فِيهَا بِالضَّمَانِ لَا بِالْمَالِ وَلَا بِالْعَمَلِ (قَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) قِيلَ هُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ بِقَوْلِهِ

ص: 190

(فَصْلٌ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ)

(وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِي الِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ، وَمَا اصْطَادَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ احْتَطَبَهُ فَهُوَ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ)، وَعَلَى هَذَا الِاشْتِرَاكُ فِي أَخْذِ كُلِّ شَيْءٍ مُبَاحٍ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الْوَكَالَةِ، وَالتَّوْكِيلُ فِي أَخْذِ الْمَالِ الْمُبَاحِ بَاطِلٌ

لِأَنَّ الضَّمَانَ بِقَدْرِ الْعَمَلِ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ. وَقِيلَ هُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَالِ مُتَّفِقٌ إلَخْ. وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ: اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ بِالضَّمَانِ وَالضَّمَانُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ فِي الْمُشْتَرَى فَكَانَ الرِّبْحُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ مُقَابَلَتِهِ بِالْمَالِ وَالْعَمَلِ وَالْوُجُوهِ: أَيْ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا لِأَنَّ الْمَالَ فِيهَا مَضْمُونٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ، وَأَمَّا الْمَالُ فِي الْمُضَارَبَةِ فَلَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْمُضَارِبِ وَلَا الْعَمَلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْعِنَانِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ فِي مَالِ صَاحِبِهِ كَالْمُضَارِبِ يَعْمَلُ فِي مَالِ رَبِّ الْمَالِ فَيُلْحَقُ بِهَا. قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ لَوْ جَازَ فِي الْعِنَانِ لِشُبْهَةِ الْمُضَارَبَةِ لَصَحَّتْ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ فِي الْعِنَانِ لِأَنَّ الْعِنَانَ مُشَبَّهٌ بِالْمُضَارَبَةِ فَكَانَ عِلَّةُ تَجْوِيزِ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ مَوْجُودَةً، لَكِنْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعِنَانَ بِالْعُرُوضِ لَوْ كَانَ مُؤَدِّيًا إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَقَطْ لَاغْتَفَرْنَاهُ، وَلَكِنْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ جَهَالَةُ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ فِي الْمُضَارَبَةِ مَا يَقْتَضِي اعْتِقَادَهُ حَتَّى يُلْحَقَ بِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ يَنْزِعُ إلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ: فَإِمَّا أَنْ يَلْتَزِمَ مَسَاغَهُ. أَوْ يُصَارَ إلَى مُخَلِّصِهِ الْمَعْلُومِ فِي الْأُصُولِ.

(فَصْلٌ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ)

وَجْهُ فَصْلِ الْفَاسِدِ عَنْ الصَّحِيحِ وَتَأْخِيرُهُ عَنْهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.

ص: 191

لِأَنَّ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِهِ فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُمَا بِالْأَخْذِ وَإِحْرَازِ الْمُبَاحِ، فَإِنْ أَخَذَاهُ مَعًا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعْمَلْ الْآخَرُ شَيْئًا فَهُوَ لِلْعَامِلِ، وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا وَأَعَانَهُ الْآخَرُ فِي عَمَلِهِ بِأَنْ قَلَعَهُ أَحَدُهُمَا وَجَمَعَهُ الْآخَرُ، أَوْ قَلَعَهُ وَجَمَعَهُ وَحَمَلَهُ الْآخَرُ فَلِلْمُعِينِ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ ثَمَنِ ذَلِكَ، وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.

قَوْلُهُ لِأَنَّ أَمْرَ الْمُوَكَّلِ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ) وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُهُ دَلِيلَانِ عَلَى الْمَطْلُوبِ. تَقْرِيرُ الْأَوَّلِ الْمُدَّعِي أَنَّ التَّوْكِيلَ فِي أَخْذِ الْمُبَاحِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي صِحَّةَ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِمَا وُكِّلَ بِهِ وَهُوَ أَخْذُ الْمُبَاحِ، وَأَمْرُ الْمُوَكِّلِ بِأَخْذِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ صَادَفَ غَيْرَ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ. وَتَقْرِيرُ الثَّانِي التَّوْكِيلَ بِأَخْذِ الْمُبَاحِ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ، وَمَنْ تَمَلَّكَ شَيْئًا بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْمُوَكِّلِ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ لِلْوَكِيلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَنْ يَمْلِكُ بِدُونِ أَمْرِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ إثْبَاتُ الثَّابِتِ. وَنُوقِضَ الثَّانِي بِالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ قَبْلَ التَّوْكِيلِ وَبَعْدَهُ وَمَعَ ذَلِكَ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ الْمُوَكِّلِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِلَا عَقْدٍ، وَصُورَةُ النَّقْضِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِالشِّرَاءِ. وَقَوْلُهُ (فَلِلْمُعَيَّنِ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ نِصْفَ ثَمَنِ ذَلِكَ وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ) أَيْ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ مِنْ الْمَبْسُوطِ. قِيلَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْكِتَابِ، وَكَذَا تَقْدِيمُ دَلِيلِ أَبِي يُوسُفَ

ص: 192

قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ رَاوِيَةٌ يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ فَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ، وَالْكَسْبُ كُلُّهُ لِلَّذِي اسْتَقَى، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الرَّاوِيَةِ إنْ كَانَ الْعَامِلُ صَاحِبَ الْبَغْلِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ الرَّاوِيَةِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْبَغْلِ)

عَلَى دَلِيلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَبْسُوطِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ اخْتَارُوا قَوْلَ مُحَمَّدٍ.

وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ رَضِيَ بِنِصْفِ الْمَجْمُوعِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَجْهُولًا فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ فِي الْمَآلِ وَكَانَتْ جَهَالَتُهُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْجَمْعِ، فَإِذَا كَانَ رَاضِيًا فِي الِابْتِدَاءِ بِنِصْفِ الْمَجْمُوعِ وَقَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ كَانَ رَاضِيًا بِنِصْفِ ثَمَنِ الْمَجْمُوعِ فِي الِانْتِهَاءِ فَلَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَهُ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ مُطَالَبَةِ الزِّيَادَةِ.

وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ أَيْ تَقْرِيرُ أَجْرِ الْمِثْلِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْمَجْمُوعِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً جِنْسًا وَقَدْرًا حَيْثُ لَا يُدْرَى أَيَّ نَوْعٍ مِنْ الْحَطَبِ يُصِيبَانِ وَأَيَّ قَدْرٍ مِنْهُ يَجْمَعَانِ، وَلَا يَدْرِيَانِ أَيْضًا هَلْ يَجِدَانِ مَا عَقَدَا عَلَيْهِ عَقْدَ الشَّرِكَةِ أَوْ لَا يَجِدَانِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُعَيَّنَ رَضِيَ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى مِنْ الْحَطَبِ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّ الرِّضَا بِالْمَجْهُولِ لَا يَتَحَقَّقُ فَيَجِبُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ أَعَانَهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يُصِيبَا شَيْئًا كَانَ لَهُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ فَهَاهُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُمَا أَصَابَا.

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ رَاوِيَةٌ) الرَّاوِيَةُ فِي الْأَصْلِ بَعِيرُ السِّقَاءِ لِأَنَّهُ يَرْوِي الْمَاءَ: أَيْ يَحْمِلُهُ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَزَادَةِ وَهِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَزَادَةُ

ص: 193

أَمَّا فَسَادُ الشَّرِكَةِ فَلِانْعِقَادِهَا عَلَى إحْرَازِ الْمُبَاحِ وَهُوَ الْمَاءُ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّ الْمُبَاحَ إذَا صَارَ مِلْكًا لِلْمُحْرِزِ وَهُوَ الْمُسْتَقِي، وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْبَغْلُ أَوْ الرَّاوِيَةُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُهُ

(وَكُلُّ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ فَالرِّبْحُ فِيهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالِ، وَيَبْطُلُ شَرْطُ التَّفَاضُلِ) لِأَنَّ الرِّبْحَ فِيهِ تَابِعٌ لِلْمَالِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، كَمَا أَنَّ الرِّيعَ تَابِعٌ لِلْبَذْرِ فِي الزِّرَاعَةِ، وَالزِّيَادَةُ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالتَّسْمِيَةِ، وَقَدْ فَسَدَتْ فَبَقِيَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ

(وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ) لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا لِتَتَحَقَّقَ الشَّرِكَةُ عَلَى

لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ جِلْدَيْنِ يُقَامُ بِجِلْدٍ ثَالِثٍ بَيْنَهُمَا لِيَتَّسِعَ وَالْجَمْعُ مَزَادٌ وَمَزَايِدُ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الرِّبْحَ فِيهِ تَابِعٌ لِلْمَالِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ) فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَنَا فَرْعٌ لِلْعَقْدِ كَمَا مَرَّ، وَكُلُّ فَرْعٍ تَابِعٌ، وَكَوْنُهُ تَابِعًا لِلْمَالِ إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله كَمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ الْكَلَامُ مُتَنَاقِضًا. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَابِعٌ لِلْعَقْدِ إذَا كَانَ الْعَقْدُ مَوْجُودًا، وَهَاهُنَا قَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ فَيَكُونُ تَابِعًا لِلْمَالِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ إذَا لَمْ تَصْلُحْ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا تُضَافُ إلَى الشَّرْطِ. وَالرِّيعُ

ص: 194

مَا مَرَّ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَكَذَا بِالِالْتِحَاقِ مُرْتَدًّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَمَا إذَا عَلِمَ الشَّرِيكُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَسَخَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ وَمَالُ الشَّرِكَةِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ عَزْلٌ قَصْدِيٌّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ، يُقَالُ: أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ رِيعًا: أَيْ غَلَّةً لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ.

وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَحُكِمَ بِلِحَاقِهِ إلَى قَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّهُ بِاللِّحَاقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَهْم أَمْوَاتٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ إلَخْ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَوْتَ (عَزْلٌ حُكْمِيٌّ) لِكَوْنِ مَوْتِ الْمُوَكِّلِ يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ حُكْمًا لِتَحْوِيلِ مِلْكِهِ إلَى وَرَثَتِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ حُكْمُهُ عَلَى ثُبُوتِ الْعِلْمِ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِمَوْتِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَكَالَةَ تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ تَابِعَةً لَهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ التَّابِعِ بُطْلَانُ الْمَتْبُوعِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَابِعَةٌ لِلشَّرِكَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا شَرْطُهَا لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِدُونِ الْوَكَالَةِ، أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى ذَلِكَ آنِفًا بِقَوْلِهِ وَلَا بُدَّ مِنْهَا أَيْ الْوَكَالَةِ لِتَتَحَقَّقَ الشَّرِكَةُ، وَإِذَا كَانَتْ شَرْطًا لَا يَتَحَقَّقُ بَقَاءُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِهِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْفَسْخَ (عَزْلٌ قَصْدِيٌّ) فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ.

ص: 195

(فَصْلٌ)

وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِ الْآخَرِ إلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ، فَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ. فَإِنْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالثَّانِي ضَامِنٌ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ. وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَهَذَا إذَا أَدَّيَا عَلَى التَّعَاقُبِ، أَمَّا إذَا أَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ. وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الْمَأْمُورُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى الْفَقِيرِ بَعْدَمَا أَدَّى الْآمِرُ بِنَفْسِهِ. لَهُمَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَلَا يَضْمَنُ لِلْمُوَكِّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي وُسْعِهِ التَّمْلِيكَ لَا وُقُوعَهُ زَكَاةً لِتَعَلُّقِهِ بِنِيَّةِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُ مِنْهُ مَا فِي وُسْعِهِ وَصَارَ كَالْمَأْمُورِ بِذَبْحِ دَمِ الْإِحْصَارِ إذَا ذَبَحَ بَعْدَمَا زَالَ الْإِحْصَارُ وَحَجَّ الْآمِرُ لَمْ يَضْمَنْ

فَصْلٌ)

وَلَمَّا كَانَتْ أَحْكَامُ هَذَا الْفَصْلِ أَبْعَدَ عَنْ مَسَائِلِ الشَّرِكَةِ مِنْ قَبِيلِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ التِّجَارَةِ أَخَّرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ سِوَى مَا نَذْكُرُهُ. وَقَوْلُهُ (أَمَّا إذَا أَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ) يَعْنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا

ص: 196

الْمَأْمُورُ عَلِمَ أَوْ لَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْمُؤَدَّى لَمْ يَقَعْ زَكَاةً فَصَارَ مُخَالِفًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَمْرِ إخْرَاجُ نَفْسِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ الضَّرَرَ إلَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَصَلَ بِأَدَائِهِ وَعَرَّى أَدَاءَ الْمَأْمُورِ عَنْهُ فَصَارَ مَعْزُولًا عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ. وَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ فَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَقِيلَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الدَّمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَزُولَ الْإِحْصَارُ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْأَدَاءُ وَاجِبٌ فَاعْتُبِرَ الْإِسْقَاطُ مَقْصُودًا فِيهِ دُونَ دَمِ الْإِحْصَارِ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ الضَّرَرَ) يَعْنِي أَدَاءَ بَعْضِ مَالِهِ عَلَى يَدِ الْوَكِيلِ إلَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ: أَيْ بَقَاءِ الْوَاجِبِ فِي ذِمَّتِهِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُشْكِلُ بِالْوَكِيلِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا قَضَى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ قَضَى الْوَكِيلُ، فَإِنْ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، فَقَدْ فَرَّقَ هُنَاكَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ مَعَ أَنَّهُ حَصَلَ الْعَزْلُ الْحُكْمِيُّ هُنَاكَ أَيْضًا بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُجْعَلَ الْمُؤَدَّى مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ بَعْدَ أَدَاءِ الْمُوَكِّلِ فَلَمْ يَكُنْ أَدَاؤُهُ مُوجِبًا عَزْلَ الْوَكِيلِ حُكْمًا فَوَضَحَ الْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ لَوْ لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ بِجَهْلِهِ بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ لَلَحِقَ الْمُوَكِّلَ فِيهِ ضَرَرٌ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْقَابِضِ وَتَضْمِينِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا، وَهَاهُنَا لَوْ لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ أَدَّى إلَى لِحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْفَقِيرِ وَلَا تَضْمِينِهِ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ فَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِكُلِّ حَالٍ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِأَنَّ زَكَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ تَسْقُطُ عَنْهُ بَعْدَ أَدَائِهِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَزْلُ وَكِيلِهِ، وَحَالَ مَا يُؤَدِّي عَنْهُ الْوَكِيلُ لَمْ يَحْكُمْ بِسُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْ مُوَكِّلِهِ فَلَمْ يُوجِبْ عَزْلَ الْوَكِيلِ عَنْ الْأَدَاءِ.

وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهُ فِي حَالِ اسْتِقْرَارِ الزَّكَاةِ عَلَى الْآمِرِ، وَعِنْدَمَا يُؤَدِّي الْمُوَكِّلُ عَنْ نَفْسِهِ الزَّكَاةَ الْحَالَّةَ حَالَةَ زَوَالِ الزَّكَاةِ وَسُقُوطِهَا عَنْهُ فَلَا تُوصَفُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهَا حَالَةُ اسْتِقْرَارِ الزَّكَاةِ فَكَانَ أَدَاؤُهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فَكَانَ مُخَالِفًا لِمَا أَمَرَهُ فَلِذَلِكَ ضَمِنَ. وَقَوْلُهُ وَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَصَارَ كَالْمَأْمُورِ بِذَبْحِ دَمِ الْإِحْصَارِ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِ دَمِ الْإِحْصَارِ لَا يَضْمَنُ إذَا ذَبَحَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِحْصَارِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهُ

ص: 197

قَالَ (وَإِذَا أَذِنَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَيَطَأَهَا فَفَعَلَ فَهِيَ لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ) لِأَنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِنَصِيبِهِ كَمَا فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ (وَهَذَا) لِأَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لَهُ خَاصَّةً وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ. وَلَهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ دَخَلَتْ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى الْبَتَاتِ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ إذْ هُمَا لَا يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَهُ فَأَشْبَهَ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ، وَلَا وَجْهَ إلَى إثْبَاتِهِ بِالْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ فَأَثْبَتْنَاهُ بِالْهِبَةِ الثَّابِتَةِ

لَوْ صَبَرَ إلَى أَنْ يَزُولَ الْإِحْصَارُ لَمْ يُطَالَبْ بِدَمِ الْإِحْصَارِ فَلَمْ يَكُنْ أَمْرًا مَقْصُودًا فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَقْصُودَ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمُحْصَرِ قَبْلَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ فَعَرِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ عَنْ الْمَقْصُودِ، بِخِلَافِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ وَكَانَ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ أَمْرًا مَقْصُودًا، وَقَدْ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ بِأَدَاءِ الْآمِرِ نَفْسِهِ فَعَرِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ عَنْ الْمَقْصُودِ فَيَضْمَنُ.

وَقَوْلُهُ (وَإِذَا أَذِنَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ، وَتَقْرِيرُ دَلِيلِهِمَا أَنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ، وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ كَذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِنَصِيبِهِ كَمَا فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ إنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ خَاصَّةً لِأَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لَهُ خَاصَّةً بِدَلِيلِ حِلِّ وَطْئِهَا، وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ فَكَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ خَاصَّةً. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّ الْجَارِيَةَ دَخَلَتْ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى الْبَتَاتِ وَأَدَّى الْمُشْتَرِي ثَمَنَهَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَكُلُّ مَا دَخَلَ فِي الشَّرِكَةِ وَأَدَّى الْمُشْتَرِي ثَمَنَهَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِشَيْءٍ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا قَبْلَ الْإِذْنِ وَأَدَّى ثَمَنَهَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَبَيَّنَ دُخُولَهَا فِي الشَّرِكَةِ بِقَوْلِهِ (جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ) أَيْ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا لَيْسَ بِمُسْتَثْنًى كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ تَحْتَهَا، وَشِرَاءُ الْجَارِيَةِ لَيْسَ بِمُسْتَثْنًى فَيَدْخُلُ تَحْتَهَا لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ مَعَ بَقَائِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرَى لَمْ يُعْتَبَرْ مَعَ بَقَاءِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ وَاقِعَةً عَلَى الشَّرِكَةِ كَيْفَ كَانَ يَحِلُّ وَطْؤُهَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ يَحِلُّ وَطْؤُهَا كَمَا يَحِلُّ إذَا وَهَبَهُ نَصِيبَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِغَيْرِ إذْنٍ، وَقَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَأَشْبَهَ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ فَإِنَّهُ كَانَ مِمَّا يُوهِمُ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ يُشْبِهُ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ وَهُنَاكَ لَمْ يَحِلَّ وَطْؤُهَا وَبَعْدَ الْإِذْنِ يَحِلُّ، فَأَزَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ مِنْهُ، لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ، وَلَا وَجْهَ إلَى إثْبَاتِهِ بِالْبَيْعِ: يَعْنِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ حَلَّ الْوَطْءُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى جَمِيعَهَا لِنَفْسِهِ

ص: 198

فِي ضِمْنِ الْإِذْنِ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى عَنْهَا لِلضَّرُورَةِ فَيَقَعُ الْمِلْكُ لَهُ خَاصَّةً بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَكَانَ مُؤَدِّيًا دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِمَا لِمَا بَيَّنَّا (وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، وَالْمُفَاوَضَةُ تَضَمَّنَتْ الْكَفَالَةَ فَصَارَ كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ.

‌كِتَابُ الْوَقْفِ

لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ يُرِيدُ بِهِ مَا ذَكَرَهُ آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ فَأَثْبَتْنَاهُ بِالْهِبَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْإِذْنِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ اشْتَرِ جَارِيَةً بَيْنَنَا وَقَدْ وَهَبْت نَصِيبِي مِنْهَا لَك فَجَازَتْ الْهِبَةُ فِي الشَّائِعِ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مِمَّا لَا تُقْسَمُ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ حَيْثُ يَقَعُ لِلْمُشْتَرِي خَاصَّةً لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى عَنْهَا لِلضَّرُورَةِ فَيَقَعُ الْمِلْكُ لَهُ خَاصَّةً بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَكَانَ مُؤَدِّيًا دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الشَّرِكَةِ.

وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَالَ فَفَعَلَ لَا يَصِيرُ هِبَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَالْعِتْقُ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ لِانْتِفَاءِ الْقَبْضِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْهِبَةِ فَكَيْفَ صَارَ هِبَةً فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِي نَصِيبِ الشَّرِكَةِ بِالْهِبَةِ حُكْمًا لِلْإِذْنِ بِالْوَطْءِ، وَالْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ فِي الْجَارِيَةِ بِالْهِبَةِ حُكْمًا لِلْإِحْلَالِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَحْلَلْت لَك وَطْءَ هَذِهِ الْجَارِيَةِ لَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُخَاطَبِ حُكْمًا لِلْهِبَةِ بِالْإِحْلَالِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا لَا يَصِيرُ هِبَةً لِانْتِفَاءِ الْقَبْضِ الَّذِي هُوَ شَرْطُهَا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ بَعْدَ الشِّرَاءِ عَلَى الشَّرِكَةِ وَهُوَ وَكِيلٌ ثُمَّ يَقْبِضُهُ لِنَفْسِهِ. وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ رحمه الله أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي ضِمْنِ الْإِذْنِ، وَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الشَّيْءُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا. قَوْلُهُ (وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهمَا شَاءَ) ظَاهِرٌ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

كِتَابُ الْوَقْفِ:

ص: 199

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 200

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْوَقْفِ بَعْدَ الشَّرِكَةِ هِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الِانْتِفَاعُ بِمَا يَزِيدُ عَلَى أَصْلِ الْمَالِ، وَهُوَ مَصْدَرُ وَقَفْت الدَّابَّةِ وُقُوفًا وَوَقَفْتهَا أَنَا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، وَوَقَفْت الدَّارَ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَقْفًا وَأَوْقَفْتهَا لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، وَعَرَّفَهُ

ص: 201

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله بِأَنَّهُ حَبْسُ الْمَمْلُوكِ التَّمْلِيكَ عَنْ الْغَيْرِ. وَسَبَبُهُ طَلَبُ الزُّلْفَى. وَشَرْطُهُ كَوْنُ الْوَاقِفِ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا وَكَوْنُ الْمَحَلِّ غَيْرَ مَنْقُولٍ. وَرُكْنُهُ أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ مُؤَبَّدَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ. وَحُكْمُهُ خُرُوجُ الْوَقْفِ: أَيْ الْمَوْقُوفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَعَدَمُ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَمَا عَرَّفَهُ بِهِ

ص: 202

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْ الْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ فَيَقُولَ إذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْت دَارِي عَلَى كَذَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ (يَزُولُ مِلْكُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَزُولُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْوَقْفِ وَلِيًّا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ) قَالَ رضي الله عنه: الْوَقْفُ لُغَةً. هُوَ الْحَبْسُ تَقُولُ وَقَفْت الدَّابَّةَ وَأَوْقَفْتهَا بِمَعْنًى. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ. ثُمَّ قِيلَ الْمَنْفَعَةُ مَعْدُومَةٌ فَالتَّصَدُّقُ بِالْمَعْدُومِ لَا يَصِحُّ، فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ أَصْلًا عِنْدَهُ، وَهُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ

أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْوَقْفُ لِأَنَّهُ قَالَ: وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَعْدُومِ لَا يَصِحُّ.

وَقَوْلُهُ (وَهُوَ) رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ (فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ أَصْلًا عِنْدَهُ وَهُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ، وَلَكِنَّهُ نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى لَا بِعَيْنِ لَفْظِهِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمَبْسُوطِ: فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَكَانَ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: فَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُهُ لَازِمًا، فَأَمَّا أَصْلُ الْجَوَازِ فَثَابِتٌ عِنْدَهُ كَالْعَارِيَّةِ تُصْرَفُ الْمَنْفَعَةُ إلَى جِهَةِ الْوَقْفِ وَتَبْقَى الْعَيْنُ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ إلَّا بِطَرِيقَيْنِ: قَضَاءُ الْقَاضِي بِلُزُومِهِ لِكَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِخْرَاجُهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ بِأَنْ يَقُولَ: أَوْصَيْت بِغَلَّةِ دَارِي، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ.

وَعِنْدَهُمَا هُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَزُولُ

ص: 203

مَنْفَعَتُهُ إلَى الْعِبَادِ فَيَلْزَمُ وَلَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ.

وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا وَالتَّرْجِيحُ بِالدَّلِيلِ. لَهُمَا «قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ رضي الله عنه حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَرْضٍ لَهُ تُدْعَى ثَمْغَ: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا لَا يُبَاعُ وَلَا

مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ الْمَنْفَعَةُ إلَى الْعِبَادِ فَيَلْزَمُ وَلَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ (قَوْلُهُ وَاللَّفْظُ) أَيْ لَفْظُ الْوَقْفِ (يَنْتَظِمُهُمَا): أَيْ يَتَنَاوَلُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَمَا قَالَاهُ وَهُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى انْتِظَامًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مُرَجَّحٍ. ثُمَّ ابْتَدَأَ بِبَيَانِ دَلِيلِهِمَا بِقَوْلِهِ: لَهُمَا

ص: 204

يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ» وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفُ مِنْهُ لِيَصِلَ ثَوَابُهُ إلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَقَدْ أَمْكَنَ دَفْعُ حَاجَتِهِ

قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ رضي الله عنه. رَوَى صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ تُدْعَى ثَمْغًا وَكَانَتْ نَخْلًا نَفِيسًا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اسْتَفَدْت مَالًا وَهُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِهِ؟ قَالَ: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَلَكِنْ لِيُنْفَقْ مِنْ ثَمَرَتِهِ» ، فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ رضي الله عنه فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الرِّقَابِ وَالضَّيْفِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِي الْقُرْبَى مِنْهُ " وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُؤْكِلَ صَدِيقًا لَهُ غَيْرَ مُتَمَوَّلٍ عَنْهُ، وَهَذِهِ الْأَرْضُ كَانَتْ سَهْمَ عُمَرَ رضي الله عنه بِخَيْبَرَ حِينَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَثَمْغٌ لَقَبٌ لَهَا وَهِيَ بِفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَالْغَيْنِ

ص: 205

بِإِسْقَاطِ الْمِلْكِ وَجَعْلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى. إذْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ فَيُجْعَلُ كَذَلِكَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى» وَعَنْ شُرَيْحٍ: جَاءَ مُحَمَّدٌ عليه الصلاة والسلام بِبَيْعِ الْحَبِيسِ لِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ فِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ زِرَاعَةً وَسُكْنَى وَغَيْرَ ذَلِكَ وَالْمِلْكُ فِيهِ لِلْوَاقِفِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِصَرْفِ غَلَّاتِهِ إلَى مَصَارِفِهَا وَنَصْبِ الْقَوَّامِرِ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَنَافِعِهِ فَصَارَ شَبِيهَ الْعَارِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّصَدُّقِ بِالْغَلَّةِ دَائِمًا وَلَا تَصَدُّقَ عَنْهُ إلَّا بِالْبَقَاءِ عَلَى مِلْكِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَالَ مِلْكُهُ، لَا إلَى مَالِكٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مَعَ بَقَائِهِ كَالسَّائِبَةِ. بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ،

الْمُعْجَمَةِ. وَقَوْلُهُ (إذْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ) لِبَيَانِ نَفْيِ اسْتِبْعَادِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَا تَدْخُلَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْمَسْجِدِ لَازِمٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ إخْرَاجٌ لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدْخُلَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ وَلَكِنَّهَا تَصِيرُ مَحْبُوسَةً لِنَوْعِ قُرْبَةٍ قَصَدَهَا فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْفِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ

قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ» أَيْ لَا مَالَ يُحْبَسُ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ عَنْ الْقِسْمَةِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، لَكِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ هَذَا الْأَثَرَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي، وَيَقُولُونَ الشَّرْعُ أَبْطَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: النَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ طَرِيقٍ يَكُونُ فِيهِ حَبْسٌ عَنْ الْمِيرَاثِ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وَقَوْلُهُ (جَاءَ مُحَمَّدٌ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لُزُومَ الْوَقْفِ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا وَأَنَّ شَرِيعَتَنَا نَاسِخَةٌ لِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (كَالسَّائِبَةِ) هِيَ النَّاقَةُ الَّتِي تُسَيَّبُ لِنَذْرٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ: إذَا قَدِمْت مِنْ سَفَرِي أَوْ بَرِئْت مِنْ مَرَضِي فَنَاقَتِي سَائِبَةٌ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْوَقْفَ بِمَنْزِلَةِ تَسْيِيبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنَ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لَهُ مُنْتَفَعًا بِهَا، فَإِنَّهُ لَوْ سَيَّبَ دَابَّتَهُ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ، فَكَذَا إذَا وَقَفَ أَرْضَهُ أَوْ دَارِهِ.

وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى مَالِكٍ غَيْرَ مَشْرُوعٍ لَمَا جَازَ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ فِي الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ لِأَحَدٍ.

ص: 206

وَبِخِلَافِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ جُعِلَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهُنَا لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْعَبْدِ عَنْهُ فَلَمْ يَصِرْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ رضي الله عنه: قَالَ فِي الْكِتَابِ: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ، وَهَذَا فِي حُكْمِ الْحَاكِمِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ، أَمَّا فِي تَعْلِيقِهِ بِالْمَوْتِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا أَنَّهُ تَصَدُّقٌ بِمَنَافِعِهِ مُؤَبَّدًا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ مُؤَبَّدًا فَيَلْزَمُ، وَالْمُرَادُ بِالْحَاكِمِ الْمَوْلَى، فَأَمَّا الْمُحَكِّمُ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.

وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ الْمَسْجِدِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمْ الْوَقْفَ عَلَى الْمَسْجِدِ. وَقَوْلُهُ (قَالَ فِي الْكِتَابِ) يَعْنِي مُخْتَصَرَ الْقُدُورِيِّ: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ. صُورَةُ الْحُكْمِ أَنْ يُسَلِّمَ الْوَاقِفُ مَا وَقَفَهُ إلَى الْمُتَوَلِّي ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ فَيُنَازِعَهُ بَعْدَ اللُّزُومِ فَيَخْتَصِمَانِ إلَى الْقَاضِي فَيَقْضِي بِلُزُومِهِ.

وَقَوْلُهُ (فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ) يَعْنِي أَنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقِيلَ يَزُولُ الْمِلْكُ بِالتَّعْلِيقِ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِ الْأَمْلَاكِ عَنْ مِلْكِهِ فَالتَّعْلِيقُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمِلْكِ. وَقِيلَ لَا يَزُولُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْوَاقِفَ تَصَدَّقَ بِالْغَلَّةِ وَهُوَ لَا يَسْتَدْعِي زَوَالَ أَصْلِ الْمِلْكِ، وَلِأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِالْغَلَّةِ دَائِمًا، وَلَا يُمْكِنُ التَّصَدُّقُ بِهَا هَكَذَا إلَّا إذَا بَقِيَ أَصْلُ الْمَوْقُوفِ عَلَى مِلْكِهِ، إلَّا أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَنَافِعِهِ مُؤَبَّدًا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ مُؤَبَّدًا فَيَلْزَمُهُ.

وَالْمُرَادُ بِالْحَاكِمِ الْمُوَلَّى أَيْ الَّذِي وَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ عَمَلَ الْقَضَاءِ. وَأَمَّا الْمُحَكَّمُ وَهُوَ الَّذِي يُفَوَّضُ إلَيْهِ الْحُكْمُ فِي حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِاتِّفَاقِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فَفِيهِ

ص: 207

وَلَوْ وَقَفَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَالْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَزُولُ عِنْدَهُمَا يَزُولُ بِالْقَوْلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي

اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ. قَالَ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ مِنْ خُلَاصَةِ الْفَتَاوَى: وَأَمَّا حُكْمُ الْمُحَكَّمِ فِي الْيَمِينِ الْمُضَافَةِ وَسَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُنَفَّذُ وَلَكِنْ لَا يُفْتَى بِهِ

(قَوْلُهُ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ) يَعْنِي يَلْزَمُ الْوَقْفُ حِينَئِذٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ فِي الصِّحَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ عِنْدَهُ. ثُمَّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى أُصُولِهِ.

ص: 208

لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودًا، وَقَدْ يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ.

وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي الْمَرَضِ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي الصِّحَّةِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ وَلَا يَمْنَعَ الْإِرْثَ كَالْعَارِيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَالْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ (قَوْلُهُ وَقَدْ يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ) أَيْ يَثْبُتُ التَّمْلِيكُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ضِمْنًا لِلتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ التَّمْلِيكُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَصْدًا فَيَأْخُذُ التَّمْلِيكُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حُكْمَ التَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهِ التَّسْلِيمُ وَالْقَبْضُ (قَوْلُهُ فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ) يَعْنِي يُنَزَّلُ التَّمْلِيكُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوَقْفِ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إلَى الْعَبْدِ مَنْزِلَةَ تَمْلِيكِ الْمَالِ مِنْ اللَّهِ

ص: 209

قَالَ (وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَإِذَا اُسْتُحِقَّ مَكَانَ قَوْلِهِ إذَا صَحَّ (خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَلْ يَنْفُذُ بَيْعُهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ لَمَا انْتَقَلَ عَنْهُ بِشَرْطِ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ. قَالَ رضي الله عنه: قَوْلُهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.

قَالَ (وَوَقْفُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ)

تَعَالَى فِي الزَّكَاةِ حَيْثُ يَتَحَقَّقُ التَّمْلِيكُ مِنْهُ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ. قَالَ (وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ) أَيْ إذَا صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَهُمَا وَلَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا هُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ، وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ عِنْدَ الْكُلِّ خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ: يَعْنِي عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ جَازَ لَهُ إخْرَاجُهُ مِنْ مِلْكِهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، وَلَمَا انْتَقَلَ إلَى مَنْ بَعْدَهُ مِمَّنْ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ لَكِنْ لَيْسَ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ.

وَقَوْلُهُ (يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَقِّ زَوَالِ الْوَقْفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَإِنَّ الْمِلْكَ يَزُولُ بِدُونِ حُكْمِ الْحَاكِمِ، ثُمَّ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ الْخُرُوجِ عَنْ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْخُرُوجَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ شَرْطُهُ فِي صَرْفِ الْغَلَّةِ كَمَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَصْرِفَ غَلَّتَهُ إلَى كَذَا أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا بِشَرْطِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ فُلَانٌ دُونَ فُلَانٍ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ فِي الصِّحَّةِ، وَمَا ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذَا فَإِنَّمَا هُوَ فِي اللُّزُومِ، وَالصِّحَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ اللُّزُومَ فَكَانَ الْقَوْلُ بِخُرُوجِ الْوَقْفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ إذَا صَحَّ الْوَقْفُ قَوْلَهُمَا لَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، إلَّا إذَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ خُرُوجُ الْوَقْفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ قَوْلَ الْكُلِّ. سَلَّمْنَا أَنَّ الصِّحَّةَ هَاهُنَا بِمَعْنَى اللُّزُومِ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ اللُّزُومِ الْخُرُوجُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُ مُعَرَّفٌ بِحَبْسِ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقِ بِالْمَنْفَعَةِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ عَنْ الْخُرُوجِ لَا مَحَالَةَ.

ص: 210

لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ وَالْقَبْضُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَذَا تَتِمَّتُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ شَرْطٌ فَكَذَا مَا يَتِمُّ بِهِ، وَهَذَا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَيَجُوزُ مَعَ الشُّيُوعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ فِيهِمَا فِي غَايَةِ الْقُبْحِ بِأَنْ يُقْبَرَ فِيهِ الْمَوْتَى سَنَةً، وَيُزْرَعَ سَنَةً وَيُصَلَّى فِيهِ فِي وَقْتٍ وَيُتَّخَذَ إصْطَبْلًا فِي وَقْتٍ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغْلَالِ وَقِسْمَةِ الْغَلَّةِ.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ خُرُوجَ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قُرْبَةٌ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِيهِ مِمَّنْ خَرَجَ عَنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقُرُبَاتِ تَصِيرُ بِالْإِرَاقَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ وَالتَّصَدُّقِ بِهِ بِتَوْلِيَةِ الشَّرْعِ لِكَوْنِهِ الْمُتَقَرَّبَ بِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَمْرُ الْوَاقِفِ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَالِكًا لِمَنَافِعِهِ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ تَصَرُّفُ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْمَسْجِدُ فَالْأَصْلُ الْكَعْبَةُ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فِيهِ سَوَاءٌ الْعَاكِفُ وَالْبَادِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوَلِّ التَّخْصِيصَ إلَى الَّذِي جَعَلَهُ مَسْجِدًا، وَإِنَّمَا أَلْحَقَهُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْكَعْبَةِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ) بَيَانُهُ أَنَّ الْقَبْضَ لِلْحِيَازَةِ وَالْحِيَازَةُ فِيمَا يُقْسَمُ إنَّمَا هِيَ بِالْقِسْمَةِ (قَوْلُهُ وَوَقْفُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيمَا يُقْسَمُ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ شَرْطٌ أَوْ لَا، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَذَا تَمَامُهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ فَكَذَا تَمَامُهُ، وَأَمَّا فِيمَا لَا يُقْسَمُ فَمُحَمَّدٌ أَيْضًا يُجَوِّزُهُ وَيَعْتَبِرُهُ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ: أَيْ الصَّدَقَةِ الْخَاضِعَةِ الْمُسَلَّمَةِ إلَى الْفَقِيرِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ وَهِيَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (قَوْلُهُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَوَقْفُ الْمُشَاعِ

ص: 211

وَلَوْ وَقَفَهُ الْكُلَّ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مِنْهُ بَطَلَ فِي الْبَاقِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الشُّيُوعَ مُقَارَنٌ كَمَا فِي الْهِبَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْبَعْضِ أَوْ رَجَعَ الْوَارِثُ فِي الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ وَقَدْ وَهَبَهُ أَوْ أَوْقَفَهُ فِي مَرَضِهِ وَفِي الْمَالِ ضِيقٌ، لِأَنَّ الشُّيُوعَ فِي ذَلِكَ طَارِئٌ.

وَلَوْ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مُمَيَّزٌ بِعَيْنِهِ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ الشُّيُوعِ وَلِهَذَا جَازَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ الْمَمْلُوكَةُ.

جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِأَنْ كَانَ الْمَوْضِعُ صَغِيرًا لَا يَصْلُحُ لِمَا أَرَادَهُ الْوَاقِفُ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقِسْمَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَعْلَ الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ فِي الْمُشَاعِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يَجُوزُ أَصْلًا لَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَهُوَ حَالَ كَوْنِهِ مُشَاعًا وَلَا بَعْدَهَا، أَمَّا قَبْلَهَا فَإِنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، وَأَمَّا بَعْدَهَا فَلِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَضْعُ غَيْرَ صَالِحٍ لِذَلِكَ لِصِغَرِهِ فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ

ص: 212

قَالَ: وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ بِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا سَمَّى فِيهِ جِهَةً تَنْقَطِعُ جَازَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ. لَهُمَا أَنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ وَأَنَّهُ يَتَأَبَّدُ كَالْعِتْقِ، فَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، فَلِهَذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ كَالتَّوْقِيتِ فِي الْبَيْعِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُوَفَّرٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ التَّقَرُّبَ تَارَةً يَكُونُ فِي الصَّرْفِ

الْمُهَايَأَةِ، وَالْمُهَايَأَةُ فِيهِمَا فِي غَايَةِ الْقُبْحِ إلَخْ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. قَالَ (وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُمَا وُجِدُوا مَثَلًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا سَمَّى جِهَةً تَنْقَطِعُ مِثْلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى أَوْلَادِهِ أَوْ عَلَى أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ جَازَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ. لَهُمَا أَنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ: يَعْنِي لَا إلَى مَالِكٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ زَوَالَ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّهُ يَتَأَبَّدُ كَالْعِتْقِ فَمُوجَبُ الْوَقْفِ يَتَأَبَّدُ، وَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْوَقْفِ مُقْتَضَاهُ، وَلِهَذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُوجَبَهُ كَالتَّوْقِيتِ فِي الْبَيْعِ. قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله تَنَاقُضٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَقْفِ أَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ فَكَانَ مُوجَبُهُ عَدَمَ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْوَاقِفِ، ثُمَّ قَالَ هُنَا: مُوجَبُهُ زَوَالُ الْمِلْكِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أُخْرَى، فَيَكُونُ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ.

وَقِيلَ أَرَادَ هَاهُنَا مَا إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ الْوَقْفُ عَنْ مِلْكِ

ص: 213

إلَى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ وَمَرَّةً بِالصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ تَتَأَبَّدُ فَيَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ وَقِيلَ إنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ مُنْبِئَةٌ عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ كَالْعِتْقِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ شَرْطٌ لِأَنَّ هَذَا صَدَقَةٌ بِالْمَنْفَعَةِ أَوْ بِالْغَلَّةِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُؤَقَّتًا وَقَدْ يَكُونُ مُؤَبَّدًا فَمُطْلَقُهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَى التَّأْبِيدِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْصِيصِ.

الْوَاقِفِ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا أَوْفَقُ. وَأَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَقْفِ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُوَفَّرٌ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا جُعِلَ عَلَى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَارَةً فِي الصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ وَأُخْرَى إلَى جِهَةٍ تَتَأَبَّدُ فَيَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ انْقَطَعَتْ الْجِهَةُ عَادَ الْوَقْفُ إلَى مِلْكِهِ إنْ كَانَ حَيًّا، وَإِلَى مِلْكِ وَرَثَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا التَّعْلِيلُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ قَالَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّأْبِيدُ أَصْلًا. وَالثَّانِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ. وَالْمُصَنِّفُ أَشَارَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِالتَّعْلِيلِ،

ص: 214

قَالَ (وَيَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ) لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَقَفُوهُ

وَإِلَى الثَّانِي بِذِكْرِ الْمَذْهَبِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَقِيلَ إنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ إلَخْ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْقِيدٌ لَا مَحَالَةَ.

ص: 215

(وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا عَلَى الْإِرْسَالِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأُكْرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ جَازَ) وَكَذَا سَائِرُ آلَاتِ الْحِرَاسَةِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ فِي تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَقَدْ يَثْبُتُ مِنْ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالشُّرْبِ فِي الْبَيْعِ وَالْبِنَاءِ فِي الْوَقْفِ، وَمُحَمَّدٌ مَعَهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إفْرَادُ بَعْضِ الْمَنْقُولِ بِالْوَقْفِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ يَجُوزَ الْوَقْفُ فِيهِ تَبَعًا أَوْلَى.

(وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ حَبْسُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ) وَمَعْنَاهُ وَقْفُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِيهِ عَلَى مَا قَالُوا، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ. الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِ: مِنْهَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ حَبَسَ

وَقَوْلُهُ (وَهَذَا عَلَى الْإِرْسَالِ) أَيْ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ مِنْ قَوْلِهِ (وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ) عَلَى الْإِطْلَاقِ مَقْصُودًا أَوْ تَبَعًا، كُرَاعًا أَوْ غَيْرَهُ، تَعَامَلُوا فِيهِ أَوْ لَا. قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْأَكَرَةُ جَمْعُ أَكَّارٍ وَهُوَ الذِّرَاعُ كَأَنَّهَا جَمْعُ آكِرٍ تَقْدِيرًا. وَقَوْلُهُ (وَالْبِنَاءُ فِي الْوَقْفِ) أَيْ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ الَّتِي عَلَيْهَا ذَلِكَ الْبِنَاءُ كَوَقْفِ الْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إفْرَادُ بَعْضِ الْمَنْقُولِ) يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِشَيْءٍ كَمَا فِي الْمُتَعَارَفِ مِثْلِ الْفَأْسِ وَالْقَدُومِ وَالْمَرَاجِلِ (عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ (فَلَأَنْ يَجُوزَ الْوَقْفُ) أَيْ وَقْفُ الْمَنْقُولِ (تَبَعًا أَوْلَى) وَالْمُرَادُ بِالْكُرَاعِ هُنَا هُوَ الْخَيْلُ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ السِّلَاحِ.

وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي مَا مَرَّ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ التَّأْبِيدَ، وَالتَّأْبِيدُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَنْقُولِ

ص: 216

أَدْرُعًا وَأَفْرَاسًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَلْحَةُ حَبَسَ دُرُوعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى» وَيُرْوَى أَكْرَاعُه. وَالْكُرَاعُ: الْخَيْلُ. وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ الْإِبِلُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا، وَكَذَا السِّلَاحُ يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُ مَا فِيهِ تَعَامُلٌ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ كَالْفَأْسِ وَالْمَرِّ وَالْقَدُومِ وَالْمِنْشَارِ وَالْجِنَازَةِ وَثِيَابِهَا وَالْقُدُورِ وَالْمَرَاحِلِ وَالْمَصَاحِفِ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُتْرَكُ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 217

وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْقِيَاسُ قَدْ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَقَدْ وُجِدَ التَّعَامُلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَعَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ وَقَفَ كُتُبَهُ إلْحَاقًا لَهَا بِالْمَصَاحِفِ، وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمْسَكُ لِلدِّينِ تَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا وَقِرَاءَةً، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَقْفُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ يَجُوزُ وَقْفُهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْعَقَارَ وَالْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ. وَلَنَا أَنَّ الْوَقْفَ فِيهِ لَا يَتَأَبَّدُ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَصَارَ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، بِخِلَافِ الْعَقَارِ، وَلَا مُعَارِضَ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ وَلَا مِنْ حَيْثُ التَّعَامُلُ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.

وَالْمَرَاجِلُ: قُدُورُ النُّحَاسِ. وَقَوْلُهُ (إلْحَاقًا لَهَا بِالْمَصَاحِفِ) يَعْنِي أَنَّ وَقْفَ الْمَصَاحِفِ صَحِيحٌ، فَكَذَا الْكُتُبُ. ذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي وَقْفِ الْكُتُبِ جَوَّزَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَقَوْلُهُ (كُلُّ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ) احْتِرَازٌ عَنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ الَّذِي خُلِقَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الثَّمَنِيَّةُ لَا يُمْكِنُ بِهِمَا مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ فِي مِلْكِهِ. وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ بَيْعُهُ) احْتِرَازٌ عَنْ حَمْلِ النَّاقَةِ وَالْجَارِيَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَكَذَا وَقْفُهُ عِنْدَهُ أَيْضًا. وَلَنَا أَنَّ الْوَقْفَ فِي الْمَنْقُولِ لَا يَتَأَبَّدُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَمَا لَا يَتَأَبَّدُ لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ لِأَنَّ التَّأْبِيدَ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَصَارَتْ الْمَنْقُولَاتُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْعَقَارِ) جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِ بِالْعَقَارِ. وَقَوْلُهُ (وَلَا مُعَارِضَ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَأَشْبَهَ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجُوزَ وَقْفُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ أَيْضًا كَالدَّرَاهِمِ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا مِنْ حَيْثُ التَّعَامُلُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ تَرْكُ الْأَصْلِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِمُعَارِضٍ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ وَهُوَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْمَرَاجِلِ وَالْقَدُومِ وَغَيْرِهِمَا، فَلْتَكُنْ صُورَةُ النِّزَاعِ مَقِيسَةً عَلَى ذَلِكَ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ لَهُمَا مُعَارِضًا مِنْ حَيْثُ التَّعَامُلُ وَلَيْسَ

ص: 218

وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقَارَ يَتَأَبَّدُ، وَالْجِهَادُ سَنَامُ الدِّينِ، فَكَانَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِمَا أَقْوَى فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُمَا فِي مَعْنَاهُمَا.

بِمَوْجُودٍ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ كَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالثِّيَابِ وَالْبُسُطِ وَأَمْثَالِهَا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) اسْتِظْهَارٌ عَلَى أَنَّ إلْحَاقَ غَيْرِ الْعَقَارِ وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِهِمَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ غَيْرَهُمَا لِقُوَّتِهِمَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ

ص: 219

قَالَ (وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا تَمْلِيكُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشَاعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَطْلُبُ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ فَيَصِحُّ مُقَاسَمَتُهُ) أَمَّا امْتِنَاعُ التَّمْلِيكِ فَلِمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا جَوَازُ الْقِسْمَةِ فَلِأَنَّهَا تَمْيِيزٌ وَإِفْرَازٌ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْغَالِبَ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، إلَّا أَنَّ فِي الْوَقْفِ جَعَلْنَا الْغَالِبَ مَعْنَى الْإِفْرَازِ نَظَرًا لِلْوَقْفِ فَلَمْ تَكُنْ بَيْعًا وَتَمْلِيكًا؛ ثُمَّ إنْ وَقَفَ نَصِيبَهُ مِنْ عَقَارٍ مُشْتَرَكٍ فَهُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْوَاقِفِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ إلَى وَصِيَّةٍ، وَإِنْ وَقَفَ نِصْفَ عَقَارٍ خَالِصٍ لَهُ فَاَلَّذِي يُقَاسِمُهُ الْقَاضِي أَوْ يَبِيعُ نَصِيبَهُ الْبَاقِي مِنْ رَجُلٍ، ثُمَّ يُقَاسِمُهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَشْتَرِي ذَلِكَ مِنْهُ

التَّعَامُلَ اعْتِمَادًا عَلَى شُهْرَةِ كَوْنِ التَّعَامُلِ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ فَجَازَ أَنْ يُتْرَكَ بِهِ.

قَالَ (وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ) أَيْ إذَا لَزِمَ الْوَقْفُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا تَمْلِيكُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُشَاعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَطْلُبَ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ فَتَصِحَّ مُقَاسَمَتُهُ، فَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُشَاعًا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ، لِأَنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي قِسْمَةِ الْعَقَارِ رَاجِحٌ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ بَيْعٌ اتِّسَاعًا، أَمَّا امْتِنَاعُ التَّمْلِيكِ فَلِمَا بَيَّنَّا: يَعْنِي مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ» وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَخْ.

وَقَوْلُهُ (وَأَمَّا جَوَازُ الْقِسْمَةِ) فَظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (فَهُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ) أَيْ الْوَاقِفُ هُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ لَا الْقَاضِي.

وَقَوْلُهُ (خَالِصٌ) صِفَةُ عَقَارٍ: أَيْ لَوْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ مِائَةُ ذِرَاعٍ وَهُوَ خَالِصٌ لَهُ لَا شَرِكَةَ لِغَيْرِهِ فِيهِ فَوَقَفَ مِنْهُ خَمْسِينَ ذِرَاعًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَاسِمُ هَاهُنَا غَيْرَ الْوَاقِفِ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مُطَالَبًا وَمُطَالِبًا، فَإِنَّ مُقَاسِمَ النِّصْفِ الَّذِي هُوَ الْوَقْفُ مُطَالَبٌ مِنْ مَالِكِ النِّصْفِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ وَقْفٍ وَمَالِكُ النِّصْفِ مُطَالَبٌ وَهُوَ الْوَاقِفُ بِعَيْنِهِ الْمُقَاسِمُ لِنِصْفِ الْوَقْفِ فَكَانَ مُطَالَبًا وَمُطَالِبًا، وَهُوَ لَا يَجُوزُ فَيُرْفَعُ أَمْرُهُ إلَى الْقَاضِي لِيُقَاسِمَهُ، أَوْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ الْبَاقِيَ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ يُقَاسِمَ الْمُشْتَرِيَ ثُمَّ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْلُ دَرَاهِمَ بِأَنْ كَانَ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ أَجْوَدَ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى إدْخَالِ الدَّرَاهِمِ فِي الْقِسْمَةِ أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ إدْخَالَ الدَّرَاهِمِ فِي الْقِسْمَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ بِالتَّرَاضِي عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ يَأْخُذُ الدَّرَاهِمَ أَوْ يُعْطِيهَا، فَإِنْ كَانَ

ص: 220

لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَاسِمًا وَمُقَاسَمًا، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْلُ دَرَاهِمَ إنْ أَعْطَى الْوَاقِفَ لَا يَجُوزُ لِامْتِنَاعِ بَيْعِ الْوَقْفِ، وَإِنْ أَعْطَى الْوَاقِفَ جَازَ وَيَكُونُ بِقَدْرِ الدَّرَاهِمِ شِرَاءً

قَالَ (وَالْوَاجِبُ أَنْ يُبْتَدَأَ مِنْ ارْتِفَاعِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ شَرَطَ ذَلِكَ الْوَاقِفُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ) لِأَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ صَرْفُ الْغَلَّةِ مُؤَبَّدًا، وَلَا تَبْقَى دَائِمَةً إلَّا بِالْعِمَارَةِ فَيَثْبُتُ شَرْطُ الْعِمَارَةِ اقْتِضَاءً

الْأَوَّلَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ يُعْطِي بِمُقَابَلَةِ الدَّرَاهِمِ شَيْئًا مِنْ الْوَقْفِ، وَبَيْعُ الْوَقْفِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ جَازَ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ

ص: 221

وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ وَصَارَ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ، فَإِنَّهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِهَا. ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَا يَظْفَرُ بِهِمْ، وَأَقْرَبُ أَمْوَالِهِمْ هَذِهِ الْغَلَّةُ فَتَجِبُ فِيهَا. وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَآخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ فَهُوَ فِي مَالِهِ: أَيِّ مَالٍ شَاءَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ مُطَالَبَتُهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْعِمَارَةَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى الْمَوْقُوفُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَقَفَهُ، وَإِنْ خَرِبَ يَبْنِي عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّهَا بِصِفَتِهَا صَارَتْ غَلَّتُهَا مَصْرُوفَةً إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ عَلَيْهِ وَالْغَلَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى شَيْءٍ آخَرَ إلَّا بِرِضَاهُ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَعِنْدَ الْآخَرِينَ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْعِمَارَةِ ضَرُورَةُ إبْقَاءِ الْوَقْفِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الزِّيَادَةِ.

يَشْتَرِي شَيْئًا بِمُقَابَلَةِ الدَّرَاهِمِ وَيَقِفُهُ وَهُوَ جَائِزٌ.

وَقَوْلُهُ لِأَنَّ «الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ» هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَلِإِحْرَازِهِ مَعَانِيَ جَمَّةً جَرَى مَجْرَى الْمِثْلِ وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَضَرَّةٍ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةٍ، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا: أَنَّ غَلَّةَ الْوَقْفِ لَمَّا كَانَتْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ كَانَتْ الْعِمَارَةُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا. ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَا يَظْفَرُ بِهِمْ: أَيْ لَا يَفُوزُ الْمُتَوَلِّي بِهِمْ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِمْ وَعُسْرَتِهِمْ، وَأَقْرَبُ أَمْوَالِهِمْ إلَى الْمُتَوَلِّي هَذِهِ الْغَلَّةُ فَتَجِبُ فِيهَا. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَلَّةِ) يَعْنِي حَتْمًا لِأَنَّهُ قَالَ فَهُوَ فِي مَالِهِ أَيَّ مَالٍ شَاءَ، وَهَذِهِ الْغَلَّةُ أَيْضًا مِنْ مَالِهِ، فَلَوْ لَمْ يُقَيَّدْ بِذَلِكَ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ) يَعْنِي لَا عَلَى رَجُلٍ

ص: 222

قَالَ (فَإِنْ وَقَفَ دَارًا عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ سُكْنَى) لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ عَلَى مَا مَرَّ فَصَارَ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ (فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ فَقِيرًا آجَرَهَا الْحَاكِمُ وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا، وَإِذَا عَمَّرَهَا رَدَّهَا إلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ حَقِّ الْوَاقِفِ وَحَقِّ صَاحِبِ السُّكْنَى، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَمِّرْهَا تَفُوتُ السُّكْنَى أَصْلًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْعِمَارَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ مَالِهِ فَأَشْبَهَ امْتِنَاعَ صَاحِبِ الْبَذْرِ فِي الْمُزَارَعَةِ فَلَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ رِضًا مِنْهُ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ، وَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ مَنْ لَهُ السُّكْنَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ.

بِعَيْنِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْضِ: أَيْ لَا تُصْرَفُ غَلَّةُ الْوَقْفِ إلَى زِيَادَةِ عِمَارَةٍ لَمْ تَكُنْ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ بَلْ تُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ. وَعِنْدَ آخَرِينَ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبِنَاءُ الثَّانِي مِثْلَ الْأَوَّلِ لَا زَائِدًا عَلَيْهِ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ وَقَفَ دَارًا عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْأَوَّلُ أَوْلَى) يُرِيدُ بِهِ إجَارَةَ الْحَاكِمِ وَعِمَارَتَهَا بِأُجْرَتِهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى. وَالثَّانِي هُوَ تَرْكُ الْعِمَارَةِ. وَاسْتُفِيدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْمُرْهَا تَفُوتُ السُّكْنَى أَصْلًا. وَقَوْلُهُ (فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ) بَيَانُهُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِبُطْلَانِ حَقِّهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ مَالِهِ فِي الْحَالِ وَلِرَجَائِهِ إصْلَاحَ الْقَاضِي وَعِمَارَتَهُ ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ مَنْ لَهُ السُّكْنَى) إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى فَاعِلِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ وَلَا تَمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ، وَمَنْ لَهُ السُّكْنَى لَيْسَ بِمَالِكٍ. وَنُوقِضَ بِالْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ الدَّارَ وَلَيْسَ بِمَالِكِهَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا أُقِيمَتْ الْعَيْنُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْدُومَةِ، وَمَنْ لَهُ السُّكْنَى أُبِيحَتْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ وَلِهَذَا لَمْ تَقُمْ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ

ص: 223

قَالَ (وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ) صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى عِمَارَتِهِ فَيَصْرِفَهُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعِمَارَةِ لِيَبْقَى عَلَى التَّأْبِيدِ فَيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْوَاقِفِ. فَإِنْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ صَرَفَهَا فِيهَا، وَإِلَّا أَمْسَكَهَا حَتَّى لَا يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوَانَ الْحَاجَةِ فَيَبْطُلُ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إعَادَةُ عَيْنِهِ إلَى مَوْضِعِهِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ إلَى الْمَرَمَّةِ صَرْفًا لِلْبَدَلِ إلَى مَصْرِفِ الْمُبْدَلِ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْسِمَهُ) يَعْنِي النَّقْضَ (بَيْنَ مُسْتَحَقِّي الْوَقْفِ) لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا حَقَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِيهِ: وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي الْمَنَافِعِ، وَالْعَيْنُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصْرِفُ إلَيْهِمْ غَيْرَ حَقِّهِمْ.

فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ تَمْلِيكِ الْمَالِكِ جَوَازُ تَمْلِيكِ غَيْرِهِ.

قَالَ (وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: قَوْلُهُ وَآلَتِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بِالْعَطْفِ عَلَى الْبِنَاءِ: يَعْنِي مَا انْهَدَمَ مِنْ آلَةِ الْوَقْفِ بِأَنْ بَلِيَ خَشَبُ الْوَقْفِ وَفَسَدَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالْعَطْفِ عَلَى مَا الْمَوْصُولَةِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الثِّقَاتِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ انْهَدَمَتْ الْآلَةُ، وَالنَّقْضُ بِضَمِّ النُّونِ الْبِنَاءُ الْمَنْقُوضُ، وَفِي الصِّحَاحِ ذَكَرَهُ بِكَسْرِ النُّونِ لَا غَيْرُ.

ص: 224

قَالَ (وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ أَوْ جَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) قَالَ رضي الله عنه: ذَكَرَ فَصْلَيْنِ شَرْطَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ وَجَعْلَ الْوِلَايَةِ إلَيْهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ الرَّازِيّ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقِيلَ إنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ وَالْإِفْرَازِ. وَقِيلَ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا شَرَطَ الْبَعْضَ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ لِلْفُقَرَاءِ، وَفِيمَا إذَا شَرَطَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ لِلْفُقَرَاءِ سَوَاءٌ؛ وَلَوْ وَقَفَ وَشَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ مَا دَامُوا أَحْيَاءً، فَإِذَا مَاتُوا فَهُوَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَقَدْ قِيلَ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ كَاشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي شَرْطٌ عِنْدَهُ وَلَمْ يُوجَدْ. قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْوَقْفِ. وَقَوْلُهُ (فَقَدْ قِيلَ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ وَالتَّتِمَّةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ لَوْ شَرَطَ بَعْضَ الْغَلَّةِ أَوْ كُلَّهَا لِنَفْسِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ جَازَ فَلِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَاشْتِرَاطُهُ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ فِي حَيَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ جَوَّزَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِلْعُرْفِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ هَذَا الشَّرْطِ لَهُنَّ لِأَنَّهُنَّ يَعْتِقْنَ بِمَوْتِهِ، فَاشْتِرَاطُهُ لَهُنَّ كَاشْتِرَاطِهِ لِسَائِرِ الْأَجَانِبِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ أَيْضًا تَبَعًا لِمَا بَعْدَ الْوَفَاةِ، وَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ: أَيْ اشْتِرَاطُ صَرْفِ الْغَلَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ، وَذَكَّرَ الضَّمِيرَ تَغْلِيبًا لِلْمُدَبَّرِينَ عَلَى أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ كَاشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ اشْتِرَاطُ صَرْفِ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ جَائِزٌ بِدُونِ وَاسِطَةٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَكَذَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ صَرْفِ الْغَلَّةِ إلَى نَفْسِهِ انْتِهَاءً بِوَاسِطَةِ اشْتِرَاطِ صَرْفِ الْغَلَّةِ إلَى أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ.

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ: أَيْ بِطَرِيقِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَاشْتِرَاطُهُ الْكُلَّ أَوْ الْبَعْضَ

ص: 225

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، فَاشْتِرَاطُهُ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ يُبْطِلُهُ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَصَارَ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفِّذَةِ، وَشَرْطَ بَعْضِ بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ.

وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ» وَالْمُرَادُ مِنْهَا صَدَقَتُهُ الْمَوْقُوفَةُ، وَلَا يَحِلُّ الْأَكْلُ مِنْهَا إلَّا بِالشَّرْطِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ إزَالَةُ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَإِذَا شَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، فَقَدْ جَعَلَ مَا صَارَ مَمْلُوكًا لِلَّهِ تَعَالَى لِنَفْسِهِ لَا أَنَّهُ يَجْعَلُ مِلْكَ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا جَائِزٌ،

لِنَفْسِهِ يُبْطِلُهُ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَصَارَ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّمَ قَدْرًا مِنْ مَالِهِ لِلْفَقِيرِ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ لَهُ وَشَرْطِ بَعْضِ بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ، فَقَوْلُهُ وَشَرْطِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ كَانَ مَانِعًا عَنْ الْجَوَازِ فِي الْكُلِّ، فَكَذَا إذَا جَعَلَ بَعْضَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ.

وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ») ذَكَرَ الْحَدِيثَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَةُ، وَلَا يَحِلُّ الْأَكْلُ مِنْهُ إلَّا بِالشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ إلَى جِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا بِقَوْلِهِ لَهُمَا إنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ، وَإِلَى قَوْلِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ

ص: 226

كَمَا إذَا بَنَى خَانًا أَوْ سِقَايَةً أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً، وَشَرَطَ أَنْ يَنْزِلَهُ أَوْ يَشْرَبَ مِنْهُ أَوْ يُدْفَنَ فِيهِ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْقُرْبَةُ وَفِي الصَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ، قَالَ عليه الصلاة والسلام «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ» .

وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ أَرْضًا أُخْرَى إذَا شَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ.

التَّقَرُّبُ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْمَجْمُوعِ أَنَّ الْوَقْفَ إزَالَةُ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ.

وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ أَرْضًا أُخْرَى إذَا شَاءَ ذَلِكَ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي التَّوَسُّعِ فِي الْوَقْفِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ زَوَالِهِ، وَالْوَقْتُ يَتِمُّ بِذَلِكَ وَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى التَّأْبِيدِ فِي أَصْلِ

ص: 227

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْوَقْفِ، فَيَتِمُّ الْوَقْفُ بِشُرُوطِهِ وَيَبْقَى الِاسْتِبْدَالُ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَكُونُ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ كَالْمَسْجِدِ إذَا شُرِطَ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ أَوْ شُرِطَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَاِتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ صَحِيحٌ فَهَذَا مِثْلُهُ.

وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فِي الْوَقْفِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَازَ الْوَقْفُ، وَالْخِيَارُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى التَّوْسِعَةِ كَمَا مَرَّ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِتَكُونَ مُدَّةُ الْخِيَارِ مَعْلُومَةً، حَتَّى لَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةً لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا

ص: 228

وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فِي الْوَقْفِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ بَاطِلٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا.

قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ الْخِلَافُ (بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ جَعْلَ غَلَّةِ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ الْوَاقِفُ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ مَا دَامَ حَيًّا فَكَذَلِكَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيُرَوَّى النَّظَرُ فِيهِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ أَيْضًا، وَبِهَذَا الْبِنَاءِ صَرَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ. ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَنْقَلِبْ الْوَقْفُ جَائِزًا بِإِبْطَالِ الْخِيَارِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَبَّدًا وَشَرْطُ

ص: 229

وَأَمَّا فَصْلُ الْوِلَايَةِ فَقَدْ نَصَّ فِيهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ،

الْخِيَارِ يَمْنَعُ التَّأْبِيدَ فَكَانَ شَرْطُ الْخِيَارِ شَرْطًا فَاسِدًا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ فَكَانَ الْمُفْسِدُ قَوِيًّا.

(قَوْلُهُ وَأَمَّا فَصْلُ الْوِلَايَةِ فَقَدْ نَصَّ فِيهِ) أَيْ فَقَدْ نَصَّ الْقُدُورِيُّ فِي فَصْلِ الْوِلَايَةِ بِالْجَوَازِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِهِ وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ إلَى قَوْلِهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ أَيْضًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَذَكَرَ هِلَالٌ فِي وَقْفِهِ، وَقَالَ أَقْوَامٌ: إنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتْ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ لَهُ الْوِلَايَةَ شَرَطَ أَوْ سَكَتَ، وَلَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي شَرْطُ صِحَّةِ الْوَقْفِ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي، فَلِهَذَا أَوَّلَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَقَالُوا: الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَخْ، وَمَعْنَاهُ إذَا سَلَّمَهُ إلَى الْمُتَوَلِّي وَقَدْ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ حِينَ وَقَفَهُ كَانَ لَهُ الْوِلَايَةُ بَعْدَمَا سَلَّمَهُ إلَى الْمُتَوَلِّي، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً وَأَخْرَجَهَا إلَى الْقَيِّمِ لَا تَكُونُ لَهُ الْوِلَايَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ.

ص: 230

وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَذَكَرَ هِلَالٌ فِي وَقْفِهِ وَقَالَ أَقْوَامٌ: إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ. قَالَ مَشَايِخُنَا: الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْقَيِّمِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَإِذَا سَلَّمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةٌ فِيهِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُتَوَلِّي إنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ بِشَرْطِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْوِلَايَةُ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى هَذَا الْوَقْفِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِوِلَايَتِهِ، كَمَنْ اتَّخَذَ مَسْجِدًا يَكُونُ أَوْلَى بِعِمَارَتِهِ وَنَصْبِ الْمُؤَذِّنِ فِيهِ، وَكَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ

قَالَ قَاضِي خَانْ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ فَلَا تَبْقَى لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَالتَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَانَتْ الْوِلَايَةُ لِلْوَاقِفِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ إنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ) اسْتِدْلَالٌ لِأَبِي يُوسُفَ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:" وَلَنَا " إشَارَةً إلَى أَنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَكَلَامُهُ الْبَاقِي ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 231

لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ. وَلَوْ أَنَّ الْوَاقِفَ شَرَطَ وِلَايَتَهُ لِنَفْسِهِ وَكَانَ الْوَاقِفُ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَى الْوَقْفِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَنْزِعَهَا مِنْ يَدِهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ، كَمَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْوَصِيَّ نَظَرًا لِلصِّغَارِ، وَكَذَا إذَا شَرَطَ أَنْ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ وَلَا لِقَاضٍ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ وَيُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَبَطَلَ

(فَصْلٌ)

فَصْلٌ)

فَصَلَ أَحْكَامَ الْمَسْجِدِ عَمَّا قَبْلَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ لِمُخَالَفَةِ أَحْكَامِهِ لِمَا قَبْلَهُ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَمَنْعِ الشُّيُوعِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ الْحَاكِمُ فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْمَسْجِدِ، فَإِنَّ الْوَقْفَ إذَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ حَاكِمٌ وَلَمْ يَكُنْ مُوصًى بِهِ وَلَا مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، وَأَمَّا الْمَسْجِدُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَهُ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ لِأَنَّ الْوَقْفَ اجْتَمَعَ فِيهِ مَعْنَيَانِ: الْحَبْسُ، وَالصَّدَقَةُ، فَإِذَا قَالَ وَقَفْت فَكَأَنَّهُ قَالَ حَبَسْت الْعَيْنَ عَلَى مِلْكِي وَتَصَدَّقْت بِالْغَلَّةِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يُوصِ بِهِ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِالْغَلَّةِ الْمَعْدُومَةِ لَا يَصِحُّ، فَإِذَا أَوْصَى بِهِ أَوْ أَضَافَهُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ لَازِمًا بَعْدَ مَوْتِهِ،

ص: 232

(وَإِذَا بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يَفْرِزَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِهِ وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ زَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ مِلْكِهِ) أَمَّا الْإِفْرَازُ فَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُصُ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا بِهِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهِ فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَيُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ نَوْعِهِ، وَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْقَبْضُ فَقَامَ تَحَقُّقُ الْمَقْصُودِ مَقَامَهُ ثُمَّ يُكْتَفَى بِصَلَاةِ الْوَاحِدِ فِيهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْجِنْسِ مُتَعَذِّرٌ فَيُشْتَرَطُ أَدْنَاهُ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَزُولُ مِلْكُهُ بِقَوْلِهِ جَعَلْته مَسْجِدًا) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِمِلْكِ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى

وَأَمَّا إذَا قَالَ جَعَلْت أَرْضِي مَسْجِدًا فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَوْ أَزَالَهُ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ كَمَا لَوْ أَزَالَهُ بِالْإِعْتَاقِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الصَّلَاةُ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، وَيُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ جَهْرِيَّةً بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، حَتَّى لَوْ صَلَّى جَمَاعَةٌ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ سِرًّا لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنْ أَذَّنَ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَأَقَامَ وَصَلَّى وَحْدَهُ صَارَ مَسْجِدًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ صَلَاتَهُ عَلَى

ص: 233

بِسُقُوطِ حَقِّ الْعَبْدِ وَصَارَ كَالْإِعْتَاقِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.

قَالَ: وَمَنْ جَعَلَ مَسْجِدًا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ وَجَعَلَ بَابَ الْمَسْجِدِ إلَى الطَّرِيقِ، وَعَزَلَهُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَإِنْ مَاتَ يُورَثُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى لِبَقَاءِ حَقِّ الْعَبْدِ مُتَعَلِّقًا بِهِ، وَلَوْ كَانَ السِّرْدَابُ لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ جَازَ كَمَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَعَلَ السُّفْلَ مَسْجِدًا وَعَلَى ظَهْرِهِ مَسْكَنٌ فَهُوَ مَسْجِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مِمَّا يَتَأَبَّدُ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي السُّفْلِ دُونَ الْعُلُوِّ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ عَلَى عَكْسِ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُعَظَّمٌ، وَإِذَا كَانَ فَوْقَهُ مَسْكَنٌ أَوْ مُسْتَغَلٌّ يَتَعَذَّرُ تَعْظِيمُهُ.

هَذَا الْوَصْفِ كَالْجَمَاعَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ) إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا يُتَمَّمُ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِقَوْلِهِ لَهُمَا أَنَّ مُوجِبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ وَأَنَّهُ يَتَأَبَّدُ كَالْعِتْقِ، وَالسِّرْدَابُ بِكَسْرِ السِّينِ مُعَرَّبُ سِرْدَابَةَ. وَهُوَ بَيْتٌ يُتَّخَذُ تَحْتَ الْأَرْضِ لِلتَّبْرِيدِ.

وَقَوْلُهُ (فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ) أَيْ لَا يَكُونُ مَسْجِدًا وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا يَكُونُ خَالِصًا لَهُ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} أَضَافَ الْمَسَاجِدَ إلَى ذَاتِهِ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَمَاكِنِ لَهُ،

ص: 234

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي الْوَجْهَيْنِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حِينَ دَخَلَ الرَّيَّ أَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَا قُلْنَا.

قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ اتَّخَذَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ) يَعْنِي لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُورَثُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقُّ الْمَنْعِ، وَإِذَا كَانَ مِلْكُهُ مُحِيطًا بِجَوَانِبِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ فَلَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا، وَلِأَنَّهُ أَبْقَى الطَّرِيقَ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ) اعْتَبَرَهُ مَسْجِدًا، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِكَوْنِهِ مَسْجِدًا وَلَا يَصِيرُ مَسْجِدًا إلَّا بِالطَّرِيقِ دَخَلَ فِيهِ الطَّرِيقُ وَصَارَ مُسْتَحَقًّا كَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ.

قَالَ (وَمَنْ اتَّخَذَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَهُ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ) لِأَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الْعِبَادِ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا أَسْقَطَ الْعَبْدُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ فَانْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ.

فَاقْتَضَى ذَلِكَ خُلُوصَ الْمَسَاجِدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ بَقَاءِ حَقِّ الْعِبَادِ فِي أَسْفَلِهِ أَوْ فِي أَعْلَاهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْخُلُوصُ (قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ تَحْتَهُ سِرْدَابٌ أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ: أَيْ مَا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ وَفَوْقَهُ بَيْتٌ مُسْتَغَلٌّ أَوْ دَكَاكِينُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَمْ يَقُلْ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مِنْهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ لِيَتَهَيَّأَ لَهُ مَا ذُكِرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دُخُولٍ مَخْصُوصٍ فِي مِصْرٍ مَخْصُوصٍ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ زِيَادَةَ التَّعْمِيمِ بِلَفْظِ الْكُلِّ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَقَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا يَعْنِي مِنْ الضَّرُورَةِ.

قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ اتَّخَذَ وَسْطَ دَارِهِ مَسْجِدًا) وَسْطَ بِالسُّكُونِ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُبْهَمٌ لِدَاخِلِ صَحْنِ الدَّارِ لَا لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ بَيْنَ طَرَفَيْ الصَّحْنِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ أَبْقَى الطَّرِيقَ لِنَفْسِهِ) فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى، حَتَّى لَوْ عُزِلَ بَابُهُ

ص: 235

وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ يَبْقَى مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مِنْهُ فَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْبَانِي، أَوْ إلَى وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ لِنَوْعِ قُرْبَةٍ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ فَصَارَ كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ وَحَشِيشِهِ إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ،

إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ صَارَ مَسْجِدًا.

(قَوْلُهُ وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (يَبْقَى مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) إلَى أَنْ قَالَ: وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْبَانِي. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَشْتَرِطُ فِي الِابْتِدَاءِ إقَامَةَ الصَّلَاةِ فِيهِ لِيَصِيرَ مَسْجِدًا فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ، وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ فِيهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا وَمُحَمَّدٌ يَشْتَرِطُ فِي الِابْتِدَاءِ إقَامَةَ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ لِيَصِيرَ مَسْجِدًا فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ، وَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا. وَحُكِيَ أَنَّ مُحَمَّدًا مَرَّ بِمَزْبَلَةٍ فَقَالَ: هَذَا مَسْجِدُ أَبِي يُوسُفَ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُلْ بِعَوْدِهِ إلَى مِلْكِ الْبَانِي يَصِيرُ مَزْبَلَةً عِنْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ، وَمَرَّ أَبُو يُوسُفَ بِإِصْطَبْلٍ فَقَالَ: هَذَا مَسْجِدُ مُحَمَّدٍ: يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا قَالَ يَعُودُ مِلْكًا فَرُبَّمَا يَجْعَلُهُ الْمَالِكُ إصْطَبْلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَسْجِدًا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَبْعَدَ مَذْهَبَ صَاحِبِهِ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ. اسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ بِأَنَّهُ سَقَطَ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ وَاسْتُظْهِرَ بِالْكَعْبَةِ، فَإِنَّ فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ قَدْ كَانَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ بِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعًا لِلطَّاعَةِ وَالْقُرْبَةِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ. وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: عُيِّنَ هَذَا الْجُزْءُ مِنْ مِلْكِهِ مَصْرُوفًا إلَى قُرْبَةٍ بِعَيْنِهَا، فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ عَادَ إلَى مِلْكِهِ أَوْ مِلْكِ وَارِثِهِ وَصَارَ كَحَشِيشِ الْمَسْجِدِ

ص: 236

إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي الْحَصِيرِ وَالْحَشِيشِ إنَّهُ يُنْقَلُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ.

وَحَصِيرِهِ إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ. إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي الْحَصِيرِ وَالْحَشِيشِ يُنْقَلُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ.

ص: 237

قَالَ (وَمَنْ بَنَى سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَانًا يَسْكُنُهُ بَنُو السَّبِيلِ أَوْ رِبَاطًا أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ حَقِّ الْعَبْدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فَيَسْكُنَ فِي الْخَانِ وَيَنْزِلَ فِي الرِّبَاطِ وَيَشْرَبَ مِنْ السِّقَايَةِ، وَيُدْفَنَ فِي الْمَقْبَرَةِ فَيُشْتَرَطُ حُكْمُ الْحَاكِمِ أَوْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَخَلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَزُولُ مِلْكُهُ بِالْقَوْلِ) كَمَا هُوَ أَصْلُهُ، إذْ التَّسْلِيمُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَالْوَقْفُ لَازِمٌ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا اسْتَقَى النَّاسُ مِنْ السِّقَايَةِ وَسَكَنُوا الْخَانَ وَالرِّبَاطَ وَدُفِنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ زَالَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ تَسْلِيمُ نَوْعِهِ، وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَيُكْتَفَى بِالْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ فِعْلِ الْجِنْسِ كُلِّهِ، وَعَلَى هَذَا الْبِئْرُ الْمَوْقُوفَةُ وَالْحَوْضُ،

وَقَوْلُهُ (وَمَنْ بَنَى سِقَايَةً أَوْ خَانًا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ) يَعْنِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ وَالْإِضَافَةَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَا بِشَرْطٍ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَوْلُهُ (وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي أَنَّ التَّسْلِيمَ يَحْصُلُ بِالِاسْتِقَاءِ وَالسُّكْنَى وَالنُّزُولِ وَالدَّفْنِ فِي السِّقَايَةِ وَالْخَانِ وَالرِّبَاطِ وَالْمَقْبَرَةِ

ص: 238

وَلَوْ سُلِّمَ إلَى الْمُتَوَلِّي صَحَّ التَّسْلِيمُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَفِعْلُ النَّائِبِ كَفِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ، وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ قِيلَ لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَدْبِيرَ لِلْمُتَوَلِّي فِيهِ، وَقِيلَ يَكُونُ تَسْلِيمًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَكْنُسُهُ وَيُغْلِقُ بَابَهُ، فَإِذَا سُلِّمَ إلَيْهِ صَحَّ التَّسْلِيمُ، وَالْمَقْبَرَةُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا قِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُتَوَلِّيَ لَهُ عُرْفًا. وَقِيلَ هِيَ بِمَنْزِلَةِ السِّقَايَةِ وَالْخَانِ فَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي؛ لِأَنَّهُ لَوْ نُصِّبَ الْمُتَوَلِّي يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الْعَادَةِ، وَلَوْ جَعَلَ دَارًا لَهُ بِمَكَّةَ سُكْنَى لِحَاجِّ بَيْتِ اللَّهِ وَالْمُعْتَمِرِينَ، أَوْ جَعَلَ دَارِهِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ سُكْنَى لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ جَعَلَهَا فِي ثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ سُكْنَى لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ. أَوْ جَعَلَ غَلَّةَ أَرْضِهِ لِلْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَفَعَ ذَلِكَ إلَى وَالٍ يَقُومُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا رُجُوعَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ فِي الْغَلَّةِ تَحِلُّ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، وَفِيمَا سِوَاهُ مِنْ سُكْنَى الْخَانِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنْ الْبِئْرِ وَالسِّقَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ،

وَقَوْلُهُ (فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ) أَيْ فِي السِّقَايَةِ وَالْخَانِ وَالرِّبَاطِ وَالْمَقْبَرَةِ. وَقَوْلُهُ (وَيُكْتَفَى بِالْوَاحِدِ) ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ (سُكْنَى الْحَاجِّ بَيْتُ اللَّهِ تَعَالَى) الْحَاجُّ اسْمُ جَمْعٍ بِمَعْنَى الْحُجَّاجِ كَالسَّامِرِ بِمَعْنَى السُّمَّارِ فِي قَوْله تَعَالَى {سَامِرًا تَهْجُرُونَ}

ص: 239

وَالْفَارِقُ هُوَ الْعُرْفُ فِي الْفَصْلَيْنِ. فَإِنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِي الْغَلَّةِ الْفُقَرَاءَ، وَفِي غَيْرِهَا التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَشْمَلُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ فِي الشُّرْبِ وَالنُّزُولِ. وَالْغَنِيُّ لَا يَحْتَاجُ إلَى صَرْفِ هَذَا الْغَلَّةِ لِغِنَاهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَالثَّغْرُ مَوْضِعُ الْمَخَافَةِ مِنْ فُرُوجِ الْبُلْدَانِ، وَيُقَالُ رَابِطُ الْجَيْشِ: أَقَامَ فِي الثَّغْرِ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مُرَابَطَةً وَرِبَاطًا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 240

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 241

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 242

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 243

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 244

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 245

كِتَابُ الْبُيُوعِ

كِتَابُ الْبُيُوعِ

لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَنْوَاعِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَكَرَ بَعْضَ حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا بَقِيَ مِنْهَا، وَذَكَرَ الْبُيُوعَ بَعْدَ الْوَقْفِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ وَالْبَيْعُ فِي اللُّغَةِ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ فَقِيلَ: هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ. وَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ لُغَةً. وَاصْطِلَاحًا يُقَالُ: بَاعَ الشَّيْءَ إذَا

ص: 246

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

شَرَاهُ، وَيُقَالُ بَاعَهُ الشَّيْءَ وَبَاعَ مِنْهُ، وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْأَنْوَاعِ الْآتِي ذِكْرُهَا جَمَعُوهُ، وَجَوَازُهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَبِالسُّنَّةِ «فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَقَرَّرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» ، وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ، وَبِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُلَبِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ سَلْبُ شَرْعِيَّتِهِ، فَإِنَّ تَعَلُّقَ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِتَعَاطِيهَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ وَرُكْنُهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ أَوْ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ. وَشَرْطُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَاقِدَيْنِ الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَحَلِّ كَوْنُهُ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ. وَحُكْمُهُ إفَادَةُ الْمِلْكِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ شَرْعًا، فَلَا يُشْكِلُ بِتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ مَعَ كَوْنِهِ مِلْكًا لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ مُطْلَقًا لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْبَيْعِ، وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَوُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ وَثُبُوتِ الشُّفْعَةِ وَعِتْقِ الْقَرِيبِ وَمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي الْجَارِيَةِ وَالْخِيَارَاتِ بِطَرِيقِ الضِّمْنِ. وَأَنْوَاعُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَبِيعِ أَرْبَعَةٌ: بَيْعُ السِّلَعِ بِمِثْلِهَا وَيُسَمَّى مُقَايَضَةً. وَبَيْعُهَا بِالدَّيْنِ: أَعْنِي الثَّمَنَ.

ص: 247

قَالَ (الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ

وَبَيْعُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ كَبَيْعِ النَّقْدَيْنِ وَيُسَمَّى الصَّرْفَ. وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَيُسَمَّى سَلَمًا. وَبِاعْتِبَارِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ الْمُسَاوَمَةُ، وَهِيَ الَّتِي لَا تَلْتَفِتُ إلَى الثَّمَنِ السَّابِقِ، وَالْمُرَابَحَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ، وَالْوَضِيعَةِ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا. قَالَ رحمه الله (الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ) الِانْعِقَادُ هَاهُنَا تَعَلُّقُ كَلَامِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بِالْآخَرِ شَرْعًا عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمَحَلِّ. وَالْإِيجَابُ الْإِثْبَاتُ. وَيُسَمَّى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْعَاقِدَيْنِ إيجَابًا لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْآخَرِ خِيَارُ الْقَبُولِ، فَإِذَا قَبِلَ يُسَمَّى كَلَامُهُ قَبُولًا وَحِينَئِذٍ لَا خَفَاءَ فِي وَجْهِ تَسْمِيَةِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ إيجَابًا وَالْمُتَأَخِّرِ قَبُولًا. وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِلَفْظَيْنِ

ص: 248

إذَا كَانَا بِلَفْظَيْ الْمَاضِي) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا بِعْت وَالْآخَرُ اشْتَرَيْت؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ، وَالْإِنْشَاءُ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ وَالْمَوْضُوعُ لِلْإِخْبَارِ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ. وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْآخَرُ لَفْظُ الْمَاضِي،

مَاضِيَيْنِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُوجِبُ بِعْت وَالْمُجِيبُ اشْتَرَيْت لِأَنَّ الْبَيْعَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ، فَالْبَيْعُ يُعْرَفُ بِهِ، أَمَّا أَنَّ الْبَيْعَ إنْشَاءٌ فَلِأَنَّ الْإِنْشَاءَ إثْبَاتُ مَا لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى الْبَيْعِ لَا مَحَالَةَ؛ وَأَمَّا كَوْنُهُ شَرْعِيًّا فَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَبِيعِ شَرْعًا، وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ لِأَنَّ تَلَقِّي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْهُ وَالشَّرْعُ قَدْ اسْتَعْمَلَ الْمَوْضُوعَ لِلْإِخْبَارِ لُغَةً فِي الْإِنْشَاءِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ، هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِ الشَّيْخِ رحمه الله فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِّ شَيْءٍ إلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَإِلَّا لَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ وَهُوَ ظَاهِرٌ. قَالَ رحمه الله (لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ. أَحَدُهُمَا الْمَاضِي، وَالْآخَرُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ) وَإِنَّمَا لَا يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ فِيهِ لَفْظَ الْمَاضِي الَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ وُجُودِهِ فَكَانَ الِانْعِقَادُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ لَفْظَ

ص: 249

بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ هُنَاكَ.

الْمُسْتَقْبَلِ إنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ كَانَ عِدَةً لَا بَيْعًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي كَانَ مُسَاوَمَةً. وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ اللَّفْظَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْتَقْبَلًا بِدُونِ نِيَّةِ الْإِيجَابِ فِي الْحَالِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ فَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَأُسْنِدَ ذَلِكَ إلَى تُحْفَةِ الْفُقَهَاءِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ. ثُمَّ قِيلَ فِي تَعْلِيلِهِ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الِاسْتِقْبَالِ تَحْتَمِلُ الْحَالَ فَصَحَّتْ النِّيَّةُ. وَقِيلَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وُضِعَ لِلْحَالِ وَفِي وُقُوعِهِ لِلِاسْتِقْبَالِ ضَرْبُ تَجَوُّزٍ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالسِّينِ أَوْ سَوْفَ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَلَا وُضِعَ لَهُ، فَإِنْ أَرَادَ الشَّيْخُ مِنْ لَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ ذَلِكَ فَلَا خَفَاءَ فِي عَدَمِ انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِهِ، وَنِيَّةُ الْحَالِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا الْمَحَلَّ، وَإِنْ أَرَادَ مَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِقْبَالَ وَهُوَ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِالْجَوَازِ بِهِ وَإِنْ كَانَ بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَعْمَلُ فِي الْمُحْتَمَلَاتِ لَا فِي الْمَوْضُوعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ لِمَا مَرَّ مِنْ الْأَثَرِ وَالْمَعْقُولِ، لَا يُقَالُ: سَلَّمْنَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ لَكِنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا هِيَ لِدَفْعِ الْمُحْتَمَلِ وَهُوَ الْعِدَةُ لَا لِإِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْمَعْهُودَ أَنَّ الْمَجَازَ يَحْتَاجُ إلَى مَا يَنْفِي إرَادَةَ الْحَقِيقَةِ لَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ تَحْتَاجُ إلَى مَا يَنْفِي إرَادَةَ الْمَجَازِ عَلَى أَنَّهُ دَافِعٌ لِلْمَعْقُولِ دُونَ الْأَثَرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْمُضَارِعُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ فِي غَيْرِ الْبُيُوعِ وَالْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِيهَا هُوَ اللَّفْظُ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعُ فِيهَا مَجَازٌ فَيَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ فَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ النِّكَاحِ) يَعْنِي أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ،

ص: 250

وَقَوْلُهُ رَضِيت بِكَذَا أَوْ أَعْطَيْتُك بِكَذَا أَوْ خُذْهُ بِكَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ بِعْت وَاشْتَرَيْت؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ،

فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا قَالَ زَوِّجْنِي فَقَالَ الْآخَرُ زَوَّجْتُك انْعَقَدَ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ هُنَاكَ، وَهُوَ مَا قَالَ إنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ بِالنِّكَاحِ وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ النِّكَاحِ.

قَالَ رحمه الله: وَقَوْلُهُ (رَضِيت أَوْ أَعْطَيْتُك) هَذَا لِبَيَانِ أَنَّ انْعِقَادَ الْبَيْعِ لَا يَنْحَصِرُ فِي لَفْظِ بِعْت وَاشْتَرَيْت، بَلْ كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ يَنْعَقِدُ بِهِ، فَإِذَا قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا بِكَذَا فَقَالَ رَضِيت أَوْ أَعْطَيْتُك الثَّمَنَ أَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا بِكَذَا فَقَالَ رَضِيت أَوْ أَعْطَيْت: أَيْ الْمَبِيعَ بِذَلِكَ الثَّمَنِ انْعَقَدَ لِإِفَادَةِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، وَكَذَا إذَا قَالَ اشْتَرَيْت هَذَا مِنْك بِكَذَا فَقَالَ خُذْهُ: يَعْنِي بِعْت بِذَلِكَ فَخُذْهُ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ بِالْبَدَلِ وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْبَيْعِ فَقَدَّرَ الْبَيْعَ اقْتِضَاءً فَصَارَ كُلُّ مَا يُؤَدِّي مَعْنَى بِعْت وَاشْتَرَيْت سَوَاءٌ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، وَقَيَّدَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ الْعُقُودِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى اللَّفْظِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِ كَمَا فِي الْمُفَاوَضَةِ إذَا

ص: 251

وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ هُوَ الصَّحِيحُ لِتَحَقُّقِ الْمُرَاضَاةِ.

لَمْ يُبَيِّنَا جَمِيعَ مَا تَقْتَضِيهِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ (يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ لِتَحَقُّقِ) الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّرَاضِي. وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي فِي الْخَسِيسِ كَالْبَقْلِ وَأَمْثَالِهِ، ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله أَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى أَنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ يَكْفِي فِي تَحَقُّقِهِ

ص: 252

قَالَ (وَإِذَا)(أَوْجَبَ) أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَيْعَ فَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ، وَهَذَا خِيَارُ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِذَا لَمْ يَفْسُدْ لِحُكْمٍ بِدُونِ قَبُولِ الْآخَرِ فَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ قَبْلَ قَبُولِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ جَامِعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ فَاعْتُبِرَتْ سَاعَاتُهُ سَاعَةً وَاحِدَةً دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَتَحْقِيقًا لِلْيُسْرِ،

قَالَ رحمه الله (وَإِذَا أَوْجَبَ) إذَا قَالَ الْبَائِعُ مَثَلًا بِعْتُك هَذَا بِكَذَا فَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ قَالَ فِي الْمَجْلِسِ قَبِلْت، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ، وَهَذَا يُسَمَّى خِيَارَ الْقَبُولِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا فِي الرَّدِّ وَالْقَبُولِ لَكَانَ مَجْبُورًا عَلَى أَحَدِهِمَا وَانْتَفَى التَّرَاضِي، فَمَا فَرَضْنَاهُ بَيْعًا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا هَذَا خَلَفٌ، وَإِذَا كَانَ إيجَابُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُفِيدٍ لِلْحُكْمِ بِدُونِ قَبُولِ الْآخَرِ كَانَ لِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إيجَابِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ. فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّ إيجَابَ أَحَدِهِمَا غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ لَكِنَّ حَقَّ الْغَيْرِ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي بِإِيجَابِ الْبَائِعِ وَهُوَ حَقٌّ لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَكُونُ الرُّجُوعُ خَالِيًا عَنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِيجَابَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لِلْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ كَانَ الْمِلْكُ حَقِيقَةً لِلْبَائِعِ وَحَقُّ التَّمَلُّكِ لِلْمُشْتَرِي إنْ سَلِمَ ثُبُوتُهُ بِإِيجَابِ الْبَائِعِ لَا يَمْنَعُ الْحَقِيقَةَ لِكَوْنِهَا أَقْوَى مِنْ الْحَقِّ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى السَّاعِي قَبْلَ الْحَوْلِ، فَإِنَّ الْمُزَكِّيَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِرْدَادِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْفَقِيرِ بِالْمَدْفُوعِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ زَالَتْ مِنْ الْمُزَكِّي فَعَمِلَ الْحَقُّ عَمَلَهُ لِانْتِفَاءِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ مَا وَجْهُ اخْتِصَاصِ خِيَارِ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ بِالْمَجْلِسِ وَلِمَ لَا يَبْطُلُ الْإِيجَابُ عَقِيبَ خُلُوِّهِ عَنْ الْقَبُولِ أَوْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ. وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ فِي إبْطَالِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمَجْلِسِ عُسْرًا بِالْمُشْتَرِي، وَفِي إبْقَائِهِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ عُسْرًا بِالْبَائِعِ، وَفِي التَّوَقُّفِ عَلَى الْمَجْلِسِ يُسْرًا بِهِمَا جَمِيعًا. وَالْمَجْلِسُ جَامِعٌ

ص: 253

وَالْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ حَتَّى اُعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ

لِلْمُتَفَرِّقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَجُعِلَتْ سَاعَاتُهُ سَاعَةً وَاحِدَةً دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَتَحْقِيقًا لِلْيُسْرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَكُونُ الْخُلْعُ وَالْعِتْقُ عَلَى مَالٍ كَذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا اشْتَمَلَا عَلَى الْيَمِينِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى فَكَانَ ذَلِكَ مَانِعًا عَنْ الرُّجُوعِ فِي الْمَجْلِسِ فَيَتَوَقَّفُ الْإِيجَابُ فِيهِمَا عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ. قَالَ رحمه الله (وَالْكِتَابُ كَالْخِطَابِ) إذَا كَتَبَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بِعْتُك عَبْدِي فُلَانًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ قَالَ لِرَسُولِهِ بِعْت هَذَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاذْهَبْ فَأَخْبِرْهُ بِذَلِكَ فَوَصَلَ الْكِتَابُ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَأَخْبَرَ الرَّسُولُ الْمُرْسَلَ إلَيْهِ فَقَالَ فِي مَجْلِسِ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ اشْتَرَيْت أَوْ قَبِلْت تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا. لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ كَالْخِطَابِ مِنْ الْحَاضِرِ. «لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

ص: 254

وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ وَلَا أَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي بِبَعْضِ الثَّمَنِ لِعَدَمِ رِضَا الْآخَرِ بِتَفَرُّقِ

كَانَ يُبَلِّغُ تَارَةً بِالْكِتَابِ وَتَارَةً بِالْخِطَابِ»، وَكَانَ ذَلِكَ سَوَاءً فِي كَوْنِهِ مُبَلِّغًا. وَكَذَلِكَ الرَّسُولُ مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ فَنُقِلَ كَلَامُهُ إلَيْهِ قَالَ رحمه الله (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ) يَعْنِي إذَا أَوْجَبَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فِي شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا وَأَرَادَ الْمُشْتَرِي قَبُولَ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا لَا غَيْرُ. فَإِنْ كَانَتْ الصَّفْقَةُ وَاحِدَةً فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِتَضَرُّرِ الْبَائِعِ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَضُمُّونَ الْجَيِّدَ إلَى الرَّدِيءِ فِي الْبِيَاعَاتِ وَيُنْقِصُونَ عَنْ ثَمَنِ الْجَيِّدِ لِتَرْوِيجِ الرَّدِيءِ بِهِ، فَلَوْ ثَبَتَ خِيَارُ قَبُولِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا لَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ فِي الْجَيِّدِ وَتَرَكَ الرَّدِيءَ فَزَالَ الْجَيِّدُ عَنْ يَدِ الْبَائِعِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْبَائِعِ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ فِي الصُّورَةِ الْمَوْضُوعَةِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا إذَا وُضِعَتْ الْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفٍ مَثَلًا وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي فِي نِصْفِهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: يَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ فِي الْمَجْلِسِ هَلْ يَصِحُّ أَوْ لَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْقُدُورِيَّ قَالَ: إنَّهُ يَصِحُّ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ

ص: 255

الصَّفْقَةِ، إلَّا إذَا بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ صَفَقَاتُ مَعْنًى. قَالَ (وَأَيُّهُمَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَ الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ) وَالرُّجُوعِ، وَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

الْمُشْتَرِي فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِئْنَافَ إيجَابٍ لَا قَبُولٍ، وَرِضَا الْبَائِعِ قَبُولًا. قَالَ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِثْلُ هَذَا إذَا كَانَ لِلْبَعْضِ الَّذِي قَبِلَهُ الْمُشْتَرِي حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الثَّمَنِ كَالصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي الْقَفِيزَيْنِ بَاعَهُمَا بِعَشَرَةٍ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَتَكُونُ حِصَّةُ كُلِّ بَعْضٍ مَعْلُومَةً، فَأَمَّا إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى عَبْدَيْنِ أَوْ ثَوْبَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِقَبُولِ أَحَدِهِمَا وَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْبَيْعُ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً. وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا سَيَأْتِي، وَإِنْ كَانَتْ الصَّفْقَةُ مُتَفَرِّقَةً كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ عَنْ الْبَائِعِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (إلَّا إذَا بَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ لِأَنَّهَا صَفَقَاتٌ مَعْنًى) وَالصَّفْقَةُ ضَرْبُ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ فِي الْبَيْعِ وَالْبَيْعَةِ. ثُمَّ جُعِلَتْ عِبَارَةً عَنْ الْعَقْدِ نَفْسِهِ، وَالْعَقْدُ يَحْتَاجُ إلَى مَبِيعٍ وَثَمَنٍ وَبَائِعٍ وَمُشْتَرٍ وَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ، وَبِاتِّحَادِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَعَ بَعْضٍ وَتَفَرُّقِهَا يَحْصُلُ اتِّحَادُ الصَّفْقَةِ وَتَفْرِيقُهَا، فَإِذَا اتَّحَدَ الْجَمْعُ اتَّحَدَتْ الصَّفْقَةُ، وَكَذَا إذَا اتَّحَدَ سِوَى الْمَبِيعِ كَقَوْلِهِ بِعْتهمَا بِمِائَةٍ فَقَالَ قَبِلْت، وَاتِّحَادُ الْجَمِيعِ سِوَى الثَّمَنِ لَا يُتَصَوَّرُ فَيَكُونُ مَعَ تَعَدُّدِ الْمَبِيعِ كَأَنْ قَالَ بِعْتهمَا بِمِائَةٍ فَقَالَ قَبِلْت أَحَدَهُمَا بِسِتِّينَ وَالْآخَرَ بِأَرْبَعِينَ وَذَلِكَ يَكُونُ صَفْقَةً وَاحِدَةً أَيْضًا كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَاتِّحَادُ الْجَمِيعِ سِوَى الْبَائِعِ كَأَنْ قَالَ بِعْنَا هَذَا مِنْك بِمِائَةٍ فَقَالَ قَبِلْت يُوجِبُ اتِّحَادَ الصَّفْقَةِ، وَاتِّحَادُ الْجَمِيعِ سِوَى الْمُشْتَرِي كَأَنْ قَالَ بِعْته مِنْكُمَا بِمِائَةٍ فَقَالَا قَبِلْنَا كَذَلِكَ وَتَفَرُّقُ الْجَمِيعِ يُوجِبُ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ وَتَفَرُّقَ الْمَبِيعِ. وَالثَّمَنُ إنْ كَانَ بِتَكْرِيرِ لَفْظِ الْمَبِيعِ فَكَذَلِكَ، وَكَذَا تَفَرُّقُهُمَا بِتَكْرِيرِ لَفْظِ الشِّرَاءِ، هَذَا كُلُّهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَأَمَّا تَعَدُّدُ الْبَائِعِ مَعَ تَعَدُّدِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ بِلَا تَكْرِيرِ لَفْظِ الْبَيْعِ فَكَذَا تَفَرُّقُ الْمُشْتَرِي مَعَ تَفَرُّقِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ بِدُونِ تَكْرِيرِ لَفْظِ الشِّرَاءِ فَيُوجِبُ التَّفَرُّقَ قِيَاسًا لَا اسْتِحْسَانًا. وَقِيلَ لَا يُوجِبُ التَّفَرُّقَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُوجِبُهُ عَلَى قَوْلِ صَاحِبَيْهِ، قَالَ: وَأَيُّهُمَا قَامَ مِنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَ الْإِيجَابُ، هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إنْ شَاءَ قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ رَدَّ الْإِيجَابِ تَارَةً يَكُونُ صَرِيحًا وَأُخْرَى دَلَالَةً، فَإِنَّ الْقِيَامَ دَلِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ وَالرُّجُوعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُوجِبَ الرُّجُوعُ صَرِيحًا، وَالدَّلَالَةُ تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ. فَإِنْ قِيلَ: الدَّلَالَةُ تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ إذَا لَمْ يُوجَدْ صَرِيحٌ يُعَارِضُهَا وَهَاهُنَا لَوْ قَالَ بَعْدَ الْقِيَامِ قَبِلْت وُجِدَ الصَّرِيحُ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الدَّلَالَةِ.

ص: 256

وَإِذَا حَصَلَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا مِنْ عَيْبٍ أَوْ عَدَمِ رُؤْيَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» وَلَنَا أَنَّ فِي الْفَسْخِ إبْطَالُ حَقِّ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ. وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى خِيَارِ الْقَبُولِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّرِيحَ إنَّمَا وُجِدَ بَعْدَ عَمَلِ الدَّلَالَةِ فَلَا يُعَارِضُهَا

(وَإِذَا حَصَلَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ثُمَّ الْبَيْعُ وَلَزِمَ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْخِيَارُ إلَّا مِنْ عَيْبٍ أَوْ عَدَمِ رُؤْيَةٍ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّهُ أَثْبَتَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا خِيَارَ الْمَجْلِسِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ أَنْ يَرُدَّ الْعَقْدَ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِالْأَبْدَانِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ (بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا») فَإِنَّ التَّفَرُّقَ عَرْضٌ فَيُقَوَّمُ بِالْجَوْهَرِ وَهُوَ الْأَبْدَانُ (وَلَنَا أَنَّ فِي الْفَسْخِ إبْطَالَ حَقِّ الْآخَرِ) وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى خِيَارِ الْقَبُولِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثٌ: قَبْلَ قَبُولِهِمَا. وَبَعْدَ قَبُولِهِمَا، وَبَعْدَ كَلَامِ الْمُوجِبِ قَبْلَ قَوْلِ

ص: 257

وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَيْهِ فَإِنَّهُمَا مُتَبَايِعَانِ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ لَا بَعْدَهَا أَوْ يَحْتَمِلَهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ،

الْمُجِيبِ. وَإِطْلَاقُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْأَوَّلَيْنِ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ أَوْ مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ حَقِيقَةٌ فَيَكُونُ مُرَادًا، أَوْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا مُرَادٌ وَالْآخَرَ مُحْتَمِلٌ لِلْإِرَادَةِ. لَا يُقَالُ: الْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ فِي حُكْمِ الْجَوَاهِرِ فَيَكُونَانِ مُتَبَايِعَيْنِ بَعْدَ وُجُودِ كَلَامِهِمَا، لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ كَلَامِهِمَا حُكْمُ كَلَامِهِمَا شَرْعًا لَا حَقِيقَةُ

ص: 258

وَالتَّفَرُّقُ فِيهِ تَفَرُّقُ الْأَقْوَالِ.

قَالَ (وَالْأَعْوَاضُ الْمُشَارُ إلَيْهَا لَا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهَا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ) لِأَنَّ بِالْإِشَارَةِ كِفَايَةٌ فِي التَّعْرِيفِ وَجَهَالَةُ الْوَصْفِ فِيهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ

كَلَامِهِمَا، وَالْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْكَلَامِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَنْقُولٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَقَوْلُهُ (وَالتَّفَرُّقُ تَفَرُّقُ الْأَقْوَالِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ التَّفَرُّقُ عَرْضٌ فَيُقَوَّمُ بِالْجَوْهَرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَمْلُ التَّفَرُّقِ عَلَى ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ وَهُوَ مُحَالٌ بِإِجْمَاعِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ السُّنَّةِ فَيَكُونُ إسْنَادُ التَّفَرُّقِ إلَيْهَا مَجَازًا، فَمَا وَجْهُ تَرْجِيحِ مَجَازِكُمْ عَلَى مَجَازِهِمْ؟. وَأُجِيبَ بِأَنَّ إسْنَادَ التَّفْرِيقِ وَالتَّفَرُّقِ إلَى غَيْرِ الْأَعْيَانِ سَائِغٌ شَائِعٌ، فَصَارَ بِسَبَبِ فَشْوِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ، قَالَ تَعَالَى {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الْآيَةَ وَقَالَ {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} وَالْمُرَادُ التَّفَرُّقُ فِي الِاعْتِقَادِ.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» وَهُوَ أَيْضًا فِي الِاعْتِقَادِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَجَازَ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ أَوْ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا كَذَلِكَ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُ، وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: حَمْلُهُ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ رَدٌّ إلَى الْجَهَالَةِ، إذْ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ وَلَا غَايَةَ مَعْرُوفَةٌ فَيَصِيرُ مِنْ أَشْبَاهِ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِفَسَادِهِ عَادَةً، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ رحمه الله: لَيْسَ لِهَذَا الْحَدِيثِ حَدٌّ مَعْرُوفٌ. أَوْ نَقُولُ: التَّفَرُّقُ يُطْلَقُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَالْمَعَانِي بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ. وَتَتَرَجَّحُ جِهَةُ التَّفَرُّقِ بِالْأَقْوَالِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَدَاءِ حَمْلِهِ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ إلَى الْجَهَالَةِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ: أَعْنِي حَمْلَ التَّفَرُّقِ عَلَى الْأَقْوَالِ مَنْقُولٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رحمه الله.

قَالَ رحمه الله (وَالْأَعْوَاضُ الْمُشَارُ إلَيْهَا لَا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهَا) الْأَعْوَاضُ الْمُشَارُ إلَيْهَا ثَمَنًا كَانَتْ أَوْ مُثَمَّنًا لَا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهَا

ص: 259

(وَالْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ) لَا تَصِحُّ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْرُوفَةَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَالتَّسَلُّمَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ،

فِي جَوَازِ الْبَيْعِ، لِأَنَّ بِالْإِشَارَةِ كِفَايَةً فِي التَّعْرِيفِ الْمُنَافِي لِلْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ اللَّذَيْنِ أَوْجَبَهُمَا عَقْدُ الْبَيْعِ، فَإِنَّ جَهَالَةَ الْوَصْفِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِوُجُودِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فِي التَّعْرِيفِ، وَكَوْنُ التَّقَابُضِ نَاجِزًا فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا لَمْ تَكُنْ الْأَعْرَاضُ رِبَوِيَّةً، أَمَّا إذَا كَانَتْ رِبَوِيَّةً فَجَهَالَةُ الْمِقْدَارِ تَمْنَعُ الصِّحَّةَ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيَّدْ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالرِّبَا وَهَذَا الْبَابُ لَيْسَ لِبَيَانِهِ.

قَالَ (وَالْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْرُوفَةَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ) الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ عَنْ الْإِشَارَةِ لَا يَصِحُّ بِهَا الْعَقْدُ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ كَعَشَرَةٍ وَنَحْوِهَا، وَالصِّفَةُ كَكَوْنِهَا بُخَارِيًّا أَوْ سَمَرْقَنْدِيًّا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ

ص: 260

وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَمْتَنِعُ التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ

قَالَ (وَيَجُوزُ‌

‌ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ

إذَا كَانَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا) لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى

بِالْعَقْدِ، وَكُلُّ مَا هُوَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ بِالْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى النِّزَاعِ فَالتَّسْلِيمُ يَمْتَنِعُ بِهَا (وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَمْتَنِعُ التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ) وَيَفُوتُ الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْبَيْعِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ حَالٍّ) قَالَ الْكَرْخِيُّ رحمه الله: الْمَبِيعُ مَا تَعَيَّنَ فِي الْعَقْدِ وَالثَّمَنِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَهَذَا عَلَى الْمَذْهَبِ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَعَيَّنُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ ثَمَنٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ فِي الْإِيضَاحِ: الثَّمَنُ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ نَقَلَهُ عَنْ الْفَرَّاءِ وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَلَيْسَ بِثَمَنٍ. وَقِيلَ الْمَبِيعُ مَا يَحِلُّهُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَعْيَانِ ابْتِدَاءً، وَقَوْلُهُ ابْتِدَاءً احْتِرَازٌ عَنْ الْمُسْتَأْجَرِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحِلُّهُ الْعَقْدُ، بِاعْتِبَارِ قِيَامِهِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى أَحَدِ طَرِيقَيْ أَصْحَابِنَا فِي الْإِجَارَةِ، وَالثَّمَنُ مَا يُقَابِلُهُ وَيَنْقَسِمُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى مَحْضٍ وَمُتَرَدِّدٍ، فَالْمَبِيعُ الْمَحْضُ هُوَ الْأَعْيَانُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ إلَّا الثِّيَابَ الْمَوْصُوفَةَ وَقَعَتْ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ بَدَلًا عَنْ عَيْنٍ فَإِنَّهَا أَثْمَانٌ، وَلَيْسَ اشْتِرَاطُ الْأَجَلِ لِكَوْنِهِ ثَمَنًا بَلْ لِيَصِيرَ مُلْحَقًا بِالسَّلَمِ فِي كَوْنِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَالثَّمَنُ الْمَحْضُ هُوَ مَا خُلِقَ لِلثَّمَنِيَّةِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمُتَرَدِّدُ بَيْنَهُمَا كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ فَإِنَّهَا مَبِيعَةٌ نَظَرًا إلَى الِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا، أَثْمَانٌ نَظَرًا إلَى أَنَّهَا مِثْلِيَّةٌ كَالنَّقْدَيْنِ، فَإِنْ قَابَلَهَا النَّقْدَانِ فَهِيَ مُعَيَّنَةٌ، وَإِنْ قَابَلَهَا عَيْنٌ وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ فَهِيَ مَبِيعَةٌ وَأَثْمَانٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِأَنْ يُجْعَلَ مَبِيعًا مِنْ الْآخَرِ فَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مَبِيعًا وَثَمَنًا وَإِنْ كَانَتْ أَعْنِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، فَإِنْ دَخَلَتْ

ص: 261

{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» . وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ مَانِعَةٌ مِنْ التَّسْلِيمِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ، فَهَذَا يُطَالِبُهُ بِهِ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ، وَهَذَا يُسَلِّمُهُ فِي بِعِيدِهَا.

قَالَ (وَمَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ كَانَ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ)؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ، وَفِيهِ التَّحَرِّي لِلْجَوَازِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ

فِيهَا الْبَاءُ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ اشْتَرَيْت هَذَا الْعَبْدَ بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَقَدْ وَصَفَهَا كَانَتْ ثَمَنًا، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي غَيْرِهَا كَأَنْ يُقَالَ: اشْتَرَيْت الْكُرَّ بِهَذَا الْعَبْدِ كَانَ مَبِيعًا وَلَا يَصِحُّ إلَّا سَلَمًا بِشُرُوطِهِ. هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِهِمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَقُولُ: الْأَعْيَانُ ثَلَاثَةٌ: نُقُودٌ أَعْنِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَسِلَعٌ كَالثِّيَابِ وَالدُّورِ وَالْعَبِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمُقَدَّرَاتٌ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَبَيْعُ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ بِالنَّقْدَيْنِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْمَبِيعِ الْمَحْضِ وَالثَّمَنِ الْمَحْضِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ كَوْنِهِ مَبِيعًا وَثَمَنًا، وَالتَّمْيِيزُ فِي اللَّفْظِ بِدُخُولِ الْبَاءِ وَعَدَمِهِ قَالَ (وَالْبَيْعُ بِالثَّمَنِ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ جَائِزٌ) لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» لَكِنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى مَا يَمْنَعُ الْوَاجِبَ بِالْعَقْدِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ، فَرُبَّمَا يُطَالَبُ الْبَائِعُ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ وَالْمُشْتَرِي يُؤَخِّرُ إلَى بَعِيدِهَا.

قَالَ (وَمَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ كَانَ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ) وَمَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ دُونَ الْقَدْرِ كَأَنْ قَالَ اشْتَرَيْت بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَقُلْ بُخَارِيًّا أَوْ سَمَرْقَنْدِيًّا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْعَقْدُ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَحَدَهَا. وَاعْلَمْ أَنِّي أَذْكُرُ لَك فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْأَقْسَامَ الْعَقْلِيَّةَ الْمُتَصَوَّرَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إجْمَالًا ثُمَّ أَنْزِلْهَا عَلَى مَتْنِ الْكِتَابِ حَلًّا لَهُ، فَإِنِّي مَا وَجَدْت مِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ تَصَدَّى لِذَلِكَ عَلَى مَا يَنْبَغِي فَأَقُولُ: إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَالِيَّةِ وَالرَّوَاجِ، أَوْ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الرَّوَاجِ، أَوْ فِي الرَّوَاجِ دُونَ الْمَالِيَّةِ، أَوْ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ

ص: 262

(فَإِنْ كَانَتْ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَحَدُهُمَا) وَهَذَا إذَا كَانَ الْكُلُّ فِي الرَّوَاجِ سَوَاءً؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ إلَّا أَنْ تَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ بِالْبَيَانِ أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ وَأَرْوَجَ فَحِينَئِذٍ يُصْرَفُ إلَيْهِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الْمَالِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ سَوَاءً فِيهَا كَالثُّنَائِيِّ وَالثُّلَاثِيِّ وَالنُّصْرُتِيِّ الْيَوْمَ بِسَمَرْقَنْدَ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعَدَالِيِّ بِفَرْغَانَةَ جَازَ الْبَيْعُ إذَا أُطْلِقَ اسْمُ الدِّرْهَمِ، كَذَا قَالُوا، وَيَنْصَرِفُ إلَى مَا قَدَّرَ بِهِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازَعَةَ وَلَا اخْتِلَافَ فِي الْمَالِيَّةِ.

مِنْهُمَا بَلْ فِي مُجَرَّدِ الِاسْمِ كَالْمِصْرِيِّ وَالدِّمَشْقِيِّ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ الْبَيْعُ وَانْصَرَفَ إلَى الْأَرْوَجِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُنَازَعَةِ تُوقِعُهُمَا فِي الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ يَجُوزُ وَيَتَصَرَّفُ إلَى الْأَرْوَجِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ، وَإِنْ كَانَ الرَّابِعُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَيْسَتْ مُوقَعَةً فِي الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُهُ (فَإِنْ كَانَتْ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً) يَعْنِي فِي الْمَالِيَّةِ كَالذَّهَبِ الْمِصْرِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ، فَإِنَّ الْمِصْرِيَّ أَفْضَلُ فِي الْمَالِيَّةِ مِنْ الْمَغْرِبِيِّ إذَا فُرِضَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الرَّوَاجِ (فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ إشَارَةً إلَى الْقِسْمِ الثَّانِي، إلَّا أَنْ تَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ بِبَيَانِ أَحَدِهِمَا. فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ. وَقَوْلُهُ (أَوْ يَكُونُ أَحَدُهَا أَغْلَبَ وَأَرْوَجَ فَحِينَئِذٍ يُصْرَفُ الْبَيْعُ إلَيْهِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ) إشَارَةً إلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوْ إلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ كَوْنَ أَحَدِهَا أَرْوَجَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْمَالِيَّةِ أَوْ مَعَ اسْتِوَاءٍ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِيهِمَا.

وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ فَسَادُ الْبَيْعِ إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الْمَالِيَّةِ: يَعْنِي مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي الرَّوَاجِ إشَارَةً إلَى الْقِسْمِ الثَّانِي. أَعَادَهُ لِلتَّمْثِيلِ بِقَوْلِهِ كَالثُّنَائِيِّ وَهُوَ مَا يَكُونُ الِاثْنَانِ مِنْهُ دَانَقًا وَالثُّلَاثِيِّ وَهُوَ مَا يَكُونُ الثَّلَاثَةُ مِنْهُ دَانَقًا وَالنُّصْرُتِيِّ الْيَوْمَ بِسَمَرْقَنْدَ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّاصِرِيِّ بِبُخَارَى، وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعَدَالَى بِفَرْغَانَةَ وَفُقَهَاءُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ يُسَمُّونَ الدِّرْهَمَ عَدْلِيًّا، وَكُلُّ هَذَا يَخْتَلِفُ فِي الْمَالِيَّةِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الرَّوَاجِ.

وَقَوْلُهُ (فَإِنْ كَانَتْ سَوَاءً فِيهَا) أَيْ فِي الْمَالِيَّةِ: يَعْنِي مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي الرَّوَاجِ إشَارَةً إلَى الْقِسْمِ الرَّابِعِ وَجَزَاءُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ (جَازَ الْبَيْعُ إذَا أَطْلَقَ اسْمَ الدَّرَاهِمِ كَذَا قَالُوا) أَيْ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْمَشَايِخِ (وَيَنْصَرِفُ) اسْمُ الدَّرَاهِمِ (إلَى مَا قُدِّرَ بِهِ) مِنْ الْمِقْدَارِ كَعَشَرَةٍ وَنَحْوِهَا (مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ) مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ لِأَنَّهُ لَا مُنَازَعَةَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الرَّوَاجِ (وَلَا اخْتِلَافَ فِي الْمَالِيَّةِ) وَظَهَرَ مِنْ هَذَا تَعْقِيدُ كَلَامِ الشَّيْخِ رحمه الله. فَإِنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ قَوْلِهِ إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الْمَالِيَّةِ وَمِثَالُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ كَالثُّنَائِيِّ بِالشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَتْ سَوَاءً وَفَصَلَ بَيْنَ الشَّرْطِ هَذَا وَبَيْنَ جَزَائِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ جَازَ الْبَيْعُ بِقَوْلِهِ كَالثُّنَائِيِّ إلَى قَوْلِهِ جَازَ، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ كَالثُّنَائِيِّ إلَخْ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ فَإِنْ كَانَتْ سَوَاءً لِأَنَّ مَا كَانَ اثْنَانِ مِنْهُ نِقَادًا وَثَلَاثَةٌ مِنْهُ دَانَقًا لَا يَكُونَانِ فِي الْمَالِيَّةِ سَوَاءً، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا فِي الرَّوَاجِ سَوَاءً، هَذَا

ص: 263

قَالَ (وَيَجُوزُ‌

‌ بَيْعُ الطَّعَامِ وَالْحُبُوبِ مُكَايَلَةً وَمُجَازَفَةً)

وَهَذَا إذَا بَاعَهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الرِّبَا

مَا سَنَحَ لِي فِي حَلِّ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ وَالْحُبُوبِ مُكَايَلَةً) الْمُرَادُ بِالطَّعَامِ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِمَا عُرْفًا، وَسَيَأْتِي فِي الْوَكَالَةِ، وَبِالْحُبُوبِ غَيْرُهُمَا كَالْعَدَسِ وَالْحِمَّصِ وَأَمْثَالِهِمَا، كُلُّ ذَلِكَ إذَا بِيعَ مُكَايَلَةً جَازَ الْعَقْدُ سَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِخِلَافِهِ. وَإِذَا بِيعَ (مُجَازَفَةً) فَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا (بِخِلَافِ جِنْسِهِ وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ») لَا يُقَالُ: لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْمَنْعِ عِنْدَ اتِّفَاقِ النَّوْعَيْنِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ الشَّرْطِ. وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ

ص: 264

وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَشَابَهَ جَهَالَةَ الْقِيمَةِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ وَبِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ)؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِمَا أَنَّهُ يَتَعَجَّلُ فِيهِ التَّسْلِيمَ فَيُنْدَرُ هَلَاكُهُ قَبْلَهُ بِخِلَافِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِيهِ مُتَأَخِّرٌ وَالْهَلَاكَ لَيْسَ بِنَادِرٍ قَبْلَهُ فَتَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ.

لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ صَدْرُ الْحَدِيثِ. وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ مَانِعَةٌ إذَا مَنَعَتْ التَّسْلِيمَ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ غَيْرُ مَانِعَةٍ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْ الْعَاقِدَانِ قِيمَتَهُ بِدِرْهَمٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الرِّبَا

قَالَ (وَيَجُوزُ) بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ إذَا بَاعَ الطَّعَامَ أَوْ الْحُبُوبَ (بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُمَا جَازَ) لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْمَانِعَةَ مَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي الْبَيْعِ مُتَعَجِّلٌ فَيَنْدُرُ هَلَاكُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْإِنَاءِ وَالْحَجَرِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ. وَقِيلَ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا إذَا بَاعَ أَحَدَ الْعَبِيدِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَأْخُذُ أَيَّهُمْ شَاءَ وَيَرُدُّ الْبَاقِينَ، أَوْ اشْتَرَى بِأَيِّ ثَمَنٍ شَاءَ فَإِنَّ الْجَهَالَةَ لَمْ تُفْضِ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ لِأَنَّا قُلْنَا إنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَى النِّزَاعِ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَلَمْ نَقُلْ إنَّ كُلَّ مَا هُوَ بَاطِلٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلْجَهَالَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ عَدَمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فِي الْأُولَى وَلِعَدَمِ الثَّمَنِ فِي الثَّانِيَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْجَوَازَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمِكْيَالُ لَا يَنْكَبِسُ بِالْكَبْسِ كَالْقَصْعَةِ وَنَحْوِهَا، أَمَّا إذَا كَانَ مِمَّا يَنْكَبِسُ كَالزِّنْبِيلِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ السَّلَمِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِإِنَاءٍ مَجْهُولِ الْقَدْرِ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، وَكَذَا الْحَجَرُ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِيهِ مُتَأَخِّرٌ، وَالْهَلَاكُ لَيْسَ بِنَادِرٍ قَبْلَهُ فَتَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّ الْبَيْعَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ كَالسَّلَمِ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُجَازَفَةً أَوْ يَذْكُرَ الْقَدْرَ، فَفِي الْمُجَازَفَةِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مَا يُشَارُ إلَيْهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمِعْيَارِ، وَفِي غَيْرِهَا هُوَ مَا يُسَمَّى مِنْ الْقَدْرِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهُمَا فَإِنَّ " الْفَرْضَ عَدَمُ

ص: 265

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ

الْمُجَازَفَةِ، وَالْمِكْيَالُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَمْ يُسَمَّ شَيْءٌ مِنْ الْقَدْرِ (وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ فَإِنَّ الْمِعْيَارَ الْمُعَيَّنَ لَمْ يَتَقَاعَدْ عَنْ الْمُجَازَفَةِ (وَأَظْهَرُ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ.

ص: 266

(قَالَ وَمَنْ بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ الْبَيْعُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ قُفْزَانِهَا وَقَالَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ) لَهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الصَّرْفُ إلَى الْكُلِّ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَيُصْرَفُ إلَى الْأَقَلِّ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَإِلَّا أَنْ تَزُولَ الْجَهَالَةُ بِتَسْمِيَةِ جَمِيعِ الْقُفْزَانِ أَوْ بِالْكَيْلِ فِي الْمَجْلِسِ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُلُّ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ) إذَا قَالَ الْبَائِعُ بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَهَا فِي الْمَجْلِسِ بِتَسْمِيَةِ جُمْلَةِ الْقُفْزَانِ أَوْ بِالْكَيْلِ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالْمَبِيعُ عِلَّةُ مَا فِيهَا مِنْ الْقُفْزَانِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْمَبِيعُ قَفِيزٌ وَاحِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَجُمْلَةُ الْقُفْزَانِ كَالْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا. لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ إلَى الْكُلِّ مُتَعَذِّرٌ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَطْلُبُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ أَوَّلًا وَالثَّمَنُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَقَعُ النِّزَاعُ وَإِذَا تَعَذَّرَ الصَّرْفُ إلَى الْكُلِّ صُرِفَ إلَى الْأَقَلِّ وَهُوَ مَعْلُومٌ إلَّا أَنْ تَزُولَ الْجَهَالَةُ فِي الْمَجْلِسِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَيَجُوزُ، لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ بِمَنْزِلَةِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا انْعِقَادُهُ فَاسِدًا لَكِنْ يَنْقَلِبُ جَائِزًا كَمَا إذَا كَانَ فَاسِدًا بِحُكْمِ أَجَلٍ مَجْهُولٍ

ص: 267

وَلَهُمَا أَنَّ الْجَهَالَةَ بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا وَمِثْلُهَا غَيْرُ مَانِعٍ، وَكَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا مِنْ عَبْدَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ. ثُمَّ إذَا جَازَ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ،

أَوْ شُرِطَ الْخِيَارُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَسَادَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ قَوِيٌّ يَمْنَعُ مِنْ الِانْقِلَابِ وَيُقَيِّدُهُ بِالْمَجْلِسِ، وَمَا ذَكَرْتُمْ فَالْفَسَادُ فِيهِ لَيْسَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بَلْ لِأَمْرٍ عَارِضٍ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ لِضَعْفِهِ لِظُهُورِ أَثَرِهِ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَبِامْتِدَادِ الْأَجَلِ (وَلَهُمَا أَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ إزَالَتُهَا فِي أَيْدِيهِمَا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ) أَمَّا أَنَّ إزَالَتَهَا بِأَيْدِيهِمَا فَلِأَنَّهَا تَرْتَفِعُ بِكَيْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ بِيَدِهِمَا احْتِرَازًا عَنْ الْبَيْعِ بِالرَّقْمِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ إزَالَتَهَا إمَّا بِيَدِ الْبَائِعِ إنْ كَانَ هُوَ الرَّاقِمُ، أَوْ بِيَدِ الْغَيْرِ إنْ كَانَ الرَّاقِمُ غَيْرَهُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْمُشْتَرِي لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَتِهَا، وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ فَكَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا مِنْ عَبْدَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ وَأُجِيبَ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ الْفَسَادُ أَيْضًا، إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ اسْتِحْسَانًا بِالنَّصِّ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ عَلَى مَا سَيَأْتِي فَيَكُونُ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَالِاسْتِحْسَانُ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، ثُمَّ إذَا جَازَ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ دُونَ الْبَائِعِ، لِأَنَّ التَّفْرِيقَ وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّهِ أَيْضًا لَكِنَّهُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ تَسْمِيَةِ جُمْلَةِ الْقُفْزَانِ فَكَانَ رَاضِيًا بِهِ، وَهَذَا صَحِيحٌ إذَا عَلِمَهَا وَلَمْ يُسَمِّ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهَا فَالْوَجْهُ أَنَّهُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ مَنْ بَاعَ مَا لَمْ يَرَاهُ لِمَا يَأْتِي فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَفِيهِ بَحْثٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَوْ

ص: 268

وَكَذَا إذَا كِيلَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ سَمَّى جُمْلَةَ قُفْزَانِهَا؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ الْآنَ فَلَهُ الْخِيَارُ، كَمَا إذَا رَآهُ وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ وَقْتَ الْبَيْعِ

اسْتَلْزَمَ الْخِيَارَ لَاطَّرَدَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ الرَّجُلَانِ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بِأَلْفٍ ثُمَّ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا الْكُلَّ بِخَمْسِمِائَةٍ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَلَا يَجُوزُ فِي نَصِيبِهِ وَلَا خِيَارَ لَهُ، فَهَاهُنَا تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ وَلَمْ يُوجَدْ الْخِيَارُ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يُخَيَّرَ الْمُشْتَرِي لِلُزُومِ انْصِرَافِ الْبَيْعِ إلَى الْوَاحِدِ لِعِلْمِهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى قِنًّا مَعَ مُدَبَّرٍ فَإِنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْقِنِّ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِيَارَ يُوجِبُ التَّفْرِيقَ وَالتَّفْرِيقُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ أَنْ لَوْ كَانَ الْعَقْدُ وَارِدًا عَلَى الْكُلِّ وَالْمُشْتَرِي يَقْبَلُ الْبَعْضَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْكُلِّ حَتَّى يَكُونَ صَرْفُهُ إلَى الْبَعْضِ تَفْرِيقًا، وَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ فِي وُقُوعِهِ عَلَى نَصِيبِهِ يَلْزَمُ شِرَاءُ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَصَارَ كَمَنْ اشْتَرَى قِنًّا وَمُدَبَّرًا فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْصَرِفُ إلَى الْقِنِّ فَقَطْ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْقِنِّ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ انْصِرَافَ الْبَيْعِ إلَى قَفِيزٍ وَاحِدٍ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَالْعَوَامُّ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِأَحْكَامِ الْمَسَائِلِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا فَيَلْزَمُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا إنَّ الْكُلَّ مَبِيعٌ فَمِنْ أَيْنَ التَّفْرِيقُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْكَثْرَةِ وَقَصْدُهُمَا أَيْضًا الْكَثْرَةُ وَمَا ثَمَّةَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ عَنْ الصَّرْفِ إلَى الْجَمِيعِ، وَلِهَذَا لَوْ عُلِمَ الْمِقْدَارُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ، وَالصَّرْفُ إلَى الْأَقَلِّ بِاعْتِبَارِ تَعَذُّرِ الْكُلِّ لِلْجَهَالَةِ صَرْفُ الْعَقْدِ إلَى بَعْضِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ مِنْ الْمَبِيعِ وَقَصَدَهُ الْعَاقِدَانِ، وَلَيْسَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ إلَى ذَلِكَ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِلْعَاقِدَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَحْثِ عَنْهُ (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا كِيلَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ سُمِّيَ جَمِيعُ قُفْزَانِهَا) يَعْنِي كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لَكِنْ لَا بِذَلِكَ التَّعْلِيلِ بَلْ بِمَا قَالَ لِأَنَّهُ عُلِمَ ذَلِكَ الْآنَ، فَرُبَّمَا كَانَ فِي حَدْسِهِ أَوْ ظَنِّهِ أَنَّ الصُّبْرَةَ تَأْتِي بِمِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَزَادَتْ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ مَا يُقَابِلُهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الزَّائِدِ مَجَّانًا، وَفِي تَرْكِهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ نَقَصَتْ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَكَان آخَرَ وَهَلْ يُوَافِقُ أَوْ لَا فَصَارَ كَمَا إذَا رَآهُ وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ وَقْتَ الْبَيْعِ، وَهَكَذَا فِي الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ.

ص: 269

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ قَطِيعَ غَنَمٍ كُلُّ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ فَسَدَ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَاعَ ثَوْبًا مُذَارَعَةً كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ جُمْلَةَ الذِّرَاعَانِ، وَكَانَ كُلُّ مَعْدُودٍ مُتَفَاوِتٍ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْكُلِّ لِمَا قُلْنَا، وَعِنْدَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ) لِمَا بَيَّنَّا غَيْرَ أَنَّ بَيْعَ شَاةٍ مِنْ قَطِيعِ غَنَمٍ وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ لَا يَجُوزُ لِلتَّفَاوُتِ.

وَأَمَّا إذَا بَاعَ قَطِيعَ غَنَمٍ كُلَّ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ فَالْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي الْجَمِيعِ فَاسِدٌ، وَقِيَاسُ قَوْلِهِ الصَّرْفُ إلَى الْوَاحِدِ كَمَا فِي الْمَكِيلَاتِ) إلَّا أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الشِّيَاهِ مَوْجُودٌ وَفِي ذَلِكَ جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، بِخِلَافِ الْمَكِيلَاتِ وَحُكْمُ الْمَذْرُوعَاتِ إذَا بِيعَتْ مُزَارَعَةً حُكْمُ الْغَنَمِ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ وَجُمْلَةَ الثَّمَنِ، وَأَمَّا إذَا بَيَّنَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا كَمَا إذَا قَالَ بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ

ص: 270

وَبَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ فَلَا تُفْضِي الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ فِيهِ، وَتَقْضِي إلَيْهَا فِي الْأَوَّلِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ

قَالَ (وَمَنْ ابْتَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ) لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ، فَلَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِالْمَوْجُودِ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ فَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ وَالْقَدْرُ لَيْسَ بِوَصْفٍ

(وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ

وَهُوَ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَصَحِيحٌ. أَمَّا الْأُولَى فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ، وَجُمْلَةُ الثَّمَنِ صَارَتْ مَعْلُومَةً بِبَيَانِ ذُرْعَانِ الثَّوْبِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا سَمَّى لِكُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمًا وَبَيَّنَ جُمْلَةَ الثَّمَنِ صَارَ جَمِيعُ الذُّرْعَانِ مَعْلُومًا، وَكَذَا كُلُّ مَعْدُودٍ مُتَفَاوِتٌ كَالْخَشَبِ وَالْأَوَانِي، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْكُلِّ لِمَا قُلْنَا.

قَالَ (وَمَنْ ابْتَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ) فَلَا يَخْلُو عِنْدَ الْكَيْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَخْذِ الْمَوْجُودِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ الْمُوجِبِ لِانْتِفَاءِ الْبَيْعِ بِانْتِفَاءِ الرِّضَا، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ

ص: 271

أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجُمْلَةِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ)؛ لِأَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَالْوَصْفُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ، إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ لِتَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَخْتَلُّ الرِّضَا. قَالَ (وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ مِنْ الذِّرَاعِ الَّذِي سَمَّاهُ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي

فَالزَّائِدُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْمِائَةُ وَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ إلَّا إذَا كَانَ وَصْفًا، وَالْقَدْرُ أَيْ الْقَدْرُ الزَّائِدُ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ لَيْسَ بِوَصْفٍ فَالْبَيْعُ لَا يَتَنَاوَلُهُ فَكَانَ لِلْبَائِعِ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِصَفْقَةٍ عَلَى حِدَةٍ، وَكَذَا قَبْضُ الْمُشْتَرِي وَكَانَ كُلٌّ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ مُخَيَّرًا فِيهَا إنْ شَاءَ بَاشَرَهَا أَوْ تَرَكَهَا وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مَذْرُوعًا كَأَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَخْذِ الْمَوْجُودِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَبَيْنَ تَرْكِهِ لِأَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ الْمَبِيعِ، وَكُلُّ مَا هُوَ وَصْفٌ فِي الْبَيْعِ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَالذِّرَاعُ فِي الثَّوْبِ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، أَمَّا أَنَّهُ وَصْفٌ فَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَهُمَا مِنْ الْأَعْرَاضِ، وَأَمَّا أَنَّ الْوَصْفَ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ كَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَاعْوَرَّتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يُنْقَضُ مِنْ الثَّمَنِ شَيْءٌ، فَلِهَذَا أَيْ فَلِكَوْنِ الذَّرْعِ وَصْفًا لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ يَأْخُذُ الْمَوْجُودَ بِكُلِّ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ: يَعْنِي الْمَكِيلَ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ لَيْسَ بِوَصْفٍ فَيُقَابِلُهُ الثَّمَنُ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ

(وَقَالَ إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ يَأْخُذُ بِكُلِّ الثَّمَنِ، وَعَلَى هَذَا إذَا وَجَدَهَا أَكْثَرَ مِنْ الذِّرَاعِ الَّذِي سَمَّاهُ كَانَ الزَّائِدُ لِلْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ تَابِعٌ لِلْمَبِيعِ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ أَعْمَى فَإِذَا هُوَ بَصِيرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ أَشْكَلِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، وَقَدْ مُنِعَ أَنْ يَكُونَ الذِّرَاعُ فِي الْمَذْرُوعَاتِ وَصْفًا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الطُّولِ وَالْعَرْضِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ. لِأَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ شَيْءٌ طَوِيلٌ وَعَرِيضٌ يُقَالُ شَيْءٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ، ثُمَّ عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ أَكْثَرُ مِنْ تِسْعَةٍ لَا مَحَالَةَ، فَكَيْفَ جُعِلَ الذِّرَاعُ الزَّائِدُ وَصْفًا دُونَ الْقَفِيزِ؟ وَجَوَابُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ اصْطِلَاحِ الْقَوْمِ فِي الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ، وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا تَعَيَّبَ بِالتَّنْقِيصِ فَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِيهِ وَصْفٌ،

ص: 272

وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ)؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا بَاعَهُ مَعِيبًا، فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ

(وَلَوْ قَالَ بِعْتُكهَا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا نَاقِصَةً، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ)؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لَكِنَّهُ صَارَ أَصْلًا بِإِفْرَادِهِ بِذَكَرِ الثَّمَنِ فَيَنْزِلُ كُلُّ ذِرَاعٍ مَنْزِلَةَ ثَوْبٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ

وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِيهِ أَصْلٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا لِوُجُودِهِ تَأْثِيرٌ فِي تَقَدُّمِ غَيْرِهِ وَلِعَدَمِهِ تَأْثِيرٌ فِي نُقْصَانِ غَيْرِهِ فَهُوَ وَصْفٌ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَصْلٌ. وَقِيلَ مَا لَا يَنْقُصُ الْبَاقِي بِفَوَاتِهِ فَهُوَ أَصْلٌ، وَمَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَهُوَ وَصْفٌ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الثَّانِي. وَالْمَكِيلُ لَا يَتَعَيَّبُ بِالتَّبْعِيضِ، وَالْمَذْرُوعُ يَتَعَيَّبُ، وَعَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ إذَا انْتَقَصَ مِنْهَا الْقَفِيزُ فَالتِّسْعَةُ تُشْتَرَى بِالثَّمَنِ الَّذِي يَخُصُّهَا مَعَ الْقَفِيزِ الْوَاحِدِ فِيمَا إذَا قَالَ اشْتَرَيْت هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهَا عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ، وَأَمَّا الذِّرَاعُ الْوَاحِدُ مِنْ الثَّوْبِ أَوْ الدَّارِ إذَا انْتَقَصَ فَإِنَّ الْبَاقِيَ لَا يُشْتَرَى بِالثَّمَنِ الَّذِي كَانَ يُشْتَرَى مَعَهُ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الْعَتَّابِيَّ إذَنْ مَثَلًا إذَا كَانَ خَمْسَ عَشَرَةَ ذِرَاعًا فَالْخَمْسَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ تَزِيدُ فِي قِيمَةِ الْخَمْسَةِ وَفِي قِيمَةِ الْعَشَرَةِ أَيْضًا. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا عُرِفَ أَنَّ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ أَصْلٌ وَمِنْ حَيْثُ الذَّرْعِ وَصْفٌ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ يَقَعُ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ التُّجَّارِ. فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الذَّرْعَ وَصْفٌ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْمَبِيعَ الْمَعِيبَ إذَا امْتَنَعَ رَدُّهُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا وَأَعْتَقَهُ أَوْ مَاتَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى نُقْصَانِ أُصْبُعٍ يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِالنُّقْصَانِ، وَكَمَالُ الْأَصَابِعِ وَصْفٌ فِيهِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ حَدِّ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، أُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِي الْوَصْفِ الْمَقْصُودِ لَا فِي الْوَصْفِ الْمَقْصُودِ بِالتَّنَاوُلِ، فَإِنَّهُ إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ حَقِيقَةً كَمَا إذَا قَطَعَ الْبَائِعُ يَدَ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ حُكْمًا كَمَا إذَا امْتَنَعَ الرَّدُّ لِحَقِّ الْبَائِعِ كَمَا إذَا تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْ لِحَقِّ الشَّرْعِ بِأَنْ كَانَ ثَوْبًا فَخَاطَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ أَخَذَ شَبَهًا بِالْأَصْلِ فَأَخَذَ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ،

وَلَوْ قَالَ بِعْتُكهَا: يَعْنِي الثِّيَابَ أَوْ الْمَذْرُوعَاتِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِي نَظَرٍ لِأَنَّ الْمَبِيعَ إنْ كَانَ ثِيَابًا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي الْأَرْضَ فَإِذَا بَاعَهَا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَإِنْ وُجِدَتْ نَاقِصَةً أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ أَوْ تُرِكَ، لِأَنَّ الْوَصْفَ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لَكِنَّهُ صَارَ أَصْلًا بِإِفْرَادِهِ بِذِكْرِ الثَّمَنِ فَنُزِّلَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ الْوَصْفَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا كَانَ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ، وَهَذَا: أَيْ أَخْذُهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي آخِذًا كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَهُوَ لَمْ يَبِعْ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَى تَأْتِي لِلشَّرْطِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. وَنُوقِضَ بِالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الذِّرَاعَ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا بِذِكْرِ الثَّمَنِ كَانَ أَصْلًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي مُقَابَلَةِ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَمُقَابَلَةُ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْآحَادِ عَلَى الْآحَادِ: وَأُجِيبَ بِأَنَّ الذِّرَاعَ أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ مَبِيعَةٌ كَالْقَفِيزِ، وَوُصِفَ مِنْ وَجْهٍ

ص: 273

بِكُلِّ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ آخِذًا لِكُلِّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ (وَإِنْ وَجَدَهَا زَائِدَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَمِيعَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ) لِأَنَّهُ إنْ حَصَلَ لَهُ الزِّيَادَةُ فِي الذَّرْعِ تَلْزَمُهُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ فَكَانَ نَفْعًا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ فَيَتَخَيَّرُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَارَ أَصْلًا، وَلَوْ أَخَذَهُ بِالْأَقَلِّ لَمْ يَكُنْ آخِذًا بِالْمَشْرُوطِ.

مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَالْجَمَالِ وَالْكِتَابَةِ ثُمَّ لَوْ جَعَلْنَا عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مُنْقَسِمَةً عَلَى الْإِفْرَادِ عِنْدَ ذِكْرِ كُلِّ ذِرَاعٍ لَزِمَ إلْغَاءُ جِهَةِ الْوَصْفِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَقُلْنَا بِالْوَصْفِيَّةِ عِنْدَ تَرْكِ ذِكْرِهِ، وَبِالْأَصْلِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِهِ عَمَلًا بِالشَّبِيهَيْنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ مَعْلُولٌ لِلْوَصْفِيَّةِ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً لَهَا. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إذَا لَمْ يُفْرَدْ كُلُّ ذِرَاعٍ بِالذِّكْرِ كَانَ كَوْنُ كُلِّ ذِرَاعٍ مَبِيعًا ضِمْنًا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصْفَ يَصِيرُ أَصْلًا إذَا كَانَ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ، وَإِنْ وُجِدَتْ زَائِدَةً أَخَذَ الْمُشْتَرِي الْجَمِيعَ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ فُسِخَ، أَمَّا خِيَارُ الْفَسْخِ فَلِأَنَّهُ إنْ حَصَلَ لَهُ الزِّيَادَةُ فِي الذَّرْعِ لَزِمَهُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ فَكَانَ فِي مَعْنَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ فَيَتَخَيَّرُ، وَأَمَّا لُزُومُ الزِّيَادَةِ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَارَ أَصْلًا مَشْرُوطًا، وَلَوْ أَخَذَهُ بِالْأَقَلِّ لَمْ يَكُنْ آخِذًا بِالْمَشْرُوطِ. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ ذِرَاعٍ إنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ فَسَدَ الْبَيْعُ إذَا وَجَدَهَا أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ، كَمَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ وَارِدًا عَلَى أَثْوَابٍ عَشَرَةٍ وَقَدْ وُجِدَتْ أَحَدَ عَشَرَ أَوْ تِسْعَةً عَلَى مَا سَيَأْتِي.

وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ الذِّرَاعَ لَوْ كَانَ أَصْلًا بِإِفْرَادِ ذِكْرِ الثَّمَنِ امْتَنَعَ دُخُولُ الزِّيَادَةِ فِي الْعَقْدِ، كَمَا إذَا بَاعَ صُبْرَةً عَلَى أَنَّهَا عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ فَإِذَا هِيَ أَحَدَ عَشَرَ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَدْخُلُ إلَّا بِصَفْقَةٍ عَلَى حِدَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَهَاهُنَا دَخَلَتْ فِي تِلْكَ الصَّفْقَةِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَثْوَابَ مُخْتَلِفَةٌ فَتَكُونُ الْعَشَرَةُ الْمَبِيعَةُ مَجْهُولَةً جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالذُّرْعَانُ مِنْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الذِّرَاعَ الزَّائِدَ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ كَانَ بَائِعًا بَعْضَ الثَّوْبِ وَفَسَدَ الْبَيْعُ فَحَكَمْنَا بِالدُّخُولِ تَحَرِّيًا فِي الْجَوَازِ وَالْقَفِيزُ

ص: 274

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَشْرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أَوْ حَمَّامٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ اشْتَرَى عَشْرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لَهُمَا أَنَّ عَشْرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ عُشْرُ الدَّارِ فَأَشْبَهَ عَشْرَةَ أَسْهُمٍ. وَلَهُ أَنَّ الذِّرَاعَ اسْمٌ لِمَا يَذْرَعُ بِهِ، وَاسْتُعِيرَ لِمَا يَحِلُّهُ الذِّرَاعُ وَهُوَ الْمُعَيَّنُ دُونَ الْمَشَاعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، بِخِلَافِ السَّهْمِ. وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ مِنْ جُمْلَةِ الذِّرَاعَانِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ الصَّحِيحُ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ الْخَصَّافُ لِبَقَاءِ الْجَهَالَةِ.

الزَّائِدُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَذْرُعٍ) شِرَاءُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ (مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أَوْ حَمَّامٍ) أَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِمَّا يَنْقَسِمُ أَوْ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَتْ الدَّارُ مِائَةَ ذِرَاعٍ وَشِرَاءُ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ (وَلَهُمَا أَنَّ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ) كَعَشَرَةِ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ فِي كَوْنِهَا عُشْرًا فَتَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِأَحَدِهِمَا تَحَكُّمٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الذِّرَاعَ حَقِيقَةٌ فِي الْآلَةِ الَّتِي يُذْرَعُ بِهَا وَإِرَادَتُهَا هَاهُنَا مُتَعَذِّرَةٌ فَيَصِيرُ مَجَازًا لِمَا يَحِلُّهُ بِطَرِيقِ ذِكْرِ الْحَالِّ وَإِرَادَةِ الْمَحَلِّ، وَمَا يَحِلُّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مُعَيَّنًا مُشَخَّصًا لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ يَقْتَضِي مَحَلًّا حِسِّيًّا، وَالْمُشَاعُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَمَا يَحِلُّهُ لَا يَكُونُ مُشَاعًا فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الذِّرَاعُ لِعَدَمِ مُجَوِّزِ الْمَجَازِ (وَذَلِكَ) أَيْ الْعَشَرَةُ الْأَذْرُعُ غَيْرُ مَعْلُومٍ هُنَا، إذْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْعَشَرَةَ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ مِنْ الدَّارِ فَيَكُونُ مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، بِخِلَافِ السَّهْمِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ لَا يَقْتَضِي مَحَلًّا حِسِّيًّا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّائِعِ فَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ صَاحِبَ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ يَكُونُ شَرِيكًا لِصَاحِبِ تِسْعِينَ سَهْمًا فِي جَمِيعِ الدَّارِ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِمَا مِنْهَا، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَنْ يَدْفَعَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ مِنْ جَمِيعِ الدَّارِ فِي قَدْرِ نَصِيبٍ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ كَمَا إذَا قَالَ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ، وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ، كَمَا إذَا قَالَ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ ذُرْعَانِ جَمِيعِ الدَّارِ فِي الصَّحِيحِ لِبَقَاءِ الْجَهَالَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْجَوَازِ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ الْخَصَّافُ أَنَّ الْفَسَادَ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ جَهَالَةِ جُمْلَةِ الذُّرْعَانِ. وَأَمَّا إذَا عُرِفَتْ مِسَاحَتُهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظِيرَ

ص: 275

وَلَوْ اشْتَرَى عِدْلًا عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَثْوَابٍ فَإِذَا هُوَ تِسْعَةٌ أَوْ أَحَدَ عَشَرَ فَسَدَ الْبَيْعُ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ (وَلَوْ بَيَّنَ لِكُلِّ ثَوْبٍ ثَمَنًا جَازَ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ بِقَدْرِهِ وَلَهُ الْخِيَارُ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الزِّيَادَةِ) لِجَهَالَةِ الْعَشَرَةِ الْمَبِيعَةِ.

مَا لَوْ بَاعَ كُلَّ شَاةٍ مِنْ الْقَطِيعِ بِدِرْهَمٍ إذَا كَانَ عَدَدُ جُمْلَةِ الشِّيَاهِ مَعْلُومًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عِدْلًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَثْوَابٍ) عِدْلُ الشَّيْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي مِقْدَارِهِ وَمِنْهُ عِدْلُ الْحِمْلِ إذَا اشْتَرَى عِدْلًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَثْوَابٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَكَانَ تِسْعَةً أَوْ أَحَدَ عَشَرَ فَسَدَ الْبَيْعُ. أَمَّا إذَا زَادَ فَلِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ لِأَنَّ الزَّائِدَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ فَيَجِبُ رَدُّهُ، وَالْأَثْوَابُ مُخْتَلِفَةٌ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ.

وَأَمَّا إذَا نَقَصَ فَلِوُجُوبِ سُقُوطِ حِصَّةِ النَّاقِصِ عَنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَهِيَ مَجْهُولَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ كَانَ جَيِّدًا أَوْ وَسَطًا أَوْ رَدِيئًا، وَحِينَئِذٍ لَا تُدْرَى قِيمَتَهُ بِيَقِينٍ حَتَّى تَسْقُطَ فَكَانَتْ جَهَالَتُهَا تُوجِبُ جَهَالَةَ الْبَاقِي مِنْ الثَّمَنِ فَلَا يُشَكُّ فِي فَسَادِهِ، وَإِذَا بَيَّنَ لِكُلِّ ثَوْبٍ ثَمَنًا بِقَوْلِهِ كُلُّ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ الْبَيْعُ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ لِكَوْنِ الثَّمَنِ مَعْلُومًا، وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ شَرْطُ عَقْدِهِ وَلَمْ يَجُزْ فِي فَصْلِ الزِّيَادَةِ لِجَهَالَةِ الْعَشَرَةِ الْمَبِيعَةِ. وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ أَيْضًا لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ فِي صَفْقَةٍ فَكَانَ قَبُولُ الْبَيْعِ فِي الْمَعْدُومِ شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِي الْمَوْجُودِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ جُمِعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي صَفْقَةٍ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَنًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ عِنْدَهُ فِي الْقِنِّ خِلَافًا لَهُمَا كَذَلِكَ هَذَا. وَاسْتَدَلَّ بِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَجُلٌ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ

ص: 276

وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ أَيْضًا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا هَرَوِيَّانِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا مَرْوِيٌّ حَيْثُ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا، وَإِنْ بَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَبُولَ فِي الْمَرْوِيِّ شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ فِي الْهَرَوِيِّ، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَلَا قَبُولَ يُشْتَرَطُ فِي الْمَعْدُومِ فَافْتَرَقَا.

عَلَى أَنَّهُمَا هَرَوِيَّانِ كُلُّ ثَوْبٍ بِعَشَرَةٍ، فَإِذَا أَحَدُهُمَا هَرَوِيٌّ وَالْآخَرُ مَرْوِيٌّ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ فِي الْهَرَوِيِّ.

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْفَائِتَ فِي الصِّفَةِ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا أَصْلُ الثَّوْبِ، فَإِذَا كَانَ فَوَاتُ الصِّفَةِ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ عَلَى مَذْهَبِهِ فَفَوَاتُ أَحَدِهِمَا مِنْ الْأَصْلِ أَوْلَى أَنْ يَفْسُدَ. قَالَ الشَّيْخُ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ ثَمَنَ النَّاقِصِ مَعْلُومٌ قَطْعًا فَلَا يَضُرُّ الْبَاقِي. وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَةِ الْجَامِعِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَبُولَ فِي الْمَرْوِيِّ شَرْطًا لِلْعَقْدِ فِي الْهَرَوِيِّ، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْعَقْدِ فَشَرْطُ قَبُولِهِ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ فَكَانَ فَاسِدًا، وَهَذَا لَا يُوجَدُ هَاهُنَا فَإِنَّهُ مَا شَرَطَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْمَعْدُومِ وَلَا قَصَدَ إيرَادَ الْعَقْدِ عَلَى الْمَعْدُومِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ ذَلِكَ فِيهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إيرَادَهُ عَلَى الْمَوْجُودِ فَقَطْ وَلَكِنَّهُ غَلِطَ فِي الْعَدَدِ.

ص: 277

(وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَإِذَا هُوَ عَشْرَةٌ وَنِصْفٌ أَوْ تِسْعَةٌ وَنِصْفٌ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُهُ بِعَشْرَةٍ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَأْخُذُهُ بِتِسْعَةٍ إنْ شَاءَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُهُ بِأَحَدَ عَشَرَ إنْ شَاءَ، وَفِي الثَّانِي يَأْخُذُ بِعَشْرَةٍ إنْ شَاءَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يَأْخُذُ فِي الْأَوَّلِ بِعَشْرَةٍ وَنِصْفٍ إنْ شَاءَ، وَفِي الثَّانِي بِتِسْعَةٍ وَنِصْفٍ وَيُخَيَّرُ)؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ

وَهَرَوِيٌّ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَمَرْوِيٌّ بِسُكُونِهَا مَنْسُوبٌ إلَى هَرَاةَ وَمَرْوَ قَرْيَتَانِ بِخُرَاسَانَ

قَالَ (وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا) إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ نِصْفُ ذِرَاعٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا زَادَ أَخَذَهُ بِعَشَرَةٍ بِلَا خِيَارٍ، وَفِي النُّقْصَانِ بِتِسْعَةٍ إنْ شَاءَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَإِذَا زَادَ أَخَذَهُ بِأَحَدَ عَشَرَ إنْ شَاءَ، وَإِنْ نَقَصَ بِعَشَرَةٍ إنْ شَاءَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَخَذَهُ فِي الْأَوَّلِ بِعَشَرَةٍ وَنِصْفٍ، وَفِي الثَّانِي بِتِسْعَةٍ وَنِصْفٍ إنْ شَاءَ لِأَنَّهُ قَابَلَ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ مُقَابَلَةُ نِصْفِ الذِّرَاعِ بِنِصْفِ الدِّرْهَمِ.

ص: 278

مُقَابَلَةِ الذِّرَاعِ بِالدِّرْهَمِ مُقَابَلَةُ نِصْفِهِ بِنِصْفِهِ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهَا. وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَ كُلَّ ذِرَاعٍ بِبَدَلٍ نَزَلَ كُلُّ ذِرَاعٍ مَنْزِلَةَ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ وَقَدْ انْتَقَضَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ حُكْمَ الْمِقْدَارِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالذِّرَاعِ، فَعِنْدَ عَدَمِهِ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ. وَقِيلَ فِي الْكِرْبَاسِ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ جَوَانِبُهُ لَا يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي مَا زَادَ عَلَى الْمَشْرُوطِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْزُونِ حَيْثُ لَا يَضُرُّهُ الْفَصْلُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُ ذِرَاعٍ مِنْهُ.

فَيُجَزَّأُ عَلَيْهِ) مِنْ التَّجْزِئَةِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَجْرِي عَلَيْهِ أَيْ عَلَى النِّصْفِ حُكْمُ الْمُقَابَلَةِ، وَيُخَيَّرُ كَمَا لَوْ بَاعَ عَشَرَةً بِعَشَرَةٍ فَنَقَصَ ذِرَاعٌ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِإِفْرَادِ الْبَدَلِ صَارَ كُلُّ ذِرَاعٍ) كَثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ وَالثَّوْبُ إذَا بِيعَ عَلَى أَنَّهُ كَذَا ذِرَاعًا فَنَقَصَ ذِرَاعٌ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَلَكِنْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الْأَصْلِ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ حُكْمَ الْأَصْلِ بِالشَّرْطِ وَالشَّرْطُ مُقَيَّدٌ بِالذِّرَاعِ وَنِصْفُ الذِّرَاعِ لَيْسَ بِذِرَاعٍ، فَكَانَ الشَّرْطُ مَعْدُومًا وَزَالَ مُوجِبُ كَوْنِهِ أَصْلًا فَعَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْوَصْفُ فَصَارَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَالتِّسْعَةُ كَزِيَادَةِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ فَسُلِّمَ لَهُ مَجَّانًا. وَقِيلَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي تَتَفَاوَتُ جَوَانِبُهُ كَالسَّرَاوِيلِ وَالْقَمِيصِ وَالْأَقْبِيَةِ، أَمَّا فِي الْكِرْبَاسِ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ جَوَانِبُهُ لَا تُسَلَّمُ الزِّيَادَةُ لَهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ اتَّصَلَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِعَدَمِ تَضَرُّرِهِ بِالْقَطْعِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ الْمَشَايِخُ: إذَا بَاعَ ذِرَاعًا مِنْهُ وَلَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعَهُ جَازَ كَمَا فِي الْحِنْطَةِ إذَا بَاعَ قَفِيزًا مِنْهَا.

ص: 279

(فَصْلٌ)

(وَمَنْ بَاعَ دَارًا دَخَلَ بِنَاؤُهَا فِي الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ الْعَرْصَةَ وَالْبِنَاءَ فِي الْعُرْفِ) وَلِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا اتِّصَالَ قَرَارٍ فَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ. . .

(فَصْلٌ)

مَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مُتَنَاوِلٌ اسْمَ الْمَبِيعِ عُرْفًا دَخَلَ فِي الْمَبِيعِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ صَرِيحًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِالْمَبِيعِ اتِّصَالَ إقْرَارٍ كَانَ تَابِعًا لَهُ فِي الدُّخُولِ، وَنَعْنِي بِالْقَرَارِ الْحَالَ الثَّانِيَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا وُضِعَ لَأَنْ يَفْصِلَهُ الْبَشَرُ فِي ثَانِي الْحَالِ لَيْسَ بِاتِّصَالِ قَرَارٍ، وَمَا وُضِعَ لَا لَأَنْ يَفْصِلَهُ فِيهِ فَهُوَ اتِّصَالُ قَرَارٍ، وَعَلَى هَذَا (دَخَلَ بِنَاءُ الدَّارِ فِي بَيْعِهَا وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ الْعَرْصَةَ وَالْبِنَاءَ فِي الْعُرْفِ) لَا يُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ تَنَاوُلَهُ الْبِنَاءَ فِي الْعُرْفِ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْعُرْفِ كَمَا تَقَدَّمَ (لِأَنَّ بِتَنَاوُلِهِ إيَّاهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ صِفَةً لَهَا) وَهِيَ إذَا لَمْ تَكُنْ دَاعِيَةً لِلْيَمِينِ لَا يَتَقَيَّدُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْبِنَاءُ لَيْسَ بِدَاعٍ إلَى الْيَمِينِ فَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِ وَحَنِثَ بِالدُّخُولِ بَعْدَ الِانْهِدَامِ (وَلِأَنَّ الْبِنَاءَ مُتَّصِلٌ بِهِ) أَيْ بِالْأَرْضِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَكَانِ (اتِّصَالَ قَرَارٍ) فَيَكُونُ تَابِعًا لَهُ.

ص: 280

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 281

(وَمَنْ بَاعَ أَرْضًا دَخَلَ مَا فِيهَا مِنْ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ) لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا لِلْقَرَارِ فَأَشْبَهَ الْبِنَاءَ (وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ) لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا لِلْفَصْلِ فَشَابَهَ الْمَتَاعَ الَّذِي فِيهَا. .

وَإِذَا بَاعَ أَرْضًا دَخَلَ مَا فِيهَا مِنْ النَّخْلِ وَالشَّجَرَةِ) كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً مُثْمِرَةً أَوْ غَيْرَهَا عَلَى الْأَصَحِّ (وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ لِلِاتِّصَالِ فَأَشْبَهَ الْبِنَاءَ وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهِ لِلْفَصْلِ فَأَشْبَهَ الْمَتَاعَ الْمَوْضُوعَ فِي الدَّارِ) وَنُوقِضَ بِالْحَمْلِ فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْأُمِّ لِلْفَصْلِ وَيَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأُمِّ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّ الْبَشَرَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَصْلُ الْحَمْلِ عَنْ الْأُمِّ.

ص: 282

(وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا أَوْ شَجَرًا فِيهِ ثَمَرٌ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» وَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ وَإِنْ كَانَ خِلْقَةً فَهُوَ لِلْقَطْعِ لَا لِلْبَقَاءِ فَصَارَ كَالزَّرْعِ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا) بَاعَ نَخْلًا (أَوْ شَجَرًا عَلَيْهِ ثَمَرٌ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا) أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْته مَعَ ثَمَرَتِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ الْمُبْتَاعُ» وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا وُضِعَ لِلْقَرَارِ يَدْخُلُ وَمَا وُضِعَ لِلْفَصْلِ لَا يَدْخُلُ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَرْضٌ فِيهَا نَخْلٌ عَلَيْهِ ثَمَرٌ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام «الثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ» وَلَمْ يَذْكُرْ النَّخْلَ.

وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ وَإِنْ كَانَ خِلْقَةً) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْحَالِ الثَّانِي وَالْحَالُ الْأُولَى لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ خِلْقَةً أَوْ مَوْضُوعًا

ص: 283

(وَيُقَالُ لِلْبَائِعِ اقْطَعْهَا وَسَلِّمْ الْمَبِيعَ) وَكَذَا إذَا كَانَ فِيهَا زَرْعٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ عَلَيْهِ تَفْرِيغُهُ وَتَسْلِيمُهُ، كَمَا إذَا كَانَ فِيهِ مَتَاعٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُتْرَكُ حَتَّى يَظْهَرَ صَلَاحُ الثَّمَرِ وَيُسْتَحْصَدُ الزَّرْعُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا هُوَ التَّسْلِيمُ الْمُعْتَادُ، وَالْمُعْتَادُ أَنْ لَا يُقْطَعَ كَذَلِكَ وَصَارَ كَمَا إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَفِي الْأَرْضِ زَرْعٌ. وَقُلْنَا: هُنَاكَ التَّسْلِيمُ وَاجِبٌ أَيْضًا حَتَّى يُتْرَكَ بِأَجْرٍ، وَتَسْلِيمُ الْعِوَضِ كَتَسْلِيمِ الْمُعَوَّضِ،.

وَيُقَالُ لِلْبَائِعِ سَلِّمْ الْمَبِيعَ) فَارِغًا لِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَيُؤْمَرُ بِتَفْرِيغِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَنْ مِلْكِهِ بِقَطْعِ الثَّمَرَةِ وَرَفْعِ الزَّرْعِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُتْرَكُ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُ الثَّمَرِ، وَيَسْتَحْصِدَ الزَّرْعُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّسْلِيمُ الْمُعْتَادُ، وَالْمُعْتَادُ أَنْ لَا يُقْطَعَ) وَقَاسَهُ عَلَى مَا إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَفِي الْأَرْضِ زَرْعٌ فَإِنَّهُ يُؤَخَّرُ إلَى الْحَصَادِ. وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُعْتَادَ عَدَمُ الْقَطْعِ إلَى وَقْتِ الْبُدُوِّ وَالِاسْتِحْصَادِ؛ سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ مُشْتَرَكٌ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَبِيعُونَ لِلْقَطْعِ سَلَّمْنَاهُ، وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ ذَلِكَ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا يُسْقِطُهُ وَقَدْ عَارَضَهُ دَلَالَةُ الرِّضَا بِذَلِكَ وَهِيَ إقْدَامُهُ عَلَى بَيْعِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِمُطَالَبَةِ الْمُشْتَرِي تَفْرِيغَ مِلْكِهِ وَتَسْلِيمَهُ إيَّاهُ فَارِغًا (قَوْلُهُ هُنَاكَ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَتَقْرِيرِهِ (التَّسْلِيمُ وَاجِبٌ) فِي صُورَةِ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَيْضًا (وَلَا يَتْرُكُهُ إلَّا بِأَجْرٍ وَتَسْلِيمُ الْعِوَضِ تَسْلِيمُ الْمُعَوَّضِ) لَا يُقَالُ: فَلْيَكُنْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ لِمَا سَيَأْتِي،

ص: 284

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الثَّمَرُ بِحَالٍ لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحِيحِ وَيَكُونُ فِي الْحَالَيْنِ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ يَجُوزُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ. .

وَأَمَّا إذَا بِيعَتْ الْأَرْضُ وَقَدْ بَذَرَ فِيهَا صَاحِبُهَا وَلَمْ يَنْبُتْ بَعْدُ لَمْ يَدْخُلُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا كَالْمَتَاعِ،.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ بِحَالٍ لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ) فِي كَوْنِهِ لِلْبَائِعِ (فِي الصَّحِيحِ) وَقِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي. وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ بَيْعَهُ مُنْفَرِدًا يَصِحُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَمَا صَحَّ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا لَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا لِلْقَرَارِ

(قَوْلُهُ وَأَمَّا إذَا بِيعَتْ الْأَرْضُ) يَعْنِي مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ وَلَا فَرْقَ: يَعْنِي: الثَّمَرُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ (وَأَمَّا الْأَرْضُ إذَا بِيعَتْ وَقَدْ بَذَرَ فِيهَا صَاحِبُهَا وَلَمْ يَنْبُتْ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا كَالْمَتَاعِ) وَذُكِرَ فِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْفَنْ الْبَذْرُ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا إذَا عَفِنَ فِيهَا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي وَهَذَا لِأَنَّ بَيْعَ الْعَفَنِ بِانْفِرَادِهِ لَا يَصِحُّ فَكَانَ تَابِعًا

ص: 285

وَلَوْ نَبَتَ وَلَمْ تَصِرْ لَهُ قِيمَةٌ فَقَدْ قِيلَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ، وَقَدْ قِيلَ يَدْخُلُ فِيهِ، وَكَأَنَّ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ قَبْلَ أَنْ تَنَالَهُ الْمَشَافِرُ وَالْمَنَاجِلُ، وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْهُمَا. وَلَوْ قَالَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ لَهُ وَمِنْهَا مِنْ حُقُوقِهَا أَوْ قَالَ مِنْ مَرَافِقِهَا لَمْ يَدْخُلَا فِيهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ مِنْ حُقُوقِهَا أَوْ مِنْ مَرَافِقِهَا دَخَلَا فِيهِ. وَأَمَّا الثَّمَرُ الْمَجْذُوذُ وَالزَّرْعُ الْمَحْصُودُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِهِ. .

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ ثَمَرَةً

وَلَوْ نَبَتَ وَلَمْ يَصِرْ لَهُ قِيمَةٌ) قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ لَا يَدْخُلُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ يَدْخُلُ. قَالَ الشَّيْخُ (وَكَأَنَّ) وَصَحَّحَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ تَشْدِيدَ النُّونِ (هَذَا بِنَاءٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ) يَعْنِي فَمَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ قَبْلَ أَنْ تَنَالَهُ الْمَشَافِرُ وَالْمَنَاجِلُ لَمْ يَجْعَلْهُ تَابِعًا لِغَيْرِهِ، وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ جَعَلَهُ تَابِعًا مُشَفَّرًا كَبَعِيرٍ شَفَّتْهُ وَالْجَمْعُ مَشَافِرُ. وَالْمِنْجَلُ مَا يُحْصَدُ بِهِ الزَّرْعُ وَالْجَمْعُ مَنَاجِلُ. قَالَ (وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ وَالشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ بِعْت الْأَرْضَ أَوْ الشَّجَرَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي بِعْت بِحُقُوقِهَا وَمَرَافِقِهَا. وَالثَّالِثُ بِعْت بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ لَهُ فِيهَا وَمِنْهَا مِنْ حُقُوقِهَا أَوْ مِنْ مَرَافِقِهَا. وَالرَّابِعُ بِعْت بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ لَهُ فِيهَا وَلَمْ يَقُلْ مِنْ حُقُوقِهَا أَوْ مِنْ مَرَافِقِهَا، وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ لَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْعَادَةِ يُذْكَرُ لِمَا هُوَ تَبَعٌ لَا بُدَّ لِلْمَبِيعِ مِنْهُ كَالطَّرِيقِ وَالشِّرْبِ. وَالْمَرَافِقُ مَا يَرْتَفِقُ بِهِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالتَّوَابِعِ كَمَسِيلِ الْمَاءِ وَالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ لَيْسَا كَذَلِكَ فَلَا يَدْخُلَانِ. وَفِي الرَّابِعِ يَدْخُلَانِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ أَوْ عَلَى الشَّجَرِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الثَّمَرُ مَجْذُوذًا وَالزَّرْعُ مَحْصُودًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ لَا يَدْخُلَانِ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِهِ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ ثَمَرَةً

ص: 286

لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا أَوْ قَدْ بَدَا جَازَ الْبَيْعُ)؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، إمَّا لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الثَّانِي، وَقَدْ قِيلَ لَا يَجُوزُ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (وَعَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا فِي الْحَالِ) تَفْرِيغًا لَمِلْكِ الْبَائِعِ، وَهَذَا.

لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا) بَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الظُّهُورِ أَوْ بَعْدَهُ، وَالْأَوَّلُ لَا يَجُوزُ، وَالثَّانِي جَائِزٌ بَدَا صَلَاحُهَا بِصَلَاحِهَا لِانْتِفَاعِ بَنِي آدَمَ أَوْ عَلَفِ الدَّوَابِّ، أَوْ لَمْ يَبْدُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي فَصَارَ كَمَبِيعِ الْجَحْشِ وَالْمُهْرِ، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ لَا يَجُوزُ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ» ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يَخْتَصُّ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَالثَّمَرُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ لَيْسَ كَذَلِكَ. قَالَ الشَّيْخُ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ: يَعْنِي رِوَايَةً وَدِرَايَةً، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي بَابِ الْعُشْرِ، وَلَوْ بَاعَ الثِّمَارَ فِي أَوَّلِ مَا تَطْلُعُ وَتَرَكَهَا بِإِذْنِ الْبَائِعِ حَتَّى أَدْرَكَ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ جَائِزًا فِي أَوَّلِ مَا تَطْلُعُ لَمَا وَجَبَ الْعُشْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، وَنَفْيُ جَوَازِهِ مُفْضٍ إلَى نَفْيِ جَوَازِ بَيْعِ الْمُهْرِ وَالْجَحْشِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ أَنَّ تَأْوِيلَهُ إذَا بَاعَهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِهَا سَلَمًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَرَأَيْت لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ هَذَا إذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ التَّرْكِ إلَى أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا أَوْ بِطَرِيقِ السَّلَمِ، وَإِذَا جَازَ الْبَيْعُ وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا فِي الْحَالِ تَفْرِيغًا لِمِلْكِ الْبَائِعِ. قَوْلُهُ (وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَازِ:

ص: 287

إذَا اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ (وَإِنْ شَرَطَ تَرْكَهَا عَلَى النَّخِيلِ فَسَدَ الْبَيْعُ)؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهُوَ شَغْلُ مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ هُوَ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ وَهُوَ إعَارَةٌ أَوْ إجَارَةٌ فِي بَيْعٍ، وَكَذَا بَيْعُ الزَّرْعِ بِشَرْطِ التَّرْكِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا إذَا تَنَاهَى عِظَمُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا قُلْنَا، وَاسْتَحْسَنَهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله لِلْعَادَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ الْجُزْءُ الْمَعْدُومُ وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُ لِمَعْنًى فِي الْأَرْضِ أَوْ الشَّجَرِ.

وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا وَتَرَكَهَا بِإِذْنِ الْبَائِعِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ، وَإِنْ تَرَكَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ تَصَدَّقَ بِمَا زَادَ فِي ذَاتِهِ لِحُصُولِهِ بِجِهَةٍ مَحْظُورَةٍ، وَإِنْ تَرَكَهَا بَعْدَمَا تَنَاهَى عِظَمُهَا لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ.

أَيْ الْجَوَازِ إذَا (اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ) أَمَّا إذَا قَالَ اشْتَرَيْته عَلَى أَنِّي أَتْرُكُهُ عَلَى النَّخْلِ فَقَدْ فَسَدَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهُوَ وَشَرْطُ الْقَطْعِ سَوَاءٌ فَكَانَ تَرْكُهَا عَلَى النَّخِيلِ شُغْلَ مِلْكِ الْغَيْرِ، أَوْ أَنَّ فِي هَذَا الْبَيْعِ صَفْقَةً فِي صَفْقَةٍ لِأَنَّهُ إعَارَةٌ فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٌ فِيهِ، لِأَنَّ تَرْكَهَا عَلَى النَّخْلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَجْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي إعَارَةٌ وَالْأَوَّلُ إجَارَةٌ وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ صَفْقَةً أَنْ لَوْ جَازَتْ إعَارَةُ الْأَشْجَارِ أَوْ إجَارَتُهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، نَعَمْ هُوَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا بَاعَ الزَّرْعَ بِشَرْطِ التَّرْكِ،

ص: 288

لِأَنَّ هَذَا تَغَيُّرُ حَالَةٍ لَا تَحَقُّقُ زِيَادَةٍ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا وَتَرَكَهَا عَلَى النَّخِيلِ وَقَدْ اسْتَأْجَرَ النَّخِيلَ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ وَالْحَاجَةِ فَبَقِيَ الْإِذْنُ مُعْتَبَرًا، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الزَّرْعَ وَاسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ إلَى أَنْ يُدْرِكَ وَتَرَكَهُ حَيْثُ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ لِلْجَهَالَةِ فَأَوْرَثَتْ خُبْثًا؛. .

فَإِنَّ إعَارَتَهَا وَإِجَارَتَهَا جَائِزَةٌ فَيَلْزَمُ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ، هَذَا إذَا كَانَتْ الثَّمَرَةُ لَمْ تَتَنَاهَ فِي عِظَمِهَا وَأَمَّا إذَا تَنَاهَى عِظَمُهَا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ شَرْطَ التَّرْكِ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ رحمه الله فَقَدْ اسْتَحْسَنَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَقَالَ: لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ لِتَعَارُفِ النَّاسِ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا لِأَنَّهُ شُرِطَ فِيهِ الْجُزْءُ الْمَعْدُومُ وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُ لِمَعْنًى فِي الْأَرْضِ أَوْ الشَّجَرِ. وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّعَامُلَ جَرَى فِي اشْتِرَاطِ التَّرْكِ وَلَكِنَّ الْمُعْتَادَ فِي مِثْلِهِ الْإِذْنُ فِي تَرْكِهِ بِلَا شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ الَّتِي لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا وَلَمْ يَشْتَرِطْ التَّرْكَ وَتَرَكَهَا، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ تَصَدَّقَ بِمَا زَادَ فِي ذَاتِهِ بِأَنْ يُقَوَّمَ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ وَيُقَوَّمَ بَعْدَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ مَا زَادَ حَصَلَ بِجِهَةٍ مَحْظُورَةٍ وَهِيَ حُصُولُهَا بِقُوَّةِ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ. وَإِذَا تَرَكَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ بَعْدَمَا تَنَاهَى لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ لِأَنَّ هَذَا تَغَيُّرُ حَالَةٍ مِنْ النِّيءِ إلَى النُّضْجِ لَا تَحَقُّقُ زِيَادَةٍ فِي الْجِسْمِ، فَإِنَّ الثَّمَرَةَ إذَا صَارَتْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لَا يَزْدَادُ فِيهَا مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِغَيْرِ إذْنِهِ شَيْءٌ، بَلْ الشَّمْسُ تُنْضِجُهَا وَالْقَمَرُ يُلَوِّنُهَا وَالْكَوَاكِبُ تُعْطِيهَا الطَّعْمَ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا عَنْ التَّرْكِ وَالْقَطْعِ وَتَرَكَهَا عَلَى النَّخِيلِ بِاسْتِئْجَارِ النَّخِيلِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ لِبُطْلَانِ إجَارَةِ النَّخِيلِ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ، فَإِنَّ التَّعَارُفَ لَمْ يَجْرِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِاسْتِئْجَارِ الْأَشْجَارِ، وَلِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّرْكِ بِالْإِجَارَةِ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَلِّصٌ سِوَاهَا، وَهَاهُنَا يُمْكِنُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَ الثِّمَارَ مَعَ أُصُولِهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَإِذَا بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ بَقِيَ الْإِذْنُ مُعْتَبَرًا فَيَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ بَقَاءَ الْإِذْنِ فَإِنْ ثَبَتَ فِي ضِمْنِ الْإِجَارَةِ، وَفِي بُطْلَانِ الْمُتَضَمَّنِ بُطْلَانُ الْمُتَضَمِّنِ كَالْوَكَالَةِ الثَّانِيَةِ فِي ضِمْنِ الرَّهْنِ تَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْبَاطِلَ مَعْدُومٌ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا تَحَقُّقَ لَهُ أَصْلًا وَلَا وَصْفًا شَرْعًا عَلَى مَا عُرِفَ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَتَضَمَّنُ شَيْئًا حَتَّى يَبْطُلَ بِبُطْلَانِهِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْكَلَامُ ابْتِدَاءً عِبَارَةً عَنْ الْإِذْنِ فَكَانَ مُعْتَبَرًا، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الزَّرْعَ وَاسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الزَّرْعُ وَتَرَكَهُ حَيْثُ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ وَقْتِ الزَّرْعِ، فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ قَدْ يَتَقَدَّمُ لِشِدَّةِ الْحَرِّ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ لِلْبَرْدِ، وَالْفَاسِدُ مَا لَهُ تَحَقُّقٌ مِنْ حَيْثُ

ص: 289

وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا فَأَثْمَرَتْ ثَمَرًا آخَرَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسَدَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمٌ فَالْقِوَامُ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ.

الْأَصْلُ فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمِّنًا لِشَيْءٍ وَيَفْسُدُ ذَلِكَ الشَّيْءُ لِفَسَادِ الْمُتَضَمَّنِ، وَإِذَا انْتَفَى الْإِذْنُ كَانَ الْفَضْلُ خَبِيثًا وَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ. وَلَوْ اشْتَرَى الثِّمَارَ مُطْلَقًا عَنْ الْقَطْعِ وَالتَّرْكِ عَلَى النَّخِيلِ وَتَرَكَهَا وَأَثْمَرَتْ مُدَّةَ التَّرْكِ ثَمَرَةً أُخْرَى فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ: يَعْنِي قَبْلَ تَخْلِيَةِ الْبَائِعِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالثِّمَارِ فَسَدَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ، وَإِنْ

ص: 290

وَلَوْ أَثْمَرَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ لِلِاخْتِلَاطِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَكَذَا فِي الْبَاذِنْجَانِ وَالْبِطِّيخِ، وَالْمَخْلَصُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْأُصُولَ لِتَحْصُلَ الزِّيَادَةُ عَلَى مِلْكِهِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَةً وَيَسْتَثْنِيَ مِنْهَا، أَرْطَالًا مَعْلُومَةً) خِلَافًا لِمَالِكٍ رحمه الله؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مَجْهُولٌ،.

كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ وُجِدَ وَحَدَثَ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ وَاخْتَلَطَ بِمِلْكِ الْمُشْتَرِي فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ لِلِاخْتِلَاطِ، وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الزَّائِدِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَكَانَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ يُفْتِي بِجَوَازِهِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَحُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ رحمه الله أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِجَوَازِهِ وَيَقُولُ اجْعَلْ الْمَوْجُودَ أَصْلًا وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَعًا، وَلِهَذَا شُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ أَكْثَرَ

(قَوْلُهُ وَكَذَا فِي الْبَاذِنْجَانِ وَالْبِطِّيخِ) يَعْنِي أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ إذَا حَدَثَ شَيْءٌ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِذَا حَدَثَ بَعْدَهُ يَشْتَرِكَانِ (وَالْمُخَلِّصُ) أَيْ الْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ فِيمَا إذَا حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْأُصُولَ لِتَحْصُلَ الزِّيَادَةُ عَلَى مِلْكِهِ، وَلِهَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: إنَّمَا يَجُوزُ بِجَعْلِ الْمَوْجُودِ أَصْلًا وَالْحَادِثِ تَبَعًا إذَا كَانَ ثَمَّةَ ضَرُورَةٌ، وَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا لِانْدِفَاعِهَا بِبَيْعِ الْأُصُولِ

(قَالَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَةً) إذَا بَاعَ ثَمَرَةً (وَاسْتَثْنَى مِنْهَا أَرْطَالًا مَعْلُومَةً لَمْ يَجُزْ خِلَافًا لِمَالِكٍ) وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ مُرَادَهُ الثَّمَرَةُ عَلَى رُءُوسِ النَّخِيلِ أَوْ ثَمَرَةٌ مَجْذُوذَةٌ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ فَوَائِدِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مُرَادَهُ مَا كَانَ عَلَى النَّخِيلِ.

وَأَمَّا بَيْعُ الْمَجْذُوذِ فَجَائِزٌ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا بَاعَ الثَّمَرَ عَلَى رُءُوسِ النَّخِيلِ إلَّا صَاعًا مِنْهَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومٌ، كَمَا إذَا كَانَ الثَّمَرُ مَجْذُوذًا مَوْضُوعًا عَلَى الْأَرْضِ فَبَاعَ الْكُلَّ إلَّا صَاعًا يَجُوزُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مَجْهُولٌ) وَالْمَجْهُولُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءٌ

ص: 291

بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ وَاسْتَثْنَى نَخْلًا مُعَيَّنًا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ. قَالَ رضي الله عنه: قَالُوا هَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ؛ أَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ، وَبَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ جَائِزٌ فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ، بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ الْحِمْلِ وَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ.

بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَثْنَى نَخْلًا مُعَيَّنًا لِأَنَّ الْبَاقِيَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ) كَمْ هِيَ نَخْلَةٌ، قَالَ الْمُصَنِّفُ (قَالُوا هَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْمَانِعَةَ مِنْ الْجَوَازِ مَا كَانَتْ مُفْضِيَةً إلَى النِّزَاعِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِتَرَاضِيهِمَا بِذَلِكَ فَلَا تَكُونُ مَانِعَةً. وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَرُبَّمَا كَانَ الْبَائِعُ يَطْلُبُ صَاعًا مِنْ الثَّمَرِ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ وَالْمُشْتَرِي يَدْفَعُ إلَيْهِ مَا هُوَ أَرَادَ الثَّمَرَ فَيُفْضِي إلَى النِّزَاعِ. سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ بِجَوَازِ تَرَاضِيهِمَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ قَدْ لَا يَكُونُ الثَّمَرُ إلَّا قَدْرَ الْمُسْتَثْنَى فَيَخْلُو الْعَقْدُ عَنْ الْفَائِدَةِ فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَا يَصِحُّ مِثْلُهُ فِي الْمُضَارَبَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَعَنْ هَذَا قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ يُشِيرُ إلَى هَذَا قَوْلُهُ أَرْطَالًا مَعْلُومَةً. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى صَاعًا وَاحِدًا أَوْ رِطْلًا وَاحِدًا فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَبِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنَّهُ بَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ لَا، وَكُلٌّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مَعْلُومٌ لِكَوْنِ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا، سَلَّمْنَا أَنَّ الْبَاقِيَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَزْنًا لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ إلَّا إذَا بَاعَ مُوَازَنَةً وَلَيْسَ الْفَرْضُ ذَلِكَ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي مُجَازَفَةً وَهُوَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدَةً. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ، وَأَمَّا فِي الْحَالِ فَلَا يُعْرَفُ هَلْ يَبْقَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ شَيْءٌ أَوْ لَا فَصَارَ مَجْهُولًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُفْضِيَةً إلَى النِّزَاعِ فَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (أَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ) يُرِيدُ بِهِ عَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ صَرِيحًا وَلِهَذَا قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ وَبَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ جَائِزٌ فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ، وَيَنْعَكِسُ إلَى أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَفِي بَيْعِ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ فِيهِ وَحَمْلِهِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ بِانْفِرَادِهِ فَكَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مَقْصُودًا مَعْلُومًا، وَإِفْرَادُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ

ص: 292

(وَيَجُوزُ‌

‌ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا وَالْبَاقِلَاءِ فِي قِشْرِهِ)

وَكَذَا الْأُرْزُ وَالسِّمْسِمُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبَاقِلَاءِ الْأَخْضَرِ، وَكَذَا الْجَوْزُ وَاللَّوْزُ وَالْفُسْتُقُ فِي قِشْرِهِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُ. وَلَهُ فِي بَيْعِ السُّنْبُلَةِ قَوْلَانِ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ. لَهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَسْتُورٌ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ تُرَابَ الصَّاغَةِ إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ.

عَلَيْهِ مَقْصُودًا مَعْلُومًا فَتَشَارَكَا فِي الْقَصْدِ وَالْعِلْمِ، فَمَا جَازَ أَنْ يَقَعَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ جَازَ أَنْ يُسْتَثْنَى وَبِالْعَكْسِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِكَذَا إلَّا قَفِيزًا مِنْهَا بِدِرْهَمٍ صَحَّ فِي جَمِيعِ الصُّبْرَةِ إلَّا فِي قَفِيزٍ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا لَوْ قَالَ بِعْتُك هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ إلَّا شَاةً مِنْهَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ إلَّا هَذِهِ الشَّاةَ بِعَيْنِهَا جَازَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إفْرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ، بِخِلَافِ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ فَإِنَّ اسْتِثْنَاءَ قَدْرٍ مِنْهُ وَإِيرَادَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ جَائِزٌ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ. قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ بِعْتُك هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ إلَّا هَذِهِ الشَّاةَ بِعَيْنِهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ بِعْتُك هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ كُلَّهُ عَلَى أَنَّ لِي هَذِهِ الشَّاةَ الْوَاحِدَةَ مِنْهُ بِعَيْنِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ اسْتَثْنَى الشَّاةَ الْمُعَيَّنَةَ مِنْ الْقَطِيعِ مَعْنًى. وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَثْنَى لِبَيَانِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ فَلَمْ يَكُنْ إفْرَادُهَا إخْرَاجًا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ فَلَا جَهَالَةَ فِيهِ، وَأَمَّا فِي الشَّرْطِ فَلِأَنَّ الشَّاةَ دَخَلَتْ أَوَّلًا فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ خَرَجَتْ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ قَالَ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ إلَّا عُشْرَهُ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ فِي تِسْعَةِ أَعْشَارِهِ، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ لِي عُشْرَهُ لَمْ يَصِحَّ. قِيلَ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: سَلَّمْنَا أَنَّ إيرَادَ الْعَقْدِ عَلَى الْأَرْطَالِ الْمَعْلُومَةِ وَاسْتِثْنَاءَهَا جَائِزٌ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ بَيْعِ الْبَاقِي وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَاقِيَ مَجْهُولٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى إذَا كَانَ مَعْلُومًا لَمْ تَسْرِ مِنْهُ جَهَالَةٌ إلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إلَّا بِحَسَبِ الْوَزْنِ فَيَكُونُ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي مُجَازَفَةً وَهِيَ لَا تَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمَبِيعِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا) بَيْعُ الشَّيْءِ فِي غِلَافِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا بَيْعَ الْحُبُوبِ كَالْحِنْطَةِ وَالْبَاقِلَاءِ (وَالْأُرْزِ وَالسِّمْسِمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبَاقِلَاءِ الْأَخْضَرِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ فِي قِشْرِهِ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ) وَكَذَا بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَسْتُورٌ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ، وَالْعَقْدُ فِي مِثْلِهِ لَا يَصِحُّ كَمَا إذَا بِيعَ تُرَابُ الصَّاغَةِ بِمِثْلِهِ.

ص: 293

وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُزْهِيَ، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ» ؛ وَلِأَنَّهُ حَبٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ فِي سُنْبُلِهِ كَالشَّعِيرِ وَالْجَامِعُ كَوْنُهُ مَالًا مُتَقَوِّمًا، بِخِلَافِ تُرَابِ الصَّاغَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ جَازَ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَوْ بَاعَهُ بِجِنْسِهِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِشُبْهَةِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي قَدْرَ مَا فِي السَّنَابِلِ.

وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ» ، وَحُكْمُ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ خِلَافُ حُكْمِ مَا قَبْلَهَا. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ نَهَى فَإِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ كَمَا عُرِفَ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ حَبٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ) كَأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ مَسْتُورٌ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ. وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ بَلْ هُوَ أَيْ الْمَبِيعُ بِقِشْرِهِ حَبٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ، وَمَنْ أَكَلَ الْفُولِيَّةَ شَهِدَ بِذَلِكَ وَأَنَّ الْحُبُوبَ الْمَذْكُورَةَ تُدَّخَرُ فِي قِشْرِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} وَهُوَ انْتِفَاعٌ لَا مَحَالَةَ. فَجَازَ الْبَيْعُ كَبَيْعِ الشَّعِيرِ بِجَامِعِ كَوْنِهِمَا مَالَيْنِ مُتَقَوِّمَيْنِ يُنْتَفَعُ بِهِمَا. وَبَيْعُ تُرَابِ الصَّاغَةِ إنَّمَا لَا يَجُوزُ إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا حَتَّى إذَا بِيعَ بِخِلَافِ جِنْسِهِ جَازَ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَوْ بِيعَ بِجِنْسِهِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِشُبْهَةِ الرِّبَا لِجَهَالَةِ قَدْرِ مَا فِي السُّنْبُلَةِ. فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَبَيْنَ مَا إذَا بَاعَ حَبَّ قُطْنٍ فِي قُطْنٍ بِعَيْنِهِ أَوْ نَوَى تَمْرٍ فِي تَمْرٍ بِعَيْنِهِ وَهُمَا سِيَّانِ فِي كَوْنِ الْمَبِيعِ مُغَلَّفًا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْغَالِبَ فِي السُّنْبُلَةِ الْحِنْطَةُ، يُقَالُ هَذِهِ حِنْطَةٌ وَهِيَ فِي سُنْبُلِهَا وَلَا يُقَالُ

ص: 294

(وَمَنْ بَاعَ دَارًا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ مَفَاتِيحُ إغْلَاقِهَا)؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِغْلَاقُ؛ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فِيهَا لِلْبَقَاءِ وَالْمِفْتَاحُ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْغَلْقِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَعْضٍ مِنْهُ إذْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِدُونِهِ. .

قَالَ (وَأُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَنَاقِدِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ) أَمَّا الْكَيْلُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ لِلتَّسْلِيمِ وَهُوَ عَلَى الْبَائِعِ وَمَعْنَى هَذَا إذَا بِيعَ مُكَايَلَةً، وَكَذَا أُجْرَةُ الْوَزَّانِ وَالزَّرَّاعِ وَالْعَدَّادِ، وَأَمَّا النَّقْدُ فَالْمَذْكُورُ رِوَايَةُ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ يَكُونُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْوَزْنِ وَالْبَائِعُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ لِيُمَيِّزَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ لِيَعْرِفَ الْمَعِيبَ لِيَرُدَّهُ.

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِ الْجَيِّدِ الْمُقَدَّرِ، وَالْجُودَةُ تُعْرَفُ بِالنَّقْدِ كَمَا يُعْرَفُ الْقَدْرُ بِالْوَزْنِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ. قَالَ (وَأُجْرَةُ وَزَّانِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَبِالْوَزْنِ يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ.

هَذَا حَبٌّ وَهُوَ فِي الْقُطْنِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا قُطْنٌ وَكَذَلِكَ فِي التَّمْرِ إلَيْهِ أَشَارَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دَارًا إلَخْ) الْإِغْلَاقُ جَمْعُ غَلَقٍ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهُوَ مَا يُغْلَقُ وَيُفْتَحُ بِالْمِفْتَاحِ إذَا بَاعَ دَارًا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ إغْلَاقُهَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَا كَانَ مَوْضُوعًا فِيهِ لِلْقَرَارِ كَانَ دَاخِلًا، وَالْإِغْلَاقُ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فِيهَا لِلْبَقَاءِ، وَالْمِفْتَاحُ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْغَلَقِ بِلَا تَسْمِيَةٍ لِأَنَّهُ كَالْجُزْءِ مِنْهُ إذْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِدُونِهِ، وَالدَّاخِلُ فِي الدَّاخِلِ فِي الشَّيْءِ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ. فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِدُونِ شَيْءٍ لَا يَسْتَلْزِمُ دُخُولَهُ فِي بَيْعِهِ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِالدَّارِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِطَرِيقٍ وَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الدَّارِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الدَّاخِلِ فِي الشَّيْءِ دَاخِلٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَوْلُهُ الِانْتِفَاعُ بِالدَّارِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالطَّرِيقِ قُلْنَا: الِانْتِفَاعُ بِهَا لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالطَّرِيقِ مُطْلَقًا أَوْ مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُشْتَرِي أَخْذَ الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ مِلْكِ الدَّارِ وَهُوَ انْتِفَاعٌ بِهَا لَا مَحَالَةَ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلِهَذَا دَخَلَ الطَّرِيقُ فِي الْإِجَارَةِ وَلَكِنْ

ص: 295

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي ادْفَعْ الثَّمَنَ أَوَّلًا)؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي تَعَيَّنَ فِي الْمَبِيعِ فَيُقَدَّمُ دَفْعُ الثَّمَنِ لِيَتَعَيَّنَ حَقُّ الْبَائِعِ بِالْقَبْضِ لِمَا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ.

لَيْسَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ، وَالْقُفْلُ وَمِفْتَاحُهُ لَا يَدْخُلَانِ وَالسُّلَّمُ إنْ اتَّصَلَ بِالْبِنَاءِ مِنْ خَشَبٍ كَانَ أَوْ حَجَرٍ يَدْخُلُ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ لَا يَدْخُلُ.

قَالَ: وَأُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَنَاقِدُ الثَّمَنِ إذَا بَاعَ الْمَكِيلَ مُكَايَلَةً أَوْ الْمَوْزُونَ مُوَازَنَةً أَوْ الْمَعْدُودَ عَدَدًا وَاحْتَاجَ إلَى أُجْرَةِ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ وَالْعَدَّادِ فَهِيَ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَأَمَّا أُجْرَةُ نَاقِدِ الثَّمَنِ فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ هِيَ عَلَى الْبَائِعِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ عَلَى الْمُشْتَرِي.

وَجْهُ الْأُولَى أَنَّ النَّقْدَ يَكُونُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْوَزْنِ وَبِهِ يَحْصُلُ التَّسْلِيمُ وَالْبَائِعُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى النَّقْدِ لِتَمْيِيزِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ يَعْرِفُ الْمَعِيبَ لِيَرُدَّهُ. وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِ الْجَيِّدِ الْمُقَدَّرِ، وَالْجَوْدَةُ تُعْرَفُ بِالنَّقْدِ كَمَا يُعْرَفُ الْقَدْرُ بِالْوَزْنِ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَأُجْرَةُ وَزْنِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَبِالْوَزْنِ يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ.

ص: 296

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِسِلْعَةٍ أَوْ ثَمَنًا بِثَمَنٍ قِيلَ لَهُمَا سَلِّمَا مَعًا) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعَيُّنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا فِي الدَّفْعِ.

قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً) بَيْعُ السِّلْعَةِ مُعَجَّلًا إمَّا أَنْ يَكُونَ بِثَمَنٍ أَوْ بِسِلْعَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي ادْفَعْ الثَّمَنَ أَوَّلًا لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي تَعَيَّنَ فِي الْمَبِيعِ فَيُقَدَّمُ دَفْعُ الثَّمَنِ لِيَتَعَيَّنَ حَقُّ الْبَائِعِ بِالْقَبْضِ لِكَوْنِهِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي تَعَيُّنِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَفِي الْمَالِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ الدَّيْنَ أَنْقَصُ مِنْ الْعَيْنِ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا عَنْ حَضْرَتِهِمَا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ حَتَّى يُحْضَرَ الْمَبِيعُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ قَبْضِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي يُقَالُ لَهُمَا سَلِّمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعْيِينِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا بِالدَّفْعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 297

(بَابُ خِيَارِ الشَّرْطِ)

قَالَ: (خِيَارُ الشَّرْطِ جَائِزٌ فِي الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي

بَابُ خِيَارِ الشَّرْطِ:

قَالَ (خِيَارُ الشَّرْطِ جَائِزُ الْبَيْعِ، تَارَةً يَكُونُ لَازِمًا وَأُخْرَى غَيْرَ لَازِمٍ) وَاللَّازِمُ مَا لَا خِيَارَ فِيهِ بَعْدَ وُجُودِ شَرَائِطِهِ وَغَيْرُ اللَّازِمِ مَا فِيهِ الْخِيَارُ، وَلَمَّا كَانَ اللَّازِمُ أَقْوَى فِي كَوْنِهِ بَيْعًا قَدَّمَهُ عَلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ قَدَّمَ خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى سَائِرِ

ص: 298

وَلَهُمَا الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا)

وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِي الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» .

الْخِيَارَاتِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ، ثُمَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ، ثُمَّ خِيَارَ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَمَلُهُ فِي مَنْعِ الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ لِأَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ، وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ فَأَظْهَرْنَا عَمَلَهُ فِي مَنْعِ الْحُكْمِ تَقْلِيلًا لِعَمَلِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لِأَنَّ دُخُولَهُ فِي السَّبَبِ مُسْتَلْزِمٌ الدُّخُولَ فِي الْحُكْمِ دُونَ الْعَكْسِ، وَهُوَ عَلَى أَنْوَاعٍ: فَاسِدٌ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا إذَا قَالَ اشْتَرَيْت عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ أَوْ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ أَيَّامًا أَوْ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ أَبَدًا. وَجَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا. وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ، فَإِنَّهُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ كَانَ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا أَوْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ.

وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْخِلَافِيَّةِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ لِمَأْمُومَةٍ أَصَابَتْ رَأْسَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» وَالْخِلَابَةُ: الْخِدَاعُ.

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ اللُّزُومُ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُفْسِدٌ إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ بِهَذَا النَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ لِلْبَائِعِ وَالْمَذْكُورُ فِي النَّصِّ هُوَ الْمُشْتَرِي فَكَمَا عَدَّيْتُمْ فِيمَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَلْيَتَعَدَّ فِي مُدَّتِهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ فِي النَّصِّ إشَارَةً إلَى ذَلِكَ وَهُوَ لَفْظُ الْمُفَاعَلَةِ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ فِي مَعْنَى الْمُشْتَرِي فِي مَعْنَى الْمَنَاطِ فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً، وَكَثِيرُ الْمُدَّةِ كَقَلِيلِهَا لِأَنَّ مَعْنَى الْفَرْقِ يَتَمَكَّنُ بِزِيَادَةِ الْمُدَّةِ فَيَزْدَادُ الْغَرَرُ وَهُوَ مُفْسِدٌ وَلَهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ الْخِيَارَ إلَى شَهْرَيْنِ» وَلِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّأَمُّلِ لِيَنْدَفِعَ الْغَبْنُ وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْأَكْثَرِ فَكَانَ كَثِيرُ الْمُدَّةِ كَقَلِيلِهَا فَيُلْحَقُ بِهِ وَصَارَ كَالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ، فَإِنَّهُ

ص: 299

(وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَا (يَجُوزُ إذَا سَمَّى مُدَّةً مَعْلُومَةً لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ أَجَازَ الْخِيَارَ إلَى شَهْرَيْنِ)؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّرَوِّي لِيَنْدَفِعَ الْغَبْنُ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْأَكْثَرِ فَصَارَ كَالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ.

جَائِزٌ قَلَّتْ الْمُدَّةُ أَوْ كَثُرَتْ لِلْحَاجَةِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ حَدِيثَ حِبَّانَ مَشْهُورٌ فَلَا يُعَارِضُهُ حِكَايَةُ حَالِ ابْنِ عُمَرَ، سَلَّمْنَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مُطْلَقُ الْخِيَارِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ، وَأَنَّهُ أَجَازَ الرَّدَّ بِهِمَا بَعْدَ الشَّهْرَيْنِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَثِيرَ الْمُدَّةِ كَالْقَلِيلِ فِي الْحَاجَةِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْخِلَابَةِ كَانَ مُصَابًا

ص: 300

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ اللُّزُومُ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَاهُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ النَّصِّ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ وَانْتَفَتْ الزِّيَادَةُ.

فِي الرَّأْسِ فَكَانَ أَحْوَجَ إلَى الزِّيَادَةِ، فَلَوْ زَادَتْ كَانَ أَوْلَى بِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ لِنَفْيِ الزِّيَادَةِ سَلَّمْنَاهُ، لَكِنْ فِي الْكَثِيرِ مَعْنَى الْغَرَرِ أَزْيَدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالْقِيَاسُ عَلَى التَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْأَجَلَ يُشْتَرَطُ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ.

ص: 301

(إلَّا أَنَّهُ إذَا أَجَازَ فِي الثَّلَاثِ) جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِزُفَرِ، هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا. وَلَهُ أَنَّهُ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ فَيَعُودُ جَائِزًا كَمَا إذَا بَاعَ بِالرَّقْمِ وَأَعْلَمَهُ فِي الْمَجْلِسِ.

وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ بِالْكَسْبِ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ فِي كُلِّ مُدَّةٍ فَقَدْ يُحْتَاجُ إلَى مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ. (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَجَازَ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْهَا، وَمَعْنَاهُ: لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْهَا، لَكِنْ لَوْ ذُكِرَ أَكْثَرُ مِنْهَا وَأَجَازَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الثَّلَاثِ جَازَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِالتَّوْجِيهِ الْمَذْكُورِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ خِلَافًا لِزُفَرَ فَتَأَمَّلْ، وَزُفَرُ يَقُولُ: إنَّ هَذَا عَقْدٌ قَدْ انْعَقَدَ فَاسِدًا وَالْفَاسِدُ لَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا لِأَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى وَفْقِ الثُّبُوتِ، فَكَانَ كَمَنْ بَاعَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفٍ وَرِطْلِ خَمْرٍ ثُمَّ أَسْقَطَ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ وَأَبْطَلَ الْخَمْرَ؛ وَكَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَتَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ ثُمَّ طَلَّقَ الرَّابِعَةَ لَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْخَامِسَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَشَايِخَ رحمهم الله اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ إلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا ثُمَّ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِحَذْفِ خِيَارِ الشَّرْطِ قَبْلَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَذَهَبَ أَهْلُ خُرَاسَانَ وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَإِذَا مَضَى جُزْءٌ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَسَدَ، فَقَوْلُهُ إنَّهُ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ

ص: 302

وَلِأَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَإِذَا أَجَازَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَّصِلْ الْمُفْسِدُ بِالْعَقْدِ، وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ الْعَقْدَ يَفْسُدُ بِمُضِيِّ جُزْءٍ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا ثُمَّ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ بِحَذْفِ الشَّرْطِ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.

(وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا جَازَ

أَيْ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَعْلِيلٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَقْدَ فَاسِدٌ فِي الْحَالِ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ دَوَامُهَا عَلَى الشَّرْطِ، فَإِذَا أَسْقَطَ الْخِيَارَ قَبْلَ دُخُولِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ زَالَ الْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ فَيَعُودُ جَائِزًا، وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ فَاسِدًا لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَإِذَا زَالَ الْمُغَيَّرُ عَادَ جَائِزًا فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ بِالرَّقْمِ وَهُوَ أَنْ يُعَلِّمَ الْبَائِعُ عَلَى الثَّوْبِ بِعَلَامَةٍ كَالْكِتَابَةِ يَعْلَمُ بِهَا الدَّلَّالُ أَوْ غَيْرُهُ ثَمَنَ الثَّوْبِ وَلَا يَعْلَمُ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ، فَإِذَا قَالَ بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ بِرَقْمِهِ وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ الْمِقْدَارَ انْعَقَدَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي قَدْرَ الرَّقْمِ فِي الْمَجْلِسِ وَقَبِلَهُ انْقَلَبَ جَائِزًا بِالِاتِّفَاقِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ) تَعْلِيلٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ، وَإِنَّمَا الْمُفْسِدُ اتِّصَالُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ بِالْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، فَإِذَا جَازَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَّصِلْ الْمُفْسِدُ بِالْعَقْدِ فَكَانَ صَحِيحًا. وَالْجَوَابُ عَمَّا قَاسَ عَلَيْهِ زُفَرُ مِنْ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْفَسَادَ فِيهَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْبَدَلُ فَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ وَفِي مَسْأَلَتِنَا فِي شَرْطِهِ فَأَمْكَنَ.

قَالَ (وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ) إذَا اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ، فَأَمَّا إنْ قَالَ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ فَلَا بَيْعَ، أَوْ قَالَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ أَيَّامًا فَلَا بَيْعَ وَهُمَا فَاسِدَانِ، أَوْ قَالَ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ. وَالْقِيَاسُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا أَنَّهُ بَيْعُ شَرْطٍ فِيهِ إقَالَةٌ فَاسِدَةٌ لِتُعَلِّقهَا بِالشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ النَّقْدِ، وَاشْتِرَاطُ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَا بِشَرْطِ أَنْ تُقِيلَ الْبَيْعَ مُفْسِدٌ لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ الْعَقْدِ، فَاشْتِرَاطُ فَاسِدِهَا أَوْلَى أَنْ يَفْسُدَ، وَاسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ جَوَازَهُ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى شَرْطِ الْخِيَارِ مِنْ حَيْثُ الْحَاجَةُ، إذْ الْحَاجَةُ مَسَّتْ إلَى

ص: 303

وَإِلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ نَقَدَ فِي الثَّلَاثِ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)

وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ إذْ الْحَاجَةُ مَسَّتْ إلَى الِانْفِسَاخِ عِنْدَ عَدَمِ النَّقْدِ تَحَرُّزًا عَنْ الْمُمَاطَلَةِ فِي الْفَسْخِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ.

وَقَدْ مَرَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمُلْحَقِ بِهِ، وَنَفَى الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ وَكَذَا مُحَمَّدٌ فِي تَجْوِيزِ الزِّيَادَةِ. وَأَبُو يُوسُفَ أَخَذَ فِي الْأَصْلِ بِالْأَثَرِ.

الِانْفِسَاخِ عِنْدَ عَدَمِ النَّقْدِ تَحَرُّزًا عَنْ الْمُمَاطَلَةِ فِي الْفَسْخِ، وَإِذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ كَانَ مُلْحَقًا بِهِ. وَرُدَّ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ سَكَتَ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ تَمَّ الْعَقْدُ وَهَاهُنَا لَوْ سَكَتَ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ بَطَلَ الْعَقْدُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّظَرَ فِي الْإِلْحَاقِ إنَّمَا هُوَ إلَى الْمَعْنَى الْمُنَاطِ لِلْحُكْمِ وَهِيَ الْحَاجَةُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا، وَأَمَّا الزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ حَتَّى يَجُوزَ الْبَيْعُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهِ. أُجِيبَ بِأَنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفَسْخِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إلَّا بِحَضْرَةِ الْآخَرِ. وَعَسَى يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ بَاقِيَةً.

وَأَمَّا إذَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ: لَمْ يُجَوِّزْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ. وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدٌ. أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمُلْحَقِ بِهِ وَنَفَى الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي تَجْوِيزِ الزِّيَادَةِ فِي الْمُلْحَقِ بِهِ، وَأَبُو يُوسُفَ احْتَاجَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُلْحَقِ وَالْمُلْحَقِ بِهِ فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَأَبُو يُوسُفَ أَخَذَ فِي الْأَصْلِ بِالْأَثَرِ، وَفِي هَذَا بِالْقِيَاسِ. وَتَفْسِيرُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَصْلِ شَرْطُ الْخِيَارِ، وَبِقَوْلِهِ فِي هَذَا قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَالْمُرَادَ بِالْأَثَرِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّهُ أَجَازَ الْخِيَارَ إلَى شَهْرَيْنِ " وَمَعْنَاهُ: تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي الْمُلْحَقِ بِهِ وَهُوَ شَرْطُ الْخِيَارِ بِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَمِلْنَا بِالْقِيَاسِ فِي الْمُلْحَقِ وَهُوَ التَّعْلِيقُ بِنَقْدِ الثَّمَنِ لِعَدَمِ النَّصِّ فِيهِ.

ص: 304

وَفِي هَذَا بِالْقِيَاسِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ آخَرُ وَإِلَيْهِ مَال زُفَرُ وَهُوَ أَنَّهُ بَيْعٌ شُرِطَ فِيهِ إقَالَةٌ فَاسِدَةٌ لِتَعَلُّقِهَا بِالشَّرْطِ، وَاشْتِرَاطُ الصَّحِيحِ مِنْهَا فِيهِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، فَاشْتِرَاطُ الْفَاسِدِ أَوْلَى وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا بَيَّنَّا.

قَالَ (وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ)؛ لِأَنَّ تَمَامَ هَذَا السَّبَبِ بِالْمُرَاضَاةِ وَلَا يَتِمُّ مَعَ الْخِيَارِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ.

وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَخْذُ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَصْلِ: أَيْ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بَاعَ نَاقَةً لَهُ مِنْ رَجُلٍ بِشَرْطِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا " (وَفِي هَذَا) أَيْ فِي الزَّائِدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ (بِالْقِيَاسِ) وَهُوَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْجَوَازِ كَمَا مَرَّ (قَوْلُهُ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ آخَرُ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ.

قَالَ (وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ قَدْ يَكُونُ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ لَهُمَا جَمِيعًا، فَإِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَالْمَبِيعُ لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَالثَّمَنُ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي فَالْمَبِيعُ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالثَّمَنُ لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ، فَإِذَا كَانَ لَهُمَا لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِالِاتِّفَاقِ، فَإِذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالثَّمَنُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي هَلْ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ؟ فِيهِ خِلَافٌ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَدْخُلُ، وَقَالَا: يَدْخُلُ. أَمَّا دَلِيلُ عَدَمِ خُرُوجِ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَلِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ (لِأَنَّ تَمَامَ هَذَا السَّبَبِ) أَيْ الْعِلَّةِ (بِالْمُرَاضَاةِ) لِكَوْنِ الرِّضَا دَاخِلًا فِي حَقِيقَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ. وَلَا تَتِمُّ الْمُرَاضَاةُ بِالْخِيَارِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِهِ يَصِيرُ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا فَمَنَعَ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ (وَلِهَذَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ) وَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفَ فِيهِ وَإِنْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ، فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي مُدَّةِ

ص: 305

وَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفَ فِيهِ وَإِنْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ (وَلَوْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ)؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْقُوفًا، وَلَا نَفَاذَ بِدُونِ الْمَحَلِّ فَبَقِيَ مَقْبُوضًا فِي يَدِهِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَفِيهِ الْقِيمَةُ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ الْمُطْلَقِ.

قَالَ (وَخِيَارُ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ)؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي جَانِبِ الْآخَرِ لَازِمٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الْبَدَلِ.

الْخِيَارِ ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا، خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى هُوَ يَقُولُ: قَبَضَ مِلْكَ الْبَائِعِ بِإِذْنِهِ فَكَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الْبَيْعُ يَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ وَالْمُنْفَسِخُ بِهِ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ صَارَ إلَى حَالَةٍ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فِيهَا فَلَا تَلْحَقُهَا الْإِجَازَةُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (لِأَنَّهُ كَانَ مَوْقُوفًا) وَلَا نَفَاذَ بِدُونِ الْمَحَلِّ وَقَدْ فَاتَ بِالْهَلَاكِ، وَأَمَّا أَنَّ الْمُنْفَسِخَ بِهِ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ فَلِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الضَّمَانَ الْأَصْلِيَّ الثَّابِتَ بِالْعَقْدِ فِي الْقِيَمِيَّاتِ هُوَ الْقِيمَةُ، وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ مِنْهَا إلَى الثَّمَنِ عِنْدَ تَمَامِ الرِّضَا، وَلَمْ يُوجَدْ حِينَ شَرَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فَبَقِيَ الضَّمَانُ الْأَصْلِيُّ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَ بَعْدَهَا فَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ لَا الْقِيمَةُ لِبُطْلَانِ الْخِيَارِ إذْ ذَاكَ بِتَمَامِ الرِّضَا، وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي

ص: 306

عَنْ مِلْكِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ نَظَرًا لَهُ دُونَ الْآخَرِ. قَالَ: إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي يَكُونُ زَائِلًا لَا إلَى مَالِكٍ وَلَا عَهْدَ لَنَا بِهِ فِي الشَّرْعِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ الثَّمَنُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَدْخُلُ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِهِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ، وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ شُرِعَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي لِيَتَرَوَّى فَيَقِفَ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ رُبَّمَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِأَنْ كَانَ قَرِيبَهُ فَيَفُوتُ النَّظَرُ.

كَمَا لَوْ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا مُطْلَقًا عَنْ الْخِيَارِ. قِيلَ: وَإِنَّمَا ذُكِرَ الصَّحِيحُ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْفَاسِدِ كَذَلِكَ حَمْلًا لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّلَاحِ.

وَأَمَّا دَلِيلُ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ مِنْ جَانِبِهِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الْبَدَلِ عَنْ مِلْكِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ شُرِعَ نَظَرًا لَهُ دُونَ الْآخَرِ، وَأَمَّا أَنَّ الْبَدَلَ إذَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِ مَنْ لَيْسَ لَهُ الْخِيَارُ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ مَنْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ مَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ لَوْ دَخَلَ لَزِمَ اجْتِمَاعُ الْبَدَلَيْنِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ، وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَنُوقِضَ بِالْمُدَبَّرِ، فَإِنَّ غَاصِبَهُ إذَا ضَمِنَ لِصَاحِبِهِ مِلْكَ الْبَدَلِ وَلَمْ يَخْرُجْ الْمُدَبَّرُ عَنْ مِلْكِهِ فَكَانَ الْبَدَلَانِ مُجْتَمِعَيْنِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ (حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ) يَدْفَعُ النَّقْضَ، فَإِنَّ ضَمَانَ الْمُدَبَّرِ ضَمَانُ جِنَايَةٍ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَيَدْخُلُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْآخَرِ يَكُونُ زَائِلًا لَا إلَى مَالِكٍ، يَعْنِي سَائِبَةً وَلَا عَهْدَ لَنَا

ص: 307

قَالَ (فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ بِالثَّمَنِ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ) بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ، وَالْهَلَاكُ لَا يَعْرَى عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ فَيَهْلِكُ، وَالْعَقْدُ قَدْ انْبَرَمَ فَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ بِدُخُولِ الْعَيْبِ لَا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ حُكْمًا بِخِيَارِ الْبَائِعِ فَيَهْلِكُ وَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ

بِهِ فِي الشَّرْعِ. وَنُوقِضَ بِمَا إذَا اشْتَرَى مُتَوَلِّي الْكَعْبَةِ عَبْدًا لِسَدَانَةِ الْكَعْبَةِ يَخْرُجُ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي. وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِي التِّجَارَةِ وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ مِنْهَا بَلْ هُوَ مُلْحَقٌ بِتَوَابِعِ الْأَوْقَافِ، وَحُكْمُ الْأَوْقَافِ قَدْ تَقَدَّمَ، وَرُجِّحَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْخِيَارِ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي لِيَتَرَوَّى فَيَقِفَ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، فَلَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ رُبَّمَا يَكُونُ عَلَيْهِ لَا لَهُ بِأَنْ كَانَ الْمَبِيعُ قَرِيبَهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَعَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ (قَوْلُهُ فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ) أَيْ إنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُ هَلَكَ بِالثَّمَنِ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَمُرَادُهُ عَيْبٌ لَا يَرْتَفِعُ كَأَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ. وَأَمَّا مَا جَازَ ارْتِفَاعُهُ كَالْمَرَضِ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ إذَا زَالَ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ بَعْدَ الِارْتِفَاعِ.

وَأَمَّا إذَا مَضَتْ وَالْعَيْبُ قَائِمٌ لَزِمَ الْعَقْدُ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ، وَتَبَيَّنَ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ وَتَعَيُّبَهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، وَيُوجِبُ الثَّمَنَ إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي فَاحْتَاجَ إلَى التَّصْرِيحِ بِبَيَانِ الْفَرْقِ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا تَعَيَّبَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لَهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ كَمَا قُبِضَ، وَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ وَالْهَلَاكُ لَا يَعْرَى عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ فَيَهْلَكُ وَالْعَقْدُ قَدْ لَزِمَ وَتَمَّ فَيَلْزَمُ الثَّمَنُ الْمُسَمَّى. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْتَرِي بِدُخُولِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ لَا لَهُ فَيَهْلَكُ وَالْمَبِيعُ مَوْقُوفٌ فَيَلْزَمُ الْقِيمَةُ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ) هَذِهِ مَسَائِلُ تَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْخِيَارَ إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي

ص: 308

عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا لِمَا لَهُ مِنْ الْخِيَارِ (وَإِنْ وَطِئَهَا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا)؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ بِحُكْمِ النِّكَاحِ (إلَّا إذَا كَانَتْ بِكْرًا)؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُنْقِصُهَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَا: يَفْسُدُ النِّكَاحُ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا (وَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ يَرُدَّهَا)؛ لِأَنَّ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا؛ وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَخَوَاتٌ كُلُّهَا تَبْتَنِي عَلَى وُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَعَدَمِهِ: مِنْهَا عِتْقُ الْمُشْتَرَى عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ قَرِيبًا لَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَمِنْهَا: عِتْقُهُ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي حَلَفَ إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ.

يَخْرُجُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ، فَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَى امْرَأَتَهُ (عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُفْسَخُ النِّكَاحُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا، وَإِنْ وَطِئَهَا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ الْوَطْءَ لَمْ يَكُنْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَتَّى يَسْقُطَ الْخِيَارُ، إلَّا إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ الْوَطْءَ يَنْقُصُهَا، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ (وَإِنْ وَطِئَهَا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا) مَعْنَاهُ: إذَا لَمْ يَنْقُصْهَا الْوَطْءُ، فَأَمَّا إذَا نَقَصَهَا فَلَا يَرُدَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا. إلَيْهِ أُشِيرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ. وَعِنْدَهُمَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ وَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ يَرُدَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لِأَنَّهُ مَلَكَهَا وَوَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ فِي كَوْنِهَا مُتَرَتِّبَةً عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْهَا عِتْقُ الْمُشْتَرَى عَلَى الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إذَا كَانَ قَرِيبًا لِلْمُشْتَرِي لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا. وَمِنْهَا مَا إذَا قَالَ إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى بِالْخِيَارِ لَا يَعْتِقُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا،

ص: 309

بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُنْشِئِ لِلْعِتْقِ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ، وَمِنْهَا أَنَّ حَيْضَ الْمُشْتَرَاةِ فِي الْمُدَّةِ لَا يُجْتَزَأُ بِهِ عَنْ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُجْتَزَأُ؛ وَلَوْ رُدَّتْ بِحُكْمِ الْخِيَارِ إلَى الْبَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ إذَا رُدَّتْ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَمِنْهَا إذَا وَلَدَتْ الْمُشْتَرَاةُ فِي الْمُدَّةِ بِالنِّكَاحِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا،.

بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ اشْتَرَيْت، لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُنْشِئِ لِلْعِتْقِ بَعْدَ الشِّرَاءِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُرْسَلِ عِنْدَهُ، وَلَوْ أَنْشَأَ الْعِتْقَ بَعْدَ شِرَائِهِ بِالْخِيَارِ عَتَقَ وَسَقَطَ الْخِيَارُ كَذَا هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَالْمُنْشِئِ وَجَبَ أَنْ يَنُوبَ عَنْ الْكَفَّارَةِ إذَا اشْتَرَى الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ نَاوِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ جُعِلَ كَالْمُنْشِئِ تَصْحِيحًا لِقَوْلِهِ فَهُوَ حُرٌّ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْوُقُوعِ عَنْ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ الْحُرِّيَّةَ وَقْتَ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ كَالْمُدَبَّرِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَفِيهِ يَعْمَلُ الْإِنْشَاءُ لِلْعِتْقِ لَا عَنْ الْكَفَّارَةِ كَذَلِكَ هَذَا. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُشْتَرَاةَ إذَا حَاضَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ حَيْضَةً أَوْ بَعْضَهَا فَاخْتَارَهَا لَا يَجْتَزِئُ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ. وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ الِاسْتِبْرَاءُ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ لِتَجَدُّدِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْبَائِعِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَأَجْمَعُوا فِي الْبَيْعِ الْبَاتِّ يُفْسَخُ بِإِقَالَةٍ أَوْ غَيْرِهَا أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ إذَا كَانَ الْفَسْخُ قَبْلَ الْقَبْضِ قِيَاسًا وَبَعْدَهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا. وَمِنْهَا إذَا وُلِدَتْ الْمُشْتَرَاةُ فِي الْمُدَّةِ بِالنِّكَاحِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ عِنْدَهُ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اشْتَرَى مَنْكُوحَتَهُ وَوَلَدَتْ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ، أَوْ يَكُونَ اشْتَرَى الْأَمَةَ الَّتِي كَانَتْ مَنْكُوحَتَهُ وَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَعَلَى هَذَا كَانَ قَوْلُهُ فِي الْمُدَّةِ ظَرْفًا لِقَوْلِهِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا ظَرْفَ الْوِلَادَةِ. وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ: إذَا وَلَدَتْ الْمُشْتَرَاةُ بِالنِّكَاحِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَفِيهِ تَعْقِيدٌ لَفْظِيٌّ كَمَا تَرَى. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَإِنَّمَا احْتَجْنَا إلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ. لِأَنَّا لَوْ أَجْرَيْنَا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَقُلْنَا إنَّهُ إذَا اشْتَرَى مَنْكُوحَتَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَقَبَضَهَا ثُمَّ وَلَدَتْ فِي مُدَّةِ

ص: 310

وَمِنْهَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي الْمُدَّةِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ لِارْتِفَاعِ الْقَبْضِ بِالرَّدِّ لِعَدَمِ الْمِلْكِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي لِصِحَّةِ الْإِيدَاعِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْمِلْكِ.

وَمِنْهَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ فَأَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ فِي الْمُدَّةِ بَقِيَ عَلَى خِيَارِهِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ امْتِنَاعٌ عَنْ التَّمَلُّكِ وَالْمَأْذُونُ لَهُ يَلِيهِ، وَعِنْدَهُمَا بَطَلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَهُ كَانَ الرَّدُّ مِنْهُ تَمْلِيكًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.

الْخِيَارِ يَلْزَمُ الْبَيْعُ بِالِاتِّفَاقِ وَيَبْطُلُ خِيَارُ الشَّرْطِ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ عَيْبٌ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّهَا بَعْدَمَا تَعَيَّنَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ. وَمِنْهَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَوْ بَعْدَهَا هَلَكَ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ الْقَبْضَ قَدْ ارْتَفَعَ بِالرَّدِّ إذْ الْوَدِيعَةُ لَمْ تَصِحَّ لِعَدَمِ مِلْكِ الْمُودَعِ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْقَبْضُ كَانَ هَلَاكُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ، وَعِنْدَهُمَا لَمَّا مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي صَحَّتْ الْوَدِيعَةُ وَصَارَ هَلَاكُهُ فِي يَدِ الْمُودَعِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِهِ. وَمِنْهَا مَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ فَأَبْرَأَهُ الْبَائِعُ عَنْ الثَّمَنِ فِي الْمُدَّةِ بَقِيَ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْهُ كَانَ الرَّدُّ امْتِنَاعًا مِنْهُ عَنْ التَّمَلُّكِ وَلِلْمَأْذُونِ لَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ، وَعِنْدَهُمَا بَطَلَ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَهُ كَانَ الرَّدُّ مِنْهُ تَمْلِيكًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْمَأْذُونُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. فَإِنْ قُلْت: إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَالثَّمَنُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ فَمَا وَجْهُ إبْرَاءِ الْبَائِعِ عَنْ الثَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَنْفِي صِحَّةَ هَذَا الْإِبْرَاءِ، وَجَوَازُهُ اسْتِحْسَانٌ لِحُصُولِهِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَهُوَ الْعَقْدُ. وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا بِالْخِيَارِ ثُمَّ أَسْلَمَ بَطَلَ الْخِيَارُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ بَطَلَ الْخِيَارُ وَالْبَيْعُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ؛ وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَأَسْلَمَ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ؛ وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَأَسْلَمَ الْبَائِعُ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ مِنْ جَانِبِهِ بَاتٌّ، فَإِنْ اخْتَارَهُ الْمُشْتَرِي صَارَ لَهُ،

ص: 311

وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثُمَّ أَسْلَمَ بَطَلَ الْخِيَارُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا فَلَا يَمْلِكُ رَدَّهَا وَهُوَ مُسْلِمٌ. وَعِنْدَهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا فَلَا يَتَمَلَّكُهَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ بَعْدَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ.

قَالَ (وَمَنْ شُرِطَ لَهُ الْخِيَارُ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ فِي الْمُدَّةِ وَلَهُ أَنْ يُجِيزَ، فَإِنْ أَجَازَهُ بِغَيْرِ حَضْرَةِ صَاحِبِهَا جَازَ

وَإِنْ رُدَّ صَارَ الْخَمْرُ لِلْبَائِعِ وَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْخَمْرَ حُكْمًا.

قَالَ (وَمَنْ شُرِطَ لَهُ الْخِيَارُ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ فِي الْمُدَّةِ) هَذَا الْعُمُومُ يَتَنَاوَلُ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ وَالْأَجْنَبِيَّ، لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَصِحُّ مِنْهُمْ جَمِيعًا، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالْإِجَازَةُ تَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِأَنْ يَقُولَ أَجَزْت وَبِمَوْتِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فَيَكُونُ الْعَقْدُ بِهِ نَافِذًا، وَبِأَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ وَإِذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي فَبِذَلِكَ، وَبِأَنْ يَصِيرَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي إلَى حَالٍ لَا يَمْلِكُ فَسْخَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ كَهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَانْتِقَاصِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الْفَسْخُ فَقَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا.

وَالثَّانِي هُوَ مَا يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَأَنْ يَتَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ، كَمَا إذَا أَعْتَقَ الْمَبِيعَ أَوْ بَاعَهُ أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ عَيْنًا فَتَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيهِ تَصَرُّفُ الْمُلَّاكِ فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حُضُورُ الْآخَرِ وَعَدَمُهُ لِأَنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ، وَالشَّيْءُ قَدْ يَثْبُتُ حُكْمًا وَإِنْ

ص: 312

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كَانَ يَبْطُلُ قَصْدًا. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي فَسَخْتُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْآخَرِ أَيْ بِعِلْمِهِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مُسَلَّطٌ

ص: 313

وَإِنْ فَسَخَ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ حَاضِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ)

وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالشَّرْطُ هُوَ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا كَنَّى بِالْحَضْرَةِ عَنْهُ. لَهُ أَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ فَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ كَالْإِجَازَةِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ وَصَارَ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ.

وَلَهُمَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ الْعَقْدُ بِالرَّفْعِ، وَلَا يَعْرَى عَنْ الْمَضَرَّةِ؛ لِأَنَّهُ.

عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ فِعْلُهُ عَلَى عِلْمِ صَاحِبِهِ كَالْإِجَازَةِ، وَهُوَ قِيَاسٌ مِنْهُ لِأَحَدِ شَطْرَيْ الْعَقْدِ عَلَى الْآخَرِ، وَوَضَحَ ذَلِكَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الرِّضَا، وَجُعِلَ ذَلِكَ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ مِنْ جِهَتِهِ

(وَلَهُمَا أَنَّ الْفَسْخَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ الْعَقْدُ بِالرَّفْعِ وَ) هُوَ (لَا يَعْرَى عَنْ الْمَضَرَّةِ) أَمَّا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالْمُشْتَرِي عَسَاهُ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الْبَيْعِ السَّابِقِ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ غَرَامَةُ الْقِيمَةِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ وَقَدْ تَكُونُ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ وَلَا خَفَاءَ فِي كَوْنِهِ ضَرَرًا.

وَأَمَّا إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ عَسَى يَعْتَمِدُ تَمَامَهُ فَلَا يَطْلُبُ لِسِلْعَتِهِ مُشْتَرِيًا، وَقَدْ تَكُونُ الْمُدَّةُ أَيَّامَ رَوَاجِ بَيْعِ الْمَبِيعِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ لَا يَخْفَى، وَالتَّصَرُّفُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى ضَرَرٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ لَا مَحَالَةَ كَمَا فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ. وَالْقِيَاسُ عَلَى شَطْرِ الْآخَرِ فَاسِدٌ

ص: 314

عَسَاهُ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الْبَيْعِ السَّابِقِ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ فَتَلْزَمُهُ غَرَامَةُ الْقِيمَةِ بِالْهَلَاكِ فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، أَوْ لَا يَطْلُبُ لِسِلْعَتِهِ مُشْتَرِيًا فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وَهَذَا نَوْعُ ضَرَرٍ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ وَصَارَ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ، بِخِلَافِ.

لِقِيَامِ الْفَارِقِ وَهُوَ الْإِلْزَامُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُسَلَّطٌ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ عَلَى الْفَسْخِ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ عَلَى الْفَسْخِ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَا مَشْرُوعٍ كَالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ، وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ الرِّضَا لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ لِأَنَّ مَبْنَى الْإِلْزَامِ عَلَى الْعِلْمِ لَا عَلَى الرِّضَا، وَكَوْنُهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْبِيَاعَاتِ لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ فِيهَا، وَعُورِضَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ إلْزَامِ الضَّرَرِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ وَلَكِنْ عِنْدَنَا مَا يَنْفِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْفَرِدْ بِالْفَسْخِ لَرُبَّمَا اخْتَفَى مَنْ لَيْسَ لَهُ الْخِيَارُ إلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَيَلْزَمُ الْبَيْعُ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ بِهِ مِنْهُ حَيْثُ تَرَكَ الِاسْتِيثَاقَ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ مَخَافَةَ الْغَيْبَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَدَارَ دَلِيلِهِمَا إلْزَامُ ضَرَرٍ زَائِدٍ غَيْرِ مَرْضِيٍّ بِهِ، فَإِذَا فَاتَ الْمَجْمُوعُ أَوْ بَعْضُهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَا يَكُونُ نَقْضًا، فَلَا يُرَدُّ مَا قِيلَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ يَلْزَمُ مِنْهَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْفَاعِلِ إلْزَامٌ، وَهُوَ مُسَوِّغٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِلْزَامِ كَإِسْقَاطِ الْحِمْلِ عَنْ الدَّابَّةِ، وَلَا مَا قِيلَ الزَّوْجُ يَنْفَرِدُ بِالرَّجْعَةِ وَحُكْمُهَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلْزَامٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يَرْفَعُ

ص: 315

الْإِجَازَةِ لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ فِيهِ، وَلَا نَقُولُ إنَّهُ مُسَلَّطٌ، وَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ وَصَاحِبُهُ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ وَلَا تَسْلِيطَ فِي غَيْرِ.

النِّكَاحَ حَتَّى تَكُونَ الرَّجْعَةُ إلْزَامَ أَمْرٍ جَدِيدٍ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ ضَرَرٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ عَوَالِي النِّعَمِ فَاسْتِدَامَتُهُ بِالرَّجْعَةِ لَا تَكُونُ ضَرَرًا وَلَا مَا قِيلَ اخْتِيَارُ الْمُخَيَّرَةِ يَنْفُذُ عَلَى زَوْجِهَا

وَفِيهِ إلْزَامُ حُكْمِ الِاخْتِيَارِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لِعَدَمِ الْإِلْزَامِ بَلْ لِذَلِكَ بِالْتِزَامِهِ أَوْ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ، فَإِنَّ الْإِيجَابَ فِيهِ حَصَلَ مِنْهُ، وَلَوْ رَأَى ضَرَرًا مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ غَيْرُ زَائِدٍ عَلَى مُوجِبِ التَّخْيِيرِ وَلَا مَا قِيلَ اخْتِيَارُ الْأَمَةِ الْمُعْتَقَةِ الْفُرْقَةَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ بِدُونِ عِلْمِهِ وَفِيهِ إلْزَامٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ زَائِدٍ عَلَى مُوجَبِ نِكَاحِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ أَوْ هُوَ مَرْضِيٌّ بِهِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى سَبَبِهِ، وَلَا مَا قِيلَ اخْتِيَارُ الْمَالِكِ رَفْعَ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ يَلْزَمُ الْعَاقِدَيْنِ بِلَا عِلْمٍ، وَفِيهِ إلْزَامٌ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ امْتِنَاعٌ عَنْ الْعَقْدِ لَا إلْزَامٌ مِنْهُ، وَلَا مَا قِيلَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ لِكَوْنِهِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ نَصًّا دُونَ الطَّلَاقِ، بِخِلَافِ الضَّرَرِ الْمَذْكُورِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مُوجَبِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَهُوَ الرَّدُّ أَوْ الْإِجَازَةُ، وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ بِهِ مِنْ جَانِبِ الْآخَرِ فَلَا يَلْزَمُهُ

ص: 316

مَا يَمْلِكُهُ الْمُسَلَّطُ، وَلَوْ كَانَ فَسَخَ فِي حَالِ غَيْبَةِ صَاحِبِهِ وَبَلَغَهُ فِي الْمُدَّةِ تَمَّ الْفَسْخُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ، وَلَوْ بَلَغَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ تَمَّ الْعَقْدُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْفَسْخِ.

إلَّا بِعِلْمِهِ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ فُسِخَ فِي حَالِ غَيْبَةِ صَاحِبِهِ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْعِلْمُ دُونَ الْحُضُورِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ

ص: 317

قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بَطَلَ خِيَارُهُ وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى وَرَثَتِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُورَثُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَازِمٌ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ فَيَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ. وَلَنَا أَنَّ الْخِيَارَ لَيْسَ إلَّا مَشِيئَةً وَإِرَادَةً وَلَا يُتَصَوَّرُ انْتِقَالُهُ، وَالْإِرْثُ فِيمَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ.

بِقَوْلِهِ " كَنَّى " الْكِنَايَةَ الِاصْطِلَاحِيَّةَ لِأَرْبَابِ الْبَلَاغَةِ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا اسْتَتَرَ بِهِ الْمُرَادُ

قَالَ (وَإِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بَطَلَ خِيَارُهُ) إذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعَ أَوْ الْمُشْتَرِيَ أَوْ غَيْرَهُمَا سَقَطَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَإِنَّهُ بَاقٍ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ انْتَقَلَ الْخِيَارُ إلَى وَارِثِهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لَازِمٌ فِي الْبَيْعِ فَيَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَكَخِيَارِ تَعْيِينِ الْمَبِيعِ بِأَنْ اشْتَرَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ أَيَّهمَا شَاءَ. وَلَنَا أَنَّ الْخِيَارَ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مَشِيئَةً وَإِرَادَةً وَهُمَا عَرْضَانِ، وَالْعَرْضُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ، وَالْإِرْثُ فِيمَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ لِأَنَّهُ خِلَافَةٌ عَنْ الْمُوَرَّثِ بِنَقْلِ الْأَعْيَانِ إلَى الْوَارِثِ، وَهَذَا مَعْقُولٌ لَا مُعَارِضَ لَهُ مِنْ الْمَنْقُولِ فَيَكُونُ مَعْمُولًا بِهِ لَا يُقَالُ: قَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ» وَالْخِيَارُ حَقٌّ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَقٌّ قَابِلٌ لِلِانْتِقَالِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ «فَلِوَرَثَتِهِ» عَلَى مَا مَرَّ، وَالْخِيَارُ لَيْسَ كَذَلِكَ. قِيلَ: الْمَالِكِيَّةُ صِفَةٌ تَنْتَقِلُ مِنْ الْمَوْرُوثِ إلَيْهِ فِي الْأَعْيَانِ فَهَلَّا يَكُونُ الْخِيَارُ كَذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُنْتَقِلَ هُوَ الْعَيْنُ وَنَقْلُ الْمَالِكِيَّةِ ضِمْنِيٌّ. قِيلَ: فَلْيَكُنْ خِيَارُ الشَّرْطِ كَذَلِكَ بِأَنْ يَنْتَقِلَ الْمَبِيعُ مِنْ الْمُوَرِّثِ إلَى الْوَارِثِ ثُمَّ الْخِيَارُ يَتْبَعُهُ ضِمْنًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخِيَارَ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْمَبِيعِ بَلْ الْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَكَمْ مِنْ مَبِيعٍ لَا خِيَارَ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمَمْلُوكِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَالِكِيَّةَ مَالِكٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَبِيعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا فِي مُطْلَقِهِ، وَالْخِيَارُ يَلْزَمُهُ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ مِنْ نَقْلِ الْأَعْيَانِ مِلْكِيَّتُهَا، وَلَيْسَ الْخِيَارُ فِي الْمَبِيعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ كَذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ انْتِقَالِ مَا هُوَ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ انْتِقَالُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: الْقِصَاصُ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمُوَرَّثِ إلَى الْوَارِثِ بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ

ص: 318

بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعِ سَلِيمًا فَكَذَا الْوَارِثُ، فَأَمَّا نَفْسُ الْخِيَارِ لَا يُوَرَّثُ، وَأَمَّا خِيَارُ التَّعْيِينِ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً لِاخْتِلَاطِ مِلْكِهِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لَا أَنْ يُوَرَّثَ الْخِيَارُ.

تَبَعِيَّةِ الْعَيْنِ فَلْيَكُنْ الْخِيَارُ كَذَلِكَ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ شُرِعَ لِلتَّشَفِّي، وَهُمَا فِي ذَلِكَ سِيَّانِ، إلَّا أَنَّ الْمُوَرَّثَ مُتَقَدِّمٌ فَإِذَا مَاتَ زَالَ التَّقَدُّمُ وَثَبَتَ لِلْوَارِثِ بِمَا ثَبَتَ لِلْمُوَرَّثِ: أَعْنِي التَّشَفِّيَ، وَالْخِيَارُ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَالشَّرْطِ، وَالْوَارِثُ لَيْسَ بِعَاقِدٍ وَلَا شَارِطٍ. لَا يُقَالُ: الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ غَيْرُ لَازِمٍ فَيُورَثُ كَذَلِكَ لَا بِطَرِيقِ النَّقْلِ فَلَا يَنْفِيه مَا ذَكَرْتُمْ لِأَنَّ كَلَامَنَا مَعَ مَنْ يَقُولُ بِالنَّقْلِ، وَمَا ذَكَرْنَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ وَلَوْ الْتَزَمَ مُلْتَزِمٌ مَا ذَكَرْتُمْ قُلْنَا: الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ الْعَاقِدِ أَوْ فِي حَقِّ الْوَارِثِ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَالثَّانِي عَيْنُ النِّزَاعِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ) جَوَابٌ عَمَّا قَاسَ عَلَيْهِ. وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بِطَرِيقِ النَّقْلِ بَلْ الْمُوَرِّثُ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ سَلِيمًا، فَكَذَا الْوَارِثُ فَكَانَ ذَلِكَ نَقْلًا فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الْخِيَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ خِيَارِ الْعَيْبِ اسْتِحْقَاقُ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ مِنْ الْمَالِ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ، فَإِذَا طَالَبَ الْبَائِعُ بِالتَّسْلِيمِ وَعَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ فُسِخَ الْعَقْدُ لِأَجْلِهِ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْوَارِثِ لِأَنَّهُ يَخْلُفُ الْمُشْتَرِيَ فِي مِلْكِ ذَلِكَ الْجُزْءِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ

ص: 319

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَأَيُّهُمَا أَجَازَ الْخِيَارَ وَأَيُّهُمَا نَقَضَ انْتَقَضَ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِغَيْرِهِ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مِنْ مَوَاجِبِ الْعَقْدِ وَأَحْكَامِهِ، فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِهِ كَاشْتِرَاطِ الثَّمَنِ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي.

فَإِنَّ السَّبَبَ وَهُوَ الشَّرْطُ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ، وَكَذَا خِيَارُ التَّعْيِينِ لَا يَنْتَقِلُ بَلْ الْخِيَارُ سَقَطَ بِالْمَوْتِ، لَكِنَّ الْوَارِثَ وَرِثَ الْمَبِيعَ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَثَبَتَ لَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ، وَكَمَنْ اخْتَلَطَ مَالُهُ بِمَالِ رَجُلٍ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ، وَهَذَا الْخِيَارُ غَيْرُ ذَلِكَ الْخِيَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوَرِّثَ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ قَوْلَهُ وَكَانَ خِيَارُهُ مُؤَقَّتًا، وَالْوَارِثُ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ وَلَيْسَ خِيَارُهُ بِمُؤَقَّتٍ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ) تَقْرِيرُ كَلَامِهِ: وَمَنْ اشْتَرَى وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ جَازَ حَذْفُهُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ فَأَيَّهُمَا أَجَازَ جَازَ: يَعْنِي مِنْ الْمُشْتَرِي وَذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِلْغَيْرِ لَا يَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا شُرِطَ فِي الْعَقْدِ صَارَ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ بِمُقْتَضَى الشَّرْطِ الْمُسَوِّغِ شَرْعًا، وَمَا كَانَ مِنْ مَوَاجِبِ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِدِ كَاشْتِرَاطِ الثَّمَنِ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي أَوْ اشْتِرَاطِ تَسْلِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ اشْتِرَاطِ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ الثَّلَاثَةَ اسْتَحْسَنُوا جَوَازَهُ لِأَنَّ

الْحَاجَةَ

قَدْ تَدْعُو إلَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ لِكَوْنِهِ أَعْرَفَ بِالْمَبِيعِ أَوْ بِالْعَقْدِ فَصَارَ كَالِاحْتِيَاجِ إلَى نَفْسِ الْخِيَارِ. وَطَرِيقُ ذَلِكَ أَنْ يَثْبُتَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْعَاقِدِ اقْتِضَاءً، إذْ لَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِهِ لِلْغَيْرِ أَصَالَةً فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ شَرَطَهُ لِنَفْسِهِ وَجُعِلَ الْأَجْنَبِيُّ نَائِبًا عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ تَصْحِيحًا لَهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ شَرْطَ الِاقْتِضَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي أَدْنَى مَنْزِلَةً مِنْ الْمُقْتَضَى، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدٍ لَهُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك بِالْمَالِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ تَحْرِيرًا اقْتِضَاءً لِأَنَّ

ص: 320

وَلَنَا أَنَّ الْخِيَارَ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْعَاقِدِ فَيُقَدَّرُ الْخِيَارُ لَهُ اقْتِضَاءً ثُمَّ يُجْعَلُ هُوَ نَائِبًا عَنْهُ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ، فَأَيُّهُمَا أَجَازَ جَازَ، وَأَيُّهُمَا نَقَضَ انْتَقَضَ (وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَفَسَخَ الْآخَرُ يُعْتَبَرُ السَّابِقُ) لِوُجُودِهِ فِي زَمَانٍ لَا يُزَاحِمُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَلَوْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ مِنْهُمَا مَعًا يُعْتَبَرُ تَصَرُّفُ الْعَاقِدِ فِي رِوَايَةٍ وَتَصَرُّفُ الْفَاسِخِ فِي أُخْرَى. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِدِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ النَّائِبَ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْهُ.

التَّحْرِيرَ أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِ التَّكْفِيرِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فَلَا يَثْبُتُ تَبَعًا لِفَرْعِهِ، وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْعَاقِدَ أَعْلَى مَرْتَبَةً فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهُ اقْتِضَاءً. وَالثَّانِي أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِلْغَيْرِ لَوْ جَازَ اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لَجَازَ اشْتِرَاطُ وُجُوبِ الثَّمَنِ عَلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ بِأَنْ يَجِبَ الثَّمَنُ عَلَى الْعَاقِدِ أَوَّلًا ثُمَّ عَلَى الْغَيْرِ كَفَالَةً عَنْهُ كَذَلِكَ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَقَاصِدِ، وَالْغَيْرُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فَكَانَ هُوَ الْأَصْلَ نَظَرًا إلَى الْخِيَارِ وَالْعَاقِدُ أَصْلٌ مِنْ حَيْثُ التَّمَلُّكُ لَا مِنْ حَيْثُ الْخِيَارُ فَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ الْأَصْلِ بِتَبَعِيَّةِ فَرْعِهِ.

وَأَمَّا التَّحْرِيرُ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ فَلَا يَثْبُتُ تَبَعًا لِفَرْعِهِ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ فِي الصَّحِيحِ بَلْ هِيَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ، وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا هُوَ الثَّمَنُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَثُبُوتُ الْمُقْتَضِي لِتَصْحِيحِ الْمُقْتَضَى، وَلَوْ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ كَانَ مُبْطِلًا لِلْمُقْتَضَى وَعَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلْيَكُنْ بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ فَإِنَّ الْحَوَالَةَ فِيهَا الْمُطَالَبَةُ بِالدَّيْنِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَصْلٌ فِي وُجُوبِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِفَرْعِهِ وَهُوَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ (وَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَيَّهُمَا أَجَازَ جَازَ وَأَيَّهُمَا نَقَضَ انْتَقَضَ) وَلَوْ اخْتَلَفَ فِعْلُهُمَا فِي الْإِجَازَةِ وَالنَّقْضِ اُعْتُبِرَ السَّابِقُ لِعَدَمِ مَا يُزَاحِمُهُ (وَلَوْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ) فَفِي رِوَايَةِ بُيُوعِ الْمَبْسُوطِ (يُعْتَبَرُ تَصَرُّفُ الْعَاقِدِ) فَسْخًا كَانَ أَوْ إجَازَةً (وَ) فِي رِوَايَةِ مَا دُونَ الْمَبْسُوطِ يُعْتَبَرُ (تَصَرُّفُ الْفَسْخِ) سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعَاقِدِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ (وَجْهُ) الْقَوْلِ (الْأَوَّلِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِدِ أَقْوَى)

ص: 321

وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْفَسْخَ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ وَالْمَفْسُوخُ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ، وَلَمَّا مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ رَجَّحْنَا بِحَالِ التَّصَرُّفِ. وَقِيلَ الْأَوَّلُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَاسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ مِمَّا إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ مِنْ رَجُلٍ وَالْمُوَكَّلُ مِنْ غَيْرِهِ مَعًا؛ فَمُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُوَكَّلِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُهُمَا.

وَالْأَقْوَى: يُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ، وَفِقْهُ ذَلِكَ أَنَّ تَصَرُّفَ النَّائِبِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ انْتِفَاءِ تَصَرُّفِ الْمَنُوبِ، وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِهِ فَلَا احْتِيَاجَ إلَيْهِ. وَاسْتَشْكَلَ بِمَا إذَا وَكَّلَ رَجُلًا آخَرَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لِلسُّنَّةِ فَطَلَّقَهَا الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ مَعًا فَإِنَّ الْوَاقِعَ طَلَاقُ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ تَنَافِي الْفِعْلَيْنِ كَالْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ، وَأَمَّا إذَا اتَّحَدَا فَالْمَطْلُوبُ حَاصِلٌ بِدُونِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ.

(وَوَجْهُ) الْقَوْلِ (الثَّانِي أَنَّ الْفَسْخَ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَجَازَ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ) كَمَا لَوْ أَجَازَ وَالْمَبِيعُ هَلَكَ عِنْدَ الْبَائِعِ (وَالْمَفْسُوخُ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ) فَإِنَّ الْعَقْدَ إذَا انْفَسَخَ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْبَائِعِ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ، وَلَا خَفَاءَ فِي قُوَّةِ مَا يَطْرَأُ عَلَى غَيْرِهِ فَيُزِيلُهُ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَنُوقِضَ بِمَا إذَا لَاقَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ غَيْرَهُ فَتَنَاقَضَا الْمَبِيعَ ثُمَّ هَلَكَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ الْبَائِعِ بِحُكْمِ الْإِقَالَةِ فَإِنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُ، وَالْقِيمَةَ إنْ كَانَ لِلْبَائِعِ فَكَانَ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْفَسْخِ وَهُوَ إجَازَةٌ لِلْمَفْسُوخِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تَلْحَقُ الْمَفْسُوخَ وَمَا ذَكَرْتُمْ فَسْخٌ لَا إجَازَةٌ (وَقِيلَ الْأَوَّلُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ) فِي الْمَبْسُوطِ. قِيلَ وَالثَّانِي أَصَحُّ، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ وَلَمَّا مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ رَجَّحْنَا بِحَالِ التَّصَرُّفِ إشَارَةً إلَى ذَلِكَ: يَعْنِي لَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَصْلًا فِي التَّصَرُّفِ مِنْ وَجْهٍ: الْعَاقِدُ مِنْ حَيْثُ التَّمَلُّكُ وَالْأَجْنَبِيُّ مِنْ حَيْثُ شَرْطُ الْخِيَارِ لَهُ لَمْ يَتَرَجَّحْ الْأَمْرُ مِنْ حَيْثُ التَّصَرُّفُ فَرَجَّحْنَا مِنْ حَيْثُ حَالُ التَّصَرُّفِ. لَا يُقَالُ: الْفَسْخُ وَالْإِجَازَةُ مِنْ تَوَابِعِ الْخِيَارِ فَكَانَ الْقِيَاسُ تَرْجِيحَ تَصَرُّفِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ جِهَةَ تَمَلُّكِ الْعَقْدِ عَارَضَتْهُ فِي ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَاسْتُخْرِجَ ذَلِكَ) يَعْنِي أَنَّ الْمَنْسُوبَ إلَيْهِمَا لَيْسَ بِمَنْقُولٍ عَنْهُمَا (وَ) إنَّمَا (اُسْتُخْرِجَ بِمَا إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ مِنْ أَحَدٍ وَالْمُوَكِّلُ مِنْ غَيْرِهِ مَعًا، فَمُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُوَكِّلِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ تَصَرُّفَهُمَا) وَيُجْعَلُ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِالنِّصْفِ وَيُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ، إنْ شَاءَ أَخَذَ النِّصْفَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ.

وَوَجْهُ الِاسْتِخْرَاجِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْفَاسِخِ أَقْوَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَمْ يُرَجِّحْ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ كَمَا رَجَّحَهُ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا لَمْ يُرَجِّحْ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْمُوَكِّلِ

ص: 322

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَإِنْ بَاعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ جَازَ الْبَيْعُ) وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ لَا يُفَصِّلَ الثَّمَنَ وَلَا يُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِي الْكِتَابِ وَفَسَادُهُ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ كَالْخَارِجِ عَنْ الْعَقْدِ، إذْ الْعَقْدُ مَعَ الْخِيَارِ لَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَبَقِيَ الدَّاخِلُ فِيهِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُفَصِّلَ الثَّمَنَ وَيُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ ثَانِيًا فِي الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ،

وَالْوَكِيلِ يَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِالنِّصْفِ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ الرُّجْحَانُ هُنَاكَ لِتَصَرُّفِ الْمَالِكِ لِمَالِكِيَّتِهِ وَالرُّجْحَانُ ثَابِتٌ هُنَا لِتَصَرُّفِ الْفَسْخِ فِي نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى الْإِجَازَةِ لَا عَلَى الْعَكْسِ رَجَّحْنَا بِحَالِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ تَصَرُّفُ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ لَا مُعَارِضَ لِهَذَا الرُّجْحَانِ بَعْدَ مُسَاوَاةِ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ مَعَ تَصَرُّفِ غَيْرِ الْمَالِكِ فَقُلْنَا بِهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَهُوَ كَلَامٌ لَا وُضُوحَ فِيهِ لِأَنَّ عَدَمَ رُجْحَانِ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ لِمَالِكِيَّتِهِ هُنَاكَ لَا يَسْتَلْزِمُ رُجْحَانَ الْفَسْخِ هُنَا وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، نَعَمْ هُوَ يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ الْفَسْخِ عَلَى الْإِجَازَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْرَاجِ، وَلَعَلَّ الْأَوْضَحَ فِي وَجْهِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْوَكِيلُ مِنْ الْمُوَكِّلِ هُنَاكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْ الْعَاقِدِ هَاهُنَا فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ غَيْرِهِ فَيَتَرَجَّحُ تَصَرُّفُ الْعَاقِدِ مِنْ مُحَمَّدٍ كَتَرْجِيحِ تَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ مِنْهُ وَتُرِكَ تَرْجِيحُ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ مِنْ أَبِي يُوسُفَ، وَاعْتِبَارُهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْظَرُ إلَى أَحْوَالِ الْمُتَصَرِّفِينَ لِتَسَاوِيهِمَا فِيهِ فَبَقِيَ النَّظَرُ فِي حَالِ التَّصَرُّفِ نَفْسِهِ، وَالْفَسْخُ أَقْوَى لِمَا ذَكَرْنَا.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ لِأَنَّ فِيهَا تَفْصِيلَ الثَّمَنِ وَتَعْيِينَ مَنْ فِيهِ الْخِيَارُ فَإِمَّا أَنْ لَا يَحْصُلَا أَوْ حَصَلَا جَمِيعًا، أَوْ حَصَلَ التَّفْصِيلُ دُونَ التَّعْيِينِ، أَوْ الْعَكْسُ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِأَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَسَدَ الْبَيْعُ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَجَهَالَةُ أَحَدِهِمَا مُفْسِدَةٌ فَجَهَالَتُهُمَا أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ كَالْخَارِجِ عَنْ الْعَقْدِ إذْ الْعَقْدُ مَعَ الْخِيَارِ لَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَكَانَ الدَّاخِلُ فِي الْعَقْدِ أَحَدَهُمَا وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَثَمَنُهُ مِثْلُهُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

ص: 323

وَقَبُولُ الْعَقْدِ فِي الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مُكْسِدٍ لِلْعَقْدِ لِكَوْنِهِ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ.

وَالثَّالِثُ أَنْ يُفَصِّلَ وَلَا يُعَيِّنَ. وَالرَّابِعُ أَنْ يُعَيِّنَ وَلَا يُفَصِّلَ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ: إمَّا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوْ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ.

بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ مَعْلُومٌ، فَإِنْ قِيلَ: الْعَبْدُ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحُكْمِ وَقَبُولُ الْعَقْدِ فِيهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ الْآخَرِ وَهُوَ شَرْطٌ مُفْسِدٌ كَقَبُولِ الْحُرِّ فِي عَقْدِ الْقِنِّ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ لِكَوْنِ مَنْ فِيهِ الْخِيَارُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ فَكَانَ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْحُكْمِ، فَصَارَ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْمُدَبَّرَ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ فَلَمْ يَكُنْ شَرْطُ قَبُولِ الْعَقْدِ فِيهِ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ فِي الْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَقِنٍّ فَإِنَّ الْحُرَّ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْبَيْعِ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ وَلَا فِي الْحُكْمِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فِي الْجُمْلَةِ هُوَ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ فَكَانَ مُفْسِدًا. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَلَا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُفْسِدًا. وَلَهُ لِمَظِنَّةِ فَضْلِ تَأَمُّلٍ مِنْك فَاحْتَطْ. وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ بِعْتهمَا بِأَلْفٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ أَيْضًا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، وَإِنْ كَانَ الرَّابِعُ فَلِجَهَالَةِ الثَّمَنِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ عَدَمُ التَّفْصِيلِ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ فِي الْآخَرِ لَفَسَدَ فِي الْقِنِّ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَبَّرِ أَوْ أُمِّ الْوَلَدِ وَلَمْ يُفَصِّلْ الثَّمَنَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ التَّفْصِيلِ مُفْسِدٌ إذَا أَدَّى إلَى الْبَيْعِ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً فِيمَا إذَا مَنَعَ عَنْ انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مَانِعٌ كَشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْعَقْدَ فِيمَا شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمَعْدُومِ، فَلَوْ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْآخَرِ انْعَقَدَ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً وَهِيَ مَجْهُولَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْقَنِّ وَالْمُدَبَّرِ مَا يَمْنَعُ عَنْ انْعِقَادِهِ

ص: 324

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ بِعَشْرَةٍ وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَا الثَّلَاثَةُ، فَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَةَ أَثْوَابٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ شَرْعَ الْخِيَارِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ لِيَخْتَارَ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ وَالْأَوْفَقُ، وَالْحَاجَةُ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ مُتَحَقِّقَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى اخْتِيَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَوْ اخْتِيَارِ مَنْ يَشْتَرِيهِ لِأَجْلِهِ،

فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِهِ نَفَذَ فَكَانَ قِسْمَةُ الثَّمَنِ فِي الْبَقَاءِ صِيَانَةً لِحَقٍّ مُحْتَرَمٍ عِنْدَ فَسْخِ الْعَقْدِ عَلَى الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لَا ابْتِدَاءً بِالْحِصَّةِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ) وَمَنْ قَالَ اشْتَرَيْت أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ عَلَى أَنَّ لِي أَنْ آخُذَ أَيَّهمَا شِئْت بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَكَذَا الْأَثْوَابُ الثَّلَاثَةُ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْأَثْوَابُ أَرْبَعَةً فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ الْبَيْعُ فِي الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فَسَادَهُ فِي الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُ الْأَثْوَابِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَهُوَ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى النِّزَاعِ لِتَفَاوُتِهَا فِي نَفْسِهَا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ الشَّرْعُ وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ فَجَازَ إلْحَاقًا بِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ شَرْعَ خِيَارِ الشَّرْطِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ لِيَخْتَارَ مَا هُوَ الْأَوْفَقُ لَهُ وَالْأَوْفَقُ وَالْحَاجَةُ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ مُتَحَقِّقَةٌ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا (يَحْتَاجُ إلَى اخْتِيَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ) لِخِبْرَتِهِ أَوْ اخْتِيَارِ مَنْ يَشْتَرِيهِ لِأَجْلِهِ

ص: 325

وَلَا يُمَكِّنُهُ الْبَائِعُ مِنْ الْحَمْلِ إلَيْهِ إلَّا بِالْبَيْعِ فَكَانَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالثَّلَاثِ لِوُجُودِ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ فِيهَا، وَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الثَّلَاثِ لِتَعْيِينِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعِ، إلَّا أَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهَا غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ وَالرُّخْصَةُ ثُبُوتُهَا بِالْحَاجَةِ وَكَوْنُ الْجَهَالَةِ غَيْرَ مُفْضِيَةٍ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا تَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا. ثُمَّ قِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْعَقْدِ خِيَارُ الشَّرْطِ مَعَ خِيَارِ التَّعْيِينِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

(وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ)، فَيَكُونُ ذِكْرُهُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ وِفَاقًا لَا شَرْطًا؛ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيتِ خِيَارِ التَّعْيِينِ بِالثَّلَاثِ عِنْدَهُ وَبِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَيَّتُهَا كَانَتْ عِنْدَهُمَا.

كَامْرَأَتِهِ وَبِنْتِهِ (وَالْبَائِعُ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْحَمْلِ إلَيْهِ إلَّا بِالْبَيْعِ) فَكَانَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ (فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ) وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ (الْجَهَالَةَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ) لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ اسْتَبَدَّ بِالتَّعْيِينِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مُنَازِعٌ فَكَانَ عِلَّةُ جَوَازِهِ مُرَكَّبَةً مِنْ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ كَوْنِ الْجَهَالَةِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَأَمَّا عَدَمُ الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَثْوَابُ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَأَمَّا الْحَاجَةُ فَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ فِيهِ، وَالزَّائِدُ يَقَعُ مُكَرَّرًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَانْتَفَى عَنْهُ جُزْءُ الْعِلَّةِ، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَمَامِ عِلَّتِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفِي الْمَأْذُونِ وَقَالَ وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَسَكَتَ عَنْ ذَلِكَ. وَعَلَى ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ؛ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ وَقْتًا مَعْلُومًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِمَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ الْعَقْدُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الزِّيَادَةَ، وَذِكْرُهَا فِيمَا ذُكِرَ كَانَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ حُجَّةِ الْأَوَّلِينَ أَنَّ جَوَازَهُ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ بِمَوْضِعِ السُّنَّةِ فَلَا يَصِحُّ بِدُونِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ عَدَمَ انْفِكَاكِ الْمُلْحَقِ عَنْ الْمُلْحَقِ بِهِ لَيْسَ

ص: 326

ثُمَّ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا اشْتَرَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ أَمَانَةٌ، وَالْأَوَّلُ تَجَوُّزٌ وَاسْتِعَارَةٌ.

بِشَرْطٍ فِي الْإِلْحَاقِ، كَمَا أَنَّ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ يَحْتَاجَانِ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَامِدًا فِي رَمَضَانَ مِنْ جِمَاعٍ مَعَ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ بِهِ، وَحُجَّةُ الْآخَرِينَ أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ فَلَا يَتَعَلَّقُ جَوَازُ الْعَقْدِ بِتَمَلُّكِ الزِّيَادَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعَقْدَ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ مَعَ خِيَارِ الشَّرْطِ لَازِمٌ فِي غَيْرِ عَيْنٍ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَذْكُرَ خِيَارَ الشَّرْطِ مَعَ خِيَارِ التَّعْيِينِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيتِ خِيَارِ التَّعْيِينِ بِالثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَبِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَيَّ مُدَّةٍ كَانَتْ عِنْدَهُمَا كَمَا فِي الْمُلْحَقِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ خِيَارُ التَّعْيِينِ فِي الزَّائِدِ عَلَى الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا. أُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ تَعْلِيقٌ فَلَا يُلْحَقُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَلَا يَكُونُ الْأَثَرُ الْوَارِدُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَارِدًا فِيهِ، بِخِلَافِ خِيَارِ التَّعْيِينِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا خِيَارًا بِغَيْرِ

ص: 327

وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَعَيَّبَ لَزِمَهُ الْبَيْعُ فِيهِ بِثَمَنِهِ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِالتَّعَيُّبِ، وَلَوْ هَلَكَا جَمِيعًا مَعًا يَلْزَمُهُ نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشُيُوعِ الْبَيْعِ وَالْأَمَانَةِ فِيهِمَا.

حَرْفِ التَّعْلِيقِ، فَكَانَ الْأَثَرُ الْوَارِدُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَارِدًا فِيهِ (وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَعَيَّبَ لَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ بِثَمَنِهِ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ) حَتَّى إذَا هَلَكَ الْآخَرُ بَعْدَ هَلَاكِ الْأَوَّلِ أَوْ تَعَيَّبَ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْءٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعِيبَ مُمْتَنِعُ الرَّدِّ لِأَنَّ رَدَّهُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَبِيعًا وَهُوَ فِي دَعْوَاهُ ذَلِكَ مُتَّهَمٌ فَكَانَ التَّعَيُّبُ اخْتِيَارًا دَلَالَةً. فَإِنْ قِيلَ: قَبْضُ الْآخَرِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَهُنَا تَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَ الْهَلَاكِ، أُجِيبَ بِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ مَقْبُوضٌ عَلَى جِهَةِ الْبَيْعِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ الْآخَرَ لِيَشْتَرِيَهُ وَقَدْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَكَانَ أَمَانَةً. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ انْعَكَسَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ أَوْ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فَمَاتَتْ إحْدَاهُمَا فَإِنَّ الْبَاقِيَةَ تَتَعَيَّنُ لِلطَّلَاقِ دُونَ الْهَالِكَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَتَاقِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَشْرَفَتْ عَلَى الْهَلَاكِ خَرَجَتْ عَنْ مَحَلِّيَّةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَتَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَةُ لِذَلِكَ، وَالثَّوْبُ إذَا أَشْرَفَ عَلَيْهِ خَرَجَ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الرَّدِّ لِتَعَيُّبِهِ فَتَعَيَّنَ لِكَوْنِهِ مَبِيعًا، وَلَوْ هَلَكَا جَمِيعًا مَعًا لَزِمَهُ نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا لِكَوْنِهِ مَبِيعًا فَشَاعَ الْبَيْعُ

ص: 328

وَلَوْ كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُ أَنْ يَرَهُمَا جَمِيعًا.

وَلَوْ مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَلِوَارِثِهِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ خِيَارُ التَّعْيِينِ لِلِاخْتِلَاطِ، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ. وَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

وَالْأَمَانَةُ فِيهِمَا وَأَمَّا إذَا ذُكِرَ خِيَارُ الشَّرْطِ، فَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَيَّامِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي أَحَدِهِمَا فَيَرُدُّهُ بِحُكْمِ الْأَمَانَةِ، وَفِي الْآخَرِ مُشْتَرٍ قَدْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِ، فَإِذَا مَضَتْ الْأَيَّامُ بَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ فَلَا يَمْلُكُ رَدَّهُمَا وَبَقِيَ لَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ فَيَرُدُّ أَحَدَهُمَا، وَإِنْ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا لَزِمَهُ ثَمَنُهُ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْمَبِيعِ فِيهِ وَلَزِمَهُ وَكَانَ فِي الْآخَرِ أَمِينًا، فَإِنْ ضَاعَ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ. وَلَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ، وَبَقِيَ لِلْوَارِثِ خِيَارُ التَّعْيِينِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ أَحَدَهُمَا، أَمَّا بُطْلَانُ خِيَارِ الشَّرْطِ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُورَثُ، وَأَمَّا بَقَاءُ خِيَارِ التَّعْيِينِ فَلِاخْتِلَاطِ مِلْكِهِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ لِعُمُومِ قَوْلِهِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَائِدَةٌ؟ قُلْت: كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ قَدْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ، فَإِنَّ الْكَرْخِيَّ ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا. قَالُوا: وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْمَأْذُونِ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ يَجُوزُ مَعَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي فَيَجُوزُ مَعَ خِيَارِ الْبَيْعِ قِيَاسًا

ص: 329

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَبِيعَتْ دَارٌ أُخْرَى بِجَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ رِضًا)؛ لِأَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ الْمِلْكَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ إلَّا لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ وَذَلِكَ بِالِاسْتِدَامَةِ فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ سُقُوطَ الْخِيَارِ سَابِقًا عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجِوَارَ كَانَ ثَابِتًا، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً.

عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، وَذُكِرَ فِي الْمُجَرَّدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مَعَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي إنَّمَا جُوِّزَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ

بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ

إلَى اخْتِيَارِ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ بِحَضْرَةِ مَنْ يَقَعُ الشِّرَاءُ لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَأَتَّى فِي جَانِبِ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَى اخْتِيَارِ الْأَرْفَقِ، إذْ الْمَبِيعُ كَانَ مَعَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَيُرَدُّ جَانِبُ الْبَائِعِ إلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ لَا فِي بُيُوعِ الْأَصْلِ وَلَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَتَبَيَّنَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُ الثَّوْبَيْنِ وَالْآخَرَ أَمَانَةٌ، وَالتَّرْكِيبُ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ حَقِيقَةً: وَمَنْ اشْتَرَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ نُسَخُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَفِي بَعْضِهَا اشْتَرَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْذِرَةٍ، وَفِي بَعْضِهَا ثَوْبَيْنِ وَهُوَ مَجَازٌ، وَأَثْبَتَهَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَقَالَ فِي وَجْهِ الْمَجَازِ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا قَالَ: اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أَضَافَ الْخُرُوجَ إلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ) رَجُلٌ اشْتَرَى دَارًا بِخِيَارِ الشَّرْطِ (فَبِيعَتْ دَارٌ أُخْرَى بِجَانِبِهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَذَلِكَ الْأَخْذُ رِضًا) يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ لِأَنَّ أَخْذَهُ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَطَلَبُهُ الشُّفْعَةَ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِيَارِ الْمِلْكِ، لِأَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ، وَالْجِوَارُ يَثْبُتُ بِاسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ، وَاسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ تَقْتَضِي الْمِلْكَ وَلَا مِلْكَ مَعَ الْخِيَارِ فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَكَانَ الْجِوَارُ ثَابِتًا عِنْدَ بَيْعِ الدَّارِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ مُوجَبُ الشُّفْعَةِ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَإِنَّ الْمَبِيعَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ وَيَسْقُطَ بِذَلِكَ خِيَارُهُ، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجَارِ الدَّخِيلِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَدْفَعُ ضَرَرَ الْجَارِ فِي دَارٍ يُرِيدُ رَدَّهَا. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: أَمَّا وُجُوبُ الشُّفْعَةِ لِلْمُشْتَرِي فَوَاضِحٌ عَلَى مَذْهَبِهِمَا لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلدَّارِ الْمَبِيعَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا وَذَلِكَ يَكْفِيهِ لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِهَا كَالْمَأْذُونِ الْمُسْتَغْرَقِ بِالدَّيْنِ وَالْمُكَاتَبِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ دَارِهِمَا

ص: 330

قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ خِيَارُ الْعَيْبِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ، لَهُمَا أَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ لَهُمَا إثْبَاتُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ. وَلَهُ أَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ غَيْرَ مَعِيبِ الشَّرِكَةِ، فَلَوْ رَدَّهُ أَحَدُهُمَا رَدَّهُ مَعِيبًا بِهِ وَفِيهِ إلْزَامُ ضَرَرٍ زَائِدٍ،

فَإِنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ الشُّفْعَةَ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكَا رَقَبَةَ دَارِهِمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَصِرْ أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا. وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا لَمْ يَرَهَا فَبِيعَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ أُخْرَى فَأَخَذَ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ بِدُونِ الرُّؤْيَةِ فَكَذَا بِدَلَالَتِهِ وَسَيَأْتِي.

قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ) وَكَذَا إذَا اشْتَرَيَاهُ وَرَضِيَ أَحَدُهُمَا بِعَيْبٍ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَيَاهُ وَلَمْ يَرَيَاهُ ثُمَّ رَأَيَاهُ (لَهُمَا أَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ لَهُمَا إثْبَاتُ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) وَكُلُّ مَا هُوَ ثَابِتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ لَهُمَا إثْبَاتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ أَثْبَتَ الْوَكَالَةَ لَهُمَا وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ دُونَ الْآخَرِ. وَلَهُ أَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمِعَةِ عَيْبٌ

ص: 331

وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُمَا الرِّضَا بِرَدِّ أَحَدِهِمَا لِتَصَوُّرِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الرَّدِّ. .

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ أَوْ كَاتِبٌ وَكَانَ بِخِلَافِهِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ)؛ لِأَنَّ هَذَا وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ

فَإِنَّ الْبَائِعَ قَبْلَ الْبَيْعِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ مَتَى شَاءَ، وَبَعْدَهُ إذَا رَدَّ الْبَعْضَ لَا يَتَمَكَّنُ إلَّا مُهَايَأَةً، وَالْخِيَارُ يَثْبُتُ نَظَرًا لِمَنْ هُوَ لَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ مِنْهُ بِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الضَّرَرَ بِالزَّائِدِ لِأَنَّ فِي امْتِنَاعِ الرَّدِّ ضَرَرًا أَيْضًا لِلرَّادِّ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْغَيْرِ بَلْ لِعَجْزِهِ عَنْ إيجَادِ شَرْطِ الرَّدِّ كَانَ دُونَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ مِنْ الْغَيْرِ أَقْطَعُ وَأَفْجَعُ مِنْ الْحَاصِلِ مِنْ نَفْسِهِ. فَإِنْ قِيلَ: بَيْعُهُ مِنْهُمَا رِضًا مِنْهُ لِعَيْبِ التَّبْعِيضِ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنْ سَلَّمَ فَهُوَ رِضًا بِهِ فِي مِلْكِهِمَا لَا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ. فَإِنْ قِيلَ: حَصَلَ الْعَيْبُ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِفِعْلِهِ لِأَنَّ تَفَرُّقَ الْمِلْكِ إنَّمَا هُوَ بِالْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ قُلْنَا: بَلْ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي بِرَدِّ نِصْفِهِ، وَالْمُشْتَرِي إذَا عَيَّبَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِحُكْمِ خِيَارِهِ، لَكِنَّ هَذَا الْعَيْبَ بِعَرْضِ الزَّوَالِ لِمُسَاعَدَةِ الْآخَرِ عَلَى الرَّدِّ فَإِذَا امْتَنَعَ ظَهَرَ عَمَلُهُ (قَوْلُهُ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ الْخِيَارِ) جَوَابٌ لَهُمَا. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ لَهُمَا لَيْسَ عَيْنَ الرِّضَا بِرَدِّ أَحَدِهِمَا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا الرِّضَا بِرَدِّ أَحَدِهِمَا لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُمَا لِتَصَوُّرِ الِانْفِكَاكِ بِتَصَوُّرِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الرَّدِّ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُمَا الرِّضَا بِرَدِّ أَحَدِهِمَا.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ أَوْ كَاتِبٌ) رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ أَوْ كَاتِبٌ فَكَانَ بِخِلَافِهِ بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ الْخُبْزِ وَالْكِتَابَةِ مَا يُسَمَّى بِهِ الْفَاعِلُ خَبَّازًا أَوْ كَاتِبًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَبَيْنَ رَدِّهِ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ الرَّدُّ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ، فَإِنْ امْتَنَعَ بِذَلِكَ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُقَوَّمُ الْعَبْدُ كَاتِبًا أَوْ خَبَّازًا عَلَى أَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ إذْ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ بِمُطْلَقِ الشَّرْطِ لَا النِّهَايَةِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي وَصْفِ السَّلَامَةِ الْمُسْتَحَقِّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَيُقَوَّمُ غَيْرُ كَاتِبٍ وَخَبَّازٍ فَيُنْظَرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمَا فَيُرْجَعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ،

ص: 332

فَيُسْتَحَقُّ فِي الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ، ثُمَّ فَوَاتُهُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِهِ دُونَهُ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ النَّوْعِ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ، فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةِ وَصْفِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَصَارَ كَفَوَاتِ

أَمَّا رَدُّهُ فَلِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَرْغُوبٍ فِيهِ كَمَا إذَا بَاعَ عَلَى أَنَّهُ أَعْوَرُ فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْخِيَارَ، وَكُلُّ مَا هُوَ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ يُسْتَحَقُّ فِي الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ لِرُجُوعِهِ إلَى صِفَةِ الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ كَانَ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْمَبِيعِ لَدَخَلَ فِي الْعَقْدِ بِلَا ذِكْرٍ فَلَا يَكُونُ مُفْسِدًا لَهُ، وَنُوقِضَ بِمَا إذَا بَاعَ شَاةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ أَوْ عَلَى أَنَّهَا تَحْلُبُ كَذَا فَإِنَّ الْبَيْعَ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ فَاسِدٌ وَالْوَصْفُ مَرْغُوبٌ فِيهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَصْفٍ بَلْ اشْتِرَاطُ مِقْدَارٍ مِنْ الْمَبِيعِ مَجْهُولٌ وَضَمُّ الْمَعْلُومِ إلَى الْمَجْهُولِ يُصَيِّرُ الْكُلَّ مَجْهُولًا، وَلِهَذَا لَوْ شَرَطَ أَنَّهَا حَلُوبٌ أَوْ لَبُونٌ لَا يَفْسُدُ لِكَوْنِهِ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْبَائِعِ تَحْصِيلُهُ وَلَا إلَى مَعْرِفَتِهِ سَبِيلٌ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْخَبْزِ وَالْكِتَابَةِ فَيَظْهَرُ حَالُهُ، وَأَمَّا انْتِفَاخُ الْبَطْنِ فَقَدْ يَكُونُ مِنْ رِيحٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ وَلِذَا لَا نَعْلَمُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَفَوَاتُهُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَا رَضِيَ بِالْمَبِيعِ دُونَ ذَلِكَ الْوَصْفِ فَيَتَخَيَّرُ وَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ لِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ أَيْ الَّذِي يَكُونُ مِنْ حَيْثُ فَوَاتُ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ هُنَا رَاجِعٌ إلَى اخْتِلَافِ النَّوْعِ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِعَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ، كَمَا إذَا اشْتَرَى شَاةً عَلَى أَنَّهَا نَعْجَةٌ فَإِذَا هِيَ حَمَلٌ فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْحَاصِلَ بِالْوَصْفِ إنْ كَانَ مِمَّا يُوجِبُ التَّفَاوُتَ الْفَاحِشَ فِي الْأَغْرَاضِ كَانَ رَاجِعًا إلَى الْجِنْسِ، كَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا فَإِذَا هِيَ جَارِيَةٌ وَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُوجِبُهُ كَانَ رَاجِعًا إلَى النَّوْعِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمِثَالِ فَلَا

ص: 333

وَصْفِ السَّلَامَةِ، وَإِذَا أَخَذَهُ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ.

يُفْسِدُهُ، لَكِنَّهُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ لِفَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ، وَأَمَّا أَخْذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ تَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 334

(بَابُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ)

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ) بِجَمِيعِ الثَّمَنِ (وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ)

(بَابُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ)

قَدَّمَ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ عَلَى خِيَارِ الْعَيْبِ لِكَوْنِهِ أَقْوَى مِنْهُ، إذْ كَانَ تَأْثِيرُهُ فِي مَنْعِ تَمَامِ الْبَيْعِ وَتَأْثِيرُ خِيَارِ الْعَيْبِ فِي مَنْعِ لُزُومِ الْحُكْمِ، قَالَ الْقُدُورِيُّ: مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ بِعْتُك الثَّوْبَ الَّذِي فِي كُمِّي هَذَا وَصِفَتُهُ كَذَا أَوْ الذُّرَةَ الَّتِي فِي كُمِّي هَذِهِ وَصِفَتُهَا كَذَا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ الصِّفَةَ أَوْ يَقُولَ بِعْت مِنْك هَذِهِ الْجَارِيَةَ الْمُنْتَقِبَةَ فَإِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ وَكَذَا الْعَيْبُ الْغَائِبُ الْمُشَارُ إلَى مَكَانِهِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِذَلِكَ الِاسْمِ غَيْرُ مَا سَمَّى وَالْمَكَانُ مَعْلُومٌ بِاسْمِهِ وَالْعَيْنُ مَعْلُومَةٌ. قَالَ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ: لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي عَيْنٍ هُوَ بِحَالٍ لَوْ كَانَتْ الرُّؤْيَةُ حَاصِلَةً لَكَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا: أَيْ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَبِيعُ مَجْهُولٌ

ص: 335

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ» ؛ وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ يَرُدُّهُ،

وَالْمَجْهُولُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ كَالْبَيْعِ بِالرَّقْمِ (وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ») وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ فَلَا يُتْرَكُ بِلَا مُعَارِضٍ، فَإِنْ قِيلَ: هُوَ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» وَالْمُرَادُ مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ لِلْمُشْتَرِي لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ قَدْ رَآهُ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا عِنْدَ الْعَقْدِ. قُلْنَا: بَلْ الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ بِدَلِيلِ قِصَّةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ «حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الرَّجُلَ يَطْلُبُ مِنِّي سِلْعَةً لَيْسَتْ عِنْدِي فَأَبِيعُهَا مِنْهُ ثُمَّ أَدْخُلُ السُّوقَ فَأَسْتَجِيدُهَا فَأَشْتَرِيهَا فَأُسَلِّمُهَا إلَيْهِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَيْنًا مَرْئِيًّا لَمْ يَمْلِكْهُ ثُمَّ مَلَكَهُ فَلِمَ لَمْ يَجُزْ؟ وَذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ، وَالْمَعْقُولُ وَهُوَ أَنَّ الْجَهَالَةَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ مَعَ وُجُودِ الْخِيَارِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ رَدَّهُ وَلَا نِزَاعَ ثَمَّةَ يَقْتَضِي خِيَارَهُ، وَإِنَّمَا أَفْضَتْ إلَيْهَا لَوْ قُلْنَا بِانْبِرَامِ الْعَقْدِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ فَصَارَ ذَلِكَ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ فِي الْمُعَايَنِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِأَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا مُشَارًا إلَيْهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ عَدَدُ ذُرْعَانِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومَ الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ جَهَالَةٌ لِكَوْنِهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ،

ص: 336

فَصَارَ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ فِي الْمُعَايِنِ الْمُشَارِ إلَيْهِ.

(وَكَذَا إذَا قَالَ رَضِيت ثُمَّ رَآهُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ) لِأَنَّ الْخِيَارَ مُعَلَّقٌ بِالرُّؤْيَةِ لِمَا رَوَيْنَا فَلَا يَثْبُتُ قَبْلَهَا، وَحَقُّ الْفَسْخُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ بِحُكْمِ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ لَا بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ،

وَعُورِضَ بِأَنَّ الْبَيْعَ نَوْعَانِ: بَيْعُ عَيْنٍ، وَبَيْعُ دَيْنٍ، وَطَرِيقُ الْمَعْرِفَةِ فِي الثَّانِي هُوَ الْوَصْفُ وَفِي الْأَوَّلِ الْمُشَاهَدَةُ، ثُمَّ مَا هُوَ طَرِيقٌ إلَى الثَّانِي إذَا تَرَاخَى عَنْ حَالَةِ الْعَقْدِ فَسَدَ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ مَا هُوَ طَرِيقٌ إلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ إذَا تَرَاخَى فَسَدَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ سَاقِطَةٌ لِأَنَّ السَّلَمَ إنَّمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ تَرْكِ الْوَصْفِ لِإِفْضَاءِ الْجَهَالَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ

(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا قَالَ) تَفْرِيعٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ: يَعْنِي كَمَا أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ إذَا لَمْ يَقُلْ رَضِيت فَكَذَا إذَا قَالَ ذَلِكَ وَلَمْ يَرَهُ ثُمَّ رَآهُ، لِأَنَّ الْخِيَارَ مُعَلَّقٌ بِالرُّؤْيَةِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّيْءِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ الْعَقْدُ بِالرِّضَا قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَزِمَ امْتِنَاعُ الْخِيَارِ عِنْدَهَا، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ عِنْدَهَا فَمَا أَدَّى إلَى إبْطَالِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ (قَوْلُهُ وَحَقُّ الْفَسْخِ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْرِيرُهُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَمَا كَانَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ نَتَائِجِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ كَالْقَبُولِ فَكَانَ مُعَلَّقًا بِهَا فَلَا يُوجَدُ قَبْلَهَا. وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ بِحُكْمِ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مُنْبَرِمًا فَجَازَ فَسْخُهُ لِوَهَاءٍ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ فِي عَقْدِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ لُزُومِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ لَا شَرْطًا وَلَا شَرْعًا، بِخِلَافِ الرِّضَا فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى

ص: 337

وَلِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَوْصَافِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ رَضِيت قَبْلَ الرُّؤْيَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ رَدَدْت.

بُطْلَانِهِ كَمَا مَرَّ آنِفًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ عَدَمَ لُزُومِ هَذَا الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ الْخِيَارِ فَهُوَ مَلْزُومٌ لِلْخِيَارِ وَالْخِيَارُ مُعَلَّقٌ بِالرُّؤْيَةِ لَا يُوجَدُ بِدُونِهَا فَكَذَا مَلْزُومُهُ لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطُ اللَّازِمِ فَهُوَ شَرْطٌ لِلْمَلْزُومِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ) جَوَابُ سُؤَالٍ آخَرَ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْإِمْضَاءَ لِلرِّضَا وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ (لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَوْصَافِهِ) لِأَنَّ الرِّضَا اسْتِحْسَانُ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانُ مَا لَمْ يُعْلَمْ مَا يُحَسِّنُهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ.

وَأَمَّا الْفَسْخُ فَإِنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ الرِّضَا، وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُحْسِنَاتِ. لَا يُقَالُ: عَدَمُ الرِّضَا لِاسْتِقْبَاحِ الشَّيْءِ وَاسْتِقْبَاحُ مَا لَمْ يُعْلَمْ مَا يُقَبِّحُهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، لِأَنَّ عَدَمَ الرِّضَا قَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا بَدَا لَهُ مِنْ انْتِفَاءِ احْتِيَاجِهِ إلَى الْمَبِيعِ أَوْ ضَيَاعِ ثَمَنِهِ أَوْ اسْتِغْلَائِهِ فَلَا يَلْزَمُ الِاسْتِقْبَاحُ. ذَكَرَ فِي التُّحْفَةِ أَنَّ جَوَازَ الْفَسْخِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ قِيَاسًا عَلَى الْإِجَازَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ

ص: 338

قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ) وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: أَوَّلًا لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْعَقْدِ بِتَمَامِ الرِّضَا زَوَالًا وَثُبُوتًا وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعِلْمِ بِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ بِالرُّؤْيَةِ فَلَمْ يَكُنْ الْبَائِعُ رَاضِيًا بِالزَّوَالِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالشِّرَاءِ لِمَا رَوَيْنَا فَلَا يَثْبُتُ دُونَهُ.

وَرُوِيَ " أَنَّ

دُونَ الْإِجَازَةِ وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ) مَنْ وَرِثَ شَيْئًا فَبَاعَهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ صَحَّ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ لَهُ عِنْدَنَا. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يَقُولُ أَوَّلًا: لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِخِيَارِ الْعَيْبِ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِجَانِبِ الْمُشْتَرِي، بَلْ إذَا وَجَدَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ زَيْفًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ جَوَّزَهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ كَالْمُشْتَرِي وَإِذَا وَجَدَ الْمَبِيعَ مَعِيبًا، لَكِنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّ الثَّمَنِ وَيَنْفَسِخُ بِرَدِّ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ دُونَ الثَّمَنِ، وَبِخِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَهَذَا) أَيْ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ (أَنَّ لُزُومَ الْعَقْدِ بِتَمَامِ الرِّضَا زَوَالًا) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ (وَثُبُوتًا) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي (وَتَمَامُ الرِّضَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْعِلْمِ بِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ وَذَلِكَ بِالرُّؤْيَةِ) فَإِنَّ بِالرُّؤْيَةِ يَحْصُلُ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى دَقَائِقَ لَا تَحْصُلُ بِالْعِبَارَةِ (فَلَمْ يَكُنْ الْبَائِعُ رَاضِيًا بِالزَّوَالِ) فَيَكُونُ الْعَقْدُ غَيْرَ لَازِمٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَهُ الْفَسْخُ.

(وَجْهُ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالشِّرَاءِ فَلَا يَثْبُتُ دُونَهُ) كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: الْبَائِعُ مِثْلُ الْمُشْتَرِي فِي الِاحْتِيَاجِ لِتَمَامِ الرِّضَا فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً. أُجِيبَ بِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِسَبَبَيْنِ فِيهِ، لِأَنَّ الرَّدَّ مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَانَ يَظُنُّهُ خَيْرًا مِمَّا اشْتَرَى فَيَرُدُّهُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ، وَالْبَائِعُ لَوْ رَدَّ لَرَدَّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَبِيعَ أَزْيَدُ مِمَّا ظُنَّ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِشَرْطِ أَنَّهُ مَعِيبٌ فَإِذَا هُوَ صَحِيحٌ لَمْ يَثْبُتْ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ، قِيلَ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يُوجَدُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِسَبَبٍ آخَرَ وَهَاهُنَا وُجِدَ الْقِيَاسُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارَيْنِ فَلْيَجُزْ مِنْ الْبَائِعِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْقِيَاسُ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الْقِيَاسَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ، وَتَحْكِيمُ جُبَيْرٍ بَيْنَ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَتْنِ فَبَطَلَ الْإِلْحَاقُ

ص: 339

عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بَاعَ أَرْضًا لَهُ بِالْبَصْرَةِ مِنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقِيلَ لِطَلْحَةَ: إنَّك قَدْ غُبِنْت، فَقَالَ: لِي الْخِيَارُ؛ لِأَنِّي اشْتَرَيْت مَا لَمْ أَرَهُ. وَقِيلَ لِعُثْمَانَ: إنَّك قَدْ غُبِنْت، فَقَالَ: لِي الْخِيَارُ؛ لِأَنِّي بِعْت مَا لَمْ أَرَهُ. فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ ". فَقَضَى بِالْخِيَارِ لِطَلْحَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.

ثُمَّ‌

‌ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ

غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بَلْ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُبْطِلُهُ، وَمَا يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ مِنْ تَعَيُّبٍ أَوْ تَصَرُّفٍ يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ تَصَرُّفًا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ كَالْإِعْتَاقِ

دَلَالَةً وَقِيَاسًا، وَلِهَذَا رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ حِينَ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ.

قَالَ (ثُمَّ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ مُوَقَّتٍ) قِيلَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ يُوَقَّتُ بِوَقْتِ إمْكَانِ الْفَسْخِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْسَخْ سَقَطَ حَقُّهُ لِأَنَّهُ خِيَارٌ تَعَلَّقَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى حَالِ الْمَبِيعِ فَأَشْبَهَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ بَاقٍ مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يُبْطِلُهُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حُكْمًا لِانْعِدَامِ الرِّضَا فَيَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُبْطِلُ عَدَمَ الرِّضَا، ثُمَّ مَا يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ مِنْ تَعَيُّبٍ أَوْ تَصَرُّفٍ يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ. وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ فِي بَابِهِ. وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إذَا فَعَلَ فِي الْمَبِيعِ مَا يُمْتَحَنُ بِهِ مَرَّةً وَيَحِلُّ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِحَالٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الِاخْتِيَارِ، وَإِلَّا لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْخِيَارِ لِأَنَّهَا إمْكَانُ الرَّدِّ عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَقَةِ بَعْدَ الِامْتِحَانِ، فَإِنْ لَزِمَهُ الْبَيْعُ بِفِعْلٍ مَا يُمْتَحَنُ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاتَتْ فَائِدَةُ الْخِيَارِ. وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إذَا فَعَلَ مَا لَا يُمْتَحَنُ بِهِ أَوْ يُمْتَحَنُ بِهِ لَكِنَّهُ لَا يَحِلُّ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِحَالٍ أَوْ يُمْتَحَنُ بِهِ وَيَحِلُّ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَكِنْ فَعَلَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً كَانَ دَلِيلَ الِاخْتِيَارِ، فَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً لِلْخِدْمَةِ بِالْخِيَارِ فَاسْتَخْدَمَهَا مَرَّةً لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ مِمَّا يُمْتَحَنُ بِهِ وَيَحِلُّ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَوْ اسْتَخْدَمَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً فِي ذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ الْخِدْمَةِ كَانَ اخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَلِحُصُولِ الِامْتِحَانِ بِالْأُولَى، وَلَوْ وَطِئَهَا بَطَلَ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْتَحَنُ بِهِ لِأَنَّ صَلَاحَهَا لِلْوَطْءِ قَدْ لَا يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ، لَكِنْ لَا يَحِلُّ الْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَكَانَ اخْتِيَارًا لَهُ.

قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْكُلِّيِّ مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى دَارًا لَمْ يَرَهَا فَبِيعَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَبَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ. وَالثَّانِيَةُ إذَا عَرَضَ الْمَبِيعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَلَى الْبَيْعِ بَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ. وَالْمَسْأَلَتَانِ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمَا هُوَ أَنَّ

ص: 340

وَالتَّدْبِيرِ أَوْ تَصَرُّفًا يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ كَالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ يُبْطِلُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَبَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ تَعَذُّرُ الْفَسْخِ فَبَطَلَ الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا لَا يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَالْمُسَاوَمَةُ وَالْهِبَةُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ لَا يُبْطِلُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْبُو عَلَى صَرِيحِ الرِّضَا وَيُبْطِلُهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ لِوُجُودِ دَلَالَةِ الرِّضَا.

خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لَا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الرِّضَا قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَبْطُلُ بِدَلِيلِ الرِّضَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ دُونَهُ. ثُمَّ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَالْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ دَلِيلُ الرِّضَا فَلِذَلِكَ لَا يَعْمَلَانِ فِي إبْطَالِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَافِعٍ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِشْكَالَ لَيْسَ بِوَارِدٍ لِأَنَّهُ قَالَ: وَمَا يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ مِنْ تَعَيُّبٍ أَوْ تَصَرُّفٍ يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِكُلِّيٍّ مُطْلَقٍ بَلْ مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ تَعَيُّبًا أَوْ تَصَرُّفًا: يَعْنِي فِي الْمَبِيعِ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَالْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ لَيْسَا مِنْهُمَا فَلَا يَكُونَانِ وَارِدَيْنِ. ثُمَّ التَّصَرُّفُ الَّذِي يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: تَصَرُّفٌ يُبْطِلُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَبَعْدَهَا، وَتَصَرُّفٌ لَا يُبْطِلُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَيُبْطِلُهُ بَعْدَهَا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ، أَوْ الَّذِي يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ كَالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَالْبَيْعِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لِلْمُشْتَرِي وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ وَمِلْكُ الْمُتَصَرِّفِ فِي الْعَيْنِ قَائِمٌ فَصَادَفَ الْمَحَلَّ وَنَفَذَ وَبَعْدَ نُفُوذِهِ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ وَالرَّفْعَ فَتَعَذَّرَ الْفَسْخُ وَبَطَلَ الْخِيَارُ ضَرُورَةً، وَكَذَلِكَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ مَانِعٌ مِنْ الْفَسْخِ فَيَبْطُلُ الْخِيَارُ، حَتَّى لَوْ افْتَكَّ الرَّهْنَ أَوْ مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ أَوْ رَدَّ الْمُشْتَرَى عَلَيْهِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ ثُمَّ رَآهُ لَا يَكُونُ لَهُ الرَّدُّ.

وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا قِيلَ إنَّ بُطْلَانَ الْخِيَارِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ النَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَاهُ. وَالثَّانِي أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ إمَّا أَنْ تَكُونَ صَرِيحَ الرِّضَا أَوْ دَلَالَتَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ فَكَيْفَ أَبْطَلَتْهُ؟ وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ ذَاكَ فِيمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِحُكْمِ النَّصِّ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لِصُدُورِهَا عَنْ أَهْلِهَا مُضَافَةً إلَى مَحَلِّهَا انْعَقَدَتْ صَحِيحَةً، وَبَعْدَ صِحَّتِهَا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهَا فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ ضَرُورَةً. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ دَلَالَةَ الرِّضَا لَا تَرْبُو عَلَى صَرِيحِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ ضَرُورَاتِ صَرِيحٍ آخَرَ، وَهَاهُنَا هَذِهِ الدَّلَالَةُ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَالْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا مَعَ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ مُحَالٌ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ الَّذِي لَا يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ وَالْمُسَاوَمَةُ وَالْهِبَةُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ لَا يَرْبُو عَلَى صَرِيحِ الرِّضَا: أَيْ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَصَرِيحُ الرِّضَا لَا يُبْطِلُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ فَدَلَالَتُهُ أَوْلَى: يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ

ص: 341

(قَالَ: وَمَنْ نَظَرَ إلَى وَجْهِ الصُّبْرَةِ، أَوْ إلَى ظَاهِرِ الثَّوْبِ مَطْوِيًّا أَوْ إلَى وَجْهِ الْجَارِيَةِ أَوْ إلَى وَجْهِ الدَّابَّةِ وَكَفَلِهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ) وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ رُؤْيَةَ جَمِيعِ الْمَبِيعِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ لِتَعَذُّرِهِ فَيَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ.

ضَرُورَاتِ الْغَيْرِ وَيُبْطِلُهُ بَعْدَهَا لِوُجُودِ الدَّلَالَةِ مَعَ عَدَمِ الْمَانِعِ

(قَالَ وَمَنْ نَظَرَ إلَى وَجْهِ الصُّبْرَةِ) اعْلَمْ أَنَّ الْمَبِيعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَفَاوِتَ الْآحَادِ أَوْ لَا، فَذَلِكَ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ رُؤْيَةُ الْجَمِيعِ شَرْطًا لِبُطْلَانِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْجَمِيعِ قَدْ تَكُونُ مُتَعَذِّرَةً كَمَا إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً فَإِنَّ فِي رُؤْيَةِ جَمِيعِ بَدَنِهِمَا رُؤْيَةَ عَوْرَتِهِمَا، وَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ أَصْلًا فُسِخَ الْعَقْدُ أَوْ لَمْ يُفْسَخْ، وَفِي الْأَمَةِ لَوْ فُسِخَ الْعَقْدُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ رُؤْيَةِ عَوْرَتِهَا كَانَ النَّظَرُ فِي عَوْرَتِهَا وَاقِعًا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْعَقْدَ ارْتَفَعَ بِالْفَسْخِ مِنْ أَصْلِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَكَانَ النَّظَرُ الْوَاقِعُ حَرَامًا، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا مَطْوِيًّا فَإِنَّ الْبَائِعَ يَتَضَرَّرُ بِانْكِسَارِ ثَوْبِهِ بِالطَّيِّ وَالنَّشْرِ فَيُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْبَيْضِ وَالْجَوْزِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فَلَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ لَا تُعَرِّفُ الْبَاقِيَ لِتَفَاوُتٍ فِي آحَادِهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ وَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ عَلَى مَا مَالَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ يُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ بِرُؤْيَةِ الْبَعْضِ يُعْرَفُ الْبَاقِي لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ، وَعَلَامَةُ عَدَمِ التَّفَاوُتِ أَنْ يُعْرَضَ بِالنَّمُوذَجِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي أَرْدَأَ مِنْهَا، فَعَلَى هَذَا إذَا نَظَرَ إلَى وَجْهِ الصُّبْرَةِ بَطَلَ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ الْبَاقِي لِأَنَّهُ مَكِيلٌ يُعْرَضُ بِالنَّمُوذَجِ

ص: 342

وَلَوْ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ أَشْيَاءُ، فَإِنْ كَانَ لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَعَلَامَتُهُ أَنْ يَعْرِضَ بِالنَّمُوذَجِ يَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ وَاحِدٍ مِنْهَا إلَّا إذَا كَانَ الْبَاقِي أَرْدَأَ مِمَّا رَأَى فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ. وَإِنْ كَانَ تَتَفَاوَت آحَادُهَا كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَالْجَوْزُ وَالْبَيْضُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِكَوْنِهَا مُتَقَارِبَةً. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الصُّبْرَةِ كَافٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ وَصْفَ الْبَقِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَكِيلٌ يُعْرَضُ بِالنَّمُوذَجِ، وَكَذَا النَّظَرُ إلَى ظَاهِرِ الثَّوْبِ مِمَّا يَعْلَمُ بِهِ الْبَقِيَّةَ إلَّا إذَا كَانَ فِي طَيِّهِ مَا يَكُونُ مَقْصُودًا كَمَوْضِعِ الْعَلَمِ، وَالْوَجْهُ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْآدَمِيِّ، وَهُوَ وَالْكَفَلُ فِي الدَّوَابِّ فَيُعْتَبَرُ رُؤْيَةِ الْمَقْصُودِ وَلَا يُعْتَبَرُ رُؤْيَةُ غَيْرِهِ. وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ رُؤْيَةَ الْقَوَائِمِ.

وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله.

وَالنَّظَرُ إلَى ظَاهِرِ الثَّوْبِ مَطْوِيًّا مِمَّا يُعَرِّفُ الْبَقِيَّةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي طَيِّهِ مَا كَانَ مَقْصُودًا كَمَوْضِعِ الْعِلْمِ) وَإِذَا نَظَرَ إلَى وَجْهِ الْآدَمِيِّ بَطَلَ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ تَبَعًا لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَفَاوُتَ الْقِيمَةِ بِتَفَاوُتِ الْوَجْهِ مَعَ التَّسَاوِي فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَإِذَا نَظَرَ إلَى الْوَجْهِ أَوْ الْكِفْلِ فِي الدَّابَّةِ بَطَلَ الْخِيَارُ لِأَنَّهُمَا مَقْصُودَانِ فِي الدَّوَابِّ. هَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ رُؤْيَةَ الْقَوَائِمِ لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ فِي الدَّوَابِّ، فَإِنْ كَانَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ فِي وِعَاءَيْنِ فَرَآهَا فِي أَحَدِهِمَا فَإِنْ كَانَ مَا فِي الْآخَرِ مِثْلَ مَا رَأَى أَوْ فَوْقَهُ بَطَلَ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فَهُوَ عَلَى الْخِيَارِ، لَكِنْ إذَا رَدَّ رَدَّ الْكُلَّ لِئَلَّا تَتَفَرَّقَ الصَّفْقَةُ، وَإِذَا اشْتَرَى شَاةً فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلَّحْمِ أَوْ لِلْقُنْيَةِ أَيْ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ، فَفِي الْأَوَّلِ لَا بُدَّ مِنْ الْجَسِّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِهِ، وَفِي الثَّانِي

ص: 343

وَفِي شَاةِ اللَّحْمِ لَا بُدَّ مِنْ الْجَسِّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ اللَّحْمُ يُعْرَفُ بِهِ. وَفِي شَاةِ الْقُنْيَةِ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّرْعِ. وَفِيمَا يُطْعَمُ لَا بُدَّ مِنْ الذَّوْقِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُعَرِّفُ لِلْمَقْصُودِ.

(قَالَ وَإِنْ رَأَى صَحْنَ الدَّارِ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْ بُيُوتَهَا) وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى خَارِجَ الدَّارِ أَوْ رَأَى أَشْجَارَ الْبُسْتَانِ مِنْ خَارِجٍ. وَعِنْدَ زُفَرَ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ دَاخِلِ الْبُيُوتِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى وِفَاقِ عَادَتِهِمْ فِي الْأَبْنِيَةِ، فَإِنَّ دُورَهُمْ لَمْ تَكُنْ مُتَفَاوِتَةً يَوْمَئِذٍ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَلَا بُدَّ مِنْ الدُّخُولِ فِي دَاخِلِ الدَّارِ لِلتَّفَاوُتِ، وَالنَّظَرُ إلَى الظَّاهِرِ لَا يُوقِعُ الْعِلْمَ بِالدَّاخِلِ.

لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّرْعِ، وَفِي الْمَطْعُومَاتِ لَا بُدَّ مِنْ الذَّوْقِ لِأَنَّهُ الْمُعَرِّفُ لِلْمَقْصُودِ.

(قَالَ: وَمَنْ رَأَى صَحْنَ الدَّارِ فَلَا خِيَارَ لَهُ) رُؤْيَةُ صَحْنِ الدَّارِ أَوْ خَارِجَهَا وَرُؤْيَةُ أَشْجَارِ الْبُسْتَانِ مِنْ خَارِجٍ تُسْقِطُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ. لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا مُتَعَذِّرُ الرُّؤْيَةِ كَمَا تَحْتَ السُّرَرِ وَبَيْنَ الْحِيطَانِ مِنْ الْجُذُوعِ وَالْأُسْطُوَانَات وَحِينَئِذٍ سَقَطَ شَرْطُ رُؤْيَةِ الْكُلِّ فَأَقَمْنَا رُؤْيَةَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الدَّارِ مَقَامَ رُؤْيَةِ الْكُلِّ، فَإِذَا كَانَ فِي الدَّارِ بَيْتَانِ شَتْوِيَّانِ وَبَيْتَانِ صَيْفِيَّانِ يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الْكُلِّ كَمَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ صَحْنِ الدَّارِ وَلَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الْمَطْبَخِ وَالْمَزْبَلَةِ وَالْعُلْوِ إلَّا فِي بَلَدٍ يَكُونُ الْعُلْوُ مَقْصُودًا كَمَا فِي سَمَرْقَنْدَ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ دَاخِلِ الْبُيُوت وَالْأَصَحُّ أَنَّ جَوَابَ الْكِتَابِ: أَيْ الْقُدُورِيِّ عَلَى وِفَاقِ عَادَتِهِمْ بِالْكُوفَةِ أَوْ بَغْدَادَ فِي الْأَبْنِيَةِ، فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِالضِّيقِ وَالسَّعَةِ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ كَصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالنَّظَرِ إلَى جُدْرَانِهَا مِنْ خَارِجٍ، فَأَمَّا الْيَوْمُ يُرِيدُ بِهِ دِيَارَهُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ الدُّخُولِ فِي دَاخِلِ الدَّارِ لِلتَّفَاوُتِ فِي مَالِيَّةِ الدُّورِ بِقِلَّةِ مَرَافِقِهَا وَكَثْرَتِهَا، فَالنَّظَرُ إلَى الظَّاهِرِ لَا يُوقِعُ الْعِلْمَ

ص: 344

قَالَ (وَنَظَرُ الْوَكِيلِ كَنَظَرِ الْمُشْتَرِي حَتَّى لَا يَرُدَّهُ إلَّا مِنْ عَيْبٍ، وَلَا يَكُونُ نَظَرُ الرَّسُولِ كَنَظَرِ الْمُشْتَرِي،

بِالْبَاطِنِ وَهَذِهِ نُكْتَةُ زُفَرَ.

قَالَ (وَنَظَرُ الْوَكِيلِ كَنَظَرِ الْمُشْتَرِي) قِيلَ صُورَةُ التَّوْكِيلِ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِغَيْرِهِ كُنْ وَكِيلًا عَنِّي فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ أَوْ وَكَّلْتُك بِذَلِكَ. وَصُورَةُ الْإِرْسَالِ أَنْ يَقُولَ كُنْ رَسُولًا عَنِّي أَوْ أَرْسَلْتُك

ص: 345

وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقَالَا: هُمَا سَوَاءٌ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ) قَالَ مَعْنَاهُ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَرُؤْيَتُهُ تُسْقِطُ الْخِيَارَ بِالْإِجْمَاعِ، لَهُمَا لِأَنَّهُ تَوَكَّلَ بِالْقَبْضِ دُونَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ فَلَا يَمْلِكُ مَا لَمْ يَتَوَكَّلْ بِهِ وَصَارَ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَالشَّرْطِ وَالْأَسْقَاطِ قَصْدًا. وَلَهُ أَنَّ الْقَبْضَ نَوْعَانِ: تَامٌّ وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَهُوَ يَرَاهُ. وَنَاقِصٌ، وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ مَسْتُورًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِتَمَامِ الصَّفْقَةِ وَلَا تَتِمُّ مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْمُوَكِّلُ مَلَكَهُ بِنَوْعَيْهِ، فَكَذَا الْوَكِيلُ. وَمَتَى قَبَضَ الْمُوَكِّلُ وَهُوَ يَرَاهُ سَقَطَ الْخِيَارُ فَكَذَا الْوَكِيلُ لِإِطْلَاقِ التَّوْكِيلِ.

أَوْ أَمَرْتُك بِقَبْضِهِ. وَقِيلَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالرَّسُولِ فِيمَا إذَا قَالَ أَمَرْتُك بِقَبْضِهِ إذَا نَظَرَ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ إلَى الْمَبِيعِ وَقَبْضُهُ يُسْقِطُ خِيَارَ الْمُشْتَرِي فَلَا يَرُدُّهُ إلَّا بِعَيْبٍ عَلِمَهُ الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.

وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: إذَا كَانَ عَيْبًا يَعْلَمُهُ الْوَكِيلُ يَجِبُ أَنْ يَبْطُلَ خِيَارُ الْعَيْبِ بِالْقَبْضِ إلَيْهِ، فَإِذَا نَظَرَ الرَّسُولُ وَقَبَضَهُ لَا يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: نَظَرُ الرَّسُولِ لَا يَسْقُطُ بِالِاتِّفَاقِ، وَنَظَرُ الْوَكِيلِ كَنَظَرِهِ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي عَدَمِ سُقُوطِ خِيَارِ الْمُشْتَرِي وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَلَمَّا كَانَتْ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُطْلَقَةً فِي الْوَكِيلِ وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَيْسَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ فَسَّرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَرُؤْيَتُهُ تُسْقِطُ الْخِيَارَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَيْهِ (لَهُمَا أَنَّهُ تَوَكَّلَ) أَيْ قَبْلَ الْوَكَالَةِ (بِالْقَبْضِ دُونَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ) وَمَا لَمْ يَتَوَكَّلْ بِهِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَكَالَةً (فَلَا يَمْلِكُ) إسْقَاطَ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيمَا لَمْ يَتَوَكَّلْ بِهِ فَصَارَ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ وَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِهِ فَقَبَضَ الْوَكِيلُ مَعِيبًا رَائِيًا عَيْبَهُ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُ الْعَيْبِ لِلْمُوَكِّلِ، وَكَمَنْ اشْتَرَى بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَوَكَّلَ بِقَبْضِهِ فَقَبَضَهُ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُ الشَّرْطِ لِلْمُوَكِّلِ، وَكَمَا إذَا وَكَّلَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ فَقَبَضَهُ مَسْتُورًا ثُمَّ رَآهُ الْوَكِيلُ فَأَسْقَطَ الْخِيَارَ قَصْدًا لَا يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُوَكِّلِ. وَدَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَةٍ هِيَ (أَنَّ الْقَبْضَ عَلَى نَوْعَيْنِ: تَامٌّ وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَهُوَ يَرَاهُ، وَنَاقِصٌ وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَهُوَ مَسْتُورٌ) (قَوْلُهُ وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى تَنَوُّعِهِ بِالنَّوْعَيْنِ، وَبَيَانُهُ (أَنَّ تَمَامَ الْقَبْضِ بِتَمَامِ الصَّفْقَةِ وَلَا تَتِمُّ) الصَّفْقَةُ (مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ) لِأَنَّ تَمَامَهَا تَنَاهِيهَا فِي اللُّزُومِ بِحَيْثُ لَا يَرْتَدُّ إلَّا بِرِضَاهُ أَوْ قَضَاءً،

ص: 346

وَإِذَا قَبَضَهُ مَسْتُورًا انْتَهَى التَّوْكِيلُ بِالنَّاقِصِ مِنْهُ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ قَصْدًا بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ فَيَتِمُّ الْقَبْضُ مَعَ بَقَائِهِ،

وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ يَمْنَعَانِ عَنْ ذَلِكَ، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا قُلْنَا: الْمُوَكِّلُ مَلَكَ الْقَبْضَ بِنَوْعَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ مَلَكَهُ بِنَوْعَيْهِ مَلَكَهُ وَكِيلُهُ كَذَلِكَ عِنْدَ إطْلَاقِ التَّوْكِيلِ عَمَلًا بِإِطْلَاقِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوَكِيلَ إذَا قَبَضَهُ قَبْضًا نَاقِصًا ثُمَّ رَآهُ أَسْقَطَ الْخِيَارَ قَصْدًا لَمْ يَسْقُطْ وَالْمُوَكِّلُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ فَلَيْسَ الْوَكِيلُ كَالْمُوَكِّلِ فِي الْقَبْضِ النَّاقِصِ لَا مَحَالَةَ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بِأَنَّ الْوَكِيلَ إذَا قَبَضَهُ مَسْتُورًا انْتَهَى التَّوْكِيلُ بِالْقَبْضِ النَّاقِصِ فَبَقِيَ أَجْنَبِيًّا فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ، وَفِي هَذَا الْجَوَابِ تَعَرُّضٌ إلَى رَدِّ قِيَاسِهِمَا عَلَى الْإِسْقَاطِ الْقَصْدِيِّ، وَإِلَى رَدِّ قَوْلِهِمَا دُونَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَكَّلْ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ قَصْدًا أَوْ ضِمْنًا وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ فِي الْقَبْضِ التَّامِّ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ فِي ضِمْنِ الْمُتَوَكَّلِ بِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ حَتَّى لَوْ رَأَى قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْخِيَارُ، بِخِلَافِ الْمُوَكِّلِ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا. وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مَنْ تَوَكَّلَ بِشَيْءٍ تَوَكَّلَ بِمَا يُتِمُّهُ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا فَصَارَ كَخِيَارِ الْعَيْبِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ حَيْثُ لَا يَرْتَدُّ بِهِ إلَّا بِرِضًا أَوْ قَضَاءٍ، وَمَا لَمْ يَمْنَعْ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ وَلِهَذَا مَلَكَ رَدَّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلَمْ يُجْعَلْ تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ لِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا مُمْتَنِعٌ، وَلَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ هَاهُنَا دَلَّ أَنَّهَا كَانَتْ تَامَّةً، وَهُوَ مِنْ مُوَضِّحَاتِ ذَلِكَ أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِالْجُزْءِ الْفَائِتِ وَذَلِكَ لِلْمُوَكِّلِ وَلَمْ يَصْدُرْ التَّوْكِيلُ بِالْقَبْضِ لِإِسْقَاطِهِ وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ لَا يَصْلُحُ مَقِيسًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَوَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِهِ بَعْدَمَا رَآهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَلَوْ سَلَّمَ بَقَاءَ الْخِيَارِ فَالْمُوَكِّلُ لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ التَّامَّ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِتَمَامِ الصَّفْقَةِ وَلَا تَتِمُّ الصَّفْقَةُ مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَالْخِيَارُ لَا يَسْقُطُ بِقَبْضِهِ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْخِيَارِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَذَا وَكِيلُهُ، وَقَيَّدَ بِالتَّامِّ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ يَمْلِكُ النَّاقِصَ فَإِنَّ الْقَبْضَ مَعَ بَقَاءِ الْخِيَارِ نَاقِصٌ كَمَا أَنَّهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ نَاقِصٌ، وَالرَّسُولُ لَيْسَ كَالْوَكِيلِ فَإِنَّ إتْمَامَ مَا أُرْسِلَ بِهِ لَيْسَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا إلَيْهِ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ كَالرَّسُولِ

ص: 347

وَخِيَارُ الشَّرْطِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمُوَكِّلُ لَا يَمْلِكُ التَّامَّ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِقَبْضِهِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْخِيَارِ يَكُونُ بَعْدَهُ، فَكَذَا لَا يَمْلِكُهُ وَكِيلُهُ، وَبِخِلَافِ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَإِنَّمَا إلَيْهِ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ، وَالتَّسْلِيمَ إذَا كَانَ رَسُولًا فِي الْبَيْعِ.

قَالَ (وَ‌

‌بَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ

جَائِزٌ وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا اشْتَرَى) لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ (ثُمَّ يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِجَسِّهِ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالْجَسِّ، وَيَشُمُّهُ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالشَّمِّ، وَيَذُوقُهُ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالذَّوْقِ) كَمَا فِي الْبَصِيرِ (وَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِي الْعَقَارِ حَتَّى يُوصَفَ لَهُ)

بِالْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ وَالتَّسْلِيمَ.

قَالَ (وَبَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ) بَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا (وَلَهُ الْخِيَارُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إنْ كَانَ بَصِيرًا فَعَمِيَ فَكَذَا الْجَوَابُ، وَإِنْ كَانَ أَكْمَهَ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْأَلْوَانِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِمُعَامَلَةِ النَّاسِ الْعُمْيَانِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَبِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ لَا يَمْلِكُ الْأَمْرَ بِهِ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا احْتَاجَ الْأَعْمَى إلَى مَا يَأْكُلُ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ شِرَاءِ الْمَأْكُولِ وَلَا التَّوْكِيلِ بِهِ مَاتَ جُوعًا وَفِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا لَا يَخْفَى. وَلَنَا (أَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ، وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ بِالْحَدِيثِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام " لَمْ يَرَهُ سَلْبٌ " وَهُوَ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْإِيجَابِ وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْبَصِيرِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مُعَامَلَةِ النَّاسِ الْعُمْيَانِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ

ص: 348

لِأَنَّ الْوَصْفَ يُقَامُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي السَّلَمِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ إذَا وَقَفَ فِي مَكَان لَوْ كَانَ بَصِيرًا لَرَآهُ وَقَالَ: قَدْ رَضِيتُ سَقَطَ خِيَارُهُ، لِأَنَّ التَّشَبُّهَ يُقَامُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ الْعَجْزِ كَتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ يُقَامُ مَقَامَ الْقِرَاءَةِ فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِجْرَاءُ الْمُوسَى مَقَامَ الْحَلْقِ فِي حَقِّ مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ فِي الْحَجِّ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: يُوَكِّلُ وَكِيلًا بِقَبْضِهِ وَهُوَ يَرَاهُ وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْوَكِيلِ كَرُؤْيَةِ الْمُوَكِّلِ عَلَى مَا مَرَّ آنِفًا.

فَإِنَّ ذَلِكَ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ، وَيَسْقُطُ خِيَارُهُ بِمُبَاشَرَةِ مَا هُوَ سَبَبُ الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ، فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يُعْلَمُ بِمَسِّهِ فَخِيَارُهُ يَسْقُطُ بِجَسِّهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُعْلَمُ بِالشَّمِّ فَبِشَمِّهِ وَبِذَوْقِهِ فِي الْمَذُوقَاتِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ شَجَرًا أَوْ ثَمَرًا عَلَى شَجَرٍ أَوْ عَقَارًا فَإِنَّ خِيَارَهُ لَا يَسْقُطُ حَتَّى يُوصَفَ لَهُ لِأَنَّ الْوَصْفَ يُقَامُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي السَّلَمِ. وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ بَلْخِي: يَمَسُّ الْحَائِطَ وَالْأَشْجَارَ، فَإِذَا بَاشَرَ بِسَبَبِ الْعِلْمِ أَوْ وُصِفَ لَهُ أَوْ وُصِفَ وَمَسَّ وَقَالَ رَضِيت سَقَطَ الْخِيَارُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ فِي مَكَان لَوْ كَانَ الْوَاقِفُ بَصِيرًا لَرَآهُ وَقَدْ قَالَ رَضِيت سَقَطَ خِيَارُهُ، لِأَنَّ التَّشَبُّهَ يَقُومُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ الْعَجْزِ كَتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ وَإِجْرَاءِ الْمُوسَى فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ وَالْأَصْلَعِ، وَإِطْلَاقُ الرِّوَايَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْوَصْفِ. قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَعْمَى: يَشْتَرِي الشَّيْءَ لَمْ يَرَهُ فَيَقُولُ قَدْ رَضِيت قَالَ: لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَإِنْ كَانَ فِي مَكَان لَوْ كَانَ بَصِيرًا لَرَآهُ ثُمَّ قَالَ قَدْ رَضِيته لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ.

وَقَالَ الْفَقِيهُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: يُوقَفُ فِي مَكَان لَوْ كَانَ بَصِيرًا لَرَآهُ وَمَعَ ذَلِكَ يُوصَفُ لَهُ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقَاوِيلِ، قَالَ: وَبِهِ نَأْخُذُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُوَكِّلُ وَكِيلًا يَقْبِضُهُ وَهُوَ يَرَاهُ. وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ كَرُؤْيَةِ الْمُوَكِّلِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ وُصِفَ لَهُ فَقَالَ رَضِيت ثُمَّ أَبْصَرَ فَلَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَمَّ وَسَقَطَ الْخِيَارُ فَلَا يَعُودُ. وَلَوْ اشْتَرَى بَصِيرًا ثُمَّ عَمِيَ انْتَقَلَ الْخِيَارُ إلَى الصِّفَةِ لِأَنَّ النَّاقِلَ لِلْخِيَارِ مِنْ النَّظَرِ إلَى صِفَةِ الْعَجْزِ، وَقَدْ اسْتَوَى فِي ذَلِكَ كَوْنُهُ أَعْمَى وَقْتَ الْعَقْدِ وَصَيْرُورَتُهُ أَعْمَى بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ.

ص: 349

قَالَ (وَمَنْ رَأَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَاشْتَرَاهُمَا ثُمَّ رَأَى الْآخَرَ جَازَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا) لِأَنَّ رُؤْيَةَ أَحَدِهِمَا لَا تَكُونُ رُؤْيَةَ الْآخَرِ لِلتَّفَاوُتِ فِي الثِّيَابِ فَبَقِيَ الْخِيَارُ فِيمَا لَمْ يَرَهُ، ثُمَّ لَا يَرُدُّهُ وَحْدَهُ بَلْ يَرُدُّهُمَا كَيْ لَا يَكُونَ تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَلِهَذَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا وَيَكُونُ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ.

قَالَ (وَمَنْ رَأَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَاشْتَرَاهُمَا) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ الْآحَادِ فِي الْبَيْعِ رُؤْيَةَ بَعْضِهَا لَا يُعَرِّفُ الْبَاقِيَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَعَلَى هَذَا إذَا رَأَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَاشْتَرَاهُمَا ثُمَّ رَأَى الْآخَرَ فَلَهُ الْخِيَارُ، لَكِنْ لَا يَرُدُّ الَّذِي رَآهُ وَحْدَهُ، بَلْ يَرُدُّهُمَا إنْ شَاءَ كَيْ لَا يَلْزَمَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا مَعْنَى تَمَامِ الصَّفْقَةِ، وَأَنَّهَا لَا تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَلِكَوْنِهَا غَيْرَ تَامَّةٍ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ الرَّدِّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا فَيَكُونُ الرَّدُّ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِصِفَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. فَإِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «نَهَى النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عَنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ» قِيلَ: تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ يَقْتَضِي رَدَّهُمَا جَمِيعًا إنْ شَاءَ، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ» الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الَّذِي لَمْ يَرَهُ وَحْدَهُ، فَمَا وَجْهُ تَرْجِيحِ حَدِيثِ النَّهْيِ عَلَى الْمُجِيزِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُوجِبَ النَّهْيِ مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ، وَمُوجِبَ الْمُجِيزِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرَّدَّ إذَا تَعَيَّبَ أَوْ أَعْتَقَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ أَوْ دَبَّرَهُ وَالْمُطَّرِدُ رَاجِحٌ وَبِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَالْمُحَرَّمُ رَاجِحٌ عَلَى الْمُبِيحِ، أَوْ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْمُبِيحِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَكْرِيرُ النَّسْخِ وَبِأَنَّ الرَّدَّ كَمَا كَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ؟ لِأَنَّ رَدَّ أَحَدِ الثَّوْبَيْنِ لَا يَكُونُ رَدًّا لِأَنَّهُ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لَا أَحَدَهُمَا، وَالرَّدُّ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمَرْدُودُ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ تَفْرِيقِهَا مُطْلَقًا، وَقَدْ قَيَّدْتُمْ بِمَا قَبْلَ التَّمَامِ فَيَكُونُ مَتْرُوكَ الظَّاهِرِ، وَمِثْلُهُ مَرْجُوحٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ عَنْ التَّفْرِيقِ وَالتَّقْيِيدِ بِمَا قَبْلَ التَّمَامِ بِالْقِيَاسِ عَلَى ابْتِدَاءِ الصَّفْقَةِ، فَإِنَّهُ إذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي شَيْئَيْنِ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْقَبُولَ فِي أَحَدِهِمَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْبَائِعِ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِضَمِّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ تَرْوِيجًا لَهُ بِالْجَيِّدِ، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ رَدِّ

ص: 350

وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بَطَلَ خِيَارُهُ) لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ عِنْدَنَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ (وَمَنْ رَأَى شَيْئًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْدَ مُدَّةٍ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي رَآهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ) لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَوْصَافِهِ حَاصِلٌ لَهُ بِالرُّؤْيَةِ السَّابِقَةِ، وَبِفَوَاتِهِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ

أَحَدِهِمَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ يَنْدَفِعُ مَا اسْتَشْكَلَ بِالِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ فَاسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا لَا يَرُدُّ الْبَاقِيَ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إذَا رَدَّ أَحَدَهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ الْآخَرِ أَيْضًا لِأَنَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ رَدَّ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ.

وَفِي فَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ تَتَفَرَّقْ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّمَامِ بَلْ تَمَّتْ فِيمَا كَانَ مِلْكُ الْبَائِعِ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا وَاحِدًا فَاسْتُحِقَّ بَعْضُهُ كَانَ لَهُ رَدُّ الْبَاقِي كَمَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمِعَةِ عَيْبٌ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَرْضَ بِهِ، لَكِنْ فِي صُورَةِ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ وِلَايَةُ رَدِّ الْبَاقِي لِدَفْعِ ضَرَرٍ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ، فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ. وَفِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ عَلَيْهِ رَدُّ الْآخَرِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ يَلْزَمُ الْبَائِعَ.

قَالَ (وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بَطَلَ خِيَارُهُ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ لِأَنَّهُ مَشِيئَةٌ، وَهُوَ عَرْضٌ وَالْعَرْضُ لَا يَنْتَقِلُ وَالْإِرْثُ فِيمَا يَنْتَقِلُ، فَكَذَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْبَحْثَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ مُسْتَوْفًى فَلَا يُحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ. قَالَ (وَمَنْ رَأَى شَيْئًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْدَ مُدَّةٍ، فَإِنْ كَانَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الَّتِي رَآهُ) عَلَيْهَا سَقَطَ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَوْصَافِهِ حَاصِلٌ لَهُ بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ السَّابِقَةِ، وَبِفَوَاتِ الْعِلْمِ بِالْأَوْصَافِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ، فَبَيْنَ الْعِلْمِ بِالْأَوْصَافِ

ص: 351

إلَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُهُ مَرْئِيَّهُ لِعَدَمِ الرِّضَا بِهِ (وَإِنْ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا فَلَهُ الْخِيَارُ) لِأَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ لَمْ تَقَعْ مُعْلِمَةً بِأَوْصَافِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّغَيُّرِ فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ حَادِثٌ وَسَبَبُ اللُّزُومِ ظَاهِرٌ،

وَثُبُوتِ الْخِيَارِ مُنَافَاةٌ، وَيَثْبُتُ أَحَدُ الْمُتَنَافِيَيْنِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْأَوْصَافِ بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ فَيَنْتَفِي الْآخَرُ وَهُوَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ إلَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي رَآهُ كَمَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا مَلْفُوفًا كَانَ رَآهُ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُشْتَرَى ذَلِكَ الْمَرْئِيُّ فَإِنَّ لَهُ الْخِيَارَ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ الرِّضَا بِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةَ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ عِلَّةَ انْتِفَاءِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَوْصَافِ، وَهَاهُنَا لَمَّا كَانَ الْمَبِيعُ مَرْئِيًّا مِنْ قَبْلُ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْهَا كَانَ الْعِلْمُ بِهَا حَاصِلًا فَلَا يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنَّ شَرْطَهُ الرِّضَا بِهِ وَحَيْثُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مَرْئِيُّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ وَإِنْ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ لَمْ تَقَعْ مُعَلَّمَةً بِأَوْصَافِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّغَيُّرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ التَّغَيُّرَ حَادِثٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِعَيْبٍ أَوْ تَبَدُّلِ هَيْئَةٍ وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَارِضٌ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِيهِ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ وَمُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ، لِأَنَّ سَبَبَ لُزُومِ الْعَقْدِ وَهُوَ رُؤْيَةُ جُزْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ هُوَ الرُّؤْيَةُ السَّابِقَةُ، وَقِيلَ هُوَ الْبَيْعُ الْبَاتُّ الْخَالِي عَنْ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ ظَاهِرٌ، وَالْأَصْلُ لُزُومُ الْعَقْدِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي

ص: 352

إلَّا إذَا بَعُدَتْ الْمُدَّةُ عَلَى مَا قَالُوا لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهَا أَمْرٌ حَادِثٌ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عِدْلَ زُطِّيٍّ وَلَمْ يَرَهُ فَبَاعَ مِنْهُ ثَوْبًا أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنْهَا إلَّا مِنْ عَيْبٍ، وَكَذَلِكَ خِيَارُ الشَّرْطِ)؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ فِيمَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ، وَفِي رَدِّ مَا بَقِيَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ يَمْنَعَانِ تَمَامَهَا، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتِمُّ قَبْلَهُ وَفِيهِ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ.

الْعَارِضِ (قَوْلُهُ إلَّا إذَا بَعُدَتْ الْمُدَّةُ عَلَى مَا قَالُوا) أَيْ الْمُتَأَخِّرُونَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُ، فَإِنَّ الشَّيْءَ يَتَغَيَّرُ بِطُولِ الزَّمَانِ، وَمَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً شَابَّةً رَآهَا فَاشْتَرَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِعِشْرِينَ سَنَةً وَزَعَمَ الْبَائِعُ أَنَّهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ كَانَ يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الرُّؤْيَةِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ: يَعْنِي إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي رُؤْيَةِ الْمُشْتَرِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْعِلْمَ بِالصِّفَاتِ وَأَنَّهُ حَادِثٌ، وَالْمُشْتَرِيَ مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عِدْلَ زُطِّيٍّ) الْعِدْلُ بِالْكَسْرِ الْمِثْلُ، وَمِنْهُ عِدْلُ الْمَتَاعِ. وَالزُّطُّ: جِيلٌ مِنْ الْهِنْدِ يُنْسَبُ إلَيْهِمْ الثِّيَابُ الزُّطِّيَّةُ. وَمَنْ اشْتَرَى عِدْلَ زُطِّيٍّ وَلَمْ يَرَهُ وَقَبَضَهُ فَبَاعَ مِنْهُ ثَوْبًا، كَذَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَهُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبِضْ لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَبَاعَ مِنْهُ ثَوْبًا أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنْهَا: أَيْ مِنْ الثِّيَابِ الزُّطِّيَّةِ إلَّا مِنْ عَيْبٍ. ذَكَّرَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يَرَهُ وَغَيْرِهِ نَظَرًا إلَى الْعِدْلِ، وَأَنَّثَ فِي قَوْلِهِ مِنْهَا نَظَرًا إلَى الثِّيَابِ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ مِنْهُ ثَوْبًا لَمْ يَبْقَ عِدْلًا بَلْ ثِيَابًا مِنْ الْعِدْلِ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى عِدْلَ زُطِّيٍّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَقَبَضَهُ وَبَاعَ ثَوْبًا مِنْهُ أَوْ وَهَبَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّدَّ تَعَذَّرَ فِيمَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ، وَفِي رَدِّ مَا بَقِيَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ لِأَنَّ الْخِيَارَيْنِ يَمْنَعَانِ تَمَامَهَا كَمَا مَرَّ.

وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَهَا بَعْدَ

ص: 353

فَلَوْ عَادَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ فَهُوَ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ بَعْدَ سُقُوطِهِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْقُدُورِيُّ.

(بَابُ خِيَارِ الْعَيْبِ)

الْقَبْضِ، وَفِيهِ وَضْعُ مُحَمَّدٍ الْمَسْأَلَةَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَا جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ (فَلَوْ عَادَ) الثَّوْبُ الَّذِي بَاعَهُ (إلَى الْمُشْتَرِي بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ) بِأَنْ رَدَّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالْعَيْبِ بِالْقَضَاءِ أَوْ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ فَهُوَ أَيْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ أَوْ الْوَاهِبُ عَلَى خِيَارِهِ، فَجَازَ أَنْ يَرُدَّ الْكُلَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِارْتِفَاعِ الْمَانِعِ مِنْ الْأَصْلِ وَهُوَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ (كَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لَا يَعُودُ بَعْدَ سُقُوطِهِ) لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ (كَخِيَارِ الشَّرْطِ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْقُدُورِيُّ).

(بَابُ خِيَارِ الْعَيْبِ):

أَخَّرَ خِيَارَ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ اللُّزُومَ بَعْدَ التَّمَامِ، وَإِضَافَةُ الْخِيَارِ إلَى الْعَيْبِ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى سَبَبِهِ. إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وَصْفَ السَّلَامَةِ: أَيْ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ الْعَيْبِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ عَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ عَبْدًا وَكَتَبَ فِي عُهْدَتِهِ هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ عَبْدًا

ص: 354

(وَإِذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ) فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وَصْفَ السَّلَامَةِ، فَعِنْدَ فَوْتِهِ يَتَخَيَّرُ

لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ» وَتَفْسِيرُ الدَّاءِ فِيمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَرَضُ فِي الْجَوْفِ وَالْكَبِدِ وَالرِّئَةِ فَإِنَّ الْمَرَضَ مَا يَكُونُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ وَالدَّاءُ مَا يَكُونُ فِي الْجَوْفِ وَالْكَبِدِ وَالرِّئَةِ. وَفِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: الدَّاءُ الْمَرَضُ، وَالْغَائِلَةُ مَا تَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ كَالْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ، وَالْخِبْثَةُ هِيَ الِاسْتِحْقَاقُ، وَقِيلَ هِيَ الْجُنُونُ، وَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْ الْعَيْبِ، وَوَصْفُ السَّلَامَةِ يَفُوتُ بِوُجُودِ الْعَيْبِ، فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَتَخَيَّرُ لِأَنَّ الرِّضَا دَاخِلٌ فِي حَقِيقَةِ الْبَيْعِ، وَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَنْتَفِي الرِّضَا فَيَتَضَرَّرُ بِلُزُومِ مَا لَا يَرْضَى بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: تَقْرِيرُ كَلَامِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْبَيْعِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ إذَا اقْتَضَى وَصْفَ السَّلَامَةِ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لَهُ، فَإِذَا فَاتَ اللَّازِمُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَهُوَ الْعَقْدُ

ص: 355

كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ بِلُزُومِ مَا لَا يَرْضَى بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فِي مُجَرَّدِ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِأَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي مُمْكِنٌ بِالرَّدِّ بِدُونِ تَضَرُّرِهِ، وَالْمُرَادُ عَيْبٌ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ وَلَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْبَيْعِ وَلَا عِنْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رِضًا بِهِ. .

اللَّازِمُ، وَمِنْ انْتِفَائِهِ لَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْعَقْدِ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ) لِأَنَّ الْفَائِتَ وَصْفٌ، إذْ الْعَيْبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَا يُوجِبُ فَوَاتَ جُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ كَالْعَمَى وَالْعَوَرِ وَالشَّلَلِ وَالزَّمَانَةِ وَالْأُصْبُعِ النَّاقِصَةِ وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ وَالسِّنِّ السَّاقِطَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ مَعْنًى لَا صُورَةً كَالسُّعَالِ الْقَدِيمِ وَارْتِفَاعِ الْحَيْضِ فِي زَمَانِهِ وَالزِّنَا وَالدَّفَرِ وَالْبَخَرِ فِي الْجَارِيَةِ

وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَوَاتُ وَصْفٍ وَالْأَوْصَافُ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ إمَّا أَنْ يُقَابَلَ بِالْوَصْفِ وَالْأَصْلِ أَوْ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي أَوْ بِالْعَكْسِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى مُزَاحَمَةِ التَّبَعِ الْأَصْلَ فَتَعَيَّنَ الثَّالِثُ (قَوْلُهُ فِي مُجَرَّدِ الْعَقْدِ) احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَتْ الْأَوْصَافُ مَقْصُودَةً بِالتَّنَاوُلِ كَمَا تَقَدَّمَ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِهِ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إمْسَاكِهِ بِأَخْذِ النُّقْصَانِ أَيْ قِيمَتِهِ

ص: 356

قَالَ (وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ فَهُوَ عَيْبٌ)؛ لِأَنَّ التَّضَرُّرَ بِنُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ، وَذَلِكَ بِانْتِقَاصِ الْقِيمَةِ وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَتِهِ عُرْفُ أَهْلِهِ.

(وَالْإِبَاقُ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ وَالسَّرِقَةُ فِي الصَّغِيرِ عَيْبٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ، فَإِذَا بَلَغَ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبٍ حَتَّى يُعَاوِدَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ) وَمَعْنَاهُ: إذَا ظَهَرَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ فِي صِغَرِهِ ثُمَّ حَدَثَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي صِغَرِهِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ ذَلِكَ، وَإِنْ حَدَثَتْ بَعْدَ بُلُوغِهِ لَمْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ

أَوْ أَرْشِهِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِأَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى، وَفِي إمْسَاكِهِ وَأَخْذِ النُّقْصَانِ زَوَالُهُ بِالْأَقَلِّ فَلَمْ يَكُنْ مَرْضِيَّهُ، وَعَدَمُ رِضَا الْبَائِعِ بِزَوَالِ الْمَبِيعِ مُنَافٍ لِوُجُودِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ إلْزَامًا عَلَى الْبَائِعِ بِلَا بَيْعٍ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى، وَالْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِالْعَيْبِ أَيْضًا لَكِنْ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بِرَدِّ الْمَبِيعِ بِدُونِ مَضَرَّةٍ فَلَا ضَرُورَةَ فِي أَخْذِ النُّقْصَانِ. قِيلَ: الْبَائِعُ إذَا بَاعَ مَعِيبًا فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ الْبَائِعُ يَتَضَرَّرُ لِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ نَقَصَ الثَّمَنُ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مَعِيبٌ وَلَا خِيَارَ لَهُ. وَعَلَى هَذَا فَالْوَاجِبُ إمَّا شُمُولُ الْخِيَارِ لَهُمَا أَوْ عَدَمُهُ لَهُمَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَتَصَرُّفِهِ وَمُمَارَسَتِهِ طُولَ زَمَانِهِ فَأُنْزِلَ عَالِمًا بِصِفَةِ مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ وَإِنْ ظَهَرَ بِخِلَافِهِ.

وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ مَا رَأَى الْمَبِيعَ، فَلَوْ أَلْزَمْنَا الْعَقْدَ مَعَ الْعَيْبِ تَضَرَّرَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ حَصَلَ لَهُ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْعَيْبِ الْمُوجِبِ لِلْخِيَارِ عَيْبٌ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ وَلَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْبَيْعِ وَلَا عِنْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ: أَيْ رُؤْيَةَ الْعَيْبِ عِنْدَ إحْدَى الْحَالَيْنِ رِضًا بِالْعَيْبِ دَلَالَةً

قَالَ (وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ) الْعَيْبُ مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله ضَابِطَةً كُلِّيَّةً يُعْلَمُ بِهَا الْعُيُوبُ الْمُوجِبَةُ لِلْخِيَارِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فَقَالَ (وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ فَهُوَ عَيْبٌ لِأَنَّ التَّضَرُّرَ بِنُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ) وَنُقْصَانُ الْمَالِيَّةِ (بِانْتِقَاصِ الْقِيمَةِ، فَالنَّقْصُ بِانْتِقَاصِ الْقِيمَةِ وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَتِهِ عُرْفُ أَهْلِهِ).

قَالَ (وَالْإِبَاقُ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ وَالسَّرِقَةُ عَيْبٌ فِي الصَّغِيرِ) الَّذِي

ص: 357

الْأَشْيَاءِ يَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ فِي الصِّغَرِ لِضَعْفِ الْمَثَانَةِ، وَبَعْدَ الْكِبَرِ لِدَاءٍ فِي بَاطِنِهِ، وَالْإِبَاقُ فِي الصِّغَرِ لِحُبِّ اللَّعِبِ وَالسَّرِقَةُ لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ، وَهُمَا بَعْدَ الْكِبَرِ لِخُبْثٍ فِي الْبَاطِنِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الصَّغِيرِ مَنْ يَعْقِلُ، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَهُوَ ضَالٌّ لَا آبِقٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ عَيْبًا. .

يَعْقِلُ إذَا أَبَقَ مِنْ مَوْلَاهُ مَا دُونَ السَّفَرِ مِنْ الْمِصْرِ إلَى الْقَرْيَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَذَلِكَ عَيْبٌ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْمَنَافِعَ عَلَى الْمَوْلَى، وَالسَّفَرُ وَمَا دُونَهُ فِيهِ سَوَاءٌ، فَلَوْ أَبَقَتْ الْجَارِيَةُ مِنْ الْغَاصِبِ إلَى مَوْلَاهَا فَلَيْسَ بِإِبَاقٍ، وَإِنْ أَبَقَتْ مِنْهُ وَلَمْ تَرْجِعْ إلَى مَوْلَاهَا عَالِمَةً بِمَنْزِلِهِ وَتَقْوَى عَلَى الرُّجُوعِ إلَيْهِ فَهُوَ عَيْبٌ، وَإِنْ فَاتَ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ بِعَيْبٍ، وَإِذَا بَالَ فِي الْفِرَاشِ وَهُوَ مُمَيِّزٌ يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَشْرَبُ وَحْدَهُ فَكَذَلِكَ، وَإِذَا سَرَقَ دِرْهَمًا مِنْ مَوْلَاهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ لِإِخْلَالِهَا بِالْمَقْصُودِ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُهُ عَلَى مَالِهِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ مَالِهِ عَلَى الدَّوَامِ وَتُقْطَعُ يَدُهُ فِي سَرِقَةِ مَالِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ عَيْبًا بِلَا تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْمَوْلَى وَغَيْرِهِ إلَّا فِي الْمَأْكُولَاتِ لِلْأَكْلِ، فَإِنْ سَرَقَهَا مِنْ مَوْلَاهَا لَيْسَتْ بِعَيْبٍ، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ الصَّغِيرِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي حَالِ صِغَرِهِ فَهُوَ عَيْبٌ يُرَدُّ بِهِ، وَإِذَا وُجِدَتْ عِنْدَهُمَا فِي حَالِ كِبَرِهِ فَكَذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ فَكَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فِي صِغَرِهِ وَعِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي كِبَرِهِ فَلَا يُرَدُّ بِهِ لِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُخْتَلِفٌ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ عَلَى

ص: 358

قَالَ (وَالْجُنُونُ فِي الصِّغَرِ عَيْبٌ أَبَدًا) وَمَعْنَاهُ: إذَا جُنَّ فِي الصِّغَرِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ عَاوَدَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ أَوْ فِي الْكِبَرِ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْأَوَّلِ، إذْ السَّبَبُ فِي الْحَالَيْنِ مُتَّحِدٌ وَهُوَ فَسَادُ الْبَاطِنِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ الْمُعَاوَدَةَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إزَالَتِهِ وَإِنْ كَانَ قَلَّمَا يَزُولُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُعَاوَدَةِ لِلرَّدِّ. .

مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ.

قَالَ (وَالْجُنُونُ فِي الصِّغَرِ عَيْبٌ أَبَدًا) مَعْنَاهُ: أَنَّ الْجُنُونَ فَارَقَ الْعُيُوبَ الْمَذْكُورَةَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْحَالَتَيْنِ، لِأَنَّ السَّبَبَ فِي الْحَالَتَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ فَسَادُ الْبَاطِنِ، فَإِذَا جُنَّ فِي يَدِ الْبَائِعِ فِي صِغَرِهِ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً ثُمَّ عَاوَدَهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي كِبَرِهِ يُرَدُّ بِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُعَاوَدَةَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِشَرْطٍ كَمَا مَالَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُنْتَقَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ آثَارَهُ لَا تَرْتَفِعُ، وَذَلِكَ تَبَيَّنَ فِي حَمَالِيقِ عَيْنَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إزَالَتِهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِهِ شَيْءٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ فَلَا يَثْبُتُ وِلَايَةُ الرَّدِّ إلَّا بِالْمُعَاوَدَةِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ

ص: 359

(قَالَ: وَالْبَخَرُ وَالدَّفْرُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ يَكُونُ الِاسْتِفْرَاشَ وَطَلَبَ الْوَلَدِ وَهُمَا يُخِلَّانِ بِهِ، وَلَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِاسْتِخْدَامُ وَلَا يُخِلَّانِ بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ دَاءٍ؛ لِأَنَّ الدَّاءَ عَيْبٌ (وَالزِّنَا وَوَلَدُ الزِّنَا عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الْغُلَامِ)؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ فِي الْجَارِيَةِ وَهُوَ الِاسْتِفْرَاشُ وَطَلَبُ الْوَلَدِ، وَلَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ فِي الْغُلَامِ وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ

فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ.

قَالَ (وَالدَّفَرُ وَالْبَخَرُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ) الدَّفَرُ: رَائِحَةٌ مُؤْذِيَةٌ تَجِيءُ مِنْ الْإِبِطِ، وَالذَّفَرُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ: شِدَّةُ الرَّائِحَةِ طَيِّبَةً كَانَتْ أَوْ كَرِيهَةً، وَمِنْهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ وَإِبِطٌ دَفْرَاءُ وَهُوَ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ الدَّفَرُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ، وَهَكَذَا فِي الرِّوَايَةِ. وَالْبَخَرُ: نَتْنُ رَائِحَةِ الْفَمِ، كُلٌّ مِنْهَا عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ لِلْإِخْلَالِ بِمَا عَسَى يَكُونُ مَقْصُودًا وَهُوَ الِاسْتِفْرَاشُ، وَلَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْغُلَامِ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْخِدْمَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا لَا يَكُونُ فِي النَّاسِ مِثْلُهُ. لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ دَاءٍ وَالدَّاءُ نَفْسُهُ يَكُونُ عَيْبًا، وَالزِّنَا وَوَلَدُ الزِّنَا عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الْغُلَامِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُخِلُّ بِالِاسْتِفْرَاشِ وَالثَّانِي بِطَلَبِ الْوَلَدِ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يُعَيَّرُ بِزِنَا أُمِّهِ وَلَيْسَا بِمُخِلَّيْنِ

ص: 360

إلَّا أَنْ يَكُونَ الزِّنَا عَادَةً لَهُ عَلَى مَا قَالُوا؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُنَّ يُخِلُّ بِالْخِدْمَةِ.

قَالَ (وَالْكُفْرُ عَيْبٌ فِيهِمَا)؛ لِأَنَّ طَبْعَ الْمُسْلِمِ يَنْفِرُ عَنْ صُحْبَتِهِ. وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ صَرْفُهُ فِي بَعْضِ الْكَفَّارَاتِ فَتَخْتَلُّ الرَّغْبَةُ، فَلَوْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فَوَجَدَهُ مُسْلِمًا لَا يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ زَوَالُ الْعَيْبِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْمُسْلِمُ، وَفَوَاتُ الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ. .

فِي الْمَقْصُودِ مِنْ الْغُلَامِ وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ، إلَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى مَا قَالَ الْمَشَايِخُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ عَادَةً وَيُحْتَاجُ إلَى اتِّبَاعِهِنَّ وَهُوَ مُخِلٌّ بِالْخِدْمَةِ.

قَالَ (وَالْكُفْرُ عَيْبٌ فِيهِمَا) الْكُفْرُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ لِأَنَّ طَبْعَ الْمُسْلِمِ يَنْفِرُ عَنْ صُحْبَتِهِ، وَالنُّفْرَةُ عَنْ الصُّحْبَةِ تُؤَدِّي إلَى قِلَّةِ الرَّغْبَةِ وَهِيَ تُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الثَّمَنِ فَيَكُونُ عَيْبًا، وَلِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَرْفَهُ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ بِالِاتِّفَاقِ، وَعَنْ كَفَّارَتَيْ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ عِنْدَ بَعْضٍ فَيُخِلُّ بِالرَّغْبَةِ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَوَجَدَهُ كَافِرًا فَلَا شُبْهَةَ فِي الرَّدِّ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فَوَجَدَهُ مُسْلِمًا لَمْ يُرَدَّ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ زَوَالُ الْعَيْبِ وَزَوَالُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إيَّاهُ، كَمَا إذَا اشْتَرَى مَعِيبًا فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ، فَعَلَى هَذَا ذَكَرَ الْكُفْرَ فِيمَا اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ لِلْبَرَاءَةِ عَنْ عَيْبِ الْكُفْرِ لَا لِلشَّرْطِ بِأَنْ يُوجَدَ فِيهِ هَذَا الْوَصْفُ الْقَبِيحُ لَا مَحَالَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُرَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ فَاتَ شَرْطٌ مَرْغُوبٌ، لِأَنَّ الْأَوْلَى بِالْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَعْبِدَ الْكَافِرَ وَكَانَ السَّلَفُ يَسْتَعْبِدُونَ الْعُلُوجَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ رَاجِعٌ إلَى الدِّيَانَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ.

فَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَالِغَةً لَا تَحِيضُ بِأَنْ ارْتَفَعَ عَنْهَا فِي أَقْصَى غَايَةِ الْبُلُوغِ وَهُوَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فِيهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَادَّعَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَوْ سَنَتَيْنِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رحمهم الله أَنَّهَا لَمْ تَحِضْ لِحَبَلٍ بِهَا أَوْ لِدَاءٍ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا تُرَدُّ بِهِ، وَالْمَرْجِعُ فِي الْحَبَلِ قَوْلُ النِّسَاءِ. وَيُكْتَفَى بِقَوْلِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حَقِّ سَمَاعِ الْخُصُومَةِ، وَفِي الدَّاءِ قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ عَدْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْمُعِينِ: يَكْفِي قَوْلُ عَدْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَقَيَّدْنَا بِأَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، لِأَنَّهُ إذَا ادَّعَى فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ لَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْإِصْغَاءُ إلَى ذَلِكَ، وَبِأَنْ تَكُونَ دَعْوَاهُ مُشْتَمِلَةً عَلَى انْضِمَامِ الْحَبَلِ إلَى انْقِطَاعِ الْحَيْضِ، أَوْ عَلَى انْضِمَامِ الدَّاءِ إلَيْهِ لِأَنَّ الِارْتِفَاعَ بِدُونِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُعَدُّ عَيْبًا، وَكَذَا إذَا بَلَغَتْ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ وَحَاضَتْ

ص: 361

(قَالَ: فَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَالِغَةً لَا تَحِيضُ أَوْ مُسْتَحَاضَةً فَهُوَ عَيْبٌ)؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الدَّمِ وَاسْتِمْرَارَهُ عَلَامَةُ الدَّاءِ، وَيُعْتَبَرُ فِي الِارْتِفَاعِ أَقْصَى غَايَةِ الْبُلُوغِ وَهُوَ سَبْعَ عَشَرَةَ سَنَةً فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْأَمَةِ فَتُرَدُّ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ نُكُولُ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ. .

وَلَمْ يَنْقَطِعْ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا، لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الدَّمِ وَاسْتِمْرَارَهُ عَلَامَةُ الدَّاءِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الَّتِي خُلِقَتْ عَلَى السَّلَامَةِ الْحَيْضُ فِي أَوَانِهِ وَالْمُعَاوَدَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَدُومُ، فَإِذَا جَاوَزَتْ أَقْصَى الْعَدَدِ وَهُوَ سَبْعَةَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ تَحِضْ أَوْ حَاضَتْ وَلَمْ يَنْقَطِعْ كَانَ ذَلِكَ لِدَاءٍ فِي بَطْنِهَا وَالدَّاءُ عَيْبٌ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ: أَيْ الِارْتِفَاعُ وَالِاسْتِمْرَارُ بِقَوْلِ الْأَمَةِ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ ذَلِكَ لَا تُرَدُّ عَلَيْهِ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْأَمَةِ وَحْدَهَا فَيُسْتَحْلَفُ الْبَائِعُ، فَإِنْ نَكَلَ تُرَدُّ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مَقْبُولَةٌ فِي تَوَجُّهِ

ص: 362

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْخُصُومَةِ فَقَطْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُرَدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِقَوْلِ الْأَمَةِ وَبِشَهَادَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَتَأَكَّدْ

ص: 363

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 364

(قَالَ: وَإِذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِيَ عَيْبٌ فَاطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ وَلَا يَرُدُّ الْمَبِيعَ)؛ لِأَنَّ فِي الرَّدِّ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ سَالِمًا، وَيَعُودُ مَعِيبًا فَامْتَنَعَ، وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَتَعَيَّنَ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْبِهِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالضَّرَرِ. .

فَجَازَ أَنْ يُفْسَخَ بِشَهَادَتِهِنَّ

(قَالَ: وَإِذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ) إذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ بِأَنْ يُقَوَّمَ الْمَبِيعُ سَلِيمًا عَنْ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ وَمَعِيبًا بِهِ فَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ عُشْرٍ أَوْ ثُمُنٍ أَوْ سُدُسٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ (وَلَا يُرَدُّ الْمَبِيعُ لِأَنَّ فِي الرَّدِّ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ) بِخُرُوجِ الْمَبِيعِ مِنْ مِلْكِهِ سَلِيمًا مِنْ الْعَيْبِ الْحَادِثِ وَعَوْدِهِ إلَيْهِ مَعِيبًا بِهِ وَالْإِضْرَارُ مُمْتَنِعٌ (وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْبَائِعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ أَيْضًا يَتَضَرَّرُ بِالْمَعِيبِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ، وَالرُّجُوعُ طَرِيقٌ صَالِحٌ لِلدَّفْعِ فَتَعَيَّنَ مِدْفَعًا، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْبِهِ الْحَادِثِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالضَّرَرِ، وَالرِّضَا إسْقَاطٌ لِحَقِّهِ كَمَا أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْضَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْبِهِ الْقَدِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ قَوْلُكُمْ الْأَوْصَافُ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ. أُجِيبَ بِأَنَّهَا إذَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالتَّنَاوُلِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَانَ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ كَمَا مَرَّ.

ص: 365

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا رَجَعَ بِالْعَيْبِ)؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِالْقَطْعِ فَإِنَّهُ عَيْبٌ حَادِثٌ (فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ: أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ) وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ (فَوَجَدَهُ مَعِيبًا رَجَعَ بِالْعَيْبِ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِالْقَطْعِ) الَّذِي هُوَ عَيْبٌ حَادِثٌ. لَا يُقَالُ: الْبَائِعُ يَتَضَرَّرُ بِرَدِّهِ مَعِيبًا وَالْمُشْتَرِي بِعَدَمِ رَدِّهِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ تَرْجِيحَ جَانِبِ الْمُشْتَرِي فِي دَفْعِ الضَّرَرِ لِأَنَّ الْبَائِعَ غَرَّهُ بِتَدْلِيسِ الْعَيْبِ. لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَعْصِيَةُ لَا تَمْنَعُ عِصْمَةَ الْمَالِ كَالْغَاصِبِ إذَا صَبَغَ الْمَغْصُوبَ فَكَانَ فِي شَرْعِ الرُّجُوعِ بِالْعَيْبِ نَظَرٌ لَهُمَا، وَفِي إلْزَامِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ إضْرَارٌ لِلْبَائِعِ لَا لِفِعْلٍ بَاشَرَهُ، وَفِي عَدَمِ الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ إضْرَارًا بِالْمُشْتَرِي لَكِنْ لِعَجْزِهِ بِمَا بَاشَرَهُ فَكَانَا سَوَاءً فَاعْتُبِرَ مَا هُوَ أَنْظَرُ لَهُمَا، إلَّا إذَا قَالَ الْبَائِعُ أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ فَإِنَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ الرَّدِّ كَانَ لِحَقِّهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ فَكَانَ إسْقَاطًا لِحَقِّهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَى بَعِيرًا فَنَحَرَهُ فَلَمَّا شَقَّ بَطْنَهُ وَجَدَ أَمْعَاءَهُ فَاسِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. أُجِيبَ بِأَنَّ النَّحْرَ إفْسَادٌ لِلْمَالِيَّةِ لِصَيْرُورَةِ الْبَعِيرِ بِهِ عُرْضَةً لِلنَّتْنِ وَالْفَسَادِ، وَلِهَذَا لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ بِسَرِقَتِهِ فَيَخْتَلُّ مَعْنَى قِيَامِ الْمَبِيعِ، فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي يَعْنِي بَعْدَ الْقَطْعِ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ كُنْت أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ الرَّدُّ مُمْتَنِعًا بِرِضَا الْبَائِعِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَصِيرُ بِالْعَيْبِ حَابِسًا الْمَبِيعَ وَلَا رُجُوعَ بِالنُّقْصَانِ إذْ ذَاكَ لِإِمْكَانِ رَدِّ الْمَبِيعِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ لَوْلَا الْبَيْعُ، وَلَوْ قَطَعَ الثَّوْبَ وَخَاطَهُ أَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ لَتَّ السَّوِيقَ بِسَمْنٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الرَّدَّ قَدْ امْتَنَعَ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ، لِأَنَّ الْفَسْخَ إمَّا أَنْ

ص: 366

لِحَقِّهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ (فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)؛ لِأَنَّ الرَّدَّ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ بِرِضَا الْبَائِعِ فَيَصِيرُ هُوَ بِالْبَيْعِ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ فَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ (فَإِنْ قَطَعَ الثَّوْبَ وَخَاطَهُ أَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ، أَوْ لَتَّ السَّوِيقَ بِسَمْنٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِهِ) لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الْفَسْخِ فِي الْأَصْلِ بِدُونِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، وَلَا وَجْهَ إلَيْهِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ فَامْتَنَعَ أَصْلًا (وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهُ)؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الشَّرْعِ لَا لِحَقِّهِ (فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا رَأَى الْعَيْبَ رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ)؛ لِأَنَّ الرَّدَّ مُمْتَنِعٌ أَصْلًا قَبْلَهُ فَلَا يَكُونُ بِالْبَيْعِ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ.

وَعَنْ هَذَا

يَرِدَ عَلَى الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ أَوْ عَلَيْهِ مَعَهَا وَلَا سَبِيلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ وَالْفَسْخُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَحَلِّ الْعَقْدِ وَالِامْتِنَاعُ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ فِي حَقِّ الشَّرْعِ لِكَوْنِهِ رِبًا فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ أَنَا آخُذُهُ فَتَعَيَّنَ الرُّجُوعُ بِالْعَيْبِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ. وَلَا يُشْكِلُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْبَيْعِ كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ فِي الزِّيَادَةِ مُمْكِنٌ تَبَعًا لِلْأَصْلِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَا تَمَحَّضَتْ تَبَعًا لِلْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ التَّوَلُّدِ. بِخِلَافِ الصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الزِّيَادَةَ إمَّا مُتَّصِلَةٌ أَوْ مُنْفَصِلَةٌ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْمَبِيعِ أَوْ غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ. فَالْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْ الْمَبِيعِ كَالْجَمَالِ وَالْحُسْنِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ تَمْنَعُ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ تَمْنَعُ مِنْهُ لِمَا مَرَّ مِنْ التَّعْلِيلِ، وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالْكَسْبِ لَا تَمْنَعُ، لَكِنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ أَنْ يُفْسَخَ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ وَتُسَلَّمُ الزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي مَجَّانًا، بِخِلَافِ الْوَلَدِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكَسْبَ لَيْسَ بِمَبِيعٍ بِحَالٍ مَا لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ الْمَنَافِعِ، وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ الْأَعْيَانِ وَلِهَذَا كَانَتْ مَنَافِعُ الْحُرَّةِ مَالًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحُرُّ مَالًا وَالْوَلَدُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْمَبِيعِ فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْمَبِيعِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسَلَّمَ لَهُ مَجَّانًا لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّبَا، فَإِنْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الثَّوْبَ الْمَخِيطَ أَوْ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ بِالْحُمْرَةِ أَوْ السَّوِيقَ الْمَلْتُوتَ بِالسَّمْنِ بَعْدَ مَا رَأَى الْعَيْبَ رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ الرَّدَّ كَانَ مُمْتَنِعًا قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ حَابِسًا بِالْمَبِيعِ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ كَانَ حَابِسًا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِيهِ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَيُمْكِنُهُ الرَّدُّ بِرِضَا الْبَائِعِ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِيهِ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَيُمْكِنُهُ الرَّدُّ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ

(وَعَنْ هَذَا) أَيْ عَمَّا قُلْنَا إنَّ الْمُشْتَرِيَ مَتَى

ص: 367

(قُلْنَا: إنَّ مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ لِبَاسًا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَخَاطَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ، وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ حَصَلَ فِي الْأَوَّلِ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ، وَفِي الثَّانِيَ بَعْدَهَا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ). .

كَانَ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ لَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ حَابِسًا يَرْجِعُ (قُلْنَا: إنَّ مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ لِبَاسًا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَخَاطَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ) لِأَنَّ التَّمْلِيكَ حَصَلَ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَطَعَهُ لِبَاسًا لَهُ كَانَ وَاهِبًا لَهُ وَقَابِضًا لِأَجَلِهِ فَتَتِمُّ الْهِبَةُ بِنَفْسِ الْإِيجَابِ وَقَامَتْ يَدُهُ مَقَامَ يَدِ الصَّغِيرِ. فَالْقَطْعُ عَيْبٌ حَادِثٌ وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ، لَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَطْعَ لِلْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَهُوَ تَمْلِيكٌ لَهُ صَارَ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ بِالْعَيْبِ، وَهَذِهِ نَظِيرُ مَا إذَا بَاعَ بَعْدَ الْقَطْعِ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ، وَعَلَى هَذَا ذَكَرَ الْخِيَاطَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهَا بِمُقَابَلَةِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ (وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ) لِأَنَّ الْقَطْعَ عَيْبٌ حَادِثٌ، فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالْعَيْبِ وَبِالْخِيَاطَةِ امْتَنَعَ الرُّجُوعُ حَقًّا لِلشَّرْعِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ، فَبِالتَّمْلِيكِ وَالتَّسْلِيمِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ قَبْلَهُ، وَهَذِهِ نَظِيرُ مَا إذَا بَاعَهُ بَعْدَ الْخِيَاطَةِ وَالصَّبْغِ وَاللَّتِّ.

ص: 368

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ أَوْ مَاتَ عِنْدَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِهِ) أَمَّا الْمَوْتُ؛ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَهِي بِهِ وَالِامْتِنَاعُ حُكْمِيٌّ لَا يَفْعَلُهُ، وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَرْجِعَ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَالْقَتْلِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنْهَاءُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَا خُلِقَ فِي الْأَصْلِ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ مُوَقَّتًا إلَى الْإِعْتَاقِ فَكَانَ إنْهَاءً فَصَارَتْ كَالْمَوْتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ

قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ) اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ (أَوْ مَاتَ عِنْدَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ أَمَّا الْمَوْتُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَهِي بِهِ) أَيْ يَتِمُّ، وَكُلُّ مَا انْتَهَى فَقَدْ لَزِمَ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ حِينَئِذٍ، وَفِيهِ إضْرَارٌ لِلْمُشْتَرِي بِمَا لَيْسَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ فَيَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ (وَالِامْتِنَاعُ حُكْمِيٌّ لَا بِفِعْلِهِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ إذَا كَانَ بِفِعْلِهِ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ أَحْمَرَ فَإِنَّهُ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِفِعْلِهِ وَيُوجِبُ الرُّجُوعَ بِالْعَيْبِ. أُجِيبَ بِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ هُنَاكَ بِسَبَبِ وُجُودِ زِيَادَةٍ فِي الْمَبِيعِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَكَانَ الِامْتِنَاعُ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَهُوَ شُبْهَةُ الرِّبَا. وَرُدَّ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: وَالِامْتِنَاعُ حُكْمِيٌّ لَا يَفْعَلُهُ الَّذِي لَا يُوجِبُ الزِّيَادَةَ، وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَوَابِ عَدَمُ الرَّدِّ فِي الصَّبْغِ بِمَا حَصَلَ مِنْ فِعْلِهِ مِنْ وُجُودِ الزِّيَادَةِ فِي الْمَبِيعِ لَا بِفِعْلِهِ، وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَرْجِعَ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ بِفِعْلِهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، لِأَنَّهُ لَمَّا اكْتَسَبَ بِسَبَبِ تَعَذُّرِ الرَّدِّ كَانَ حَابِسًا حُكْمًا فَكَأَنَّهُ فِي يَدِهِ يَحْبِسُهُ وَيُرِيدُ الرُّجُوعَ فَصَارَ كَالْقَتْلِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَرْجِعُ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنْهَاءُ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَا خَلَفَ فِي الْأَصْلِ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ مُوَقَّتًا إلَى وَقْتِ الْإِعْتَاقِ وَالْمُوَقَّتُ إلَى وَقْتٍ يَنْتَهِي بِانْتِهَائِهِ، فَكَانَ الْإِعْتَاقُ إنْهَاءً كَالْمَوْتِ (قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ جَوَازُ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَقَرَّرُ بِانْتِهَائِهِ

ص: 369

يَتَقَرَّرُ بِانْتِهَائِهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ وَالرَّدَّ مُتَعَذِّرٌ. وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ بِمَنْزِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ النَّقْلُ مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ بِالْأَمْرِ الْحُكْمِيِّ (وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)؛ لِأَنَّهُ حَبَسَ بَدَلَهُ وَحَبْسُ الْبَدَلِ كَحَبْسِ الْمُبْدَلِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهُ يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ. .

(فَإِنْ قَتَلَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ أَوْ كَانَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله

فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ وَالرَّدُّ فَصَارَ حَابِسًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ بِالْعِتْقِ وَالْوَلَاءُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ فَبَقَاؤُهُ كَبَقَاءِ أَصْلِ الْمِلْكِ (وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ) لِأَنَّ النَّقْلَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ تَعَذَّرَ بِالرَّدِّ بِالْأَمْرِ الْحُكْمِيِّ مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ وَالْمِلْكِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونَانِ كَالْإِعْتَاقِ وَهُوَ مِنْهُ دُونَهُمَا فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِنْهَاءَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَقْرِيرِ الْمِلْكِ بِجَعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ كَائِنًا، وَهَاهُنَا مُتَقَرِّرٌ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ (وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ) أَوْ كَاتَبَهُ

(لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) لِأَنَّهُ حَبَسَ بَدَلَهُ، وَحَبْسُ الْبَدَلِ كَحَبْسِ الْمُبْدَلِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَرْجِعُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْهَاءُ الْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ لِأَنَّ الْمَالَ فِيهِ لَيْسَ بِأَمْرٍ أَصْلِيٍّ بَلْ مِنْ الْعَوَارِضِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ بِهِ، وَإِنْ قَتَلَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَمْ يَرْجِعْ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ، وَذَكَرَ فِي الْيَنَابِيعِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَهُ لِأَنَّ قَتْلَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ دُنْيَوِيٌّ يُفِيدُ بَدَلًا كَالْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فَصَارَ كَالْمَوْتِ بِمَرَضٍ عَلَى فِرَاشِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ.

وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يُوجَدُ إلَّا مَضْمُونًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ مُفَرَّجٌ» أَيْ مُبْطَلٌ، وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ عَنْ الْمَوْلَى فِي قَتْلِ عَبْدِهِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ فَصَارَ كَالْمُسْتَفِيدِ بِالْمِلْكِ عِوَضًا، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلضَّمَانِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مُطْلَقًا لِعَدَمِ نُفُوذِهِ، وَمِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْ الضَّمَانِ فَلَمْ يَصِرْ بِهِ مُسْتَقْضِيًا فَيَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ طَعَامًا فَأَكَلَهُ أَوْ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ حَتَّى تَخَرَّقَ لَا يَرْجِعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِالْمَبِيعِ مَا يُقْصَدُ بِشِرَائِهِ وَيُعْتَادُ فِعْلُهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْإِعْتَاقَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الرَّدَّ تَعَذَّرَ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ كَمَا إذَا بَاعَ أَوْ قَتَلَ، وَذَلِكَ

ص: 370

أَمَّا الْقَتْلُ فَالْمَذْكُورُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَرْجِعُ)؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ دُنْيَاوِيٌّ فَصَارَ كَالْمَوْتِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَيَكُونُ إنْهَاءً. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يُوجَدُ إلَّا مَضْمُونًا، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَفِيدِ بِهِ عِوَضًا، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لَا مَحَالَةً كَإِعْتَاقِ الْمُعْسِرِ عَبْدًا مُشْتَرَكًا، وَأَمَّا الْأَكْلُ فَعَلَى الْخِلَافِ، فَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ وَعِنْدَهُ لَا يَرْجِعُ اسْتِحْسَانًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا لَبِسَ الثَّوْبَ حَتَّى تَخَرَّقَ لَهُمَا أَنَّهُ صَنَعَ فِي الْمَبِيعِ مَا يُقْصَدُ بِشِرَائِهِ وَيُعْتَادُ فِعْلُهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْإِعْتَاقَ. وَلَهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْهُ فِي الْمَبِيعِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالْقَتْلَ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَوْنِهِ مَقْصُودًا؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْبَيْعَ مِمَّا يُقْصَدُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ هُوَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، فَإِنْ أَكَلَ بَعْضَ الطَّعَامِ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَصَارَ كَبَيْعِ الْبَعْضِ

لِأَنَّ الْأَكْلَ وَاللُّبْسَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَبِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ عِوَضٍ سُلِّمَ لَهُ. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِكَوْنِهِ مَقْصُودًا لِأَنَّ الْبَيْعَ مِمَّا يُقْصَدُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ هُوَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أَكَلَ

ص: 371

وَعِنْدَهُمَا أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي الْكُلِّ، وَعَنْهُمَا أَنَّهُ يَرُدُّ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ. .

(قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى بَيْضًا أَوْ بِطِّيخًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا أَوْ جَوْزًا فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا فَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ رَجَعَ الثَّمَنُ كُلُّهُ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْجَوْزِ صَلَاحُ قِشْرِهِ عَلَى مَا قِيلَ

بَعْضَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ، فَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الطَّعَامَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَصَارَ كَبَيْعِ الْبَعْضِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ الطَّعَامَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَلَا يُرَدُّ بَعْضُهُ بِالْعَيْبِ وَأَكْلُ الْكُلِّ عِنْدَهُمَا لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالْعَيْبِ فَأَكْلُ الْبَعْضِ أَوْلَى. وَفِي رِوَايَةٍ: يُرَدُّ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الرَّدِّ فِي الْبَعْضِ كَمَا قَبَضَهُ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِيمَا أَكَلَهُ. وَفِي بَيْعِ الْبَعْضِ عَنْهُمَا رِوَايَتَانِ: فِي إحْدَاهُمَا لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا لِأَنَّ الطَّعَامَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَبَيْعُ الْبَعْضِ فِيهِ كَبَيْعِ الْكُلِّ. وَفِي الْأُخْرَى يُرَدُّ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ وَلَكِنْ لَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِيمَا بَاعَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى بَيْضًا أَوْ بِطِّيخًا) إذَا اشْتَرَى بَيْضًا أَوْ بِطِّيخًا (أَوْ قِثَّاءً أَوْ جَوْزًا) أَوْ شَيْئًا مِنْ الْفَوَاكِهِ (فَكَسَرَهُ) غَيْرَ عَالِمٍ بِعَيْبِهِ (فَوَجَدَ الْكُلَّ فَاسِدًا) بِأَنْ كَانَ مُنْتِنًا أَوْ مُرًّا أَوْ خَالِيًا بِحَيْثُ لَا يَصْلُحُ لِأَكْلِ النَّاسِ وَلَا لِعَلَفِ الدَّوَابِّ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَمَا ذَاقَهُ (فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْكَسْرِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ إذْ الْمَالُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ إمَّا فِي الْحَالِ وَإِمَّا فِي الْمَآلِ وَالْمَذْكُورُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَتَفَطَّنْ مِنْ الْقُيُودِ بِأَضْدَادِهَا، فَإِنَّهُ إذَا كَسَرَهُ عَالِمًا بِعَيْبِهِ صَارَ رَاضِيًا. وَإِذَا صَلَحَ لِأَكْلِ بَعْضِ النَّاسِ أَوْ الدَّوَابِّ أَوْ وَجَدَهُ قَلِيلَ اللُّبِّ كَانَ مِنْ الْعُيُوبِ لَا مِنْ الْفَسَادِ،

ص: 372

لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ اللُّبِّ (وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ مَعَ فَسَادِهِ لَمْ يَرُدَّهُ)؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ عَيْبٌ حَادِثٌ (وَ) لَكِنَّهُ (يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ) دَفْعًا لِلضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ بِتَسْلِيطِهِ. قُلْنَا: التَّسْلِيطُ عَلَى الْكَسْرِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَا فِي مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ، وَلَوْ وَجَدَ الْبَعْضَ فَاسِدًا وَهُوَ قَلِيلٌ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلٍ فَاسِدٍ. وَالْقَلِيلُ مَا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْجَوْزُ عَادَةً كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فِي الْمِائَةِ، وَإِنْ كَانَ الْفَاسِدُ كَثِيرًا لَا يَجُوزُ وَيَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ فَصَارَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ. .

وَإِنْ تَنَاوَلَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَمَا ذَاقَهُ صَارَ رَاضِيًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَالًا لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا. فَإِنْ قِيلَ: التَّعْلِيلُ صَحِيحٌ فِي الْبَيْضِ لِأَنَّ قِشْرَهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَأَمَّا الْجَوْزُ فَرُبَّمَا يَكُونُ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ فِي مَوْضِعٍ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحَطَبِ لِعِزَّتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ صَحِيحًا فِي الْقِشْرِ بِحِصَّتِهِ لِمُصَادَفَتِهِ الْمَحَلِّ وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّةِ اللُّبِّ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ مَشَايِخِنَا. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْجَوْزِ صَلَاحُ قِشْرِهِ عَلَى مَا قِيلَ، لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْجَوْزِ قَبْلَ الْكَسْرِ بِاعْتِبَارِ اللُّبِّ دُونَ الْقِشْرِ، وَإِذَا كَانَ اللُّبُّ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَمْ يُوجَدْ مَحَلُّ الْبَيْعِ فَيَقَعُ بَاطِلًا فَيُرَدُّ الْقِشْرُ وَيَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ بَيْضَ النَّعَامَةِ فَوَجَدَهَا بِالْكَسْرِ مَذِرَةً ذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، وَهَذَا الْفَصْلُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ مَالِيَّةَ بَيْضِ النَّعَامَةِ قَبْلَ الْكَسْرِ بِاعْتِبَارِ الْقِشْرِ وَمَا فِيهِ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ مِمَّا

ص: 373

(قَالَ: وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَإِنْ قَبِلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ)؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فَجَعَلَ الْبَيْعَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.

يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَرُدَّهُ لِتَعَيُّبِهِ بِالْكَسْرِ الْحَادِثِ لَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَرُدُّهُ لِأَنَّ الْكَسْرَ وَإِنْ كَانَ عَيْبًا حَادِثًا لَكِنَّهُ بِتَسْلِيطِهِ. قُلْنَا: التَّسْلِيطُ عَلَى الْكَسْرِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ لِأَنَّ بِالْبَيْعِ لَمْ يَبْقَ مِلْكُهُ فَلَمْ يَكُنْ التَّسْلِيطُ إلَّا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ هَدَرٌ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ حَصَلَ التَّسْلِيطُ مِنْهُ لِكَوْنِهِ هَدَرًا، وَلَوْ وَجَدَ الْبَعْضَ فَاسِدًا فَالْفَاسِدُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا كَاثْنَيْنِ فِي الْمِائَةِ أَوْ كَثِيرًا كَمَا فَوْقَهُ. فَفِي الْأَوَّلِ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْبَائِعَ لِأَجْلِهِ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْعَقْدِ الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ الرِّضَا بِالْمُعْتَادِ وَالْجَوْزُ فِي الْعَادَةِ لَا يَخْلُو عَنْ هَذَا. وَفِي الثَّانِي لَا يَجُوزُ وَيَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْقِنِّ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي) وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي (ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَ) إمَّا (أَنْ قَبِلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي) أَوْ بِغَيْرِ قَضَائِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِقْرَارٍ، وَمَعْنَى الْقَضَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّ الْخَصْمَ ادَّعَى عَلَى الْمُشْتَرِي الْإِقْرَارَ بِالْعَيْبِ وَالْمُشْتَرِي أَنْكَرَ ذَلِكَ فَأَثْبَتَ الْخَصْمُ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُنْكِرْ إقْرَارَهُ لَا يَكُونُ الرَّدُّ مُحْتَاجًا إلَى الْقَضَاءِ بَلْ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ، وَحِينَئِذٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ لِأَنَّهُ إقَالَةٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ (بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ) وَفِي كُلِّ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ (لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فَجُعِلَ الْبَيْعُ الثَّانِي

ص: 374

غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ أَنْكَرَ قِيَامَ الْعَيْبِ لَكِنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِالْقَضَاءِ، وَمَعْنَى الْقَضَاءِ بِالْإِقْرَارِ أَنَّهُ أَنْكَرَ الْإِقْرَارَ فَأُثْبِتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِالْبَيِّنَةِ حَيْثُ يَكُونُ رَدًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هُنَاكَ وَاحِدٌ وَالْمَوْجُودُ هَاهُنَا بَيْعَانِ، فَيُفْسَخُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ لَا يَنْفَسِخُ

كَالْمَعْدُومِ) وَالْبَيْعُ الْأَوَّلُ قَائِمٌ فَلَهُ الْخُصُومَةُ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ (قَوْلُهُ غَايَةُ الْأَمْرِ) إشَارَةٌ إلَى جَوَابِ زُفَرَ عَمَّا قَالَ: إذَا جَحَدَ الْعَيْبَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ أَنَّ بِهِ عَيْبًا لِكَوْنِ كَلَامِهِ مُتَنَاقِضًا. وَوَجْهُهُ أَنَّ غَايَةَ أَمْرِ الْمُشْتَرِي إنْكَارُهُ قِيَامَ الْعَيْبِ، لَكِنَّهُ لَمَّا صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ارْتَفَعَتْ الْمُنَاقَضَةُ وَصَارَ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَأَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ثُمَّ جَاءَ إنْسَانٌ وَاسْتَحَقَّهُ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ

(قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ إذَا رُدَّ الْمَبِيعُ بِعَيْبٍ عَلَى الْوَكِيلِ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْتَرِي لَيْسَ رَدًّا عَلَى الْبَائِعِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي صُورَةِ الْوَكِيلِ بَيْعٌ وَاحِدٌ فَرَدُّهُ عَلَى الْوَكِيلِ رَدٌّ عَلَى

ص: 375

(وَإِنْ قَبِلَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ)؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ وَإِنْ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا وَالْأَوَّلُ ثَالِثُهُمَا

الْمُوَكِّلِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَيْعَانِ وَبِرَدِّ أَحَدِهِمَا لَا يَرْتَدُّ الْآخَرُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ لِأَنَّهُ إقَالَةٌ وَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ وَالْبَائِعُ الْأَوَّلُ ثَالِثُهُمَا هَذَا إذَا رَدَّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَأَمَّا إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الرَّدُّ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْعَيْبِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَصَارَ

ص: 376

(وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِعَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الَّذِي بَاعَهُ) وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَوَابَ فِيمَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَفِيمَا لَا يَحْدُثُ سَوَاءٌ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُيُوعِ: إنْ كَانَ فِيمَا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ. .

كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ أَوْ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَصَرَّحَ بِذِكْرِ وَضْعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِوَارَ فِي عَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ أَوْ النَّاقِصَةِ، وَفِي عَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ كَالْقُرُوحِ وَالْأَمْرَاضِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْعَيْبَ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَحْدُثُ وَقَدْ رَدَّهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ لِتَيَقُّنِهِ بِوُجُودِهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَهُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ بُيُوعِ الْأَصْلِ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ إقَالَةٌ تَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا وَهُوَ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ فَلَا يَعُودُ الْمِلْكُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ لِيُخَاصِمَهُ.

ص: 377

(قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَقَبَضَهُ فَادَّعَى عَيْبًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى يَحْلِفَ الْبَائِعُ أَوْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً)

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَقَبَضَهُ فَادَّعَى عَيْبًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى يَحْلِفَ الْبَائِعُ أَوْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ) فَإِنْ حَلَفَ الْبَائِعُ دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ فَهُوَ إنْ شَاءَ يَدْفَعُ الثَّمَنَ أَوْ الْمَبِيعَ. وَاسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ لِأَنَّهُ جَعَلَ غَايَةَ عَدَمِ الْإِجْبَارِ إمَّا يَمِينَ الْبَائِعِ أَوْ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُولَى صَحِيحٌ، لِأَنَّ بِالْيَمِينِ يَتَوَجَّهُ الْإِجْبَارُ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّانِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يَسْتَمِرُّ عَدَمُ الْإِجْبَارِ لَا يَنْتَهِي بِهِ.

وَأَجَابُوا بِأَوْجُهٍ: بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ:

عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا

تَقْدِيرُهُ وَسَقَيْتهَا مَاءً بَارِدًا، وَبِأَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ مُتَضَمِّنًا لِلَفْظٍ عَامٍّ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْغَايَتَانِ فَيُقَالُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى يَظْهَرَ وَجْهُ الْحُكْمِ: أَيْ حُكْمِ الْإِجْبَارِ أَوْ حُكْمِ عَدَمِ الْإِجْبَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَلِفِ وَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ عَلَفْتهَا تِبْنًا أَنَّهُ بِمَعْنَى أَطْعَمْتهَا، فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي السَّقْيِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّعْمِ فِي مَعْنَى الشُّرْبِ، قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} أَيْ وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْهُ وَبِأَنَّ الِانْتِظَارَ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ

ص: 378

لِأَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُوبَ دَفْعِ الثَّمَنِ حَيْثُ أَنْكَرَ تَعَيُّنَ حَقِّهِ بِدَعْوَى الْعَيْبِ، وَدَفْعُ الثَّمَنِ أَوَّلًا لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهُ بِإِزَاءِ تَعَيُّنِ الْمَبِيعِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قُضِيَ بِالدَّفْعِ فَلَعَلَّهُ يَظْهَرُ الْعَيْبُ فَيُنْتَقَضُ الْقَضَاءُ فَلَا يَقْضِي بِهِ صَوْنًا لِقَضَائِهِ (فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي شُهُودِي بِالشَّامِ اُسْتُحْلِفَ الْبَائِعُ وَدَفَعَ الثَّمَنَ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ فِي الِانْتِظَارِ ضَرَرًا بِالْبَائِعِ، وَلَيْسَ فِي الدَّفْعِ كَثِيرُ ضَرَرٍ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى حُجَّتِهِ، أَمَّا إذَا نَكَلَ أُلْزِمَ الْعَيْبَ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ فِيهِ. .

الْإِجْبَارِ، وَذِكْرُ اللَّازِمِ وَإِرَادَةُ الْمَلْزُومِ كِنَايَةٌ. وَالْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِشْكَالَ إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى مَفْهُومِ الْغَايَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُوبَ دَفْعِ الثَّمَنِ) تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ الْإِجْبَارِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَنْكَرَ وُجُوبَ دَفْعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ تَعَيُّنَ حَقِّهِ بِدَعْوَى الْعَيْبِ، وَإِنْكَارُ تَعَيُّنِ الْحَقِّ إنْكَارُ عِلَّةِ وُجُوبِ دَفْعِ الثَّمَنِ، لِأَنَّ وُجُوبَ دَفْعِ الثَّمَنِ أَوَّلًا لَيْسَ إلَّا لِتَعَيُّنِ حَقِّ الْبَائِعِ بِإِزَاءِ تَعَيُّنِ الْمَبِيعِ فَحَيْثُ أَنْكَرَ تَعَيُّنَ حَقِّهِ فِي الْمَبِيعِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي السَّلِيمِ فَقَدْ أَنْكَرَ عِلَّةَ وُجُوبِ دَفْعِ الثَّمَنِ أَوَّلًا وَفِي إنْكَارِ الْعِلَّةِ إنْكَارُ الْمَعْلُولِ فَانْتَصَبَ خَصْمًا وَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ حُجَّةٍ، وَهِيَ إمَّا بَيِّنَةٌ أَوْ يَمِينُ الْبَائِعِ.

فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا التَّعْلِيلِ فَسَادُ الْوَضْعِ لِأَنَّ صِفَةَ الْإِنْكَارِ تَقْتَضِي إسْنَادَ الْيَمِينِ إلَيْهِ لَا إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ بِالْحَدِيثِ. فَالْجَوَابُ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْنَى لَا بِالصُّورَةِ، وَهُوَ فِيهِ مُدَّعٍ يَدَّعِي مَا يُوجِبُ دَفْعَ الثَّمَنِ أَوَّلًا وَإِنْ كَانَ فِي الصُّورَةِ مُنْكِرًا (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَضَى بِالدَّفْعِ) دَلِيلٌ آخَرُ يَتَضَمَّنُ جَوَابَ مَا قَبْلَ الْمُوجِبِ لِلْجَبْرِ وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ الْقَبْضِ مُتَحَقِّقٌ، وَمَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَيْبِ مَوْهُومٌ، وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ مَوْهُومًا لَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي اعْتِبَارُهُ صَوْنًا لِقَضَائِهِ عَنْ النَّقْضِ، فَإِنَّهُ إذَا قَضَى بِالدَّفْعِ فَلَعَلَّهُ يَظْهَرُ الْعَيْبُ فَيَنْتَقِضُ الْقَضَاءُ. قَالَ (فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي شُهُودِي بِالشَّامِ) إذَا طُلِبَ مِنْ الْمُشْتَرِي إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فَقَالَ شُهُودِي بِالشَّامِ غُيَّبٌ (اُسْتُحْلِفَ الْبَائِعُ) فَإِنْ حَلَفَ دُفِعَ إلَيْهِ الثَّمَنُ لِأَنَّ فِي الِانْتِظَارِ ضَرَرًا بِالْبَائِعِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي إلْزَامِ الْمُشْتَرِي دَفْعَ الثَّمَنِ ضَرَرٌ لَهُ أَيْضًا. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَ فِي دَفْعِ الثَّمَنِ كَبِيرُ ضَرَرٍ بِهِ لِأَنَّهُ عَلَى حُجَّتِهِ) يَعْنِي هُوَ بِسَبِيلٍ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ

ص: 379

(قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَادَّعَى إبَاقًا لَمْ يُحَلَّفْ الْبَائِعُ حَتَّى يُقِيمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَهُ) وَالْمُرَادُ التَّحْلِيفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْبَقْ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ وَإِنْ كَانَ قَوْلَهُ وَلَكِنَّ إنْكَارَهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ بِهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي

عِنْدَ حُضُورِ شُهُودِهِ. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ مَا قِيلَ فِي بَقَاءِ الْمُشْتَرِي عَلَى حُجَّتِهِ بُطْلَانُ قَضَاءِ الْقَاضِي وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهُ. وَالثَّانِي أَنَّ الِانْتِظَارَ وَإِقَامَةَ الْحُجَّةِ بَعْدَ الدَّفْعِ مُؤَقَّتَانِ بِحُضُورِ الشُّهُودِ فَكَيْفَ كَانَ أَحَدُهُمَا ضَرَرًا وَالْآخَرُ دُونَهُ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَاضِيَ هَاهُنَا قَدْ قَضَى بِأَدَاءِ الثَّمَنِ إلَى حِينِ حُضُورِ الشُّهُودِ لَا مُطْلَقًا فَلَا يَلْزَمُ الْبُطْلَانُ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ فِي دَعْوَى غَيْبَةِ الشُّهُودِ مُتَّهَمٌ. لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُمَاطَلَةً فَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَإِذَا طَلَبَ الْمُشْتَرِي يَمِينَ الْبَائِعِ فَنَكَلَ أُلْزِمَ الْعَيْبَ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ فِي ثُبُوتِ الْعَيْبِ. قِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ النُّكُولِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِالْإِجْمَاعِ وَعَنْ النُّكُولِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَادَّعَى إبَاقًا) إذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي إبَاقَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى وَكَذَّبَهُ الْبَائِعُ فَالْقَاضِي لَا يَسْمَعُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي حَتَّى يَثْبُتَ وُجُودُ الْعَيْبِ عِنْدَهُ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَهُ يَسْمَعُ دَعْوَاهُ وَقَالَ الْبَائِعُ هَلْ كَانَ عِنْدَك هَذَا الْعَيْبُ فِي الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنْ قَالَ نَعَمْ رَدَّهُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَدَّعِ الرِّضَا أَوْ الْإِبْرَاءَ، وَإِنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُ عِنْدَهُ أَوْ ادَّعَى اخْتِلَافَ الْحَالَةِ قَالَ الْقَاضِي لِلْمُشْتَرِي أَلَك بَيِّنَةٌ فَإِنْ أَقَامَهَا عَلَيْهِ رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَطَلَبَ الْيَمِينَ يُسْتَحْلَفُ أَنَّهُ لَمْ يَأْبَقْ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْلِفْ قَبْلَ إقَامَةِ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ الْقَوْلَ وَإِنْ كَانَ قَوْلَ الْبَائِعِ لِكَوْنِهِ مُنْكِرًا لَكِنَّ إنْكَارَهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ

ص: 380

وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحُجَّةِ (فَإِذَا أَقَامَهَا حَلَفَ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ وَمَا أَبَقَ عِنْدَهُ قَطُّ) كَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ، وَإِنْ شَاءَ حَلَّفَهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ حَقُّ الرَّدِّ عَلَيْك مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِي أَوْ بِاَللَّهِ مَا أَبَقَ عِنْدَك قَطُّ

بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ بِهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ السَّلَامَةَ أَصْلٌ وَالْعَيْبَ عَارِضٌ، وَمَعْرِفَتُهُ إنَّمَا لَا تَكُونُ بِالْحُجَّةِ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُقْبَلُ مِنْ الْمُدَّعِي وَالْمُشْتَرِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ بِمُدَّعٍ، بَلْ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْعَيْبَ فِي يَدِ الْبَائِعِ. وَالثَّانِي أَنَّ سَلَامَةَ الذِّمَمِ عَنْ الدَّيْنِ أَصْلٌ وَالشُّغْلَ بِهِ عَارِضٌ، كَمَا أَنَّ السَّلَامَةَ عَنْ الْعَيْبِ أَصْلٌ وَالْعَيْبَ عَارِضٌ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ دَيْنًا فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْمَعُ دَعْوَاهُ وَيَأْمُرُ الْخَصْمَ بِالْجَوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ قِيَامُ الدَّيْنِ فِي الْحَالِ

وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ إقَامَةَ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ مِنْ تَتِمَّةِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ تِلْكَ إلَّا بِهَذِهِ فَكَانَتْ مِنْ الْمُدَّعِي بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ فِي الْحَالِ لَوْ كَانَ شَرْطًا لِاسْتِمَاعِ الْخُصُومَةِ لَمْ يَتَوَسَّلْ الْمُدَّعِي إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَكُونُ لَهُ بَيِّنَةٌ، أَوْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَكِنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَتِهَا لِمَوْتٍ أَوْ غَيْبَةٍ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ تَوَسُّلَ الْمُشْتَرِي إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ مُمْكِنٌ لِأَنَّ الْعَيْبَ إذَا كَانَ مِمَّا يُعَايَنُ وَيُشَاهَدُ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ بِالتَّعَرُّفِ عَنْ آثَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْآثَارِ أَمْكَنَ التَّعَرُّفُ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْأَطِبَّاءِ وَالْقَوَابِلِ، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا فَإِذَا أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ حَلَفَ الْبَائِعُ عَلَى الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ وَمَا أَبَقَ عِنْدَهُ قَطُّ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هَاهُنَا الْجَامِعُ الصَّغِيرُ، وَإِنْ شَاءَ حَلَّفَهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ حَقُّ الرَّدِّ عَلَيْك مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُدَّعَى أَوْ بِاَللَّهِ مَا أَبَقَ عِنْدَك قَطُّ، وَلَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ

ص: 381

أَمَّا لَا يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ وَلَا بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكُ النَّظَرِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ قَدْ يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلرَّدِّ، وَالْأَوَّلُ ذُهُولٌ عَنْهُ وَالثَّانِي يُوهِمُ تَعَلُّقَهُ بِالشَّرْطَيْنِ فَيَتَأَوَّلُهُ فِي الْيَمِينِ عِنْدَ قِيَامِهِ وَقْتَ التَّسْلِيمِ دُونَ الْبَيْعِ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عَلَى قِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَهُ يُحَلَّفُ عَلَى قَوْلِهِمَا. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَهُمَا: إنَّ الدَّعْوَى مُعْتَبَرَةٌ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ فَكَذَا يَتَرَتَّبُ التَّحْلِيفُ

لِأَنَّ هَذَا الْعَيْبَ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلرَّدِّ، وَفِي ذَلِكَ غَفْلَةٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَبِهِ يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ لَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَهُ بِالشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا، وَلِجَوَازِ أَنْ يَحْدُثَ الْعَيْبُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَيَكُونُ غَرَضُ الْبَائِعِ عَدَمَ وُجُودِ الْعَيْبِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، فَفِي وُجُودِهِ فِي أَحَدِهِمَا يَكُونُ بَارًّا لِأَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ وَبِهِ يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي.

وَإِنَّمَا قَالَ يُوهِمُ تَعَلُّقَهُ بِالشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا إشَارَةً إلَى أَنَّ تَأْوِيلَ الْبَائِعِ ذَلِكَ فِي يَمِينِهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَكِنَّهُ يُتَوَهَّمُ لِذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ لِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ فِي التَّحْلِيفِ وَقَالَ: إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: النَّظَرُ لِلْمُشْتَرِي يَنْعَدِمُ إذَا اسْتَحْلَفَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَذَكَرَ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَنْفِي الْعَيْبَ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ بَارًّا فِي يَمِينِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَيْبُ مُنْتَفِيًا فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، وَعَلَى هَذَا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ قَالَ (أَمَّا لَا يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ) وَعَلَّلَهُ (بِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَهُ بِالشَّرْطَيْنِ فَيَتَأَوَّلُهُ) وَقَالُوا: إنَّمَا قَالَ يُوهِمُ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّأْوِيلُ صَحِيحًا كَانَ التَّحْلِيفُ بِهِ جَائِزًا. وَهُوَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ لَا يُحَلِّفُهُ إلَّا إذَا حُمِلَ النَّفْيُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْوَطِ فَيَسْتَقِيمُ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِبَاقُ فِعْلُ الْغَيْرِ وَالتَّحْلِيفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتَاتِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ سَلِيمًا كَمَا الْتَزَمَهُ.

وَقِيلَ التَّحْلِيفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ إذَا ادَّعَى الَّذِي يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ، أَمَّا إذَا ادَّعَى أَنَّ لِي عِلْمًا بِذَلِكَ فَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ لِادِّعَائِهِ الْعِلْمَ بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عَلَى قِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمَا. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي النَّوَادِرِ ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ، وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (لَهُمَا أَنَّ الدَّعْوَى مُعْتَبَرَةٌ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ) وَكُلُّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ (يَتَرَتَّبُ) عَلَيْهِ (التَّحْلِيفُ) بِالِاسْتِقْرَاءِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا تَحْلِيفَ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْحَلِفَ يَتَرَتَّبُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى إلَّا مِنْ خَصْمٍ، وَلَا يَصِيرُ الْمُدَّعِي وَهُوَ

ص: 382

وَلَهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْبَعْضُ أَنَّ الْحَلِفَ يَتَرَتَّبُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَلَيْسَتْ تَصِحُّ إلَّا مِنْ خَصْمٍ وَلَا يَصِيرُ خَصْمًا فِيهِ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ. وَإِذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ عِنْدَهُمَا يَحْلِفُ ثَانِيًا لِلرَّدِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. .

الْمُشْتَرِي هَاهُنَا خَصْمًا إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ بِالْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَقَدْ عَجَزَ عَنْهَا، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّحْلِيفُ؛ فَإِنَّ دَعْوَى الْوَكَالَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ دُونَ التَّحْلِيفِ، وَالْبَيِّنَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الدَّعْوَى فَضْلًا عَنْ صِحَّتِهَا بَلْ قَدْ تَقُومُ عَلَى مَا لَا دَعْوَى فِيهِ أَصْلًا كَمَا فِي الْحُدُودِ، بِخِلَافِ التَّحْلِيفِ.

وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّحْلِيفَ شُرِعَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ فَكَانَ مُقْتَضِيًا سَابِقَةَ الْخَصْمِ وَأَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي هُنَا خَصْمًا إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ قِيَامِ الْعَيْبِ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ هَاهُنَا فَمَشْرُوعَةٌ لِإِثْبَاتِ كَوْنِهِ خَصْمًا فَلَا تَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ خَصْمًا (وَإِذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ عِنْدَهُمَا يَحْلِفُ ثَانِيًا لِلرَّدِّ) عَلَى الْبَتَاتِ (عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

ص: 383

قَالَ رضي الله عنه: إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي إبَاقِ الْكَبِيرِ يَحْلِفُ مَا أَبَقَ مُنْذُ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ فِي الصِّغَرِ لَا يُوجِبُ رَدَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ. .

قَالَ الْمُصَنِّفُ (إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي إبَاقِ الْكَبِيرِ يَحْلِفُ مَا أَبَقَ مُنْذُ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ لِأَنَّ الْإِبَاقَ فِي الصِّغَرِ لَا يُوجِبُ رَدَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ) لِمَا تَقَدَّمَ، فَلَوْ حَلَفَ مُطْلَقًا كَانَ تَرْكُ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ إذَا أَبَقَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَدْ كَانَ أَبَقَ عِنْدَ الْبَائِعِ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ وَمِثْلُ هَذَا الْإِبَاقِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلرَّدِّ امْتَنَعَ الْبَائِعُ عَنْ الْيَمِينِ حَذَرًا عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ لِنُكُولِهِ وَيَتَضَرَّرُ بِهِ.

ص: 384

(قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَتَقَابَضَا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُك هَذِهِ وَأُخْرَى مَعَهَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بِعْتنِيهَا وَحْدَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي)؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْقَابِضِ

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَتَقَابَضَا) وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَتَقَابَضَ الْمُتَبَايِعَانِ الثَّمَنَ وَالْمَبِيعَ (فَوَجَدَ) الْمُشْتَرِي (بِهَا عَيْبًا) فَأَرَادَ الْبَائِعُ تَخْصِيصَ الثَّمَنِ عَلَى تَقْدِيرِ الرَّدِّ (فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُك هَذِهِ وَأُخْرَى مَعَهَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي بِعْتَنِيهَا وَحْدَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْقَابِضِ) لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَا قُبِضَ

ص: 385

كَمَا فِي الْغَصْبِ (وَكَذَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارِ الْمَبِيعِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمَقْبُوضِ) لِمَا بَيَّنَّا. .

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَقَبَضَ أَحَدَهُمَا وَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُمَا أَوْ يَدْعُهُمَا)؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ بِقَبْضِهِمَا فَيَكُونُ تَفْرِيقُهَا قَبْلَ التَّمَامِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَهُ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ فَالتَّفْرِيقُ فِيهِ كَالتَّفْرِيقِ فِي الْعَقْدِ

كَمَا فِي الْغَصْبِ) فَإِنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ الْغَاصِبُ وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ فَقَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ غَصَبْت مِنِّي غُلَامَيْنِ وَقَالَ الْغَاصِبُ غُلَامًا وَاحِدًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ الْقَابِضُ (وَكَذَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارِ الْمَبِيعِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمَقْبُوضِ) فِي مِقْدَارِهِ بِأَنْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَتَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْبَائِعُ قَبَضْتهمَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي مَا قَبَضْت إلَّا إحْدَاهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي (لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّ فِي الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَابِضِ، بَلْ هَاهُنَا أَوْلَى لِأَنَّ كَوْنَ الْمَبِيعِ شَيْئَيْنِ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا سَبَبٌ مُطْلَقًا لِقَبْضِهِمَا، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَابِضِ فَهَاهُنَا أَوْلَى.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً) رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ بِعْتُك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَ (وَقَبَضَ أَحَدَهُمَا) وَهُوَ سَلِيمٌ (فَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا) لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً (بَلْ يَأْخُذُهُمَا أَوْ يَدَعُهُمَا) جَمِيعًا (لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ بِقَبْضِهِمَا) لِمَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ تَمَامِ الصَّفْقَةِ حِينَئِذٍ، وَمَا تَتِمُّ بِقَبْضِهِ الصَّفْقَةُ لَا تَتِمُّ بِقَبْضِ بَعْضِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى قَبْضِ الْكُلِّ إذْ ذَاكَ، فَالتَّفْرِيقُ قَبْلَ قَبْضِهِمَا تَفْرِيقٌ (قَبْلَ التَّمَامِ) وَهُوَ لَا يَجُوزُ (لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي قُبَيْلَ بَابِ خِيَارِ الْعَيْبِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتِمُّ قَبْلَهُ (وَهَذَا) أَيْ التَّفْرِيقُ فِي الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ (لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شَبَهًا بِالْعَقْدِ) مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَبْضَ يُثْبِتُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ وَمِلْكَ الْيَدِ، كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ يُثْبِتُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ مِلْكُ التَّصَرُّفِ وَمِلْكُ الْيَدِ (فَالتَّفْرِيقُ فِي الْقَبْضِ كَالتَّفْرِيقِ فِي الْعَقْدِ) وَلَوْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ فَقَالَ قَبِلْت أَحَدَهُمَا لَمْ يَصِحَّ فَكَذَا هَذَا.

ص: 386

وَلَوْ وَجَدَ بِالْمَقْبُوضِ عَيْبًا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَيُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَرُدُّهُ خَاصَّةً، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَأْخُذُهُمَا أَوْ يَرُدُّهُمَا؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ تَعَلَّقَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَصَارَ كَحَبْسِ الْمَبِيعِ لَمَّا تَعَلَّقَ زَوَالُهُ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ لَا يَزُولُ دُونَ قَبْضِ جَمِيعِهِ (وَلَوْ قَبَضَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ) بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا يَرُدُّهُ خَاصَّةً خِلَافًا لِزُفَرَ. هُوَ يَقُولُ: فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ وَلَا يَعْرَى عَنْ ضَرَرٍ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِضَمِّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَخِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ. وَلَنَا أَنَّهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ بَعْدَ التَّمَامِ؛ لِأَنَّ بِالْقَبْضِ تَتِمُّ الصَّفْقَةُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ وَفِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ لَا تَتِمُّ بِهِ عَلَى مَا مَرَّ

قَالَ (وَلَوْ وَجَدَ بِالْمَقْبُوضِ عَيْبًا اخْتَلَفُوا فِيهِ) إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَقْبُوضِ عَيْبًا، قَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُ قَالَ (وَيُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرُدُّهُ خَاصَّةً).

وَوَجْهُهُ أَنَّ الصَّفْقَةَ تَامَّةٌ فِي حَقِّ الْمَقْبُوضِ فَبِالنَّظَرِ إلَيْهِ لَا يَلْزَمُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ) لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ (لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَهُوَ كَحَبْسِ الْمَبِيعِ) لِأَجْلِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لَا يَزُولُ بِقَبْضِ بَعْضِ الثَّمَنِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ اعْتِبَارًا لِأَحَدِ الْبَدَلَيْنِ بِالْآخَرِ (وَلَوْ قَبَضَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ خَاصَّةً) وَقَالَ زُفَرُ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ (وَلَا يَعْرَى عَنْ ضَرَرٍ إذْ الْعَادَةُ جَرَتْ بِضَمِّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ) بِجَامِعِ دَفْعِ الضَّرَرِ (وَأَشْبَهَ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ) وَلَنَا أَنَّهُ إذَا قَبَضَهُمَا جَمِيعًا فَقَدْ تَمَّتْ الصَّفْقَةُ وَالتَّفْرِيقُ بَعْدَهُ غَيْرُ ضَائِرٍ، بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ فَإِنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ بِالْقَبْضِ فِيهِمَا عَلَى مَا مَرَّ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لِوُجُودِ تَمَامِ الرِّضَا مِنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْقَبْضِ عَلَى صِفَةِ السَّلَامَةِ كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ.

وَالْأَصْلُ صِفَةُ السَّلَامَةِ فَكَانَتْ الصَّفْقَةُ تَامَّةً بِظَاهِرِ الْعَقْدِ، وَتَضَرُّرُ الْبَائِعِ إنَّمَا لَزِمَ مِنْ تَدْلِيسِهِ فَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ. لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ التَّمَكُّنُ مِنْ رَدِّ الْمَعِيبِ قَبْلَ قَبْضِهِمَا أَيْضًا لِوُجُودِ التَّدْلِيسِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّفْرِيقَ قَبْلَ التَّمَامِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. قِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي شَيْئَيْنِ يُمْكِنُ إفْرَادُ أَحَدِهِمَا بِالِانْتِفَاعِ كَالْعَبْدَيْنِ.

وَأَمَّا إذَا لَا يُمْكِنُ كَزَوْجَيْ الْخُفِّ وَمِصْرَاعَيْ الْبَابِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُمَا أَوْ يُمْسِكُهُمَا، حَتَّى لَوْ كَانَ

ص: 387

وَلِهَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْآخَرَ. .

(قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَوَجَدَ بِبَعْضِهِ عَيْبًا رَدَّهُ كُلَّهُ أَوْ أَخَذَهُ كُلَّهُ) وَمُرَادُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُسَمَّى بِاسْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْكُرُّ وَنَحْوُهُ. وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدَيْنِ حَتَّى يَرُدَّ الْوِعَاءَ الَّذِي وَجَدَ فِيهِ الْعَيْبَ دُونَ الْآخَرِ

الْمَبِيعُ ثَوْرَيْنِ قَدْ أَلِفَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ بِحَيْثُ لَا يَعْمَلُ بِدُونِهِ لَا يُمْكِنُ رَدُّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً (قَوْلُهُ وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَا تَتِمُّ قَبْلَهُ (لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ) بَعْدَ قَبْضِهِمَا (لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ الْآخَرَ) بَلْ الْعَقْدُ قَدْ لَزِمَ فِيهِ لِأَنَّهُ تَفْرِيقٌ بَعْدَ التَّمَامِ

(قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ) تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي سَائِرِ الْأَعْيَانِ، وَبَعْدَهُ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَأَمَّا فِيهِمَا فَلَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا سَوَاءٌ كَانَ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي وِعَاءَيْنِ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَشَايِخِ. وَقِيلَ إذَا كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدَيْنِ يَجُوزُ رَدُّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ.

وَوَجْهُ الْأَظْهَرِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ اسْمًا وَحُكْمًا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ يُسَمَّى بِاسْمٍ وَاحِدٍ كَكُرٍّ وَقَفِيزٍ وَنَحْوِهِمَا، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ الِاجْتِمَاعِ، لِأَنَّ الْحَبَّةَ بِانْفِرَادِهَا لَيْسَتْ لَهَا صِفَةُ التَّقَوُّمِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَجَعْلُ رُؤْيَةِ بَعْضِهَا كَرُؤْيَةِ كُلِّهَا كَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَفِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ إذَا وَجَدَ بَعْضَهُ مَعِيبًا لَيْسَ لَهُ إلَّا رَدُّ الْكُلِّ أَوْ إمْسَاكُهُ، لِأَنَّ رَدَّ الْجُزْءِ الْمَعِيبِ

ص: 388

(وَلَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، وَالِاسْتِحْقَاقُ

فِيهِ يَسْتَلْزِمُ شَرِكَةَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهِيَ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ، فَرَدُّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً رَدٌّ بِعَيْبٍ زَائِدٍ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ رَدُّ الْبَاقِي إذَا اُسْتُحِقَّ الْبَعْضُ بَعْدَ الْقَبْضِ كَمَا فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ سَاقِطٌ، وَعَلَى الْأُخْرَى إنَّمَا لَزِمَ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي وَلَمْ يَبْقَ لَهُ خِيَارُ الرَّدِّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ عَيْبًا فِي الْمُسْتَحَقِّ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُمَا فِي الْمَالِيَّةِ سَوَاءٌ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْبَاقِي مُمْكِنٌ، وَمَا لَا يُوجِبُ عَيْبًا فِي الْمَالِيَّةِ وَالِانْتِفَاعِ لَا يُوجِبُ ضَرَرًا بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَدَ بِالْبَعْضِ عَيْبًا وَمَيَّزَهُ لِيَرُدَّهُ لِأَنَّ تَمْيِيزَ الْمَعِيبِ مِنْ غَيْرِ الْمَعِيبِ يُوجِبُ زِيَادَةَ عَيْبٍ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَإِنَّ التَّبْعِيضَ يَضُرُّهُ وَالشَّرِكَةُ عَيْبٌ فِيهِ زَائِدٌ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا رَدُّ الْكُلِّ أَوْ إمْسَاكُهُ (قَوْلُهُ وَالِاسْتِحْقَاقُ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ سُؤَالٍ. تَقْرِيرُهُ انْتِفَاءَ الْخِيَارِ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ يَسْتَلْزِمُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِالرِّضَا وَالْمُسْتَحِقُّ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا

وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِرِضَا الْعَاقِدِ لَا بِرِضَا الْمَالِكِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ حَقُّ الْعَاقِدِ فَتَمَامُهُ يَسْتَدْعِي تَمَامَ رِضَاهُ وَبِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ إذَا أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ بَعْدَمَا

ص: 389

لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِرِضَا الْعَاقِدِ لَا بِرِضَا الْمَالِكِ، وَهَذَا إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَمَّا لَوْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ. قَالَ (وَإِنْ كَانَ ثَوْبًا فَلَهُ الْخِيَارُ)؛ لِأَنَّ التَّشْقِيصَ فِيهِ عَيْبٌ وَقَدْ كَانَ وَقْتَ الْبَيْعِ حَيْثُ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ، بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. .

(قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَ بِهَا قُرْحًا فَدَاوَاهُ أَوْ كَانَتْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا فِي حَاجَةٍ فَهُوَ رِضًا)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ قَصْدِهِ الِاسْتِبْقَاءَ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ هُنَاكَ لِلِاخْتِبَارِ وَأَنَّهُ بِالِاسْتِعْمَالِ فَلَا يَكُونُ الرُّكُوبُ

افْتَرَقَ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا، فَعُلِمَ أَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ يَسْتَدْعِي تَمَامَ رِضَا الْعَاقِدِ لَا الْمَالِكِ (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُوجِبُ خِيَارَ الرَّدِّ إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَبْلَهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِيَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَهَذَا يُرْشِدُك إلَى أَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ يَحْتَاجُ إلَى رِضَا الْعَاقِدِ وَقَبْضِ الْمَبِيعِ، وَانْتِفَاءُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ عَدَمَ تَمَامِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا وَاحِدًا وَقَدْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الثَّوْبِ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ، لِأَنَّ التَّشْقِيصَ فِي الثَّوْبِ عَيْبٌ لِأَنَّهُ يَضُرُّ فِي مَالِيَّتِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: حَدَثَ بِالِاسْتِحْقَاقِ عَيْبٌ جَدِيدٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَمِثْلُهُ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَقَدْ كَانَ وَقْتَ الْبَيْعِ) يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحَادِثٍ فِي يَدِهِ بَلْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ حَيْثُ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فَلَا يَكُونُ مَانِعًا، بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنَّ التَّشْقِيصَ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِيهِمَا حَيْثُ لَا يَضُرُّ، وَتَنَبَّهْ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَجِدْ حُكْمَ الْعَيْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ سِيَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ: أَعْنِي فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ غَيْرِهِمَا. أَمَّا الْعَيْبُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ فَلِقَوْلِهِ أَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِيَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَتَجِدُ حُكْمَهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ كَذَلِكَ إلَّا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي الْعَبْدَيْنِ وَلِهَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْآخَرَ، وَقَالَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ رَدَّهُ كُلَّهُ أَوْ أَخَذَهُ، وَمُرَادُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ اُسْتُحِقَّ الْبَعْضُ لَا خِيَارَ لَهُ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَ بِهَا قُرْحًا فَدَاوَاهُ الْمُشْتَرِي)

ص: 390

مُسْقِطًا (وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهَا أَوْ لِيَسْقِيَهَا أَوْ لِيَشْتَرِيَ لَهَا عَلَفًا فَلَيْسَ بِرِضًا) أَمَّا الرُّكُوبُ لِلرَّدِّ؛ فَلِأَنَّهُ سَبَبُ الرَّدِّ وَالْجَوَابُ فِي السَّقْيِ وَاشْتِرَاءِ الْعَلَفِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ، إمَّا لِصُعُوبَتِهَا أَوْ لِعَجْزِهِ أَوْ لِكَوْنِ الْعَلَفِ فِي عِدْلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ لِانْعِدَامِ مَا ذَكَرْنَاهُ يَكُونُ رِضًا. .

جُرْحُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ وَرُكُوبُ الدَّابَّةِ فِي حَاجَتِهِ عُدَّ رِضًا بِالْعَيْبِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ قَصْدِ الِاسْتِبْقَاءِ لِأَنَّ الْمُدَاوَاةَ إزَالَةُ الْعَيْبِ وَهِيَ تَمْنَعُ الرَّدَّ. لِأَنَّ نَقِيضَهُ وَهُوَ قِيَامُ الْعَيْبِ شَرْطُ التَّمَكُّنِ مِنْ الرَّدِّ فَكَانَتْ دَلِيلَ قَصْدِ الْإِمْسَاكِ، وَدَلِيلُ الشَّيْءِ فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ بِذَلِكَ الْعَيْبِ، وَلَهُ ذَلِكَ بِعَيْبٍ آخَرَ لِأَنَّ الرِّضَا بِعَيْبٍ لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاهُ بِغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ الرُّكُوبُ لِحَاجَتِهِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ لِلِاخْتِبَارِ، وَالِاخْتِبَارُ بِالرُّكُوبِ فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا (وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهَا أَوْ لِيَسْقِيَهَا أَوْ لِيَشْتَرِيَ لَهَا عَلَفًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِرِضًا، أَمَّا الرُّكُوبُ لِلرَّدِّ فَلَا فَرْقَ) فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ أَوْ لَا، لِأَنَّ فِي الرُّكُوبِ ضَبْطَ الدَّابَّةِ وَهُوَ أَحْفَظُ لَهَا مِنْ حُدُوثِ عَيْبٍ آخَرَ، وَأَمَّا لِلسَّقْيِ وَالْعَلَفِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا لِصُعُوبَةِ الدَّابَّةِ لِكَوْنِهَا شَمُوسًا، أَوْ لِعَجْزِهِ عَنْ الْمَشْيِ لِضَعْفٍ أَوْ كِبَرٍ، أَوْ لِكَوْنِ الْعَلَفِ فِي عِدْلٍ وَاحِدٍ، أَمَّا إذَا وُجِدَ مِنْهُ بُدٌّ لِانْعِدَامِ الْأَوَّلَيْنِ أَوْ لِكَوْنِ الْعَلَفِ فِي عِدْلَيْنِ وَرَكِبَ

ص: 391

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ سَرَقَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَقُطِعَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: يَرْجِعُ بِمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ سَارِقًا إلَى غَيْرِ سَارِقٍ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قُتِلَ بِسَبَبٍ وُجِدَ فِي يَدِ الْبَائِعِ

كَانَ الرُّكُوبُ رِضًا، لِأَنَّ حَمْلَهُ حِينَئِذٍ مُمْكِنٌ بِدُونِ الرُّكُوبِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ سَرَقَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلَخْ) رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ سَرَقَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي لَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَا وَقْتَ الْقَبْضِ فَقُطِعَ عِنْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ كُلَّهُ، وَلَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَرْجِعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: إنَّهُ يُقَوَّمُ سَارِقًا وَغَيْرَ سَارِقٍ فَيَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الثَّمَنِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قُتِلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ مِنْ الْقَتْلِ الْعَمْدِ أَوْ الرِّدَّةِ: لَهُمَا أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي يَدِ الْبَائِعِ سَبَبُ الْقَطْعِ أَوْ الْقَتْلِ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ تَقَرَّرَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذٌ فَتَكُونُ الْمَالِيَّةُ بَاقِيَةً فَيَنْفُذُ الْعَقْدُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُهَا لَكِنَّهُ مُتَعَيِّبٌ لِأَنَّ مُبَاحَ الْيَدِ أَوْ الدَّمِ لَا يُشْتَرَى كَالسَّالِمِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ الْمَرَضِ الَّذِي هُوَ عَيْبٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْمَبِيعُ الْمُتَعَيَّبُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ يَرْجِعُ فِيهِ بِنُقْصَانِهِ، وَهَاهُنَا قَدْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ. أَمَّا فِي صُورَةِ الْقَتْلِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ الْقَطْعِ فَلِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَيْرُ الْوُجُوبِ فَكَانَ كَعَيْبٍ حَدَثَ فِي يَدِهِ، وَمِثْلُهُ مَانِعٌ مِنْ الرَّدِّ بِعَيْبٍ سَابِقٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ، كَمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً حَامِلًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْحَمْلِ وَقْتَ الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِالْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حَامِلًا وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهَا غَيْرَ حَامِلٍ. وَلَهُ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَسَبَبُ الْوُجُوبِ يُفْضِي إلَى الْوُجُوبِ وَالْوُجُوبُ يُفْضِي إلَى الْوُجُودِ فَيَكُونُ الْوُجُودُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ فَصَارَ كَالْمُسْتَحَقِّ، وَالْمُسْتَحَقُّ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ فَيَنْتَقِضُ الْقَبْضُ مِنْ الْأَصْلِ

ص: 392

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُ وَبِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ عِنْدَهُمَا. لَهُمَا أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي يَدِ الْبَائِعِ سَبَبُ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ فَنَفَذَ الْعَقْدُ فِيهِ لَكِنَّهُ مُتَعَيِّبٌ فَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّهِ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً حَامِلًا فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ بِالْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حَامِلًا إلَى غَيْرِ حَامِلٍ. وَلَهُ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَالْوُجُوبُ يُفْضِي إلَى الْوُجُودِ فَيَكُونُ الْوُجُودُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ، وَصَارَ كَمَا إذَا قُتِلَ الْمَغْصُوبُ أَوْ قُطِعَ بَعْدَ الرَّدِّ بِجِنَايَةٍ وُجِدَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ

لِعَدَمِ مُصَادَفَةِ الْعَقْدِ مَحَلَّهُ، أَوْ لِأَنَّهُ بَاعَ مَقْطُوعَ الْيَدِ فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ رَدَّهُ، كَمَا لَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الْعَبْدِ فَرَدَّهُ وَصَارَ كَمَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَقَتَلَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْغَاصِبِ رَجُلًا عَمْدًا فَرَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى فَاقْتُصَّ مِنْهُ فِي يَدِهِ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ الْحَمْلِ أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ قَوْلُهَا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِكُلِّ الثَّمَنِ إذَا مَاتَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِيمَا إذَا اُقْتُصَّ مِنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ: ثُمَّ سَبَبُ الْمَوْتِ هُوَ الْمَرَضُ الْمُتْلِفُ وَهُوَ حَصَلَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَعَنْ قَوْلِهِمَا سَبَبُ الْقَتْلِ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفْسِ بِسَبَبِ الْقَتْلِ وَالْقَتْلُ مُتْلِفٌ لِلْمَالِيَّةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ فَكَانَ بِمَعْنَى

ص: 393

وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَمْنُوعَةٌ. .

وَلَوْ سَرَقَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَقُطِعَ بِهِمَا عِنْدَهُمَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ كَمَا ذَكَرْنَا

عِلَّةِ الْعِلَّةِ وَهِيَ تُقَامُ مَقَامَ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَارَتْ الْمَالِيَّةُ كَأَنَّهَا هِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ، وَأَمَّا إذَا مَاتَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الِاسْتِحْقَاقُ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ فَلِهَذَا هَلَكَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَإِذَا قُتِلَ فَقَدْ تَمَّ الِاسْتِحْقَاقُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَظْهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ دُونَ غَيْرِهِ كَمِلْكِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ، حَتَّى لَوْ قُتِلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ خَطَأً كَانَتْ الدِّيَةُ لِوَرَثَتِهِ دُونَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ.

قَالَ (وَلَوْ سَرَقَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي إلَخْ) إذَا كَانَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ سَرَقَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ سَرَقَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَقُطِعَ بِهِمَا عِنْدَهُمَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَرُدُّهُ إلَّا بِرِضَا الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ وَهُوَ الْقَطْعُ بِالسَّرِقَةِ الْحَادِثَةِ عِنْدَهُ؛ ثُمَّ الْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقْبَلَهُ الْبَائِعُ كَذَلِكَ وَأَنْ لَا يَقْبَلَ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ يَرْجِعُ

ص: 394

وَعِنْدَهُ لَا يَرُدُّهُ بِدُونِ رِضَا الْبَائِعِ لِلْعَيْبِ الْحَادِثِ وَيَرْجِعُ بِرُبْعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ قَبِلَهُ الْبَائِعُ فَبِثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ وَقَدْ تَلِفَتْ بِالْجِنَايَتَيْنِ وَفِي إحْدَاهُمَا رُجُوعٌ فَيَتَنَصَّفُ؛ وَلَوْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي ثُمَّ قُطِعَ فِي يَدِ الْأَخِيرِ رَجَعَ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَهُ كَمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ الْأَخِيرُ عَلَى بَائِعِهِ وَلَا يَرْجِعُ بَائِعُهُ عَلَى بَائِعِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ

الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِرُبْعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهَا قُطِعَتْ بِالسَّبَبَيْنِ فَيَرْجِعُ بِمَا يُقَابِلُ نِصْفَ الْيَدِ، وَإِنْ قَبِلَ يَرْجِعُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْيَدَ نِصْفُ الْآدَمِيِّ وَتَلِفَتْ بِالْجِنَايَتَيْنِ، وَفِي إحْدَاهُمَا الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ فَيُقْسَمُ النِّصْفُ عَلَيْهِمَا بِنِصْفَيْنِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَرْجِعُ فِيهِ عَلَى الْبَائِعِ فَيَرُدُّهُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَقَبِلَهُ الْبَائِعُ كَذَلِكَ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلِمَ لَمْ يَكُنْ هُنَا كَذَلِكَ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ نَظَرًا إلَى جَرَيَانِهِ مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَا تَذْكُرُونَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ حُكْمَ الْعَيْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ يَسْتَوِيَانِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ الِاخْتِلَافَ هَاهُنَا بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا: بَلَى لَكِنْ لَيْسَ كَلَامُنَا الْآنَ فِيهِمَا بَلْ فِيمَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْمَعِيبِ، وَمَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَعَسَى يَكْفِي شَبَهًا بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ كَوْنُ الْعَقْدِ غَيْرَ مُتَنَاوِلٍ لِيَنْتَقِضَ الْقَبْضُ مِنْ الْأَصْلِ لِمَا مَرَّ آنِفًا. قَالَ: وَلَوْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي: يَعْنِي بَعْدَ وُجُودِ السَّرِقَةِ مِنْ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْبَائِعِ. إذَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي بِالْبِيَاعَاتِ ثُمَّ قُطِعَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْأَخِيرِ تَرْجِعُ الْبَاعَةُ وَهُوَ جَمْعُ بَائِعٍ كَالْحَاكَةِ جَمْعُ حَائِكٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ الْأَخِيرُ عَلَى بَائِعِهِ وَلَا يَرْجِعُ بَائِعُهُ عَلَى بَائِعِهِ

ص: 395

وَقَوْلُهُ (فِي الْكِتَابِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي) يُفِيدُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ، وَلَا يُفِيدُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ. .

(قَالَ: وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَشَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِعَيْبٍ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْعُيُوبَ بِعَدَدِهَا)

كَمَا فِي الْعَيْبِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَخِيرَ لَمْ يَصِرْ حَابِسًا حَيْثُ لَمْ يَبِعْهُ، وَلَا كَذَلِكَ الْآخَرُونَ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ لِنُقْصَانِ الْعَيْبِ لِمَا تَقَدَّمَ

(قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ) أَيْ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي يُفِيدُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا لِأَنَّ) هَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْعَيْبِ عِنْدَهُمَا وَالْعِلْمُ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ، وَلَا يُفِيدُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْعِلْمُ بِهِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ.

وَقَوْلُهُ (فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ حِلَّ الدَّمِ مِنْ وَجْهٍ كَالِاسْتِحْقَاقِ وَمِنْ وَجْهٍ كَالْعَيْبِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَلِشَبَهِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ قُلْنَا عِنْدَ الْجَهْلِ بِهِ يَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَلِشَبَهِهِ بِالْعَيْبِ قُلْنَا لَا يَرْجِعُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ هَذَا كَالِاسْتِحْقَاقِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَقَدْ انْدَفَعَ حِينَ عَلِمَ بِهِ وَاشْتَرَاهُ.

وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: إذَا اشْتَرَاهُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِحِلِّ دَمِهِ فَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ أَيْضًا إذَا قُتِلَ عِنْدَهُ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْجَهْلَ وَالْعِلْمَ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْعِلْمُ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ. قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَهَذَا عَيْبٌ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِنُقْصَانِ الثَّمَنِ، وَلَكِنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ وَنُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ لَا حَقِيقَتَهُ، لِأَنَّ فِي حَقِيقَتِهِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ أَوْ جَاهِلًا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهُنَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ كَوْنَهَا أَصَحَّ أَوْ صَحِيحًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ صِحَّةُ النَّقْلِ وَشُهْرَتُهُ فَلَا يُرَدُّ السُّؤَالُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ. وَقَوْلُهُ فِي النَّظَرِ وَهَذَا عَيْبٌ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ أَوْ أَنَّهُ عَيْبٌ مِنْ وَجْهٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعَيْبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالدَّلَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَأُجْرِيَ مَجْرَاهُ

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَشَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ) الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ صَحِيحٍ

ص: 396

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ لَا يَصِحُّ. هُوَ يَقُولُ: إنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ حَتَّى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ، وَتَمْلِيكُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ. وَلَنَا أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْإِسْقَاطِ

سَمَّى الْعُيُوبَ وَعَدَدَهَا أَوْ لَا عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ وَقَفَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقِفْ أَشَارَ إلَيْهِ أَوْ لَا مَوْجُودًا كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَدْخُلُ الْحَادِثُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ.

وَقَالَ زُفَرُ: إذَا كَانَ مَجْهُولًا صَحَّ الْبَيْعُ وَفَسَدَ الشَّرْطُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ) مَا لَمْ يَقُلْ مِنْ عَيْبِ كَذَا وَمِنْ عَيْبِ كَذَا. وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْ الْعَيْبِ مَعَ التَّسْمِيَةِ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي. وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَجْلِسِ أَبِي جَعْفَرٍ الدَّوَانِيقِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: أَرَأَيْت لَوْ بَاعَ جَارِيَةً فِي الْمَأْتِيِّ مِنْهَا عَيْبٌ أَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُرِيَ الْمُشْتَرِيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْهَا؟ أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ بَعْضَ حَرَمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَاعَ عَبْدًا بِرَأْسِ ذَكَرِهِ بَرَصٌ أَكَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُرِيَ الْمُشْتَرِيَ ذَلِكَ؟ وَمَا زَالَ حَتَّى أَفْحَمَهُ وَضَحِكَ الْخَلِيفَةُ مِمَّا صَنَعَ بِهِ.

الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَهُ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْمَدْيُونَ عَنْ دَيْنِهِ فَرَدَّ الْإِبْرَاءَ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ، وَتَمْلِيكُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ. وَلَنَا أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ لَا تَمْلِيكٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ وَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ بِأَسْقَطْت عَنْك دَيْنِي، وَلِأَنَّهُ يَتِمُّ بِلَا قَبُولٍ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ، وَالْإِسْقَاطُ لَا تُفْضِي الْجَهَالَةُ فِيهِ إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا أَبْطَلَتْ التَّمْلِيكَاتِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْإِسْقَاطِ فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا لَهُ،

ص: 397

لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِهِ التَّمْلِيكُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى التَّسْلِيمِ فَلَا تَكُونُ مُفْسِدَةً

وَلِهَذَا جَازَ طَلَاقُ نِسَائِهِ وَإِعْتَاقُ عَبِيدِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي عَدَدَهُمْ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِهِ التَّمْلِيكُ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ ضِمْنًا، وَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ مَا قُلْنَاهُ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَحْضَ التَّمْلِيكِ لَا يَبْطُلُ بِجَهَالَةٍ لَا تُفَوِّتُ التَّسْلِيمَ، كَمَا إذَا بَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةِ فُلَانٍ لَا يَبْطُلُ الْإِسْقَاطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالْمُسْقِطُ مُتَلَاشٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّسْلِيمِ أَوْلَى.

وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْبَرَاءَةَ تَتَنَاوَلُ الثَّابِتَ حَالَ الْبَرَاءَةِ لِأَنَّ مَا يُحْبَسُ مَجْهُولٌ لَا يُعْلَمُ أَيَحْدُثُ أَمْ لَا وَأَيُّ مِقْدَارٍ يَحْدُثُ وَالثَّابِتُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ. وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْغَرَضُ مِنْ الْإِبْرَاءِ إلْزَامُ الْعَقْدِ بِإِسْقَاطِ حَقِّ الْمُشْتَرِي عَنْ صِفَةِ السَّلَامَةِ لِيَقْدِرَ عَلَى التَّسْلِيمِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ نَصَّ بِالْحَادِثِ فَقَالَ بِعْت بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ أَوْ مَا يَحْدُثُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْحُكْمُ الَّذِي يَفْسُدُ تَنْصِيصُهُ كَيْفَ يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْبَرَاءَةِ؟ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ الْإِجْمَاعَ فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ الْفَرْقَ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ هَاهُنَا يَتَنَاوَلُ الْعُيُوبَ الْمَوْجُودَةَ ثُمَّ يَدْخُلُ فِيهَا مَا يَحْدُثُ قَبْلَ الْقَبْضِ تَبَعًا، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي التَّصَرُّفِ تَبَعًا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا.

ص: 398

وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْبَرَاءَةِ الْعَيْبُ الْمَوْجُودُ وَالْحَادِثُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَادِثُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رحمه الله؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تَتَنَاوَلُ الثَّابِتَ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْغَرَضَ إلْزَامُ الْعَقْدِ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ صِفَةِ السَّلَامَةِ وَذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إنَّ مَا يَحْدُثُ مَجْهُولٌ أَنَّ مِثْلَهُ مِنْ الْجَهَالَةِ غَيْرُ مَانِعٍ فِي الْإِسْقَاطِ كَمَا تَقَدَّمَ (قَوْلُهُ وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْبَرَاءَةِ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ قَالَ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الْحَادِثِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ بِهِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَوْجُودِ

.

ص: 399

(بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ)

(بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ)

ص: 400

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 401

(وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا مُحَرَّمًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ كَالْبَيْعِ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ، وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ كَالْحُرِّ)

تَأْخِيرُ غَيْرِ الصَّحِيحِ عَنْ الصَّحِيحِ لَعَلَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى تَنْبِيهٍ، وَلُقِّبَ الْبَابُ بِالْفَاسِدِ وَإِنْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ وَعَلَى الْبَاطِلِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ بِتَعَدُّدِ أَسْبَابِهِ. وَالْبَاطِلُ هُوَ مَا لَا يَكُونُ صَحِيحًا أَصْلًا وَوَصْفًا، وَالْفَاسِدُ هُوَ مَا لَا يَصِحُّ وَصْفًا، وَكُلُّ مَا أَوْرَثَ خَلَلًا فِي رُكْنِ الْمَبِيعِ فَهُوَ مُبْطِلٌ، وَمِمَّا أَوْرَثَهُ فِي غَيْرِهِ كَالتَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ الْوَاجِبَيْنِ بِهِ وَالِانْتِفَاعِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَعَدَمِ الْإِطْلَاقِ عَنْ شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مُفْسِدٌ، وَعَلَى هَذَا تُفَصَّلُ الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ فَيُقَالُ: الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ لُغَةٌ وَهُوَ الَّذِي مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَالدَّمُ وَالْحُرُّ بَاطِلٌ لِانْعِدَامِ الرُّكْنِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُعَدُّ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ دِينٌ سَمَاوِيٌّ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا لُغَةٌ لِتَخْرُجَ الْمَخْنُوقَةُ وَأَمْثَالُهَا كَالْمَجْرُوحَةِ بِالْمَذْبُوحَةِ فِي غَيْرِ الْمَذْبَحِ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الذَّبِيحَةِ عِنْدَنَا، وَلِهَذَا إذَا بَاعُوا ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ جَازَ. ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ وَإِنْ كَانَ مَيْتَةً عِنْدَنَا، بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَإِنَّ بَيْعَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ عِنْدَهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فَاللَّامُ الِاسْتِغْرَاقِ عَلَى عُمُومِهِ فِي بِيَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَالْبَيْعُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَاسِدٌ لِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ وَهِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَإِنَّهُ أَيْ الْمَذْكُورَ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا أَوَّلْنَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَالٌ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ تَقَوُّمَهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَتَمَوَّلُوهَا كَمَا أَبْطَلَ قِيمَةَ الْجَوْدَةِ بِانْفِرَادِهَا فِي حَقِّ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَلَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ

ص: 402

قَالَ رضي الله عنه: هَذِهِ فُصُولُ جَمْعِهَا، وَفِيهَا تَفْصِيلٌ نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَنَقُولُ: الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ بَاطِلٌ، وَكَذَا بِالْحُرِّ لِانْعِدَامِ رُكْنِ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُعَدُّ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ وَالْبَيْعُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَاسِدٌ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ مَالٌ عِنْدَ الْبَعْضِ

عِنْدَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَأْوِيلٍ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ.

ص: 403

وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ؛.

وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ يَكُونُ أَمَانَةً عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَبَقِيَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَكُونُ مَضْمُونًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. وَقِيلَ الْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَالثَّانِي قَوْلُهُمَا كَمَا فِي بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْفَاسِدُ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ وَيَكُونُ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ.

وَقَوْلُهُ (وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ) كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ، وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ وَمَا لَا يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ فَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ.

(وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِي الْبَاطِلِ يَكُونُ أَمَانَةً عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ) أَبِي أَحْمَدَ الطَّوَاوِيسِيِّ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، نَقَلَهُ أَبُو الْمُعِينِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ (لِأَنَّ الْعَقْدَ) بَاطِلٌ وَالْبَاطِلَ (غَيْرُ مُعْتَبَرٍ) وَالْقَبْضَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَيَكُونُ أَمَانَةً (وَعِنْدَ بَعْضٍ آخَرَ) شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ (يَكُونُ مَضْمُونًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ) لِوُجُودِ صُورَةِ الْعِلَّةِ هَاهُنَا دُونَ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَفِيهِ الْقِيمَةُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا؛ وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ هُوَ أَنْ يُسَمِّيَ الثَّمَنَ فَيَقُولَ اذْهَبْ بِهَذَا فَإِنْ رَضِيته اشْتَرَيْته بِعَشَرَةٍ. أَمَّا إذَا لَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ فَذَهَبَ بِهِ فَهَلَكَ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُ، نَصَّ عَلَيْهِ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي الْعُيُونِ. قِيلَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْبَلْخِيُّ (الْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّانِي قَوْلُهُمَا كَمَا فِي بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْفَاسِدُ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ) أَيْ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، وَأَمَّا إذَا قَبَضَهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ ذُكِرَ فِي الْمَأْذُونِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ. قَالُوا: ذَلِكَ

ص: 404

وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا.

وَكَذَا بَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُرِّ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَمْوَالًا فَلَا تَكُونُ مَحِلًّا لِلْبَيْعِ.

وَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إنْ كَانَ قُوبِلَ بِالدَّيْنِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ قُوبِلَ بِعَيْنٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ حَتَّى يَمْلِكَ مَا يُقَابِلُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ عَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ مَالٌ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ لِمَا أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ إعْزَازِهِ، وَفِي تَمَلُّكِهِ بِالْعَقْدِ مَقْصُودًا إعْزَازٌ لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهُمَا بِالدَّرَاهِمِ فَالدَّرَاهِمُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ؛ لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِمَا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَمْرُ فَسَقَطَ التَّقَوُّمُ أَصْلًا، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الثَّوْبَ بِالْخَمْرِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلثَّوْبِ إنَّمَا يَقْصِدُ تَمَلُّكَ الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ. وَفِيهِ إعْزَازٌ لِلثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ فَبَقِيَ ذِكْرُ الْخَمْرِ مُعْتَبَرًا فِي تَمَلُّكِ الثَّوْبِ لَا فِي حَقِّ نَفْسِ الْخَمْرِ حَتَّى فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ شِرَاءُ الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ لِكَوْنِهِ مُقَايَضَةً.

مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ شَيْئًا لَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ بِالْقَبْضِ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ شَيْئًا يَمْلِكُهُ فَقَبْضُ الثَّمَنِ مِنْهُ يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَفَادَ ذَلِكَ الْمِلْكَ لَجَازَ لِلْمُشْتَرِي وَطْءُ جَارِيَةٍ اشْتَرَاهَا شِرَاءً فَاسِدًا وَجَازَ أَخْذُ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ وَيَحِلُّ أَكْلُ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُطْلَقٌ لَهُ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا لَمْ يَحِلَّ وَطْؤُهَا وَأَكْلُهُ لَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ فِيمَا ذُكِرَتْ لِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْوَطْءِ وَالْأَكْلِ إعْرَاضًا عَنْ الرَّدِّ، وَفِي الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ تَقْرِيرَ الْفَسَادِ وَتَأْكِيدَهُ فَلَا يَجُوزُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا فِي مَبْنَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمُشْتَرَى بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ: فَذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ إلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَسْلِيطِ الْبَائِعِ عَلَى ذَلِكَ لَا عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ. قَالُوا لَوْ مَلَكَ الْعَيْنَ لَمَلَكَ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ وَلَمْ يَمْلِكْهَا. وَذَهَبَ مَشَايِخُ بَلْخِي إلَى أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ بِنَاءٌ عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا إذَا اشْتَرَى دَارًا بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ وَقَبَضَهَا فَبِيعَ بِجَنْبِهَا دَارٌ أُخْرَى فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ وَقَبَضَهَا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَلَوْ بَاعَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ عَبْدَ يَتِيمٍ بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ، وَلَوْ كَانَ عِتْقُهُ عَلَى وَجْهِ التَّسْلِيطِ لَمَا جَازَ لِأَنَّ عِتْقَهُمَا أَوْ تَسْلِيطَهُمَا عَلَى الْعِتْقِ لَا يَجُوزُ فَعُلِمَ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَيْنَ. وَأَجَابُوا عَنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ بِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَإِذَا كَانَ مُفِيدًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ كَانَ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ: أَيْ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَابَ (قَوْلُهُ وَكَذَا بَيْعُ الْمَيْتَةِ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَاطِلٌ فَكَذَا بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَمْوَالًا فَلَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ، وَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالدَّيْنِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْ بِالْعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْخَمْرِ وَلَا مَا يُقَابِلُهَا. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْخَمْرِ وَيُفِيدُ مِلْكَ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ الْبَدَلِ بِالْقَبْضِ.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ: أَيْ غَيْرُ مُعَزَّزٍ يُقَابِلُهُ قِيمَةٌ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ إعْزَازِهِ،

ص: 405

قَالَ (وَبَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فَاسِدٌ) وَمَعْنَاهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ قَدْ ثَبَتَ لِأُمِّ الْوَلَدِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَسَبَبُ الْحُرِّيَّةِ انْعَقَدَ فِي الْمُدَبَّرِ فِي الْحَالِ لِبُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ،

وَمَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِتَرْكِ إعْزَازِهِ لَا يَكُونُ مَعْزُوزًا فَلَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا، وَفِي تَمَلُّكِهِ بِالْعَقْدِ مَقْصُودًا: أَيْ يَجْعَلُهُ مَبِيعًا إعْزَازًا لَهُ وَهُوَ خِلَافُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَبَيَانُهُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالدَّرَاهِمُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِمَا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَمْرُ، وَفِي جَعْلِهِ كَذَلِكَ خِلَافُ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَسْقُطُ التَّقَوُّمُ أَصْلًا لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى خِلَافِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الثَّوْبَ بِالْخَمْرِ لِأَنَّ مُشْتَرِيَ الثَّوْبِ يَجْعَلُهُ مَبِيعًا إنَّمَا يَقْصِدُ تَمَلُّكَ الثَّوْبِ بِوَسِيلَةِ الْخَمْرِ، وَفِيهِ إعْزَازٌ لِلثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُهَا لِنَفْسِهَا بَلْ لِغَيْرِهَا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إعْزَازُهَا وَلَا خِلَافُ مَا أَمَرَ بِهِ فَلَا يَكُونُ بَاطِلًا وَفَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ يَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا، وَإِنْ وَقَعَ الْخَمْرُ مَبِيعًا وَالثَّوْبُ ثَمَنًا بِدُخُولِ الْبَائِعِ لِكَوْنِهِ مُقَايَضَةً وَفِيهَا كُلٌّ مِنْ الْعِوَضَيْنِ يَكُونُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْخَمْرِ جِهَةُ الثَّمَنِيَّةِ رُجِّحَ جَانِبُ الْفَسَادِ عَلَى جَانِبِ الْبُطْلَانِ صَوْنًا لِلتَّصَرُّفِ عَنْ الْبُطْلَانِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.

قَالَ (وَبَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فَاسِدٌ) أَيْ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِاتِّصَالِ الْقَبْضِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ قَدْ ثَبَتَ إلَخْ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ مُنَافَاةً لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ عِبَارَةٌ عَنْ جِهَةِ حُرِّيَّةٍ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا الْإِبْطَالُ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ يُبْطِلُهُمَا، وَأَحَدُ الْمُتَنَافِيَيْنِ وَهُوَ الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» فَيَنْتَفِي الْآخَرُ. لَا يُقَالُ: وَهُوَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ وَأَنْتُمْ تَحْمِلُونَهُ عَلَى حَقِّهِ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِأَنَّ الْمَجَازَ مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَكَذَلِكَ الْمُنَافَاةُ ثَابِتَةٌ بَيْنَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ فِي الْحَالِ وَبَيْنَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ لِتَنَافِي اللَّوَازِمِ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَعَ الْحُرِّيَّةِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَكَذَلِكَ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ وَالْبَيْعِ وَأَحَدُ الْمُتَنَافِيَيْنِ وَهُوَ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْحَالِ لَكَانَ إمَّا غَيْرَ ثَابِتٍ مُطْلَقًا أَوْ ثَابِتًا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إهْمَالَ لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ وَالْإِعْمَالُ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الثَّانِي لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَالَ بُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ. فَمَتَى قُلْنَا إنَّهُ يَنْعَقِدُ سَبَبًا بَعْدَ الْمَوْتِ احْتَجْنَا إلَى بَقَاءِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْمَوْتُ يُنَافِيهَا فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْقَوْلِ بِانْعِقَادِ التَّدْبِيرِ سَبَبًا فِي الْحَالِ وَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَكَذَلِكَ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْمُكَاتَبِ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ لَازِمَةً فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَبَيْنَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ مُنَافَاةٌ، لَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ اللَّازِمَةِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فَسْخَ الْكِتَابَةِ بِدُونِ رِضَا الْمُكَاتَبِ فَيَنْتَفِي الْآخَرُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى فَسْخِهَا بِتَعْجِيزِهِ نَفْسَهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ بَطَلَ بَيْعُ هَؤُلَاءِ لَكَانَ كَبَيْعِ الْحُرِّ وَحِينَئِذٍ بَطَلَ بَيْعُ الْقِنِّ الْمَضْمُومِ

ص: 406

وَالْمُكَاتَبُ اسْتَحَقَّ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ لَازِمَةً فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ بِالْبَيْعِ لَبَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَلَا يَجُوزُ، وَلَوْ رَضِيَ الْمُكَاتَبُ بِالْبَيْعِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ، وَالْمُرَادُ الْمُدَبَّرُ الْمُطْلَقُ دُونَ الْمُقَيَّدِ، وَفِي الْمُطْلَقِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَتَاقِ.

إلَيْهِمْ فِي الْبَيْعِ كَالْمَضْمُومِ إلَى الْحُرِّ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ بَيْعَ الْحُرِّ بَاطِلٌ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً لِعَدَمِ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ أَصْلًا بِثُبُوتِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، وَبَيْعُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ بَقَاءً لِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ لَا ابْتِدَاءً لِعَدَمِ حَقِيقَتِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بَيِّنٌ وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ نَفَذَ قَضَاؤُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ دَخَلُوا فِي الْبَيْعِ ابْتِدَاءً لِكَوْنِهِمْ مَحَلًّا لَهُ فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ فَبَقِيَ الْقِنُّ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْبَيْعُ بِالْحِصَّةِ بَقَاءٌ جَائِزٌ بِخِلَافِ الْحُرِّ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدْخُلْ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ لَزِمَ الْبَيْعُ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً وَأَنَّهُ بَاطِلٌ عَلَى مَا يَجِيءُ. قَالَ (وَلَوْ رَضِيَ الْمُكَاتَبُ بِالْبَيْعِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ إلَخْ) لِأَنَّ عَدَمَهُ كَانَ لِحَقِّهِ، فَلَمَّا أَسْقَطَ حَقَّهُ بِرِضَاهُ انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ وَجَازَ الْبَيْعُ. وَرُوِيَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُدَبَّرِ هُوَ الْمُطْلَقُ دُونَ الْمُقَيَّدِ بِالتَّفْسِيرِ الْمَارِّ فِي التَّدْبِيرِ، وَفِي الْمُطْلَقِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ

وَإِنْ مَاتَتْ أُمُّ الْوَلَدِ أَوْ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهَذَا لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ الرِّوَايَتَانِ عَنْهُ فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ. رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْمُدَبَّرِ بِالْبَيْعِ كَمَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ أُمِّ الْوَلَدِ فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْبَيْعِ وَالْغَصْبِ لِأَنَّهَا لَا تَقَوُّمَ لِمَالِيَّتِهَا. وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ ضَمَانِ الْغَصْبِ فِي الْمُدَبَّرِ وَضَمَانِ بَيْعِهِ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْمُعَلَّى أَنَّ ضَمَانَ الْبَيْعِ وَإِنْ أَشْبَهَ ضَمَانَ الْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ الدُّخُولُ فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ جِهَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ انْهَدَرَتْ هَذِهِ الْجِهَةُ فَبَقِيَ قَبْضًا بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ. لَهُمَا أَنَّهُ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ يَدْخُلَانِ تَحْتَ الْعَقْدِ حَتَّى يَمْلِكَ بِالضَّمِّ إلَيْهِمَا فِي الْبَيْعِ كَمَا مَرَّ آنِفًا، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَضْمُونٌ كَسَائِرِ

ص: 407

قَالَ (وَإِنْ مَاتَتْ أُمُّ الْوَلَدِ أَوْ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: عَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ لَهُمَا أَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُدَبَّرُ وَأُمَّ الْوَلَدِ يَدْخُلَانِ تَحْتَ الْبَيْعِ حَتَّى يَمْلِكَ مَا يُضَمُّ إلَيْهِمَا فِي الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ الْقَبْضُ وَهَذَا الضَّمَانُ بِهِ

الْأَمْوَالِ الْمَقْبُوضَةِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الدُّخُولُ تَحْتَ الْبَيْعِ وَتَمَلُّكُ مَا يُضَمُّ إلَيْهِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لَكَانَ فِي الْمُكَاتَبِ كَذَلِكَ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ الْقَبْضُ وَهَذَا الضَّمَانُ بِالْقَبْضِ

ص: 408

وَلَهُ أَنَّ جِهَةَ الْبَيْعِ إنَّمَا تَلْحَقُ بِحَقِيقَةٍ فِي مَحِلٍّ يَقْبَلُ الْحَقِيقَةَ وَهُمَا لَا يَقْبَلَانِ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ فَصَارَا كَالْمُكَاتَبِ، وَلَيْسَ دُخُولُهُمَا فِي الْبَيْعِ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِيَثْبُتَ حُكْمُ الْبَيْعِ فِيمَا ضُمَّ إلَيْهِمَا فَصَارَ كَمَالِ الْمُشْتَرِي لَا يَدْخُلُ فِي حُكْمِ عَقْدِهِ بِانْفِرَادِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الدُّخُولِ فِيمَا ضَمَّهُ إلَيْهِ، كَذَا هَذَا.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّمَكِ قَبْلَ أَنْ يُصْطَادَ) لِأَنَّهُ بَاعَ مَالًا يَمْلِكُهُ (وَلَا فِي حَظِيرَةٍ إذَا كَانَ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِصَيْدٍ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، وَمَعْنَاهُ إذَا أَخَذَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِيهَا لَوْ كَانَ يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ حِيلَةٍ جَازَ، إلَّا إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهَا بِأَنْفُسِهَا وَلَمْ يَسُدَّ عَلَيْهَا الْمَدْخَلَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ

وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَدَارَ هُوَ الْقَبْضُ لَا الدُّخُولُ فِي الْعَقْدِ وَتَمَلُّكُ الْمَضْمُومِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جِهَةَ الْبَيْعِ إنَّمَا تُوجِبُ الضَّمَانَ فِي الْأَمْوَالِ إلْحَاقًا بِحَقِيقَتِهِ فِي مَحَلٍّ يَقْبَلُ الْحَقِيقَةَ، وَهُمَا: أَيْ أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ لَا يَقْبَلَانِ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ فَلَا تُلْحَقُ الْجِهَةُ بِهَا فَصَارَا كَالْمُكَاتَبِ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْحَقِيقَةِ (قَوْلُهُ وَلَيْسَ دُخُولُهُمَا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا يَدْخُلَانِ تَحْتَ الْبَيْعِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ فَائِدَةَ الدُّخُولِ لَا تَنْحَصِرُ فِي نَفْسِ الدَّاخِلِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إلَى غَيْرِهِ كَثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فِيمَا ضُمَّ إلَيْهِمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَبْعَدٍ بَلْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ عَبْدًا مَعَ عَبْدِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا فَيَأْخُذُ الْمُشْتَرِي عَبْدَ الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي حَقِّ عَبْدِ الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ هَذَا.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَصْطَادَهُ) بَيْعُ السَّمَكِ قَبْلَ الِاصْطِيَادِ بَيْعُ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ فَلَا يَجُوزُ، وَإِذَا اصْطَادَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي الْحَظِيرَةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ مِنْهَا إلَّا بِتَكَلُّفٍ وَاحْتِيَالٍ، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً جَازَ لِأَنَّهُ بَاعَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَإِذَا سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَإِنْ رَآهَا فِي الْمَاءِ لِأَنَّ السَّمَكَ يَتَفَاوَتُ خَارِجَ الْمَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ (قَوْلُهُ إلَّا إذَا اجْتَمَعَتْ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ جَازَ: يَعْنِي الْحَظِيرَةَ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ حِيلَةٍ جَازَ إلَّا إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهَا بِأَنْفُسِهَا وَلَمْ يُسَدَّ عَلَيْهَا الْمَدْخَلُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمَأْخُوذِ الْمُلْقَى

ص: 409

قَالَ (وَلَا بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ قَبْلَ الْأَخْذِ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ

فِي الْحَظِيرَةِ وَالْمُجْتَمَعُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِيهِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ سَدَّ صَاحِبُ الْحَظِيرَةِ عَلَيْهَا مَلَكَهَا، أَمَّا بِمُجَرَّدِ الِاجْتِمَاعِ فِي مِلْكِهِ فَلَا، كَمَا لَوْ بَاضَ الطَّيْرُ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ أَوْ فَرَّخَتْ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ. لَا يُشْكِلُ بِمَا إذَا عَسَّلَ النَّحْلُ فِي أَرْضِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِمُجَرَّدِ اتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْرِزَهُ أَوْ يُهَيِّئَ لَهُ مَوْضِعًا، لِأَنَّ الْعَسَلَ إذْ ذَاكَ قَائِمٌ بِأَرْضِهِ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ فَصَارَ كَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِيهَا، بِخِلَافِ بَيْضِ الطَّيْرِ وَفَرْخِهَا وَالسَّمَكُ الْمُجْتَمِعُ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ.

قَالَ (وَلَا) يَجُوزُ (بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ) بَيْعُ الطَّيْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ بَيْعُهُ فِي الْهَوَاءِ قَبْلَ أَنْ يَصْطَادَهُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ. وَالثَّانِي بَيْعُهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَهُ وَأَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ. وَالثَّالِثُ بَيْعُ طَيْرٍ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ كَالْحَمَامِ وَهُوَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ فِي الظَّاهِرِ. وَذُكِرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ

ص: 410

قَالَ (وَلَا بَيْعُ الْحَمْلِ وَلَا النِّتَاجِ)«لِنَهْيِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام عَنْ بَيْعِ الْحَبَلِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ» وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا.

(وَلَا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ لِلْغَرَرِ) فَعَسَاهُ انْتِفَاخٌ، وَلِأَنَّهُ يُنَازَعُ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلْبِ، وَرُبَّمَا يَزْدَادُ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ.

قَالَ (وَلَا الصُّوفُ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ) لِأَنَّهُ مِنْ أَوْصَافِ الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّهُ يَنْبُتُ مِنْ أَسْفَلَ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْقَوَائِمِ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ مِنْ أَعْلَى،

وَإِنْ بَاعَ طَيْرًا لَهُ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ إنْ كَانَ دَاجِنًا يَعُودُ إلَى بَيْتِهِ وَيَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ جَازَ بَيْعُهُ وَإِلَّا فَلَا

(وَلَا) يَجُوزُ (بَيْعُ الْحَمْلِ) أَيْ الْجَنِينِ (وَلَا نِتَاجِ الْحَمْلِ) وَهُوَ حَبَلُ الْحَبَلِ، " وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَبَلِ وَحَبَلِ الْحَبَلِ» . وَالنِّتَاجُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ نَتَجَتْ النَّاقَةُ بِالضَّمِّ وَلَكِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَنْتُوجُ هَاهُنَا. وَالْحَبَلُ مَصْدَرُ حَبِلَتْ الْمَرْأَةُ حَبَلًا فَهِيَ حُبْلَى فَسُمِّيَ بِهِ الْمَحْمُولُ كَمَا سُمِّيَ بِالْحَمْلِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ التَّاءُ إشْعَارًا لِمَعْنَى الْأُنُوثَةِ فِيهِ. قِيلَ مَعْنَاهُ: أَنْ يَبِيعَ مَا سَوْفَ يَحْمِلُهُ الْجَنِينُ إنْ كَانَ أُنْثَى، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَادُونَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا وَهُوَ مَا طُوِيَ عَنْك عِلْمُهُ. قَالَ الْمُغْرِبُ فِي الْحَدِيثِ:«نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» : وَهُوَ الْخَطَرُ الَّذِي لَا يَدْرِي أَيَكُونُ أَمْ لَا كَبَيْعِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ.

قَالَ (وَلَا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ لِلْغَرَرِ إلَخْ) وَبَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ لَا يَجُوزُ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ لِلْغَرَرِ: لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الضَّرْعُ مُنْتَفِخًا يُظَنُّ لَبَنًا وَالْغَرَرُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلِلنِّزَاعِ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلْبِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَسْتَقْصِي فِي الْحَلْبِ وَالْبَائِعُ يُطَالِبُهُ بِأَنْ يَتْرُكَ دَاعِيَةَ اللَّبَنِ وَلِأَنَّهُ يَزْدَادُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَالْبَيْعُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الزِّيَادَةَ لِعَدَمِهَا عِنْدَهُ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ، وَاخْتِلَاطُ الْمَبِيعِ بِمَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ تَمْيِيزُهُ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ.

وَ‌

‌بَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ

لَا يَجُوزُ لِوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ أَوْصَافِ الْحَيَوَانِ لِأَنَّ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ فَهُوَ وَصْفٌ مَحْضٌ، بِخِلَافِ مَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالشَّجَرِ فَإِنَّهُ

ص: 411

وَبِخِلَافِ الْقَصِيلِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَلْعُهُ، وَالْقَطْعُ فِي الصُّوفِ مُتَعَيِّنٌ فَيَقَعُ التَّنَازُعُ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، وَعَنْ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ، وَعَنْ سَمْنٍ فِي لَبَنٍ» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي هَذَا الصُّوفِ حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَهُ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ.

عَيْنُ مَالٍ مَقْصُودٍ مِنْ وَجْهٍ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلِأَنَّهُ يَنْبُتُ مِنْ أَسْفَلَ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ مُبْطِلٌ كَمَا مَرَّ. فَإِنْ قِيلَ: الْقَوَائِمُ مُتَّصِلَةٌ بِالشَّجَرِ وَجَازَ بَيْعُهَا. أَجَابَ بِأَنَّهَا تَزِيدُ مِنْ أَعْلَاهَا فَلَا يَلْزَمُ الِاخْتِلَاطُ، حَتَّى لَوْ رَبَطْت خَيْطًا فِي أَعْلَاهَا وَتُرِكَتْ أَيَّامًا يَبْقَى الْخَيْطُ أَسْفَلَ مِمَّا فِي رَأْسِهَا الْآنَ، وَالْأَعْلَى مِلْكُ الْمُشْتَرِي، وَمَا وَقَعَ مِنْ الزِّيَادَةِ وَقَعَ فِي مِلْكِهِ. أَمَّا الصُّوفُ فَإِنَّ نُمُوَّهُ مِنْ أَسْفَلِهِ، فَإِنْ خَضَّبَ الصُّوفَ عَلَى ظَهْرِ الشَّاةِ ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى نَمَا فَالْمَخْضُوبُ يَبْقَى عَلَى رَأْسِهِ لَا فِي أَصْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْقَصِيلُ كَالصُّوفِ وَجَازَ بَيْعُهُ. أَجَابَ بِأَنَّ الْقَصِيلَ وَإِنْ أَمْكَنَ وُقُوعُ التَّنَازُعِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْقَطْعُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ مِنْ حَيْثُ الْقَطْعُ فَيُقْلَعُ، وَأَمَّا الْقَطْعُ فِي الصُّوفِ فَمُتَعَيَّنٌ إذْ لَمْ يُعْهَدْ فِيهِ الْقَلْعُ: أَيْ النَّتْفُ فَبَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ التَّنَازُعُ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَقَدْ صَحَّ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَعَنْ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ وَعَنْ سَمْنٍ فِي لَبَنٍ» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى

ص: 412

قَالَ (وَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ ذَكَرَا الْقَطْعَ أَوْ لَمْ يَذْكُرَاهُ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّسْلِيمُ إلَّا بِضَرَرٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ نُقْرَةٍ فِضَّةً لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِلْجَهَالَةِ أَيْضًا، وَلَوْ قَطَعَ الْبَائِعُ الذِّرَاعَ أَوْ قَلَعَ الْجِذْعَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي يَعُودُ صَحِيحًا لِزَوَالِ الْمُفْسِدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ النَّوَى فِي التَّمْرِ أَوْ الْبَذْرَ فِي الْبِطِّيخِ حَيْثُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا.

وَإِنْ شَقَّهُمَا وَأَخْرَجَ الْمَبِيعَ لِأَنَّ فِي وُجُودِهِمَا احْتِمَالًا،

ظَهْرِ الْغَنَمِ.

قَالَ (وَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ) إذَا بَاعَ جِذْعًا فِي سَقْفٍ أَوْ ذِرَاعًا مِنْ ثَوْبٍ: يَعْنِي ثَوْبًا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ كَالْقَمِيصِ لَا الْكِرْبَاسِ فَالْبَيْعُ لَا يَجُوزُ ذَكَرَ الْقَطْعَ أَوْ لَا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ إلَّا بِضَرَرٍ لَمْ يُوجِبْهُ الْعَقْدُ، وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ لَازِمًا فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ وَتَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّبْعِيضِ مَضَرَّةٌ كَبَيْعِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ نُقْرَةِ فِضَّةٍ وَذِرَاعٍ مِنْ كِرْبَاسٍ فَإِنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْجِذْعُ مُعَيَّنًا لَا يَجُوزُ لِلُزُومِ الضَّرَرِ وَلِلْجَهَالَةِ أَيْضًا. وَلَوْ قَطَعَ الْبَائِعُ الذِّرَاعَ أَوْ قَلَعَ الْجِذْعَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي عَادَ الْبَيْعُ صَحِيحًا لِزَوَالِ الْمُفْسِدِ) وَهُوَ الضَّرَرُ (وَلَوْ بَاعَ النَّوَى فِي التَّمْرِ أَوْ الْبِزْرِ فِي الْبِطِّيخِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ شَقَّهُمَا وَأَخْرَجَ الْمَبِيعَ لِأَنَّ فِي وُجُودِهِمَا احْتِمَالًا) أَيْ هُوَ شَيْءٌ

ص: 413

أَمَّا الْجِذْعُ فَعَيْنٌ مَوْجُودٌ.

قَالَ (وَضَرْبَةِ الْقَانِصِ) وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الصَّيْدِ بِضَرْبِ الشَّبَكَةِ مَرَّةً لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا. .

مُغَيَّبٌ وَهُوَ فِي غِلَافِهِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. فَإِنْ قِيلَ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا وَأَمْثَالِهَا بَيْعُ مَا فِي وُجُودِهِ احْتِمَالٌ فَإِنَّهُ شَيْءٌ مُغَيَّبٌ فِي غِلَافِهِ وَهُوَ جَائِزٌ. أُجِيبَ بِأَنَّ جَوَازَهُ بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ انْطِلَاقِ اسْمِ الْمَبِيعِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا يَتَّصِلُ بِهِ، فَإِنَّ الْحِنْطَةَ إذَا بِيعَتْ فِي سُنْبُلِهَا إنَّمَا يُقَالُ بِعْت هَذِهِ الْحِنْطَةَ فَالْمَذْكُورُ صَرِيحًا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَصَحَّ الْعَقْدُ إعْمَالًا لِتَصْحِيحِ لَفْظِهِ، وَأَمَّا بِزْرُ الْبِطِّيخِ وَنَوَى التَّمْرِ وَحَبُّ الْقُطْنِ فَاسْمُ الْمَبِيعِ وَهُوَ الْبِزْرُ وَالنَّوَى وَالْحَبُّ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، إذْ لَا يُقَالُ هَذَا بِزْرٌ وَنَوًى وَحَبٌّ بَلْ يُقَالُ هَذَا بِطِّيخٌ وَتَمْرٌ وَقُطْنٌ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مَذْكُورًا، وَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فَلَيْسَ بِمَبِيعٍ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ وَاضِحٌ وَطَرِيقُ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

وَقَوْلُهُ (أَمَّا الْجِذْعُ فَعَيْنٌ مَوْجُودَةٌ) إشَارَةٌ إلَى إتْمَامِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِزْرِ وَالنَّوَى وَالْجِذْعِ الْمُعَيَّنُ فِي السَّقْفِ بِأَنَّ الْجِذْعَ مُعَيَّنٌ مَوْجُودٌ إذْ الْفَرْضُ فِيهِ وَالْبِزْرُ وَالنَّوَى لَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا بَاعَ جِلْدَ الشَّاةِ الْمَعِيبَةِ قَبْلَ الذَّبْحِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ ذَبَحَ الشَّاةَ وَسَلَخَ جِلْدَهَا وَسَلَّمَهُ لَا يَنْقَلِبُ الْبَيْعُ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ الْجِلْدُ عَيْنًا مَوْجُودًا كَالْجِذْعِ فِي السَّقْفِ، وَكَذَا بَيْعُ كَرِشِهَا وَأَكَارِعِهَا. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَبِيعَ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ لَكِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِغَيْرِهِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ فَكَانَ تَابِعًا لَهُ، فَكَانَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ هُنَاكَ مَعْنًى أَصْلِيًّا لَا أَنَّهُ اُعْتُبِرَ عَاجِزًا حُكْمًا لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ شَيْءٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ، وَأَمَّا الْجِذْعُ فَإِنَّهُ عَيْنُ مَالٍ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِعَارِضِ فِعْلِ الْعِبَادِ، وَالْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ حُكْمِيٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ بِنَاءٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا قُلِعَ وَالْتَزَمَ الضَّرَرُ زَالَ الْمَانِعُ فَيَجُوزُ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ وَطَرِيقِ مَنْ لَا يَرَى بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَالَ (وَضَرْبَةُ الْقَانِصِ) الْقَانِصُ الصَّائِدُ، يُقَالُ قَنَصَ إذَا صَادَ. وَضَرْبَةُ الْقَانِصِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الصَّيْدِ بِضَرْبِ الشَّبَكَةِ. يُقَالُ ضَرَبَ الشَّبَكَةَ عَلَى الطَّائِرِ أَلْقَاهَا، وَمِنْهُ نَهَى عَنْ ضَرْبِهِ. وَفِي تَهْذِيبِ الْأَزْهَرِيِّ عَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ وَهُوَ الْغَوَّاصُ عَلَى اللَّآلِئِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلتَّاجِرِ أَغُوصُ لَك غَوْصَةً فَمَا أَخْرَجْت فَهُوَ لَك بِكَذَا، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَأَنَّ فِيهِ غَرَرًا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي الشَّبَكَةِ شَيْءٌ مِنْ الصَّيْدِ وَأَنْ لَا يُخْرِجَ مِنْ الْغَوْصَةِ

ص: 414

قَالَ (وَبَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى النَّخِيلِ بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ مِثْلِ كَيْلِهِ خَرْصًا)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ» فَالْمُزَابَنَةُ مَا ذَكَرْنَا، وَالْمُحَاقَلَةُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْلِ كَيْلِهَا خَرْصًا؛ وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَكِيلًا بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ فَلَا تَجُوزُ بِطَرِيقِ الْخَرْصِ كَمَا إذَا كَانَا مَوْضُوعَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ، وَكَذَا الْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ عَلَى هَذَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا وَهُوَ أَنْ يُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» . قُلْنَا: الْعَرِيَّةُ: الْعَطِيَّةُ لُغَةً، وَتَأْوِيلُهُ أَنْ يَبِيعَ الْمُعْرَى لَهُ مَا عَلَى

شَيْئًا.

قَالَ (وَبَيْعُ الْمُزَابَنَةِ) الرَّفْعُ فِيهِ وَالْجَرُّ وَالرَّفْعُ فِيمَا تَقَدَّمَ جَائِزٌ، وَالْمُزَابَنَةُ وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ عَلَى النَّخْلِ بِتَمْرٍ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مَجْذُوذَةٍ مِثْلُ كَيْلِ مَا عَلَى النَّخْلِ مِنْ الثَّمَرِ حَرْزًا وَظَنًّا لَا حَقِيقِيًّا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِثْلُهُ كَيْلًا حَقِيقِيًّا لَمْ يَبْقَ مَا عَلَى الرَّأْسِ ثَمَرًا بَلْ تَمْرًا مَجْذُوذًا كَاَلَّذِي يُقَابِلُهُ مِنْ الْمَجْذُوذِ لَا يَجُوزُ " لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ» وَالْمُحَاقَلَةُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْلِ كَيْلِهَا خَرْصًا، وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَكِيلًا بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ فَلَا يَجُوزُ خَرْصًا لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الرِّبَا الْمُلْحَقَةَ بِالْحَقِيقَةِ فِي التَّحْرِيمِ، كَمَا لَوْ كَانَا مَوْضُوعَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ وَبَاعَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ خَرْصًا، وَبَيْعُ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ عَلَى هَذَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَلَهُ فِي مِقْدَارِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ قَوْلَانِ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا، وَفَسَّرَهَا بِأَنْ يُبَاعَ الثَّمَرُ الَّذِي عَلَى رَأْسِ النَّخْلِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ بِخَرْصِهَا عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ الثَّمَرَةِ. قُلْنَا بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: سَلَّمْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا فَإِنَّ فِي الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ كَثْرَةً لَا يُمْكِنُ مَنْعُهَا، لَكِنْ لَيْسَ حَقِيقَةُ مَعْنَاهَا مَا ذَكَرْتُمْ بَلْ مَعْنَاهَا الْعَطِيَّةُ لُغَةً. وَتَأْوِيلُهَا أَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ مِنْ بُسْتَانِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ يَشُقُّ عَلَى الْمُعْرِي دُخُولُ الْمُعْرَى لَهُ فِي بُسْتَانِهِ كُلَّ يَوْمٍ لِكَوْنِ أَهْلِهِ فِي الْبُسْتَانِ وَلَا يَرْضَى مِنْ نَفْسِهِ خُلْفَ الْوَعْدِ وَالرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ فَيُعْطِيهِ مَكَانَ ذَلِكَ تَمْرًا مَجْذُوذًا بِالْخَرْصِ لِيَدْفَعَ ضَرَرَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ مُخْلِفًا لِوَعْدِهِ، وَبِهِ نَقُولُ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِمِلْكِ الْوَاهِبِ، فَمَا يُعْطِيهِ مِنْ التَّمْرِ لَا يَكُونُ عِوَضًا بَلْ هِبَةً مُبْتَدَأَةً، وَيُسَمَّى بَيْعًا مَجَازًا لِأَنَّهُ فِي الصُّورَةِ عِوَضٌ يُعْطِيهِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ خُلْفِ الْوَعْدِ، وَاتَّفَقَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ الرُّخْصَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى

ص: 415

النَّخِيلِ مِنْ الْمُعْرِي بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ، وَهُوَ بَيْعٌ مَجَازًا لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ فَيَكُونُ بُرًّا مُبْتَدَأً.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَزَةِ).

هَذَا فَنُقِلَ كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُ. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا» فَسِيَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَرَايَا بَيْعُ ثَمَرٍ بِتَمْرٍ. وَالثَّانِي أَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا الْعَرَايَا، وَالْأَصْلُ حَمْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْبَيْعِ حَقِيقَةُ بَيْعٍ لِوُجُوبِ دُخُولِهِ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ. وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يُنَافِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام الْمَشْهُورَ «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَالْمَشْهُورُ قَاضٍ عَلَيْهِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ)

ص: 416

وَهَذِهِ بُيُوعٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَتَرَاوَضَ الرَّجُلَانِ عَلَى سِلْعَةٍ: أَيْ يَتَسَاوَمَانِ، فَإِذَا لَمَسَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ نَبَذَهَا إلَيْهِ الْبَائِعُ أَوْ وَضَعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا حَصَاةً لَزِمَ الْبَيْعُ؛ فَالْأَوَّلُ بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالثَّانِي الْمُنَابَذَةُ، وَالثَّالِثُ إلْقَاءُ الْحَجَرِ، «وَقَدْ نَهَى عليه الصلاة والسلام عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ» وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْلِيقًا بِالْخَطَرِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ) لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ؛ وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِفُرُوعِهِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَرَاعِي وَلَا إجَارَتُهَا) الْمُرَادُ الْكَلَأُ، أَمَّا الْبَيْعُ فَلِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَا لَا يَمْلِكُهُ لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِيهِ بِالْحَدِيثِ،

سَامَ الْبَائِعُ السِّلْعَةَ: أَيْ عَرَضَهَا وَذَكَرَ ثَمَنَهَا، وَسَامَهَا الْمُشْتَرِي بِمَعْنَى اسْتَامَهَا. بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ هُوَ أَنْ يَتَسَاوَمَ الرَّجُلَانِ فِي السِّلْعَةِ فَيَلْمِسُهَا الْمُشْتَرِي بِيَدِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ ابْتِيَاعًا لَهَا رَضِيَ مَالِكُهَا بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَرْضَ. وَبَيْعُ الْمُنَابَذَةِ هُوَ أَنْ يَتَرَاوَضَ الرَّجُلَانِ عَلَى السِّلْعَةِ فَيُحِبُّ مَالِكُهَا إلْزَامَ الْمُسَاوِمِ لَهُ عَلَيْهَا إيَّاهَا فَيَنْبِذُهَا إلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ بِذَلِكَ وَلَا يَكُونُ لَهُ رَدُّهَا عَلَيْهِ. وَبَيْعُ إلْقَاءِ الْحَجَرِ هُوَ أَنْ يَتَسَاوَمَ الرَّجُلَانِ عَلَى السِّلْعَةِ فَإِذَا وَضَعَ الطَّالِبُ لِشِرَائِهَا حَصَاةً عَلَيْهَا تَمَّ الْبَيْعُ فِيهَا عَلَى صَاحِبِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا ارْتِجَاعٌ فِيهَا. وَهَذِهِ كَانَتْ بُيُوعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَعِبَارَةُ الْكِتَابِ تُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَبَيْعُ إلْقَاءِ الْحَجَرِ مُلْحَقٌ بِهِمَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُمَا، وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْلِيقًا بِالْخَطَرِ وَالتَّمْلِيكَاتُ لَا تَحْتَمِلُهُ لِأَدَائِهِ إلَى مَعْنَى الْقِمَارِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: أَيُّ ثَوْبٍ أَلْقَيْت عَلَيْهِ الْحَجَرَ فَقَدْ بِعْته، وَأَيُّ ثَوْبٍ لَمَسْته بِيَدِك فَقَدْ بِعْته، وَأَيُّ ثَوْبٍ نَبَذْته إلَيَّ فَقَدْ اشْتَرَيْته.

(وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ) لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهمَا شِئْت فَإِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَرَاعِي وَلَا إجَارَتُهَا) وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَلَأُ وَهُوَ مَا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ مِنْ الْحَشِيشِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ،

ص: 417

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَقِيلَ مَا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ وَمَا لَهُ سَاقٌ فَهُوَ كَلَأٌ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْمَرَاعِيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَرْعَى يَقَعُ عَلَى مَوْضِعِ الرَّعْيِ وَهُوَ الْأَرْضُ وَعَلَى الْكَلَأِ وَعَلَى مَصْدَرِ رَعَى، وَلَوْ لَمْ يُفَسَّرْ بِذَلِكَ لَتُوُهِّمَ أَنَّ بَيْعَ الْأَرْضِ وَإِجَارَتَهَا لَا يَجُوزُ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ بَيْعَ الْأَرَاضِي وَإِجَارَتَهَا صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا الْكَلَأُ أَوْ لَمْ يَكُنْ، أَمَّا عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ الْكَلَأِ غَيْرِ الْمُحْرَزِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِيهِ بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ، وَالْكَلَأِ، وَالنَّارِ» وَمَا هُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ.

وَمَعْنَى شَرِكَتِهِمْ فِيهَا أَنَّ لَهُمْ الِانْتِفَاعَ بِضَوْئِهَا وَالِاصْطِلَاءَ بِهَا وَالشُّرْبَ وَسَقْيَ الدَّوَابِّ وَالِاسْتِقَاءَ مِنْ الْآبَارِ وَالْحِيَاضِ الْمَمْلُوكَةِ وَالْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ مِنْ الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ وَالِاحْتِشَاشَ مِنْ الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ، فَإِنْ مَنَعَ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ إنَّ لِي فِي أَرْضِك حَقًّا، فَإِمَّا أَنْ تُوَصِّلَنِي إلَى حَقِّي أَوْ تَحْتَشَّهُ فَتَدْفَعَهُ إلَيَّ أَوْ تَدَعَنِي آخُذُهُ، كَثَوْبٍ لِرَجُلٍ وَقَعَ فِي دَارِ إنْسَانٍ هَذَا إذَا نَبَتَ ظَاهِرًا، وَأَمَّا إذَا أَنْبَتَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِالسَّقْيِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ. وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ وَالنَّوَازِلِ أَنَّ صَاحِبَهَا يَمْلِكُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْكَلَإِ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ، وَإِنَّمَا تَنْقَطِعُ بِالْحِيَازَةِ وَسَوْقُ

ص: 418

وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَلِأَنَّهَا عُقِدَتْ عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مُبَاحٍ، وَلَوْ عَقَدَ عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مَمْلُوكٍ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا لَا يَجُوزُ فَهَذَا أَوْلَى.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ‌

‌ بَيْعُ النَّحْلِ)

وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَأَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يَجُوزُ إذَا كَانَ مُحْرَزًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْكَلُ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ.

وَلَهُمَا أَنَّهُمَا مِنْ الْهَوَامِّ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالزَّنَابِيرِ وَالِانْتِفَاعُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ لَا بِعَيْنِهِ فَلَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ، حَتَّى لَوْ بَاعَ كُوَّارَةً فِيهَا عَسَلٌ بِمَا فِيهَا مِنْ النَّحْلِ يَجُوزُ

الْمَاءِ إلَى أَرْضِهِ لَيْسَ بِحِيَازَةٍ لِلْكَلَأِ فَبَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ الْإِجَارَةِ فَلِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا وُقُوعُ الْإِجَارَةِ فِي عَيْنٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ. وَالثَّانِي انْعِقَادُهَا عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مُبَاحٍ وَانْعِقَادُهَا عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا لَا يَصِحُّ، فَعَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مُبَاحٍ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْآجِرِ الْمَنَافِعُ لَا الْأَعْيَانُ إلَّا إذَا كَانَتْ الْأَعْيَانُ آلَةً لِإِقَامَةِ الْعَمَلِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْإِجَارَةِ كَالصَّبْغِ فِي اسْتِئْجَارِ الصَّبَّاغِ وَاللَّبَنِ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِكَوْنِهِ آلَةً لِلْحَضَانَةِ وَالظُّئُورَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ إجَارَةَ الْكَلَأِ وَقَعَتْ فَاسِدَةً أَوْ بَاطِلَةً، وَذُكِرَ فِي الشُّرْبِ أَنَّهَا فَاسِدَةٌ حَتَّى يَمْلِكَ الْآجِرُ الْأُجْرَةَ بِالْقَبْضِ وَيَنْفُذَ عِتْقُهُ فِيهَا.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ إذَا كَانَ مُحَرَّزًا: أَيْ مَجْمُوعًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً بِاسْتِيفَاءِ مَا يَحْدُثُ مِنْهُ، وَشَرْعًا لِعَدَمِ مَا يَمْنَعُ عَنْهُ شَرْعًا، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَكَوْنُهُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ لَا يُنَافِيهِ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ وَهِيَ الْمَخُوفَةُ مِنْ الْأَحْنَاشِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا.

قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَرَأَيْت إنْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا بِكَمْ يَرُدُّهَا، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّحْلَ لَا قِيمَةَ لَهَا وَلَا رَغْبَةَ فِي عَيْنِهَا (قَوْلُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ: يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ بِعَيْنِهِ، بَلْ الِانْتِفَاعُ بِمَا سَيَحْدُثُ مِنْهُ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ. قِيلَ قَوْلُهُ لَا بِعَيْنِهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُهْرِ وَالْجَحْشِ فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِمَا فِي الْحَالِ لَكِنْ يُنْتَفَعُ بِهِمَا فِي الْمَآلِ بِأَعْيَانِهِمَا، وَفِيهِ بُعْدٌ لِخُرُوجِهِمَا بِقَوْلِهِ يَخْرُجُ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِمَا يَخْرُجُ

ص: 419

تَبَعًا لَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رحمه الله.

(وَلَا يَجُوزُ‌

‌ بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ

عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) لِأَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَجُوزُ إذَا ظَهَرَ فِيهِ الْقَزُّ تَبَعًا لَهُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ) لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ. وَقِيلَ أَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله كَمَا فِي دُودِ

فَقَبْلَ خُرُوجِهِ لَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْهُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِأَنْ بَاعَ كِوَارَةً بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا وَهِيَ مَعْسَلُ النَّحْلِ إذَا سُوِّيَ مِنْ طِينٍ فِيهَا عَسَلٌ بِمَا فِيهَا مِنْ النَّحْلِ يَجُوزُ تَبَعًا لَهُ. كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ. وَقَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِهَذَا الْمُخْتَصَرِ: وَأَمَّا إذَا بَاعَ الْعَسَلَ مَعَ النَّحْلِ فَالْعَقْدُ يَقَعُ عَلَى الْعَسَلِ وَيَدْخُلُ النَّحْلُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَالشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَيَقُولُ: إنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ مَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَأَتْبَاعِهِ وَالنَّحْلُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْعَسَلِ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي جَامِعِهِ هَذَا التَّعْلِيلَ بِعَيْنِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ

. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ وَبَيْضِهِ) وَهُوَ الْبِزْرُ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الدُّودُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ وَبَيْضُهُ مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِعَيْنِهِ بَلْ بِمَا سَيَحْدُثُ مِنْهُ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ. وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ وَلِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فِي بَيْعِهِ، قِيلَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ بَيْعَ دُودِ الْقَزِّ إذَا ظَهَرَ فِيهِ الْقَزُّ تَبَعًا لَهُ كَبَيْعِ النَّحْلِ مَعَ الْعَسَلِ وَبَيْعِ بَيْضِهِ مُطْلَقًا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي دُودِهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُشِيرُ إلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَهُ بِانْفِرَادِهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ تَبَعًا فَيَجُوزُ، وَالْحَمَامُ إذَا عُلِمَ عَدَدُهَا وَأَمْكَنَ تَسْلِيمُهَا جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَكَانَ مَوْضِعُ ذِكْرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ،

ص: 420

الْقَزِّ وَالْحَمَامِ إذَا عَلِمَ عَدَدَهَا وَأَمْكَنَ تَسْلِيمُهَا جَازَ بَيْعُهَا لِأَنَّهُ مَالٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ.

(وَلَا يَجُوزُ‌

‌ بَيْعُ الْآبِقِ)

لِنَهْيِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام عَنْهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ (إلَّا أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ رَجُلٍ زَعَمَ أَنَّهُ عِنْدَهُ) لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَيْعُ آبِقٍ مُطْلَقٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ آبِقًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهَذَا غَيْرُ آبِقٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي انْتَفَى الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَهُوَ الْمَانِعُ، ثُمَّ لَا يَصِيرُ قَابِضًا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ وَكَانَ أَشْهَدَ عِنْدَهُ أَخَذَهُ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْبَيْعِ، وَلَوْ كَانَ لَمْ يُشْهِدْ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا لِأَنَّهُ قَبْضُ غَصْبٍ، لَوْ قَالَ هُوَ

وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا هُنَا تَبَعًا لِمَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ وَضَعَهُ ثَمَّةَ كَذَلِكَ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ) بَيْعُ الْآبِقِ الْمُطْلَقِ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ «بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ» وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، وَالْآبِقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مُطْلَقًا وَهُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ آبِقًا فِي حَقِّ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جَازَ بَيْعُهُ كَمَنْ بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَيْعُ الْمُطْلَقِ مِنْهُ، وَهَذَا غَيْرُ آبِقٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فَيَنْتَفِي الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ الْمَانِعِ مِنْ الْجَوَازِ ثُمَّ هَلْ يَصِيرُ قَابِضًا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ أَوْ لَا، إنْ كَانَ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ يَصِيرُ قَابِضًا عَقِبَ الشِّرَاءِ بِالِاتِّفَاقِ؛ وَإِنْ قَبَضَهُ لِلرَّدِّ، فَإِمَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْمَوْلَى هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى (وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْبَيْعِ) لِأَنَّ قَبْضَ الضَّمَانِ أَقْوَى لِتَأَكُّدِهِ بِاللُّزُومِ وَالْمِلْكِ، أَمَّا اللُّزُومُ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ قَبْضِ الْمَبِيعِ

ص: 421

عِنْدَ فُلَانٍ فَبِعْهُ مِنِّي فَبَاعَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ آبِقٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.

وَلَوْ بَاعَ الْآبِقَ ثُمَّ عَادَ مِنْ الْإِبَاقِ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ كَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يَتِمُّ الْعَقْدُ إذَا لَمْ يُفْسَخْ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَانِعَ قَدْ ارْتَفَعَ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ، كَمَا إذَا أَبَقَ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَهَكَذَا

أُجْبِرَ عَلَيْهِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ لَيْسَ لِلْبَائِعِ فَسْخُهُ، بِخِلَافِ الْأَمَانَةِ.

وَأَمَّا الْمِلْكُ فَلِأَنَّ الضَّمَانَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ. بِخِلَافِ قَبْضِ الْهِبَةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا لِأَنَّهُ قَبْضُ غَصْبٍ وَهُوَ قَبْضُ ضَمَانٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ أَبَا يُوسُفَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ قَابِضًا نَظَرًا إلَى الْقَاعِدَةِ.

وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي هُوَ عِنْدَ فُلَانٍ فَبِعْهُ مِنِّي فَبَاعَهُ لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ آبِقًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَغَيْرَ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، إذْ الْبَائِعُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا لَيْسَ فِي يَدِهِ، وَلَوْ بَاعَ الْآبِقُ ثُمَّ عَادَ مِنْ الْإِبَاقِ هَلْ يَتِمُّ ذَلِكَ الْعَقْدُ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى عَقْدٍ جَدِيدٍ؟ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَبِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ بَلْخِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ لَا يَتِمُّ وَيَحْتَاجُ إلَى عَقْدٍ جَدِيدٍ لِوُقُوعِهِ بَاطِلًا، فَإِنَّ جُزْءَ الْمَحَلِّ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الْعَقْدِ فَانْعَدَمَ الْمَحَلُّ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ أَخَذَهُ وَسَلَّمَهُ فِي الْمَجْلِسِ. وَعُورِضَ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَجُوزُ. وَلَوْ فَاتَ

ص: 422

يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله.

قَالَ (وَلَا‌

‌ بَيْعُ لَبَنِ امْرَأَةٍ فِي قَدَحٍ)

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ، وَلَنَا أَنَّهُ جُزْءُ الْآدَمِيِّ وَهُوَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ

الْمَحَلُّ لَمَا جَازَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إبْطَالُ الْمِلْكِ وَهُوَ يُلَائِمُ النَّوَى بِالْإِبَاقِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فِيهِ فَإِنَّهُ إثْبَاتُهُ، وَالنَّوَى يُنَافِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَقْدَ يَتِمُّ إذَا لَمْ يُفْسَخْ، وَالْبَائِعُ إنْ امْتَنَعَ عَنْ تَسْلِيمِهِ وَالْمُشْتَرِي عَنْ قَبْضِهِ أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْعَقَدَ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى لَا يَزُولُ بِالْإِبَاقِ وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ، وَالْمَانِعُ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ قَدْ ارْتَفَعَ فَتَحَقَّقَ الْمُقْتَضَى وَانْتَفَى الْمَانِعُ فَيَجُوزُ وَصَارَ كَمَا إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَهَكَذَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ وَبِهِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مَشَايِخِنَا. وَأَمَّا إذَا رَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْقَاضِي وَطَلَبَ مِنْهُ التَّسْلِيمَ وَعَجَزَ الْبَائِعُ عَنْهُ وَفَسَخَ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيْعٍ جَدِيدٍ.

قَالَ (وَلَا لَبَنِ امْرَأَةٍ فِي قَدَحٍ) قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي قَدَحٍ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ بَيْعَهُ فِي الضَّرْعِ لَا يَجُوزُ كَسَائِرِ أَلْبَانِ الْحَيَوَانَاتِ، وَفِي الْقَدَحِ يَجُوزُ فَقَالَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَدَحٍ. وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ بَيْعَهُ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ وَبَيْعُ مِثْلِهِ جَائِزٌ كَسَائِرِ الْأَلْبَانِ، وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ طَاهِرًا احْتِرَازًا عَنْ الْخَمْرِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِطَاهِرَةٍ. وَلَنَا أَنَّهُ جُزْءُ الْآدَمِيِّ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ لِمَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، وَجُزْءُ الْآدَمِيِّ لَيْسَ بِمَالٍ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَمَوَّلُونَهُ وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جُزْءُ الْآدَمِيِّ لَكَانَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَبَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ. أُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَجْزَاءَ تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بَلْ الْمَضْمُونُ مَا انْتَقَصَ مِنْ الْأَصْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجُرْحَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْبُرْءُ يَسْقُطُ الضَّمَانُ وَكَذَا السِّنُّ إذَا نَبَتَتْ (قَوْلُهُ وَهُوَ) أَيْ الْآدَمِيُّ

ص: 423

مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ بِالْبَيْعِ، وَلَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ لَبَنِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا فَكَذَا عَلَى جُزْئِهَا.

قُلْنَا: الرِّقُّ قَدْ حَلَّ نَفْسَهَا، فَأَمَّا اللَّبَنُ فَلَا رِقَّ فِيهِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَحِلٍّ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْقُوَّةُ الَّتِي هِيَ ضِدُّهُ وَهُوَ الْحَيُّ وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ.

بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا آخَرَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْآدَمِيَّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَمَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ لَيْسَ بِمُكَرَّمٍ وَلَا مَصُونٍ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَلَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ لَبَنِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إيرَادُ الْبَيْعِ عَلَى نَفْسِهَا فَيَجُوزُ عَلَى جُزْئِهَا اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ اعْتِبَارٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ فَلَا يَجُوزُ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الرِّقَّ حِلُّ نَفْسِهَا وَمَا حَلَّ فِيهِ الرِّقُّ جَازَ بَيْعُهُ، وَأَمَّا اللَّبَنُ فَلَا رِقَّ فِيهِ لِأَنَّ الرِّقَّ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْقُوَّةِ الَّتِي هِيَ ضِدُّ الرِّقِّ: يَعْنِي الْعِتْقَ، وَهُوَ أَيْ الْمَحَلُّ هُوَ الْحَيُّ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمَا صِفَتَانِ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَهُمَا ضِدَّانِ، وَإِذْ لَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ الرِّقُّ وَلَا الْعِتْقُ لِانْتِفَاءِ الْمَوْضُوعِ. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كَوْنُهُ مَشْرُوبًا مُطْلَقًا أَوْ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ. فَإِنَّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ حَرُمَ شُرْبُهُ. وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ لِأَنَّهُ غِذَاءٌ فِي تَرْبِيَةِ الصِّغَارِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَرَبُّونَ إلَّا بِلَبَنِ الْجِنْسِ عَادَةً، وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مَالًا كَالْمَيْتَةِ تَكُونُ غِذَاءً عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ

ص: 424

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ‌

‌ بَيْعُ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ)

لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إهَانَةً لَهُ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلْخَرْزِ لِلضَّرُورَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ، وَيُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْبَيْعِ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَفْسَدَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا يُفْسِدُهُ لِأَنَّ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ دَلِيلُ طَهَارَتِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْإِطْلَاقَ لِلضَّرُورَةِ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَحَالَةُ الْوُقُوعِ تُغَايِرُهَا.

(وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شُعُورِ الْإِنْسَانِ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهَا) لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مُكَرَّمٌ لَا مُبْتَذَلٌ فَلَا يَجُوزُ

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ) وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إهَانَةً لَهُ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلْخَرْزِ لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ. أَجَابَ بِأَنَّهُ يُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى بَيْعِهِ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ: إذَا كَانَ لَا يُوجَدُ إلَّا بِالْبَيْعِ جَازَ بَيْعُهُ لَكِنَّ الثَّمَنَ لَا يَطِيبُ لِلْبَائِعِ.

وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: إنْ كَانَتْ الْأَسَاكِفَةُ لَا يَجِدُونَ شَعْرَ الْخِنْزِيرِ إلَّا بِالشِّرَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُمْ الشِّرَاءُ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ أَفْسَدَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَّا فِي حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَحَالَةُ الْوُقُوعِ غَيْرُ حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُفْسِدُهُ لِأَنَّ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ دَلِيلُ طَهَارَتِهِ، وَوُقُوعُ الطَّاهِرِ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ، وَكَانَ الْمُصَنِّفُ اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ حَيْثُ أَخَّرَهُ، قِيلَ: هَذَا إذَا كَانَ مَنْتُوفًا، وَأَمَّا الْمَجْزُوزُ فَطَاهِرٌ كَذَا فِي التُّمُرْتَاشِيِّ وَقَاضِي خَانْ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شُعُورِ الْإِنْسَانِ إلَخْ) بَيْعُ شُعُورِ الْآدَمِيِّينَ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا لَا يَجُوزُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ

ص: 425

أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ مُهَانًا وَمُبْتَذَلًا وَقَدْ قَالَ: عليه الصلاة والسلام «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» الْحَدِيثُ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ فِيمَا يُتَّخَذُ مِنْ الْوَبَرِ فَيَزِيدُ فِي قُرُونِ النِّسَاءِ وَذَوَائِبِهِنَّ.

قَالَ (وَلَا‌

‌ بَيْعُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ

قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ)

بِهَا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَلَقَ رَأْسَهُ قَسَمَ شَعْرَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ» وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا فَعَلَهُ، إذْ النَّجِسُ لَا يُتَبَرَّكُ بِهِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْآدَمِيَّ مُكَرَّمٌ غَيْرُ مُبْتَذَلٍ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ مُبْتَذَلًا مُهَانًا وَفِي الْبَيْعِ وَالِانْتِفَاعِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَة» وَالْوَاصِلَةُ مَنْ تَصِلُ الشَّعْرَ، وَالْمُسْتَوْصِلَة مَنْ يُفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: جَعَلَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بَيْعَ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ إعْزَازًا فِيمَا تَقَدَّمَ وَجَعَلَ شَعْرَ الْآدَمِيِّ إهَانَةً لَهُ وَالْبَيْعُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِأَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةٌ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمَبِيعِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا حَقَّرَهُ الشَّرْعُ فَبَيْعُهُ وَمُبَادَلَتُهُ بِمَا لَمْ يُحَقِّرْهُ إعْزَازٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ لِإِفْضَائِهِ إلَى إعْزَازِ مَا حَقَّرَهُ الشَّرْعُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا كَرَّمَهُ وَعَظَّمَهُ فَبَيْعُهُ وَمُبَادَلَتُهُ بِمَا لَيْسَ كَذَلِكَ إهَانَةٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ لِإِفْضَائِهِ إلَى تَحْقِيرِ مَا عَظَّمَهُ الشَّرْعُ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْبَيْعِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ وَصْفِ الْمَحَلِّ شَرْعًا، ثُمَّ إنَّ عَدَمَ جَوَازِهِمَا لَيْسَ لِلنَّجَاسَةِ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّ شَعْرَ غَيْرِ الْإِنْسَانِ لَا يَنْجُسُ بِالْمُزَايَلَةِ فَشَعْرُهُ وَهُوَ طَاهِرٌ أَوْلَى، وَلِأَنَّ فِي تَنَاثُرِ الشُّعُورِ ضَرُورَةً وَهِيَ تُنَافِي النَّجَاسَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: نَجِسٌ لِحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالضَّرُورَةِ، وَلَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ الْقَرَامِيلِ وَهِيَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْوَبَرِ لِزَيْدٍ فِي قُرُونِ النِّسَاءِ: أَيْ فِي أُصُولِ شَعْرِهِنَّ بِالتَّكْثِيرِ وَفِي ذَوَائِبِهِنَّ بِالتَّطْوِيلِ.

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا لِنَجَاسَتِهَا.

قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ» وَهُوَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ الْخَلِيلِ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: نَجَاسَتُهَا مُجَاوِرَةٌ بِاتِّصَالِ الرُّسُومَاتِ وَمِثْلُ ذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ. أُجِيبَ بِأَنَّهَا خَلْفِيَّةٌ فَمَا لَمْ يُزَايَلْ بِالدِّبَاغِ فَهِيَ كَعَيْنِ الْجِلْدِ، بِخِلَافِ نَجَاسَةِ الثَّوْبِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم

ص: 426

لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ» وَهُوَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ) لِأَنَّهَا قَدْ طَهُرَتْ بِالدِّبَاغِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ عِظَامِ الْمَيْتَةِ وَعَصَبِهَا وَصُوفِهَا وَقَرْنِهَا وَشَعْرِهَا وَوَبَرِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ كُلِّهِ)؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ لَا يَحِلُّهَا الْمَوْتُ؛ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. وَالْفِيلُ كَالْخِنْزِيرِ نَجِسُ الْعَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ السِّبَاعِ حَتَّى يُبَاعُ عَظْمُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ.

قَالَ (وَإِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَعُلُوُّهُ لِآخَرَ فَسَقَطَا أَوْ سَقَطَ الْعُلُوُّ وَحْدَهُ فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ عُلُوَّهُ لَمْ يَجُزْ)

لَا تَنْتَفِعُوا) وَهُوَ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ فَمِنْ أَيْنَ اللَّاجَوَازُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ وَهُوَ يُفِيدُهُ، طَالِعْ التَّقْرِيرَ تَطَّلِعُ عَلَيْهِ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ لِأَنَّهَا طَهُرَتْ بِهِ) لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ كَالذَّكَاةِ وَالْجِلْدِ يَطْهُرُ بِهَا فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ. وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ عِظَامِ الْمَيْتَةِ وَعَصَبِهَا وَصُوفِهَا وَقَرْنِهَا وَشَعْرِهَا وَوَبَرِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ لَا يُحِلُّهَا الْمَوْتُ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ (وَالْفِيلُ كَالْخِنْزِيرِ نَجِسُ الْعَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) اعْتِبَارًا بِهِ فِي حُرْمَةِ اللَّحْمِ وَغَيْرِهَا. قَالَ لَا تَقَعُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِذَا دُبِغَ جِلْدُهُ لَمْ يَطْهُرْ. وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ السِّبَاعِ يُبَاعُ عَظْمُهُ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بِالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ نَجِسَ الْعَيْنِ بَلْ كَانَ كَالْكَلْبِ وَسَائِرِ السِّبَاعِ. قَالُوا: بَيْعُ عَظْمِهِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ دُسُومَةٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ فَهُوَ نَجِسٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ.

قَالَ (وَإِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَعُلْوُهُ لِآخَرَ فَسَقَطَا أَوْ سَقَطَ الْعُلْوُ وَحْدَهُ فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ عُلْوَهُ لَمْ يَجُزْ)

ص: 427

لِأَنَّ حَقَّ التَّعَلِّي لَيْسَ بِمَالٍ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يُمْكِنُ إحْرَازُهُ وَالْمَالُ هُوَ الْمَحِلُّ لِلْبَيْعِ، بِخِلَافِ الشِّرْبِ حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ وَمُفْرَدًا فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ بَلْخٍ رحمهم الله لِأَنَّهُ حَظٌّ مِنْ الْمَاءِ وَلِهَذَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَلَهُ قِسْطٌ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ. .

لِأَنَّ حَقَّ التَّعَلِّي لَيْسَ بِمَالٍ لِعَدَمِ إمْكَانِ إحْرَازِهِ (وَالْمَالُ هُوَ الْمَحَلُّ لِلْبَيْعِ) فَإِنْ قِيلَ: الشِّرْبُ حَقُّ الْأَرْضِ وَلِهَذَا قَالَ فِي كِتَابِ الشِّرْبِ: إذَا اشْتَرَى أَرْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ شِرْبٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الشِّرْبِ حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ. وَمُفْرَدًا فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ بَلْخِي لِأَنَّهُ حَظٌّ مِنْ الْمَاءِ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ، فَإِنَّ مَنْ سَقَى أَرْضَ نَفْسِهِ بِمَاءِ غَيْرِهِ يَضْمَنُ، وَلِأَنَّ لَهُ حَظًّا مِنْ الثَّمَنِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الشِّرْبِ. قَالَ فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِشِرَاءِ أَرْضٍ بِشِرْبِهَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِشِرَائِهَا بِأَلْفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الشِّرْبَ لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي ثَمَنِ الْأَرْضِ لِأَنَّ بَعْضَ الثَّمَنِ يُقَابِلُ الشِّرْبَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الشِّرْبِ وَحْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِلْجَهَالَةِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، بِخِلَافِ بَيْعِهِ مَعَهَا تَبَعًا لِزَوَالِهَا بِاعْتِبَارِ التَّبَعِيَّةِ.

ص: 428

قَالَ (وَ‌

‌بَيْعُ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ

جَائِزٌ وَبَيْعُ مَسِيلِ الْمَاءِ وَهِبَتُهُ بَاطِلٌ) وَالْمَسْأَلَةُ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: بَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ، وَبَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ وَالتَّسْيِيلِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الطَّرِيقَ مَعْلُومٌ لِأَنَّ لَهُ طُولًا وَعَرْضًا مَعْلُومًا، وَأَمَّا الْمَسِيلُ فَمَجْهُولٌ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى قَدْرُ مَا يَشْغَلُهُ مِنْ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَفِي بَيْعِ حَقِّ الْمُرُورِ رِوَايَتَانِ

قَالَ (وَبَيْعُ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ جَائِزَةٌ) بَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ جَائِزٌ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا بِطُولِهِ وَعَرْضِهِ إنْ بَيَّنَ ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِلَّا قُدِّرَ بِعَرْضِ بَابِ الدَّارِ الْعُظْمَى، وَهُوَ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ لَا يَقْبَلُ النِّزَاعَ. وَبَيْعُ رَقَبَةِ الْمَسِيلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَسِيلٌ وَهِبَتُهُ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الطُّولَ وَالْعَرْضَ لَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ حَيْثُ لَا يَدْرِي قَدْرَ مَا يَشْغَلُهُ الْمَاءُ، وَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ لِإِخْرَاجِ بَيْعِ رَقَبَتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَهْرٌ فَإِنَّهُ أَرْضٌ مَمْلُوكَةٌ جَازَ بَيْعُهَا. ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ. وَالثَّانِي لِإِخْرَاجِ بَيْعِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَسِيلٌ إذَا بَيَّنَ حُدُودَهُ وَمَوْضِعَهُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا. ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ. وَهَذَا أَحَدُ مُحْتَمَلَيْ الْمَسْأَلَةِ، وَبَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ وَهُوَ حَقُّ التَّطَرُّقِ دُونَ رَقَبَةِ الْأَرْضِ جَائِزٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ، وَجُعِلَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ لِحَقِّ الْمُرُورِ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ حَيْثُ قَالَ: دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِيهَا طَرِيقٌ لِرَجُلٍ آخَرَ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُمَا مِنْ الْقِسْمَةِ وَيَتْرُكُ لِلطَّرِيقِ مِقْدَارَ بَابِ الدَّارِ الْعُظْمَى لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ بَاعُوا الدَّارَ وَالطَّرِيقَ بِرِضَاهُمْ يَضْرِبُ صَاحِبُ الْأَصْلِ بِثُلُثَيْ ثَمَنِ الطَّرِيقِ وَصَاحِبُ الْمَمَرِّ بِثُلُثِ الثَّمَنِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ اثْنَانِ وَصَاحِبُ الْمَمَرِّ وَاحِدٌ، وَقِسْمَةُ الطَّرِيقِ تَكُونُ

ص: 429

وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى إحْدَاهُمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّ التَّسْيِيلِ أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ مَعْلُومٌ لِتَعَلُّقِهِ بِمَحِلٍّ مَعْلُومٍ وَهُوَ الطَّرِيقُ، أَمَّا الْمَسِيلُ عَلَى السَّطْحِ فَهُوَ نَظِيرُ حَقِّ التَّعَلِّي وَعَلَى الْأَرْضِ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحِلِّهِ.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ حَقِّ الْمُرُورِ وَحَقِّ التَّعَلِّي عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ حَقَّ التَّعَلِّي يَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ لَا تَبْقَى وَهُوَ الْبِنَاءُ فَأَشْبَهَ الْمَنَافِعَ، أَمَّا حَقُّ الْمُرُورِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ تَبْقَى وَهُوَ الْأَرْضُ فَأَشْبَهَ الْأَعْيَانَ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً فَإِذَا هُوَ غُلَامٌ) فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ كَبْشًا فَإِذَا هُوَ نَعْجَةٌ حَيْثُ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَيَتَخَيَّرُ.

عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ يُسَاوِي صَاحِبَ الْكَثِيرِ فِي الِانْتِفَاعِ، فَقَدْ جَعَلَ لِحَقِّ الْمُرُورِ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ، وَفِي رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ: لَا يَجُوزُ، وَصَحَّحَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ وَبَيْعُ الْحُقُوقِ بِالِانْفِرَادِ لَا يَجُوزُ. وَبَيْعُ التَّسْيِيلِ وَهُوَ حَقُّ الْمَسِيلِ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا مُحْتَمَلُهُمَا الْآخَرُ.

وَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمُحْتَمَلَ الْأَوَّلَ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ كَمَا مَرَّ آنِفًا، وَإِنْ كَانَ الْمُحْتَمَلَ الثَّانِيَ فَعَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ لِشُمُولِ عَدَمِ الْجَوَازِ.

وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ مَعْلُومٌ لِتَعَلُّقِهِ بِمَحَلٍّ مَعْلُومٍ إمَّا بِالْبَيَانِ أَوْ التَّقْدِيرِ كَمَا مَرَّ وَهُوَ الطَّرِيقُ، وَأَمَّا الْمَسِيلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى السَّطْحِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْأَوَّلُ حَقُّ التَّعَلِّي وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا مُتَعَلِّقًا بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَجْهُولًا لِاخْتِلَافِ التَّسْيِيلِ بِقِلَّةِ الْمَاءِ وَكَثْرَتِهِ، وَالثَّانِي مَجْهُولٌ فَعَادَ إلَى الْفَرْقِ فِي الْمُحْتَمَلِ الْأَوَّلِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ: أَعْنِي رِوَايَةَ ابْنِ سِمَاعَةَ فِي جَوَازِ بَيْعِ حَقِّ الْمُرُورِ تُلْجِئُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّعَلِّي، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ إنَّ حَقَّ التَّعَلِّي تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ لَا تَبْقَى وَهُوَ الْبِنَاءُ فَأَشْبَهَ الْمَنَافِعَ وَعَقْدَ الْبَيْعِ لَا يَرِدُ عَلَيْهَا، أَمَّا حَقُّ الْمُرُورِ فَيَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ تَبْقَى وَهُوَ الْأَرْضُ فَأَشْبَهَ الْأَعْيَانَ وَالْبَيْعُ يَرِدُ عَلَيْهَا، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ إمَّا الْأَعْيَانُ الَّتِي هِيَ أَمْوَالٌ أَوْ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهَا. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ السُّكْنَى مِنْ الدَّارِ مَثَلًا حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ تَبْقَى هُوَ مَالٌ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً فَإِذَا هُوَ غُلَامٌ) اعْلَمْ أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى قَدْ يَكُونَانِ جِنْسَيْنِ لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ

ص: 430

وَالْفَرْقُ يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ لِمُحَمَّدٍ رحمه الله، وَهُوَ أَنَّ الْإِشَارَةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ إذَا اجْتَمَعَتَا فَفِي مُخْتَلِفِي الْجِنْسِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى وَيَبْطُلُ لِانْعِدَامِهِ، وَفِي مُتَّحِدِي الْجِنْسِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَيَنْعَقِدُ لِوُجُودِهِ وَيَتَخَيَّرُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ فَإِذَا هُوَ كَاتِبٌ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ، وَفِي الْحَيَوَانَاتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِلتَّقَارُبِ فِيهَا وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا دُونَ الْأَصْلِ كَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ جِنْسَانِ.

بَيْنَهُمَا، وَقَدْ يَكُونَانِ جِنْسًا وَاحِدًا لِقِلَّتِهِ، فَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ جِنْسَانِ لِأَنَّ الْغُلَامَ يَصْلُحُ لِخِدْمَةِ خَارِجِ الْبَيْتِ كَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِهِمَا وَالْجَارِيَةُ لِخِدْمَةِ دَاخِلِ الْبَيْتِ كَالِاسْتِفْرَاشِ وَالِاسْتِيلَادِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَصْلُحْ لَهُمَا الْغُلَامُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْكَبْشُ وَالنَّعْجَةُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْكُلِّيَّ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْأَكْلُ وَالرُّكُوبُ وَالْحَمْلُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاتِّحَادِهِ تَفَاوُتُ الْأَغْرَاضِ دُونَ الْأَصْلِ كَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ فَإِنَّهُمَا جِنْسَانِ مَعَ اتِّحَادِ أَصْلِهِمَا لِعِظَمِ التَّفَاوُتِ. وَالْوَذَارِيُّ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا: ثَوْبٌ مَنْسُوبٌ إلَى وَذَارَ قَرْيَةٌ بِسَمَرْقَنْدَ، والزندنيجي ثَوْبٌ مَنْسُوبٌ إلَى زَنْدَنَةَ: قَرْيَةٌ بِبُخَارَى جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ عَلَى مَا قَالَ الْمَشَايِخُ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَإِذَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ عَلَى مَبِيعٍ ذُكِرَ بِتَسْمِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ جِنْسَيْنِ كَبَنِي آدَمَ فَالْعَقْدُ

ص: 431

وَالْوَذَارِيُّ والزندنيجي عَلَى مَا قَالُوا جِنْسَانِ مَعَ اتِّحَادِ أَصْلِهِمَا. .

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ

يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى وَيَبْطُلُ بِانْعِدَامِهِ.

وَإِذَا قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَإِذَا هِيَ غُلَامٌ بَطَلَ الْبَيْعُ لِفَوَاتِ التَّسْمِيَةِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ الْإِشَارَةِ، فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ لِبَيَانِ الْمَاهِيَّةِ يَعْنِي مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ، وَالْإِشَارَةُ لِتَعْرِيفِ الذَّاتِ يَعْنِي مُجَرَّدًا عَنْ بَيَانِ صِفَةٍ، وَالْأَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ أَقْوَى، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكُونَانِ جِنْسًا وَاحِدًا فَالْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَيَنْعَقِدُ لِوُجُودِهِ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ إذْ ذَاكَ لِلْإِشَارَةِ لَا لِلتَّسْمِيَةِ، لِأَنَّ مَا سُمِّيَ وُجِدَ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ فَصَارَ حَقُّ التَّسْمِيَةِ مَقْضِيًّا بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَمَامَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي تَعْلِيمِ مُحَمَّدٍ رحمه الله: إذَا بَاعَ كَبْشًا فَإِذَا هُوَ نَعْجَةٌ صَحَّ الْبَيْعُ لَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ، فَإِنَّهُ إذَا خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُعَرِّفًا جُعِلَ لِلتَّرْغِيبِ حَذَرًا عَنْ الْإِلْغَاءِ فَصَارَ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ فَإِذَا هُوَ كَاتِبٌ فَهُوَ بِالْخِيَارِ. وَقَدْ يُشِيرُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ إلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ فَوَاتِ الْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهِ أَنْقَصَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ صِفَةَ الْخَبْزِ لَا تَرْبُو عَلَى الْكِتَابَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ وَالْعَتَّابِيُّ كَذَلِكَ.

وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَأَخُوهُ صَدْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ: إنَّ الْمَوْجُودَ إنْ كَانَ أَنْقَصَ مِنْ الْمَشْرُوطِ الْفَائِتِ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ زَائِدًا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي. وَنَصَّ الْكَرْخِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجْهٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَى خَبَّازٍ فَبِإِلْزَامِ الْكَاتِبِ يَتَضَرَّرُ فَلَا يَتِمُّ مِنْهُ الرِّضَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا وَجَدَ الثَّوْبَ الْمُسَمَّى عَشَرَةً تِسْعَةً خُيِّرَ، وَإِنْ وَجَدَ أَحَدَ عَشَرَ فَهُوَ لَهُ بِلَا خِيَارٍ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ)

ص: 432

حَالَّةً أَوْ نَسِيئَةً فَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ الْبَائِعِ بِخَمْسِمِائَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ الثَّانِي) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَمَّ فِيهَا بِالْقَبْضِ فَصَارَ الْبَيْعُ مِنْ الْبَائِعِ وَمِنْ غَيْرِهِ سَوَاءً وَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِالزِّيَادَةِ أَوْ بِالْعَرْضِ.

مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ (حَالَّةٍ أَوْ نَسِيئَةٍ فَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْبَائِعِ بِخَمْسِمِائَةٍ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ) فَالْبَيْعُ الثَّانِي فَاسِدٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. هُوَ يَقُولُ: الْمِلْكُ قَدْ تَمَّ فِيهِ بِالْقَبْضِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ جَائِزٌ مَعَ غَيْرِ الْبَائِعِ فَكَذَا مَعَهُ، وَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِالْعَرْضِ وَقِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ الْأَلْفِ.

وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ شِرَاءَ مَا بَاعَ لَا يَخْلُو مِنْ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ. وَالثَّانِي جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ مُطْلَقًا: أَعْنِي سَوَاءٌ اشْتَرَى بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِأَنْقَصَ أَوْ بِأَكْثَرَ أَوْ بِالْعَرْضِ. وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَقَلَّ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَالثَّانِي بِأَقْسَامِهِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ. فَالشَّافِعِيُّ رحمه الله جَوَّزَهُ قِيَاسًا عَلَى الْأَقْسَامِ الْبَاقِيَةِ، وَبِمَا إذَا بَاعَ مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ، وَنَحْنُ لَمْ نُجَوِّزْهُ بِالْأَثَرِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْأَثَرُ فَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ يَرْفَعُهُ إلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهَا فَقَالَتْ: إنِّي اشْتَرَيْت مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ جَارِيَةً بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ ثُمَّ بِعْتهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: بِئْسَمَا شَرَيْت وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْت، أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ أَبْطَلَ حَجَّهُ وَجِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ، فَأَتَاهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مُعْتَذِرًا، فَتَلَتْ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهَا جَعَلَتْ جَزَاءَ مُبَاشَرَةِ هَذَا الْعَقْدِ بُطْلَانَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَجْزِيَةُ الْأَفْعَالِ لَا تُعْلَمُ بِالرَّأْيِ فَكَانَ مَسْمُوعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْعَقْدُ الصَّحِيحُ لَا يُجَازَى بِذَلِكَ فَكَانَ فَاسِدًا، وَأَنَّ زَيْدًا اعْتَذَرَ إلَيْهَا وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مَسْمُوعًا لِأَنَّ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ كَانَ بَعْضُهُمْ يُخَالِفُ بَعْضًا وَمَا

ص: 433

وَلَنَا قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ وَقَدْ بَاعَتْ بِسِتِّمِائَةٍ بَعْدَمَا اشْتَرَتْ بِثَمَانِمِائَةٍ: بِئْسَمَا شَرَيْت وَاشْتَرَيْت، أَبْلَغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْطَلَ حَجَّهُ وَجِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ؛ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ الْمَبِيعُ وَوَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ بَقِيَ لَهُ فَضْلُ خَمْسِمِائَةِ وَذَلِكَ بِلَا عِوَضٍ،

كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْتَذِرُ إلَى صَاحِبِهِ. وَفِيهِ بَحْثٌ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ: إلْحَاقُ الْوَعِيدِ لِكَوْنِ الْبَيْعِ إلَى الْعَطَاءِ وَهُوَ أَجَلٌ مَجْهُولٌ.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِهَا جَوَازُ الْبَيْعِ إلَى الْعَطَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّهَا كَرِهَتْ الْعَقْدَ الثَّانِيَ حَيْثُ قَالَتْ: بِئْسَ مَا شَرَيْت مَعَ عَرَائِهِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَلَا يَكُونُ لِذَلِكَ بَلْ لِأَنَّهُمَا تَطَرَّقَا بِهِ إلَى الثَّانِي. فَإِنْ قِيلَ: الْقَبْضُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْحَدِيثِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْوَعِيدُ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ. أُجِيبَ بِأَنَّ تِلَاوَتَهَا آيَةَ الرِّبَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لِلرِّبَا لَا لِعَدَمِ الْقَبْضِ. فَإِنْ قِيلَ: الْوَعِيدُ قَدْ لَا يَسْتَلْزِمُ الْفَسَادَ كَمَا فِي تَفْرِيقِ الْوَلَدِ عَنْ الْوَالِدِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ مَعَ وُجُودِ الْوَعِيدِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَعِيدَ لَيْسَ لِلْبَيْعِ ثَمَّةَ بَلْ لِنَفْسِ التَّفْرِيقِ، حَتَّى لَوْ فُرِّقَ بِدُونِ الْبَيْعِ كَانَ الْوَعِيدُ لَاحِقًا.

وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مَا قَالَ إنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ لِعَدَمِ الْقَبْضِ، فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ الْمَبِيعُ وَوَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ بَقِيَ لَهُ فَضْلُ خَمْسِمِائَةٍ بِلَا عِوَضٍ وَهُوَ رِبًا فَلَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَحْصُلُ لِلْبَائِعِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِوَاسِطَةِ مُشْتَرٍ آخَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ الرِّبَا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِأَكْثَرَ فَإِنَّ الرِّبْحَ هُنَاكَ يَحْصُلُ لِلْمُشْتَرِي وَالْمَبِيعُ قَدْ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِالْعُرُوضِ لِأَنَّ الْفَضْلَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ النُّقْصَانَ يُجْعَلُ فِي مُقَابَلَةِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ الَّذِي احْتَبَسَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِدَنَانِيرَ قِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ

ص: 434

بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِالْعَرْضِ لِأَنَّ الْفَضْلَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ. .

الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قِيَاسًا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ لَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَيَثْبُتُ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبْحِ.

ص: 435

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ بَاعَهَا وَأُخْرَى مَعَهَا مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِي الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْ الْبَائِعِ وَيَبْطُلُ فِي الْأُخْرَى) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْأُخْرَى بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ وَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَنَا، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي صَاحِبَتِهَا وَلَا يَشِيعُ الْفَسَادُ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِيهَا لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِخَمْسِمِائَةٍ) هَذِهِ مِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ فِي الَّتِي اشْتَرَاهَا مِنْ الْبَائِعِ، وَبَيَانُهُ مَا قَالَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِأُخْرَى بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَسَادُهُ. وَنُوقِضَ بِمَا إذَا بَاعَهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَإِنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ. ذَكَرَهَا فِي جَامِعِهِمَا الْعَلَمَانِ فِي الْإِتْقَانِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ كَانَ الْفَسَادُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْكِتَابِ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَمَا فَسَدَ الْبَيْعُ لِأَنَّ عِنْدَ الْقِسْمَةِ يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَلَا يَجْرِي فِيهِ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَسَادَ لِتَعَذُّرِ جِهَاتِ الْجَوَازِ. وَبَيَانُهُ أَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ بِإِزَاءِ مَا بَاعَهَا أَلْفًا جَازَ، وَإِنْ جَعَلْنَا أَلْفًا وَجُبَّةً جَازَ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَلَيْسَ الْبَعْضُ بِالْحَمْلِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ بَعْضِ فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ إضَافَةَ الْفَسَادِ إلَى تَعَدُّدِ جِهَاتِ الْجَوَازِ يُشْبِهُ الْفَسَادَ فِي الْوَضْعِ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً، عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِأَنْ تُجْعَلَ الْجَارِيَةُ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ فِي مُقَابَلَةِ مِائَةٍ وَمِائَتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَتَتَعَدَّدُ جِهَاتُ الْجَوَازِ. وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى، وَبِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِلْجَوَازِ. فَاعْتِبَارُ الْجِهَاتِ فِي مُقَابَلَةِ جِهَةِ الْجَوَازِ مُرْبِحَةٌ عَلَيْهَا تَرْجِيحًا بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا عُرِفَ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: جِهَاتُ الْجَوَازِ تَقْتَضِيهِ وَجِهَاتُ الْفَسَادِ تَقْتَضِيهِ، وَالتَّرْجِيحُ هُنَا لِلْمُفْسِدِ تَرْجِيحٌ لِلْمُحْرِمِ، وَلَا يَسْرِي الْفَسَادُ مِنْهَا إلَى غَيْرِ الْمُشْتَرَاةِ لِأَنَّ الْفَسَادَ ضَعِيفٌ فِيهَا لِأُمُورٍ: إمَّا لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَهُ مُجْتَهَدًا فِيهِ إنْ كَانَ لِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَكَادُ يَصِحُّ لِأَنَّ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ كَانَ بَعْدَ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فَكَيْفَ تُوضَعُ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ، وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله أَبْطَلَ إسْلَامَ الْقُوهِيَّةِ فِي الْقُوهِيَّةِ وَالْمَرْوِيَّةِ مَعَ أَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ بِسَبَبِ الْجِنْسِيَّةِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ قُوهِيًّا فِي قُوهِيٍّ جَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَمَعَ ذَلِكَ تَعَدَّى فَسَادُ ذَلِكَ إلَى الْمَقْرُونِ بِهِ وَهُوَ إسْلَامُ الْقُوهِيِّ فِي الْمَرْوِيِّ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الْمُشْتَرَاةِ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الرِّبَا، فَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا فِي الَّتِي ضُمَّتْ إلَيْهَا كَانَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا لِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَبَيَانُهُ أَنَّ فِي الْمُشْتَرَاةِ شُبْهَةَ الرِّبَا أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إنَّمَا لَمْ يَصِحَّ شِرَاءُ مَا بَاع بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لِشُبْهَةِ الرِّبَا، لِأَنَّ الْأَلْفَ وَإِنْ وَجَبَ لِلْبَائِعِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَكِنَّهَا عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَجِدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا فَيَرُدَّهَا فَيَسْقُطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَبِالْبَيْعِ الثَّانِي يَقَعُ الْأَمْنُ عَنْهُ فَيَصِيرُ الْبَائِعُ بِالْعَقْدِ

ص: 436

أَوْ؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الرِّبَا، أَوْ؛ لِأَنَّهُ طَارِئٌ؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ بِانْقِسَامِ الثَّمَنِ أَوْ الْمُقَاصَّةِ فَلَا يَسْرِي إلَى غَيْرِهَا. .

الثَّانِي مُشْتَرِيًا أَلْفًا بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالشُّبْهَةُ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الرِّبَا، وَإِمَّا لِأَنَّ الْفَسَادَ طَارِئٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَابَلَ الثَّمَنَ بِالْجَارِيَتَيْنِ وَهِيَ مُقَابَلَةٌ صَحِيحَةٌ، إذْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا أَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ مَا بَاعَهُ أَقَلُّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا فَصَارَ الْبَعْضُ بِإِزَاءِ مَا بَاعَ وَالْبَعْضُ بِإِزَاءِ مَا لَمْ يُبَعْ فَفَسَدَ الْبَيْعُ فِيمَا بَاعَ. وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ طَارِئًا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْأُخْرَى. وَلَا يُشْكِلُ بِمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ الْمُفْسِدَ مُقَارِنٌ لِأَنَّ قَبُولَ كُلٍّ مِنْهُمَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ، وَالْعَقْدُ جَائِزٌ فِي الْعَبْدِ لِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ قَدْ قَالَ الْبَيْعُ فِي الْمُدَبَّرِ غَيْرُ فَاسِدٍ، وَلِهَذَا لَوْ أَجَازَ الْقَاضِي بَيْعَهُ جَازَ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ نَافِذٍ لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ وَذَلِكَ لِمَعْنًى فِيهِ لَا فِي الْعَقْدِ فَلِهَذَا لَا يَتَعَدَّى إلَى الْآخَرِ. وَالثَّانِي الْمُقَاصَّةُ فَإِنَّهُ لَمَّا بَاعَهَا بِأَلْفٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَتَقَاصَّا خَمْسَمِائَةٍ بِخَمْسِمِائَةٍ مِثْلِهَا بَقِيَ لِلْبَائِعِ خَمْسُمِائَةٍ أُخْرَى مَعَ الْجَارِيَةِ، وَالْمُقَاصَّةُ تَقَعُ عَقِيبَ وُجُوبِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَقْدِ

ص: 437

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى زَيْتًا فِي ظَرْفٍ عَلَى أَنْ يَزِنَهُ بِظَرْفِهِ فَيَطْرَحَ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ ظَرْفٍ خَمْسِينَ رَطْلًا فَهُوَ فَاسِدٌ، وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنْ يَطْرَحَ عَنْهُ بِوَزْنِ الظَّرْفِ جَازَ)؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَالثَّانِي يَقْتَضِيهِ.

قَالَ (وَمَنْ)(اشْتَرَى سَمْنًا فِي زِقٍّ فَرَدَّ الظَّرْفَ وَهُوَ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ) فَقَالَ الْبَائِعُ الزِّقُّ غَيْرُ هَذَا وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي

الثَّانِي فَيَفْسُدُ عِنْدَهَا وَذَلِكَ لَا شَكَّ فِي طَرْدِهِ فَلَا يَسْرِي إلَى غَيْرِهَا.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى زَيْتًا عَلَى أَنْ يَزِنَهُ بِظَرْفِهِ إلَخْ) اشْتَرَى زَيْتًا عَلَى أَنْ يَزِنَهُ وَيَطْرَحَ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ ظَرْفٍ خَمْسِينَ رِطْلًا فَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ مَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يُطْرَحَ عَنْهُ دُونَ الظَّرْفِ مَا يُوجَدُ وَعَسَى يَكُونُ وَزْنُهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ فَشَرْطُ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَاهُ، وَإِنْ اشْتَرَى عَلَى أَنْ يَزِنَ وَيُطْرَحَ عَنْهُ بِوَزْنِ الظَّرْفِ جَازَ لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِمُقْتَضَاهُ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى سَمْنًا فِي زِقٍّ إلَخْ) وَمَنْ اشْتَرَى سَمْنًا فِي زِقٍّ وَرُدَّ الظَّرْفُ فَوُزِنَ فَجَاءَ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ فَقَالَ الْبَائِعُ الزِّقُّ غَيْرُ هَذَا وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِي تَعْيِينِ الزِّقِّ الْمَقْبُوضِ أَوْ فِي مِقْدَارِ

ص: 438

لِأَنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ اخْتِلَافًا فِي تَعْيِينِ الزِّقِّ الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا كَانَ أَوْ أَمِينًا، وَإِنْ اُعْتُبِرَ اخْتِلَافًا فِي السَّمْنِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اخْتِلَافٌ فِي الثَّمَنِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ.

قَالَ: (وَإِذَا أَمَرَ الْمُسْلِمُ نَصْرَانِيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ أَوْ شِرَائِهَا فَفَعَلَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا لَا يَجُوزُ: عَلَى الْمُسْلِمِ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْخِنْزِيرُ، وَعَلَى هَذَا تَوْكِيلُ الْمُحْرِمِ غَيْرَهُ بِبَيْعِ صَيْدِهِ

السَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْمُشْتَرِي قَابِضٌ (وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا) كَانَ كَالْغَاصِبِ (أَوْ أَمِينًا) كَالْمُودَعِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اخْتِلَافٌ فِي الثَّمَنِ (فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ) وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَمَا وَجْهُ الْعُدُولِ إلَى الْحَلِفِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُوجِبُهُ إذَا كَانَ قَصْدًا وَهَذَا ضِمْنِيٌّ لِوُقُوعِهِ فِي ضِمْنِ الِاخْتِلَافِ فِي الزِّقِّ. وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الِابْتِدَائِيَّ فِي الثَّمَنِ إنَّمَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ ضَرُورَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَقْدًا آخَرَ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي الزِّقِّ فَلَا يُوجِبُ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْعَقْدِ فَلَا يُوجِبُهُ.

قَالَ (وَإِذَا أَمَرَ الْمُسْلِمُ نَصْرَانِيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ أَوْ شِرَائِهَا فَفَعَلَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا) وَحُكْمُ التَّوْكِيلِ فِي الْخِنْزِيرِ وَتَوْكِيلِ الْمُحْرِمِ حَلَالًا بِبَيْعِ صَيْدِهِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ قَالَا: الْمُوَكِّلُ لَا يَلِي هَذَا التَّصَرُّفَ

ص: 439

لَهُمَا أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَلِيهِ فَلَا يُوَلِّيهِ غَيْرَهُ؛ وَلِأَنَّ مَا يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْعَاقِدَ هُوَ الْوَكِيلُ بِأَهْلِيَّتِهِ وَوِلَايَتِهِ، وَانْتِقَالُ الْمِلْكِ إلَى الْآمِرِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ كَمَا إذَا وَرِثَهُمَا، ثُمَّ إنْ كَانَ خَمْرًا يُخَلِّلُهَا وَإِنْ كَانَ خِنْزِيرًا يُسَيِّبُهُ.

فَلَا يُوَلِّي غَيْرَهُ كَتَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ مَجُوسِيًّا بِتَزْوِيجِ مَجُوسِيَّةٍ. وَلِأَنَّ مَا يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ فَكَذَا التَّوْكِيلُ بِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَهْلِيَّتَانِ: أَهْلِيَّةُ الْوَكِيلِ وَأَهْلِيَّةُ الْمُوَكِّلِ، فَالْأُولَى أَهْلِيَّةُ الْعَاقِدِ وَهِيَ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَلِلنَّصْرَانِيِّ ذَلِكَ، وَالثَّانِيَةُ أَهْلِيَّةُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ لَهُ وَلِلْمُوَكِّلِ ذَلِكَ حُكْمًا لِلْعَقْدِ لِئَلَّا يَلْزَمَ انْفِكَاكُ الْمَلْزُومِ عَنْ اللَّازِمِ، أَلَا تَرَى إلَى صِحَّةِ ثُبُوتِ مِلْكِ الْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِ إرْثًا إذَا أَسْلَمَ مُوَرِّثُهُ النَّصْرَانِيُّ وَمَاتَ عَنْ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ. لَا يُقَالُ: الْوَارِثَةُ أَمْرٌ جَبْرِيٌّ وَالتَّوْكِيلُ اخْتِيَارِيٌّ فَأَنَّى يَتَشَابَهَانِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ: أَعْنِي الْمِلْكَ لِلْمُوَكِّلِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْعِلَّةِ: أَعْنِي مُبَاشَرَةَ الْوَكِيلِ جَبْرِيٌّ كَذَلِكَ تَثْبُتُ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ كَمَا فِي الْمَوْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ النَّصْرَانِيَّ إذَا اشْتَرَى خَمْرًا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا لِمَوْلَاهُ الْمُسْلِمِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْأَهْلِيَّتَانِ لَمْ يَمْتَنِعْ الْعَقْدُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ جَالِبٌ لَا سَالِبٌ، ثُمَّ الْمُوَكَّلُ بِهِ إنْ كَانَ خَمْرًا خَلَّلَهَا، وَإِنْ كَانَ خِنْزِيرًا سَيَّبَهُ، لَكِنْ قَالُوا: هَذِهِ الْوَكَالَةُ مَكْرُوهَةٌ أَشَدَّ كَرَاهَةٍ، وَقَوْلُهُمَا الْمُوَكِّلُ لَا يَلِيهِ فَلَا يُوَلِّيهِ غَيْرَهُ مَنْقُوضٌ بِالْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ إذَا وَكَّلَ آخَرَ بِشِرَائِهِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ بِنَفْسِهِ لَا يَلِي الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ وَبِالْقَاضِي إذَا أَمَرَ ذِمِّيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ خَلَّفَهُ ذِمِّيٌّ آخَرُ وَهُوَ لَا يَلِي التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ، وَبِالذِّمِّيِّ إذَا أَوْصَى لِمُسْلِمٍ وَقَدْ تَرَكَهُمَا فَإِنَّ الْوَصِيَّ يُوَكِّلُ ذِمِّيًّا بِالْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَهُوَ لَا يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ. وَالْقِيَاسُ عَلَى تَزْوِيجِ الْمَجُوسِيِّ مَدْفُوعٌ، فَإِنَّ حُقُوقَ

ص: 440

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ يُدَبِّرَهُ أَوْ يُكَاتِبَهُ أَوْ أَمَةً عَلَى أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ)؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ وَشَرْطٌ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ

الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلُ سَفِيرٌ لَا غَيْرُ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي) شَرَعَ فِي بَيَانِ الْفَسَادِ الْوَاقِعِ فِي الْعَقْدِ بِسَبَبِ الشَّرْطِ وَذَكَرَ أَصْلًا جَامِعًا لِفُرُوعِ أَصْحَابِنَا. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّرْطَ يَنْقَسِمُ أَوَّلًا إلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهُوَ الَّذِي يُفِيدُ مَا يَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ كَشَرْطِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي وَشَرْطِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ أَوْ الْمَبِيعِ، وَإِلَى مَا لَا يَقْتَضِيهِ وَهُوَ مَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا كَانَ مُتَعَارَفًا وَإِلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَإِلَى مَا لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِلَى مَا هُوَ بِخِلَافِهِ، فَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ جَازَ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ يَزِيدُهُ وَكَادَةً. لَا يُقَالُ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ

ص: 441

ثُمَّ جُمْلَةُ الْمَذْهَبِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ شَرْطٍ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ كَشَرْطِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ لِثُبُوتِهِ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ يُفْسِدُهُ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَارِيَّةً عَنْ الْعِوَضِ فَيُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، أَوْ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بِسَبَبِهِ الْمُنَازَعَةُ فَيَعْرَى الْعَقْدُ عَنْ مَقْصُودِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَارَفًا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ قَاضٍ عَلَى الْقِيَاسِ، وَلَوْ كَانَ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدِ لَا يُفْسِدُهُ

بَيْعٍ وَشَرْطٍ وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِهِ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَيْثُ أَفَادَ مَا أَفَادَهُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ. وَفِي الْأَوَّلِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ مَا كَانَ مُتَعَارَفًا كَبَيْعِ النَّعْلِ مَعَ شَرْطِ التَّشْرِيكِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعُرْفِ قَاضٍ عَلَى الْقِيَاسِ. لَا يُقَالُ: فَسَادُ الْبَيْعِ شَرْطٌ ثَابِتٌ بِالْحَدِيثِ وَالْعُرْفُ لَيْسَ بِقَاضٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَعْلُولٌ بِوُقُوعِ النِّزَاعِ الْمُخْرِجِ لِلْعَقْدِ عَنْ الْمَقْصُودِ بِهِ وَهُوَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَالْعُرْفُ يَنْفِي النِّزَاعَ فَكَانَ مُوَافِقًا لِمَعْنَى الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْمَوَانِعِ إلَّا الْقِيَاسُ عَلَى مَا لَا عُرْفَ فِيهِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ شَرْطًا، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَيْهِ، وَفِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَبَيْعِ عَبْدٍ بِشَرْطِ اسْتِخْدَامِ الْبَائِعِ مُدَّةً يَكُونُ الْعَقْدُ فَاسِدًا لِوَجْهَيْنِ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَارِيَّةً عَنْ الْعِوَضِ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا

ص: 442

وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرِي الدَّابَّةَ الْمَبِيعَةَ

قَصَدَا الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ خَلَا الشَّرْطُ عَنْ الْعِوَضِ وَهُوَ الرِّبَا.

لَا يُقَالُ: لَا تُطْلَقُ الزِّيَادَةُ إلَّا عَلَى الْمُجَانِسِ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالْمَشْرُوطُ مَنْفَعَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ رِبًا لِأَنَّهُ مَالٌ جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعَوَّضْ عَنْهُ بِشَيْءٍ فَكَانَ رِبًا، وَلِأَنَّهُ يَقَعُ بِسَبَبِهِ الْمُنَازَعَةُ فِي مَقْصُودِهِ فَيَعْرَى الْعَقْدُ عَنْ مَقْصُودِهِ مِنْ قَطْعِ النِّزَاعِ لِمَا عُرِفَ فِي بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ وَفِيمَا إذَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يُعْجِبُهُ أَنْ لَا تَتَدَاوَلَهُ الْأَيْدِي وَتَمَامُ الْعَقْدِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ زَعَمَ أَنَّهُ حُرٌّ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا فَاشْتِرَاطُ مَنْفَعَتِهِ كَاشْتِرَاطِ مَنْفَعَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهُوَ فَاسِدٌ بِالْوَجْهَيْنِ، وَفِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدٍ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الدَّابَّةَ الْمَبِيعَةَ لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ لَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا وَلَا إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَكَانَ الشَّرْطُ لَغْوًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْمُزَارَعَةِ لِتَضَرُّرِ الْمُشْتَرِي بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ، وَالشَّرْطُ الَّذِي فِيهِ ضَرَرٌ كَالشَّرْطِ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمُطَالَبَةُ وَهِيَ تَتَوَجَّهُ بِالْمَنْفَعَةِ فِي الشَّرْطِ دُونَ الضَّرَرِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ بِشَرْطِ أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ يُدَبِّرَهُ

ص: 443

لِأَنَّهُ انْعَدَمَتْ الْمُطَالَبَةُ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَلَا إلَى الْمُنَازَعَةِ.

إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ الْإِطْلَاقُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّخْيِيرُ لَا الْإِلْزَامُ حَتْمًا، وَالشَّرْطُ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُنَا فِي الْعِتْقِ وَيَقِيسُهُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ نَسَمَةً فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَفْسِيرُ الْمَبِيعِ نَسَمَةً أَنْ يُبَاعَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُعْتِقُهُ لَا أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ،

أَوْ يُكَاتِبَهُ أَوْ أَمَةً عَلَى أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا الْمُشْتَرِي فَاسِدٌ لِأَنَّهَا شُرُوطٌ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ وَفِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ الْإِطْلَاقُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّخَيُّرُ لَا الْإِلْزَامُ، وَالشَّرْطُ يَقْتَضِي الْإِلْزَامَ حَتْمًا، وَالْمُنَافَاةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ أَوْلَى بِالْعَمَلِ مِنْ الْآخَرِ فَعَمَلُنَا بِهِمَا، وَقُلْنَا إنَّهُ فَاسِدٌ وَالْفَاسِدُ مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ فَبِالنَّظَرِ إلَى وُجُودِ رُكْنِ الْعَقْدِ كَانَ مَشْرُوعًا، وَبِالنَّظَرِ إلَى عُرُوضِ الشَّرْطِ كَانَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فَكَانَ فَاسِدًا. وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ إلَّا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ فِي قَوْلٍ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُهُ وَيَقِيسُهُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ نَسَمَةً، وَفَسَّرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ بِالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ، وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنْ يُبَاعَ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُعْتِقُهُ لَا أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ صَحَّ قَوْلُهُ يَقِيسُهُ لِأَنَّهُمَا غَيْرَانِ فَيَصِحُّ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إنْ ظَهَرَ جَامِعٌ، وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ يَقِيسُهُ بِيَلْحَقُهُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ قِيَاسُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ. وَبَيَانُ إلْحَاقِهِ بِالدَّلَالَةِ أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ نَسَمَةً عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ ثَبَتَ بِحَدِيثِ «بَرِيرَةَ، إذْ جَاءَتْ إلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها تَسْتَعِينُهَا فِي الْمُكَاتَبَةِ فَقَالَتْ: إنْ شِئْت عَدَدْتهَا لِأَهْلِك وَأَعْتَقْتُك، فَرَضِيَتْ بِذَلِكَ فَاشْتَرَاهَا وَأَعْتَقَهَا. وَإِنَّمَا اشْتَرَتْهَا بِشَرْطِ الْعِتْقِ وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، وَغَيْرُهَا فِي مَعْنَاهَا فِي هَذَا الشَّرْطِ فَأُلْحِقَ بِهِ دَلَالَةً

وَإِنَّمَا عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الدَّلَالَةِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ قِيَاسٌ جَلِيٌّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْقُولِ. فَالْحَدِيثُ «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» . رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالْمَعْقُولُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُقُوعِ الْمُنَازَعَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنَّ تَفْسِيرَ النَّسَمَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَلَيْسَ فِيهِ اشْتِرَاطُ الْعِتْقِ فِي الْعَقْدِ. وَعَائِشَةُ رضي الله عنها اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ مُطْلَقًا وَوَعَدَتْ لَهَا أَنْ تُعْتِقَهَا لِتَرْضَى بِذَلِكَ، فَإِنَّ بَيْعَ الْمُكَاتَبَةِ لَا يَجُوزُ بِدُونِ رِضَاهَا. النَّسَمَةُ مِنْ نَسِيمِ الرِّيحِ، وَسُمِّيَتْ بِهَا النَّفْسُ، وَانْتِصَابُ

ص: 444

فَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ صَحَّ الْبَيْعُ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: يَبْقَى فَاسِدًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا كَمَا إذَا تَلِفَ بِوَجْهٍ آخَرَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ حُكْمِهِ يُلَائِمُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُ لِلْمِلْكِ وَالشَّيْءُ بِانْتِهَائِهِ يَتَقَرَّرُ، وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ الْعِتْقُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، فَإِذَا تَلِفَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُلَاءَمَةُ فَيَتَقَرَّرُ الْفَسَادُ، وَإِذَا وُجِدَ الْعِتْقُ تَحَقَّقَتْ الْمُلَاءَمَةُ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْجَوَازِ فَكَانَ الْحَالُ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا

قَوْلِهِ نَسَمَةً عَلَى الْحَالِ عَلَى مَعْنَى مُعَرَّضًا لِلْعِتْقِ. وَإِنَّمَا صَحَّ هَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ ذِكْرُهَا فِي بَابِ الْعِتْقِ خُصُوصًا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَكَّ رَقَبَةً وَأَعْتَقَ نَسَمَةً» صَارَتْ كَأَنَّهَا اسْمٌ لِمَا هُوَ بِعَرْضِ الْعِتْقِ فَعُومِلَتْ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَعْنَى الْأَفْعَالِ. كَذَا فِي الْمُغْرِبِ. فَإِنْ وَفَّى بِالشَّرْطِ وَأَعْتَقَ بَعْدَمَا اشْتَرَاهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَيَجِبُ الثَّمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَا: يَبْقَى فَاسِدًا كَمَا كَانَ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا. كَمَا إذَا تَلِفَ بِوَجْهٍ آخَرَ كَالْقَتْلِ وَالْمَوْتِ وَالْبَيْعِ، وَكَمَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ وَقَدْ وَفَّى الْمُشْتَرِي بِمَا شَرَطَ أَوْ لَمْ يَفِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ اعْتِبَارًا لِحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) مِنْ تَقْيِيدِ التَّصَرُّفِ بِهِ الْمُغَايِرِ لِلْإِطْلَاقِ (وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ حُكْمُهُ يُلَائِمُهُ لِأَنَّهُ مِنْهُ لِلْمِلْكِ وَالْمَنْهِيُّ لِلشَّيْءِ مُقَرِّرٌ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ) فَبِالنَّظَرِ إلَى الْجِهَتَيْنِ تَوَقَّفَتْ الْحَالُ بَيْنَ بَقَائِهِ فَاسِدًا كَمَا كَانَ وَبَيْنَ أَنْ يَنْقَلِبَ جَائِزًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ (فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْمُلَاءَمَةُ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْجَوَازِ) عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ. وَتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ تَخْلُصُ مِنْ وَرْطَةِ شُبْهَةٍ لَا تَكَادُ تَنْحَلُّ، وَهِيَ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ فِي نَفْسِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَتَحْقِيقُهُ يُقَرِّرُ الْفَسَادَ لِئَلَّا يَلْزَمَ فَسَادُ الْوَضْعِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ الْعَقْدُ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ جَائِزًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَاسِدٌ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالصُّورَةُ لِعَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ جَائِزٌ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ، فَقُلْنَا

ص: 445

قَالَ (وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ الْبَائِعُ شَهْرًا أَوْ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا أَوْ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي دِرْهَمًا أَوْ عَلَى أَنْ يُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةً)؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِدْمَةُ وَالسُّكْنَى يُقَابِلُهُمَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ يَكُونُ إجَارَةً فِي بَيْعٍ، وَلَوْ كَانَ لَا يُقَابِلُهُمَا يَكُونُ إعَارَةً فِي بَيْعٍ.

«وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ»

بِالْفَسَادِ فِي الِابْتِدَاءِ عَمَلًا بِالذَّاتِ وَالصُّورَةِ. وَبِالْجَوَازِ عِنْدَ الْوَفَاءِ عَمَلًا بِالْحُكْمِ وَالْمَعْنَى، وَلَمْ نَعْكِسْ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ جَائِزًا يَنْقَلِبُ فَاسِدًا وَوَجَدْنَا فَاسِدًا يَنْقَلِبُ جَائِزًا كَالْبَيْعِ بِالرَّقْمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَهُ بِوَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقَلِبْ جَائِزًا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَالْكَلَامُ فِيهِ فَتَقَرَّرَ الْفَسَادُ. وَبِخِلَافِ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ. فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَهِي بِهَا بِيَقِينٍ لِاحْتِمَالِ الْقَضَاءِ الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمُكَاتَبُ مُخَيَّرٌ فِي الْإِجَازَةِ، وَالْإِنْهَاءُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا وَقَعَ الْأَمْنُ عَنْ الزَّوَالِ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ وَالْمَوْتِ.

قَالَ (وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ الْبَائِعُ شَهْرًا إلَخْ) الْبَيْعُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ فَاسِدٌ، لِأَنَّهَا شُرُوطٌ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَلَمْ يُسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَذَا الْمَذْكُورُ. وَإِنَّمَا قَالَ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي دِرْهَمًا احْتِرَازًا عَمَّا إذَا قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنْ يُقْرِضَنِي فُلَانٌ الْأَجْنَبِيُّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَبِلَهُ الْمُشْتَرِي صَحَّ الْبَيْعُ لِأَنَّهَا لَمْ تَلْزَمْ الْأَجْنَبِيَّ لَا ضَمَانًا عَنْ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي ذِمَّتِهِ فَيَتَحَمَّلُهَا الْكَفِيلُ، وَلَا زِيَادَةَ فِي الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ

ص: 446

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْإِقْرَاضِ عَلَى الْمُشْتَرِي " لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ» وَأَيْضًا اشْتِرَاطُ الْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى يَسْتَلْزِمُ

ص: 447

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَهُ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ)؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الْمَبِيعِ الْعَيْنِ بَاطِلٌ فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ شُرِعَ تَرْفِيهًا فَيَلِيقُ بِالدُّيُونِ دُونَ الْأَعْيَانِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ، وَالْحَمْلُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ لِاتِّصَالِهِ بِهِ خِلْقَةً

صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَتْنِ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَهَا إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ إلَخْ) الْأَجَلُ فِي الْمَبِيعِ الْعَيْنِ بَاطِلٌ لِإِفْضَائِهِ إلَى تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ فَإِنَّهُ شُرِعَ تَرْفِيهًا فِي تَحْصِيلِهِ بِاتِّسَاعِ الْمُدَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ أَوْ الثَّمَنُ حَاصِلًا كَانَ الْأَجَلُ لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْعَيْنِ احْتِرَازًا عَنْ السَّلَمِ فَإِنَّ تَرْكَ أَجَلٍ فِيهِ مُفْسِدٌ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْصِيلِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا إلَخْ). ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْعَقْدَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْأُولَى مَا فَسَدَ فِيهِ الْعَقْدُ وَالِاسْتِثْنَاءُ وَالثَّانِي مَا صَحَّ فِيهِ الْعَقْدُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ. وَالثَّالِثُ مَا صَحَّ فِيهِ كِلَاهُمَا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالرَّهْنِ، فَإِذَا بَاعَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا أَوْ آجَرَ دَارِهِ عَلَى جَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا أَوْ رَهَنَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا أَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى جَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا فَسَدَ الْعَقْدُ لِأَنَّهَا عُقُودٌ تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْبَيْعِ فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُعَاوَضَةٌ وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لِمَا تَقَدَّمَ، فَكَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَصِيرُ شَرْطًا فَاسِدًا فِيهَا فَيُفْسِدُهَا، وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَصْلِ فِيهِ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ، وَالْحَمْلُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَمْلَ بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ لِاتِّصَالِهِ بِهِ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِهِ وَيُقَرُّ بِقَرَارِهِ وَبَيْعُ الْأَصْلِ يَتَنَاوَلُهُ. فَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُوجِبِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَقْصُودٌ وَدَلَالَةُ الْعَقْدِ

ص: 448

وَبَيْعُ الْأَصْلِ يَتَنَاوَلُهُمَا فَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُوجِبِ فَلَا يَصِحُّ فَيَصِيرُ شَرْطًا فَاسِدًا، وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِهِ وَالْكِتَابَةُ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهَا تُبْطِلُ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ، غَيْرَ أَنَّ الْمُفْسِدَ فِي الْكِتَابَةِ مَا يَتَمَكَّنُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ مِنْهَا، وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ لَا تَبْطُلُ بِاسْتِثْنَاءِ الْحَمْلِ، بَلْ يَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا تُبْطِلُ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ لَا تَبْطُلُ بِهِ، لَكِنْ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ

عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ تَابِعٌ فَيَصِيرُ ذِكْرُهُ شَرْطًا فَاسِدًا (قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ الْمُفْسِدَ فِي الْكِتَابَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي الْكِتَابَةِ إنَّمَا يَكُونُ مُفْسِدًا لَهَا إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ مِنْهَا كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ أَوْ عَلَى قِيمَتِهِ حَيْثُ دَخَلَ فِي الْبَدَلِ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي صُلْبِهِ كَمَا إذَا شَرَطَ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُشْبِهُ الْبَيْعَ انْتِهَاءً لِأَنَّهُ مَالٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ وَتَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ابْتِدَاءً وَتُشْبِهُ النِّكَاحَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِ الْمَقْصُودِ فَأَلْحَقْنَاهُ بِالْبَيْعِ فِي شَرْطٍ تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَبِالنِّكَاحِ فِيمَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فِيهِ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَكَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ إفْضَائِهِ إلَى الرِّبَا، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمُعَاوَضَاتِ، وَهَذِهِ تَبَرُّعَاتٌ وَإِسْقَاطَاتٌ وَالْهِبَةُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيكَاتِ لَكِنَّا عَرَفْنَا بِالنَّصِّ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يُفْسِدُهَا، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ شَرْطَهُ لِلْمُعَمِّرِ حَتَّى يَصِيرَ لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَا لِوَرَثَةِ الْمُعْمِرِ إذَا شُرِطَ عَوْدُهُ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَكَالْوَصِيَّةِ إذَا أَوْصَى بِجَارِيَتِهِ لِرَجُلٍ وَاسْتَثْنَى حَمْلَهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَالْجَارِيَةُ وَصِيَّةٌ وَالْحَمْلُ مِيرَاثٌ. أَمَّا عَدَمُ بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ فَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ

ص: 449

حَتَّى يَكُونَ الْحَمْلُ مِيرَاثًا وَالْجَارِيَةُ وَصِيَّةً؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَالْمِيرَاثَ يَجْرِي فِيمَا فِي الْبَطْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَثْنَى خِدْمَتَهَا؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَجْرِي فِيهَا.

الْمُعَاوَضَاتِ حَتَّى تَبْطُلَ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ. وَأَمَّا صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ فَلِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَالْمِيرَاثُ يَجْرِي فِيمَا فِي الْبَطْنِ لِأَنَّهُ عَيْنٌ. بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَثْنَى خِدْمَتَهَا لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَجْرِي فِيهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَيْنٍ، وَذَكَّرَ ضَمِيرَ الْخِدْمَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ. وَالْخِدْمَةُ فِي الْوَصِيَّةِ مِمَّا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ بِأَنْ قَالَ أَوْصَيْت بِخِدْمَةِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ لِفُلَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْعَكْسَ غَيْرُ لَازِمٍ؛ وَلَئِنْ سُلِّمَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ قَبُولُ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَيَدْخُلُ الْمُوصَى بِهِ فِي مِلْكِ وَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ بِدُونِ الْقَبُولِ بِأَنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْعَقْدِ مُطْلَقًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اعْتَبَرْتُمْ الْوَصِيَّةَ عَقْدًا وَعَكَسْتُمْ الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْجَارِيَةِ وَاسْتِثْنَاءُ الْحَمْلِ حَيْثُ جَعَلْتُمْ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْحَمْلِ صَحِيحًا لِصِحَّةِ إفْرَادِهِ بِالْعَقْدِ وَلَمْ تَعْتَبِرُوا ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْجَارِيَةِ، وَاسْتِثْنَاءُ الْخِدْمَةِ مَعَ صِحَّةِ إفْرَادِهِ بِالْعَقْدِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ وَالْجَوَابُ أَنَّا مَا مَنَعْنَا الْعَكْسَ وُجُوبًا، وَإِنَّمَا مَنَعْنَا لُزُومَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَصْحِيحَ الِاسْتِثْنَاءِ يَقْتَضِي بَقَاءَ

ص: 450

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَقْطَعَهُ الْبَائِعُ وَيَخِيطَهُ قَمِيصًا أَوْ قَبَاءً فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ)؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ صَفْقَةً فِي صَفْقَةٍ عَلَى مَا مَرَّ (وَمَنْ اشْتَرَى نَعْلًا عَلَى أَنْ يَحْذُوَهَا الْبَائِعُ قَالَ أَوْ يُشَرِّكَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) قَالَ رضي الله عنه: مَا ذَكَرَهُ جَوَابُ الْقِيَاسِ، وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَجُوزُ لِلتَّعَامُلِ فِيهِ فَصَارَ كَصَبْغِ الثَّوْبِ

الْمُسْتَثْنَى لِوَارِثِ الْمُوصِي. فَمَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا كَالْحَمْلِ صَحَّحْنَاهُ وَمَا لَمْ يَصْلُحْ كَالْخِدْمَةِ مَنَعْنَاهُ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَقْطَعَهُ الْبَائِعُ إلَخْ) قَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ ذَلِكَ فَلَا نُعِيدُهُ، قَالَ هَاهُنَا صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ وَفِيمَا تَقَدَّمَ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَكَأَنَّهُمَا سَوَاءٌ، يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَى مَا مَرَّ وَقِيلَ قَالَ هُنَاكَ صَفْقَتَيْنِ لِأَنَّ فِيهِ احْتِمَالَ الْإِجَارَةِ، وَالْعَارِيَّةُ هَاهُنَا صَفْقَةٌ إذْ لَيْسَ فِيهِ احْتِمَالُ الْعَارِيَّةِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى نَعْلًا) حَذَا النَّعْلَ بِالْمِثَالِ قَطَعَهَا بِهِ فَهِيَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ إذْ الصِّرْمُ هُوَ الَّذِي يُقْطَعُ بِالْمِثَالِ، وَشَرَّكَ النَّعْلَ وَضَعَ عَلَيْهَا الشِّرَاكَ وَهُوَ سَيْرُهَا الَّذِي عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ، فَمَنْ اشْتَرَى صِرْمًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَحْذُوَهُ أَوْ نَعْلًا عَلَى أَنْ يُشَرِّكَهَا الْبَائِعُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ. وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّاهُ أَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَجُوزُ لِلتَّعَامُلِ، وَالتَّعَامُلُ قَاضٍ عَلَى الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ إجْمَاعًا فِعْلِيًّا كَصَبْغِ الثَّوْبِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الصَّبَّاغِ لِصَبْغِ الثَّوْبِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ

ص: 451

وَلِلتَّعَامُلِ جَوَّزْنَا الِاسْتِصْنَاعَ.

قَالَ ‌

‌(وَالْبَيْعُ إلَى النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ

وَصَوْمِ النَّصَارَى وَفِطْرِ الْيَهُودِ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُتَبَايِعَانِ ذَلِكَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ) وَهِيَ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الْبَيْعِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى الْمُمَاكَسَةِ

لَا الْأَعْيَانِ وَفِيهِ عَقْدٌ عَلَى الْعَيْنِ وَهُوَ الصَّبْغُ لَا الصَّبْغُ وَحْدَهُ لَكِنْ جُوِّزَ لِلتَّعَامُلِ جَوَازُ الِاسْتِصْنَاعِ.

(وَالْبَيْعُ إلَى النَّيْرُوزِ) مُعَرَّبُ نَوْرُوزَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ الرَّبِيعِ (وَالْمِهْرَجَانِ) مُعَرَّبُ مهركان يَوْمٌ فِي طَرَفِ الْخَرِيفِ (وَصَوْمُ النَّصَارَى وَفِطْرُ الْيَهُودِ) وَمَعْنَاهُ تَأْجِيلُ الثَّمَنِ إلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ فَاسِدٌ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُتَبَايِعَانِ مِقْدَارَ ذَلِكَ الزَّمَانِ (لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ) الْمُفْضِيَةِ إلَى النِّزَاعِ لِابْتِنَاءِ الْمُبَايَعَةِ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ أَيْ الْمُجَادَلَةِ فِي النُّقْصَانِ. وَالْمُمَاكَسَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمُبَايَعَةِ

ص: 452

إلَّا إذَا كَانَا يَعْرِفَانِهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا عِنْدَهُمَا، أَوْ كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى فِطْرِ النَّصَارَى بَعْدَمَا شَرَعُوا فِي صَوْمِهِمْ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ صَوْمِهِمْ مَعْلُومَةٌ بِالْأَيَّامِ فَلَا جَهَالَةَ فِيهِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ)، وَكَذَلِكَ إلَى الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالْقِطَافِ وَالْجِزَازِ؛ لِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ، وَلَوْ كَفَلَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مُتَحَمَّلَةٌ فِي الْكَفَالَةِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ يَسِيرَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فِيهَا

إلَى هَذَا الْأَجَلِ فَتَكُونُ الْجَهَالَةُ فِيهِ مُفْضِيَةً إلَى النِّزَاعِ وَمِثْلُهَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ (وَإِنْ كَانَا يَعْرِفَانِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا عِنْدَهُمَا أَوْ كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى فِطْرِ النَّصَارَى بَعْدَمَا شَرَعُوا فِي صَوْمِهِمْ) جَازَ (لِأَنَّ مُدَّةَ صَوْمِهِمْ بِالْأَيَّامِ مَعْلُومَةٌ) وَهِيَ خَمْسُونَ يَوْمًا فَلَا جَهَالَةَ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ إلَخْ) الْحَصَادُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا قَطْعُ الزُّرُوعِ، وَالدِّيَاسُ أَنْ يُوطَأَ الْمَحْصُودُ بِقَوَائِمِ الدَّوَابِّ مِنْ الدَّوْسِ وَهُوَ شِدَّةُ وَطْءِ الشَّيْءِ بِالْقَدَمِ، وَالْقِطَافُ بِكَسْرِ الْقَافِ قَطْعُ الْعِنَبِ مِنْ الْكَرْمِ وَالْفَتْحُ فِيهِ لُغَةٌ، وَالْجِزَازُ قَطْعُ الصُّوفِ وَالنَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَالشَّعْرِ وَالْبَيْعِ إلَى وَقْتِ قُدُومِ الْحَاجِّ وَإِلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى النِّزَاعِ بِتَقَدُّمِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَتَأَخُّرِهَا، وَالْكَفَالَةُ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَائِزَةٌ (لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مُتَحَمَّلَةٌ فِي الْكَفَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ فِي أَصْلِ الدَّيْنِ بِأَنْ يَكْفُلَ بِمَا ذَابَ عَلَى فُلَانٍ فَفِي وَصْفِهِ أَوْلَى) لِكَوْنِ الْأَصْلِ أَقْوَى مِنْ الْوَصْفِ (وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ يَسِيرَةٌ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِيهَا)

ص: 453

وَلِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْأَصْلِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ فِي أَصْلِ الدَّيْنِ بِأَنْ تُكْفَلُ بِمَا ذَابَ عَلَى فُلَانٍ فَفِي الْوَصْفِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهَا فِي أَصْلِ الثَّمَنِ، فَكَذَا فِي وَصْفِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَجَّلَ الثَّمَنَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ حَيْثُ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَأْجِيلٌ فِي الدَّيْنِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ فِيهِ مُتَحَمَّلَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ، وَلَا كَذَلِكَ اشْتِرَاطُهُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ.

(وَلَوْ بَاعَ إلَى هَذِهِ

فَعَائِشَةُ رضي الله عنها كَانَتْ تُجِيزُ الْبَيْعَ إلَى الْعَطَاءِ وَإِنْ احْتَمَلَ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ لِكَوْنِهَا يَسِيرَةً، وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَنَعَهُ وَنَحْنُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِ، وَهَذَا قَدْ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مَا كَانَتْ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، وَالْفَاحِشَةُ مَا كَانَ فِي الْوُجُودِ كَهُبُوبِ الرِّيحِ مَثَلًا، وَالْبَيْعُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلْجَهَالَةِ فِي أَصْلِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لَهَا فِي وَصْفِهِ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ تَحَمُّلِ أَصْلِ الثَّمَنِ عَدَمُ تَحَمُّلِ وَصْفِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَقْوَى إذْ هُوَ يُوجَدُ بِدُونِ الْوَصْفِ الْخَاصِّ دُونَ عَكْسِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ تَحَمُّلِ أَصْلِ الثَّمَنِ الْجَهَالَةَ هُوَ إفْضَاؤُهَا إلَى النِّزَاعِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي جَهَالَةِ الْوَصْفِ فَيَمْنَعُهُ. وَإِذَا بَاعَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَجَّلَ الثَّمَنَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ صَحَّ لِكَوْنِهِ تَأْجِيلَ الدَّيْنِ (وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ) لِعَدَمِ ابْتِنَائِهِ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ، وَلَا كَذَلِكَ اشْتِرَاطُهُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ (لِأَنَّهُ يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ)

(وَلَوْ بَاعَ إلَى هَذِهِ

ص: 454

الْآجَالِ ثُمَّ تَرَاضَيَا بِإِسْقَاطِ الْأَجَلِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ النَّاسُ فِي الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَقَبْلَ قُدُومِ الْحَاجِّ جَازَ الْبَيْعُ أَيْضًا. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا وَصَارَ كَإِسْقَاطِ الْأَجَلِ فِي النِّكَاحِ إلَى أَجَلٍ) وَلَنَا أَنَّ الْفَسَادَ لِلْمُنَازَعَةِ وَقَدْ ارْتَفَعَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ فِي شَرْطٍ زَائِدٍ لَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَيُمْكِنُ إسْقَاطُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ ثُمَّ أَسْقَطَا الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ

الْآجَالِ) أَعْنِي النَّيْرُوزَ وَالْمِهْرَجَانَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقِطَافِ وَالْجِزَازِ ثُمَّ تَرَاضَيَا بِإِسْقَاطِ الْأَجَلِ قَبْلَ تَحَقُّقِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ انْقَلَبَ الْبَيْعُ جَائِزًا، خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله. وَهُوَ يَقُولُ: انْعَقَدَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا كَإِسْقَاطِ الْأَجَلِ فِي النِّكَاحِ: يَعْنِي عَلَى أَصْلِكُمْ.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ فَالنِّكَاحُ إلَى أَجَلٍ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ مِنْ جَانِبِ زُفَرَ بِمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ وَلَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ وَقُلْنَا الْفَسَادُ لِلْمُنَازَعَةِ، وَالْمُنَازَعَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ ارْتَفَعَ الْمُفْسِدُ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ فَيَعُودُ جَائِزًا. فَإِنْ قِيلَ: الْجَهَالَةُ تَقَرَّرَتْ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَلَا يُفِيدُ سُقُوطَهَا كَمَا إذَا بَاعَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ ثُمَّ أَسْقَطَا الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ. أَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ فِي شَرْطٍ زَائِدٍ وَهُوَ الْأَجَلُ لَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَيُمْكِنُ إسْقَاطُهُ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْت فَإِنَّ الْفَسَادَ فِيهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ إذَا نَكَحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ ثُمَّ أَشْهَدَ بَعْدَ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا وَلَيْسَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ. فَإِذَا بَاعَ إلَى أَنْ يَهَبَ الرِّيحَ ثُمَّ أَسْقَطَ الْأَجَلَ لَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْفَسَادَ فِيهِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ فَهُوَ قَوِيٌّ كَمَا لَوْ كَانَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ثُمَّ تَطَهَّرَ لَمْ تَنْقَلِبْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ هُبُوبَ الرِّيحِ لَيْسَ بِأَجَلٍ لِأَنَّ الْأَجَلَ مَا يَكُونُ مُنْتَظَرًا وَالْهُبُوبُ قَدْ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ

ص: 455

وَبِخِلَافِ النِّكَاحِ إلَى أَجَلٍ؛ لِأَنَّهُ مُتْعَةٌ وَهُوَ عَقْدٌ غَيْرُ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ ثُمَّ تَرَاضَيَا خَرَجَ وِفَاقًا؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْأَجَلُ يَسْتَبِدُّ بِإِسْقَاطِهِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ.

قَالَ (وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ أَوْ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ وَمَيِّتَةٍ بَطَل الْبَيْعُ فِيهِمَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا جَازَ فِي الْعَبْدِ وَالشَّاةِ الذَّكِيَّةِ (وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ أَوْ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ) عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: فَسَدَ فِيهِمَا، وَمَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا كَالْمَيْتَةِ، وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْمُدَبَّرِ لَهُ الِاعْتِبَارُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ، إذْ مَحَلِّيَّةُ الْبَيْعِ مُنْتَفِيَةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْكُلِّ

قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ النِّكَاحِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ زُفَرَ عَلَى النِّكَاحِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا قَدْ قُلْنَا إنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ قَدْ يَنْقَلِبُ جَائِزًا قَبْلَ تَقْرِيرِ الْمُفْسِدِ، وَلَمْ نَقُلْ إنَّ عَقْدًا يَنْقَلِبُ عَقْدًا آخَرَ، وَالنِّكَاحُ إلَى أَجَلٍ مُتْعَةٌ وَهِيَ عَقْدٌ غَيْرُ عَقْدِ النِّكَاحِ فَلَا يَنْقَلِبُ نِكَاحًا (قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ) أَيْ الْقُدُورِيِّ ثُمَّ تَرَاضَيَا خَرَجَ وِفَاقًا لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْأَجَلُ يَسْتَبِدُّ بِإِسْقَاطِهِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ.

قَالَ (وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ أَوْ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ وَمَيْتَةٍ إلَخْ) إذَا جَمَعَ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ أَوْ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ وَمَيْتَةٍ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِمَا مُطْلَقًا أَعْنِي سَوَاءً فَصَّلَ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يُفَصِّلْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَنًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْتهمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ جَازَ الْعَقْدُ فِي الْعَبْدِ وَالذَّكِيَّةِ (وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ أَوْ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ صَحَّ الْعَقْدُ فِي الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله فِيهِمَا) أَيْ فِي الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ. أَوْ فِي الْجَمْعَيْنِ جَمِيعًا (وَمَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا كَالْمَيْتَةِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ كَالْمُدَبَّرِ)، فَإِنْ قِيلَ: مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَصَارَ كَالْمُدَبَّرَةِ فَيَجِبُ جَوَازُ بَيْعِهِ مَعَ الْمُذَكَّى كَبَيْعِ الْقِنِّ مَعَ الْمُدَبَّرِ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُجْتَهَدٍ فِيهِ بَلْ خَطَأٌ بَيِّنٌ لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} حَتَّى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِحِلِّهِ لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي الْبَيْعِ (لِزُفَرَ الِاعْتِبَارُ بِالْفَصْلِ) الْأَوَّلِ: يَعْنِي بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ بِجَامِعِ انْتِفَاءِ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: إذَا سَمَّى لِكُلٍّ ثَمَنًا أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ وَالْمُفْسِدُ فِي الْحُرِّ كَوْنُهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ دُونَ الْقِنِّ فَلَا يَتَعَدَّاهُ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُسَمِّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ لِأَنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ مَجْهُولٌ.

ص: 456

وَلَهُمَا أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْقِنِّ، كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ فِي النِّكَاحِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُسَمِّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَالْبَيْعُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ الْقَبُولُ فِي الْحُرِّ شَرْطًا لِلْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ فِي هَؤُلَاءِ مَوْقُوفٌ وَقَدْ دَخَلُوا تَحْتَ الْعَقْدِ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ فِي عَبْدِ الْغَيْرِ بِإِجَازَتِهِ، وَفِي الْمُكَاتَبِ بِرِضَاهُ فِي الْأَصَحِّ، وَفِي الْمُدَبَّرِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَكَذَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَ

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ فَصْلِ الْحُرِّ وَالْمُدَبَّرِ مَعَ الْقِنِّ أَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَالْبَيْعُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ قَوْلَ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَبُولُ الْعَقْدِ فِيمَا لَا يَصِحُّ فِيهِ الْعَقْدُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ فَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا، وَفِيهِ نَظَرٌ.

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ إذَا بَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَتْ الصَّفْقَةُ مُتَقَرِّرَةً وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قَوْلُ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ شَرْطًا لِلْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ هُوَ مَا يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ فِي مَعْنَى الرِّبَا، وَلَيْسَ فِي قَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِهِمَا وَلَا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا.

وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ إنَّمَا يَكُونُ شَرْطًا لِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْعَبْدِ إذَا صَحَّ الْإِيجَابُ فِيهِمَا لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ الْبَائِعُ بِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَلَمْ يُوجَدْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَصَارَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الصَّفْقَةَ مُتَحَدِّدَةٌ فِي مِثْلِهِ إذَا لَمْ يُكَرَّرْ الْبَيْعُ أَوْ الشِّرَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ فِي قَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ مَنْفَعَةً لِلْبَائِعِ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَهُمَا بِأَلْفٍ وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ يُقَابِلُهُ بَدَلٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنْ يُسَلَّمَ إلَيَّ خَمْسُمِائَةٍ أُخْرَى فَيُنْتَفَعُ بِفَضْلٍ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ الرِّبَا. وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْإِيجَابَ إذَا صَحَّ فِيهَا صَحَّ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ جَمِيعًا فَلَا يَكُونُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَثَمَّ جَوَابُ زُفَرَ عَنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا (قَوْلُهُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا عَلَى النِّكَاحِ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ.

وَقَوْلُهُ أَمَّا الْبَيْعُ فِي هَؤُلَاءِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ، وَأَرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْمُدَبَّرَ وَالْمُكَاتَبَ وَأُمَّ الْوَلَدِ وَعَبْدَ الْغَيْرِ فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا تَحْتَ الْعَقْدِ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ فَإِنَّهَا بِاعْتِبَارِ الرِّقِّ وَالتَّقَوُّمِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَنْفُذُ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ مَوْقُوفٌ، فَإِنَّ الْبَيْعَ فِي عَبْدٍ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى إجَازَتِهِ، وَفِي الْمُكَاتَبِ عَلَى رِضَاهُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الْمُدَبَّرِ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، وَكَذَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً

ص: 457

أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمه الله، إلَّا أَنَّ الْمَالِكَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْمَبِيعَ وَهَؤُلَاءِ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ أَنْفُسَهُمْ رَدُّوا الْبَيْعَ فَكَانَ هَذَا إشَارَةً إلَى الْبَقَاءِ، كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ شَرْطَ الْقَبُولِ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ وَلَا بَيْعًا بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ فِيهِ

عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ اللَّاحِقَ يَرْفَعُ الِاخْتِلَافَ السَّابِقَ عِنْدَهُ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ فَلَا يَنْفُذُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُرْفَعُ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ فَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ مَوْقُوفٌ وَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَبَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ بَاطِلٌ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ بَاطِلٌ إذَا لَمْ يُجِزْ الْمُكَاتَبُ وَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَمَامُ كَلَامِهِ هُنَاكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْضِيحًا لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِجَازَةَ وَقَضَاءَ الْقَاضِي لَا يَنْفُذُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَإِذَا نَفَذَ هَاهُنَا عَرَفْنَا الْمَحَلِّيَّةَ فِيهَا وَلَا مَحَلَّ لِلْبَيْعِ إلَّا بِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْعَقْدِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَقْدُ فِيهِمْ فَاسِدًا، إلَّا أَنَّ الْمَالِكَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْمَبِيعَ وَهَؤُلَاءِ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ أَنْفُسَهُمْ رَدُّوا الْبَيْعَ. وَهَذَا أَيْ الرَّدُّ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبَقَاءِ، فَكَانَ كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ بَقَاءً فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الصِّحَّةِ، وَهَذَا أَيْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِنِّ وَأَحَدِ الْمَذْكُورِينَ لَا يَكُونُ شَرْطًا لِلْقَبُولِ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ وَلَا بَيْعًا بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً بَعْدَمَا ثَبَتَ دُخُولُهُمْ فِي الْمَبِيعِ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ حَالَةَ الْعَقْدِ بَيَانُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ فِيهِ: أَيْ فِيمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ

ص: 458

(فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ)

(وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ وَفِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مَلَكَ الْمَبِيعَ وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ)

فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ)

وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ. لَمَّا كَانَ حُكْمُ الشَّيْءِ لِكَوْنِهِ أَثَرًا ثَابِتًا بِهِ يَعْقُبُهُ ذَكَرَ أَحْكَامَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَقِيبَهُ، وَالْبَيْعُ عِنْدَنَا يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ غَيْرِ مَا مَرَّ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ وَبَاطِلٍ وَمَوْقُوفٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إلَى صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ لَا غَيْرُ (وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ) يَعْنِي بِإِذْنِهِ (وَفِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ مَالَانِ مَلَكَ الْمَبِيعَ وَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ) ذَكَرَ الْقَبْضَ لِتَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لِأَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا وَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ وَأَمْرُ الْبَائِعِ، يَعْنِي بِهِ: الْإِذْنُ فِي الْقَبْضِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً، وَالْمَعْنَى بِدَلَالَةِ الْإِذْنِ هُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِخِلَافِ الصَّرِيحِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ مُطْلَقًا، وَقَيَّدَ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ مَالَانِ لِفَائِدَةٍ سَنَذْكُرُهَا. وَقَوْلُهُ مَلَكَ الْمَبِيعَ هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ سِوَى أَهْلِ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ الْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ

ص: 459

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَمْلِكُهُ وَإِنْ قَبَضَهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَلَا يَنَالُ بِهِ نِعْمَةَ الْمِلْكِ؛ وَلِأَنَّ النَّهْيَ نَسْخٌ لِلْمَشْرُوعِيَّةِ لِلتَّضَادِّ، وَلِهَذَا لَا يُفِيدُهُ قَبْضُ الْقَبْضِ، وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ بِالْمَيْتَةِ أَوْ بَاعَ الْخَمْرَ بِالدَّرَاهِمِ. وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ. مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِانْعِقَادِهِ، وَلَا خَفَاءَ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ.

وَرُكْنُهُ: مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَفِيهِ الْكَلَامُ

مَمْلُوكُ التَّصَرُّفِ لَا مَمْلُوكُ الْعَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ) وَالْمَحْظُورُ (لَا تُنَالُ بِهِ نِعْمَةُ الْمِلْكِ) لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ لَا بُدَّ مِنْهَا وَلِأَنَّ النَّهْيَ نَسْخٌ لِلْمَشْرُوعِيَّةِ (لِلتَّضَادِّ) بَيْنَ النَّهْيِ وَالْمَشْرُوعِيَّة إذْ النَّهْيُ يَقْتَضِي الْقُبْحَ وَالْمَشْرُوعِيَّة تَقْتَضِي الْحُسْنَ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ وَالْمَنْسُوخُ الْمَشْرُوعِيَّةِ لَا يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا (وَلِهَذَا لَا يُفِيدُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالدَّرَاهِمِ) أَوْ الدَّنَانِيرِ أَوْ بِالْمَيْتَةِ وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ.

وَلَنَا أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ، لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ بِالتَّرَاضِي صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ. إذْ الْكَلَامُ فِي أَنْ لَا خَلَلَ فِي الْعَاقِدَيْنِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ كَذَلِكَ،

ص: 460

وَالنَّهْيُ يُقَرِّرُ الْمَشْرُوعِيَّةَ عِنْدَنَا لِاقْتِضَائِهِ التَّصَوُّرَ فَنَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعٌ، وَبِهِ تُنَالُ نِعْمَةُ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا الْمَحْظُورُ مَا يُجَاوِرُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ،

وَكُلُّ بَيْعٍ كَانَ كَذَلِكَ يُفِيدُ الْمِلْكَ فَهَذَا الْبَيْعُ يُفِيدُهُ. لَا يُقَالُ قَدْ يَكُونُ النَّهْيُ مَانِعًا عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّهْيَ يُقَرِّرُ الْمَشْرُوعِيَّةَ عِنْدَنَا لِاقْتِضَائِهِ التَّصَوُّرَ لِيَكُونَ النَّهْيُ عَمَّا يَتَكَوَّنُ لِيَكُونَ الْعَبْدُ مُبْتَلًى بَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ بِاخْتِيَارِهِ فَيُثَابَ وَبَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فَيُعَاقَبَ عَلَيْهِ. فَنَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعٌ وَبِهِ تُنَالُ نِعْمَةُ الْمِلْكِ. لَكِنْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قُبْحِ مُقْتَضَى النَّهْيِ فَجَعَلْنَاهُ فِي وَصْفِهِ مُجَاوِرًا كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ عَمَلًا بِالْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي التَّقْرِيرِ عَلَى وَجْهٍ أَتَمَّ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمَحْظُورَ فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ مُجَاوِرٌ، وَأَمَّا فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا اتَّصَلَ بِهِ وَصْفًا فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ صَحِيحًا، وَأَيْضًا الْحُكْمُ هُنَاكَ الْكَرَاهَةُ وَفِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ الْفَسَادُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ غَرَضَ الْمُصَنِّفِ مِنْ ذِكْرِ الْمُجَاوَرَةِ بَيَانُ أَنَّ الْمَحْظُورَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي عَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا زَعَمَهُ الْخَصْمُ. وَالْمُجَاوَرُ جَمْعًا وَالْمُتَّصِلُ وَصْفًا سِيَّانِ فِي ذَلِكَ وَبِأَنَّ غَرَضَهُ أَنَّ حُكْمَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَيْسَ الْبُطْلَانَ كَمَا يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْفَسَادُ يَشْتَرِكَانِ فِي عَدَمِ الْبُطْلَانِ. طَالِعْ

ص: 461

وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَقْرِيرِ الْفَسَادِ الْمُجَاوِرِ إذْ هُوَ وَاجِبُ الرَّفْعِ بِالِاسْتِرْدَادِ فَبِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ ضَعُفَ لِمَكَانِ اقْتِرَانِهِ بِالْقَبِيحِ فَيُشْتَرَطُ اعْتِضَادُهُ بِالْقَبْضِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ

التَّقْرِيرَ تَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَقْرِيرِ الْفَسَادِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يُفِيدُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِوُجُوبِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَوَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُمَا مِنْ مَوَاجِبِ الْعَقْدِ فَيَتَقَرَّرُ الْفَسَادُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّفْعِ بِالِاسْتِرْدَادِ، وَكُلُّ مَا هُوَ وَاجِبُ الرَّفْعِ بِالِاسْتِرْدَادِ لَا يَجُوزُ تَقْرِيرُهُ، وَإِذَا كَانَ وَاجِبُ الرَّفْعِ الِاسْتِرْدَادَ: يَعْنِي إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَقْبُوضًا فَلَأَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الرَّفْعِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ مُطَالَبَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَسْهَلَ لِسَلَامَتِهِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ وَالْإِحْضَارِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ. ثُمَّ الرَّفْعُ بِالِاسْتِرْدَادِ. وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفِدْ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُفِدْهُ بَعْدَهُ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَمْنَعُ عَنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَمْنَعُ بَعْدَهُ كَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ أَفَادَ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ تَقْرِيرًا لِلْفَسَادِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَعَ غَيْرِهِ كَالشَّيْءِ لَا مَعَ غَيْرِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ إنَّمَا اسْتَوَى فِيهِ الْقَبْضُ وَعَدَمُهُ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِيهِ مُعَلَّقٌ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ مَعْنًى، لِأَنَّهُ يَقُولُ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ. وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِهِ. وَتَعَلُّقُهُ بِالشَّرْطِ لَمْ يَخْتَلِفْ بَيْنَ وُجُودِ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَعَ غَيْرِهِ كَالشَّيْءِ لَا مَعَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَهْدَرَ الْغَيْرَ: أَعْنِي الْقَبْضَ.

وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ تَقْرِيرَ الْفَسَادِ بَعْدَ الْقَبْضِ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الضَّمَانِ، فَإِنَّ الْقَبْضَ يُوجِبُ الضَّمَانَ فَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ الْمِلْكُ مِنْ الْمَضْمُونِ لَهُ إلَى الضَّامِنِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَالضِّمْنِيَّاتُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ السَّبَبَ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى إفَادَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الْمِلْكَ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّبَبَ: يَعْنِي الْبَيْعَ الْفَاسِدَ (قَدْ ضَعُفَ لِمَكَانِ اقْتِرَانِهِ بِالْقَبِيحِ فَيُشْتَرَطُ اعْتِمَادُهُ بِالْقَبْضِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ) لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شَبَهًا بِالْإِيجَابِ

ص: 462

الْهِبَةِ، وَالْمَيْتَةِ بِمَالٍ فَانْعَدَمَ الرُّكْنُ، وَلَوْ كَانَ الْخَمْرُ مُثَمَّنًا فَقَدْ خَرَّجْنَاهُ وَشَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ فِي الْخَمْرِ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِيمَةُ وَهِيَ تَصْلُحُ ثَمَنًا لَا مُثَمَّنًا. ثُمَّ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، إلَّا أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ دَلَالَةً كَمَا إذَا قَبَضَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَسْلِيطٌ مِنْهُ عَلَى الْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ بِحُكْمِ التَّسْلِيطِ السَّابِقِ، وَكَذَا الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ

فَصَارَ كَأَنَّ إيجَابَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ازْدَادَ قُوَّةً فِي نَفْسِهِ فَهُوَ كَالْهِبَةِ فِي احْتِيَاجِهِ إلَى مَا يُعَضِّدُهُ الْعَقْدُ مِنْ الْقَبْضِ (قَوْلُهُ وَالْمَيْتَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْخَصْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ عَلَى الْبَيْعِ بِالْمَيْتَةِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَيْتَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْبَيْعُ لِفَوَاتِ رُكْنِهِ، وَلَوْ كَانَ الْخَمْرُ مُثَمَّنًا وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَى الْخَمْرَ بِالدَّرَاهِمِ فَقَدْ خَرَّجْنَاهُ: يَعْنِي فِي أَوَائِلِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَأَرَادَ بِهِ مَا قَالَهُ، وَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إنْ كَانَ بِالدَّيْنِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ الْبَيْعِ فِيمَا إذَا كَانَ الْخَمْرُ مُثَمَّنًا بُطْلَانُ الْبَيْعِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَفِي شَيْءٍ آخَرَ: أَيْ دَلِيلٍ آخَرَ سِوَى مَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ وَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاقِعَ عَلَى الْخَمْرِ يُوجِبُ الْقِيمَةَ لَا عَيْنَ الْخَمْرِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْخَمْرِ وَتَسَلُّمِهَا، فَلَوْ قُلْنَا بِانْعِقَادِ الْبَيْعِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لَجَعَلْنَا الْقِيمَةَ مُثَمَّنًا لِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ يُقَابِلُهُ الدَّرَاهِمُ أَوْ الدَّنَانِيرُ فِي الْبَيْعِ هُوَ مُثَمَّنٌ لِتَعَيُّنِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِلثَّمَنِيَّةِ خِلْقَةً وَشَرْعًا. وَلَا عَهْدَ لَنَا بِذَلِكَ فِي صُورَةِ مَنْ صَوَّرَ الْبِيَاعَاتِ فَالْقَوْلُ بِهِ تَغْيِيرٌ لِلْمَشْرُوعِ فَحَكَمْنَا بِبُطْلَانِهِ (قَوْلُهُ ثُمَّ شُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ) إشَارَةٌ إلَى صِحَّةِ الْإِذْنِ بِالدَّلَالَةِ، كَمَا إذَا قَبَضَهُ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ بِحَضْرَتِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلَمْ يَنْهَهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا (قَوْلُهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ، وَسَمَّاهُ الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ فَقَالَ: وَمَا قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَهُوَ كَمَا لَمْ يُقْبَضْ،

ص: 463

فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ لِيَتَحَقَّقَ رُكْنُ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ فَيَخْرُجُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُرِّ وَالرِّيحِ وَالْبَيْعِ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ، وَقَوْلُهُ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ، فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ، فَأَمَّا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَلْزَمُهُ

وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ. وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْبَيْعَ تَسْلِيطٌ مِنْهُ عَلَى الْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ بِحُكْمِ التَّسْلِيطِ السَّابِقِ فَيُكْتَفَى بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا، وَعَلَى رِوَايَةِ صَاحِبِ الْإِيضَاحِ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ الْعَقْدَ إذَا وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ يَتَضَمَّنْ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ لَوْ ثَبَتَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِمُقْتَضَاهُ شَرْعًا وَالْفَاسِدُ يَجِبُ إعْدَامُهُ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمُقْتَضَى وَهُوَ التَّسْلِيطُ عَلَى الْقَبْضِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ اسْتِحْسَانًا مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَ وَقَعَ صَحِيحًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيطًا بِمُقْتَضَاهُ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْقَبْضَ رُكْنٌ فِي بَابِ الْهِبَةِ وَأَنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْقَبُولِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، فَكَمَا أَنَّ الْقَبُولَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَجْلِسِ فَكَذَا التَّسْلِيطُ عَلَى الْقَبْضِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَشُرِطَ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ لِيَتَحَقَّقَ رُكْنُ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَيَخْرُجُ عَنْ هَذَا الِاشْتِرَاطِ الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُرِّ وَالرِّيحِ الَّتِي تَهُبُّ وَالْبَيْعُ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ وَيُجْعَلُ الْكُلُّ بَاطِلًا لِعَدَمِ الْمَالِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سَوَاءٌ كَانَتْ ثَمَنًا أَوْ مُثَمَّنًا، لَكِنْ ذَكَرَ جِهَةَ الْأَثْمَانِ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَبِيعَةً كَانَ الْبَيْعُ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ. وَقَوْلُهُ أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ: مَعْنَاهُ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ كَالْحَيَوَانِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ،

ص: 464

الْمِثْلُ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ بِالْقَبْضِ فَشَابَهُ الْغَصْبَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ صُورَةً وَمَعْنًى أَعْدَلُ مِنْ الْمِثْلِ مَعْنًى.

قَالَ (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ) رَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَهَذَا قَبْلَ الْقَبْضِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفِدْ حُكْمَهُ فَيَكُونُ الْفَسْخُ امْتِنَاعًا مِنْهُ، وَكَذَا بَعْدَ الْقَبْضِ إذَا كَانَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لِقُوَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ بِشَرْطٍ زَائِدٍ فَلِمَنْ لَهُ الشَّرْطُ ذَلِكَ دُونَ مَنْ عَلَيْهِ لِقُوَّةِ الْعَقْدِ

فَأَمَّا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ فَيَجِبُ الْمِثْلُ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ بِالْقَبْضِ فَشَابَهَ الْغَصْبَ، وَالْحُكْمُ فِي الْغَصْبِ كَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِثْلَ صُورَةً وَمَعْنًى أَعْدَلُ مِنْ الْمِثْلِ مَعْنًى فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ.

قَالَ (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ رَفْعًا لِلْفَسَادِ إلَخْ) لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُتَعَاقِدَيْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، أَمَّا إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُفِدْ الْحُكْمَ فَكَانَ الْفَسْخُ امْتِنَاعًا مِنْ أَنْ يُفِيدَ الْحُكْمَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَهُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ: أَيْ لِمَعْنًى فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَبَيْعِ ثَوْبٍ بِخَمْرٍ، أَوْ لِشَرْطٍ فَاسِدٍ زَائِدٍ كَاشْتِرَاطِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْبَيْعِ إلَى النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخُهُ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِقُوَّةِ الْفَسَادِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِحَضْرَتِهِ وَغَيْبَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا ذَلِكَ إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ،

ص: 465

إلَّا أَنَّهُ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُرَاضَاةُ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الشَّرْطُ. قَالَ (فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي نَفَذَ بَيْعُهُ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ فَمَلَكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَسَقَطَ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ بِالثَّانِي وَنُقِضَ الْأَوَّلُ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ،

وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَهُ فَلِلَّذِي لَهُ الشَّرْطُ أَنْ يَفْسَخَهُ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي عَلَى حَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُطْلَبُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، قِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ الْعَقْدَ قَوِيٌّ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ حَقُّ الْفَسْخِ لَكِنَّ الرِّضَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الشَّرْطُ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ حَقُّ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَانْتَفَى اللُّزُومُ عَنْ الْعَقْدِ، وَفِي الْعَقْدِ الْغَيْرِ اللَّازِمِ يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنْ فَسْخِهِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَالْإِيضَاحِ وَالْكَافِي، فَإِنْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الْمَقْبُوضَ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ نَفَذَ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ، وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ بِالْقَبْضِ شَيْئًا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ، أَوْ يَحْتَمِلُهُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَبِيعَ لَوْ كَانَ مَأْكُولًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ، وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً لَمْ يَحِلَّ وَطْؤُهَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، فَلَمْ يَمْلِكْ التَّصَرُّفَ مُطْلَقًا. وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ. فَإِنَّ مُحَمَّدًا نَصَّ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى حِلِّ تَنَاوُلِهِ قَالَ لِأَنَّ الْبَائِعَ سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: يُكْرَهُ الْوَطْءُ وَلَا يَحْرُمُ، فَالْمَذْكُورُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ يُحْمَلُ عَلَى عَدَمِ الطَّيِّبِ، وَلَئِنْ سُلِّمَ فَالْوَطْءُ مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ بِصَرِيحِ التَّسْلِيطِ فَبِدَلَالَتِهِ أَوْلَى، وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْمِلْكِ وَهُوَ يَنْفَكُّ عَنْ صِفَةِ الْحِلِّ. وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ نَافِذًا سَقَطَ حَقُّ ارْتِدَادِ الْبَائِعِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ؟ وَهُوَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالْبَيْعِ الثَّانِي وَنَقْضُ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ لِحَقِّ الشَّرْعِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ حَقُّ الشَّرْعِ وَحَقُّ الْعَبْدِ يُقَدَّمُ حَقُّ الْعَبْدِ لِحَاجَتِهِ وَغِنَى الشَّرْعِ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إنْ كَانَ إجَارَةً أَوْ تَزْوِيجًا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ اسْتِرْدَادِهِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي وَوَرِثَ وَارِثُهُ

ص: 466

وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ، وَالثَّانِيَ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ فَلَا يُعَارِضُهُ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ؛ وَلِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ، بِخِلَافِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْعَبْدِ وَيَسْتَوِيَانِ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَمَا حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الشَّفِيعِ.

الْمُشْتَرَى وَإِنْ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ حَقُّ الْعَبْدِ فَكَانَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ ضَعِيفٌ يُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ وَفَسَادُ الشِّرَاءِ عُذْرٌ فِي فَسْخِهَا كَمَا يَأْتِي، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ مَنْ يَفْسَخُهَا. وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَفْسَخُهَا، وَالتَّزْوِيجُ يُشْبِهُ الْإِجَارَةَ لِوُرُودِهِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، وَالْبَيْعُ يَرِدُ عَلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالْفَسْخُ كَذَلِكَ، فَتَعَلُّقُ حَقُّ الزَّوْجِ بِالْمَنْفَعَةِ لَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ عَلَى الرَّقَبَةِ وَالنِّكَاحُ عَلَى حَالِهِ قَائِمٌ.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ فِي حُكْمِ عَيْنِ مَا كَانَ لِلْمَوْرُوثِ وَلِهَذَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ الْمِلْكُ كَانَ مُسْتَحَقَّ النَّقْضِ فَانْتَقَلَ إلَى الْوَارِثِ كَذَلِكَ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْبَائِعُ كَانَ لِوَارِثِهِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ الْفَسَادِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى الْمُشْتَرِي بِالْمُشْتَرَى لِشَخْصٍ ثُمَّ مَاتَ حَيْثُ لَمْ يَبْقَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ مِنْ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي فِي ثُبُوتِ مِلْكٍ مُتَجَدِّدٍ لَهُ سَبَبٌ اخْتِيَارِيٌّ لَيْسَ فِي حُكْمِ عَيْنِ مَا كَانَ لِلْمُوصِي وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُمْ إذَا اجْتَمَعَ الْحَقَّانِ يُقَدَّمُ حَقُّ الْعَبْدِ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا كَانَ فِي يَدِ حَلَالٍ صَيْدٌ ثُمَّ أَحْرَمَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ وَفِيهِ تَقْدِيمُ حَقِّ الشَّرْعِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ لِإِمْكَانِهِ أَنَّهُ بِالْإِرْسَالِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَضِيعُ مِلْكُهُ لَا التَّرْجِيحُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ الْجَمْعُ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ اسْتِرْدَادِ الْبَائِعِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَاهِيَّةِ الْفَاسِدِ عِنْدَنَا، وَالْبَيْعُ الثَّانِي مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ إذْ لَا خَلَلَ فِيهِ لَا فِي رُكْنِهِ وَلَا فِي عَوَارِضِهِ فَلَا يُعَارِضُهُ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْفَاسِدَ لَا يُعَارِضُ الصَّحِيحَ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ حَيْثُ كَانَ الْقَبْضُ بِإِذْنِهِ، فَاسْتِرْدَادُهُ نَقْضُ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَنُوقِضَ بِاسْتِرْدَادِهِ قَبْلَ وُجُودِ الْبَيْعِ الثَّانِي فَإِنَّهُ نَقَضَ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ التَّمَامَ فِيهِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَمْلِكُ الْفَسْخَ فَأَيْنَ التَّمَامُ، فَإِذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي فَقَدْ انْتَهَى مِلْكُهُ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ وَالْمَنْهِيُّ مُقَرَّرٌ.

وَإِذَا تَقَرَّرَ فَقَدْ تَمَّ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا مِنْهُ ابْتِدَاءً فَيَكُونُ الِاسْتِرْدَادُ نَقْضًا لِمَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْمُشْتَرِي مَانِعًا عَنْ نَقْضِ التَّصَرُّفِ لَمْ يَنْقُضْ

ص: 467

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَقَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ، وَبِالْإِعْتَاقِ قَدْ هَلَكَ فَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ، وَبِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ انْقَطَعَ الِاسْتِرْدَادُ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْكِتَابَةُ وَالرَّهْنُ نَظِيرُ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُمَا لَازِمَانِ. إلَّا أَنَّهُ يَعُودُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَفَكِّ الرَّهْنِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ.

تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِهَا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهَا لَكِنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَهَا. وَتَوْجِيهُ الْجَوَابِ مَا قَالَ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعِ حَقُّ الْعَبْدِ وَيَسْتَوِيَانِ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ فَيَجُوزُ نَقْضُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِيهِ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغَيْرِ إنَّمَا يَمْنَعُ النَّقْضَ إذَا كَانَ فِي مُقَابَلَتِهِ مَا هُوَ مَرْجُوحٌ عِنْدَهُ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَا هُوَ رَاجِحٌ فَلَا يَمْنَعُ وَحَقُّ الشَّفِيعِ رَاجِحٌ لِأَنَّهُ عِنْدَ صِحَّةِ الْأَخْذِ تَتَحَوَّلُ الصَّفْقَةُ إلَيْهِ فَتَبْقَى تَصَرُّفَاتُ الْمُشْتَرِي بِلَا سَنَدٍ فَيُنْقَضُ، وَلِأَنَّهُ مَا حَصَلَ التَّسْلِيطُ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ لِيَكُونَ نَقْضُهُ نَقْضًا لِمَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّسْلِيطَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِذْنِ أَوْ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الشَّفِيعِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَقَبَضَهُ إلَخْ) وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَقَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ وَأَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا وَأَعَادَ لَفْظَ الْبَيْعِ كَرَاهَةَ أَنْ يُغَيِّرَ لَفْظَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَوْ تَرَكَهُ (أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ فَهُوَ) أَيْ مَا فَعَلَ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ (جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ) أَمَّا جَوَازُهُ فَ (لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ) وَالْمِلْكُ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فَيَنْفُذُ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْقِيمَةِ فَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ بِالْقَبْضِ فَشَابَهُ الْغَصْبَ (وَبِالْإِعْتَاقِ قَدْ هَلَكَ) فَصَارَ كَمَغْصُوبٍ هَلَكَ وَفِيهِ الْقِيمَةُ (وَبِالْهِبَةِ) وَالتَّسْلِيمِ (وَالْبَيْعِ انْقَطَعَ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ عَلَى مَا مَرَّ) آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ بِالثَّانِي (وَالْكِتَابَةُ وَالرَّهْنُ نَظِيرُ الْبَيْعِ لِأَنَّهُمَا لَازِمَانِ) فَإِنَّ الرَّهْنَ إذْ اتَّصَلَ بِالْقَبْضِ صَارَ لَازِمًا فِي حَقِّ الرَّاهِنِ كَالْكِتَابَةِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى (إلَّا أَنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ يَعُودُ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَفَكِّ الرَّهْنِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ) وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْعَبْدِ. قِيلَ وَلَيْسَ لِتَخْصِيصِهِمَا فِي عَوْدِ الِاسْتِرْدَادِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ. فَإِنَّهُ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ إذَا نَقَضَ التَّصَرُّفَاتِ. حَتَّى لَوْ رُدَّ الْمَبِيعُ بِعَيْبٍ قَبْلَ الْقَضَاءِ

ص: 468

وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ عُذْرٌ؛ وَلِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَكُونُ الرَّدُّ امْتِنَاعًا.

قَالَ (وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَرُدَّ الثَّمَنَ)؛ لِأَنَّ الْمَبِيعُ مُقَابَلٌ بِهِ فَيَصِيرُ مَحْبُوسًا بِهِ كَالرَّهْنِ

بِالْقِيمَةِ أَوْ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ عَادَ لِلْبَائِعِ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ لِعَوْدِ قَدِيمِ مِلْكِهِ إلَيْهِ، ثُمَّ عَوْدُ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا لَمْ يَقْضِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِذَلِكَ فَقَدْ تَحَوَّلَ الْحَقُّ إلَى الْقِيمَةِ فَلَا يَعُودُ إلَى الْعَيْنِ كَمَا إذَا قَضَى عَلَى الْغَائِبِ بِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ الْآبِقِ ثُمَّ عَادَ (قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ انْقِطَاعُ الِاسْتِرْدَادِ بِالتَّصَرُّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ (بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ) فَإِنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ فِيهَا لَا يَنْقَطِعُ لِمَا ذَكَرْنَا (أَنَّهَا تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ مِنْ أَقْوَى الْأَعْذَارِ وَلِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَكُونُ الرَّدُّ امْتِنَاعًا) وَلَعَلَّ فِي الْجَوَابَيْنِ إشَارَةً إلَى الْمَذْهَبَيْنِ فِيهَا.

قَالَ (وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَرُدَّ الثَّمَنَ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ الْقِيمَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَا أَخَذَهُ الْبَائِعُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ عَرْضًا كَانَ أَوْ نَقْدًا ثَمَنًا كَانَ أَوْ قِيمَةً. وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَيْضًا وَغَيْرِهَا (فَيَصِيرُ الْمَبِيعُ مَحْبُوسًا بِالْمَقْبُوضِ) فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ أَنْ لَا يَدْفَعَ الْمَبِيعَ إلَى أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ

ص: 469

(وَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ)؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَذَا عَلَى وَرَثَتِهِ وَغُرَمَائِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَالرَّاهِنِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ دَرَاهِمُ الثَّمَنِ قَائِمَةً يَأْخُذُهَا بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً أَخَذَ مِثْلَهَا لِمَا بَيَّنَّا.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دَارًا بَيْعًا فَاسِدًا فَبَنَاهَا الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَرَوَاهُ يَعْقُوبُ عَنْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ثُمَّ شَكَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ.

مِنْ الْبَائِعِ كَمَا فِي الرَّهْنِ، لَكِنَّهُ يُفَارِقُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِقَدْرِ الدَّيْنِ لَا غَيْرُ، وَهَاهُنَا الْمَبِيعُ مَضْمُونٌ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ كَمَا فِي الْغَصْبِ (وَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَالَ حَيَاتِهِ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ مَنْعِ الْبَائِعِ مِنْ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَأْخُذَ مَا أَدَّى إلَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَالَ حَيَاتِهِ يُقَدَّمُ عَلَى غُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَالْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّ الرَّاهِنَ إذَا مَاتَ وَلَهُ وَرَثَةٌ وَغُرَمَاءُ فَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِالرَّهْنِ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الدَّيْنَ (ثُمَّ إنْ كَانَتْ دَرَاهِمُ الثَّمَنِ قَائِمَةً يَأْخُذُهَا بِعَيْنِهَا لِأَنَّهَا) فِيهِ (تَتَعَيَّنُ) بِالتَّعْيِينِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ (وَهُوَ الْأَصَحُّ) وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ لَا تَتَعَيَّنُ، وَالْقَبْضُ الْفَاسِدُ وَهُوَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ فِي تَعْيِينِ الْمَقْبُوضِ لِلرَّدِّ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ الِاعْتِبَارُ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ. وَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الثَّمَنَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ فِي كَوْنِهِمَا مَقْبُوضَيْنِ لَا عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ. وَقِيلَ فِي حُكْمِ النَّقْضِ وَالِاسْتِرْدَادِ وَالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ تَتَعَيَّنُ لِلرَّدِّ يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهَا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً (وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً أَخَذَ مِثْلَهَا لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ وَالْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ. وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ الْمَبِيعَ يُبَاعُ لِحَقِّ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُصْرَفُ إلَى الْغُرَمَاءِ كَمَا فِي بَيْعِ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دَارًا بَيْعًا فَاسِدًا فَبَنَاهَا الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

ص: 470

(وَقَالَا: يُنْقَضُ الْبِنَاءُ وَتُرَدُّ الدَّارُ) وَالْغَرْسُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ.

لَهُمَا أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ أَضْعَفُ مِنْ حَقِّ الْبَائِعِ حَتَّى يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَضَاءِ وَيَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ، بِخِلَافِ حَقِّ الْبَائِعِ، ثُمَّ أَضْعَفُ الْحَقَّيْنِ لَا يَبْطُلُ بِالْبِنَاءِ فَأَقْوَاهُمَا أَوْلَى، وَلَهُ أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الدَّوَامُ وَقَدْ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَالْبَيْعِ، بِخِلَافِ حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّسْلِيطُ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِهِبَةِ الْمُشْتَرِي وَبَيْعِهِ فَكَذَا بِبِنَائِهِ

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُنْقَضُ الْبِنَاءُ وَتُرَدُّ الدَّارُ) وَكَذَا إذَا اشْتَرَى أَرْضًا وَغَرَسَ فِيهَا. وَذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا هُوَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ آخِرًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ (لَهُمَا أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ أَضْعَفُ مِنْ حَقِّ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَضَاءِ) أَوْ الرِّضَا (وَيَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ) وَلَا يُورَثُ (بِخِلَافِ حَقِّ الْبَائِعِ) فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَائِعَ بَيْعًا فَاسِدًا إذَا مَاتَ كَانَ لِوَرَثَتِهِ الِاسْتِرْدَادُ، وَالْأَضْعَفُ إذَا لَمْ يَبْطُلْ بِشَيْءٍ فَالْأَقْوَى لَا يَبْطُلُ بِهِ وَهُوَ بَدِيهِيٌّ، وَحَقُّ الشَّفِيعِ لَا يُبْطِلُ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ فَحَقُّ الْبَائِعِ كَذَلِكَ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ حَصَلَ لِلْمُشْتَرِي بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ) وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ (يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَالْبَيْعِ) الْحَاصِلِ مِنْ الْمُشْتَرِي (بِخِلَافِ الشَّفِيعِ إذْ التَّسْلِيطُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ) وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الشَّفِيعِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَهَا مِنْ آخَرَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ بِالْبَيْعِ الثَّانِي بِالثَّمَنِ أَوْ بِالْأَوَّلِ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَ لَا شُفْعَةَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ قَدْ انْقَطَعَ هَاهُنَا، وَعَلَى هَذَا صَارَ حَقُّ الشَّفِيعِ لِعَدَمِ التَّسْلِيطِ مِنْهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْبَائِعِ لِوُجُودِهِ مِنْهُ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُنَبِّئُك أَنَّ قَوْلَهُ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الدَّوَامُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحُجَّةِ. قِيلَ: وَإِنَّمَا أَدْخَلَهُ فِيهَا إشَارَةً إلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِالْإِجَارَةِ لَا يُقْصَدُ بِهِمَا الدَّوَامُ، وَلَعَلَّهُ ذَكَرَهُ لَأَنْ يَلْحَقَهُ بِالْبَيْعِ فِي كَوْنِهِ مَنْهِيًّا مُقَرَّرًا لِأَنَّهُ لَمَّا قُصِدَ بِهِ الدَّوَامُ أَشْبَهَ الْبَيْعَ فَكَانَ مَنْهِيًّا لِلْمِلْكِ فَيَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَالْبَيْعِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِانْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ بِالْبِنَاءِ لِصَيْرُورَتِهِ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فَيَنْقُضُ الشَّفِيعُ بِنَاءَ الْمُشْتَرِي. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ نَقْضُ الْبِنَاءِ لِحَقِّ الشَّفِيعِ وَفِيهِ تَقْرِيرُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَجَبَ نَقْضُهُ لِحَقِّ الْبَائِعِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ إعْدَامَ الْفَاسِدِ. وَإِذَا تُؤُمِّلَ مَا ذُكِرَ فَلَيْسَ بِوَارِدٍ، إذْ الْبَائِعُ مُسَلَّطٌ دُونَ الشَّفِيعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَقْضِهِ لِمَنْ لَيْسَ بِمُسَلَّطٍ نَقْضُهُ لِمُسَلَّطٍ فَانْتَفَتْ الْأَوْلَوِيَّةُ وَبَطَلَتْ الْمُلَازَمَةُ.

وَاعْتُرِضَ أَيْضًا بِأَنَّهُ إذَا نُقِضَ الْبِنَاءُ لِحَقِّ الشَّفِيعِ وَجَبَ عَوْدُ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَهُوَ الْبِنَاءُ، كَمَا إذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا بَيْعًا صَحِيحًا وَرُدَّ عَلَيْهِ الْمَبِيعُ بِمَا هُوَ فَسْخٌ. وَأُجِيبَ بِوُجُودِ مَانِعٍ آخَرَ فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ إنَّمَا يَنْتَفِي بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلشَّفِيعِ وَأَنَّهُ مَانِعٌ آخَرُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا وَجَبَ ضَرُورَةَ إبْقَاءِ حَقِّ الشَّفِيعِ فَصَارَ النَّقْضُ مُقْتَضَى صِحَّةِ التَّسْلِيمِ إلَى الشَّفِيعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ الْمُقْتَضِي عَلَى وَجْهٍ يَبْطُلُ بِهِ الْمُقْتَضَى وَهُوَ التَّسْلِيمُ إلَى

ص: 471

وَشَكَّ يَعْقُوبُ فِي حِفْظِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ فَإِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْبِنَاءِ وَثُبُوتِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ.

الشَّفِيعِ. رُوِيَ وُجُوبُ الْقِيمَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، ثُمَّ شُكَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حِفْظِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا فِي مَذْهَبِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ ذَلِكَ تَنْصِيصُ مُحَمَّدٍ رحمه الله عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ أَنَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي اشْتَرَاهَا الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا وَبَنَى فِيهَا أَوْ غَرَسَ، وَعِنْدَهُمَا لَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا وَحَقُّ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَثُبُوتُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَمَنْ قَالَ بِثُبُوتِهِ قَالَ بِانْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ، وَمَنْ قَالَ بِانْتِفَائِهِ قَالَ بِعَدَمِ انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ مُحَالٌ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ حَفِظَ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لَا يَشُكُّ فِي مَذْهَبِهِ فِي انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ فَلَمْ يَبْقَ الشَّكُّ إلَّا فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ لِمُحَمَّدٍ رحمهم الله.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي جَرَتْ الْمُحَاوَرَةُ فِيهَا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَا رَوَيْت عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا، وَإِنَّمَا رَوَيْت لَك أَنْ يُنْقَضَ الْبِنَاءُ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: بَلْ رَوَيْت لِي عَنْهُ أَنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا، وَهَذَا كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ الشَّكَّ كَانَ فِي الرِّوَايَةِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ مَا رَوَيْت وَفِيهِ تَأَمُّلٌ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ مُحْتَاجًا إلَى تَوْكِيدٍ كَرَّرَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ (شَكَّ يَعْقُوبُ فِي الرِّوَايَةِ) وَفِي كَلَامِهِ نَوْعُ انْغِلَاقٍ لِأَنَّهُ قَالَ: رَوَاهُ يَعْقُوبُ عَنْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَالرَّاوِي فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْهُ مُحَمَّدٌ لِأَنَّهُ تَصْنِيفُهُ، إلَّا إذَا أُرِيدَ بِالْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْمَسَائِلُ

ص: 472

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَيْعًا فَاسِدًا وَتَقَابَضَا فَبَاعَهَا وَرَبِحَ فِيهَا تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ وَيَطِيبُ لِلْبَائِعِ مَا رَبِحَ فِي الثَّمَنِ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجَارِيَةَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهَا فَيَتَمَكَّنُ الْخُبْثُ فِي الرِّبْحِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ

الَّتِي رَوَاهَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِمُحَمَّدٍ

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَيْعًا فَاسِدًا وَتَقَابَضَا) اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَنَوْعٌ يَتَعَيَّنُ كَخِلَافِهِمَا وَالْخَبَثُ أَيْضًا عَلَى نَوْعَيْنِ: خَبَثٌ لِفَسَادِ الْمِلْكِ، وَخَبَثٌ لِعَدَمِ الْمِلْكِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ دُونَ مَا لَا يَتَعَيَّنُ. وَالثَّانِي يُؤَثِّرُ فِيهِمَا جَمِيعًا.

وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا فَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَيْعًا فَاسِدًا وَتَقَابَضَا فَبَاعَهَا وَرَبِحَ فِيهَا تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ وَإِنْ اشْتَرَى الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ شَيْئًا وَرَبِحَ فِيهِ طَابَ لَهُ الرِّبْحُ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهَا وَيُؤَثِّرُ الْخَبَثُ فِي الرِّبْحِ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا يَتَعَيَّنَانِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ الْعَقْدُ الثَّانِي بِعَيْنِهَا فَلَمْ يُؤَثِّرْ الْخَبَثُ فِيهِ لِأَنَّهُ لِفَسَادِ الْمِلْكِ لَا لِعَدَمِهِ، وَمَعْنَى عَدَمِ التَّعَيُّنِ فِيهَا أَنَّهُ لَوْ أَشَارَ إلَيْهَا وَقَالَ اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا وَيَدْفَعَ إلَى الْبَائِعِ غَيْرَهَا لِمَا أَنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الْمُشَارِ إلَيْهَا فِي الْبِيَاعَاتِ، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ، وَهِيَ أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ لَا عَلَى الْأَصَحِّ وَهِيَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ. وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً وَبَاعَهَا بَعْدَ ضَمَانِ قِيمَتِهَا فَرَبِحَ فِيهَا أَوْ غَصَبَ دَرَاهِمَ وَأَدَّى ضَمَانَهَا وَاشْتَرَى بِهَا شَيْئًا وَبَاعَهُ وَرَبِحَ فِيهِ تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ

ص: 473

لَا يَتَعَيَّنَانِ عَلَى الْعُقُودِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ الْعَقْدُ الثَّانِي بِعَيْنِهَا فَلَمْ يَتَمَكَّنْ الْخُبْثُ فَلَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ، وَهَذَا فِي الْخُبْثِ الَّذِي سَبَبُهُ فَسَادُ الْمِلْكِ، أَمَّا الْخُبْثُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَشْمَلُ النَّوْعَيْنِ لِتَعَلُّقِ الْعَقْدِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ حَقِيقَةً، وَفِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ أَوْ تَقْدِيرُ الثَّمَنِ، وَعِنْدَ فَسَادِ الْمِلْكِ تَنْقَلِبُ الْحَقِيقَةُ شُبْهَةً وَالشُّبْهَةُ تَنْزِلُ إلَى شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ، وَالشُّبْهَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا.

فِي الْفَصْلَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. لِأَنَّ الْخَبَثَ لَمَّا كَانَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ أَثَرٌ فِيمَا يَتَعَيَّنُ وَفِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ لِأَنَّ شَرْطَ الطِّيبِ الضَّمَانُ، وَالْفَرْضُ وُجُودُهُ.

وَلَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ يَتَعَلَّقُ بِمَا يَتَعَيَّنُ حَقِيقَةً لِعَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ (وَفِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ شُبْهَةٌ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ أَوْ تَقْدِيرُ الثَّمَنِ) وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى بِهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أَشَارَ

ص: 474

قَالَ (وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَقَضَاهُ إيَّاهُ، ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَدْ رَبِحَ الْمُدَّعِي فِي الدَّرَاهِمِ يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ)؛ لِأَنَّ الْخُبْثَ لِفَسَادِ الْمِلْكِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَجَبَ بِالتَّسْمِيَةِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بِالتَّصَادُقِ، وَبَدَلُ الْمُسْتَحِقِّ مَمْلُوكٌ فَلَا يَعْمَلُ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ. .

إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ ثَمَنًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَيْثُ تَقْدِيرُ الثَّمَنِ وَالرِّبْحُ فِي الْأَوَّلِ حَصَلَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَفِي الثَّانِي تَوَسَّلَ إلَيْهِ بِمَالِ الْغَيْرِ لِأَنَّ بَيَانَ جِنْسِ الثَّمَنِ وَقَدْرِهِ وَوَصْفِهِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ حَصَلَ بِمَالِ الْغَيْرِ فَيَجِبُ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالشُّبْهَةِ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ الْخَبَثُ لِفَسَادِ الْمِلْكِ انْقَلَبَ حَقِيقَةُ الْخَبَثِ وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ إلَى شُبْهَتِهِ، لِأَنَّ حُصُولَ الرِّبْحِ لَمْ يَكُنْ بِمَا هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ بِمَا لَهُ فِيهِ شَائِبَةُ مِلْكٍ تُنَزَّلُ، وَشُبْهَةُ الْخَبَثِ وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ إلَى شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ أَوْ تَقْدِيرَ الثَّمَنِ اللَّذَيْنِ كَانَا شُبْهَةَ خَبَثٍ لِحُصُولِهِمَا بِمَالِ الْغَيْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمْ يَبْقَ كَذَلِكَ بَلْ بِمَا لَهُ فِيهِ شَائِبَةُ مِلْكٍ وَالشُّبْهَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ لَا النَّازِلُ عَنْهَا. قِيلَ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الرِّبَا وَالرِّيبَةِ» وَالرِّيبَةُ هِيَ الشُّبْهَةُ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشُّبْهَةَ مُعْتَبَرَةٌ. وَإِمَّا أَنَّ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ اخْتِصَاصِ الرِّيبَةِ بِالشُّبْهَةِ لَا غَيْرُ

وَأَمَّا إذَا كَانَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ أَيْضًا دَاخِلَةً فِي الرِّيبَةِ فَقَدْ يَثْبُتُ بِهِ خِلَافُ الْمُدَّعِي وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ لَوْ اُعْتُبِرَتْ لَاعْتُبِرَ مَا دُونَهَا أَيْضًا دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ، لَكِنْ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ لِئَلَّا يَنْسَدَّ بَابُ التِّجَارَةِ، إذْ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ شُبْهَةِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ فَمَا دُونَهَا.

قَالَ (وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى إلَخْ) رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَاقْضِهَا فَقَضَاهَا ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَدْ تَصَرَّفَ فِيهَا الْمُدَّعِي (وَرَبِحَ طَابَ لَهُ الرِّبْحُ) وَلَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ لِأَنَّ الْخَبَثَ فِيهِ لِفَسَادِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الدَّيْنَ ثَبَتَ بِالتَّسْمِيَةِ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي وَأَدَاءِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمِلْكِ مَا قَبَضَهُ بَدَلًا عَنْهُ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ مُصَادِفًا لِمِلْكِهِ،

ص: 475

(فَصْلٌ فِيمَا يُكْرَهُ)

قَالَ (وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ النَّجْشِ) وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ وَلَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ لِيُرَغِّبَ غَيْرَهُ وَقَالَ «لَا تَنَاجَشُوا»

لَكِنْ لَمَّا تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ اسْتَحَقَّ الْمُبْدَلَ وَاسْتِحْقَاقُ الْمُبْدَلِ لَا يُخْرِجُ الْبَدَلَ عَنْ الْمِلْكِ لِأَنَّ بَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ مَمْلُوكٌ بِهِ إذَا كَانَ عَيْنًا يَتَعَيَّنُ، كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَأَعْتَقَهُ فَاسْتُحِقَّتْ الْجَارِيَةُ فَإِنَّ الْعِتْقَ نَافِذٌ، لَوْ لَمْ يَكُنْ بَدَلُ الْمُسْتَحَقِّ مَمْلُوكًا لَمَا نَفَذَ لِامْتِنَاعِهِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِالنَّصِّ، فَإِذَا كَانَ مَا لَا يَتَعَيَّنُ أَوْلَى، لَكِنَّهُ يُفْسِدُ الْمِلْكُ إذْ الِاسْتِحْقَاقُ قَصْدًا فِي مُقَابِلِهِ لَا فِيهِ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ كَانَ بَاطِلًا وَالْخَبَثُ لِفَسَادِ الْمِلْكِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ.

(فَصْلٌ فِيمَا يُكْرَهُ):

قِيلَ الْمَكْرُوهُ أَدْنَى دَرَجَةً مِنْ الْفَاسِدِ، وَلَكِنْ هُوَ شُعْبَةٌ فَلِذَلِكَ أُلْحِقَ بِهِ وَأُخِّرَ عَنْهُ، وَلَعَلَّ تَحْقِيقَ ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْقُبْحَ إذَا كَانَ لِأَمْرٍ مُجَاوِرٍ كَانَ مَكْرُوهًا، وَإِذَا كَانَ بِوَصْفٍ مُتَّصِلٍ كَانَ فَاسِدًا وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ (وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ النَّجْشِ) بِفَتْحَتَيْنِ (وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ الرَّجُلُ فِي الثَّمَنِ وَلَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ لِيُرَغِّبَ غَيْرَهُ) وَيَجْرِي فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ حَيْثُ «قَالَ عليه الصلاة والسلام لَا تَنَاجَشُوا» أَيْ لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ

ص: 476

قَالَ (وَعَنْ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ غَيْرِهِ) قَالَ عليه الصلاة والسلام: «لَا يَسْتَمِ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» ؛ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ إيحَاشًا وَإِضْرَارًا، وَهَذَا إذَا تَرَاضَى الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى مَبْلَغٍ ثَمَنًا فِي الْمُسَاوَمَةِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَرْكَنْ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَهُوَ بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ وَلَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مَحْمَلُ النَّهْيِ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا. قَالَ (وَعَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ) وَهَذَا إذَا كَانَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ فَلَا بَأْسَ بِهِ، إلَّا إذَا لَبَّسَ السِّعْرَ عَلَى الْوَارِدِينَ فَحَيْثُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغُرُورِ وَالضَّرَرِ.

وَسَبَبُ ذَلِكَ إيقَاعُ رَجُلٍ فِيهِ بِأَزْيَدَ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ خِدَاعٌ وَالْخِدَاعُ قَبِيحٌ جَاوَرَ هَذَا الْبَيْعَ فَكَانَ مَكْرُوهًا، وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّاغِبَ فِي السِّلْعَةِ إذَا طَلَبَهَا مِنْ صَاحِبِهَا بِأَنْقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا فَزَادَ شَخْصٌ لَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ إلَى مَا بَلَغَ تَمَامَ قِيمَتِهَا لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا لِانْتِفَاءِ الْخِدَاعِ (وَنَهَى عَنْ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ غَيْرِهِ) قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» وَهُوَ نَفْيٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ فَيُفِيدُ الْمَشْرُوعِيَّةَ. وَصُورَتُهُ أَنْ يَتَسَاوَمَ الرَّجُلَانِ عَلَى السِّلْعَةِ وَالْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي رَضِيَا بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْقِدَا عَقْدَ الْبَيْعِ حَتَّى دَخَلَ آخَرُ عَلَى سَوْمِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْإِيحَاشِ وَالْإِضْرَارِ وَهُمَا قَبِيحَانِ يَنْفَكَّانِ عَنْ الْبَيْعِ فَكَانَ مَكْرُوهًا إذَا جَنَحَ الْبَائِعُ إلَى الْبَيْعِ بِمَا طَلَبَ بِهِ الْأَوَّلُ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ. أَمَّا إذَا لَمْ يَجْنَحْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ. وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا بَيْعَ مَنْ يَزِيدُ» .

قَالَ: وَعَنْ تَلَقِّي الْجَلْبِ: أَيْ وَنَهَى عليه الصلاة والسلام عَنْ تَلَقِّي الْجَلْبِ: أَيْ الْمَجْلُوبِ. وَصُورَتُهُ الْمِصْرِيُّ أُخْبِرَ بِمَجِيءِ قَافِلَةٍ بِمِيرَةٍ فَتَلَقَّاهُمْ وَاشْتَرَى الْجَمِيعَ وَأَدْخَلَهُ الْمِصْرَ لِيَبِيعَهُ عَلَى مَا أَرَادَ فَذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَضُرَّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ أَوْ لَا، وَالثَّانِي لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُلَبِّسَ السِّعْرَ عَلَى الْوَارِدِينَ

ص: 477

قَالَ (وَعَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي) فَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا يَبِعْ الْحَاضِرُ لِلْبَادِي» وَهَذَا إذَا كَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ فِي قَحْطٍ وَعَوَزٍ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ طَمَعًا فِي الثَّمَنِ الْغَالِي لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِمْ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ. قَالَ:(وَالْبَيْعُ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَذَرُوا الْبَيْعَ} ثُمَّ فِيهِ إخْلَالٌ بِوَاجِبِ السَّعْيِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَذَانَ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. قَالَ (وَكُلُّ ذَلِكَ يُكْرَهُ) لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي مَعْنًى خَارِجٍ زَائِدٍ لَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَلَا فِي شَرَائِطِ الصِّحَّةِ

أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِأَنْ كَانَ أَهْلُ الْمِصْرِ فِي قَحْطٍ وَضِيقٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ بِاعْتِبَارِ قُبْحِ التَّضْيِيقِ الْمُجَاوِرِ الْمُنْفَكِّ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَقَدْ لَبَّسَ السِّعْرَ عَلَى الْوَارِدِينَ فَقَدْ غَرَّ وَضَرَّ وَهُوَ قَبِيحٌ فَيُكْرَهُ، وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

(قَالَ وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي) أَيْ وَنَهَى عليه الصلاة والسلام عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي فَقَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِلْبَادِي» وَصُورَتُهُ الرَّجُلُ لَهُ طَعَامٌ لَا يَبِيعُهُ لِأَهْلِ الْمِصْرِ وَيَبِيعُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ بِثَمَنٍ غَالٍ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْمِصْرِ فِي سَعَةٍ لَا يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ أَوْ فِي قَحْطٍ يَتَضَرَّرُونَ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ اللَّامُ لِلْبَادِي بِمَعْنَى مِنْ. وَقِيلَ فِي صُورَتِهِ نَظَرًا إلَى اللَّامِ أَنْ يَتَوَلَّى الْمِصْرِيُّ الْبَيْعَ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ لِيُغَالِيَ فِي الْقِيمَةِ.

قَالَ (وَالْبَيْعُ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ) أَيْ وَنَهَى عليه الصلاة والسلام عَنْ الْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَذَرُوا الْبَيْعَ} " وَتَسْمِيَتُهُ مَنْهِيًّا بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ لَا بِاعْتِبَارِ الصِّيغَةِ (قَوْلُهُ ثُمَّ فِيهِ) بَيَانٌ لِلْقُبْحِ الْمُجَاوِرِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ قَدْ يُخِلُّ بِوَاجِبِ السَّعْيِ إذْ قَعَدَا أَوْ وَقَفَا يَتَبَايَعَانِ، وَأَمَّا إذَا تَبَايَعَا يَمْشِيَانِ فَلَا إخْلَالَ فَيَصِحُّ بِلَا كَرَاهَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ هُوَ الْأَذَانُ الْأَوَّلُ إذَا كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ (وَكُلُّ ذَلِكَ) أَيْ الْمَذْكُورِ مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ

ص: 478

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ) وَتَفْسِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعُ الْفُقَرَاءِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى نَوْعٍ مِنْهُ» .

قَالَ (وَمَنْ مَلَكَ مَمْلُوكَيْنِ صَغِيرَيْنِ أَحَدُهُمَا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْآخَرِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَبِيرًا) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

إلَى هُنَا مَكْرُوهٌ لِمَا ذَكَرْنَا لَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْفَسَادَ: أَيْ الْقُبْحَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ زَائِدٍ: أَيْ مُجَاوِرٍ، وَلَيْسَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَلَا فِي شَرَائِطِ الصِّحَّةِ وَتُفَسَّرُ بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ، وَرَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه قَدْ مَرَّ آنِفًا (نَوْعٌ مِنْهُ) أَيْ هَذَا الَّذِي يَشْرَعُ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ الْمَكْرُوهِ.

وَمَنْ مَلَكَ صَغِيرَيْنِ أَوْ صَغِيرًا وَكَبِيرًا أَحَدُهُمَا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْآخَرِ كُرِهَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْبُلُوغِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

ص: 479

«وَوَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ صَغِيرَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ الْغُلَامَانِ؟ فَقَالَ: بِعْت أَحَدَهُمَا، فَقَالَ: أَدْرِكْ أَدْرِكْ، وَيُرْوَى: اُرْدُدْ اُرْدُدْ» ؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ وَبِالْكَبِيرِ وَالْكَبِيرَ يَتَعَاهَدُهُ فَكَانَ فِي بَيْعِ أَحَدِهِمَا قَطْعُ الِاسْتِئْنَاسِ، وَالْمَنْعُ مِنْ التَّعَاهُدِ وَفِيهِ تَرْكُ الْمَرْحَمَةِ عَلَى الصِّغَارِ، وَقَدْ أَوْعَدَ عَلَيْهِ

قَوْلُهُ وَوَهَبَ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ تَقْرِيرَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «وَوَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ صَغِيرَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ الْغُلَامَانِ؟ فَقَالَ: بِعْت أَحَدَهُمَا، فَقَالَ: أَدْرِكْ أَدْرِكْ. وَيُرْوَى: اُرْدُدْ اُرْدُدْ». وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَوَّلِ هُوَ الْوَعِيدُ، وَبِالثَّانِي تَكْرَارُ الْأَمْرِ بِالْإِدْرَاكِ وَالرَّدِّ، وَالْوَعِيدُ جَاءَ لِلتَّفْرِيقِ وَالْأَمْرُ بِالْإِدْرَاكِ عَلَى بَيْعِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ تَفْرِيقٌ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْبَيْعِ، فَقُلْنَا بِكَرَاهَةِ الْبَيْعِ لِإِفْضَائِهِ إلَى التَّفْرِيقِ وَهُوَ مُجَاوِرٌ يَنْفَكُّ عَنْهُ لِجَوَازِ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ بِالْهِبَةِ، وَالْمَعْنَى الْمُؤْثِرُ فِي ذَلِكَ اسْتِئْنَاسُ الصَّغِيرِ بِالصَّغِيرِ وَبِالْكَبِيرِ، وَتَعَاهُدُ الْكَبِيرِ لِلصَّغِيرِ، وَفِي بَيْعِ أَحَدِهِمَا قَطْعُ الِاسْتِئْنَاسِ وَالْمَنْعُ مِنْ التَّعَاهُدِ، وَفِيهِ تَرْكُ الْمَرْحَمَةِ عَلَى الصِّغَارِ، وَقَدْ أَوْعَدَ النَّبِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» إنْ كَانَ الْمُرَادُ تَرْكَ الْمَرْحَمَةِ تَرَكَهَا بِالتَّفْرِيقِ، وَيَجُوزُ

ص: 480

ثُمَّ الْمَنْعُ مَعْلُولٌ بِالْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِيهِ مَحْرَمٌ غَيْرُ قَرِيبٍ وَلَا قَرِيبٌ غَيْرُ مَحْرَمٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَانِ حَتَّى جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا فِي مِلْكِهِ

أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي قَطْعِ الِاسْتِئْنَاسِ وَالْمَنْعِ مِنْ التَّعَاهُدِ وَتَرْكِ الْمَرْحَمَةِ وَذَلِكَ مُتَوَعَّدٌ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا» ثُمَّ الْمَنْعُ عَنْ التَّفْرِيقِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ اسْتِئْنَاسٍ وَتَعَاهُدٍ يَحْصُلُ بِالْقَرَابَةِ الْمُحَرَّمَةِ لِلنِّكَاحِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْآخَرِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ بِلَا ضَرَرٍ لِلْمَوْلَى أَوْ الصَّغِيرِ قَصْدًا فَلَا يَدْخُلُ مَحْرَمٌ غَيْرُ قَرِيبٍ وَلَا قَرِيبٌ غَيْرُ مَحْرَمٍ وَلَا مَا لَا مَحْرَمِيَّةَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَخًا رِضَاعِيًّا لِلْآخَرِ أَوْ كَانَ أَمَةً وَالْآخَرُ ابْنَهَا رَضَاعًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا وَلَدَ عَمٍّ أَوْ خَالٍ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا زَوْجَ الْآخَرِ جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ النَّصَّ النَّافِيَ وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّفْرِيقِ بِوُجُودِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ مِنْ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ كَمَا فِي الْكَبِيرَيْنِ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ النَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِهِ وَمَوْرِدُهُ الْوَالِدَةُ وَوَلَدُهَا وَالْأَخَوَانِ.

قِيلَ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَنَاقُضٌ، لِأَنَّهُ عُلِّلَ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ، وَقَالَ: ثُمَّ الْمَنْعُ مَعْلُولٌ بِالْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ، ثُمَّ قَالَ: لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَعْلُولًا فَجَاءَ التَّنَاقُضُ.

وَالْجَوَابُ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِهِ أَنَّ مَنَاطَ حُكْمِ الْمَنْعِ عَنْ التَّفْرِيقِ إنَّمَا هُوَ اسْتِئْنَاسٌ وَتَعَاهُدٌ يَحْصُلُ بِالْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ بِدُونِ ضَرَرٍ لِلْمَوْلَى أَوْ الصَّغِيرِ قَصْدًا فَهُوَ بَيَانٌ لِمَا عَسَى يَجُوزُ بِهِ إلْحَاقُ الْغَيْرِ بِالدَّلَالَةِ إذَا سَاوَاهُ، لَا بَيَانُ الْوَصْفِ الْجَامِعِ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ، فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ مَعْلُولٌ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ. وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقَرَابَةِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ، وَلَا مَا فِيهِ ضَرَرٌ مَا يُسَاوِي الْقَرَابَةَ الْمُحَرِّمَةَ لِلنِّكَاحِ وَمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ حَتَّى يُلْحَقَ بِهَا. فَلَا يُرَدُّ مَا قِيلَ فِي الْكُتُبِ لَوْ كَانَ مَنْعُ التَّفْرِيقِ مَعْلُولًا بِالْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ لَمَا جَازَ

ص: 481

لِمَا ذَكَرْنَا، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُ الصَّغِيرَيْنِ لَهُ وَالْآخَرُ لِغَيْرِهِ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ التَّفْرِيقُ بِحَقِّ مُسْتَحِقٍّ

التَّفْرِيقُ عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الْعِلَّةِ، لَكِنَّهُ جَازَ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا فَكَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْقُوضَةً وَلَزِمَ الْتِزَامُ الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَلِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ. وَالْأَوَّلُ مِنْ الْمَوَاضِعِ السَّبْعَةِ مَا إذَا صَارَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ إلَى حَالٍ لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ كَمَا إذَا دَبَّرَهُ أَوْ اسْتَوْلَدَهُ إنْ كَانَتْ أَمَةً فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْآخَرِ وَإِنْ حَصَلَ التَّفْرِيقُ. وَالثَّانِي إذَا جَنَى أَحَدُهُمَا جِنَايَةَ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَإِنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَ وَفِيهِ تَفْرِيقٌ مَعَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْمَنْعِ عَنْ الْبَيْعِ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ.

وَالثَّالِثُ إذَا كَانَ الْمَالِكُ حَرْبِيًّا جَازَ لِلْمُسْلِمِ شِرَاءُ أَحَدِهِمَا، وَكَمَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بِالْبَيْعِ يُكْرَهُ بِالشِّرَاءِ. وَالرَّابِعُ إذَا مَلَكَ صَغِيرًا وَكَبِيرَيْنِ جَازَ بَيْعُ أَحَدِ الْكَبِيرَيْنِ اسْتِحْسَانًا وَإِنْ لَزِمَ التَّفْرِيقُ. وَالْخَامِسُ إذَا اشْتَرَاهُمَا وَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا كَانَ لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَزِمَ التَّفْرِيقُ وَالسَّادِسُ جَازَ إعْتَاقُ أَحَدِهِمَا عَلَى مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ تَفْرِيقٌ. وَالسَّابِعُ إذَا كَانَ الصَّغِيرُ مُرَاهِقًا جَازَ بَيْعُهُ بِرِضَاهُ وَرِضَا أُمِّهِ وَلَزِمَ التَّفْرِيقُ.

وَإِذَا تَأَمَّلْت مَا مُهِّدَ لَك آنِفًا ظَهَرَ لَك عَدَمُ وُرُودِهَا فَإِنَّ مَا خَلَا الْأَخِيرَيْنِ يَشْتَمِلُ عَلَى الضَّرَرِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ بَيْعَ أَحَدِهِمَا لَمَّا امْتَنَعَ لِمَعْنًى شَرْعِيٍّ لَوْ مَنَعَ عَنْ بَيْعِ الْآخَرِ تَضَرَّرَ الْمَوْلَى وَالْمَنْظُورُ إلَيْهِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ غَيْرِهِ لَا الْإِضْرَارُ بِهِ. لَا يُقَالُ: الْمَنْعُ عَنْ تَصَرُّفِ التَّفْرِيقِ مَعَ وُجُودِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لَهُ أَضْرَارٌ فَكَيْفَ تُحْمَلُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَحَمَّلْ ذَلِكَ لَزِمَ إهْمَالُ الْحَدِيثِ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَوْ أُلْزِمَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ تَضَرَّرَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ مَنْعَ التَّفْرِيقِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الصَّغِيرِ وَلَوْ مُنِعَ الْمُسْلِمُ مِنْ شِرَائِهِ تَضَرَّرَ الصَّغِيرُ قَصْدًا وَعَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ يُدْخِلُهُمَا دَارَ الْحَرْبِ فَيَنْشَآنِ فِيهَا، وَضَرَرُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الدُّنْيَا لِعَرْضِيَّةِ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ وَفِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ مَنْ يَنْشَأُ مِنْ صِغَرِهِ بَيْنَهُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى دِينِهِمْ. وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّ مَنْعَ بَيْعِ أَحَدِ الْكَبِيرَيْنِ مَعَ دَفْعِ ضَرَرِ الصَّغِيرِ بِالْآخَرِ إضْرَارٌ لِلْمَوْلَى. وَأَمَّا الْخَامِسُ فَجَوَازُ التَّفْرِيقِ فِيهِ مَمْنُوعٌ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.

وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إنَّمَا جَازَ لِأَنَّ رَدَّ السَّالِمِ عَنْ الْعَيْبِ حَرَامٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَفِي إلْزَامِ الْمَعِيبِ إضْرَارٌ لِلْمُشْتَرِي فَيَتَعَيَّنُ رَدُّهُ دَفْعًا لِلْإِضْرَارِ عَنْهُ. وَأَمَّا فِي السَّادِسِ فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ هُوَ عَيْنُ الْجَمْعِ بِأَكْمَلِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ الْمُعْتَقَ أَوْ الْمُكَاتَبَ صَارَ أَحَقَّ بِنَفْسِهِ فَيَدُورُ هُوَ حَيْثُمَا دَارَ أَخُوهُ وَيَتَعَاهَدُ أُمُورَهُ عَلَى مَا أَرَادَ، وَلَا اعْتِبَارَ بِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بَعْدَمَا حَصَلَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ فِي إبْقَائِهِمَا جَمِيعًا مَعَ زِيَادَةِ وَصْفٍ وَهِيَ اسْتِبْدَادُهُ بِنَفْسِهِ.

وَأَمَّا فِي السَّابِعِ فَلِأَنَّ الْمَنْعَ عَنْ التَّفْرِيقِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الضَّرَرِ بِهِمَا فَلَمَّا رَضِيَا بِالتَّفْرِيقِ انْدَفَعَ الضَّرَرُ، فَفِيمَا عَدَا الْأَخِيرَيْنِ ضَرَرٌ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ. وَأَمَّا السَّادِسُ فَلَا تَفْرِيقَ فِيهِ، وَأَمَّا السَّابِعُ فَمِنْ قَبِيلِ إسْقَاطِ الْحَقِّ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَهُ وَالْآخَرُ لِغَيْرِهِ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ التَّفْرِيقَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ وَذَكَرَ الْغَيْرَ مُطْلَقًا لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَنْ كَانَ غَيْرَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْغَيْرُ ابْنًا صَغِيرًا لَهُ أَوْ كَبِيرًا وَهُمَا فِي مُؤْنَتِهِ أَوَّلًا وَسَوَاءٌ كَانَ زَوْجَتَهُ أَوْ مُكَاتَبَتَهُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ إذَا كَانَا فِي مِلْكِهِ لِحُصُولِ التَّفْرِيقِ بِذَلِكَ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ التَّفْرِيقُ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ) تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي أَثْنَاءِ الْأَسْئِلَةِ وَجَوَابِهَا.

ص: 482

لَا بَأْسَ بِهِ كَدَفْعِ أَحَدِهِمَا بِالْجِنَايَةِ وَبَيْعِهِ بِالدَّيْنِ وَرَدِّهِ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ غَيْرِهِ لَا الْإِضْرَارُ بِهِ. قَالَ (فَإِنْ فَرَّقَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَجَازَ الْعَقْدُ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِدْرَاكِ وَالرَّدِّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَنَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْفِدَاءُ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ أَوْ يَفْدِيَ فَكَانَ الْفِدَاءُ أَوْلَى. قَالَ (فَإِنْ فَرَّقَ كُرِهَ ذَلِكَ وَجَازَ الْعَقْدُ إلَخْ) فَإِنْ فَرَّقَ كُرِهَ ذَلِكَ، وَإِطْلَاقُ التَّفْرِيقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ سَوَاءٌ كَانَ بِالْبَيْعِ أَوْ الْقِسْمَةِ فِي الْمِيرَاثِ أَوْ الْغَنَائِمِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ لِقُوَّتِهَا وَضَعْفِ غَيْرِهَا.

وَعَنْهُ لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ «قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِعَلِيٍّ أَدْرِكْ أَدْرِكْ وَلِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ اُرْدُدْ اُرْدُدْ» فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِدْرَاكِ وَالرَّدِّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ، وَالْكَرَاهَةُ لِمَعْنًى مُجَاوِرٍ وَهُوَ الْوَحْشَةُ الْحَاصِلَةُ بِالتَّفْرِيقِ فَكَانَ كَالْبَيْعِ

ص: 483

وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ، وَإِنَّمَا الْكَرَاهَةُ لِمَعْنًى مُجَاوِرٍ فَشَابَهُ كَرَاهَةَ الِاسْتِيَامِ (وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَرَّقَ بَيْنَ مَارِيَةَ وَسِيرِينَ

وَقْتَ النِّدَاءِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لَا فَاسِدٌ كَالِاسْتِيَامِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى طَلَبِ الْإِقَالَةِ أَوْ بَيْعِ الْآخَرِ مِمَّنْ بَاعَ مِنْهُ أَحَدُهُمَا (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ يُشِيرُ إلَى أَنَّ مُرَادَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ الْإِلْحَاقُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ مَارِيَةَ وَسِيرِينَ وَكَانَتَا أَمَتَيْنِ أُخْتَيْنِ» رُوِيَ «أَنَّ أَمِيرَ الْقِبْطِ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَارِيَتَيْنِ أُخْتَيْنِ وَبَغْلَةً، فَكَانَ يَرْكَبُ الْبَغْلَةَ بِالْمَدِينَةِ وَاِتَّخَذَ إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ سُرِّيَّةً فَوَلَدَتْ لَهُ إبْرَاهِيمَ وَهِيَ مَارِيَةُ، وَوَهَبَ الْأُخْرَى لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَكَانَ اسْمُهَا سِيرِينَ» بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَالِكُ مُسْلِمًا حُرًّا

ص: 484

وَكَانَتَا أَمَتَيْنِ أُخْتَيْنِ».

كَانَ أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مَأْذُونًا لَهُ، وَأَمَّا إذَا كَانَ كَافِرًا فَلَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ أَعْظَمُ وَالْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالشَّرَائِعِ.

[.

ص: 485

(بَابُ الْإِقَالَةِ)

(الْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ فِي الْبَيْعِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ حَقُّهُمَا فَيَمْلِكَانِ رَفْعَهُ دَفْعًا لِحَاجَتِهِمَا (فَإِنْ شَرَطَا أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ

بَابُ الْإِقَالَةِ)

(الْإِقَالَةُ) الْخَلَاصُ عَنْ خَبَثِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْمَكْرُوهِ. لَمَّا كَانَ بِالْفَسْخِ كَانَ لِلْإِقَالَةِ تَعَلُّقٌ خَاصٌّ بِهِمَا فَأَعْقَبَ ذِكْرَهَا إيَّاهُمَا، وَهِيَ مِنْ الْقِيلِ لَا مِنْ الْقَوْلِ، وَالْهَمْزَةُ لِلسَّلْبِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضٌ بِدَلِيلِ قُلْت الْبَيْعَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَهِيَ جَائِزَةٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» نَدَبَ صلى الله عليه وسلم إلَيْهَا بِمَا يُوجِبُ التَّحْرِيضَ عَلَّهَا مِنْ الثَّوَابِ إخْبَارًا أَوْ ادِّعَاءً، وَكِلَاهُمَا لَا يَكُونُ إلَّا لِمَشْرُوعٍ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ حَقُّهُمَا وَكُلُّ مَا هُوَ حَقُّهُمَا يَمْلِكَانِ رَفْعَهُ لِحَاجَتِهِمَا، وَشَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ (فَإِنْ شَرَطَا أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ

ص: 486

وَيَرُدُّ مِثْلَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ).

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ جَعْلُهُ فَسْخًا فَتَبْطُلُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله هُوَ بَيْعٌ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ جَعْلُهُ بَيْعًا فَيُجْعَلُ فَسْخًا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ فَتَبْطُلُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله هُوَ فَسْخٌ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ فَسْخًا فَيُجْعَلُ بَيْعًا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ فَتَبْطُلُ.

وَيُرَدُّ مِثْلُ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ) وَلِهَذَا بَطَلَ مَا نَطَقَا بِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ. وَلَوْ بَاعَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ جَازَ وَلَوْ كَانَ بَيْعًا لَمَا جَازَ لِكَوْنِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا وَلِهَذَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلشَّفِيعِ فِيمَا إذَا بَاعَ دَارًا فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ تَقَايَلَا وَعَادَ الْمَبِيعُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَوْ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَرْطُ التَّقَابُضِ إذَا كَانَ الْبَيْعُ صَرْفًا فَكَانَتْ فِي حَقِّ الشَّرِيعَةِ بَيْعًا جَدِيدًا.

وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَهَا يُنْبِئُ عَنْ الْفَسْخِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَمَعْنَاهَا يُنْبِئُ عَنْ الْبَيْعِ لِكَوْنِهَا مُبَادَلَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي، وَجَعْلُهَا فَسْخًا أَوْ بَيْعًا فَقَطْ إهْمَالٌ لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَإِعْمَالُهُمَا وَلَوْ بِوَجْهٍ أَوْلَى، فَجَعَلْنَاهَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِقِيَامِهِ بِهِمَا فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَجَعَلَهَا فَسْخًا بَطَلَتْ كَمَا إذَا وَلَدَتْ الْمَبِيعَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَدًا فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ تَمْنَعُ فَسْخَ الْعَقْدِ حَقًّا لِلشَّرْعِ. وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ بَيْعٌ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ جَعْلُهَا بَيْعًا، كَمَا إذَا تَقَايَلَا فِي الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيُجْعَلُ فَسْخًا إلَّا إنْ تَعَذَّرَ جَعْلُهَا فَسْخًا فَتَبْطُلُ، كَمَا إذَا تَقَايَلَا فِي الْعُرُوضِ الْمَبِيعَةِ بِالدَّرَاهِمِ بَعْدَ هَلَاكِهَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ فَسْخٌ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ، كَمَا إذَا تَقَايَلَا بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيُجْعَلُ بَيْعًا إلَّا إذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَتَبْطُلُ كَمَا فِي صُورَةِ بَيْعِ الْعَرْضِ بِالدَّرَاهِمِ بَعْدَ هَلَاكِهِ. اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَقَالَ: إنَّ اللَّفْظَ لِلْفَسْخِ وَالدَّفْعِ: يَعْنِي أَنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ يُقَالُ

ص: 487

لِمُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ اللَّفْظَ لِلْفَسْخِ وَالرَّفْعِ. وَمِنْهُ يُقَالُ: أَقِلْنِي عَثَرَاتِي فَتُوَفِّرُ عَلَيْهِ قَضِيَّتَهُ. وَإِذَا تَعَذَّرَ يُحْمَلُ عَلَى مُحْتَمَلِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَيْعٌ فِي حَقِّ الثَّالِثِ: وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي. وَهَذَا هُوَ حَدُّ الْبَيْعِ وَلِهَذَا يَبْطُلُ بِهَلَاكِ السِّلْعَةِ وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَتَثْبُتُ بِهِ الشُّفْعَةُ وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ الرَّفْعِ وَالْفَسْخِ كَمَا قُلْنَا، وَالْأَصْلُ إعْمَالُ الْأَلْفَاظِ فِي مُقْتَضَيَاتِهَا الْحَقِيقِيَّةِ

فِي الدُّعَاءِ أَقِلْنِي عَثْرَتِي، وَإِذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ لَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ فَيُعْمَلُ بِهَا، وَإِذَا تَعَذَّرَ يُحْمَلُ عَلَى مُحْتَمَلِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَعْنَاهُ فَإِنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي وَلَيْسَ الْبَيْعُ إلَّا ذَلِكَ، وَاعْتَضَدَ بِثُبُوتِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ مِنْ بُطْلَانِهَا بِهَلَاكِ السِّلْعَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَثُبُوتِ الشُّفْعَةِ. وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ بَيْعًا أَوْ مُحْتَمَلَةً لَهُ لَانْعَقَدَ الْبَيْعُ بِلَفْظِ الْإِقَالَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَأُجِيبَ بِمَنْعِ بُطْلَانِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَبِالْفَرْقِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِأَنَّهُ إذَا قَالَ ابْتِدَاءً أَقَلْتُك الْعَقْدَ فِي هَذَا الْعَبْدِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ أَصْلًا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهَا بَيْعًا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ إنَّمَا أُضِيفَتْ إلَى مَا لَا وُجُودَ لَهُ فَتَبْطُلُ فِي مَخْرَجِهَا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى مَا لَهُ وُجُودٌ: أَعْنِي بِهِ سَابِقَةَ الْعَقْدِ قَبْلَهَا فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ إرَادَةِ الْمَجَازِ مِنْ اللَّفْظِ فِي مَوْضِعٍ لِوُجُودِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ الْمَجَازِ إرَادَةُ الْمَجَازِ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ عِنْدَ عَدَمِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَجَازِ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَجْعَلُ الْإِقَالَةَ بَيْعًا مَجَازًا وَذَلِكَ مَصِيرٌ إلَى الْمَجَازِ مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي أَنَّ

ص: 488

وَلَا يُحْتَمَلُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ لِيُحْمَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَاللَّفْظُ لَا يَحْتَمِلُ ضِدَّهُ فَتَعَيَّنَ الْبُطْلَانُ، وَكَوْنُهُ بَيْعًا فِي حَقِّ الثَّالِثِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِثْلُ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمِلْكُ لَا مُقْتَضَى الصِّيغَةِ، إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا، إذَا ثَبَتَ هَذَا نَقُولُ: إذَا شَرَطَ الْأَكْثَرَ فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ

قَوْلَهُ أَقَلْتُك الْعَقْدَ فِي هَذَا الْعَبْدِ مَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ سَابِقَةِ الْعَقْدِ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ الْفَسْخِ وَالرَّفْعِ كَمَا قُلْنَا فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَالْأَصْلُ إعْمَالُ الْأَلْفَاظِ فِي حَقَائِقِهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ صِيرَ إلَى الْمَجَازِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا بَطَلَا، وَهَاهُنَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا عَنْ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ لِكَوْنِهَا ضِدَّهُ، وَاسْتِعَارَةُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ لِلْآخَرِ لَا تَجُوزُ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِقَالَةُ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ الثَّالِثِ وَلَوْ لَمْ يُحْتَمَلْ الْبَيْعُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، إذْ الثَّابِتُ بِالْمَجَازِ ثَابِتٌ بِقَضِيَّةِ الصِّيغَةِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا لِيَكُونَ لَفْظُهُمَا عَامِلًا فِي حَقِّهِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ مِثْلُ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ تَبَدَّلَ ظَاهِرُ مُوجَبِهِ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ دُونَهُمَا لِامْتِنَاعِ ثُبُوتِ الضِّدَّيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَتَقْرِيرُهُ بِوَجْهِ الْبَسْطِ أَنَّ الْبَيْعَ وُضِعَ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ قَصْدًا، وَزَوَالُ الْمِلْكِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، وَالْإِقَالَةُ وُضِعَتْ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ وَإِبْطَالِهِ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا كَانَ لِصَاحِبِهِ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْمُبَايَعَةِ، فَاعْتُبِرَ مُوجَبُ الصِّيغَةِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَتَعَيَّنَ اعْتِبَارُ الْحُكْمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى غَيْرِهِمَا.

وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الْمُدَّعَى أَنْ كَوْنَ الْإِقَالَةِ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ لَيْسَ مُقْتَضَى الصِّيغَةِ لِأَنَّ كَوْنَهَا فَسْخًا بِمُقْتَضَاهَا، فَلَوْ كَانَ كَوْنُهَا بَيْعًا كَذَلِكَ لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَهُوَ

ص: 489

لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ عَلَى الزِّيَادَةِ، إذْ رَفْعُ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مُحَالٌ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا فِي الْعَقْدِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا أَوْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا فِي الرَّفْعِ، وَكَذَا إذَا شَرَطَ الْأَقَلَّ لِمَا بَيَّنَّاهُ إلَّا أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ فَحِينَئِذٍ جَازَتْ الْإِقَالَةُ بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ بِالْعَيْبِ، وَعِنْدَهُمَا فِي شَرْطِ الزِّيَادَةِ يَكُونُ بَيْعًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله جَعْلُهُ بَيْعًا مُمْكِنٌ فَإِذَا زَادَ كَانَ قَاصِدًا بِهَذَا ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ، وَكَذَا فِي شَرْطِ الْأَقَلِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله هُوَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ لَا سُكُوتٌ عَنْ بَعْضِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ سَكَتَ عَنْ الْكُلِّ وَأَقَالَ يَكُونُ فَسْخًا فَهَذَا أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا إذَا زَادَ، وَإِذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَهُوَ فَسْخٌ بِالْأَقَلِّ لِمَا بَيَّنَّاهُ.

مُحَالٌ، وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو يُوسُفَ مِنْ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ مَا قِيلَ: الشَّارِعُ يُبَدِّلُ الْأَحْكَامَ فَلَا يُغَيِّرُ الْحَقَائِقَ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ عَنْ كَوْنِهِ حَدَثًا، وَفَسَادُ الْإِقَالَةِ عِنْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ وَثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ فَجَازَ أَنْ يُغَيَّرَ وَيَثْبُتَ فِي ضِمْنِ الْإِقَالَةِ، وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَمِنْ الْحَقَائِقِ فَلَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا الَّتِي هِيَ الْفَسْخُ، إذَا ثَبَتَ هَذَا: أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَصْلِ نَقُولُ: إذَا شُرِطَ الْأَكْثَرُ فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ عَلَى الزِّيَادَةِ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِهِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَالْفَسْخُ عَلَى الزِّيَادَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَهُوَ مُحَالٌ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ لَا الْإِقَالَةُ لِأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ يُشْبِهُ الرِّبَا لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ، وَالْإِقَالَةُ تُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَكَانَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِيهَا شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْإِقَالَةِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ إثْبَاتُ مَا لَمْ يَكُنْ بِالْعَقْدِ فَيَسْتَحِقُّ الرِّبَا، وَلِأَنَّ فِي الشَّرْطِ شُبْهَةَ الرِّبَا وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ، وَكَذَا إذَا شَرَطَ الْأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مُحَالٌ، وَالنُّقْصَانُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَرَفْعُهُ يَكُونُ مُحَالًا إلَّا أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ فَجَازَتْ الْإِقَالَةُ بِالْأَقَلِّ لِأَنَّ الْحَطَّ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ بِالْعَيْبِ. وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ: مَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَتَقَايَلَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ صَحَّتْ الْإِقَالَةُ، وَإِنْ تَقَايَلَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ صَحَّتْ بِالْأَلْفِ وَلَغَا ذِكْرُ الْبَاقِي، وَإِنْ تَقَايَلَا

ص: 490

وَلَوْ أَقَالَ بِغَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَيَجْعَلُ التَّسْمِيَةَ لَغْوًا عِنْدَهُمَا بَيْعٌ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ وَلَدَتْ الْمَبِيعَةُ وَلَدًا ثُمَّ تَقَايَلَا فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَانِعٌ مِنْ الْفَسْخِ، وَعِنْدَهُمَا تَكُونُ بَيْعًا وَالْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَنْقُولِ، وَغَيْرِهِ فَسْخٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَمُحَمَّدٍ رحمه الله، كَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي الْمَنْقُولِ لِتَعَذُّرِ الْبَيْعِ، وَفِي الْعَقَارِ يَكُونُ بَيْعًا عِنْدَهُ لِإِمْكَانِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ عِنْدَهُ.

بِأَلْفٍ إلَّا مِائَةً، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا عَيْبٌ صَحَّتْ بِأَلْفٍ وَلَغَا النَّقْصُ وَوَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الْأَلْفِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ دَخَلَهَا عَيْبٌ صَحَّتْ الْإِقَالَةُ بِمَا شُرِطَ وَيَصِيرُ الْمَحْطُوطُ بِإِزَاءِ نُقْصَانِ الْعَيْبِ، لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَبَسَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي جُزْءٌ مِنْ الْمَبِيعِ جَازَ أَنْ يَحْتَبِسَ عِنْدَ الْبَائِعِ جُزْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَجَوَابُ الْكِتَابِ مُطْلَقٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْحَطُّ بِمِقْدَارِ حِصَّةِ الْعَيْبِ أَوْ أَكْثَرَ بِمِقْدَارِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ أَوْ لَا.

وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ ذَلِكَ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا فِي شَرْطِ الزِّيَادَةِ يَكُونُ بَيْعًا لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَتْ فَسْخًا، لَكِنَّهُ فِي الزِّيَادَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَجَعْلُهَا بَيْعًا مُمْكِنٌ، فَإِذَا زَادَ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ فَيُصَارُ إلَى الْمَجَازِ صَوْنًا لِكَلَامِ الْعُقَلَاءِ عَنْ الْإِلْغَاءِ. وَلَا فَرْقَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ هُوَ الْبَيْعُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْفَسْخُ مُمْكِنٌ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ وَأَقَالَ كَانَ فَسْخًا فَهَذَا أَوْلَى، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ كَوْنَهُ فَسْخًا إذَا سَكَتَ عَنْ كُلِّ الثَّمَنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مَذْهَبِهِ خَاصَّةً أَوْ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَالْأَوَّلُ رَدُّ الْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ، وَالثَّانِي غَيْرُ نَاهِضٍ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ إنَّمَا يَجْعَلُهُ فَسْخًا لِامْتِنَاعِ جَعْلِهِ بَيْعًا لِانْتِفَاءِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ صُورَةِ النُّقْصَانِ. فَإِنَّ فِيهَا مَا يَصْلُحُ ثَمَنًا. فَإِذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَهُوَ فَسْخٌ بِالْأَقَلِّ: يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحَطَّ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ بِالْعَيْبِ.

وَلَوْ أَقَالَ بِغَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَتُجْعَلُ التَّسْمِيَةُ لَغْوًا، وَعِنْدَهُمَا بَيْعٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ وَجْهِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي فَصْلِ الزِّيَادَةِ.

وَلَوْ وُلِدَتْ الْمَبِيعَةُ ثُمَّ تَقَايَلَا بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَانِعٌ مِنْ الْفَسْخِ، هَذَا إذَا وَلَدَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَمَّا إذَا وَلَدَتْ قَبْلَهُ فَالْإِقَالَةُ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُ.

وَحَاصِلُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْجَارِيَةَ إذَا ازْدَادَتْ ثُمَّ تَقَايَلَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ صَحَّتْ الْإِقَالَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ أَوْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ مُنْفَصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُتَّصِلَةً، وَإِنْ كَانَتْ

ص: 491

(قَالَ وَهَلَاكُ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ يَمْنَعُ مِنْهَا)؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْبَيْعِ يَسْتَدْعِي قِيَامَهُ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْبَيْعِ دُونَ الثَّمَنِ

الزِّيَادَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ، إنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يُصَحِّحُهَا إلَّا فَسْخًا وَقَدْ تَعَذَّرَ حَقًّا لِلشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً فَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ بِرِضَا مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الزِّيَادَةِ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ فِيهَا، وَالتَّقَايُلُ دَلِيلُ الرِّضَا فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهَا فَسْخًا، وَالْإِقَالَةُ فِي الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ بِالِاتِّفَاقِ لِامْتِنَاعِ الْبَيْعِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ كَالْعَقَارِ فَإِنَّهُ فَسْخٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَبَيْعٌ لِجَوَازِ الْمَبِيعِ فِي الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ.

قَالَ (وَهَلَاكُ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ إلَخْ) هَلَاكُ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ. وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ يَمْنَعُ مِنْهَا لِأَنَّ رَفْعَ الْبَيْعِ يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْبَيْعِ، فَإِنَّ رَفْعَ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ وَقِيَامُ الْبَيْعِ بِالْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْمَبِيعُ وَلِهَذَا شُرِطَ وُجُودُهُ عِنْدَ الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ وَلِهَذَا جَازَ الْعَقْدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ. وَلَوْ هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِي الْبَاقِي لِقِيَامِ الْمَبِيعِ فِيهِ، وَلَوْ تَقَايَضَا جَازَتْ الْإِقَالَةُ بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِهِمَا: أَيْ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ ابْتِدَاءً بِأَنْ تَبَايَعَا عَبْدًا بِجَارِيَةٍ فَهَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ بَائِعِ الْجَارِيَةِ ثُمَّ أَقَالَا الْبَيْعَ فِي الْجَارِيَةِ وَجَبَ رَدُّ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَلَا تَبْطُلُ بِهَلَاكِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ وُجُودِهِمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فَكَانَ الْبَيْعُ قَائِمًا، أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا هَالِكًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ وَالْآخَرُ قَائِمًا وَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ ثُمَّ هَلَكَ الْقَائِمُ قَبْلَ الرَّدِّ فَقَدْ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ،

ص: 492

(فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِي الْبَاقِي)؛ لِقِيَامِ الْبَيْعِ فِيهِ، وَإِنْ تَقَايَضَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِهِمَا وَلَا تَبْطُلُ بِهَلَاكِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فَكَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

وَلَا يُشْكِلُ بِالْمُقَايَضَةِ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى إذَا هَلَكَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا هَالِكًا وَقْتَ الْبَيْعِ فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ، مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى الْآخَرِ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَإِنْ كَانَ لَهَا حُكْمُ الْبَيْعِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَيْعٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَتَجُوزُ بَعْدَ هَلَاكِ الْعِوَضَيْنِ، بِخِلَافِ الْمُقَايَضَةِ فَإِنَّهَا بَيْعٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ جِهَةُ كَوْنِهِ مَبِيعًا فَأُلْحِقَ

ص: 493

(بَابُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ)

قَالَ (الْمُرَابَحَةُ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ

بِالْبَيْعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهَلَاكِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ هَلَاكَهُمَا جَمِيعًا مُبْطِلٌ لِلْإِقَالَةِ، بِخِلَافِ التَّصَارُفِ فَإِنَّ هَلَاكَ الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا فِيهِ غَيْرُ مَانِعٍ عَنْ الْإِقَالَةِ، مَعَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ حُكْمَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ كَمَا فِي الْمُقَايَضَةِ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنَا لَمْ تَتَعَلَّقْ الْإِقَالَةُ بِأَعْيَانِهِمَا لَوْ كَانَا قَائِمَيْنِ بَلْ رَدُّ الْمَقْبُوضِ وَرَدُّ مِثْلِهِ سِيَّانِ، فَصَارَ هَلَاكُهُمَا كَقِيَامِهِمَا، وَفِي الْمُقَايَضَةِ تَعَلَّقَتْ بِأَعْيَانِهِمَا قَائِمَيْنِ فَمَتَى هَلَكَ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُرَدُّ الْإِقَالَةُ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِقَالَةَ تَصِحُّ بِلَفْظَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَقِلْنِي فَيَقُولُ الْآخَرُ أَقَلْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَصِحُّ إلَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَقَلْت الْبَيْعَ فَيَقُولُ الْآخَرُ قَبِلْت اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ أَقِلْنِي مُسَاوَمَةً بَلْ كَانَ تَحْقِيقًا لِلتَّصَرُّفِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ.

(بَابُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ):

ص: 494

وَالتَّوْلِيَةُ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ رِبْحٍ)

لَمَّا فَرَغَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْمَبِيعُ مِنْ الْبُيُوعِ اللَّازِمَةِ وَغَيْرِ اللَّازِمَةِ وَمَا يَرْفَعُهُمَا شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالثَّمَنِ مِنْ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ وَوَعَدْنَا تَفْصِيلَهَا وَهَذَا مَوْضِعُهُ. وَعَرَّفَ الْمُرَابَحَةَ بِنَقْلِ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ.

وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ وَلَا مُنْعَكِسٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَنْ اشْتَرَى دَنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ مُرَابَحَةً لَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّنَانِيرِ مُرَابَحَةً مَعَ صِدْقِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَغْصُوبَ الْآبِقَ إذَا عَادَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ جَازَ بَيْعُهُ مِنْ الْغَاصِبِ مُرَابَحَةً، وَالتَّعْرِيفُ لَيْسَ بِصَادِقٍ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا عَقْدَ فِيهِ، وَبِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى إبْهَامٍ يَجِبُ عَنْهُ خُلُوُّ التَّعْرِيفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ عَيْنُ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ مِثْلُهُ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ عَيْنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ صَارَ مِلْكًا لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ عَيْنُهُ مُرَادًا فِي الْبَيْعِ الثَّانِي، وَلَا إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرَادَ الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ أَوْ الْمِقْدَارُ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِمَا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ وَالْمُحِيطِ أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنْ كَانَ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ لَهُ مِثْلٌ جَازَ سَوَاءٌ جَعَلَ الرِّبْحَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ الدَّرَاهِمَ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ مِنْ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ مِنْ الدَّنَانِيرِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ إذَا كَانَ مَعْلُومًا يَجُوزُ بِهِ الشِّرَاءُ لِأَنَّ الْكُلَّ ثَمَنٌ. وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَنْ لَا يُضَمَّ إلَى رَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةُ الْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالطَّرَّازِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِثَمَنٍ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمُرَابَحَةِ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَوْ مَلَكَ ثَوْبًا بِهِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ فَقَوَّمَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى تِلْكَ الْقِيمَةِ جَازَ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْمَبْسُوطِ. قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ مِنْ السِّلَعِ بِمَا قَامَ عِنْدَهُ.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ صِدْقَ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُجِزْ الْبَيْعَ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ النَّقْلُ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَقْدِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً أَوْ انْتِهَاءً، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ عَادَ ذَلِكَ عَقْدًا حَتَّى لَا يَقْدِرَ الْمَالِكُ عَلَى رَدِّ الْقِيمَةِ وَأَخْذِ الْمَغْصُوبِ، وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِ هُوَ الْمِثْلُ فِي الْمِقْدَارِ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ بِإِلْحَاقِ مَا يَزِيدُ فِي الْمَبِيعِ أَوْ قِيمَتِهِ إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ عَادَةً، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ نَفْسُهُ مُرَادًا يُجْعَلُ مَجَازًا عَمَّا قَامَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ خِيَانَةٍ فَتَدْخُلُ فِيهِ مَسْأَلَةُ الْمَبْسُوطِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالثَّمَنِ لِكَوْنِهِ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ فِي الْمُرَابَحَاتِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْحَقِيقَةِ لِلْعَادَةِ (قَوْلُهُ وَالتَّوْلِيَةُ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ رِبْحٍ) يَرِدُ عَلَيْهِ مَا كَانَ يَرِدُ عَلَى الْمُرَابَحَةِ مِنْ حَيْثُ لَفْظُ

ص: 495

وَالْبَيْعَانِ جَائِزَانِ؛

الْعَقْدِ وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ، وَالْجَوَابُ (وَالْبَيْعَانِ جَائِزَانِ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ، وَلِتَعَامُلِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ

ص: 496

لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ، وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْغَبِيَّ الَّذِي لَا يَهْتَدِي فِي التِّجَارَةِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْتَمِدَ فِعْلَ الذَّكِيِّ الْمُهْتَدِي وَتَطِيبُ نَفْسُهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى وَبِزِيَادَةِ رِبْحٍ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِمَا، وَلِهَذَا كَانَ مَبْنَاهُمَا عَلَى الْأَمَانَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِيَانَةِ وَعَنْ شُبْهَتِهَا، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ ابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بَعِيرَيْنِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَلِّنِي أَحَدَهُمَا، فَقَالَ: هُوَ لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: أَمَّا بِغَيْرِ ثَمَنٍ فَلَا».

قَالَ (وَلَا تَصِحُّ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ حَتَّى يَكُونَ الْعِوَضُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ)؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ لَوْ مَلَكَهُ مَلَكَهُ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ (وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَهُ مُرَابَحَةً مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْبَدَلَ وَقَدْ بَاعَهُ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ مَوْصُوفٍ جَازَ) لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ (وَإِنْ بَاعَهُ بِرِبْحٍ ده يازده لَا يَجُوزُ)؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَبِبَعْضِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ

إنْكَارٍ وَلِمِسَاسِ الْحَاجَةِ، لِأَنَّ الْغَبِيَّ الَّذِي لَا يَهْتَدِي فِي التِّجَارَةِ وَالصِّفَةُ كَاشِفَةٌ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى فِعْلِ الذَّكِيِّ الْمُهْتَدِي وَتَطِيبُ نَفْسُهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ وَبِزِيَادَةِ رِبْحٍ، وَقَدْ صَحَّتْ التَّوْلِيَةُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِمَا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ (وَلِهَذَا) أَيْ لِلِاحْتِيَاجِ إلَى الِاعْتِمَادِ كَانَ مَبْنَى الْمَبِيعَيْنِ: أَيْ بِنَاؤُهُمَا عَلَى الْأَمَانَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِيَانَةِ وَشَبَهِهَا، وَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِيَانَةِ وَأَصَابَ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ ذَلِكَ، وَعَنْ هَذَا لَمْ تَصِحَّ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ فِيمَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ لِأَنَّ الْمُعَادَلَةَ وَالْمُمَاثَلَةَ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بِشُبْهَةِ الْخِيَانَةِ كَمَا لَمْ تَجُزْ الْمُجَازَفَةُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ لِذَلِكَ، وَكُلُّ مَا حَرُمَ حَرُمَ مَا يُشْبِهُهُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهِ.

قَالَ (وَلَا تَصِحُّ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ حَتَّى يَكُونَ الْعِوَضُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ إلَخْ) لَا تَصِحُّ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ

ص: 497

(وَيَجُوزُ أَنْ يُضِيفَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةَ الْقَصَّارِ وَالطَّرَّازِ وَالصَّبْغِ وَالْفَتْلِ وَأُجْرَةَ حَمْلِ الطَّعَامِ)؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِإِلْحَاقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا يَزِيدُ فِي الْمَبِيعِ أَوْ فِي قِيمَتِهِ يَلْحَقُ بِهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَمَا عَدَدْنَاهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ وَأَخَوَاتِهِ يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَالْحَمْلَ يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ إذْ الْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ (وَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا وَلَمْ يَقُلْ اشْتَرَيْته بِكَذَا) كَيْ لَا يَكُونَ كَاذِبًا وَسَوْقُ الْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ، بِخِلَافِ أُجْرَةِ الرَّاعِي وَكِرَاءِ بَيْتِ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَالْمَعْنَى، وَبِخِلَافِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الزِّيَادَةِ لِمَعْنًى فِيهِ وَهُوَ حَذَاقَتُهُ.

الْخِيَانَةِ وَشَبَهِهَا وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْخِيَانَةِ فِي الْقِيَمِيَّاتِ إنْ أَمْكَنَ، وَقَدْ لَا يُمْكِنُ عَنْ شَبَهِهَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَشْتَرِي الْمَبِيعَ إلَّا بِقِيمَةِ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الثَّمَنِ، إذْ لَا يُمْكِنُ دَفْعُ عَيْنِهِ حَيْثُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَا دَفْعُ مِثْلِهِ إذْ الْفَرْضُ عَدَمُهُ فَتَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْخِيَانَةِ، إلَّا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَهُ مُرَابَحَةً مِمَّنْ مَلَكَ ذَلِكَ الْبَدَلَ

ص: 498

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مِنْ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهُ يَشْتَرِيهِ مُرَابَحَةً بِرِبْحٍ مَعْلُومٍ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِ لِاقْتِدَارِهِ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ. وَأَمَّا إذَا اشْتَرَاهُ بِرِبْحِ ده يازده مَثَلًا: أَيْ بِرِبْحِ مِقْدَارِ دِرْهَمٍ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا كَانَ الرِّبْحُ دِرْهَمَيْنِ وَإِنْ كَانَ ثَلَاثِينَ كَانَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَبِبَعْضِ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَصَارَ الْبَائِعُ بَائِعًا لِلْمَبِيعِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ الْقِيَمِيِّ كَالثَّوْبِ مَثَلًا أَوْ بِجُزْءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الثَّوْبِ

وَالْجُزْءُ الْحَادِيَ عَشَرَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْقِيمَةِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَلَا يَجُوزُ، ثُمَّ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ إنْ كَانَ نَقْدَ الْبَلَدِ فَالرِّبْحُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُطْلَقَ الرِّبْحُ أَوْ يُنْسَبَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَمَا إذَا قَالَ بِعْتُك بِالْعَشَرَةِ وَرِبْحِ دِرْهَمٍ فَالرِّبْحُ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَقَوْلِهِ بِعْتُك بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ أَوْ ده يازده فَالرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ عَرَّفَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَكَانَ عَلَى صِفَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضِيفَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةَ الْقِصَارِ وَالصَّبْغِ وَالطِّرَازِ وَالْفَتْلِ وَأُجْرَةَ حَمْلِ الطَّعَامِ، لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِإِلْحَاقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَزِيدُ فِي الْمَبِيعِ أَوْ فِي قِيمَتِهِ يُلْحَقُ بِهِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَزِيدُ فِي ذَلِكَ، فَالصَّبْغُ وَأَخَوَاتُهُ يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَالْحَمْلُ يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ فَيُلْحَقُ بِهِ، وَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا وَلَا يَقُولُ اشْتَرَيْته بِكَذَا كَيْ لَا يَكُونَ كَاذِبًا لِأَنَّ الْقِيَامَ عَلَيْهِ عِبَارَةٌ عَنْ الْحُصُولِ بِمَا غَرِمَ وَقَدْ غَرِمَ فِيهِ الْقَدْرَ الْمُسَمَّى. وَإِذَا بَاعَ بِالرَّقْمِ يَقُولُ رَقْمُهُ كَذَا فَأَنَا أَبِيعُهُ مُرَابَحَةً وَسَوْقُ الْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ، بِخِلَافِ أُجْرَةِ الرَّاعِي وَكِرَاءِ بَيْتِ الْحِفْظِ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَلَا فِي الْقِيمَةِ، وَبِخِلَافِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ، فَإِذَا أَنْفَقَ عَلَى عَبْدِهِ فِي تَعَلُّمِ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ دَرَاهِمَ لَمْ يُلْحِقْهَا بِرَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَاصِلَةَ فِي الْمَالِيَّةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْمُتَعَلِّمِ وَهُوَ الْحِذْقُ وَالذَّكَاءُ لَا بِمَا أَنْفَقَ عَلَى الْمُعَلِّمِ، وَعَلَى هَذِهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَالرَّائِضِ وَالْبَيْطَارِ وَجُعْلُ الْآبِقِ وَالْحَجَّامِ وَالْخَتَّانِ

.

ص: 499

(فَإِنْ اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى خِيَانَةٍ فِي الْمُرَابَحَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَإِنْ اطَّلَعَ عَلَى خِيَانَةٍ فِي التَّوْلِيَةِ أَسْقَطَهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يَحُطُّ فِيهِمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يُخَيَّرُ فِيهِمَا) لِمُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلتَّسْمِيَةِ؛ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَالتَّوْلِيَةُ وَالْمُرَابَحَةُ تَرْوِيجٌ وَتَرْغِيبٌ فَيَكُونُ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فَيَتَخَيَّرُ بِفَوَاتِهِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ كَوْنُهُ تَوْلِيَةً وَمُرَابَحَةً وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ وَلَّيْتُك بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِعْتُك مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَوَّلِ وَذَلِكَ بِالْحَطِّ، غَيْرَ أَنَّهُ يُحَطُّ فِي التَّوْلِيَةِ قَدْرُ الْخِيَانَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَفِي الْمُرَابَحَةِ مِنْهُ وَمِنْ الرِّبْحِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحُطُّ فِي التَّوْلِيَةِ لَا تَبْقَى تَوْلِيَةً؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيَتَغَيَّرُ التَّصَرُّفُ فَتَعَيَّنَ الْحَطُّ

فَإِنْ اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى خِيَانَةٍ فِي الْمُرَابَحَةِ) إمَّا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ أَوْ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ (فَهُوَ بِالْخِيَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَإِنْ اطَّلَعَ عَلَى خِيَانَةٍ فِي التَّوْلِيَةِ أَسْقَطَهَا مِنْ الثَّمَنِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُحَطُّ فِيهِمَا) أَيْ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُخَيَّرُ فِيهِمَا) لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلتَّسْمِيَةِ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَلَا يُعْلَمُ لَا بِالتَّسْمِيَةِ، وَإِذَا كَانَ الِاعْتِبَارُ لَهَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى (وَالتَّوْلِيَةُ وَالْمُرَابَحَةُ تَرْغِيبٌ وَتَرْوِيجٌ فَيَكُونُ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ) وَفَوَاتُهُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَوْنُهُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً) لَا التَّسْمِيَةَ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ وَلَّيْتُك بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِعْتُك مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالْحَالُ أَنَّهُ مَعْلُومٌ وَاقْتَصَرَ عَلَى التَّسْمِيَةِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَالتَّسْمِيَةُ كَالتَّفْسِيرِ فَإِذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ بَطَلَتْ صَلَاحِيَّتُهَا لِذَلِكَ فَبَقِيَ ذِكْرُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بِنَاءِ الْعَقْدِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فَيُحَطُّ الْخِيَانَةُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، غَيْرَ أَنَّهُ يُحَطُّ فِي التَّوْلِيَةِ قَدْرُ الْخِيَانَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَفِي الْمُرَابَحَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ جَمِيعًا، كَمَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ عَلَى رِبْحِ خَمْسَةٍ ثُمَّ ظَهَرَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ ثَمَانِيَةً يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ مِنْ الْأَصْلِ وَهُوَ دِرْهَمَانِ، وَيَحُطُّ مِنْ الرِّبْحِ دِرْهَمًا فَيَأْخُذُ الثَّوْبَ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحَطَّ فِي التَّوْلِيَةِ لَا تَبْقَى تَوْلِيَةٌ) لِأَنَّهَا تَكُونُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا تَبْقَى تَوْلِيَةٌ لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ التَّصَرُّفُ فَيَتَعَيَّنُ الْحَطُّ، وَفِي الْمُرَابَحَةِ لَوْ لَمْ يُحَطَّ تَبْقَى مُرَابَحَةً كَمَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرِ الصَّرْفِ

ص: 500

وَفِي الْمُرَابَحَةِ لَوْ لَمْ يُحَطَّ تَبْقَى مُرَابَحَةً وَإِنْ كَانَ يَتَفَاوَتُ الرِّبْحُ فَلَا يَتَغَيَّرُ التَّصَرُّفُ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ، فَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ حَدَثَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْفَائِتِ فَيَسْقُطُ مَا يُقَابِلُهُ عِنْدَ عَجْزِهِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَبَاعَهُ بِرِبْحٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، فَإِنْ بَاعَهُ مُرَابَحَةً طَرَحَ عَنْهُ كُلَّ رِبْحٍ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ اسْتَغْرَقَ الثَّمَنَ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَخِيرِ).

صُورَتُهُ: إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِخَمْسَةٍ وَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِخَمْسَةٍ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ بِعِشْرِينَ مُرَابَحَةً ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً أَصْلًا، وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْعَشَرَةِ فِي الْفَصْلَيْنِ، لَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ عَقْدٌ مُتَجَدِّدٌ مُنْقَطِعُ

لَكِنْ يَتَفَاوَتُ الرِّبْحُ فَيَتَخَيَّرُ بِذَلِكَ لِفَوَاتِ الرِّضَا، فَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَوْ حَدَثَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، فَمَنْ قَالَ بِالْحَطِّ كَانَ لَهُ الْحَطُّ (وَمَنْ قَالَ بِالْفَسْخِ لَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ) وَقَدْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِالْهَلَاكِ أَوْ غَيْرِهِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ حَيْثُ لَا يَجِبُ كُلُّ الثَّمَنِ بَلْ يَنْقُصُ مِنْهُ مِقْدَارُ الْعَيْبِ لِأَجْلِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِلْمُشْتَرِي ثَمَّةَ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ فَسَقَطَ مَا يُقَابِلُهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِهِ، وَقَيَّدَ بِالرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ احْتِرَازًا عَمَّا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يُفْسَخُ الْبَيْعُ عَلَى الْقِيمَةِ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَبَاعَهُ بِرِبْحٍ) الْكَلَامُ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَصُورَتِهَا ظَاهِرٌ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي دَلِيلِهَا (قَالَا: الْعَقْدُ الثَّانِي عَقْدٌ مُتَجَدِّدٌ مُنْقَطِعُ

ص: 501

الْأَحْكَامِ عَنْ الْأَوَّلِ فَيَجُوزُ بِنَاءُ الْمُرَابَحَةِ عَلَيْهِ، كَمَا إذَا تَخَلَّلَ ثَالِثٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ شُبْهَةَ حُصُولِ الرِّبْحِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِهِ بَعْدَمَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِالظُّهُورِ عَلَى عَيْبِ الشُّبْهَةِ كَالْحَقِيقَةِ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ احْتِيَاطًا وَلِهَذَا لَمْ تَجُزْ الْمُرَابَحَةُ فِيمَا أُخِذَ بِالصُّلْحِ لِشُبْهَةِ الْحَطِيطَةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى خَمْسَةً وَثَوْبًا بِعَشَرَةٍ فَيُطْرَحُ عَنْهُ خَمْسَةٌ

الْأَحْكَامِ عَنْ الْأَوَّلِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَجُوزُ بِنَاءُ الْمُرَابَحَةِ عَلَيْهِ كَمَا إذَا تَخَلَّلَ ثَالِثٌ بِأَنْ اشْتَرَى مِنْ مُشْتَرِي مُشْتَرِيهِ (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ شُبْهَةُ حُصُولِ الرِّبْحِ) الْحَاصِلِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ ثَابِتَةٌ (بِالْعَقْدِ الثَّانِي لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرْطِ السُّقُوطِ) بِأَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ مِنْ الْمُشْتَرِي تَأَكَّدَ مَا كَانَ عَلَى شَرْطِ السُّقُوطِ، وَلِلتَّأْكِيدِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ حُكْمُ الْإِيجَابِ كَمَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعُوا ضَمِنُوا نِصْفَ الْمَهْرِ لِتَأَكُّدِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ، وَإِذَا كَانَتْ شُبْهَةُ الْحُصُولِ ثَابِتَةً صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى بِالْعَقْدِ الثَّانِي ثَوْبًا وَخَمْسَةَ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةٍ، فَالْخَمْسَةُ بِإِزَاءِ الْخَمْسَةِ وَالثَّوْبُ بِخَمْسَةٍ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةٍ احْتِرَازًا عَنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا كَحَقِيقَتِهَا احْتِيَاطًا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى ثَوْبٍ لَا يَبِيعُ الثَّوْبَ مُرَابَحَةً عَلَى الْعَشَرَةِ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَبْنَاهُ عَلَى التَّجَوُّزِ وَالْحَطِيطَةِ، وَلَوْ وُجِدَ الْحَطُّ حَقِيقَةً مَا جَازَ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً، فَكَذَا إذَا تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ. وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا جَازَ الشِّرَاءُ بِعَشَرَةٍ فِيمَا إذَا بَاعَهُ بِعِشْرِينَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي الشِّرَاءِ الثَّانِي كَأَنَّهُ اشْتَرَى ثَوْبًا وَعَشَرَةً بِعَشَرَةٍ فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا وَهُوَ حُصُولُ الثَّوْبِ بِلَا عِوَضٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَهُ شُبْهَةُ الْإِيجَابِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ احْتِرَازًا عَنْ الْخِيَانَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا فِي حَقِّ الشَّرْعِ، وَشَرْعِيَّتُهُ جَوَازُ الْمُرَابَحَةِ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الْعِبَادِ فَيُؤَثِّرُ التَّأْكِيدُ فِي الْمُرَابَحَةِ. وَأَمَّا جَوَازُ الْبَيْعِ وَعَدَمُهُ فِي شُبْهَةِ الرِّبَا فَحَقُّ الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ لِلتَّأْكِيدِ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِيجَابِ، كَذَا نُقِلَ مِنْ فَوَائِدِ الْعَلَّامَةِ حُمَيْدِ الدِّينِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَ ثَالِثٌ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ حَصَلَ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يُسْتَفَدْ رِبْحُ الْأَوَّلِ

ص: 502

بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَ ثَالِثٌ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ حَصَلَ بِغَيْرِهِ.

قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ فَبَاعَهُ مِنْ الْمَوْلَى بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَوْلَى اشْتَرَاهُ فَبَاعَهُ مِنْ الْعَبْدِ)؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الْعَقْدِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ بِجَوَازِهِ مَعَ الْمُنَافِي فَاعْتُبِرَ عَدَمًا فِي حُكْمِ الْمُرَابَحَةِ وَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ لِلْأَوَّلِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْعَبْدَ اشْتَرَاهُ لِلْمَوْلَى بِعَشَرَةٍ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَكَأَنَّهُ يَبِيعُهُ لِلْمَوْلَى فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَيُعْتَبَرُ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ.

بِالشِّرَاءِ الثَّانِي فَانْتَفَتْ الشُّبْهَةُ.

قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ) وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ (لَهُ فِي التِّجَارَةِ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ) وَالْحَالُ أَنَّهُ مَدْيُونٌ بِدَيْنٍ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ فَبَاعَهُ مِنْ الْمَوْلَى بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ (وَكَذَا إنْ كَانَ الْمَوْلَى اشْتَرَاهُ وَبَاعَهُ مِنْ الْعَبْدِ لِأَنَّ فِي هَذَا الْعَقْدِ) أَيْ بَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ الْمَوْلَى وَعَكْسِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِجَوَازِهِ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْمَوْلَى بِمَالِ الْعَبْدِ، وَقَبْلَ كَوْنِ الْعَبْدِ مِلْكًا لِلْمَوْلَى وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ وَيَتَفَرَّدَ بِكَسْبِ عَبْدِهِ فَصَارَ كَالْبَائِعِ مِنْ نَفْسِهِ فَاعْتُبِرَ عَدَمًا فِي حُكْمِ الْمُرَابَحَةِ لِوُجُوبِ الِاحْتِرَازِ فِيهَا عَنْ شُبْهَةِ الْحَيَاةِ، وَإِذَا عُدِمَ

ص: 503

قَالَ (وَإِذَا كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ)؛ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ وَإِنْ قُضِيَ بِجَوَازِهِ عِنْدَنَا عِنْدَ عَدَمِ الرِّبْحِ خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله مَعَ أَنَّهُ اشْتَرَى مَالَهُ بِمَالِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِفَادَةِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ مَقْصُودٌ وَالِانْعِقَادُ يَتْبَعُ الْفَائِدَةَ فَفِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهٍ

الْبَيْعُ الثَّانِي لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ فِيهِ وَإِنَّمَا يَبِيعُهُ عَلَى الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالدَّيْنِ الْمُحِيطِ بِرَقَبَتِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَبَاعَ مِنْ مَوْلَاهُ شَيْئًا لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ لِلْمَوْلَى شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ لَا مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَلَا مِلْكَ التَّصَرُّفِ، هَكَذَا قَيَّدَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْأَصْلِ، وَكَذَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَقَاضِي خَانْ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ الطَّحَاوِيُّ وَالْعَتَّابِيُّ، وَالْحَقُّ قَيَّدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا.

قَالَ (وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِالنِّصْفِ) إذَا كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِالنِّصْفِ (فَاشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ) لِأَنَّ مَبْنَى هَذَا الْبَيْعِ عَلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِيَانَةِ وَشَبَهِهَا وَفِي بَيْعِهِ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ شُبْهَةُ خِيَانَةٍ (لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ) أَيْ بَيْعَ الثَّوْبِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ وَإِنْ حُكِمَ بِجَوَازِهِ عِنْدَنَا عِنْدَ عَدَمِ الرِّبْحِ خِلَافًا لِزُفَرَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَالِ غَيْرِهِ لَا بِمَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ الْبَيْعُ مَوْجُودًا

ص: 504

فَاعْتُبِرَ الْبَيْعُ الثَّانِي عَدَمًا فِي حَقِّ نِصْفِ الرِّبْحِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَاعْوَرَّتْ أَوْ وَطِئَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً وَلَا يُبَيِّنُ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْتَبِسْ عِنْدَهُ شَيْئًا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ تَابِعَةٌ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ، وَلِهَذَا لَوْ فَاتَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَا مَنَافِعُ الْبُضْعِ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا لَمْ يُنْقِصْهَا الْوَطْءُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ

وَوَجْهُ الْجَوَازِ عِنْدَنَا اشْتِمَالُهُ عَلَى الْفَائِدَةِ فَإِنَّ فِيهِ اسْتِفَادَةَ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لِأَنَّ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُضَارِبِ انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ رَبِّ الْمَالِ عَنْ مَالِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَبِالشِّرَاءِ مِنْ الْمُضَارِبِ يَحْصُلُ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ وَهُوَ مَقْصُودٌ، وَإِذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْفَائِدَةِ يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الِانْعِقَادَ يَتْبَعُ الْفَائِدَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ فَاشْتَرَاهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً جَازَ الْبَيْعُ فِيهِمَا وَدَخَلَ عَبْدُهُ فِي عَقْدِهِ لِفَائِدَةِ انْقِسَامِ الثَّمَنِ، وَأَمَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعْلِيلِ زُفَرَ، وَقَدْ اسْتَوْضَحَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعْنِي الْمُضَارِبَ وَكِيلٌ عَنْ رَبِّ الْمَالِ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهٍ، وَعَلَى هَذَا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَوَكِيلِهِ فِيمَا وَكَّلَهُ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ كَانَ الْبَيْعُ الثَّانِي كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ نِصْفِ الرِّبْحِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ رَبِّ الْمَالِ فَيُحَطُّ عَنْ الثَّمَنِ احْتِرَازًا عَنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَصْلِ الثَّمَنِ وَهُوَ عَشَرَةٌ وَلَا فِي نَصِيبِ الْمُضَارِبِ فَيَبِيعُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً سَلِيمَةً فَاعْوَرَّتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي) بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْجَارِيَةِ نَفْسِهَا (أَوْ وَطِئَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ) وَلَمْ يَنْقُصْهَا الْوَطْءُ (جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مُرَابَحَةً وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ) لِعَدَمِ احْتِبَاسِ مَا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا) تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْتَبِسْ عِنْدَهُ شَيْءٌ يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ، وَلِهَذَا لَوْ فَاتَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ إذَا لَمْ يَنْقُصْهَا الْوَطْءُ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ. وَعُورِضَ بِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا وَطِئَهَا ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا، وَمَا ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الْوَطْءِ بِمَنْزِلَةِ احْتِبَاسِ جُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي. وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الرَّدِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إنْ رَدَّهَا. فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهَا، مَعَ الْعُقْرِ أَوْ بِدُونِهِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْفَسْخَ يَرِدُ عَلَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَالْعَقْدُ لَمْ يَرِدْ عَلَى الزِّيَادَةِ فَالْفَسْخُ لَا يَرِدُ عَلَيْهَا، وَلَا إلَى الثَّانِي لِأَنَّهَا تَعُودُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَيُسَلَّمُ الْوَطْءُ لِلْمُشْتَرِي مَجَّانًا وَالْوَطْءُ يَسْتَلْزِمُ الْعُقْرَ عِنْدَ سُقُوطِ الْعُقْرِ لَا بِاعْتِبَارِ احْتِبَاسِ جُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَبِيعُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ)

ص: 505

أَنَّهُ لَا يَبِيعُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، كَمَا إذَا احْتَبَسَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله (فَأَمَّا إذَا فَقَأَ عَيْنَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ فَقَأَهَا أَجْنَبِيٌّ فَأَخَذَ أَرْشَهَا لَمْ يَبِعْهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ)؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ فَيُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَا إذَا وَطِئَهَا وَهِيَ بِكْرٌ لِأَنَّ الْعُذْرَةَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ وَقَدْ حَبَسَهَا.

(وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَأَصَابَهُ قَرْضُ فَأْرٍ أَوْ حَرْقُ نَارٍ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَلَوْ تَكَسَّرَ بِنَشْرِهِ وَطَيِّهِ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ) وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّاهُ.

أَيْ فِي صُورَةِ الِاعْوِرَارِ (مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ) كَمَا إذَا اُحْتُبِسَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ لِلْأَوْصَافِ حِصَّةً مِنْ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا كَانَ التَّعَيُّبُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِصُنْعِ الْعِبَادِ (وَأَمَّا إذَا فَقَأَ عَيْنَهَا) رَاجِعٌ إلَى أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قُلْنَا: فَيَكُونُ جَوَابًا لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَعْنِي إذَا فَقَأَ الْمُشْتَرِي عَيْنَهَا (بِنَفْسِهِ أَوْ فَقَأَهَا أَجْنَبِيٌّ) سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِغَيْرِهِ وَجَبَ الْبَيَانُ عِنْدَ الْبَيْعِ مُرَابَحَةً لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ، أَمَّا إذَا كَانَ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ كَفِعْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلِأَنَّهُ جِنَايَةٌ تُوجِبُ ضَمَانَ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي حَابِسًا بَدَلَ جُزْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَمْنَعُ الْمُرَابَحَةَ بِدُونِ الْبَيَانِ. وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ تَدُلُّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى أَخْذِ أَرْشِهَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي لَفْظِ مُحَمَّدٍ فِي أَصْلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: كَأَنَّ ذِكْرَ الْأَرْشِ وَقَعَ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ لَمَّا فَقَأَ الْأَجْنَبِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْأَرْشِ وَوُجُوبُ ضَمَانِ الْأَرْشِ سَبَبٌ لِأَخْذِ الْأَرْشِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا إطْلَاقُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِأَخْذِ الْأَرْشِ، وَذَكَرَ نَقْلَ الْمَبْسُوطِ كَذَلِكَ (وَكَذَا إنْ وَطِئَهَا وَهِيَ بِكْرٌ) لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً إلَّا بِالْبَيَانِ (لِأَنَّ الْعُذْرَةَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ وَقَدْ حَبَسَهَا) فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ.

(وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَأَصَابَهُ قَرْضُ فَأْرٍ) بِالْقَافِ مِنْ قَرَضَ الثَّوْبَ بِالْمِقْرَاضِ: إذَا قَطَعَهُ، وَنَصَّ أَبُو الْيُسْرِ عَلَى أَنَّهُ بِالْفَاءِ (أَوْ حَرْقُ نَارٍ) جَازَ أَنْ (يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ) لِأَنَّ الْأَوْصَافَ تَابِعَةٌ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ (وَلَوْ تَكَسَّرَ) الثَّوْبُ (بِنَشْرِهِ وَطَيِّهِ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً) بِلَا بَيَانٍ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى

ص: 506

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى غُلَامًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً فَبَاعَهُ بِرِبْحِ مِائَةٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَعَلِمَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ قَبِلَ)؛ لِأَنَّ لِلْأَجَلِ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُزَادُ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْأَجَلِ، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ وَبَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً بِثَمَنِهِمَا، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمُرَابَحَةِ يُوجِبُ السَّلَامَةَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْخِيَانَةِ

هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى غُلَامًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً فَبَاعَهُ بِرِبْحِ مِائَةٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ) ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي (فَعَلِمَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ قَبِلَ لِأَنَّ لِلْأَجَلِ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ) فَإِنَّهُ يُزَادُ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْأَجَلِ، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ

ص: 507

فَإِذَا ظَهَرَتْ يُخَيَّرُ كَمَا فِي الْعَيْبِ (وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ عَلِمَ لَزِمَهُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ)؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، قَالَ:(فَإِنْ كَانَ وَلَّاهُ إيَّاهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ رَدَّهُ إنْ) شَاءَ؛ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ فِي التَّوْلِيَةِ مِثْلُهَا فِي الْمُرَابَحَةِ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ (وَإِنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ عَلِمَ لَزِمَهُ بِأَلْفٍ حَالَّةٍ) لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَيَسْتَرِدُّ كُلَّ الثَّمَنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا اسْتَوْفَى الزُّيُوفَ مَكَانَ الْجِيَادِ وَعَلِمَ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ، وَسَيَأْتِيك مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ يُقَوَّمُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَبِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ

مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ وَبَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً بِثَمَنِهِمَا. وَالْمُرَابَحَةُ تُوجِبُ الِاحْتِرَازَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْخِيَانَةِ. وَنُوقِضَ بِأَنَّ الْغُلَامَ السَّلِيمَ الْأَعْضَاءِ يُزَادُ فِي ثَمَنِهِ لِأَجْلِ سَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ السَّلِيمِ، وَإِذَا فَاتَتْ سَلَامَةُ الْأَعْضَاءِ لَمْ يَجِبْ الْبَيَانُ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ اعْوِرَارِ الْعَيْنِ. وَأُجِيبَ أَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَاكَ لَيْسَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ السَّلَامَةِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ أَنْ يَقُولَ إنْ أَجَّلْتنِي مُدَّةَ كَذَا فَثَمَنُهُ يَكُونُ كَذَا بِزِيَادَةِ مِقْدَارٍ فَتَثْبُتُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ فِي الْأَجَلِ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي سَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ، وَسَيُشِيرُ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَجَلُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ عَلِمَ لَزِمَهُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ، لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ: يَعْنِي فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ الْمُقَابَلَةِ، فَبِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا، فَإِمَّا أَنْ يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بَعْدَ الْهَلَاكِ فَلَا، وَإِلَّا لَكَانَ مَا فَرَضْنَاهُ شُبْهَةً حَقِيقَةً وَذَلِكَ خُلْفٌ بَاطِلٌ.

قَالَ (وَإِنْ كَانَ وَلَّاهُ إيَّاهُ) يَعْنِي أَنَّ التَّوْلِيَةَ كَالْمُرَابَحَةِ فِيمَا إذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ بِأَجَلٍ وَبَاعَهُ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَكَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ فِي وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ كَالْمُرَابَحَةِ لِكَوْنِهِ بِنَاءً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ (وَإِنْ) كَانَ (اسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ عَلِمَ) بِالْخِيَانَةِ (لَزِمَهُ بِأَلْفٍ حَالَّةٍ لِمَا ذَكَرْنَا) أَنَّ الْأَجَلَ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ حَقِيقَةً (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَيَسْتَرِدُّ كُلَّ الثَّمَنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا اسْتَوْفَى الزُّيُوفَ مَكَانَ الْجِيَادِ وَعَلِمَ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ وَسَيَأْتِيك مِنْ بَعْدُ فِي مَسَائِلَ) مَنْثُورَةٍ قُبَيْلَ كِتَابِ الصَّرْفِ.

وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ قِيمَتَهُ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَامَتْ مَقَامَهُ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ فِي التَّحَالُفِ مُسْتَقِيمٌ، فَإِنَّهُ أَقَامَ الْقِيمَةَ مَقَامَهُ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَلْخِيّ (يُقَوَّمُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَبِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ،

ص: 508

فَيَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَجَلُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ مُنَجَّمٌ مُعْتَادٌ قِيلَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ، وَقِيلَ يَبِيعُهُ وَلَا يُبَيِّنُهُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ حَالٌّ.

قَالَ (وَمَنْ وَلَّى رَجُلًا شَيْئًا بِمَا قَامَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِكَمْ قَامَ عَلَيْهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ (فَإِنْ أَعْلَمَهُ الْبَائِعُ، يَعْنِي فِي الْمَجْلِسِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ)؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لَمْ يَتَقَرَّرْ، فَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ فِي الْمَجْلِسِ جُعِلَ كَابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَصَارَ كَتَأْخِيرِ الْقَبُولِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الِافْتِرَاقِ قَدْ تَقَرَّرَ فَلَا يُقْبَلُ الْإِصْلَاحُ، وَنَظِيرُهُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِرَقْمِهِ إذَا عَلِمَ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّ الرِّضَا لَمْ يَتِمَّ قَبْلَهُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ فَيَتَخَيَّرُ كَمَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ

فَيَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَجَلُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ لَكِنَّهُ مُنَجَّمٌ) مُعْتَادٌ كَعَادَةِ بَعْضِ الْبِلَادِ يَشْتَرُونَ بِنَقْدٍ وَيُسَلِّمُونَ الثَّمَنَ بَعْدَ شَهْرٍ إمَّا جُمْلَةً أَوْ مُنَجَّمًا، قِيلَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ، وَقِيلَ لَا يَجِبُ بَيَانُهُ لِأَنَّ الثَّمَنَ حَالٌّ.

قَالَ (وَمَنْ وَلَّى رَجُلًا شَيْئًا بِمَا قَامَ عَلَيْهِ إلَخْ) إذَا قَالَ وَلَّيْتُك هَذَا بِمَا قَامَ عَلَيَّ يُرِيدُ بِهِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ مَعَ مَا لَحِقَهُ مِنْ الْمُؤَنِ كَالصَّبْغِ وَالْفَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِكَمْ قَامَ عَلَيْهِ (فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ، فَإِنْ أَعْلَمَهُ الْبَائِعُ فِي الْمَجْلِسِ) صَحَّ الْبَيْعُ وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي (إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ) أَمَّا الصِّحَّةُ فَلِأَنَّ الْفَسَادَ لَمْ يَتَقَرَّرْ بَعْدُ فَكَانَ فَسَادًا يَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ، فَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ فِي الْمَجْلِسِ جُعِلَ كَابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ كَتَأْخِيرِ الْقَبُولِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الِافْتِرَاقِ تَقَرَّرَ. وَالْفَسَادُ الْمُتَقَرِّرُ لَا يَقْبَلُ الْإِصْلَاحَ، وَنَظِيرُهُ الْبَيْعُ بِالرَّقْمِ فِي صِحَّتِهِ بِالْبَيَانِ فِي الْمَجْلِسِ وَتَقَرَّرَ فَسَادُهُ بِعَدَمِهِ فِيهِ. وَأَمَّا خِيَارُ الْمُشْتَرِي فَلِلْخَلَلِ فِي الرِّضَا لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ كَمَا لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لِلْجَهْلِ بِالصِّفَاتِ فَكَانَ فِي مَعْنَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَأُلْحِقَ بِهِ

ص: 509

(فَصْلٌ)

وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ

فَصْلٌ)

وَجْهُ إيرَادِ الْفَصْلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَسَائِلَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْمُرَابَحَةِ. وَوَجْهُ ذِكْرِهَا فِي بَابِ الْمُرَابَحَةِ الِاسْتِطْرَادُ بِاعْتِبَارِ تَقَيُّدِهَا بِقَيْدٍ زَائِدٍ عَلَى الْبَيْعِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الْأَوْصَافِ كَالْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُنْقَلُ) نَقْلًا حِسِّيًّا (وَ) هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (يُحَوَّلُ) فَسَّرَهُ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُدَبَّرِ (لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ

ص: 510

لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ

لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» ) وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رحمه الله فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالطَّعَامِ وَلَا تَمَسُّكَ لَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنْ اشْتَرَى أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» فَإِنَّ تَخْصِيصَ الطَّعَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَحْسُبُ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلَ الطَّعَامِ. وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا وَكَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ. حَدَّثَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ مُسْنَدًا إلَى ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: ابْتَعْت زَيْتًا فِي السُّوقِ، فَلَمَّا اسْتَوْفَيْته لَقِيَنِي رَجُلٌ فَأَعْطَانِي بِهِ رِبْحًا حَسَنًا، فَأَرَدْت أَنْ أَضْرِبَ عَلَى يَدِهِ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بِذِرَاعِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ: لَا تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْته حَتَّى تَحُوزَهُ إلَى رَحْلِك، فَإِنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ابْتِيَاعِ السِّلَعِ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى تَحُوزَهَا التُّجَّارُ إلَى رِحَالِهِمْ» وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَقُلْ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ لِيَقَعَ عَلَى الِاتِّفَاقِ، فَإِنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ جَائِزَةٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ قَالَ كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ فَقَبَضَهُ، لِأَنَّ تَمَامَ هَذَا الْعَقْدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْمَانِعُ زَائِلٌ عِنْدَ ذَلِكَ. بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْبَيْعَ أَسْرَعُ نَفَاذًا مِنْ الْهِبَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشُّيُوعَ

ص: 511

وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ.

فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يَمْنَعُ تَمَامَ الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ، ثُمَّ الْبَيْعُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ مَا مَلَكَهُ فِي حَالِ قِيَامِ الْغَرَرِ فِي مِلْكِهِ فَالْهِبَةُ أَوْلَى (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ) اسْتِدْلَالٌ بِالْمَعْقُولِ، وَتَقْرِيرُهُ: فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ عَلَى تَقْدِيرِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَالْغَرَرُ غَيْرُ جَائِزٍ «لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ». وَالْغَرَرُ: مَا طُوِيَ عَنْك عِلْمُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ غَرَرَ الِانْفِسَاخِ بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا مُتَوَهَّمٌ عَلَى تَقْدِيرِ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَيْسَ بِمَانِعٍ. وَلَا يُدْفَعُ بِأَنَّ عَدَمَ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ أَصْلٌ لِأَنَّ عَدَمَ الْهَلَاكِ كَذَلِكَ فَاسْتَوَيَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَلَيْسَ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ، وَفِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ غَرَرُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ خَاصَّةً فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ.

وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ رُجُوعًا إلَى إطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَاعْتِبَارًا بِالْمَنْقُولِ بِجَامِعِ عَدَمِ الْقَبْضِ فِيهِمَا وَصَارَ كَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا فِي الْعَقَارِ لَا تَجُوزُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْجَامِعُ اشْتِمَالُهُمَا عَلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَيْعِ الرِّبْحُ وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فَيَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ

ص: 512

(وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا يَجُوزُ)

رُجُوعًا إلَى إطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَاعْتِبَارًا بِالْمَنْقُولِ وَصَارَ كَالْإِجَارَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ، وَلَا غَرَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ فِي الْعَقَارِ نَادِرٌ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ، وَالْغَرَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ، وَالْحَدِيثُ

وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ) لِكَوْنِهِ بَالِغًا عَاقِلًا غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ (فِي مَحَلِّهِ) لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجَوَازَ، وَالْمَانِعُ وَهُوَ الْغَرَرُ مَعْدُومٌ فِيهِ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْهَلَاكِ وَهُوَ فِي الْعَقَارِ نَادِرٌ فِيهِ فَصَحَّ الْعَقْدُ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّ الْمَانِعَ فِيهِ مَوْجُودٌ، وَمَنْعُ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ فِي الْعَقَارِ فَإِنَّهُ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ، وَقَدْ يُوجَدُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ الْبَيْعُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ صَارَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي، وَحِينَئِذٍ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ الرَّدَّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَادَ لَهُ الرَّدُّ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: كَلَامُنَا

ص: 513

مَعْلُولٌ بِهِ عَمَلًا بِدَلَائِل الْجَوَازِ وَالْإِجَارَةِ، قِيلَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ؛ وَلَوْ سَلَّمَ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ الْمَنَافِعُ وَهَلَاكُهَا غَيْرُ نَادِرٍ.

فِي غَرَرِ الِانْفِسَاخِ وَمَا ذَكَرْتُمْ غَرَرُ الْفَسْخِ، وَإِذَا كَانَ الْهَلَاكُ فِي الْعَقَارِ نَادِرًا كَانَ غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُنْتَفِيًا.

وَالْحَدِيثُ مَعْلُولٌ بِهِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْعَقَارُ فَجَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَمَلًا بِدَلِيلِ الْجَوَازِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» وَهُوَ عَامٌّ. وَالتَّعْلِيلُ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ. وَأُجِيبَ أَنَّهُ عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ وَالصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَمِثْلُ هَذَا الْعَامِّ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الْمَنْقُولِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَبِيعٍ لَمْ يُقْبَضْ بِدَلِيلِ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ «إذَا ابْتَعْت شَيْئًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَ» سَلَّمْنَا أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنْ مِلْكِهِ الَّذِي ثَبَتَ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَصْلُحُ تَخْصِيصًا، سَلَّمْنَا صَلَاحِيَّتَهُ لِذَلِكَ، لَكِنَّ التَّخْصِيصَ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَامِّ بَعْدَ احْتِمَالِهِ تَنَاوُلَهُ، وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ مَعْلُولًا بِغَرَرِ الِانْفِسَاخِ لَا يَحْتَمِلُ تَنَاوُلَ مَا لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ، إذْ الشَّيْءُ لَا يَحْتَمِلُ تَنَاوُلَ مَا يُنَافِيهِ تَنَاوُلًا فَرْدِيًّا وَاعْلَمْ أَنِّي أَذْكُرُ لَك مَا سَنَحَ لِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ يَنْدَفِعُ بِهِ جَمِيعُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ بَيْعُ الْمَنْقُولِ وَغَيْرِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} لَكِنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الرِّبَا بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ مُقَارِنٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا بِغَرَرِ الِانْفِسَاخِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَقَدْ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ حَيْثُ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَقَارَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ مُسْنَدًا إلَى الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَبَيَّنَهُ وَبَيَّنَ أَدِلَّةَ الْجَوَازِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّرْكَ، وَجَعْلُهُ مَعْلُولًا بِذَلِكَ إعْمَالٌ لِثُبُوتِ التَّوْفِيقِ حِينَئِذٍ، وَالْإِعْمَالُ مُتَعَيَّنٌ لَا مَحَالَةَ. وَكَمَا لَمْ يَتَنَاوَلْ الْعَقَارَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الصَّدَاقَ وَبَدَلَ الْخُلْعِ، وَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْمُعَوَّضِ قَبْلَ الْقَبْضِ، هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (قَوْلُهُ وَالْإِجَارَةُ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ مُحَمَّدٍ صُورَةَ النِّزَاعِ عَلَى الْإِجَارَةِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ مَقِيسًا عَلَيْهَا لِأَنَّهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ. قَالَ فِي الْإِيضَاحِ:

ص: 514

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً فَاكْتَالَهُ أَوْ اتَّزَنَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرَى مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَا أَنْ يَأْكُلَهُ حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ)«؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» ؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَشْرُوطِ وَذَلِكَ لِلْبَائِعِ وَالتَّصَرُّفُ

مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ، لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، فَإِذَا مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الرَّقَبَةُ مَلَكَ فِي التَّابِعِ وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْقُولِ، وَالْإِجَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ فَيَمْتَنِعُ جَوَازُهَا كَبَيْعِ الْمَنْقُولِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً إلَخْ) إذَا اشْتَرَى الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالسَّمْنِ وَالْحَدِيدِ وَأَرَادَ التَّصَرُّفَ فَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: اشْتَرَى مُكَايَلَةً وَبَاعَ مُكَايَلَةً، أَوْ اشْتَرَى مُجَازَفَةً وَبَاعَ كَذَلِكَ، أَوْ اشْتَرَى مُكَايَلَةً وَبَاعَ مُجَازَفَةً، أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ. فَفِي الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْلَ لِنَفْسِهِ كَمَا كَانَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ كَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ بِهِ صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَشْرُوطِ وَذَلِكَ لِلْبَائِعِ. وَالتَّصَرُّفُ فِي مَالِ الْغَيْرِ حَرَامٌ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَهُوَ بِتَرْكِ التَّصَرُّفِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَوْزُونِ فَكَانَ مِثْلَهُ. وَفِي الثَّانِي لَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَيْلِ لِعَدَمِ الِافْتِقَارِ إلَى تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ.

ص: 515

فِي مَالِ الْغَيْرِ حَرَامٌ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مُجَازَفَةً؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الثَّوْبَ

وَفِي الثَّالِثِ لَا يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي إلَى كَيْلٍ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً مَلَكَ جَمِيعَ مَا كَانَ مُشَارًا إلَيْهِ فَكَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تُتَصَوَّرُ فِي الْمُجَازَفَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً فَاكْتَالَهُ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ مَثَلًا ثُمَّ بَاعَهُ مُجَازَفَةً فَإِذَا هُوَ اثْنَا عَشَرَ فِي الْوَاقِعِ فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْمَكِيلِ الَّذِي اشْتَرَاهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ وَفِيهِ مِنْ التَّمَحُّلِ مَا تَرَى. وَقِيلَ الْمُرَادُ الزِّيَادَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي ذِهْنِ الْبَائِعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ بَاعَ مُجَازَفَةً وَفِي ذِهْنِهِ أَنَّهُ مِائَةُ قَفِيزٍ فَإِذَا هُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا ظَنَّهُ فَالزَّائِدُ لِلْمُشْتَرِي. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ بَابِ الْغَرَضِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ هُوَ احْتِمَالُ الزِّيَادَةِ، وَلَوْ فُرِضَ فِي الْمُجَازَفَةِ زِيَادَةٌ كَانَتْ لِلْمُشْتَرِي حَيْثُ لَمْ يَقَعْ الْعَقْدُ مُكَايَلَةً

فَهَذَا الْمَانِعُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ لَمْ يَمْنَعْ التَّصَرُّفَ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِ أَوْلَى، وَيَجُوزُ فَرْضُ الْمُحَالِ إذَا تَعَلَّقَ بِهِ غَرَضٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} وَفِي الرَّابِعِ يَحْتَاجُ إلَى كَيْلٍ وَاحِدٍ، إمَّا كَيْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ كَيْلِ الْبَائِعِ بِحَضْرَتِهِ لِأَنَّ الْكَيْلَ شَرْطٌ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيمَا بِيعَ مُكَايَلَةً لِمَكَانِ الْحَاجَةِ إلَى تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ الْوَاقِعِ مَبِيعًا، وَأَمَّا الْمُجَازَفَةُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ إلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ يَتَنَاوَلُ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِهِ بِمَا فِي الْكِتَابِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَعْلُولٌ بِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَشْرُوطِ

ص: 516

مُذَارَعَةً؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ إذْ الذَّرْعُ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ، بِخِلَافِ الْقَدْرِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَيْلِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ صَاعَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهُوَ الشَّرْطُ، وَلَا بِكَيْلِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ بِغَيْبَةِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَصِيرُ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا وَلَا تَسْلِيمَ إلَّا بِحَضْرَتِهِ، وَلَوْ كَالَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ الْبَيْعِ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي فَقَدْ قِيلَ لَا يُكْتَفَى بِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ اُعْتُبِرَ صَاعَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ صَارَ مَعْلُومًا بِكَيْلٍ وَاحِدٍ وَتَحَقَّقَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ اجْتِمَاعُ الصَّفْقَتَيْنِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ السَّلَمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ اشْتَرَى الْمَعْدُودَ عَدًّا فَهُوَ كَالْمَذْرُوعِ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، وَكَالْمَوْزُونِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله

وَذَلِكَ بِمَا يُتَصَوَّرُ إذَا بِيعَ مُكَايَلَةً فَلَمْ يَتَنَاوَلْ مَا عَدَاهُ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّقَصِّيَ عَنْ عُهْدَةِ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} يَقْتَضِي جَوَازَهُ مُطْلَقًا وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِآيَةِ الرِّبَا فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَفِيهِ ذِكْرُ جَرَيَانِ الصَّاعَيْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِتَعْيِينِ الْمِقْدَارِ وَتَعْيِينُ الْمِقْدَارِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ تَوَهُّمِ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فَكَانَ فِي النَّصِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ بِذَلِكَ وَهُوَ فِي الْمُجَازَفَةِ مَعْدُومٌ فَكَانَ جَائِزًا بِلَا كَيْلٍ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ اشْتَرَى مَكِيلًا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ بِهِبَةٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْكَيْلِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ وَقَعَ ثَمَنًا كَمَا سَيَأْتِي وَحُكْمُ بَيْعِ الثَّوْبِ مُذَارَعَةً حُكْمُ الْمُجَازَفَةِ فِي الْمَكِيلِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ، إذْ الذَّرْعُ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ احْتِمَالُ الزِّيَادَةِ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ لِتَلْحَقَ بِهِ، بِخِلَافِ الْقَدْرِ فَإِنَّهُ مَبِيعٌ لَا وَصْفٌ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَيْلِ الْبَائِعِ وَهُوَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لِأَنَّ الشَّرْطَ صَاعُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا بِكَيْلِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ بِغَيْبَةِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْكَيْلَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ إذْ الْمَبِيعُ يَصِيرُ بِهِ مَعْلُومًا وَلَا تَسْلِيمَ إلَّا بِحَضْرَتِهِ.

وَلَوْ كَالَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ الْبَيْعِ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي فَقَدْ قِيلَ لَا يُكْتَفَى بِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ صَاعَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ

ص: 517

لِأَنَّهُ لَا تَحِلُّ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمَشْرُوطِ.

قَالَ (وَالتَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ) لِقِيَامِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَيْسَ فِيهِ

لِأَنَّ الْمَبِيعَ صَارَ مَعْلُومًا بِكَيْلٍ وَاحِدٍ وَتَحَقَّقَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ وَانْتَفَى احْتِمَالُ الزِّيَادَةِ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ اجْتِمَاعُ الصَّفْقَتَيْنِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بَابِ السَّلَمِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا أَوْ أَمَرَ رَبُّ الْمَالِ بِقَبْضِهِ لَمْ يَكُنْ قَبْضًا، وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ ثُمَّ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ فَاكْتَالَهُ لَهُ ثُمَّ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ جَازَ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ الصَّفْقَتَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَيْلِ مَرَّتَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله إيهَامَ التَّنَاقُضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ أَوَّلًا فِيمَا إذَا كَانَ الْعَقْدَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ جَرَيَانِ الصَّاعَيْنِ بِالْحَدِيثِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنْ يُكْتَفَى بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا يَكُونُ عَقْدًا وَاحِدًا بِشَرْطِ الْكَيْلِ، لِمَا أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ.

وَأَمَّا إذَا وُجِدَ الْعَقْدُ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَالِاكْتِفَاءُ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ فِيهِمَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ مِنْ الرِّوَايَةِ، بَلْ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ وُجُوبُ الْكَيْلَيْنِ. وَدَفَعَهُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَائِعِ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ كَالَهُ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ وَبِالْمُشْتَرِي هُوَ الثَّانِي وَبِالْبَيْعِ هُوَ الْبَيْعُ الثَّانِي، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا بَاعَ مُكَايَلَةً وَكَالَهُ بِحَضْرَةِ مُشْتَرِيهِ يُكْتَفَى بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ اجْتِمَاعُ الصَّفْقَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ اجْتِمَاعَ الصَّفْقَتَيْنِ غَيْرُ مَنْظُورٍ إلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّاعَيْنِ فِيمَا إذَا اجْتَمَعَتْ الصَّفْقَتَانِ كَمَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ السَّلَمِ.

وَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا. هَذَا وَإِذَا نَظَرْنَا إلَى التَّعْلِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَشْرُوطِ وَذَلِكَ لِلْبَائِعِ يَقْتَضِي أَنْ يُكْتَفَى بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الْكَيْلَيْنِ عَزِيمَةٌ وَالِاكْتِفَاءَ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ رُخْصَةٌ أَوْ قِيَاسٌ أَوْ اسْتِحْسَانٌ لَكَانَ ذَلِكَ مَدْفَعًا جَارِيًا عَلَى الْقَوَانِينِ لَكِنْ لَمْ أَظْفَرْ بِذَلِكَ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمَعْدُودَ عَدًّا فَهُوَ كَالْمَذْرُوعِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ فَكَانَ كَالْمَذْرُوعِ. وَحُكْمُهُ قَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الذَّرْعِ إذَا بَاعَ مُزَارَعَةً. وَكَالْمَوْزُونِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّهُ لَا تَحِلُّ الزِّيَادَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى جَوْزًا عَلَى أَنَّهَا أَلْفٌ فَوَجَدَهَا أَكْثَرَ لَمْ تَسْلَمْ لَهُ الزِّيَادَةُ، وَلَوْ وَجَدَهَا أَقَلَّ يَسْتَرِدُّ حِصَّةَ النُّقْصَانِ كَالْمَوْزُونِ فَلَا بُدَّ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ مِنْ الْعَدِّ كَالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونِ.

قَالَ (وَالتَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ) سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ كَالنُّقُودِ أَوْ مِمَّا يَتَعَيَّنُ كَالْمَكِيلِ

ص: 518

غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا بِالتَّعْيِينِ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ، قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَزِيدَ لِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ وَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَزِيدَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحُطَّ مِنْ الثَّمَنِ وَيَتَعَلَّقُ الِاسْتِحْقَاقُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ) فَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رحمه الله لَا يَصِحَّانِ عَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ، بَلْ عَلَى اعْتِبَارِ ابْتِدَاءِ الصِّلَةِ، لَهُمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الزِّيَادَةِ ثَمَنًا؛ لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ مِلْكَهُ عِوَضَ مِلْكِهِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَكَذَا الْحَطُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ الثَّمَنِ صَارَ مُقَابَلًا بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ فَصَارَ بِرًّا مُبْتَدَأً، وَلَنَا أَنَّهُمَا بِالْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ يُغَيِّرَانِ الْعَقْدَ مِنْ

وَالْمَوْزُونِ، حَتَّى لَوْ بَاعَ إبِلًا بِدَرَاهِمَ أَوْ بِكُرٍّ مِنْ الْحِنْطَةِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بَدَلَهُ شَيْئًا آخَرَ.

قَالَ «ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: كُنَّا نَبِيعُ الْإِبِلَ فِي الْبَقِيعِ فَنَأْخُذُ مَكَانَ الدَّرَاهِمِ الدَّنَانِيرَ وَمَكَانَ الدَّنَانِيرِ الدَّرَاهِمَ، وَكَانَ يُجَوِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَلِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلتَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ قَائِمٌ وَالْمَانِعَ وَهُوَ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ مُنْتَفٍ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا بِالتَّعْيِينِ أَيْ فِي النُّقُودِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَزِيدَ الْبَائِعَ فِي الثَّمَنِ) إذَا اشْتَرَى عَيْنًا بِمِائَةٍ ثُمَّ زَادَ عَشَرَةً

ص: 519

وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ كَوْنُهُ رَابِحًا أَوْ خَاسِرًا أَوْ عَدْلًا، وَلَهُمَا وِلَايَةُ الرَّفْعِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُمَا وِلَايَةُ التَّغَيُّرِ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَسْقَطَا الْخِيَارَ أَوْ شَرَطَاهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ إذَا صَحَّ يَلْتَحِق بِأَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الشَّيْءِ يَقُومُ بِهِ لَا بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ حَطِّ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لِأَصْلِهِ لَا تَغْيِيرٌ لِوَصْفِهِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ

مَثَلًا أَوْ بَاعَ عَيْنًا بِمِائَةٍ ثُمَّ زَادَ عَلَى الْمَبِيعِ شَيْئًا أَوْ حَطَّ بَعْضَ الثَّمَنِ جَازَ، وَالِاسْتِحْقَاقُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ ذَلِكَ فَيَمْلِكُ الْبَائِعُ حَبْسَ الْمَبِيعِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ، وَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي مُطَالَبَةَ الْمَبِيعِ مِنْ الْبَائِعِ حَتَّى يَدْفَعَهُمَا إلَيْهِ. وَيَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي مُطَالَبَةَ الْمَبِيعِ كُلِّهِ بِتَسْلِيمِ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ وَيَتَعَلَّقُ الِاسْتِحْقَاقُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ يَعْنِي الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ. فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِهِمَا، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِحَّانِ عَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ، بَلْ عَلَى اعْتِبَارِ ابْتِدَاءِ الصِّلَةِ أَيْ الْهِبَةِ ابْتِدَاءً لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ. لَهُمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الزِّيَادَةِ ثَمَنًا لِأَنَّ هَذَا التَّصْحِيحَ يُصَيِّرُ مِلْكَهُ عِوَضَ مِلْكِهِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَ الْمَبِيعَ بِالْعَقْدِ الْمُسَمَّى ثَمَنًا.

فَالزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ تَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ نَفْسِهِ وَهُوَ الْمَبِيعُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَفِي الْحَطِّ الثَّمَنُ كُلُّهُ مُقَابَلٌ بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ عَنْ ذَلِكَ فَصَارَ بُرًّا مُبْتَدَأً. وَلَنَا أَنَّ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ بِالْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ غَيْرُ الْعَقْدِ بِتَرَاضِيهِمَا مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ، لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمَشْرُوعَ خَاسِرٌ وَرَابِحٌ وَعَدْلٌ، وَالزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ تَجْعَلُ الْخَاسِرَ عَدْلًا وَالْعَدْلَ رَابِحًا، وَالْحَطُّ يَجْعَلُ الرَّابِحَ عَدْلًا وَالْعَدْلَ خَاسِرًا وَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ، وَلَهُمَا وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ بِرَفْعِ أَصْلِ الْعَقْدِ بِالْإِقَالَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُمَا وِلَايَةُ التَّغْيِيرِ مِنْ وَصْفٍ إلَى وَصْفٍ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي صِفَةِ الشَّيْءِ أَهْوَنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي أَصْلِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ لَهُمَا خِيَارُ الشَّرْطِ فَأَسْقَطَا أَوْ شَرَطَاهُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَصَحَّ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ، وَإِذَا صَحَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ كَالْوَصْفِ لَهُ، وَوَصْفُ الشَّيْءِ يَقُومُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَا بِنَفْسِهِ، فَالزِّيَادَةُ تَقُومُ بِالثَّمَنِ لَا بِنَفْسِهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ حَطُّ الْبَعْضِ صَحِيحًا لَكَانَ حَطُّ الْكُلِّ كَذَلِكَ اعْتِبَارًا لِلْكُلِّ بِالْبَعْضِ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِالْفَرْقِ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ حَطِّ الْكُلِّ لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ بِأَصْلِهِ لَا تَغْيِيرٌ بِوَصْفِهِ، لِأَنَّ عَمَلَ الْحَطِّ فِي إخْرَاجِ الْقَدْرِ الْمَحْطُوطِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فَالشَّرْطُ فِيهِ قِيَامُ الثَّمَنِ وَذَلِكَ فِي حَطِّ الْبَعْضِ لِوُجُودِ مَا يَصْلُحُ ثَمَنًا.

وَأَمَّا حَطُّ الْجَمِيعِ فَتَبْدِيلٌ لِلْعَقْدِ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَبْقَى بَيْعًا بَاطِلًا لِعَدَمِ الثَّمَنِ حِينَئِذٍ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا ذَلِكَ أَوْ يَصِيرَ هِبَةً وَقَدْ كَانَ

ص: 520

لَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ، وَيَظْهَرُ حُكْمُ الِالْتِحَاقِ فِي التَّوْلِيَةِ وَالْمُرَابَحَةِ حَتَّى يَجُوزَ عَلَى الْكُلِّ فِي الزِّيَادَةِ وَيُبَاشِرَ عَلَى الْبَاقِي فِي الْحَطِّ وَفِي الشُّفْعَةِ حَتَّى يَأْخُذَ بِمَا بَقِيَ فِي الْحَطِّ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لِمَا فِي الزِّيَادَةِ

قَصْدُهُمَا التِّجَارَةَ فِي الْمَبِيعِ دُونَ الْهِبَةِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الِالْتِحَاقِ لِمَانِعٍ عَدَمُهُ لَا لِمَانِعٍ فَيَلْتَحِقُ حَطُّ الْبَعْضِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ لَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ.

وَيَظْهَرُ حُكْمُ الِالْتِحَاقِ فِي التَّوْلِيَةِ وَالْمُرَابَحَةِ حَتَّى تَجُوزَ عَلَى الْكُلِّ فِي الزِّيَادَةِ، وَعَلَى الْبَاقِي فِي الْحَطِّ فَإِنَّ الْبَائِعَ إذَا حَطَّ بَعْضَ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي قَالَ لِآخَرَ وَلَّيْتُك هَذَا الشَّيْءَ وَقَعَ عَقْدُ التَّوْلِيَةِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ بَعْدَ الْحَطِّ فَكَانَ الْحَطُّ بَعْدَ الْعَقْدِ مُلْتَحِقًا بِأَصْلِ الْعَقْدِ كَانَ الثَّمَنُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ هُوَ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ وَكَذَلِكَ فِي الزِّيَادَةِ، وَيَظْهَرُ حُكْمُهُ أَيْضًا فِي الشُّفْعَةِ حَتَّى يَأْخُذَ الشَّفِيعُ بِمَا بَقِيَ فِي الْحَطِّ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا كَانَ لِلشَّفِيعِ) جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُلْتَحِقَةً بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَأَخَذَ الشَّفِيعُ بِالزِّيَادَةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ. وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: إنَّمَا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَفِي الزِّيَادَةِ إبْطَالٌ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ بِتَرَاضِيهِمَا وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا.

وَأَمَّا بَعْدَ هَلَاكِهِ فَلَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَبْقَ عَلَى حَالَةٍ يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ. إذْ الِاعْتِيَاضُ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَوْجُودٍ وَالشَّيْءُ يَثْبُتُ ثُمَّ يَسْتَنِدُ وَلَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ لِعَدَمِ مَا يُقَابِلُهُ فَلَا تَسْتَنِدُ، بِخِلَافِ الْحَطِّ لِأَنَّهُ بِحَالٍ يُمْكِنُ إخْرَاجُ الْبَدَلِ عَمَّا يُقَابِلُهُ لِكَوْنِهِ إسْقَاطًا وَالْإِسْقَاطُ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ مَا يُقَابِلُهُ فَيَثْبُتُ الْحَطُّ فِي الْحَالِ وَيَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ اسْتِنَادًا. رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَصِحُّ زِيَادَةُ الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ. وَوَجْهُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَائِمًا تَقْدِيرًا وَتُجْعَلَ الزِّيَادَةُ تَغْيِيرًا كَمَا جُعِلَ قَائِمًا إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ كَانَ قَبْلَ الْهَلَاكِ حَيْثُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، وَهَذَا لِأَنَّ قِيَامَ الْعَقْدِ بِالْعَاقِدَيْنِ لَا بِالْمَحَلِّ، وَاشْتِرَاطُ

ص: 521

مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ الثَّابِتِ فَلَا يَمْلِكَانِهِ، ثُمَّ الزِّيَادَةُ لَا تَصِحُّ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَبْقَ عَلَى حَالَةٍ يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَالشَّيْءُ يَثْبُتُ ثُمَّ يُسْتَنَدُ، بِخِلَافِ الْحَطِّ لِأَنَّهُ بِحَالٍ يُمْكِنُ إخْرَاجُ الْبَدَلِ عَمَّا يُقَابِلُهُ فَيُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ اسْتِنَادًا.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَجَّلَهُ أَجَلًا مَعْلُومًا صَارَ مُؤَجَّلًا)؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ تَيْسِيرًا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ

الْمَحَلِّ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ أَوْ إبْقَائِهِ بِطَرِيقِ التَّجَدُّدِ فَلَمْ يَكُنْ لِإِيفَاءِ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِ فَائِدَةٌ، فَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَفِيهِ فَائِدَةٌ فَتَبْقَى وَالزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي مُقَابَلَةِ الثَّمَنِ وَهُوَ قَائِمٌ وَيَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ سَقَطَ بِحِصَّتِهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ) ثُمَّ أَجَّلَهُ أَجَلٌ مَعْلُومٌ إذَا بَاعَ شَيْئًا بِثَمَنٍ حَالٍّ

ص: 522

أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ إبْرَاءَهُ مُطْلَقًا فَكَذَا مُؤَقَّتًا، وَلَوْ أَجَّلَهُ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ إنْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً كَهُبُوبِ الرِّيحِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

قَالَ (وَكُلُّ دَيْنٍ حَالٍّ إذَا أَجَّلَهُ صَاحِبُهُ صَارَ مُؤَجَّلًا)؛ لِمَا ذَكَرْنَا (إلَّا الْقَرْضَ) فَإِنَّ تَأْجِيلَهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إعَارَةٌ وَصِلَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى يَصِحَّ بِلَفْظَةِ الْإِعَارَةِ، وَلَا يَمْلِكُهُ مِنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ كَالْوَصِيِّ وَالصَّبِيِّ وَمُعَاوَضَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ لَا يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِيهِ كَمَا فِي الْإِعَارَةِ، إذْ لَا جَبْرَ فِي التَّبَرُّعِ

ثُمَّ أَجَّلَهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صَحَّ وَصَارَ مُؤَجَّلًا.

وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَلْحَقُ الْأَجَلُ بِالْعَقْدِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ دَيْنٌ فَلَا يَتَأَجَّلُ كَالْقَرْضِ. وَلَنَا أَنَّ الثَّمَنَ حَقُّهُ فَجَازَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالتَّأْجِيلِ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ إثْبَاتُ بَرَاءَةٍ مُؤَقَّتَةٍ إلَى حُلُولِ الْأَجَلِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْبَرَاءَةَ الْمُطْلَقَةَ بِالْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ فَلَأَنْ يَمْلِكَ الْبَرَاءَةَ الْمُؤَقَّتَةَ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْجَهَالَةُ فَاحِشَةً أَوْ يَسِيرَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَمَا إذَا أَجَّلَهُ إلَى هُبُوبِ الرِّيحِ وَنُزُولِ الْمَطَرِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ جَازَ كَالْكَفَالَةِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَصَحَّ مَعَ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ (وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي فِي أَوَاخِرِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ قَالَ (وَكُلُّ دَيْنٍ حَالٍّ إذَا أَجَّلَهُ صَاحِبُهُ صَارَ مُؤَجَّلًا) كُلُّ دَيْنٍ حَالٍّ بِتَأْجِيلِ صَاحِبِهِ يَصِيرُ مُؤَجَّلًا (لِمَا ذَكَرْنَا) أَنَّهُ حَقُّهُ، لَكِنَّ الْقَرْضَ لَا يَصِحُّ تَأْجِيلُهُ. وَهَذَا لِأَنَّ الْقَرْضَ فِي الِابْتِدَاءِ صِلَةٌ وَإِعَارَةٌ فَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ (وَلَا يَمْلِكُهُ مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ كَالْوَصِيِّ وَالصَّبِيِّ، وَمُعَاوَضَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْقَرْضِ رَدُّ الْمِثْلِ لَا رَدُّ الْعَيْنِ (فَعَلَى اعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ لَا يَصِحُّ) أَيْ لَا يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِيهِ (كَمَا فِي الْإِعَارَةِ إذْ لَا جَبْرَ

ص: 523

وَعَلَى اعْتِبَارِ الِانْتِهَاءِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ نَسِيئَةً وَهُوَ رِبًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى أَنْ يُقْرِضَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فُلَانًا إلَى سَنَةٍ حَيْثُ يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ مِنْ ثُلُثِهِ أَنْ يُقْرِضُوهُ وَلَا يُطَالِبُوهُ قَبْلَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِالتَّبَرُّعِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى فَيَلْزَمُ حَقًّا لِلْمُوصِي، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَعَلَى اعْتِبَارِ الِانْتِهَاءِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ نَسِيئَةً وَهُوَ رِبًا) وَهَذَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْقَرْضِ لَكِنْ نَدَبَ الشَّرْعُ إلَيْهِ، وَأَجْمَعَ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِهِ فَاعْتَمَدْنَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَقُلْنَا بِجَوَازِهِ بِلَا لُزُومٍ (وَنُوقِضَ بِمَا إذَا أَوْصَى أَنْ يُقْرِضَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فُلَانًا إلَى سَنَةٍ) فَإِنَّهُ قَرْضٌ مُؤَجَّلٌ وَأَجَلُهُ لَازِمٌ (حَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ ثُلُثِهِ أَنْ يُقْرِضُوهُ وَلَا يُطَالِبُوهُ) إلَى سَنَةٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْوَصِيَّةِ بِالتَّبَرُّعِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى فِي كَوْنِهِمَا وَصِيَّةً بِالتَّبَرُّعِ بِالْمَنَافِعِ وَيَلْزَمُ فِي الْوَصِيَّةِ مَا لَا يَلْزَمُ فِي غَيْرِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ لِفُلَانٍ صَحَّ وَلَزِمَ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً وَقْتَ الْوَصِيَّةِ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِي الْقَرْضِ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِلْوَرَثَةِ مُطَالَبَةُ الْمُوصَى لَهُ بِالِاسْتِرْدَادِ قَبْلَ السَّنَةِ حَقًّا لِلْمُوصِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 524