المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌(بَابُ الرِّبَا) قَالَ الرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ - العناية شرح الهداية - بهامش فتح القدير ط الحلبي - جـ ٧

[البابرتي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

(بَابُ الرِّبَا)

قَالَ الرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا

(بَابُ الرِّبَا)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَبْوَابِ الْبُيُوعِ الَّتِي أَمَرَ الشَّارِعُ بِمُبَاشَرَتِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ بُيُوعٍ نَهَى الشَّارِعُ عَنْ مُبَاشَرَتِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} فَإِنَّ النَّهْيَ يَعْقُبُ الْأَمْرَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ بَيَانُ الْحَلَالِ الَّذِي هُوَ بَيْعٌ شَرْعًا وَالْحَرَامُ الَّذِي هُوَ الرِّبَا، وَلِهَذَا لَمَّا قِيلَ لِمُحَمَّدٍ أَلَا تُصَنِّفُ شَيْئًا فِي الزُّهْدِ؟ قَالَ قَدْ صَنَّفْت كِتَابَ الْبُيُوعِ، وَمُرَادُهُ بَيَّنْت فِيهِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ، وَلَيْسَ الزُّهْدُ إلَّا الِاجْتِنَابَ مِنْ الْحَرَامِ وَالرَّغْبَةَ فِي الْحَلَالِ. وَالرِّبَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ، مِنْ رَبَا الْمَالُ: أَيْ زَادَ، وَيُنْسَبُ فَيُقَالُ رِبَوِيٌّ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَمِنْهُ الْأَشْيَاءُ الرِّبَوِيَّةُ، وَفَتْحُ الرَّاءِ خَطَأٌ ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ الْمَشْرُوطِ فِي الْبَيْعِ. قَالَ (الرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ) أَيْ حُكْمُ الرِّبَا وَهُوَ حُرْمَةُ الْفَضْلِ وَالنَّسِيئَةِ

ص: 3

فَالْعِلَّةُ عِنْدَنَا الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ وَالْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ.

قَالَ رضي الله عنه: وَيُقَالُ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ وَهُوَ أَشْمَلُ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا» وَعَدَّ الْأَشْيَاءَ السِّتَّةَ: الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ وَالتَّمْرَ وَالْمِلْحَ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ.

وَيُرْوَى بِرِوَايَتَيْنِ بِالرَّفْعِ مِثْلٌ وَبِالنَّصْبِ مِثْلًا.

وَمَعْنَى الْأَوَّلِ بَيْعُ التَّمْرِ، وَمَعْنَى الثَّانِي بِيعُوا التَّمْرَ،

جَارٍ فِي كُلِّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ إذَا بِيعَ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مِنْ جِنْسِهِ (فَالْعِلَّةُ) أَيْ لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ هُوَ (الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ أَوْ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيُقَالُ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ وَهُوَ أَشْمَلُ) لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُمَا وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ يَتَنَاوَلُ الْآخَرَ.

(وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ) الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ (وَهُوَ قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا» وَعَدَّ الْأَشْيَاءَ السِّتَّةَ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ وَالتَّمْرَ وَالْمِلْحَ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ) وَمَدَارُهُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهم. وَرُوِيَ بِرِوَايَتَيْنِ بِالرَّفْعِ " مِثْلٌ بِمِثْلٍ " وَبِالنَّصْبِ " مِثْلًا بِمِثْلٍ " وَمَعْنَى الْأَوَّلِ بَيْعُ الْحِنْطَةِ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ وَأُعْرِبَ بِإِعْرَابِهِ وَمِثْلٌ خَبَرُهُ، وَمَعْنَى الثَّانِي بِيعُوا التَّمْرَ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْمُرَادُ بِالْمُمَاثَلَةِ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ " كَيْلًا بِكَيْلٍ " وَكَذَلِكَ فِي الْمَوْزُونِ " وَزْنًا بِوَزْنٍ " فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لَا مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحِنْطَةِ، فَإِنَّ بَيْعَ حَبَّةٍ مِنْ حِنْطَةٍ بِحَبَّةٍ مِنْهَا لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّقَوُّمِ مَعَ صِدْقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» ، وَكَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا. فَإِنْ قِيلَ: تَقْدِيرُ بِيعُوا يُوجِبُ الْبَيْعَ وَهُوَ مُبَاحٌ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْوُجُوبَ مَصْرُوفٌ إلَى الصِّفَةِ كَقَوْلِك مُتْ وَأَنْتَ شَهِيدٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأَمْرَ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ بِالْكَوْنِ عَلَى صِفَةِ الشُّهَدَاءِ إذَا مَاتَ، وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ الْأَمْرُ بِكَوْنِ الْبَيْعِ عَلَى صِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ (قَوْلُهُ: يَدٌ بِيَدٍ) الْمُرَادُ بِهِ عِنْدَنَا عَيْنٌ بِعَيْنٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَبْضٌ بِقَبْضٍ (قَوْلُهُ: وَالْفَضْلُ رِبًا) الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ فَضْلُ ذَاتِ أَحَدِهِمَا عَلَى

ص: 4

وَالْحُكْمُ مَعْلُومٌ بِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ لَكِنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: الطَّعْمُ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ، وَالْجِنْسِيَّةُ شَرْطٌ، وَالْمُسَاوَاةُ مُخَلِّصٌ.

وَالْأَصْلُ هُوَ الْحُرْمَةُ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى شَرْطَيْنِ التَّقَابُضِ وَالْمُمَاثَلَةِ

الْآخَرِ حَرَامٌ (وَالْحُكْمُ مَعْلُولٌ بِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ دَاوُد مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ إنَّ الْحُكْمَ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَالنَّصُّ غَيْرُ مَعْلُولٍ (لَكِنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَا) مِنْ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الطَّعْمُ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ وَالْجِنْسِيَّةُ شَرْطٌ) لِعَمَلِ الْعِلَّةِ عَمَلَهَا حَتَّى لَا تَعْمَلَ الْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ عِنْدَهُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَهَا أَثَرٌ فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ، فَلَوْ أَسْلَمَ هَرَوِيًّا فِي هَرَوِيٍّ جَازَ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَمْ يَجُزْ لِوُجُودِ أَحَدِ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ، وَسَيَأْتِي (وَالْمُسَاوَاةُ مُخَلِّصٌ) يُتَخَلَّصُ بِهَا عَنْ الْحُرْمَةِ لِأَنَّهُ: أَيْ الشَّارِعَ

ص: 5

وَكُلُّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِالْعِزَّةِ وَالْخَطَرِ كَاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ، فَيُعَلَّلُ بِعِلَّةٍ تُنَاسِبُ إظْهَارَ الْخَطَرِ وَالْعِزَّةِ وَهُوَ الطَّعْمُ لِبَقَاءِ الْإِنْسَانِ بِهِ وَالثَّمَنِيَّةُ لِبَقَاءِ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْمَصَالِحِ بِهَا، وَلَا أَثَرَ لِلْجِنْسِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَجَعَلْنَاهُ شَرْطًا وَالْحُكْمُ قَدْ يَدُورُ مَعَ الشَّرْطِ.

وَلَنَا أَنَّهُ أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِسَوْقِهِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْبَيْعِ، إذْ هُوَ يُنْبِئُ عَنْ التَّقَابُلِ وَذَلِكَ بِالتَّمَاثُلِ،

نَصَّ عَلَى شَرْطَيْنِ التَّقَابُضِ وَالْمُمَاثَلَةِ لِأَنَّهُ قَالَ «يَدًا بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ» مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ، هَذَا فِي رِوَايَةِ النَّصْبِ، وَفِي رِوَايَةِ الرَّفْعِ يُقَالُ مَعْنَاهُ عَلَى النَّصْبِ إلَّا أَنَّهُ عَدَلَ إلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثُّبُوتِ.

(وَكُلُّ ذَلِكَ) أَيْ كُلٌّ مِنْ الشَّرْطَيْنِ (يُشْعِرُ بِالْعِزَّةِ وَالْخَطَرِ كَالشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ) فَإِذَا كَانَ عَزِيزًا خَطِيرًا (يُعَلَّلُ بِعِلَّةٍ تُنَاسِبُ إظْهَارَ الْخَطَرِ وَالْعِزَّةِ وَهُوَ الطَّعْمُ) فِي الْمَطْعُومَاتِ (لِبَقَاءِ الْإِنْسَانِ بِهِ، وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ لِبَقَاءِ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْمَصَالِحِ بِهَا وَلَا أَثَرَ لِلْجِنْسِيَّةِ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي إظْهَارِ الْخَطَرِ وَالْعِزَّةِ (فَجَعَلْنَاهُ شَرْطًا) وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالتَّأْثِيرِ، وَلِلطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ أَثَرٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَيْسَ لِلْجِنْسِيَّةِ أَثَرٌ، لَكِنَّ الْعِلَّةَ لَا تَكْمُلُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْجِنْسِ فَكَانَ شَرْطًا لِأَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ الشَّرْطِ وُجُودًا عِنْدَهُ وَلَا وُجُوبًا بِهِ (وَلَنَا أَنَّ الْحَدِيثَ أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ) بِقَوْلِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ حَالٌ بِمَعْنَى مُمَاثِلًا، وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ (وَ) وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ (هُوَ الْمَقْصُودُ بِسَوْقِ الْحَدِيثِ) لِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ (لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّقَابُلِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ لِكَوْنِهِ مُبَادَلَةً وَالتَّقَابُلُ يَحْصُلُ بِالتَّمَاثُلِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ

ص: 6

أَوْ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ التَّوَى، أَوْ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ بِاتِّصَالِ التَّسْلِيمِ بِهِ، ثُمَّ يَلْزَمُ عِنْدَ فَوْتِهِ حُرْمَةُ الرِّبَا وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، وَالْمِعْيَارُ يَسْوَى الذَّاتَ، وَالْجِنْسِيَّةُ تَسْوَى الْمَعْنَى

أَحَدُهُمَا أَنْقَصَ مِنْ الْآخَرِ لَمْ يَحْصُلْ التَّقَابُلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (أَوْ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ التَّوَى) لِأَنَّ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ إذَا كَانَ أَنْقَصَ مِنْ الْآخَرِ كَانَ التَّبَادُلُ مُضَيِّعًا لِفَضْلِ مَا فِيهِ الْفَضْلُ (أَوْ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ بِاتِّصَالِ التَّسْلِيمِ بِهِ) أَيْ بِالْمُمَاثِلِ: يَعْنِي أَنَّ فِي النَّقْدَيْنِ لِكَوْنِهِمَا لَا يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ شُرِطَتْ الْمُمَاثَلَةُ قَبْضًا بَعْدَ مُمَاثَلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ لِتَتْمِيمِ فَائِدَةِ الْعَقْدِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْمَقْصُودِ، إذْ الْمَقْصُودُ بَيَانُ وُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ قَدْرًا لَا بَيَانُ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ حَيْثُ الْقَبْضُ.

وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ مُمَاثِلًا لِلْآخَرِ لَمْ تَتِمَّ الْفَائِدَةُ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَنْقَصَ يَكُونُ نَفْعًا فِي حَقِّ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَضَرَرًا فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَإِذَا كَانَ مِثْلًا لِلْآخَرِ يَكُونُ نَفْعًا فِي حَقِّهِمَا فَتَكُونُ الْفَائِدَةُ أَتَمَّ بَعْدَ الْقَبْضِ لِكَوْنِهِ نَفْعًا فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ لِاشْتِرَاطِ التَّمَاثُلِ مِمَّا يَجِبُ تَحَقُّقُهُ فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ لِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ التَّقَابُلِ وَصِيَانَةٍ لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ التَّوَى وَتَتْمِيمُ الْفَائِدَةِ مِمَّا يَجِبُ فَيَجِبُ التَّمَاثُلُ فِي الْجَمِيعِ لِئَلَّا تَتَخَلَّفَ الْعِلَّةُ عَنْ الْمَعْلُولِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ مُوجِبَهَا فِي الرِّبَا هُوَ النَّصُّ، وَالْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ حِكْمَتُهُ لَا عِلَّتُهُ لِيُتَصَوَّرَ التَّخَلُّفُ، وَإِذَا ثَبَتَ اشْتِرَاطُ الْمُمَاثَلَةِ لَزِمَ عِنْدَ فَوَاتِهِ حُرْمَةُ الرِّبَا لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا تَلْزَمُ حُرْمَةُ الرِّبَا عِنْدَ فَوَاتِ شَرْطِ الْحِلِّ إنْ لَمْ تُوجَدْ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُرْمَةِ مَا هُوَ حَرَامٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْكَرَاهَةِ، فَعِنْدَ انْتِفَاءِ الْحِلِّ يَثْبُتُ الْحَرَامُ لِغَيْرِهِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى وَجْهٍ أَتَمَّ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ (قَوْلُهُ: وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ) بَيَانُ عِلِّيَّةِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ (بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى) وَهُوَ وَاضِحٌ (وَالْمِعْيَارِ يَسْوَى الذَّاتَ) أَيْ الصُّورَةَ (وَالْجِنْسِيَّةُ تَسْوَى الْمَعْنَى)

ص: 7

فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا، لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الْفَضْلُ الْمُسْتَحَقُّ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْخَالِي عَنْ عِوَضِ شَرْطٍ فِيهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَفَاوُتًا عُرْفًا، أَوْ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ سَدَّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ، أَوْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَالطَّعْمُ وَالثَّمَنِيَّةُ مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، وَالسَّبِيلُ فِي مِثْلِهَا الْإِطْلَاقُ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ لِشِدَّةِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا دُونَ التَّضْيِيقِ فِيهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا ذَكَرَهُ.

فَإِنَّ كَيْلًا مِنْ بُرٍّ يُسَاوِي كَيْلًا مِنْ دُرٍّ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ وَالصُّورَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ قَفِيزُ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ شَعِيرٍ يَتَسَاوَيَانِ صُورَةً لَا مَعْنَى. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ، وَعَلَّلْتُمُوهَا بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ فَكَانَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لِإِثْبَاتِ الشَّرْطِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّعْلِيلَ لِلشَّرْطِ لَا يَجُوزُ لِإِثْبَاتِهِ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا بِطَرِيقِ التَّعَدِّيَةِ مِنْ أَصْلٍ فَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبِ الْمِيزَانِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّصَّ أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ شَرْطًا فَأَثْبَتْنَاهُ فِي غَيْرِهَا تَعَدِّيَةً فَكَانَ جَائِزًا، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ شَرْطًا وَهِيَ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ (يَظْهَرُ الْفَضْلُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الْفَضْلُ الْمُسْتَحَقُّ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْخَالِي عَنْ عِوَضٍ شُرِطَ فِيهِ) أَيْ فِي الْعَقْدِ قَالَ (وَلَا يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ كَمَا تَكُونُ بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ تَكُونُ بِالْوَصْفِ.

وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: وَلَا يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَفَاوُتًا عُرْفًا، فَإِنْ اسْتَوَتْ الذَّاتَانِ صُورَةً وَمَعْنًى تَسَاوَيَا فِي الْمَالِيَّةِ، وَالْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الْجَوْدَةُ سَاقِطُ الْعِبْرَةِ فِي الْمَكِيلَاتِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَعُدُّونَ ذَلِكَ إلَّا مِنْ بَابِ الْيَسِيرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَفَاضَلَا فِي الْقِيمَةِ فِي الْعُرْفِ (أَوْ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ سَدَّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ) لِأَنَّ الْحِنْطَةَ لَا تَكُونُ مِثْلًا لِلْحِنْطَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْمُرَادُ الْبِيَاعَاتُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ لَا مُطْلَقُ الْبِيَاعَاتِ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ لَيْسَ سَدَّ بَابِ مُطْلَقِ الْبِيَاعَاتِ أَوْ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» قَالَ (وَالطَّعْمُ وَالثَّمَنِيَّةُ) جَوَابٌ عَنْ جَعْلِهِ

ص: 8

إذَا ثَبَتَ هَذَا نَقُولُ إذًا: بَيْعُ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ جَازَ الْبَيْعُ فِيهِ لِوُجُوبِ شَرْطِ الْجَوَازِ، وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمِعْيَارِ؛ أَلَا تَرَى إلَى مَا يُرْوَى مَكَانَ قَوْلِهِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ كَيْلًا بِكَيْلٍ، وَفِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ (وَإِنْ تَفَاضَلَا لَمْ يَجُزْ) لِتَحَقُّقِ الرِّبَا وَلَا يَجُوزُ (بَيْعُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) لِإِهْدَارِ التَّفَاوُتِ فِي الْوَصْفِ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ وَالتُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ) لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بِالْمِعْيَارِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَضْلُ،

الطَّعْمَ وَالثَّمَنِيَّةَ عِلَّةً لِلْحُرْمَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَقْتَضِيَانِ خِلَافَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ كَانَ السَّبِيلُ فِيهِ الْإِطْلَاقَ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ دُونَ التَّضْيِيقِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ

الْحَاجَةَ

إذَا اشْتَدَّتْ أَثَّرَتْ فِي إبَاحَةِ الْحَرَامِ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ فَكَيْفَ تُؤَثِّرُ حُرْمَةُ الْمُبَاحِ، بَلْ سُنَّةُ اللَّهِ جَرَتْ فِي التَّوْسِيعِ فِيمَا كَثُرَ إلَيْهِ الِاحْتِيَاجُ كَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَعَلَفِ الدَّوَابِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ جَوَازُ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْمُسَاوَاةِ وَالْفَسَادِ لِوُجُودِ الْمُفْسِدِ، فَلَا تَكُونُ الْمُسَاوَاةُ مُخَلِّصًا عَنْ الْحُرْمَةِ.

(وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْرِيرِ الْأَصْلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ نَقُولُ: إذَا بِيعَ الْمَكِيلُ أَوْ الْمَوْزُونُ بِجِنْسِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ) أَيْ كَيْلًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنًا بِوَزْنٍ (جَازَ الْبَيْعُ) لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ الْمَعْهُودَةُ فِي الْعُقُودِ مَعَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمِعْيَارِ كَمَا وَرَدَ فِي الْمَرْوِيِّ، وَإِنْ تَفَاضَلَا لَمْ يَجُزْ لِتَحَقُّقِ الرِّبَا بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ، وَالْجَوْدَةُ سَاقِطَةٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ إلَّا مُتَمَاثِلًا.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ) أَيْ

ص: 9

وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله الْعِلَّةُ هِيَ الطَّعْمُ وَلَا مُخَلِّصَ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فَيَحْرُمُ، وَمَا دُونَ نِصْفِ الصَّاعِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْحَفْنَةِ لِأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي الشَّرْعِ بِمَا دُونَهُ، وَلَوْ تَبَايَعَا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا غَيْرَ مَطْعُومٍ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَالْجِصِّ وَالْحَدِيدِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ.

وَعِنْدَهُ يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ.

قَالَ (وَإِذَا عُدِمَ الْوَصْفَانِ الْجِنْسُ وَالْمَعْنَى الْمَضْمُومُ إلَيْهِ حَلَّ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ) لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُحَرِّمَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ.

وَإِذَا وُجِدَا.

أَيْ وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ جَوَازُ بَيْعِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ وَالتُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ؛؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ بِتَحَقُّقِ الْفَضْلِ وَتَحَقُّقُ الْفَضْلِ يَظْهَرُ بِعَدَمِ وُجُودِ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُسَاوَاةُ بِالْكَيْلِ، وَلَا كَيْلَ فِي الْحَفْنَةِ وَالْحَفْنَتَيْنِ فَتَنْتَفِي الْمُمَاثَلَةُ فَيَنْتَفِي تَحَقُّقُ الْفَضْلِ، وَاسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْحَفْنَةَ وَالْحَفْنَتَيْنِ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَلِهَذَا (كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ) لَا مِثْلِهَا، فَلَوْ بَقِيَتْ مَكِيلَةً أَوْ مَوْزُونَةً لَوَجَبَ مِثْلُهَا فَإِنَّ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ كُلَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ دُونَ الْقِيَمِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحُرْمَةِ وَهُوَ الطَّعْمُ وَقَدْ وُجِدَتْ وَالْمُخَلِّصُ الْمُسَاوَاةُ وَلَمْ تُوجَدْ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ حَفْنَةٍ بِحَفْنَةٍ وَتُفَّاحَةٍ بِتُفَّاحَةٍ لِوُجُودِ الطَّعْمِ وَعَدَمِ الْمُسَوِّي، وَمَا دُونَ نِصْفِ صَاعٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْحَفْنَةِ؛ فَلَوْ بَاعَ خَمْسَ حَفَنَاتٍ مِنْ الْحِنْطَةِ بِسِتِّ حَفَنَاتٍ مِنْهَا وَهُمَا لَمْ يَبْلُغَا حَدَّ نِصْفِ الصَّاعِ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي الشَّرْعِ بِمَا دُونَهُ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ بَلَغَ حَدَّ نِصْفِ الصَّاعِ وَالْآخَرُ لَمْ يَبْلُغْهُ فَلَا يَجُوزُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا (إذَا تَبَايَعَا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا غَيْرَ مَطْعُومٍ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَالْجِصِّ وَالْحَدِيدِ) فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ.

قَالَ: (فَإِذَا عَدِمَ الْوَصْفَانِ) إذَا ثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الْحُرْمَةِ شَيْئَانِ، فَإِمَّا أَنْ يُوجَدَا أَوْ يَعْدَمَا أَوْ يُوجَدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَالْأَوَّلُ مَا تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي يَظْهَرُ عِنْدَهُ حِلُّ التَّفَاضُلِ وَالنَّسَاءِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُحَرِّمَةِ، وَتَحْقِيقُهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ) يَعْنِي إذَا كَانَتْ أَصْلًا وَقَدْ تُرِكَتْ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْقَدْرُ، وَالْجِنْسُ يَظْهَرُ عِنْدَ عَدَمِهِمَا لَا أَنَّ الْعَدَمَ

ص: 10

حَرُمَ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ.

وَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا وَعُدِمَ الْآخَرُ حَلَّ التَّفَاضُلُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ مِثْلَ أَنْ يُسَلِّمَ هَرَوِيًّا فِي هَرَوِيٍّ أَوْ حِنْطَةً فِي شَعِيرٍ، فَحُرْمَةُ رِبَا الْفَضْلِ بِالْوَصْفَيْنِ وَحُرْمَةُ النَّسَاءِ بِأَحَدِهِمَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ لَا يُحَرِّمُ النَّسَاءَ لِأَنَّ بِالنَّقْدِيَّةِ وَعَدَمِهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا شُبْهَةُ الْفَضْلِ، وَحَقِيقَةُ الْفَضْلِ غَيْرُ مَانِعٍ فِيهِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ فَالشُّبْهَةُ أَوْلَى.

يُثْبِتُ شَيْئًا، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا وَعَدِمَ الْآخَرُ حَلَّ التَّفَاضُلُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ (مِثْلَ أَنْ يُسْلِمَ هَرَوِيًّا فِي هَرَوِيٍّ أَوْ حِنْطَةً فِي شَعِيرٍ، فَحُرْمَةُ الْفَضْلِ بِالْوَصْفَيْنِ وَحُرْمَةُ النَّسَاءِ بِأَحَدِهِمَا) حَتَّى لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِعَبْدٍ إلَى أَجَلٍ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ وَعِنْدَهُ يَجُوزُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ لَا يُحَرِّمُ النَّسَاءَ؛ لِأَنَّ بِالنَّقْدِيَّةِ وَعَدَمِهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا شُبْهَةُ الْفَضْلِ) بِالِاتِّفَاقِ (وَحَقِيقَةُ الْفَضْلِ غَيْرُ مَانِعٍ) مِنْ الْجَوَازِ فِي الْجِنْسِ حَتَّى جَازَ بَيْعُ الْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيَّيْنِ وَالْعَبْدِ بِالْعَبْدَيْنِ (فَالشُّبْهَةُ أَوْلَى) قِيلَ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ الْجِنْسِ بِالذِّكْرِ فِي عَدَمِ تَحْرِيمِ النَّسَاءِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، فَإِنَّ الْقَدْرَ عِنْدَهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ إسْلَامُ الْمَوْزُونَاتِ فِي الْمَوْزُونَاتِ كَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ حُرْمَةُ النَّسَاءِ إنَّمَا لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ فِي صُورَةِ الْجِنْسِ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ يُوجَدُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ نَسِيئَةً وَكَذَا بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَإِنْ كَانَ عِلَّةُ ذَلِكَ عِنْدَهُ غَيْرَ الْقَدْرِ وَهُوَ أَنَّ التَّقَابُضَ شَرْطٌ فِي الصَّرْفِ وَبَيْعِ الطَّعَامِ عِنْدَهُ. وَلَنَا مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله مِنْ أَنَّهُ مَالُ الرِّبَا مِنْ وَجْهٍ وَتَحْقِيقُهُ مَا ثَبَتَ أَنَّ فِي بَابِ الرِّبَا حَقِيقَةً وَشُبْهَةً لَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ، وَالشُّبْهَةُ إذَا انْفَرَدَتْ عَنْ الْحَقِيقَةِ تَحْتَاجُ إلَى مَحَلٍّ وَعِلَّةٍ كَالْحَقِيقَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهَا وَعِلَّتُهَا مَحَلَّ الْحَقِيقَةِ وَعِلَّتِهَا، وَإِلَّا لَكَانَتْ حَقِيقَةً أَوْ مُقَارِنَةً لَهَا وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ فَلَا بُدَّ مِنْ شُبْهَةِ مَحَلٍّ وَشُبْهَةِ عِلَّةٍ، وَمَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا النَّسِيئَةُ مَالُ الرِّبَا مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْقَدْرَ يَجْمَعُهُمَا كَمَا فِي الْحِنْطَةِ مَعَ الشَّعِيرِ أَوْ الْجِنْسِ كَالْهَرَوِيِّ مَعَ الْهَرَوِيِّ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا نَقْدًا وَالْآخَرُ نَسِيئَةً وَكُلُّ عِلَّةٍ ذَاتُ وَصْفَيْنِ مُؤَثِّرَيْنِ لَا يَتِمُّ نِصَابُ الْعِلَّةِ إلَّا بِهِمَا فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا شُبْهَةُ الْعِلِّيَّةِ وَشُبْهَةُ الْعِلَّةِ تَثْبُتُ بِهَا شُبْهَةُ الْحُكْمِ وَالنَّقْدِيَّةُ أَوْجَبَتْ فَضْلًا فِي الْمَالِيَّةِ، فَتَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الرِّبَا فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ بِعِلَّةٍ صَالِحَةٍ لَهَا وَشُبْهَةُ الرِّبَا مَانِعَةٌ

ص: 11

وَلَنَا أَنَّهُ مَالُ الرِّبَا مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى الْقَدْرِ أَوْ الْجِنْسِ وَالنَّقْدِيَّةُ أَوْجَبَتْ فَضْلًا فِي الْمَالِيَّةِ فَتَتَحَقَّقَ شُبْهَةُ الرِّبَا وَهِيَ مَانِعَةٌ كَالْحَقِيقَةِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ النُّقُودَ فِي الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ يَجُوزُ، وَإِنْ جَمَعَهُمَا الْوَزْنُ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَّفِقَانِ

كَالْحَقِيقَةِ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا قِيلَ إنَّ كَوْنَهُ مِنْ مَالِ الرِّبَا مِنْ وَجْهٍ شُبْهَةٌ وَكَوْنُ النَّقْدِيَّةِ أَوْجَبَتْ فَضْلًا شُبْهَةٌ فَصَارَ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ، وَالشُّبْهَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا. وَالثَّانِي أَنَّ كَوْنَ شُبْهَةِ الرِّبَا كَالْحَقِيقَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، لَكِنَّهَا كَانَتْ جَائِزَةً فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الشُّبْهَةُ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأُولَى أَنَّ الشُّبْهَةَ الْأُولَى فِي الْمَحَلِّ وَالثَّانِيَةَ فِي الْحُكْمِ.

وَثَمَّةَ شُبْهَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الَّتِي فِي الْعِلَّةِ وَشُبْهَةُ الْعِلَّةِ وَالْمَحَلِّ تَثْبُتُ بِهَا شُبْهَةُ الْحُكْمِ لَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ. وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْقِسْمَةَ غَيْرُ حَاصِرَةٍ بَلْ الشُّبْهَةُ مَانِعَةٌ فِي مَحَلِّ الشُّبْهَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، كَمَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ مَانِعَةٌ فِي مَحَلِّهَا إذَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ بِكَمَالِهَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله لَمْ يَسْتَدِلَّ لِلْجَانِبَيْنِ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ الشَّارِحِينَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَهَّزَ جَيْشًا فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ إلَى أَجَلٍ» لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله وَبِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً» لَنَا. فَالْجَوَابُ أَنَّ جَهَالَةَ التَّارِيخِ وَتَطَرُّقَ الِاحْتِمَالَاتِ لِلتَّأْوِيلِ مَنَعَاهُ عَنْ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى حُرْمَةِ النَّسَاءِ فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِهِ أَوْلَى مِنْ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَصْمَ إنْ سَلَّمَ الْإِجْمَاعَ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ إنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى النَّسَاءِ فِي كَمَالِ الْعِلَّةِ لَا فِي شُبْهَتِهَا. وَقَوْلُهُ: (إلَّا أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا وَعَدِمَ الْآخَرُ حَلَّ

ص: 12

فِي صِفَةِ الْوَزْن، فَإِنَّ الزَّعْفَرَانَ يُوزَنُ بِالْأَمْنَاءِ وَهُوَ مُثَمَّنٌ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالنُّقُودُ تُوزَنُ بِالسَّنَجَاتِ وَهُوَ ثَمَنٌ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.

وَلَوْ بَاعَ بِالنُّقُودِ مُوَازَنَةً وَقَبَضَهَا صَحَّ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْوَزْنِ، وَفِي الزَّعْفَرَانِ وَأَشْبَاهِهِ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِيهِ صُورَةً وَمَعْنًى وَحُكْمًا لَمْ يَجْمَعْهُمَا الْقَدْرُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَنْزِلُ الشُّبْهَةُ فِيهِ إلَى شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ.

التَّفَاضُلُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ إسْلَامِ النُّقُودِ فِي الزَّعْفَرَانِ لِوُجُودِ الْوَزْنِ كَإِسْلَامِ الْحَدِيدِ فِي الصُّفْرِ فَاسْتُثْنِيَ الزَّعْفَرَانُ وَنَحْوُهُ كَالْقُطْنِ وَالْحَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ جَمَعَهُمَا الْوَزْنُ لَكِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي صِفَةِ الْوَزْنِ وَمَعْنَاهُ وَحُكْمِهِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الزَّعْفَرَانَ يُوزَنُ بِالْأَمْنَاءِ وَالنُّقُودُ بِالصَّنَجَاتِ وَهِيَ مُعَرَّبَةُ سنك تَرَزُونِ. وَنُقِلَ عَنْ الْفَرَّاءِ أَنَّ السِّينَ أَفْصَحُ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ السِّكِّيتِ الصَّنَجَاتُ وَلَا يُقَالُ بِالسِّينِ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الزَّعْفَرَانَ مُثَمَّنٌ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَالنُّقُودَ ثَمَنٌ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ بِالنُّقُودِ مُوَازَنَةً بِأَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت هَذَا الزَّعْفَرَانَ بِهَذَا النَّقْدِ الْمُشَارِ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مَثَلًا فَقَبَضَهُ الْبَائِعُ صَحَّ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْوَزْنِ. وَلَوْ بَاعَ الزَّعْفَرَانَ بِشَرْطِ أَنَّهُ مَنَوَانِ مَثَلًا وَقَبِلَهُ الْمُشْتَرِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ حَتَّى يُعِيدَ الْوَزْنَ (وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْوَزْنِ صُورَةً وَمَعْنًى وَحُكْمًا لَمْ يَجْمَعْهُمَا الْقَدْرُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَنْزِلُ الشُّبْهَةُ فِيهِ إلَى شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ) فَإِنَّ الْمَوْزُونَيْنِ إذَا اتَّفَقَا فَالْمَنْعُ لِلشُّبْهَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّفِقَا كَانَ ذَلِكَ لِشُبْهَةِ الْوَزْنِ وَالْوَزْنُ وَحْدَهُ شُبْهَةٌ فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ (وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ) لَا يُقَالُ: لَمْ يَخْرُجَا بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِمَا مَوْزُونَيْنِ فَقَدْ جَمَعَهُمَا الْوَزْنُ؛ لِأَنَّ انْطِلَاقَ الْوَزْنِ عَلَيْهِمَا حِينَئِذٍ لِلِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لَيْسَ إلَّا، وَهُوَ لَا يُفِيدُ الِاتِّحَادَ بَيْنَهُمَا فَصَارَ كَأَنَّ الْوَزْنَ لَمْ يَجْمَعْهُمَا حَقِيقَةً. وَفِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله تَسَامُحٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِذَا اخْتَلَفَا صُورَةً وَلَمْ يَخْتَلِفَا صُورَةً، وَلِهَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: بَلْ نَقُولُ اتِّفَاقُهُمَا فِي الْوَزْنِ صُورَةً لَا مَعْنًى وَحُكْمًا، إلَّا إذَا حُمِلَ قَوْلُهُ: صُورَةً عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ صِفَةً كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ التَّعْلِيلِ فِي صِفَةِ الْوَزْنِ فَذَاكَ اعْتِبَارٌ زَائِدٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ.

وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ فِي وَجْهِ ذَلِكَ: إنَّمَا جَازَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ فِي السَّلَمِ وَالْأَصْلُ فِي رَأْسِ الْمَالِ هُوَ النُّقُودُ، فَلَوْ لَمْ يُجَوَّزْ لِوُجُودِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ لَا نَسُدُّ بَابَ السَّلَمِ فِي الْمَوْزُونَاتِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ، فَأَثَّرَ شَرْعُ الرُّخْصَةِ

ص: 13

قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ كَيْلًا فَهُوَ مَكِيلٌ

فِي التَّجْوِيزِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ الْفَرْقِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَلَكِنَّ هَذَا كَلَامُ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْعِلَلِ وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ.

(قَالَ وَكُلُّ شَيْءٍ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ كَيْلًا) كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ

ص: 14

أَبَدًا، وَإِنَّ تَرَكَ النَّاسُ الْكَيْلَ فِيهِ مِثْلَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ وَكُلُّ مَا نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ وَزْنًا فَهُوَ مَوْزُونٌ أَبَدًا، وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الْوَزْنَ فِيهِ مِثْلُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنْ الْعُرْفِ وَالْأَقْوَى لَا يُتْرَكُ بِالْأَدْنَى (وَمَا لَمْ يَنُصُّ عَلَيْهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَادَاتِ النَّاسِ) لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ عَلَى خِلَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ لِمَكَانِ الْعَادَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمَنْظُورُ إلَيْهَا وَقَدْ تَبَدَّلَتْ، فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ بِجِنْسِهَا

فَهُوَ مَكِيلٌ أَبَدًا وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الْكَيْلَ فِيهِ وَكُلُّ مَا نَصَّ عَلَى التَّحْرِيمِ فِيهِ وَزْنًا) كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (فَهُوَ مَوْزُونٌ أَبَدًا)؛ لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنْ الْعُرْفِ لِكَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى مَنْ تَعَارَفَ وَعَلَى مَنْ لَمْ يَتَعَارَفْ، وَالْعُرْفُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إلَّا عَلَى مَنْ تَعَارَفَ بِهِ، وَالْأَقْوَى لَا يُتْرَكُ بِالْأَدْنَى (وَمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَادَاتِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهَا) أَيْ عَادَاتِ النَّاسِ (دَلَالَةٌ) عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ فِيمَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله اعْتِبَارُ الْعُرْفِ عَلَى خِلَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ عَلَى الْكَيْلِ فِي الْمَكِيلِ وَالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إنَّمَا كَانَ لِلْعَادَةِ فِيهِ، فَكَانَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ هُوَ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَدْ تَبَدَّلَتْ فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ عَلَى وِفَاقِ ذَلِكَ (وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ بَاعَ حِنْطَةً بِجِنْسِهَا

ص: 15

مُتَسَاوِيًا وَزْنًا، أَوْ الذَّهَبَ بِجِنْسِهِ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ تَعَارَفُوا ذَلِكَ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ عَلَى مَا هُوَ الْمِعْيَارُ فِيهِ، كَمَا إذَا بَاعَ مُجَازَفَةً إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِسْلَامُ فِي الْحِنْطَةِ وَنَحْوِهَا وَزْنًا لِوُجُودِ الْإِسْلَامِ فِي مَعْلُومٍ.

قَالَ (وَكُلُّ مَا يُنْسَبُ إلَى الرَّطْلِ فَهُوَ وَزْنِيٌّ) مَعْنَاهُ مَا يُبَاعُ بِالْأَوَاقِيِ لِأَنَّهَا قُدِّرَتْ بِطَرِيقِ الْوَزْنِ حَتَّى يُحْتَسَبَ مَا يُبَاعُ بِهَا وَزْنًا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَكَايِيلِ، وَإِذَا كَانَ مَوْزُونًا فَلَوْ بِيعَ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ وَزْنُهُ بِمِكْيَالٍ مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ فِي الْوَزْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَازَفَةِ.

مُتَسَاوِيًا وَزْنًا أَوْ ذَهَبًا بِجِنْسِهِ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا) جَازَ عِنْدَهُ إذَا تَعَارَفُوا ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنْ تَعَارَفُوهُ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ عَلَى مَا هُوَ الْمِعْيَارُ فِيهِ كَمَا إذَا بَاعَ مُجَازَفَةً، لَكِنْ يَجُوزُ الْإِسْلَامُ فِي الْحِنْطَةِ وَنَحْوِهَا وَزْنًا عَلَى مَا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ لِوُجُودِ الْإِسْلَامِ فِي مَعْلُومٍ، فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ لَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةٍ فِيهِ، إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْإِعْلَامُ عَلَى وَجْهٍ يَنْفِي الْمُنَازَعَةَ فِي التَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ كَمَا يَحْصُلُ بِالْكَيْلِ يَحْصُلُ بِذِكْرِ الْوَزْنِ، وَذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَكَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ لِمَكَانِ الْعَادَةِ وَكَانَتْ هِيَ الْمَنْظُورَ إلَيْهَا وَقَدْ تَبَدَّلَتْ) أَقُولُ: اسْتِقْرَاضُ الدَّرَاهِمِ عَدَدًا وَبَيْعُ الدَّقِيقِ وَزْنًا عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي زَمَانِنَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ.

قَالَ (وَكُلُّ مَا يُنْسَبُ إلَى الرِّطْلِ فَهُوَ وَزْنِيٌّ) الرِّطْلُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ نِصْفٌ مَنٍّ، وَالْأَوَاقِي جَمْعُ أُوقِيَّةٍ كَأُثْفِيَّةٍ وَإِثَافٍ. قِيلَ هِيَ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ: وَذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَكُلُّ مَا يُبَاعُ بِالْأَوَاقِيِ

ص: 16

قَالَ (وَعَقْدُ الصَّرْفِ مَا وَقَعَ عَلَى جِنْسِ الْأَثْمَانِ يُعْتَبَرُ فِيهِ قَبْضُ عِوَضَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ)

فَهُوَ وَزْنِيٌّ؛ لِأَنَّهَا قُدِّرَتْ بِطَرِيقِ الْوَزْنِ، إذْ تَعْدِيلُهَا إنَّمَا يَكُونُ بِالْوَزْنِ وَلِهَذَا يُحْتَسَبُ مَا يُبَاعُ بِالْأَوَاقِيِ وَزْنًا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَكَايِيلِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهَا قُدِّرَتْ: يَعْنِي أَنَّ سَائِرَ الْمَكَايِيلِ لَوْ تُقَدَّرُ بِالْوَزْنِ فَلَا يَكُونُ لِلْوَزْنِ فِيهِ اعْتِبَارٌ، وَعَلَى هَذَا إذَا بِيعَ الْمَوْزُونُ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ وَزْنُهُ بِمِكْيَالٍ مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ فِي الْوَزْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَازَفَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلًا جَازَ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ وَزْنُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا عُرِفَ وَزْنُهُ جَازَ.

قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهِ كَيْلُ الرِّطْلِ فَهُوَ مَوْزُونٌ، ثُمَّ قَالَ: يُرِيدُ بِهِ الْأَدْهَانَ وَنَحْوَهَا؛ لِأَنَّ الرِّطْلَ إنَّمَا يُعْدَلُ بِالْوَزْنِ إلَّا أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَزْنُ الدُّهْنِ بِالْأَمْنَاءِ وَالسَّنَجَاتِ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَمْسِكُ إلَّا فِي وِعَاءٍ وَفِي وَزْنِ كُلِّ وِعَاءٍ حَرَجٌ، فَاُتُّخِذَ الرِّطْلُ فِي ذَلِكَ تَيْسِيرًا، فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ الرِّطْلِ بَيْعٌ مَوْزُونٌ فَجَازَ بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِهِ، وَالْإِسْلَامُ فِيهِ بِذِكْرِ الْوَزْنِ.

قَالَ (وَعَقْدُ الصَّرْفِ مَا وَقَعَ عَلَى جِنْسِ الْأَثْمَانِ إلَخْ) عَقْدُ الصَّرْفِ مَا وَقَعَ عَلَى جِنْسِ الْأَثْمَانِ وَهِيَ النُّقُودُ يُعْتَبَرُ فِيهِ قَبْضُ عِوَضَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ. قَوْلُهُ: (يُعْتَبَرُ فِيهِ) خَبَرٌ ثَانٍ

ص: 17

لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ هَاءَ وَهَاءَ» مَعْنَاهُ يَدًا بِيَدٍ، وَسَنُبَيِّنُ الْفِقْهَ فِي الصَّرْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ (وَمَا سِوَاهُ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّعْيِينُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّقَابُضُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ).

لَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «يَدًا بِيَدٍ» وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقْبَضْ فِي الْمَجْلِسِ فَيَتَعَاقَبُ الْقَبْضُ وَلِلنَّقْدِ مَزِيَّةٌ

لِقَوْلِهِ عَقْدُ الصَّرْفِ؛ وَمَعْنَى يُعْتَبَرُ يَجِبُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ هَاءَ وَهَاءَ» مَعْنَاهُ يَدًا بِيَدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْوُجُوبِ. وَهَاءَ مَمْدُودٌ عَلَى وَزْنِ هَاعَ وَمَعْنَاهُ خُذْ: أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ هَاءَ فَيَتَقَابَضَانِ، وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ يَدًا بِيَدٍ جَرًّا إلَى إفَادَةِ مَعْنَى التَّعْيِينِ كَمَا نُبَيِّنُ (وَمَا سِوَى جِنْسِ الْأَثْمَانِ) مِنْ الرِّبَوِيَّاتِ (يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّعْيِينُ دُونَ الْقَبْضِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ) أَيْ فِي كُلِّ مَطْعُومٍ سَوَاءٌ بِيعَ بِجِنْسِهِ كَبَيْعِ كَرِّ حِنْطَةٍ بِكَرِّ حِنْطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ كَكَرِّ حِنْطَةٍ بِشَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ، فَإِنَّهُ إذَا افْتَرَقَا لَا عَنْ قَبْضٍ فَسَدَ الْعَقْدُ عِنْدَهُ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «يَدًا بِيَدٍ» وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يَسْتَلْزِمُهَا لِكَوْنِهَا آلَةً لَهُ فَهِيَ كِنَايَةٌ، وَبِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقْبَضْ فِي الْمَجْلِسِ يَتَعَاقَبُ الْقَبْضُ وَلِلنَّقْدِ مَزِيَّةٌ. فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ الرِّبَا كَالْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ (وَلَنَا أَنَّهُ مَبِيعٌ مُتَعَيِّنٌ)؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَكُلُّ مَا هُوَ مُتَعَيِّنٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا أَيْ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ بِالْعَقْدِ إنَّمَا هِيَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّعْيِينِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبْضِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ الْقَبْضُ فِي الصَّرْفِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الصَّرْفِ، فَإِنَّ الْقَبْضَ فِيهِ يَتَعَيَّنُ بِهِ فَإِنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ.

قَوْلُهُ: (وَمَعْنَى قَوْلِ عليه الصلاة والسلام) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْخَصْمِ بِالْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مَعْنَاهُ عَيْنًا بِعَيْنٍ لَمْ يَبْقَ دَلِيلًا لَهُ عَلَى الْقَبْضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه «عَيْنًا بِعَيْنٍ» . وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ اشْتِرَاطَ التَّعْيِينِ وَالْقَبْضِ جَمِيعًا الْمَدْلُولَ عَلَيْهِمَا بِالرِّوَايَتَيْنِ مُنْتَفٍ بِالْإِجْمَاعِ الْمُرَكَّبِ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ التَّعْيِينُ دُونَ الْقَبْضِ وَأَمَّا عِنْدَهُ فَبِالْعَكْسِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَقَوْلُهُ:(يَدًا بِيَدٍ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّهُ آلَتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنْ يَكُونَ

ص: 18

فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ الرِّبَا.

وَلَنَا أَنَّهُ مَبِيعٌ مُتَعَيَّنٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ كَالثَّوْبِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ إنَّمَا هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَيَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى التَّعْيِينِ، بِخِلَافِ الصَّرْفِ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ لِيَتَعَيَّنَ بِهِ؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يَدًا بِيَدٍ» عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَكَذَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه، وَتَعَاقُبُ الْقَبْضِ لَا يُعْتَبَرُ تَفَاوُتًا فِي الْمَالِ عُرْفًا، بِخِلَافِ النَّقْدِ وَالْمُؤَجَّلِ.

التَّعْيِينَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ (وَقَوْلُهُ: عَيْنًا بِعَيْنٍ) مُحْكَمٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلُ عَلَى الْمُحْكَمِ، وَلَا يُقَالُ لَزِمَكُمْ الْعَمَلُ بِعُمُومِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؛ لِأَنَّكُمْ جَعَلْتُمْ يَدًا بِيَدٍ بِمَعْنَى الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ وَبِمَعْنَى الْعَيْنِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ جَعَلْنَاهُ فِي الصَّرْفِ بِمَعْنَى الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِيهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْعَيْنِ فِي الْمَحَالِّ كُلِّهَا، لَكِنَّ تَعْيِينَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ. وَنُوقِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَعْنَى التَّعْيِينِ لَمَا شُرِطَ الْقَبْضُ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ بِيعَ بِإِنَاءٍ مِثْلِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَعْيِينُ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّ الْإِنَاءَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَكُمْ لَكِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَإِنْ تَعَيَّنَ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ ثَمَنًا خِلْقَةً كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ التَّعْيِينِ، وَالشُّبْهَةُ فِي الرِّبَا كَالْحَقِيقَةِ فَاشْتُرِطَ الْقَبْضُ دَفْعًا لَهَا.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ إنَّمَا هُوَ عَلَى طَرِيقَتِكُمْ فِي أَنَّ الْأَثْمَانَ لَا تَتَعَيَّنُ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَيْسَ بِقَائِلٍ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُلْزِمًا.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ بِطَرِيقِ الْمُبَادِي هَاهُنَا لِثُبُوتِهِ بِالدَّلَائِلِ الْمُلْزِمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ (قَوْلُهُ: وَتَعَاقُبُ الْقَبْضِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقْبَضْ فِي الْمَجْلِسِ. وَوَجَّهَهُ الْمَانِعُ تَعَاقُبٌ يُعَدُّ تَفَاوُتًا فِي الْمَالِيَّةِ عُرْفًا كَمَا فِي النَّقْدِ وَالْمُؤَجَّلِ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التُّجَّارَ لَا يَفْصِلُونَ فِي الْمَالِيَّةِ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا مُعَيَّنًا.

ص: 19

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَتَيْنِ وَالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَتَيْنِ وَالْجَوْزَةِ بِالْجَوْزَتَيْنِ) لِانْعِدَامِ الْمِعْيَارِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا.

وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ لِوُجُودِ الطَّعْمِ عَلَى مَا مَرَّ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ فَلَا تَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا، وَإِذَا بَقِيَتْ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا وَكَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَتَيْنِ إلَخْ) بَيْعُ الْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا جَائِزٌ إنْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ لِانْعِدَامِ الْمِعْيَارِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ. فَإِنْ قِيلَ: الْجَوْزُ وَالْبَيْضُ وَالتَّمْرُ جُعِلَتْ أَمْثَالًا فِي ضَمَانِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ فَكَيْفَ يَجُوزُ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ التَّمَاثُلَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى إهْدَارِ التَّفَاوُتِ فَيُعْمَلُ بِذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ وَهُوَ ضَمَانُ الْعُدْوَانِ.

وَأَمَّا الرِّبَا فَهُوَ حَقُّ الشَّارِعِ فَلَا يُعْمَلُ فِيهِ بِاصْطِلَاحِهِمْ فَتُعْتَبَرُ الْحَقِيقَةُ وَهِيَ فِيهَا مُتَفَاوِتَةٌ صِغَرًا وَكِبَرًا. وَخَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ فِيهِ لِوُجُودِ الطَّعْمِ عَلَى مَا مَرَّ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا إلَخْ) بَيْعُ الْفَلْسِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا عَلَى أَوْجُهٍ أَرْبَعَةٍ: بَيْعُ فَلْسٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا. وَبَيْعُ فَلْسٍ بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا. وَبَيْعُ فَلْسٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا. وَبَيْعُ فَلْسٍ بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا. وَالْكُلُّ فَاسِدٌ سِوَى الْوَجْهِ الرَّابِعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ قَطْعًا لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى إهْدَارِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْهَا فَيَكُونُ أَحَدُ الْفَلْسَيْنِ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ وَهُوَ الرِّبَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَمْسَكَ الْبَائِعُ الْفَلْسَ الْمُعَيَّنَ وَطَلَبَ الْآخَرَ وَهُوَ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ قَبْضُ الْبَائِعِ لِلْفَلْسَيْنِ وَرَدَّ إلَيْهِ أَحَدُهُمَا مَكَانَ مَا اسْتَوْجَبَهُ فِي ذِمَّتِهِ فَيَبْقَى الْآخَرُ لَهُ بِلَا عِوَضٍ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ

ص: 20

وَلَهُمَا أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِهِمَا إذْ لَا وِلَايَةَ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِمَا فَتَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا وَإِذَا بَطَلَتْ الثَّمَنِيَّةَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَلَا يَعُودُ وَزْنِيًّا لِبَقَاءِ الِاصْطِلَاحِ عَلَى الْعَدِّ إذْ فِي نَقْضِهِ فِي حَقِّ الْعَدِّ فَسَادُ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْجَوْزَةِ بِالْجَوْزَتَيْنِ

فَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي الْفَلْسِ تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ، وَمَا يَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ لَا يَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا لِعَدَمِ وِلَايَتِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا فَبَقِيَتْ أَثْمَانًا وَهِيَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا وَصَارَ كَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ.

وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ مَا دَامَتْ رَائِجَةً لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ حَتَّى لَوْ قُوبِلَتْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا كَمَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِفُلُوسٍ مُعَيَّنَةٍ فَهَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (وَلَهُمَا أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِهِمَا إذْ لَا وِلَايَةَ لِغَيْرِهِمَا عَلَيْهِمَا) وَمَا ثَبَتَ بِاصْطِلَاحِهِمَا فِي حَقِّهِمَا يَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا كَذَلِكَ.

وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهَا إذَا كَسَدَتْ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ لَا تَكُونُ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ عُرُوضًا أَيْضًا بِاصْطِلَاحِهِمَا إذَا كَانَ الْكُلُّ مُتَّفِقًا عَلَى ثَمَنِيَّتِهَا سِوَاهُمَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفُلُوسِ أَنْ تَكُونَ عُرُوضًا، فَاصْطِلَاحُهُمَا عَلَى الثَّمَنِيَّةِ بَعْدَ الْكَسَادِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِهِمَا لِوُقُوعِهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.

وَأَمَّا إذَا اصْطَلَحَا عَلَى كَوْنِهِمَا عُرُوضًا كَانَ ذَلِكَ عَلَى وِفَاقِ الْأَصْلِ فَكَانَ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ مَنْ سِوَاهُمَا مُتَّفِقِينَ عَلَى الثَّمَنِيَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي قَوْلَهُ إنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِهِمَا إذْ لَا وِلَايَةَ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِمَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ قَبْلَ الْكَسَادِ تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِهِمَا، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَنْ سِوَاهُمَا مُتَّفِقِينَ عَلَى الثَّمَنِيَّةِ، وَإِذَا بَطَلَتْ الثَّمَنِيَّةُ فَلِعَوْدِهَا عُرُوضًا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا عَادَتْ عَرْضًا عَادَتْ وَزْنِيَّةً فَكَانَ بَيْعَ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ وَمِنْ بَيْعِ قِطْعَةِ صُفْرٍ بِقِطْعَتَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بِقَوْلِهِ وَلَا يَعُودُ وَزْنِيًّا؛ لِأَنَّهُمَا بِالْإِقْدَامِ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ وَمُقَابَلَةِ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ أَعْرَضَا عَنْ اعْتِبَارِ الثَّمَنِيَّةِ دُونَ الْعَدِّ حَيْثُ لَمْ يَرْجِعَا إلَى الْوَزْنِ وَلَمْ يَكُنْ الْعَدُّ مَلْزُومَ الثَّمَنِيَّةِ حَتَّى يَنْتَفِيَ بِانْتِفَائِهَا فَبَقِيَ مَعْدُودًا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى بَقَاءِ الِاصْطِلَاحِ فِي حَقِّ الْعَدِّ بِقَوْلِهِ إذْ فِي نَقْضِهِ: يَعْنِي الِاصْطِلَاحَ فِي حَقِّ الْعَدِّ فَسَادَ الْعَقْدِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعَى الْخَصْمِ وَلَوْ ضُمَّ إلَى ذَلِكَ وَالْأَصْلُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ الْأَصْلُ حَمْلُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا مُطْلَقًا أَوْ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي لَا يُفِيدُ (قَوْلُهُ: فَصَارَ كَالْجَوْزَةِ بِالْجَوْزَتَيْنِ) بَيَانٌ لِانْفِكَاكِ الْعَدَدِيَّةِ عَنْ

ص: 21

بِخِلَافِ النُّقُودِ لِأَنَّهَا لِلثَّمَنِيَّةِ خِلْقَةٌ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا لِأَنَّهُ كَالِئٌ بِالْكَالِئِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لِأَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ.

الثَّمَنِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: (بِخِلَافِ النُّقُودِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ؛ لِأَنَّهَا لِلثَّمَنِيَّةِ خِلْقَةً لَا اصْطِلَاحًا فَلَا تَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا. وَقَوْلُهُ: (وَبِخِلَافِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ كَمَا إذْ كَانَ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِكَوْنِهِ كَالِئًا بِكَالِئٍ: أَيْ نَسِيئَةً بِنَسِيئَةٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ (قَوْلُهُ: وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ) جَوَابٌ عَنْ الْقِسْمَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ؛ لِأَنَّ

ص: 22

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ وَلَا بِالسَّوِيقِ) لِأَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَاقِيَةٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ وَالْمِعْيَارُ فِيهِمَا الْكَيْلُ، لَكِنَّ الْكَيْلَ غَيْرُ مُسَوٍّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحِنْطَةِ لِاكْتِنَازِهِمَا فِيهِ وَتَخَلْخُلِ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ كَيْلًا بِكَيْلٍ

(وَيَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ مُتَسَاوِيًا كَيْلًا) لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ

عَدَمَ الْجَوَازِ ثَمَّةَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ) بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ أَوْ بِالسَّوِيقِ لَا يَجُوزُ مُتَسَاوِيًا وَلَا مُتَفَاضِلًا لِشُبْهَةِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهَا مَكِيلَةٌ، وَالْمُجَانَسَةُ بَاقِيَةٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُمَا أَيْ الدَّقِيقَ وَالسَّوِيقَ مِنْ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ الطَّحْنَ لَمْ يُؤَثِّرْ إلَّا فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ، وَالْمُجْتَمِعُ لَا يَصِير بِالتَّفْرِيقِ شَيْئًا آخَرَ زَائِلَةٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ بِاخْتِلَافِ الِاسْمِ وَالصُّورَةِ وَالْمَعَانِي كَمَا بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَقَدْ زَالَ الِاسْمُ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَبَدَّلَتْ الصُّورَةُ وَاخْتَلَفَتْ الْمَعَانِي، فَإِنَّ مَا يَبْتَغِي مِنْ الْحِنْطَةِ لَا يَبْتَغِي مِنْ الدَّقِيقِ، فَإِنَّهَا تَصْلُحُ لِاِتِّخَاذِ الْكِشْكِ وَالْهَرِيسَةِ وَغَيْرِهِمَا دُونَ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ.

وَرِبَا الْفَضْلِ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَالْحِنْطَةِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الطَّحْنِ وَبِصَيْرُورَتِهِ دَقِيقًا زَالَتْ الْمُجَانَسَةُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهِ وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّقِيقُ حِنْطَةً أَوْ لَا، وَالثَّانِي يُوجِبُ الْجَوَازَ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا لَا مَحَالَةَ، وَالْأَوَّلُ يُوجِبُ الْجَوَازَ إذَا كَانَ مُتَسَاوِيًا كَذَلِكَ. أَجَابَ بِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ إنَّمَا تَكُونُ بِالْكَيْلِ وَالْكَيْلُ غَيْرُ مُسَوٍّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحِنْطَةِ لِاكْتِنَازِهِمَا فِيهِ وَتَخَلْخُلِ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ فَصَارَ

ص: 23

(وَبَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُتَفَاضِلًا، وَلَا مُتَسَاوِيًا) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْمَقْلِيَّةِ وَلَا بَيْعُ السَّوِيقِ بِالْحِنْطَةِ، فَكَذَا بَيْعُ أَجْزَائِهِمَا لِقِيَامِ الْمُجَانَسَةِ مِنْ وَجْهٍ.

وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ.

كَالْمُجَازَفَةِ فِي احْتِمَالِ الزِّيَادَةِ (فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ كَيْلًا بِكَيْلٍ) قَبْلَ حُرْمَةِ الرِّبَا حُرْمَةٌ تَتَنَاهَى بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْأَصْلِ، وَعَلَى مَا ذَكَرْتُمْ فِي هَذَا الْفَرْعِ تَثْبُتُ حُرْمَةٌ لَا تَتَنَاهَى فَصَارَ مِثْلَ ظِهَارِ الذِّمِّيِّ عَلَى مَا عُرِفَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا تَتَنَاهَى بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْحِنْطَةِ أَوْ فِي الشُّبْهَةِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ فَإِنَّ حُرْمَةَ النَّسَاءِ لَا تَتَنَاهَى بِالْمُسَاوَاةِ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الثَّانِي. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْحُرْمَةُ تَتَنَاهَى بِالْمُسَاوَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهَا، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا تَتَحَقَّقُ.

وَيَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ مُتَسَاوِيًا كَيْلًا بِكَيْلٍ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ وُجُودُ الْمُسَوِّي وَمُتَسَاوِيًا وَكَيْلًا بِكَيْلٍ، قِيلَ حَالَانِ مُتَدَاخِلَانِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْأَوَّلِ بَيْعُ وَفِي الثَّانِي مُتَسَاوِيًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مُتَرَادِفَيْنِ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الثَّانِيَةِ نَفْيُ تَوَهُّمِ جَوَازِ الْمُسَاوَاةِ وَزْنًا حُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ رحمه الله أَنَّ بَيْعَ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ إذَا تَسَاوَيَا كَيْلًا إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَا مَكْبُوسَيْنِ.

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُتَسَاوِيًا وَلَا مُتَفَاضِلًا؛ لِأَنَّ الدَّقِيقَ أَجْزَاءُ حِنْطَةٍ غَيْرُ مَقْلِيَّةٍ وَالسَّوِيقُ أَجْزَاؤُهَا مَقْلِيَّةٌ فَكَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَجْزَاءِ بَعْضٍ بِالْآخَرِ لِقِيَامِ الْمُجَانَسَةِ مِنْ وَجْهٍ فَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَجْزَاءِ بَعْضٍ بِأَجْزَاءِ بَعْضٍ آخَرَ. وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ

ص: 24

قُلْنَا: مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّغَذِّي يَشْمَلُهُمَا فَلَا يُبَالَى بِفَوَاتِ الْبَعْضِ كَالْمَقْلِيَّةِ مَعَ غَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ وَالْعِلْكَةِ بِالْمُسَوِّسَةِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا بَاعَهُ بِلَحْمٍ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَجُوزُ

إذْ هُوَ بِالدَّقِيقِ اتِّخَاذُ الْخُبْزِ وَالْعَصَائِدِ وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالسَّوِيقِ بَلْ الْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يُلَتَّ بِالسَّمْنِ أَوْ الْعَسَلِ أَوْ يُشْرَبَ بِالْمَاءِ، وَكَذَلِكَ الِاسْمُ «وَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» .

وَالْجَوَابُ أَنَّ مُعْظَمَ الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّغَذِّي يَشْمَلُهُمَا وَفَوَاتُ الْبَعْضِ لَا يَضُرُّ كَالْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ (وَالْعِلْكَةُ بِالْمُسَوِّسَةِ) الَّتِي أَكَلَهَا السُّوسُ وَالْمَقْلِيَّةُ هِيَ الْمَشْوِيَّةُ مِنْ قَلَى يَقْلِي إذَا شَوَى، وَيَجُوزُ مَقْلُوَّةٌ مِنْ قَلَا يَقْلُو، وَالْعِلْكَةُ هِيَ الْجَيِّدَةُ الَّتِي تَكُونُ كَالْعِلْكِ مِنْ صَلَابَتِهَا تَمْتَدُّ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، وَالسُّوسَةُ الْعُثَّةُ، وَهِيَ دُودَةٌ تَقَعُ فِي الصُّوفِ وَالثِّيَابِ وَالطَّعَامِ، وَمِنْهُ حِنْطَةٌ مُسَوِّسَةٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ) بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا مَا إذَا بَاعَهُ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَمَا إذَا بَاعَ لَحْمَ الْبَقَرِ بِالشَّاةِ مَثَلًا وَهُوَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ كَمَا فِي اللُّحْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ. وَمِنْهَا مَا إذَا بَاعَهُ الْحَيَوَانَ مِنْ جِنْسِهِ كَمَا إذَا بَاعَ لَحْمَ الشَّاةِ بِالشَّاةِ لَكِنَّهَا مَذْبُوحَةٌ مَفْصُولَةٌ عَنْ السَّقَطِ، وَهُوَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ إنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْوَزْنِ وَإِلَّا فَلَا. وَمِنْهَا مَا إذَا بَاعَهُ بِجِنْسِهِ مَذْبُوحًا غَيْرَ مَفْصُولٍ عَنْ السَّقَطِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ الْمَفْصُولُ أَكْثَرَ وَهُوَ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ.

وَمِنْهَا مَا إذَا بَاعَهُ بِجِنْسِهِ حَيًّا وَهُوَ مَسْأَلَةُ

ص: 25

إلَّا إذَا كَانَ اللَّحْمُ الْمُفْرَزُ أَكْثَرَ لِيَكُونَ اللَّحْمُ بِمُقَابَلَةِ مَا فِيهِ مِنْ اللَّحْمِ وَالْبَاقِي بِمُقَابَلَةِ السَّقْطِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا مِنْ حَيْثُ زِيَادَةُ السَّقْطِ أَوْ مِنْ حَيْثُ زِيَادَةُ اللَّحْمِ فَصَارَ كَالْخَلِّ بِالسِّمْسِمِ.

وَلَهُمَا أَنَّهُ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ،

الْكِتَابِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ (إلَّا إذَا كَانَ اللَّحْمُ الْمُفْرَزُ أَكْثَرَ لِيَكُونَ اللَّحْمُ بِمُقَابَلَةِ مَا فِيهِ مِنْ اللَّحْمِ وَالْبَاقِي بِمُقَابَلَةِ السَّقَطِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَتَحَقَّقَ الرِّبَا) إمَّا (مِنْ حَيْثُ زِيَادَةُ السَّقَطِ أَوْ مِنْ حَيْثُ زِيَادَةُ اللَّحْمِ) وَالْقِيَاسُ مَعَهُ لِوُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ (فَصَارَ كَالْحَلِّ) أَيْ الشَّيْرَجِ (بِالسِّمْسِمِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ)؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ مَوْزُونٌ لَا مَحَالَةَ، وَالْحَيَوَانُ لَا يُوزَنُ عَادَةً وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ثِقَلِهِ وَخِفَّتِهِ بِالْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ يُخَفِّفُ نَفْسَهُ مَرَّةً وَيُثْقِلُ أُخْرَى يَضْرِبُ قُوَّةً فِيهِ فَلَا يُدْرَى أَنَّ الشَّاةَ خَفَّفَتْ نَفْسَهَا أَوْ ثَقَّلَتْ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحَلِّ بِالسِّمْسِمِ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِي الْحَلِّ يُعْرَفُ قَدْرُ الدُّهْنِ إذَا مُيِّزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّجِيرِ يُوزَنُ الثَّجِيرُ وَهُوَ ثِقَلُهُ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ السِّمْسِمَ لَا يُوزَنُ عَادَةً كَالْحَيَوَانِ فَقَالَ لَكِنْ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِالْوَزْنِ وَلَا كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَزْنَ يَشْمَلُ الْحَلَّ وَالسِّمْسِمَ عِنْدَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الدُّهْنِ وَالثَّجِيرِ وَلَا يَشْمَلُ اللَّحْمَ وَالْحَيَوَانَ بِحَالٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَلَّ وَالسِّمْسِمَ يُوزَنَانِ ثُمَّ يُمَيَّزُ الثَّجِيرُ وَيُوزَنُ فَيُعْرَفُ قَدْرُ الْحَلِّ مِنْ السِّمْسِمِ، وَالْحَيَوَانُ لَا يُوزَنُ فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى

ص: 26

لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُوزَنُ عَادَةً وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ثِقَلِهِ بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ يُخَفِّفُ نَفْسَهُ مَرَّةً بِصَلَابَتِهِ وَيَثْقُلُ أُخْرَى، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِي الْحَالِ يُعَرِّفُ قَدْرَ الدُّهْنِ إذَا مِيزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّجِيرِ، وَيُوزَنُ الثَّجِيرُ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَا: لَا يَجُوزُ «لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام حِينَ سُئِلَ عَنْهُ أَوَ يَنْقُصُ إذَا جَفَّ؟ فَقِيلَ نَعَمْ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: لَا إذًا»

إذَا ذُبِحَ وَوُزِنَ السَّقَطُ وَهُوَ مَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّحْمِ كَالْجِلْدِ وَالْكَرِشِ وَالْأَمْعَاءِ وَغَيْرِهَا يُعْرَفُ بِهِ قَدْرُ اللَّحْمِ، فَكَانَ بَيْعُ اللَّحْمِ بِهِ بَيْعَ مَوْزُونٍ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ. وَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ الْجِنْسَيْنِ أَيْضًا، فَإِنَّ اللَّحْمَ غَيْرُ حَسَّاسٍ وَالْحَيَوَانُ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ وَالْبَيْعُ فِيهِ جَائِزٌ مُتَفَاضِلًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ وَلَمْ يَشْمَلْهُمَا الْوَزْنُ جَازَ الْبَيْعُ نَسِيئَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أُجِيبَ بِأَنَّ النَّسِيئَةَ إنْ كَانَتْ فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ فَهُوَ سَلَمٌ فِي الْحَيَوَانِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ فَهُوَ سَلَمٌ فِي اللَّحْمِ وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ.

(قَالَ وَيَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ) بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَمِثْلًا بِمِثْلٍ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ خَاصَّةً (وَقَالَا: لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ «سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَقَالَ أَيَنْقُصُ إذَا جَفَّ؟ فَقِيلَ نِعْمَ، قَالَ: لَا إذَا» أَيْ لَا يَجُوزُ عَلَى تَقْدِيرِ النُّقْصَانِ بِالْجَفَافِ. وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى اشْتِرَاطِ الْمُمَاثَلَةِ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْجَفَافِ وَبِالْكَيْلِ فِي الْحَالِ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: فَقَالَ عليه الصلاة والسلام) هُوَ الدَّلِيلُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ

ص: 27

وَلَهُ أَنَّ الرُّطَبَ تَمْرٌ «لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام حِينَ أُهْدَى إلَيْهِ رُطَبٌ أَوَ كُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا» سَمَّاهُ تَمْرًا.

وَبَيْعُ التَّمْرِ بِمِثْلِهِ جَائِزٌ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَمْرًا جَازَ الْبَيْعُ بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ تَمْرٍ فَبِآخِرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام

الْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَمَّى الرُّطَبَ تَمْرًا حِينَ أُهْدِيَ رُطَبًا فَقَالَ: أَوَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ وَبَيْعُ التَّمْرِ بِمِثْلِهِ جَائِزٌ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله لَمَّا دَخَلَ بَغْدَادَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَانُوا أَشِدَّاءَ عَلَيْهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْخَبَرَ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ الرُّطَبَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْرًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ تَمْرًا جَازَ الْعَقْدُ بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ: يَعْنِي قَوْلَهُ «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازَ بِقَوْلِهِ «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» فَأُورِدَ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدٍ فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ دَارَ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي النَّقْلَةِ. وَاسْتَحْسَنَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْهُ هَذَا الطَّعْنَ. سَلَّمْنَا قُوَّتَهُ فِي الْحَدِيثِ لَكِنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ لَا يُعَارَضُ بِهِ الْمَشْهُورُ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ التَّرْدِيدَ الْمَذْكُورَ يَقْتَضِي جَوَازَ بَيْعِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْلِيَّةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ حِنْطَةً فَتَجُوزُ بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ أَوْ لَا فَتَجُوزُ بِآخِرِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ كَلَامٌ حَسَنٌ فِي الْمُنَاظَرَةِ لِدَفْعِ شَغَبِ الْخَصْمِ، وَالْحُجَّةُ لَا تَتِمُّ بِهِ بَلْ بِمَا بَيَّنَّا مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ التَّمْرِ عَلَيْهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّمْرَ اسْمٌ لِثَمَرَةٍ خَارِجَةٍ مِنْ النَّخْلِ مِنْ حَيْثُ تَنْعَقِدُ صُورَتُهَا إلَى أَنْ تُدْرِكَ، وَالرُّطَبُ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنْهُ كَالْبَرْنِيِّ وَغَيْرِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ حِنْطَةٌ (قَوْلُهُ: فَيَجُوزُ بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ) قُلْنَا: إنَّمَا جَازَ أَنْ لَوْ ثَبَتَتْ

ص: 28

إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ وَمَدَارُ مَا رَوَيَاهُ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّقَلَةِ.

الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا كَيْلًا، وَلَا تَثْبُتُ لِمَا قِيلَ إنَّ الْقَلْيَ صَنْعَةٌ يُغْرَمُ عَلَيْهَا الْأَعْوَاضُ، فَصَارَ كَمَنْ بَاعَ قَفِيزًا بِقَفِيزٍ وَدِرْهَمٍ. لَا يُقَالُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى التَّفَاوُتِ فِي الصِّفَةِ وَهُوَ سَاقِطٌ كَالْجَوْدَةِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ الرَّاجِعَ إلَى صُنْعِ اللَّهِ سَاقِطٌ بِالْحَدِيثِ. وَأَمَّا الرَّاجِعُ إلَى صُنْعِ الْعِبَادِ فَمُعْتَبَرٌ بِدَلِيلِ اعْتِبَارِهِ بَيْنَ النَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، فَكُلُّ تَفَاوُتٍ يَنْبَنِي عَلَى صُنْعِ الْعِبَادِ فَهُوَ مُفْسِدٌ كَمَا فِي الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِهَا وَالْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ، وَكُلُّ تَفَاوُتٍ خِلْقِيٍّ فَهُوَ سَاقِطُ الْعِبْرَةِ كَمَا فِي الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ.

ص: 29

قَالَ (وَكَذَا الْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ) يَعْنِي عَلَى الْخِلَافِ وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ.

وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ اعْتِبَارًا بِالْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ، وَالرُّطَبُ بِالرُّطَبِ يَجُوزُ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا عِنْدَنَا لِأَنَّهُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَكَذَا بَيْعُ الْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ أَوْ الْمَبْلُولَةِ بِمِثْلِهَا أَوْ بِالْيَابِسَةِ، أَوْ التَّمْرُ أَوْ الزَّبِيبُ الْمُنْقَعُ بِالْمُنْقَعِ مِنْهُمَا مُتَمَاثِلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله لَا يَجُوزُ جَمِيعُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ الْمَالُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يَعْتَبِرُهُ فِي الْحَالِ،

وَالْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، وَلَعَلَّهُ عَبَّرَ بِالْخِلَافِ دُونَ الِاخْتِلَافِ إشَارَةً إلَى قُوَّةِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ اعْتِبَارًا بِالْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِهَا) وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُقَوِّي قَوْلَ مَنْ قَالَ الْحُجَّةُ إنَّمَا تَتِمُّ بِإِطْلَاقِ اسْمِ التَّمْرِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ النَّصَّ لَمَّا وَرَدَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ التَّمْرِ عَلَى الرُّطَبِ جُعِلَا نَوْعًا وَاحِدًا فَجَازَ الْبَيْعُ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَمْ يَرِدْ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْعِنَبِ عَلَى الزَّبِيبِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ التَّفَاوُتُ الصَّنْعِيُّ الْمُفْسِدُ كَمَا فِي الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِهَا، وَالرُّطَبُ

ص: 30

وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ رحمه الله عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْأَصْلَ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ لَهُمَا.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ رحمه الله بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ وَبَيْنَ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِيمَا يَظْهَرُ مَعَ بَقَاءِ الْبَدَلَيْنِ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَفِي الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مَعَ بَقَاءِ أَحَدِهِمَا عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونَ تَفَاوُتًا فِي عَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَفِي الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ

بِالرُّطَبِ يَجُوزُ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا: أَيْ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ رِبَوِيٌّ يَتَفَاوَتُ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ: أَعْنِي عِنْدَ الْجَفَافِ فَلَا يَجُوزُ كَالْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ.

وَلَنَا أَنَّهُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مُتَسَاوِيًا فَكَانَ جَائِزًا وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ بِالْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ أَوْ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْمَبْلُولَةِ أَوْ الْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ بِالْمَبْلُولَةِ أَوْ الْيَابِسَةِ أَوْ التَّمْرِ الْمُنْقَعِ بِالْمُنْقَعِ أَوْ الزَّبِيبِ الْمُنْقَعِ بِالْمُنْقَعِ، مِنْ أُنْقِعَ إذَا أُلْقِيَ فِي الْخَابِيَةِ لِيَبْتَلَّ وَتُخْرَجَ مِنْهُ الْحَلَاوَةُ جَائِزٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، هُوَ يَعْتَبِرُ الْمُسَاوَاةَ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ حَالُ الْجَفَافِ، وَمُفَرَّعُهُ حَدِيثُ سَعْدٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُهَا فِي الْحَالِ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْمَشْهُورِ، وَكَذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْأَصْلَ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِحَدِيثِ سَعْدٍ رضي الله عنه وَاحْتَاجَ مُحَمَّدٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ: يَعْنِي بَيْعَ الْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ وَالْمَبْلُولَةِ إلَى آخِرِهَا، وَبَيْنَ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ حَيْثُ اعْتَبَرَ الْمُسَاوَاةَ فِيهَا فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَفِيهِ فِي الْحَالِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّفَاوُتَ إذَا ظَهَرَ مَعَ بَقَاءِ الْبَدَلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا عَلَى الِاسْمِ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فَهُوَ مُفْسِدٌ لِكَوْنِهِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِذَا ظَهَرَ بَعْدَ زَوَالِ الِاسْمِ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ عَنْ الْبَدَلَيْنِ فَلَيْسَ بِمُفْسِدٍ إذَا لَمْ يَكُنْ تَفَاوُتًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَ الْعَقْدُ وَارِدًا عَلَى الْبَدَلَيْنِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بِالْإِشَارَةِ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الذَّاتُ الْمُشَارُ إلَيْهَا وَهِيَ

ص: 31

التَّفَاوُتُ بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ الِاسْمِ فَلَمْ يَكُنْ تَفَاوُتًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يُعْتَبَرُ.

وَلَوْ بَاعَ الْبُسْرَ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبُسْرَ تَمْرٌ، بِخِلَافِ الْكُفُرَّى حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِمَا شَاءَ مِنْ التَّمْرِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْرٍ، فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ لَهُ مِنْ أَوَّلِ مَا تَنْعَقِدُ صُورَتُهُ لَا قَبْلَهُ، وَالْكُفَرَّى عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ، حَتَّى لَوْ بَاعَ التَّمْرَ بِهِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَالسِّمْسِمُ بِالشَّيْرَجِ حَتَّى يَكُونَ الزَّيْتُ وَالشَّيْرَجُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ فَيَكُونَ الدُّهْنُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِالثَّجِيرِ) لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَعْرَى عَنْ الرِّبَا إذْ مَا فِيهِ مِنْ الدُّهْنِ مَوْزُونٌ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا فِيهِ لَوْ كَانَ

لَا تَتَبَدَّلُ.

قَالَ (وَلَوْ بَاعَ الْبُسْرَ بِالتَّمْرِ إلَخْ) بَيْعُ الْبُسْرِ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَمْرٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّمْرَ اسْمٌ لِثَمَرَةِ النَّخْلِ مِنْ أَوَّلِ مَا تَنْعَقِدُ صُورَتُهُ وَبَيْعُهُ بِهِ مُتَسَاوِيًا مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ يَدًا بِيَدٍ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَبَيْعُ الْكُفُرَّى بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَهُوَ كُمُّ النَّخْلِ سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ مَا فِي جَوْفِهِ بِالثَّمَرِ جَائِزٌ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ؛ لِأَنَّ الْكُفُرَّى لَيْسَ بِتَمْرٍ لِكَوْنِهِ قَبْلَ انْعِقَادِ الصُّورَةِ (قَوْلُهُ: وَالْكُفُرَّى عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ) قِيلَ: هُوَ جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْرِيرُهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَمْرًا لَجَازَ إسْلَامُ التَّمْرِ فِي الْكُفُرَّى لَكِنَّهُ لَمْ يَجُزْ. وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَتَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ الْإِسْلَامُ فِيهِ لِلْجَهَالَةِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ إلَخْ) الزَّيْتُونُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الزَّيْتُ وَالشَّيْرَجُ الدُّهْنُ الْأَبْيَضُ، وَيُقَالُ لِلْعَصِيرِ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ شَيْرَجٌ وَهُوَ تَعْرِيبُ شَيْرَهْ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا مَا يُتَّخَذُ مِنْ السِّمْسِمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تَكُونُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ وَأُخْرَى بِاعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ. وَلَا يُعْتَبَرُ الثَّانِي مَعَ وُجُودِ الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ قَفِيزِ حِنْطَةٍ عِلْكَةٍ بِقَفِيزِ مُسَوِّسَةٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الْأَوَّلُ يُعْتَبَرُ الثَّانِي، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ وَالزَّيْتِ مَعَ الزَّيْتُونِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. فَإِذَا بِيعَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تُعْلَمَ كَمِّيَّةُ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ الزَّيْتُونِ أَوْ لَا، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ كَالْمُحَقَّقِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُنْفَصِلُ أَكْثَرَ أَوْ لَا. وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ لِتَحَقُّقِ الْفَضْلِ وَهُوَ بَعْضُ الزَّيْتِ وَالثَّجِيرِ

ص: 32

أَكْثَرَ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ، فَالثَّجِيرُ وَبَعْضُ الدُّهْنِ أَوْ الثَّجِيرُ وَحْدَهُ فَضْلٌ، وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ مَا فِيهِ لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، وَالشُّبْهَةُ فِيهِ كَالْحَقِيقَةِ، وَالْجَوْزُ بِدُهْنِهِ وَاللَّبَنُ بِسَمْنِهِ وَالْعِنَبُ بِعَصِيرِهِ وَالتَّمْرُ بِدِبْسِهِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْقُطْنِ بِغَزْلِهِ، وَالْكِرْبَاسُ بِالْقُطْنِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ بِالْإِجْمَاعِ.

إنْ نَقَصَ الْمُنْفَصِلُ عَنْ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الزَّيْتِ وَالثَّجِيرِ وَحْدَهُ: أَيْ سَاوَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الثَّجِيرُ ذَا قِيمَةٍ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَمَا فِي الزُّبْدِ بَعْدَ إخْرَاجِ السَّمْنِ إذَا كَانَ السَّمْنُ الْخَالِصُ مِثْلَ مَا فِي الزُّبْدِ مِنْ السَّمْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَوَّلُ جَائِزٌ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَالشَّيْرَجُ بِالسِّمْسِمِ وَالْجَوْزُ بِدُهْنِهِ وَاللَّبَنُ بِسَمْنِهِ وَالْعِنَبُ بِعَصِيرِهِ وَالتَّمْرُ بِدِبْسِهِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: السِّمْسِمُ يَشْتَمِلُ عَلَى الشَّيْرَجِ وَالثَّجِيرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ مَنْظُورًا إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ جَوَازُ بَيْعِ الشَّيْرَجِ بِالسِّمْسِمِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الشَّيْرَجَ وَزْنِيٌّ وَالسِّمْسِمَ كَيْلِيٌّ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْإِفْرَازُ فَيَجُوزُ بَيْعُ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ مُتَفَاضِلًا صَرْفًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدُّهْنِ وَالثَّجِيرِ إلَى خِلَافِ جِنْسِهِ كَمَا إذَا بَاعَ كُرَّ حِنْطَةٍ وَكُرَّ شَعِيرٍ بِثَلَاثَةِ أَكْرَارٍ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا إمَّا الدُّهْنُ أَوْ الثَّجِيرُ مَنْظُورًا إلَيْهِ فَقَطْ، وَالثَّانِي مُنْتَفٍ عَادَةً، وَالْأَوَّلُ يُوجِبُ أَنْ لَا يُقَابَلَ الثَّجِيرُ بِشَيْءٍ مِنْ الدُّهْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

ص: 33

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا) وَمُرَادُهُ لَحْمُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ؛ فَأَمَّا الْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا الْمَعْزُ مَعَ الضَّأْنِ وَكَذَا مَعَ الْعِرَابِ الْبَخَاتِيِّ.

قَالَ (وَكَذَلِكَ أَلْبَانُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) وَعَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ.

وَلَنَا أَنَّ الْأُصُولَ مُخْتَلِفَةٌ حَتَّى لَا يَكْمُلَ نِصَابُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ،

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ هُوَ الْمَجْمُوعُ مِنْ حَيْثُ الْإِفْرَادُ، وَلَا يَلْزَمُ جَوَازُ بَيْعِ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ مُتَفَاضِلًا. قَوْلُهُ: صَرْفًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدُّهْنِ وَالثَّجِيرِ إلَى خِلَافِ جِنْسِهِ.

قُلْنَا: ذَاكَ إذَا كَانَا مُنْفَصِلَيْنِ خِلْقَةً كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ لِظُهُورِ كَمَالِ الْجِنْسِيَّةِ حِينَئِذٍ وَالدُّهْنُ وَالثَّجِيرُ لَيْسَا كَذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ بَيْعِ الْقُطْنِ بِغَزْلِهِ مُتَسَاوِيًا فَقِيلَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ يَنْقُصُ بِالْغَزْلِ فَهُوَ نَظِيرُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ، وَقِيلَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُمَا وَاحِدٌ فَكِلَاهُمَا مَوْزُونٌ، وَإِنْ خَرَجَا عَنْ الْوَزْنِ أَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْوَزْنِ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ وَاحِدٍ بِاثْنَيْنِ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ. وَبَيْعُ الْغَزْلِ بِالثَّوْبِ جَائِزٌ وَالْكِرْبَاسِ بِالْقُطْنِ جَائِزٌ كَيْفَمَا كَانَ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ بَيْعَ الْقُطْنِ بِالثَّوْبِ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا.

(قَالَ: وَيَجُوزُ بَيْعُ اللُّحْمَانِ إلَخْ) كُلُّ مَا يَكْمُلُ بِهِ نِصَابُ الْآخَرِ مِنْ الْحَيَوَانِ فِي الزَّكَاةِ لَا يُوصَفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ كَالْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ مُتَفَاضِلًا. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْعِرَابُ وَالْبَخَاتِيُّ وَالْمَعْزُ وَالضَّأْنُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا، وَكُلُّ مَا لَا يَكْمُلُ بِهِ نِصَابُ الْآخَرِ فَهُوَ يُوصَفُ بِالِاخْتِلَافِ كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَيَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا وَكَذَلِكَ الْأَلْبَانُ.

وَعَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اللَّحْمِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّغَذِّي وَالتَّقَوِّي فَكَانَ الْجِنْسُ مُتَّحِدًا. وَلَنَا أَنَّهَا فُرُوعُ أُصُولٍ مُخْتَلِفَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا، وَاخْتِلَافُ الْأَصْلِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ

ص: 34

فَكَذَا أَجْزَاؤُهَا إذَا لَمْ تَتَبَدَّلْ بِالصَّنْعَةِ.

قَالَ (وَكَذَا خَلُّ الدَّقَلِ بِخَلِّ الْعِنَبِ) لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْلَيْهِمَا، فَكَذَا بَيْنَ مَاءَيْهِمَا وَلِهَذَا كَانَ عَصِيرَاهُمَا جِنْسَيْنِ.

وَشَعْرُ الْمَعْزِ وَصُوفُ الْغَنَمِ جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ.

الْفَرْعِ ضَرُورَةً كَالْأَدْهَانِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاتِّحَادِ فِي التَّغَذِّي فَذَلِكَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى الْعَامِّ كَالطَّعْمِ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالتَّفَكُّهِ فِي الْفَوَاكِهِ، وَالْمُعْتَبَرُ الِاتِّحَادُ فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ، وَلَا يُشْكِلُ بِالطُّيُورِ فَإِنَّ بَيْعَ لَحْمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا يَجُوزُ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ ذَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يُوزَنُ عَادَةً فَلَيْسَ بِوَزْنِيٍّ وَلَا كَيْلِيٍّ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْقَدْرُ الشَّرْعِيُّ، وَفِي مِثْلِهِ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا (قَوْلُهُ: إذَا لَمْ تَتَبَدَّلْ بِالصَّنْعَةِ) قِيلَ مُرَادُهُ أَنَّ اتِّحَادَ الْأُصُولِ يُوجِبُ اتِّحَادَ الْفُرُوعِ وَالْأَجْزَاءِ إذَا لَمْ تَتَبَدَّلْ بِالصَّنْعَةِ، فَإِذَا تَبَدَّلَتْ الْأَجْزَاءُ بِالصَّنْعَةِ تَكُونُ مُخْتَلِفَةً، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ مُتَّحِدًا كَالْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي اخْتِلَافِ الْأُصُولِ لَا فِي اتِّحَادِهَا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: اخْتِلَافُ الْأُصُولِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْأَجْزَاءِ إذَا لَمْ تَتَبَدَّلْ بِالصَّنْعَةِ، وَأَمَّا إذَا تَبَدَّلَتْ فَلَا تُوجِبُهُ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ الِاتِّحَادَ، فَإِنَّ الصَّنْعَةَ كَمَا تُؤَثِّرُ فِي تَغَيُّرِ الْأَجْنَاسِ مَعَ اتِّحَادِ الْأَصْلِ كَالْهَرَوِيِّ مَعَ الْمَرْوِيِّ مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْقُطْنُ كَذَلِكَ تُؤَثِّرُ فِي اتِّحَادِهَا مَعَ اخْتِلَافِ الْأَصْلِ كَالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْغِشِّ مِثْلِ الْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ غَالِبَةً فَإِنَّهَا مُتَّحِدَةٌ فِي الْحُكْمِ بِالصَّنْعَةِ مَعَ اخْتِلَافِ الْأُصُولِ.

قَالَ (وَكَذَا خَلُّ الدَّقَلِ بِخَلِّ الْعِنَبِ إلَخْ) الدَّقَلُ هُوَ أَرْدَأُ التَّمْرِ، وَبَيْعُ خَلِّهِ بِخَلِّ الْعِنَبِ مُتَفَاضِلًا جَائِزٌ يَدًا بِيَدٍ وَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ التُّمُورِ. وَلَمَّا كَانُوا يَجْعَلُونَ الْخَلَّ مِنْ الدَّقَلِ غَالِبًا أَخْرَجَ الْكَلَامَ عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا جَازَ التَّفَاضُلُ لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْلَيْهِمَا وَلِهَذَا كَانَ عَصِيرَاهُمَا: يَعْنِي الدَّقَلَ وَالْعِنَبَ جِنْسَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ (وَشَعْرُ الْمَعْزِ وَصُوفُ الْغَنَمِ جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ) فَجَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا

ص: 35

قَالَ (وَكَذَا شَحْمُ الْبَطْنِ بِالْأَلْيَةِ أَوْ بِاللَّحْمِ) لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ لِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ مُتَفَاضِلًا) لِأَنَّ الْخُبْزَ صَارَ عَدَدِيًّا أَوْ مَوْزُونًا فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَكِيلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْحِنْطَةُ مَكِيلَةٌ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ،

بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْمَقْصُودِ كَالتَّبَدُّلِ بِالصَّنْعَةِ فِي تَغْيِيرِ الْأَجْزَاءِ مَعَ اتِّحَادِ الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَقْصُودُ فَاخْتِلَافُهُ يُوجِبُ التَّغْيِيرَ وَاخْتِلَافُ الْمَقْصُودِ فِيهِمَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الشَّعْرَ يُتَّخَذُ مِنْهُ الْحِبَالُ الصُّلْبَةُ وَالْمُسُوحُ، وَالصُّوفُ يُتَّخَذُ مِنْهُ اللُّبُودُ وَاللِّفَافَةُ. لَا يُقَالُ: لَوْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ بِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ لَمَا جَازَ بَيْعُ لَبَنِ الْبَقَرِ بِلَبَنِ الْغَنَمِ مُتَفَاضِلًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا مُتَّحِدٌ فَكَانَ الْجِنْسُ مُتَّحِدًا؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، فَإِنَّ لَبَنَ الْبَقَرِ قَدْ يَضُرُّ حِينَ لَا يَضُرُّ لَبَنُ الْغَنَمِ فَلَا يَتَّحِدُ الْقَصْدُ إلَيْهِمَا. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: قُلْنَا إنَّ اخْتِلَافَ الْمَقْصُودِ قَدْ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْأُصُولِ، وَلَمْ نَقُلْ اتِّحَادُ الْمَقْصُودِ يُوجِبُ الِاتِّحَادَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأُصُولِ، فَالْأَصْلُ أَنْ يُوجِبَ اخْتِلَافُ الْأُصُولِ اخْتِلَافَ الْأَجْزَاءِ وَالْفُرُوعِ إلَّا عِنْدَ التَّبَدُّلِ بِالصَّنْعَةِ، وَأَنْ يُوجِبَ اتِّحَادُ الْأُصُولِ اتِّحَادَ الْفُرُوعِ إلَّا عِنْدَ التَّبَدُّلِ بِالصَّنْعَةِ أَوْ اخْتِلَافُ الْمَقْصُودِ بِالْفُرُوعِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ نَقْضٌ، وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مَانِعٌ رَاجِحٌ فَلَا يُعَارِضُهُ اتِّحَادُ الْأَصْلِ، وَيَسْقُطُ مَا قِيلَ شَعْرُ الْمَعْزِ وَصُوفُ الْغَنَمِ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَبِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ جِنْسَانِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَاجِحٌ

قَالَ (وَكَذَا شَحْمُ الْبَطْنِ بِالْأَلْيَةِ أَوْ بِاللَّحْمِ) جَائِزٌ؛ لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ لِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا، أَمَّا اخْتِلَافُ الصُّوَرِ فَلِأَنَّ الصُّورَةَ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ تَصَوُّرِهِ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ عِنْدَ تَصَوُّرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْمَعَانِي فَلِأَنَّهُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْمَنَافِعِ فَكَافِلَةُ الطِّبِّ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْحِنْطَةِ) بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ كَوْنِهِمَا نَقْدَيْنِ أَوْ حَالَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا نَقْدًا وَالْآخَرِ نَسِيئَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ عَدَدِيًّا أَوْ مَوْزُونًا فَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَكِيلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ

ص: 36

وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ، وَهَذَا إذَا كَانَا نَقْدَيْنِ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ نَسِيئَةً جَازَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الْخُبْزُ نَسِيئَةً يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَكَذَا السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ جَائِزٌ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا خَيْرَ فِي اسْتِقْرَاضِهِ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِالْخُبْزِ وَالْخَبَّازِ وَالتَّنُّورِ وَالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَجُوزُ بِهِمَا لِلتَّعَامُلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَجُوزُ وَزْنًا وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا لِلتَّفَاوُتِ فِي آحَادِهِ.

وَالْحِنْطَةُ مَكِيلَةٌ فَاخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ وَجَازَ التَّفَاضُلُ (وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ: أَيْ لَا يَجُوزُ، وَالتَّرْكِيبُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّهْيِ؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ نَفْيَ جَمِيعِ جِهَاتِ الْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْحِنْطَةُ وَالدَّقِيقُ نَسِيئَةً أَوْ الْخُبْزُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ مَوْزُونًا فِي مَكِيلٍ يُمْكِنُ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مَوْزُونٍ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا لِمَا نَذْكُرُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ) وَهَذَا يُغْنِي عَنْ قَوْلِهِ وَكَذَا السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ جَائِزٌ فِي الصَّحِيحِ: يَعْنِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْفَتْوَى عَلَى ذَلِكَ لِحَاجَةِ النَّاسِ، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُحْتَاطَ وَقْتُ الْقَبْضِ حَتَّى يَقْبِضَ مِنْ الْجِنْسِ الَّذِي سَمَّى لِئَلَّا يَصِيرَ اسْتِبْدَالًا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا خَيْرَ فِي اسْتِقْرَاضِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا؛ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِالْخُبْزِ مِنْ حَيْثُ الطُّولُ وَالْعَرْضُ وَالْغِلَظُ وَالرِّقَّةُ، وَبِالْخَبَّازِ بِاعْتِبَارِ حِذْقِهِ وَعَدَمِهِ، وَبِالتَّنُّورِ فِي كَوْنِهِ جَدِيدًا فَيَجِيءُ خُبْزُهُ جَيِّدًا أَوْ عَتِيقًا فَيَكُونُ بِخِلَافِهِ، وَبِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فَإِنَّهُ فِي أَوَّلِ التَّنُّورِ لَا يَجِيءُ مِثْلَ مَا فِي آخِرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَانِعُ عَنْ جَوَازِ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عَدَدًا وَوَزْنًا، تُرِكَ قِيَاسُ السَّلَمِ فِيهِ لِلتَّعَامُلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ وَزْنًا وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا لِلتَّفَاوُتِ فِي آحَادِهِ.

ص: 37

قَالَ (وَلَا رِبَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ) لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا فِي يَدِهِ مِلْكٌ لِمَوْلَاهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَهَذَا إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ لَيْسَ مِلْكَ الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ فَيَتَحَقَّقَ الرِّبَا كَمَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُكَاتَبِهِ.

قَالَ (وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

لَهُمَا الِاعْتِبَارُ بِالْمُسْتَأْمَنِ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا.

وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ»

قَالَ (وَلَا رِبَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ) لَا رِبَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا فِي يَدِهِ مِلْكٌ لِمَوْلَاهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ وَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، فَعَدَمُ تَحَقُّقِ الرِّبَا بَعْدَ وُجُودِ الْبَيْعِ بِحَقِيقَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُشْتَمِلًا عَلَى شَرَائِطِ الرِّبَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ (فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ لَيْسَ مِلْكًا لِمَوْلَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا) وَإِنْ كَانَ مِلْكَهُ، لَكِنْ لَمَّا (تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ) صَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا كَمَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَمَوْلَاهُ.

قَالَ (وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ) لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ

ص: 38

وَلِأَنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالًا مُبَاحًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَدْرٌ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمِنِ مِنْهُمْ لِأَنَّ مَالَهُ صَارَ مَحْظُورًا بِعَقْدِ الْأَمَانِ.

خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. لَهُمَا الِاعْتِبَارُ بِالْمُسْتَأْمَنِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِنَا، فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَبَاعَ دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فَكَذَا إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ وَفَعَلَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِجَامِعِ تَحَقُّقِ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ الْبَيْعِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ» ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ؛ وَلِأَنَّ مَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِهِمْ مُبَاحٌ بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْمُسْلِمُ الْمُسْتَأْمَنُ إنَّمَا مُنِعَ مِنْ أَخْذِهِ لِعَقْدِ الْأَمَانِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْغَدْرُ، فَإِذَا بَذَلَ الْحَرْبِيُّ مَالَهُ بِرِضَاهُ زَالَ الْمَعْنَى الَّذِي حُظِرَ لِأَجْلِهِ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسٍ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَخْذُ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَحْظُورًا بِعَقْدِ الْأَمَانِ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.

ص: 39

(بَابُ الْحُقُوقِ)

(وَمَنْ اشْتَرَى مَنْزِلًا فَوْقَهُ مَنْزِلٌ فَلَيْسَ لَهُ الْأَعْلَى إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ أَوْ بِمَرَافِقِهِ أَوْ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهِ أَوْ مِنْهُ. وَمَنْ اشْتَرَى بَيْتًا فَوْقَهُ بَيْتٌ بِكُلِّ حَقٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَعْلَى، وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا بِحُدُودِهَا فَلَهُ الْعُلُوُّ وَالْكَنِيفُ) جَمَعَ بَيْنَ الْمَنْزِلِ وَالْبَيْتِ وَالدَّارِ، فَاسْمُ الدَّارِ يَنْتَظِمُ الْعُلُوَّ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحُدُودُ، وَالْعُلُوُّ مِنْ تَوَابِعِ الْأَصْلِ وَأَجْزَائِهِ فَيَدْخُلَ فِيهِ. وَالْبَيْتُ اسْمٌ لِمَا يُبَاتُ فِيهِ، وَالْعُلُوُّ مِثْلُهُ، وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِمِثْلِهِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَالْمَنْزِلُ بَيْنَ الدَّارِ وَالْبَيْتِ لِأَنَّهُ يَتَأَتَّى فِيهِ مَرَافِقُ السُّكْنَى مَعَ ضَرْبِ قُصُورٍ إذْ لَا يَكُونُ فِيهِ مَنْزِلُ الدَّوَابِّ، فَلِشَبَهِهِ بِالدَّارِ يَدْخُلُ الْعُلُوُّ فِيهِ تَبَعًا عِنْدَ ذِكْرِ التَّوَابِعِ، وَلِشَبَهِهِ بِالْبَيْتِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ بِدُونِهِ.

بَابُ الْحُقُوقِ)

قِيلَ: كَانَ مِنْ حَقِّ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ أَنْ تُذْكَرَ فِي الْفَصْلِ الْمُتَّصِلِ بِأَوَّلِ كِتَابِ الْبَيْعِ، إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ الْتَزَمَ تَرْتِيبَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْمُرَتَّبِ بِمَا هُوَ مِنْ مَسَائِلِهِ وَهُنَاكَ هَكَذَا وَقَعَ، وَكَذَا هَاهُنَا، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ تَوَابِعُ فَيَلِيقُ ذِكْرُهَا بَعْدَ ذِكْرِ مَسَائِلِ الْمَتْبُوعِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى مَنْزِلًا فَوْقَهُ مَنْزِلٌ) ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَسْمَاءٍ: الْمَنْزِلُ وَالْبَيْتُ وَالدَّارُ، فَسَّرَهُ لِيُبَيِّنَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلِّ اسْمٍ مِنْهَا مِنْ الِاحْتِيَاجِ إلَى تَصْرِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَرَافِقِ لِدُخُولِهَا وَعَدَمِهِ. قَالَ: الدَّارُ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحُدُودُ، وَالْبَيْتُ اسْمٌ لِمَا يُبَاتُ فِيهِ، وَالْمَنْزِلُ بَيْنَ الْبَيْتِ وَالدَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ مَرَافِقُ السُّكْنَى مَعَ ضَرْبِ قُصُورٍ لِعَدَمِ اشْتِمَالِهِ عَلَى مَنْزِلِ الدَّوَابِّ.

وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَنْ اشْتَرَى مَنْزِلًا فَوْقَهُ مَنْزِلٌ لَا يَدْخُلُ الْأَعْلَى فِي الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَيُصَرِّحَ بِذِكْرِ إحْدَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثِ بِأَنْ يَقُولَ: بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ أَوْ بِمَرَافِقِهِ، أَوْ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهِ أَوْ مِنْهُ (وَمَنْ اشْتَرَى بَيْتًا فَوْقَهُ بَيْتٌ) وَذَكَرَ إحْدَى الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثِ (لَمْ يَدْخُلُ الْأَعْلَى. وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا بِحُدُودِهَا) وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ (دَخَلَ فِيهِ الْعُلُوُّ وَالْكَنِيفُ) وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَمَّا كَانَ اسْمًا لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَالْعُلُوُّ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْهَا وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْأَصْلِ وَأَجْزَائِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَالْبَيْتُ اسْمٌ لِمَا يُبَاتُ فِيهِ، وَالْعُلُوُّ مِثْلُهُ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ بِذِكْرِهِ، وَإِلَّا لَكَانَ الشَّيْءُ تَابِعًا لِمِثْلِهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَلَا يُشْكِلُ بِالْمُسْتَعِيرِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَبِّرَ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ وَالْمَكَاتِبِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّبَعِيَّةِ هَاهُنَا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِشَيْءٍ يَتْبَعُهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ الدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَفْظٍ عَامٍّ يَتَنَاوَلُ الْأَفْرَادَ،

ص: 40

وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَدْخُلُ الْعُلُوُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَسْكَنٍ يُسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ خَانَهُ وَلَا يَخْلُو عَنْ عُلُوٍّ، وَكَمَا يَدْخُلُ الْعُلُوُّ فِي اسْمِ الدَّارِ يَدْخُلُ الْكَنِيفُ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَلَا تَدْخُلُ الظُّلَّةُ إلَّا بِذِكْرِ مَا ذَكَرْنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله

إذْ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَعْلُومٍ، وَلَا مِنْ لَوَازِمِهِ، وَلَيْسَ فِي الْإِعَارَةِ وَالْكِتَابَةِ ذَلِكَ فَإِنَّ لَفْظَ الْمُعِيرِ أَعَرْتُك لَمْ يَتَنَاوَلْ عَارِيَّةَ الْمُسْتَعِيرِ أَصْلًا لَا تَبَعًا وَلَا أَصَالَةً، وَإِنَّمَا مَلَكَ الْإِعَارَةَ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ. وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا جَازَ أَنْ يُمَلِّكَهُ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا لَا يُمْلَكُ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ حَذَرًا مِنْ وُقُوعِ التَّغَيُّرِ بِهِ، وَالْمُكَاتَبُ لَمَّا اُخْتُصَّ بِمَكَاسِبِهِ كَانَ أَحَقَّ بِتَصَرُّفِ مَا يُوصِلُهُ إلَى مَقْصُودِهِ وَفِي كِتَابَةِ عَبْدِهِ تَسَبُّبٌ إلَى مَا يُوصِلُهُ إلَى ذَلِكَ فَكَانَتْ جَائِزَةً.

وَأَمَّا الْمَنْزِلُ فَلَمَّا كَانَ شَبِيهًا بِكُلٍّ مِنْهُمَا أَخَذَ حَظًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلِشَبَهِهِ بِالدَّارِ يَدْخُلُ الْعُلُوُّ فِيهِ تَبَعًا عِنْدَ ذِكْرِ التَّوَابِعِ، وَلِشَبَهِهِ بِالْبَيْتِ لَا يَدْخُلُ بِدُونِهِ.

(وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَدْخُلُ الْعُلُوُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ) أَيْ الدَّارِ وَالْبَيْتِ وَالْمَنْزِلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ بَيْتٍ يُسَمَّى خَانَهُ وَلَا يَخْلُو عَنْ عُلُوٍّ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْخُلُوَّ وَعَدَمَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الدَّلِيلِ، وَيُقَالُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْبَيْتَ فِي عُرْفِنَا لَا يَخْلُو عَنْ عُلُوٍّ، وَأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُرْفِنَا فَكَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ مَتْرُوكًا بِالْعُرْفِ وَكَمَا يَدْخُلُ الْعُلُوُّ فِي اسْمِ الدَّارِ يَدْخُلُ الْكَنِيفُ وَهُوَ الْمُسْتَرَاحُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَلَا تَدْخُلُ الظُّلَّةُ وَهُوَ السَّابَاطُ الَّذِي يَكُونُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الدَّارِ الْمَبِيعَةِ وَالطَّرَفُ الْآخَرُ عَلَى دَارٍ أُخْرَى أَوْ عَلَى الْأُسْطُوَانَاتِ فِي السِّكَّةِ وَمِفْتَحُهُ فِي الدَّارِ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ وَفِي الْمُغْرِبِ. وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ ظُلَّةُ الدَّارِ يُرِيدُونَ السُّدَّةَ الَّتِي فَوْقَ الْبَابِ إلَّا بِذِكْرِ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ قَوْلُهُ: بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَوَاءِ الطَّرِيقِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ. وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ مِفْتَحُهُ فِي الدَّارِ يَدْخُلْ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا: يَعْنِي مِنْ الْعِبَارَاتِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِهِ فَشَابَهَ الْكَنِيفَ. وَقَوْلُهُ: إنْ كَانَ

ص: 41

لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَوَاءِ الطَّرِيقِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ. وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ مِفْتَحُهُ فِي الدَّارِ يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِهِ فَشَابَهَ الْكَنِيفَ.

قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى بَيْتًا فِي دَارٍ أَوْ مَنْزِلًا أَوْ مَسْكَنًا لَمْ يَكُنْ لَهُ الطَّرِيقُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ أَوْ بِمَرَافِقِهِ أَوْ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، (وَكَذَا الشُّرْبُ وَالْمَسِيلُ) لِأَنَّهُ خَارِجُ الْحُدُودِ إلَّا أَنَّهُ مِنْ التَّوَابِعِ فَيَدْخُلَ بِذِكْرِ التَّوَابِعِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ، إذْ الْمُسْتَأْجِرُ لَا يَشْتَرِي الطَّرِيقَ عَادَةً وَلَا يَسْتَأْجِرُهُ فَيَدْخُلَ تَحْصِيلًا لِلْفَائِدَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ، أَمَّا الِانْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ مُمْكِنٌ بِدُونِهِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ عَادَةً يَشْتَرِيهِ، وَقَدْ يَتَّجِرُ فِيهِ فَيَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَحَصَلَتْ الْفَائِدَةُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

مِفْتَحُهُ فِي الدَّارِ يُضْعِفُ قَوْلَ قَاضِي خَانْ فِي تَعْرِيفِ الظُّلَّةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمِفْتَحَ فِي الدَّارِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى بَيْتًا فِي دَارٍ أَوْ مَنْزِلًا أَوْ مَسْكَنًا لَمْ يَكُنْ لَهُ الطَّرِيقُ) إلَّا أَنْ يَذْكُرَ إحْدَى الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثِ (وَكَذَا الشُّرْبُ وَالْمَسِيلُ)؛ لِأَنَّهُ خَارِجَ الْحُدُودِ لَكِنَّهُ مِنْ التَّوَابِعِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ نَظَرًا إلَى الْأَوَّلِ، وَدَخَلَ بِذِكْرِ التَّوَابِعِ: أَيْ بِقَوْلِهِ كُلُّ حَقٍّ نَظَرًا إلَى الثَّانِي (بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ) فَإِنَّ الطَّرِيقَ تُدْخِلُ اسْتِئْجَارَ الدُّورِ وَالْمَسِيلِ وَالشِّرْبِ فِي اسْتِئْجَارِ الْأَرَاضِي وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ الْحُقُوقُ وَالْمَرَافِقُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْعَقِدُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ، وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ فِيمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْحَالِ كَالْأَرْضِ السَّبِخَةِ وَالْمُهْرِ الصَّغِيرِ، وَبِالِانْتِفَاعِ بِالدَّارِ بِدُونِ الطَّرِيقِ وَبِالْأَرْضِ بِدُونِ الشِّرْبِ وَالْمَسِيلِ لَا يَتَحَقَّقُ إذْ الْمُسْتَأْجِرُ لَا يَشْتَرِي الطَّرِيقَ

ص: 42

(بَابُ الِاسْتِحْقَاقِ)

عَادَةً وَلَا يَسْتَأْجِرُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الدُّخُولِ تَحْصِيلًا لِلْفَائِدَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ. وَأَمَّا الْبَيْعُ فَلِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ لَا الْمَنْفَعَةِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْحَالِ كَالْأَرْضِ السَّبِخَةِ وَالْمُهْرِ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ مُمْكِنٌ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَشْتَرِي الطَّرِيقَ وَالشِّرْبَ وَالْمَسِيلَ عَادَةً، وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَوْ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ يَسْتَأْجِرُهَا أَيْضًا، وَقَدْ تَكُونُ مَقْصُودَةَ التِّجَارَةِ فَبَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَحَصَلَتْ الْفَائِدَةُ الْمَطْلُوبَةُ.

ص: 43

(وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِبَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَوَلَدَهَا، وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِرَجُلٍ لَمْ يَتْبَعْهَا وَلَدُهَا) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ فَإِنَّهَا كَاسْمِهَا مُبَيَّنَةٌ فَيَظْهَرُ بِهَا مِلْكُهُ مِنْ الْأَصْلِ وَالْوَلَدُ كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا فَيَكُونُ لَهُ، أَمَّا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ يُثْبِتُ الْمِلْكَ فِي الْمُخْبَرِ بِهِ ضَرُورَةُ صِحَّةِ الْإِخْبَارِ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِإِثْبَاتِهِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ لَهُ.

ثُمَّ قِيلَ: يَدْخُلُ الْوَلَدُ فِي الْقَضَاءِ بِالْأُمِّ تَبَعًا، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ بِالْوَلَدِ وَإِلَيْهِ تُشِيرُ الْمَسَائِلُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالزَّوَائِدِ. قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا تَدْخُلُ الزَّوَائِدُ فِي الْحُكْمِ، فَكَذَا الْوَلَدُ إذَا كَانَ

(بَابُ الِاسْتِحْقَاقِ):

ذَكَرَ هَذَا الْبَابَ عَقِيبَ بَابِ الْحُقُوقِ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا لَفْظًا وَمَعْنًى. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ) لَا بِاسْتِيلَادِهِ (فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِبَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَوَلَدَهَا) وَإِنْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِهَا لِرَجُلٍ لَمْ يَتْبَعْهَا وَلَدُهَا. وَوَجْهُ الْفَرْقِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً، وَلِهَذَا إذَا أَقَامَهَا وَلَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ وَتَرُدُّ جَمِيعُ الْبَاعَةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَيَظْهَرُ بِهَا مِلْكُهُ مِنْ الْأَصْلِ وَالْوَلَدُ كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا وَيَتَفَرَّعُ عَنْهَا وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ فَيَكُونُ لَهُ.

وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَحُجَّةٌ قَاصِرَةٌ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْغَيْرِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمُخْبَرِ بِهِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّ

ص: 44

فِي يَدِ غَيْرِهِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ بِالْأُمِّ تَبَعًا.

الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَالْإِخْبَارَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخْبِرٍ بِهِ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِإِثْبَاتِهِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى الْحَالِ فَلَا يَظْهَرُ مِلْكُ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ وَلَا الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ لَهُ: يَعْنِي إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُقَرُّ لَهُ الْوَلَدَ، أَمَّا إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ كَانَ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ التُّمُرْتَاشِيِّ. ثُمَّ إذَا قُضِيَ بِالْأُمِّ لِلْمُسْتَحِقِّ بِالْبَيِّنَةِ هَلْ يَدْخُلُ الْوَلَدُ فِي الْقَضَاءِ بِالْأُمِّ تَبَعًا أَمْ لَا؟ قِيلَ يَدْخُلُ لِتَبَعِيَّتِهِ لَهَا، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ بِالْوَلَدِ عَلَى حِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْأُمِّ فَكَانَ مُسْتَبِدًّا فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُكْمِ بِهِ، قِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمَسَائِلَ تُشِيرُ إلَى ذَلِكَ. قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْأَصْلِ وَلَمْ يَعْرِفْ الزَّوَائِدَ لَمْ تَدْخُلْ الزَّوَائِدُ تَحْتَ الْحُكْمِ وَكَذَا الْوَلَدُ إذَا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ غَائِبٍ فَالْقَضَاءُ بِالْأُمِّ لَا يَكُونُ قَضَاءً بِالْوَلَدِ.

ص: 45

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَإِذَا هُوَ حُرٌّ وَقَدْ قَالَ الْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي اشْتَرِنِي فَإِنِّي عَبْدٌ لَهُ)، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا غَيْبَةً مَعْرُوفَةً لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَبْدِ وَرَجَعَ هُوَ عَلَى الْبَائِعِ.

وَإِنْ ارْتَهَنَ عَبْدًا مُقِرًّا بِالْعُبُودِيَّةِ فَوَجَدَهُ حُرًّا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَإِذَا هُوَ حُرٌّ إلَخْ) رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرِنِي فَإِنِّي عَبْدٌ فَاشْتَرَاهُ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا غَيْبَةً مَعْرُوفَةً (وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَائِبًا غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ) فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ إنِّي عَبْدٌ لَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ فِي قَوْلِهِمْ.

وَإِنْ قَالَ ارْتَهِنِّي فَإِنَى عَبْدٌ فَوَجَدَهُ حُرًّا لَمْ يَرْجِعْ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْعَبْدِ بِحَالٍ: أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا أَيَّةَ غَيْبَةٍ كَانَتْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي هَذَا الْعَقْدِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْمُعَاوَضَةِ أَوْ بِالْكَفَالَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِمَوْجُودٍ، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ هُوَ الْإِخْبَارُ كَاذِبًا فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ الْأَجْنَبِيُّ ذَلِكَ أَوْ قَالَ ارْتَهِنِّي فَإِنِّي عَبْدٌ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ.

وَلَهُمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ اعْتَمَدَ فِي شِرَائِهِ عَلَى أَمْرِهِ بِقَوْلِهِ اشْتَرِنِي وَإِقْرَارِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ بِقَوْلِهِ فَإِنِّي عَبْدٌ إذْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ: فِي الْحُرِّيَّةِ، فَحِينَ أَقَرَّ بِالْعُبُودِيَّةِ غَلَبَ ظَنُّ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ وَالْمُعْتَمَدُ عَلَى الشَّيْءِ بِأَمْرِ الْغَيْرِ وَإِقْرَارِهِ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ وَالْغُرُورُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي سَلَامَةَ الْعِوَضِ يُجْعَلُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ دَفْعًا لِلْغُرُورِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ كَمَا فِي الْمَوْلَى إذَا قَالَ لِأَهْلِ السُّوقِ هَذَا عَبْدِي وَقَدْ أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايَعُوهُ فَبَايَعُوهُ وَلَحِقَتْهُ دُيُونٌ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ حُرٌّ فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْمَوْلَى بِدُيُونِهِمْ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ بِحُكْمِ الْغُرُورِ، وَهَذَا غُرُورٌ وَقَعَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْعَبْدُ بِظُهُورِ حُرِّيَّتِهِ أَهْلٌ لِلضَّمَانِ فَيُجْعَلُ ضَامِنًا لِلثَّمَنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رُجُوعِهِ عَلَى الْبَائِعِ دَفْعًا

ص: 46

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهِمَا لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالْمُعَاوَضَةِ أَوْ بِالْكَفَالَةِ وَالْمَوْجُودُ لَيْسَ إلَّا الْإِخْبَارُ كَاذِبًا فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ الْأَجْنَبِيُّ ذَلِكَ أَوْ قَالَ الْعَبْدُ ارْتَهِنِّي فَإِنِّي عَبْدٌ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ شَرَعَ فِي الشِّرَاءِ مُعْتَمِدًا عَلَى مَا أَمَرَهُ وَإِقْرَارِهِ أَنِّي عَبْدٌ، إذْ الْقَوْلُ لَهُ فِي الْحُرِّيَّةِ فَيُجْعَلُ الْعَبْدُ بِالْأَمْرِ بِالشِّرَاءِ ضَامِنًا لِلثَّمَنِ لَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ رُجُوعِهِ عَلَى الْبَائِعِ دَفْعًا لِلْغُرُورِ وَالضَّرَرِ، وَلَا تَعَذُّرَ إلَّا فِيمَا لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ، وَالْبَيْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ الْآمِرُ بِهِ ضَامِنًا لِلسَّلَامَةِ كَمَا هُوَ مُوجِبُهُ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ بَلْ هُوَ وَثِيقَةٌ لِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ حَقِّهِ حَتَّى يَجُوزَ الرَّهْنُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَالْمُسَلَّمِ فِيهِ مَعَ حُرْمَةِ الِاسْتِبْدَالِ فَلَا يُجْعَلُ الْأَمْرُ بِهِ ضَمَانًا لِلسَّلَامَةِ،

لِلضَّرَرِ وَلَا تَعَذُّرَ إلَّا فِيمَا لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ (قَوْلُهُ: وَالْبَيْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ) إنَّمَا صَرَّحَ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْمُشْتَرِيَ شَرَعَ فِي الشِّرَاءِ تَمْهِيدًا لِلْجَوَابِ عَنْ الرَّهْنِ وَاهْتِمَامًا بِبَيَانِ اخْتِصَاصِ مُوجِبِيَّةِ الْغُرُورِ لِلضَّمَانِ بِالْمُعَاوَضَاتِ وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الرَّجُلَ إذَا سَأَلَ غَيْرَهُ عَنْ أَمْنِ الطَّرِيقِ فَقَالَ اُسْلُكْ هَذَا الطَّرِيقَ فَإِنَّهُ آمَنُ فَسَلَكَهُ فَإِذَا فِيهِ لُصُوصٌ سَلَبُوا أَمْوَالَهُ لَمْ يَضْمَنْ الْمُخْبِرُ شَيْئًا لِمَا أَنَّهُ غُرُورٌ فِيمَا لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: كُلْ هَذَا الطَّعَامَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَسْمُومٍ فَأَكَلَ فَمَاتَ فَظَهَرَ بِخِلَافِهِ لِكَوْنِهِ تَغْرِيرًا فِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ بَلْ هُوَ وَثِيقَةٌ لِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ حَقِّهِ وَلِهَذَا جَازَ الرَّهْنُ بِبَدَلَيْ الصَّرْفِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ.

وَإِذَا هَلَكَ يَقَعُ فِيهِ الِاسْتِيفَاءُ، وَلَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً لَكَانَ اسْتِبْدَالًا بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَوْ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ وَهُوَ حَرَامٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَاوَضَةً لَمْ يُجْعَلْ الْأَمْرُ بِهِ ضَمَانًا لِلسَّلَامَةِ، وَبِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِقَوْلِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ، ثُمَّ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ ضَرْبُ إشْكَالٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ أَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِي حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ عِنْدَهُ وَالتَّنَاقُضُ يُفْسِدُ الدَّعْوَى، وَالْعَبْدُ بَعْدَمَا قَالَ اشْتَرِنِي فَإِنِّي عَبْدٌ إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْحُرِّيَّةَ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ تَنَاقُضٌ وَالثَّانِي يَنْتَفِي بِهِ شَرْطُ الْحُرِّيَّةِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فَإِذَا الْعَبْدُ حُرٌّ يَحْتَمِلُ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ وَالْحُرِّيَّةُ بِعَتَاقٍ عَارِضٍ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ فَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا

ص: 47

وَبِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ لَا يُعْبَأُ بِقَوْلِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ.

وَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا قَوْلُ الْمَوْلَى بَايِعُوا عَبْدِي هَذَا فَإِنِّي قَدْ أَذِنْت لَهُ ثُمَّ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، ثُمَّ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ ضَرْبُ إشْكَالٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِي حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ عِنْدَهُ، وَالتَّنَاقُضُ يُفْسِدُ الدَّعْوَى. وَقِيلَ إذَا كَانَ الْوَضْعُ فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ فَالدَّعْوَى فِيهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ لِتَضَمُّنِهِ تَحْرِيمَ فَرْجِ الْأُمِّ. وَقِيلَ هُوَ شَرْطٌ لَكِنَّ التَّنَاقُضَ غَيْرُ مَانِعٍ لِخَفَاءِ الْعَلُوقِ وَإِنْ كَانَ الْوَضْعُ فِي الْإِعْتَاقِ فَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ لِاسْتِبْدَادِ الْمَوْلَى بِهِ

مَا قَالَهُ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ إنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهَا عِنْدَهُ لِتَضَمُّنِهِ تَحْرِيمَ فَرْجِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ فِي شَهَادَتِهِمْ مُحْتَاجُونَ إلَى تَعْيِينِ الْأُمِّ وَفِي ذَلِكَ تَحْرِيمُهَا وَتَحْرِيمُ أَخَوَاتِهَا وَبَنَاتِهَا، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ كَانَ فَرْجُ الْأُمِّ عَلَى مَوْلَاهُ حَرَامًا وَحُرْمَةُ الْفَرْجِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ كَمَا فِي عِتْقِ الْأَمَةِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الدَّعْوَى شَرْطًا لَمْ يَكُنْ التَّنَاقُضُ مَانِعًا. وَالثَّانِي مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إنَّ الدَّعْوَى وَإِنْ كَانَتْ شَرْطًا فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ أَيْضًا عِنْدَهُ لَكِنْ يُعْذَرُ فِي التَّنَاقُضِ لِخَفَاءِ حَالِ الْعُلُوقِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى الْخَفَاءِ فَالتَّنَاقُضُ فِيهِ مَعْفُوٌّ كَمَا نَذْكُرُ، وَإِنْ أَرَادَ الثَّانِيَ فَلَهُ الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقَالَ التَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى فِي الْعِتْقِ لِبِنَائِهِ عَلَى الْخَفَاءِ إذْ الْمَوْلَى يَسْتَنِدُ بِهِ، فَرُبَّمَا لَا يَعْلَمُ الْعَبْدُ إعْتَاقَهُ ثُمَّ يَعْلَمُ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْمُخْتَلِعَةِ تُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ قَبْلَ الْخُلْعِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَنْفَرِدُ بِالطَّلَاقِ فَرُبَّمَا لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً عِنْدَ الْخُلْعِ ثُمَّ عَلِمَتْ.

وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا دُونَهُ أَمْكَنَ أَنْ يُقِيمَ الزَّوْجُ بَيِّنَةً أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الَّذِي أَثْبَتَتْهُ الْمَرْأَةُ بِبَيِّنَتِهَا قَبْلَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَأَمَّا فِي الثَّلَاثِ فَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ يُقِيمُهَا عَلَى الْإِعْتَاقِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ. ثُمَّ الْمَرْأَةُ وَالْمُكَاتَبُ يَسْتَرِدَّانِ بَدَلَ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى

ص: 48

فَصَارَ كَالْمُخْتَلِعَةِ تُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ قَبْلَ الْخُلْعِ وَالْمُكَاتَبِ يُقِيمُهَا عَلَى الْإِعْتَاقِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ) مَعْنَاهُ حَقًّا مَجْهُولًا (فَصَالَحَهُ الَّذِي فِي يَدِهِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَاسْتُحِقَّتْ الدَّارُ إلَّا ذِرَاعًا مِنْهَا لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) لِأَنَّ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَقُولَ دَعْوَايَ فِي هَذَا الْبَاقِي.

قَالَ (وَإِنْ ادَّعَاهَا كُلَّهَا فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَاسْتُحِقَّ مِنْهَا شَيْءٌ رَجَعَ بِحِسَابِهِ) لِأَنَّ التَّوْفِيقَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ عِنْدَ فَوَاتِ سَلَامَةِ الْمُبْدَلِ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْمَجْهُولِ عَلَى مَعْلُومٍ جَائِزٌ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيمَا يَسْقُطُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مَا ادَّعَيَاهُ.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ) مَنْ ادَّعَى حَقًّا مَجْهُولًا فِي دَارٍ بِيَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ الَّذِي فِي يَدِهِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَاسْتَحَقَّ الدَّارَ إلَّا ذِرَاعًا مِنْهَا لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَقُولَ دَعْوَايَ فِي هَذَا الْبَاقِي، وَإِنْ ادَّعَى كُلَّهَا فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةٍ فَاسْتُحِقَّ مِنْهَا شَيْءٌ رَجَعَ بِحِسَابِهِ، إذْ التَّوْفِيقُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَالْمِائَةُ كَانَتْ بَدَلًا عَنْ كُلِّ الدَّارِ وَلَمْ تُسَلَّمْ فَتُقْسَمُ الْمِائَةُ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يُقْسَمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمُبْدَلِ (وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْمَجْهُولِ عَلَى الْمَعْلُومِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيمَا يَسْقُطُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ) قَالُوا: وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ صِحَّةَ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْحَقِّ فِي الدَّارِ لَا تَصِحُّ لِلْجَهَالَةِ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا إذَا ادَّعَى إقْرَارَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ

ص: 49

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَحِينَئِذٍ تَصِحُّ وَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ

ص: 50

(فَصْلٌ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ)

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ؛ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ لِأَنَّهَا بِالْمِلْكِ أَوْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَقَدْ فُقِدَا، وَلَا انْعِقَادَ إلَّا بِالْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ.

مُنَاسَبَةُ هَذَا الْفَصْلِ لِبَابِ الِاسْتِحْقَاقِ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ وَيَقُولُ عِنْدَ الدَّعْوَى هَذَا مِلْكِي وَمَنْ بَاعَك فَإِنَّمَا بَاعَك بِغَيْرِ إذْنِي فَهُوَ عَيْنُ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ. وَالْفُضُولِيُّ بِضَمِّ الْفَاءِ لَا غَيْرُ، وَالْفَضْلُ الزِّيَادَةُ، وَقَدْ غَلَبَ جَمْعُهُ عَلَى مَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَقِيلَ لِمَنْ يَشْتَغِلُ بِمَا لَا يَعْنِيه فُضُولِيٌّ، وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَيْسَ بِوَكِيلٍ، وَفَتْحُ الْفَاءِ خَطَأٌ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إلَخْ) وَمَنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: لَمْ يَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ لِأَنَّهَا بِالْمِلْكِ أَوْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَقَدْ فُقِدَا، وَمَا لَمْ يَصْدُرْ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ الِانْعِقَادَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَلَنَا أَنَّهُ

ص: 51

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تَصَرُّفُ تَمْلِيكٍ، وَقَدْ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَوَقَعَ فِي مَحَلِّهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِانْعِقَادِهِ، أَمَّا أَنَّهُ تَصَرُّفُ تَمْلِيكٍ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ كَعِلْمِ الْفِقْهِ فَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ تَصَرُّفُ تَمْلِيكٍ وَلَمْ يَقُلْ تَمْلِيكٌ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ لَا يُتَصَوَّرُ. فَإِنْ قِيلَ: تَصَرُّفُ التَّمْلِيكِ شُرِعَ لِأَجْلِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَحْكَامُهَا، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ التَّصَرُّفُ التَّمْلِيكَ كَانَ لَغْوًا. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ، وَهَذَا التَّصَرُّفُ لَمَّا كَانَ مَوْقُوفًا لِمَا نَذْكُرُ أَفَادَ حُكْمًا مَوْقُوفًا كَمَا أَنَّ السَّبَبَ الْبَاتَّ أَفَادَ حُكْمًا بَاتًّا أَوْ أَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يَكُونُ لَغْوًا إذَا خَلَا عَنْ الْحُكْمِ، فَأَمَّا إذَا تَأَخَّرَ فَلَا كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَأَمَّا صُدُورُهُ مِنْ الْأَهْلِ فَلِأَنَّ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ، وَأَمَّا الْمَحَلُّ فَإِنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ هُوَ الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ، وَبِانْعِدَامِ الْمِلْكِ لِلْعَاقِدِ فِي الْمَحَلِّ لَا تَنْعَدِمُ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ جَازَ، وَالْإِذْنُ لَا يَجْعَلُ غَيْرَ الْمَحَلِّ مَحَلًّا.

وَأَمَّا وُجُوبُ الْقَوْلِ بِانْعِقَادِهِ فَلِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْمُقْتَضِي لَا يَمْتَنِعُ إلَّا لِمَانِعٍ وَالْمَانِعُ

ص: 52

وَلَنَا أَنَّهُ تَصَرُّفُ تَمْلِيكٍ وَقَدْ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِانْعِقَادِهِ، إذْ لَا ضَرَرَ فِيهِ لِلْمَالِكِ مَعَ تَخْيِيرِهِ، بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ حَيْثُ يَكْفِي مُؤْنَةُ طَلَبِ الْمُشْتَرِي وَقَرَارُ الثَّمَنِ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ نَفْعُ الْعَاقِدِ لِصَوْنِ كَلَامِهِ عَنْ الْإِلْغَاءِ، وَفِيهِ نَفْعُ الْمُشْتَرِي فَثَبَتَ لِلْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ تَحْصِيلًا لِهَذِهِ الْوُجُوهِ، كَيْفَ وَإِنَّ الْإِذْنَ ثَابِتٌ دَلَالَةً لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَأْذَنُ فِي التَّصَرُّفِ النَّافِعِ،

مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الضَّرَرُ وَلَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمَالِكِ وَالْعَاقِدَيْنِ، أَمَّا الْمَالِكُ فَلِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالْفَسْخِ، وَلَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ حَيْثُ يَكْفِي مُؤْنَةُ طَلَبِ الْمُشْتَرِي وَقَرَارِ الثَّمَنِ، وَأَمَّا الْفُضُولِيُّ فَلِأَنَّ فِيهِ صَوْنَ كَلَامِهِ عَنْ الْإِلْغَاءِ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَظَاهِرٌ فَثَبَتَتْ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ تَحْصِيلًا لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ. فَإِنْ قِيلَ: الْقُدْرَةُ بِالْمِلْكِ أَوْ بِالْإِذْنِ وَلَمْ يُوجَدَا. أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ مُنْكِرًا بِقَوْلِهِ كَيْفَ وَأَنَّ الْإِذْنَ ثَابِتٌ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَأْذَنُ فِي التَّصَرُّفِ النَّافِعِ. فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا وُجُودَ الْمُقْتَضِي لَكِنَّ الْمَانِعَ لَيْسَ بِمُنْحَصِرٍ فِي الضَّرَرِ بَلْ عَدَمُ الْمِلْكِ مَانِعٌ شَرْعًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» وَكَذَلِكَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الْآبِقِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ

ص: 53

قَالَ (وَلَهُ الْإِجَازَةُ إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بَاقِيًا وَالْمُتَعَاقِدَانِ بِحَالِهِمَا) لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِهِ وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.

لَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْمِلْكِ فِيهِمَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ لَا تَبِعْ نَهْيٌ عَنْ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، وَالْكَامِلُ هُوَ الْبَيْعُ الْبَاتُّ فَلَا اتِّصَالَ لَهُ بِمَوْضِعِ النِّزَاعِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ بَعْدَ الْإِجَازَةِ ثَابِتَةٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى الْكَرْخِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ الْخَيَّاطُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ.

قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ «عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ أُضْحِيَّةً، فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ فَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْعِهِ بِالْبَرَكَةِ فَكَانَ لَوْ اشْتَرَى تُرَابًا رَبِحَ فِيهِ» لَا يُقَالُ: عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ كَانَ وَكِيلًا مُطْلَقًا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ إذْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِغَيْرِ نَقْلٍ، وَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً، وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجُوزُ شِرَاءُ الْفُضُولِيِّ كَبَيْعِهِ أَوْ لَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا، وَهُوَ أَنَّ الْفُضُولِيَّ إنْ قَالَ بِعْ هَذَا الْعَيْنَ لِفُلَانٍ فَقَالَ الْمَالِكُ بِعْت فَقَالَ الْفُضُولِيُّ اشْتَرَيْت لِأَجْلِهِ أَوْ قَالَ الْمَالِكُ ابْتِدَاءً بِعْت هَذَا الْعَيْنَ لِفُلَانٍ وَقَالَ الْفُضُولِيُّ قَبِلْت لِأَجْلِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.

وَإِنْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الْعَيْنَ لِأَجْلِ فُلَانٍ فَقَالَ الْمَالِكُ بِعْت أَوْ قَالَ الْمَالِكُ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَيْنَ لِأَجْلِ فُلَانٍ فَقَالَ اشْتَرَيْت لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْمُشْتَرِي حَيْثُ أُضِيفَ إلَيْهِ ظَاهِرًا فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِيقَافِ عَلَى رِضَا الْغَيْرِ. وَقَوْلُهُ: لِأَجْلِ فُلَانٍ يَحْتَمِلُ لِأَجْلِ رِضَاهُ وَشَفَاعَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ وَلَمْ يَنْفُذْ عَلَى الْمَالِكِ فَاحْتِيجَ إلَى الْإِيقَافِ عَلَى رِضَا الْغَيْرِ، وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ وَالشِّرَاءُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ (قَوْلُهُ: وَلَهُ) أَيْ لِلْمَالِكِ (الْإِجَازَةُ). اعْلَمْ أَنَّ الْفُضُولِيَّ إمَّا أَنْ يَبِيعَ الْعَيْنَ بِثَمَنِ دَيْنٍ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ وَالْكَيْلِيُّ وَالْوَزْنِيُّ الْمَوْصُوفُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنِ عَيْنٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلِلْمَالِكِ الْإِجَازَةُ إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بَاقِيًا وَالْمُتَعَاقِدَانِ بِحَالِهِمَا، فَإِنْ أَجَازَ حَالَ قِيَامِ الْأَرْبَعَةِ جَازَ الْبَيْعُ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْإِجَازَةَ تُصْرَفُ فِي الْعَقْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِهِ وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَكَانَتْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ فَيَكُونُ الْبَائِعُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ وَالثَّمَنُ مَمْلُوكٌ لِلْمَالِكِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْفُضُولِيِّ

ص: 54

وَإِذَا أَجَازَ الْمَالِكُ كَانَ الثَّمَنُ مَمْلُوكًا لَهُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ، لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ، وَلِلْفُضُولِيِّ أَنْ يَفْسَخَ قَبْلَ الْإِجَازَةِ دَفْعًا لِلْحُقُوقِ عَنْ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مُعَبِّرٌ مَحْضٌ، هَذَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا، فَإِنْ كَانَ عَرْضًا مُعَيَّنًا إنَّمَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ إذَا كَانَ الْعَرْضُ بَاقِيًا أَيْضًا. ثُمَّ الْإِجَازَةُ إجَازَةُ نَقْدٍ لَا إجَازَةُ عَقْدٍ حَتَّى يَكُونَ الْعَرْضُ الثَّمَنُ مَمْلُوكًا لِلْفُضُولِيِّ، وَعَلَيْهِ مِثْلُ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمَتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا، لِأَنَّهُ شِرَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَالشِّرَاءُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ.

وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَيُحْتَاجُ إلَى قِيَامِ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ، وَقِيَامُ ذَلِكَ الْعَرَضِ أَيْضًا، وَالْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ إجَازَةُ نَقْدٍ بِأَنْ يَنْقُدَ الْبَائِعُ مَا بَاعَ ثَمَنًا لِمَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ لَا إجَازَةَ عَقْدٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ عَلَى الْفُضُولِيِّ وَالْعَرْضُ الثَّمَنُ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَعَلَيْهِ مِثْلُ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ عَرَضًا صَارَ الْبَائِعُ مِنْ وَجْهٍ مُشْتَرِيًا، وَالشِّرَاءُ إذَا وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْعَاقِدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ؛ وَكَمَا أَنَّ لِلْمَالِكِ الْفَسْخَ فَكَذَا لِكُلٍّ مِنْ الْفُضُولِيِّ وَالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْفُضُولِيِّ فَلَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ الْتِزَامِ الْعُهْدَةِ، بِخِلَافِ الْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّ فَسْخَهُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ وَهُوَ فِيهِ مُعَبِّرٌ، فَإِذَا عَبَّرَ فَقَدْ انْتَهَى فَصَارَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ.

وَلَوْ فَسَخَتْ الْمَرْأَةُ نِكَاحَهَا قَبْلَ الْإِجَازَةِ انْفَسَخَ.

ص: 55

(وَلَوْ هَلَكَ الْمَالِكُ) لَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَرِّثِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ بِإِجَازَةِ غَيْرِهِ. وَلَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ فِي حَيَاتِهِ وَلَا يَعْلَمُ حَالَ الْمَبِيعِ جَازَ الْبَيْعُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَوَّلًا، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله وَقَالَ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَعْلَمَ قِيَامَهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الشَّكَّ وَقَعَ فِي شَرْطِ الْإِجَازَةِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ. .

وَلَوْ هَلَكَ الْمَالِكُ لَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ فِي الْفَصْلَيْنِ: أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا أَوْ عَرَضًا؛؛ لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَرِّثِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ لِإِجَازَةِ غَيْرِهِ. وَاسْتُشْكِلَ بِمَا إذَا تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ بِرَجُلٍ قَدْ وَطِئَهَا مَوْلَاهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ فَمَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْإِجَازَةِ وَوَرِثَهَا ابْنُهُ فَإِنَّ النِّكَاحَ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الِابْنِ، فَإِنْ أَجَازَ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا، فَهَذِهِ فُضُولِيَّةٌ وَتَوَقَّفَ عَمَلُهَا عَلَى إجَازَةِ الْوَارِثِ. أُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ التَّوَقُّفِ لِطَرَيَانِ الْحِلِّ الْبَاتِّ عَلَى الْحِلِّ الْمَوْقُوفِ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُهُ، وَهَاهُنَا لَمْ يَطْرَأْ لِلْوَارِثِ حِلٌّ بَاتٌّ لِكَوْنِهَا مَوْطُوءَةَ الْأَبِ فَيَتَوَقَّفُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْوَارِثِ إذْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ، حَتَّى لَوْ لَمْ تَكُنْ مَوْطُوءَةَ الْأَبِ بَطَلَ نِكَاحُهَا (وَلَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ فِي حَيَاتِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ حَالَ الْمَبِيعِ) مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ (جَازَ الْبَيْعُ) فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَعْلَمَ قِيَامَهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ وَقَعَ فِي شَرْطِ الْإِجَازَةِ، وَهُوَ قِيَامُ الْمَبِيعِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ. فَإِنْ قِيلَ: الشَّكُّ هُوَ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ وَهَاهُنَا

ص: 56

قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَبَاعَهُ وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ) اسْتِحْسَانًا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمهم الله: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ، قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» وَالْمَوْقُوفُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَلَوْ ثَبَتَ فِي الْآخِرَةِ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَالْمُصَحِّحُ لِلْإِعْتَاقِ الْمِلْكُ الْكَامِلُ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتِقَ الْغَاصِبُ ثُمَّ يُؤَدِّيَ الضَّمَانَ، وَلَا أَنْ يُعْتِقَ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ثُمَّ يُجِيزُ الْبَائِعُ ذَلِكَ،

طَرَفُ الْبَقَاءِ رَاجِحٌ إذْ أَصْلُ الْبَقَاءِ مَا لَمْ يُتَيَقَّنْ بِالْمُزِيلِ وَهَاهُنَا لَمْ يُتَيَقَّنْ. أُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ لَا مُثْبِتَةٌ، وَنَحْنُ هَاهُنَا نَحْتَاجُ إلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِمَنْ وَقَعَ لَهُ الشِّرَاءُ فَلَا يَصْلُحُ فِيهِ حُجَّةٌ.

قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَبَاعَهُ وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي). قِيلَ جَرَتْ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حِين عَرَضَ عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابَ.

قَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَا رَوَيْت لَك عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِتْقَ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا رَوَيْت أَنَّ الْعِتْقَ بَاطِلٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: بَلْ رَوَيْت أَنَّ الْعِتْقَ جَائِزٌ. وَصُورَتُهَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ (وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَبَاعَهُ وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ وَالْعِتْقَ جَازَ اسْتِحْسَانًا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» ) لَا مِلْكَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ (الْمَوْقُوفَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ) فِي الْحَالِ وَمَا يَثْبُتُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مُسْتَنِدٌ، وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مُصَحِّحٍ لِلْإِعْتَاقِ (إذْ الْمُصَحِّحُ لَهُ هُوَ الْمِلْكُ الْكَامِلُ) الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَلَا يُشْكِلُ بِالْمُكَاتَبِ فَإِنَّ إعْتَاقَهُ جَائِزٌ، وَلَيْسَ الْمِلْكُ فِيهِ كَامِلًا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعِتْقِ هُوَ الرَّقَبَةُ وَالْمِلْكُ فِيهَا كَامِلٌ فِيهِ، وَاسْتَوْضَحَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بِفُرُوعٍ تُؤْنِسُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ:(وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتِقَ الْغَاصِبُ ثُمَّ يُؤَدِّيَ الضَّمَانَ) وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ. وَقَوْلُهُ: (وَلَا أَنْ يُعْتِقَ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ثُمَّ يُجِيزَ الْبَائِعُ) وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ وَالْمَوْقُوفُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ.

ص: 57

وَكَذَا لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ أَسْرَعُ نَفَاذًا حَتَّى نَفَذَ مِنْ الْغَاصِبِ إذَا أَدَّى الضَّمَانَ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ إذَا أَدَّى الْغَاصِبُ الضَّمَانَ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ مَوْقُوفًا بِتَصَرُّفٍ مُطْلَقٍ مَوْضُوعٍ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى مَا مَرَّ فَتَوَقَّفَ الْإِعْتَاقُ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ وَيَنْفُذُ بِنَفَاذِهِ فَصَارَ كَإِعْتَاقِ الْمُشْتَرِي مِنْ الرَّاهِنِ وَكَإِعْتَاقِ الْوَارِثِ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ وَهِيَ مُسْتَغْرِقَةٌ بِالدُّيُونِ يَصِحُّ، وَيَنْفُذُ إذَا قَضَى الدُّيُونَ بَعْدَ ذَلِكَ،

وَقَوْلُهُ: (وَكَذَا لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْغَاصِبِ إذَا بَاعَ مِنْ الْغَيْرِ ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ لَا يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ الثَّانِي، فَكَذَا إذَا أُعْتِقَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْبَيْعَ أَسْرَعُ نَفَاذًا مِنْ الْعِتْقِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا بَاعَ ثُمَّ ضَمِنَ نَفَذَ بَيْعُهُ؛ وَلَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ ضَمِنَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، وَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ مَا هُوَ أَسْرَعُ نُفُوذًا فَلَأَنْ لَا يَنْفُذَ غَيْرُهُ أَوْلَى (قَوْلُهُ: وَكَذَا لَا يَصِحُّ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ إذَا أَدَّى الْغَاصِبُ الضَّمَانَ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمِلْكَ) فِيهِ (ثَبَتَ مَوْقُوفًا) وَالْإِعْتَاقُ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ مَوْقُوفًا عَلَى الْمِلْكِ الْمَوْقُوفِ وَيَنْفُذُ بِنَفَاذِهِ، أَمَّا أَنَّهُ ثَبَتَ فَلِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ التَّصَرُّفُ الْمُطْلَقُ الْمَوْضُوعُ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ وَلِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَهُوَ الضَّرَرُ، وَأَمَّا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ فَلِمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى ذَلِكَ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي مِنْ الرَّاهِنِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ إعْتَاقًا فِي بَيْعٍ مَوْقُوفٍ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى إعْتَاقِ الْوَارِثِ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ وَهِيَ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالدُّيُونِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَنْفُذُ إذَا قَضَى الدُّيُونَ بَعْدَ ذَلِكَ بِجَامِعِ كَوْنِهِ إعْتَاقًا مَوْقُوفًا فِي مِلْكٍ مَوْقُوفٍ، وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ الْأَوَّلِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله لِلِاسْتِظْهَارِ بِهِ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ الْمُطْلَقُ عَنْ الْبَيْعِ بِشَرْطِ

ص: 58

بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْغَاصِبِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْغَصْبَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارُ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ، وَقِرَانُ الشَّرْطِ بِهِ يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ أَصْلًا، وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ إذَا بَاعَ لِأَنَّ بِالْإِجَازَةِ يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ مِلْكٌ بَاتٌّ، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى مِلْكٍ مَوْقُوفٍ لِغَيْرِهِ أَبْطَلَهُ، وَأَمَّا إذَا أَدَّى الْغَاصِبُ الضَّمَانَ يَنْفُذُ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ كَذَا ذَكَرَهُ هِلَالٌ رحمه الله وَهُوَ الْأَصَحُّ

الْخِيَارِ، وَبِقَوْلِهِ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ عَنْ الْغَصْبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ جَوَابُ مُحَمَّدٍ عَنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّ إعْتَاقَ الْغَاصِبِ إنَّمَا لَمْ يَنْفُذْ بَعْدَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ.

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَبِهَذَا التَّعْلِيلِ لَا يَتِمُّ مَا ادَّعَاهُ فَإِنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ وَجَبَ أَنْ لَا يَنْفُذَ بَيْعُهُ أَيْضًا عِنْدَ إجَازَةِ الْمَالِكِ كَمَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ عِنْدَ إجَازَةِ الْمَالِكِ لِمَا أَنَّ كُلًّا مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ وَجَوَازِ الْعِتْقِ مُحْتَاجٌ إلَى الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ هُنَا بِالْإِجَازَةِ، وَلَكِنَّ وَجْهَ تَمَامِ التَّعْلِيلِ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَقَالَ: وَهَذَا بِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا أُعْتِقَ ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَنِدَ بِهِ حُكْمُ الْمِلْكِ لَا حَقِيقَةُ الْمِلْكِ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الزَّوَائِدَ الْمُنْفَصِلَةَ وَحُكْمُ الْمِلْكِ يَكْفِي لِنُفُوذِ الْبَيْعِ دُونَ الْعِتْقِ كَحُكْمِ مِلْكِ الْمُكَاتَبِ فِي كَسْبِهِ وَهَاهُنَا الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الزَّوَائِدَ الْمُتَّصِلَةَ وَالْمُنْفَصِلَةَ، وَلَوْ قُدِّرَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مُضَافٌ: أَيْ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِإِفَادَةِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لَتَسَاوَى الْكَلَامَانِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِدٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَاجُ إلَى مِلْكٍ بَلْ يَكْفِي فِيهِ حُكْمُ الْمِلْكِ وَالْغَصْبُ يُفِيدُهُ. (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارُ الْبَائِعِ) جَوَابٌ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّ الْبَيْعَ بِالْخِيَارِ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ فَالسَّبَبُ فِيهِ غَيْرُ تَامٍّ، فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ مَقْرُونٌ بِالْعَقْدِ نَصًّا، وَقِرَانُ الشَّرْطِ بِالْعَقْدِ يَمْنَعُ كَوْنَهُ سَبَبًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ أَصْلُ الْعَقْدِ وَلَكِنْ يَكُونُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ، وَالْمُعَلَّقُ بِهِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ (قَوْلُهُ: وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ) جَوَابٌ عَنْ الثَّالِثَةِ. وَوَجْهُهُ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ بِالْإِجَازَةِ يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ مِلْكٌ بَاتٌّ فَإِذَا طَرَأَ عَلَى مِلْكٍ مَوْقُوفٍ لِغَيْرِهِ أَبْطَلَهُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ اجْتِمَاعِ الْمِلْكِ الْبَاتِّ وَالْمَوْقُوفُ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا بَاعَ ثُمَّ أَدَّى الضَّمَانَ يَنْقَلِبُ بَيْعُ الْغَاصِبِ جَائِزًا وَإِنْ طَرَأَ الْمِلْكُ الَّذِي ثَبَتَ لِلْغَاصِبِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي الَّذِي اشْتَرَى

ص: 59

قَالَ (فَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ فَأَخَذَ أَرْشَهَا ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ فَالْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي) لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَمَّ لَهُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَطْعَ حَصَلَ عَلَى مِلْكِهِ وَهَذِهِ حُجَّةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَالْعُذْرُ لَهُ أَنَّ الْمِلْكَ مِنْ وَجْهٍ يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ الْأَرْشِ كَالْمُكَاتَبِ إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ وَأَخَذَ الْأَرْشَ ثُمَّ رُدَّ فِي الرِّقِّ يَكُونُ الْأَرْشُ لِلْمَوْلَى، فَكَذَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُشْتَرَى فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ثُمَّ أُجِيزَ الْبَيْعُ فَالْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ

مِنْهُ وَهُوَ مَوْقُوفٌ. الثَّانِي أَنَّ طُرُوءَ الْمِلْكِ الْبَاتِّ عَلَى الْمَوْقُوفِ لَوْ كَانَ مُبْطِلًا لَهُ لَكَانَ مَانِعًا عَنْ الْمَوْقُوفِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ بِدَلِيلِ انْعِقَادِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّ مِلْكَ الْمَالِكِ بَاتٌّ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْغَاصِبِ ضَرُورَةُ الضَّمَانِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُشْتَرِي وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْبَيْعَ الْمَوْقُوفَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الْمَالِكِ بَلْ يُوجَدُ مِنْ الْفُضُولِيِّ، وَالْمَنْعُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْوُجُودِ، أَمَّا الْمَالِكُ إذَا أَجَازَ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ فَقَدْ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي مِلْكٌ بَاتٌّ فَأَبْطَلَ الْمَوْقُوفَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمِلْكَ الْبَاتَّ وَالْمَوْقُوفَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ بَعْدَ الْوُجُودِ رَفْعٌ لَا مَنْعٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ مُغَالَطَةٌ فَإِنَّ كَلَامَنَا فِي أَنَّ طُرُوءَ الْمِلْكِ الْبَاتِّ يُبْطِلُ الْمَوْقُوفَ وَلَيْسَ مِلْكُ الْمَالِكِ طَارِئًا حَتَّى يَتَوَجَّهَ السُّؤَالُ.

وَقَوْلُهُ: (أَمَّا إذَا أَدَّى الْغَاصِبُ الضَّمَانَ) جَوَابٌ عَنْ الرَّابِعَةِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَمَّا إذَا أَدَّى الْغَاصِبُ الضَّمَانَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إعْتَاقَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ لَا يَنْفُذُ بَلْ يَنْفُذُ، كَذَا ذَكَرَهُ هِلَالٌ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ فَقَالَ: يَنْفُذُ وَقْفُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ فَالْعِتْقُ أَوْلَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَلَئِنْ سُلِّمَ فَنَقُولُ: هُنَاكَ الْمُشْتَرِي يَمْلِكُهُ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ وَحَقِيقَةُ الْمِلْكِ لَا تَسْتَنِدُ لِلْغَاصِبِ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ تَسْتَنِدُ لِمَنْ يَتَمَلَّكُهُ مِنْ جِهَتِهِ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَهَاهُنَا إنَّمَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ لَهُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ مِنْ جِهَةِ الْمُجِيزِ، وَالْمُجِيزُ كَانَ مَالِكًا لَهُ حَقِيقَةً فَيُمْكِنُ إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ

قَالَ (فَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ إلَخْ) إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي أَرْشَهَا ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ فَالْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِجَازَةِ قَدْ تَمَّ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ هُوَ الْعَقْدُ وَكَانَ تَامًّا فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنْ

ص: 60

عَلَى مَا مَرَّ.

امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُ الْمَانِعُ وَهُوَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَإِذَا ارْتَفَعَ بِالْإِجَازَةِ ثَبَتَ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ السَّبَبِ لِكَوْنِ الْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَطْعَ حَصَلَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَكُونُ الْأَرْشُ لَهُ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا حَدَثَ لِلْجَارِيَةِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِنْ وَلَدٍ وَكَسْبٍ فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْمَالِكُ الْمَبِيعَ أَخَذَ جَمِيعَ ذَلِكَ مَعَهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ بَقِيَ مُتَقَرِّرًا فِيهَا، وَالْكَسْبُ وَالْأَرْشُ وَالْوَلَدُ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِمِلْكِ الْأَصْلِ.

وَاعْتُرِضَ بِمَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَقُطِعَتْ يَدُهُ وَضَمِنَهُ الْغَاصِبُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْأَرْشَ وَإِنْ مَلَكَ الْمَضْمُونَ. وَبِالْفُضُولِيِّ إذَا قَالَ لِامْرَأَةٍ أَمْرُك بِيَدِك فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ بَلَغَ الْخَبَرُ الزَّوْجَ فَأَجَازَ صَحَّ التَّفْوِيضُ دُونَ التَّطْلِيقِ وَإِنْ ثَبَتَتْ الْمَالِكِيَّةُ لَهَا مِنْ حِينِ التَّفْوِيضِ حُكْمًا لِلْإِجَازَةِ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَغْصُوبِ ثَبَتَ ضَرُورَةً عَلَى مَا عُرِفَ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِثُبُوتِهِ مِنْ وَقْتِ الْأَدَاءِ فَلَا يَمْلِكُ الْأَرْشَ لِعَدَمِ حُصُولِهِ فِي مِلْكِهِ.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ تَوَقَّفَ حُكْمُهُ عَلَى شَيْءٍ يَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ لَا سَبَبًا مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ لِئَلَّا يَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْ السَّبَبِ إلَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ سَبَبًا مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ مُتَأَخِّرًا حُكْمُهُ إلَى وَقْتِ الْإِجَازَةِ.

فَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَالتَّفْوِيضِ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ فَجُعِلَ الْمَوْجُودُ مِنْ الْفُضُولِيِّ مُعَلَّقًا بِالْإِجَازَةِ فَعِنْدَهَا يَصِيرُ كَأَنَّهُ وُجِدَ الْآنَ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا مِنْ وَقْتِ الْإِجَازَةِ، وَهَذِهِ أَيْ كَوْنُ الْأَرْشِ لِلْمُشْتَرِي حُجَّةً عَلَى مُحَمَّدٍ فِي عَدَمِ تَجْوِيزِ الْإِعْتَاقِ فِي الْمِلْكِ الْمَوْقُوفِ لِمَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ الْمِلْكِ لَمَا كَانَ لَهُ الْأَرْشُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ كَمَا فِي الْغَصْبِ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ وَالْعُذْرُ: أَيْ الْجَوَابُ لَهُ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ أَنَّ الْمِلْكَ مِنْ وَجْهٍ كَافٍ لِاسْتِحْقَاقِ الْأَرْشِ كَالْمُكَاتَبِ إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ وَأَخَذَ الْأَرْشَ ثُمَّ رُدَّ رَقِيقًا فَإِنَّ الْأَرْشَ لِلْمَوْلَى، وَكَمَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُشْتَرِي فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ثُمَّ أَجَازَ الْبَيْعَ فَإِنَّ الْأَرْشَ لِلْمُشْتَرِي لِثُبُوتِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ: يَعْنِي لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ عَلَى مَا مَرَّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ وَقِرَانُ الشَّرْطِ بِهِ يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَقِيلَ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ إنَّ الْمِلْكَ مِنْ وَجْهٍ يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ الْأَرْشِ: يَعْنِي أَنَّ إعْتَاقَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ بَعْدَ الْإِجَازَةِ لَا يَنْفُذُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْمُصَحِّحَ لِلْإِعْتَاقِ هُوَ الْمِلْكُ الْكَامِلُ لَا الْمِلْكُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَقَوْلُهُ:(عَلَى مَا مَرَّ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَالْمُصَحِّحُ لِلْإِعْتَاقِ هُوَ الْمِلْكُ الْكَامِلُ وَهَذَا أَقْرَبُ، وَيَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ عَلَى نِصْفِ

ص: 61

(وَيَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ. قَالَ: فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ الْأَوَّلَ

الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ فِي الْحُرِّ نِصْفُ الدِّيَةِ.

وَفِي الْعَبْدِ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَاَلَّذِي دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ هُوَ مَا كَانَ بِمُقَابَلَةِ الثَّمَنِ، فَمَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ يَكُونُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكِ يَثْبُتُ يَوْمَ قَطْعِ الْيَدِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْبَيْعِ، وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَطِيبُ الرِّبْحُ الْحَاصِلُ بِهِ. وَفِي الْكَافِي: إنْ لَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مَقْبُوضًا وَأَخْذُ الْأَرْشِ يَكُونُ الزَّائِدُ عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ، وَلَوْ كَانَ أَخْذُ الْأَرْشِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَفِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ حَقِيقَةً وَقْتَ الْقَطْعِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ الْمِلْكُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَكَانَ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَهَذَا كَمَا تَرَى تَوْزِيعُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْكِتَابِ عَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ.

قَالَ (فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ إلَخْ) يَعْنِي إنْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ الْأَوَّلَ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ الثَّانِي لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بِالْإِجَازَةِ يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ مِلْكٌ بَاتٌّ، وَالْمِلْكُ الْبَاتُّ، إذَا طَرَأَ عَلَى مِلْكٍ مَوْقُوفٍ لِغَيْرِهِ أَبْطَلَهُ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ الِانْفِسَاخِ عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِ الْإِجَازَةِ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَالْبَيْعُ يَفْسُدُ بِهِ. قِيلَ هَذَا التَّعْلِيلُ شَامِلٌ لِبَيْعِ الْغَاصِبِ مِنْ مُشْتَرِيهِ وَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُجِيزَ الْمَالِكُ بَيْعَهُمَا

ص: 62

لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ الثَّانِي لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ الِانْفِسَاخِ عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِ الْإِجَازَةِ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَالْبَيْعُ يَفْسُدُ بِهِ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْغَرَرُ.

قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ الْمُشْتَرِي فَمَاتَ فِي يَدِهِ أَوْ قُتِلَ ثُمَّ أَجَازَ الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِجَازَةَ مِنْ شُرُوطِهَا قِيَامُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ وَكَذَا بِالْقَتْلِ،

وَأَنْ لَا يُجِيزَ، وَمَعَ ذَلِكَ انْعَقَدَ بَيْعُ الْغَاصِبِ وَالْفُضُولِيِّ مَوْقُوفًا.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ غَرَرَ الِانْفِسَاخِ فِي بَيْعِهِمَا عَارَضَهُ النَّفْعُ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَالِكِ الْمَذْكُورِ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْغَرَرِ يَفْسُدُ، وَبِالنَّظَرِ إلَى النَّفْعِ وَعَدَمِ الضَّرَرِ يَجُوزُ فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ الْمَوْقُوفِ عَمَلًا بِهِمَا. لَا يُقَالُ: الْغَرَرُ مُحَرَّمٌ فَتَرَجَّحَ؛ لِأَنَّ الصِّحَّةَ فِي الْعُقُودِ أَصْلٌ فَعَارَضَتْهُ عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ الْغَرَرِ مُطْلَقًا يَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَ التُّرُوكِ إجْمَاعًا، وَهُوَ أَنْ لَا يَصِحَّ بَيْعٌ أَصْلًا لَا سِيَّمَا فِي الْمَنْقُولَاتِ لِاحْتِمَالِ الْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَمَّا غَرَرُ الِانْفِسَاخِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَسَالِمٌ عَمَّا يُعَارِضُهُ إذْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ لَمْ يَمْلِكْ حَتَّى يَطْلُبَ مُشْتَرِيًا آخَرَ فَتَجَرَّدَ الْبَيْعُ الثَّانِي عُرْضَةً لِغَرَرِ الِانْفِسَاخِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْغَرَرُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَنْقُولَاتِ لَا يَصِحُّ لِغَرَرِ الِانْفِسَاخِ، وَالْإِعْتَاقُ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِحُّ

قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ الْمُشْتَرِي فَمَاتَ فِي يَدِهِ أَوْ قُتِلَ) أَيْ فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ فَمَاتَ فِي يَدِهِ أَوْ قُتِلَ (ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ) أَيْ بَيْعَ الْغَاصِبِ (لَمْ يَجُزْ) بِالِاتِّفَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِجَازَةَ مِنْ

ص: 63

إذْ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْبَدَلِ لِلْمُشْتَرِي بِالْقَتْلِ حَتَّى يُعَدَّ بَاقِيًا بِبَقَاءِ الْبَدَلِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الْقَتْلِ مِلْكًا يُقَابَلُ بِالْبَدَلِ فَتَحَقَّقَ الْفَوَاتُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ثَابِتٌ فَأَمْكَنَ إيجَابُ الْبَدَلِ لَهُ فَيَكُونُ الْمَبِيعُ قَائِمًا بِقِيَامِ خَلَفِهِ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ أَوْ رَبِّ الْعَبْدِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْبَيْعِ وَأَرَادَ رَدَّ الْمَبِيعِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ) لِلتَّنَاقُضِ فِي الدَّعْوَى، إذْ الْإِقْدَامُ عَلَى الشِّرَاءِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِصِحَّتِهِ، وَالْبَيِّنَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى (وَإِنْ أَقَرَّ الْبَائِعُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي)

شَرْطِهَا قِيَامُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ وَالْقَتْلِ لِامْتِنَاعِ إيجَابِ الْبَدَلِ لِلْمُشْتَرِي بِالْقَتْلِ، فَلَا يُعَدُّ بَاقِيًا بِبَقَاءِ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الْقَتْلِ مِلْكًا يُقَابَلُ بِالْبَدَلِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ مِلْكٌ مَوْقُوفٌ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَابَلًا بِالْبَدَلِ (بِخِلَافِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ) فَإِنَّهُ إذَا قُتِلَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَنْفَسِخُ (؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ثَابِتٌ بَاتٌّ فَأَمْكَنَ إيجَابُ الْبَدَلِ فَيَكُونُ الْمَبِيعُ قَائِمًا بِقِيَامِ خَلَفِهِ) وَهُوَ الْقِيمَةُ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْبَدَلَ كَانَ الْبَدَلُ لِلْمُشْتَرِي.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ) رَجُلٌ بَاعَ عَبْدَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي أَرُدُّ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّك بِعْتَنِي بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ وَجَحَدَ الْبَائِعُ ذَلِكَ (فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ) أَنَّ رَبَّ الْعَبْدِ أَوْ الْبَائِعُ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ الْبَائِعَ بِبَيْعِهِ (لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ)؛ لِأَنَّهَا تَبْتَنِي عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى فَإِنْ صَحَّتْ الدَّعْوَى صَحَّتْ الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَلَا وَهَاهُنَا بَطَلَتْ الدَّعْوَى (لِلتَّنَاقُضِ)؛ لِأَنَّ إقْدَامَ الْمُشْتَرِي دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الشِّرَاءِ وَأَنَّ الْبَائِعَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ ثُمَّ دَعْوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاعَ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الشِّرَاءِ وَأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَمْلِكْ الْبَيْعَ فَحَصَلَ التَّنَاقُضُ الْمُبْطِلُ لِلدَّعْوَى الْمُسْتَلْزِمَةِ صِحَّتُهَا لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ.

(وَإِنْ أَقَرَّ الْبَائِعُ بِذَلِكَ) أَيْ بِأَنَّهُ بَاعَهُ

ص: 64

بَطَلَ الْبَيْعُ إنْ طَلَبَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّنَاقُضَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُسَاعِدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَحَقَّقُ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمَا، فَلِهَذَا شَرَطَ طَلَبَ الْمُشْتَرِي. قَالَ رحمه الله: وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا صَدَّقَ مُدَّعِيَهُ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ أَنَّهُ لِلْمُسْتَحِقِّ تُقْبَلُ. وَفَرَّقُوا أَنَّ الْعَبْدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ

بِغَيْرِ أَمْرِهِ (بَطَلَ الْبَيْعُ) إنْ طَلَبَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ (أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ) صَحَّ إقْرَارُهُ، إلَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ لَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، فَإِذَا سَاعَدَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ تَحَقَّقَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمَا فَجَازَ أَنْ يُنْقَضَ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله مَسْأَلَةَ الزِّيَادَاتِ نَقْضًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَتَصْوِيرُهَا مَا قِيلَ: رَجُلٌ ادَّعَى عَلَى الْمُشْتَرِي بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ لَهُ وَصَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ الْمَبِيعَ لِهَذَا الْمُسْتَحَقِّ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ وَإِنْ تَنَاقَضَ فِي دَعْوَاهُ.

قَالَ (وَفَرَّقُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ بَيْنَ رِوَايَتَيْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالزِّيَادَاتِ (بِأَنَّ الْعَبْدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (فِي يَدِ الْمُشْتَرِي) فَيَكُونُ الْمَبِيعُ سَالِمًا لَهُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ مَعَ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ لَهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عَدَمُ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ (وَفِي تِلْكَ) أَيْ مَسْأَلَةِ الزِّيَادَاتِ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُسْتَحِقِّ فَلَا يَكُونُ الْمَبِيعُ سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ لِوُجْدَانِ شَرْطِهِ. قِيلَ فِي هَذَا الْفَرْقِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الزِّيَادَاتِ أَيْضًا فِي أَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُسْتَحِقِّ فَلَا يَلْزَمُ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ لِبَقَاءِ التَّنَاقُضِ الْمُبْطِلِ لِلدَّعْوَى، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَلَمْ تَقْبَلْ التَّنَاقُضَ.

وَفِي مَسْأَلَةِ الزِّيَادَاتِ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِقْرَارِ بَعْدَ الْبَيْعِ فَلَا يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ فَقُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَلَمْ يَتَّضِحْ لِي فِيهِ شَيْءٌ سِوَى هَذَا بَعْدَ أَنْ تَأَمَّلْت فِيهِ بُرْهَةً مِنْ الدَّهْرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ فِي وَضْعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُمْكِنٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي أَقْدَمَ عَلَى الشِّرَاءِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ بِعَدَمِ الْأَمْرِ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ عُدُولٌ: سَمِعْنَاهُ قَبْلَ الْبَيْعِ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَيَشْهَدُونَ بِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَانِعٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْوَاضِحُ فِي الْفَرْقِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وَمَا قِيلَ إنَّ التَّنَاقُضَ الْمُبْطِلَ لِلدَّعْوَى بَاقٍ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُ

ص: 65

فِي يَدِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ، وَشَرْطُ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ أَنْ لَا يَكُونُ الْعَيْنُ سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي.

مُتَنَاقِضٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْكِرُ الْعَقْدَ أَصْلًا وَلَا مِلْكَ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، فَإِنَّ بَيْعَ مَالِ الْغَيْرِ مُنْعَقِدٌ وَبَدَلُ الْمُسْتَحَقِّ مَمْلُوكٌ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ وَصْفَ الْعَقْدِ وَهُوَ الصِّحَّةُ وَاللُّزُومُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَكَانَ مُتَنَاقِضًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَجَعَلْنَاهُ مُتَنَاقِضًا فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةَ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ لِسَلَامَةِ الْمَبِيعِ لَهُ إذْ هُوَ فِي يَدِهِ وَلَمْ نَجْعَلْهُ مُتَنَاقِضًا

ص: 66

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فِي الْفَصْلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ فَائِدَةَ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ لِعَدَمِ سَلَامَتِهِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ وَكَانَ ذَلِكَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَصِرْنَا إلَيْهِ.

ص: 67

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دَارًا لِرَجُلٍ وَأَدْخَلَهَا الْمُشْتَرِي فِي بِنَائِهِ لَمْ يَضْمَنْ الْبَائِعُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله آخِرًا، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: يَضْمَنُ الْبَائِعُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَهِيَ مَسْأَلَةُ غَصْبِ الْعَقَارِ وَسَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دَارًا لِرَجُلٍ) قِيلَ مَعْنَاهُ: بَاعَ عَرْصَةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ (وَأَدْخَلَهَا الْمُشْتَرِي فِي بِنَائِهِ) قِيلَ يَعْنِي قَبَضَهَا وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْإِدْخَالِ فِي الْبِنَاءِ اتِّفَاقًا (لَمْ يَضْمَنْ الْبَائِعُ) أَيْ قِيمَةَ الدَّارِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يَضْمَنُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ غَصْبِ الْعَقَارِ) عَلَى مَا سَيَأْتِي

ص: 68

(بَابُ السَّلَمِ)

بَابُ السَّلَمِ:

لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا قَبْضُ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ، وَقَدَّمَ السَّلَمَ عَلَى الصَّرْفِ لِكَوْنِ الشَّرْطِ فِيهِ قَبْضَ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُفْرَدِ مِنْ الْمُرَكَّبِ. وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ نَوْعِ بَيْعٍ مُعَجَّلٍ فِيهِ الثَّمَنُ. وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ. قِيلَ فَهُوَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ إلَّا أَنَّ فِي الشَّرْعِ اقْتَرَنَتْ بِهِ زِيَادَةُ شَرَائِطَ. وَرُدَّ بِأَنَّ السِّلْعَةَ إذَا بِيعَتْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وُجِدَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى وَلَيْسَ بِسَلَمٍ، وَلَوْ قِيلَ بَيْعُ

ص: 69

السَّلَمُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ آيَةُ الْمُدَايَنَةِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ وَأَنْزَلَ فِيهَا أَطْوَلَ آيَةٍ فِي كِتَابِهِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الْآيَةُ.

آجِلٍ بِعَاجِلٍ لَا نَدْفَعُ ذَلِكَ. وَرُكْنُهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، بِأَنْ يَقُولَ رَبُّ السَّلَمِ لِآخَرَ أَسْلَمْت إلَيْك عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ أَسْلَفْت فَيَقُولُ الْآخَرُ قَبِلْت، وَيُسَمَّى هَذَا رَبَّ السَّلَمِ وَالْآخَرُ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ وَالْحِنْطَةُ الْمُسْلَمُ فِيهِ. وَلَوْ صَدَرَ الْإِيجَابُ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَالْقَبُولُ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ صَحَّ. وَشَرْطُ جَوَازِهِ سَيُذْكَرُ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ (السَّلَمُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ إلَخْ) السَّلَمُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ: تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} مَعْنَاهُ إذَا تَعَامَلْتُمْ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَاكْتُبُوهُ، وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ مُسَمًّى الْإِعْلَامُ بِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْأَجَلِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا.

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ (مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ وَأَنْزَلَ فِيهَا) أَيْ فِي السَّلَفِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمُدَايَنَةِ (أَطْوَلَ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} فَإِنْ قِيلَ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ. قُلْنَا: عُمُومُ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُهُ فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِهِ (قَوْلُهُ: الْمَضْمُونُ) صِفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِلسَّلَفِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا}

ص: 70

وَبِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» وَالْقِيَاسُ وَإِنْ كَانَ يَأْبَاهُ وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِمَا رَوَيْنَاهُ. وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ إذْ الْمَبِيعُ هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ.

قَالَ (وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»

وَمَعْنَاهُ الْوَاجِبُ فِي الذِّمَّةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ (فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهُ)؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، إذْ الْمَبِيعُ هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ لَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ.

قَالَ (وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ) السَّلَمُ جَائِزٌ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ (لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلَمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَالْوُجُوبُ يَنْصَرِفُ إلَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْجَوَازَ لَا مَحَالَةَ. فَإِنْ قِيلَ: مَنْ أَسْلَمَ شَرْطِيَّةٌ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} فَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ عَلَى وُجُودِ السَّلَمِ فِي الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى

ص: 71

وَالْمُرَادُ بِالْمَوْزُونَاتِ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهُمَا أَثْمَانٌ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُثَمَّنًا فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِمَا ثُمَّ قِيلَ يَكُونُ بَاطِلًا، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدِينَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ التَّصْحِيحَ إنَّمَا يَجِبُ فِي مَحِلٍّ أَوْجَبَا الْعَقْدَ فِيهِ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ.

جَوَازِهِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ (وَالْمُرَادُ بِالْمَوْزُونَاتِ غَيْرُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّهُمَا أَثْمَانٌ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا يَكُونُ ثَمَنًا بَلْ يَكُونُ مُثَمَّنًا فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِمَا. ثُمَّ قِيلَ: يَكُونُ بَاطِلًا، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَالِاعْتِبَارُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي) وَالْأَوَّلُ قَوْلُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ حِنْطَةً أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْعُرُوضِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِيُمْكِنَ أَنْ يَجْعَلَ بَيْعَ حِنْطَةٍ بِدَرَاهِمَ مُؤَجَّلَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا قَصَدَا مُبَادَلَةَ الْحِنْطَةِ بِالدَّرَاهِمِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مِنْ الْأَثْمَانِ بِأَنْ أَسْلَمَ عَشَرَةٌ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ فِي دَنَانِيرَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا ذَكَرَهُ عِيسَى أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التَّصْحِيحَ إنَّمَا يَجِبُ فِي مَحَلٍّ أَوْجَبَا الْعَقْدَ فِيهِ وَهُمَا أَوْجَبَاهُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَهُوَ إذَا كَانَ مِنْ الْأَثْمَانِ لَا يَصِحُّ تَصْحِيحُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ مُثَمَّنًا،

ص: 72

قَالَ (وَكَذَا فِي الْمَذْرُوعَاتِ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِذِكْرِ الذَّرْعِ وَالصِّفَةِ وَالصَّنْعَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا لِتَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ صِحَّةِ السَّلَمِ،

وَتَصْحِيحُهُ فِي الْحِنْطَةِ تَصْحِيحٌ فِي غَيْرِ مَا أَوْجَبَاهُ فِيهِ فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا.

قَالَ (وَكَذَا فِي الْمَذْرُوعَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا) أَيْ وَكَجِوَازِ السَّلَمِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ جَوَازُهُ فِي الْمَذْرُوعَاتِ لِكَوْنِهَا كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ وَهُوَ إمْكَانُ ضَبْطِ الصِّفَةِ وَمَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ لِارْتِفَاعِ الْجَهَالَةِ فَجَازَ إلْحَاقُهَا بِهِمَا. وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ سَقَطَ مَا قِيلَ الشَّيْءُ إنَّمَا يُلْحَقُ بِغَيْرِهِ دَلَالَةً إذَا تَسَاوَيَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَلَيْسَ الْمَذْرُوعُ مَعَ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ كَذَلِكَ لِتَفَاوُتِهِمَا فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ وُجُوهِ التَّفَاوُتِ وَهُوَ كَوْنُ الْمَذْرُوعِ قِيَمِيًّا، وَهُمَا مِثْلِيَّانِ؛ لِأَنَّ الْمَنَاطَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، إذْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى النِّزَاعِ تَرْتَفِعُ بِذَلِكَ دُونَ كَوْنِهِ قِيَمِيًّا أَوْ مِثْلِيًّا. فَإِنْ قِيلَ: الدَّلَالَةُ لَا تَعْمَلُ إذَا عَارَضَهَا عِبَارَةٌ وَقَدْ عَارَضَهَا قَوْلُهُ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ اُخْتُصَّتْ مِنْهُ الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ بِقَوْلِهِ «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ» الْحَدِيثَ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُمَا تَحْتَ قَوْلِهِ لَا تَبِعْ.

فَالْجَوَابُ إنَّا لَا نُسَلِّمُ صَلَاحِيَّةَ مَا ذَكَرْت لِلتَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ شَرْطٌ لَهُ

ص: 73

وَكَذَا فِي الْمَعْدُودَاتِ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ كَالْجَوْزِ وَالْبِيضِ، لِأَنَّ الْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِيهِ سَوَاءٌ لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى إهْدَارِ التَّفَاوُتِ، بِخِلَافِ الْبِطِّيخِ

وَهُوَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَهُوَ دُونَ الْقِيَاسِ فَلَا يَكُونُ مُعَارِضًا لِلدَّلَالَةِ (وَكَذَا فِي الْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَهِيَ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ) آحَادُهَا (كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ؛ لِأَنَّ الْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبَ مَعْلُومٌ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ) فَكَانَ مَنَاطُ الْحُكْمِ مَوْجُودًا كَمَا فِي الْمَذْرُوعَاتِ (فَجَازَ السَّلَمُ فِيهِ إلْحَاقًا بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَالْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ سَوَاءٌ لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى إهْدَارِ التَّفَاوُتِ) فَإِنَّهُ قَلَّمَا يُبَاعُ جَوْزٌ بِفَلْسٍ وَآخَرُ بِفَلْسَيْنِ، وَكَذَا الْبَيْضُ (بِخِلَافِ الْبِطِّيخِ

ص: 74

وَالرُّمَّانُ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، وَبِتَفَاوُتِ الْآحَادِ فِي الْمَالِيَّةِ يُعْرَفُ الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي بِيضِ النَّعَامَةِ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ كَمَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا يَجُوزُ كَيْلًا. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَجُوزُ كَيْلًا لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ وَلَيْسَ بِمَكِيلٍ. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَدَدًا أَيْضًا لِلتَّفَاوُتِ. وَلَنَا أَنَّ الْمِقْدَارَ مَرَّةُ يُعْرَفُ بِالْعَدَدِ وَتَارَةٌ بِالْكَيْلِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَعْدُودًا بِالِاصْطِلَاحِ فَيَصِيرُ مَكِيلًا بِاصْطِلَاحِهِمَا وَكَذَا فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا. وَقِيلَ هَذَا عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمه الله.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ. وَلَهُمَا أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا بِاصْطِلَاحِهِمَا فَتَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا وَلَا تَعُودُ وَزْنِيًّا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ

وَالرُّمَّانِ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا) فَصَارَ الضَّابِطُ فِي مَعْرِفَةِ الْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ عَنْ الْمُتَفَاوِتِ تَفَاوُتَ الْآحَادِ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْأَنْوَاعِ، وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ السَّلَمَ لَا يَجُوزُ فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ. ثُمَّ كَمَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا: أَيْ فِي الْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ عَدَدًا يَجُوزُ كَيْلًا. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ لَا كَيْلِيٌّ.

وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَدَدٌ أَيْضًا لِوُجُودِ التَّفَاوُتِ فِي الْآحَادِ. وَلَنَا أَنَّ الْمِقْدَارَ مَرَّةً يُعْرَفُ بِالْعَدَدِ وَأُخْرَى بِالْكَيْلِ فَأَمْكَنَ الضَّبْطُ بِهِمَا فَيَكُونُ جَائِزًا وَكَوْنُهُ مَعْدُودًا بِاصْطِلَاحِهِمَا فَجَازَ إهْدَارُهُ، وَالِاصْطِلَاحُ عَلَى كَوْنِهِ كَيْلِيًّا (قَوْلُهُ: وَكَذَا فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا) ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ لِأَحَدٍ. وَقِيلَ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلَا يَجُوزُ: أَيْ لَا يَجُوزُ

ص: 75

(وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوز لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالسِّنِّ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ، وَالتَّفَاوُتُ بَعْدَ ذَلِكَ يَسِيرٌ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ. وَلَنَا أَنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ مَا ذَكَرَ يَبْقَى فِيهِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فِي الْمَالِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ،

السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ؛ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ، وَالسَّلَمُ فِي الْأَثْمَانِ لَا يَجُوزُ.

وَلَهُمَا أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ثَابِتَةٌ بِاصْطِلَاحِهِمَا لِعَدَمِ وِلَايَةِ الْغَيْرِ عَلَيْهِمَا فَلَهُمَا إبْطَالُهُمَا بِاصْطِلَاحِهِمَا، فَإِذَا بَطَلَتْ الثَّمَنِيَّةُ صَارَتْ مُثَمَّنًا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَجَازَ السَّلَمُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الرِّبَا فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ. وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْفُلُوسِ قَوْلُ الْكُلِّ، وَهَذَا الْقَائِلُ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالسَّلَمِ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ الْمُسْلَمِ فِيهِ مُثَمَّنًا مِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ السَّلَمِ، فَإِقْدَامُهُمَا عَلَى السَّلَمِ تَضَمَّنَ إبْطَالَ الِاصْطِلَاحِ فِي حَقِّهِمَا فَعَادَ مُثَمَّنًا، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ الْبَيْعِ كَوْنُ الْمَبِيعِ مُثَمَّنًا فَإِنَّ بَيْعَ الْأَثْمَانِ بَعْضِهِمَا بِبَعْضٍ جَائِزٌ، فَالْإِقْدَامُ عَلَى الْبَيْعِ لَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ الِاصْطِلَاحِ فِي حَقِّهِمَا فَبَقِيَ ثَمَنًا كَمَا كَانَ، وَفَسَدَ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ.

(قَوْلُهُ: وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ) وَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مَوْصُوفًا، وَالْأَوَّلُ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله. هُوَ يَقُولُ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِبَيَانِ الْجِنْسِ كَالْإِبِلِ، وَالسِّنِّ كَالْجَذَعِ وَالثَّنِيِّ، وَالنَّوْعِ كَالْبُخْتِ وَالْعِرَابِ، وَالصِّفَةِ كَالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ، وَالتَّفَاوُتُ بَعْدَ ذَلِكَ سَاقِطٌ لِقِلَّتِهِ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ، وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَنْ يَشْتَرِيَ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ فِي تَجْهِيزِ الْجَيْشِ إلَى أَجَلٍ. وَأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اسْتَقْرَضَ بَكْرًا وَقَضَاهُ رُبَاعِيًّا» وَالسَّلَمُ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْ الِاسْتِقْرَاضِ.

وَلَنَا أَنَّ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي اشْتَرَطَهُ الْخَصْمُ يَبْقَى تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فِي الْمَالِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ، فَقَدْ يَكُونُ فَرَسَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ وَيَزِيدُ ثَمَنُ إحْدَاهُمَا زِيَادَةً فَاحِشَةً لِلْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمُنَافِيَةِ لِوَضْعِ الْأَسْبَابِ، بِخِلَافِ الثِّيَابِ؛ لِأَنَّهُ مَصْنُوعُ الْعِبَادِ، فَقَلَّمَا يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا بَعْدَ ذِكْرِ الْأَوْصَافِ، وَشِرَاءُ الْبَعِيرِ بِبَعِيرَيْنِ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الرِّبَا أَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا رِبَا بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْلِمِ فِيهَا، وَتَجْهِيزُ الْجَيْشِ وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَنَقْلُ الْآلَاتِ كَانَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِعِزَّتِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ

ص: 76

بِخِلَافِ الثِّيَابِ لِأَنَّهُ مَصْنُوعُ الْعِبَادِ فَقَلَّمَا يَتَفَاوَتُ الثَّوْبَانِ إذَا نُسِجَا عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ.

يَوْمَئِذٍ، وَلَمْ يَكُنْ الْقَرْضُ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَضَاهُ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ، وَالصَّدَقَةُ حَرَامٌ

ص: 77

وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ» وَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَجْنَاسِهِ حَتَّى الْعَصَافِيرُ.

عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: وَقَدْ صَحَّ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى جَوَابِ مَا يُقَالُ: التَّفَاوُتُ الْفَاحِشُ فِي الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ لَا يُوجَدُ فِي الْعَصَافِيرِ وَالْحَمَامَاتِ الَّتِي تُؤْكَلُ، وَأَنَّ السَّلَمَ فِيهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكُمْ.

وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَضْبُوطٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي الدِّيبَاجِ دُونَ الْعَصَافِيرِ، وَلَعَلَّ ضَبْطَ الْعَصَافِيرِ بِالْوَصْفِ أَهْوَنُ مِنْ ضَبْطِ الدِّيبَاجِ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ. لَا يُقَالُ: النَّهْيُ عَنْ الْحَيَوَانِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَصْفِ وَالْمُتَنَازَعُ فِيهِ هُوَ الْمَوْصُوفُ مِنْهُ فَلَا يَتَّصِلُ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً إلَى زَيْدِ بْنِ خَلْدَةَ فَأَسْلَمَهَا زَيْدٌ إلَى عِتْرِيسِ بْنِ عُرْقُوبٍ فِي قَلَائِصَ مَعْلُومَةٍ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: اُرْدُدْ مَا لَنَا لَا تُسْلِمُ أَمْوَالَنَا. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ لَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْقَلَائِصَ كَانَتْ مَعْلُومَةً فَكَانَ لِكَوْنِهِ حَيَوَانًا. لَا يُقَالُ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ بِقَوْلِهِ وَلَنَا مَنْقُوضٌ بِالْعَصَافِيرِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْمَطْلُوبِ بَلْ مِنْ حَيْثُ جَوَابُ الْخَصْمِ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى

ص: 78

قَالَ (وَلَا فِي أَطْرَافِهِ كَالرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ) لِلتَّفَاوُتِ فِيهَا إذْ هُوَ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ لَا مُقَدَّرٌ لَهَا.

ذَلِكَ فَهُوَ السُّنَّةُ.

قَالَ (وَلَا فِي أَطْرَافِهِ كَالرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ) وَالْكُرَاعُ مَا دُونَ الرُّكْبَةِ مِنْ الدَّوَابِّ، وَالْأَكَارِعُ جَمْعُهُ؛ لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ لَا مُقَدَّرَ لَهُ وَلَا فِي جُلُودِهِ؛ لِأَنَّهَا تُبَاعُ عَدَدًا وَهِيَ عَدَدِيَّةٌ فِيهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فَيُفْضِي السَّلَمُ

ص: 79

قَالَ (وَلَا فِي الْجُلُودِ عَدَدًا وَلَا فِي الْحَطَبِ حُزَمًا وَلَا فِي الرَّطْبَةِ جُرُزًا) لِلتَّفَاوُتِ فِيهَا، إلَّا إذَا عُرِفَ ذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُ طُولَ مَا يَشُدُّ بِهِ الْحُزْمَةَ أَنَّهُ شِبْرٌ أَوْ ذِرَاعٌ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ

فِيهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَزْنًا لِقَيْدِهِ عَدَدًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَدَدِيٌّ، فَحَيْثُ لَمْ يَجُزْ عَدَدًا لَمْ يَجُزْ وَزْنًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُوزَنُ عَادَةً. وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ لِلْجُلُودِ ضَرْبًا مَعْلُومًا يَجُوزُ وَذَلِكَ لِانْتِفَاءِ الْمُنَازَعَةِ حِينَئِذٍ (وَلَا فِي الْحَطَبِ حُزَمًا) لِكَوْنِهِ مَجْهُولًا مِنْ حَيْثُ طُولُهُ وَعَرْضُهُ وَغِلَظُهُ، فَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ جَازَ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَلَا فِي الرَّطْبَةِ جُرَزًا بِضَمِّ الْجِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ مَفْتُوحَةٌ وَزَايٌ: وَهِيَ الْقَبْضَةُ مِنْ الْقَتِّ وَنَحْوِهِ لِلتَّفَاوُتِ، إلَّا إذَا عُرِفَ ذَلِكَ بِبَيَانِ طُولِ مَا تُشَدُّ بِهِ الْحُزْمَةُ أَنَّهُ شِبْرٌ أَوْ ذِرَاعٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ

ص: 80

مَوْجُودًا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الْمَحِلِّ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُنْقَطِعًا عِنْدَ الْعَقْدِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحِلِّ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ أَوْ مُنْقَطِعًا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ إذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَحِلِّ لِوُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِهِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُسَلِّفُوا فِي الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ بِالتَّحْصِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّحْصِيلِ.

مَوْجُودًا) وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إلَى حُلُولِ الْأَجَلِ شَرْطُ جَوَازِ السَّلَمِ عِنْدَنَا، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ: قِسْمَةٌ عَقْلِيَّةٌ حَاصِرَةٌ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إلَى الْمَحَلِّ أَوْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ أَصْلًا، أَوْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ دُونَ الْمَحَلِّ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ مَوْجُودًا فِيمَا بَيْنَهُمَا، أَوْ مَعْدُومًا فِيمَا بَيْنَهُمَا. وَالْأَوَّلُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَالثَّانِي فَاسِدٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَالثَّالِثُ كَذَلِكَ، وَالرَّابِعُ فَاسِدٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالْخَامِسُ فَاسِدٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَالسَّادِسُ فَاسِدٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. لَهُ عَلَى الرَّابِعِ وَهُوَ دَلِيلُهُمَا عَلَى السَّادِسِ وُجُودُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِهِ.

وَلَنَا قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «لَا تُسْلِفُوا فِي الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام شَرَطَ لِصِحَّةِ وُجُودِ الْمُسْلَمِ فِيهِ حَالَ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ إنَّمَا تَكُونُ بِالتَّحْصِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّحْصِيلِ، وَالْمُنْقَطِعُ وَهُوَ مَا لَا يُوجَدُ فِي سُوقِهِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ وَإِنْ وُجِدَ فِي الْبُيُوتِ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ بِالِاكْتِسَابِ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ مَوْجُودًا كَفَى مُؤْنَةَ الْحَدِيثِ، وَإِذَا وُجِدَ عِنْدَ الْمَحَلِّ كَانَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ فَلَا مَانِعَ عَنْ الْجَوَازِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ إنَّمَا تَكُونُ مَوْجُودَةً إذَا كَانَ الْعَاقِدُ بَاقِيًا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ كَانَ وَقْتُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ عَقِيبَهُ، وَفِي ذَلِكَ شَكٌّ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْحَيَاةَ ثَابِتَةٌ فَتَبْقَى. وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ ثَابِتٌ فَيَبْقَى. فَإِنْ قِيلَ: بَقَاءُ الْكَمَالِ فِي النِّصَابِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَلْيَكُنْ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ كَذَلِكَ.

ص: 81

(وَلَوْ انْقَطَعَ بَعْدَ الْمَحِلِّ فَرَبُّ السَّلَمِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ فَسَخَ السَّلَمَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وُجُودَهُ) لِأَنَّ السَّلَمَ قَدْ صَحَّ وَالْعَجْزُ الطَّارِئُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَصَارَ كَإِبَاقِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ وُجُودَهُ كَالنِّصَابِ وُجُودُهُ لَا كَكَمَالِهِ، وَوُجُودُهُ شَرْطٌ فَوُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ كَذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ انْقَطَعَ بَعْدَ الْمَحَلِّ) يَعْنِي أَسْلَمَ فِي مَوْجُودٍ حَالَ الْعَقْدِ وَالْمَحَلِّ ثُمَّ انْقَطَعَ فَالسَّلَمُ صَحِيحٌ عَلَى حَالِهِ، وَرَبُّ السَّلَمِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وُجُودَهُ (لِأَنَّ السَّلَمَ قَدْ صَحَّ وَالْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ طَارِئٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَصَارَ كَإِبَاقِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ) فِي بَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي السَّلَمِ هُوَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ

ص: 82

قَالَ (وَيَجُوزُ‌

‌ السَّلَمُ فِي السَّمَكِ

الْمَالِحِ وَزْنًا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْقَدْرِ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ إذْ هُوَ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ عَدَدًا) لِلتَّفَاوُتِ. قَالَ (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي السَّمَكِ الطَّرِيِّ إلَّا فِي حِينِهِ وَزْنًا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَنْقَطِعُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ وَزْنًا لَا عَدَدًا لِمَا ذَكَرْنَا.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي لَحْمِ الْكِبَارِ مِنْهَا وَهِيَ الَّتِي تُقَطَّعُ اعْتِبَارًا بِالسَّلَمِ فِي اللَّحْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

بَاقٍ بِبَقَائِهَا كَالْعَبْدِ الْآبِقِ. وَفِي قَوْلِهِ وَالْعَجْزُ الطَّارِئُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ إشَارَةٌ إلَى جَوَابِ زُفَرَ عَنْ قِيَاسِهِ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ عَلَى هَلَاكِ الْمَبِيعِ فِي الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَفِي ذَلِكَ يَبْطُلُ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ إذَا كَانَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ لَا يَكُونُ كَالْعَجْزِ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنِ الزَّوَالِ عَادَةً فَكَانَ الْقِيَاسُ فَاسِدًا.

قَالَ (وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحِ إلَخْ) السَّلَمُ فِي السَّمَكِ لَا يَجُوزُ عَدَدًا طَرِيًّا كَانَ أَوْ مَالِحًا لِلتَّفَاوُتِ، وَوَزْنًا إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِحِ أَوْ الطَّرِيِّ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِحِ جَازَ فِي ضَرْبٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ لِكَوْنِهِ مَضْبُوطَ الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ لِعَدَمِ انْقِطَاعِهِ. وَإِنْ كَانَ فِي الطَّرِيِّ إنْ كَانَ فِي حِينِهِ جَازَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ حِينِهِ لَمْ يَجُزْ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَنْقَطِعُ جَازَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي لَحْمِ الْكِبَارِ الَّتِي تُقْطَعُ اعْتِبَارًا بِالسَّلَمِ فِي اللَّحْمِ فِي الِاخْتِلَافِ بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ السِّمَنَ وَالْهُزَالَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِيهِ فَصَارَ كَالصِّغَارِ. قِيلَ يُقَالُ سَمَكٌ مَلِيحٌ وَمَمْلُوحٌ وَلَا يُقَالُ مَالِحٌ إلَّا فِي لُغَةٍ رَدِيئَةٍ وَهُوَ الْمُقَدَّدُ الَّذِي فِيهِ مِلْحٌ وَلَا مُعْتَبَرَ بِقَوْلِ الرَّاجِزِ: بَصْرِيَّةٌ تَزَوَّجَتْ بَصْرِيًّا يُطْعِمُهَا الْمَالِحَ وَالطَّرِيَّا

ص: 83

قَالَ (وَلَا خَيْرَ فِي‌

‌ السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ

عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: إذَا وَصَفَ مِنْ اللَّحْمِ مَوْضِعًا مَعْلُومًا بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ) لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ بِالْمِثْلِ. وَيَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ وَزْنًا وَيَجْرِي فِيهِ رِبَا الْفَضْلِ، بِخِلَافِ لَحْمِ الطُّيُورِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وَصْفُ مَوْضِعٍ مِنْهُ. وَلَهُ أَنَّهُ مَجْهُولٌ لِلتَّفَاوُتِ فِي قِلَّةِ الْعَظْمِ وَكَثْرَتِهِ أَوْ فِي سِمَنِهِ وَهُزَالِهِ عَلَى اخْتِلَافِ فُصُولِ السَّنَةِ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ. وَفِي مَخْلُوعِ الْعَظْمِ لَا يَجُوزُ عَلَى

؛ لِأَنَّهُ مُوَلَّدٌ لَا يُؤْخَذُ بِلُغَتِهِ. قَالَ الْإِمَامُ الزَّرْنُوجِيُّ: كَفَى بِذَلِكَ حُجَّةً لِلْفُقَهَاءِ.

قَالَ (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ) خَيْرٌ نَكِرَةٌ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتُفِيدُ نَفْيَ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ بِعُمُومِهِ، وَمَعْنَاهُ لَا يَجُوزُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ.

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ، وَقَالَا: إذَا وَصَفَ مِنْهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ لِكَوْنِهِ مَوْزُونًا مَعْلُومًا كَسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ وَلِهَذَا يَجُوزُ ضَمَانُهُ بِالْمِثْلِ وَاسْتِقْرَاضُهُ وَزْنًا وَيَجْرِي فِيهِ رِبَا الْفَضْلِ. فَإِنْ قِيلَ: لَحْمُ الطُّيُورِ مَوْزُونٌ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وَصْفُ مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ فِيهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي تَعْلِيلِهِ تَأَمُّلٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُمْكِنْ وَصْفُ مَوْضِعٍ مِنْهُ فَوَصْفُهُ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُسْلَمَ فِي لَحْمِ الدَّجَاجِ مَثَلًا بِبَيَانِ سِمَنِهِ وَهُزَالِهِ وَسِنِّهِ وَمِقْدَارِهِ. وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ حَمَلَ الْمَذْكُورَ مِنْ لَحْمِ الطُّيُورِ عَلَى طُيُورٍ لَا تُقْتَنَى وَلَا تُحْبَسُ لِلتَّوَالُدِ فَيَكُونُ الْبُطْلَانُ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَسْلَمَ فِي الْمُنْقَطِعِ، وَالسَّلَمُ فِي مِثْلِهِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ اتِّفَاقًا وَإِنْ ذَكَرَ الْوَزْنَ، فَأَمَّا فِيمَا يُقْتَنَى وَيُحْبَسُ لِلتَّوَالُدِ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ مَا يَقَعُ مِنْ التَّفَاوُتِ فِي اللَّحْمِ بِسَبَبِ الْعَظْمِ فِي الطُّيُورِ تَفَاوُتٌ لَا يَعْتَبِرُهُ النَّاسُ كَعَظْمِ

ص: 84

الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَالتَّضْمِينُ بِالْمِثْلِ مَمْنُوعٌ.

وَكَذَا الِاسْتِقْرَاضُ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ فَالْمِثْلُ أَعْدَلُ مِنْ الْقِيمَةِ، وَلِأَنَّ الْقَبْضَ يُعَايَنُ فَيُعْرَفُ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ بِهِ فِي وَقْتِهِ، أَمَّا الْوَصْفُ فَلَا يُكْتَفَى بِهِ.

السَّمَكِ وَإِلَيْهِ مَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا يُقَوِّي وَجْهَ التَّأَمُّلِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّحْمَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا هُوَ مَقْصُودٌ وَعَلَى مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ وَهُوَ الْعَظْمُ، فَيَتَفَاوَتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِتَفَاوُتِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَجْرِي الْمُمَاكَسَةُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ بِالتَّدْلِيسِ وَالنِّزَاعِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَا تَرْتَفِعُ بِبَيَانِ الْمَوْضِعِ وَالْوَزْنِ، وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ فِي مَنْزُوعِ الْعَظْمِ وَهُوَ مُخْتَارُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ. وَالثَّانِي أَنَّ اللَّحْمَ يَشْتَمِلُ عَلَى السِّمَنِ وَالْهُزَالِ، وَمَقَاصِدُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ. وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ فُصُولِ السَّنَةِ وَبِقِلَّةِ الْكَلَإِ وَكَثْرَتِهِ وَالسَّلَمُ لَا يَكُونُ إلَّا مُؤَجَّلًا، وَلَا يُدْرَى أَنَّهُ عِنْدَ الْمَحَلِّ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ يَكُونُ.

وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةٌ إلَى النِّزَاعِ وَلَا تَرْتَفِعُ بِالْوَصْفِ. وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِهِ فِي مَخْلُوعِ الْعَظْمِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ (قَوْلُهُ: وَالتَّضْمِينُ بِالْمِثْلِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلِهَذَا يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ بِالْمَنْعِ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ فَالْمِثْلُ أَعْدَلُ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ

ص: 85

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَّا مُؤَجَّلًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ حَالًّا لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فِيمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً

دَفْعًا لِحَاجَةِ الْمَفَالِيسِ

فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَجَلِ لِيَقْدِرَ عَلَى التَّحْصِيلِ فِيهِ فَيُسَلِّمُ،

الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، وَالْقَبْضُ يُعَايِنُ: يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ حَالٌ فَيُعْرَفُ حَالُ مِثْلِ الْمَقْبُوضِ، وَلَا تُفْضِي الْجَهَالَةُ بِهِ إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ وَلَا تَرْتَفِعُ لِجَهَالَةٍ فَلَا يُكْتَفَى بِهِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَّا مُؤَجَّلًا) السَّلَمُ الْحَالُّ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. اسْتَدَلَّ بِإِطْلَاقِ رُخَصٍ فِي السَّلَمِ. لَا يُقَالُ: مُطْلَقٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» لِمَا نَذْكُرُهُ. وَلَنَا قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» شَرَطَ لِجَوَازِ السَّلَمِ إعْلَامَ الْأَجَلِ كَمَا شَرَطَ إعْلَامَ الْقَدْرِ. فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ أَرَادَ سَلَمًا مُؤَجَّلًا فَلْيُسْلِمْ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَبِهِ نَقُولُ، وَالْحَصْرُ مَمْنُوعٌ وَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ مُقَيَّدًا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ:«فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ» فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَكَانَ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إنْ كَانَ كَيْلِيًّا وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إنْ كَانَ وَزْنِيًّا، فَيُقَدَّرُ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ إنْ كَانَ مُؤَجَّلًا. فَالْجَوَابُ أَنَّ قَضِيَّةَ الْعَقْلِ كَفَتْ مُؤْنَةَ التَّمْيِيزِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ. سَلَّمْنَاهُ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَحْذُورِ لِضَرُورَةٍ تَحَمُّلُهُ لَا لِضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي التَّقْدِيرِ فِي الْأَجَلِ. لَا يُقَالُ: الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِينَ ضَرُورَةٌ فَيُتَحَمَّلُ التَّقْدِيرُ لِأَجَلِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ رَخَّصَ فِي السَّلَمِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ فِي السَّلَمِ الْحَالِّ. عَلَى أَنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ لِبَيَانِ شُرُوطِ السَّلَمِ لَا لِبَيَانِ الْأَجَلِ فَلْيُتَأَمَّلْ؛ وَلِأَنَّ السَّلَمَ شُرِعَ رُخْصَةً لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمَفَالِيسِ. إذْ الْقِيَاسُ عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَمَا شُرِعَ لِذَلِكَ

ص: 86

وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ لَمْ يُوجَدْ الْمُرَخِّصُ فَبَقِيَ عَلَى النَّافِي.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَالْأَجَلُ أَدْنَاهُ شَهْرٌ

لَا بُدَّ وَأَنْ يَثْبُتَ عَلَى وَجْهٍ يَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَةُ الْمَفَالِيسِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لِمَا شُرِعَ لَهُ، وَالسَّلَمُ الْحَالُّ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْحَاجَةِ يَعْتَمِدُ الْحَاجَةَ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِيهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ فِي الْحَالِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا حَاجَةَ فَلَا دَفْعَ فَلَا مُرَخِّصَ فَبَقِيَ عَلَى النَّافِي، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَجَلِ لِيَحْصُلَ فَيُسْلَمُ وَإِلَّا لَأَدَّى إلَى النِّزَاعِ الْمُخْرِجِ لِلْمُفْلِسِ وَعَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ شَرْعِيَّةُ السَّلَمِ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَمَا جَازَ مِمَّنْ عِنْدَهُ أَكْرَارُ حِنْطَةٍ. أُجِيبَ بِأَنَّ السَّلَمَ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَدْنَى الثَّمَنَيْنِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْعَدَمِ، وَحَقِيقَتُهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ فَأُقِيمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ مَقَامَهُ وَبُنِيَ عَلَيْهِ هَذِهِ الرُّخْصَةُ كَمَا فِي رُخْصَةِ الْمُسَافِرِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ) إذَا ثَبَتَ اشْتِرَاطُ الْأَجَلِ فِي السَّلَمِ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا بِمَا رَوَيْنَا؛ وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ الْجَهَالَةَ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ كَمَا

ص: 87

وَقِيلَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ

(وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَلَا بِذِرَاعِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُهُ لِأَنَّهُ تَأَخَّرَ فِيهِ التَّسْلِيمُ فَرُبَّمَا يَضِيعُ فَيُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمِكْيَالُ مِمَّا لَا يَنْقَبِضُ وَلَا يَنْبَسِطُ كَالْقِصَاعِ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْكَبِسُ بِالْكَبْسِ كَالزِّنْبِيلِ وَالْجِرَابِ لَا يَجُوزُ لِلْمُنَازَعَةِ إلَّا فِي قُرْبِ الْمَاءِ لِلتَّعَامُلِ فِيهِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله. قَالَ (وَلَا فِي طَعَامِ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا) أَوْ ثَمَرَةِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا لِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَرِيهِ آفَةٌ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ

فِي الْبَيْعِ، فَهَذَا يُطَالِبُهُ بِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ وَذَلِكَ يُؤَدِّيهِ فِي بِعِيدِهَا. وَاخْتُلِفَ فِي أَدْنَى الْأَجَلِ فَقِيلَ أَدْنَاهُ شَهْرٌ اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ. حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ عَاجِلًا فَقَضَاهُ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، فَإِذَا كَانَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ كَانَ الشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ فِي حُكْمِ الْآجِلِ، وَقِيلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ الْبَغْدَادِيُّ أُسْتَاذُ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَصْحَابِنَا اعْتِبَارًا بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ ثَمَّ بَيَانُ أَقْصَى الْمُدَّةِ، فَأَمَّا أَدْنَاهُ فَغَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ مَا كَانَ مَقْبُوضًا فِي الْمَجْلِسِ وَالْمُؤَجَّلُ مَا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ عَنْ الْمَجْلِسِ وَلَا يَبْقَى الْمَجْلِسُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِكَوْنِهِ مُدَّةً يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِيهَا وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ) لَا يَصِحُّ السَّلَمُ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَلَا بِذِرَاعِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُهُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي السَّلَمِ مُتَأَخِّرٌ فَرُبَّمَا يَضِيعُ الْمِكْيَالُ أَوْ الذِّرَاعُ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمِكْيَالَ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالذِّرَاعَ كَذَلِكَ أَوْ بَاعَ بِذَلِكَ الْإِنَاءَ الْمَجْهُولَ الْقَدْرِ يَدًا بِيَدٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْأَمْنِ مِنْ الْمُنَازَعَةِ، وَقَدْ مَرَّ: يَعْنِي فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ أَنَّ الْبَيْعَ يَدًا بِيَدٍ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يُتَعَجَّلُ فِيهِ فَيَنْدُرُ الْهَلَاكُ، لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمِكْيَالُ مِمَّا لَا يَنْقَبِضُ وَلَا يَنْبَسِطُ كَمَا إذَا كَانَ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ خَزَفٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ نَحْوِهَا، أَمَّا إذَا كَانَ مِمَّا يَنْكَبِسُ بِالْكَبْسِ كَالزِّنْبِيلِ بِكَسْرِ الزَّايِ؛ لِأَنَّ فُعَيْلًا بِفَتْحِ الْفَاءِ لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَتِهِمْ وَالْجَوَابُ وَالْغِرَارَةُ وَالْجُوَالِقُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمُنَازَعَةِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رحمه الله اسْتَحْسَنَ فِي قِرَبِ الْمَاءِ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ سِقَاءٍ كَذَا كَذَا قِرْبَةً بِهَذِهِ الْقِرْبَةِ مِنْ مَاءٍ لِلتَّعَامُلِ.

قَالَ (وَلَا فِي طَعَامِ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ ثَمَرَةِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا)؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَهُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ بِعُرُوضِ آفَةٍ مَوْهُومٌ (فَتَنْتَفِي الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ)

ص: 88

عليه الصلاة والسلام حَيْثُ قَالَ «أَرَأَيْتَ لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّمَرَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» وَلَوْ كَانَتْ النِّسْبَةُ إلَى قَرْيَةٍ لِبَيَانِ الصِّفَةِ لَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا قَالُوا كالخشمراني بِبُخَارَى وَالْبَسَاخِيِّ بِفَرْغَانَةَ.

أَشَارَ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم «حِينَ سُئِلَ عَنْ السَّلَمِ فِي ثَمَرِ فُلَانٍ أَمَّا مِنْ ثَمَرِ حَائِطِ فُلَانٍ فَلَا، أَرَأَيْت لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ التَّمْرَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» وَلَا خَفَاءَ فِي كَوْنِهِ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام بَيَانًا بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ لِعَدَمِ الْجَوَازِ فِي ثَمَرَةِ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا. وَقَوْلُهُ: مَالَ أَخِيهِ أَرَادَ بِهِ رَأْسَ الْمَالِ: أَيْ لَوْ لَمْ تَحْصُلْ الثَّمَرَةُ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ يَحِلُّ رَأْسُ الْمَالِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَلَوْ كَانَ النِّسْبَةُ إلَى قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا لِبَيَانِ الصِّفَةِ: أَيْ لِبَيَانِ أَنَّ صِفَةَ تِلْكَ الْحِنْطَةِ الَّتِي هِيَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِثْلُ صِفَةِ حِنْطَةِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الْمُعَيَّنَةِ كالخشمراني بِبُخَارَى وَالْبَسَاخِيِّ بِفَرْغَانَةَ جَازَ الْعَقْدُ، فَإِنَّ تَعْيِينَ الْخَشْمَرَانِيِّ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنْ تَكُونَ الْحِنْطَةُ مِنْهُ لَيْسَ إلَّا، بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ صِفَةَ الْحِنْطَةِ مَثَلًا مِثْلُ صِفَةِ حِنْطَةِ الْخَشْمَرَانِيِّ، وَعَلَى هَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ مِنْ حِنْطَةِ هَرَاةَ وَبَيْنَ مَا إذَا أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ فِي جَوَازِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ نِسْبَةَ الثَّوْبِ إلَى هَرَاةَ لِبَيَانِ جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا لِتَعْيِينِ الْمَكَانِ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ مَا يُنْسَجُ عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ

ص: 89

قَالَ (وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إلَّا بِسَبْعِ شَرَائِطَ: جِنْسٌ مَعْلُومٌ) كَقَوْلِنَا حِنْطَةٌ أَوْ شَعِيرٌ (وَنَوْعٌ مَعْلُومٌ) كَقَوْلِنَا سَقِيَّةٌ أَوْ بَخْسِيَّةٌ (وَصِفَةٌ مَعْلُومَةٌ) كَقَوْلِنَا جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ (وَمِقْدَارٌ مَعْلُومٌ) كَقَوْلِنَا كَذَا كَيْلًا بِمِكْيَالٍ مَعْرُوفٍ وَكَذَا وَزْنًا (وَأَجَلٌ مَعْلُومٌ) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا وَالْفِقْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا (وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ) كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ

فَسَوَاءٌ نُسِجَ عَلَى تِلْكَ عَلَى الصِّفَةِ بِهَرَاةَ أَوْ بِغَيْرِهَا يُسَمَّى هَرَوِيًّا. وَإِذَا أَتَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِثَوْبٍ نُسِجَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فِي غَيْرِ هَرَاةَ أُجْبِرَ رَبُّ السَّلَمِ عَلَى الْقَبُولِ، بِخِلَافِ الْحِنْطَةِ فَإِنَّ حِنْطَةَ هَرَاةَ مَا نَبَتَتْ بِأَرْضِ هَرَاةَ وَالنَّابِتُ فِي غَيْرِهَا لَا يُنْسَبُ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَكَانَ تَعْيِينًا لِلْمَكَانِ وَهُوَ مَوْهُومُ الِانْقِطَاعِ حَتَّى لَوْ كَانَ لِبَيَانِ الصِّفَةِ عَادَ كَالْأَوَّلِ.

قَالَ (وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا بِسَبْعِ شَرَائِطَ) صِحَّةُ السَّلَمِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى وُجُودِ سَبْعِ شَرَائِطَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَعِنْدَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ، فَأَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسٍ مَعْلُومٍ حِنْطَةً أَوْ غَيْرَهَا وَنَوْعٍ مَعْلُومٍ سَقِيَّةً أَوْ بَخْسِيَّةً. وَالْبَخْسِيُّ خِلَافُ السَّقِيِّ مَنْسُوبٌ إلَى الْبَخْسِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي تَسْقِيهَا السَّمَاءُ؛ لِأَنَّهَا مَبْخُوسَةُ الْحَظِّ مِنْ الْمَاءِ. وَصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ جَيِّدَةٍ أَوْ رَدِيئَةٍ، وَمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ عِشْرِينَ كُرًّا بِمِكْيَالٍ مَعْرُوفٍ أَوْ عِشْرِينَ رِطْلًا، وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْقُولِ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ» إلَخْ، وَمِنْ الْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ مُفْضِيَةٌ إلَى النِّزَاعِ. فَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ (فَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ إنْ كَانَ مِمَّا يُتَوَقَّفُ عَلَى مِقْدَارِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ)

ص: 90

(وَتَسْمِيَةُ الْمَكَانِ الَّذِي يُوفِيهِ فِيهِ إذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ) وَقَالَا: لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْمِيَةِ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا وَلَا إلَى مَكَانِ التَّسْلِيمِ وَيُسَلِّمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ، فَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ. وَلَهُمَا فِي الْأُولَى أَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ وَصَارَ كَالثَّوْبِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رُبَّمَا يُوجَدُ بَعْضُهَا زُيُوفًا لَا يَسْتَبْدِلُ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهُ لَا يَدْرِي فِي كَمْ بَقِيَ أَوْ رُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إلَى رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْمَوْهُومُ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَالْمُتَحَقِّقِ

وَتَسْمِيَةُ الْمَكَانِ الَّذِي يُوَفِّيهِ فِيهِ إذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَمُؤْنَةٌ وَمَعْنَاهُ مَا لَهُ ثِقَلٌ يَحْتَاجُ فِي حَمْلِهِ إلَى ظَهْرٍ أَوْ أُجْرَةِ حَمَّالٍ، فَهَذَانِ شَرْطَانِ لِصِحَّتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما خِلَافًا لَهُمَا.

قَالَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى: إنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ: يَعْنِي إذَا جُعِلَ الْمَكِيلُ أَوْ الْمَوْزُونُ ثَمَنَ الْمَبِيعِ أَوْ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَةِ وَأُشِيرَ إلَيْهِمَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُهُمَا، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ فِي رَأْسِ الْمَالِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ بَدَلًا وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا فَإِنَّ الْإِشَارَةَ فِيهِ تَكْفِي اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ذُرْعَانُهُ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ رُبَّمَا يُوجَدُ بَعْضُهَا زُيُوفًا وَلَا يُسْتَبْدَلُ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُهُ لَا يُدْرَى فِي كَمْ بَقِيَ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ تَسْتَلْزِمُ جَهَالَةَ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ يُنْفِقُ رَأْسَ الْمَالِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَرُبَّمَا يَجِدُ بَعْضَ ذَلِكَ زُيُوفًا وَلَا يَسْتَبْدِلُهُ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ مَا رَدَّهُ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا لَا يُعْلَمُ فِي كَمْ اُنْتُقِضَ السَّلَمُ أَوْ فِي كَمْ بَقِيَ وَجَهَالَةُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَفْسَدَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا مَا يَسْتَلْزِمُهَا. وَقَوْلُهُ:(أَوْ رُبَّمَا) وَجْهٌ آخَرُ لِفَسَادِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ (قَدْ يَعْجِزُ عَنْ تَحْصِيلِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلَيْسَ لِرَبِّ السَّلَمِ حِينَئِذٍ إلَّا رَأْسُ مَالِهِ) وَإِذَا كَانَ مَجْهُولَ الْمِقْدَارِ تَعَذَّرَ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ أَمْرٌ مَوْهُومٌ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الرُّخَصِ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بِأَنَّ (الْمَوْهُومَ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَالْمُتَحَقِّقِ)

ص: 91

لِشَرْعِهِ مَعَ الْمُنَافِي، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا لِأَنَّ الذَّرْعَ وَصْفٌ فِيهِ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ.

لِشَرْعِهِ مَعَ الْمُنَافِي) إذْ الْقِيَاسُ يُخَالِفُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لِتَوَهُّمِ هَلَاكِ ذَلِكَ الْمِكْيَالِ وَعَوْدِهِ إلَى الْجَهَالَةِ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ أَدْنَى الْأَجَلِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ. فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا اعْتِبَارٌ لِلنَّازِلِ عَنْ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ بَعْضِ رَأْسِ الْمَالِ زُيُوفًا فِيهِ شُبْهَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وَبَعْدَ الْوُجُودِ الرَّدُّ مُحْتَمَلٌ فَقَدْ لَا يُرَدُّ، وَبَعْدَ الرَّدِّ تَرْكُ الِاسْتِبْدَالِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ، وَالْمُعْتَبَرُ هِيَ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا. فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْنَى مِنْ الْمَوْهُومِ هُوَ ذَاكَ، وَقِيلَ بَلْ هَذِهِ شُبْهَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِهِ زَيْفًا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الثَّوْبِ) جَوَابٌ عَمَّا قَاسَاهُ عَلَيْهِ مِنْ الثَّوْبِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الثَّوْبَ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ (؛ لِأَنَّ الذَّرْعَ) فِي الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ (صِفَةٌ) وَلِهَذَا لَوْ وَجَدَهُ زَائِدًا عَلَى الْمُسَمَّى سَلَّمَ لَهُ الزِّيَادَةَ مَجَّانًا، وَلَوْ وَجَدَهُ نَاقِصًا لَمْ يَحُطَّ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ فَكَانَ قِيَاسًا مَعَ الْفَارِقِ، وَلَمْ يَجِبْ عَنْ الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ تَضَمَّنَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ لَا يَنْفَسِخَانِ بِرَدِّ الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ وَتَرْكِ الِاسْتِبْدَالِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ. وَمِنْ فُرُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ مَا إذَا أَسْلَمَ مِائَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ رَأْسَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّ الْمِائَةَ تَنْقَسِمُ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحَزْرُ فَلَا يَكُونُ مِقْدَارُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومًا. وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الْعَيْنِ تَكْفِي لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَقَدْ وُجِدَتْ، أَوْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَدْ عَلِمَ وَزْنَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ

ص: 92

وَمِنْ فُرُوعِهِ إذَا أَسْلَمَ فِي جِنْسَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ رَأْسَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ أَسْلَمَ جِنْسَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ أَحَدِهِمَا. وَلَهُمَا فِي الثَّانِيَةِ أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ يَتَعَيَّنُ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهُ مَكَانٌ آخَرَ فِيهِ فَيَصِيرُ نَظِيرُ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فِي الْأَوَامِرِ فَصَارَ كَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ.

أَحَدِهِمَا إذَا كَانَ مَجْهُولًا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي حِصَّتِهِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْجَوَازِ فِي حِصَّتِهِ فَيَبْطُلُ فِي حِصَّةِ الْآخَرِ أَيْضًا لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ أَوْ لِجَهَالَةِ حِصَّةِ الْآخَرِ، وَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ لِوُجُودِ الْإِشَارَةِ.

وَقَالَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ: إنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ يَتَعَيَّنُ لِلْإِيفَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُوجِبَ لِلتَّسْلِيمِ وُجِدَ فِيهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ كَمَا فِي بَيْعِ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا فَإِنَّ التَّسْلِيمَ يَجِبُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهُ مَكَانٌ آخَرُ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ وَمَا هُوَ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ كَأَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فِي الْأَوَامِرِ، فَإِنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ يَتَعَيَّنُ لِلسَّبَبِيَّةِ لِعَدَمِ مَا يُزَاحِمُهُ، وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَصَارَ كَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ فِي تَعَيُّنِ مَكَانِهِمَا لِلتَّسْلِيمِ. وَنُوقِضَ بِمَا إذَا بَاعَ طَعَامًا وَهُوَ فِي السَّوَادِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ كَانَ يَعْلَمُ مَكَانَ الطَّعَامِ فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ الْخِيَارُ، وَلَوْ تَعَيَّنَ مَكَانُ الْبَيْعِ لِلتَّسْلِيمِ لَمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ. وَعُورِضَ بِأَنَّ مَكَانَ

ص: 93

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ التَّسْلِيمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِّ فَلَا يَتَعَيَّنُ، بِخِلَافِ الْقَرْضِ وَالْغَصْبِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَالْجَهَالَةُ فِيهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، لِأَنَّ قِيَمَ الْأَشْيَاءِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ، وَصَارَ كَجَهَالَةِ الصِّفَةِ،

الْعَقْدِ لَوْ تَعَيَّنَ لَبَطَلَ الْعَقْدُ بِبَيَانِ مَكَان آخَرَ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى كُرَّ حِنْطَةٍ وَشَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ الْحَمْلَ إلَى مَنْزِلِهِ يَفْسُدُ عَقْدُهُ اشْتَرَاهَا فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجَهُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ النَّقْضِ أَنَّ مَكَانَ الْبَيْعِ يَتَعَيَّنُ لِلتَّسْلِيمِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا وَالْمَبِيعُ فِي السَّلَمِ حَاضِرٌ؛ لِأَنَّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَهُوَ حَاضِرٌ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ الْمَبِيعُ حَاضِرًا بِحُضُورِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ قَيْدًا لَمْ يُذْكَرْ فِي التَّعْلِيلِ وَمِثْلُهُ يُعَدُّ انْقِطَاعًا. وَعَنْ الْمُعَارَضَةِ بِأَنَّ التَّعْيِينَ بِالدَّلَالَةِ، فَإِذَا جَاءَ بِصَرِيحٍ يُخَالِفُهَا يُبْطِلُهَا، وَإِنَّمَا فَسَدَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ الثَّمَنَ بِالْمَبِيعِ وَالْحَمْلِ فَتَصِيرُ صَفْقَةً فِي صَفْقَةٍ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ السَّلَمَ تَسْلِيمُهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِ لِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكُلُّ مَا هُوَ تَسْلِيمُهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِ لَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ فِيهِ لِلتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الِالْتِزَامِ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّسْلِيمِ بِسَبَبٍ يَسْتَحِقُّ فِيهِ التَّسْلِيمَ بِنَفْسِ الِالْتِزَامِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عَلَى طِبْقِ سَبَبِهِ، وَالسَّلَمُ لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ بِنَفْسِ الِالْتِزَامِ لِكَوْنِهِ مُؤَجَّلًا، بِخِلَافِ الْقَرْضِ وَالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ فَإِنَّ تَسْلِيمَهَا يُسْتَحَقُّ بِنَفْسِ الِالْتِزَامِ فَيَتَعَيَّنُ مَوْضِعُهُ.

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَرَأَيْت لَوْ عَقَدَا عَقْدَ السَّلَمِ فِي السَّفِينَةِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ أَكَانَ يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، هَذَا مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْإِيفَاءِ بَقِيَ مَكَانُ الْإِبْقَاءِ مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ قِيَمَ الْأَشْيَاءِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُهُ فِي مَوْضِعٍ يُكْثِرُ فِيهِ السَّلَمَ، وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ يُسَلِّمُهُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ فَصَارَ

ص: 94

وَعَنْ هَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ رحمهم الله إنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَهُ يُوجِبُ التَّخَالُفَ كَمَا فِي الصِّفَةِ. وَقِيلَ عَلَى عَكْسِهِ لِأَنَّ تَعَيُّنِ الْمَكَانِ قَضِيَّةُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ وَالْقِسْمَةُ، وَصُورَتُهَا إذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَجَعَلَا مَعَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ.

وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الثَّمَنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رحمه الله. وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الدَّارِ وَمَكَانُ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ لِلْإِيفَاءِ. قَالَ (وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ)

كَجَهَالَةِ الصِّفَةِ فِي اخْتِلَافِ الْقِيَمِ بِاخْتِلَافِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ.

(وَعَنْ هَذَا) أَيْ عَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ جَهَالَةَ الْمَكَانِ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ (قَالَ: مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ إنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْمَكَانِ يُوجِبُ التَّخَالُفَ) عِنْدَهُ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ (وَقِيلَ عَلَى عَكْسِهِ) أَيْ لَا يُوجِبُ التَّخَالُفَ عِنْدَهُ بَلْ الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ. وَعِنْدَهُمَا يُوجِبُهُ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْمَكَانِ قَضِيَّةُ الْعَقْدِ: أَيْ مُقْتَضَاهُ عِنْدَهُمَا فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَكَانِ كَالِاخْتِلَافِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ. وَعِنْدَهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجَلِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ لَا يُوجِبُ التَّخَالُفَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ وَالْقِسْمَةُ. وَصُورَةُ الثَّمَنِ: اشْتَرَى شَيْئًا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ وَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ. وَقِيلَ إنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ)؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مِثْلُ الْأُجْرَةِ وَهِيَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ.

وَصُورَةُ الْأُجْرَةِ: اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ دَابَّةً بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا وَيَتَعَيَّنُ فِي إجَارَةِ الدَّارِ مَكَانُهَا، وَفِي الدَّابَّةِ تُسَلَّمُ فِي مَكَانِ تَسْلِيمِهَا. وَصُورَةُ الْقِسْمَةِ: اقْتَسَمَا دَارًا وَأَخَذَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ وَالْتَزَمَ فِي مُقَابَلَةِ الزَّائِدِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ خِلَافًا لَهُمَا وَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْقِسْمَةِ.

قَالَ (وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ إلَخْ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ. وَقِيلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ هُوَ الَّذِي لَوْ أَمَرَ إنْسَانًا بِحَمْلِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ حَمَلَهُ مَجَّانًا.

ص: 95

لِأَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ (وَيُوفِيهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْبُيُوعِ.

وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّهُ يُوفِيهِ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا سَوَاءٌ، وَلَا وُجُوبَ فِي الْحَالِّ. وَلَوْ عَيَّنَا مَكَانًا، قِيلَ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ، وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمِصْرَ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يُكْتَفَى بِهِ لِأَنَّهُ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا ذَكَرْنَا.

وَقِيلَ هُوَ مَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بَيَانَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ السَّلَمِ لِعَدَمِ اخْتِلَافِ الْقِيمَةِ، وَلَكِنْ هَلْ يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ (فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَبُيُوعُ الْأَصْلِ) يَتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِالْتِزَامِ فَيُرَجَّحُ عَلَى غَيْرِهِ وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَاتِ (يُوَفِّيهِ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا سَوَاءٌ) إذْ الْمَالِيَّةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ فِيهِ.

(قَوْلُهُ: وَلَا وُجُوبَ فِي الْحَالِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَيَّنَ مُؤَنُ الْعَقْدِ ضَرُورَةَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَقَالَ التَّسْلِيمُ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِيَتَعَيَّنَ بِاعْتِبَارِهِ، فَلَوْ عَيَّنَ مَكَانًا قِيلَ لَا يَتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ حَيْثُ لَا يَلْزَمُ بِنَقْلِهِ مُؤْنَةٌ، وَلَا تَخْتَلِفُ مَالِيَّتُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ: وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ رَبَّ السَّلَمِ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمِصْرَ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يُكْتَفَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْمِصْرَ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ

ص: 96

قَالَ (وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ حَتَّى يَقْبِضَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ فِيهِ) أَمَّا إذَا كَانَ مِنْ النُّقُودِ فَلِأَنَّهُ افْتِرَاقٌ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا» ، فَلِأَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ، إذْ الْإِسْلَامُ وَالْإِسْلَافُ يُنْبِئَانِ عَنْ التَّعْجِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الِاسْمِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ لِيَتَقَلَّبَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِيهِ فَيَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إذَا كَانَ فِيهِ خِيَارُ

كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلَّةِ. وَقِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ وَهِيَ السَّلَمُ وَالثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ وَالْقِسْمَةُ. وَقِيلَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمِصْرُ عَظِيمًا، فَلَوْ كَانَ بَيْنَ نَوَاحِيهِ مِثْلُ فَرْسَخٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ نَاحِيَةً مِنْهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِيهِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ.

قَالَ (وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ حَتَّى يَقْبِضَ رَأْسَ الْمَالِ) مَعْنَاهُ أَنَّ السَّلَمَ لَا يَبْقَى صَحِيحًا بَعْدَ وُقُوعِهِ عَلَى الصِّحَّةِ إذَا لَمْ يَقْبِضْ رَأْسَ الْمَالِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ صَاحِبَهُ بَدَنًا لَا مَكَانًا، حَتَّى لَوْ مَشَيَا فَرْسَخًا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُفْسَخْ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ غَيْرِ قَبْضٍ، فَإِذَا افْتَرَقَا كَذَلِكَ فَسَدَ، أَمَّا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ النُّقُودِ فَلِأَنَّهُ افْتِرَاقٌ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ»: أَيْ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا؛ فَلِأَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ، إذْ الْإِسْلَامُ وَالْإِسْلَافُ يُنْبِئَانِ عَنْ التَّعْجِيلِ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ آجِلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَاجِلًا لِيَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الِاسْمُ لُغَةً كَالصَّرْفِ وَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ فَإِنَّهَا عُقُودٌ ثَبَتَتْ أَحْكَامُهَا بِمُقْتَضَيَاتِ أَسْمَائِهَا لُغَةً، وَهَذَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ فَتَرْكُ شَرْطِ التَّعْجِيلِ لَمْ يُؤَدِّ إلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ لِيَتَقَلَّبَ: أَيْ لِيَتَصَرَّفَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِيهِ فَيَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ (قُلْنَا لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إذَا كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا

ص: 97

الشَّرْطِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْض لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَكَذَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ

؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ) وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَالْقَبْضِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ مَانِعًا مِنْ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ فَهُوَ مَانِعٌ عَنْ الْمَبْنِيِّ، وَكَذَا لَا يَثْبُتُ فِي السَّلَمِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ الْفَسْخُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ وَالْوَاجِبُ بِعَقْدِ السَّلَمِ الدَّيْنُ وَمَا أَخَذَهُ عَيْنٌ، فَلَوْ رَدَّ الْمَأْخُوذَ عَادَ إلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ فِيمَا أَخَذَهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ فَائِدَتَهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ وَفِي بَيْعِ الْعَيْنِ يُفِيدُ فَائِدَتَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ إذَا رَدَّ الْمَبِيعَ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ عَيْنَ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ فَيُفْسَخُ.

قِيلَ فِيهِ إشْكَالَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فِيهِ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ رَأْسُ الْمَالِ أَوْ الْمُسْلَمُ فِيهِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ ثَابِتٌ فِي رَأْسِ الْمَالِ، صَرَّحَ بِهِ فِي التُّحْفَةِ وَقَالَ: لَا يَفْسُدُ بِهِ السَّلَمُ، وَلَا إلَى الثَّانِي لِانْتِفَاءِ التَّقْرِيبِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ اشْتِرَاطِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَعَدَمُهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَكَانَ أَجْنَبِيًّا. وَالثَّانِي أَنَّ الْمَبِيعَ فِي الِاسْتِصْنَاعِ دَيْنٌ وَمَعَ ذَلِكَ لِلْمُسْتَصْنِعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَعُودُ لِلْمُسْلَمِ فِيهِ وَذَكَرَهُ اسْتِطْرَادًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ إنْ كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ يَتَسَلْسَلُ وَلَا يُفِيدُ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا وَجَبَ أَنْ لَا يُفِيدَ لِإِفْضَائِهِ إلَى التُّهْمَةِ. وَعَنْ الثَّانِي أَنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِصْنَاعِ دَيْنٌ بَلْ هُوَ عَيْنٌ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي الِاسْتِصْنَاعِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِتَمَامِ الصَّفْقَةِ

ص: 98

وَلَوْ أُسْقِطَ خِيَارُ الشَّرْطِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَرَأْسُ الْمَالِ قَائِمٌ جَازَ خِلَافًا لَزُفَرَ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ

(وَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ جَمَعُوهَا فِي قَوْلِهِمْ إعْلَامُ رَأْسِ الْمَالِ وَتَعْجِيلُهُ وَإِعْلَامُ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَتَأْجِيلُهُ وَبَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ مِائَتِي دِرْهَمٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ مِائَةٌ مِنْهَا دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَمِائَةٌ نَقْدٌ فَالسَّلَمُ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ بَاطِلٌ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ وَيَجُوزُ فِي حِصَّةِ النَّقْدِ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ وَلَا يَشِيعُ الْفَسَادَ لِأَنَّ الْفَسَادَ طَارِئٌ، إذْ السَّلَمُ وَقَعَ صَحِيحًا، وَلِهَذَا لَوْ نَقَدَ رَأْسَ

وَتَمَامُهَا بِتَمَامِ الرِّضَا وَهُوَ مَوْجُودٌ وَقْتَ الْعَقْدِ.

(وَلَوْ أَسْقَطَ) رَبُّ السَّلَمِ (خِيَارَ الشَّرْطِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ) فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ قَائِمًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِالْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ بِرَأْسِ مَالٍ هُوَ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ فَكَذَا إتْمَامُهُ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ اتِّفَاقِيٌّ فَالتَّشْكِيكُ فِيهِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ، وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ ثُمَّ أَسْقَطَ الْأَجَلَ قَبْلَ الْحُلُولِ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ جَائِزًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ.

قَالَ (وَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ جَمَعُوهَا) جَمَعَ الْمَشَايِخُ جُمْلَةَ شُرُوطِ السَّلَمِ فِي إعْلَامِ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ وَفِي تَعْجِيلِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّسْلِيمُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي إعْلَامِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، وَفِي تَأْجِيلِهِ: يَعْنِي إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ كَمَا مَرَّ، وَفِي الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ كَمَا بَيَّنَّا (فَإِنْ أَسْلَمَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ مِائَةٌ مِنْهَا دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَمِائَةٌ نَقْدٌ فَالسَّلَمُ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ بَاطِلٌ) سَوَاءٌ أَطْلَقَ الْمِائَتَيْنِ ابْتِدَاءً أَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ فِي إحْدَاهُمَا إلَى الدَّيْنِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ. وَيَجُوزُ فِي حِصَّةِ النَّقْدِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ،

ص: 99

الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ إلَّا أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ لِمَا بَيَّنَّا، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فَيَنْعَقِدُ صَحِيحًا.

وَلَا يَشِيعُ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ طَارِئٌ إذْ السَّلَمُ وَقَعَ صَحِيحًا؛ أَمَّا إذَا أَطْلَقَ ثُمَّ جَعَلَا الْمِائَةَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قِصَاصًا بِالدَّيْنِ فَلَا إشْكَالَ فِي طُرُوِّهِ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ الْبَاقِي مَبِيعًا بِالْحِصَّةِ الطَّارِئَةِ، وَأَمَّا إذَا أَضَافَ إلَى الدَّيْنِ ابْتِدَاءً فَكَذَلِكَ وَلِهَذَا لَوْ نَقَدَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ إذَا كَانَتْ عَيْنًا فَكَذَا إذَا كَانَتْ دَيْنًا فَصَارَ الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ سَوَاءً؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ حَيْثُ لَمْ يَتَعَيَّنْ الدَّيْنُ فَيَنْعَقِدُ السَّلَمُ صَحِيحًا فَيَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» .

وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ (مِائَةٌ مِنْهَا دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى غَيْرِهِ يُوجِبُ

ص: 100

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ

(وَلَا تَجُوزُ‌

‌ الشَّرِكَةُ وَالتَّوْلِيَةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ)

لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ

(فَإِنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِرَأْسِ الْمَالِ شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَهُ كُلَّهُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَكَ أَوْ رَأْسَ مَالِكَ» أَيْ عِنْدَ الْفَسْخِ،

شُيُوعَ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي حَقِّهِمَا.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ الْمَالِ الْمُسْلَمِ فِيهِ إلَخْ) لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ صِحَّةِ السَّلَمِ احْتِرَازًا عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، فَلَوْ جَازَ التَّصَرُّفُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا فَاتَ الشَّرْطُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَلَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، وَلَا بَأْسَ بِهِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِعَقْدِ السَّلَمِ كَالْعَيْنِ الْمُشْتَرَى، فَرَأْسُ الْمَالِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا جَازَ أَنْ يَبِيعَ مُرَابَحَةً، وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا لَا يَجُوزُ إلَّا مِمَّنْ عِنْدَهُ الثَّمَنُ.

(وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ) وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ شَخْصٌ آخَرُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ (وَ) لَا (التَّوْلِيَةُ) وَصُورَتُهَا ظَاهِرَةٌ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ بَعْدَمَا دَخَلَا فِي الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُمَا أَكْثَرُ وُقُوعًا مِنْ الْمُرَابَحَةِ وَالْوَضِيعَةِ. وَقِيلَ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْبَعْضِ إنَّ التَّوْلِيَةَ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا إقَامَةُ مَعْرُوفٍ فَإِنَّهُ يُوَلِّي غَيْرَهُ مَا تَوَلَّى.

(فَإِنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِرَأْسِ الْمَالِ شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَهُ كُلَّهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَك أَوْ رَأْسَ مَالِكَ») يَعْنِي حَالَةَ الْبَقَاءِ وَعِنْدَ الْفَسْخِ،

ص: 101

وَلِأَنَّهُ أَخَذَ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ فَلَا يَحِلُّ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلَ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَبِيعًا لِسُقُوطِهِ فَجَعَلَ رَأْسَ الْمَالِ مَبِيعًا لِأَنَّهُ دَيْنٌ مِثْلُهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الِابْتِدَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ،

وَهَذَا نَصٌّ فِي ذَلِكَ (وَلِأَنَّهُ أَخَذَ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ)(؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعُ جَدِيدٍ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ) وَهُوَ الشَّرْعُ، وَالْبَيْعُ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ (لِسُقُوطِهِ) بِالْإِقَالَةِ (فَ) لَا بُدَّ مِنْ (جَعْلِ رَأْسِ الْمَالِ مَبِيعًا) لِيَرُدَّ عَلَيْهِ الْعَقْدَ، وَإِلَّا لَكَانَ مَا فَرَضَاهُ بَيْعًا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا هَذَا خَلَفٌ بَاطِلٌ وَهُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ لِكَوْنِهِ دَيْنًا مِثْلَ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ ابْتِدَاءً فِيمَا هُوَ بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ عَقْدُ السَّلَمِ فَلَأَنْ يُمْكِنَ ذَلِكَ انْتِهَاءً فِيمَا هُوَ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَانَ أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ شَبَهُهُ بِالْمَبِيعِ، وَالْمَبِيعُ لَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ اعْتِبَارًا لِلِانْتِهَاءِ بِالِابْتِدَاءِ: أَجَابَ بِقَوْلِهِ (؛ لِأَنَّهُ) أَيْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِقَالَةِ (لَيْسَ فِي حُكْمِ الِابْتِدَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ)؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَالْإِقَالَةُ بَيْعٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ لَا غَيْرُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْأَوَّلِ اشْتِرَاطُهُ فِي الثَّانِي بِالضَّرُورَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِالتَّنْبِيهِ وَهُوَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ ذَلِكَ فَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ، وَالتَّأَمُّلُ يُغْنِي عَنْ هَذَا السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا صَارَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ سَقَطَ اشْتِرَاطُ قَبْضِهِ، فَالسُّؤَالُ بِوُجُوبِ قَبْضِهِ لَا يَرِدُ، لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ دَفَعَ وَهْمَ مَنْ عَسَى يَتَوَهَّمُ نَظَرًا إلَى كَوْنِهِ رَأْسَ الْمَالِ وُجُوبُ قَبْضِهِ، وَلَوْ أَبْرَزَ ذَلِكَ فِي مَبْرَزِ الدَّلِيلِ عَلَى انْقِلَابِهِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ.

وَلَوْ بَقِيَ رَأْسُ الْمَالِ لَوَجَبَ كَانَ أَدَقَّ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَيَجُوزُ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ سِوَى الْفَارِسِيَّةِ وَهِيَ طَرِيقَةُ قَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

ص: 102

وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ رحمه الله، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ.

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ قَضَاءٌ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً، وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ ثُمَّ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ فَاكْتَالَهُ لَهُ ثُمَّ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ جَازَ) لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ الصَّفْقَتَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَيْلِ مَرَّتَيْنِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ، وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا مَرَّ

قَوْلُهُ: وَفِيهِ) أَيْ فِي جَعْلِ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ مَبِيعًا (خِلَافُ زُفَرَ) هُوَ يَقُولُ رَأْسُ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، فَكَمَا جَازَ الِاسْتِبْدَالُ بِسَائِرِ الدُّيُونِ جَازَ بِهَذَا الدَّيْنِ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ) مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْقُولِ.

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ إلَخْ) رَجُلٌ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَهُوَ سِتُّونَ قَفِيزًا (فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ قَضَاءً لِحَقِّهِ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً) حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ رَبِّ السَّلَمِ كَانَ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ (وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ لِأَجْلِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ثُمَّ لِنَفْسِهِ فَاكْتَالَهُ لَهُ ثُمَّ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ صَفْقَتَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ) الْأُولَى صَفْقَةُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَعَ بَائِعِهِ وَالثَّانِيَةُ صَفْقَتُهُ مَعَ رَبِّ السَّلَمِ (فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَيْلِ مَرَّتَيْنِ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ»، وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا مَرَّ) فِي الْفَصْلِ الْمُتَّصِلِ بِبَابِ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ قَالَ فِيهِ: وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ اجْتِمَاعُ الصَّفْقَتَيْنِ عَلَى مَا يَتَبَيَّنُ.

ص: 103

وَالسَّلَمُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا لَكِنْ قَبْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَاحِقٌ وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً.

وَإِنْ جَعَلَ عَيْنَهُ فِي حَقٍّ حُكْمٌ خَاصٌّ وَهُوَ حُرْمَةُ الِاسْتِبْدَالِ فَيَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَمًا وَكَانَ قَرْضًا فَأَمَرَهُ بِقَبْضِ الْكُرِّ جَازَ لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ فَكَانَ الْمَرْدُودُ عَيْنَ الْمَأْخُوذِ مُطْلَقًا حُكْمًا فَلَا تَجْتَمِعُ الصَّفْقَتَانِ.

(قَوْلُهُ: وَالسَّلَمُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَعَ رَبِّ السَّلَمِ كَانَ سَابِقًا عَلَى شِرَاءِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مِنْ بَائِعِهِ فَلَا يَكُونُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بَائِعًا بَعْدَ الشِّرَاءِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الصَّفْقَةُ الثَّانِيَةُ لِتَدْخُلَ تَحْتَ النَّهْيِ، وَتَقْرِيرُهُ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ. سَلَّمْنَا ذَلِكَ (لَكِنَّ قَبْضَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَاحِقٌ) وَقَبْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ (بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ)؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَالْمَقْبُوضُ عَيْنٌ، وَهُوَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً وَإِنْ جُعِلَ عَيْنُهُ فِي حَقِّ حُكْمٍ خَاصٍّ وَهُوَ حُرْمَةُ الِاسْتِبْدَالِ ضَرُورَةً فَلَا يَتَعَدَّى فَيَبْقَى فِيمَا وَرَاءُ كَالْبَيْعِ فَيَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَقَدْ اجْتَمَعَتْ الصَّفْقَتَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَكْرَارِ الْكَيْلِ.

(وَ) إنْ (كَانَ) الْكُرُّ (قَرْضًا فَأَمَرَ) الْمُسْتَقْرِضُ الْمُقْرِضَ (بِقَبْضِ الْكُرِّ) فَفَعَلَ (جَازَ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إعَارَةً لَزِمَ تَمْلِيكُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً وَهُوَ رِبًا وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِي الْقَرْضِ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْعَوَارِيِّ غَيْرُ لَازِمٍ فَيَكُونُ الْمَرْدُودُ عَيْنَ الْمَقْبُوضِ (مُطْلَقًا حُكْمًا فَلَا تَجْتَمِعُ الصَّفْقَتَانِ) وَكَذَا لَوْ اسْتَقْرَضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ يُكْتَفَى فِيهِ بِكَيْلٍ وَاحِدٍ.

ص: 104

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَأَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ أَنْ يَكِيلَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِي غَرَائِرِ رَبِّ السَّلَمِ فَفَعَلَ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً) لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْكَيْلِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مِلْكَ الْآمِرِ، [لِأَنَّ] حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ دُونَ الْعَيْنِ فَصَارَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُسْتَعِيرًا لِلْغَرَائِرِ مِنْهُ وَقَدْ جَعَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ فِيهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمَ دَيْنٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ كِيسًا لِيَزِنهَا الْمَدْيُونُ فِيهِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا.

وَلَوْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ مُشْتَرَاةٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا صَارَ قَابِضًا لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ صَحَّ حَيْثُ صَادَفَ مِلْكَهُ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالْبَيْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ بِالطَّحْنِ كَانَ الطَّحِينُ فِي السَّلَمِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَفِي الشِّرَاءِ لِلْمُشْتَرِي لِصِحَّةِ الْأَمْرِ، وَكَذَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّهُ فِي الْبَحْرِ فِي السَّلَمِ يَهْلَكُ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَفِي الشِّرَاءِ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي،

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ إلَخْ رَجُلٌ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ أَنْ يَكِيلَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِي غَرَائِرِ رَبِّ السَّلَمِ فَفَعَلَ وَهُوَ) أَيْ رَبُّ السَّلَمِ (غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ) لَهُ فِي غَرَائِرِهِ طَعَامٌ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ (قَضَاءً) فَلَوْ هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ (؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْكَيْلِ لَمْ) يُصَادِفْ مِلْكَ الْآمِرِ إذْ حَقُّهُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ فَلَا (يَصِحُّ) الْأَمْرُ (وَصَارَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُسْتَعِيرًا لِلْغَرَائِرِ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ وَقَدْ جَعَلَ مِلْكَهُ فِيهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ دَيْنٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ كِيسًا لِيَزِنَهَا الْمَدْيُونُ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا) وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ حِنْطَةً بِعَيْنِهَا وَدَفَعَ غَرَائِرَهُ إلَى الْبَائِعِ وَقَالَ لَهُ اجْعَلْهَا فِيهَا فَفَعَلَ وَالْمُشْتَرِي غَائِبٌ صَارَ قَابِضًا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالشِّرَاءِ لَا مَحَالَةَ فَصَحَّ الْأَمْرُ لِمُصَادَفَتِهِ الْمِلْكَ، وَإِذَا صَحَّ صَارَ الْبَائِعُ وَكِيلًا عَنْهُ فِي إمْسَاكِ الْغَرَائِرِ فَبَقِيَتْ الْغَرَائِرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي حُكْمًا فَمَا وَقَعَ فِيهَا صَارَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي (قَوْلُهُ: أَلَا تَرَى) تَوْضِيحٌ لِتَمَلُّكِهِ بِالْبَيْعِ (فَإِنَّهُ إذَا أَمَرَهُ بِالطَّحْنِ فِي السَّلَمِ كَانَ الطَّحِينُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَفِي الشِّرَاءِ لِلْمُشْتَرِي) وَإِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّهُ فِي الْبَحْرِ فِي السَّلَمِ فَفَعَلَ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ (وَفِي الشِّرَاءِ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي) وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ الْأَمْرِ وَعَدَمِهَا، وَصِحَّتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمِلْكِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مَلَكَهُ لَمَا صَحَّ أَمْرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ

ص: 105

وَيَتَقَرَّرُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَلِهَذَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ الْكَيْلِ فِي الشِّرَاءِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْكَيْلِ وَالْقَبْضِ بِالْوُقُوعِ فِي غَرَائِرِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ أَمَرَهُ فِي الشِّرَاءِ أَنْ يَكِيلَهُ فِي غَرَائِرِ الْبَائِعِ فَفَعَلَ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا لِأَنَّهُ اسْتَعَارَ غَرَائِرَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهَا فَلَا تَصِيرُ الْغَرَائِرُ فِي يَدِهِ، فَكَذَا مَا يَقَعُ فِيهَا، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ وَيَعْزِلَهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ بَيْتِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْبَيْتَ بِنَوَاحِيهِ فِي يَدِهِ فَلَمْ يَصِرْ الْمُشْتَرِي قَابِضًا.

وَلَوْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْعَيْنُ وَالْغَرَائِرُ لِلْمُشْتَرِي، إنْ بَدَأَ بِالْعَيْنِ صَارَ قَابِضًا، أَمَّا الْعَيْنُ فَلِصِحَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ وَبِمِثْلِهِ يَصِيرُ قَابِضًا، كَمَنْ اسْتَقْرَضَ حِنْطَةً وَأَمَرَهُ أَنْ يَزْرَعهَا فِي أَرْضِهِ، وَكَمَنْ دَفَعَ إلَى صَائِغٍ خَاتَمًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَهُ مِنْ عِنْدِهِ نِصْفَ دِينَارٍ،

قَدْ صَحَّ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ صَحَّ (يُكْتَفَى بِذَلِكَ الْكَيْلِ فِي الشِّرَاءِ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْكَيْلِ) فَإِنْ قِيلَ: الْبَائِعُ مُسَلِّمٌ فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَسَلِّمًا.

أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْقَبْضُ بِالْوُقُوعِ) أَيْ وَتَحَقُّقُ الْقَبْضِ بِالْوُقُوعِ (فِي غَرَائِرِ الْمُشْتَرِي) فَلَا يَكُونُ مُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَمَّا قِيلَ لَا يُكْتَفَى بِكَيْلٍ وَاحِدٍ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» وَقَدْ مَرَّ قَبْلَ بَابِ الرِّبَا (وَلَوْ أَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَنْ يَكِيلَهُ فِي غَرَائِرِ الْبَائِعِ فَفَعَلَ لَمْ يَصِرْ) الْمُشْتَرِي (قَابِضًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَارَ غَرَائِرَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهَا فَلَمْ تَصِرْ الْغَرَائِرُ فِي يَدِهِ)؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ تَبَرُّعٌ فَلَا تَتِمَّ بِدُونِ الْقَبْضِ، فَكَذَا مَا وَقَعَ فِيهَا وَصَارَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ وَيَعْزِلَهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ بَيْتِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ بِنَوَاحِيهِ فِي يَدِهِ فَلَمْ يَصِرْ الْمُشْتَرِي قَابِضًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعِيرٌ لَمْ يَقْبِضْ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْعَيْنُ) صُورَتُهُ رَجُلٌ أَسْلَمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ كُرًّا آخَرَ بِعَيْنِهِ وَدَفَعَ غَرَائِرَهُ إلَيْهِ لِيَجْعَلَ الدَّيْنَ: أَيْ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَالْعَيْنَ وَهُوَ الْمُشْتَرِي فِيهَا فَلَا يَخْلُو الْبَائِعُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا أَوَّلًا الدَّيْنَ أَوْ الْعَيْنَ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي (صَارَ) الْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُمَا جَمِيعًا، أَمَّا الْعَيْنُ فَلِصِحَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ لِمُصَادَفَتِهِ الْمِلْكَ فَكَانَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ كَفِعْلِ الْآمِرِ. وَرُدَّ " بِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبْضِ كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ كَذَلِكَ نَصًّا. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ قَصْدًا. وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ بِرِضَاهُ وَالِاتِّصَالُ بِالْمِلْكِ بِالرِّضَا يُثْبِتُ الْقَبْضَ (كَمَنْ اسْتَقْرَضَ حِنْطَةً وَأَمَرَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا فِي أَرْضِهِ، وَكَمَنْ دَفَعَ إلَى صَائِغٍ خَاتَمًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَهُ مِنْ عِنْدِهِ نِصْفَ دِينَارٍ) وَلَا يُشْكِلُ بِالصَّبْغِ، فَإِنَّ

ص: 106

وَإِنَّ بَدَأَ بِالدَّيْنِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا، أَمَّا الدَّيْنُ فَلِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا الْعَيْنُ فَلِأَنَّهُ خَلَطَهُ بِمُلْكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ، وَهَذَا الْخَلْطُ غَيْرُ مَرْضِيٌّ بِهِ مِنْ جِهَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْبُدَاءَةَ بِالْعَيْنِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِي الْمَخْلُوطِ لِأَنَّ الْخَلْطَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ عِنْدَهُمَا.

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَبَضَهَا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ ثُمَّ تَقَايَلَا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ قَبْضِهَا، وَلَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ

الصَّبْغَ وَالْبَيْعَ اتَّصَلَا بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَمْ يَصِرْ قَابِضًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ الْفِعْلُ لَا الْعَيْنُ، وَالْفِعْلُ لَا يَتَجَاوَزُ الْفَاعِلَ فَلَمْ يَصِرْ مُتَّصِلًا بِالثَّوْبِ فَلَا يَكُونُ قَابِضًا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا. أَمَّا الدَّيْنُ فَلِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَمْرِ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهِ الْمِلْكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ وَهَذَا عَيْنٌ فَكَانَ الْمَأْمُورُ بِجَعْلِهِ فِي الْغَرَائِرِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْآمِرِ (وَأَمَّا الْعَيْنُ فَلِأَنَّهُ خَلَطَهُ بِمِلْكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ اسْتِهْلَاكٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ) فَإِنْ قِيلَ: الْخَلْطُ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي فَلَا يُنْقَضُ الْبَيْعُ. أَجَابَ بِأَنَّ الْخَلْطَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا حَصَلَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي بَلْ الْخَلْطُ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ بِهِ الْآمِرُ قَابِضًا هُوَ الَّذِي كَانَ مَأْذُونًا بِهِ، وَفِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِكَوْنِ الْخَلْطِ غَيْرَ مَرْضِيٍّ بِهِ جَزْمًا، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ (لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْبُدَاءَةَ بِالْعَيْنِ) فَيَكُونُ الدَّلِيلُ أَعَمَّ مِنْ الْمُدَّعَى وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كَلَامُهُ فِي قُوَّةِ الْمُمَانَعَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْخَلْطَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ بِهِ (قَوْلُهُ: لِجَوَازِ) سَنَدُ الْمَنْعِ فَاسْتَقَامَ الْكَلَامُ (وَعِنْدَهُمَا الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِي الْمَخْلُوطِ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ عِنْدَهُمَا).

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ إلَخْ) رَجُلٌ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَدَفَعَ الْجَارِيَةَ إلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ثُمَّ تَقَايَلَا فَمَاتَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ قَبَضَهَا وَلَمْ تَبْطُلْ الْإِقَالَةُ بِهَلَاكِهَا؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ هَلَاكِ الْجَارِيَةِ كَانَتْ الْإِقَالَةُ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ بَقَاءَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَفِي السَّلَمِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ فَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ حَالَ بَقَائِهِ، وَإِذَا صَحَّ ابْتِدَاءً صَحَّ انْتِهَاءً؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ انْفَسَخَ فِي الْجَارِيَةِ تَبَعًا فَيَجِبُ رَدُّهَا وَقَدْ عَجَزَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا

ص: 107

هَلَاكِ الْجَارِيَةِ جَازَ) لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ تَعْتَمِدُ بَقَاءَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَفِي السَّلَمِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ فَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ حَالَ بَقَائِهِ، وَإِذَا جَازَ ابْتِدَاءٌ فَأَوْلَى أَنْ يَبْقَى انْتِهَاءٌ، لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ انْفَسَخَ فِي الْجَارِيَةِ تَبَعًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا وَقَدْ عَجَزَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا (وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَقَايَلَا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ، وَلَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ الْجَارِيَةُ فَلَا يَبْقَى الْعَقْدُ بَعْدَ هَلَاكِهَا فَلَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ ابْتِدَاءً وَلَا تَبْقَى انْتِهَاءً لِانْعِدَامِ مَحِلِّهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ حَيْثُ تَصِحُّ الْإِقَالَةُ وَتَبْقَى بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فِيهِ.

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ شَرَطْتُ رَدِيئًا وَقَالَ رَبُّ السَّلَم لَمْ تَشْتَرِطْ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ) لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ الصِّحَّةَ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فِي الْعَادَةِ،

وَقَامَتْ مَقَامَ الْجَارِيَةِ، فَكَأَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ كَانَ قَائِمًا فَلَا يَرِدُ مَا قِيلَ إنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ هَلَكَتْ، وَالْمُسْلَمَ فِيهِ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ فَصَارَ كَهَلَاكِ الْعِوَضَيْنِ فِي الْمُقَايَضَةِ وَهُوَ يَمْنَعُ الْإِقَالَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْإِقَالَةِ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُقَايَضَةِ وَبَيْنَ بَيْعِ الْجَارِيَةِ بِالدَّرَاهِمِ حَيْثُ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ مِلَاكِهَا بَقَاءً وَابْتِدَاءً، وَمَا فِي الْكِتَابِ طَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ.

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ إلَخْ) إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ، فَمَنْ كَانَ مُتَعَنِّتًا وَهُوَ الَّذِي يُنْكِرُ مَا يَنْفَعُهُ كَانَ كَلَامُهُ بَاطِلًا وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ، وَمَنْ كَانَ مُخَاصِمًا وَهُوَ الَّذِي يُنْكِرُ مَا يَضُرُّهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إنْ ادَّعَى الصِّحَّةَ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ خَصْمُهُ هُوَ الْمُنْكِرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ شَرَطْت رَدِيئًا وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ لَمْ تَشْتَرِطْ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ صِحَّةَ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ عَادَةً فَكَانَ الْقَوْلُ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ وَاخْتَلَفَا فِيمَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِدُونِهِ وَهُوَ بَيَانُ الْوَصْفِ وَالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِمَا مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ عَلَى وَصْفِ الصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَقَوْلُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الظَّاهِرُ أَقْرَبُ إلَى الصِّدْقِ. وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَإِنَّ النَّقْدَ الْقَلِيلَ خَيْرٌ مِنْ النَّسِيئَةِ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً. سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ يَرْبُو عَلَيْهِ إذَا كَانَ جَيِّدًا. وَأَمَّا إذَا كَانَ رَدِيئًا فَمَمْنُوعٌ. سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام

ص: 108

وَفِي عَكْسِهِ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُنْكِرًا.

وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(وَلَوْ قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجَلٌ وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ بَلْ كَانَ لَهُ أَجَلٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّلَمِ) لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ حَقًّا لَهُ وَهُوَ الْأَجَلُ، وَالْفَسَادُ لِعَدَمِ الْأَجَلِ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ لِمَكَانِ الِاجْتِهَادِ

«الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاسَ مَعَ وُفُورِ عُقُولِهِمْ وَشِدَّةِ تَحَرُّزِهِمْ عَنْ الْغَبْنِ فِي الْبِيَاعَاتِ وَكَثْرَةِ رَغْبَتِهِمْ فِي التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ يُقْدِمُونَ عَلَى السَّلَمِ مَعَ اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ، وَذَلِكَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى رِبَا الْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ رَدِيئًا وَالِاعْتِبَارُ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّورَةِ، فَمُنْكِرُ صِحَّةِ الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لَكِنَّهُ مُدَّعٍ فِي الْمَعْنَى فَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَإِنْ انْعَكَسَتْ الْمَسْأَلَةُ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّ السَّلَمِ الْوَصْفَ، وَأَنْكَرَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْمَشَايِخِ (قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُنْكِرًا) وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ (قَوْلُهُ: وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ) يُرِيدُ بِهِ مَا يَذْكُرُهُ بَعْدَهُ بِخُطُوطِ الْقَوْلِ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا، وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْبَعِيدِ وَالْمُطَابِقِ وَنُقَرِّرُهُ.

وَلَوْ قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجَلٌ وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ بَلْ كَانَ لَهُ أَجَلٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ الْأَجَلُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ بِإِنْكَارِهِ يَدَّعِي فَسَادَ الْعَقْدِ وَسَلَامَةَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَهُ وَهُوَ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فِي الْعَادَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ (بِأَنَّ الْفَسَادَ بِعَدَمِ الْأَجَلِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ لِمَنْ كَانَ الِاجْتِهَادُ) فَإِنَّ السَّلَمَ الْحَالَّ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَيَقَّنًا بِعَدَمِهِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ إنْكَارِهِ رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ النَّفْعُ بِرَدِّ رَأْسِ الْمَالِ مُعْتَبَرًا، بِخِلَافِ عَدَمِ الْوَصْفِ وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَإِنَّ الْفَسَادَ بِعَدَمِهِ مُتَيَقَّنٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خِلَافِ مُخَالِفٍ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ وَضْعِهَا غَيْرُ

ص: 109

فَلَا يُعْتَبَرُ النَّفْعُ فِي رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ، بِخِلَافِ عَدَمِ الْوَصْفِ، وَفِي عَكْسِهِ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ يُنْكِرُ حَقًّا لَهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ كَرَبِّ الْمَالِ إذَا قَالَ لِلْمُضَارِبِ شَرَطْتُ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةَ وَقَالَ الْمُضَارِبُ لَا بَلْ شَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ فَكَانَا مُتَّفِقِينَ عَلَى الصِّحَّةِ ظَاهِرًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فَلَا يُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فَيَبْقَى مُجَرَّدُ دَعْوَى اسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ، أَمَّا السَّلَمُ فَلَازِمٌ فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ مَنْ خَرَجَ كَلَامُهُ تَعَنُّتًا فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ خَرَجَ خُصُومَةٌ

صَحِيحٍ.

فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إنَّ الِاخْتِلَافَ كَانَ ثَابِتًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ، لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ، وَفِي عَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ الْأَجَلَ وَرَبُّ السَّلَمِ يُنْكِرُهُ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ حَقًّا عَلَيْهِ وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ كَرَبِّ الْمَالِ إذَا قَالَ لِلْمُضَارِبِ شَرَطْت لَك نِصْفَ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةً وَقَالَ الْمُضَارِبُ لَا بَلْ شَرَطْت لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَإِنَّ الْقَوْلَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ وَاحِدٌ، إذْ السَّلَمُ الْحَالُّ فَاسِدٌ لَيْسَ بِعَقْدٍ آخَرَ. وَاخْتَلَفَا فِي جَوَازِهِ وَفَسَادِهِ، وَكَانَا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى الصِّحَّةِ ظَاهِرًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِمَا مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ. الثَّانِي أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْعَقْدِ الْتِزَامٌ لِشَرَائِطِهِ، وَالْأَجَلُ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ فَكَانَ اتَّفَقَاهُمَا عَلَى الْعَقْدِ إقْرَارًا بِالصِّحَّةِ، فَالْمُنْكِرُ

ص: 110

وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ فَالْقَوْلُ لِمُدَعِّي الصِّحَّةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لِلْمُنْكِرِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ.

بَعْدَهُ سَاعٍ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ وَإِنْكَارُهُ إنْكَارٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِيهَا تَنَوَّعَ مَحَلُّ الِاخْتِلَافِ فَإِنَّهَا إذَا فَسَدَتْ كَانَتْ إجَارَةً، وَإِذَا صَحَّتْ كَانَتْ شَرِكَةً، فَإِذَا اخْتَلَفَا فَالْمُدَّعِي لِلصِّحَّةِ مُدَّعٍ لِعَقْدٍ، وَالْمُدَّعِي لِلْفَسَادِ مُدَّعٍ لِعَقْدٍ آخَرَ خِلَافَهُ، وَوَحْدَةُ الْعَقْدِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ تَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَ الِاخْتِلَافِ الْمُوجِبِ لِلتَّنَاقُضِ الْمَرْدُودِ لِوَحْدَةِ الْمَحَلِّ، وَعَدَمُ وَحْدَتِهِ تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ اعْتِبَارِ الِاخْتِلَافِ لِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ. وَلَمَّا كَانَ السَّلَمُ عَقْدًا وَاحِدًا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ إنْكَارًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَهُوَ تَنَاقُضٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الْإِنْكَارُ، وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَهِيَ لَيْسَتْ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فَكَانَ الْمَحَلُّ مُخْتَلِفًا وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ الِاخْتِلَافُ مُعْتَبَرًا فَكَأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ فِي مَالِ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَعَبَّرَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله عَنْ الْوَحْدَةِ بِاللُّزُومِ؛ لِأَنَّهُ بِالْفَسَادِ لَا يَنْقَلِبُ عَقْدًا آخَرَ وَعَنْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ اللُّزُومِ لِانْقِلَابِهِ عَقْدًا آخَرَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ فِي الْمُضَارَبَةِ يُشْكِلُ بِمَا لَوْ قَالَ شَرَطْت لَك نِصْفَ الرِّبْحِ وَزِيَادَةَ عَشَرَةٍ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ لَا بَلْ شَرَطْت لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَإِنَّ الْقَوْلَ لِلْمُضَارِبِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ الِاخْتِلَافُ وَيَكُونَ الْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِإِنْكَارِهِ مَا يَدَّعِيهِ الْمُضَارِبُ فِي مَالِهِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُذْرَ الْمَذْكُورَ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى انْتِفَاءِ وُرُودِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَهَاهُنَا قَدْ وَرَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ أَثْبَتَ لَهُ بِقَوْلِهِ شَرَطْت لَك نِصْفَ الرِّبْحِ مَا يَدَّعِيهِ وَيَدَّعِي بِقَوْلِهِ وَزِيَادَةَ عَشَرَةٍ فَسَادَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ إنْكَارٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ يُقَرِّرُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ، كَمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي فَيَكُونُ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ وَرَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ بَاطِلٌ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ وَهُوَ الْمُضَارِبُ كَمَا فِي السَّلَمِ، وَهَذَا الْمَحَلُّ مُخْتَصٌّ بِهَذَا الْكِتَابِ وَجُهْدُ الْمُقِلِّ دُمُوعُهُ.

ص: 111

قَالَ (وَيَجُوزُ‌

‌ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ

إذَا بَيَّنَ طُولًا وَعَرْضًا وَرُقَعَهُ) لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مَعْلُومٍ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ ثَوْبُ حَرِيرٍ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَزْنِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ فِيهِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ إلَخْ) السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ جَائِزٌ إذَا بَيَّنَ الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَالرُّقْعَةَ. يُقَالُ رُقْعَةُ هَذَا الثَّوْبِ جَيِّدَةٌ يُرَادُ غِلَظُهُ وَثَخَانَتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مَعْلُومٍ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبَ حَرِيرٍ وَهُوَ الْمُتَّخَذُ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ الْمَطْبُوخِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَزْنِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحَرِيرِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ، فَذِكْرُ الطُّولِ وَالْعَرْضِ لَيْسَ بِكَافٍ وَلَا ذِكْرُ الْوَزْنِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ رُبَّمَا يَأْتِي وَقْتُ حُلُولِ الْأَجَلِ بِقَطْعِ حَرِيرٍ بِذَلِكَ الْوَزْنِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُرَادٍ لَا مَحَالَةَ،

ص: 112

(وَلَا يَجُوزُ‌

‌ السَّلَمُ فِي الْجَوَاهِرِ

وَلَا فِي الْخَرَزِ) لِأَنَّ آحَادَهَا مُتَفَاوِتَةٌ تَفَاوُتًا فَاحِشًا وَفِي صِغَارِ اللُّؤْلُؤِ الَّتِي تُبَاعُ وَزْنًا يَجُوزُ السَّلَمُ لِأَنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْوَزْنِ

(وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبِنِ وَالْآجُرِّ إذَا سَمَّى مَلْبَنًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ لَا سِيَّمَا إذَا سُمِّيَ الْمَلْبَنُ.

قَالَ (وَكُلُّ مَا أَمْكَنَ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ) لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ (وَمَا لَا يُضْبَطُ صِفَتُهُ وَلَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ، وَبِدُونِ الْوَصْفِ يَبْقَى مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ

وَأَمَّا فِي الثِّيَابِ فَالْوَزْنُ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله اشْتِرَاطَ الْوَزْنِ فِي الْوَذَارِيِّ وَمَا يَخْتَلِفُ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجَوَاهِرِ إلَخْ) الْعَدَدِيُّ الَّذِي تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ كَالْجَوَاهِرِ وَاللَّآلِئِ وَالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ لِإِفْضَائِهِ إلَى النِّزَاعِ. وَفِي الَّذِي لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ جَازَ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَفِي صِغَارِ اللُّؤْلُؤِ الَّتِي تُبَاعُ وَزْنًا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْوَزْنِ فَلَا تَفَاوُتَ فِي الْمَالِيَّةِ.

(وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبَنِ وَالْآجُرِّ) إذَا اشْتَرَطَ فِيهِ مَلْبَنًا مَعْرُوفًا؛ لِأَنَّهُ إذَا سَمَّى الْمَلْبَنَ صَارَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ لَبَنٍ وَلَبَنٍ يَسِيرًا فَيَكُونُ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ.

قَالَ (وَكُلُّ مَا أَمْكَنَ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ إلَخْ) هَذِهِ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ تَشْمَلُ جَمِيعَ جُزْئِيَّاتِ مَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ وَمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَكَسَهَا فَقَالَ وَمَا لَا يُضْبَطُ صِفَتُهُ وَلَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَلَا يَنْعَكِسُ قَوْلُنَا كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ إلَى كُلُّ مَا لَيْسَ بِإِنْسَانٍ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ. وَالثَّانِي أَنَّهُ ذَكَرَ الْقَاعِدَةَ بَعْدَ ذِكْرِ الْفُرُوعِ، وَالْأَصْلُ ذِكْرُ الْقَاعِدَةِ أَوَّلًا ثُمَّ تَفْرِيعُ الْفُرُوعِ عَلَيْهَا.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ جَوَازَ السَّلَمِ يَسْتَلْزِمُ إمْكَانَ ضَبْطِ الصِّفَةِ وَمَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 113

(وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي طَسْتٍ أَوْ قُمْقُمَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إذَا كَانَ يُعْرَفُ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ السَّلَمِ (وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ فَلَا خَيْرَ فِيهِ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ مَجْهُولٌ. قَالَ (وَإِنْ اسْتَصْنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَجَلٍ جَازَ اسْتِحْسَانًا) لِلْإِجْمَاعِ الثَّابِتِ بِالتَّعَامُلِ.

وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعًا لَا عِدَةً،

«مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» الْحَدِيثَ، وَحِينَئِذٍ كَانَ مِثْلَ قَوْلِنَا كُلُّ إنْسَانٍ نَاطِقٌ وَهُوَ يَنْعَكِسُ إلَى قَوْلِنَا كُلُّ مَا لَيْسَ بِإِنْسَانٍ لَيْسَ بِنَاطِقٍ. وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْقَاعِدَةِ عَلَى الْفُرُوعِ يَلِيقُ بِوَضْعِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَمَّا فِي الْفِقْهِ فَالْمَقْصُودُ مَعْرِفَةُ الْمَسَائِلِ الْجُزْئِيَّةِ فَتُقَدَّمُ الْفُرُوعُ ثُمَّ يُذْكَرُ مَا هُوَ الْأَصْلُ الْجَامِعُ لِلْفُرُوعِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

(وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي طَسْتٍ أَوْ قُمْقُمٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ فِيهَا شَرَائِطُ السَّلَمِ، وَإِلَّا فَلَا خَيْرَ فِيهِ) أَيْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ خَيْرٌ فَيَنْتَفِي.

قَالَ (وَإِنْ اسْتَصْنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الْأَجَلِ جَازَ إلَخْ) الِاسْتِصْنَاعُ هُوَ أَنْ يَجِيءَ إنْسَانٌ إلَى صَانِعٍ فَيَقُولَ اصْنَعْ لِي شَيْئًا صُورَتُهُ كَذَا وَقَدْرُهُ كَذَا بِكَذَا دِرْهَمًا وَيُسْلِمُ إلَيْهِ جَمِيعَ الدَّرَاهِمِ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ لَا يُسْلِمُ، وَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ: أَيْ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ طَسْتٍ وَقُمْقُمٍ وَخُفَّيْنِ أَوْ لَا. وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا كَمَا سَيَجِيءُ وَالْأَوَّلُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَقَدْ نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَلَمٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضْرَبْ لَهُ أَجَلٌ، إلَيْهِ أَشَارَ قَوْلُهُ: بِغَيْرِ أَجَلٍ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الْإِجْمَاعُ الثَّابِتُ بِالتَّعَامُلِ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ تَعَارَفُوا الِاسْتِصْنَاعَ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِمِثْلِهِ كَدُخُولِ الْحَمَّامِ، وَلَا يُشْكِلُ بِالْمُزَارَعَةِ فَإِنَّ فِيهَا لِلنَّاسِ تَعَامُلًا، وَهِيَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِيهَا كَانَ ثَابِتًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ دُونَ الِاسْتِصْنَاعِ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ هَلْ هُوَ بَيْعٌ أَوْ عِدَةٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بَيْعٌ لَا عِدَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا، وَكَانَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ يَقُولُ: هُوَ مُوَاعَدَةٌ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِالتَّعَاطِي إذَا جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا، وَلِهَذَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ.

وَجْهُ الْعَامَّةِ أَنَّهُ سَمَّاهُ فِي الْكِتَابِ بَيْعًا وَأَثْبَتَ فِيهِ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، وَذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ لَا فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ، كَمَا إذَا طَلَبَ مِنْ الْحَائِكِ أَنْ يَنْسِجَ لَهُ ثَوْبًا بِغَزْلٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ الْخَيَّاطِ أَنْ يَخِيطَ لَهُ قَمِيصًا بِكِرْبَاسَ مِنْ عِنْدِهِ، وَالْمُوَاعَدَةُ تَجُوزُ فِي الْكُلِّ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَاعَدَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا إذَا تَبَايَعَا عَرَضَا بِعَرْضٍ وَلَمْ يَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا اشْتَرَاهُ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارَ وَهُوَ بَيْعٌ مَحْضٌ لَا مَحَالَةَ.

ص: 114

وَالْمَعْدُومُ قَدْ يُعْتَبَرُ مَوْجُودًا حُكْمًا، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ دُونَ الْعَمَلِ، حَتَّى لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا لَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ مِنْ صَنْعَتِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَأَخَذَهُ جَازَ،

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْعًا وَالْمَعْدُومُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا.

أَجَابَ (بِأَنَّ الْمَعْدُومَ قَدْ يُعْتَبَرُ مَوْجُودًا حُكْمًا) كَالنَّاسِي لِلتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ جُعِلَتْ مَوْجُودَةً لِعُذْرِ النِّسْيَانِ، وَالطَّهَارَةِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ جُعِلَتْ مَوْجُودَةً لِعُذْرِ جَوَازِ الصَّلَوَاتِ لِئَلَّا تَتَضَاعَفَ الْوَاجِبَاتُ، فَكَذَلِكَ الْمُسْتَصْنَعُ الْمَعْدُومُ جُعِلَ مَوْجُودًا حُكْمًا لِلتَّعَامُلِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَيْنَ الْمُسْتَصْنَعَ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الصُّنْعَ.

أَجَابَ (بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْعَيْنُ دُونَ الْعَمَلِ، حَتَّى لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا لَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ مِنْ صَنْعَتِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَأَخَذَهُ جَازَ) وَفِيهِ نَفْيٌ لِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِصْنَاعَ طَلَبُ الصُّنْعِ وَهُوَ الْعَمَلُ. وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْعًا لَمَا بَطَلَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَكِنَّهُ يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، ذَكَرَهُ فِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ لِلِاسْتِصْنَاعِ شَبَهًا بِالْإِجَارَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ طَلَبَ الصُّنْعِ وَهُوَ الْعَمَلُ، وَشَبَهًا بِالْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ

ص: 115

وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالِاخْتِيَارِ، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ الصَّانِعُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ جَازَ، وَهَذَا كُلُّهُ هُوَ الصَّحِيحُ.

قَالَ (وَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ) لِأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ وَلَا خِيَارَ لِلصَّانِعِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ قَطْعُ الصَّرْمِ وَغَيْرِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُمَا. أَمَّا الصَّانِعُ فَلِمَا ذَكَرْنَا.

وَأَمَّا الْمُسْتَصْنِعُ فَلِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ إضْرَارًا بِالصَّانِعِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَشْتَرِيهِ غَيْرُهُ بِمِثْلِهِ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِلنَّاسِ كَالثِّيَابِ لِعَدَمِ الْمُجَوَّزِ وَفِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا أَمْكَنَ إعْلَامُهُ بِالْوَصْفِ لِيُمْكِنَ التَّسْلِيمُ، وَإِنَّمَا قَالَ بِغَيْرِ أَجَلٍ لِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ الْأَجَلَ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ يَصِيرُ سَلَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ ضَرَبَهُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ يَصِيرُ سَلَمًا بِالِاتِّفَاقِ. لَهُمَا أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ لِلِاسْتِصْنَاعِ فَيُحَافَظُ عَلَى قَضِيَّتِهِ وَيُحْمَلُ الْأَجَلُ عَلَى التَّعْجِيلِ،

الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْعَيْنُ الْمُسْتَصْنَعُ، فَلِشَبَهِهِ بِالْإِجَارَةِ قُلْنَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَلِشَبَهِهِ بِالْبَيْعِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ أَجْرَيْنَا فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَأَثْبَتْنَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَلَمْ نُوجِبْ تَعْجِيلَ الثَّمَنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ. فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصَّبَّاغِ، فَإِنَّ فِي الصَّبْغِ الْعَمَلَ وَالْعَيْنَ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَذَلِكَ إجَارَةٌ مَحْضَةٌ. أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّبْغَ أَصْلٌ وَالصَّبْغُ آلَتُهُ فَكَانَ الْمَقْصُودُ فِيهِ الْعَمَلَ وَذَلِكَ إجَارَةٌ وَرَدَتْ عَلَى الْعَمَلِ فِي عَيْنِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَهَاهُنَا الْأَصْلُ هُوَ الْعَيْنُ الْمُسْتَصْنَعُ الْمَمْلُوكُ لِلصَّانِعِ فَيَكُونُ بَيْعًا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ مِنْ حَيْثُ وَصْفُهُ إلَّا بِالْعَمَلِ أَشْبَهَ الْإِجَارَةَ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ لَا غَيْرُ (وَلَا يَتَعَيَّنُ) الْمُسْتَصْنَعُ (إلَّا بِاخْتِيَارِ) الْمُسْتَصْنِعِ (حَتَّى لَوْ بَاعَهُ الصَّانِعُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ جَازَ وَهَذَا كُلُّهُ) أَيْ كَوْنُهُ بَيْعًا لَا عِدَةً، وَكَوْنُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ هُوَ الْعَيْنَ دُونَ الْعَمَلِ، وَعَدَمُ تَعَيُّنِهِ إلَّا بِاخْتِيَارِهِ (هُوَ الصَّحِيحُ) وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ فِي كُلٍّ مِنْهَا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.

قَالَ (وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ إلَخْ) أَيْ الْمُسْتَصْنِعُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ الْخِيَارُ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا خِيَارَ لِلصَّانِعِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ بَائِعٌ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ لَا خِيَارَ لَهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ بِنَاءً عَلَى جَعْلِهِ بَيْعًا لَا عِدَةً. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ أَيْضًا إنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ قَطْعُ الصَّرْمِ وَإِتْلَافُ الْخَيْطِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُمَا. أَمَّا الصَّانِعُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا، وَأَمَّا الْمُسْتَصْنِعُ فَلِأَنَّ الصَّانِعَ أَتْلَفَ مَالَهُ بِقَطْعِ الصَّرْمِ وَغَيْرِهِ لِيَصِلَ إلَى بَدَلِهِ، فَلَوْ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ تَضَرَّرَ الصَّانِعُ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَشْتَرِيهِ بِمِثْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاعِظَ إذَا اسْتَصْنَعَ مِنْبَرًا وَلَمْ يَأْخُذْهُ فَالْعَامِّيُّ لَا يَشْتَرِيهِ أَصْلًا. فَإِنْ قِيلَ: الضَّرَرُ حَصَلَ بِرِضَاهُ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا. أُجِيبَ بِجَوَازٍ أَنْ يَكُونَ الرِّضَا عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْمُسْتَصْنِعَ مَجْبُورٌ عَلَى الْقَبُولِ فَلَمَّا عَلِمَ اخْتِيَارَهُ عَدَمَ رِضَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ لِجَهْلٍ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. أُجِيبَ بِأَنَّ خِيَارَ الْمُسْتَصْنِعِ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَمْ يَجِبْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ

ص: 116

بِخِلَافِ مَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِأَنَّهُ اسْتِصْنَاعٌ فَاسِدٌ فَيُحْمَلُ عَلَى السَّلَمِ الصَّحِيحِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ دَيْنٌ يَحْتَمِلُ السَّلَمَ، وَجَوَازُ السَّلَمِ بِإِجْمَاعٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَفِي تَعَامُلِهِمْ الِاسْتِصْنَاعُ نَوْعُ شُبْهَةٍ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى السَّلَمِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الْإِسْلَامِ عِلْمُ أَقْوَالِ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِنَّمَا الْجَهْلُ لَيْسَ بِعُذْرٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْفَرَائِضِ الَّتِي لَا بُدَّ لِإِقَامَةِ الدِّينِ مِنْهَا لَا فِي حِيَازَةِ اجْتِهَادِ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ إذَا زَوَّجَ الصَّغِيرَةَ بِحُرٍّ ثُمَّ بَلَغَتْ فَإِنَّ لَهَا خِيَارَ الْبُلُوغِ، فَإِنْ سَكَتَتْ لِجَهْلِهَا بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِعُذْرٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْفَرَائِضِ الَّتِي لَا بُدَّ لِإِقَامَةِ الدِّينِ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِصْنَاعُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الثِّيَابِ وَالْقُمْصَانِ إبْقَاءً لَهُ عَلَى الْقِيَاسِ السَّالِمِ عَنْ مُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ بِالْإِجْمَاعِ.

وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ أَجَلٍ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا ضُرِبَ لَهُ أَجَلٌ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ سَلَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله خِلَافًا لَهُمَا.

وَأَمَّا إذَا ضُرِبَ الْأَجَلُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ سَلَمًا بِالِاتِّفَاقِ، وَالْمُرَادُ بِضَرْبِ الْأَجَلِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْهَالِ، أَمَّا الْمَذْكُورُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْجَالِ بِأَنْ قَالَ عَلَى أَنْ يَفْرُغَ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ لَا يُصَيِّرُهُ سَلَمًا؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ حِينَئِذٍ لِلْفَرَاغِ لَا لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ وَيُحْكَى عَنْ الْهِنْدُوَانِيِّ أَنَّ ذِكْرَ الْمُدَّةِ إنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمُسْتَصْنِعِ فَهُوَ لِلِاسْتِعْجَالِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ سَلَمًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الصَّانِعِ فَهُوَ سَلَمٌ؛ لِأَنَّهُ يَذْكُرُهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْهَالِ، وَفِيمَا إذَا صَارَ سَلَمًا يُعْتَبَرُ شَرَائِطُ السَّلَمِ الْمَذْكُورَةِ لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِصْنَاعِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ سَلَمًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَهُوَ مُمْكِنُ الْعَمَلِ، وَذِكْرُ الْأَجَلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ سَلَمًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُحَكَّمٍ فِيهِ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْجِيلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ اجْتَمَعَ الْمُحَكَّمُ وَالْمُحْتَمَلُ فَيُحْمَلُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ (بِخِلَافِ مَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ فَإِنَّهُ اسْتِصْنَاعٌ فَاسِدٌ فَيُحْمَلُ عَلَى السَّلَمِ الصَّحِيحِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ دَيْنٌ يَحْتَمِلُ السَّلَمِ) وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّفْظَ مُحَكَّمٌ فِي الِاسْتِصْنَاعِ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْأَجَلِ أَدْخَلَهُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ، وَإِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى السَّلَمِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ بِالْإِجْمَاعِ بِلَا شُبْهَةٍ فِيهِ (وَفِي تَعَامُلِهِمْ الِاسْتِصْنَاعُ نَوْعُ شُبْهَةٍ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّ فِي فِعْلِ الصَّحَابَةِ فِي تَعَامُلِهِمْ الِاسْتِصْنَاعُ شُبْهَةٌ؛ وَلِأَنَّ السَّلَمَ ثَابِتٌ بِآيَةِ الْمُدَايَنَةِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الِاسْتِصْنَاعِ

ص: 117

(مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ)

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ، الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ، لِقَوْلِهِ

مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ)

أَيْ هَذِهِ مَسَائِلُ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ نُثِرَتْ عَنْ أَبْوَابِهَا وَلَمْ تُذْكَرْ ثَمَّةَ فَاسْتُدْرِكَتْ بِذِكْرِهَا هَاهُنَا. قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ) بَيْعُ الْكَلْبِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ جَائِزٌ مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ، أَمَّا الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ؛ لِأَنَّهُ آلَةُ الْحِرَاسَةِ وَالِاصْطِيَادِ فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا فَيَكُونُ مَالًا.

وَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ بِغَيْرِ الِاصْطِيَادِ، فَإِنَّ كُلَّ كَلْبٍ يَحْفَظُ بَيْتَ صَاحِبِهِ وَيَمْنَعُ الْأَجَانِبَ عَنْ الدُّخُولِ فِي بَيْتِهِ وَيُخْبِرُ عَنْ الْجَائِي بِنُبَاحِهِ فَسَاوَى الْمُعَلَّمَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بَيْعَ الْكَلْبِ الْعَقُورِ) أَيْ الْجَارِحِ (لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ) وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ إمْسَاكِهِ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ. قُلْنَا: كَانَ قَبْلَ وُرُودِ الرُّخْصَةِ فِي اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ أَوْ لِلْمَاشِيَةِ أَوْ لِلزَّرْعِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ؛ لِقَوْلِهِ

ص: 118

عليه الصلاة والسلام «إنَّ مِنْ السُّحْتِ مَهْرَ الْبَغِيِّ وَثَمَنَ الْكَلْبِ» وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَالنَّجَاسَةُ تُشْعِرُ بِهَوَانِ الْمَحَلِّ وَجَوَازُ الْبَيْعِ يُشْعِرُ بِإِعْزَازِهِ فَكَانَ مُنْتَفِيًا. وَلَنَا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ»

- صلى الله عليه وسلم «إنَّ مِنْ السُّحْتِ مَهْرَ الْبَغِيِّ وَثَمَنَ الْكَلْبِ» ) السُّحْتُ: هُوَ الْحَرَامُ. وَالْبَغِيُّ: الزَّانِيَةُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَتَرْكُ التَّاءِ إلْحَاقًا بِفَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِهِمْ مِلْحَفَةٌ جَدِيدٌ.

(وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ) بِدَلَالَةِ نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ فَإِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تُشْعِرُ بِهَوَانِ الْمَحَلِّ، وَجَوَازُ الْبَيْعِ بِإِعْزَازِهِ فَكَانَا مُتَنَافِيَيْنِ وَالنَّجَاسَةُ ثَابِتَةٌ فَكَانَ الْبَيْعُ مُنْتَفِيًا (وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ») وَهِيَ الَّتِي تَحْرُسُ الْمَوَاشِيَ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الدَّلِيلَ أَخَصُّ مِنْ الْمُدَّعَى، فَإِنَّ الْمُدَّعَى جَوَازُ بَيْعِ الْكِلَابِ مُطْلَقًا، وَالدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ لَا غَيْرُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذِكْرَهُ لِإِبْطَالِ شُمُولِ الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ مُدَّعَى الْخَصْمِ، وَأَمَّا إثْبَاتُ الْمُدَّعَى فَثَابِتٌ بِحَدِيثٍ ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:«قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَلْبٍ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا» مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِهِ بِنَوْعٍ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الطَّحَاوِيَّ حَدَّثَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّهُ قَضَى فِي كَلْبِ صَيْدٍ قَتَلَهُ رَجُلٌ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا» وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِنَوْعٍ كَمَا تَرَى.

وَقِيلَ الِاسْتِدْلَال

ص: 119

وَلِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا فَكَانَ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، بِخِلَافِ الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَلْعًا لَهُمْ عَنْ الِاقْتِنَاءِ

يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِ الْمُعَلَّمِ سِوَى الْعَقُورِ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مُلْحَقٌ بِهِ دَلَالَةً (وَلِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا) لَفٌّ وَنَشْرٌ (فَكَانَ مَالًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ).

وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَنَافِعِ الْكَلْبِ لَا بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَالِيَّةِ عَيْنِهِ كَالْآدَمِيِّ يُنْتَفَعُ بِمَنَافِعِهِ بِالْإِجَارَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ. وَالثَّانِي أَنَّ شَعْرَ الْخِنْزِيرِ يَنْتَفِعُ بِهِ الْأَسَاكِفَةُ وَلَيْسَ بِمَالٍ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَنْفَعَةِ الْكَلْبِ يَقَعُ تَبَعًا لِمِلْكِ الْعَيْنِ لَا قَصْدًا فِي الْمَنْفَعَةِ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُورَثُ وَالْمَنْفَعَةُ وَحْدَهَا لَا تُورَثُ فَجَرَى مَجْرَى الِانْتِفَاعِ بِمَنَافِع الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَجَمِيعِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ شَرْعًا فَثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ فِي كُلِّ جُزْءٍ وَسَقَطَ التَّقَوُّمُ وَالْإِبَاحَةُ لِضَرُورَةِ الْخَرَزِ لَا تَدُلُّ عَلَى رَفْعِ الْحُرْمَةِ فِيمَا عَدَاهَا كَإِبَاحَةِ لَحْمِهِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ الِانْتِفَاعُ ثَبَتَ فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ، بِخِلَافِ الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالزَّنَابِيرِ؛ لِأَنَّهَا لَا يُنْتَفَعُ بِهَا (قَوْلُهُ: وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ، وَتَقْرِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ رَخَّصَ فِي ثَمَنِ كَلْبِ الصَّيْدِ» وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ نَهْيٍ اُنْتُسِخَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَلِفُوا اقْتِنَاءَ الْكِلَابِ، وَكَانَتْ تُؤْذِي الضِّيفَانَ وَالْغُرَبَاءَ فَنُهُوا عَنْ اقْتِنَائِهَا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأُمِرُوا بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَنُهُوا عَنْ بَيْعِهَا تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ، ثُمَّ رُخِّصَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ثَمَنِ مَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ مِنْ الْكِلَابِ. فَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْحَدِيثُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَالثَّمَنُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ

ص: 120

وَلَا نُسَلِّمُ نَجَاسَةَ الْعَيْنِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ دُونَ الْبَيْعِ. وَقَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا " وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّنَا،

إلَّا فِي الْمُبَايَعَةِ.

(قَوْلُهُ: وَلَا نُسَلِّمُ نَجَاسَةَ الْعَيْنِ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْمَعْقُولِ بِالْمَنْعِ، فَإِنَّ تَمْلِيكَهُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ يَجُوزُ بِالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَلَيْسَ نَجِسُ الْعَيْنِ كَذَلِكَ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ دُونَ الْبَيْعِ كَالسِّرْقِينِ عِنْدَنَا عَلَى مَا سَيَجِيءُ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إلَخْ) بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِلْمُسْلِمِ غَيْرُ جَائِزٍ: يَعْنِي أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَتَقَدَّمَ وُقُوعُهُمَا مَبِيعًا وَثَمَنًا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا» قَالَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ يُكَنَّى أَبَا عَامِرٍ كَانَ يُهْدِي لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّ عَامٍ رَاوِيَةً مِنْ خَمْرٍ، فَأَهْدَى إلَيْهِ فِي الْعَامِ الَّذِي حُرِّمَتْ رَاوِيَةً كَمَا كَانَ يُهْدِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا عَامِرٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِخَمْرِك، قَالَ: فَخُذْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبِعْهَا وَاسْتَعِنْ بِثَمَنِهَا عَلَى حَاجَتِك، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:

ص: 121

وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. .

قَالَ (وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَلِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ مُحْتَاجُونَ كَالْمُسْلِمِينَ. قَالَ (إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ خَاصَّةً) فَإِنَّ عَقْدَهُمْ عَلَى الْخَمْرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْعَصِيرِ، وَعَقْدُهُمْ عَلَى الْخِنْزِيرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الشَّاةِ؛ لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ. دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ عُمَرَ: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ عَبْدَك مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الثَّمَنِ سِوَى الْأَلْفِ

يَا أَبَا عَامِرٍ إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا».

قَالَ (وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ) قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: لَا يَجُوزُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ الرِّبَا وَلَا بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً، وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ بَيْنَهُمْ فِي الْحَيَوَانِ وَالدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ وَلَا نَسِيئَةً وَلَا الصَّرْفُ نَسِيئَةً وَلَا الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَكَذَا كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ إذَا كَانَ صِنْفًا وَاحِدًا، هُمْ فِي الْبُيُوعِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رحمه الله عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَلِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ يَعْنِي بِالْمُعَامَلَاتِ بِالِاتِّفَاقِ مُحْتَاجُونَ إلَى مَا تَبْقَى بِهِ نُفُوسُهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ وَلَا تَبْقَى الْأَنْفُسُ إلَّا بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكِسْوَةِ وَالسُّكْنَى وَلَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ، وَمِنْهَا الْبَيْعُ فَيَكُونُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِمْ كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ فَإِنَّ عَقْدَهُمْ عَلَيْهِمَا كَالْعَقْدِ عَلَى الْعَصِيرِ وَالشَّاةِ فِي كَوْنِهِمَا أَمْوَالًا مُتَقَوِّمَةً فِي اعْتِقَادِهِمْ وَنَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه لِعُمَّالِهِ حِينَ حَضَرُوا إلَيْهِ وَقَالَ لَهُمْ: يَا هَؤُلَاءِ إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَأْخُذُونَ فِي الْجِزْيَةِ الْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْخَمْرَ، فَقَالَ بِلَالٌ: أَجَلْ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَلَكِنْ وَلُّوا أَرْبَابَهَا بَيْعَهَا ثُمَّ خُذُوا الثَّمَنَ مِنْهُمْ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ عَبْدَك مِنْ فُلَانٍ) صُورَتُهُ أَنْ

ص: 122

فَفَعَلَ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَأْخُذُ الْأَلْفَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْخَمْسَمِائَةِ مِنْ الضَّامِنِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ جَازَ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ وَلَا شَيْءَ عَلَى الضَّمِينِ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَتَلْحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ كَوْنُهُ عَدْلًا أَوْ خَاسِرًا أَوْ رَابِحًا، ثُمَّ قَدْ لَا يَسْتَفِيدُ الْمُشْتَرِي بِهَا شَيْئًا بِأَنْ زَادَ فِي الثَّمَنِ وَهُوَ يُسَاوِي الْمَبِيعَ بِدُونِهَا فَيَصِحُّ اشْتِرَاطُهَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ لَكِنْ مِنْ شَرْطِهَا الْمُقَابَلَةُ تَسْمِيَةً وَصُورَةً، فَإِذَا قَالَ مِنْ الثَّمَنِ وُجِدَ شَرْطُهَا فَيَصِحُّ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ لَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَصِحَّ.

يَطْلُبَ إنْسَانٌ مِنْ آخَرَ شِرَاءَ عَبْدِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ لَا يَبِيعُ إلَّا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُشْتَرِي لَا يَرْغَبُ فِيهِ إلَّا بِأَلْفٍ فَيَجِيءُ آخَرُ وَيَقُولُ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ بِعْ عَبْدَك هَذَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الثَّمَنِ سِوَى الْأَلْفِ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَأْخُذُ الْأَلْفَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْخَمْسَمِائَةِ مِنْ الضَّامِنِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ جَازَ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ وَلَا شَيْءَ عَلَى الضَّامِنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَهُ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَارِّ (أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَتُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْإِلْحَاقَ (تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ كَوْنُهُ عَدْلًا أَوْ خَاسِرًا أَوْ رَابِحًا ثُمَّ قَدْ لَا يَسْتَفِيدُ الْمُشْتَرِي بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ شَيْئًا بِأَنْ زَادَ فِي الثَّمَنِ وَهُوَ يُسَاوِي الْمَبِيعَ بِدُونِهَا) فَصَارَ الْفَضْلُ فِي ذَلِكَ كَبَدَلِ الْخُلْعِ فِي كَوْنِهِ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ فَجَازَ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَهُوَ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ الزِّيَادَةِ لِتَتَحَقَّقَ الْمُقَابَلَةُ صُورَةً وَإِنْ فَاتَتْ مَعْنًى لِيَخْرُجَ عَنْ حَيِّزِ الْحُرْمَةِ، فَإِذَا قَالَ مِنْ الثَّمَنِ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَصِحُّ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ صَارَ ذِكْرُ خَمْسِمِائَةِ مِنْ الضَّامِنِ رِشْوَةً مِنْهُ عَلَى الْبَيْعِ بِمَا سَمَّيَا مِنْ الْمَالِ، وَالرِّشْوَةُ حَرَامٌ لَا تَلْزَمُ بِالضَّمَانِ. وَاعْتُرِضَ بِأَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ كَيْفَ يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. الثَّانِي لَوْ كَانَ خَمْسَمِائَةٍ ثَمَنًا لَتَوَجَّهَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَتَحَمَّلُ عَنْهُ الضَّامِنُ وَلَمْ تَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ.

الثَّالِثُ أَنَّ أَصْلَ الثَّمَنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَالْمَبِيعِ لِغَيْرِهِ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ، وَالْفِكْرُ الصَّائِبُ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُغْنِي عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ وَالْجَوَابِ عَنْهَا، وَلَا بَأْسَ بِتَكْرَارِ ذَلِكَ لِلتَّحْقِيقِ، فَإِنَّ وُرُودَ السُّؤَالِ

ص: 123

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى زَوَّجَهَا فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ) لِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ،

إذَا كَانَ لِغُمُوضِ فَهْمِ أَصْلِ الْكَلَامِ فَجَوَابُهُ تَكْرَارُهُ، وَذَلِكَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فُضُولَ الثَّمَنِ قَدْ تَسْتَغْنِي عَنْ أَنْ تُقَابَلَ بِالْمَالِ جُزْءًا فَجُزْءًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الثَّمَنِ خَالِيًا عَمَّا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ، كَالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ يُسَاوِي الثَّمَنَ بِلَا زِيَادَةٍ فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي ثَابِتَةً بِلَا بَدَلٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ بَطَلَ مِمَّنْ الْتَزَمَهُ لَا غَيْرُ، وَالْمُلْتَزِمُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْأَجْنَبِيُّ فَلَا يَتَوَجَّهُ الطَّلَبُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْلِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ أَصْلَ الثَّمَنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقَابِلَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ كَالزِّيَادَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ وُجُوبِهِ عَلَى الْغَيْرِ عَدَمُ جَوَازِ مَا لَا يَلْزَمُ وُجُوبُ شَيْءٍ فِي مُقَابَلَتِهِ. وَقَعَ فِي الْكِتَابِ وَالْخَمْسُمِائَةِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامُ فِي الْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: بَعْضُ الْكُتَّابِ يُجِيزُونَ ذَلِكَ وَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا، وَقِيلَ إذَا وَرَدَ مِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَقَدَ إضَافَةُ الْخَمْسَةِ بَلْ الْجَرُّ فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ الْخَمْسِ خَمْسِمِائَةٍ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى زَوَّجَهَا إلَخْ) رَجُلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى زَوَّجَهَا بِرَجُلٍ فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ جَازَ النِّكَاحُ (لِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ) لِلنِّكَاحِ

ص: 124

وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الرَّقَبَةِ عَلَى الْكَمَالِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ. (وَهَذَا قَبْضٌ) لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ فِعْلُهُ كَفِعْلِهِ (إنْ لَمْ يَطَأْهَا فَلَيْسَ بِقَبْضٍ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا؛ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمِيٌّ فَيُعْتَبَرُ بِالتَّعْيِيبِ الْحَقِيقِيِّ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي الْحَقِيقِيِّ اسْتِيلَاءً عَلَى الْمَحَلِّ وَبِهِ يَصِيرُ قَابِضًا وَلَا كَذَلِكَ الْحُكْمِيُّ فَافْتَرَقَا.

وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الرَّقَبَةِ عَلَى الْكَمَالِ) وَمَا ثَمَّةَ مَانِعٌ عَنْ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ تَصَرُّفٍ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَهَذَا التَّزْوِيجُ يَكُونُ قَبْضًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَمَّا كَانَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي كَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِهِ (وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا) الزَّوْجُ (فَلَيْسَ) أَيْ مُجَرَّدُ التَّزْوِيجِ (قَبْضًا) اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ قَبْضٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، حَتَّى إنْ هَلَكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ هَلَكَتْ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ عَيْبٌ حُكْمِيٌّ، حَتَّى لَوْ وَجَدَهَا الْمُشْتَرِي ذَاتَ زَوْجٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، وَالْمُشْتَرِي إذَا عَيَّبَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ صَارَ قَابِضًا فَصَارَ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّعْيِيبُ الْحَقِيقِيُّ كَقَطْعِ الْيَدِ وَفَقْءِ الْعَيْنِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي التَّعْيِيبِ الْحَقِيقِيِّ اسْتِيلَاءً عَلَى الْمَحَلِّ بِاتِّصَالِ فِعْلٍ مِنْهُ إلَيْهِ وَبِهِ يَصِيرُ قَابِضًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِيِّ فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا،

ص: 125

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَغَابَ فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهَا إيَّاهُ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ مَعْرُوفَةً لَمْ يُبَعْ فِي دَيْنِ الْبَائِعِ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيصَالُ الْبَائِعِ إلَى حَقِّهِ بِدُونِ الْبَيْعِ، وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُشْتَرِي (وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ هُوَ بِيعَ الْعَبْدُ وَأَوْفَى الثَّمَنَ) لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ فَيَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ مَشْغُولًا بِحَقِّهِ،

وَالْإِعْتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ إتْلَافٌ لِلْمَالِيَّةِ وَإِنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَغَابَ الْمُشْتَرِي إلَخْ) رَجُلٌ اشْتَرَى مَنْقُولًا فَغَابَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ وَطَلَبَ الْبَائِعُ مِنْ الْقَاضِي بَيْعَ الْعَبْدِ بِثَمَنِهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ، فَإِذَا أَقَامَهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْغَيْبَةُ مَعْرُوفَةً أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَبِعْهُ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ وُصُولَ الْبَائِعِ إلَى حَقِّهِ بِدُونِ الْبَيْعِ مُمْكِنٌ وَفِي الْبَيْعِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي بَاعَ الْعَبْدَ وَأَدَّى الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ظَهَرَ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ فَيَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُقِرَّ بِهِ وَقَدْ أُقِرَّ بِهِ مَشْغُولًا بِحَقِّهِ فَيُعْتَبَرُ كَذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِهِ وَالْقَوْلُ: قَوْلُ الْإِنْسَانِ فِيمَا فِي يَدِهِ، فَلَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ كَانَ مَسْمُوعًا، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ كَامِلًا صَحَّ بِحُكْمِ الْيَدِ، فَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِهِ نَاقِصًا مَشْغُولًا بِحَقِّهِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ نَاقِصًا عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي الِاسْتِيفَاءَ وَقَدْ تَعَذَّرَ فَيَبِيعُهُ الْقَاضِي فِيهِ، كَالرَّاهِنِ إذَا مَاتَ فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ أَحَقُّ بِالْمَرْهُونِ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ إنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ، وَالْمُشْتَرِي إذَا مَاتَ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ مُفْلِسًا فَإِنَّ الْمَبِيعَ يُبَاعُ فِي ثَمَنِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فَإِنَّ بَيِّنَةَ الْبَائِعِ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَبْقَ مُتَعَلِّقًا بِهِ بَلْ هُوَ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ لِإِثْبَاتِ الدَّيْنِ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى الْغَائِبِ مُمْتَنِعٌ عِنْدَنَا.

وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْغَائِبِ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ إنْكَارَ الْخَصْمِ وَذَلِكَ مِنْ الْغَائِبِ مَجْهُولٌ. الثَّانِي أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ قَوْلٌ بِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهُ. الثَّالِثُ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بِزَوَالِ الْمِلْكِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَفِي ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ مَقْبُوضًا وَغَيْرَ مَقْبُوضٍ فَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا تَحَكُّمٌ.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا لِنَفْيِ التُّهْمَةِ لَا لِلْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا الْقَاضِي يَقْضِي بِمُوجِبِ إقْرَارِ الْمُقِرِّ بِمَا فِي يَدِهِ، وَفِي ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إلَى إنْكَارِ الْخَصْمِ.

وَعَنْ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ إنَّ الْقَاضِيَ يُنَصِّبُ مَنْ يَقْبِضُ الْعَبْدَ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَبِيعُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْقَاضِي كَبَيْعِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَكَذَا مَنْ يُجْعَلُ وَكِيلًا عَنْهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْبَائِعِ وَقَدْ يُتَسَامَحُ بِتَأْخِيرِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْبَيْعَ هَاهُنَا غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ النَّظَرُ لِلْبَائِعِ إحْيَاءً لِحَقِّهِ وَالْبَيْعُ يَحْصُلُ ضِمْنًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ ضِمْنًا مَا لَا يَثْبُتُ قَصْدًا.

وَعَنْ الثَّالِثِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ عَلَى الْحَاضِرِ بِالْإِقْرَارِ بِمَا فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي،

ص: 126

وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي يَبِيعُهُ الْقَاضِي فِيهِ كَالرَّاهِنِ إذَا مَاتَ وَالْمُشْتَرِي إذَا مَاتَ مُفْلِسًا وَالْمَبِيعُ لَمْ يُقْبَضْ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَبْقَ مُتَعَلِّقًا بِهِ، ثُمَّ إنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُمْسَكُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ حَقِّهِ وَإِنْ نَقَصَ يَتْبَعُ هُوَ أَيْضًا. قَالَ (فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَغَابَ أَحَدُهُمَا فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَيَقْبِضَهُ، وَإِذَا حَضَرَ الْآخَرُ لَمْ يَأْخُذْ نَصِيبَهُ حَتَّى يَنْقُدَ شَرِيكُهُ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا دَفَعَ الْحَاضِرُ الثَّمَنَ كُلَّهُ لَمْ يَقْبِضْ إلَّا نَصِيبَهُ وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِمَا أَدَّى عَنْ صَاحِبِهِ)

لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَلَا يَقْبِضُهُ.

فَأَمَّا إذَا قَبَضَهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ الْفَرْقُ وَانْدَفَعَ التَّحَكُّمُ (ثُمَّ إذَا بَاعَهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُمْسَكُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ حَقِّهِ، وَإِنْ نَقَصَ يُتْبَعُ هُوَ) أَيْ يَتْبَعُ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَغَابَ أَحَدُهُمَا فَالْحَاضِرُ لَا يَمْلِكُ قَبْضَ نَصِيبِهِ حَتَّى يَنْقُدَ جَمِيعَ الثَّمَنِ، فَإِذَا نَقَدَهُ أُجْبِرَ الْبَائِعُ عَلَى قَبُولِ نَصِيبِ الْغَائِبِ وَتَسْلِيمِ نَصِيبِ الْغَائِبِ مِنْ الْعَبْدِ إلَى الْحَاضِرِ، وَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا نَقَدَهُ لِأَجْلِهِ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ نَصِيبَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا نَقَدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى قَبُولِ نَصِيبِ الْغَائِبِ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَوْ قَبِلَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ نَصِيبِهِ مِنْ الْعَبْدِ وَالْحَاضِرُ لَا يَقْبِضُ إلَّا نَصِيبَهُ مُهَايَأَةً لَا غَيْرُ، فَإِذَا قَبَضَ الْحَاضِرُ الْعَبْدَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَائِبِ إذَا حَضَرَ بِمَا نَقَدَهُ لِأَجْلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ عَلَى ذَلِكَ (وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِمَا أَدَّى عَنْ صَاحِبِهِ)؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَا رُجُوعَ فِي ذَلِكَ (وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ) فَلَيْسَ لَهُ الْقَبْضُ

ص: 127

وَلَهُمَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ، وَالْمُضْطَرُّ يَرْجِعُ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ عَنْهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا قَضَى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَهُمَا نِصْفَانِ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمِثْقَالَ إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ فَيَجِبُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالٍ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَجِبُ مِنْ الذَّهَبِ مَثَاقِيلُ وَمِنْ الْفِضَّةِ دَرَاهِمُ وَزْنُ سَبْعَةٍ

وَلَهُمَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الثَّمَنِ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ، وَلِكَوْنِ الْبَائِعِ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ وَالْمُضْطَرُّ يَرْجِعُ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ) فَإِنَّ مَنْ أَعَارَ شَيْئًا رَجُلًا لِيَرْهَنَهُ فَرَهَنَهُ ثُمَّ أَفْلَسَ الرَّاهِنُ وَهُوَ الْمُسْتَعِيرُ أَوْ غَابَ فَافْتَكَّهُ الْمُعِيرُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا أَدَّى وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِاضْطِرَارِهِ فِي الْقَضَاءِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنْكَرُ فَإِنَّ لِلضَّرُورَاتِ أَحْكَامًا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ التَّعْلِيلُ بِالِاضْطِرَارِ صَحِيحًا لَمَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بَيْنَ حَالَةِ حُضُورِ الشَّرِيكِ وَغَيْبَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ إلَّا بَعْدَ نَقْدِ صَاحِبِهِ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاضْطِرَارَ فِي حَالَةِ حُضُورِهِ مَفْقُودٌ لِإِمْكَانِ أَنْ يُخَاصِمَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيَنْقُدَ نَصِيبَهُ مِنْ الثَّمَنِ فَيَتَمَكَّنَ هُوَ مِنْ قَبْضِ نَصِيبِهِ مِنْ الْعَبْدِ بِخِلَافِ حَالِ غَيْبَتِهِ، وَعَلَى هَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا فَغَابَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ نَقْدِ الْأُجْرَةِ لِصَاحِبِ الدَّارِ فَنَقَدَ الْحَاضِرُ كُلَّ الْأُجْرَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِالْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُضْطَرٍّ فِي نَقْدِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ الْأُجْرَةِ إذْ لَيْسَ لِلْآجِرِ حَبْسُ الدَّارِ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ. كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ (وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا قَضَى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ) عَلَى مَا سَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ إلَخْ) رَجُلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً فَقَالَ اشْتَرَيْتهَا

ص: 128

لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَلْفَ إلَيْهِمَا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَزْنِ الْمَعْهُودِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

قَالَ (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جِيَادٍ فَقَضَاهُ زُيُوفًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَأَنْفَقَهَا أَوْ هَلَكَتْ فَهُوَ قَضَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ:

بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ صَحَّ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالٍ (لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمِثْقَالَ إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ)؛ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَهُوَ عَطْفٌ مَعَ الِافْتِقَارِ وَالْعَطْفُ مَعَ الِافْتِقَارِ يُوجِبُ الشَّرِكَةَ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَوْلَوِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ فَيَجِبُ التَّسَاوِي. قِيلَ وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَيِّدَ الْمُصَنِّفُ بِالْجَوْدَةِ أَوْ الرَّدَاءَةِ أَوْ الْوَسَطِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَبَايَعُونَ بِالتِّبْرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الصِّفَةِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ وَلِهَذَا قَيَّدَهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله بِهَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَبُيُوعِ الْأَصْلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ تَرَكَهُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنْ أَوَّلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَلَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَجَبَ الْمُشَارَكَةُ كَمَا فِي الْأَوَّلِ لِلْعَطْفِ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ مِنْ الذَّهَبِ مَثَاقِيلُ خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالٍ وَمِنْ الْفِضَّةِ دَرَاهِمُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلُّ عَشَرَةٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي وَزْنِ الدَّرَاهِمِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّظَرُ إلَى الْمُتَعَارَفِ يَقْتَضِي أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْعَقْدُ.

قَالَ (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جِيَادٌ إلَخْ) رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جِيَادٌ (فَقَضَاهُ زُيُوفًا وَالْقَابِضُ لَمْ يَعْلَمْ فَأَنْفَقَهَا أَوْ هَلَكَتْ فَهُوَ قَضَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ:

ص: 129

يَرُدُّ مِثْلَ زُيُوفِهِ وَيَرْجِعُ بِدَرَاهِمِهِ) لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْوَصْفِ مَرْعِيٌّ كَهُوَ فِي الْأَصْلِ، وَلَا يُمْكِنُ رِعَايَتُهُ بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْوَصْفِ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا قُلْنَا. وَلَهُمَا أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ. حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ جَازَ فَيَقَعُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ وَلَا يَبْقَى حَقُّهُ إلَّا فِي الْجَوْدَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا بِإِيجَابِ ضَمَانِهَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ.

يَرُدُّ مِثْلَ زُيُوفِهِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْجِيَادِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْوَصْفِ مَرْعِيٌّ)

مِنْ حَيْثُ الْجَوْدَةُ، كَمَا أَنَّ حَقَّهُ مَرْعِيٌّ فِي الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ، فَلَوْ نَقَصَ عَنْ كَمِّيَّةِ حَقِّهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِقْدَارِهِ فَكَذَا إذَا نَقَصَ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ رِعَايَتُهُ بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْوَصْفِ مُنْفَرِدًا لِعَدَمِ انْفِكَاكِهِ وَهَدَرِهِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا قُلْنَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ فَكَانَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ بِالْمَقْبُوضِ حَاصِلًا، فَلَمْ يَبْقَ حَقُّهُ إلَّا فِي الْجَوْدَةِ وَتَدَارُكُهَا مُنْفَرِدَةً بِإِيجَابِ ضَمَانِهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ شَرْعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ هَدَرٌ وَلَا عَقْلًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الِانْفِكَاكِ، وَلَا بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ حِينَئِذٍ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ مُسْتَوْفٍ فَإِيجَابُ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِهِ إيجَابٌ عَلَيْهِ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ.

وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ إيجَابَ الضَّمَانِ عَلَى الرَّجُلِ لِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يُفِدْ وَهَاهُنَا يُفِيدُ فَصَارَ كَكَسْبِ الْمَأْذُونِ لَهُ الْمَدْيُونِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لَهُ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى صَحَّ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ هُوَ إحْيَاءُ حَقِّ صَاحِبِهِ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لَهُ عَلَيْهِ ضِمْنِيٌّ فَلَا يُعْتَبَرُ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفَائِدَةَ ثَمَّةَ إنَّمَا هِيَ

ص: 130

قَالَ (وَإِذَا)(أَفْرَخَ طَيْرٌ فِي أَرْضٍ رَجُلٍ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ) وَكَذَا إذَا بَاضَ فِيهَا (وَكَذَا إذَا تَكَنَّسَ فِيهَا ظَبْيٌ) لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ وَإِنْ كَانَ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حِيلَةٍ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَكَذَا الْبَيْضُ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ وَلِهَذَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكَسْرِهِ أَوْ شَيِّهِ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ لَمْ يُعِدَّ أَرْضَهُ فَصَارَ كَنَصْبِ شَبَكَةٍ لِلْجَفَافِ

لِلْغُرَمَاءِ فَكَانَ تَضْمِينَ الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْوَصْفَ تَابِعٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ تَابِعًا لَهُ.

قَالَ (وَإِذَا أَفْرَخَ طَيْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ إلَخْ) إذَا أَفْرَخَ طَيْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ وَلَمْ يُعِدَّهَا لِذَلِكَ لَمْ يَمْلِكْهُ (فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَكَذَا إذَا بَاضَ فِيهَا أَوْ تَكَنَّسَ فِيهَا ظَبْيٌ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: تَكَسَّرَ فِيهَا ظَبْيٌ (لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ) فَيَمْلِكُهُ (وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَيْدٌ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ) بِالْحَدِيثِ، وَكَوْنُهُ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حِيلَةٍ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ كَصَيْدٍ انْكَسَرَ رِجْلُهُ بِأَرْضِ إنْسَانٍ فَإِنَّهُ لِلْآخِذِ دُونَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالتَّكَنُّسُ: التَّسَتُّرُ، وَمَعْنَاهُ فِي الْأَصْلِ دَخَلَ فِي الْكِنَاسِ وَهُوَ مَوْضِعُ الظَّبْيِ، وَمَعْنَى تَكَسَّرَ انْكَسَرَ رِجْلُهُ، وَقَيَّدَ بِذَلِكَ حَتَّى لَوْ كَسَرَهُ أَحَدٌ فَهُوَ لَهُ (وَالْبَيْضُ فِي مَعْنَى الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُهُ وَلِهَذَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكَسْرِهِ أَوْ شَيِّهِ) (قَوْلُهُ: وَصَاحِبُ الْأَرْضِ لَمْ يُعِدَّ أَرْضَهُ لِذَلِكَ) إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَوْ أَعَدَّهَا لِذَلِكَ بِأَنْ حَفَرَهَا لِيَقَعَ فِيهَا أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُصَادُ بِهِ كَانَ لَهُ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعُدَّهَا فَهِيَ كَشَبَكَةٍ

ص: 131

وَكَذَا إذَا دَخَلَ الصَّيْدُ دَارِهِ أَوْ وَقَعَ مَا نُثِرَ مِنْ السُّكَّرِ وَالدَّرَاهِمِ فِي ثِيَابِهِ مَا لَمْ يَكُفَّهُ أَوْ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَسَّلَ النَّحْلُ فِي أَرْضِهِ لِأَنَّهُ مِنْ أَنْزَالِهِ فَيَمْلِكُهُ تَبَعًا لِأَرْضِهِ كَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِيهَا وَالتُّرَابِ الْمُجْتَمِعِ فِي أَرْضِهِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(كِتَابُ الصَّرْفِ)

نُصِبَتْ لِلْجَفَافِ فَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدٌ فَهُوَ لِلْآخِذِ، وَكَذَا إذَا دَخَلَ الصَّيْدُ دَارِهِ أَوْ وَقَعَ مَا نُثِرَ مِنْ السُّكَّرِ وَالدَّرَاهِمِ فِي ثِيَابِهِ مَا لَمْ يَكُفَّهُ أَيْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ (أَوْ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَسَّلَ النَّحْلُ فِي أَرْضِهِ) فَإِنَّ الْعَسَلَ لِصَاحِبِهَا (لِأَنَّهُ عُدَّ مِنْ أَنْزَالِهِ) أَيْ مِنْ أَنْزَالِ الْأَرْضِ بِتَأْوِيلِ الْمَكَانِ؛ جَمْعُ نُزُلٍ: وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَالْفَضْلُ مِنْهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَسَلَ صَارَ قَائِمًا بِأَرْضِهِ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ فَصَارَ تَابِعًا لَهَا (كَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِيهَا وَالتُّرَابِ الْمُجْتَمِعِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ) بِخِلَافِ الصَّيْدِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 132

قَالَ (الصَّرْفُ هُوَ الْبَيْعُ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عِوَضَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ) سُمِّيَ بِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى النَّقْلِ فِي بَدَلَيْهِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ.

وَالصَّرْفُ هُوَ النَّقْلُ وَالرَّدُّ لُغَةً، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إلَّا الزِّيَادَةَ إذْ لَا يُنْتَقَعُ بِعَيْنِهِ، وَالصَّرْفُ هُوَ الزِّيَادَةُ لُغَةً كَذَا قَالَهُ الْخَلِيلُ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْعِبَادَةُ النَّافِلَةُ صَرْفًا

الصَّرْفُ بَيْعُ خَاصٍّ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِهِ عَلَى السَّلَمِ فِي أَوَّلِ السَّلَمِ، وَسُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ صَرْفًا لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ: إمَّا (لِلْحَاجَةِ إلَى النَّقْلِ فِي بَدَلَيْهِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ. وَالصَّرْفُ هُوَ النَّقْلُ وَالرَّدُّ لُغَةً، وَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَبُ بِهِ إلَّا الزِّيَادَةُ) يَعْنِي لَا يُطْلَبُ بِهَذَا الْعَقْدِ إلَّا زِيَادَةٌ تَحْصُلُ فِيمَا يُقَابِلُهُمَا مِنْ الْجَوْدَةِ وَالصِّيَاغَةِ، إذْ النُّقُودُ لَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهَا كَمَا يُنْتَفَعُ بِغَيْرِهَا مِمَّا يُقَابِلُهَا مِنْ الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ وَالْمَرْكُوبِ، فَلَوْ لَمْ يُطْلَبْ بِهِ الزِّيَادَةُ وَالْعَيْنُ حَاصِلَةٌ فِي يَدِهِ مَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ أَصْلًا فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ» الْحَدِيثَ، وَإِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ بِهِ الزِّيَادَةَ (وَالصَّرْفُ هُوَ الزِّيَادَةُ لُغَةً، كَذَا قَالَهُ الْخَلِيلُ) نَاسَبَ أَنْ يُسَمَّى صَرْفًا (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ كَوْنِ الصَّرْفِ هُوَ الزِّيَادَةَ لُغَةً (سُمِّيَتْ الْعِبَادَةُ النَّافِلَةُ صَرْفًا) قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ انْتَمَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» وَالْعَدْلُ هُوَ الْفَرْضُ، سُمِّيَ بِهِ لِكَوْنِهِ أَدَاءَ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ. وَشُرُوطُهُ عَلَى الْإِجْمَالِ: التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بَدَنًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خِيَارٌ وَلَا تَأْجِيلٌ. وَأَقْسَامُهُ ثَلَاثَةٌ: بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَبَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَبَيْعُ

ص: 133

قَالَ (فَإِنْ بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ لَا يَجُوز إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ وَالصِّيَاغَةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا» الْحَدِيثَ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ. .

أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ.

قَالَ (فَإِنْ بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ إلَخْ) فَإِنْ بَاعَ رَجُلٌ فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ لَا يَجُوزُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ وَالصِّيَاغَةِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدَ مِنْ الْآخَرِ أَوْ أَحْسَنَ صِيَاغَةً لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» الْحَدِيثَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ لَا فِي الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فِي بَابِ الرِّبَا. حَدَّثَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّرْفِ

ص: 134

قَالَ (وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: وَإِنْ اسْتَنْظَرَك أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَلَا تُنْظِرُهُ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ أَحَدِهِمَا لِيَخْرُجَ الْعَقْدُ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْآخَرِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَوَجَبَ قَبْضُهُمَا سَوَاءٌ

فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ سَرِيعٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِإِنَاءٍ كُسِرَ وَإِنِّي قَدْ أَحْكَمْت صِيَاغَتَهُ، فَبَعَثَنِي بِهِ لِأَبِيعَهُ، فَأُعْطِيت بِهِ وَزْنَهُ وَزِيَادَةً فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا.

قَالَ (وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ) قَبْضُ عِوَضِ الصَّرْفِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِالْأَبْدَانِ وَاجِبٌ بِالْمَنْقُولِ وَهُوَ (مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ «يَدًا بِيَدٍ» وَقَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه وَإِنْ اسْتَنْظَرَك أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَلَا تُنْظِرْهُ) وَهُوَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَبْضِ كَمَا تَرَى. وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ (أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ أَحَدِهِمَا إخْرَاجًا لِلْعَقْدِ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قَبْضَ الْآخَرِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ نَفْيًا لِتَحَقُّقِ الرِّبَا)(قَوْلُهُ: فِي الْكِتَابِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا) قِيلَ هُوَ مَنْصُوبٌ بِجَوَابِ النَّفْيِ وَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا بُدَّ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا) دَلِيلٌ آخَرُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ لَيْسَ أَوْلَى بِالْقَبْضِ

ص: 135

كَانَا يَتَعَيَّنَانِ كَالْمَصُوغِ أَوْ لَا يَتَعَيَّنَانِ كَالْمَضْرُوبِ أَوْ يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا وَلَا يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَتَعَيَّنُ فَفِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ التَّعْيِينِ لِكَوْنِهِ ثَمَنًا خِلْقَةً فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُ اعْتِبَارًا لِلشُّبْهَةِ فِي الرِّبَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِافْتِرَاقُ بِالْأَبْدَانِ، حَتَّى لَوْ ذَهَبَا عَنْ الْمَجْلِسِ يَمْشِيَانِ مَعًا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ نَامَا فِي الْمَجْلِسِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه

مِنْ الْآخَرِ فَيَجِبُ قَبْضُهُمَا مَعًا (وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ مَا كَانَا يَتَعَيَّنَانِ كَالْمَصُوغِ أَوْ لَا يَتَعَيَّنَانِ كَالْمَضْرُوبِ أَوْ يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا) وَهُوَ قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْمَصُوغَ وَغَيْرَهُ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَتَعَيَّنُ إلَخْ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ بَيْعُ الْمَضْرُوبِ بِالْمَضْرُوبِ بِلَا قَبْضٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ كَالِئٌ بِكَالِئٍ، وَبَيْعُ الْمَصُوغِ بِالْمَصُوغِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِتَعَيُّنِهِ بِالتَّعَيُّنِ.

وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَصُوغَ وَإِنْ كَانَ يَتَعَيَّنُ فَفِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ التَّعْيِينِ لِكَوْنِهِ ثَمَنًا خِلْقَةً فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُ اعْتِبَارًا لِلشُّبْهَةِ فِي الرِّبَا. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَلْزَمُ فِي بَيْعِ الْمَضْرُوبِ بِالْمَصُوغِ نَسِيئَةً شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الْمَضْرُوبِ بِالْمَضْرُوبِ نَسِيئَةً شُبْهَةَ الْفَضْلِ، فَإِذَا بِيعَ مَضْرُوبٌ بِمَصُوغٍ نَسِيئَةً وَهُوَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ كَانَ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ خُلِقَ ثَمَنًا شُبْهَةَ عَدَمِ التَّعْيِينِ وَتِلْكَ شُبْهَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الشُّبْهَةِ الْأُولَى وَالشُّبْهَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا. أُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ فِي الْمَضْرُوبِ نَسِيئَةً بِقَوْلِهِ «يَدًا بِيَدٍ» لَا بِالشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ مُضَافٌ إلَيْهِ لَا إلَى الْعِلَّةِ فَتَكُونُ الْحُرْمَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِاعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ (وَالْمُرَادُ بِالِافْتِرَاقِ مَا يَكُونُ بِالْأَبْدَانِ حَتَّى لَوْ مَشَيَا مَعًا إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ نَامَا فِي الْمَجْلِسِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما:

ص: 136

وَإِنْ وَثَبَ مِنْ سَطْحٍ فَثِبْ مَعَهُ، وَكَذَا الْمُعْتَبَرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ فِيهِ.

(وَإِنْ بَاعَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ جَازَ التَّفَاضُلُ) لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ (وَوَجَبَ التَّقَابُضُ)

وَإِنْ وَثَبَ مِنْ سَطْحٍ فَثِبْ مَعَهُ) وَقِصَّتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَبَلَةَ.

قَالَ: سَأَلْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما فَقُلْت: إنَّا نَقْدَمُ أَرْضَ الشَّامِ وَمَعَنَا الْوَرِقُ الثِّقَالُ النَّافِقَةُ وَعِنْدَهُمْ الْوَرِقُ الْكَاسِدَةُ فَنَبْتَاعُ وَرِقَهُمْ الْعَشَرَةَ بِتِسْعَةٍ وَنِصْفٍ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ بِعْ وَرِقَك بِذَهَبٍ وَاشْتَرِ وَرِقَهُمْ بِالذَّهَبِ، وَلَا تُفَارِقْهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ، وَإِنْ وَثَبَ مِنْ سَطْحٍ فَثِبْ مَعَهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا بَيَّنَ جَوَابَ مَا سُئِلَ عَنْهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلسَّائِلِ الطَّرِيقَ الْمُحَصِّلَ لِمَقْصُودِهِ مَعَ التَّحَرُّزِ عَنْ الْحَرَامِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَذْمُومٌ مِنْ تَعْلِيمِ الْحِيَلِ. وَقَيَّدَ مَشْيَهُمَا بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَشَيَا إلَى جِهَتَيْنِ يُوجِبُ تَفَرُّقَ الْأَبْدَانِ، وَهَذَا الْمَذْكُورُ مِنْ التَّفَرُّقِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ) يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ لَمْ يَبْطُلُ الصَّرْفُ يُرِيدُ أَنَّ مَشْيَ الْمُخَيَّرَةِ مَعَ زَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ يُبْطِلُ خِيَارَهَا؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ.

(وَإِنْ بَاعَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ جَازَ التَّفَاضُلُ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ وَوَجَبَ التَّقَابُضُ

ص: 137

لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» (فَإِنْ افْتَرَقَا فِي الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بَطَلَ الْعَقْدُ) لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْقَبْضُ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ وَلَا الْأَجَلُ لِأَنَّ بِأَحَدِهِمَا لَا يَبْقَى الْقَبْضُ مُسْتَحَقًّا وَبِالثَّانِي يَفُوتُ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ، إلَّا إذَا أُسْقِطَ الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَعُودُ إلَى الْجَوَازِ لِارْتِفَاعِهِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ رحمه الله.

لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» ) عَلَى وَزْنِ هَاعَ بِمَعْنَى خُذْ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} (قَوْلُهُ: فَإِنْ افْتَرَقَا فِي الصَّرْفِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ: يَعْنِي لِبَقَاءِ الْعَقْدِ، فَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بَطَلَ الْعَقْدُ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبَقَاءِ وَهَذَا صَحِيحٌ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ الصِّحَّةِ، فَإِنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ وَالْقَبْضُ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَمَا أُجِيبَ بِهِ بِأَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ مَا يُشْتَرَطُ مُقَارِنًا لِحَالَةِ الْعَقْدِ، إلَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ مُقَارِنًا لِحَالَةِ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ غَيْرُ مُمْكِنٍ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَعَلَّقْنَا الْجَوَازَ بِقَبْضٍ يُوجَدُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ لِمَجْلِسِ الْعَقْدِ حُكْمَ حَالَةِ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَصَارَ الْقَبْضُ الْمَوْجُودُ بَعْدَ الْعَقْدِ فِي مَجْلِسِهِ كَالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ حُكْمًا، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ كَانَ شَرْطُ الْجَوَازِ، فَكَذَا إذَا كَانَ مَوْجُودًا حُكْمًا فَعَلَى مَا تَرَى فِيهِ مِنْ التَّمَحُّلِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِجَعْلِهِ شَرْطَ الْبَقَاءِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الِافْتِرَاقَ بِلَا قَبْضٍ مُبْطِلٌ (لَا يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الصَّرْفِ وَلَا الْأَجَلِ) بِأَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت هَذَا الدِّينَارَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ قَالَ إلَى شَهْرٍ (؛ لِأَنَّ بِالْخِيَارِ لَا يَبْقَى الْقَبْضُ مُسْتَحَقًّا) لِمَنْعِهِ الْمِلْكَ (وَبِالْأَجَلِ يَفُوتُ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ أَنَّ فِي الْخِيَارِ يَتَأَخَّرُ الْقَبْضُ إلَى زَمَانِ سُقُوطِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ مُسْتَحَقًّا وَفِي الْأَجَلِ ذَكَرَ فِي الْعَقْدِ مَا يُنَافِي الْقَبْضَ، وَذِكْرُ مُنَافِي الشَّيْءِ مُفَوِّتٌ لَهُ، كَذَا قِيلَ، وَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ فِي الْأَوَّلِ اسْتِحْقَاقَ الْقَبْضِ فَائِتٌ، وَفِي الثَّانِي الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ شَرْعًا فَائِتٌ (قَوْلُهُ: إلَّا إذَا أُسْقِطَ فِي الْمَجْلِسِ) يَعْنِي مِنْهُمَا إنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ مِمَّنْ لَهُ ذَلِكَ (فَيَعُودُ إلَى الْجَوَازِ لِارْتِفَاعِهِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ) اسْتِحْسَانًا خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَإِنْ أَسْقَطَ الْأَجَلَ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَاحِبَ الْأَجَلِ إذَا أَسْقَطَ الْأَجَلَ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى

ص: 138

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ، حَتَّى لَوْ بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْعَشَرَةَ حَتَّى اشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا فَالْبَيْعُ فِي الثَّوْبِ فَاسِدٌ) لِأَنَّ الْقَبْضَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي تَجْوِيزِهِ فَوَاتُهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْعَقْدُ فِي الثَّوْبِ كَمَا نُقِلَ عَنْ زُفَرَ، لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ فَيَنْصَرِفُ الْعَقْدُ إلَى مُطْلَقِهَا،

يَرْضَى صَاحِبُهُ، وَالْفَرْقُ يُعْرَفُ فِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ، وَقَيَّدَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ يَثْبُتَانِ فِي الصَّرْفِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، إلَّا أَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا فِي الْعَيْنِ لَا الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي رَدِّهِ بِالْخِيَارِ إذْ الْعَقْدُ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمِثْلِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ مِثْلَ الْمَرْدُودِ أَوْ دُونَهُ فَلَا يُفِيدُ الرَّدُّ فَائِدَةً.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ إلَخْ) التَّصَرُّفُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يَقْبِضْ الْعَشَرَةَ حَتَّى اشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الثَّوْبِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى إذْ الرِّبَا حَرَامٌ حَقًّا لِلَّهِ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ عَيْنًا كَانَتْ أَوْ دَيْنًا فَيَنْصَرِفُ الْعَقْدُ إلَى مُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ، إذْ الْإِطْلَاقُ وَالْإِضَافَةُ إلَى بَدَلِ الصَّرْفِ إذْ ذَاكَ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا قَالَ عَنْ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ مَذْهَبِهِ كَمَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الثَّمَنُ فِي بَابِ الصَّرْفِ مَبِيعٌ؛ لِأَنَّ الصَّرْفَ بَيْعٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَبِيعٍ وَمَا ثَمَّةَ سِوَى الثَّمَنَيْنِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِكَوْنِهِ مَبِيعًا فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا مِنْ وَجْهٍ وَثَمَنًا مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ كَانَا ثَمَنَيْنِ خِلْقَةً، وَبَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ كَمَا فَعَلْنَا فِي الْمُقَايَضَةِ، وَاعْتَبَرْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا مِنْ وَجْهٍ مَبِيعًا مِنْ وَجْهٍ ضَرُورَةَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مَبِيعًا حَقِيقَةً.

قِيلَ لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْأَوْلَوِيَّةِ فَإِنَّ

ص: 139

وَلَكِنَّا نَقُولُ: الثَّمَنُ فِي بَابِ الصَّرْفِ مَبِيعٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ سِوَى الثَّمَنَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَبَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ مَبِيعًا أَنْ يَكُونَ مُتَعَيَّنًا كَمَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ.

. قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً)

مَا دَخَلَهُ الْبَاءُ أَوْلَى بِالثَّمَنِيَّةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَثْمَانِ الْجَعْلِيَّةِ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إذَا كَانَتْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْأَثْمَانِ الْخِلْقِيَّةِ.

قَالَ (وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ بَدَلُ الصَّرْفِ مَبِيعًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا، فَقَالَ كَوْنُهُ مَبِيعًا لَا يَسْتَلْزِمُ التَّعْيِينَ، فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ. وَعُورِضَ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ كَانَ مَبِيعًا لَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ فِيهِمَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ دِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَلَيْسَا فِي مِلْكِهِمَا فَاسْتَقْرَضَا فِي الْمَجْلِسِ وَافْتَرَقَا عَنْ قَبْضٍ صَحَّ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ حَالَةَ الْعَقْدِ ثَمَنٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ مُثَمَّنًا بَعْدَ الْعَقْدِ لِضَرُورَةِ الْعَقْدِ فَيُجْعَلُ مُثَمَّنًا بَعْدَهُ ثَمَنًا قَبْلَهُ فَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ قَبْلَهُ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً) إذَا كَانَ الصَّرْفُ بِغَيْرِ الْجِنْسِ صَحَّ مُجَازَفَةً

ص: 140

لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ فِيهِ وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ بَيْعِهِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الرِّبَا.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ مِثْقَالِ فِضَّةٍ وَفِي عُنُقِهَا طَوْقُ فِضَّةٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ مِثْقَالٍ بِأَلْفَيْ مِثْقَالِ فِضَّةٍ وَنَقَدَ مِنْ الثَّمَنِ أَلْفَ مِثْقَالٍ ثُمَّ افْتَرَقَا فَاَلَّذِي نَقَدَ ثَمَنَ الْفِضَّةِ) لِأَنَّ قَبْضَ حِصَّةِ الطَّوْقِ وَاجِبٌ فِي الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ بَدَلَ الصَّرْفِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ (وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْ مِثْقَالِ أَلْفٍ نَسِيئَةً وَأَلْفٍ نَقْدًا فَالنَّقْدُ ثَمَنُ الطَّوْقِ) لِأَنَّ الْأَجَلَ بَاطِلٌ فِي الصَّرْفِ جَائِزٌ فِي بَيْعِ الْجَارِيَةِ، وَالْمُبَاشَرَةُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْهُمَا (وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ فَدَفَعَ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسِينَ جَازَ الْبَيْعُ وَكَانَ الْمَقْبُوضُ حِصَّةَ الْفِضَّةِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْخَمْسِينَ مِنْ ثَمَنِهِمَا) لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ قَدْ يُرَادُ بِذِكْرِهِمَا الْوَاحِدُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وَالْمُرَادُ أَحَدُهُمَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِظَاهِرِ حَالِهِ

؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِيهِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ، لَكِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» وَهُوَ وَالْمَعْقُولُ الْمُتَقَدِّمُ مُرَادٌ بِقَوْلِهِ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ بَيْعِهِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُتَعَاقِدَانِ قَدْرَهُمَا وَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْوَزْنِ فِي الْوَاقِعِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِتَسَاوِيهِمَا حَالَةَ الْعَقْدِ شَرْطُ صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ حِينَئِذٍ مَوْهُومٌ وَالْمَوْهُومُ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْمُتَحَقِّقِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرِدْ الْمُمَاثَلَةَ فِي عِلْمِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُمَاثَلَةَ فِي عِلْمِ الْعَاقِدَيْنِ وَلَمْ تُوجَدْ؛ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ، فَإِنْ كَانَا وَزَنَا فِي الْمَجْلِسِ وَعَلِمَا فِي الْمَجْلِسِ تَسَاوِيَهُمَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِوُقُوعِ الْعَقْدِ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا جَوَازَهُ؛ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: إذَا عُرِفَ التَّسَاوِي بِالْوَزْنِ جَازَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْمُمَاثَلَةِ وَالْفَرْضُ وُجُودُهَا فِي الْوَاقِعِ. وَالْجَوَابُ مَا قُلْنَا إنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا هُوَ فِي عِلْمِهِمَا.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ مِثْقَالِ فِضَّةٍ إلَخْ) الْجَمْعُ بَيْنَ النُّقُودِ وَغَيْرِهَا فِي الْبَيْعِ لَا يُخْرِجُ النُّقُودَ عَنْ كَوْنِهَا صَرْفًا بِمَا يُقَابِلُهَا مِنْ الثَّمَنِ بَاعَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ مِثْقَالِ فِضَّةٍ وَفِي عُنُقِهَا طَوْقُ فِضَّةٍ فِيهِ أَلْفُ مِثْقَالٍ بِأَلْفَيْ مِثْقَالٍ وَنَقَدَ مِنْ الثَّمَنِ أَلْفَ مِثْقَالٍ ثُمَّ افْتَرَقَا فَاَلَّذِي نَقَدَ ثَمَنَ الْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ حِصَّةِ الطَّوْقِ فِي الْمَجْلِسِ وَاجِبٌ حَقًّا لِلشَّرْعِ لِكَوْنِهِ بَدَلَ الصَّرْفِ، وَقَبْضُ ثَمَنِ الْجَارِيَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُعَارَضَةَ

ص: 141

(فَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْحِلْيَةِ) لِأَنَّهُ صُرِفَ فِيهَا (وَكَذَا فِي السَّيْفِ إنْ كَانَ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ بِدُونِ الضَّرَرِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَالْجِذْعِ فِي السَّقْفِ (وَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّصُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ جَازَ الْبَيْعُ فِي السَّيْفِ وَبَطَلَ فِي الْحِلْيَةِ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَصَارَ كَالطَّوْقِ وَالْجَارِيَةِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ أَزْيَدَ مِمَّا فِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ لَا يَدْرِي لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِلرِّبَا أَوْ لِاحْتِمَالِهِ، وَجِهَةُ الصِّحَّةِ مِنْ وَجْهٍ وَجِهَةُ الْفَسَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ فَتَرَجَّحَتْ. .

بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلَمِ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ تَفْرِيغًا لِلذِّمَّةِ، كَمَا إذَا تَرَكَ سَجْدَةً صَلَاتِيَّةً وَسَهَا أَيْضًا ثُمَّ أَتَى بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَسَلَّمَ تُصْرَفُ إحْدَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ إلَى الصَّلَاتِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا لِيَكُونَ الْإِتْيَانُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْ مِثْقَالٍ أَلْفٍ نَسِيئَةً وَأَلْفٍ نَقْدًا فَالنَّقْدُ ثَمَنُ الطَّوْقِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ بَاطِلٌ فِي الصَّرْفِ جَائِزٌ فِي بَيْعِ الْجَارِيَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِمَا الْمُبَاشَرَةُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ وَدَفَعَ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسِينَ

فَإِنْ دَفَعَ سَاكِتًا عَنْهُمَا جَازَ الْبَيْعُ وَكَانَ الْمَقْبُوضُ حِصَّةَ الْحِلْيَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الظَّاهِرَ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ، وَإِنْ صَرَّحَ بِذَكَرِهِمَا فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ قَدْ يُرَادُ بِذَكَرِهِمَا الْوَاحِدُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وَإِنَّمَا يَخْرُجَانِ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ بِقَرِينَةِ الْحَالِ، وَإِنْ قَالَ عَنْ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ خَاصَّةً فَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنْ قَالَ عَنْ ثَمَنِ السَّيْفِ خَاصَّةً وَقَالَ الْآخَرُ نِعْمَ أَوْ لَا وَتَفَرَّقَا عَلَى ذَلِكَ اُنْتُقِضَ الْبَيْعُ فِي الْحِلْيَةِ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْعَقْدِ وَالْإِضَافَةِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَعْدَ تَصْرِيحٍ مِنْ الْقَوْلِ قَوْلُهُ: إنَّ الْمَدْفُوعَ ثَمَنُ السَّيْفِ، فَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا شَيْئًا حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْحِلْيَةِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فِيهَا.

وَأَمَّا فِي السَّيْفِ فَإِنْ كَانَ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ فَكَذَلِكَ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّسْلِيمِ بِدُونِهِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَالْجِذْعِ فِي السَّقْفِ وَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّصُ بِلَا ضَرَرٍ جَازَ فِي السَّيْفِ وَبَطَلَ فِي الْحِلْيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَصَارَ كَالطَّوْقِ وَالْجَارِيَةِ (قَوْلُهُ: وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ) يَعْنِي الثَّمَنَ (أَزْيَدَ مِمَّا فِيهِ) أَيْ الْمَبِيعِ تَعْمِيمٌ لِلْكَلَامِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحِلْيَةَ خَمْسُونَ وَالثَّمَنَ مِائَةٌ فَكَانَ ذِكْرُهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ

ص: 142

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ إنَاءَ فِضَّةٍ ثُمَّ افْتَرَقَا وَقَدْ قَبَضَ بَعْضَ ثَمَنِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ وَصَحَّ فِيمَا قُبِضَ وَكَانَ الْإِنَاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهُ صَرْفٌ كُلُّهُ فَصَحَّ فِيمَا وُجِدَ شَرْطُهُ وَبَطَلَ فِيمَا لَمْ يُوجَدْ وَالْفَسَادُ طَارِئٌ لِأَنَّهُ يَصِحُّ ثُمَّ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ فَلَا يَشِيعُ. قَالَ (وَلَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الْإِنَاءِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ) لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ فِي الْإِنَاءِ.

لَكِنَّهُ عَمَّمَ الْكَلَامَ لِبَيَانِ الْأَقْسَامِ الْأُخَرِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ وَزْنُ الْفِضَّةِ الْمُفْرَدَةِ أَزْيَدَ مِنْ وَزْنِ الْفِضَّةِ الَّتِي مَعَ غَيْرِهَا، وَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَهَا يُقَابِلُهَا وَالزَّائِدُ يُقَابِلُ الْغَيْرَ فَلَا يُفْضِي إلَى الرِّبَا. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ وَزْنُ الْمُفْرَدَةِ مِثْلَ الْمُنْضَمَّةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ رِبًا؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ رِبًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا. وَالثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ الْمُفْرَدَةُ أَقَلَّ وَهُوَ أَوْضَحُ وَالرَّابِعُ أَنْ لَا يُدْرَى مِقْدَارُهَا وَهُوَ فَاسِدٌ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُسَاوَاةِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَتَوَهُّمِ الْفَضْلِ خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْجَوَازُ وَالْمُفْسِدُ هُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ حُكِمَ بِجَوَازِهِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا لَا يُدْرَى يَجُوزُ فِي الْوَاقِعِ أَنْ يَكُون مِثْلًا وَأَنْ يَكُونَ أَقَلَّ وَأَنْ يَكُونَ زَائِدًا، فَإِنْ كَانَ زَائِدًا جَازَ وَإِلَّا فَسَدَ فَتَعَدَّدَتْ جِهَةُ الْفَسَادِ فَتَرَجَّحَتْ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ لِلْفَسَادِ فَلَا تَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ. وَأَجَابَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدِيُّ رحمه الله بِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا يَكْفِي لِلْحُكْمِ فَمَا ظَنُّك بِهِمَا لَا التَّرْجِيحُ الْحَقِيقِيُّ إذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْمُفْسِدِ وَالْمُصَحِّحِ فِيمَا يَلْحَقُ الشُّبْهَةُ فِيهِ بِالْحَقِيقَةِ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ إنَاءَ فِضَّةٍ ثُمَّ افْتَرَقَا إلَخْ) وَمَنْ بَاعَ إنَاءَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ أَوْ بِذَهَبٍ وَقَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ دُونَ بَعْضٍ وَافْتَرَقَا بَطَلَ الْبَيْعُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ ثَمَنُهُ وَصَحَّ فِيمَا قُبِضَ وَاشْتَرَكَا فِي الْإِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ كُلُّهُ وَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ فَصَحَّ: أَيْ بَقِيَ صَحِيحًا فِي بَعْضٍ وَبَطَلَ فِي آخَرَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطُ الْبَقَاءِ عَلَى الْجَوَازِ فَيَكُونُ الْفَسَادُ طَارِئًا فَلَا يَشِيعُ. لَا يُقَالُ: عَلَى هَذَا يَلْزَمُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا لَا يَجُوزُ، وَهَاهُنَا الصَّفْقَةُ تَامَّةٌ فَلَا يَكُونُ مَانِعًا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى تَمَامِ الصَّفْقَةِ.

قَالَ (وَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْإِنَاءِ إلَخْ) أَيْ وَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْإِنَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ

ص: 143

(وَمَنْ بَاعَ قِطْعَةَ نُقْرَةٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهَا أَخَذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهَا وَلَا خِيَارَ لَهُ) لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ جَازَ الْبَيْعُ وَجُعِلَ كُلُّ جِنْسٍ بِخِلَافِهِ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَاعَ كُرَّ شَعِيرٍ وَكُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرَّيْ شَعِيرٍ وَكُرَّيْ حِنْطَةٍ: وَلَهُمَا أَنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ تَغْيِيرَ تَصَرُّفِهِ لِأَنَّهُ قَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ، وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الِانْقِسَامُ عَلَى الشُّيُوعِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَالتَّغْيِيرُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَصْحِيحُ التَّصَرُّفِ، كَمَا إذَا اشْتَرَى قَلْبًا بِعَشَرَةٍ وَثَوْبًا بِعَشَرَةٍ بَاعَهُمَا مُرَابَحَةً لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُ الرِّبْحِ إلَى الثَّوْبِ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ الْبَائِعِ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا يَجُوزُ فِي الْمُشْتَرَى بِأَلْفٍ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِصَرْفِ الْأَلْفِ إلَيْهِ. وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ وَقَالَ بِعْتُك أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِصَرْفِهِ إلَى عَبْدِهِ. وَكَذَا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَثَوْبًا بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ وَافْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الدِّرْهَمَيْنِ وَلَا يُصْرَفُ الدِّرْهَمُ إلَى الثَّوْبِ لِمَا ذَكَرْنَا.

وَلَنَا أَنَّ الْمُقَابَلَةَ الْمُطْلَقَةَ تَحْتَمِلُ

فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ؛ لِأَنَّ الْإِنَاءَ تَعَيَّبَ بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ إذْ الشَّرِكَةُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمِعَةِ تُعَدُّ عَيْبًا لِانْتِقَاصِهَا بِالتَّبْعِيضِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَيَتَخَيَّرُ، بِخِلَافِ صُورَةِ الِافْتِرَاقِ فَإِنَّ الْعَيْبَ حَدَثَ بِصُنْعٍ مِنْهُ وَهُوَ الِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضٍ. قَالَ (وَإِنْ بَاعَ قِطْعَةَ نُقْرَةٍ إلَخْ) الْمُرَادُ بِالنُّقْرَةِ قِطْعَةُ فِضَّةٍ مُذَابَةٌ. فَإِضَافَةُ الْقِطْعَةِ إلَى النُّقْرَةِ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ. وَإِذَا بَاعَ قِطْعَةَ نُقْرَةٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَهَا أَخَذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهَا وَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِيهَا لَيْسَتْ بِعَيْبٍ؛ لِأَنَّ التَّبْعِيضَ لَا يَضُرُّهُ بِخِلَافِ الْإِنَاءِ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ جَازَ الْبَيْعُ إلَخْ) رَجُلٌ بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ جَازَ الْبَيْعُ وَجُعِلَ كُلُّ جِنْسٍ بِخِلَافِهِ، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ كُرَّ شَعِيرٍ وَكُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرَّيْ شَعِيرٍ وَكُرَّيْ حِنْطَةٍ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْأَمْوَالَ الرِّبَوِيَّةَ الْمُخْتَلِفَةَ الْجِنْسِ إذَا اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الصَّفْقَةُ، وَكَانَ فِي صَرْفِ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ فَسَادُ الْمُبَادَلَةِ يَصْرِفُ كُلُّ جِنْسٍ مِنْهَا إلَى خِلَافِ جِنْسِهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ خِلَافًا لَهُمَا، قَالَا: إنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ تَغَيُّرَ تَصَرُّفِهِ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ، وَمِنْ قَضِيَّةِ التَّقَابُلِ الِانْقِسَامُ عَلَى الشُّيُوعِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَمَعْنَى الشُّيُوعِ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَدَلَيْنِ حَظٌّ مِنْ جُمْلَةِ الْآخَرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْوُقُوعُ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى قَلْبًا: أَيْ سِوَارًا بِعَشَرَةٍ وَثَوْبًا بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُمَا مُرَابَحَةً لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُ الرِّبْحِ إلَى الثَّوْبِ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَهُ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ الْبَائِعِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا يَجُوزُ فِي الْمُشْتَرَى بِأَلْفٍ

ص: 144

مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ كَمَا فِي مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ، وَأَنَّهُ طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِتَصْحِيحِهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، وَفِيهِ تَغْيِيرُ وَصْفِهِ لَا أَصْلِهِ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُوجِبُهُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْكُلِّ بِمُقَابَلَةِ الْكُلِّ، وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا بَاعَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِخِلَافِ مَا عُدَّ مِنْ الْمَسَائِلِ.

أَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُرَابَحَةِ فَلِأَنَّهُ يَصِيرُ تَوْلِيَةً فِي الْقَلْبِ بِصَرْفِ الرِّبْحِ كُلِّهِ إلَى الثَّوْبِ. وَالطَّرِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ

وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ لِصَرْفِ الْأَلْفِ إلَيْهِ، وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ فَقَالَ بِعْتُك أَحَدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِصَرْفِهِ إلَى عَبْدِهِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَثَوْبًا بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ فَافْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الدِّرْهَمِ وَلَا يُصْرَفُ إلَى الثَّوْبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَّا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَضِيَّةَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ الِانْقِسَامُ عَلَى الشُّيُوعِ دُونَ التَّعْيِينِ، فَالتَّعْيِينُ تَغْيِيرٌ وَالتَّغْيِيرُ لَا يَجُوزُ. وَلَنَا أَنَّ الْمُقَابَلَةَ الْمُطْلَقَةَ تَحْتَمِلُ مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ فَكَانَ جَائِزَ الْإِرَادَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا، أَمَّا أَنَّهُ جَائِزُ الْإِرَادَةِ فَلِأَنَّ كُلَّ مُطْلَقٍ يَحْتَمِلُ الْمُقَيَّدَ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا إذَا بَاعَ كُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرَّيْهَا فَسَدَ؛ لِأَنَّ الْكُرَّ قَابَلَ الْكُرَّ وَفَضَلَ الْآخَرُ.

وَأَمَّا وُجُوبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا فَلِأَنَّهُ طَرِيقٌ مُتَعَيِّنٌ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ فَيَجِبُ سُلُوكُهُ، وَلَئِنْ مُنِعَ تَعَيُّنُهُ لِذَلِكَ بِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ دِرْهَمٌ مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ بِمُقَابَلَةِ دِرْهَمٍ وَالدِّرْهَمُ الْآخَرُ بِمُقَابَلَةِ دِينَارٍ مِنْ الدِّينَارَيْنِ وَالدِّينَارُ بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ الْآخَرِ. قُلْنَا: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّا مَا أَرَدْنَا مِنْ الطَّرِيقِ إلَّا الصَّرْفَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ. عَلَى أَنَّ فِيمَا ذَكَرْتُمْ تَغَيُّرَاتٍ كَثِيرَةً وَمَا هُوَ أَقَلُّ تَغْيِيرًا مُتَعَيِّنٌ.

وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ تَغْيِيرَ تَصَرُّفِهِ أَنْ يُقَالَ فِيهِ تَغْيِيرُ وَصْفِ التَّصَرُّفِ أَوْ أَصْلِهِ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَانِعٌ عَنْ الْجَوَازِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْأَصْلِيَّ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْكُلِّ بِمُقَابَلَةِ الْكُلِّ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا بَاعَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَغْيِيرُ وَصْفِ التَّصَرُّفِ مِنْ الشُّيُوعِ إلَى مُعَيَّنٍ لَمَا كَانَ أَصْلُ التَّصَرُّفِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي النِّصْفِ بَاقِيًا ثُمَّ أَجَابَ عَنْ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا. أَمَّا الْأُولَى: أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْمُرَابَحَةِ فَبِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَوْلِيَةً فِي الْقَلْبِ بِصَرْفِ الرِّبْحِ كُلِّهِ إلَى الثَّوْبِ،

ص: 145

صَرْفُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَلْفِ إلَى الْمُشْتَرِي. وَفِي الثَّالِثَةِ أُضِيفَ الْبَيْعُ إلَى الْمُنَكَّرِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ وَالْمُعَيَّنُ ضِدُّهُ.

وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ تَغْيِيرٌ فِي الْأَصْلِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَمْ يُبَيِّنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الزِّيَادَةِ إلَى النُّقْصَانِ تَغَيُّرُ الْعَقْدِ مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ، وَلَعَلَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ ذَلِكَ فِي الْمُسَاوَمَةِ، أَمَّا إذَا صَرَّحَا بِذِكْرِ الْمُرَابَحَةِ فَالتَّغْيِيرُ إلَى التَّوْلِيَةِ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ لَا فِي وَصْفِهِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَبِقَوْلِهِ وَالطَّرِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ صَرْفُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَلْفِ لِلْمُشْتَرِي، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَلِأَنَّهُ أُضِيفَ الْبَيْعُ إلَى الْمُنْكِرِ وَالْمُنْكِرُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ، وَالْمُعَيَّنُ ضِدُّهُ وَالشَّيْءُ لَا يَتَنَاوَلُ ضِدَّهُ. وَأَمَّا فِي الْأَخِيرَةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْعَقَدَ

ص: 146

وَفِي الْأَخِيرَةِ الْعَقْدُ انْعَقَدَ صَحِيحًا وَالْفَسَادُ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَكَلَامُنَا فِي الِابْتِدَاءِ.

صَحِيحًا وَفَسَدَ حَالَةَ الْبَقَاءِ بِالِافْتِرَاقِ بِلَا قَبْضٍ، وَكَلَامُنَا فِي الِابْتِدَاءِ: يَعْنِي أَنَّ الصَّرْفَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ لِصِحَّةِ

ص: 147

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ جَازَ الْبَيْعُ وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا وَالدِّينَارُ بِدِرْهَمٍ) لِأَنَّ شَرْطَ الْبَيْعِ فِي الدَّرَاهِمِ التَّمَاثُلُ عَلَى مَا رُوِّينَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ ذَلِكَ فَبَقِيَ الدِّرْهَمُ بِالدِّينَارِ وَهُمَا جِنْسَانِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِيهِمَا.

(وَلَوْ تَبَايَعَا فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ وَمَعَ أَقَلِّهِمَا شَيْءٌ آخَرُ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ بَاقِي الْفِضَّةِ جَازَ الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهِيَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ فَمَعَ الْكَرَاهَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ كَالتُّرَابِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ) لِتَحَقُّقِ الرِّبَا إذْ الزِّيَادَةُ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فَيَكُونُ رِبًا.

الْعَقْدِ ابْتِدَاءً وَهُوَ فِي الِابْتِدَاءِ صَحِيحٌ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ إلَخْ) الْمَسْأَلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ كَانَ الْبَدَلَانِ فِيهَا جِنْسَيْنِ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ وَفِي هَذِهِ أَحَدُهُمَا وَهِيَ صَحِيحَةٌ كَالْأُولَى، وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا وَالدِّينَارُ بِالدِّرْهَمِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الصَّرْفِ التَّمَاثُلُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ مَوْجُودٌ ظَاهِرًا، إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْبَائِعِ إرَادَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُقَابَلَةِ حَمْلًا عَلَى الصَّلَاحِ، وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ الْجَائِزِ دُونَ الْفَاسِدِ.

قَالَ (وَلَوْ تَبَايَعَا فِضَّةً بِفِضَّةٍ إلَخْ) وَلَوْ بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَشَيْئًا مَعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ الْفِضَّةَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ مَثَلًا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمْ يُقَابِلْهَا عِوَضٌ فَتَحَقَّقَ الرِّبَا وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ تَبْلُغُ الْفِضَّةَ كَثَوْبٍ يُسَاوِي خَمْسَةً جَازَ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ فَهُوَ جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَكَفٍّ مِنْ زَبِيبٍ أَوْ جَوْزَةٍ أَوْ بَيْضَةٍ. وَالْكَرَاهَةُ، إمَّا؛ لِأَنَّهُ احْتِيَالٌ لِسُقُوطِ الرِّبَا فَيَصِيرُ كَبَيْعِ الْعِينَةِ فِي أَخْذِ الزِّيَادَةِ بِالْحِيلَةِ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يَأْلَفَ النَّاسُ فَيَسْتَعْمِلُوا ذَلِكَ فِيمَا لَا يَجُوزُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَسْأَلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت وَلَمْ تَذْكُرْ فِيهَا الْكَرَاهَةَ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الدِّينَارُ الزَّائِدُ بِمُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ وَقِيمَةُ

ص: 148

قَالَ (وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَشَرَةُ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدَفَعَ الدِّينَارَ وَتَقَاصَّا الْعَشَرَةَ بِالْعَشَرَةِ فَهُوَ جَائِزٌ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا بَاعَ بِعَشَرَةٍ مُطْلَقَةٍ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ يَجِبُ بِهَذَا الْعَقْدِ ثَمَنٌ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُهُ بِالْقَبْضِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِنَفْسِ الْمَبِيعِ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ، فَإِذَا تَقَاصَّا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ فَسْخَ

الدِّينَارِ تَبْلُغُ قِيمَةَ الدِّرْهَمِ وَلَا تَزِيدُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الدِّينَارُ غَيْرَ الْمُصْطَلَحِ وَهُوَ مَا تَكُونُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. وَالْحَقُّ أَنَّ السُّؤَالَ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ إنَّمَا هِيَ لِلِاحْتِيَالِ لِسُقُوطِ رِبَا الْفَضْلِ وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِمَا إرَادَةُ الْمُبَادَلَةِ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ إرَادَةَ الْمُبَادَلَةِ بَيْنَ حَفْنَةٍ مِنْ زَبِيبٍ وَالْفِضَّةِ الزَّائِدَةِ لَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ

(قَوْلُهُ: وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَخْ) مَسْأَلَةٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا بَيْعُ النَّقْدِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَابِقًا أَوْ مُقَارِنًا أَوْ لَاحِقًا، فَإِنْ كَانَ سَابِقًا وَقَدْ أَضَافَ إلَيْهِ الْعَقْدَ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَشَرَةُ دِينَارًا بِالْعَشَرَةِ الَّذِي عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَسَقَطَتْ الْعَشَرَةُ عَنْ ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بَدَلًا عَنْ الدِّينَارِ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا عَقْدُ صَرْفٍ وَفِي الصَّرْفِ يُشْتَرَطُ قَبْضُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ احْتِرَازًا عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ.

وَيُشْتَرَطُ قَبْضُ الْآخَرِ احْتِرَازًا عَنْ الرِّبَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِقَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ حَصَلَ الْأَمْنُ عَنْ خَطَرِ الْهَلَاكِ، فَلَوْ لَمْ يَقْبِضْ الْآخَرُ كَانَ فِيهِ خَطَرُ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي مَعْنَى التَّأَدِّي فَيَلْزَمُ الرِّبَا، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ نَقْدٌ وَبَدَلُهُ وَهُوَ الْعَشَرَةُ سَقَطَ عَنْ بَائِعِ الدِّينَارِ حَيْثُ سَلَّمَ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ خَطَرُ الْهَلَاكِ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ تَعْيِينَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ الْآخَرِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الرِّبَا، وَلَا رِبَا فِي دَيْنٍ يَسْقُطُ وَإِنَّمَا هُوَ فِي دَيْنٍ يَقَعُ الْخَطَرُ فِي عَاقِبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُقَارِنًا بِأَنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ وَلَمْ يُضِفْ إلَى الْعَشَرَةِ الَّتِي عَلَيْهِ وَقَعَ الدِّينَارُ، فَإِمَّا أَنْ يَتَقَابَضَا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ تَقَعْ الْمُقَاصَّةُ مَا لَمْ يَتَقَاصَّا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ وَوَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ يَنْفِيهِ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ اُسْتُبْدِلَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ أَخَذَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ عَرَضًا.

وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ يَجِبُ بِهَذَا الْعَقْدِ ثَمَنٌ وَاجِبُ التَّعْيِينِ بِالْقَبْضِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يَدًا بِيَدٍ» وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصَّرْفِ وَاجِبُ التَّعْيِينِ بِالْقَبْضِ وَالدَّيْنُ قَدْ سَبَقَ وُجُوبُهُ، لَكِنَّهُمَا إذَا أَقْدَمَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ بِتَرَاضِيهِمَا لَا بُدَّ ثَمَّةَ مِنْ تَصْحِيحٍ وَلَا صِحَّةَ لَهَا مَعَ بَقَاءِ عَقْدِ الصَّرْفِ فَتُجْعَلُ الْمُقَاصَّةُ مُتَضَمِّنَةً لِفَسْخِ الْأَوَّلِ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الدَّيْنِ الَّذِي كَانَ

ص: 149

الْأَوَّلِ وَالْإِضَافَةَ إلَى الدَّيْنِ، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ، وَفِي الْإِضَافَةِ إلَى الدَّيْنِ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَالْفَسْخُ قَدْ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ كَمَا إذَا تَبَايَعَا بِأَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَزُفَرُ يُخَالِفُنَا فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالِاقْتِضَاءِ،

عَلَيْهِ ضَرُورَةٌ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ كَانَ اسْتِبْدَالًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا كَانَ الْفَسْخُ ثَابِتًا بِالِاقْتِضَاءِ، وَلَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُمَا فَسْخَ أَصْلِ الْعَقْدِ فَكَانَ لَهُمَا تَغْيِيرُ وَصْفِ الْعَقْدِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا تَبَايَعَا بِأَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ.

وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ عَدَمَ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ لَوْ مَنَعَ الْمُقَاصَّةَ لَمَا وَقَعَتْ إذَا أُضِيفَ الْعَقْدُ إلَى الدَّيْنِ السَّابِقِ. الثَّانِي أَنَّ الثَّابِتَ بِالِاقْتِضَاءِ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْمُقْتَضِي، وَإِذَا ثَبَتَ الْفَسْخُ الْمُقْتَضِي بَطَلَ الْمُقْتَضَى وَهُوَ الْمُقَاصَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي قِيَامَ الْعَشَرَةِ الثَّابِتَةِ بِالْعَقْدِ وَقَدْ فَاتَ الْفَسْخُ. الثَّالِثُ أَنَّ الْعَقْدَ لَوْ فُسِخَ لِلْمُقَاصَّةِ وَجَبَ قَبْضُ الدِّينَارِ عَلَى الْبَائِعِ بِحُكْمِ الْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّ لِإِقَالَةِ الصَّرْفِ حُكْمَ الصَّرْفِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بِقَوْلِهِ (وَفِي الْإِضَافَةِ إلَى الدَّيْنِ) يَعْنِي الْمَعْهُودَ (تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ) وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ تَقْتَضِي قِيَامَ الْعَقْدِ وَهُوَ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَبْطَلَا عَقْدَ الصَّرْفِ صَارَا كَأَنَّهُمَا عَقَدَا عَقْدًا جَدِيدًا فَتَصِحُّ الْمُقَاصَّةُ بِهِ.

وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْإِقَالَةَ ضِمْنِيَّةٌ تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الْمُقَاصَّةِ فَجَازَ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْإِقَالَةِ حُكْمُ الْبَيْعِ، وَزُفَرُ رحمه الله حَيْثُ لَمْ يَقُلْ بِالِاقْتِضَاءِ لَمْ يُوَافِقْهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ فَتَعَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ تَرَكَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله الِاسْتِدْلَالَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنِّي أَكْرِي إبِلًا بِالْبَقِيعِ إلَى مَكَّةَ بِالدَّرَاهِمِ فَآخُذُ مَكَانَهَا دَنَانِيرَ، أَوْ قَالَ بِالْعَكْسِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا عَمَلٌ» فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمُقَاصَّةِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا يُضِيفَانِ الْعَقْدَ إلَى الدَّيْنِ الْأَوَّلِ أَوْ إلَى مُطْلَقِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَاطِعًا حَتَّى يَلْتَزِمَهُ زُفَرُ وَإِنْ كَانَ لَاحِقًا

ص: 150

وَهَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ سَابِقًا. فَإِنْ كَانَ لَاحِقًا فَكَذَلِكَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لِتَضَمُّنِهِ انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ وَالْإِضَافَةَ إلَى دَيْنٍ قَائِمٍ وَقْتَ تَحْوِيلِ الْعَقْدِ فَكَفَى ذَلِكَ لِلْجَوَازِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ صَحِيحٍ وَدِرْهَمَيْ غَلَّةٍ بِدِرْهَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ وَدِرْهَمِ غَلَّةٍ) وَالْغَلَّةُ مَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ وَيَأْخُذُهُ التُّجَّارُ. وَوَجْهُهُ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْوَزْنِ وَمَا عُرِفَ مِنْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ.

قَالَ (وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الدَّرَاهِمِ الْفِضَّةَ فَهِيَ فِضَّةٌ، وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الدَّنَانِيرِ الذَّهَبَ

بِأَنْ اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَبَضَ الدِّينَارَ ثُمَّ إنَّ مُشْتَرِيَ الدِّينَارِ بَاعَ ثَوْبًا مِنْ بَائِعِ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَقَاصَّا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ وَاخْتَارَهَا شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ: لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَاحِقٌ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَوَّزَ الْمُقَاصَّةَ فِي دَيْنٍ سَابِقٍ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما. وَوَجْهُ الْأَصَحِّ أَنَّ قَصْدَهُمَا الْمُقَاصَّةَ يَتَضَمَّنُ الِانْفِسَاخَ الْأَوَّلَ وَالْإِضَافَةُ إلَى دَيْنٍ قَائِمٍ وَقْتَ تَحْوِيلِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ الدَّيْنُ حِينَئِذٍ سَابِقًا عَلَى الْمُقَاصَّةِ هَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ لَيْسَ بِدَافِعٍ كَمَا تَرَى إلَّا إذَا أُضِيفَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَقَعَ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ أَصْلًا لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ، إلَّا أَنَّهُ اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ بِالْأَثَرِ، وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ مِنْهُ سَوَاءٌ، وَقَدْ وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ إذَا أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ السَّابِقِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا بِاللَّاحِقِ بَعْدَ فَسْخِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا لَكَانَ الدَّيْنُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَذَلِكَ خُلْفٌ؛ أَوْ يُقَالُ الْمُرَادُ بِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ عَدَمُ كَوْنِهِمَا مُوجِبَيْ عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ السَّابِقِ تَجَانَسَا، وَإِذَا أُضِيفَ إلَى دَيْنٍ مُقَارِنٍ عَدَمُ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ السَّابِقِ وَإِنَّمَا الْمُجَانَسَةُ حِينَئِذٍ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ الدَّيْنِ الْمُقَارِنِ وَهَذَا أَوْضَحُ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ صَحِيحٍ وَدِرْهَمَيْ غَلَّةٍ إلَخْ) الْغَلَّةُ مِنْ الدَّرَاهِمِ هِيَ الْمُقَطَّعَةُ الَّتِي فِي الْقِطْعَةِ مِنْهَا قِيرَاطٌ أَوْ طُسُوجٌ أَوْ خَبَّةٌ فَيَرُدُّهَا بَيْتَ الْمَالِ لَا لِزِيَافَتِهَا بَلْ لِكَوْنِهَا قِطَعًا وَيَأْخُذُهَا التُّجَّارُ وَبَيْعُ دِرْهَمٍ صَحِيحٍ وَدِرْهَمَيْ غَلَّةٍ بِدِرْهَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ وَدِرْهَمِ غَلَّةٍ جَائِزٌ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِصُدُورِهِ عَنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ مَعَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَانِعَ أَنْ تُصَوَّرَ هَاهُنَا فِي الْجَوْدَةِ وَهِيَ سَاقِطَةُ الْعِبْرَةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ.

قَالَ (وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الدَّرَاهِمِ الْفِضَّةَ فَهِيَ دَرَاهِمُ إلَخْ) الْأَصْلُ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ خِلْقَةً أَوْ عَادَةً؛ فَالْأَوَّلُ كَمَا فِي الرَّدِيءِ، وَالثَّانِي

ص: 151

فَهِيَ ذَهَبٌ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِمَا مِنْ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِيَادِ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ الْخَالِصَةِ بِهَا وَلَا بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إلَّا مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ بِهَا إلَّا وَزْنًا) لِأَنَّ النُّقُودَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ عَادَةً لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ إلَّا مَعَ الْغِشِّ، وَقَدْ يَكُونُ الْغِشُّ خِلْقِيًّا كَمَا فِي الرَّدِيءِ مِنْهُ فَيُلْحَقُ الْقَلِيلُ بِالرَّدَاءَةِ، وَالْجَيِّدُ وَالرَّدِيءُ سَوَاءٌ (وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمَا الْغِشَّ فَلَيْسَا فِي حُكْمِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ) اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا فِضَّةً خَالِصَةً فَهُوَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ.

(وَإِنْ بِيعَتْ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا جَازَ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ) فَهِيَ فِي حُكْمِ شَيْئَيْنِ فِضَّةٍ وَصُفْرٍ وَلَكِنَّهُ صُرِفَ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لِوُجُودِ الْفِضَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَإِذَا شُرِطَ الْقَبْضُ فِي الْفِضَّةِ يُشْتَرَطُ فِي الصُّفْرِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْهُ إلَّا بِضَرَرٍ. قَالَ رضي الله عنه:

مَا يُخْلَطُ لِلِانْطِبَاعِ فَإِنَّهَا بِدُونِهِ تَتَفَتَّتُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ؛ لِأَنَّهُ الْمَغْلُوبُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ كَالْمُسْتَهْلَكِ، فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ كَانَا فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ يُعْتَبَرُ فِيهِمَا مِنْ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِيَادِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَالِصِ بِهَا وَلَا بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَلَا الِاسْتِقْرَاضُ بِهَا إلَّا مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ (وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمَا الْغِشَّ فَلَيْسَا فِي حُكْمِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ) فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا إنْسَانٌ فِضَّةً خَالِصَةً، فَإِنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ مِثْلَ تِلْكَ الْفِضَّةِ الَّتِي فِي الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ لَا يُدْرَى فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ صَحَّ وَهِيَ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ.

(وَإِنْ بِيعَتْ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا جَازَ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ وَهِيَ فِي حُكْمِ فِضَّةٍ وَصُفْرٍ)(قَوْلُهُ: وَلَكِنَّهُ صَرْفٌ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا صُرِفَ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا يَكُونُ صَرْفًا فَلَا يَبْقَى التَّقَابُضُ شَرْطًا. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ صَرْفَ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ جِنْسِهِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى فَبَقِيَ الْعَقْدُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ صَرْفًا (وَاشْتِرَاطُ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لِوُجُودِ الْفِضَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَإِذَا شَرَطَ الْقَبْضَ فِي الْفِضَّةِ يُشْتَرَطُ فِي الصُّفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْهُ إلَّا بِضَرَرٍ) وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ

ص: 152

وَمَشَايِخُنَا رحمهم الله لَمْ يُفْتُوا بِجَوَازِ ذَلِكَ فِي الْعَدَالَى وَالْغَطَارِفَةِ لِأَنَّهَا أَعَزُّ الْأَمْوَالِ فِي دِيَارِنَا، فَلَوْ أُبِيحَ التَّفَاضُلُ فِيهِ يَنْفَتِحُ بَابُ الرِّبَا، ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِالْوَزْنِ فَالتَّبَايُعُ وَالِاسْتِقْرَاضُ فِيهَا بِالْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِالْعَدِّ فَبِالْعَدِّ، وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِهِمَا فَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمُعْتَادُ فِيهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا نَصٌّ، ثُمَّ هِيَ مَا دَامَتْ تَرُوجُ تَكُونُ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تَرُوجُ فَهِيَ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَإِذَا كَانَتْ يَتَقَبَّلُهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَهِيَ كَالزُّيُوفِ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَمَشَايِخُنَا) يُرِيدُ بِهِ عُلَمَاءَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ (لَمْ يُفْتُوا بِجَوَازِ ذَلِكَ) يَعْنِي التَّفَاضُلَ (فِي الْعَدَالَى وَالْغَطَارِفَةِ) أَيْ الدَّرَاهِمِ الْغِطْرِيفِيَّةِ وَهِيَ الْمَنْسُوبَةُ إلَى غِطْرِيفِ بْنِ عَطَاءِ الْكَنَدِيِّ أَمِيرِ خُرَاسَانَ أَيَّامَ الرَّشِيدِ، وَقِيلَ هُوَ خَالُ هَارُونَ الرَّشِيدِ (لِأَنَّهَا أَعَزُّ الْأَمْوَالِ فِي دِيَارِنَا، فَلَوْ أُبِيحَ التَّفَاضُلُ فِيهِ) أَيْ لَوْ أُفْتِيَ بِإِبَاحَتِهِ (تَدَرَّجُوا إلَى الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِالْقِيَاسِ) ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِهَا الْمُعْتَادُ (فَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِالْوَزْنِ كَانَ التَّبَابِعُ وَالِاسْتِقْرَاضُ فِيهَا بِالْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِالْعَدِّ فَهُمَا فِيهَا بِالْعَدِّ، وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِهِمَا فَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا، ثُمَّ هِيَ مَا دَامَتْ تَرُوجُ تَكُونُ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ) فَإِنْ هَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ (وَإِذَا كَانَتْ لَا تَرُوجُ فَهِيَ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ) كَالرَّصَاصِ وَالسَّتُّوقَةِ وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ إذَا عَلِمَ الْمُتَعَاقِدَانِ حَالَ الدَّرَاهِمِ وَيَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدُهُمَا أَوْ عَلِمَا وَلَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَتَعَلَّقُ بِالدَّرَاهِمِ الرَّائِجَةِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي عَلَيْهَا مُعَامَلَاتُ النَّاسِ دُونَ الْمُشَارِ إلَيْهِ (وَإِنْ كَانَتْ يَقْبَلُهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَهِيَ كَالزُّيُوفِ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ

ص: 153

بِعَيْنِهَا بَلْ بِجِنْسِهَا زُيُوفًا إنْ كَانَ الْبَائِعُ يَعْلَمُ بِحَالِهَا لِتَحَقُّقِ الرِّضَا مِنْهُ، وَبِجِنْسِهَا مِنْ الْجِيَادِ إنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لِعَدَمِ الرِّضَا مِنْهُ.

(وَإِذَا اشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً فَكَسَدَتْ وَتَرَكَ النَّاسُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا بَطَلَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: عَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْبَيْعِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: قِيمَتُهَا آخِرُ مَا تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا) لَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ صَحَّ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِالْكَسَادِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ، كَمَا إذَا اشْتَرَى بِالرُّطَبِ فَانْقَطَعَ أَوَانُهُ.

وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله وَقْتَ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَوْمَ الِانْقِطَاعِ لِأَنَّهُ أَوَانُ الِانْتِقَالِ إلَى الْقِيمَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الثَّمَنَ يَهْلَكُ

بِعَيْنِهَا بَلْ بِجِنْسِهَا زُيُوفًا) إنْ عَلِمَ الْبَائِعُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِجِنْسِ الزُّيُوفِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِجِنْسِهَا مِنْ الْجِيَادِ لِعَدَمِ الرِّضَا مِنْهُ بِالزُّيُوفِ.

(وَإِذَا اشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً ثُمَّ كَسَدَتْ قَبْلَ النَّقْدِ فَتَرَكَ النَّاسُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا بَطَلَ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَمْ يَبْطُلْ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْبَيْعِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ آخِرُ مَا تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا) وَالْمُصَنِّفُ فَسَّرَ الْكَسَادَ بِتَرْكِ النَّاسِ الْمُعَامَلَةَ بِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ فِي كُلِّ الْبِلَادِ أَوْ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْعَقْدُ.

وَنَقَلَ عَنْ عُيُونِ الْمَسَائِلِ أَنَّ عَدَمَ الرَّوَاجِ إنَّمَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ إذَا كَانَ لَا يَرُوجُ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ هَالِكًا وَيَبْقَى الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَرُوجُ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ وَيَرُوجُ فِي غَيْرِهَا لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْلِكْ لَكِنَّهُ تَعَيَّبَ، فَكَانَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ قَالَ أَعْطِ مِثْلَ النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ ذَلِكَ دَنَانِيرَ. قَالُوا: وَمَا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يَسْتَقِيمُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى بِالْكَسَادِ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي بَيْعِ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ. عِنْدَهُمَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا لِاصْطِلَاحِ بَعْضِ النَّاسِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا لِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ، فَالْكَسَادُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَيْضًا (لَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ صَحَّ) لِوُجُودِ رُكْنِهِ فِي مَحَلِّهِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ (إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِالْكَسَادِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ كَمَا إذَا اشْتَرَى بِالرَّطْبِ فَانْقَطَعَ، وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَجَبَ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْبَيْعِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ: أَيْ الْكَسَادِ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ الْحَقُّ مِنْهُ إلَى الْقِيمَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الثَّمَنَ يَهْلِكُ

ص: 154

بِالْكَسَادِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ بِالِاصْطِلَاحِ وَمَا بَقِيَ فَيَبْقَى بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ فَيَبْطُلُ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ يَجِبُ رَدُّ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ هَالِكًا كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.

بِالْكَسَادِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي غَلَبَ غِشُّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ ثَمَنًا بِالِاصْطِلَاحِ، فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا بَطَلَ، وَإِذَا بَطَلَ الثَّمَنِيَّةُ بَقِيَ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ بَاطِلٌ) لَا يُقَالُ: الْعَقْدُ تَنَاوَلَ عَيْنَهَا وَهُوَ بَاقٍ بَعْدَ الْكَسَادِ وَهُوَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهَا بِصِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَا دَامَتْ رَائِجَةً فَهِيَ تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَبِالْكَسَادِ يَنْعَدِمُ مِنْهَا صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ، وَصِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ فِي الْفُلُوسِ وَالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ الَّتِي غَلَبَ غِشُّهَا كَصِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِي الْأَعْيَانِ؛ وَلَوْ انْعَدَمَتْ الْمَالِيَّةُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بِتَخَمُّرِ الْعَصِيرِ فَسَدَ الْبَيْعُ فَكَذَا هَذَا.

وَالْجَوَابُ عَنْ الرُّطَبِ أَنَّ الرُّطَبَ مَرْجُوُّ الْحُصُولِ فِي الْعَامِ الثَّانِي غَالِبًا فَلَمْ يَكُنْ هَالِكًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَمْ يَبْطُلْ، لَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالصَّبْرِ إلَى أَنْ يَحْصُلَ. أَمَّا الْكَسَادُ فِي الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ الَّتِي غَلَبَ عَلَيْهَا غِشُّهَا فَهَلَاكُ الثَّمَنِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُرْجَى الْوُصُولُ إلَى ثَمَنِيَّتِهَا فِي ثَانِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْكَسَادَ أَصْلِيٌّ وَالشَّيْءُ إذَا رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ قَلَّمَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مَقْبُوضًا فَلَا حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا فَإِنْ كَانَ قَائِمًا وَجَبَ رَدُّهُ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا، فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَجَبَ رَدُّ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا وَجَبَ رَدُّ قِيمَتِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، هَذَا حُكْمُ الْكَسَادِ وَحُكْمُ الِانْقِطَاعِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ كَذَلِكَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بِقَوْلِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ وَإِنْ كَانَ صَدَّرَ الْبَحْثَ بِالْكَسَادِ. وَأَمَّا إذَا غَلَبَتْ بِازْدِيَادِ الْقِيمَةِ أَوْ نَقَصَتْ الْقِيمَةُ بِالرُّخْصِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِذَلِكَ فَالْبَيْعُ عَلَى حَالِهِ وَيُطَالِبُهُ بِالدَّرَاهِمِ بِذَلِكَ الْعِيَارِ الَّذِي كَانَ

ص: 155

قَالَ (وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ) لِأَنَّهَا مَالٌ مَعْلُومٌ، فَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً جَازَ الْبَيْعُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ بِالِاصْطِلَاحِ، وَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ بِهَا حَتَّى يُعَيِّنَهَا لِأَنَّهَا سِلَعٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهَا (وَإِذَا بَاعَ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ ثُمَّ كَسَدَتْ بَطَلَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله خِلَافًا لَهُمَا) وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ.

وَقْتَ الْبَيْعِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ إلَخْ) الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْلُومٌ: أَيْ مَعْلُومٌ قَدْرُهُ وَوَصْفُهُ، وَإِنَّمَا قَالَ كَذَلِكَ إشَارَةً إلَى وُجُوبِ بَيَانِ الْمِقْدَارِ وَالْوَصْفِ أَوْ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ، ثُمَّ إنَّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ نَافِقَةً أَوْ كَاسِدَةً حَالَةَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ الْبَيْعُ وَإِنْ لَمْ تُعَيَّنْ؛ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ بِالِاصْطِلَاحِ، فَالْمُشْتَرِي بِهَا لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ مَا عَيَّنَ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ دَفْعِ ذَلِكَ وَدَفْعِ مِثْلِهِ وَإِنْ هَلَكَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا بُدَّ لِجَوَازِ الْبَيْعِ بِهَا مِنْ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهَا سِلَعٌ. وَإِذَا بَاعَ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ ثُمَّ كَسَدَتْ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي كَسَادِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ قَبْلَ نَقْدِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَطَلَ الْبَيْعُ خِلَافًا لَهُمَا.

قَالَ الشَّارِحُونَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ مِنْ الِاخْتِلَافِ مُخَالِفًا لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ حَيْثُ ذَكَرَ بُطْلَانَ الْبَيْعِ عِنْدَ كَسَادِ الْفُلُوسِ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَذَكَرُوا نَقْلَ الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ وَلَيْسَ فِيهِ سِوَى السُّكُوتِ عَنْ بَيَانِ الِاخْتِلَافِ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ الْأَسْرَارِ وَهُوَ مَا قِيلَ فِيهِ: إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِفُلُوسٍ فِي الذِّمَّةِ فَكَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الشِّرَاءُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ الْكَسَادِ إلَّا الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ، وَالْعَقْدُ لَا يَبْطُلُ بِالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ كَمَا لَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ وَكَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي الرُّطَبِ فَانْقَطَعَ أَوَانُهُ، وَهَذَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عِنْدَنَا وَإِنْ دَلَّ عَلَى الِاتِّفَاقِ، لَكِنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ لِزُفَرَ رحمه الله يَمْنَعُهُ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُمَا فِي كَسَادِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ حَيْثُ قَالَا: الْكَسَادُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ فَجَعْلُهُ مُفْسِدًا هَاهُنَا يُفْضِي إلَى التَّحَكُّمِ إلَّا إذَا ظَهَرَ مَعْنًى فِقْهِيٌّ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَظْفَرْ بِذَلِكَ.

قَالَ رحمه الله:

ص: 156

(وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا نَافِقَةً فَكَسَدَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُهَا) لِأَنَّهُ إعَارَةٌ، وَمُوجِبُهُ رَدُّ الْعَيْنِ

وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا فَكَسَدَتْ) إذَا اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا فَكَسَدَتْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (؛ لِأَنَّهُ) أَيْ اسْتِقْرَاضَ الْمِثْلِيِّ (إعَارَةٌ) كَمَا أَنَّ إعَارَتَهُ قَرْضٌ (وَمُوجِبُ اسْتِقْرَاضِ الْمِثْلِيِّ رَدُّ عَيْنِهِ مَعْنًى) وَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ عَارِيَّةً يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ حَقِيقَةً، لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَرْضًا وَالِانْتِفَاعُ بِهِ إنَّمَا يَكُونُ بِإِتْلَافِ عَيْنِهِ فَاتَ رَدُّ عَيْنِهِ حَقِيقَةً فَيَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ مَعْنًى وَهُوَ الْمِثْلُ وَيُجْعَلُ بِمَعْنَى الْعَيْنِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ لَزِمَ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً وَهُوَ لَا يَجُوزُ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْمِثْلِيُّ بِمَعْنَى الْعَيْنِ وَقَدْ فَاتَ وَصْفُ الثَّمَنِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ بِمَعْنَى الْعَيْنِ أَنْ لَوْ رُدَّ مِثْلُهُ حَالَ كَوْنِهِ نَافِقًا

ص: 157

مَعْنًى وَالثَّمَنِيَّةِ فَضْلٌ فِيهِ إذْ الْقَرْضُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ. وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ قِيمَتُهَا لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ وَصْفُ الثَّمَنِيَّةِ تَعَذَّرَ رَدُّهَا كَمَا قُبِضَ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهَا، كَمَا إذَا اسْتَقْرَضَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَوْمَ الْقَبْضِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَوْمَ الْكَسَادِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ غَصَبَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنْظَرُ

أَجَابَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (بِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فَضْلٌ) فِيهِ أَيْ فِي الْقَرْضِ إذْ الْقَرْضُ لَا يُخْبَصُ بِهِ: أَيْ بِمَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ لَيْسَتْ عَيْنَ الْفَرْضِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا لَازِمًا مِنْ لَوَازِمِهِ فَجَازَ أَنْ يَنْفَكَّ الْقَرْضُ عَنْ الثَّمَنِيَّةِ وَيُجْعَلَ الِاسْتِقْرَاضُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ وَبِالْكَسَادِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهَا فِي الْعَقْدِ فِيهِ بِصِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِالْكَسَادِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمِثْلَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الثَّمَنِيَّةِ أَقْرَبُ إلَى الْعَيْنِ مِنْ الْقِيمَةِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهَا مَا دَامَ مُمْكِنًا (وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ وَصْفُ الثَّمَنِيَّةِ تَعَذَّرَ رَدُّهَا كَمَا قَبَضَ) وَلَيْسَ الْمِثْلُ الْمُجَرَّدُ عَنْهَا فِي مَعْنَاهَا (فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهَا كَمَا إذَا اسْتَقْرَضَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَوْمَ الْقَبْضِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَوْمَ الْكَسَادِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ) يَعْنِي بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (فِيمَنْ غَصَبَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ) فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَوْمَ الِانْقِطَاعِ وَسَيَجِيءُ (وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنْظَرُ) لِلْمُقْرِضِ وَلِلْمُسْتَقْرِضِ؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ وَهُوَ كَاسِدٌ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمُقْرِضِ،

ص: 158

لِلْجَانِبَيْنِ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْسَرُ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِنِصْفِ دِرْهَمِ فُلُوسٍ جَازَ وَعَلَيْهِ مَا يُبَاعُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ مِنْ الْفُلُوسِ) وَكَذَا إذَا قَالَ بِدَانِقِ فُلُوسٍ أَوْ بِقِيرَاطِ فُلُوسٍ جَازَ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِالْفُلُوسِ وَأَنَّهَا تُقَدَّرُ بِالْعَدَدِ لَا بِالدَّانِقِ وَالدِّرْهَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ عَدَدِهَا، وَنَحْنُ نَقُولُ: مَا يُبَاعُ بِالدَّانِقِ وَنِصْفُ الدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ وَالْكَلَامُ فِيهِ فَأَغْنَى عَنْ بَيَانِ الْعَدَدِ. وَلَوْ قَالَ بِدِرْهَمِ فُلُوسٍ أَوْ بِدِرْهَمَيْ فُلُوسٍ فَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِأَنَّ مَا يُبَاعُ بِالدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْمُرَادُ لَا وَزْنُ الدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالدِّرْهَمِ وَيَجُوزُ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ، لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ الْمُبَايَعَةَ بِالْفُلُوسِ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ فَصَارَ مَعْلُومًا بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَلَا كَذَلِكَ الدِّرْهَمُ قَالُوا: وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَصَحُّ لَا سِيَّمَا فِي دِيَارِنَا.

وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قِيمَةَ يَوْمِ الْقَبْضِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ يَوْمِ الِانْقِطَاعِ وَهُوَ ضَرَرٌ بِالْمُسْتَقْرِضِ فَكَانَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنْظَرَ لِلْجَانِبَيْنِ (وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْسَرُ)؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَبْضِ مَعْلُومَةٌ لِلْمُقْرِضِ وَالْمُسْتَقْرِضِ وَسَائِرِ النَّاسِ، وَقِيمَةُ يَوْمِ الِانْقِطَاعِ تَشْتَبِهُ عَلَى النَّاسِ وَيَخْتَلِفُونَ فِيهَا فَكَانَ قَوْلُهُ أَيْسَرَ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِنِصْفِ دِرْهَمِ فُلُوسٍ جَازَ إلَخْ) رَجُلٌ قَالَ اشْتَرَيْت هَذَا بِنِصْفِ دِرْهَمِ فُلُوسٍ: يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ مِنْ الدَّرَاهِمِ فُلُوسٌ لَا نُقْرَةٌ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ وَقْتَ الْعَقْدِ جَازَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْفُلُوسِ، وَكَذَا إذَا قَالَ بِدَانِقِ فُلُوسٍ وَهُوَ سُدُسُ الدِّرْهَمِ جَازَ أَوْ بِقِيرَاطِ فُلُوسٍ.

وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِالْفُلُوسِ وَهِيَ مَعْدُودَةٌ وَنِصْفُ دِرْهَمِ دَانَقٍ وَقِيرَاطٍ مِنْهُ مَوْزُونَةٌ، وَذِكْرُهَا لَا يُغْنِي عَنْ بَيَانِ الْعَدَدِ فَبَقِيَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا وَهُوَ مَانِعٌ عَنْ الْجَوَازِ. وَقُلْنَا: فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ مَا يُبَاعُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ مِنْ الْفُلُوسِ مَعْلُومًا مِنْ حَيْثُ الْعَدُّ فَكَانَ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ، وَإِذَا زَادَ عَلَى الدِّرْهَمِ جَوَّزَهُ أَبُو يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَفَصَّلَ مُحَمَّدٌ رحمه الله بَيْنَ

ص: 159

قَالَ (وَمَنْ أَعْطَى صَيْرَفِيًّا دِرْهَمًا وَقَالَ أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ فُلُوسًا وَبِنِصْفِهِ نِصْفًا إلَّا حَبَّةً جَازَ الْبَيْعُ فِي الْفُلُوسِ وَبَطَلَ فِيمَا بَقِيَ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّ بَيْعَ نِصْفِ دِرْهَمٍ بِالْفُلُوسِ جَائِزٌ وَبَيْعُ النِّصْفِ بِنِصْفٍ إلَّا حَبَّةً رِبًا فَلَا يَجُوزُ (وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بَطَلَ فِي الْكُلِّ) لِأَنَّ الصَّفْقَةَ مُتَّحِدَةٌ وَالْفَسَادُ قَوِيٌّ فَيَشِيعُ وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ، وَلَوْ كَرَّرَ لَفْظَ الْإِعْطَاءِ كَانَ جَوَابُهُ كَجَوَابِهِمَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُمَا بَيْعَانِ

مَا دُونَ الدِّرْهَمِ وَمَا فَوْقَهُ، فَجَوَّزَ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ الْمُبَايَعَةُ بِالْفُلُوسِ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ فَكَانَ مَعْلُومًا بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَلَا كَذَلِكَ الدِّرْهَمُ. قَالُوا: وَالْأَصَحُّ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لَا سِيَّمَا فِي دِيَارِنَا عَلَى عَدَمِ الْمُنَازَعَةِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا وَلِاشْتِرَاكِ الْعُرْفِ.

قَالَ رحمه الله (وَمَنْ أَعْطَى صَيْرَفِيًّا دِرْهَمًا إلَخْ) هَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى أَنْ يُعْطِيَ دِرْهَمًا كَبِيرًا وَيَقُولَ أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ فُلُوسًا وَبِنِصْفِهِ نِصْفًا: أَيْ دِرْهَمًا صَغِيرًا وَزْنُهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ كَبِيرٍ إلَّا حَبَّةً جَازَ الْبَيْعُ فِي الْفُلُوسِ وَبَطَلَ فِيمَا بَقِيَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ نِصْفَ الدِّرْهَمِ بِالْفُلُوسِ وَلَا مَانِعَ فِيهِ عَنْ الْجَوَازِ وَقَابَلَ النِّصْفَ بِنِصْفٍ إلَّا حَبَّةً وَهُوَ رِبًا فَلَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بَطَلَ فِي الْكُلِّ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَقُوَّةِ الْفَسَادِ لِكَوْنِهِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَيَشِيعُ، كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَعِبَارَةُ الْكِتَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا نَصَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَالثَّانِيَةُ إنْ تَكَرَّرَ لَفْظُ الْإِعْطَاءِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالْحُكْمُ أَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الْفُلُوسِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدَانِ. وَفَسَادُ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْآخَرِ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْنِي بِنِصْفِ هَذِهِ الْأَلْفِ عَبْدًا وَبِنِصْفِهَا دَنًّا مِنْ الْخَمْرِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ فِي الْعَبْدِ صَحِيحٌ وَفِي الْخَمْرِ فَاسِدٌ وَلَمْ يَشِعْ الْفَسَادُ لِتَفْرِقَةِ الصَّفْقَةِ.

وَحُكِيَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ وَالْفَقِيهِ الْمُظَفَّرِ بْنِ الْمَيَّانِ وَالشَّيْخِ الْإِمَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَصِحُّ هَاهُنَا أَيْضًا وَإِنْ كَرَدِّ لَفْظِ الْإِعْطَاءِ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ. فَإِنَّ قَوْلَهُ أَعْطِنِي مُسَاوَمَةٌ وَبِتَكْرَارِهَا لَا يَتَكَرَّرُ الْبَيْعُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِذِكْرِ الْمُسَاوَمَةِ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِعْنِي فَقَالَ بِعْتُك لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ مَا لَمْ يَقُلْ الْآخَرُ اشْتَرَيْت، وَإِذَا كَانَ لَا يَنْعَقِدُ بِذِكْرِ الْمُسَاوَمَةِ فَكَيْفَ يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِهَا؟ قِيلَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله. وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ: أَعْطِنِي نِصْفَ دِرْهَمِ فُلُوسٍ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فُلُوسًا بَدَلًا عَنْ نِصْفٍ وَنِصْفًا إلَّا حَبَّةً جَازَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى أَنَّهُ لَمْ يُكَرِّرْ لَفْظَ بِنِصْفِهِ بَلْ قَابَلَ الدِّرْهَمَ بِمَا يُبَاعُ مِنْ الْفُلُوسِ وَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً فَيَكُونُ

ص: 160

(وَلَوْ قَالَ أَعْطِنِي نِصْفَ دِرْهَمٍ فُلُوسًا وَنِصْفًا إلَّا حَبَّةً جَازَ) لِأَنَّهُ قَابَلَ الدِّرْهَمَ بِمَا يُبَاعُ مِنْ الْفُلُوسِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً فَيَكُونُ نِصْفُ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً بِمِثْلِهِ وَمَا وَرَاءَهُ بِإِزَاءِ الْفُلُوسِ. قَالَ رضي الله عنه: وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

نِصْفَ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً بِمِثْلِهِ وَالْبَاقِي بِإِزَاءِ الْفُلُوسِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ ذِكْرُ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ) أَرَادَ قَوْلَهُ أَعْطِنِي نِصْفَ دِرْهَمِ فُلُوسٍ وَنِصْفًا إلَّا حَبَّةً وَهِيَ الثَّالِثَةُ فِيمَا ذَكَرْنَا، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى لَيْسَتْ بِمَذْكُورَةٍ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ. قَالَ أَبُو نَصْرٍ الْأَقْطَعُ فِي شَرْحِهِ لِلْمُخْتَصَرِ: وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ النَّاسِخِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 161

(كِتَابُ الْكَفَالَةِ)

كِتَابُ الْكَفَالَةِ)

:

عَقَّبَ الْبُيُوعَ بِذِكْرِ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي الْبِيَاعَاتِ غَالِبًا، وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ بِأَمْرٍ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ

ص: 162

الْكَفَالَةُ: هِيَ الضَّمُّ لُغَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ثُمَّ قِيلَ: هِيَ ضَمُّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَقِيلَ فِي الدَّيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

انْتِهَاءً فَنَاسَبَ ذِكْرُهَا عَقِيبَ الْبُيُوعِ الَّتِي هِيَ مُعَاوَضَةٌ (وَالْكَفَالَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الضَّمُّ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أَيْ ضَمَّهَا إلَى نَفْسِهِ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَنَصْبِ زَكَرِيَّا: أَيْ جَعَلَهُ كَافِلًا لَهَا وَضَامِنًا لِمَصَالِحِهَا (وَفِي الشَّرِيعَةِ: ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ وَقِيلَ فِي الدَّيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ)؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ كَمَا تَصِحُّ بِالْمَالِ تَصِحُّ بِالنَّفْسِ وَلَا دَيْنَ ثَمَّةَ وَكَمَا تَصِحُّ بِالدَّيْنِ تَصِحُّ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ لِنَفْسِهَا كَمَا سَيَجِيءُ وَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ وَلَمْ يَبْرَأْ الْأَصِيلُ صَارَ الدَّيْنُ الْوَاحِدُ دَيْنَيْنِ، وَعُورِضَ بِمَا إذَا وَهَبَ رَبُّ الدَّيْنِ دَيْنَهُ لِلْكَفِيلِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ لَمْ يَصِرْ الدَّيْنُ عَلَيْهِ لَمَا مَلَكَ كَمَا قَبْلَ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ رَبَّ

ص: 163

قَالَ ‌

‌(الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ:

كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ، وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ. فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ وَالْمَضْمُونُ بِهَا إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ)

الدَّيْنِ لَمَّا وَهَبَهُ لِلْكَفِيلِ صَحَّ فَجَعَلْنَا الدَّيْنَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ لِضَرُورَةِ تَصْحِيحِ التَّصَرُّفِ وَجَعَلْنَاهُ فِي حُكْمِ دَيْنَيْنِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا ضَرُورَةَ فَلَا يُجْعَلُ فِي حُكْمِ دَيْنَيْنِ

قَالَ (الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ إلَخْ) الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ: كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ، فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَالْمَضْمُونُ بِهَا إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ كِفْلٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ رَقَبَانِيٌّ مِثْلُهُ لَا يَنْقَادُ لَهُ لِيُسَلِّمَهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ شَرْعًا. أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ فَلِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْكَفَالَةِ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فِي نَفْسِهِ لِيُسَلِّمَهُ، كَمَا أَنَّ أَمْرَهُ بِالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لَا يُثْبِتُ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةً لِيُؤَدِّيَ الْمَالَ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى مَالِ نَفْسِهِ

ص: 164

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى مَالِ نَفْسِهِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» وَهَذَا يُفِيدُ مَشْرُوعِيَّةَ الْكَفَالَةِ بِنَوْعَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِطَرِيقِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ الطَّالِبُ مَكَانَهُ فَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَوْ يَسْتَعِينَ بِأَعْوَانِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَيْهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ تَحَقُّقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَهُوَ الضَّمُّ فِي الْمُطَالَبَةِ فِيهِ.

وَلَنَا قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» ) أَيْ الْكَفِيلُ ضَامِنٌ.

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يُفِيدُ مَشْرُوعِيَّةَ الْكَفَالَةِ بِنَوْعَيْهَا. لَا يُقَالُ: هُوَ مُشْتَرَكٌ الْإِلْزَامُ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حُكِمَ فِيهِ بِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ الَّتِي يَلْزَمُ فِيهَا الْغُرْمُ عَلَى الْكَفِيلِ. وَالْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ يُنَبِّئُ عَنْ لُزُومِ مَا يَضُرُّ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْكَفِيلَ الْإِحْضَارُ وَهُوَ يَتَضَرَّرُ بِهِ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الْخَصْمُ كِفْلٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ (قَوْلُهُ: إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ) مَمْنُوعٌ فَإِنَّ قُدْرَةَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ أَنْ يُعْلِمَ الطَّالِبَ مَكَانَهُ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَوْ يَسْتَعِينَ بِأَعْوَانِ الْقَاضِي، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ شَرْعًا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْكَفَالَةِ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لَهُ (قَوْلُهُ: وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ) اسْتِظْهَارٌ بَعْدَ مَنْعِ الدَّلِيلِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَهُوَ الضَّمُّ فِي الْمُطَالَبَةِ قَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ وَالْمَانِعُ مُنْتَفٍ لِمَا ذَكَرْنَا،

ص: 165

قَالَ (وَتَنْعَقِدُ إذَا قَالَ تَكَفَّلْت بِنَفْسِ فُلَانٍ أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِرُوحِهِ أَوْ بِجَسَدِهِ أَوْ بِرَأْسِهِ وَكَذَا بِبَدَنِهِ وَبِوَجْهِهِ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْبَدَنِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ عُرْفًا عَلَى مَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ، كَذَا إذَا قَالَ

وَالْحَاجَةُ وَهِيَ إحْيَاءُ حُقُوقِ الْعِبَادِ مَاسَّةٌ فَلَمْ يَبْقَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ إلَّا تَعَنُّتًا وَعِنَادًا.

قَالَ: (وَتَنْعَقِدُ إذَا قَالَ تَكَفَّلْت بِنَفْسِ فُلَانٍ إلَخْ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَفَالَةِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهَا، وَهِيَ فِي ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْبَدَنِ حَقِيقَةً كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت بِنَفْسِ فُلَانٍ أَوْ بِجَسَدِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ، وَقِسْمٌ يُعَبَّرُ عَنْهُ عُرْفًا كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت بِوَجْهِهِ وَبِرَأْسِهِ وَبِرَقَبَتِهِ. فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا مَخْصُوصٌ بِعُضْوٍ خَاصٍّ فَلَا يَشْمَلُ الْكُلَّ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ يَشْمَلُهُ بِطَرِيقِ الْعُرْفِ، وَكَذَا إذَا عَبَّرَ بِجُزْءٍ شَائِعٍ كَنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ فِي حَقِّ الْكَفَالَةِ لَا تَتَجَزَّأُ، فَكَانَ ذِكْرُ بَعْضِهَا شَائِعًا كَذِكْرِ كُلِّهَا كَمَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ مِنْ صِحَّةِ إضَافَتِهِ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ تَكَفَّلْت بِيَدِ فُلَانٍ أَوْ بِرِجْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْبَدَنِ حَتَّى لَا تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِمَا، وَكَذَا تَنْعَقِدُ إذَا قَالَ ضَمِنْته؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ بِمُوجِبِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ، وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ؛ لِأَنَّهُ صِيغَةُ الِالْتِزَامِ، وَكَذَا إذَا قَالَ إلَيَّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى عَلَيَّ، فِي هَذَا الْمَقَامِ قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَإِلَيَّ» وَالْكَلُّ: الْيَتِيمُ، وَالْعِيَالُ: مَنْ يَعُولُ: أَيْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ تَفْسِيرٍ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِمَا الْعِيَالَ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَنَا زَعِيمٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الزَّعَامَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ أَوْ قَبِيلٌ؛ لِأَنَّ الْقَبِيلَ هُوَ الْكَفِيلُ وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّكُّ قُبَالَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لَك لِمَعْرِفَةِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ

ص: 166

بِنِصْفِهِ أَوْ بِثُلُثِهِ أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ فِي حَقِّ الْكَفَالَةِ لَا تَتَجَزَّأُ فَكَانَ ذِكْرُ بَعْضِهَا شَائِعًا كَذِكْرِ كُلِّهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ تَكَفَّلْتُ بِيَدِ فُلَانٍ أَوْ بِرِجْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْبَدَنِ حَتَّى لَا تَصِحَّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِمَا وَفِيمَا تَقَدَّمَ تَصِحُّ (وَكَذَا إذَا قَالَ ضَمِنْته) لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمُوجِبِهِ (أَوْ قَالَ) هُوَ (عَلَيَّ) لِأَنَّهُ صِيغَةُ الِالْتِزَامِ (أَوْ قَالَ إلَيَّ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى عَلَيَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ. (قَالَ عليه الصلاة والسلام «وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَإِلَيَّ»)(وَكَذَا إذَا قَالَ أَنَا زَعِيمٌ بِهِ أَوْ قَبِيلٌ بِهِ) لِأَنَّ الزَّعَامَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ. وَالْقَبِيلُ هُوَ الْكَفِيلُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّكُّ قَبَالَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَتِهِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَعْرِفَةَ دُونَ الْمُطَالَبَةِ.

قَالَ (فَإِنْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ إحْضَارُهُ إذَا طَالَبَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ) وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ، فَإِنْ أَحْضَرَهُ وَإِلَّا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحِقٍّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يَحْبِسُهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَعَلَّهُ مَا دَرَى لِمَاذَا يَدَّعِي.

الْتَزَمَ الْمَعْرِفَةَ دُونَ الْمُطَالَبَةِ. وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لَك لِمَعْرِفَةِ فُلَانٍ فَهُوَ كَفَالَةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَى هَذَا مُعَامَلَةُ النَّاسِ.

قَالَ (فَإِنْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ إحْضَارُهُ إذَا طَالَبَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ، فَإِنْ أَحْضَرَهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ يَسْتَعْجِلُ فِي حَبْسِهِ لَعَلَّهُ مَا دَرَى لِمَا يَدَّعِي)

ص: 167

وَلَوْ غَابَ الْمَكْفُولُ بِنَفْسِهِ أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ، فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يُحْضِرْهُ يَحْبِسُهُ لِتَحَقُّقِ امْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ الْحَقِّ. قَالَ (وَكَذَا إذَا ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ) وَهَذَا لِأَنَّهُ عَاجِزٌ فِي الْمُدَّةِ فَيُنْظَرُ كَاَلَّذِي أُعْسِرَ، وَلَوْ سَلَّمَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بَرِئَ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّهُ فَيَمْلِكُ إسْقَاطَهُ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ.

قَالَ (وَإِذَا أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ فِي مَكَان يَقْدِرُ الْمَكْفُولُ لَهُ

فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ وَامْتَنَعَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَجْزٍ أَوْ مَعَ قُدْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي حَبَسَهُ الْحَاكِمُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ مَكَانَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ، فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُحْضِرْهُ حَبَسَهُ لِتَحَقُّقِ امْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالطَّالِبُ إمَّا أَنْ يُوَافِقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْ الْكَفِيلِ لِلْحَالِ حَتَّى يُعْرَفَ مَكَانُهُ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَقَالَ الْكَفِيلُ لَا أَعْرِفُ مَكَانَهُ وَقَالَ الطَّالِبُ تَعْرِفُهُ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ خُرْجَةٌ مَعْرُوفَةٌ يَخْرُجُ مَعَهَا إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ لِلتِّجَارَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ وَيُؤْمَرُ الْكَفِيلُ بِالذَّهَابِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْرُوفًا مِنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْجَهْلُ بِالْمَكَانِ وَمُنْكِرٌ لُزُومَ الْمُطَالَبَةِ إيَّاهُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ الْكَفِيلِ وَيَحْبِسُهُ الْحَاكِمُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ عَجْزُهُ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ كَانَتْ مُتَوَجِّهَةً عَلَيْهِ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى إسْقَاطِهَا عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَقُولُ، فَإِنْ أَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا أَمَرَ الْكَفِيلَ بِالذَّهَابِ إلَيْهِ وَإِحْضَارِهِ اعْتِبَارًا لِلثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ بِالثَّابِتِ مُعَايَنَةً. قَالَ (وَإِذَا أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ فِي مَكَان إلَخْ) إذَا أَحْضَرَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ بِنَفْسِهِ وَسَلَّمَهُ فِي مَكَان يَقْدِرُ الْمَكْفُولُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ مِثْلِ أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرٍ بَرِيءَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ

ص: 168

أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرٍ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ) لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ إلَّا مَرَّةً. قَالَ (وَإِذَا كَفَلَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَسَلَّمَهُ فِي السُّوقِ بَرِئَ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَقِيلَ فِي زَمَانِنَا: لَا يَبْرَأُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُعَاوَنَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَا عَلَى الْإِحْضَارِ فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا (وَإِنْ سَلَّمَهُ فِي بَرِّيَّةٍ لَمْ يَبْرَأْ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهَا فَلَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ، وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ فِي سَوَادٍ لِعَدَمِ قَاضٍ يَفْصِلُ الْحُكْمَ فِيهِ، وَلَوْ سَلَّمَ فِي مِصْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ فِيهِ بَرِئَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهِ. وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ شُهُودُهُ فِيمَا عَيَّنَهُ.

بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ هُوَ الْمُحَاكَمَةُ عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِذَا سَلَّمَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَبَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَفَلَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَسَلَّمَهُ فِي السُّوقِ بَرِئَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُحَاكَمَةِ.

وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا قَالُوا هَذَا بِنَاءً عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. أَمَّا فِي زَمَانِنَا إذَا شَرَطَ التَّسْلِيمَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُعَاوَنَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالْفَسَادِ لَا عَلَى الْإِحْضَارِ وَالتَّقَيُّدُ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي مُفِيدٌ، وَإِنْ سَلَّمَهُ فِي بَرِيَّةٍ لَمْ يَبْرَأْ لِعَدَمِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُحَاكَمَةِ وَكَذَا إذَا سَلَّمَ فِي سَوَادٍ لِعَدَمِ قَاضٍ يَفْصِلُ الْحُكْمَ وَإِنْ سَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ فِيهِ بَرِئَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ شُهُودُهُ فِيمَا عَيَّنَهُ فَالتَّسْلِيمُ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ شُهُودَهُ كَمَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا عَيَّنَهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا سَلَّمَهُ فِيهِ، فَتَعَارَضَ الْمَوْهُومَانِ وَبَقِيَ التَّسْلِيمُ مُتَحَقِّقًا مِنْ الْكَفِيلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي الْتَزَمَهُ فَيَبْرَأُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ تَمَكُّنُهُ مِنْ أَنْ يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي إمَّا لِيَثْبُتَ الْحَقُّ عَلَيْهِ أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا وَقَدْ حَصَلَ. وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَأَوَانٍ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَقَدْ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِهِ بِالصِّدْقِ فَكَانَتْ

ص: 169

وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرُ الطَّالِبِ لَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهِ.

قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْكَفَالَةِ) لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ، وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الْحُضُورُ عَنْ الْأَصِيلِ فَيَسْقُطُ الْإِحْضَارُ عَنْ الْكَفِيلِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ وَمَالُهُ لَا يَصْلُحُ لِإِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ.

وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِوَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ

الْغَلَبَةُ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْقُضَاةُ لَا يَرْغَبُونَ إلَى الرِّشْوَةِ، وَعَامِلُ كُلِّ مِصْرٍ مُنْقَادٌ لِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ فَلَا يَقَعُ التَّفَاوُتُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ أَوْ فِي مِصْرٍ آخَرَ، ثُمَّ تَغَيَّرَ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَظَهَرَ الْفَسَادُ وَالْمَيْلُ مِنْ الْقُضَاةِ إلَى أَخْذِ الرِّشْوَةِ، فَقَيَّدَ التَّسْلِيمَ بِالْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ لَهُ فِيهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الطَّالِبِ.

وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي السِّجْنِ، فَإِنْ كَانَ الْحَابِسُ هُوَ الطَّالِبَ بَرِئَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ لَمْ يَبْرَأْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمُحَاكَمَةِ فِيهِ. وَذَكَرَ فِي الْوَاقِعَاتِ: رَجُلٌ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَهُوَ مَحْبُوسٌ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْكَفِيلُ لَا يُحْبَسُ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ، وَلَوْ كَفَلَ بِهِ وَهُوَ مُطْلَقٌ ثُمَّ حُبِسَ حُبِسَ الْكَفِيلُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ مَا كَفَلَ قَادِرٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ.

قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ) بَقَاءُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِبَقَاءِ الْكَفِيلِ وَالْمَكْفُولِ بِهِ وَمَوْتُهُمَا أَوْ مَوْتُ أَحَدِهِمَا مُسْقِطٌ لَهَا، أَمَّا إذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ فَلِأَنَّ الْكَفِيلَ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الْحُضُورُ عَنْ الْأَصِيلِ فَيَسْقُطُ الْإِحْضَارُ عَنْ الْكَفِيلِ، وَأَمَّا إذَا مَاتَ الْكَفِيلُ فَلِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ تَسَلُّمِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ لَا مَحَالَةَ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِيُؤَدِّ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ، أَجَابَ بِأَنَّ مَالَهُ لَا يَصْلُحُ لِإِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ وَهُوَ إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ وَتَسْلِيمُهُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ

ص: 170

الْمَيِّتِ.

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ آخَرَ وَلَمْ يَقُلْ إذَا دَفَعْت إلَيْك فَأَنَا بَرِيءٌ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ) لِأَنَّهُ مُوجِبُ التَّصَرُّفِ فَيَثْبُتُ بِدُونِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الطَّالِبِ التَّسْلِيمَ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَوْ سَلَّمَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كَفَالَتِهِ صَحَّ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْخُصُومَةِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الدَّفْعِ،

لَا أَصَالَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الْمَالَ، وَلَا نِيَابَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَنُوبُ عَنْ النَّفْسِ، بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يَصْلُحُ نَائِبًا، إذْ الْمَقْصُودُ إيفَاءُ حَقُّ الْمَكْفُولِ لَهُ بِالْمَالِ وَمَالُ الْكَفِيلِ صَالِحٌ لِذَلِكَ فَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ ثُمَّ تَرْجِعُ وَرَثَتُهُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ. وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ إنْ كَانَ لَهُ وَصِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِوَارِثِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِقِيَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقَامَ الْمَيِّتِ.

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ آخَرَ إلَخْ) وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ آخَرَ بِالْإِضَافَةِ وَلَمْ يَقُلْ فَإِذَا دَفَعْت إلَيْك فَأَنَا بَرِيءٌ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ بَرِئَ؛ لِأَنَّهُ يَعْنِي الْبَرَاءَةَ وَذَكَرَهُ لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ وَهُوَ الْمُوجِبُ، وَمَعْنَاهُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ مُوجِبُهَا الْبَرَاءَةُ عِنْدَ التَّسْلِيمِ وَقَدْ وُجِدَ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْمُوجِبِ عِنْدَ حُصُولِ الْمُوجِبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِلَا شَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ التَّصَرُّفِ، وَكَحِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ لِكَوْنِهِ مُوجِبَهُ وَكَذَا فِي سَائِرِ الْمُوجِبَاتِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ:؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ التَّصَرُّفِ: أَيْ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْمَكْفُولِ بِهِ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ مُوجِبُ تَصَرُّفِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَالْمُوجِبَاتُ تَثْبُتُ بِالتَّصَرُّفِ بِدُونِ ذِكْرِهَا صَرِيحًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْبَرَاءَةَ تَحْصُلُ بِدُونِ التَّنْصِيصِ لَا دَفْعِ الْمَكْفُولِ بِهِ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ.

قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا النَّفْيُ الِاشْتِبَاهَ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ حَقُّهُ، فَلَعَلَّ الطَّالِبَ يَقُولُ مَا لَمْ أَسْتَوْفِ حَقِّي مِنْ الْمَطْلُوبِ لَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ التَّسْلِيمَ وَلَمْ يَذْكُرْ التَّكْرَارَ إذَا وُجِدَ التَّسْلِيمُ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الطَّالِبِ التَّسْلِيمَ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يُبَرِّئُ نَفْسَهُ بِإِيفَاءِ عَيْنِ مَا الْتَزَمَ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ صَاحِبِهِ، فَلَوْ تَوَقَّفَ لَرُبَّمَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ إبْقَاءً لِحَقِّ نَفْسِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْكَفِيلُ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَلَوْ سَلَّمَ الْأَصِيلُ نَفْسَهُ عَنْ كَفَالَتِهِ: أَيْ كَفَالَةِ الْكَفِيلِ وَقَالَ دَفَعْت إلَيْك نَفْسِي مِنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ بَرِئَ الْكَفِيلُ وَصَارَ كَتَسْلِيمِهِ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّ

ص: 171

وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ وَكِيلُ الْكَفِيلِ أَوْ رَسُولُهُ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَهُ.

قَالَ (فَإِنْ تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى وَقْتِ كَذَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ فَلَمْ يُحْضِرْهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ لَزِمَهُ ضَمَانُ الْمَالِ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ صَحِيحٌ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ (وَلَا يَبْرَأُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ) لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ لَا يُنَافِي الْكَفَالَةَ بِنَفْسِهِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّوَثُّقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ.

الْمَكْفُولَ بِهِ مُطَالَبٌ بِالْخُصُومَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْحُضُورِ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ إذَا طُولِبَ بِهِ فَهُوَ يُبَرِّئُ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا التَّسْلِيمِ، لَكِنْ إذَا قَالَ دَفَعْت نَفْسِي مِنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ وَاجِبٌ مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَمِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ، فَلَمْ يُصَرِّحْ بِقَوْلِهِ مِنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ لَمْ يَقَعْ التَّسْلِيمُ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ فَلَا يَبْرَأُ، وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْخُصُومَةِ: أَيْ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مُطَالَبٌ بِالْحُضُورِ فَلَا يَكُونُ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ إلَى الطَّالِبِ مُتَبَرِّعًا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ التَّبَرُّعِ وُقُوعُهُ عَنْ الْكَفِيلِ لِيَبْرَأَ بِهِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ جِهَةً أُخْرَى كَمَا بَيَّنَّا؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَبْرَأَ الْكَفِيلُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ عَنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالشَّامِلِ وَغَيْرِهِمَا، وَتَسْلِيمُ وَكِيلِ الْكَفِيلِ وَرَسُولِهِ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَهُ كَتَسْلِيمِهِ.

قَالَ (وَإِنْ تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى وَقْتِ كَذَا إلَخْ) رَجُلٌ قَالَ إنْ لَمْ أُوَافِ بِفُلَانٍ إلَى شَهْرٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ فَلَمْ يُحْضِرْهُ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ ضَمِنَ الْمَالَ وَافَاهُ: أَيْ آتَاهُ مِنْ الْوَفَاءِ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ لِمَا عَلَيْهِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَقُلْهُ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لَهُمَا، وَبِقَوْلِهِ وَهُوَ أَلْفٌ وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ فَعَلَى مَالِكٍ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسَمِّ الْكَمِّيَّةَ جَازَ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى التَّوَسُّعِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ كَفَلْت لَك بِمَا أَدْرَكَك فِي هَذِهِ الْجَارِيَةِ الَّتِي اشْتَرِيهَا مِنْ ذَلِكَ صَحَّتْ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالشَّجَّةِ صَحِيحَةٌ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تُعْلَمْ هَلْ تَبْلُغُ النَّفْسَ أَوْ لَا. ثُمَّ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا صِحَّةُ الْكَفَالَةِ وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. وَالثَّانِي عَدَمُ بُطْلَانِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَ أَدَاءِ مَا تَكَفَّلَ بِهِ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ: يَعْنِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِتَصْرِيحِهِ بِذِكْرِ كَلِمَةِ الشَّرْطِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ يُرِيدُ بِهِ تَعْلِيقَ

ص: 172

وَلَنَا أَنَّهُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ وَيُشْبِهُ النَّذْرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الْتِزَامٌ. فَقُلْنَا: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِمُطْلَقِ الشَّرْطِ كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَنَحْوِهِ. وَيَصِحُّ بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ وَالتَّعْلِيقُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ مُتَعَارَفٌ.

الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُتَعَارَفٌ. وَسَنَذْكُرُ أَنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ صَحِيحٌ، فَإِذَا صَحَّ التَّعْلِيقُ وَوُجِدَ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ. وَعَلَى الثَّانِي قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ لَا يُنَافِي الْكَفَالَةَ بِنَفْسِهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَمَّا تَحَقَّقَتْ حَقًّا لِلْمَكْفُولِ لَهُ لَا تَبْطُلُ إلَّا بِمَا يُنَافِيهَا مِنْ التَّسْلِيمِ أَوْ إبْرَاءٍ أَوْ مَوْتٍ. وَلَيْسَتْ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ مُنَافِيَةً لَهُمَا لِاجْتِمَاعِهِمَا؛ وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لِلتَّوَثُّقِ فَلَا تُبْطِلُهَا وَكَيْفَ تُبْطِلُهَا وَقَدْ يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ مُطَالَبَاتٌ أُخْرَى وَإِبْطَالُهَا يُفْضِي إلَى الضَّرَرِ بِالْمَكْفُولِ لَهُ وَهُوَ مَدْفُوعٌ. وَعُورِضَ بِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ تَثْبُتُ بَدَلًا عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَوُجُوبُ الْبَدَلِ يُنَافِي وُجُوبُ الْمُبْدِلِ مِنْهُ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَدَلِيَّتَهَا مَمْنُوعَةٌ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْرُوعٌ لِلتَّوَثُّقِ كَمَا مَرَّ كَكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بَعْدَ مِثْلِهَا وَبِأَنَّ اجْتِمَاعَهَا صَحِيحٌ وَالْوَفَاءُ بِهِمَا إذْ ذَاكَ وَاجِبٌ، بِخِلَافِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذِهِ الْكَفَالَةُ: أَيْ الْمُعَلَّقَةُ بِالشَّرْطِ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَيْ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ تَعْلِيقُ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ فِي لُزُومِ الْمَالِ بِالْعِوَضِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ وَتَعْلِيقُ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ فِي الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ فَكَذَا هَاهُنَا.

الْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِيهِ تَعْلِيقَ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عِنْدَنَا الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ لَا الْتِزَامُ الْمَالِ. سَلَّمْنَاهُ، وَلَكِنْ أَشْبَهَ الْبَيْعَ مُطْلَقًا أَوْ مِنْ وَجْهٍ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ وَجْهٍ كَمَا مَرَّ، وَيُشْبِهُ النَّذْرَ مِنْ حَيْثُ الِالْتِزَامُ، فَشَبَهُ

ص: 173

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَقَالَ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ، فَإِنْ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ ضَمِنَ الْمَالَ) لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ.

الْبَيْعِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ التَّعْلِيقُ بِالشُّرُوطِ كُلِّهَا، وَشَبَهُ النَّذْرِ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ وَإِعْمَالُ الشَّبَهَيْنِ أَوْلَى، فَقُلْنَا: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ غَيْرِ مُتَعَارَفٍ كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَنَحْوِهِ، وَيَصِحُّ بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ عَمَلًا بِهِمَا، وَالتَّعْلِيقُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ مُتَعَارَفٌ فَإِنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ وَرَغْبَتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ رَغْبَتِهِمْ فِي مُجَرَّدِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ.

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ إلَخْ) وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَقَالَ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ، فَإِنْ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ ضَمِنَ الْمَالَ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَهِيَ وَإِنْ وَافَقَتْ مَسْأَلَةَ الْقُدُورِيِّ الْمَذْكُورَةَ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَالُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالشَّرْطِ لَكِنَّهُ عَدِمَهَا هَاهُنَا بِالْمَوْتِ وَفِيمَا تَقَدَّمَتْ بِغَيْرِهِ فَذَكَرَهَا بَيَانًا لِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالْمَوْتِ وَبِغَيْرِهِ، وَفِيهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ إذَا سَقَطَتْ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لِكَوْنِهَا كَالتَّأْكِيدِ لَهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً، وَلِهَذَا إذَا وَافَى بِالنَّفْسِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَالُ وَقَدْ سَقَطَتْ إذَا سَقَطَتْ الْأُولَى بِالْإِبْرَاءِ فَيَجِبُ أَنْ تَسْقُطَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ

ص: 174

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مِائَةَ دِينَارٍ بَيَّنَهَا أَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ رَجُلٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: إنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِهِ رَجُلٌ ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى دَعْوَاهُ) لِأَنَّهُ عَلَّقَ مَالًا مُطْلَقًا بِخَطَرٍ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى مَا عَلَيْهِ،

الْأُولَى سَقَطَتْ بِالْمَوْتِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفِيلَ بِالنَّفْسِ يَبْرَأُ بِمَوْتِ الْمَكْفُولِ بِهِ إلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا فَرَضْنَاهُ تَأْكِيدًا لِلْغَيْرِ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ وَذَلِكَ خُلْفٌ بَاطِلٌ.

وَأَجَابَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ رحمه الله فِي فَوَائِدِهِ بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ وُضِعَ لِفَسْخِ الْكَفَالَةِ وَالْمَوْتُ لَمْ يُوضَعْ لَهُ، فَبِالْإِبْرَاءِ تَنْفَسِخُ الْكَفَالَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبِالْمَوْتِ تَنْفَسِخُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ ضَرُورَةَ عَجْزِ الْكَفِيلِ عَنْ التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهِ تَسْلِيمٌ يَقَعُ ذَرِيعَةً إلَى الْخِصَامِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّسْلِيمِ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْقَوْلِ بِانْفِسَاخِهَا فِي حَقِّ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمُوَافَاةِ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ النَّفْسِ يَتَحَقَّقُ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ، وَلَا يَلْزَمُ ضَرُورَةَ التَّأْكِيدِ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الْمُؤَكَّدَ لَمْ يَسْقُطْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ كَمَا كَانَ، فَإِنْ قِيلَ: إذَنْ يَتَضَرَّرُ الْكَفِيلُ وَهُوَ مَدْفُوعٌ. قُلْنَا: الِالْتِزَامُ مِنْهُ غَيْرُ مَدْفُوعٍ، وَقَدْ اُلْتُزِمَ حَيْثُ تُيُقِّنَ بِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ. فَإِنْ قِيلَ: تَرَكَ الِاسْتِثْنَاءَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ بِالْمَوْتِ تَنْفَسِخُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَكَذَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا. قُلْنَا: دَعْوَى مِنْهُ عَلَى خِلَافِ إطْلَاقِ لَفْظِهِ فِي إنْ لَمْ يُوَافِ فَلَا يُفِيدُهُ فِي إضْرَارِ غَيْرِهِ.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مِائَةَ دِينَارٍ إلَخْ) وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مِائَةَ دِينَارٍ وَبَيَّنَهَا بِأَنَّهَا جَيِّدَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ هِنْدِيَّةٌ أَوْ مِصْرِيَّةٌ أَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ رَجُلٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ فَطَلَبَهُ وَلَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِهِ ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ الْكَفَالَةِ مِائَةً مَوْصُوفَةً بِصِفَةٍ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ فَلَا يَقْدِرُ الْمُدَّعِي عَلَى مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ بِالْكَفَالَةِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْكَفِيلَ عَلَّقَ فِي كَفَالَتِهِ مَالًا مُطْلَقًا عَنْ النِّسْبَةِ حَيْثُ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى مَا عَلَيْهِ بِأَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَدًا، وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ بَيَّنَهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الْمَالَ الَّذِي هُوَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بَلْ الْتَزَمَ مَا الْتَزَمَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّشْوَةِ لِيَتْرُكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ، وَهُوَ كَمَا تَرَى يَقْتَضِي أَنْ لَا تَصِحَّ الْكَفَالَةُ وَإِنْ بَيَّنَ الْمَالَ وَبِهِ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ.

وَالثَّانِي أَنَّ الدَّعْوَى بِلَا

ص: 175

وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ بَيَّنَهَا وَلِأَنَّهُ لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَلَا يَجِبُ إحْضَارُ النَّفْسِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلَا تَصِحُّ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَيَّنَ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمَالَ ذُكِرَ مُعَرَّفًا فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا عَلَيْهِ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ بِالْإِجْمَالِ فِي الدَّعَاوَى فَتَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى اعْتِبَارِ الْبَيَانِ، فَإِذَا بَيَّنَ الْتَحَقَ الْبَيَانُ بِأَصْلِ الدَّعْوَى فَتَبَيَّنَ صِحَّةُ الْكَفَالَةِ الْأُولَى فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّانِيَةُ.

بَيَانٍ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَلَمْ يَجِبْ إحْضَارُ النَّفْسِ وَحِينَئِذٍ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلَا يَصِحُّ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا، وَهَذَا مَنْسُوبٌ إلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَهُوَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ إذَا كَانَ الْمَالُ مَعْلُومًا عِنْدَ الدَّعْوَى. وَلَهُمَا أَنَّ الْمَالَ ذَكَرَهُ مُعَرَّفًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: فَعَلَيَّ الْمِائَةُ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا عَلَيْهِ وَتَكُونُ النِّسْبَةُ مَوْجُودَةً فَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ رِشْوَةً، فَكَانَ الْمَالُ مَعْلُومًا وَالدَّعْوَى صَحِيحَةً فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ لِكَوْنِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى الْأُولَى. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ فِي مُقَابَلَةِ النُّكْتَةِ الْأُولَى لِمُحَمَّدٍ، وَقَوْلُهُ: وَالْعَادَةُ جَرَتْ فِي مُقَابَلَةِ الثَّانِيَةِ.

وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالْإِجْمَالِ فِي الدَّعَاوَى فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ دَفْعًا لِحِيَلِ الْخُصُومِ وَالْبَيَانُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَتَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى اعْتِبَارِ الْبَيَانِ، فَإِذَا بَيَّنَ اُلْتُحِقَ الْبَيَانُ بِأَصْلِ الدَّعْوَى فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمِائَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي الِابْتِدَاءِ الْمِائَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا وَبَيَّنَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَعَلَى هَذَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ

ص: 176

قَالَ (وَلَا تَجُوزُ‌

‌ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ

عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) مَعْنَاهُ: لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا عِنْدَهُ، وَقَالَا: يُجْبَرُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَفِي الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيَلِيقُ بِهِمَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى.

فِي هَذَا الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي صِحَّةَ الْكَفَالَةِ.

قَالَ (وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ إلَخْ) مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ الْقِصَاصُ إذَا طَالَبَ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ بِأَنْ يُحْضِرَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لِإِثْبَاتِ مَا يَدَّعِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ عَنْ إعْطَائِهِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ لَا يَجُوزُ إجْبَارُ الْكَفَالَةِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَإِسْنَادِ الْجَوَازِ إلَى الْكَفَالَةِ مَجَازٌ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يُجْبَرُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهَا كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِهِمْ وَفِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ: أَيْ؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى الْخُلُوصِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْقِصَاصَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقَّيْنِ وَحَقُّ الْعَبْدِ غَالِبٌ، وَلَيْسَ تَفْسِيرُ الْجَبْرِ هَاهُنَا الْحَبْسَ بَلْ الْأَمْرُ بِالْمُلَازَمَةِ بِأَنْ يَدُورَ الطَّالِبُ مَعَ الْمَطْلُوبِ أَيْنَمَا دَارَ كَيْ لَا يَتَغَيَّبَ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى بَابِ دَارِهِ وَأَرَادَ الدُّخُولَ يَسْتَأْذِنُهُ الطَّالِبُ فِي الدُّخُولِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ يَدْخُلُ مَعَهُ وَيَسْكُنُ حَيْثُ سَكَنَ إنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدُّخُولِ يُجْلِسُهُ عَلَى بَابِ دَارِهِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الدُّخُولِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِهَا وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُ الْكَفِيلِ بِهِ سَوَاءٌ أَعْطَاهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا. أَمَّا قَبْلَ إقَامَتِهَا فَلِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ حُضُورَ مَجْلِسٍ الْحُكْمِ بِسَبَبِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَى أَحَدٍ فِي الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَهَذَا لَمْ يَكْفُلْ بِحَقٍّ وَاجِبٍ عَلَى الْأَصْلِ؛

ص: 177

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَلِأَنَّ مَبْنَى الْكُلِّ عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَلِيقُ بِهَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ (وَلَوْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِهِ يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فِيهَا وَاجِبٌ فَيُطَالَبُ بِهِ الْكَفِيلُ فَيَتَحَقَّقُ الضَّمُّ. قَالَ (وَلَا يُحْبَسُ فِيهَا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ أَوْ شَاهِدٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ الْقَاضِي)

وَبَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ التَّعْدِيلِ يُحْبَسُ وَبِهِ يَحْصُلُ الِاسْتِيثَاقُ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَخْذِ الْكَفِيلِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم «لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ) يَعْنِي بَيْنَ مَا هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ مِنْهُ وَبَيْنَ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ، قِيلَ هَذَا مِنْ كَلَامِ شُرَيْحٍ لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي عَنْ شُرَيْحٍ.

وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَلِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ بِالتَّكْفِيلِ) فَإِنْ قِيلَ: حُبِسَ بِإِقَامَةِ شَاهِدٍ عَدْلٍ وَمَعْنَى الِاسْتِيثَاقِ فِي الْحَبْسِ أَتَمُّ مِنْ أَخْذِ الْكَفِيلِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ عَلَى مَا يُذْكَرُ لَا لِلِاسْتِيثَاقِ (بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَلِيقُ بِهَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ) فَإِنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ وَيَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَيَحْلِفُ فِيهِ فَيُجْبَرُ الْمَطْلُوبُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ فِيهِ كَمَا فِي الْأَمْوَالِ (وَلَوْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ) أَيْ لَوْ تَبَرَّعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ لِلطَّالِبِ مِنْ غَيْرِ جَبْرٍ عَلَيْهِ فِي الْقِصَاصِ (وَحَدُّ الْقَذْفِ صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فِيهِمَا وَاجِبٌ فَيُطَالَبُ بِهِ الْكَفِيلُ وَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَهُوَ الضَّمُّ) وَأَلْحَقَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ حَدَّ السَّرِقَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ.

قَالَ (وَلَا يُحْبَسُ فِيهَا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ إلَخْ) لَا يَحْبِسُ الْحَاكِمُ فِي الْحُدُودِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِيهِمَا: أَيْ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ أَوْ شَاهِدٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ: أَيْ يَعْرِفُ الْحَاكِمُ كَوْنَهُ عَدْلًا؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ هَاهُنَا لِلتُّهْمَةِ: أَيْ لِتُهْمَةِ الْفَسَادِ لَا لِإِثْبَاتِ الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حُجَّةٍ كَامِلَةٍ

وَالتُّهْمَةُ تَثْبُتُ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ إمَّا الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةِ،

ص: 178

لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ هَاهُنَا، وَالتُّهْمَةُ تَثْبُتُ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ: إمَّا الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ، بِخِلَافِ الْحَبْسِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لِحُصُولِ الِاسْتِيثَاقِ بِالْكَفَالَةِ.

؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ مِنْ بَابِ دَفْعِ الْفَسَادِ وَهُوَ مِنْ بَابِ الدِّيَانَاتِ وَالدِّيَانَاتُ تَثْبُتُ بِأَحَدِ شَطْرَيْهَا. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ» بِخِلَافِ الْحَبْسِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ مَا كَانَ الْحَبْسُ فِيهِ أَقْصَى عُقُوبَةٍ كَمَا فِي الْأَمْوَالِ إذَا ثَبَتَتْ وَعَدَمُ مُوجِبَاتِ السُّقُوطِ وَامْتَنَعَ عَنْ الْإِيفَاءِ لَا يُحْبَسُ فِيهِ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ، وَمَا كَانَ أَقْصَى الْعُقُوبَةِ فِيهِ غَيْرَ الْحَبْسِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْأَقْصَى فِيهَا الْقَتْلُ أَوْ الْقَطْعُ أَوْ الْجَلْدُ حَازَ الْحَبْسُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ لِلتُّهْمَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْحَبْسُ لِلتُّهْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْمُدَّعَى بِالْحُجَّةِ يُنَافِي الدَّرْءَ بِالشُّبُهَاتِ، وَالدَّرْءُ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ فَيَنْتَفِي الْحَبْسُ لِلتُّهْمَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُمْ لِلتُّهْمَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اتِّهَامُ الْحَاكِمِ أَيْضًا بِالتَّهَاوُنِ فِيهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الدَّرْءَ مَأْمُورٌ بِهِ وَالتَّرْكَ وَالتَّهَاوُنَ حَرَامٌ لِإِفْضَائِهِ إلَى فَسَادِ الْعَالَمِ الَّذِي شُرِعَ الْحُدُودُ لِدَفْعِهِ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَحْبِسْهُ الْحَاكِمُ اُتُّهِمَ بِأَنَّهُ مُتَهَاوِنٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَادِحٌ فِي عَدَالَتِهِ، وَالْإِيفَاءُ مِنْ أَمْثَالِهِ مَأْمُورٌ بِهِ فَيُحْبَسُ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشِّهَادِ إذَا اتَّهَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْفَسَادِ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ عَنْ الْحَاكِمِ، وَالْحَبْسُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ وَقَعَ تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ يَتَّهِمُ بِذَلِكَ، ثُمَّ إذَا سَمِعَ الْحُجَّةَ الْكَامِلَةَ تُحِيلُ لِلدَّرْءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَذَكَرَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي

ص: 179

قَالَ (وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ فِي الْخَرَاجِ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءِ فَيُمْكِنُ تَرْتِيبُ مُوجِبِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فِيهِمَا.

قَالَ (وَمَنْ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا آخَرَ فَهُمَا كَفِيلَانِ) لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْتِزَامُ

لَا يُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ لَمَّا جَازَ عِنْدَهُمَا جَازَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ بِهِ فَيُسْتَغْنَى عَنْ الْحَبْسِ. وَقِيلَ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ فِي الْحَبْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عَنْهُمَا رِوَايَتَيْنِ: فِي رِوَايَةٍ يُحْبَسُ وَلَا يُكْفَلُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَكْسُهُ لِحُصُولِ الِاسْتِيثَاقِ بِأَحَدِهِمَا، وَفِي دَلَالَةِ كَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ خَفَاءٌ لَا مَحَالَةَ.

قَالَ (وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ فِي الْخَرَاجِ إلَخْ) أَوْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هَاهُنَا دَفْعًا لِمَا عَسَى يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَخَذَ الْكَفِيلِ عَنْ الْخَرَاجِ لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ دُونَ الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ فَإِنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ تَقْتَضِي دَيْنًا مُطَالَبًا بِهِ مُطْلَقًا وَالْخَرَاجُ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ وَيُمْنَعُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ وَيُلَازَمُ مَنْ عَلَيْهِ لِأَجْلِهِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قِيلَ مُطْلَقًا يَعْنِي فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ احْتِرَازًا عَنْ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا يُطَالَبُ بِهَا، أَمَّا فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ فَالْمُطَالِبُ هُوَ الْإِمَامُ، وَأَمَّا فِي الْبَاطِنَةِ فَمُلَّاكُهَا لِكَوْنِهِمْ نُوَّابَ الْإِمَامِ، وَالْكَفَالَةُ بِهَا لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَمَّا كَانَ الرَّهْنُ تَوْثِيقًا كَالْكَفَالَةِ اسْتَطْرَدَ بِذِكْرِهِ فِي بَابِ الْكَفَالَةِ، فَقَوْلُهُ:(؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ) إشَارَةٌ إلَى صِحَّةِ الْكَفَالَةِ، فَإِنَّ كُلَّ دَيْنٍ صَحِيحٍ تَصِحُّ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فِي الْحَيَاةِ، وَالْمَمَاتِ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَلِوُجُودِ مَا شُرِعَ الْكَفَالَةُ لِأَجْلِهِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ:(مُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءِ) إشَارَةٌ إلَى صِحَّةِ الرَّهْنِ فَإِنَّهَا تَعْتَمِدُ إمْكَانَ الِاسْتِيفَاءِ لِكَوْنِهِ تَوْثِيقًا بِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ فَيَتَرَتَّبُ مُوجِبُ الْعَقْدِ فِي الرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ عَلَيْهِ. قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُشَوَّشٌ وَلَا بُعْدَ فِي قَصْدِهِ ذَلِكَ.

قَالَ (وَمَنْ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ إلَخْ) تَعَدُّدُ الْكُفَلَاءِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ صَحِيحٌ كَفَلُوا جُمْلَةً أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ؛ لِأَنَّ

ص: 180

الْمُطَالَبَةِ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ وَالْمَقْصُودُ التَّوَثُّقُ، وَبِالثَّانِيَةِ يَزْدَادُ التَّوَثُّقُ فَلَا يَتَنَافَيَانِ

(وَأَمَّا‌

‌ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ

فَجَائِزَةٌ مَعْلُومًا كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ أَوْ مَجْهُولًا إذَا كَانَ دَيْنًا صَحِيحًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ تَكَفَّلْت عَنْهُ بِأَلْفٍ أَوْ بِمَا لَك عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُدْرِكُك فِي هَذَا الْبَيْعِ) لِأَنَّ مَبْنَى الْكَفَالَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فَيَتَحَمَّلُ فِيهَا الْجَهَالَةَ، وَعَلَى الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ إجْمَاعٌ وَكَفَى بِهِ حُجَّةً،

مُوجِبَ عَقْدِ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ: أَيْ أَنْ يَلْتَزِمَ الْكَفِيلُ ضَمَّ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ كَمَا أَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِالْحُضُورِ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ لِرُجُوعِهِ إلَى إلْزَامِ مَنْ لَهُ الطَّلَبُ عَلَى الطَّلَبِ وَهُوَ خُلْفٌ بَاطِلٌ، وَالْمَقْصُودُ بِشَرْعِ الْكَفَالَةِ التَّوَثُّقُ وَبِالثَّانِيَةِ يَزْدَادُ التَّوَثُّقُ، وَمَا يُزَادُ بِهِ الشَّيْءُ لَا يُنَافِيهِ أَلْبَتَّةَ فَكَانَ الْمُقْتَضِي لِجَوَازِهِ مَوْجُودًا وَالْمَانِعُ مُنْتَفِيًا، فَالْقَوْلُ بِامْتِنَاعِهِ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَإِذَا صَحَّتْ الثَّانِيَةُ لَمْ يَبْرَأْ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّا إنَّمَا صَحَّحْنَاهَا لِيَزْدَادَ التَّوَثُّقُ، فَلَوْ بَرِئَ الْأَوَّلُ مَا زَادَ إلَّا مَا نَقَصَ فَمَا فَرَضْنَاهُ زِيَادَةٌ لَمْ يَكُنْ زِيَادَةٌ هَذَا خُلْفٌ بَاطِلٌ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَبْرَأُ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الثَّانِي فَلَوْ بَقِيَ وَاجِبًا عَلَى الْأَوَّلِ كَانَ وَاجِبًا فِي مَوْضِعَيْنِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْكَفِيلَ إذَا كَفَلَ بِالدَّيْنِ بَرِئَ الْمَطْلُوبُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ يُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ اللُّغَوِيَّةَ وَالْأَصْلُ مُوَافَقَتُهَا وَيُفْضِي إلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ فَإِنَّ فِيهَا يَبْرَأُ الْمُحِيلُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، ثُمَّ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ نَفْسَ الْأَصِيلِ إلَى الطَّالِبِ بَرِئَ دُونَ صَاحِبِهِ.

قَالَ (وَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فَجَائِزَةٌ إلَخْ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعْلُومًا كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت عَنْهُ بِأَلْفٍ، أَوْ مَجْهُولًا كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت عَنْهُ بِمَا لَك عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُدْرِكُك فِي هَذَا الْبَيْعِ: يَعْنِي مِنْ الضَّمَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَ دَيْنًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْكَفَالَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً فَيُتَحَمَّلُ فِيهَا جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ يَسِيرَةً وَغَيْرَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَعَارَفَةً. وَقَوْلُهُ: (وَعَلَى الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا وَهُوَ التَّبِعَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهَا بِالْمَجْهُولِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الضَّمَانَ بِالْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ

ص: 181

وَصَارَ كَمَا إذَا كَفَلَ لِشَجَّةٍ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَإِنْ اُحْتُمِلَتْ السِّرَايَةُ وَالِاقْتِصَارُ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا صَحِيحًا وَمُرَادُهُ أَنْ لَا يَكُونَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ، وَسَيَأْتِيك فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

قَالَ (وَالْمَكْفُولُ لَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ كَفِيلَهُ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي قِيَامَ الْأَوَّلِ لَا الْبَرَاءَةَ عَنْهُ، إلَّا إذَا شَرَطَ فِيهِ الْبَرَاءَةَ فَحِينَئِذٍ تَنْعَقِدُ حَوَالَةً اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى، كَمَا أَنَّ الْحَوَالَةَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْرَأَ بِهَا الْمُحِيلُ تَكُونُ كَفَالَةً (وَلَوْ طَالَبَ أَحَدَهُمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا) لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ الضَّمُّ، بِخِلَافِ الْمَالِكِ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ

مَالٍ فَلَا يَصِحُّ مَجْهُولًا كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ. وَقُلْنَا الضَّمَانُ بِالدَّرَكِ صَحِيحٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ ضَمَانٌ بِالْمَجْهُولِ، وَصَارَ الْكَفَالَةُ بِمَالِ مَجْهُولٍ كَالْكَفَالَةِ بِشَجَّةٍ أَيِّ شَجَّةٍ كَانَتْ إذَا كَانَتْ خَطَأً فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَجْهُولٍ لِاحْتِمَالِ السِّرَايَةِ وَالِاقْتِصَارِ.

وَإِنَّمَا قِيلَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ عَمْدًا وَقَدْ سَرَتْ وَكَانَتْ الشَّجَّةُ بِآلَةٍ جَارِحَةٍ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَالْكَفَالَةُ بِهِ لَا تَصِحُّ. وَلَمَّا مَرَّ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّقْيِيدِ بِهِ (وَشُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ دَيْنًا صَحِيحًا) وَفَسَّرَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ، إذْ الدَّيْنُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ حَقًّا لِنَفْسِهِ، وَالْمَطْلُوبُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إسْقَاطِهِ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَّا بِالْإِيفَاءِ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِاقْتِدَارِ الْمُكَاتَبِ أَنْ يُسْقِطَ الْبَدَلَ بِتَعْجِيزِهِ نَفْسَهُ. وَقِيلَ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ شَيْءٌ فَيُطَالِبُهُ بِهِ.

قَالَ (وَالْمَكْفُولُ لَهُ بِالْخِيَارِ إلَخْ) الْمَكْفُولُ لَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ: أَيْ الدَّيْنُ وَيُسَمَّى الدَّيْنُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مُطَالَبَةَ الدَّيْنِ بِغَيْرِ دَيْنٍ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَكَانَتْ الْمُطَالَبَةُ فَرْعًا، وَهَذَا التَّخْيِيرُ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي قِيَامَ الْأَوَّلِ لَا الْبَرَاءَةَ عَنْهَا إلَّا إذَا شُرِطَتْ الْبَرَاءَةُ فَتَصِيرُ حَوَالَةً اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى، كَمَا أَنَّ الْحَوَالَةَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْرَأَ الْمُحِيلُ تَكُونُ كَفَالَةً، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا جَمِيعًا جُمْلَةً وَمُتَعَاقِبًا، بِخِلَافِ الْمَالِكِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَ الْغَاصِبَيْنِ: أَيْ الْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَإِنَّهُ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَضْمِينِ الْآخَرِ

ص: 182

أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ أَحَدَهُمَا يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ مِنْهُ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّمْلِيكُ مِنْ الثَّانِي، أَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِالْكَفَالَةِ لَا تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ فَوَضَحَ الْفَرْقُ

قَالَ (وَيَجُوزُ)(تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِالشُّرُوطِ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَا بَايَعْت فُلَانًا فَعَلَيَّ أَوْ مَا ذَابَ لَك عَلَيْهِ فَعَلَيَّ أَوْ مَا غَصَبَك فَعَلَيَّ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّةِ

؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ أَحَدَهُمَا يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّمْلِيكِ مِنْ الثَّانِي. أَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِالْكَفَالَةِ فَلَا تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ.

قَالَ (وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِالشُّرُوطِ إلَخْ) يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ مُلَائِمٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعُ أَوْ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إذَا قَدِمَ زَيْدٌ وَهُوَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ أَوْ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلَ قَوْلِهِ إذَا غَابَ عَنْ الْبَلْدَةِ أَوْ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا أَوْ إذَا حَلَّ مَا لَك عَلَيْهِ وَلَمْ يُوَفِّ بِهِ فَعَلَيَّ.

وَلَا يَجُوزُ بِشَرْطٍ مُجَرَّدٍ عَنْ الْمُلَاءَمَةِ كَقَوْلِهِ إنْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ جَاءَ الْمَطَرُ، وَقَيَّدَ بِكَوْنِ زَيْدٍ مَكْفُولًا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا كَانَ التَّعْلِيقُ بِهِ كَمَا فِي هُبُوبِ الرِّيحِ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} فَإِنَّ مُنَادِيَ يُوسُفَ عليه السلام عَلَّقَ الِالْتِزَامَ بِالْكَفَالَةِ بِسَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ هُوَ الْمَجِيءُ بِصُوَاعِ الْمِلْكِ، وَكَانَ نِدَاؤُهُ بِأَمْرِ يُوسُفَ عليه السلام، وَشَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا إذَا قَصَّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى بَيَانِ الْعِمَالَةِ لِمَنْ يَأْتِي بِهِ لَا لِبَيَانِ الْكَفَالَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِ مَنْ أَبَقَ عَبْدُهُ مَنْ جَاءَ بِهِ فَلَهُ عَشَرَةٌ فَلَا يَكُونُ كَفَالَةً؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا

ص: 183

ضَمَانِ الدَّرَكِ، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِشَرْطٍ مُلَائِمٍ لَهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ، أَوْ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ وَهُوَ مَكْفُولٌ عَنْهُ،

تَكُونُ إذَا الْتَزَمَ عَنْ غَيْرِهِ وَهَاهُنَا قَدْ الْتَزَمَ عَنْ نَفْسِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْآيَةَ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ

ص: 184

أَوْ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ إذَا غَابَ عَنْ الْبَلْدَةِ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الشُّرُوطِ فِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَمَّا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ بِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ إنْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ جَاءَ الْمَطَرُ وَكَذَا إذَا جَعَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَجَلًا، إلَّا أَنَّهُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَيَجِبُ الْمَالُ حَالًّا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَمَّا صَحَّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.

وَهِيَ تُبْطِلُ الْكَفَالَةَ.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الزَّعِيمَ حَقِيقَةً فِي الْكَفَالَةِ وَالْعَمَلِ بِهَا مَهْمَا أَمْكَنَ وَاجِبٌ فَكَانَ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ الْمُنَادِي لِلْغَيْرِ: إنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} بِذَلِكَ فَيَكُونُ ضَامِنًا عَنْ الْمِلْكِ لَا عَنْ نَفْسِهِ فَتَتَحَقَّقُ حَقِيقَةُ الْكَفَالَةِ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ فِي الْآيَةِ أَمْرَيْنِ: ذِكْرُ الْكَفَالَةِ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ، وَإِضَافَتُهَا إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَعَدَمُ جَوَازِ أَحَدِهِمَا بِدَلِيلٍ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوَازِ الْآخَرِ.

فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ بِهِ وَجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ، فَإِنَّ الْأُولَى لَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ أَصْلًا، وَالثَّانِيَةُ تَمْنَعُهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُضَافَةً كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت بِمَا بَايَعْت أَحَدًا مِنْ النَّاسِ، وَالثَّالِثَةُ تَمْنَعُهُ مُطْلَقًا.؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأُولَى مَنْصُوصٌ عَلَى جَوَازِهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى حِمْلُ بَعِيرٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبَعِيرِ فَلَمْ تُمْنَعْ مُطْلَقًا، وَالثَّانِيَةُ إنَّمَا تَمْنَعُهُ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ لَا لِلْجَهَالَةِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ الْمُضَافَةَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ يَأْبَى الْقِيَاسُ جَوَازَهَا عَلَى مَا يَأْتِي، وَإِنَّمَا جُوِّزَتْ اسْتِحْسَانًا لِلتَّعَامُلِ، وَالتَّعَامُلُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ مِنْهُ مَعْلُومًا فَالْمَجْهُولُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَالثَّالِثَةُ إنَّمَا تَمْنَعُهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فِي حَقِّ الطَّالِبِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ حَتَّى لَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الطَّالِبِ، وَفِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حَتَّى تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ كَمَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ أَصْلًا وَإِذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الطَّالِبِ كَانَتْ جَهَالَةُ الطَّالِبِ مَانِعَةً جَوَازَهَا كَمَا أَنَّ جَهَالَةَ الْمُشْتَرِي مَانِعَةٌ مِنْ الْبَيْعِ بِخِلَافِ جَانِبِ الْمَطْلُوبِ فَإِنَّ جَهَالَتَهُ لَا تَمْنَعُ كَمَا أَنَّ جَهَالَةَ الْمُعْتَقِ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْعِتْقِ، وَهَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِنَا عَلَى مَا يَأْتِي (قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَلًا) أَيْ كَمَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِهُبُوبِ الرِّيحِ وَمَجِيءِ الْمَطَرِ كَذَا لَا يَصِحُّ جَعْلُهُمَا أَجَلًا لِلْكَفَالَةِ

ص: 185

(فَإِنْ قَالَ تَكَفَّلْت بِمَا لَك عَلَيْهِ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ ضَمِنَهُ الْكَفِيلُ) لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً فَيَتَحَقَّقُ مَا عَلَيْهِ فَيَصِحُّ الضَّمَانُ بِهِ (وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ

وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ يَقْتَضِي نَفْيَ جَوَازِ التَّعْلِيقِ لَا نَفْيَ جَوَازِ الْكَفَالَةِ مَعَ أَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَجُوزُ. الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ وَكَذَا إذَا جَعَلَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَأَمَّا لَا يَصِحُّ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ وَكَذَا لَا يَصِحُّ إذَا جَعَلَ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ يَصِحُّ هُوَ التَّعْلِيقَ أَوْ الْكَفَالَةَ إذَا لَمْ يَذْكُرْ ثَالِثًا. وَالْأَوَّلُ لَا يَجُوزُ إذْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَكَذَا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ إذَا جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَلًا. وَالثَّانِي كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ إلَّا أَنَّهُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ. وَالثَّالِثُ أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يُطَابِقُ الْمَدْلُولَ؛ لِأَنَّ الْمَدْلُولَ بُطْلَانُ الْأَجَلِ مَعَ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ وَالدَّلِيلُ صِحَّةُ تَعْلِيقِهَا بِالشَّرْطِ وَعَدَمُ بُطْلَانِهَا بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْمَحْضِ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ حَاصِلَ الْكَلَامِ نَفْيُ جَوَازِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِهِمَا، وَالْمَجْمُوعُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ. لَا يُقَالُ: نَفْيُ الْكَفَالَةِ الْمُؤَجَّلَةِ كَنَفْيِ الْمُعَلَّقَةِ وَلَا تَنْتَفِي الْكَفَالَةُ بِانْتِفَاءِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْمُعَلَّقَ نَوْعٌ، إذْ التَّعْلِيقُ يُخْرِجُ الْعِلَّةَ عَنْ الْعَلِيَّةِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَالْأَجَلُ عَارِضٌ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ مَعْرُوضِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّرْفِ مَا يُقَارِبُهُ إنْ كَانَ عَلَى ذِكْرٍ مِنْك.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ فَاعِلَ يَصِحُّ الْمُقَدَّرَ هُوَ الْأَجَلُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَكَمَا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ لَا يَصِحُّ الْأَجَلُ إذَا جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَلًا. وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ الْأَجَلُ مَجَازًا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ (وَيَجِبُ الْمَالُ حَالًا) وَتَقْدِيرُهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَمَّا صَحَّ تَأْجِيلُهَا بِأَجَلٍ مُتَعَارَفٍ لَمْ تَبْطُلْ بِالْآجَالِ الْفَاسِدَةِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَيُجَوِّزُ الْمَجَازُ عَدَمَ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

(فَإِنْ قَالَ تَكَفَّلْت بِمَا لَك عَلَيْهِ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَلْفٍ ضَمِنَهُ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً) وَلَوْ عَايَنَ مَا عَلَيْهِ وَكَفَلَ عَنْهُ لَزِمَهُ مَا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ فَصَحَّ الضَّمَانُ بِهِ (وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ

ص: 186

فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ (فَإِنْ اعْتَرَفَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى كَفِيلِهِ) لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ (وَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ) لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا.

فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ) وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَجْهُولٌ لَزِمَهُ بِقَوْلِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ فِيمَا كَانَ هُوَ خَصْمًا فِيهِ وَالشَّيْءُ مِمَّا يَصِحُّ بَذْلُهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمَالِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ (فَإِنْ اعْتَرَفَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى كَفِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا) كَالْمَرِيضِ إذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ

ص: 187

قَالَ (وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِثُبُوتِ الرُّجُوعِ إذْ هُوَ عِنْدَ أَمْرِهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ (فَإِنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ رَجَعَ بِمَا أَدَّى عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ

دُيُونِ الصِّحَّةِ حَيْثُ يُقَدَّمُونَ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ.

قَالَ (وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَخْ) الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ اضْمَنْ عَنِّي أَوْ تَكَفَّلْ عَنِّي وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ سِيَّانِ فِي الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى جَوَازِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» وَأَمْثَالُهُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ كَوْنِهَا بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ أَنْ يُطَالَبَ بِمَا عَلَى الْغَيْرِ، وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَكُلُّ مَا هُوَ تَصَرُّفٌ فِي النَّفْسِ فَهُوَ لَازِمٌ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ غَيْرُهُ، وَغَيْرُ الْمُتَصَرِّفِ هُنَا هُوَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فَقَطْ وَالطَّالِبُ غَيْرُ مُتَضَرِّرٍ بَلْ مُنْتَفِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَالْمَطْلُوبُ إنْ تَضَرَّرَ فَإِنَّمَا يَتَضَرَّرُ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْأَمْرِ، فَمَا لَمْ يَأْمُرْ لَمْ يَتَضَرَّرْ، وَإِنْ أَمَرَ فَقَدْ رَضِيَ، وَالضَّرَرُ الْمَرَضُ غَيْرُ ضَائِرٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِنَوْعَيْهَا مِمَّا يَقْتَضِيهَا الْمُقْتَضِي مَعَ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْقَوْلُ بِجَوَازِهِ وَاجِبٌ. ثُمَّ إنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ رَجَعَ بِمَا أَدَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ، وَمَنْ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَلَا يُنْتَقَضُ بِمَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ عَبْدًا كَذَلِكَ وَأَمَرَ الْكَفِيلَ فَإِنَّهُ إذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَى الصَّبِيِّ أَصْلًا وَلَا عَلَى الْعَبْدِ مَا دَامَ رَقِيقًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَا بِمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ أَدِّ عَنِّي زَكَاةَ مَالِي أَوْ أَطْعِمْ عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فَفَعَلَ فَقَدْ أَدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ الْآمِرُ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّيْنِ هُوَ الدَّيْنُ الصَّحِيحُ وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ،

ص: 188

(وَإِنْ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا يُؤَدِّيهِ) لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِأَدَائِهِ، وَقَوْلُهُ رَجَعَ بِمَا أَدَّى مَعْنَاهُ إذَا أَدَّى مَا ضَمِنَهُ، أَمَّا إذَا أَدَّى خِلَافَهُ رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ

وَإِنْ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِأَدَائِهِ وَالْمُتَبَرِّعُ لَا يَرْجِعُ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْكَفِيلُ إذَا أَدَّى رَجَعَ سَوَاءٌ كَفَلَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ بِالِاسْتِيفَاءِ مَلَكَ الْمَالَ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَالِ مِنْ الْأَصِيلِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ فَبِنَفْسِ الْكَفَالَةِ؛ كَمَا يَجِبُ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ يَجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَكِنَّهُ يُؤَخَّرُ إلَى أَدَائِهِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ عِنْدَ كَفَالَتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ (قَوْلُهُ: رَجَعَ بِمَا أَدَّى) اعْلَمْ أَنَّ الْكَفِيلَ يَمْلِكُ الْمَكْفُولَ بِهِ فِي فُصُولٍ: مِنْهَا الْأَدَاءُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَمِنْهَا هِبَتُهُ إيَّاهُ، وَمِنْهَا إرْثُهُ لَهُ، وَمِنْهَا صُلْحُهُ إيَّاهُ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فَعَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَدَّى مَا ضَمِنَ

ص: 189

لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ، كَمَا إذَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْإِرْثِ، وَكَمَا إذَا مَلَكَهُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ

وَفِيهِ الرُّجُوعُ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مِثْلَ مَا ضَمِنَ. وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ أَدَّى خِلَافَ مَا ضَمِنَ كَمَا إذَا أَدَّى زُيُوفًا بَدَلَ مَا ضَمِنَ مِنْ الْجِيَادِ وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ الرُّجُوعُ بِمَا ضَمِنَ لَا بِمَا أَدَّى.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ) وَالطَّالِبُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ إلَّا بِمَا فِي ذِمَّتِهِ فَكَذَا مَنْ نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ، وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى فَصْلِ الْهِبَةِ، وَهُوَ أَنْ يَهَبَ الْمَكْفُولَ لَهُ الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِلْكَفِيلِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَمْلِكُهُ وَيَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا ضَمِنَ، وَعَلَى فَصْلِ الْمِيرَاثِ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْمَكْفُولُ لَهُ وَيَرِثُهُ الْكَفِيلُ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الدَّيْنَ وَيَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الطَّالِبِ.

وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ لِلْكَفِيلِ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إذْ الْكَفَالَةُ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا فِي الدَّيْنِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ الْمَمْلُوكَ وَاحِدٌ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ وَهُوَ مَا ضَمِنَ، وَأَمَّا فِي الْأَدَاءِ بِخِلَافِ مَا ضَمِنَ فَقَدْ تَعَدَّدَ الْأَمْرُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الرُّجُوعِ بِمَا ضَمِنَ فِيمَا تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ بِهِ فِيمَا تَعَدَّدَ: أَعْنِي مَا أَدَّى وَمَا ضَمِنَ.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا إذَا وَهَبَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ فَقَبَضَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ. وَإِذَا أَذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ صَارَ كَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ وَوَكَّلَهُ بِالْقَبْضِ فَقَبَضَهُ ثُمَّ وَهَبَهُ إيَّاهُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ جَائِزٌ.

وَالثَّانِي أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِي الدَّيْنِ وَهَاهُنَا قَدْ وُجِدَتْ الضَّرُورَةُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمِلْكِ وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ أَنْ يُجْعَلَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ حَتَّى يَتَمَلَّكَ مَا عَلَيْهِ لَا مَا عَلَى غَيْرِهِ وَأَمْكَنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ نَقْلِ الدَّيْنِ إلَيْهِ بِإِحَالَةِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مُقْتَضَى تَصَرُّفِهِمَا، وَهَذَا يُرْشِدُك إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ إبْرَاءِ الدَّيْنِ وَهِبَتِهِ لَهُ فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَالْهِبَةَ تَرْتَدُّ بِهِ، فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ يَكْفِي مُؤْنَتُهُ بِوُجُوبِ الْمُطَالَبَةِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ

ص: 190

بِمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَوَالَةِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ حَيْثُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يَمْلِكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَصَارَ كَمَا إذَا أَبْرَأَ الْكَفِيلَ.

قَالَ (وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِالْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ) لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَيْثُ يَرْجِعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ.

فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَالْهِبَةُ لَمَّا كَانَتْ تَمْلِيكًا اقْتَضَتْ مِلْكًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى نَقْلِ الدَّيْنِ لِيَصِحَّ التَّمْلِيكُ وَالتَّمْلِيكُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، فَكَمَا لَوْ وُهِبَ الدَّيْنُ مِنْ الْأَصِيلِ صَحَّ الرَّدُّ فَكَذَا مِنْ الْكَفِيلِ.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ التَّشْبِيهَ إنَّمَا هُوَ فِي نُزُولِ الْكَفِيلِ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْجَمِيعِ ثُمَّ إذَا نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ، وَالطَّالِبُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ إلَّا مَا ضَمِنَ لَهُ فَكَذَا مَنْ نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى صُورَةِ الْحَوَالَةِ وَهُوَ أَنْ يُحِيلَ الْمَدْيُونُ طَالِبَهُ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَأَدَّى الْمُحَالُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا ضَمِنَ فَإِنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ بِمَا ضَمِنَ لَا بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ.

(قَوْلُهُ: بِمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَوَالَةِ) قِيلَ يُرِيدُ بِهِ حَوَالَةَ كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ) جَوَابُ دَخَلَ تَقْرِيرُهُ: الْكَفِيلُ لَا يَرْجِعُ إلَّا إذَا أَدَّى بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدُّيُونِ وَالْمَأْمُورُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى فَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ، وَتَوْجِيهُهُ أَنْ يُقَالَ الْمَأْمُورُ بِقَضَاءِ الدُّيُونِ لَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَى الْآمِرِ شَيْءٌ حَيْثُ لَمْ يُلْزَمْ بِالْكَفَالَةِ فَلَا يُمْلَكُ الدَّيْنُ بِالْأَدَاءِ حَتَّى يُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ فَيَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ، وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ بِحُكْمِ الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِمَا، فَلَوْ أَدَّى الزُّيُوفَ عَلَى الْجِيَادِ وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ رَجَعَ بِهَا دُونَ الْجِيَادِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ عَكَسَ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا بِهَا، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: رَجَعَ بِمَا أَدَّى بِإِطْلَاقِهِ فِيهِ تَسَامُحٌ، وَأَمَّا إذَا صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ الدَّيْنِ فَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهَا أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ الدَّيْنِ كَمَا إذَا صَالَحَ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَفِيهِ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى لَا بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَكَانَ إبْرَاءً فِيمَا وَرَاءَ بَدَلِ الصُّلْحِ، وَفِيهِ لَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ. وَالثَّانِي أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى جِنْسٍ لِآخَرَ وَفِيهِ تَمَلُّكُ الدَّيْنِ فَيَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ وَسَيَأْتِي.

قَالَ (وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِالْمَالِ) الْكَفِيلُ بِالْمَالِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ بِهِ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْمُطَالَبَةِ هُوَ التَّمْلِيكُ وَهُوَ

ص: 191

قَالَ (فَإِنْ لُوزِمَ بِالْمَالِ كَانَ لَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ حَتَّى يُخَلِّصَهُ) وَكَذَا إذَا حُبِسَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ مَا لَحِقَهُ مِنْ جِهَتِهِ فَيُعَامِلُهُ بِمِثْلِهِ

(وَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَوْ اسْتَوْفَى مِنْهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ) لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ

لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَانْتَفَى الْمُوجِبُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَيْثُ يَرْجِعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ قَدْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ حَيْثُ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا: أَيْ بَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ مُبَادَلَةً حُكْمِيَّةً، وَلِهَذَا وَجَبَ التَّحَالُفُ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ، وَلِلْوَكِيلِ وِلَايَةُ حَبْسِ الْمُشْتَرِي عَنْ الْمُوَكِّلِ لِأَجْلِ الثَّمَنِ كَالْبَائِعِ، وَالْمُبَادَلَةُ تُوجِبُ الْمِلْكَ الْمُوجِبَ لِجَوَازِ الْمُطَالَبَةِ.

قَالَ (فَإِنْ لُوزِمَ بِالْمَالِ إلَخْ) إذَا لُوزِمَ الْكَفِيلُ لَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ مِثْلُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ، وَكَذَا إذَا حَبَسَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ لَهُ حَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ قَبْلَ الْأَدَاءِ. وَقُلْنَا هُوَ مُوَرِّطٌ فَعَلَيْهِ الْخَلَاصُ.

فَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَوْ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ، وَإِبْرَاءُ الْأَصِيلِ يَسْتَلْزِمُ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِوُجُودِ الدَّيْنِ وَقَدْ سَقَطَ بِالْإِبْرَاءِ فَلَمْ تَبْقَ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا الْمُطَالَبَةُ وَقَدْ انْتَهَتْ بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهَا. وَقَوْلُهُ: فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ بِوُجُوبِ أَصْلِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ أَيْضًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ.

وَيُعَلَّلُ بِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ، وَقَدْ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْ الْأَصِيلِ بِالْأَدَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ فَيَسْقُطُ عَنْ الْكَفِيلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْكَفِيلِ فَرْعُ وُجُوبِهِ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ فَلَا يَبْقَى هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُمْ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا شُرِطَ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ فِي ابْتِدَاءِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ وَلَمْ تُوجِبْ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ. قُلْنَا: لَا نَقْضَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّا قُلْنَا إنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ، وَإِذَا شُرِطَ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ فِي ابْتِدَاءِ الْكَفَالَةِ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ كَفِيلٌ، بَلْ الْبَاقِي إذْ ذَاكَ مُحَالٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ نَقُلْ بِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ

ص: 192

(وَإِنْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ لَمْ يَبْرَأْ الْأَصِيلُ عَنْهُ) لِأَنَّهُ تَبَعٌ، وَلِأَنَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ وَبَقَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْأَصِيلِ بِدُونِهِ جَائِزٌ (وَكَذَا إذَا أَخَّرَ الطَّالِبُ عَنْ الْأَصِيلِ فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْ الْكَفِيلِ، وَلَوْ أَخَّرَ عَنْ الْكَفِيلِ لَمْ يَكُنْ تَأْخِيرًا عَنْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ) لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إبْرَاءٌ مُوَقَّتٌ فَيُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ الْمُؤَبَّدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ بِالْمَالِ الْحَالِّ مُؤَجَّلًا إلَى شَهْرٍ فَإِنَّهُ يَتَأَجَّلُ عَنْ الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الدَّيْنُ حَالَ وُجُودِ الْكَفَالَةِ فَصَارَ الْأَجَلُ دَاخِلًا فِيهِ، أَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ.

(وَإِنْ أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ لَمْ يَبْرَأْ الْأَصِيلُ)؛ لِأَنَّ عَلَى الْكَفِيلِ الْمُطَالَبَةَ دُونَ أَصْلِ الدَّيْنِ، وَسُقُوطُ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ أَصْلِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْأَصِيلِ بِدُونِ الطَّلَبِ أَوْ بِدُونِ الْكَفِيلِ جَائِزٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ مَا سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْ الْأَصِيلِ (وَإِنْ أَخَّرَ الطَّالِبُ عَنْ الْأَصِيلِ فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْ كَفِيلِهِ، وَإِنْ أَخَّرَ عَنْ كَفِيلِهِ لَا يَكُونُ تَأْخِيرًا عَنْ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إبْرَاءٌ مُوَقَّتٌ) لِإِسْقَاطِ الْمُطَالَبَةِ إلَى غَايَةٍ (فَيُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ الْمُؤَبَّدِ) وَرُدَّ بِأَنَّ هَذَا اعْتِبَارٌ مَعَ عَدَمِ التَّسَاوِي وَهُوَ بَاطِلٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفِيلَ لَوْ رَدَّ الْإِبْرَاءَ الْمُؤَبَّدَ لَمْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ بَلْ يَثْبُتُ الْإِبْرَاءُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ، وَلَوْ رَدَّ الْإِبْرَاءَ الْمُوَقَّتَ ارْتَدَّ بِالرَّدِّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَا ضَمِنَهُ حَالًّا. وَالْجَوَابُ أَنَّ اعْتِبَارَ شَيْءٍ بِغَيْرِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَاوِيَ بَيْنَهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِلَّا لَا يَبْقَى الِاعْتِبَارُ.

نِعْمَ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ فَارِقٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهِ بَيْنَ قَبُولِ أَحَدِهِمَا الرَّدَّ دُونَ الْآخَرِ، وَهُوَ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ الْإِبْرَاءَ الْمُؤَبَّدَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ لَا تَمْلِيكَ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا مُجَرَّدُ مُطَالَبَةٍ، وَالْإِسْقَاطُ الْمَحْضُ لَا يَقْبَلُ الرَّدَّ كَإِسْقَاطِ الْخِيَارِ، وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ الْمُوَقَّتُ فَهُوَ تَأْخِيرُ مُطَالَبَةٍ لَيْسَ فِيهِ إسْقَاطٌ وَلِهَذَا يَعُودُ بَعْدَ الْأَجَلِ، وَالتَّأْخِيرُ قَابِلٌ لِلرَّدِّ. (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ دَخَلَ. تَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ الْكَفِيلِ لَا يَكُونُ تَأْخِيرًا عَنْ الْأَصِيلِ، فَإِنَّ الْكَفِيلَ إذَا كَفَلَ بِالْمَالِ الْحَالِّ مُؤَجَّلًا إلَى شَهْرٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَأْخِيرًا عَنْ الْأَصِيلِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَأْخِيرٍ عَنْ الْكَفِيلِ بَلْ هُوَ تَأْخِيرٌ لِأَصْلِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ التَّأْجِيلَ فِي ابْتِدَاءِ الْكَفَالَةِ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ حَقٌّ لِلطَّالِبِ سِوَى الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ الْحَاصِلَةَ بِالْكَفَالَةِ لَمْ تَثْبُتْ بَعْدَ تَعَيُّنِ تَأْخِيرِهِ، وَإِذَا كَانَ تَأْخِيرُ أَصْلِ الدَّيْنِ وَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ تَأَخَّرَ عَنْهُ وَعَنْ الْكَفِيلِ جَمِيعًا. (أَمَّا هَاهُنَا)

ص: 193

قَالَ (فَإِنْ صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ الْمَالِ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَقَدْ بَرِئَ الْكَفِيلُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الصُّلْحَ إلَى الْأَلْفِ الدَّيْنِ وَهِيَ عَلَى الْأَصِيلِ فَبَرِئَ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ، ثُمَّ بَرِئَا جَمِيعًا عَنْ خَمْسِمِائَةٍ بِأَدَاءِ الْكَفِيلِ، وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَمَلَكَهُ فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ، وَلَوْ كَانَ صَالَحَهُ عَمَّا اسْتَوْجَبَ بِالْكَفَالَةِ لَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ؛ لِأَنَّ هَذَا إبْرَاءُ الْكَفِيلِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ.

أَيْ فِيمَا إذَا حَلَّ بَعْدَ الْكَفَالَةِ فَإِنَّمَا كَانَ لِلتَّأْخِيرِ الْمُطَالَبَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْكَفَالَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَأْخِيرُ أَصْلِ الدَّيْنِ.

قَالَ (فَإِنْ صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ الْمَالِ إلَخْ) مُصَالَحَةُ الْكَفِيلِ رَبَّ الْمَالِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الدَّيْنِ بِجِنْسِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: هُوَ أَنْ يُشْتَرَطَ بَرَاءَتُهُمَا جَمِيعًا، أَوْ بَرَاءَةُ الْمَطْلُوبِ خَاصَّةً، أَوْ بَرَاءَةُ الْكَفِيلِ خَاصَّةً، أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. فَفِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بَرِئَا جَمِيعًا، وَفِي الثَّالِثِ بَرِئَ الْكَفِيلُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ لَا غَيْرُ وَالْأَلْفُ بِحَالِهِ عَلَى الْأَصِيلِ وَالطَّالِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ جَمِيعَ دَيْنِهِ مِنْ الْأَصِيلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الْكَفِيلِ وَخَمْسَمِائَةٍ مِنْ الْأَصِيلِ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا أَدَّى إنْ كَانَ الصُّلْحُ وَالْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ. وَفِي الرَّابِعِ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَإِنْ قَالَ الْكَفِيلُ لِلطَّالِبِ صَالَحْتُك عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ بَرِئَا جَمِيعًا عَنْ خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الصُّلْحِ إلَى الْأَلْفِ إضَافَةٌ إلَى مَا عَلَى الْأَصِيلِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ سِوَى الْمُطَالَبَةِ فَيَبْرَأُ الْأَصِيلُ مِنْ ذَلِكَ، وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ بَرِئَا

ص: 194

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِكَفِيلٍ ضَمِنَ لَهُ مَالًا قَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الْمَالِ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) مَعْنَاهُ بِمَا ضَمِنَ لَهُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الَّتِي ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ وَانْتِهَاؤُهَا إلَى الطَّالِبِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْإِيفَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا إقْرَارًا بِالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُ (وَإِنْ قَالَ أَبْرَأْتُك لَمْ يَرْجِعْ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) لِأَنَّهُ بَرَاءَةٌ لَا تَنْتَهِي إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ بِالْإِسْقَاطِ فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِالْإِيفَاءِ.

وَلَوْ قَالَ بَرِئْت قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله هُوَ مِثْلُ الثَّانِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ وَالْإِبْرَاءِ فَيَثْبُتُ الْأَدْنَى إذْ لَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِالشَّكِّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: هُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَرَاءَةٍ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ وَإِلَيْهِ

جَمِيعًا عَنْ خَمْسِمِائَةٍ بِأَدَاءِ الْكَفِيلِ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى هَذَا الْقَدْرَ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ قَالَ صَالَحْتُك عَمَّا اُسْتُوْجِبَ بِالْكَفَالَةِ كَانَ فَسْخًا لِلْكَفَالَةِ لَا إسْقَاطًا لِأَصْلِ الدَّيْنِ فَيَأْخُذُ الطَّالِبُ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الْكَفِيلِ إنْ شَاءَ وَالْبَاقِيَ مِنْ الْأَصِيلِ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا أَدَّى وَمُصَالَحَتُهُ إيَّاهُ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ تَمْلِيكٌ لِأَصْلِ الدَّيْنِ مِنْهُ بِالْمُبَادَلَةِ فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَعَلَ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ لِتَصِيرَ الدَّنَانِيرُ بَدَلًا مِنْ الدَّيْنِ وَيَكُونَ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَتَكُونَ الْبَرَاءَةُ مَشْرُوطَةً لِلْكَفِيلِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ خَمْسُمِائَةٍ بَدَلًا عَنْ الْأَلْفِ لِكَوْنِهِ رِبًا فَيَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَالْبَرَاءَةُ مَشْرُوطَةٌ لَهُ، وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ فَيَبْرَآنِ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ إذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا.

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِكَفِيلٍ ضَمِنَ لَهُ مَالًا إلَخْ) ذَكَرَ هَاهُنَا ثَلَاثَ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْإِبْرَاءِ: إحْدَاهَا مَا ذُكِرَ فِيهِ ابْتِدَاءُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْمَطْلُوبِ وَانْتِهَاؤُهَا إلَى الطَّالِبِ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يُذْكَرَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الطَّالِبِ، وَالثَّالِثَةُ بِالْعَكْسِ. فَالْأُولَى أَنْ يَقُولَ لِكَفِيلٍ ضَمِنَ لَهُ بِأَمْرِهِ مَالًا قَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الْمَالِ، وَفِيهَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ الَّتِي يَكُونُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ: أَيْ الْكَفِيلِ وَانْتِهَاؤُهَا إلَى الطَّالِبِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْإِيفَاءِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ دَفَعْت إلَيَّ الْمَالِ أَوْ قَبَضْته مِنْك وَهُوَ إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ لِرَبِّ الدَّيْنِ مُطَالَبَةٌ مِنْ الْكَفِيلِ وَلَا مِنْ الْأَصِيلِ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ.

وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَقُولَ أَبْرَأْتُك وَفِيهَا لَا رُجُوعَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَكِنْ لِرَبِّ الدَّيْنِ أَنْ يَطْلُبَ مَالَهُ مِنْ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بَرَاءَةٌ لَا تَنْتَهِي إلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بِالْإِسْقَاطِ فَلَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْإِيفَاءِ وَهَاتَانِ بِالِاتِّفَاقِ. وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ بَرِئْت وَلَا يَزِيدَ عَلَيْهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: هُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَبْرَأْتُك؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ بِالْأَدَاءِ وَالْبَرَاءَةَ بِالْإِبْرَاءِ، وَالثَّانِيَةُ أَدْنَاهُمَا فَتَثْبُتُ (قَوْلُهُ: وَلَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِالشَّكِّ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا آخَرَ،

ص: 195

الْإِيفَاءُ دُونَ الْإِبْرَاءِ. وَقِيلَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الطَّالِبُ حَاضِرًا يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمَلُ.

وَتَوْجِيهُهُ أَنْ يُقَالَ تَيَقَّنَّا بِحُصُولِ الْبَرَاءَةِ بِأَيِّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ وَشَكَكْنَا فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ إنْ كَانَتْ بِالْأَدَاءِ رَجَعَ الْكَفِيلُ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْإِبْرَاءِ لَمْ يَرْجِعْ فَلَا يَرْجِعُ بِالشَّكِّ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ بَرِئْت إلَيَّ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَرَاءَةٍ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ حَرْفَ الْخِطَابِ وَهُوَ التَّاءُ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِفِعْلٍ يُضَافُ إلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ كَمَا إذَا قِيلَ قُمْت وَقَعَدْت مَثَلًا وَهُوَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْإِيفَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَضَعُ الْمَالَ بَيْنَ يَدَيْ الطَّالِبِ وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَالِ فَتَقَعُ الْبَرَاءَةُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الطَّالِبِ صُنْعٌ؛ فَأَمَّا الْبَرَاءَةُ بِالْإِبْرَاءِ فَمِمَّا لَا يُوجَدُ بِفِعْلِ الْكَفِيلِ لَا مَحَالَةَ. وَقِيلَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ اخْتَارَهُ فَأَخَّرَهُ وَهُوَ أَقْرَبُ الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ أَوْلَى. وَقِيلَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الطَّالِبُ حَاضِرًا يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمِلُ، وَأَمَّا إذَا كَانَ غَائِبًا فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ.

وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا هُوَ أَنَّ الْمُجْمَلَ مَا لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بِبَيَانِ الْمُجْمِلِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُمْكِنٌ. وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَ الْمُجْمَلِ التَّوَقُّفُ قَبْلَ الْبَيَانِ، وَهَاهُنَا قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُجْمَلًا مَعَ انْتِفَاءِ لَازِمِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ بَرِئْت إلَيَّ وَإِنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ فِي حَقِّ إيفَاءٍ لِلْكَفِيلِ وَقَبْضِ الطَّالِبِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهِ بَلْ هُوَ قَابِلٌ لِلِاسْتِعَارَةِ بِأَنْ يُقَالَ بَرِئْت إلَيَّ؛ لِأَنِّي أَبْرَأْتُك، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ الِاسْتِعْمَالِ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي تَعْلِيلِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ اسْتِدْلَالِيٌّ لَا صَرِيحٌ فِي الْإِيفَاءِ وَغَيْرِ الْإِيفَاءِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْعَمَلِ بِالنَّصِّ، فَلَمَّا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِصَرِيحِ الْبَيَانِ مِنْ الطَّالِبِ فِي ذَلِكَ سَقَطَ الْعَمَلُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَإِنْ كَانَ وَاضِحًا فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمُرَادِ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ صَرِيحٍ فِي الْإِيفَاءِ وَالْإِبْرَاءِ هُوَ الَّذِي سَوَّغَ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْمُجْمَلِ، وَالرُّجُوعُ إلَى بَيَانِ الطَّالِبِ صَرِيحًا وَقْتَ حُضُورِهِ لِيَكُونَ الْعَمَلُ بِهِ عَمَلًا بِدَلِيلٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَهَذَا تَطْوِيلٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمُجْمَلِ الْمُجْمَلَ الِاصْطِلَاحِيَّ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ

ص: 196

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبَرَاءَاتِ. وَيُرْوَى أَنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ دُونَ الدَّيْنِ فِي الصَّحِيحِ فَكَانَ إسْقَاطًا مَحْضًا كَالطَّلَاقِ، وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْكَفِيلِ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ إبْرَاءِ الْأَصِيلِ.

قَالَ (وَكُلُّ حَقٍّ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) مَعْنَاهُ بِنَفْسِ الْحَدِّ لَا بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ إيجَابُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ لَا تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ.

الْمُجْمَلَ اللُّغَوِيَّ وَهُوَ مَا كَانَ فِيهِ إبْهَامٌ فَالْخَطْبُ إذًا يَهُونُ هَوْنًا.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ إلَخْ) تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ الْكَفَالَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِإِسْقَاطٍ مَحْضٍ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبَرَاءَاتِ، وَالتَّعْلِيقُ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْإِسْقَاطِ الْمَحْضِ. وَرُدَّ بِمَا لَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ وَبِالنَّفْسِ وَقَالَ إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ فَوَافَاهُ مِنْ الْغَدِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ فَقَدْ جُوِّزَ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بِمُوَافَاةِ الْمَكْفُولِ بِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْإِيضَاحِ. وَيُرْوَى أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا إسْقَاطٌ مَحْضٌ كَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ عَلَى الْكَفِيلِ الْمُطَالَبَةَ دُونَ الدَّيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْكَفِيلِ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ إبْرَاءِ الْأَصِيلِ وَالْإِسْقَاطُ الْمَحْضُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ. وَقِيلَ فِي وَجْهِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ إنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ الشَّرْطُ شَرْطًا مَحْضًا لَا مَنْفَعَةَ لِلطَّالِبِ فِيهِ أَصْلًا كَقَوْلِهِ إذَا جَاءَ غَدٌ وَنَحْوُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ لَيْسَ لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِشَرْطٍ فِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ وَلَهُ تَعَامُلٌ فَتَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِهِ صَحِيحٌ كَالْمَسْأَلَةِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ الْإِيضَاحِ فَإِنَّ الطَّالِبَ لَهُ فِيهِ نَفْعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْرَاءِ بَعْضٍ وَاسْتِيفَاءِ بَعْضٍ وَمِثْلُهُ مُتَعَامَلٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إذَا قَالَ عَجِّلْ خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنِّي أَبْرَأْتُك مِنْ الْبَاقِي كَانَ صَحِيحًا، وَإِنْ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ عَلَى الْبَعْضِ بِتَعْجِيلِ الْبَعْضِ فَرِوَايَةُ عَدَمِ الْجَوَازِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الشَّرْطُ شَرْطًا مَحْضًا غَيْرَ مُتَعَامَلٍ وَرِوَايَةُ الْجَوَازِ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ.

قَالَ (وَكُلُّ حَقٍّ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ إلَخْ) ذَكَرَ ضَابِطًا لِمَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا يُمْكِنُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ إمْكَانَ الضَّرْبِ أَوْ حَزِّ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِمُنْتَفٍ لَا مَحَالَةَ لَكِنَّهُ لَا يَصِحُّ شَرْعًا، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِعَدَمِ الْإِمْكَانِ مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ الصِّحَّةِ، فَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ آخَرَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لَمْ تَصِحَّ كَفَالَتُهُ حَيْثُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَعْتَمِدُ الْإِيجَابَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ. إذْ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ أَصَالَةً وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ، أَوْ نِيَابَةً وَهِيَ لَا تَجْرِي فِي الْعُقُوبَاتِ. قَالُوا:؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الزَّجْرُ وَهُوَ بِالْإِقَامَةِ عَلَى النَّائِبِ لَا يَحْصُلُ وَفِيهِ تَشْكِيكٌ، وَهُوَ أَنَّ الزَّجْرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْجَانِي بِأَنْ لَا يَعُودَ إلَى مِثْلِ مَا فَعَلَ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ كَمَا

ص: 197

قَالَ (وَإِذَا تَكَفَّلَ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ جَازَ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ (وَإِنْ تَكَفَّلَ عَنْ الْبَائِعِ بِالْمَبِيعِ لَمْ تَصِحَّ) لِأَنَّهُ عَيْنُ مَضْمُونٍ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْكَفَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، لَكِنْ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا كَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمَغْصُوبِ، لَا بِمَا كَانَ مَضْمُونًا بِغَيْرِهِ

تَرَى بَعْضَ الْمُتَهَتِّكِينَ يَعُودُونَ إلَى الْجِنَايَةِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَقَدْ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْإِقَامَةِ عَلَى النَّائِبِ هَذَا فِي الْحُدُودِ وَأَمَّا فِي الْقِصَاصِ فَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ قَطْعًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَصْلًا لَا مَحَالَةَ. وَالثَّانِي كَمَا فِي الْحَدِّ وَلَعَلَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ أَوْلَى، فَإِنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِ خِلَافٌ فِي جَرَيَانِهَا فِي الْعُقُوبَاتِ فَيَكُونُ التَّشْكِيكُ حِينَئِذٍ تَشْكِيكًا فِي الْمُسَلَّمَاتِ وَهُوَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ.

قَالَ (وَإِذَا تَكَفَّلَ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ جَازَ إلَخْ) الْكَفَالَةُ بِالثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ صَحِيحٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذِكْرُهُ تَمْهِيدًا لِذِكْرِ الْكَفَالَةِ بِالْمَبِيعِ وَالْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَعْيَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوَازِ الْكَفَالَةِ بِهَا تَنْقَسِمُ بِالْقِسْمَةِ الْأَوَّلِيَّةِ إلَى مَا هُوَ أَمَانَةٌ لَا يُضْمَنُ كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ، وَإِلَى مَا هُوَ مَضْمُونٌ. ثُمَّ الْمَضْمُونُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ مَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ وَالْمَرْهُونِ، وَإِلَى مَا هُوَ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ كَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمَغْصُوبُ وَالْكَفَالَةُ بِهَا كُلِّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ بِذَوَاتِهَا أَوْ بِتَسْلِيمِهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ فِيمَا يَكُونُ أَمَانَةً أَوْ مَضْمُونًا بِالْغَيْرِ، وَتَصِحُّ فِيمَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَعَلَى هَذَا لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْمَبِيعِ عَنْ الْبَائِعِ بِأَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ لِلْمُشْتَرِي إنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فَعَلَيَّ بَدَلُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ، وَلَا بِالْمَرْهُونِ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ، وَلَا الْوَدِيعَةِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ. وَتَجُوزُ فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمَغْصُوبِ. وَيَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ مَادَامَ قَائِمًا، وَتَسْلِيمُ قِيمَتِهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ مَضْمُونَةٌ بِعَيْنِهَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَجِبَ قِيمَتُهَا عِنْدَ الْهَلَاكِ، وَمَا لَمْ تَجِبْ قِيمَتُهُ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ كَمَا مَرَّ، وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله الْكَفَالَةَ بِالْأَعْيَانِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ مُوجِبَ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ أَصْلِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ فَكَانَ مَحَلُّهَا الدُّيُونَ دُونَ الْأَعْيَانِ، وَأَنَّ شَرْطَ صِحَّتِهَا قُدْرَةُ الْكَفِيلِ عَلَى الْإِيفَاءِ مِنْ عِنْدِهِ وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي الدُّيُونِ دُونَ

ص: 198

كَالْمَبِيعِ وَالْمَرْهُونِ، وَلَا بِمَا كَانَ أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ. وَلَوْ كَفَلَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ جَازَ

الْأَعْيَانِ. وَقُلْنَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا إنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَالْمُطَالَبَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ لَا مَحَالَةَ، وَالْأَمَانَاتُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَالْمَضْمُونُ بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ الْمَضْمُونِ بِالثَّمَنِ، وَالْمَرْهُونُ الْمَضْمُونُ بِالدَّيْنِ وَالْقِيمَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ وَلَا تَلْزَمُهُ مُطَالَبَتُهُ فَلَا تُتَصَوَّرُ الْكَفَالَةُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: أَعْنِي الْكَفَالَةَ بِتَسْلِيمِ الْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ، فَمَا كَانَ مَضْمُونًا بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ إذَا كَفَلَ بِتَسْلِيمِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ بَعْدَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَالْمَرْهُونُ إذَا كَفَلَ عَنْ الْمُرْتَهِنِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الرَّاهِنِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمُرْتَهِنِ الدَّيْنَ جَازَ.

وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْكَفَالَةَ عَنْ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّاهِنِ لَا تَصِحُّ سَوَاءٌ حَصَلَتْ الْكَفَالَةُ بِعَيْنِ الرَّهْنِ أَوْ بِرَدِّهِ حَتَّى قَضَى الدَّيْنَ، وَلَعَلَّ مَحْمَلَهُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ وَوَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الثَّمَنِ، وَالْكَفِيلُ لَا يَضْمَنُ الثَّمَنَ، وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ إنْ كَانَ بِمِقْدَارِ الدَّيْنِ أَوْ زَائِدًا عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِيَّتِهِ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَلَا ضَمَانَ فِيهَا. وَمَا كَانَ أَمَانَةً فَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبِ التَّسْلِيمِ كَالْوَدِيعَةِ وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا عَدَمُ الْمَنْعِ عِنْدَ الطَّلَبِ لَا التَّسْلِيمِ، وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِهِ لِعَدَمِ وُجُوبِهِ، كَمَا لَا تَجُوزُ بِعَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ التَّسْلِيمِ كَالْمُسْتَأْجَرِ بِفَتْحِ الْجِيمِ إذَا ضَمِنَ رَجُلٌ تَسْلِيمَهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً وَعَجَّلَ الْأَجْرَ وَلَمْ يَقْبِضْهَا وَكَفَلَ لَهُ بِذَلِكَ كَفِيلٌ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَالْكَفِيلُ مُؤَاخَذٌ بِتَسْلِيمِهَا مَا دَامَتْ حَيَّةً فَإِنْ هَلَكَتْ فَلَيْسَ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ انْفَسَخَتْ وَخَرَجَ الْأَصِيلُ عَنْ كَوْنِهِ مُطَالَبًا بِتَسْلِيمِهَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ رَدُّ الْأَجْرِ وَالْكَفِيلِ مَا كَفَلَ بِهِ، وَتَرَكَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله ذِكْرَ الْمُسْتَعَارِ كَمَا تَرَكَ ذِكْرَ الْوَدِيعَةِ إشَارَةً إلَى عَدَمِ جَوَازِهِ، وَأَظُنُّهُ تَابَعَ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ: الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِ الْعَارِيَّةُ بَاطِلَةٌ، قِيلَ وَهَذَا لَيْسَ بِصَوَابٍ، فَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْجَامِعِ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِتَسْلِيمِ الْعَارِيَّةِ صَحِيحَةٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ لَيْسَ مِمَّنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْجَامِعِ بَلْ لَعَلَّهُ قَدْ اطَّلَعَ

ص: 199

لِأَنَّهُ الْتَزَمَ فِعْلًا وَاجِبًا.

قَالَ (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ بِعَيْنِهَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ) لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهُ (وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ وَالْحَمْلُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ (وَكَذَا مَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِخِدْمَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ) لِمَا بَيَّنَّا.

عَلَى رِوَايَةٍ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فَاخْتَارَهَا (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ الْتَزَمَ فِعْلًا وَاجِبًا) دَلِيلٌ لِمَا ذَكَرَهُ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يَكُونُ وَاجِبَ التَّسْلِيمِ وَمَا لَا يَكُونُ. كَمَا فَصَّلْنَاهُ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ) عُلِمَ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مُعَيَّنَةً لِلْحَمْلِ فَكَفَلَ بِتَسْلِيمِهَا رَجُلٌ صَحَّتْ لِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ لِلْحَمْلِ فَكَفَلَ رَجُلٌ بِالْحَمْلِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ الْحَمْلُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ بِالْحَمْلِ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا مُعَيَّنَةً لِلْحَمْلِ فَكَفَلَ بِالْحَمْلِ لَمْ يَصِحَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْكَفِيلَ (عَاجِزٌ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ الْمُعَيَّنَةَ لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ، وَالْحَمْلُ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ لَيْسَ بِحَمْلٍ عَلَى تِلْكَ الدَّابَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مِلْكَ الْغَيْرِ لَوْ مَنَعَ صِحَّتَهَا لَمَا صَحَّتْ بِالْأَعْيَانِ مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهَا فِي الْأَعْيَانِ مُطْلَقًا، وَمَا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ جَوَابًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَهُوَ قَوْلُهُ: تَسْلِيمُ مَا الْتَزَمَهُ مُتَصَوَّرٌ فِي الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ فِي الْجُمْلَةِ فَصَحَّ الْتِزَامُهُ؛ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ بِعَقْدِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّصَوُّرُ غَيْرَ دَافِعٍ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ مَا الْتَزَمَهُ مُتَصَوَّرٌ فِي الْجُمْلَةِ فَكَانَ الْوَاجِبُ صِحَّتَهَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا (وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ لِلْخِدْمَةِ فَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِخِدْمَتِهِ لَمْ تَصِحَّ لِمَا بَيَّنَّا)

ص: 200

قَالَ (وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله آخِرًا: يَجُوزُ إذَا بَلَغَهُ أَجَازَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْإِجَازَةَ، وَالْخِلَافُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا. لَهُ أَنَّهُ تَصَرُّفُ الْتِزَامٍ فَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ، وَهَذَا وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ. وَوَجْهُ التَّوَقُّفِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفُضُولِيِّ

أَنَّهُ عَاجِزٌ عَمَّا كَفَلَ بِهِ.

قَالَ (وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ إلَخْ) لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، وَقَالَ آخِرًا: تَجُوزُ إذَا أَجَازَ حِينَ بَلَغَهُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْإِجَازَةَ. قِيلَ: أَيْ نُسَخِ كَفَالَةِ الْمَبْسُوطِ. وَفِيهِ تَنْوِيهٌ بِأَنَّ نُسَخَ كَفَالَةِ الْمَبْسُوطِ لَمْ تَتَعَدَّدْ وَإِنَّمَا هِيَ نُسْخَةٌ وَاحِدَةٌ، فَالْمَوْجُودُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى تَرْكِهِ فِي بَعْضٍ أَوْ زِيَادَتِهِ فِي آخَرَ، وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ، ثُمَّ قَالَ: وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ، فَشَرَطَ الْإِجَازَةَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِ نُسَخِ الْمَبْسُوطِ، وَهَذَا الْخِلَافُ ثَابِتٌ بَيْنَهُمْ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا. لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي وَجْهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي لَمْ تَشْتَرِطْ الْإِجَازَةَ فِيهَا أَنَّهُ تَصَرُّفُ الْتِزَامٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَسْتَبِدُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ كَالْإِقْرَارِ وَالنَّذْرِ فَهَذَا يَسْتَبِدُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ وَمُنِعَ كَوْنُهُ الْتِزَامًا فَقَطْ، وَبِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ وَاجِبٍ سَابِقٍ وَالْإِخْبَارُ يَتِمُّ بِالْمُخْبَرِ وَالنَّذْرُ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَمَنْ لَهُ الْعِبَادَاتُ لَا يَشْتَرِطُ قَبُولَهُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ.

وَلَهُ فِي وَجْهٍ رِوَايَةُ التَّوَقُّفِ عَلَى الْإِجَازَةِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُ الْوَاحِدِ كَالْعَقْدِ التَّامِّ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي هَذَا التَّوَقُّفِ عَلَى أَحَدٍ، وَمَنْعُ

ص: 201

فِي النِّكَاحِ. وَلَهُمَا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ فَيَقُومُ بِهِمَا جَمِيعًا وَالْمَوْجُودُ شَطْرُهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ (إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ تَكَفَّلْ عَنِّي بِمَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَكَفَلَ بِهِ مَعَ غَيْبَةِ الْغُرَمَاءِ جَازَ) لِأَنَّ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا تَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمَكْفُولَ لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّمَا تَصِحُّ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ يُقَالُ إنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الطَّالِبِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ تَفْرِيغًا لِذِمَّتِهِ وَفِيهِ نَفْعُ الطَّالِبِ فَصَارَ كَمَا إذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ،

عَدَمِ الضَّرَرِ بِجَوَازِ رَفْعِ الْأَمْرِ إلَى قَاضٍ يَرَى بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ عَنْ حَقِّ الطَّالِبِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْكَفَالَةَ إذَا صَحَّتْ بَرِئَ الْأَصِيلُ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الطَّالِبِ. وَلَهُمَا أَنَّ فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَمْلِيكَ الْمُطَالَبَةِ مِنْ الطَّالِبِ فَلَا يَتِمُّ بَعْدَ الْإِيجَابِ إلَّا بِالْقَبُولِ، وَالْمَوْجُودُ شَطْرُ الْعَقْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَبِلَهُ عَنْ الطَّالِبِ فُضُولِيٌّ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ لِوُجُودِ شَطْرَيْهِ.

قَالَ (إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَخْ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ عَدَمُهَا لِمَا مَرَّ أَنَّ الطَّالِبَ غَيْرُ حَاضِرٍ فَلَا يَتِمُّ الضَّمَانُ إلَّا بِقَبُولِهِ، وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَا الْمَرِيضُ. وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ إذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ تَكَفَّلْ عَنِّي بِمَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَوْفِ عَنِّي دَيْنِي وَذَلِكَ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمَكْفُولَ لَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ لَهُ تُفْسِدُ الْكَفَالَةَ، وَلِهَذَا قَالَ الْمَشَايِخُ: إنَّمَا تَصِحُّ هَذِهِ الْكَفَالَةُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ عِنْدَ الْمَوْتِ تَصْحِيحًا لِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا لَا يَكُونُ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطًا. قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى

ص: 202

وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ دُونَ الْمُسَاوَمَةِ ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَصَارَ كَالْأَمْرِ بِالنِّكَاحِ، وَلَوْ قَالَ الْمَرِيضُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ.

الْوَصِيَّةِ لَا أَنَّهُ وَصِيَّةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بَيْنَ حَالَةِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ.

وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ فِيمَا إذَا دَلَّ لَفْظٌ بِظَاهِرِهِ عَلَى مَعْنًى وَإِذَا نَظَرَ فِي مَعْنَاهُ يَئُولُ إلَى مَعْنًى آخَرَ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ أَوْ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَرِيضَ قَائِمٌ مَقَامَ الطَّالِبِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ: أَيْ إلَى قِيَامِهِ مَقَامَهُ لِوُجُودِ مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ نَفْعِ الْمَرِيضِ بِتَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ بِوُجُودِ مَا يُنَافِيهِ مِنْ نَفْعِ الطَّالِبِ فَصَارَ كَأَنَّ الطَّالِبَ قَدْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَقَالَ لِلْوَارِثِ تَكَفَّلْ عَنْ أَبِيك لِي. فَإِنْ قِيلَ: قِيَامُهُ مَقَامَ الطَّالِبِ وَحُضُورُهُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ وَإِنَّمَا هُوَ اشْتِرَاطُ الْقَبُولِ وَهُوَ لَيْسَ بِشَرْطٍ هَاهُنَا. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ) أَيْ الْمَرِيضُ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ تَكَفَّلْ عَنِّي تَحْقِيقَ الْكَفَالَةِ لَا الْمُسَاوَمَةَ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ حَالَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا فَصَارَ كَالْأَمْرِ بِالنِّكَاحِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَةٍ زَوِّجِينِي نَفْسَك فَقَالَتْ زَوَّجْت فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمَا زَوَّجْت وَقَبِلْت، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ صَرِيحُ الْقَبُولِ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَتَمْثِيلُهُ بِالْأَمْرِ بِالنِّكَاحِ يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ لَفْظٍ وَاحِدٍ مَقَامَهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَسْلَكَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

قَالَ (وَلَوْ قَالَ الْمَرِيضُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ إلَخْ) إذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِأَجْنَبِيٍّ تَكَفَّلْ عَنِّي بِمَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَفَعَلَ الْأَجْنَبِيُّ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصَحِّحْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ لَا فِي الْحَيَاةِ وَلَا بَعْدَ مَوْتِهِ بِدُونِ الِالْتِزَامِ فَكَانَ الْمَرِيضُ وَالصَّحِيحُ فِي حَقِّهِ سَوَاءً، وَلَوْ قَالَ الصَّحِيحُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ لِوَارِثِهِ لَمْ يَصِحَّ بِدُونِ قَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ، فَكَذَا الْمَرِيضُ. وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهُ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ قَصَدَ بِهِ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ

ص: 203

قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَتَكَفَّلَ عَنْهُ رَجُلٌ لِلْغُرَمَاءِ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: تَصِحُّ) لِأَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِحَقِّ الطَّالِبِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمُسْقِطُ وَلِهَذَا يَبْقَى فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَلَوْ تَبَرَّعَ بِهِ إنْسَانٌ يَصِحُّ، وَكَذَا يَبْقَى إذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ مَالٌ. وَلَهُ أَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ

وَالْأَجْنَبِيُّ إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ فِي تَرِكَتِهِ فَيَصِحُّ هَذَا مِنْ الْمَرِيضِ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ قَائِمًا مَقَامَ الطَّالِبِ لِتَضَيُّقِ الْحَالِ عَلَيْهِ بِمَرَضِ الْمَوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ مِنْ الصَّحِيحِ فَتَرَكْنَاهُ عَلَى الْقِيَاسِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ كَمَا هُوَ الْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ، وَلِهَذَا جَازَ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ، وَجَوَازُ ذَلِكَ فِي الْمَرَضِ لِلضَّرُورَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ مِنْ الصَّحِيحِ لِعَدَمِهَا.

قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ إلَخْ) إذَا مَاتَ الْمَدْيُونُ مُفْلِسًا وَلَمْ يَكُنْ عَنْهُ كَفِيلٌ فَكَفَلَ عَنْهُ بِدَيْنِهِ إنْسَانٌ وَارِثًا كَانَ أَوْ أَجْنَبِيًّا لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: هِيَ صَحِيحَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفِيلَ قَدْ كَفَلَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ، وَكُلُّ كَفَالَةٍ هَذَا شَأْنُهَا فَهِيَ صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَهَذِهِ صَحِيحَةٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا كَفَلَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ دَيْنًا صَحِيحًا هُوَ الْمَفْرُوضُ، وَثُبُوتُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الدُّنْيَا أَوْ الْآخِرَةِ. لَا كَلَامَ فِي ثُبُوتِهِ وَبَقَائِهِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَهُوَ ثَابِتٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِحَقِّ الطَّالِبِ بِلَا خِلَافٍ، وَمَا وَجَبَ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِإِبْرَاءِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ أَوْ بِأَدَاءِ مَنْ عَلَيْهِ أَوْ بِفَسْخِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالْمَفْرُوضُ عَدَمُ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَدَعْوَى سُقُوطِهِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ عَنْ الدَّلِيلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ إنْسَانٌ صَحَّ، وَلَوْ بَرِئَ الْمُفْلِسُ بِالْمَوْتِ عَنْ الدَّيْنِ لَمَا حَلَّ لِصَاحِبِهِ الْأَخْذُ مِنْ الْمُتَبَرِّعِ، وَإِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ لَهُ مَالٌ فَإِنَّ الدَّيْنَ بَاقٍ بِالِاتِّفَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُغَيِّرُ وَصْفَ الثُّبُوتِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ مَاتَ مُفْلِسًا قَبْلَ أَدَاءِ الثَّمَنِ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ؛ وَلَوْ هَلَكَ الثَّمَنُ الَّذِي هُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ مُفْلِسًا لَبَطَلَ الْعَقْدُ كَمَنْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ فِي الذِّمَّةِ فَكَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ بِهَلَاكِ الثَّمَنِ، وَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ هَاهُنَا عُلِمَ أَنَّ الدَّيْنَ بَاقٍ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الدَّيْنَ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ هُوَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً وَكُلُّ

ص: 204

لِأَنَّ الدَّيْنَ هُوَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً وَلِهَذَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ. لَكِنَّهُ فِي الْحُكْمِ مَالٌ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَيْهِ فِي الْمَآلِ وَقَدْ عَجَزَ بِنَفْسِهِ وَبِخَلَفِهِ فَفَاتَ عَاقِبَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً، وَالتَّبَرُّعُ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ،

فِعْلٍ يَقْتَضِي الْقُدْرَةَ، وَالْقُدْرَةُ إنَّمَا تَكُونُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِخَلَفِهِ وَقَدْ انْتَفَتْ بِانْتِفَائِهِمَا فَانْتَفَى الدَّيْنُ ضَرُورَةً، وَمَعْنَى قَوْلِهِ الدَّيْنُ هُوَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً أَنَّ الْمَقْصُودَ الْفَائِدَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْهُ هُوَ فِعْلُ الْأَدَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وَصْفُهُ بِالْوُجُوبِ، يُقَالُ دَيْنٌ وَاجِبٌ كَمَا يُقَالُ الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ، وَالْوَصْفُ بِالْوُجُوبِ حَقِيقَةٌ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَفْعَالِ فَإِنْ قُلْت: لَزِمَ حِينَئِذٍ قِيَامُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ بِاتِّفَاقِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ السُّنَّةِ فَعَلَيْك بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْجَوَابِ فِي التَّقْرِيرِ فِي بَابِ صِفَةِ الْحُسْنِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِنْ قُلْت فَقَدْ يُقَالُ الْمَالُ وَاجِبٌ أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لَكِنَّهُ) أَيْ الدَّيْنَ (فِي الْحُكْمِ مَالٌ)؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الْخَارِجِ لَيْسَ إلَّا بِتَمْلِيكِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِ، فَوَصْفُ الْمَالِ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ الْمَوْصُوفَ بِهِ يَئُولُ إلَيْهِ فِي الْمَالِ فَكَانَ وَصْفًا مَجَازِيًّا، فَإِنْ قُلْت: الْعَجْزُ بِنَفْسِهِ وَبِخَلَفِهِ يَدُلُّ عَلَى تَعَذُّرِ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الدَّيْنِ فِي نَفْسِهِ كَمَنْ كَفَلَ عَنْ عَبْدٍ مَحْجُورٍ أَقَرَّ بِدَيْنٍ فَإِنَّهَا تَصِحُّ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمُطَالَبَةُ فِي حَالَةِ الرِّقِّ. قُلْنَا: غَلِطَ بِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ ذِمَّةٍ صَالِحَةٍ لِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهَا ضَعُفَتْ بِالرِّقِّ وَبَيْنَ ذِمَّةٍ خَرِبَتْ بِالْمَوْتِ وَلَمْ تَبْقَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ عَلَيْهَا، وَهَذَا التَّقْرِيرُ كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ دَلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ وَلَوْ أَخْرَجَهُ إلَى سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّيْنَ ثَابِتٌ بَلْ هُوَ سَاقِطٌ، وَسَيَذْكُرُ السَّنَدَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ هُوَ الْفِعْلُ كَانَ أَحَذَقَ فِي وُجُوهِ النَّظَرِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُحَصِّلِينَ وَتَنَبَّهْ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ وَاسْتَغْنِ عَنْ إعَادَتِهَا فِيمَا هُوَ نَظِيرُهُ فِيمَا سَيَأْتِي.

(قَوْلُهُ: وَالتَّبَرُّعُ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَا وَلَوْ تَبَرَّعَ بِهِ إنْسَانٌ صَحَّ يَعْنِي أَنَّ التَّبَرُّعَ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنَا كَفِيلٌ بِهِ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَعَلَيْهِ أَدَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الدَّيْنُ أَصْلًا؛ وَلِأَنَّ بُطْلَانَ الدَّيْنِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ لَا الْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يُخْرِجُ مَنْ قَامَ بِهِ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ، وَإِذَا كَانَ بَاقِيًا فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِدَيْنِهِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ الْغَيْرُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا لِبَقَائِهِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ، فَإِنَّ السُّقُوطَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ لِضَرُورَةِ فَوْتِ الْمَحَلِّ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْفُلُوسِ إذَا كَسَدَتْ فَإِنَّ الْمِلْكَ قَدْ

ص: 205

وَإِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ لَهُ مَالٌ فَخَلَفَهُ أَوْ الْإِفْضَاءُ إلَى الْأَدَاءِ بَاقٍ.

بَطَلَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فَلِذَلِكَ اُنْتُقِضَ الْعَقْدُ (قَوْلُهُ: وَإِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَكَذَا يَبْقَى إذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ لَهُ مَالٌ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ شَرْطُ الْفِعْلِ إمَّا بِنَفْسِ الْقَادِرِ أَوْ بِخَلَفِهِ، وَإِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ انْتَفَى الْقَادِرُ فَخَلَفُهُ وَهُوَ الْوَكِيلُ أَوْ الْمَالُ فِي حَقِّ بَقَاءِ الدَّيْنِ بَاقٍ (قَوْلُهُ: أَوْ الْإِفْضَاءُ) عَلَى مَا هُوَ السَّمَاعُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ النُّسَخِ تُنَزَّلُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ الْكَفِيلُ وَالْمَالُ إنْ لَمْ يَكُونَا خَلَفَيْنِ فَالْإِفْضَاءُ (إلَى الْأَدَاءِ) بِوُجُودِهِمَا (بَاقٍ) بِخِلَافِ مَا إذَا عَدِمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ لَفٌّ وَنَشْرٌ. وَتَقْدِيرُهُ فَخَلَفُهُ وَهُوَ الْوَكِيلُ أَوْ الْإِفْضَاءُ إلَى مَا يُفْضِي إلَى الْأَدَاءِ وَهُوَ الْمَالُ بَاقٍ، وَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ فِي الْقُدْرَةِ، إمَّا نَفْسُ الْقَادِرِ أَوْ خَلَفُهُ أَوْ مَا يُفْضِي إلَى الْأَدَاءِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ إذْ الْإِفْضَاءُ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ فَخَلَفُهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَخَلَفُهُ بَاقٍ حَذَفَهُ لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَك رَاضٍ، وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفٌ وَمَعْنَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلِ وَالْمَالِ خَلَفٌ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ رَجَاءَ الْأَدَاءِ مِنْهُمَا بَاقٍ، فَإِنَّ الْخَلَفَ مَا بِهِ يَحْصُلُ كِفَايَةُ أَمْرِ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَهُمَا كَذَلِكَ فَكَانَا خَلَفَيْنِ، وَفِيهِ مَا تَرَى مِنْ التَّكَلُّفِ مَعَ الْغُنْيَةِ عَنْهُ بِالْأُولَى.

فَإِنْ قِيلَ: إنْ اسْتَدَلَّ الْخَصْمُ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» فَإِنَّهُ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، وَبِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أُتِيَ بِجِنَازَةِ أَنْصَارِيٍّ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: فَهَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ دِرْهَمَانِ أَوْ دِينَارَانِ، فَامْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَامَ عَلِيٌّ أَوْ أَبُو قَتَادَةَ رضي الله عنهما عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَقَالَ هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَلَوْ لَمْ

ص: 206

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَقَضَاهُ الْأَلْفَ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ صَاحِبُ الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْقَابِضِ عَلَى احْتِمَالِ قَضَائِهِ الدَّيْنَ فَلَا يَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ مَا بَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ، كَمَنْ عَجَّلَ زَكَاتَهُ وَدَفَعَهَا إلَى السَّاعِي،

تَصِحَّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ لَمَا صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَهَا كَمَا امْتَنَعَ قَبْلَهَا فَمَاذَا يَكُونُ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفِيلَ يَغْرَمُ مَا كَفَلَ بِهِ، وَالْكَلَامُ فِي كَفِيلِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ هَلْ هُوَ زَعِيمٌ أَوْ لَا، وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَنْصَارِيِّ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ عَلِيٍّ أَوْ أَبِي قَتَادَةَ إقْرَارًا بِكَفَالَةٍ سَابِقَةٍ، فَإِنَّ لَفْظَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَلَا عُمُومَ لِحِكَايَةِ الْحَالِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعْدًا بِالتَّبَرُّعِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِجَوَازِهِ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟ حَتَّى قَالَ يَوْمًا قَضَيْتهمَا فَقَالَ: الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدَتُهُ» وَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى الْأَدَاءِ، وَلَوْ كَانَ كَفَالَةً لَأَجْبَرَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ لَزِمَهُ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ الْكَفَالَةِ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ لِعَدَمِ مَا يُضَمُّ إلَيْهِ وَجَاحِدُهُ مُتَسَاهِلٌ حَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ الشَّرْعِ جَعْلُ الذِّمَّةِ الْمَعْدُومَةِ مَوْجُودَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَم.

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ إلَخْ) رَجُلٌ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ فَقَضَى الْأَصِيلُ الْكَفِيلَ الْأَلْفَ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ الْكَفِيلُ الْأَلْفَ صَاحِبَ الْمَالِ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَضَاهُ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ بِأَنْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ وَقَالَ إنِّي لَا آمَنُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ الطَّالِبُ مِنْك حَقَّهُ فَخُذْهَا قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ فَقَبَضَهُ أَوْ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْأَصِيلُ لِلْكَفِيلِ خُذْ هَذَا الْمَالَ وَادْفَعْ إلَى الطَّالِبِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ لِلْأَصِيلِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا: أَيْ فِي الْأَلْفِ الْمَدْفُوعِ، وَأَنَّثَهُ بِاعْتِبَارِ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْقَابِضِ، وَهُوَ الْكَفِيلُ عَلَى احْتِمَالِ قَضَائِهِ الدَّيْنَ فَمَا لَمْ يَبْطُلْ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِأَدَاءِ الْأَصِيلِ بِنَفْسِهِ حَقَّ الطَّالِبِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إذَا كَانَ لِغَرَضٍ لَا يَجُوزُ الِاسْتِرْدَادُ فِيهِ مَا دَامَ بَاقِيًا لِئَلَّا يَكُونَ سَعْيًا فِي نَقْضِ مَا أَوْجَبَهُ، وَهَذَا كَمَنْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ وَدَفَعَهَا إلَى

ص: 207

وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّفْعُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ (وَإِنْ رَبِحَ الْكَفِيلُ فِيهِ فَهُوَ لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ) لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ قَبَضَهُ، أَمَّا إذَا قَضَى الدَّيْنَ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا قَضَى الْمَطْلُوبُ بِنَفْسِهِ وَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ أُخِّرَتْ الْمُطَالَبَةُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْمَطْلُوبَ قَبْلَ أَدَائِهِ يَصِحُّ،

السَّاعِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ كَانَ لِغَرَضٍ وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ زَكَاةً بَعْدَ الْحَوْلِ، فَمَا دَامَ الِاحْتِمَالُ بَاقِيًا لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ؛ وَلِأَنَّ الْكَفِيلَ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِالْمُؤَدَّى حَقُّ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبُ يُبْطِلُ ذَلِكَ بِاسْتِرْدَادِهِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً، فَإِنْ تَصَرَّفَ الْكَفِيلُ فِيمَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ وَرَبِحَ فِيهِ فَالرِّبْحُ لَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ قَبَضَهُ، وَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ مِنْ مِلْكِهِ طَيِّبٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ إمَّا أَنْ يَحْصُلَ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ مِنْ الْأَصِيلِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَا وَجَبَ لَهُ فَيَمْلِكُهُ مِنْ حِينِ قَبَضَهُ كَمَنْ قَبَضَ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ مُعَجَّلًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ.

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تُوجِبُ دَيْنَيْنِ: دَيْنًا لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَدِينًا لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، لَكِنَّ دَيْنَ الطَّالِبِ حَالٌّ وَدَيْنَ الْكَفِيلِ مُؤَجَّلٌ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ مِنْ حَيْثُ تَأْخِيرُ مُطَالَبَتِهِ بِمَا وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إلَى مَا بَعْدَ الْأَدَاءِ، وَلِهَذَا لَوْ أَخَذَ الْكَفِيلُ مِنْ الْأَصِيلِ رَهْنًا بِهَذَا الْمَالِ صَحَّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَ رَهْنًا بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْأَصِيلَ قَبْلَ الْأَدَاءِ إلَى الطَّالِبِ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ يَجُوزُ، حَتَّى لَوْ أَدَّاهُ الْكَفِيلُ إلَى الطَّالِبِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ.

وَقَالَ: كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَالْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِبَعْضِ عِبَارَةِ الْكِتَابِ ظَاهِرًا، وَالْمَسَائِلِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا، وَلَكِنْ لَا يُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ، فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ مِثْلَ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ، إلَّا أَنَّ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ حَالَّةٌ وَمُطَالَبَةَ الْكَفِيلِ أُخِّرَتْ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ، فَنُزِّلَ مَا وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ مَنْزِلَةَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَلِهَذَا: أَيْ لِكَوْنِهِ نَازِلًا مَنْزِلَتَهُ لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْمَطْلُوبَ قَبْلَ أَدَائِهِ صَحَّ، وَكَذَا إذَا أَخَذَ رَهْنًا أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ وَجَعَلَ ضَمِيرَ عَلَيْهِ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْكَفِيلِ وَالْمَعْنَى بِحَالِهِ: أَيْ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ مِثْلَ مَا تُوجِبُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ،

ص: 208

فَكَذَا إذَا قَبَضَهُ يَمْلِكُهُ إلَّا أَنَّ فِيهِ نَوْعَ خُبْثٍ نُبَيِّنُهُ فَلَا يُعْمَلُ مَعَ الْمِلْكِ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ

(وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ فَقَبَضَهَا الْكَفِيلُ فَبَاعَهَا وَرَبِحَ فِيهَا فَالرِّبْحُ لَهُ فِي الْحُكْمِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ (قَالَ: وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ الْكُرَّ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هُوَ لَهُ وَلَا يَرُدُّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ.

وَفِيهِ مِنْ التَّمَحُّلِ مَا تَرَى مِنْ تَنْزِيلِ الْمُطَالَبَةِ مَنْزِلَةَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَتَمَلُّكُهُ مَا قَبَضَ بِمُجَرَّدِ مَا لَهُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ مِنْ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمِلْكَ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ أَوْ الْقَبْضِ فَإِنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ وَلَا يَمْلِكُ مَا قَبَضَ.

وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يَكُونَ تَوْجِيهُ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ لَا عَلَى الْكَفِيلِ، وَحِينَئِذٍ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ؛ لِأَنَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الطَّالِبِ لَيْسَ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا الْمُطَالَبَةُ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْكَفِيلِ دَيْنٌ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِثْلُ دَيْنِ الطَّالِبِ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْكَفَالَةِ دَيْنَيْنِ وَثَلَاثَ مُطَالَبَاتٍ: دَيْنٌ وَمُطَالَبَةٌ حَالَّيْنِ لِلطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ، وَمُطَالَبَةٌ فَقَطْ لَهُ عَلَى الْكَفِيلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَدَيْنٌ وَمُطَالَبَةٌ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ، إلَّا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ مُتَأَخِّرَةٌ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ دَيْنُ الْكَفِيلِ مُؤَجَّلًا، وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَهُوَ مُؤَجَّلٌ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ فَنُزِّلَ هَذَا الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ مَنْزِلَةَ دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ لَمْ يَكُنْ بِالْكَفَالَةِ، وَفِي ذَلِكَ إذَا قَبَضَهُ مُعَجَّلًا مَلَكَهُ، فَكَذَا هُنَا، هَذَا مَا سَنَحَ لِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ إلَّا أَنَّ فِيهِ: أَيْ فِي الرِّبْحِ الْحَاصِلِ لِلْكَفِيلِ بِتَصَرُّفِهِ فِي الْمَقْبُوضِ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ وَقَدْ أَدَّى الْأَصِيلُ الدَّيْنَ نَوْعُ خُبْثٍ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيَّنَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَفَالَةِ بِالْكُرِّ وَالْخُبْثُ لَا يَعْمَلُ مَعَ الْمِلْكِ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ؛ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ فِي آخِرِ فَصْلِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَأَمَّا إذَا قَضَاهُ الْكَفِيلُ فَلَا خُبْثَ فِيهِ أَصْلًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.

وَإِذَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ فَالرِّبْحُ لَا يَطِيبُ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ مِنْ أَصْلٍ خَبِيثٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَطِيبُ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ أَصْلُهُ الْمُودَعُ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ فَإِنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ.

قَالَ (وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ إلَخْ) مَا مَرَّ كَانَ فِي حُكْمِ الرِّبْحِ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ، أَمَّا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ كَكُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ قَبَضَهَا الْكَفِيلُ مِنْ الْأَصِيلِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الطَّالِبِ وَتَصَرَّفَ فِيهَا وَرَبِحَ فَالرِّبْحُ لَهُ فِي الْقَضَاءِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ.

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ: يَعْنِي الْمَكْفُولَ عَنْهُ وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ، وَهَذَا رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ عَنْهُ: الرِّبْحُ لَهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ وَلَا يَرُدُّهُ عَلَى الْأَصِيلِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ

ص: 209

لَهُمَا أَنَّهُ رَبِحَ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فَيُسَلِّمُ لَهُ. وَلَهُ أَنَّهُ تَمَكَّنَ الْخُبْثُ مَعَ الْمِلْكِ، إمَّا لِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ بِأَنْ يَقْضِيَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ عَلَى اعْتِبَارِ قَضَاءِ الْكَفِيلِ، فَإِذَا قَضَاهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ وَهَذَا الْخُبْثُ يُعْمَلُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ فَيَكُونُ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ فِي رِوَايَةٍ، وَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ لِأَنَّ الْخُبْثَ لَحِقَهُ، وَهَذَا أَصَحُّ لَكِنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَا جَبْرٌ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ.

وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْكَفَالَةِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ وَهُوَ دَلِيلُهُمَا أَنَّهُ رِبْحٌ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ، وَمَنْ رَبِحَ فِي مِلْكِهِ يُسَلَّمُ لَهُ الرِّبْحُ.

وَوَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْكَفَالَةِ أَنَّهُ تَمَكَّنَ الْخُبْثُ مَعَ الْمِلْكِ لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: إمَّا؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ بِسَبِيلٍ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَقْضِيَ الْكُرَّ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الرِّبْحُ حَاصِلًا فِي مِلْكٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ أَنْ يُقِرَّ وَأَنْ لَا يُقِرَّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مِلْكٌ قَاصِرٌ وَلَوْ عَدِمَ الْمِلْكُ أَصْلًا كَانَ خَبِيثًا، فَإِذَا كَانَ قَاصِرًا تَمَكَّنَ فِيهِ شُبْهَةُ الْخُبْثِ. وَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ مِلْكًا لِلْكَفِيلِ عَلَى اعْتِبَارِ قَضَائِهِ فَإِذَا قَضَاهُ الْأَصِيلُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ فَتَمَكَّنَ فِيهِ الْخُبْثُ، وَهَذَا الْخُبْثُ: أَيْ الَّذِي يَكُونُ مَعَ الْمِلْكِ يَعْمَلُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَتَقْرِيرُهُ تَمَكَّنَ الْخُبْثُ مَعَ الْمِلْكِ وَكُلُّ خُبْثٍ تَمَكَّنَ مَعَ الْمِلْكِ يَعْمَلُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ، فَهَذَا الْخُبْثُ يَعْمَلُ فِي الْكُرِّ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ وَالْخُبْثُ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ.

وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْخُبْثَ لَحِقَهُ: أَيْ لَحِقَ الَّذِي قَضَاهُ، فَإِذَا رَدَّ إلَيْهِ وَصَلَ الْحَقُّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ لَكِنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَا جَبْرٌ؛ فَإِذَا رُدَّ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا طَابَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَطِيبَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رُدَّ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَقُّهُ، هَذَا إذَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ، وَإِذَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَطِيبُ الرِّبْحُ لِلْكَفِيلِ،

ص: 210

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَأَمَرَهُ الْأَصِيلُ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَرِيرًا فَفَعَلَ فَالشِّرَاءُ لِلْكَفِيلِ وَالرِّبْحُ الَّذِي رَبِحَهُ الْبَائِعُ فَهُوَ عَلَيْهِ) وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِبَيْعِ الْعِينَةِ مِثْلُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ تَاجِرٍ عَشَرَةً فَيَتَأَبَّى عَلَيْهِ وَيَبِيعَ مِنْهُ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ مَثَلًا رَغْبَةً فِي نَيْلِ الزِّيَادَةِ لِيَبِيعَهُ الْمُسْتَقْرِضُ بِعَشَرَةٍ وَيَتَحَمَّلَ عَلَيْهِ خَمْسَةً؛ سُمِّيَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدَّيْنِ إلَى الْعَيْنِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ مَبَرَّةِ الْإِقْرَاضِ مُطَاوَعَةً لِمَذْمُومِ الْبُخْلِ. ثُمَّ قِيلَ:

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَطِيبُ.

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ إلَخْ) إذَا أَمَرَ الْأَصِيلُ الْكَفِيلَ أَنْ يُعَامِلَ إنْسَانًا بِطَرِيقِ الْعِينَةِ، وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ تَاجِرٍ عَشَرَةً فَيَتَأَبَّى عَلَيْهِ وَيَبِيعُ مِنْهُ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ مَثَلًا رَغْبَةً فِي نَيْلِ الزِّيَادَةِ لِيَبِيعَهُ الْمُشْتَرِي الْمُسْتَقْرِضَ بِعَشَرَةٍ وَيَتَحَمَّلُ خَمْسَةً فَفَعَلَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ فَالشِّرَاءُ وَاقِعٌ لَهُ وَالرِّبْحُ الَّذِي رَبِحَهُ الْبَائِعُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْأَصِيلِ، وَسُمِّيَ هَذَا الْبَيْعُ عِينَةً لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدَّيْنِ إلَى الْعَيْنِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْإِعْرَاضَ عَنْ مَبَرَّةِ الْإِقْرَاضِ مُطَاوَعَةً لِلْبُخْلِ الَّذِي هُوَ مَذْمُومٌ، وَكَأَنَّ الْكُرْهَ حَصَلَ مِنْ الْمَجْمُوعِ، فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الْإِقْرَاضِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، وَالْبُخْلُ الْحَاصِلُ مِنْ طَلَبِ الرِّبْحِ فِي التِّجَارَاتِ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَكَانَتْ الْمُرَابَحَةُ مَكْرُوهَةً، وَإِلَّا لَزِمَ الرِّبْحُ لِلْكَفِيلِ دُونَ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا كَفَالَةٌ فَاسِدَةٌ عَلَى مَا قِيلَ نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ عَلَيَّ فَإِنَّهُ كَلِمَةُ ضَمَانٍ لَكِنَّهُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَالضَّمَانَ إنَّمَا يَصِحُّ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ وَالْخُسْرَانُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى أَحَدٍ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ، كَرَجُلٍ قَالَ لِآخَرَ بِعْ مَتَاعَك فِي هَذَا السُّوقِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَضَيْعَةٍ وَخُسْرَانٍ يُصِيبُك فَأَنَا ضَامِنٌ

ص: 211

هَذَا ضَمَانٌ لِمَا يَخْسَرُ الْمُشْتَرِي نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ عَلَيَّ وَهُوَ فَاسِدٌ وَلَيْسَ بِتَوْكِيلٍ وَقِيلَ هُوَ تَوْكِيلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْحَرِيرَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، وَكَذَا الثَّمَنُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِجَهَالَةِ مَا زَادَ عَلَى الدَّيْنِ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَالشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْكَفِيلُ وَالرِّبْحُ: أَيْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ.

بِهِ لَك فَإِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَمَّا وَكَالَةٌ فَاسِدَةٌ نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ تَعَيَّنَ: يَعْنِي اشْتَرِ لِي حَرِيرًا يُعَيِّنُهُ ثُمَّ بِعْهُ بِالنَّقْدِ بِأَقَلَّ مِنْهُ وَاقْضِ دَيْنِي، وَفَسَادُهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحَرِيرَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ: أَيْ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ وَالثَّمَنُ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: الدَّيْنُ مَعْلُومٌ وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ مِقْدَارُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ الْجَهَالَةُ مَا زَادَ عَلَى الدَّيْنِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الثَّمَنِ، وَإِذَا فَسَدَتْ الْكَفَالَةُ أَوْ الْوَكَالَةُ كَانَ الْمُشْتَرَى لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْكَفِيلُ وَالرِّبْحُ: أَيْ الزِّيَادَةُ عَلَى الدَّيْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ صَوَّرَ لِلْعِينَةِ صُورَةً أُخْرَى وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْمُقْرِضَ وَالْمُسْتَقْرِضَ بَيْنَهُمَا ثَالِثًا فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ فَيَبِيعَ صَاحِبُ الثَّوْبِ الثَّوْبَ بِاثْنَيْ عَشَرَ مِنْ الْمُسْتَقْرِضِ ثُمَّ إنَّ الْمُسْتَقْرِضَ يَبِيعُهُ مِنْ الثَّالِثِ بِعَشَرَةٍ وَيُسْلِمُ الثَّوْبَ إلَيْهِ ثُمَّ يَبِيعُ الثَّالِثَ الثَّوْبَ مِنْ الْمُقْرِضِ بِعَشَرَةٍ وَيَأْخُذُ مِنْهُ عَشَرَةً وَيَدْفَعُهُ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ فَتَنْدَفِعُ حَاجَتُهُ، وَإِنَّمَا تَوَسَّطَا بِثَالِثٍ احْتِرَازًا عَنْ شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ صَوَّرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْمُومٌ اخْتَرَعَهُ أَكَلَةُ الرِّبَا، وَقَدْ ذَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَقَالَ «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعَيْنِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ

ص: 212

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا قَضَى لَهُ عَلَيْهِ فَغَابَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكَفِيلِ بِأَنَّ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ) لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ مَقْضِيٌّ بِهِ وَهَذَا فِي لَفْظَةِ الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ، وَكَذَا فِي الْأُخْرَى لِأَنَّ مَعْنَى ذَابَ تَقَرَّرَ وَهُوَ بِالْقَضَاءِ أَوْ مَالٌ يُقْضَى بِهِ وَهَذَا مَاضٍ أُرِيدَ بِهِ الْمُسْتَأْنَفُ كَقَوْلِهِ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك فَالدَّعْوَى مُطْلَقٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ.

الْبَقَرِ ذَلَلْتُمْ وَظَهَرَ عَلَيْكُمْ عَدُوُّكُمْ» وَقِيلَ: إيَّاكَ وَالْعِينَةَ فَإِنَّهَا لَعِينَةٌ.

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَيْهِ إلَخْ) رَجُلٌ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا قُضِيَ لَهُ عَلَيْهِ فَغَابَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكَفِيلِ أَنَّ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ تُقْبَلْ الْبَيِّنَةُ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ قَبُولَهَا يَعْتَمِدُ صِحَّةَ الدَّعْوَى، وَدَعْوَاهُ هَذِهِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِعَدَمِ مُطَابِقَتِهَا بِالْمَكْفُولِ بِهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْمَكْفُولَ بِهِ إمَّا مَالٌ مَقْضِيٌّ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ لِدَلَالَةِ مَا قَضَى بِصَرَاحَةِ عِبَارَتِهِ وَدَلَالَةِ مَا ذَابَ بِاسْتِلْزَامِهِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ مَعْنَى ذَابَ تَقَرَّرَ، وَالتَّقَرُّرُ إنَّمَا هُوَ بِالْقَضَاءِ وَالدَّعْوَى مُطْلَقٌ

ص: 213

(وَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَنَّ هَذَا كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ وَعَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ يُقْضَى عَلَى الْكَفِيلِ خَاصَّةً)

عَنْ ذَلِكَ فَلَا مُطَابَقَةَ بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا مَالٌ يُقْضَى بِهِ يُجْعَلُ لَفْظُ الْمَاضِي بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك فَهُوَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا؛ لِأَنَّ إرَادَةَ مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ لَفْظِ الْمَاضِي خِلَافُ الظَّاهِرِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِنُكْتَةٍ تَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْبَلَاغَةِ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِدَعْوَاهُ لِإِطْلَاقِهَا وَتُفِيدُ الْمَكْفُولَ بِهِ، حَتَّى قِيلَ إنْ ادَّعَى عَلَى الْكَفِيلُ أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ بَعْدَ عَقْدِ الْكَفَالَةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِوُجُودِ الْمُطَابَقَةِ حِينَئِذٍ، وَالشَّارِحُونَ ذَهَبُوا فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى أَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ قُضِيَ أَوْ يُقْضَى بِهِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ عَقْدِ الْكَفَالَةِ وَبَعْدَهُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَفَالَةِ بِالشَّكِّ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْمُصَنِّفِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا كَمَا تَرَى، وَالتَّعْلِيلُ بِدُونِ ذَلِكَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ إمَّا مَالٌ مَقْضِيٌّ وَلَمْ يَدَّعِهِ، أَوْ مَالٌ يُقْضَى بِهِ وَمَعَ غَيْبَةِ الْأَصِيلِ لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ فَلَا تَكُونُ الدَّعْوَى صَحِيحَةً فَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ.

وَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَنَّ هَذَا كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ قُضِيَ بِهِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا، وَإِنْ ادَّعَى الْكَفَالَةَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ قُضِيَ بِهِ عَلَى الْحَاضِرِ خَاصَّةً وَهَاهُنَا يُحْتَاجُ إلَى ثَلَاثَةِ فُرُوقٍ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْهَا اثْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ هَاهُنَا دُونَ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ

ص: 214

وَإِنَّمَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ مُطْلَقٌ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّهُمَا يَتَغَايَرَانِ، لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِأَمْرٍ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَمُعَاوَضَةُ انْتِهَاءٍ، وَبِغَيْرِ أَمْرٍ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَانْتِهَاءٍ، فَبِدَعْوَاهُ أَحَدَهُمَا لَا يُقْضَى لَهُ بِالْآخَرِ، وَإِذَا قُضِيَ بِهَا بِالْأَمْرِ ثَبَتَ أَمْرُهُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ

الْمَكْفُولَ بِهِ هَاهُنَا مَالٌ مُطْلَقٌ عَنْ التَّوْصِيفِ لِكَوْنِهِ مَقْضِيًّا بِهِ أَوْ يُقْضَى بِهِ فَكَانَتْ الدَّعْوَى مُطَابِقَةً لِلْمُدَّعَى بِهِ فَصَحَّتْ وَقُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ لِابْتِنَائِهَا عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ كَمَا مَرَّ. وَمِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ هُنَاكَ لَوْ صَدَّقَهُ فَقَالَ قَدْ كَفَلْت لَك بِمَا ذَابَ لَك عَلَيْهِ: أَيْ بِمَا قُضِيَ لَك عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَك عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ، وَهَاهُنَا لَوْ قَالَ كَفَلْت لَك عَنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَكِنْ لَيْسَ لَك شَيْءٌ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ.

وَالثَّانِي الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَفَالَةِ بِأَمْرٍ وَالْكَفَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرٍ مَعَ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَدَمَ التَّفْرِقَةِ فِي أَنْ لَا يَكُونَ الْكَفِيلُ خَصْمًا عَنْ الْأَصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِأَمْرٍ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِهِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَغَايَرَانِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِأَمْرِهِ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَمُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَكُلُّ مَا كَانَا كَذَلِكَ فَهُمَا غَيْرَانِ لَا مَحَالَةَ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَبِدَعْوَاهُ أَحَدَهُمَا لَا يُقْضَى لَهُ بِالْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ إنَّمَا يَقْضِي بِالسَّبَبِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ بِالشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَضَاءُ بِالْهِبَةِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا وَهُوَ الْمِلْكُ، فَإِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي الْكَفَالَةَ بِالْأَمْرِ وَقَضَى بِالْكَفَالَةِ بِالْأَمْرِ بِبَيِّنَةٍ ثَبَتَ أَمْرُهُ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ، وَالْأَمْرُ بِالْكَفَالَةِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ فَيَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ، فَلَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَإِذَا ادَّعَاهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهَا لَا تَمَسُّ جَانِبَ الْغَائِبِ، إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ وُجُوبُهُ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ: أَيْ الشَّأْنَ أَنَّ هِمَّةَ الْكَفَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرٍ تَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ فِي زَعْمِ الْكَفِيلِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنَا بِهِ كَفِيلٌ وَجَبَ الْمَالُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ فَلَا يَتَعَدَّى الدَّيْنُ عَنْ الْكَفِيلِ إلَى الْأَصِيلِ.

وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا أَبْهَمَ فَادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ عَنْ فُلَانٍ بِكُلِّ مَالٍ لَهُ قَبْلَهُ وَلَمْ يُفَسِّرْ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً أَنَّ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ لَهُ قَبْلَ الْكَفَالَةِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا عَلَى الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ سَوَاءٌ ادَّعَى الْكَفَالَةَ بِأَمْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحَاضِرَ إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُ مَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ إلَّا بِإِثْبَاتِ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ، وَالْكَفَالَةُ إذَا كَانَتْ بِمَعْلُومٍ أَمْكَنَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِدُونِ الْقَضَاءِ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَمَعْرُوفٌ بِذَاتِهِ، وَإِذَا كَانَتْ بِمَجْهُولٍ لَا تَصِحُّ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ يَحْتَاجُ إلَى التَّعْرِيفِ، وَالتَّعْرِيفُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا كَانَ عَلَى

ص: 215

الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ فَيَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ، وَالْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا تَمَسُّ جَانِبَهُ لِأَنَّهُ تَعْتَمِدُ صِحَّتُهَا قِيَامَ الدَّيْنِ فِي زَعْمِ الْكَفِيلِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ، وَفِي الْكَفَالَةِ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْآمِرِ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ فَقَدْ ظَلَمَ فِي زَعْمِهِ فَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ وَنَحْنُ نَقُولُ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا فَبَطَلَ مَا زَعَمَهُ.

الْأَصِيلِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ كَانَ لَك عَلَى فُلَانٍ مَالٌ فَأَنَا كَفِيلٌ فَأَثْبَتَهُ الْمُدَّعِي، وَسَيَأْتِي تَمَامُ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: وَفِي الْكَفَالَةِ بِأَمْرٍ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَرْقًا آخَرَ بَيْنَ مَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكَفَالَةِ بِأَمْرٍ وَبَيْنَ مَا إذَا أَقَامَ عَلَيْهَا بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ عِيَانًا، وَلَوْ ثَبَتَتْ الْكَفَالَةُ بِالْأَمْرِ عِيَانًا رَجَعَ الْكَفِيلُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَا إذَا ثَبَتَتْ بِالْبَيِّنَةِ وَقَالَ زُفَرُ: لَمَّا أَنْكَرَ الْكَفِيلُ الْكَفَالَةَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الطَّالِبَ ظَلَمَهُ وَالْمَظْلُومُ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ. وَقُلْنَا: لَمَّا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا فَبَطَلَ مَا زَعَمَهُ؛ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَأَقَرَّ بِأَنَّ الْبَائِعَ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ثُمَّ جَاءَ إنْسَانٌ وَاسْتَحَقَّهُ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ كَذَّبَهُ فِي زَعْمِهِ. وَنُوقِضَ بِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَبَاعَهُ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَمَا أَنْكَرَ الْعَيْبَ بِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ حَيْثُ لَمْ يَبْطُلْ زَعْمُهُ مَعَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ كَذَّبَهُ فِي زَعْمِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا عَيْبَ فِيهِ نَفْيٌ لِلْعَيْبِ فِي الْحَالِ وَالْمَاضِي وَالْقَاضِي إنَّمَا كَذَّبَهُ فِي قِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَ

ص: 216

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دَارًا وَكَفَلَ رَجُلٌ عَنْهُ بِالدَّرَكِ فَهُوَ تَسْلِيمٌ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَوْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ فَتَمَامُهُ بِقَبُولِهِ، ثُمَّ بِالدَّعْوَى يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فِيهِ فَالْمُرَادُ بِهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ وَتَرْغِيبُ الْمُشْتَرِي فِيهِ إذْ لَا يَرْغَبُ فِيهِ دُونَ الْكَفَالَةِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ.

الْبَيْعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلرَّدِّ عَلَى الثَّانِي فَافْتَرَقَا.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دَارًا وَكَفَلَ عَنْهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ إلَخْ) وَمَنْ بَاعَ دَارًا وَكَفَلَ رَجُلٌ عَنْهُ بِالدَّرَكِ وَهُوَ التَّبِعَةُ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْمُرَادُ قَبُولُ رَدِّ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ فَهُوَ تَسْلِيمٌ: أَيْ تَصْدِيقٌ مِنْ الْكَفِيلِ بِأَنَّ الدَّارَ مِلْكُ الْبَائِعِ، فَلَوْ ادَّعَى الدَّارَ بَعْدَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَهُوَ شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ إذْ الدَّرَكُ يَثْبُتُ بِلَا شَرْطِ كَفَالَةٍ وَالشَّرْطُ يَزِيدُهُ وَكَادَةً فَتَمَامُ الْبَيْعِ إنَّمَا يَكُونُ بِقَبُولِ الْكَفِيلِ فَكَأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعَقْدِ، فَالدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ سَعْيٌ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْكَفِيلُ شَفِيعًا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وَبُطْلَانُ السَّعْيِ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ مِنْ مُسَلَّمَاتِ هَذَا الْفَنِّ لَا يُقْبَلُ التَّشْكِيكُ بِالْإِقَالَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَإِنْ كَانَ طَلَبُهَا سَعْيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّقْضِ مَا يَكُونُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ وَالْإِقَالَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ فَسْخٌ لَا نَقْضٌ.

وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْمُرَادُ بِالْكَفَالَةِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ وَتَرْغِيبُ الْمُشْتَرِي لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَرْغَبَ الْمُشْتَرِي فِي شِرَاءِ الْمَبِيعِ مَخَافَةَ الِاسْتِحْقَاقِ فَتَكَفَّلَ تَسْكِينًا لِقَلْبِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ اشْتَرِ هَذَا الدَّارَ وَلَا تُبَالِ فَإِنَّهَا مِلْكُ الْبَائِعِ، فَإِنْ أَدْرَكَك دَرَكٌ فَأَنَا ضَامِنٌ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، وَمَنْ أَقَرَّ بِمِلْكِ الْبَائِعِ لَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ بَعْدَ

ص: 217

قَالَ (وَلَوْ شَهِدَ وَخَتَمَ وَلَمْ يَكْفُلْ لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا وَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ وَلَا هِيَ بِإِقْرَارٍ بِالْمِلْكِ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَرَّةً يُوجَدُ مِنْ الْمَالِكِ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ كَتَبَ الشَّهَادَةَ لِيَحْفَظَ الْحَادِثَةَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، قَالُوا: إذَا كَتَبَ فِي الصَّكِّ بَاعَ وَهُوَ يَمْلِكُهُ أَوْ بَيْعًا بَاتًّا نَافِذًا وَهُوَ كَتَبَ شَهِدَ بِذَلِكَ فَهُوَ تَسْلِيمٌ، إلَّا إذَا كَتَبَ الشَّهَادَةَ عَلَى إقْرَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

(فَصْلٌ فِي الضَّمَانِ)

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا وَضَمِنَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ مُضَارِبٌ ضَمِنَ ثَمَنَ مَتَاعِ رَبِّ الْمَالِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَهِيَ إلَيْهِمَا فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا لِنَفْسِهِ،

ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَيْهِ فِي الْمَعْنَى.

قَالَ (وَلَوْ شَهِدَ وَخَتَمَ إلَخْ) لَوْ شَهِدَ الشَّاهِدُ عَلَى بَيْعِ الدَّارِ وَخَتَمَ شَهَادَتَهُ بِأَنْ كَتَبَ اسْمَهُ فِي الصَّكِّ وَجَعَلَ اسْمَهُ تَحْتَ رَصَاصٍ مَكْتُوبًا وَوَضَعَ عَلَيْهِ نَقْشَ خَاتَمِهِ حَتَّى لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ التَّزْوِيرُ وَالتَّبْدِيلُ، كَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَلَمْ يَكْفُلْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَسْلِيمًا وَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ قَبْلَ قَوْلِهِ وَخَتَمَ وَقَعَ اتِّفَاقًا بِاعْتِبَارِ عُرْفٍ كَانَ فِي زَمَانِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خَتْمٌ أَوْ لَا، فَإِنْ ادَّعَى لِنَفْسِهِ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ لِعَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ وَلَا هِيَ بِإِقْرَارٍ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَارَةً يُوجَدُ مِنْ الْمِلْكِ وَأُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ، فَالشَّهَادَةُ عَلَى أَنَّهُ بَاعَ لَا تَكُونُ إقْرَارًا بِأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا كَتَبَ الشَّهَادَةَ لِيَحْفَظَ الْحَادِثَةَ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَمَانِ الدَّرَكِ فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِالْمِلْكِ لِمَا تَقَدَّمَ، قَالَ مَشَايِخُنَا: مَا ذُكِرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْبَيْعِ لَا تَكُونُ تَسْلِيمًا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكْتُبْ فِي الصَّكِّ مَا يُوجِبُ صِحَّةَ الْبَيْعِ وَنَفَاذَهُ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ فِيهِ بَاعَ أَوْ جَرَى الْبَيْعُ بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ شَهِدَ فُلَانٌ الْبَيْعَ أَوْ جَرَى الْبَيْعُ بِمَشْهَدِي، وَأَمَّا إذَا كَتَبَ فِيهِ مَا يُوجِبُ صِحَّتَهُ وَنَفَاذَهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ بَاعَ فُلَانٌ كَذَا وَهُوَ يَمْلِكُهُ، وَكَتَبَ الشَّاهِدُ شَهِدَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ تَسْلِيمٌ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى إقْرَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَسْلِيمٍ وَإِنْ كَانَ الْمَكْتُوبُ فِي الصَّكِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ وَالنَّفَاذِ.

فَصْلٌ فِي الضَّمَانِ:

(وَمَنْ بَاعَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا إلَخْ) الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ فِي هَذَا الْبَابِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَمَّا كَانَ مَسَائِلُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ

ص: 218

وَلِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي أَيْدِيهِمَا وَالضَّمَانُ تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ كَاشْتِرَاطِهِ عَلَى الْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ (وَكَذَا رَجُلَانِ بَاعَا عَبْدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَضَمِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ) لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الضَّمَانُ مَعَ الشَّرِكَةِ يَصِيرُ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ، وَلَوْ صَحَّ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً يُؤَدِّي إلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ،

وَرَدَتْ بِلَفْظِ الضَّمَانِ فَصَّلَهَا لِتَغَايُرٍ فِي اللَّفْظِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَجَعَ إلَيْهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْتِزَامُ مُطَالَبَةِ مَا يَجِبُ بِهِ؛ فَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ ثَوْبٍ فَفَعَلَ وَضَمِنَ لَهُ الثَّمَنَ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ، وَكَذَا الْمُضَارِبُ إذَا بَاعَ مِنْ الْمَتَاعِ شَيْئًا وَضَمِنَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ وَالْمُطَالَبَةُ إلَيْهِمَا: أَيْ إلَى الْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ لِلْوَكِيلِ بِجِهَةِ الْأَصَالَةِ فِي الْبَيْعِ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ الْمُشْتَرِي مَا لِلْمُوَكِّلِ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ بَارًّا فِي يَمِينِهِ، وَلَوْ حَلَفَ مَا لِلْوَكِيلِ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ خَائِنًا، وَكَذَا الْمُضَارِبُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ صَحَّ الضَّمَانُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ وَفَسَادُهُ لَا يَخْفَى، وَلَا يُتَوَهَّمُ التَّصْحِيحُ بِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْخُصُومَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي أَيْدِي الْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَلَوْ صَحَّ ضَمَانُهُمَا لَكَانَا ضَمِينَيْنِ فَمَا فَرَضْنَاهُ أَمِينًا لَمْ يَكُنْ أَمِينًا، وَذَلِكَ خُلْفٌ بَاطِلٌ فَيَكُونُ الضَّمَانُ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ ذَلِكَ لِنَزْعِهِ إلَى الشَّرِكَةِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا بُطْلَانَ ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ تَقْرِيرًا تَامًّا. فَيَرِدُ عَلَيْهِ كَاشْتِرَاطِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ، فَإِنَّهُمَا لَوْ ضَمِنَا الْوَدِيعَةَ وَالْعَارِيَّةَ لِلْمُودَعِ وَالْمُعِيرِ لَمْ يَجُزْ لِذَلِكَ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْوَكَالَةُ بِانْفِرَادِهَا مَشْرُوعَةٌ وَالْكَفَالَةُ كَذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ أَمَانَةً بِأَيْدِيهِمَا إذَا لَمْ يَضْمَنَا، فَأَمَّا إذَا ضَمِنَا فَيَكُونُ ذَلِكَ رَفْعًا لِلْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ وَتَحَوُّلًا مِنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ إلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ رَفْعَ الْأَمَانَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِبُطْلَانِ الْوَكَالَةِ لِئَلَّا يَتَخَلَّفَ الْمَعْلُولُ عَنْ عِلَّتِهِ، وَبُطْلَانُهَا حِينَئِذٍ إنَّمَا يَكُونُ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ، وَالْكَفَالَةُ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ الْفَرْعِ لِلْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا وَجَبَ بِالْوَكَالَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُصَحَّحَ عَلَى وَجْهٍ يَبْطُلُ بِهِ أَصْلُهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ فَرْعًا لِلْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ رَجُلَانِ عَبْدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَضَمِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ، فَإِنْ كَانَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ شَائِعًا

ص: 219

بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَا بِصَفْقَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا وَيَقْبِضَ إذَا نَقَدَ ثَمَنَ حِصَّتِهِ وَإِنْ قَبِلَ الْكُلَّ.

صَارَ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فَسَادُهُ، وَإِنْ صَحَّ فِي نَصِيبِهِ مُفْرِزًا أَدَّى إلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازٌ، وَذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ حِسًّا أَوْ بِوَصْفٍ مُمَيِّزٍ وَكِلَاهُمَا فِيمَا فِي الذِّمَّةِ مِنْ الدَّيْنِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ. وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ فِي تَعْلِيلِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُسْتَحَقُّ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ إذَا كَانَ مَالًا بِدَلِيلِ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ مِنْهُ شَيْئًا كَانَ لِلْآخَرِ وِلَايَةُ الْمُشَارَكَةِ، وَلَوْ صَحَّ الضَّمَانُ فَمَا يُؤَدِّيهِ الضَّامِنُ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَضْمُونِ لَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ عَلَى الشَّرِيكِ، فَإِذَا رَجَعَ بَطَلَ حُكْمُ الْأَدَاءِ فِي مِقْدَارِ مَا وَقَعَ فِيهِ الرُّجُوعُ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَا أَدَّى إلَّا الْبَاقِيَ فَكَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الْبَاقِي ثَمَّ وَثَمَّ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا إنَّ فِي تَجْوِيزِ هَذَا الضَّمَانِ ابْتِدَاءً إبْطَالَهُ انْتِهَاءً فَقُلْنَا بِبُطْلَانِهِ ابْتِدَاءً، وَلَا مَعْنَى لِمَا قِيلَ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَوْ صَحَّ الضَّمَانُ إمَّا أَنْ يَصِحَّ بِنِصْفٍ شَائِعٍ أَوْ بِنِصْفٍ هُوَ نَصِيبُ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يُضَافُ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ شَائِعًا. وَقَوْلُهُ: وَلَا وَجْهَ إلَى الثَّانِي لِمَا فِيهِ مِنْ قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا مَعْنَى لِهَذَا أَيْضًا لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ يَجُوزُ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ، فَكَذَا إذَا ضَمِنَ أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّ التَّعْوِيلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِذَا رَجَعَ بَطَلَ حُكْمُ الْأَدَاءِ فِي مِقْدَارِ مَا وَقَعَ فِيهِ الرُّجُوعُ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ الرُّجُوعُ بِاعْتِبَارِ نَقْضِ مَا أَدَّى وَهُوَ مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِيمَا بَقِيَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَلَا يَرْجِعُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ الضَّمَانَ يُضَافُ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ شَائِعًا. يُجَابُ عَلَيْهِ بِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ وَهُوَ النِّصْفُ مَثَلًا لَهُ اعْتِبَارَانِ اعْتِبَارُ نِصْفٍ شَائِعٍ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّمَنِ وَاعْتِبَارُ نِصْفِ مُفْرِزٍ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْبَاقِي مِنْ الْأَفْرَادِ وَلَا خَفَاءَ فِي اخْتِلَافِهِمَا وَتَغَايُرِهِمَا فَتَرْكُ ذَلِكَ نَقْصٌ فِي التَّعَقُّلِ، وَقَوْلُهُ: لَا مَعْنَى لِهَذَا أَيْضًا لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ إلَخْ. يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا تَلْزَمُ الْقِسْمَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ وَقَعَ عَلَى الشَّرِكَةِ وَلِهَذَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَا صَفْقَتَيْنِ بِأَنْ

ص: 220

قَالَ (وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ آخَرَ خَرَاجَهُ وَنَوَائِبَهُ وَقِسْمَتَهُ فَهُوَ جَائِزٌ. أَمَّا الْخَرَاجُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ) يُخَالِفُ الزَّكَاةَ، لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ فِعْلٍ وَلِهَذَا لَا تُؤَدَّى بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ إلَّا بِوَصِيَّةٍ.

سَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا لِنَفْسِهِ ثُمَّ ضَمِنَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِنَصِيبِهِ فَإِنَّ الضَّمَانَ صَحِيحٌ لِامْتِيَازِ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ نَصِيبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ ثَمَّةَ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ بِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ. وَاسْتَوْضَحَ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا وَيَرُدَّ الْآخَرَ. وَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا إذَا نَقَدَ ثَمَنَ حِصَّتِهِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْكُلِّ، وَلَوْ اتَّحَدَتْ الصَّفْقَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ

قَالَ (وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ آخَرَ خَرَاجَهُ وَنَوَائِبَهُ وَقِسْمَتَهُ فَهُوَ جَائِزٌ إلَخْ) الضَّمَانُ عَنْ الْخَرَاجِ وَالنَّوَائِبِ وَالْقِسْمَةِ جَائِزٌ. أَمَّا الْخَرَاجُ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ فِي الْخَرَاجِ. قِيلَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُوَظَّفُ وَهُوَ الْوَاجِبُ فِي الذِّمَّةِ بِأَنْ يُوَظِّفَ الْإِمَامُ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى مَالٍ عَلَى مَا يَرَاهُ دُونَ الْمُقَاسَمَةِ وَهِيَ الَّتِي يَقْسِمُ الْإِمَامُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الدَّيْنِ لِعَدَمِ وُجُوبِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الشَّرْحِ مَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْخَرَاجِ وَالزَّكَاةِ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله فَرْقًا آخَرَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ يُخَالِفُ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ فِعْلٍ، إذْ الْوَاجِبُ فِيهَا تَمْلِيكُ مَالٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ، وَالْمَالُ آلَتُهُ وَلِهَذَا لَا تُؤَدَّى بَعْدَ مَوْتِهِ إلَّا بِالْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا النَّوَائِبُ فَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَا يَكُونُ بِحَقٍّ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ، وَالْأَوَّلُ كَكَرْيِ الْأَنْهَارِ الْمُشْتَرَكَةِ وَأَجْرِ الْحَارِسِ لِلْمَحَلَّةِ وَمَا وَظَّفَ الْإِمَامُ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَفِدَاءِ الْأُسَارَى، بِأَنْ احْتَاجَ إلَى تَجْهِيزِ الْجَيْشِ لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ إلَى

ص: 221

وَأَمَّا النَّوَائِبُ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا يَكُونُ بِحَقٍّ كَكَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَأَجْرِ الْحَارِسِ وَالْمُوَظَّفِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَفِدَاءِ الْأَسَارَى وَغَيْرِهَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ بِهَا عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ كَالْجِبَايَاتِ فِي زَمَانِنَا فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ رحمهم الله، وَمِمَّنْ يَمِيلُ إلَى الصِّحَّةِ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ، وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَقَدْ قِيلَ: هِيَ النَّوَائِبُ بِعَيْنِهَا أَوْ حِصَّةٌ مِنْهَا وَالرِّوَايَةُ بِأَوْ، وَقِيلَ هِيَ النَّائِبَةُ الْمُوَظَّفَةُ الرَّاتِبَةُ، وَالْمُرَادُ بِالنَّوَائِبِ مَا يَنُوبُهُ غَيْرُ رَاتِبٍ وَالْحُكْمُ مَا بَيَّنَّاهُ.

فِدَاءِ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ فَوَظَّفَ مَالًا عَلَى النَّاسِ لِذَلِكَ، وَالضَّمَانُ فِيهِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُوبِ أَدَائِهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَوْجَبَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ طَاعَتِهِ فِيمَا يَجِبُ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي كَالْجِبَايَاتِ فِي زَمَانِنَا وَهِيَ الَّتِي يَأْخُذُهَا الظَّلَمَةُ فِي زَمَانِنَا ظُلْمًا كَالْقَيْجَرِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ الضَّمَانُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ لِالْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ شَرْعًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ هَاهُنَا شَرْعًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ وَمِمَّنْ يَمِيلُ إلَيْهِ الْإِمَامُ الْبَزْدَوِيُّ يُرِيدُ فَخْرَ الْإِسْلَامِ رحمه الله؛ لِأَنَّ صَدْرَ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ مَالَ إلَى عَدَمِ صِحَّتِهَا. قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: وَأَمَّا النَّوَائِبُ فَهِيَ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ مِنْ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنُوبُهُ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا دُيُونٌ فِي حُكْمٍ تَوَجَّهَ الْمُطَالَبَةُ بِهَا. وَالْعِبْرَةُ فِي الْكَفَالَةِ لِلْمُطَالَبَةِ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِالْتِزَامِهَا، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ مَنْ قَامَ بِتَوْزِيعِ هَذِهِ النَّوَائِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْقِسْطِ وَالْعَدَالَةِ كَانَ مَأْجُورًا وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الَّذِي يَأْخُذُ بَاطِلًا، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ مَنْ قَضَى نَائِبُهُ غَيْرَهُ بِإِذْنِهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الرُّجُوعِ اسْتِحْسَانًا بِمَنْزِلَةِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: هَذَا إذَا أَمَرَهُ بِهِ لَا عَنْ إكْرَاهٍ، أَمَّا إذَا كَانَ مُكْرَهًا فِي الْأَمْرِ فَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِي الرُّجُوعِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَقِسْمَتُهُ فَقَدْ ذُكِرَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: وَقَعَ هَذَا الْحَرْفُ غَلَطًا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ فِعْلٌ وَهَذَا الْفِعْلُ غَيْرُ مَضْمُونٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى النَّصِيبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} وَالْمُرَادُ النَّصِيبُ. وَكَانَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ يَقُولُ مَعْنَاهُ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا طَلَبَ الْقِسْمَةَ مِنْ صَاحِبِهِ وَامْتَنَعَ

ص: 222

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ مِائَةٌ إلَى شَهْرٍ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ)، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي، وَمَنْ قَالَ ضَمِنْت لَك عَنْ فُلَانٍ مِائَةً إلَى شَهْرٍ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّامِنِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ.

الْآخَرُ عَنْ ذَلِكَ فَضَمِنَ إنْسَانٌ لِيَقُومَ مَقَامَهُ فِي الْقِسْمَةِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ إذَا اقْتَسَمَا ثُمَّ مَنَعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ قَسْمَ صَاحِبِهِ فَتَكُونُ الرِّوَايَةُ عَلَى هَذَا قَسَمَهُ بِالضَّمِيرِ لَا بِالتَّاءِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْقِسْمَةَ بِالتَّاءِ تَجِيءُ بِمَعْنَى الْقَسْمِ بِلَا تَاءٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ النَّوَائِبُ بِعَيْنِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ تَفْسِيرَ النَّوَائِبِ بِحَقٍّ وَبِغَيْرِهِ وَعَلَى هَذَا فَذِكْرُهُ بِالْوَاوِ لِلْبَيَانِ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ لِلتَّفْسِيرِ أَوْ حِصَّتُهُ مِنْهَا: أَيْ مِنْ النَّوَائِبِ: يَعْنِي إذَا قَسَمَ الْإِمَامُ مَا يَنُوبُ الْعَامَّةَ نَحْوُ مُؤْنَةِ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ فَأَصَابَ وَاحِدًا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيَحَبُّ أَدَاؤُهُ فَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِالْإِجْمَاعِ. قِيلَ: وَلَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الرِّوَايَةَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ وَقِسْمَتُهُ بِالْوَاوِ لِيَكُونَ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله إلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِأَوْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْقِسْمَةُ حِصَّةً مِنْ النَّوَائِبِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إذَا كَانَتْ حِصَّةً مِنْهَا فَهُوَ مَحَلُّ أَوْ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ هِيَ النَّوَائِبَ بِعَيْنِهَا فَهُوَ مَحَلُّ الْوَاوِ لِمَا مَرَّ. وَقِيلَ هِيَ النَّائِبَةُ الْمُوَظَّفَةُ الرَّاتِبَةُ، وَالْمُرَادُ مِنْ النَّوَائِبِ مَا يَنُوبُهُ غَيْرُ رَاتِبٍ. قِيلَ: وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَالْحُكْمُ مَا بَيَّنَّاهُ: يَعْنِي جَوَازَ الْكَفَالَةِ فِيمَا كَانَ بِحَقٍّ بِالِاتِّفَاقِ، وَاخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ فِيمَا كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ.

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ مِائَةٌ إلَى شَهْرٍ إلَخْ) وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ مِائَةٌ إلَى شَهْرٍ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي لِكَوْنِهَا حَالَّةً؛ وَإِنْ قَالَ ضَمِنْت لَك عَنْ فُلَانٍ مِائَةً إلَى شَهْرٍ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّامِنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِمَا لِلْمُقَرِّ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَوْلُ فِيهِمَا لِلْمُقِرِّ. لَهُ أَنَّ الدَّيْنَ نَوْعَانِ: حَالٌّ وَمُؤَجَّلٌ فَإِذَا أَقَرَّ بِالْمُؤَجَّلِ فَقَدْ أَقَرَّ بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: اعْتِبَارًا بِالْكَفَالَةِ. وَأُجِيبَ بِفَسَادِ الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الدَّيْنِ عَارِضٌ كَمَا سَيَأْتِي. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْأَجَلَ عَلَى صَاحِبِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِيهِ إلَّا بِحُجَّةٍ اعْتِبَارًا بِالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ. وَأُجِيبَ بِمَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ.

وَوَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ مُدَّعِيًا حَقًّا لِنَفْسِهِ وَهُوَ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ إلَى أَجَلٍ فَكَانَ ثَمَّةَ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَدَعْوَى عَلَى غَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ مَقْبُولٌ وَالثَّانِي يَحْتَاجُ إلَى بُرْهَانٍ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ كَانَ الْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ. وَفِي الْكَفَالَةِ مَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ الشَّهْرِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَيُقِرُّ بِهِ أَلَيْسَ أَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِالْمُطَالَبَةِ فَلِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: أَقَرَّ بِالْمُطَالَبَةِ مُدَّعِيًا حَقًّا لِنَفْسِهِ وَهُوَ تَأْخِيرُهَا إلَى أَجَلٍ فَكَانَ ثَمَّةَ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْتُمْ فَلَا يَتِمُّ الْفَرْقُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَمَامِهِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِأَنْ يُقَالَ: الْكَفَالَةُ لَمَّا كَانَتْ الْتِزَامَ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِ وَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْأَجَلُ عِنْدَ دَعْوَاهُ الْكَفِيلَ،؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ، وَفِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ مَا لَا يَخْفَى.

ص: 223

ثُمَّ ادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ وَهُوَ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ إلَى أَجَلٍ وَفِي الْكَفَالَةِ مَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ الشَّهْرِ، وَلِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الدُّيُونِ عَارِضٌ حَتَّى لَا يَثْبُتَ إلَّا بِشَرْطٍ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ الشَّرْطَ كَمَا فِي الْخِيَارِ، أَمَّا الْأَجَلُ فِي الْكَفَالَةِ فَنَوْعٌ مِنْهَا حَتَّى يَثْبُتَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بِأَنْ كَانَ مُؤَجَّلًا عَلَى الْأَصِيلِ، وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله أَلْحَقَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ، وَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ أَلْحَقَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي وَالْفَرْقُ قَدْ أَوْضَحْنَاهُ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ الْفَرْقَ الْأَوَّلَ إقْنَاعِيًّا جَدَلِيًّا لِدَفْعِ الْخَصْمِ فِي الْمَجْلِسِ، وَذَكَرَ الثَّانِي لِمَنْ لَهُ زِيَادَةُ اسْتِبْصَارٍ فِي الِاسْتِقْصَاءِ عَلَى مَا يُذْكَرُ، وَأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالثَّانِي مَوْجُودٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا مُنَاقَضَةَ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الدُّيُونِ عَارِضٌ) هُوَ الْفَرْقُ الثَّانِي، وَمَعْنَاهُ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَثْبُتُ بِشَيْءٍ إلَّا بِشَرْطٍ كَانَ مِنْ عَوَارِضِهِ، وَمَا يَثْبُتُ لَهُ بِدُونِهِ كَانَ ذَاتِيًّا لَهُ وَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّا لَوْ قَطَعْنَا النَّظَرَ عَنْ وُجُودِ الشَّرْطِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ ذَلِكَ فَكَانَ عَارِضًا، وَالْأَجَلُ فِي الدُّيُونِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْبِيَاعَاتِ وَالْمُهُورِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ حَالَّةٌ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِيهَا إلَّا بِالشَّرْطِ وَفِي الْكَفَالَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مُؤَجَّلًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا عَلَى الْأَصِيلِ فَكَانَ الْأَجَلُ ذَاتِيًّا لِبَعْضِ الْكَفَالَةِ مُنَوَّعًا لَهُ كَالنَّاطِقِ الْمُنَوَّعِ لِبَعْضِ الْحَيَوَانِ. وَهَذَا أَقْصَى مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْفِقْهِ مِنْ الدِّقَّةِ فِي إظْهَارِ الْمَأْخَذِ وَإِذَا كَانَ الْأَجَلُ فِي الدُّيُونِ عَارِضًا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَرْطٍ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَهُ مَعَ الْيَمِينِ كَمَا فِي شَرْطِ الْخِيَارِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْكَفَالَةِ ذَاتِيًّا كَانَ إقْرَارُهُ بِنَوْعٍ مِنْهَا فَلَا يُحْكَمُ بِغَيْرِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَوَقَعَ فِي الْمَتْنِ وَالشَّافِعِيُّ أَلْحَقَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ، وَأَبُو يُوسُفَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ أَلْحَقَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي، وَالْعَكْسُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِمَا. فَمِنْ الشَّارِحِينَ

ص: 224

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ فَاسْتَحَقَّتْ لَمْ يَأْخُذْ الْكَفِيلَ حَتَّى يُقْضَى لَهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ) لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَنْتَقِضُ الْبَيْعُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا لَمْ يُقْضَ لَهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ فَلَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ رَدُّ الثَّمَنِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ بِالْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِهَا لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْكَفِيلِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالِاسْتِحْقَاقِ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ يَرْجِعُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ وَمَوْضِعُهُ أَوَائِلُ الزِّيَادَاتُ فِي تَرْتِيبِ الْأَصْلِ.

مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْغَلَطِ مِنْ النَّاسِخِ وَلَعَلَّهُ أَظْهَرُ

(قَوْلُهُ: وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ إلَخْ) وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فَاسْتُحِقَّتْ الْجَارِيَةُ لَمْ يَأْخُذْ الْمُشْتَرِي الْكَفِيلَ بِالثَّمَنِ حَتَّى يَقْضِيَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ بِرَدِّ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْإِجَازَةِ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ ثَابِتٌ وَثُبُوتُهُ يَمْنَعُ أَنْ يَأْخُذَ الْكَفِيلُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْمُسْتَحِقِّ لَا يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا لَمْ يُقْضَ لَهُ بِرَدِّ الثَّمَنِ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ بَائِعُ الْجَارِيَةِ بَعْدَ حُكْمِ الْقَاضِي لِلْمُسْتَحِقِّ نَفَذَ إعْتَاقُهُ

ص: 225

(وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَضَمِنَ لَهُ رَجُلٌ بِالْعُهْدَةِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ) لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مُشْتَبِهَةٌ قَدْ تَقَعُ عَلَى الصَّكِّ الْقَدِيمِ وَهُوَ مِلْكُ الْبَائِعِ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ، وَقَدْ تَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ وَعَلَى حُقُوقِهِ وَعَلَى الدَّرَكِ وَعَلَى الْخِيَارِ، وَلِكُلِّ ذَلِكَ وَجْهٌ فَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهَا، بِخِلَافِ الدَّرَكِ لِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي ضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ عُرْفًا، وَلَوْ ضَمِنَ الْخَلَاصَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَخْلِيصِ الْمَبِيعِ وَتَسْلِيمِهِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَكِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الْبَيْعِ أَوْ قِيمَتِهِ فَصَحَّ.

وَإِذَا لَمْ يُنْتَقَضْ لَمْ يَجِبْ الثَّمَنُ عَلَى الْأَصِيلِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَصِيلِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْكَفِيلِ، وَإِنَّمَا قَالَ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازًا عَمَّا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكَفِيلُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَى الْبَائِعِ وَوَجَبَ لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَتُهُ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِالْحُرِّيَّةِ فَبِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ بِهَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الرُّجُوعِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ؟ وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْقَضَاءِ بِالْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِهَا لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وَكَفِيلِهِ إنْ شَاءَ وَمَوْضِعُهُ أَوَائِلُ الزِّيَادَاتِ فِي تَرْتِيبِ الْأَصْلِ، أَرَادَ بِتَرْتِيبِ الْأَصْلِ تَرْتِيبَ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ افْتَتَحَ كِتَابَ الزِّيَادَاتِ بِبَابِ الْمَأْذُونِ مُخَالِفًا لِتَرْتِيبِ سَائِرِ الْكُتُبِ تَبَرُّكًا بِمَا أَمْلَى بِهِ أَبُو يُوسُفَ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا أَخَذَ مَا أَمْلَى وَبَيَّنَ أَبُو يُوسُفَ بَابًا بَابًا وَجَعَلَهُ أَصْلًا، وَزَادَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِهِ مَا يُتِمُّ بِهِ تِلْكَ الْأَبْوَابَ فَكَانَ أَصْلُ الْكِتَابِ مِنْ تَصْنِيفِ أَبِي يُوسُفَ وَزِيَادَاتُهُ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ كِتَابَ الزِّيَادَاتِ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ إمْلَاءِ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ بَابِ الْمَأْذُونِ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ مُحَمَّدٌ تَبَرُّكًا بِهِ، ثُمَّ رَتَّبَهَا الزَّعْفَرَانِيُّ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ.

(وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَضَمِنَ لَهُ رَجُلٌ بِالْعُهْدَةِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ) ذَكَرَ هَاهُنَا ثَلَاثَ مَسَائِلَ: الْأُولَى ضَمَانُ الْعُهْدَةِ وَقَالَ إنَّهُ بَاطِلٌ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا. وَالثَّانِيَةُ ضَمَانُ الدَّرَكِ وَهُوَ صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَالثَّالِثَةُ ضَمَانُ الْخَلَاصِ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَأَمَّا بُطْلَانُ الْأُولَى فَلِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مُشْتَبِهَةٌ لِاشْتِرَاكٍ وَقَعَ فِي اسْتِعْمَالِهَا فَإِنَّهَا تَقَعُ عَلَى الصَّكِّ الْقَدِيمِ الَّذِي عِنْدَ الْبَائِعِ وَهُوَ مِلْكُ الْبَائِعِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ، وَمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَقَدْ تَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَهْدِ، وَالْعَهْدُ وَالْعَقْدُ وَاحِدٌ، وَقَدْ تَقَعُ عَلَى حُقُوقِ الْعَقْدِ

ص: 226

(بَابُ كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ)

(وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى اثْنَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا إذَا اشْتَرَيَا عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكَفَلَ كُلُّ

؛ لِأَنَّهَا مِنْ ثَمَرَاتِ الْعَقْدِ، وَقَدْ تَقَعُ عَلَى الدَّرَكِ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَعَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» أَيْ خِيَارُ الشَّرْطِ فِيهِ، وَلِكُلِّ ذَلِكَ وَجْهٌ يَجُوزُ الْحَمْلُ بِهِ عَلَيْهِ فَصَارَ مُبْهَمًا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِ.

وَأَمَّا جَوَازُ الثَّانِي: أَيْ ضَمَانُ الدَّرَكِ فَإِنَّ الْعُرْفَ فِيهِ اسْتِعْمَالُهُ فِي ضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ فَصَارَ مُبَيِّنًا لَهُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله قَالَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَخْلِيصِ الْمَبِيعِ وَتَسْلِيمِهِ لَا مَحَالَةَ: أَيْ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَتَقْدِيرٍ وَهُوَ الْتِزَامُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ ظَهَرَ مُسْتَحِقًّا فَرُبَّمَا لَا يُسَاعِدُهُ الْمُسْتَحِقُّ، أَوْ حُرًّا فَلَا يَقْدِرُ مُطْلَقًا، وَالْتِزَامُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ بَاطِلٌ، وَهُمَا جَعَلَاهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَكِ تَصْحِيحًا لِلضَّمَانِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَوْ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ إنْ عَجَزَ عَنْهُ وَضَمَانُ الدَّرَكِ صَحِيحٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ فَرَاغَ الذِّمَّةِ أَصْلٌ فَلَا تَشْتَغِلُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، ذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ فِي شُرُوطِهِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَانَا يَكْتُبَانِ فِي الشُّرُوطِ: فَمَا أَدْرَكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ أَوْ رَدُّ الثَّمَنِ، فَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ بُطْلَانَ الضَّمَانِ إنَّمَا كَانَ بِالْخَلَاصِ مُنْفَرِدًا، أَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ فَهُوَ جَائِزٌ. قِيلَ وَعَلَى هَذَا فَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إنَّمَا هُوَ الثَّمَنُ لَا الْقِيمَةُ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الثَّمَنُ مَجَازًا شُهْرَةُ أَمْرِهِ مُتَعَذِّرَةٌ وَبَلَاغَةُ التَّرْكِيبِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ فِيمَا لَا يَلْتَبِسُ فَضِيلَةً، هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ. وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ أَنَّ تَفْسِيرَ الْخَلَاصِ وَالدَّرَكِ وَالْعُهْدَةِ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الدَّرَكِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْعُهْدَةِ أَيْضًا ثَابِتٌ. وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: وَأَمَّا ضَمَانُ الْعُهْدَةِ فَقَدْ ذَكَرَ هُنَا: أَيْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا. وَذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ضَمَانُ الْعُهْدَةِ ضَمَانُ الدَّرَكِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَكَأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَذَكَرَ بُطْلَانَهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ:

لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ كَفَالَةِ الْوَاحِدِ ذَكَرَ كَفَالَةَ الِاثْنَيْنِ لِمَا أَنَّ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ طَبْعًا فَأُخِّرَ وَضْعًا لِيُنَاسِبَ الْوَضْعُ الطَّبْعَ.

قَالَ (وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى اثْنَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ إلَخْ) إذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ عَبْدًا بِأَلْفٍ

ص: 227

وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ حَتَّى يَزِيدَ مَا يُؤَدِّيهِ عَلَى النِّصْفِ فَيَرْجِعَ بِالزِّيَادَةِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَفِيلٌ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ مَا عَلَيْهِ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ وَبِحَقِّ الْكَفَالَةِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ دَيْنٌ وَالثَّانِيَ مُطَالَبَةٌ، ثُمَّ هُوَ تَابِعٌ لِلْأَوَّلِ فَيَقَعُ عَنْ الْأَوَّلِ، وَفِي الزِّيَادَةِ لَا مُعَارَضَةَ فَيَقَعُ عَنْ الْكَفَالَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي النِّصْفِ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ لِأَنَّ أَدَاءَ نَائِبِهِ كَأَدَائِهِ

فَالثَّمَنُ دَيْنٌ عَلَيْهِمَا لَا مَحَالَةَ، فَإِنْ كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ حَتَّى يَزِيدَ الْمُؤَدَّى عَلَى النِّصْفِ فَيَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَفِيلٌ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي النِّصْفِ أَصِيلًا وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَفِيلًا فَمَا أَدَّى إلَى تَمَامِ النِّصْفِ كَانَ عَمَّا عَلَيْهِ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ صَرْفًا إلَى أَقْوَى مَا عَلَيْهِ؛ كَمَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَنَقَدَ فِي الْمَجْلِسِ عَشَرَةً جَعَلَ الْمَنْقُودَ ثَمَنَ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِهِ أَقْوَى لِحَاجَتِهِ إلَى الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَمَا عَلَيْهِ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ، وَمَا عَلَيْهِ بِحَقِّ الْكَفَالَةِ مُطَالَبَةٌ لَا دَيْنٌ، وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلدَّيْنِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى الدَّيْنِ، فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالدَّيْنِ بِدُونِ الدَّيْنِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ فَلَا يُعَارِضُهُ، بَلْ يَتَرَجَّحُ الدَّيْنُ عَلَيْهَا وَيَنْصَرِفُ الْمَصْرُوفُ إلَيْهِ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ لَا مُعَارَضَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهَا بِحَقِّ الْأَصَالَةِ شَيْءٌ فَانْتَفَى الْمُعَارَضَةُ بِانْتِفَاءِ أَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، وَفِي النِّصْفِ كَانَ انْتِفَاؤُهَا لِكَوْنِ أَحَدِهِمَا رَاجِحًا لَا لِانْتِفَائِهِ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى ذَلِكَ أَوْرَدَهُ بِقِيَاسِ الْخُلْفِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ نَقِيضَ الْمُدَّعَى وَهُوَ الرُّجُوعُ عَلَى صَاحِبِهِ مُسْتَلْزِمًا لِمُحَالٍ وَهُوَ رُجُوعُ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ الْمُسْتَلْزِمُ لِلدَّوْرِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ وَقَعَ فِي النِّصْفِ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ فَلَمْ يَقَعْ فِي النِّصْفِ عَنْ صَاحِبِهِ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ:(لِأَنَّ أَدَاءَ نَائِبِهِ كَأَدَائِهِ) بَيَانٌ لِلْمُلَازَمَةِ.

وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمُؤَدَّى

ص: 228

فَيُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ

(وَإِذَا كَفَلَ رَجُلَانِ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ فِي الصَّحِيحِ أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِالْكُلِّ عَنْ الْأَصِيلِ وَبِالْكُلِّ عَنْ الشَّرِيكِ وَالْمُطَالَبَةُ مُتَعَدِّدَةٌ فَتَجْتَمِعُ الْكَفَالَتَانِ عَلَى مَا مَرَّ وَمُوجِبُهَا الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْكَفِيلِ

يَقُولُ لَهُ أَنْتَ أَدَّيْته عَنِّي بِأَمْرِي فَيَكُونُ ذَلِكَ كَأَدَائِي، وَلَوْ أَدَّيْت بِنَفْسِي كَانَ لِي أَنْ أَجْعَلَ الْمُؤَدَّى عَنْك، فَإِنْ رَجَعَتْ عَلَيَّ وَأَنَا كَفِيلٌ عَنْك فَأَنَا أَجْعَلُهُ عَنْك فَأَرْجِعُ عَلَيْك؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي أَدَّيْته عَنِّي فَهُوَ أَدَائِي فِي التَّقْدِيرِ، فَلَوْ أَدَّيْت حَقِيقَةً رَجَعْت عَلَيْك فَفِي تَقْرِيرِ أَدَائِي كَذَلِكَ، وَالشَّرِيكُ الْآخَرُ يَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَ فَأَدَّى إلَى الدَّوْرِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الرُّجُوعِ فَائِدَةٌ فَجَعَلْنَا الْمُؤَدَّى عَنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً إلَى تَمَامِ النِّصْفِ لِيَنْقَطِعَ الدَّوْرُ، بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ، فَإِنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ، إذْ لَيْسَ عَلَى الشَّرِيكِ بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ إلَّا النِّصْفُ فَيُقَيَّدُ الرُّجُوعُ.

(وَإِذَا كَفَلَ رَجُلَانِ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ) بِكُلِّ الْمَالِ وَعَنْ الْأَصِيلِ كَذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ كَفَالَتَانِ كَفَالَةٌ عَنْ الْأَصِيلِ وَكَفَالَةٌ عَنْ الْكَفِيلِ وَتَعَدَّدَتْ الْمُطَالَبَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبَةٌ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَأُخْرَى عَلَى الْكَفِيلِ فَصَحَّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَعَلَى الْكَفِيلِ مُطَالَبَتُهُ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْكَفِيلِ كَمَا تَصِحُّ عَنْ الْأَصِيلِ، وَكَمَا تَصِحُّ حَوَالَةُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِمَا الْتَزَمَ عَلَى آخَرَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ فِي الصَّحِيحِ (وَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ قَلِيلًا كَانَ الْمُؤَدَّى أَوْ كَثِيرًا)؛ لِأَنَّ مَا أَدَّى أَحَدُهُمَا وَقَعَ شَائِعًا عَنْهُمَا إذْ الْكُلُّ كَفَالَةٌ فَلَا تَرْجِيحَ

ص: 229

كَمَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْأَصِيلِ وَكَمَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا وَقَعَ شَائِعًا عَنْهُمَا إذْ الْكُلُّ كَفَالَةٌ فَلَا تَرْجِيحَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ وَلَا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ الِاسْتِوَاءُ، وَقَدْ حَصَلَ بِرُجُوعِ أَحَدِهِمَا بِنِصْفِ مَا أَدَّى فَلَا يَنْتَقِضُ بِرُجُوعِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّهُمَا أَدَّيَا عَنْهُ أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِنَائِبِهِ (وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِالْجَمِيعِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) لِأَنَّهُ كَفَلَ بِجَمِيعِ الْمَالِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ. قَالَ (وَإِذَا أَبْرَأَ رَبُّ الْمَالِ أَحَدَهُمَا أَخَذَ الْآخَرَ بِالْجَمِيعِ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ) بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَبَقِيَ الْمَالُ كُلُّهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَالْآخَرُ كَفِيلٌ عَنْهُ بِكُلِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِهِ.

قَالَ (وَإِذَا افْتَرَقَ

لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْأَصَالَةَ فِي النِّصْفِ رَاجِحَةٌ بَعْدَ صُورَةِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكَفَالَةِ، وَإِذَا وَقَعَ شَائِعًا رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ وَلَا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ؛ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ الِاسْتِوَاءُ وَقَدْ حَصَلَ بِرُجُوعِ أَحَدِهِمَا بِنِصْفِ مَا أَدَّى فَلَا يُنْتَقَضُ بِرُجُوعِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَلْتَزِمْ جَمِيعَ الْمَالِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ، بَلْ الْتَزَمَ نِصْفَ الْمَالِ بِشِرَائِهِ بِنَفْسِهِ وَنِصْفَهُ بِكَفَالَتِهِ عَنْ شَرِيكِهِ، وَجَعَلَ الْمُؤَدَّى عَنْ الْكَفَالَةِ يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الصَّحِيحِ لِيَتَأَتَّى الْفُرُوعُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ (ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُمَا أَدَّيَا عَنْهُ أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِنَائِبِهِ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ الْأَصِيلِ كَانَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ لِمَنْ كَفَلَ عَنْهُ لَا لَهُمَا. وَقَالَ (وَإِنْ شَاءَ) يَعْنِي مَنْ أَدَّى مِنْهُمَا شَيْئًا (رَجَعَ بِالْجَمِيعِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ بِأَمْرِهِ) وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَفِيلًا عَنْ الْكَفِيلِ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رُجُوعٌ عَلَى الْأَصِيلِ. وَقَالَ (وَإِذَا أَبْرَأَ رَبُّ الْمَالِ أَحَدَهُمَا أَخَذَ الْآخَرَ بِالْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ، فَبَقِيَ الْمَالُ كُلُّهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَالْآخَرُ كَفِيلٌ عَنْهُ بِكُلِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) مِنْ قَوْلِهِ أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِالْكُلِّ عَنْ الْأَصِيلِ وَلِهَذَا نَأْخُذُهُ بِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.

قَالَ (وَإِذَا افْتَرَقَ

ص: 230

الْمُتَفَاوِضَانِ فَلِأَصْحَابِ الدُّيُونِ أَنْ يَأْخُذُوا أَيَّهمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الشَّرِكَةِ (وَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ) لِمَا مَرَّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ.

قَالَ (وَإِذَا كُوتِبَ الْعَبْدَانِ كِتَابَةً وَاحِدَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ) وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَطَرِيقُهُ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصِيلًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ عِتْقُهُمَا مُعَلَّقًا بِأَدَائِهِ وَيُجْعَلَ كَفِيلًا بِالْأَلْفِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي الْمُكَاتَبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ بِنِصْفِهِ عَلَى صَاحِبِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا، وَلَوْ رَجَعَ بِالْكُلِّ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ

الْمُتَفَاوِضَانِ فَلِأَصْحَابِ الدُّيُونِ أَنْ يَأْخُذُوا أَيَّهمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ إلَخْ) إذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ وَعَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَلِأَصْحَابِهِ أَنْ يَأْخُذُوا أَيَّهمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ، فَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا شَيْئًا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَزِيدَ الْمُؤَدَّى عَلَى النِّصْفِ فَيَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْكَفَالَةِ بِمَا كَانَ مِنْ ضَمَانِ التِّجَارَةِ، وَحِينَئِذٍ كَانَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُطَالِبُوا أَيَّهمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَثْبُتُ بِعَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَلَا تَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ، فَإِذَا طَلَبُوا أَحَدَهُمَا وَأَخَذُوا الدَّيْنَ مِنْهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ لِمَا مَرَّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ.

قَالَ (وَإِذَا كُوتِبَ الْعَبْدَانِ كِتَابَةً وَاحِدَةً إلَخْ) وَإِذَا كُوتِبَ الْعَبْدَانِ كِتَابَةً وَاحِدَةً بِأَنْ قَالَ الْمَوْلَى كَاتَبْتُكُمَا عَلَى أَلْفٍ (إلَى كَذَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ) صَحَّ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ، وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ بَاطِلٌ، فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا. أَمَّا بُطْلَانُ كَفَالَةِ الْمُكَاتَبِ فَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَمْلِكُهُ، وَأَمَّا بُطْلَانُ الْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهَا تَقْتَضِي دَيْنًا

ص: 231

قَالَ (وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّيَا شَيْئًا حَتَّى أَعْتَقَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا جَازَ الْعِتْقُ) لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ وَبَرِئَ عَنْ النِّصْفِ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ إلَّا لِيَكُونَ الْمَالُ وَسِيلَةً إلَى الْعِتْقِ وَمَا بَقِيَ وَسِيلَةً فَيَسْقُطُ وَيَبْقَى النِّصْفُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَابَلٌ بِرَقَبَتِهِمَا. وَإِنَّمَا جُعِلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ الضَّمَانِ، وَإِذَا جَاءَ الْعِتْقُ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَاعْتُبِرَ مُقَابَلًا بِرَقَبَتِهِمَا فَلِهَذَا يَتَنَصَّفُ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِحِصَّةِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ أَيَّهمَا شَاءَ الْمُعْتَقَ بِالْكَفَالَةِ وَصَاحِبَهُ بِالْأَصَالَةِ، وَإِنْ أَخَذَ الَّذِي أَعْتَقَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا يُؤَدِّي لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ أَخَذَ الْآخَرُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُعْتَقِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

صَحِيحًا وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَصِيلًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ وَيَكُونَ عِتْقُهُمَا مُعَلَّقًا بِأَدَائِهِ: أَيْ بِأَدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ أَدَّيْت الْأَلْفَ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَهَذَا وَأَنْ يَجْعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا بِأَلْفٍ عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْمُكَاتَبِ، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَتْ الْكِتَابَةُ وَاحِدَةً وَلِهَذَا قَيَّدَ بِهَا، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَتْ الْكِتَابَتَانِ فَإِنَّ عِتْقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ بِمَالٍ عَلَى حِدَةٍ فَتَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ عُرِفَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْوُجُوبِ عَلَيْهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعِلَّةِ: أَعْنِي الْكَفَالَةَ فَكَانَ كُلُّ الْبَدَلِ مَضْمُونًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْبَدَلِ، فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ بِنِصْفِهِ عَلَى صَاحِبِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا، وَلَوْ رَجَعَ بِالْكُلِّ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ لَانْتَفَتْ الْمُسَاوَاةُ، وَلَوْ لَمْ تُؤَدِّيَا شَيْئًا حَتَّى أَعْتَقَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا صَحَّ الْعِتْقُ لِمُصَادَفَةِ الْعِتْقِ مِلْكَهُ وَبَرِئَ الْمُعْتَقُ عَنْ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْمَالِ إلَّا لِيَكُونَ وَسِيلَةً إلَى الْعِتْقِ وَلَمْ يَبْقَ وَسِيلَةً فَيَسْقُطُ النِّصْفُ وَيَبْقَى النِّصْفُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَابَلٌ بِرَقَبَتِهِمَا حَتَّى يَكُونَ مُوَزَّعًا مُنْقَسِمًا عَلَيْهِمَا، وَإِنَّمَا جُعِلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ الضَّمَانِ فَكَانَ ضَرُورِيًّا لَا يَتَعَدَّى غَيْرَ مَوْضِعِهَا. وَإِذَا أُعْتِقَ اسْتَغْنَى عَنْهُ وَانْتَفَى الضَّرُورَةُ فَاعْتُبِرَ مُقَابِلًا بِرَقَبَتِهِمَا وَلِهَذَا يَتَنَصَّفُ. وَعُورِضَ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُقَابَلًا بِهِمَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ الرُّجُوعُ مَا لَمْ يَزِدْ الْمُؤَدَّى عَلَى النِّصْفِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الدَّوْرُ كَمَا مَرَّ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرُّجُوعَ بِنِصْفِ مَا أَدَّى إنَّمَا هُوَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى لَوْ وَقَعَ عَنْ الْمُؤَدِّي عَلَى الْخُصُوصِ بَرِئَ بِأَدَائِهِ عَنْ نَصِيبِهِ وَعَتَقَ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَتَقَ، وَالْمَوْلَى شَرَطَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُؤَدِّيَا جَمِيعًا وَيُعْتَقَا جَمِيعًا فَكَانَ فِي التَّخْصِيصِ إضْرَارٌ لِلْمَوْلَى بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَأَوْقَعْنَا الْمُؤَدَّى عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَإِذَا بَقِيَ النِّصْفُ عَلَى الْآخَرِ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَيَّهمَا شَاءَ، وَأَمَّا الْمُعْتَقُ فَبِالْكَفَالَةِ، وَأَمَّا صَاحِبُهُ

ص: 232

‌(بَابُ كَفَالَةِ الْعَبْدِ

وَعَنْهُ) (وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ عَبْدٍ مَالًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقَ وَلَمْ يُسَمِّ حَالًّا وَلَا غَيْرَهُ فَهُوَ حَالٌّ) لِأَنَّ الْمَالَ حَالٌّ عَلَيْهِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَقَبُولِ الذِّمَّةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ لِعُسْرَتِهِ، إذْ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَلَمْ يَرْضَ بِتَعَلُّقِهِ بِهِ وَالْكَفِيلُ غَيْرُ مُعْسِرٍ، فَصَارَ كَمَا إذَا كَفَلَ عَنْ غَائِبٍ أَوْ مُفْلِسٍ،

فَبِالْأَصَالَةِ: قِيلَ أَخْذُ الْمُعْتَقِ بِالْكَفَالَةِ تَصْحِيحٌ لِلْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ. وَأَجَابُوا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مُطَالَبًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ وَالْبَاقِي بَعْضُ ذَلِكَ فَيَبْقَى عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الثُّبُوتِ، فَإِنْ أَخَذَ الَّذِي أَعْتَقَهُ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ أَخَذَ صَاحِبَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْ نَفْسِهِ

(بَابُ كَفَالَةِ الْعَبْدِ وَعَنْهُ)

حَقُّ هَذَا الْبَابِ التَّأْخِيرُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْحُرِّ، إمَّا لِشَرَفِهِ وَإِمَّا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ هُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَوَضْعُ تَرْتِيبِهِ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ كَفَالَةِ الْعَبْدِ فِي الْبَحْثِ، وَلَكِنْ اُعْتُبِرَ كَوْنُ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَفِيهِ مَا فِيهِ.

قَالَ (وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ عَبْدٍ مَالًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَخْ) قَوْلُهُ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ صِفَةٌ لِمَالًا. وَجَوَابُ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ: فَهُوَ حَالٌّ وَعَدَلَ عَنْ عِبَارَةِ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهِيَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعَبْدِ الَّذِي يَسْتَهْلِكُ الْمَالَ الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقَ فَضَمِنَهُ رَجُلٌ وَلَمْ يُسَمَّ حَالًّا وَلَا غَيْرَ حَالٍّ إلَى عِبَارَتِهِ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ مُحَمَّدٍ تَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا اسْتَهْلَكَ الْمَالَ عِيَانًا يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ.

قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: مُرَادُهُ إذَا أَقَرَّ بِالِاسْتِهْلَاكِ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُرَادُهُ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ الْبَالِغُ إذَا أُودِعَ مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ بَلْ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَأَمَّا عِبَارَتُهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ عَبْدٍ مَالًا لَا يَجِبُ

ص: 233

بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ بِمُؤَخَّرٍ، ثُمَّ إذَا أَدَّى رَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الطَّالِبَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ، فَكَذَا الْكَفِيلُ لِقِيَامِهِ مَقَامِهِ.

(وَمَنْ ادَّعَى عَلَى عَبْدٍ مَالًا وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ الْعَبْدُ بَرِئَ الْكَفِيلُ) لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ كَمَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِنَفْسِهِ حُرًّا.

قَالَ (فَإِنْ ادَّعَى رَقَبَةَ الْعَبْدِ فَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ فَمَاتَ الْعَبْدُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ ضَمِنَ الْكَفِيلُ قِيمَتَهُ) لِأَنَّ عَلَى الْمَوْلَى رَدَّهَا

عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقُ وَلَمْ يُسَمَّ حَالًّا وَلَا غَيْرَهُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ لِتَنَاوُلِهَا مَا إذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِاسْتِهْلَاكِهِ لِلْحَالِّ، وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى أَوْ أَقْرَضَهُ إنْسَانٌ أَوْ بَاعَهُ وَهُوَ مَحْجُورٌ أَوْ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى أَوْ أَوْدَعَهُ إنْسَانٌ فَاسْتَهْلَكَهُ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ كُلِّهِ لِلْحَالِ، أَمَّا صِحَّةُ الْكَفَالَةِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ فَلِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَالٍ مَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ لِلْكَفِيلِ فَتَصِحُّ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي ذِمَّةِ الْمَلِيءِ أَوْ الْمُفْلِسِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا حَالًا فَلِأَنَّ الْمَالَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ حَالٌّ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَقَبُولِ الذِّمَّةِ، لَكِنْ لَا يُطَالَبُ لِوُجُودِ الْمَانِعِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ، إذْ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَلَمْ يَرْضَ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمِلْكِهِ، وَهَذَا الْمَانِعُ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْسِرٍ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمُقْتَضِي وَصَارَ كَالْكَفَالَةِ عَنْ غَائِبٍ تَصِحُّ، وَيُؤْخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ حَالًّا وَإِنْ عَجَزَ الطَّالِبُ عَنْ مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ، وَكَالْكِفَالَةِ عَنْ مُفَلَّسٍ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ وَيُؤْخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ فِي الْحَالِّ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ مُتَأَخِّرًا إلَى الْمَيْسَرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ فَلِمَ لَمْ يُجْعَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ حَتَّى لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ أَيْضًا إلَّا بَعْدَ الْأَجَلِ؟.

أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ بِمُؤَخِّرٍ: يَعْنِي أَنَّ الدَّيْنَ ثَمَّةَ تَأَخَّرَ عَنْ الْأَصِيلِ بِمُؤَخِّرٍ: أَيْ بِأَمْرٍ يُوجِبُ التَّأْخِيرَ وَهُوَ التَّأْجِيلُ لَا بِمَانِعٍ يَمْنَعُ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ وُجُوبِهِ حَالًّا، وَقَدْ الْتَزَمَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ فَلَزِمَهُ مُؤَجَّلًا، ثُمَّ إذَا أَدَّى الْكَفِيلُ رَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ، فَكَذَا الْكَفِيلُ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى عَبْدٍ مَالًا إلَخْ) الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَا تَتَفَاوَتُ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ بِنَفْسِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَإِنَّهُ بِمَوْتِهِ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ كَمَا لَوْ كَانَ حُرًّا، وَذَكَرَ هَذِهِ تَمْهِيدًا لِلَّتِي بَعْدَهَا وَلِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.

(فَإِنْ ادَّعَى رَقَبَةَ الْعَبْدِ عَلَى ذِي الْيَدِ فَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ فَمَاتَ الْعَبْدُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ لَهُ ضَمِنَ الْكَفِيلُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ عَلَى الْمَوْلَى رَدَّ الرَّقَبَةِ

ص: 234

عَلَى وَجْهٍ يَخْلُفُهَا قِيمَتُهَا، وَقَدْ الْتَزَمَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ وَبَعْدَ الْمَوْتِ تَبْقَى الْقِيمَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَا عَلَى الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.

قَالَ (وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَمْرِهِ فَعَتَقَ فَأَدَّاهُ أَوْ كَانَ الْمَوْلَى كَفَلَ عَنْهُ فَأَدَّاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ) وَقَالَ زُفَرُ: يَرْجِعُ، وَمَعْنَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ حَتَّى تَصِحَّ كَفَالَتُهُ بِالْمَالِ عَنْ الْمَوْلَى إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ، أَمَّا كَفَالَتُهُ عَنْ الْعَبْدِ فَتَصِحُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ. لَهُ أَنَّهُ تَحَقَّقَ الْمُوجِبُ لِلرُّجُوعِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ وَالْمَانِعُ وَهُوَ الرِّقُّ قَدْ زَالَ. وَلَنَا أَنَّهَا وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَكَذَا الْعَبْدُ عَلَى مَوْلَاهُ،

عَلَى وَجْهٍ يُخْلِفُهَا الْقِيمَةَ) عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّهَا، وَإِذَا وَجَبَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ عَلَى الْأَصِيلِ وَجَبَ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ، وَقَدْ انْتَقَلَ الضَّمَانُ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ إلَى الْقِيمَةِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ: أَيْ الضَّمَانِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ مَا الْتَزَمَهُ وَهُوَ الْعَبْدُ قَدْ فَاتَ وَسَقَطَ عَنْ الْعَبْدِ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ فَكَذَا عَنْ كَفِيلِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ بِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَوْ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ حَيْثُ تَقْضِي بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَيِّتِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ إلَّا إذَا أَقَرَّ الْكَفِيلُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْأَصِيلُ.

قَالَ (وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَمْرِهِ إلَخْ) إذَا كَفَلَ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَمْرِهِ فَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ تَصِحَّ كَفَالَتُهُ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي صَحَّتْ

ص: 235

فَلَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً أَبَدًا كَمَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَجَازَهُ.

(وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِمَالِ الْكِتَابَةِ حُرٌّ تَكَفَّلَ بِهِ أَوْ عَبْدٌ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي

إنْ كَانَتْ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ لِمَوْلَاهُ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا بِالدَّيْنِ بِالرَّهْنِ وَالْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ، وَإِذَا كَفَلَ الْمَوْلَى عَنْ عَبْدِهِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ بِالنَّفْسِ أَوْ الْمَالِ مَدْيُونًا كَانَ الْعَبْدُ أَوْ غَيْرَ مَدْيُونٍ، فَإِذَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَأَدَّى الْعَبْدُ مَا كَفَلَ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ أَوْ أَدَّى الْمَوْلَى ذَلِكَ بَعْدَ عِتْقِ عَبْدِهِ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ.

وَقَالَ زُفَرُ: يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلرُّجُوعِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِالْأَمْرِ تَحَقَّقَ وَالْمَانِعُ وَهُوَ الرِّقُّ قَدْ زَالَ وَقُلْنَا: هَذِهِ الْكَفَالَةُ قَدْ انْعَقَدَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، وَكَذَا الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا بِحَالٍ، وَكُلُّ كَفَالَةٍ تَنْعَقِدُ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرَّدِّ لَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً أَبَدًا كَمَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَ فَإِنَّ الْكَفِيلَ بَعْدَ الْأَدَاءِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِشَيْءٍ لِذَلِكَ. وَنُوقِضَ بِأَنَّ الرَّاهِنَ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَسَعَى الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَوْلَى مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ هُنَاكَ لَا يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا عَلَى مَوْلَاهُ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُغَالَطَةً فَإِنَّ كَلَامَنَا فِي أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا وَفِيمَا ذَكَرْت الْحُرُّ يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا؛ لِأَنَّ اسْتِيجَابَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْعِتْقِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُطَالَبٍ بِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ فَلَا يَكُونُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ

وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمُكَاتَبِ بِمَالِ الْكِتَابَةِ تَكَفَّلَ بِهِ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ، وَإِنَّمَا قَالَ بِمَالٍ بِالْكِتَابَةِ دُونَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِيَتَنَاوَلَ الْبَدَلَ، وَكُلَّ دَيْنٍ يَكُونُ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ أَيْضًا غَيْرَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، أَمَّا فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلِأَنَّهُ دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لِثُبُوتِهِ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ الرِّقُّ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ إيجَابُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ لَكِنْ تُرِكَ الْقِيَاسُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} وَكُلُّ مَا ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ: أَيْ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ لِاقْتِضَائِهَا دَيْنًا مُسْتَقِرًّا؛ لِأَنَّهَا لِتَوْثِيقِ الْمُطَالَبَةِ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ

ص: 236

فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ عَجَزَ نَفْسُهُ سَقَطَ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ، وَإِثْبَاتُهُ مُطْلَقًا يُنَافِي مَعْنَى الضَّمِّ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الِاتِّحَادُ، وَبَدَلُ السِّعَايَةِ كَمَالِ الْكِتَابَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ.

جَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الطَّالِبِ فَلَمْ يَبْقَ لِلْكَفَالَةِ فَائِدَةٌ، بَلْ قَدْ تَكُونُ هُزُؤًا وَلَعِبًا. (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ، فَإِنَّهُ إذَا عَجَّزَ نَفْسَهُ سَقَطَ الدَّيْنُ وَالْمُسْتَقِرُّ مِنْ الدَّيْنِ مَا لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْأَدَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ. وَقَوْلُهُ:(وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْمُدَّعَى وَهُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَفَالَةَ إنْ صَحَّتْ بِهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُهُ عَلَى الْكَفِيلِ عَلَى وَجْهِ ثُبُوتِهِ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ أَنْ يَسْقُطَ بِتَعْجِيزِ الْكَفِيلِ نَفْسَهُ كَمَا يَسْقُطُ بِتَعْجِيزِ الْأَصِيلِ نَفْسَهُ أَوْ مُطْلَقًا وَلَا سَبِيلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ بِتَعْجِيزِ نَفْسِهِ يُرَدُّ رَقِيقًا لِمَوْلَاهُ كَمَا كَانَ وَالْكَفِيلُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِفَوَاتِ شَرْطِ الضَّمِّ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الِاتِّحَادَ فِي صِفَةِ الْوَاجِبِ بِالْكَفَالَةِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الضَّمِّ وَنَفْيًا لِلزِّيَادَةِ عَلَى الْمُلْتَزِمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّيْنَ لَوْ كَانَ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا كَانَ عَلَى الْكَفِيلِ كَذَلِكَ فِي الْكَفَالَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَلَوْ كَانَ جَيِّدًا أَوْ زَيْفًا عَلَى الْأَصِيلِ كَانَ عَلَى الْكَفِيلِ كَذَلِكَ، وَالْمُطْلَقُ غَيْرُ مُتَّحِدٍ مَعَ الْمُقَيَّدِ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ مُطْلَقًا لَزِمَ إلْزَامُ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا اُلْتُزِمَ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلِأَنَّهُ إذَا عَجَّزَ نَفْسَهُ يَسْقُطُ عَنْهُ بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ سُقُوطُ بَدَلِهَا لِابْتِنَائِهَا عَلَيْهَا، إذْ لَوْلَاهَا لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْمَوْلَى عَلَيْهِ شَيْئًا (وَبَدَلُ السِّعَايَةِ كَمَالِ الْكِتَابَةِ) فِي عَدَمِ جَوَازِ الْكِفَايَةِ بِهِ لِلْمَوْلَى (عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِكَوْنِهِ دَيْنًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ لِثُبُوتِهِ مَعَ الْمُنَافِي) لِمَا أَنَّ أَحْكَامَ الْمُسْتَسْعَى أَحْكَامُ الْعَبْدِ عِنْدَهُ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَتَزَوُّجِ الْمَرْأَتَيْنِ وَتَنْصِيفِ الْحُدُودِ وَغَيْرِهِمَا. وَعَلَى قَوْلِهِمَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا لِسُقُوطِهِ بِالتَّعْجِيزِ وَهُوَ فِي السِّعَايَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فَكَانَ كَالْحُرِّ الْمَدْيُونِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 237

(كِتَابُ الْحَوَالَةِ)

كِتَابُ الْحَوَالَةِ)

:

الْحَوَالَةُ تُنَاسِبُ الْكَفَالَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا الْتِزَامًا بِمَا عَلَى الْأَصِيلُ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ، وَلِهَذَا جَازَ اسْتِعَارَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ إذَا اشْتَرَطَ مُوجِبَ إحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى عِنْدَ ذِكْرِ الْأُخْرَى، لَكِنَّهُ أَخَّرَ الْحَوَالَةَ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ، وَالْبَرَاءَةُ تَقْفُو الْكَفَالَةَ فَكَذَا مَا يَتَضَمَّنُهَا. وَالْحَوَالَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ النَّقْلُ وَحُرُوفُهَا كَيْفَمَا تَرَكَّبَتْ دَارَتْ عَلَى مَعْنَى النَّقْلِ وَالزَّوَالِ. وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ تَحْوِيلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَثُّقِ بِهِ. وَأَمَّا شَرْطُهَا

ص: 238

قَالَ (وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ) قَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَتَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِالدُّيُونِ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، وَالتَّحْوِيلُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ.

قَالَ (وَتَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ) أَمَّا الْمُحْتَالُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَقِلُ بِهَا وَالذِّمَمُ مُتَفَاوِتَةٌ

فَسَنَذْكُرُهُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، وَكَذَا حُكْمُهَا وَأَنْوَاعُهَا.

قَالَ (وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ إلَخْ) الْحَوَالَةُ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ دُونَ الْأَعْيَانِ، أَمَّا الْجَوَازُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ وَقَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بَعْدَ مَا رَوَى الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَمَعْنَاهُ: إذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ. أَمَرَ بِالِاتِّبَاعِ وَالِاتِّبَاعُ بِسَبَبٍ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ وَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ الشَّارِعِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهَا.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَوَازَ كَالْكَفَالَةِ، وَأَمَّا اخْتِصَاصُهَا بِالدُّيُونِ فَلِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ التَّحْوِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالتَّحْوِيلُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ. وَتَقْرِيرُهُ الْحَوَالَةُ تَحْوِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَالتَّحْوِيلُ الشَّرْعِيُّ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي مُحَوَّلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ فِي الذِّمَّةِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ فَجَازَ أَنْ يَعْتَبِرَهُ الشَّرْعُ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ آخَرَ بِالْتِزَامِهِ. وَأَمَّا الْعَيْنُ إذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ مَحْسُوسًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ لَيْسَ هُوَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحِسَّ يُكَذِّبُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ إلَّا النَّقْلُ الْحِسِّيُّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ.

قَالَ (وَتَصِحُّ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ إلَخْ) شَرْطُ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ رِضَا الْمُحْتَالِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ، وَهُوَ أَيْ الدَّيْنُ يَنْتَقِلُ بِالْحَوَالَةِ وَالذِّمَمُ مُتَفَاوِتَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَمَّا رِضَا الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ لِلْمُحِيلِ دَيْنٌ عَلَيْهِ فَلَا يُشْتَرَطُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ

ص: 239

فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ، وَأَمَّا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ وَلَا لُزُومَ بِدُونِ الْتِزَامِهِ، وَأَمَّا الْمُحِيلُ فَالْحَوَالَةُ تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ.

وَأَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ فَلَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ كَمَا لَوْ وَكَّلَ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ دَيْنٌ عَلَيْهِ فَيُشْتَرَطُ رِضَاهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَقُلْنَا إنَّهُ إلْزَامُ الدَّيْنِ وَلَا لُزُومَ بِدُونِ الِالْتِزَامِ. لَا يُقَالُ: إلْزَامُ الْحَاكِمِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُنْكِرِ إلْزَامٌ بِدُونِ الِالْتِزَامِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إظْهَارٌ لِلِالْتِزَامِ لَا إلْزَامٌ، وَأَمَّا رِضَا الْمُحِيلِ فَقَدْ شَرَطَهُ الْقُدُورِيُّ وَعَسَى يُعَلِّلُ بِأَنَّ ذَوِي الْمُرُوآتِ قَدْ يَأْنَفُونَ بِتَحَمُّلِ غَيْرِهِمْ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الدَّيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُمْ. وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْحَوَالَةَ تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَالْمُحِيلُ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ؛ لِأَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ قُبِلَ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ فَائِدَةُ اشْتِرَاطِهِ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ بِأَمْرِهِ. وَقِيلَ: لَعَلَّ مَوْضُوعَ مَا ذُكِرَ فِي الْقُدُورِيِّ أَنْ يَكُونَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُ الْحَوَالَةَ، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ إسْقَاطًا لِمُطَالَبَةِ الْمُحِيلِ عَنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِرِضَاهُ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَوَالَةَ قَدْ يَكُونُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمُحِيلِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ إحَالَةٌ وَهُوَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ وَالرِّضَا، وَهُوَ وَجْهُ رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ، وَالثَّانِي احْتِيَالٌ يَتِمُّ بِدُونِ إرَادَةِ الْمُحِيلِ بِإِرَادَةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَرِضَاهُ. وَهُوَ وَجْهُ رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ، وَعَلَى هَذَا اشْتِرَاطُهُ مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إيفَاءَ الْحَقِّ حَقُّهُ فَلَهُ إيفَاؤُهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ غَيْرِ قَسْمٍ عَلَيْهِ بِتَعْيِينِ بَعْضِ الْجِهَاتِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ

ص: 240

قَالَ (وَإِذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْ الدَّيْنِ بِالْقَبُولِ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَبْرَأُ اعْتِبَارًا بِالْكَفَالَةِ،

مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ بِنَاءً عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي.

قَالَ (وَإِذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْ الدَّيْنِ بِالْقَبُولِ إلَخْ) إذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بِرُكْنِهَا وَشَرْطِهَا كَانَ حُكْمُهَا بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ مِنْ الدَّيْنِ، وَقَوْلُهُ: بِالْقَبُولِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ إذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ رِضَا مَنْ رِضَاهُ شَرْطٌ فِيهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ الدَّيْنِ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِمَا هُوَ الصَّحِيحُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُنَا، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا تُوجِبُ بَرَاءَتَهَا عَنْ الْمُطَالَبَةِ، وَمَنْشَأُ ذَلِكَ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله أَحْكَامًا تَدُلُّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ مَا قَالَ: إنَّ الْمُحْتَالَ إذَا وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ الْمُحِيلِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ لَا تَصِحُّ هِبَتُهُ وَلَا إبْرَاؤُهُ، وَلَوْ بَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ وَجَبَ أَنْ تَصِحَّ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْهُ صَحَّ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَحَوُّلَ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَبَرَاءَةِ الْمُحِيلِ عَنْهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي أَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا أَبْرَأَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ صَحَّ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَإِبْرَاءِ الْكَفِيلِ. وَلَوْ انْتَقَلَ أَصْلُ الدَّيْنِ إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَرْتَدَّ بِرَدِّهِ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْمُحِيلُ قَبْلَ الْحَوَالَةِ وَالْأَصِيلُ فِي الْكَفَالَةِ، فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَالتَّمْلِيكُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.

وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحِيلَ إذَا نَقَدَ مَا لِلْمُحْتَالِ يُجْبَرُ الْمُحْتَالُ عَلَى الْقَبُولِ، وَلَوْ انْتَقَلَ الدَّيْنُ بِالْحَوَالَةِ يَكُونُ الْمُحِيلُ مُتَبَرِّعًا فِي نَقْدِ الْمَالِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَالْأَجْنَبِيُّ إذَا تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يُجْبَرُ رَبُّ الْمَالِ لَا تَصِحُّ لِبَرَاءَتِهِ بِالْحَوَالَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى قَبُولِهِ. قَالُوا: وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي تَحْوِيلِ الدَّيْنِ فَيَجِبُ تَحْوِيلُهُ. وَقِيلَ الْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالثَّانِي قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ، فَالرَّاهِنُ إذَا أَحَالَ الْمُرْتَهِنُ بِالدَّيْنِ هَلْ يُسْتَرَدُّ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَسْتَرِدُّهُ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ عَنْ الدَّيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَسْتَرِدُّهُ كَمَا لَوْ أَجَّلَ الدَّيْنَ بَعْدَ الرَّهْنِ، وَفِيمَا إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمُحِيلَ بَعْدَ الْحَوَالَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَصِحُّ لِبَقَاءِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، إذْ الْمُتَحَوِّلُ بِهَا هُوَ الْمُطَالَبَةُ لَا غَيْرُ. لَا يُقَالُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يَدُلُّ عَلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ الْبَرَاءَةُ عَنْ الدَّيْنِ دُونَ الْمُطَالَبَةِ حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِهَا؛ لِأَنَّ انْتِقَالَ الدَّيْنِ بِلَا مُطَالَبَةٍ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِلَا لَازِمٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَاكْتُفِيَ بِذِكْرِ الدَّيْنِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ لِاسْتِلْزَامِهَا إيَّاهُ.

وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَالْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ وَفِي الْكَفَالَةِ لَا يَبْرَأُ فَكَذَا فِي الْحَوَالَةِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الْكَفَالَةُ كَالْحَوَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَفِي الْحَوَالَةِ يَبْرَأُ فَكَذَا فِي الْكَفَالَةِ، وَجَوَابُهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمُشْتَرَكِ بَلْ إلَى الْفَارِقِ وَهُوَ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَفْهُومٍ خِلَافِ مَفْهُومِ الْآخَرِ لُغَةً، فَإِنَّ

ص: 241

إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ، وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ لُغَةٌ، وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ وَالدَّيْنُ مَتَى انْتَقَلَ عَنْ الذِّمَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا.

أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى وِفَاقِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ وَالتَّوَثُّقِ بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَأِ وَالْأَحْسَنِ فِي الْقَضَاءِ،

الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ لُغَةً، وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ، وَإِذَا حَصَلَ نَقْلُ الدَّيْنِ عَنْ الذِّمَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا. أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ وَهُوَ يَقْتَضِي بِنَاءَ مَا يُضَمُّ إلَيْهِ، وَالْأَصْلُ مُوَافَقَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ، وَاعْتُرِضَ بِالْحَوَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُحِيلِ فَإِنَّهَا حَوَالَةٌ صَحِيحَةٌ كَمَا مَرَّ، وَلَا نَقْلَ فِيهَا وَلَا تَحْوِيلَ وَهُوَ نَقْضٌ إجْمَالِيٌّ.

وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنْ لَا نَقْلَ فِيهَا فَإِنَّهَا بَعْدَ أَدَاءِ الدَّيْنِ ظَاهِرُ التَّحْقِيقِ وَلِهَذَا لَا يَبْقَى عَلَى الْمُحِيلِ شَيْءٌ (قَوْلُهُ: وَالتَّوَثُّقُ بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَاءِ) جَوَابٌ لِزُفَرَ، وَتَقْرِيرُهُ سَلَّمْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ، لَكِنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ لَا تُنَافِيهِ؛ لِأَنَّ التَّوَثُّقَ يَتَحَقَّقُ مَعَهَا بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَاءِ:

ص: 242

وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ إذَا نَقَدَ الْمُحِيلُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ عَوْدُ الْمُطَالَبَةِ إلَيْهِ بِالتَّوَى فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا.

قَالَ (وَلَا يَرْجِعُ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقَّهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَرْجِعُ وَإِنْ تَوِيَ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ

أَيْ الْأَقْدَرِ عَلَى الْإِيفَاءِ لِبُسُوطَةِ سَعَةِ ذَاتِ الْيَدِ، وَالْأَحْسَنِ قَضَاءً بِأَنْ يُوَفِّيَهُ بِالْأَجْوَدِ بِلَا مُمَاطَلَةٍ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَنَزُّلٌ فِي الْجَوَابِ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ.

وَقَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ) جَوَابُ نَقْضٍ يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى وِفَاقِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ، وَتَقْرِيرُهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَانْتَقَلَ الدَّيْنُ مِنْ الْمُحِيلِ وَصَارَ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ، فَإِذَا نَقَدَهُ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُجْبَرَ الْمُحْتَالُ عَلَى الْقَبُولِ: أَيْ لَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْقَابِضِ إذَا ارْتَفَعَتْ الْمَوَانِعُ بَيْنَ الْمُحْتَالِ وَالْمَنْقُودِ لِكَوْنِ الْمُحِيلِ إذْ ذَاكَ مُتَبَرِّعًا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَبِأَدَاءِ الْأَجْنَبِيِّ الْمُتَبَرِّعِ لَا يُجْبَرُ الطَّالِبُ عَلَى الْقَبُولِ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُحِيلَ مُتَبَرِّعٌ فِي النَّقْدِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا كَالْأَجْنَبِيِّ إنْ لَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ عَوْدَ الْمُطَالَبَةِ إلَيْهِ بِالتَّوَى وَهُوَ يَحْتَمِلُ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا.

قَالَ (وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقُّهُ إلَخْ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بَرِئَ الْمُحِيلُ: أَيْ إذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بِالْقَبُولِ بَرِئَ الْمُحِيلُ وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ بِشَيْءٍ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقُّهُ عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ مَعْنَى التَّوَى.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله

ص: 243

حَصَلَتْ مُطْلَقَةً فَلَا تَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ. وَلَنَا أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِسَلَامَةِ حَقِّهِ لَهُ إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ، أَوْ تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ لِفَوَاتِهِ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ

لَا يَرْجِعُ وَإِنْ تَوَى؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ حَصَلَتْ مُطْلَقَةً: أَيْ عَنْ شَرْطِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ عِنْدَ التَّوَى، وَهُوَ ظَاهِرٌ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّقْيِيدِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ كَمَا فِي الْإِبْرَاءِ، وَتَأَيَّدَ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه دَيْنٌ فَأَحَالَهُ بِهِ عَلَى آخَرَ فَمَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: اخْتَرْت عَلِيًّا فَقَالَ أَبْعَدَك اللَّهُ فَأَبْعَدَهُ بِمُجَرَّدِ احْتِيَالِهِ وَلَمْ يُجِزْ لَهُ الرُّجُوعَ.

قُلْنَا: الْبَرَاءَةُ حَصَلَتْ مُطْلَقَةً لَفْظًا أَوْ مُطْلَقًا، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يُفِيدُكُمْ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِدَلَالَةِ الْحَالِ أَوْ الْعُرْفِ أَوْ الْعَادَةِ فَنَقُولُ: إنَّهَا حَصَلَتْ مُقَيَّدَةً بِسَلَامَةِ حَقِّهِ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَفْظًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْحَوَالَةِ التَّوَصُّلُ إلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْمَحَلِّ الثَّانِي لَا نَفْسُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الذِّمَمَ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِيفَاءِ فَصَارَتْ سَلَامَةُ الْحَقِّ مِنْ الْمَحَلِّ الثَّانِي كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ هُوَ الْمَطْلُوبَ، فَإِذَا فَاتَ الشَّرْطُ عَادَ الْحَقُّ إلَى الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ فَصَارَ وَصْفُ السَّلَامَةِ فِي حَقِّ الْمُحَالِ بِهِ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ بِأَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَهَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَعُودُ حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ لَفْظًا لِمَا أَنَّ وَصْفَ السَّلَامَةِ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُشْتَرِي، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْفَسِخُ وَيَعُودُ الدَّيْنُ وَهُوَ عِبَارَةُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ لِفَوَاتِهِ أَيْ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ السَّلَامَةُ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ، حَتَّى لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى فَسْخِ الْحَوَالَةِ انْفَسَخَتْ، وَكُلُّ مَا هُوَ قَابِلٌ لَهُ إذَا فَاتَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ يَنْفَسِخُ، كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ الْمَبِيعَ مَعِيبًا وَاخْتَارَ رَدَّهُ فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَيُعَادُ الثَّمَنُ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ لِمَا مَرَّ إشَارَةً إلَى عِبَارَةِ آخَرِينَ مِنْهُمْ، وَهُوَ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْفَسِخُ وَيُعَادُ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ، فَالْمُصَنِّفُ رحمه الله جَمَعَ بَيْنَ طَرِيقَيْ الْمَشَايِخِ رحمهم الله، وَاسْتَخْدَمَ قَوْلَهُ فَصَارَ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ فِيهِمَا بِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: إذَا تَوَى الْمَالُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَادَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ كَمَا كَانَ، وَلَا تَوَى عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ. وَلَمْ يُعْرَفْ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ.

وَعُورِضَ بِأَنَّ الْمُحَالَ وَقْتَ الْحَوَالَةِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ الْحَوَالَةَ فَيَنْتَقِلَ حَقُّهُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْبَاهَا إبْقَاءً لِحَقِّهِ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَكُلُّ مُخَيَّرٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَلَا يَعُودُ إلَى الْآخَرِ كَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ ثُمَّ تَوَى مَا عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ، وَكَالْمَوْلَى إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْمَدْيُونَ

ص: 244

فَصَارَ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ. قَالَ (وَالتَّوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ:

فَاخْتَارَ الْغُرَمَاءُ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ ثُمَّ تَوَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعُوا عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ إذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَصْلٌ، وَالْآخَرُ خَلَفٌ عَنْهُ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَقِيَاسُهُ عَلَيْهِ فَاسِدٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ، بَلْ إذَا اخْتَارَ الْخَلَفَ وَلَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْخَلَفِ وَتَرْكَ الْأَصْلِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّوَثُّقِ، فَإِضَافَةُ إتْوَاءِ الْحَقِّ إلَى وَصْفٍ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ فَاسِدَةٌ فِي الْوَضْعِ.

قَالَ (وَالْتَوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إلَخْ)

ص: 245

إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا) لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الْوُصُولِ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ التَّوَى فِي الْحَقِيقَةِ (وَقَالَا هَذَانِ الْوَجْهَانِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِإِفْلَاسِهِ حَالَ حَيَاتِهِ)

وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِفْلَاسَ لَا يَتَحَقَّقُ بِحُكْمِ الْقَاضِي عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ غَادٍ وَرَائِحٌ.

قَالَ (وَإِذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ بِمِثْلِ مَالِ الْحَوَالَةِ فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَك يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ الدَّيْنِ) لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِأَمْرِهِ إلَّا أَنَّ الْمُحِيلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ، وَلَا تَكُونُ الْحَوَالَةُ إقْرَارًا مِنْهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِدُونِهِ.

تَوَى الْمَالُ إذَا تَلِفَ. وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَحَقَّقُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ فَيَحْلِفُ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُحَالِ وَلَا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُطَالَبَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ مُفْلِسًا؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْحَقِّ وَهُوَ التَّوَى فِي الْحَقِيقَةِ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِمَا ذَكَرْنَا.

وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ ذِمَّةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَقُّ فَسَقَطَ عَنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَثَبَتَ لِلْمُحْتَالِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ كَانَتْ بَرَاءَةَ نَقْلٍ وَاسْتِيفَاءٍ لَا بَرَاءَةَ إسْقَاطٍ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ وَجَبَ الرُّجُوعُ، وَقَالَا: هَذَانِ وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِإِفْلَاسِهِ بِالشُّهُودِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِفْلَاسَ بِتَفْلِيسِ الْحَاكِمِ عِنْدَهُ لَا يَتَحَقَّقُ خِلَافًا لَهُمَا، قَالَ: التَّوَى هُوَ الْعَجْزُ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْحَقِّ وَقَدْ حَصَلَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَصَارَ كَمَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ عَجْزًا يُتَوَهَّمُ ارْتِفَاعُهُ بِحُدُوثِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ غَادٍ وَرَائِحٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي الْكَفَاءَةِ فَلَمْ يَكُنْ كَالْمَوْتِ. وَلَوْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَقَالَ الْمُحْتَالُ مَاتَ مُفْلِسًا وَقَالَ الْمُحِيلُ بِخِلَافِهِ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الطَّالِبِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ، يُقَالُ أَفْلَسَ الرَّجُلُ إذَا صَارَ ذَا فَلْسٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَا دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ فَاسْتُعْمِلَ مَكَانَ افْتَقَرَ، وَفَلَّسَهُ الْقَاضِي: أَيْ قَضَى بِإِفْلَاسِهِ حِينَ ظَهَرَ لَهُ حَالُهُ كَذَا فِي الطَّلِبَةِ.

قَالَ (وَإِذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ إلَخْ) إذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَالِ الْحَوَالَةِ مُدَّعِيًا قَضَاءَ دَيْنِهِ مِنْ مَالِهِ فَقَالَ

ص: 246

قَالَ (وَإِذَا طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ فَقَالَ إنَّمَا أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي وَقَالَ الْمُحْتَالُ لَا بَلْ أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ كَانَ لِي عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ) لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الدَّيْنَ وَهُوَ يُنْكِرُ وَلَفْظَةُ الْحَوَالَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَكَالَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ آخَرَ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى الْقَضَاءِ، فَإِنْ هَلَكَتْ بَرِئَ) لِتَقَيُّدِهَا بِهَا، فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ الْأَدَاءَ إلَّا مِنْهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْمَغْصُوبِ

الْمُحِيلُ أَحَلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ وَهُوَ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِأَمْرِهِ قَدْ تَحَقَّقَ بِإِقْرَارِهِ إلَّا أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُحِيلِ، فَإِنْ أَقَامَهَا بَطَلَ حَقُّ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ إقْرَارًا مِنْهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِدُونِهِ: أَيْ الْحَوَالَةُ قَدْ تَكُونُ بِدُونِ الدَّيْنِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ انْفِكَاكُهَا عَنْهُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّقْيِيدُ بِالدَّيْنِ تَقْيِيدًا بِلَا دَلِيلٍ.

(وَإِذَا طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ فَقَالَ إنَّمَا أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي وَقَالَ الْمُحْتَالُ بَلْ أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ) فَإِنْ قِيلَ: الْحَوَالَةُ حَقِيقَةٌ فِي نَقْلِ الدَّيْنِ وَدَعْوَى الْمُحِيلِ أَنَّهُ أَحَالَهُ لِيَقْبِضَهُ لَهُ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ بِلَا دَلِيلٍ أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَلَفْظُ الْحَوَالَةِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ دَعْوَاهُ تِلْكَ دَعْوَى مَا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ وَهُوَ الْوَكَالَةُ فَإِنَّ لَفْظَ الْحَوَالَةِ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا مَجَازًا لِمَا فِي الْوَكَالَةِ مِنْ نَقْلِ التَّصَرُّفِ مِنْ الْمُوَكِّلِ إلَى الْوَكِيلِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مِنْ لَفْظِ ذَلِكَ فَيُصَدَّقُ لَكِنَّهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَوْعَ مُخَالَفَةٍ لِلظَّاهِرِ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَخْ) اعْلَمْ أَنَّ الْحَوَالَةَ

ص: 247

لِأَنَّ الْفَوَاتَ إلَى خُلْفٍ كَلَا فَوَاتَ، وَقَدْ تَكُونُ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ أَيْضًا، وَحُكْمُ الْمُقَيَّدَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ

عَلَى نَوْعَيْنِ: مُقَيَّدَةٍ، وَمُطْلَقَةٍ. فَالْمُقَيَّدَةُ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَيِّدَ الْمُحِيلُ الْحَوَالَةَ بِالْعَيْنِ الَّذِي لَهُ فِي يَدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْغَصْبِ. وَالثَّانِي أَنْ يُقَيِّدَهَا بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ. وَالْمُطْلَقَةُ وَهِيَ أَنْ يُرْسِلَهَا إرْسَالًا لَا يُقَيِّدَهَا بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَلَا بِعَيْنٍ لَهُ فِي يَدِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَوْ فِي يَدِهِ أَوْ أَنْ يُحِيلَ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا لَهُ فِي يَدِهِ عَيْنٌ أَيْضًا عَلَى نَوْعَيْنِ حَالَّةٌ وَمُؤَجَّلَةٌ. فَالْحَالَّةُ هِيَ أَنْ يُحِيلَ الْمَدْيُونُ الطَّالِبَ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفٍ حَالَّةٍ فَإِنَّهَا تَكُونُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لِتَحْوِيلِ الدَّيْنِ مِنْ الْأَصِيلِ فَيَتَحَوَّلُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عَلَى الْأَصِيلِ وَالْفَرْضُ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى الْأَصِيلِ حَالَّةً فَكَذَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَكِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ مَا فَعَلَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَفَالَةِ. وَالْمُؤَجَّلَةُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا فَيُحِيلُ مُؤَجَّلًا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْأَجَلِ فَإِنَّ الْمَالَ يَكُونُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَهَا كَذَلِكَ. إذَا عُرِفَ هَذَا، فَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ آخَرَ فَهُوَ جَائِزٌ لِبَيَانِ جَوَازِ الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْعَيْنِ الَّتِي فِي يَدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَدِيعَةً.

وَقَوْلُهُ:؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى الْقَضَاءِ دَلِيلُ جَوَازِهِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَدَاءَ مِنْهَا يَتَحَقَّقُ مِنْ عَيْنِ حَقِّ الْمُحِيلِ وَحِينَئِذٍ لَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ فَكَانَ أَقْدَرَ. وَالثَّانِي أَنَّ الْوَدِيعَةَ حَاصِلَةٌ بِعَيْنِهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى كَسْبٍ وَالدَّيْنُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ أَقْدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ فَكَانَتْ جَائِزَةً بِالدَّيْنِ، فَلَأَنْ تَكُونَ جَائِزَةً بِالْعَيْنِ أَجْدَرُ، فَإِنْ هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ بَرِئَ الْمُودَعُ وَهُوَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمُحَالِ شَيْءٌ عَلَيْهِ لِتَقَيُّدِهَا بِهَا: أَيْ لِتَقَيُّدِ الْحَوَالَةِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ الْأَدَاءَ إلَّا مِنْهَا فَيَتَعَلَّقُ بِهَا وَيَبْطُلُ بِهَلَاكِهَا كَالزَّكَاةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِنِصَابٍ مُعَيَّنٍ.

وَقَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْمَغْصُوبِ بِأَنْ كَانَ الْأَلْفُ مَغْصُوبًا عِنْدَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَقَيْدُ الْحَوَالَةِ بِهَا بَيَانٌ لِجَوَازِهَا بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، وَأَنَّهَا إذَا هَلَكَتْ لَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ إذَا هَلَكَ وَجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا فَكَانَ الْفَوَاتُ بِهَلَاكِهِ فَوَاتًا إلَى خَلَفٍ، وَذَلِكَ كَلَا فَوَاتَ فَكَانَ بَاقِيًا حُكْمًا.

وَقَوْلُهُ: وَقَدْ تَكُونُ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ أَيْضًا بَيَانٌ لِجَوَازِهَا مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ كَمَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِلْمَدْيُونِ عَلَى آخَرَ كَذَلِكَ، وَأَحَالَ الْمَدْيُونُ الطَّالِبَ بِدَيْنِهِ عَلَى مَدْيُونِهِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ مِنْ الْأَلْفِ الَّتِي لِلْمَطْلُوبِ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ، وَحُكْمُ الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِالْعَيْنِ وَدِيعَةً كَانَتْ أَوْ غَصْبًا وَبِالدِّينِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْعَيْنِ أَوْ الدَّيْنِ الَّذِي قُيِّدَتْ الْحَوَالَةُ بِهِ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحْتَالِ فَإِنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِنَقْلِ حَقِّهِ إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِشَرْطٍ أَوْ يُوَفِّي حَقَّهُ مِمَّا لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ أَوْ بِيَدِهِ فَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اسْتِيفَائِهِ، وَأَخَذَ الْمُحِيلُ ذَلِكَ

ص: 248

لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحْتَالِ عَلَى مِثَالِ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحِيلِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ لَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَهِيَ حَقُّ الْمُحْتَالِ.

يَبْطُلُ هَذَا الْحَقُّ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهَا. وَلَوْ دَفَعَهَا الْمُودَعُ أَوْ غَيْرَهَا إلَى الْمُحِيلِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَحَلًّا مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغَيْرِ عَلَى مِثَالِ الرَّهْنِ، فَإِنَّ الرَّاهِنَ بَعْدَمَا رَهَنَ الْعَيْنَ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ إشَارَةٌ إلَى حُكْمٍ آخَرَ يُخَالِفُ حُكْمَ الْحَوَالَةِ حُكْمُ الرَّهْنِ بَعْدَمَا اتَّفَقَا فِي عَدَمِ بَقَاءِ حُكْمِ الْأَخْذِ لِلْمُحِيلِ وَالرَّاهِنِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْعَيْنِ أَوْ الدَّيْنِ وَعَلَى الْمُحِيلِ دُيُونٌ كَثِيرَةٌ وَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا سِوَى الْعَيْنِ الَّذِي لَهُ بِيَدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ فَالْمُحَالُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ دَيْنَ غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ تَعَلَّقَ بِمَالِ الْمُحِيلِ وَهُوَ صَارَ أَجْنَبِيًّا مِنْ هَذَا الْمَالِ وَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فِي حَالَ حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُحَالَ كَانَ أَسْبَقَ تَعَلُّقًا بِهَذَا الْمَالِ لِتَعَلُّقِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ فِي صِحَّتِهِ فَيُقَدَّمُ الْمُحَالُ عَلَى غَيْرِهِ كَالْمُرْتَهِنِ. قُلْنَا: الْعَيْنُ الَّذِي بِيَدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ وَالدَّيْنُ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا لِلْمُحَالِ بِعَقْدِ الْحَوَالَةِ لَا يَدًا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا رَقَبَةَ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مَا وُضِعَتْ لِلتَّمْلِيكِ وَإِنَّمَا وُضِعَتْ لِلنَّقْلِ فَتَكُونُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ

وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَإِنَّهُ مَلَكَ الْمَرْهُونَ يَدًا وَحَبْسًا فَثَبَتَ لَهُ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ بِالْمَرْهُونِ شَرْعًا لَمْ يَثْبُتْ لِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ (قَوْلُهُ: وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ، وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَقَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ لِبَيَانِ الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ وَأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِأَخْذِ الْمُحِيلِ مَا لَهُ عِنْدَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لِلشَّأْنِ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّ الْمُحَالِ بِهِ: أَيْ بِمَا عِنْدَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ، بَلْ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ فَأَخْذُ مَا لَهُ عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ لَا يُبْطِلُ الْحَوَالَةَ، وَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْمُودَعِ وَالْغَاصِبِ أَنْ يُؤَدِّيَ دَيْنَ الْمُحَالِ مِنْ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ، وَلِلْمُحِيلِ

ص: 249

بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّهِ بِهِ بَلْ بِذِمَّتِهِ فَلَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ بِأَخْذِ مَا عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَهُ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ السَّفَاتِجُ وَهِيَ قَرْضٌ اسْتَفَادَ بِهِ الْمُقْرِضُ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ) وَهَذَا نَوْعُ نَفْعٍ اُسْتُفِيدَ بِهِ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا» .

(كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي)

أَنْ يَأْخُذَهُمَا مَعَ بَقَاءِ الْحَوَالَةِ كَمَا كَانَتْ.

قَالَ (وَتُكْرَهُ السَّفَاتِجُ إلَخْ) السَّفَاتِجُ جَمْعُ سَفْتَجَةٍ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ التَّاءِ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، أَصْلُهُ سفته يُقَالُ لِلشَّيْءِ الْمُحْكَمِ، وَسُمِّيَ هَذَا الْقَرْضُ بِهِ لِإِحْكَامِ أَمْرِهِ. وَصُورَتُهَا أَنْ يَدْفَعَ إلَى تَاجِرٍ مَالًا قَرْضًا لِيَدْفَعَهُ إلَى صَدِيقِهِ، وَقِيلَ هُوَ أَنْ يُقْرِضَ إنْسَانًا مَالًا لِيَقْضِيَهُ الْمُسْتَقْرِضُ فِي بَلَدٍ يُرِيدُهُ الْمُقْرِضُ وَإِنَّمَا يَدْفَعُهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ لِيَسْتَفِيدَ بِهِ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ نَوْعُ نَفْعٍ اُسْتُفِيدَ بِالْقَرْضِ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا. وَقِيلَ: هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ مَشْرُوطَةً؛ وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. ثُمَّ قِيلَ: إنَّمَا أَوْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهَا مُعَامَلَةٌ فِي الدُّيُونِ كَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ فَإِنَّهَا مُعَامَلَةٌ أَيْضًا فِي الدُّيُونِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 250

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي)

لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْمُنَازَعَاتِ يَقَعُ فِي الْبِيَاعَاتِ وَالدُّيُونِ عَقَّبَهَا بِمَا يَقْطَعُهَا وَهُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي، وَالْقَاضِي يَحْتَاجُ إلَى خِصَالٍ حَمِيدَةٍ يَصْلُحُ بِهَا لِلْقَضَاءِ، وَهَذَا الْكِتَابُ لِبَيَانِ ذَلِكَ. وَالْأَدَبُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ رِيَاضَةٍ مَحْمُودَةٍ لِذَلِكَ يَتَخَرَّجُ بِهَا الْإِنْسَانُ فِي فَضِيلَةٍ مِنْ الْفَضَائِلِ قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُعَرَّفَ بِأَنَّهُ مَلَكَةٌ تَعْصِمُ مَنْ قَامَتْ بِهِ عَمَّا يَشِينُهُ

ص: 251

قَالَ (وَلَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الْمُوَلَّى شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ وَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ يُسْتَقَى مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ أَقْوَى الْفَرَائِضِ وَأَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كُلَّ مُرْسَلٍ حَتَّى خَاتَمَ الرُّسُلِ مُحَمَّدًا - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} وَقَالَ {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} .

قَالَ (وَلَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي إلَخْ) لَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الْمُوَلَّى بِلَفْظِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَاخْتَارَهُ عَلَى الْمُتَوَلِّي بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا بِتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ لَا بِطَلَبِهِ التَّوْلِيَةَ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ، وَيَكُونُ: أَيْ الْمُوَلَّى مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: يَعْنِي اشْتِرَاطَ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ يُسْتَقَى: أَيْ يُسْتَفَادُ مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ

ص: 252

لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ يَكُونُ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ وَمَا يُشْتَرَطُ لِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ يُشْتَرَطُ لِأَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ.

وَالْفَاسِقُ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ قُلِّدَ يَصِحُّ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ كَمَا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ،

؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَهِيَ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى، وَكُلُّ مَا يُسْتَفَادُ حُكْمُهُ مِنْ الْوِلَايَةِ مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَيُشْتَرَطُ لَهُ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ لَمَّا كَانَتْ أَعَمَّ أَوْ أَكْمَلَ مِنْ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ مُرَتَّبَةً عَلَيْهَا كَانَتْ أَوْلَى بِاشْتِرَاطِهَا، وَرُبَّمَا لَوَّحَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فَيُسْتَقَى اسْتِعَارَةً لِلِاسْتِفَادَةِ إلَى ذَلِكَ، وَعَلَى

ص: 253

وَلَوْ قَبِلَ جَازَ عِنْدَنَا.

وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا فَفَسَقَ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَنْعَزِلُ وَيَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا رحمهم الله.

هَذَا كُلُّ مَا كَانَ مُتَأَهِّلًا لِلشَّهَادَةِ كَانَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ وَبِالْعَكْسِ فَالْفَاسِقُ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ لِأَهْلِيَّتِهِ لِلشَّهَادَةِ، حَتَّى لَوْ قُلِّدَ جَازَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَمَنُ فِي أَمْرِ الدِّينِ لِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ فِيهِ كَمَا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ.

وَلَوْ قَبِلَ جَازَ عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ نَظَرًا إلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ الَّذِي شَهِدَ لَهُمْ صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْرِيَّةِ، وَإِلَى ظَاهِرِ حَالِ الْمُسْلِمِ فِي غَيْرِهِمْ.

وَلَوْ كَانَ عَدْلًا فَفَسَقَ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ أَوْ غَيْرِهَا مِثْلِ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ لَا يَنْعَزِلُ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ الْعَزْلُ عِنْدَ التَّقْلِيدِ بِتَعَاطِي الْمُحَرَّمِ وَيَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ فَيَعْزِلُهُ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ، وَهَذَا يَقْتَضِي نُفُوذَ أَحْكَامِهِ فِيمَا ارْتَشَى فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مَا لَمْ يُعْزَلْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْإِمَامُ الْبَزْدَوِيُّ. وَقَوْلُهُ: وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَزْلِ دُونَ الْعَزْلِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَرُوِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ وَعَلِيٍّ الرَّازِيِّ صَاحِبِ أَبِي يُوسُفَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى ذَلِكَ وَإِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْفَاسِقِ الْقَضَاءَ فَإِنَّ اخْتِيَارَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا قُلِّدَ الْقَضَاءَ لَا يَصِيرُ قَاضِيًا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ

ص: 254

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْفَاسِقُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُ، وَعَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رحمهم الله فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رحمهم الله: إذَا قُلِّدَ الْفَاسِقُ ابْتِدَاءً يَصِحُّ، وَلَوْ قُلِّدَ وَهُوَ عَدْلٌ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ لِأَنَّ الْمُقَلَّد اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِتَقْلِيدِهِ دُونَهَا.

وَهَلْ يَصْلُحُ الْفَاسِقُ مُفْتِيًا؟ قِيلَ لَا لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ

وَعَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رحمهم الله فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ عِنْدَهُ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُ) وَقِيلَ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ عِنْدَهُ، فَإِذَا فَسَقَ فَقَدْ انْتَقَصَ إيمَانُهُ (وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنَّهُ إذَا قُلِّدَ الْفَاسِقُ يَصِحُّ، وَلَوْ قُلِّدَ وَهُوَ عَدْلٌ فَفَسَقَ يَنْعَزِلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ فِي تَقْلِيدِهِ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِتَقْلِيدِهِ دُونَهَا) فَكَانَ التَّقْلِيدُ مَشْرُوطًا بِبَقَاءِ الْعَدَالَةِ فَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ الْبَقَاءُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ يُنَافِي جَوَازَ التَّقْلِيدِ مَعَ الْفِسْقِ ابْتِدَاءً، وَالْعَزْلُ بِالْفِسْقِ الطَّارِئِ، وَالْأَوَّلُ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُسَلَّمَاتِ هَذَا الْفَنِّ يَنْبَنِي عَلَيْهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ كَبَقَاءِ النِّكَاحِ بِلَا شُهُودٍ وَامْتِنَاعِهِ ابْتِدَاءً بِدُونِهَا، وَجَوَازِ الشُّيُوعِ فِي الْهِبَةِ بَقَاءً لَا ابْتِدَاءً، فَيَنْتَفِي الثَّانِي وَهُوَ ثُبُوتُ الْقَضَاءِ بِالْفِسْقِ ابْتِدَاءً وَالْعَزْلُ بِالْفِسْقِ الطَّارِئِ.

وَالْجَوَابُ يُؤْخَذُ مِنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنَّ التَّقْلِيدَ كَانَ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ بِالشَّرْطِ جَائِزٌ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ثُمَّ قَالَ: إنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ أَمِيرُكُمْ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ أَمِيرُكُمْ» وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ عَزْلِ الْقَاضِي بِالشَّرْطِ جَائِزٌ

ص: 255

وَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الدِّيَانَاتِ، وَقِيلَ يَصْلُحُ لِأَنَّهُ يَجْتَهِدُ كُلَّ الْجَهْدِ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ حَذَارِ النِّسْبَةِ إلَى الْخَطَإِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالصَّحِيحُ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ.

ذَكَرَهُ فِي بَابِ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ مِنْ شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ وَالْإِمَارَةِ فِي أَنَّ الْإِمَامَ أَوْ الْأَمِيرَ إذَا كَانَ عَدْلًا وَقْتَ التَّقْلِيدِ ثُمَّ فَسَقَ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِمَامَةِ وَالْإِمَارَةِ أَنَّ مَبْنَى الْإِمَارَةِ عَلَى السَّلْطَنَةِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ الْأُمَرَاءِ مَنْ قَدْ غَلَبَ وَجَارَ وَأَجَازُوا أَحْكَامَهُ وَالصَّحَابَةُ تَقَلَّدُوا الْأَعْمَالَ مِنْهُ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ. وَأَمَّا مَبْنَى الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ عَلَى الْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْعَدَالَةُ بَطَلَ الْقَضَاءُ ضَرُورَةً.

(وَالْفَاسِقُ هَلْ يَصْلُحُ مُفْتِيًا؟ قِيلَ لَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَالْفَاسِقُ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ يَصْلُحُ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْخَطَأِ فَلَا يَتْرُكُ الصَّوَابَ.

وَأَمَّا الثَّانِي) يَعْنِي اشْتِرَاطَ الِاجْتِهَادِ لِلْقَضَاءِ. فَإِنَّ لَفْظَ الْقُدُورِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَرْطُ صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقٍ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا، لَكِنَّ (الصَّحِيحَ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ) قَالَ الْخَصَّافُ: الْقَاضِي يَقْضِي بِاجْتِهَادِهِ نَفْسِهِ إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ

ص: 256

فَأَمَّا تَقْلِيدُ الْجَاهِلِ فَصَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَهُوَ يَقُولُ: إنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ يَسْتَدْعِي الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَلَا قُدْرَةَ دُونَ الْعِلْمِ. وَلَنَا أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِفَتْوَى غَيْرِهِ، وَمَقْصُودُ الْقَضَاءِ يَحْصُلُ بِهِ وَهُوَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ.

وَسَأَلَ فَقِيهًا أَخَذَ بِقَوْلِهِ.

(قَوْلُهُ: فَأَمَّا تَقْلِيدُ الْجَاهِلِ فَصَحِيحٌ عِنْدَنَا) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْجَاهِلِ الْمُقَلَّدَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمُجْتَهِدِ وَسَمَّاهُ جَاهِلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَا يَحْفَظُ شَيْئًا مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ:(خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) فَإِنَّهُ عَلَّلَ لَهُ بِقَوْلِهِ (إنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ يَسْتَدْعِي الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَلَا قُدْرَةَ دُونَ الْعِلْمِ) وَلَمْ يَقُلْ دُونَ الِاجْتِهَادِ وَشَبَهِهِ بِالتَّحَرِّي، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَصِلُ إلَى الْمَقْصُودِ لِتَحَرِّي غَيْرِهِ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَوْ صَلَّى بِتَحَرِّي غَيْرِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ.

وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ (وَلَنَا أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِفَتْوَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ هُوَ أَنْ يَصِلَ الْحَقُّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ) وَذَلِكَ كَمَا يَحْصُلُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ يَحْصُلُ مِنْ الْمُقَلِّدِ إذَا قَضَى بِفَتْوَى غَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رحمه الله فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ «أَنْفَذَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْيَمَنِ وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ، فَقُلْت: تُنْفِذُنِي إلَى قَوْمٍ يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَحْدَاثٌ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ؟ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَهْدِي لِسَانَك وَيُثَبِّتُ قَلْبَك، فَمَا شَكَكْت فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ

ص: 257

وَيَنْبَغِي لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ هُوَ الْأَقْدَرُ وَالْأَوْلَى لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ» .

بَعْدَ ذَلِكَ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.

(نَعَمْ يَنْبَغِي لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَخْتَارَ الْأَقْدَرَ وَالْأَوْلَى لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ») وَهُوَ حَدِيثٌ ثَبَتَ بِنَقْلِ الْعُدُولِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا قِيلَ إنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْمُدَوَّنَاتِ،

ص: 258

وَفِي حَدِّ الِاجْتِهَادِ كَلَامٌ عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَحَاصِلُهُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ لِيَعْرِفَ مَعَانِيَ الْآثَارِ أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَقِيلَ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ صَاحِبَ قَرِيحَةٍ

فَإِنَّهُ طَعْنٌ بِلَا دَلِيلٍ فَلَا يُقَلَّدُ الْمُقَلِّدُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِ الْعَدْلِ.

(قَوْلُهُ: وَفِي حَدِّ الِاجْتِهَادِ) إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الِاجْتِهَادِ إجْمَالًا، فَإِنَّ بَيَانَهُ تَفْصِيلًا مَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ مُفَصَّلًا (وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ لِيَعْرِفَ مَعَانِيَ الْآثَارِ أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ نَيِّرٌ (وَقِيلَ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ) أَيْ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ (صَاحِبَ قَرِيحَةٍ) أَيْ طَبِيعَةٍ جَيِّدَةٍ خَالِصَةٍ مِنْ التَّشْكِيكَاتِ الْمُكَدِّرَةِ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمَطَالِبِ إلَى الْمَبَادِئِ، وَمِنْهَا إلَى الْمَطَالِبِ بِسُرْعَةٍ يُرَتَّبُ الْمَطْلُوبُ عَلَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ مِنْ عُرْفٍ أَوْ عَادَةٍ، فَإِنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهَا مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ كَدُخُولِ الْحَمَّامِ وَتَعَاطِي الْعَجِينِ

ص: 259

يَعْرِفُ بِهَا عَادَاتِ النَّاسِ لِأَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهَا.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ لِمَنْ يَثِقُ بِنَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فَرْضَهُ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم تَقَلَّدُوهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةٌ، وَلِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِكَوْنِهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ.

وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ إلَخْ) وَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ لِمَنْ يَثِقُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ إذَا تَوَلَّاهُ وَقَامَ بِمَا هُوَ فَرِيضَةٌ وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ فَرْضٌ أَمَرَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} وَقَالَ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} فَمَنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ يُؤَدِّي هَذَا الْفَرْضَ فَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم تَقَلَّدُوهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً؛ وَلِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِكَوْنِهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الدُّخُولَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ النَّدْبِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَغَيْرِهَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ

ص: 260

قَالَ (وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ فِيهِ لِمَنْ يَخَافُ الْعَجْزَ عَنْهُ وَلَا بَأْسَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَيْفُ فِيهِ) كَيْ لَا يَصِيرَ شَرْطًا لِمُبَاشَرَتِهِ الْقَبِيحَ، وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ الدُّخُولَ فِيهِ مُخْتَارًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " مَنْ جُعِلَ عَلَى الْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ "

إلَّا أَنَّ فِيهِ خَطَرَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ فَكَانَ بِهِ بَأْسٌ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ فِيهِ لِمَنْ يَخَافُ الْعَجْزَ إلَخْ) مَنْ خَافَ الْعَجْزَ عَنْ أَدَاءِ فَرْضِ الْقَضَاءِ وَلَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ الْحَيْفَ وَهُوَ الْجَوْرُ فِيهِ كُرِهَ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ كَيْلَا يَصِيرَ الدُّخُولُ فِيهِ شَرْطًا: أَيْ وَسِيلَةً إلَى مُبَاشَرَةِ الْقَبِيحِ، وَهُوَ الْحَيْفُ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِلَفْظِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَقَعُ مِنْ الْحَيْفِ إنَّمَا هُوَ بِالْمَيْلِ إلَى حُطَامِ الدُّنْيَا بِأَخْذِ الرِّشَا، وَفِي الْغَالِبِ يَكُونُ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِي عَلَى فُلَانٍ أَوْ لَهُ عَلَيَّ مُطَالَبَةٌ بِكَذَا فَإِنْ قَضَيْت لِي فَلَكَ كَذَا، وَكَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوْ بَعْضُ السَّلَفِ الدُّخُولَ فِيهِ مُخْتَارًا سَوَاءٌ وَثِقُوا أَنْفُسَهُمْ أَوْ خَافُوا عَلَيْهَا، وَفَسَّرَ الْكَرَاهَةَ هَاهُنَا بِعَدَمِ الْجَوَازِ.

قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ فِيهِ إلَّا مُكْرَهًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله دُعِيَ إلَى الْقَضَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَبَى حَتَّى ضُرِبَ فِي كُلِّ مُرَّةٍ ثَلَاثِينَ سَوْطًا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ قَالَ: حَتَّى أَسْتَشِيرَ أَصْحَابِي، فَاسْتَشَارَ أَبَا يُوسُفَ رحمه الله فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ تَقَلَّدْت لَنَفَعْت النَّاسَ، فَنَظَرَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ نَظَرَ الْمُغْضَبِ وَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ أُمِرْت أَنْ أَعْبُرَ الْبَحْرَ سِبَاحَةً أَكُنْت أَقْدِرُ عَلَيْهِ وَكَأَنِّي بِك قَاضِيًا، وَكَذَا دُعِيَ مُحَمَّدٌ رحمه الله إلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى حَتَّى قُيِّدَ وَحُبِسَ

ص: 261

وَالصَّحِيحُ أَنَّ الدُّخُولَ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ فَلَعَلَّهُ يُخْطِئُ ظَنُّهُ وَلَا يُوَفَّقُ لَهُ أَوْ لَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعَانَةِ إلَّا إذَا كَانَ هُوَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ دُونَ غَيْرِهِ فَحِينَئِذٍ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ التَّقَلُّدُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِخْلَاءً لِلْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ.

قَالَ (وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ وَلَا يَسْأَلَهَا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ» وَلِأَنَّ مَنْ طَلَبَهُ يَعْتَمِدُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَحْرُمُ، وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّهِ فَيُلْهَمُ.

فَاضْطُرَّ ثُمَّ تَقَلَّدَ. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ جُعِلَ عَلَى الْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَجْهَ تَشْبِيهِ الْقَضَاءِ بِالذَّبْحِ بِغَيْرِ سِكِّينٍ قَالَ:؛ لِأَنَّ السِّكِّينَ تُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا، وَالذَّبْحُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ يُؤَثِّرُ فِي الْبَاطِنِ بِإِزْهَاقِ الرُّوحِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ، وَوَبَالُ الْقَضَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ جَاهٌ وَعَظَمَةٌ لَكِنْ فِي بَاطِنِهِ هَلَاكٌ. وَكَانَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رحمه الله يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَزْدَرِيَ هَذَا اللَّفْظَ كَيْ لَا يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ ذَلِكَ الْقَاضِيَ، فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ قَاضِيًا رُوِيَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ فَازْدَرَاهُ وَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا، ثُمَّ دَعَا فِي مَجْلِسِهِ بِمَنْ يُسَوِّي شَعْرَهُ، فَجَعَلَ الْحَلَّاقُ يَحْلِقُ بَعْضَ الشَّعْرِ مِنْ تَحْتِ ذَقَنِهِ إذْ عَطَسَ فَأَصَابَهُ الْمُوسَى وَأَلْقَى رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ أَنَّ الدُّخُولَ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ) رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قُلِّدَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ (التَّرْكُ عَزِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ ظَنُّهُ) فِيمَا اجْتَهَدَ (وَلَا يُوَفَّقُ لَهُ) إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا (أَوْ لَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعَانَةِ) إنْ كَانَ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ.

وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ: دَخَلَ فِي الْقَضَاءِ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَاجْتَنَبَهُ قَوْمٌ صَالِحُونَ؛ وَتَرْكُ الدُّخُولِ فِيهِ أَصْلَحُ وَأَسْلَمُ لِدِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ أَنْ يَقْضِيَ بِحَقٍّ وَلَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ أَوْ لَا، وَفِي تَرْكِ الدُّخُولِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ غَيْرُهُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ (فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ الْأَهْلَ دُونَ غَيْرِهِ فَحِينَئِذٍ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ) فِي حَقِّهِمْ (وَإِخْلَاءً لِلْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ) فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ قَوْمٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ الدُّخُولِ فِيهِ أَثِمُوا إنْ كَانَ السُّلْطَانُ بِحَيْثُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ امْتَنَعَ الْكُلُّ حَتَّى قُلِّدَ جَاهِلٌ اشْتَرَكُوا فِي الْإِثْمِ لِأَدَائِهِ إلَى تَضْيِيعِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ (وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ وَلَا يَسْأَلَهَا إلَخْ) مَنْ صَلَحَ لِلْقَضَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ بِقَلْبِهِ وَلَا يَسْأَلَهَا بِلِسَانِهِ

ص: 262

(ثُمَّ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْعَادِلِ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم تَقَلَّدُوهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه وَالْحَقُّ كَانَ بِيَدِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي نَوْبَتِهِ، وَالتَّابِعِينَ تَقَلَّدُوهُ مِنْ الْحَجَّاجِ وَكَانَ جَائِرًا إلَّا إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِحَقٍّ

لِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ» وُكِلَ بِالتَّخْفِيفِ: أَيْ فُوِّضَ أَمْرُهُ إلَيْهَا، وَمَنْ فُوِّضَ أَمْرُهُ إلَى نَفْسِهِ لَمْ يَهْتَدِ إلَى الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ؛ لِأَنَّ مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ فَقَدْ اعْتَمَدَ فِقْهَهُ وَوَرَعَهُ وَذَكَاءَهُ وَأُعْجِبَ فَيُحْرَمَ التَّوْفِيقَ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَغِلَ الْمَرْءُ بِطَلَبِ مَا لَوْ نَالَ يَحْرُمُ بِهِ وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَقَدْ اعْتَصَمَ بِحَبْلِ اللَّهِ مَكْسُورَ الْقَلْبِ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى مَا لَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فَيُلْهَمُ الرُّشْدَ وَالتَّوْفِيقَ.

(قَوْلُهُ: ثُمَّ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ) تَفْرِيعٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي جَوَازِ التَّقَلُّدِ لِأَهْلِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَلِّي عَادِلًا أَوْ جَائِرًا، فَكَمَا جَازَ مِنْ السُّلْطَانِ الْعَادِلِ جَازَ مِنْ الْجَائِرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم تَقَلَّدُوا الْقَضَاءَ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ الْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما فِي نَوْبَتِهِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ (فِي نَوْبَتِهِ) احْتِرَازًا عَمَّا يَقُولُهُ الرَّوَافِضُ إنَّ الْحَقَّ مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي نَوْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا، بَلْ أَجْمَعَ الْأُمَّةُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى صِحَّةِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ وَمَوْضِعُهُ بَابُ الْإِمَامَةِ فِي أُصُولِ الْكَلَامِ، وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ وَالتَّابِعِينَ تَقَلَّدُوهُ مِنْ الْحَجَّاجِ وَجَوْرُهُ مَشْهُورٌ فِي الْآفَاقِ. وَقَوْلُهُ:(إلَّا إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ)

ص: 263

لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّقَلُّدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ.

قَالَ (وَمَنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ يُسَلَّمُ إلَيْهِ دِيوَانُ الْقَاضِي الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ) وَهُوَ الْخَرَائِطُ الَّتِي فِيهَا السِّجِلَّاتُ وَغَيْرُهَا، لِأَنَّهَا وُضِعَتْ فِيهَا لِتَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ فَتُجْعَلُ فِي يَدِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ.

ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَيَاضُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْخُصُومِ فِي الصَّحِيحِ

اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ (لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالتَّقَلُّدِ) فَلَا فَائِدَةَ لِتَقَلُّدِهِ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يُمَكِّنُهُ)

قَالَ (وَمَنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ يُسَلَّمَ إلَيْهِ دِيوَانُ الْقَاضِي الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ إلَخْ) مَنْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ بَعْدَ عَزْلِ آخَرَ تَسَلَّمَ دِيوَانَ الْقَاضِي الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَالدِّيوَانُ هُوَ الْخَرَائِطُ الَّتِي فِيهَا السِّجِلَّاتُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْمَحَاضِرِ وَالصُّكُوكِ وَكِتَابِ نَصْبِ الْأَوْصِيَاءِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَاتِ؛ لِأَنَّهَا: أَيْ السِّجِلَّاتِ وَغَيْرَهَا إنَّمَا وُضِعَتْ فِي الْخَرَائِطِ لِتَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ فَتُجْعَلُ فِي يَدِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ وَإِلَّا لَا تُفِيدُ، وَسَمَّاهَا حُجَّةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْكِتَابُ مُنْفَرِدًا عَنْ التَّذْكِيرِ وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهَا تَئُولُ إلَيْهَا بِالتَّذْكِيرِ. ثُمَّ الْبَيَاضُ: أَيْ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْحَادِثَةُ وَرَقًا كَانَ أَوْ رِقًّا لَا يَخْلُو عَنْ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ مَالِ الْخُصُومِ، أَوْ مِنْ مَالِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَوَجْهُ تَسْلِيمِ الْقَاضِي إيَّاهُ ظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْخُصُومِ فِي الصَّحِيحِ

ص: 264

لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهَا فِي يَدِهِ لِعَمَلِهِ وَقَدْ انْتَقَلَ إلَى الْمُوَلَّى، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ اتَّخَذَهُ تَدَيُّنًا لَا تَمَوُّلًا، وَيَبْعَثُ أَمِينَيْنِ لِيَقْبِضَاهَا بِحَضْرَةِ الْمَعْزُولِ أَوْ أَمِينِهِ وَيَسْأَلَانِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيَجْعَلَانِ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا فِي خَرِيطَةٍ كَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى الْمُوَلَّى، وَهَذَا السُّؤَالُ لِكَشْفِ الْحَالِ لَا لِلْإِلْزَامِ.

؛ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهَا فِي يَدِهِ لِعَمَلِهِ وَقَدْ انْتَقَلَ إلَى الْمُوَلَّى، وَكَذَا إنْ كَانَ مِنْ مَالِ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ اتَّخَذَهُ تَدَيُّنًا لَا تَمَوُّلًا.

وَقَوْلُهُ: فِي الصَّحِيحِ فِي الصُّورَتَيْنِ احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنَّ الْبَيَاضَ إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْخُصُومِ أَوْ مَالِ الْقَاضِي لَا يُجْبَرُ الْمَعْزُولُ عَلَى دَفْعِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ فِيهِمَا مَا ذُكِرَ (قَوْلُهُ: وَيَبْعَثُ أَمِينَيْنِ) بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ التَّسْلِيمِ وَهُوَ أَنْ يَبْعَثَ الْمُتَوَلِّي رَجُلَيْنِ مِنْ ثِقَاتِهِ وَهُوَ أَحْوَطُ، وَالْوَاحِدُ يَكْفِي (فَيَقْبِضَاهَا بِحَضْرَةِ الْمَعْزُولِ أَوْ أَمِينِهِ يَسْأَلَانِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَيَجْعَلَانِ كُلَّ نَوْعٍ فِي خَرِيطَةٍ عَلَى حِدَةٍ كَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى الْمُوَلَّى) وَهَذَا؛ لِأَنَّ السِّجِلَّاتِ وَغَيْرَهَا لَمَّا كَانَتْ مَوْضُوعَةً فِي الْخَرَائِطِ بِيَدِ الْمَعْزُولِ رُبَّمَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَقْتَ الطَّلَبِ، وَأَمَّا الْمُوَلَّى فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ عَهْدٌ بِذَلِكَ، فَإِنْ تُرِكَتْ مُجْتَمَعَةً تَشْتَبِهُ عَلَى الْمُوَلَّى فَلَا يَتَّصِلُ إلَى الْمَقْصُودِ وَقْتَ الْحَاجَةِ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ (وَهَذَا السُّؤَالُ) أَيْ سُؤَالُ الْمَعْزُولِ (لِكَشْفِ الْحَالِ لَا لِلْإِلْزَامِ) فَإِنَّهُ بِالْعَزْلِ اُلْتُحِقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً، وَمَتَى قَبَضَا ذَلِكَ يَخْتِمَانِ عَلَى ذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ الزِّيَادَةِ. قِيلَ قَوْلُهُ: وَهَذَا السُّؤَالُ لِكَشْفِ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ بِمَعْنَى الِاسْتِعْلَامِ وَهُوَ يَتَعَدَّى إلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِعَنْ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ وَيَسْأَلَانِ الْمَعْزُولَ عَنْ أَحْوَالِ السِّجِلَّاتِ وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ: شَيْئًا فَشَيْئًا مَنْصُوبٌ بِعَامِلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَيَسْأَلَانِهِ: أَيْ يَسْأَلَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا عَنْهَا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الثَّانِي كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ، وَالْأَوْلَى

ص: 265

قَالَ (وَيَنْظُرُ فِي حَالِ الْمَحْبُوسِينَ) لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا (فَمَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ (وَمَنْ أَنْكَرَ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ الْمَعْزُولِ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ) لِأَنَّ بِالْعَزْلِ الْتَحَقَ بِالرَّعَايَا، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ (فَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ لَمْ يُعَجِّلْ بِتَخْلِيَتِهِ حَتَّى يُنَادَى عَلَيْهِ وَيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ) لِأَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي الْمَعْزُولِ حَقٌّ ظَاهِرًا فَلَا يُعَجِّلُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ.

أَنْ يُجْعَلَ حَالًا بِمَعْنَى مُفَصَّلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَبَيَّنْت لَهُ حِسَابَهُ بَابًا بَابًا.

قَالَ (وَيَنْظُرُ الْمُوَلَّى فِي حَالِ الْمَحْبُوسِينَ) بِأَنْ يَبْعَثَ إلَى الْحَبْسِ مَنْ يُحْصِيهِمْ وَيَأْتِيهِ بِأَسْمَائِهِمْ وَيَسْأَلُ الْمَحْبُوسِينَ عَنْ سَبَبِ حَبْسِهِمْ (لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا) لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلُ الْمَعْزُولِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِمَا تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفَحُّصِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ (فَمَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ) وَحَبَسَهُ إذَا طَلَبَ الْخَصْمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَلَيَّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ: أَيْ حَبْسَهُ (وَمَنْ أَنْكَرَ) مَا يُوجِبُ الْحَبْسَ (لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمَعْزُولِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ) فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالْحَقِّ وَالْقَاضِي يَعْرِفُ عَدَالَةَ الشُّهُودِ رَدَّهُمْ إلَى الْحَبْسِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ فَإِنْ عُدِّلُوا فَكَذَلِكَ (وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ) أَوْ لَمْ يَحْضُرْ خَصْمٌ وَادَّعَى الْمَحْبُوسُ أَنْ لَا خَصْمَ لَهُ وَهُوَ مَحْبُوسٌ بِغَيْرِ حَقٍّ (لَمْ يُعَجِّلْ بِتَخْلِيَتِهِ حَتَّى يُنَادَى عَلَيْهِ) أَيَّامًا إذَا جَلَسَ يَقُولُ الْمُنَادِي إنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ مَنْ كَانَ يُطَالِبُ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الْمَحْبُوسَ الْفُلَانِيَّ خَصْمَهُ فَلْيَحْضُرْ، فَإِنْ حَضَرَ وَإِلَّا فَمَنْ رَأَى الْقَاضِي أَنْ يُطْلِقَهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ خَصْمٌ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَأَطْلَقَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَعْزُولِ حَقٌّ ظَاهِرٌ فَلَا يُعَجَّلُ بِالتَّخْلِيَةِ وَيَسْتَظْهِرُ أَمْرَهُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَصْمٌ غَائِبٌ يَدَّعِي عَلَيْهِ إذَا حَضَرَ. وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ هُنَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ حَيْثُ لَا يَأْخُذُ هُنَاكَ كَفِيلًا عَلَى مَا سَيَجِيءُ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْقِسْمَةِ الْحَقَّ لِلْوَارِثِ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وَفِي ثُبُوتِهِ لِغَيْرِهِ شَكٌّ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْمُحَقَّقِ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ.

ص: 266

(وَيَنْظُرُ فِي الْوَدَائِعِ وَارْتِفَاعِ الْوُقُوفِ فَيَعْمَلُ فِيهِ عَلَى مَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ.

(وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَ الْمَعْزُولِ) لِمَا بَيَّنَّا (إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ أَنَّ الْمَعْزُولَ سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَيَقْبَلُ قَوْلَهُ فِيهَا) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْقَاضِي فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْقَاضِي كَأَنَّهُ فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ، إلَّا إذَا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ الْقَاضِي فَيُسَلِّمُ مَا فِي يَدِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ حَقِّهِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي وَيُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي.

وَأَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّ الْحَقَّ لِلْغَائِبِ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ حَالِ الْمَعْزُولِ لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ فَلَا تَكُونُ الْكَفَالَةُ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ وَقِيلَ أَخْذُ الْكَفِيلِ هَاهُنَا أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى فَرْقٍ. وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ: الصَّحِيحُ أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ، فَالْفَرْقُ الْمَذْكُورُ يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: لَا كَفِيلَ لِي أَوْ لَا أُعْطِي كَفِيلًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ شَيْءٌ نَادَى عَلَيْهِ شَهْرًا ثُمَّ خَلَّاهُ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْكَفِيلِ كَانَ احْتِيَاطًا، فَإِذَا امْتَنَعَ احْتَاطَ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالنِّدَاءِ عَلَيْهِ شَهْرًا.

(وَيَنْظُرُ الْمُوَلَّى فِي الْوَدَائِعِ وَارْتِفَاعِ الْوُقُوفِ)؛ لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا فِي أُمُورِ النَّاسِ (فَيَعْمَلُ فِي الْمَذْكُورِ عَلَى) حَسَبِ (مَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ بِاعْتِرَافِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِعَمَلِهِ مِنْ حُجَّةٍ (وَكُلُّ ذَلِكَ حُجَّةٌ).

(وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَ الْمَعْزُولِ فِيهِ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ ذُو الْيَدِ أَنَّ الْمَعْزُولَ سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَيُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْمَعْزُولِ؛ لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ ثَبَتَ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْمَعْزُولِ فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْمَعْزُولِ بِهِ كَأَنَّهُ بِيَدِهِ لِلْحَالِ) وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ عِيَانًا صَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ، فَكَذَا إذَا كَانَ بِيَدِ مُودَعِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ (إلَّا إذَا بَدَأَ ذُو الْيَدِ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ حَقِّهِ ثُمَّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي وَيُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي) وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى

ص: 267

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ الْمَالُ إمَّا أَنْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الْمَعْزُولُ أَوْ يَجْحَدَ كُلَّهُ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: وَلَا يَجِبُ بِقَوْلِ الْمَعْزُولِ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ دَفَعَهُ الْقَاضِي إلَيَّ وَهُوَ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا بِتَعْلِيلِهِ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ دَفَعَهُ الْقَاضِي إلَيَّ وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هُوَ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَالتَّعْلِيلِ كَتَعْلِيلِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ دَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ وَهُوَ لِفُلَانٍ غَيْرِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي وَحُكْمُهُ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِالدَّفْعِ مِنْ الْقَاضِي فَقَدْ أَقَرَّ بِالْيَدِ لَهُ فَصَارَ كَأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ لِمَا مَرَّ؛ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَهُوَ لَا يَصِحُّ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ هُوَ لِفُلَانٍ غَيْرِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي وَدَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ آخِرًا وَحُكْمُهُ أَنَّ الْمَالَ يُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ أَوَّلًا لِسَبْقِ حَقِّهِ ثُمَّ يَضْمَنُ مِثْلَهُ لِلْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي وَيُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ لَمَّا صَحَّ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَالِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ دَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي وَهُوَ يَقُولُ لِفُلَانٍ آخَرَ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْقَاضِي، وَبِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي أَتْلَفَ الْمَالَ عَلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي فَكَانَ ضَامِنًا لِلْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ. كَذَا نَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ عَنْ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَغَيْرِهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْأَوَّلَ إمَّا أَنْ يُبْطِلَ مَا بَعْدَهُ أَوْ لَا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ يَلْزَمُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مَا بَدَأَ ذُو الْيَدِ بِالدَّفْعِ مِنْ الْقَاضِي وَبَيْنَ مَا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ لِلْغَيْرِ لِشُمُولِ الضَّمَانِ أَوْ لِشُمُولِ الْعَدَمِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا ذَكَرَ الضَّمَانَ لِلْمُقَرِّ لَهُ ثَانِيًا فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ بِالْيَدِ يَخْتَارُ إبْطَالَ مَا بَعْدَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّنْ لَا يَدَ لَهُ لِصُدُورِهِ عَنْ الْأَجْنَبِيِّ عَنْ الْمُقِرِّ بِهِ فَاسِدٌ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالْيَدِ الشَّخْصُ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَهُ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ بَطَلَ إقْرَارُهُ الثَّانِي لِصُدُورِهِ عَمَّنْ لَا يَمْلِكُهُ وَإِذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ بِمَا فِي يَدِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ ثُمَّ بِالْإِقْرَارِ بِالْيَدِ لِغَيْرِهِ يُرِيدُ أَنْ يُبْطِلَ الْأَوَّلَ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ إقْرَارًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ يُسْمَعُ فِي حَقِّ الْمُودِعِ لِكَوْنِهِ

ص: 268

قَالَ (وَيَجْلِسُ لِلْحُكْمِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ) كَيْ لَا يَشْتَبِهَ مَكَانُهُ عَلَى الْغُرَبَاءِ وَبَعْضِ الْمُقِيمِينَ، وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشْهَرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَحْضُرُهُ الْمُشْرِكُ وَهُوَ نَجَسٌ بِالنَّصِّ وَالْحَائِضُ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ دُخُولِهِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحُكْمِ» . «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ فِي مُعْتَكَفِهِ» وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عِبَادَةٌ فَيَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي الْمَسْجِدِ كَالصَّلَاةِ.

إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ بِإِتْلَافِ حَقِّهِ بِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِهِ فِي وَقْتٍ يُسْمَعُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ (وَيَجْلِسُ لِلْحُكْمِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ إلَخْ) الْحَاكِمُ يَجْلِسُ لِلْقَضَاءِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ كَيْ لَا يَتَسَتَّرَ مَكَانُهُ عَنْ الْغُرَبَاءِ وَبَعْضِ الْمُقِيمِينَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ وَأَرْفَقُ بِالنَّاسِ.

قَالَ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ: هَذَا إذَا كَانَ الْجَامِعُ فِي وَسَطِ الْبَلْدَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي طَرَفٍ مِنْهَا يَخْتَارُ مَسْجِدًا فِي وَسَطِهَا كَيْ لَا يَلْحَقَ بَعْضَ الْخُصُومِ زِيَادَةُ مَشَقَّةٍ بِالذَّهَابِ إلَيْهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْضُرُهُ الْمُشْرِكُ وَهُوَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وَيَحْضُرُهُ الْحَائِضُ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ. وَفَصَّلَ مَالِكٌ بَيْنَ مَا كَانَ الْحَاكِمُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَتَقَدَّمُ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ وَبَيْنَ الذَّهَابِ إلَيْهِ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ، وَلَمْ يَكْرَهْ الْأَوَّلَ وَكَرِهَ الثَّانِيَ.

وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحُكْمِ» وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ فِي مُعْتَكَفِهِ وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ

ص: 269

وَنَجَاسَةُ الْمُشْرِكِ فِي اعْتِقَادِهِ لَا فِي ظَاهِرِهِ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ، وَالْحَائِضُ تُخْبِرُ بِحَالِهَا فَيَخْرُجُ الْقَاضِي إلَيْهَا أَوْ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ يَبْعَثُ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَصْمِهَا كَمَا إذَا كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي الدَّابَّةِ. وَلَوْ جَلَسَ فِي دَارِهِ لَا بَأْسَ بِهِ وَيَأْذَنُ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهَا،

لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ فَيَجُوزُ فِي الْمَسَاجِدِ كَالصَّلَاةِ (قَوْلُهُ: وَنَجَاسَةُ الْمُشْرِكِ) جَوَابٌ عَنْ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ. وَتَقْرِيرُهُ: نَجَاسَةُ الْمُشْرِكِ فِي اعْتِقَادِهِ لَا فِي ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنْزِلُ الْوُفُودَ فِي الْمَسْجِدِ (فَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ) إذْ لَا يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْهُ شَيْءٌ (وَالْحَائِضُ تُخْبِرُ بِحَالِهَا فَيَخْرُجُ الْقَاضِي إلَيْهَا أَوْ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ يَبْعَثُ الْقَاضِي مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَصْمِهَا) كَمَا إذَا كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي الدَّابَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَائِضُ غَيْرَ مُسْلِمَةٍ لَا تَعْتَقِدُ حُرْمَةَ الدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ فَتُخْبِرُ عَنْ حَالِهَا. قُلْنَا: الْكُفَّارُ لَيْسُوا بِمُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ فَلَا بَأْسَ بِدُخُولِهَا (وَلَوْ جَلَسَ الْقَاضِي فِي دَارِهِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: إذَا كَانَتْ دَارُهُ فِي وَسَطِ الْبَلْدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا جَلَسَ فِيهَا يَأْذَنُ لِلنَّاسِ فِي الدُّخُولِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ

ص: 270

وَيَجْلِسُ مَعَهُ مَنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي جُلُوسِهِ وَحْدَهُ تُهْمَةً.

قَالَ (وَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِمُهَادَاتِهِ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ صِلَةُ الرَّحِمِ وَالثَّانِيَ لَيْسَ لِلْقَضَاءِ بَلْ جَرَى عَلَى الْعَادَةِ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَصِيرُ آكِلًا بِقَضَائِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ لِلْقَرِيبِ خُصُومَةٌ لَا يَقْبَلُ هَدِيَّتَهُ، وَكَذَا إذَا زَادَ الْمُهْدِي عَلَى الْمُعْتَادِ أَوْ كَانَتْ لَهُ خُصُومَةٌ لِأَنَّهُ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ فَيَتَحَامَاهُ.

لِكُلِّ أَحَدٍ حَقًّا فِي مَجْلِسِهِ (وَيَجْلِسُ مَعَهُ مَنْ كَانَ يَجْلِسُ مَعَهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ) حَتَّى يَكُونَ أَبْعَدَ مِنْ التُّهْمَةِ (إذْ فِي الْجُلُوسِ وَحْدَهُ تُهْمَةٌ) الظُّلْمِ وَأَخْذِ الرِّشْوَةِ.

قَالَ (وَلَا يَقْبَلُ: هَدِيَّةً إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ إلَخْ) الْحَاكِمُ لَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَهُ أَوْ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالْمُهَادَاةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ. أَمَّا أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ فَلِأَنَّهُ مِنْ جَوَالِبِ الْقَضَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى صِفَةِ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ حَرَامٌ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا» وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ رضي الله عنه أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَقَدِمَ بِمَالٍ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا؟ فَقَالَ: تَنَاتَجَتْ الْخُيُولُ وَتَلَاحَقَتْ الْهَدَايَا، فَقَالَ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ هَلَّا قَعَدْت فِي بَيْتِك فَتَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْك أَمْ لَا؟

ص: 271

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. فَعَرَفْنَا أَنَّ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِنْ الرِّشْوَةِ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.

وَأَمَّا الْقَبُولُ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَلَا خُصُومَةَ لَهُ فَإِنَّهُ مِنْ جَوَالِبِ الْقَرَابَةِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَفِي الرَّدِّ مَعْنَى الْقَطِيعَةِ وَهُوَ حَرَامٌ. وَلَفْظُ الْكِتَابِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُهَادَاةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَأَنْ لَا يَكُونَ. وَعِبَارَةُ النِّهَايَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُهَادَاةَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ شَرْطُ قَبُولِهَا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَأَمَّا الْقَبُولُ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِمُهَادَاتِهِ وَلَمْ يَزِدْ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَكْلٍ عَلَى الْقَضَاءِ بَلْ هُوَ جَرَى عَلَى الْعَادَةِ حَيْثُ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْمُعْتَادِ وَلَيْسَ لَهُ خُصُومَةٌ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُهْدِيَ لِلْقَاضِي إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَا خُصُومَةٍ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ هَدَيْته مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا أَوْ مُهَادِيًا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا أَوْ مِمَّنْ جَرَتْ لَهُ الْعَادَةُ بِذَلِكَ أَوْ لَا، وَالثَّانِي كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ بِالْقَضَاءِ فَيَتَحَامَاهُ، وَالْأَوَّلُ يَجُوزُ قَبُولُهُ إنْ لَمْ يَزِدْ مَنْ لَهُ الْعَادَةُ عَلَى الْمُعْتَادِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: إنْ زَادَ عَلَى الْمُعْتَادِ عِنْدَمَا ازْدَادَ مَا لَا يَقْدِرُ مَا زَادَ فِي الْمَالِ لَا بَأْسَ بِقَبُولِهِ، ثُمَّ إنْ أَخَذَ الْقَاضِي مَا لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ مَاذَا يَصْنَعُ بِهِ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فَبَعْضُهُمْ قَالُوا: يَضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَعَامَّتُهُمْ قَالُوا: يَرُدُّهَا عَلَى أَرْبَابِهَا إنْ عَرَفَهُمْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ أَوْ يَعْرِفُهُمْ إلَّا أَنَّ الرَّدَّ يَتَعَذَّرُ لِبُعْدِهِمْ يَضَعُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ اللُّقَطَةِ، وَإِنَّمَا يَضَعُهَا فِي بَيْتِ

ص: 272

وَلَا يَحْضُرُ دَعْوَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً لِأَنَّ الْخَاصَّةَ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ فَيُتَّهَمُ بِالْإِجَابَةِ، بِخِلَافِ الْعَامَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَوَابِ قَرِيبُهُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يُجِيبُهُ وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً كَالْهَدِيَّةِ، وَالْخَاصَّةُ مَا لَوْ عَلِمَ الْمُضِيفُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا لَا يَتَّخِذُهَا.

قَالَ (وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ) لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ

الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُهْدِيَ إلَيْهِ لِعَمَلِهِ وَهُوَ فِي هَذَا الْعَمَلِ نَائِبٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ الْهَدَايَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَهُمْ.

(وَلَا يَحْضُرُ الْقَاضِي دَعْوَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً) قِيلَ وَهِيَ مَا تَكُونُ فَوْقَ الْعَشَرَةِ وَمَا دُونَهُ خَاصَّةٌ، وَقِيلَ دَعْوَةُ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ عَامَّةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ خَاصَّةٌ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ هِيَ مَا لَوْ عَلِمَ الْمُضِيفُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا لَا يَتَّخِذُهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رحمه الله، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْقُدُورِيِّ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: إنَّهُ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْقَرِيبِ وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً كَالْهَدِيَّةِ، وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ لَهُمَا بَيْنَ الضِّيَافَةِ وَالْهَدِيَّةِ حَيْثُ جَوَّزَا قَبُولَ هَدِيَّةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَلَمْ يُجَوِّزَا حُضُورَ دَعْوَتِهِ أَنَّ مَا قَالُوا فِي الضِّيَافَةِ مَحْمُولٌ عَلَى قَرِيبٍ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا دَعْوَةٌ وَلَا مُهَادَاةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا أُحْدِثَ بَعْدَهُ، وَمَا ذَكَرُوا فِي الْهَدِيَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُهَادَاةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ صِلَةً لِلرَّحِمِ. وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ: إذَا كَانَتْ الدَّعْوَةُ عَامَّةً، وَالْمُضِيفُ خَصْمٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُجِيبَ الْقَاضِي دَعْوَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إيذَاءِ الْخَصْمِ الْآخَرِ أَوْ إلَى التُّهْمَةِ.

قَالَ (وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ إلَخْ) الْحَاكِمُ يَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ. قَالَ صلى الله عليه وسلم «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ» رَوَى أَبُو أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ خِصَالٍ وَاجِبَةٌ، إنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا فَقَدْ تَرَكَ حَقًّا

ص: 273

عليه الصلاة والسلام «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ» وَعَدَّ مِنْهَا هَذَيْنِ.

(وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ خَصْمِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ فِيهِ تُهْمَةً. قَالَ (وَإِذَا حَضَرَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُلُوسِ وَالْإِقْبَالِ)

وَاجِبًا عَلَيْهِ: إذَا دَعَاهُ أَنْ يُجِيبَهُ، وَإِذَا مَرِضَ أَنْ يَعُودَهُ، وَإِذَا مَاتَ أَنْ يَحْضُرَهُ، وَإِذَا لَقِيَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَهُ أَنْ يَنْصَحَهُ، وَإِذَا عَطَسَ أَنْ يُشَمِّتَهُ» كَذَا فِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ

(وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ ذَلِكَ) رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُضَيِّفَ الْخَصْمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ مَعَهُ» (وَلِأَنَّ الضِّيَافَةَ وَالْخَلْوَةَ تُورِثُ التُّهْمَةَ) قَالَ (وَإِذَا حَضَرَا سَوَّى بَيْنَهُمَا إلَخْ) إذَا حَضَرَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَنْ وَلَّاهُ وَالْآخَرُ فَقِيرًا أَوْ كَانَا أَبَا وَابْنًا يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ فَيَجْلِسَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَجْلَسَهُمَا فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إلَى الْقَاضِي فَتَفُوتُ التَّسْوِيَةُ، وَلَوْ أَجْلَسَ أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ فَكَذَلِكَ لِفَضْلِ الْيَمِينِ، وَإِنْ خَاصَمَ رَجُلٌ السُّلْطَانَ إلَى الْقَاضِي فَجَلَسَ السُّلْطَانُ مَعَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِهِ وَالْخَصْمُ عَلَى الْأَرْضِ يَقُومُ الْقَاضِي مِنْ مَكَانِهِ وَيُجْلِسُ الْخَصْمَ فِيهِ وَيَقْعُدُ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَقْضِي بَيْنَهُمَا كَيْ لَا يَكُونَ مُفَضِّلًا لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مَنْ وَلَّاهُ، وَكَذَلِكَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْبَالِ وَهُوَ التَّوَجُّهُ وَالنَّظَرُ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم

ص: 274

لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا اُبْتُلِيَ أَحَدُكُمْ بِالْقَضَاءِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ» (وَلَا يُسَارُّ أَحَدَهُمَا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّةً) لِلتُّهْمَةِ وَلِأَنَّ فِيهِ مَكْسَرَةً لِقَلْبِ الْآخَرِ فَيَتْرُكُ حَقَّهُ (وَلَا يَضْحَكُ فِي وَجْهِ أَحَدِهِمَا) لِأَنَّهُ يَجْتَرِئُ عَلَى خَصْمِهِ (وَلَا يُمَازِحُهُمْ وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمْ) لِأَنَّهُ يُذْهِبُ بِمَهَابَةِ الْقَضَاءِ.

«إذَا اُبْتُلِيَ أَحَدُكُمْ بِالْقَضَاءِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ» قَالَ (وَلَا يُسَارُّ أَحَدَهُمَا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ) لَا يُكَلِّمُ الْقَاضِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ سِرًّا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ لَا بِيَدِهِ وَلَا بِرَأْسِهِ وَلَا بِحَاجِبِهِ (وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّةً وَلَا يَضْحَكُ فِي وَجْهِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ تُهْمَةً) وَعَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا (وَلِأَنَّ فِيهِ مَكْسَرَةٌ لِقَلْبِ الْآخَرِ فَيُنَحِّيهِ عَنْ طَلَبِ حَقِّهِ فَيَتْرُكُهُ) وَفِيهِ اجْتِرَاءُ مَنْ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ عَلَى خَصْمِهِ (وَلَا يُمَازِحُهُمْ وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِمَهَابَةِ الْقَضَاءِ) وَيَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلًا يَمْنَعُ النَّاسَ عَنْ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَيَمْنَعُهُمْ عَنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ، وَيُقَالُ لَهُ صَاحِبَ الْمَجْلِسِ وَالشُّرَطِ وَالْعَرِيفَ وَالْجِلْوَازَ مِنْ الْجَلْوَزَةِ وَهِيَ الْمَنْعُ، وَيَكُونُ مَعَهُ سَوْطٌ يَجْلِسُ الْخَصْمَيْنِ بِمِقْدَارِ ذِرَاعَيْنِ مِنْ الْقَاضِي

ص: 275

قَالَ (وَيُكْرَهُ تَلْقِينُ الشَّاهِدِ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَيُكْرَهُ كَتَلْقِينِ الْخَصْمِ. وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَحْصُرُ لِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ فَكَانَ تَلْقِينُهُ إحْيَاءً لِلْحَقِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِشْخَاصِ وَالتَّكْفِيلِ.

وَيَمْنَعُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَجْلِسِ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ تَلْقِينُ الشَّاهِدِ إلَخْ) تَلْقِينُ الشَّاهِدِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي مَا يَسْتَفِيدُ بِهِ الشَّاهِدُ عِلْمًا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّهَادَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَيُكْرَهُ كَتَلْقِينِ الْخَصْمِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَاسْتَحْسَنَ التَّلْقِينَ رُخْصَةً فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَشْرُوعٌ لِإِحْيَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ، وَقَدْ يُحْصَرُ الشَّاهِدُ عَنْ الْبَيَانِ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَكَانَ فِي التَّلْقِينِ إحْيَاءٌ لِلْحُقُوقِ بِمَنْزِلَةِ الْإِشْخَاصِ وَالتَّكْفِيلِ، وَأَمَّا فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ مِثْلِ إنْ ادَّعَى الْمُدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ خَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَا الشَّاهِدَانِ بِالْأَلْفِ فَالْقَاضِي إنْ قَالَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ وَاسْتَفَادَ الشَّاهِدُ عِلْمًا بِذَلِكَ وَوُفِّقَ فِي شَهَادَتِهِ كَمَا وُفِّقَ الْقَاضِي فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ. وَتَأْخِيرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُشِيرُ إلَى اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله وَالْإِشْخَاصُ هُوَ إرْسَالُ الرَّاجِلِ لِإِحْضَارِ الْخَصْمِ

ص: 276

(فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ)

فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ)

لَمَّا كَانَ الْحَبْسُ مِنْ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ أَفْرَدَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَبْسُ، وَبِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ» خَلَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم سِجْنٌ، وَكَانَ يُحْبَسُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الدِّهْلِيزِ حَيْثُ أَمْكَنَ، وَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَحْدَثَ السِّجْنَ بَنَاهُ مِنْ قَصَبٍ وَسَمَّاهُ نَافِعًا فَنَقَبَهُ اللُّصُوصُ فَبَنَى سِجْنًا مِنْ مَدَرٍ فَسَمَّاهُ مَخِيسًا؛ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِّبَ لِإِيصَالِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا فَإِنْ امْتَنَعَ الْمَطْلُوبُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّ الطَّالِبِ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي بُدٌّ مِنْ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْأَدَاءِ، وَلَا خِلَافَ أَنْ لَا جَبْرَ بِالضَّرْبِ

ص: 277

قَالَ (وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا، وَهَذَا إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهُ مُمَاطِلًا فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ فَلَعَلَّهُ طَمِعَ فِي الْإِمْهَالِ فَلَمْ يَسْتَصْحِبْ الْمَالُ، فَإِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ حَبَسَهُ لِظُهُورِ مَطْلِهِ، أَمَّا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حَبَسَهُ كَمَا ثَبَتَ لِظُهُورِ الْمَطْلِ بِإِنْكَارِهِ.

فَيَكُونُ بِالْحَبْسِ أَوْلَى.

قَالَ (وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَبْسَ غَرِيمِهِ إلَخْ) إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَبْسَ غَرِيمِهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يُعَجِّلْ بِالْحَبْسِ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يَظْهَرْ كَوْنُهُ مُمَاطِلًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ مِنْ حُجَّتِهِ أَنْ يَقُولَ ظَنَنْت أَنَّك تُمْهِلُنِي فَلَمْ أَسْتَصْحِبْ الْمَالَ فَإِنْ أَبَيْت أُوَفِّيك حَقَّك، فَإِنْ امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ مَطْلُهُ فَيُحْبَسُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي حَبَسَهُ كَمَا سَبَقَ لِظُهُورِ الْمُمَاطَلَةِ بِإِنْكَارِهِ. وَرُوِيَ عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رحمه الله عَكْسُ ذَلِكَ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْتَذِرَ وَيَقُولَ مَا عَلِمْت لَهُ دَيْنًا عَلَيَّ فَإِذَا عَلِمْت الْآنَ لَا أَتَوَانِي فِي قَضَائِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ مِثْلُ هَذَا الِاعْتِذَارِ فِي فَصْلِ الْإِقْرَارِ، وَالْمَالُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فِي حَقِّ الْحَبْسِ يُحْبَسُ فِي الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ؛؛ لِأَنَّ مَانِعَ ذَلِكَ ظَالِمٌ فَيُجَازَى بِهِ، وَالْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ لَا يَخْرُجُ

ص: 278

قَالَ (فَإِنْ امْتَنَعَ حَبْسُهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ) لِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ثَبَتَ غِنَاهُ بِهِ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْتِزَامِهِ بِاخْتِيَارِهِ دَلِيلُ يَسَارِهِ إذْ هُوَ لَا يَلْتَزِمُ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ مُعَجَّلُهُ دُونَ مُؤَجَّلِهِ. قَالَ (وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إذَا قَالَ إنِّي فَقِيرٌ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ غَرِيمُهُ أَنَّ لَهُ مَالًا فَيَحْبِسَهُ) لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ دَلَالَةُ الْيَسَارِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَعَلَى الْمُدَّعِي إثْبَاتُ غِنَاهُ،

لِمَجِيءِ رَمَضَانَ وَالْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَالْجُمُعَةِ وَصَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ وَحَجَّةِ فَرِيضَةٍ وَحُضُورِهِ جِنَازَةَ بَعْضِ أَهْلِهِ وَمَوْتِ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ إذَا كَانَ ثَمَّةَ مَنْ يُكَفِّنُهُ وَيُغَسِّلُهُ،؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْمَيِّتِ تَصِيرُ مُقَامَةً بِغَيْرِهِ، وَفِي الْخُرُوجِ تَفْوِيتُ حَقِّ الطَّالِبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَ الْقِيَامُ بِحَقِّ الْوَالِدَيْنِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْخُرُوجِ كَثِيرُ ضَرَرٍ لِلطَّالِبِ، وَإِنْ مَرِضَ وَلَهُ خَادِمٌ لَا يَخْرُجُ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيَتَسَارَعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَبِالْمَرَضِ يَزْدَادُ الضَّجَرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ أَخْرَجُوهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يُمَرِّضُهُ رُبَّمَا يَمُوتُ بِسَبَبِهِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، وَلَوْ احْتَاجَ إلَى الْجِمَاعِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ أَوْ جَارِيَتُهُ فَيَطَؤُهُمَا حَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ فَكَذَا شَهْوَةُ الْفَرْجِ. وَقِيلَ الْوَطْءُ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ فَيَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ بِخِلَافِ الطَّعَامِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ عَلَيْهِ لِيُشَاوِرَهُمْ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ طُولِ الْمُكْثِ عِنْدَهُ.

قَالَ (فَإِنْ امْتَنَعَ حَبَسَهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا إلَخْ) فَإِنْ امْتَنَعَ الْغَرِيمُ عَنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ حَبَسَهُ إذَا طَلَبَ الْخَصْمُ ذَلِكَ كَمَا مَرَّ وَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ غِنَاهُ وَفَقْرِهِ فَإِنْ ادَّعَى الْإِعْسَارَ وَأَنْكَرَهُ الْمُدَّعِي اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي قَبُولِ دَعْوَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بِعَقْدٍ كَالثَّمَنِ وَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعِي، وَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ هَذَا الْقَوْلَ بِقَوْلِهِ حَبَسَهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ثَبَتَ غِنَاهُ بِهِ وَزَوَالُهُ عَنْ الْمِلْكِ مُحْتَمَلٌ وَالثَّابِتُ لَا يُتْرَكُ بِالْمُحْتَمَلِ، وَبِقَوْلِهِ وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْتِزَامِهِ بِاخْتِيَارِهِ دَلِيلُ يَسَارِهِ إذْ هُوَ لَا يَلْتَزِمُ إلَّا بِمَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ، وَهَذَا يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَا كَانَ بَدَلًا عَنْ مَالٍ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَكُنْ وَيَخْرُجُ عَنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ دَيْنًا مُطْلَقًا كَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ مُعَجَّلُهُ دُونَ مُؤَجَّلِهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِتَسْلِيمِ الْمُعَجَّلِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى النِّكَاحِ دَلِيلًا عَلَى قُدْرَتِهِ.

قَالَ الْقُدُورِيُّ (وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ) يَعْنِي ضَمَانَ الْغَصْبِ وَأَرْشَ الْجِنَايَاتِ (إذَا قَالَ إنِّي فَقِيرٌ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ دَلَالَةُ الْيَسَارِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعِي أَنَّ لَهُ مَالًا بِبَيِّنَةٍ فَيَحْبِسُهُ. وَرَوَى الْخَصَّافُ عَنْ أَصْحَابِنَا رحمهم الله أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ)

ص: 279

وَيُرْوَى أَنَّ الْقَوْلَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعُسْرَةُ. وَيُرْوَى أَنَّ الْقَوْلَ لَهُ إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ. وَفِي النَّفَقَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إنَّهُ مُعْسِرٌ، وَفِي إعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ الْقَوْلُ لِلْمُعْتِقِ،

أَيْ فِيمَا كَانَ بَدَلًا عَنْ مَالٍ وَمَا لَمْ يَكُنْ (لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعُسْرَةُ) إذْ الْآدَمِيُّ يُولَدُ وَلَا مَالَ لَهُ، وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي عَارِضًا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَدْيُونِ مَعَ يَمِينِهِ (وَيُرْوَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ: إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ دُخُولَ شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ وَزَوَالُهُ مُحْتَمَلٌ فَكَانَ الْقَوْلُ لِلْمُدَّعِي، وَمَا لَمْ يَكُنْ بَدَلُهُ مَالًا كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ وَلَمْ يَعْرِفْ قُدْرَتَهُ عَلَى الْقَضَاءِ فَبَقِيَ مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ، فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا فِي نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ. وَالْآخَرُ أَنْ يُحَكِّمَ الزِّيَّ إنْ كَانَ زِيَّ الْفُقَرَاءِ كَانَ الْقَوْلُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ زِيَّ الْأَغْنِيَاءِ كَانَ الْقَوْلُ لِلْمُدَّعِي إلَّا فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْأَشْرَافِ كَالْعَلَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّفُونَ فِي الزِّيِّ مَعَ حَاجَتِهِمْ حَتَّى لَا يَذْهَبَ مَاءُ وَجْهِهِمْ فَلَا يَكُونُ الزِّيُّ فِيهِمْ دَلِيلَ الْيَسَارِ.

وَقَوْلُهُ: (وَفِي النَّفَقَةِ) بَيَانٌ لِمَا هُوَ الْمَحْفُوظُ مِنْ الرِّوَايَةِ. ذَكَرَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ

ص: 280

وَالْمَسْأَلَتَانِ تُؤَدِّيَانِ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ مُطْلَقٍ بَلْ هُوَ صِلَةٌ حَتَّى تَسْقُطَ النَّفَقَةُ بِالْمَوْتِ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ، ثُمَّ فِيمَا كَانَ الْقَوْلُ

أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ مُوسِرٌ وَادَّعَتْ نَفَقَةَ الْمُوسِرِينَ وَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ. وَفِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ مَحْفُوظَتَانِ تُؤَيِّدَانِ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ. أَمَّا تَأْيِيدُهُمَا لِلَّذِي كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ لِمَنْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى مَعَ أَنَّهُمَا بَاشَرَا عَقْدَ النِّكَاحِ وَالْإِعْتَاقِ، فَلَوْ كَانَ الصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَرْأَةِ وَالشَّرِيكِ السَّاكِتِ فِي دَعْوَى الْيَسَارِ، وَأَمَّا تَأْيِيدُهُمَا لِلَّذِي كَانَ الْقَوْلُ لِمَنْ عَلَيْهِ إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ فَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَدَلُ الْمَهْرِ وَبَدَلُ ضَمَانِ الْإِعْتَاقِ مَالًا جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْقَوْلَانِ الْأَخِيرَانِ. وَقَوْلُهُ:(وَالتَّخْرِيجُ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ جَوَابٌ عَنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ نُصْرَةً لِلْمَذْكُورِ فِيهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ: أَيْ النَّفَقَةَ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِنْفَاقِ لَيْسَ بِدَيْنٍ مُطْلَقٍ بَلْ فِيهِ مَعْنَى الصِّلَةِ. وَلِهَذَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ بِالْإِنْفَاقِ،

ص: 281

قَوْلَ الْمُدَّعِي إنَّ لَهُ مَالًا، أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فِيمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ عَلَيْهِ يَحْبِسُهُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ فَالْحَبْسُ لِظُهُورِ ظُلْمِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُهُ مُدَّةً لِيَظْهَرَ مَالُهُ لَوْ كَانَ يُخْفِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَمْتَدَّ الْمُدَّةُ لِيُفِيدَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فَقَدَّرَهُ بِمَا ذَكَرَهُ، وَيُرْوَى غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرِ بِشَهْرٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَشْخَاصِ فِيهِ. قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ خُلِّيَ سَبِيلُهُ) يَعْنِي بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ فَيَكُونُ حَبْسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ظُلْمًا؛.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّيْنَ الصَّحِيحَ هُوَ مَا لَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِبْرَاءِ مَنْ لَهُ أَوْ بِإِيفَاءِ مَنْ عَلَيْهِ، وَكَذَا ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَحِينَئِذٍ لَا يَرُدُّ نَقْضًا عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: حَبَسَهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّيْنِ هُوَ الْمُطْلَقُ مِنْهُ إذْ بِهِ يَحْصُلُ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْخَلَاصُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ مِنْ جِهَتِهِ إلَّا بِالْإِيفَاءِ وَأَقْدَمَ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ فِيمَا كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُدَّعِي أَنَّ لَهُ مَالًا أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ عَلَيْهِ يَحْبِسُهُ الْحَاكِمُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ يَسْأَلُ جِيرَانَهُ وَأَهْلَ خِبْرَتِهِ عَنْ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ. أَمَّا الْحَبْسُ فَلِظُهُورِ ظُلْمِهِ بِالْمَطْلِ فِي الْحَالِ، وَأَمَّا تَوْفِيَتُهُ فَلِأَنَّهُ لِإِظْهَارِ مَالِهِ إنْ كَانَ يُخْفِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ لِيُفِيدَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فَقُدِّرَ بِمَا ذُكِرَ، وَيُرْوَى غَيْرُ التَّقْدِيرِ بِشَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِشَهْرٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ وَالشَّهْرُ آجِلٌ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: وَهُوَ أَرْفَقُ الْأَقَاوِيلِ فِي هَذَا الْبَابِ.

وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ، بَلْ هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَشْخَاصِ فِيهِ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَضْجَرُ فِي السِّجْنِ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَضْجَرُ كَثِيرَ ضَجَرٍ بِمِقْدَارِ تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي ضَجِرَ الْآخَرُ، فَإِنْ وَقَعَ فِي رَأْيِهِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَضْجَرُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ وَيُظْهِرُ الْمَالَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَمْ يُظْهِرْ سَأَلَ عَنْ حَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ سَأَلَ عَنْهُ فَقَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى عُسْرَتِهِ أَخْرَجَهُ الْقَاضِي مِنْ الْحَبْسِ وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْبَيِّنَةِ إلَى لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ وَالْعَدَدِ، بَلْ إذَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ ثِقَةٌ عَمِلَ بِقَوْلِهِ، وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ إذَا لَمْ يَكُنْ حَالَ مُنَازَعَةٍ، أَمَّا إذَا كَانَتْ كَمَا إذَا ادَّعَى الْمَطْلُوبُ الْإِعْسَارَ وَالطَّالِبُ الْيَسَارَ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ مُعْسِرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَلَيْسَ هَذَا شَهَادَةً عَلَى النَّفْيِ؛ لِأَنَّ الْإِعْسَارَ بَعْدَ الْيَسَارِ أَمْرٌ حَادِثٌ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ بِأَمْرٍ حَادِثٍ لَا بِالنَّفْيِ، وَإِنْ اسْتَحْلَفَ الْمَطْلُوبُ الطَّالِبَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ مُعْدَمٌ حَلَّفَهُ الْقَاضِي، فَإِنْ نَكَلَ أَطْلَقَهُ وَإِنْ حَلَفَ أَبَّدَ الْحَبْسَ.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: هَذَا السُّؤَالُ مِنْ الْقَاضِي عَنْ حَالِ الْمَدْيُونِ بَعْدَمَا حَبَسَهُ

ص: 282

وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إفْلَاسِهِ قَبْلَ الْمُدَّةِ تُقْبَلُ فِي رِوَايَةٍ، وَلَا تُقْبَلُ فِي رِوَايَةٍ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ رحمهم الله. قَالَ فِي الْكِتَابِ خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ، وَهَذَا كَلَامٌ فِي الْمُلَازَمَةِ وَسَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ

احْتِيَاطٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْإِعْسَارِ شَهَادَةٌ بِالنَّفْيِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ، وَلَكِنْ لَوْ سَأَلَ كَانَ أَحْوَطَ. قِيلَ مُحَمَّدٌ رحمه الله قَبِلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْيَسَارِ وَهُوَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْمِلْكِ وَتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِهِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يَشْهَدُوا بِمِقْدَارِهِ وَلَمْ يَقْبَلْ فِيمَا إذَا أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي جِوَارَ السَّفِيهِ وَأَنْكَرَ مِلْكَهُ فِي الدَّارِ الَّتِي بِيَدِهِ فِي جَنْبِ الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ فَأَقَامَ الشَّفِيعُ بَيِّنَةً أَنَّ لَهُ نَصِيبًا فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَلَمْ يُبَيِّنُوا مِقْدَارَ نَصِيبِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى الْيَسَارِ شَاهِدٌ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ إنَّمَا تَكُونُ بِمِلْكِ مِقْدَارِ الدَّيْنِ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ قَدْرُ الْمِلْكِ لِكَوْنِ قَدْرِ الدَّيْنِ مَعْلُومًا فِي نَفْسِهِ. أَمَّا الشَّاهِدُ عَلَى النَّصِيبِ فَلَيْسَ بِشَاهِدٍ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ سَوَاءٌ فَوَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.

قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ خَلَّى سَبِيلَهُ إلَخْ) فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِلْمَحْبُوسِ مَالٌ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي رَآهَا الْقَاضِي بِرَأْيِهِ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي اخْتَارَهَا بَعْضُ الْمَشَايِخِ كَشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ خَلَّى سَبِيلَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} فَكَانَ الْحَبْسُ بَعْدَهُ ظُلْمًا. وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ جَعَلَ قَوْلَهُ يَعْنِي بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ خَلَّى سَبِيلَهُ فَقَالَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يُخَلِّيهِ مَا لَمْ تَمْضِ الْمُدَّةُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا ذَكَرُوا فِي نُسَخِ أَدَبِ الْقَاضِي وَقَالُوا: وَإِذَا ثَبَتَ إعْسَارُهُ أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَبْسِ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إفْلَاسِهِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ) بِأَنْ أَخْبَرَ وَاحِدٌ ثِقَةٌ أَوْ اثْنَانِ أَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ مُفْلِسٌ مُعْدَمٌ لَا نَعْلَمُ لَهُ مَالًا سِوَى كِسْوَتِهِ الَّتِي عَلَيْهِ وَثِيَابِ لَيْلِهِ وَقَدْ اخْتَبَرْنَا أَمْرَهُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَفِيهِ رِوَايَتَانِ (تُقْبَلُ فِي رِوَايَةٍ وَلَا تُقْبَلُ فِي رِوَايَةٍ وَعَلَيْهَا عَامَّةُ الْمَشَايِخِ) وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحَبْسِ؛ فَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَحْبِسُهُ وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَهُوَ قَوْلُ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمهم الله. وَفِي أُخْرَى وَعَلَيْهَا عَامَّةُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى هَذِهِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى النَّفْيِ فَلَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ وَقَبْلَ الْحَبْسِ مَا تَأَيَّدَتْ، فَإِذَا حُبِسَ وَمَضَتْ مُدَّةٌ فَقَدْ تَأَيَّدَتْ بِهِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلَاصِ نَفْسِهِ مِنْ مَرَارَةِ الْحَبْسِ لَا يَتَحَمَّلُهَا (قَالَ فِي الْكِتَابِ) أَيْ الْقُدُورِيُّ (خَلَّى سَبِيلَهُ وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ وَهَذَا الْكَلَامُ) يَعْنِي الْمَنْعَ عَنْ مُلَازَمَةِ الْمَدْيُونِ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْ الْحَبْسِ (فِي الْمُلَازَمَةِ) هَلْ لِلطَّالِبِ ذَلِكَ أَوْ لَا (وَسَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْحَجْرِ

ص: 283

إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَجُلٌ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِدَيْنٍ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَبَّدَ حَبْسَهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا خَلَّى سَبِيلَهُ، وَمُرَادُهُ إذَا أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي أَوْ عِنْدَهُ مَرَّةً وَظَهَرَتْ مُمَاطَلَتُهُ وَالْحَبْسُ أَوَّلًا وَمُدَّتُهُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فَلَا نُعِيدُهُ.

قَالَ (وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ) لِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِالِامْتِنَاعِ (وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ) لِأَنَّهُ نَوْعُ عُقُوبَةٍ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْوَلَدُ عَلَى الْوَالِدِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ

بِسَبَبِ الدَّيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى).

(وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَجُلٌ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِدَيْنٍ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَبَّدَ حَبْسَهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا خَلَّى سَبِيلَهُ) وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يُنَاقِضُ مَا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ أَنَّ الْحَقَّ إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ لَا يَحْبِسُهُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ فَيَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ فَلِهَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ تَأْوِيلَهُ بِقَوْلِهِ (وَمُرَادُهُ) أَيْ مُرَادُ مُحَمَّدٍ (إذَا أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي أَوْ عِنْدَهُ مَرَّةً قَبْلَ ذَلِكَ فَظَهَرَتْ مُمَاطَلَتُهُ) وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَمَدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ الْعَكْسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ هُوَ التَّأْوِيلُ (قَوْلُهُ: وَالْحَبْسُ أَوَّلًا) يَعْنِي أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ الْحَبْسِ أَوَّلًا وَمُدَّتُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ فَيُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ لَهَا فَلَا نُعِيدُهُ.

قَالَ (وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ إلَخْ) إذَا فَرَضَ الْقَاضِي عَلَى رَجُلٍ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ أَوْ اصْطَلَحَا عَلَى مِقْدَارٍ وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا وَرَفَعَتْ إلَى الْحَاكِمِ حَبَسَهُ لِظُهُورِ ظُلْمِهِ بِالِامْتِنَاعِ (وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ عُقُوبَةٍ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْوَلَدُ عَلَى وَالِدِهِ كَالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} (إلَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءَ وَلَدِهِ) وَفِي تَرْكِهِ سَعْيٌ فِي هَلَاكِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ الْوَالِدُ لِقَصْدِهِ إتْلَافَ مَالِ الْوَلَدِ (وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا) وَسَائِرُ الدُّيُونِ لَمْ تَسْقُطْ بِهِ فَافْتَرَقَا، وَكَذَا لَا يُحْبَسُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ حُبِسَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَكَذَا الْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ دَيْنًا، وَكَذَا الدَّيْنُ مُكَاتَبَةً إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِوُقُوعِ الْمُقَاصَّةِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، وَالْمُكَاتَبُ فِي حَقِّ أَكْسَابِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فَيُحْبَسُ الْمَوْلَى لِأَجْلِهِ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ لِدَيْنِ الْكِتَابَةِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إسْقَاطِهِ فَلَا يَكُونُ بِالْمَنْعِ ظَالِمًا وَيُحْبَسُ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَسْخِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَقِيلَ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَعْجِيزِ نَفْسِهِ فَيَسْقُطُ بِهِ الدَّيْنُ عَنْهُ كَدَيْنِ الْكِتَابَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 284

(إلَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ) لِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءً لِوَلَدِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُتَدَارَكُ لِسُقُوطِهَا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي)

(بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي)

أَوْرَدَ هَذَا الْبَابَ بَعْدَ فَصْلِ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْقَضَاءِ أَيْضًا، إلَّا أَنَّ السِّجْنَ يَتِمُّ بِقَاضٍ وَاحِدٍ وَهَذَا بِاثْنَيْنِ، وَالْوَاحِدُ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ عِبَارَتِهِ، وَلَوْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ مَجْلِسَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَعَبَّرَ بِلِسَانِهِ عَمَّا فِي الْكِتَابِ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْقَاضِي فَكَيْفَ بِالْكِتَابِ وَفِيهِ شُبْهَةُ التَّزْوِيرِ إذْ الْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَالْخَاتَمُ الْخَاتَمَ إلَّا أَنَّهُ جُوِّزَ لِحَاجَةِ النَّاسِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه جَوَّزَهُ كَذَلِكَ وَعَلَيْهِ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ.

ص: 285

قَالَ (وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُقُوقِ إذَا شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ) لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ (فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ حَكَمَ بِالشَّهَادَةِ) لِوُجُودِ الْحُجَّةِ (وَكَتَبَ بِحُكْمِهِ) وَهُوَ الْمَدْعُوُّ سِجِلًّا (وَإِنْ شَهِدُوا بِهِ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْخَصْمِ لَمْ يَحْكُمْ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ (وَكَتَبَ بِالشَّهَادَةِ) لِيَحْكُمَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ بِهَا وَهَذَا هُوَ الْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ،

قَالَ (وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُقُوقِ إلَخْ) يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي حُقُوقٍ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ دُونَ مَا يَنْدَرِئُ بِهَا إذَا شُهِدَ بِهِ بِضَمِّ الشِّينِ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لِلْحَاجَةِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: الْمُسَمَّى سِجِلًّا، وَالْمُسَمَّى الْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ إمَّا أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى خَصْمٍ أَوْ لَا، وَتَنْكِيرُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذْ لَوْ كَانَ إيَّاهُ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْكِتَابِ، وَالْكِتَابُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِئَلَّا يَقَعَ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ، فَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ حَكَمَ بِالشَّهَادَةِ لِوُجُودِ الْحُجَّةِ وَكَتَبَ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمَدْعُوّ سِجِلًّا؛ لِأَنَّ السِّجِلَّ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْحُكْمِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَحْكُمْ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَهُوَ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ، وَكَتَبَ بِالشَّهَادَةِ لِيَحْكُمَ بِهَا الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ وَهُوَ الْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ إذَا وَصَلَ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ إلَّا التَّنْفِيذُ وَافَقَ رَأْيَهُ أَوْ خَالَفَهُ لِاتِّصَالِ الْحُكْمِ بِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنْ وَافَقَهُ نَفَّذَهُ وَإِلَّا فَلَا لِعَدَمِ اتِّصَالِ الْحُكْمِ بِهِ، وَقَدْ يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ

ص: 286

وَهُوَ نَقْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَيَخْتَصُّ بِشَرَائِطَ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَجَوَازُهُ لِمِسَاسِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ شُهُودِهِ وَخَصْمِهِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَقَوْلُهُ فِي الْحُقُوقِ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الدَّيْنُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَغْصُوبُ وَالْأَمَانَةُ الْمَجْحُودَةُ وَالْمُضَارَبَةُ الْمَجْحُودَةُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ، وَهُوَ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِشَارَةِ، وَيُقْبَلُ فِي الْعَقَارِ أَيْضًا لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِ بِالتَّحْدِيدِ.

قَوْلُهُ: وَهُوَ نَقْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَتَخْتَصُّ بِشَرَائِطَ مِنْهَا الْعُلُومُ الْخَمْسَةُ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مِنْ مَعْلُومٍ إلَى مَعْلُومٍ فِي مَعْلُومٍ لِمَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ، وَسَنَذْكُرُ مَا عَدَاهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ (قَوْلُهُ: وَجَوَازُهُ) هُوَ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ، وَهُوَ يُشِيرُ إلَى أَنَّ جَوَازَهُ ثَابِتٌ بِمُشَابَهَتِهِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ لِاتِّحَادِ الْمَنَاطِ وَهُوَ تَعَذُّرُ الْجَمْعِ بَيْنَ الشُّهُودِ وَالْخَصْمِ، فَكَمَا جُوِّزَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ لِإِحْيَاءِ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَكَذَا جُوِّزَ الْكِتَابُ لِذَلِكَ، وَلَا يُرَادُ بِالْمُشَابَهَةِ الْقِيَاسُ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ فَيُرَادُ بِهِ الِاتِّحَادُ فِي مَنَاطِ الِاسْتِحْسَانِ. (وَقَوْلُهُ): يَعْنِي الْقُدُورِيَّ (فِي الْحُقُوقِ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الدَّيْنُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَغْصُوبُ) وَالْأَمَانَةُ الْمَجْحُودَةُ (وَالْمُضَارَبَةُ الْمَجْحُودَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ) وَالدَّيْنُ يَجُوزُ فِيهِ الْكِتَابُ فَكَذَا فِيمَا كَانَ فِي مَنْزِلَتِهِ (قَوْلُهُ: وَهُوَ يُعْرَفُ) أَيْ الدَّيْنُ (يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ) يُشِيرُ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إلَى أَنَّ الدَّيْنَ إنَّمَا يَجُوزُ فِيهِ الْكِتَابُ؛ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ، وَإِلَى أَنَّ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِشَارَةِ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْكِتَابُ، وَإِلَى أَنَّ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ فِي أَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مَا سِوَى الدَّيْنِ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فَإِنَّ الشَّاهِدَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَكَذَلِكَ فِي الْبَاقِي فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ، وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لَا يَجُوزُ فِيهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الْخَصْمِ شَرْطٌ فِيمَا ذَكَرْت وَهُوَ لَيْسَ بِمُدَّعًى بِهِ إنَّمَا هُوَ نَفْسُ النِّكَاحِ وَالْأَمَانَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ الْأَفْعَالِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الدَّائِنِ وَالْمَدْيُونِ لَا بُدَّ مِنْهَا عِنْدَ دَعْوَى الدَّيْنِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعٍ بِالْإِجْمَاعِ (وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْعَقَارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِ بِالتَّحْدِيدِ) وَذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ.

ص: 287

وَلَا يُقْبَلُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَنْقُولَةِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِشَارَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْأَمَةِ لِغَلَبَةِ الْإِبَاقِ فِيهِ دُونَهَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِمَا بِشَرَائِطَ تُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ. .

وَلَا يُقْبَلُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَنْقُولَةِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزَاهُ فِي الْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي (وَاسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْعَبِيدِ دُونَ الْإِمَاءِ لِغَلَبَةِ الْإِبَاقِ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْأَمَةِ) فَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْدُمُ خَارِجَ الْبَيْتِ غَالِبًا فَيَقْدِرُ عَلَى الْإِبَاقِ فَتَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْكِتَابِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّهَا تَخْدُمُ دَاخِلَ الْبَيْتِ غَالِبًا (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِمَا بِشَرَائِطَ تُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهَا) يَعْنِي الْكُتُبَ الْمَبْسُوطَةَ كَالْمَبْسُوطِ وَشُرُوحِ أَدَبِ الْقَاضِي.

وَصِفَةُ ذَلِكَ بُخَارِيٌّ أَبَقَ عَبْدٌ لَهُ إلَى سَمَرْقَنْدَ مَثَلًا فَأَخَذَهُ سَمَرْقَنْدِيٌّ وَشُهُودُ الْمَوْلَى بِبُخَارَى فَطَلَبَ مِنْ قَاضِي بُخَارَى أَنْ يَكْتُبَ بِشَهَادَةِ شُهُودِهِ عِنْدَهُ يُجِيبُ إلَى ذَلِكَ وَيَكْتُبُ: شَهِدَ عِنْدِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ بِأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ مِلْكُ فُلَانٍ الْمُدَّعِي وَهُوَ الْيَوْمَ بِسَمَرْقَنْدَ بِيَدِ فُلَانٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيُشْهِدُ عَلَى كِتَابِهِ شَاهِدَيْنِ وَيُعْلِمُهُمَا مَا فِيهِ وَيُرْسِلُهُمَا إلَى سَمَرْقَنْدَ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ يَحْضُرُ الْعَبْدُ مَعَ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ يَشْهَدَا عِنْدَهُ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَبِمَا فِيهِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا وَيُفْتَحُ الْكِتَابُ وَيُدْفَعُ الْعَبْدُ إلَى الْمُدَّعِي وَلَا يُقْضَى لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ شَاهِدَيْ الْمِلْكِ لَمْ تَكُنْ بِحَضْرَةِ الْعَبْدِ وَيَأْخُذُ كَفِيلًا مِنْ الْمُدَّعِي بِنَفْسِ الْعَبْدِ وَيَجْعَلُ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ خَاتَمًا مِنْ رَصَاصٍ كَيْ لَا يُتَّهَمَ الْمُدَّعِي بِالسَّرِقَةِ، وَيَكْتُبُ كِتَابًا إلَى قَاضِي بُخَارَى وَيُشْهِدُ شَاهِدَيْنِ عَلَى كِتَابِهِ وَخَتْمِهِ وَعَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، فَإِذَا وَصَلَ إلَى قَاضِي بُخَارَى وَشَهِدَا بِالْكِتَابِ وَخَتْمِهِ أَمَرَ الْمُدَّعِيَ بِإِعَادَةِ شُهُودِهِ لِيَشْهَدُوا بِالْإِشَارَةِ إلَى الْعَبْدِ أَنَّهُ حَقُّهُ وَمِلْكُهُ، فَإِذَا شَهِدُوا بِذَلِكَ قَضَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَكَتَبَ إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لِيَبْرَأَ كَفِيلُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَاضِيَ بُخَارَى لَا يَقْضِي لِلْمُدَّعِي بِالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ غَائِبٌ، وَلَكِنْ يَكْتُبُ كِتَابًا آخَرَ إلَى قَاضِي سَمَرْقَنْدَ فِيهِ مَا جَرَى عِنْدَهُ وَيُشْهِدُ شَاهِدَيْنِ عَلَى كِتَابِهِ وَخَتْمِهِ وَمَا فِيهِ وَيَبْعَثُ بِالْعَبْدِ إلَى سَمَرْقَنْدَ حَتَّى يَقْضِيَ لَهُ بِحَضْرَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَيْهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ، وَصِفَةُ الْكِتَابِ فِي الْجَوَارِي صِفَتُهُ فِي الْعَبِيدِ غَيْرَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَدْفَعُ الْجَارِيَةَ إلَى الْمُدَّعِي وَلَكِنَّهُ يَبْعَثُ بِهَا مَعَهُ عَلَى يَدِ أَمِينٍ لِئَلَّا يَطَأَهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ زَاعِمًا أَنَّهَا مِلْكُهُ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: هَذَا اسْتِحْسَانٌ فِيهِ بَعْضُ قُبْحٍ، فَإِنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ يَسْتَخْدِمُهُ قَهْرًا وَيَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْكُلُ مِنْ غَلَّتِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ وَرُبَّمَا يَظْهَرُ الْعَبْدُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ وَالصِّفَةَ تَشْتَبِهَانِ فَإِنَّ الْمُخْتَلِفَيْنِ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْحُلِيِّ وَالصِّفَاتِ فَالْأَخْذُ بِالْقِيَاسِ أَوْلَى (وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ) وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ.

ص: 288

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 289

قَالَ (وَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) لِأَنَّ الْكِتَابَ يُشْبِهُ الْكِتَابَ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ وَهَذَا لِأَنَّهُ مُلْزِمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ، بِخِلَافِ كِتَابِ الِاسْتِئْمَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ

قَالَ (وَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ إلَخْ) لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ

ص: 290

الْقَاضِي إلَى الْمُزَكَّى وَرَسُولِهِ إلَى الْقَاضِي لِأَنَّ الْإِلْزَامَ بِالشَّهَادَةِ لَا بِالتَّزْكِيَةِ

أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَمَّا اشْتِرَاطُ الْحُجَّةِ فَلِأَنَّهُ مُلْزِمٌ وَلَا إلْزَامَ بِدُونِهَا، وَأَمَّا قَبُولُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ وَهُوَ مِمَّا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُ بِجَوَازِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ قِيَاسًا عَلَى كِتَابِ أَهْلِ الْحَرْبِ.

وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ كِتَابِ الِاسْتِئْمَانِ: يَعْنِي إذَا جَاءَ مِنْ مَلِكِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي طَلَبِ الْأَمَانِ فَإِنَّهُ مَقْبُولٌ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، حَتَّى لَوْ أَمَّنَهُ الْإِمَامُ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ رَأْيًا فِي الْأَمَانِ وَتَرْكِهِ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي وَعَكْسِهِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ عَلَى الْحَاكِمِ لَيْسَ بِالتَّزْكِيَةِ بَلْ هُوَ بِالشَّهَادَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَضَى بِالشَّهَادَةِ بِلَا تَزْكِيَةٍ صَحَّ، وَقَوْلُهُ: وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي قِيلَ قَدْ يُشِيرُ إلَى أَنَّ رَسُولَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلًا فِي حَقِّ لُزُومِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ وَبِغَيْرِهَا، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي اتِّحَادَ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ فِي الْقَبُولِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ كَمَا يَنْعَقِدُ بِكِتَابِهِ يَنْعَقِدُ بِرَسُولِهِ أَوْ اتِّحَادُهُمَا فِي عَدَمِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهُمَا، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا وُرُودُ الْأَثَرِ فِي جَوَازِ الْكِتَابِ وَإِجْمَاعُ التَّابِعِينَ عَلَى الْكِتَابِ دُونَ الرَّسُولِ فَبَقِيَ عَلَى الْقِيَاسِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْكِتَابَ كَالْخِطَابِ وَالْكِتَابُ وُجِدَ مِنْ مَوْضِعِ الْقَضَاءِ

ص: 291

قَالَ (وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ لِيَعْرِفُوا مَا فِيهِ أَوْ يُعْلِمَهُمْ بِهِ) لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ (ثُمَّ يَخْتِمُهُ بِحَضْرَتِهِمْ وَيُسَلِّمُهُ إلَيْهِمْ) كَيْ لَا يُتَوَهَّمَ التَّغْيِيرُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، لِأَنَّ عِلْمَ مَا فِي الْكِتَابِ وَالْخَتْمِ بِحَضْرَتِهِمْ شَرْطٌ، وَكَذَا حِفْظُ مَا فِي الْكِتَابِ عِنْدَهُمَا وَلِهَذَا يُدْفَعُ إلَيْهِمْ كِتَابٌ آخَرُ غَيْرُ مَخْتُومٍ لِيَكُونَ مَعَهُمْ مُعَاوَنَةٌ عَلَى حِفْظِهِمْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله آخِرًا: شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالشَّرْطُ أَنْ يُشْهِدَهُمْ أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ وَخَتْمُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْضًا فَسَهَّلَ فِي ذَلِكَ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله.

فَكَانَ كَالْخِطَابِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَضَاءِ فَيَكُونُ حُجَّةً، وَأَمَّا الرَّسُولُ فَقَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ، وَالْمُرْسِلُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ بِقَاضٍ، وَقَوْلُ الْقَاضِي فِي غَيْرِ مَوْضِعِ قَضَائِهِ كَقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا.

قَالَ (وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ لِيَعْرِفُوا مَا فِيهِ إلَخْ) شَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عِلْمَ مَا فِي الْكِتَابِ وَحِفْظَهُ وَالْخَتْمَ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ، وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ الْكَاتِبُ كِتَابَهُ عَلَيْهِمْ لِيَعْرِفُوا مَا فِيهِ أَوْ يُعْلِمَهُمْ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا مَا فِيهِ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ بِلَا عِلْمٍ وَهِيَ بَاطِلَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَيَخْتِمُهُ بِحَضْرَتِهِمْ وَيُسَلِّمُهُ إلَى الشُّهُودِ كَيْ لَا يُتَوَهَّمَ التَّغْيِيرُ إذَا كَانَ بِغَيْرِ خَتْمٍ أَوْ بِيَدِ الْخَصْمِ وَهَذَا قَوْلُهُمَا.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّهُ يَدْفَعُ الْكِتَابَ إلَى الطَّالِبِ وَهُوَ الْمُدَّعِي وَيَدْفَعُ إلَيْهِمْ كِتَابًا آخَرَ غَيْرَ مَخْتُومٍ لِيَكُونَ مَعَهُمْ مُعَاوَنَةً عَلَى حِفْظِهِمْ، فَإِنْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ عِنْدَهُمَا.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ آخِرًا: شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ إذَا أَشْهَدَهُمْ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا كِتَابَهُ وَخَتَمَهُ فَشَهِدُوا عَلَى

ص: 292

قَالَ (وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْقَاضِي لَمْ يَقْبَلْهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ، بِخِلَافِ سَمَاعِ الْقَاضِي الْكَاتِبَ لِأَنَّهُ لِلنَّقْلِ لَا لِلْحُكْمِ.

الْكِتَابِ وَالْخَتْمِ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كَانَ كَافِيًا. وَعَنْهُ أَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْضًا سَهَّلَ فِي ذَلِكَ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ آخِرًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ.

قَالَ (وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْقَاضِي لَمْ يَقْبَلْهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ إلَخْ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَانِبِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَانِبِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ

ص: 293

قَالَ (فَإِذَا سَلَّمَهُ الشُّهُودُ إلَيْهِ نَظَرَ إلَى خَتْمِهِ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي سَلَّمَهُ إلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا وَخَتَمَهُ فَتَحَهُ الْقَاضِي وَقَرَأَهُ عَلَى الْخَصْمِ وَأَلْزَمَهُ مَا فِيهِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَاتَمُهُ قَبِلَهُ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْكِتَابِ ظُهُورُ الْعَدَالَةِ لِلْفَتْحِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَفُضُّ الْكِتَابَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رحمه الله لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ الشُّهُودِ وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُمْ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بَعْدَ قِيَامِ الْخَتْمِ،

إلَيْهِ لَمْ يَقْبَلْهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرِ الْخَصْمِ، فَكَذَلِكَ هَذَا، بِخِلَافِ سَمَاعِ الْقَاضِي الْكَاتِبَ فَإِنَّهُ جَازَ بِغَيْبَةِ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهُ لَيْسَ لِلْحُكْمِ بَلْ لِلنَّقْلِ فَكَانَ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ بِغَيْبَتِهِ.

وَقَالَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقْبَلُهُ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَخْتَصُّ بِالْمَكْتُوبِ إلَيْهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ، وَالْحُكْمُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ الْكِتَابِ فَاعْتُبِرَ حُضُورُ الْخَصْمِ عِنْدَ الْحُكْمِ بِهِ. قَالَ (فَإِذَا سَلَّمَهُ الشُّهُودُ إلَيْهِ إلَخْ) إذَا سَلَّمَ الشُّهُودُ الْكِتَابَ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ نَظَرَ إلَى خَتْمِهِ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي سَلَّمَهُ إلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا وَخَتَمَهُ فَتَحَهُ الْقَاضِي وَقَرَأَهُ عَلَى الْخَصْمِ وَأَلْزَمَهُ بِمَا فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ وَخَاتَمُهُ قَبِلَهُ وَفَتَحَهُ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْقُدُورِيِّ ظُهُورَ الْعَدَالَةِ لِلْفَتْحِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ فَإِذَا شَهِدُوا وَعُدِّلُوا. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَفُضُّ الْكِتَابَ: أَيْ يَفْتَحُهُ بَعْدَ الْعَدَالَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَظْهَرْ الْعَدَالَةُ رُبَّمَا احْتَاجَ الْمُدَّعِي إلَى أَنْ يَزِيدَ فِي شُهُودِهِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُمْ أَدَاءُ الشَّهَادَة بَعْدَ قِيَامِ الْخَتْمِ لِيَشْهَدُوا أَنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي وَخَتْمُهُ، فَأَمَّا إذَا فَكَّ الْخَاتَمَ فَلَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا يَرَى أَنَّهُ دَوْرٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ الشُّهُودِ إذَا كَانَتْ الْعَدَالَةُ شَرْطًا وَلَمْ تَظْهَرْ، فَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فَكَمَا أَدَّوْا الشَّهَادَةَ جَازَ فَضُّهَا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ شُهُودٍ.

وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ شُهُودٍ بَعْدَ الْفَتْحِ بَلْ يُحْتَاجُ إلَيْهَا إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَتْمِ وَذَلِكَ بَعْدَ الْفَتْحِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ فَكَّ الْخَاتَمِ نَوْعُ عَمَلٍ بِالْكِتَابِ، وَالْكِتَابُ لَا يُعْمَلُ بِهِ مَا لَمْ تَظْهَرْ عَدَالَةُ الشُّهُودِ عَلَى الْكِتَابِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فَكَّ الْخَاتَمِ عَمَلٌ لِلْكِتَابِ لَا بِهِ، وَلَعَلَّ الْأَصَحَّ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله مِنْ تَجْوِيزِ الْفَتْحِ عِنْدَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ بِالْكِتَابِ وَالْخَتْمِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِعَدَالَةِ الشُّهُودِ، كَذَا نَقَلَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي الْمُغْنِي. وَالْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إنَّمَا يَقْبَلُ الْكِتَابَ إذَا كَانَ الْكَاتِبُ عَلَى الْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ

ص: 294

وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إذَا كَانَ الْكَاتِبُ عَلَى الْقَضَاءِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ أَوْ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا، وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ إخْبَارُهُ قَاضِيًا آخَرَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ أَوْ فِي غَيْرِ عَمَلِهِمَا، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إلَّا إذَا كَتَبَ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَاضِي بَلْدَةِ كَذَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ غَيْرَهُ صَارَ تَبَعًا لَهُ وَهُوَ مُعَرَّفٌ،

بِجُنُونٍ أَوْ إغْمَاءٍ أَوْ فِسْقٍ إذَا تَوَلَّى وَهُوَ عَدْلٌ ثُمَّ فَسَقَ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ أَوْ بَعْدَ الْوُصُولِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ بَطَلَ الْكِتَابُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَانِي: يُعْمَلُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ بِكِتَابِهِ يَنْقُلُ شَهَادَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عِنْدَهُ بِالْحَقِّ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَالنَّقْلُ قَدْ تَمَّ بِالْكِتَابِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ شُهُودِ الْفُرُوعِ إذَا مَاتُوا بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ. وَلَنَا الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ وَهُوَ أَنَّ الْكَاتِبَ وَإِنْ كَانَ نَاقِلًا إلَّا أَنَّ هَذَا النَّقْلَ لَهُ حُكْمُ الْقَضَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْقَاضِي وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ، وَوَجَبَ عَلَى الْكَاتِبِ هَذَا النَّقْلُ لِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ، وَمَا وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي

ص: 295

بِخِلَافِ مَا إذَا كَتَبَ ابْتِدَاءً إلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَرَّفٍ، وَلَوْ كَانَ مَاتَ الْخَصْمُ يَنْفُذُ الْكِتَابُ عَلَى وَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ.

(وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى الْإِسْقَاطِ وَفِي قَبُولِهِ سَعْيٌ فِي إثْبَاتِهِمَا

بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ قَضَاءٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ تَامٍّ؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهِ وَقَبْلَ قِرَاءَتِهِ عَلَيْهِ فَبَطَلَ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَقْضِيَةِ إذَا مَاتَ الْقَاضِي قَبْلَ إتْمَامِهَا. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ إخْبَارُ قَاضٍ آخَرَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ أَوْ فِي غَيْرِ عَمَلِهِمَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا عُزِلَ، أَمَّا فِي الْمَوْتِ أَوْ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ وَالْمَجْنُونَ لَا يُلْتَحَقَانِ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالْأَوْلَى، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَيًّا وَعَلَى أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ لَمْ يَبْقَ كَلَامُهُ حُجَّةً، فَلَأَنْ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ الْخُرُوجِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ أَوْلَى، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ بَطَلَ كِتَابُهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْمَلُ بِهِ مَنْ كَانَ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي الْقَضَاءِ كَمَا لَوْ قَالَ وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَنَا أَنَّ الْقَاضِيَ الْكَاتِبَ اعْتَمَدَ عَلَى عِلْمِ الْأَوَّلِ وَأَمَانَتِهِ، وَالْقُضَاةُ يَتَفَاوَتُونَ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فَصَارُوا كَالْأُمَنَاءِ فِي الْأَمْوَالِ، وَهُنَاكَ قَدْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَكَذَا هَاهُنَا إلَّا إذَا صَرَّحَ بِاعْتِمَادِهِ عَلَى الْكُلِّ بَعْدَ تَعْرِيفِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَاضِي بَلَدِ كَذَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ شَرْطٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَعْلُومٍ إلَى مَعْلُومٍ ثُمَّ صَيَّرَ غَيْرَهُ تَبَعًا لَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَتَبَ ابْتِدَاءً مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَاضِي بَلَدِ كَذَا إلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَعْلُومٍ إلَى مَجْهُولٍ، وَالْعِلْمُ فِيهِ شَرْطٌ كَمَا مَرَّ وَهُوَ رَدٌّ لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي جَوَازِهِ، فَإِنَّهُ حِينَ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَسَّعَ كَثِيرًا تَسْهِيلًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ (وَلَوْ مَاتَ الْخَصْمُ يَنْفُذُ الْكِتَابُ عَلَى وَرَثَتِهِ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ) سَوَاءٌ كَانَ تَارِيخُ الْكِتَابِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَطْلُوبِ أَوْ بَعْدَهُ.

(وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الشُّهُودِ (وَلَنَا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ) وَهِيَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِيهِمَا (وَلِأَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى الْإِسْقَاطِ وَفِي قَبُولِهِ سَعْيٌ فِي إثْبَاتِهِمَا).

ص: 296

(فَصْلٌ آخِرُ)

(وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) اعْتِبَارًا بِشَهَادَتِهَا.

فَصْلٌ آخَرُ)

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إذَا كَانَ سِجِلًّا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاؤُهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إمْضَاؤُهُ إذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، بِخِلَافِ الْكِتَابِ الْحُكْمِيِّ فَإِنَّ الرَّأْيَ لَهُ فِي التَّنْفِيذِ وَالرَّدِّ، فَلِذَلِكَ احْتَاجَ إلَى بَيَانِ تَعْدَادِ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ بِذِكْرِ أَصْلٍ يَجْمَعُهَا، وَهَذَا الْفَصْلُ لِبَيَانِ ذَلِكَ وَمَا يُلْحَقُ بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَصْلَ مِنْ تَتِمَّةِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، لَكِنَّ قَوْلَهُ آخَرُ يُنَافِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ فَصْلٌ قَبْلَ هَذَا حَتَّى يَقُولَ فَصْلٌ آخَرُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ هَذَا فَصْلًا آخَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ فَصْلُ الْحَبْسِ وَهَذَا فَصْلٌ آخَرُ.

قَالَ (وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إلَخْ) قَضَاءُ الْمَرْأَةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْحُدُودِ

ص: 297

وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ.

(وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ قُلِّدَ الْقَضَاءَ دُونَ التَّقْلِيدِ بِهِ فَصَارَ كَتَوْكِيلِ الْوَكِيلِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ حَيْثُ يَسْتَخْلِفُ لِأَنَّهُ عَلَى شَرَفِ الْفَوَاتِ لِتَوَقُّتِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ إذْنًا بِالِاسْتِخْلَافِ دَلَالَةً

وَالْقِصَاصِ اعْتِبَارًا بِشَهَادَتِهَا، وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ: أَيْ فِي أَوَّلِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ يُسْتَقَى مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ يَكُونُ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ وَهِيَ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَهِيَ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ فِي غَيْرِهِمَا. قِيلَ أَرَادَ بِهِ مَا مَرَّ قَبْلُ بِخُطُوطٍ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا فِيهِ شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِمَا، وَشَهَادَتُهَا كَذَلِكَ كَمَا سَيَجِيءُ وَقَضَاؤُهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ شَهَادَتِهَا.

(وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ) بِعُذْرٍ وَبِغَيْرِهِ (إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قُلِّدَ الْقَضَاءَ دُونَ التَّقْلِيدِ بِهِ) أَيْ بِالْقَضَاءِ (فَصَارَ كَالْوَكِيلِ) لَا يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ إلَّا إذَا فُوِّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ (بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ حَيْثُ) يَجُوزُ لَهُ أَنْ (يَسْتَخْلِفَ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْجُمُعَةِ عَلَى شَرَفِ الْفَوَاتِ لِتَوَقُّتِهِ) بِوَقْتٍ يَفُوتُ الْأَدَاءُ بِانْقِضَائِهِ (فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ مِنْ الْخَلِيفَةِ إذْنًا لَهُ بِالِاسْتِخْلَافِ دَلَالَةً) لَكِنْ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ سَمِعَ الْخُطْبَةَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ شَرَائِطِ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ فَلَوْ افْتَتَحَ الْأَوَّلُ الصَّلَاةَ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ بَانٍ لَا مُفْتَتِحٌ. وَاعْتُرِضَ بِمَنْ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ ثُمَّ افْتَتَحَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَهُوَ مُفْتَتِحٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ شُرُوعُهُ فِي الْجُمُعَةِ وَصَارَ خَلِيفَةً لِلْأَوَّلِ اُلْتُحِقَ بِمَنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ. وَأَرَى أَنَّ إلْحَاقَهُ بِالْبَانِي لِتَقَدُّمِ شُرُوعِهِ فِي تِلْكَ

ص: 298

وَلَا كَذَلِكَ الْقَضَاءُ. وَلَوْ قَضَى الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ قَضَى الثَّانِي فَأَجَازَ الْأَوَّلُ جَازَ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الشَّرْطُ، وَإِذَا فُوِّضَ إلَيْهِ يَمْلِكُهُ فَيَصِيرُ الثَّانِي نَائِبًا عَنْ الْأَصِيلِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ إلَّا إذَا فُوِّضَ إلَيْهِ الْعَزْلَ هُوَ الصَّحِيحُ. .

الصَّلَاةِ أَوْلَى فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ: وَلَا كَذَلِكَ الْقَضَاءُ) أَيْ لَيْسَ الْقَضَاءُ كَالْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِوَقْتٍ يَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ عِنْدَ الْعُذْرِ، فَمَنْ أَذَّنَ بِالْجُمُعَةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ عَارِضٌ يَمْنَعُهُ مِنْ أَدَائِهَا فِي الْوَقْتِ فَقَدْ رَضِيَ بِالِاسْتِخْلَافِ بِخِلَافِ الْقَضَاءِ (فَلَوْ) فَرَضْنَا أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ، وَ (قَضَى الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ قَضَى الثَّانِي) عِنْدَ غَيْبَةِ الْأَوَّلِ (فَأَجَازَهُ الْأَوَّلُ جَازَ) إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ (كَمَا فِي الْوَكَالَةِ) فَإِنَّ الْوَكِيلَ إذَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ فَوَكَّلَ وَتَصَرَّفَ بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ أَوْ أَجَازَهُ الْأَوَّلُ جَازَ. وَقَوْلُهُ:(لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُ الْأَوَّلِ) يَصْلُحُ دَلِيلًا لِلْمَسْأَلَتَيْنِ، أَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلِأَنَّ الْخَلِيفَةَ رَضِيَ بِقَضَاءٍ حَضَرَهُ رَأْيُ الْقَاضِي وَقْتَ نُفُوذِهِ لِاعْتِمَادِهِ عَلَى عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ، وَالْحُكْمُ الَّذِي حَضَرَهُ الْقَاضِي أَوْ أَجَازَهُ قَضَاءٌ حَضَرَهُ رَأْيُ الْقَاضِي فَيَكُونُ رَاضِيًا بِهِ، وَأَمَّا فِي الْوَكَالَةِ فَسَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، قِيلَ الْإِذْنُ فِي الِابْتِدَاءِ كَالْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ فَلِمَ اخْتَلَفَا فِي الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ.

وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ فَإِنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي أَذِنَ لَهُ الْقَاضِي بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ قَضَاءٌ لَمْ يَحْضُرْهُ رَأْيُ الْقَاضِي وَكَانَ رِضَا الْخَلِيفَةِ بِتَوْلِيَةِ الْقَاضِي مُقَيَّدًا بِهِ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا فَوَّضَ إلَيْهِ يَمْلِكُهُ) أَيْ إذَا قَالَ الْخَلِيفَةُ لِلْقَاضِي وَلِّ مَنْ شِئْت كَانَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ (فَيَصِيرُ الثَّانِي نَائِبًا عَنْ الْأَصِيلِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ)؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ فَلَا يَمْلِكُ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ إلَّا أَنْ يَقُولَ وَاسْتَبْدِلْ مَنْ شِئْت فَيَمْلِكُ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ الْخَلِيفَةُ وَلِّ مَنْ شِئْت وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا لَهُ بِالتَّوْلِيَةِ، وَالْعَزْلُ خِلَافُهُ، وَإِذَا أَضَافَ إلَى

ص: 299

قَالَ (وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ أَوْ الْإِجْمَاعَ بِأَنْ يَكُونَ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ أَمْضَاهُ).

ذَلِكَ وَاسْتَبْدِلْ مَنْ شِئْت كَانَ أَمْرًا لَهُ بِهِمَا فَكَانَا لَهُ، فَإِذَا قَالَ الْخَلِيفَةُ لِرَجُلٍ جَعَلْتُك قَاضِيَ الْقُضَاةِ كَانَ إذْنًا بِالِاسْتِخْلَافِ وَالْعَزْلِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ قَاضِيَ الْقُضَاةِ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي الْقُضَاةِ تَقْلِيدًا وَعَزْلًا، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.

قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصِيِّ وَالْقَاضِي فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُفَوَّضٌ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ وَالْوَصِيُّ يَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ تَوْكِيلًا وَإِيصَاءً؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَوَانَ وُجُوبِ الْوِصَايَةِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ يَعْجِزُ الْوَصِيُّ عَنْ الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ الْوِصَايَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى الْمُوصِي فَيَكُونُ الْمُوصَى لَهُ رَاضِيًا بِاسْتِعَانَتِهِ بِغَيْرِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْقَضَاءُ. وَقِيلَ الْقَاضِي يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ وَالْإِيصَاءَ وَلَا يَمْلِكُ التَّقْلِيدَ، وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ فِي التَّقْلِيدِ يَجْرِي فِيهِمَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَفْعَلُ مَا لَا يَفْعَلُهُ الْوَكِيلُ وَالْوَصِيُّ فَيَكُونُ تَوَقُّعُ الْفَسَادِ فِي الْقَضَاءِ أَكْثَرَ.

قَالَ (وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ إلَخْ) إذَا تَقَدَّمَ رَجُلٌ إلَى قَاضٍ، وَقَالَ حَكَمَ عَلَيَّ فُلَانٌ الْقَاضِي بِكَذَا وَكَذَا نَفَّذَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ كَالْحُكْمِ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا فَإِنَّهُ مُخَالِفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أَوْ السُّنَّةِ: أَيْ الْمَشْهُورَةِ كَالْحُكْمِ بِحِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِمُجَرَّدِ النِّكَاحِ بِدُونِ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ الدُّخُولِ ثَابِتٌ بِحَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِي التَّقْرِيرِ عَلَى مَا يَنْبَغِي، أَوْ الْإِجْمَاعِ كَالْحُكْمِ بِبُطْلَانِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ، أَوْ يَكُونُ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ قِيلَ كَمَا إذَا مَضَى عَلَى الدَّيْنِ سُنُونَ فَحَكَمَ بِسُقُوطِ الدَّيْنِ عَمَّنْ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ فَإِنَّهُ لَا دَلِيلَ شَرْعِيَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِأَنْ يَكُونَ وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ عَدَمُ تَنْفِيذِهِ إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِسَبَبِ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا بِلَا دَلِيلٍ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ أَمْضَاهُ. وَفِيهِ فَائِدَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ قَيَّدَ بِالْفُقَهَاءِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَاتَّفَقَ قَضَاؤُهُ بِمَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ لَا يُنَفِّذُهُ الْمَرْفُوعُ إلَيْهِ عَلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ. وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ

ص: 300

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْحُكْمَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ يَنْفُذُ سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِ أَوْ مُخَالِفًا، فَإِنَّهُ إذَا نَفَّذَهُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِرَأْيِهِ فَفِيمَا يُوَافِقُهُ أَوْلَى، وَرِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ سَاكِتَةٌ عَنْ الْفَائِدَتَيْنِ جَمِيعًا.

ص: 301

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 302

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقَضَاءَ مَتَى لَاقَى فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ

(وَالْأَصْلُ) فِي تَنْفِيذِ الْقَاضِي مَا يُرْفَعُ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ (أَنَّ الْقَضَاءَ مَتَى لَاقَى فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ

ص: 303

يُنْفِذُهُ وَلَا يَرُدُّهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّ اجْتِهَادَ الثَّانِي كَاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ يُرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يُنْقَضُ بِمَا هُوَ دُونَهُ.

(وَلَوْ قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ) وَوَجْهُ النَّفَاذِ

يَنْفَدُ وَلَا يَرُدُّ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَ الثَّانِي كَاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ) فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ (وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يُنْقَضُ بِمَا دُونَهُ) دَرَجَةً وَهُوَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ الْقَضَاءُ بِهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَضَاءُ فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ الْفَرْعُ مُرَجِّحًا لِأَصْلِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لِأَصْلِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِنْهُ أَوْ مُطْلَقًا. وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَجِّحًا لِأَصْلِهِ مِنْ حَيْثُ بَقَاءُ الْأَصْلِ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَرْفَعُهُ مِنْ أَصْلٍ بِلَا فَرْعٍ، إذْ الشَّيْءُ الْمُسَاوِي لِلشَّيْءِ فِي الْقُوَّةِ لَا يَرْفَعُ مَا يُسَاوِيهِ فِيهَا مَعَ شَيْءٍ آخَرَ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا شَغَلَهُ أَشْغَالُ الْمُسْلِمِينَ اسْتَعَانَ بِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه، فَقَضَى زَيْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ثُمَّ لَقِيَ عُمَرَ رضي الله عنه أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فَقَالَ: إنَّ زَيْدًا قَضَى عَلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَوْ كُنْت لَقَضَيْت لَك، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ السَّاعَةَ؟ فَاقْضِ لِي فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ كَانَ هُنَا نَصٌّ آخَرُ لَقَضَيْت لَك، وَلَكِنْ هَاهُنَا رَأْيٌ وَالرَّأْيُ مُشْتَرَكٌ.

(وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. وَوَجْهُ النَّفَاذِ) وَهُوَ دَلِيلُ النِّسْيَانِ أَيْضًا

ص: 304

أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ بِيَقِينٍ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، ثُمَّ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَالْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ مِنْهَا وَفِيمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا يُعْتَبَرُ مُخَالَفَةُ الْبَعْضِ وَذَلِكَ خِلَافٌ وَلَيْسَ بِاخْتِلَافٍ وَالْمُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ

بِطَرِيقِ الْأَوْلَى (أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَإٍ بِيَقِينٍ) لِكَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ بِهِ نَافِذٌ كَعَامَّةِ الْمُجْتَهَدَاتِ.

وَوَجْهُ عَدَمِهِ أَنَّهُ زَعَمَ فَسَادَ قَضَائِهِ وَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِزَعْمِهِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ) فَيَعْمَلُ بِهِ بِزَعْمِهِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) قَالَ (ثُمَّ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ أَنَّ مَا لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَا) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ مَاضٍ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُجْتَهَدَ فِيهِ فَقَالَ ثُمَّ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَرُفِعَ إلَى آخَرَ لَمْ يُنَفِّذْهُ بَلْ يُبْطِلُهُ حَتَّى لَوْ نَفَّذَهُ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ ثَالِثٍ نُقِضَ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ، وَالْبَاطِلُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ، بِخِلَافِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ فَإِنَّهُ إذَا رُفِعَ إلَى الثَّانِي نَفَّذَهُ كَمَا مَرَّ، فَإِنْ نَقَضَهُ فَرُفِعَ إلَى ثَالِثٍ فَإِنَّهُ يُنْفِذُ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ وَيُبْطِلُ الثَّانِيَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ نَافِذٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالثَّانِي مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وَمُخَالِفُ الْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ لَا يَنْفُذُ، وَالْمُرَادُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ مُخَالَفَةُ نَصِّ الْكِتَابِ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فَإِنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَزَوُّجِ امْرَأَةِ الْأَبِ وَجَارِيَتِهِ الَّتِي وَطِئَهَا الْأَبُ، فَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ نَقَضَهُ مَنْ رُفِعَ إلَيْهِ (وَالْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةُ مِنْهَا) كَمَا ذَكَرْنَا (وَالْمُرَادُ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ) أَيْ جُلُّ النَّاسِ وَأَكْثَرُهُمْ (وَمُخَالَفَةُ الْبَعْضِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ) فَعَلَى هَذَا إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ كَانَ حُكْمُهُ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ نَقَضَهُ مَنْ رُفِعَ إلَيْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَذَا عَلَى مَا إذَا كَانَ الْوَاحِدُ الْمُخَالِفُ مِمَّنْ لَمْ يُسَوِّغْ اجْتِهَادُهُ ذَلِكَ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي جَوَازِ رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّهُ لَمْ يُسَوِّغْ لَهُ أَحَدٌ ذَلِكَ فَلَمْ يَتْبَعْهُ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ وَجَبَ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْحُرْمَةِ بِدُونِهِ

فَأَمَّا إذَا سُوِّغَ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَنْعَقِدْ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي اشْتِرَاطِ حَجْبِ الْأُمِّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بِالْجَمْعِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَفِي إعْطَائِهَا ثُلُثَ الْجَمِيعِ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ، وَلَعَلَّهُ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ خِلَافَ الْأَقَلِّ غَيْرُ مَانِعٍ لِانْعِقَادِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ (قَوْلُهُ: وَالْمُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ) مَعْنَاهُ أَنَّ

ص: 305

قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي فِي الظَّاهِرِ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَكَذَا إذَا قَضَى بِإِحْلَالٍ، وَهَذَا

الِاخْتِلَافَ الَّذِي يَجْعَلُ الْمَحَلَّ مُجْتَهَدًا فِيهِ هُوَ الِاخْتِلَافُ الَّذِي كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَا الَّذِي يَقَعُ بَعْدَهُمْ، وَعَلَى هَذَا إذَا حَكَمَ الشَّافِعِيُّ أَوْ الْمَالِكِيُّ بِرَأْيِهِ بِمَا يُخَالِفُ رَأْيَ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى حَاكِمٍ لَمْ يَرَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ.

قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي فِي الظَّاهِرِ بِتَحْرِيمٍ إلَخْ) كُلُّ مَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي بِتَحْرِيمِهِ فِي الظَّاهِرِ: أَيْ فِيمَا بَيْنَنَا فَهُوَ فِي الْبَاطِنِ: أَيْ عِنْدَ اللَّهِ حَرَامٌ، وَكَذَا إذَا قَضَى بِإِحْلَالٍ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ كَنِكَاحٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ لَا فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ، فَمِنْ الْعُقُودِ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَأَنْكَرَتْ فَأَقَامَ عَلَيْهَا شَاهِدَيْ زُورٍ وَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا حَلَّ لِلرَّجُلِ وَطْؤُهَا وَحَلَّ لِلْمَرْأَةِ التَّمْكِينُ مِنْهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخِرُ، وَكَذَا إذَا ادَّعَتْ عَلَى رَجُلٍ وَأَنْكَرَ.

وَمِنْهَا مَا إذَا قَضَى بِالْبَيْعِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي مِثْلَ أَنْ قَالَ بِعْتنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا سَوَاءٌ كَانَ الْقَضَاءُ بِالنِّكَاحِ بِحُضُورِ مَنْ يَصْلُحُ شَاهِدًا فِيهِ وَبِالْبَيْعِ بِثَمَنِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ أَوْ بِأَقَلَّ مِمَّا يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ أَوْ لَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ لِإِنْشَاءِ النِّكَاحِ قَصْدًا وَالْإِنْشَاءُ هَاهُنَا يَثْبُتُ اقْتِضَاءً فَلَا تُشْتَرَطُ الشَّهَادَةُ وَأَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ مُبَادَلَةٌ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ وَالْمُكَاتَبُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكَا التَّبَرُّعَ فَكَانَ كَسَائِرِ الْمُبَادَلَاتِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ

ص: 306

إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَقَدْ مَرَّتْ فِي النِّكَاحِ

وَالْبَيْعُ إذَا كَانَ الْقَضَاءُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهَا شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَلَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَصِيرُ مُنْشِئًا وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُنْشِئًا فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ. وَمِنْ الْفُسُوخِ مَا إذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخَ الْعَقْدِ فِي الْجَارِيَةِ وَأَقَامَ شَاهِدَيْ زُورٍ فَفَسَخَ الْقَاضِي حَلَّ لِلْبَائِعِ وَطْؤُهَا. وَمِنْهَا مَا إذَا ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَقَامَتْ شَاهِدَيْ زُورٍ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَلَّ لِلزَّوْجِ الثَّانِي وَطْؤُهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عُلِمَ أَنَّ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ لَمْ يُطَلِّقْهَا بِأَنْ كَانَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، وَقَالَا: إنْ كَانَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ الْوَطْءُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ عِنْدَهُمَا لَمْ تَقَعْ بَاطِنًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا حَلَّ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَإِنْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ لَمْ تَقَعْ بَاطِنًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ زَانِيًا عِنْدَ النَّاسِ فَيَحُدُّونَهُ. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرَ يَحِلُّ وَطْؤُهَا سِرًّا؛ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَطْؤُهَا مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي، فَإِذَا دَخَلَ بِهَا لَا يَحِلُّ سَوَاءٌ عَلِمَ الثَّانِي بِحَقِيقَةِ

ص: 307

قَالَ (وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى غَائِبٍ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ لِوُجُودِ الْحُجَّةِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ فَظَهَرَ الْحَقُّ. وَلَنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ، وَلَا مُنَازَعَةَ دُونَ الْإِنْكَارِ وَلَمْ يُوجَدْ،

الْحَالِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.

قَالَ (وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى غَائِبٍ إلَخْ) الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ وَلَهُ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا حَضَرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ غَابَ عَنْ الْبَلَدِ أَوْ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَاسْتَتَرَ فِي الْبَلَدِ جَازَ، وَإِلَّا لَا يَصِحُّ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ فِي الِاسْتِتَارِ تَضْيِيعًا لِلْحُقُوقِ دُونَ غَيْرِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْقَضَاءِ بِوُجُودِ الْحُجَّةِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ، فَإِذَا وُجِدَتْ ظَهَرَ الْحَقُّ فَيَحِلُّ لِلْقَاضِي الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا، وَلَنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُحْتَمَلِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ حُجَّةً ضَرُورَةَ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ، وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا وَأَقَرَّ بِالْحَقِّ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا وَلَا مُنَازَعَةَ إلَّا بَعْدَ الْإِنْكَارِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَإِنْ قَالَ قَدْ عَمِلْتُمْ بِالشَّهَادَةِ بِدُونِ الْإِنْكَارِ إذَا حَضَرَ الْخَصْمُ وَسَكَتَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْعَ أَنْزَلَهُ مُنْكِرًا حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ، إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَسْكُتَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ رَفْعًا لِظُلْمِهِ إنْ أَرَادَ بِسُكُوتِهِ تَوْقِيفَ حَالِ الْمُدَّعِي عَنْ سَمَاعِ الْحُجَّةِ فَكَانَ الْإِنْكَارُ مَوْجُودًا حُكْمًا، وَإِنْ قَالَ سَلَّمْنَا أَنْ لَا مُنَازَعَةَ إلَّا بِالْإِنْكَارِ لَكِنَّهُ مَوْجُودٌ ظَاهِرًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِقْرَارِ، إذْ الْأَصْلُ فِي الْيَدِ الْمِلْكُ. قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ صَادِقٌ ظَاهِرُ الْوُجُودِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ الْكَذِبِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَهُوَ لَا يَتْرُكُ الْإِقْرَارَ لِعَقْلِهِ وَدِينِهِ أَيْضًا. وَإِنْ قَالَ لَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ كَانَ الْوَاجِبُ سَمَاعَ الْحُجَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قُلْنَا إذَا كَانَتْ شَرْطًا فَالْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ، وَسَيَأْتِي لَهُ جَوَابٌ آخَرُ.

وَإِنْ قَالَ وَقْفُ الْحُكْمِ عَلَى حُضُورِ الْخَصْمِ غَيْرُ مُفِيدٍ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ حَضَرَ فَأَقَرَّ لَزِمَتْ الدَّعْوَى وَإِنْ أَنْكَرَ فَكَذَلِكَ. فَالْجَوَابُ بِأَنَّ النِّزَاعَ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ عِنْدَنَا لَا يَظْهَرُ بِهَا إلَّا بِالنِّزَاعِ وَبِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَطْعَنَ فِي الشُّهُودِ وَيُثْبِتَهُ أَوْ يُسَلِّمَ الدَّعْوَى وَيَدَّعِيَ الْأَدَاءَ وَيُثْبِتَهُ، أَوْ يُقِرَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ فَيَبْطُلُ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ، وَوُقُوعُ ذَلِكَ بَعْدَ الْحُكْمِ مُمْكِنٌ وَفِيهِ إبْطَالُهُ، وَصَوْنُ الْحُكْمِ عَنْ الْبُطْلَانِ مِنْ

ص: 308

وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ مِنْ الْخَصْمِ فَيَشْتَبِهُ وَجْهُ الْقَضَاءِ لِأَنَّ أَحْكَامَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، وَلَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْإِنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ قَدْ يَكُونُ نَائِبًا بِإِنَابَتِهِ كَالْوَكِيلِ

أَجْلِ الْفَوَائِدِ.

(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْإِقْرَارُ إلَخْ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَازَعَانِ وَيَشْتَبِهَ فِي وَجْهِ الْقَضَاءِ وَأُعْمِلَ الثَّانِي؛ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّأْنَ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ، أَوْ وَجْهُ الْقَضَاءِ يَحْتَمِلُهُمَا مِنْ الْخَصْمِ فَيَشْتَبِهُ عَلَى الْحَاكِمِ وَجْهُ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، فَإِنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الشُّهُودِ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَيَظْهَرُ فِي الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْبُيُوعِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَوَلَدَهَا، وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا الرَّجُلُ لَمْ يَأْخُذْ وَلَدَهَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ كَاسْمِهَا مُبَيِّنَةٌ فَيَظْهَرُ مِلْكُ الْجَارِيَةِ مِنْ الْأَصْلِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ مُتَفَرِّعًا عَنْ جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْمُسْتَحِقِّ وَلِهَذَا تَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، بِخِلَافِ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْغَيْرِ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنْ اسْتَدَلَّ الْخَصْمُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» فَإِنَّهُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ كَوْنِ الْخَصْمِ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، أَوْ بِحَدِيثِ هِنْدٍ حَيْثُ قَالَتْ «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، فَقَالَ: خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» فَقَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ وَهُوَ غَائِبٌ أَجَبْنَاهُ عَنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى شَيْئًا فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ مَتْرُوكَ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ إذَا أَقَرَّ لَيْسَ عَلَى الْمُدَّعِي إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلنِّزَاعِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْغَائِبِ أَوْ لَا، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ «لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِشَيْءٍ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ، فَإِنَّك إذَا سَمِعْت كَلَامَ الْآخَرِ عَلِمْت كَيْفَ تَقْضِي» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَنْ حَدِيثِ هِنْدٍ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ عَالِمًا بِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تُقِمْ الْبَيِّنَةَ (قَوْلُهُ: لَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ فَكَذَلِكَ) يَعْنِي لَا يَقْضِي الْقَاضِي فِي غَيْبَتِهِ وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ الْإِنْكَارُ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ وَسُمِعَتْ الْبَيِّنَةُ ثُمَّ غَابَ قَبْلَ الْقَضَاءِ (؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْإِنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ)؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً بِالْقَضَاءِ وَهُوَ الْجَوَابُ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِنَا سَيَأْتِي (وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ) فَإِنَّهُ يَقُولُ: الشَّرْطُ الْإِصْرَارُ عَلَى الْإِنْكَارِ إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ وَهُوَ ثَابِتٌ بَعْدَ غَيْبَتِهِ بِالِاسْتِصْحَابِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ يَصْلُحُ لِلرَّفْعِ لَا لِلْإِثْبَاتِ. قَالَ (وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ إلَخْ) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ بَيَّنَ ذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قِيَامَ الْحَاضِرِ مَقَامَ الْغَائِبِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ أَوْ يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا. وَالْأَوَّلُ

ص: 309

أَوْ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا بِأَنْ كَانَ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ

إمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ هُوَ الْغَائِبَ كَمَا إذَا وَكَّلَ شَخْصًا وَهُوَ ظَاهِرٌ أَوْ الْقَاضِيَ كَمَا إذَا أَقَامَ وَصِيًّا مِنْ جِهَتِهِ. وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعِي بِهِ عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لَازِمًا لِمَا يَدَّعِي بِهِ عَلَى الْحَاضِرِ أَوْ شَرْطًا لِحَقِّهِ، فَإِنْ كَانَ سَبَبًا لَازِمًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى وَاحِدًا كَمَا إذَا ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا مِلْكُهُ وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً أَنَّ الدَّارَ دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَهُوَ يَمْلِكُهَا فَإِنَّ الْمُدَّعَى وَهُوَ الدَّارُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَمَا ادَّعَى عَلَى الْغَائِبِ وَهُوَ الشِّرَاءُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ مَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ الْمَالِكِ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ لَا مَحَالَةَ، أَوْ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ هُمَا عَبْدَا فُلَانٍ الْغَائِبِ فَأَقَامَ الْمَشْهُودُ لَهُ بَيِّنَةً أَنَّ فُلَانًا الْغَائِبَ أَعْتَقَهُمَا وَهُوَ يَمْلِكُهُمَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، وَالْمُدَّعَى شَيْئَانِ: الْمَالُ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْعِتْقُ عَلَى الْغَائِبِ، وَالْمُدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ سَبَبُ الْمُدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الشَّهَادَةِ لَا تَنْفَكُّ عَنْ الْعِتْقِ بِحَالٍ فَالْقَضَاءُ فِيهِمَا عَلَى الْحَاضِرِ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ، وَالْحَاضِرُ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي الْأَوَّلِ أَوْ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فِي الثَّانِي لِعَدَمِ

ص: 310

وَهَذَا فِي غَيْرِ صُورَةٍ فِي الْكُتُبِ، أَمَّا إذَا كَانَ شَرْطًا لِحَقِّهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي جَعْلِهِ خَصْمًا

الِانْفِكَاكِ، فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ وَأَنْكَرَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلَهُمَا نَظَائِرُ فِي الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ، وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَّا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالسَّبَبِ اللَّازِمِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا ثَبَتَ ثَبَتَ بِلَوَازِمِهِ، وَقَيَّدْنَا السَّبَبَ بِقَوْلِنَا لَازِمًا احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ سَبَبًا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ.

فَإِنَّ الْحَاضِرَ فِيهِ لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ، كَمَا إذَا قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَةِ رَجُلٍ غَائِبٍ إنَّ زَوْجَك فُلَانًا الْغَائِبَ وَكَّلَنِي أَنْ أَحْمِلَكِ إلَيْهِ، فَقَالَتْ: إنَّهُ كَانَ قَدْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا فِي حَقِّ قِصَرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهَا لَا فِي حَقِّ إثْبَاتِ الطَّلَاقِ عَلَى الْغَائِبِ، حَتَّى إذَا حَضَرَ وَأَنْكَرَ الطَّلَاقَ يَجِبُ عَلَيْهَا إعَادَةُ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَى الْغَائِبِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لَازِمٍ لِثُبُوتِ مَا يُدَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ وَهُوَ قِصَرُ يَدِهِ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ مَتَى تَحَقَّقَ قَدْ لَا يُوجِبُ قِصَرَ يَدِ الْوَكِيلِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِالْحَمْلِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَقَدْ يُوجِبُ بِأَنْ كَانَ وَكِيلًا بِالْحَمْلِ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَكَانَ الْمُدَّعَى عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمُدَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَقُلْنَا: يَقْضِي بِقِصَرِ الْيَدِ دُونَ الطَّلَاقِ عَمَلًا بِهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ سَاكِتٌ عَنْ هَذَا الْقَيْدِ قُلْت: اكْتَفَى بِالْإِطْلَاقِ لِصَرْفِ الْمُطْلَقِ إلَى الْكَامِلِ عَنْ التَّقْيِيدِ، وَإِنْ كَانَ أَعْنِي مَا يَدَّعِي بِهِ عَلَى الْغَائِبِ شَرْطًا لِحَقِّهِ، أَيْ لِحَقِّ الْمُدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ كَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ طَلَّقَ فُلَانٌ امْرَأَتَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَادَّعَتْ امْرَأَةُ الْحَالِفِ عَلَيْهِ أَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قَالَ الْمُصَنِّفُ: فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي جَعْلِهِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ،؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهَا عَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْأُوزْجَنْدِيُّ

ص: 311

عَنْ الْغَائِبِ وَقَدْ عُرِفَ تَمَامُهُ فِي الْجَامِعِ

إنَّ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ وَيُجْعَلُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ كَمَا فِي السَّبَبِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي كَمَا تَتَوَقَّفُ عَلَى السَّبَبِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْطِ. لَا يُقَالُ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ السَّبَبُ اللَّازِمُ وَالتَّوَقُّفُ فِيهِ أَكْثَرُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ تَوَقُّفُ مَا يُدَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ عَلَى مَا يُدَّعَى عَلَى الْغَائِبِ وَهُوَ فِي الشَّرْطِ مَوْجُودٌ. وَأَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ الْمُسَخَّرَ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي وَهُوَ مَنْ يُنَصِّبُهُ وَكِيلًا عَنْ الْغَائِبِ لِيَسْتَمِعَ الْخُصُومَةَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ كَالْوَصِيِّ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِيمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْغَائِبِ

ص: 312

قَالَ (وَيُقْرِضُ الْقَاضِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيَكْتُبُ ذِكْرَ الْحَقِّ)

وَالْمُسَخَّرُ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ، ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيهِ فَكَأَنَّهُ اخْتَارَهُ.

قَالَ (وَيُقْرِضُ الْقَاضِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى إلَخْ) لِلْقَاضِي أَنْ يُقْرِضَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيَكْتُبَ الصَّكَّ لِأَجْلِ تَذْكِرَةِ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِقْرَاضُ،

ص: 313

لِأَنَّ فِي الْإِقْرَاضِ مَصْلَحَتَهُمْ لِبَقَاءِ الْأَمْوَالِ مَحْفُوظَةً مَضْمُونَةً، وَالْقَاضِي يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ وَالْكِتَابَةِ لِيَحْفَظَهُ (وَإِنْ أَقْرَضَ الْوَصِيُّ ضَمِنَ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ، وَالْأَبُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِاسْتِخْرَاجِ.

؛ لِأَنَّ فِي إقْرَاضِ أَمْوَالِهِمْ مَصْلَحَتَهُمْ لِبَقَائِهَا مَحْفُوظَةً فَإِنَّ الْقَاضِيَ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْحِفْظِ بِنَفْسِهِ وَبِالْوَدِيعَةِ إنْ حَصَلَ الْحِفْظُ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً بِالْهَلَاكِ فَلَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً، وَبِالْقَرْضِ تَصِيرُ مَحْفُوظَةً مَضْمُونَةً فَيُقْرِضُهَا. فَإِنْ قِيلَ: نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يُؤْمَنْ التَّوَى لِجُحُودِ الْمُسْتَقْرِضِ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالْقَاضِي يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا لَهُ وَبِالْكِتَابَةِ يَحْصُلُ الْحِفْظُ وَيَنْتَفِي النِّسْيَانُ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ وَالضَّمَانَ وَإِنْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ بِالْإِقْرَاضِ لَكِنَّ مَخَافَةَ التَّوَى بَاقِيَةٌ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ وَلَا كُلُّ بَيِّنَةٍ تَعْدِلُ، وَالْأَبُ كَالْوَصِيِّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِاسْتِخْرَاجِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَالْعَتَّابِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ تَعُمُّ الْمَالَ وَالنَّفْسَ كَوِلَايَةِ الْقَاضِي، وَشَفَقَتُهُ تَمْنَعُ مِنْ تَرْكِ النَّظَرِ لَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقْرِضُهُ مِمَّنْ يَأْمَنُ جُحُودَهُ، وَإِنْ أَخَذَهُ الْأَبُ قَرْضًا لِنَفْسِهِ فَالْقِرَاضُ يَجُوزُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ

ص: 314

(بَابُ التَّحْكِيمِ)

بَابُ التَّحْكِيمِ)

هَذَا بَابٌ مِنْ فُرُوعِ الْقَضَاءِ، وَتَأْخِيرُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُحَكَّمَ أَدْنَى مَرْتَبَةً مِنْ الْقَاضِي لِاقْتِصَارِ حُكْمِهِ عَلَى مَنْ رَضِيَ بِحُكْمِهِ وَعُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي. وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ: تَعَالَى فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ

ص: 315

(وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ رَجُلًا فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا وَرَضِيَا بِحُكْمِهِ جَازَ) لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَصَحَّ تَحْكِيمُهُمَا وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِصِفَةِ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِيمَا بَيْنَهُمَا فَيُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ، وَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ اعْتِبَارًا بِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَالْفَاسِقُ إذَا حَكَمَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي الْمُوَلَّى

وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم كَانُوا مُجْتَمَعِينَ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ (وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ رَجُلًا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا وَرَضِيَا بِحُكْمِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيَصِحُّ تَحْكِيمُهُمَا وَإِذَا حَكَمَ لَزِمَهُمَا) لِصُدُورِ حُكْمِهِ عَنْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا (وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِصِفَةِ الْحَاكِمِ الْمُوَلَّى؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ التَّعْلِيقِ وَالْإِضَافَةُ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَكِنَّهَا وَقَعَتْ فَإِنَّهُمَا جَائِزَانِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ التَّحْكِيمِ عِنْدَهُ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّحْكِيمَ صَلَحَ مَعْنًى حَيْثُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَرَاضِي الْخَصْمَيْنِ وَالْمَقْصُودُ بِهِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَالصُّلْحُ لَا يُعَلَّقُ وَلَا يُضَافُ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيضٌ (وَإِذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ) اُشْتُرِطَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ (فَلَوْ حَكَّمَا امْرَأَةً فِيمَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ جَازَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِيهَا) قَالَ (وَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ إلَخْ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ بِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فَمَنْ لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ لَا يُقَلَّدُ حَاكِمًا وَلَا مُحَكَّمًا، فَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ إنْ حَكَّمَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَإِنْ حَكَّمَهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَتَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ فِي حَقِّهِمَا كَتَقْلِيدِ السُّلْطَانِ إيَّاهُ، وَتَقْلِيدُ الذِّمِّيِّ لِيُحَكِّمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ صَحِيحٌ دُونَ الْإِسْلَامِ، فَكَذَا تَحْكِيمُهُ، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَإِنْ تَابَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا كَمَا سَيَأْتِي، وَالْفَاسِقُ وَالصَّبِيُّ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فِيهِمَا لَكِنْ إذَا حُكِّمَ الْفَاسِقُ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الْقَضَاءَ، وَلَوْ قُلِّدَ جَازَ

ص: 316

(وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَكِّمَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّهُ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِهِمَا فَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِرِضَاهُمَا جَمِيعًا (وَإِذَا حَكَمَ لَزِمَهُمَا) لِصُدُورِ حُكْمِهِ عَنْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا (وَإِذَا رَفَعَ حُكْمَهُ إلَى الْقَاضِي فَوَافَقَ مَذْهَبَهُ أَمْضَاهُ) لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِهِ ثُمَّ فِي إبْرَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ (وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ) لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَلْزَمُهُ لِعَدَمِ التَّحْكِيمِ مِنْهُ.

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَكَّمَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِهِمَا) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ (فَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِرِضَاهُمَا جَمِيعًا)؛ لِأَنَّ مَا كَانَ وُجُودُهُ مِنْ شَيْئَيْنِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وُجُودِهِمَا، وَأَمَّا عَدَمُهُ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى عَدَمِهِمَا بَلْ يَعْدَمُ بِعَدَمِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ مَا قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِخْرَاجُ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ: إخْرَاجُ أَحَدِهِمَا سَعْيٌ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ.

قُلْنَا: مَا تَمَّ الْأَمْرُ وَإِنَّمَا التَّمَامُ بَعْدَ الْحُكْمِ وَلَا نَقْضَ حِينَئِذٍ فَإِنَّهُ لَا رُجُوعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلُزُومِ الْحُكْمِ بِصُدُورِهِ عَنْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا كَالْقَاضِي إذَا قَضَى ثُمَّ عَزَلَهُ السُّلْطَانُ فَإِنَّهُ لَازِمٌ (وَإِذَا رُفِعَ حُكْمُهُ إلَى حَاكِمٍ فَوَافَقَ مَذْهَبَهُ أَمْضَاهُ؛ لِأَنَّهُ) إذَا نَقَضَهُ لَمْ يَحْكُمْ إلَّا بِذَلِكَ فَ (لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِهِ ثُمَّ فِي إبْرَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ) وَفَائِدَةُ إبْرَامِهِ أَنَّهُ لَوْ رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ نَقْضِهِ، وَلَوْ لَمْ يَمْضِ لَتَمَكَّنَ؛ لِأَنَّ إمْضَاءَ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ نَفْسِهِ (وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ لَا يَلْزَمُ الْحَاكِمَ لِعَدَمِ التَّحْكِيمِ مِنْهُ) بِخِلَافِ حُكْمِ الْحَاكِمِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُهُ الثَّانِي

ص: 317

(وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى دَمِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِبَاحَةَ فَلَا يُسْتَبَاحُ بِرِضَاهُمَا قَالُوا: وَتَخْصِيصُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُفْتَى بِهِ، وَيُقَالُ يُحْتَاجُ إلَى حُكْمِ الْمُوَلَّى دَفْعًا لِتَجَاسُرِ الْعَوَامّ

وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ فَكَانَ قَضَاؤُهُ حُجَّةً فِي حَقِّ الْكُلِّ فَلَا يَجُوزُ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يَرُدَّهُ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إلَخْ) لَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ لِاسْتِيفَائِهَا، وَأَمَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْمَشَايِخُ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ التَّحْكِيمُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ جَائِزٌ. وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ عَنْ صُلْحِ الْأَصْلِ أَنَّ التَّحْكِيمَ فِي الْقِصَاصِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إلَيْهِمَا وَهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَجُوزُ التَّحْكِيمُ كَمَا فِي الْأَمْوَالِ. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ التَّحْكِيمَ لَا يَجُوزُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى دَمِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِبَاحَةَ، وَهُوَ دَلِيلُ الْقِصَاصِ وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَ الْحُدُودِ. وَقَالُوا فِي ذَلِكَ:؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحَكِّمِينَ فَكَانَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ وَالْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ لَا تُسْتَوْفَى بِالشُّبُهَاتِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى أَشْمَلُ مِنْ تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ (قَوْلُهُ: وَقَالُوا) أَيْ قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا (وَتَخْصِيصُ الْقُدُورِيِّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ) كَالْكِنَايَاتِ فِي جَعْلِهَا رَجْعِيَّةً وَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْ أَصْحَابِنَا (وَهُوَ صَحِيحٌ) لَكِنَّ الْمَشَايِخَ امْتَنَعُوا عَنْ الْفَتْوَى بِذَلِكَ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: مَسْأَلَةُ حُكْمِ الْمُحَكَّمِ تُعْلَمُ وَلَا يُفْتَى بِهَا، وَكَانَ يَقُولُ: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجُوزُ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ الْأُسْتَاذَ أَبَا عَلِيٍّ النَّسَفِيَّ كَانَ يَقُولُ: يُكْتَمُ هَذَا الْفَصْلُ وَلَا يُفْتَى بِهِ كَيْ لَا يَتَطَرَّقَ الْجُهَّالُ إلَى ذَلِكَ فَيُؤَدِّيَ إلَى هَدْمِ مَذْهَبِنَا.

وَإِنْ حَكَّمَاهُ فِي دَمِ خَطَإٍ لَا يَنْفُذُ إلَّا فِي صُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَحْكُمَ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَوْ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ إذْ لَا تَحْكِيمَ مِنْ جِهَتِهِمْ. وَحُكْمُ الْحَكَمِ لَا يَنْفُذُ عَلَى غَيْرِ الْمُحَكِّمِينَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي رَدَّهُ الْقَاضِي وَيَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ

ص: 318

وَإِنْ حَكَّمَاهُ فِي دَمِ خَطَإٍ فَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ إذْ لَا تَحْكِيمَ مِنْ جِهَتِهِمْ. وَلَوْ حَكَمَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ رَدَّهُ الْقَاضِي وَيَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرَأْيِهِ وَمُخَالِفٌ لِلنَّصِّ أَيْضًا إلَّا إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيَقْضِيَ بِالنُّكُولِ وَكَذَا بِالْإِقْرَارِ) لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَوْ بِعَدَالَةِ الشُّهُودِ

رَأْيَهُ وَمُخَالِفٌ لِنَصِّ حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ " قُومُوا فَدُوهُ " كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(قَوْلُهُ: إلَّا إذَا ثَبَتَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ رَدَّهُ الْقَاضِي: أَيْ رَدَّ قَضَاءَهُ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ إلَّا إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُهُ، وَأَمَّا أُرُوشُ الْجِرَاحَاتِ فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ وَتَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي بِأَنْ كَانَ دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ وَالنُّكُولِ أَوْ كَانَ عَمْدًا وَقَضَى عَلَى الْجَانِي جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَالِفُ حُكْمَ الشَّرْعِ وَقَدْ رَضِيَ الْجَانِي بِحُكْمِهِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ بِأَنْ كَانَتْ خَمْسَمِائَةٍ فَصَاعِدًا وَقَدْ ثَبَتَتْ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ وَكَانَتْ خَطَأً لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إنْ قَضَى بِهَا عَلَى الْجَانِي خَالَفَ حُكْمَ الشَّرْعِ، وَإِنْ قَضَى عَلَى الْعَاقِلَةِ فَالْعَاقِلَةُ لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِهِ (قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ) يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا صَارَ حَكَمًا عَلَيْهِمَا بِتَسْلِيطِهِمَا جَازَ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ (وَيَقْضِي بِالنُّكُولِ وَكَذَا بِالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ، وَإِذَا أَخْبَرَ الْمُحَكَّمُ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ) بِأَنْ يَقُولَ لِأَحَدِهِمَا اعْتَرَفْت عِنْدِي لِهَذَا بِكَذَا (أَوْ بِعَدَالَةِ الشُّهُودِ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَامَتْ عِنْدِي عَلَيْك بَيِّنَةٌ لِهَذَا بِكَذَا فَعُدِّلُوا عِنْدِي وَقَدْ أَلْزَمْتُك ذَلِكَ وَحَكَمْت بِهِ لِهَذَا عَلَيْك فَأَنْكَرَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِشَيْءٍ أَوْ قَامَتْ

ص: 319

وَهُمَا عَلَى تَحْكِيمِهِمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ قَائِمَةٌ وَلَوْ أَخْبَرَ بِالْحُكْمِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِانْقِضَاءِ الْوِلَايَةِ كَقَوْلِ الْمُوَلَّى بَعْدَ الْعَزْلِ.

(وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لِأَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ بَاطِلٌ وَالْمُوَلَّى وَالْمُحَكَّمُ فِيهِ سَوَاءٌ) وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِهَؤُلَاءِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْقَضَاءُ لَهُمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَكَذَا الْقَضَاءُ، وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِشَيْءٍ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ وَقَضَى الْقَاضِي وَنَفَذَ؛ لِأَنَّ الْمُحَكَّمَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ (إذَا كَانَ عَلَى تَحْكِيمِهِمَا) فَيَمْلِكُ الْإِخْبَارَ كَالْقَاضِي الْمُوَلَّى إذَا قَالَ فِي قَضَائِهِ لِإِنْسَانٍ قَضَيْت عَلَيْك لِهَذَا بِإِقْرَارِك أَوْ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عِنْدِي عَلَى ذَلِكَ (فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ) وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَكَذَا هَاهُنَا (وَإِنْ أَخْبَرَ بِالْحُكْمِ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْمُحَكَّمُ كُنْت حَكَمْت عَلَيْك لِهَذَا بِكَذَا (لَمْ يُصَدَّقْ)؛ لِأَنَّهُ إذَا حَكَمَ صَارَ مَعْزُولًا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إنِّي حَكَمْت بِكَذَا كَالْقَاضِي الْمُوَلَّى إذَا قَالَ بَعْدَ عَزْلِهِ حَكَمْت بِكَذَا.

(وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لِأَبَوَيْهِ وَوَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ بَاطِلٌ)؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ لِلْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةُ لِهَؤُلَاءِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ (وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُوَلَّى وَالْمُحَكَّمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمْ مَقْبُولَةٌ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، فَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ. وَإِذَا حَكَّمَا رَجُلَيْنِ جَازَ وَلَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ) فَلَوْ حَكَّمَ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا رَضِيَا بِرَأْيِهِمَا وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَيْسَ كَرَأْيِ الْمُثَنَّى، وَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا بَعْدَ الْقِيَامِ انْعَزَلَا فَصَارَا كَسَائِرِ الرَّعَايَا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَاهُ.

ص: 320

(مَسَائِلُ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ)

قَالَ (وَإِذَا كَانَ عُلْوٌ لِرَجُلٍ وَسُفْلٌ لِآخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَتِدَ فِيهِ وَتَدًا وَلَا يَنْقُبَ فِيهِ كَوَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) مَعْنَاهُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلْوِ (وَقَالَا: يَصْنَعُ مَا لَا يَضُرُّ بِالْعُلْوِ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلْوِهِ. قِيلَ مَا حُكِيَ عَنْهُمَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَلَا خِلَافَ. وَقِيلَ

مَسَائِلُ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ:

مَسَائِلُ شَتَّى: أَيْ مُتَفَرِّقَةٌ مِنْ شَتَّتَ تَشْتِيتًا: إذَا فَرَّقَ. ذَكَرَ فِي آخِرِ كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي مَسَائِلَ مِنْهُ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يَذْكُرُوا فِي آخِرِ الْكِتَابِ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهَا اسْتِدْرَاكًا لِمَا فَاتَ مِنْ الْكِتَابِ وَيُتَرْجِمُونَهُ بِمَسَائِلَ شَتَّى أَوْ مَنْثُورَةٌ أَوْ مُتَفَرِّقَةٌ. قِيلَ وَعَلَى هَذَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا إلَى آخِرِ كِتَابِ الْقَضَاءِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَهَا الْقَضَاءَ بِالْمَوَارِيثِ وَالرَّحِمِ وَإِنَّهُ لَجَدِيرٌ بِالتَّأْخِيرِ لَا مَحَالَةَ (وَإِذَا كَانَ عُلُوٌّ لِرَجُلٍ وَسُفْلٌ لِآخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَتِدَ فِيهِ وَتَدًا وَلَا أَنْ يَنْقُبَ فِيهِ كُوَّةً بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلُوِّ) وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلُوِّهِ وَلَا أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ جِذْعًا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا يُحْدِثَ كَنِيفًا إلَّا بِرِضَا صَاحِبِ السُّفْلِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَصْنَعَ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ، وَقِيلَ هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) يَعْنِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا مَنَعَ عَمَّا مَنَعَ إذَا كَانَ مُضِرًّا، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُضِرًّا فَلَا يُمْنَعُ كَمَا هُوَ قَوْلُهُمَا فَكَانَ جَوَازُ التَّصَرُّفِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْآخَرُ فَصْلًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ فَيَكُونُ الْمَنْعُ بِعِلَّةِ الضَّرَرِ لِصَاحِبِهِ (وَقِيلَ) لَيْسَ ذَلِكَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ وَإِنَّمَا

ص: 321

الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا الْإِبَاحَةُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَالْمِلْكُ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ وَالْحُرْمَةُ بِعَارِضِ الضَّرَرِ فَإِذَا أُشْكِلَ لَمْ يَجُزْ الْمَنْعُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ الْحَظْرُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ لِلْغَيْرِ كَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْإِطْلَاقُ بِعَارِضٍ فَإِذَا أُشْكِلَ لَا يَزُولُ الْمَنْعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَرَّى عَنْ نَوْعِ ضَرَرٍ بِالْعُلْوِ مِنْ تَوْهِينِ بِنَاءٍ أَوْ نَقْضِهِ فَيُمْنَعُ عَنْهُ.

الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا الْإِبَاحَةُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَالْمِلْكُ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ) فَلَا يُمْنَعُ عَنْهُ إلَّا بِعَارِضِ الضَّرَرِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ضَرَرٌ لَمْ يُمْنَعْ (بِالِاتِّفَاقِ، وَ) إنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ (إذَا أَشْكَلَ) فَعِنْدَهُمَا (لَمْ يَجُزْ الْمَنْعُ)؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ بِيَقِينٍ وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ (وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ الْحَظْرُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ لِلْغَيْرِ، وَهُوَ) صَاحِبُ الْعُلُوِّ؛ لِأَنَّ قَرَارَهُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنْ الْهَدْمِ اتِّفَاقًا، وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْغَيْرِ بِمِلْكِهِ بِمَنْعِ الْمَالِكِ مِنْ التَّصَرُّفِ كَمَا مُنِعَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ الْمَالِكَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ (وَالْإِطْلَاقُ بِعَارِضٍ) وَهُوَ الرِّضَا بِهِ دُونَ عَدَمِ الضَّرَرِ فَتَأَمَّلْ (فَإِذَا أَشْكَلَ لَا يَزُولُ الْمَنْعُ) لِمَا ذَكَرْنَا (قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ ضَرَرٍ بِالْعُلُوِّ مِنْ تَوْهِينِ بِنَاءٍ أَوْ نَقْضِهِ فَيُمْنَعُ عَنْهُ) اسْتِظْهَارٌ عَلَى الْمَنْعِ لِإِفَادَةِ مَا قَبْلَهُ ذَلِكَ.

ص: 322

قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ زَائِغَةً مُسْتَطِيلَةً تَنْشَعِبُ مِنْهَا زَائِعَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ وَهِيَ غَيْرُ نَافِذَةٍ فَلَيْسَ لِأَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى أَنْ يَفْتَحُوا بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى) لِأَنَّ فَتْحَهُ لِلْمُرُورِ وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمُرُورِ إذْ هُوَ لِأَهْلِهَا خُصُوصًا حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَهْلِ الْأُولَى فِيمَا بِيعَ فِيهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ،

قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ زَائِغَةً مُسْتَطِيلَةً إلَخْ) سِكَّةٌ طَوِيلَةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ تَنْشَعِبُ عَنْ يَمِينِهَا أَوْ يَسَارِهَا مِثْلُهَا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ:

ص: 323

بِخِلَافِ النَّافِذَةِ لِأَنَّ الْمُرُورَ فِيهَا حَقُّ الْعَامَّةِ. قِيلَ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ لَا مِنْ فَتْحِ الْبَابِ لِأَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَ جِدَارِهِ.

وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْفَتْحِ لِأَنَّ بَعْدَ الْفَتْحِ لَا يُمْكِنُهُ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ. وَلِأَنَّهُ عَسَاهُ يَدَّعِي الْحَقَّ فِي الْقُصْوَى بِتَرْكِيبِ الْبَابِ

لَيْسَ لِأَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى أَنْ يَفْتَحُوا بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى؛ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ لِلْمُرُورِ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمُرُورِ؛ لِأَنَّ الْمُرُورَ فِيهَا لِأَهْلِهَا خَاصَّةً لِكَوْنِهَا غَيْرَ نَافِذَةٍ بِمَنْزِلَةِ دَارٍ بَيْنَ قَوْمٍ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَكَذَا هَذَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بِيعَتْ دَارٌ فِي تِلْكَ السِّكَّةِ الْقُصْوَى لَيْسَ لِأَهْلِ السِّكَّةِ الْعُظْمَى أَنْ يَأْخُذُوا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ السِّكَّةَ لَهُمْ خَاصَّةً، بِخِلَافِ النَّافِذَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرُورَ فِيهَا حَقُّ الْعَامَّةِ. ثُمَّ قِيلَ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ لَا مِنْ فَتْحِ الْبَابِ؛ لِأَنَّ الْفَتْحَ رَفْعُ بَعْضِ جِدَارِهِ. وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ جَمِيعَ جِدَارِهِ بِالْهَدْمِ فَرَفْعُ بَعْضِهِ أَوْلَى، وَلِهَذَا لَوْ فَتَحَ كُوَّةً أَوْ بَابًا لِلِاسْتِضَاءَةِ دُونَ الْمُرُورِ لَمْ يُمْنَعْ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْفَتْحِ لَا يُمْكِنُهُ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَتَقَادَمَ الْعَهْدُ رُبَّمَا يَدَّعِي الْحَقَّ فِي الْقُصْوَى بِتَرْكِيبِ الْبَابِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيُمْنَعُ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّائِغَةَ الْأُولَى غَيْرُ نَافِذَةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، إلَّا إذَا جَعَلْت الضَّمِيرَ مَوْضُوعًا مَوْضِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ حَتَّى يَكُونَ تَقْدِيرُهُ وَذَلِكَ غَيْرُ نَافِذَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الزَّائِغَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِذَلِكَ إلَى الْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ صَحِيحَةٌ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْله تَعَالَى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} أَيْ بِذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ الزَّائِغَةُ الْقُصْوَى مُسْتَدِيرَةً قَدْ لَزِقَ طَرَفَاهَا: يَعْنِي سِكَّةً فِيهَا اعْوِجَاجٌ حَتَّى بَلَغَ اعْوِجَاجُهَا رَأْسَ السِّكَّةِ وَالسِّكَّةُ غَيْرُ نَافِذَةٍ

ص: 324

(وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَدِيرَةً قَدْ لَزِقَ طَرَفَاهَا فَلَهُمْ أَنْ يَفْتَحُوا) بَابًا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّ الْمُرُورِ فِي كُلِّهَا إذْ هِيَ سَاحَةٌ مُشْتَرَكَةٌ وَلِهَذَا يَشْتَرِكُونَ فِي الشُّفْعَةِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا.

فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَفْتَحَ بَابَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ؛ لِأَنَّهَا سِكَّةٌ وَاحِدَةٌ إذْ هِيَ سَاحَةٌ مُشْتَرَكَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقُّ الْمُرُورِ فِي كُلِّهَا، وَلِهَذَا يَشْتَرِكُونَ فِي الشُّفْعَةِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا بِهَذِهِ الصُّورَةِ

ص: 325

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 326

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى فِي دَارِ دَعْوَى وَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ) وَسَنَذْكُرُهَا فِي الصُّلْحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى فِي دَارٍ دَعْوَى وَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ إلَخْ) دَارٌ بِيَدِ رَجُلٍ ادَّعَى عَلَيْهِ آخَرُ أَنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا. وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ ثُمَّ صَالَحَ مِنْهَا جَازَ الصُّلْحُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ فِي الصُّلْحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ الصُّلْحُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّعَى وَمَعْلُومِيَّةُ مِقْدَارِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الدَّعْوَى؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ شَيْئًا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ. أَجَابَ بِأَنَّ الْمُدَّعَى وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالصُّلْحُ عَلَى مَعْلُومٍ عَنْ مَجْهُولٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ جَهَالَةٌ فِي السَّاقِطِ، وَالْجَهَالَةُ فِيهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْمَانِعُ مِنْهَا مَا أَفْضَى إلَيْهَا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: جَهَالَةُ الْمُدَّعَى إمَّا أَنْ تَكُونَ مَانِعَةَ صِحَّةِ الدَّعْوَى أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي صَحَّ دَعْوَى مَنْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ شَيْئًا لَكِنَّهَا لَمْ تَصِحَّ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ نَاقِلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمَا جَازَ الصُّلْحُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِجَهَالَةِ الْمُدَّعَى لَكِنَّهُ صَحِيحٌ.

وَالْجَوَابُ بِاخْتِيَارِ الشِّقِّ الْأَوَّلِ، وَلَا يَلْزَمُ عَدَمُ جَوَازِ الصُّلْحِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ

ص: 327

وَالْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالصُّلْحُ عَلَى مَعْلُومٍ عَنْ مَجْهُولٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَهَالَةٌ فِي السَّاقِطِ فَلَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ عَلَى مَا مَرَّ.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ فِي وَقْتِ كَذَا فَسُئِلَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدَّعِي فِيهِ الْهِبَةَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ) لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ إذْ هُوَ يَدَّعِي الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ وَهُمْ يَشْهَدُونَ بِهِ قَبْلَهَا، وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ بَعْدَهَا تُقْبَلُ لِوُضُوحِ التَّوْفِيقِ، وَلَوْ كَانَ ادَّعَى الْهِبَةَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَهَا وَلَمْ يَقُلْ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لِأَنَّ دَعْوَى الْهِبَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ عِنْدَهَا، وَدَعْوَى الشِّرَاءِ رُجُوعٌ عَنْهُ فَعُدَّ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ

الصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُ لِقَطْعِ الشَّغَبِ وَالْخِصَامِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْبَاطِلِ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالْحَقِّ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَقُولُ لِلْمُدَّعِي دَعْوَاك فَاسِدَةٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَيُمْكِنُهُ إزَالَةُ الْفَسَادِ بِإِعْلَامِ مِقْدَارٍ مِمَّا يَدَّعِي فَلَا يَكُونُ رَدُّهُ مُفِيدًا.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ إلَخْ) إذَا ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ مُنْذُ شَهْرَيْنِ مَثَلًا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ وَإِنَّمَا مَلَكَهُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ وَجَحَدَ دَعْوَاهُ ذُو الْيَدِ فَسُئِلَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ لِي بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ عَلَى الشِّرَاءِ؛ لِأَنِّي طَلَبْت مِنْهُ فَجَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاضْطُرِرْت إلَى شِرَائِهَا مِنْهُ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَأَشْهَدْت عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ، فَإِنْ شَهِدَتْ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدَّعِي فِيهِ الْهِبَةَ لَا تُقْبَلُ لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُدَّعِيَ ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ حَيْثُ قَالَ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَالشُّهُودُ شَهِدُوا بِشِرَاءٍ قَبْلَهَا فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ مُخَالِفَةً لِلدَّعْوَى.

وَالثَّانِي مِنْ حَيْثُ الدَّعْوَى نَفْسُهَا إنْ ثَبَتَ مُوجِبُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ تَقَدُّمُ وَقْتِ الشِّرَاءِ عَلَى وَقْتِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ قَائِلًا وَهَبَ لِي هَذِهِ الدَّارَ وَكَانَتْ مِلْكًا لِي بِالشِّرَاءِ قَبْلَ الْهِبَةِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْهِبَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالشِّرَاءِ، وَإِنْ شَهِدُوا بِالشِّرَاءِ بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي ادَّعَى فِيهِ الْهِبَةَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ لِوُضُوحِ التَّوْفِيقِ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهْم يَشْهَدُونَ بِهِ قَبْلَهُ: أَيْ قَبْلَ عَقْدِ الْهِبَةِ أَوْ وَقْتَهَا، وَفِي بَعْضِهَا قَبْلَهَا: أَيْ قَبْلَ الْهِبَةِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ بَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي ادَّعَى الْهِبَةَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَ عَقْدِ الْهِبَةِ أَوْ وَقْتَهَا وَلَمْ يَقُلْ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْهِبَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ عِنْدَ الْهِبَةِ وَدَعْوَى الشِّرَاءِ قَبْلَهَا رُجُوعٌ مِنْهُ فَعُدَّ مُنَاقِضًا.

وَأَمَّا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ قُبِلَتْ؛ لِأَنَّهُ يُقَرِّرُ مِلْكَ الْوَاهِبِ عِنْدَهَا فَلَيْسَ بِمُنَاقِضٍ. قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى شِرَاءً بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى شِرَاءَ مَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَ الْهِبَةَ فَقَدْ فَسَخَهَا مِنْ الْأَصْلِ وَتَوَقَّفَ الْفَسْخُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي عَلَى رِضَاهُ، فَإِذَا أَقْدَمَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ الْفَسْخِ فِيمَا بَيْنَهُمَا

ص: 328

لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ عِنْدَهَا.

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَأَنْكَرَ الْآخَرُ إنْ أَجْمَعَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا) لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَهُ كَانَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ، إذْ الْفَسْخُ يَثْبُتُ بِهِ كَمَا إذَا تَجَاحَدَا فَإِذَا عَزَمَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ ثُمَّ الْفَسْخِ، وَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ إنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ الْفَسْخُ فَقَدْ اقْتَرَنَ بِالْفِعْلِ وَهُوَ إمْسَاكُ الْجَارِيَةِ وَنَقْلُهَا وَمَا يُضَاهِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَاتَ رِضَا الْبَائِع فَيَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهِ.

فَانْفَسَخَتْ الْهِبَةُ بِتَرَاضِيهِمَا وَاشْتَرَى مَا لَا يَمْلِكُهُ فَكَانَ صَحِيحًا.

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ إلَخْ) رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَأَنْكَرَهُ إنْ أَجْمَعَ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ: أَيْ عَزَمَ بِقَلْبِهِ، وَقِيلَ أَنْ يَشْهَدَ بِلِسَانِهِ عَلَى الْعَزْمِ بِالْقَلْبِ أَنْ لَا يُخَاصِمَ مَعَهُ وَسِعَهُ: أَيْ حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْجَارِيَةَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَ الْعَقْدَ كَانَ ذَلِكَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ إذْ الْفَسْخُ يَثْبُتُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْجُحُودَ إنْكَارٌ لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ، وَالْفَسْخُ رَفْعٌ لَهُ مِنْ الْأَصْلِ فَيَتَلَاقَيَانِ بَقَاءً فَجَازَ أَنْ يَقُومَ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ كَمَا لَوْ تَجَاحَدَا فَإِنَّهُ يُجْعَلُ فَسْخًا لَا مَحَالَةَ، فَإِذَا عَزَمَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ تَمَّ الْفَسْخُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. قِيلَ لَوْ جَازَ قِيَامُ الْجُحُودِ وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ مَقَامَ الْفَسْخِ لَجَازَ لِامْرَأَةٍ جَحَدَ زَوْجُهَا النِّكَاحَ وَعَزَمَتْ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ إقَامَةً لَهُمَا مَقَامَ الْفَسْخِ، لَكِنْ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّيْءَ يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ إذَا احْتَمَلَ الْمَحَلُّ ذَلِكَ الْغَيْرَ بِالضَّرُورَةِ، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ اللُّزُومِ فَكَيْفَ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ. فَإِنْ قِيلَ: مُجَرَّدُ الْعَزْمُ قَدْ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ كَعَزْمِ مَنْ لَهُ شَرْطُ الْخِيَارِ عَلَى الْفَسْخِ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِهِ تَنَزَّلَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَوَابِ فَقَالَ: وَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ إنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْفَسْخُ فَقَدْ اقْتَرَنَ الْعَزْمُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ إمْسَاكُ الْجَارِيَةِ وَنَقْلُهَا مِنْ مَوْضِعِ الْخُصُومَةِ إلَى بَيْتِهِ وَمَا يُضَاهِيهِ كَالِاسْتِخْدَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ بِدُونِ الْفَسْخِ فَتَحَقَّقَ الِانْفِسَاخُ لِوُجُودِ الْفَسْخِ مِنْهُمَا دَلَالَةً، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قَالَ زُفَرُ إنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مَتَى بَاعَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ مَا لَمْ يَبِعْهَا أَوْ يَتَقَايَلَا وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّقَايُلَ مَوْجُودٌ دَلَالَةً (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ) دَلِيلٌ آخَرُ

ص: 329

قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ صُدِّقَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ اقْتَضَى، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَبْضِ أَيْضًا. وَوَجْهُهُ أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهَا مَعِيبَةٌ، وَلِهَذَا لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ

فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَ الْعَقْدَ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْهُ، وَلَمَّا تَعَذَّرَ فَاتَ رِضَا الْبَائِعِ، وَفَوَاتُهُ يُوجِبُ الْفَسْخَ لِفَوَاتِ رُكْنِ الْبَيْعِ فَيَسْتَقِلُّ بِفَسْخِهِ فَيُجْعَلُ عَزْمُهُ فَسْخًا عَلَى مَا مَرَّ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلِيلِينَ أَنَّ الِانْفِسَاخَ كَانَ فِي الْأَوَّلِ مُتَرَتِّبًا عَلَى الْفَسْخِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَجَعَلَ جُحُودَهُ فَسْخًا مِنْ جَانِبِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ، وَفِي الثَّانِي يَتَرَتَّبُ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ بِاسْتِبْدَادِهِ.

قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَخْ) وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قَرْضًا أَوْ ثَمَنَ سِلْعَةٍ لَهُ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ إنَّهُ زُيُوفٌ صُدِّقَ سَوَاءٌ كَانَ مَفْصُولًا أَوْ مَوْصُولًا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةُ ثُمَّ فِي الْكِتَابِ وَالتَّصْرِيحُ بِهِ فِي غَيْرِهِ. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَعَ فِي مَوْضِعِ قَبَضَ اقْتَضَى وَالْمَعْنَى هَاهُنَا وَاحِدٌ وَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ.

وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهَا مَعِيبَةٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال فِي بَدَلِهِ كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهَا كَانَ التَّجْوِيزُ اسْتِبْدَالًا وَهُوَ فِيهِمَا لَا يَجُوزُ كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ الْحَقِّ وَهُوَ الْجِيَادُ حَمْلًا لِحَالِهِ عَلَى مَا لَهُ حَقُّ قَبْضِهِ لَا مَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ وَلَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ حَقِّهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ زُيُوفٌ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ، فَكَذَا هَذَا. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَالْقَبْضُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ وَهُوَ مَنْعٌ لِلْمُلَازَمَةِ، وَقَوْلُهُ: حَمْلًا لِحَالِهِ عَلَى مَا لَهُ حَقُّ قَبْضِهِ مُسَلَّمٌ، وَالزُّيُوفُ لَهُ حَقُّ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهُ دُونَ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ مِنْ الْقَبْضِ مَا يَزِيدُ عَلَى حَقِّهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْقَبْضُ مُخْتَصًّا بِالْجِيَادِ فَالْإِقْرَارُ بِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ الْجِيَادِ فَبِدَعْوَاهُ الزُّيُوفَ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاقِضًا بَلْ هُوَ مُنْكِرٌ قَبْضَ حَقِّهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ بِالْيَمِينِ، وَالنَّبَهْرَجَةُ كَالزُّيُوفِ لِكَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ لِمَا تَقَدَّمَ.

وَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْجِيَادِ وَهُوَ حَقُّهُ أَوْ بِحَقِّهِ

ص: 330

وَالسَّلَمِ جَازَ، وَالْقَبْضُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ فَيُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ قَبْضَ حَقِّهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ الْجِيَادَ أَوْ حَقَّهُ أَوْ الثَّمَنَ أَوْ اسْتَوْفَى لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الْجِيَادِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً فَلَا يُصَدَّقُ وَالنَّبَهْرَجَةُ كَالزُّيُوفِ وَفِي السَّتُّوقَةِ لَا يُصَدَّقُ

أَوْ بِالثَّمَنِ أَوْ بِالِاسْتِيفَاءِ ثُمَّ ادَّعَى كَوْنَ الْمَقْبُوضِ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً لَمْ يُصَدَّقْ لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الْجِيَادِ صَرِيحًا فِي الْأَوَّلِ وَدَلَالَةً فِي الْبَاقِي؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْجِيَادِ، وَالثَّمَنُ جِيَادٌ وَالِاسْتِيفَاءُ يَدُلُّ عَلَى التَّمَامِ وَلَا تَمَامَ دُونَ الْحَقِّ فَكَانَ فِي دَعْوَاهُ الزُّيُوفَ مُتَنَاقِضًا. وَمِنْ هَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا ادَّعَى عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ عَلَى الْبَائِعِ وَأَنْكَرَهُ. فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ لَا الْمُشْتَرِي الَّذِي أَنْكَرَ قَبْضَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَرَّ بِقَبْضِ حَقِّهِ وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى لِنَفْسِهِ حَقَّ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: فَكَانَ مِنْ الْقَبِيلِ الثَّانِي: أَعْنِي الْمُقِرَّ بِقَبْضِ الْحَقِّ فَلَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ.

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ فِي الْجَوَابِ بِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ وَلَيْسَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ، فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ الْجِيَادَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ لَا مَفْصُولًا وَلَا مَوْصُولًا، وَفِيمَا بَقِيَ لَا يُصَدَّقُ مَفْصُولًا وَلَكِنْ يُصَدَّقُ مَوْصُولًا. وَالْفَرْقُ هُوَ أَنَّ فِي قَوْلِهِ قَبَضْت مَا لِي عَلَيْهِ أَوْ حَقِّي عَلَيْهِ جُعِلَ مُقِرًّا بِقَبْضِ الْقَدْرِ وَالْجَوْدَةِ بِلَفْظِ وَاحِدٍ، فَإِذَا اسْتَثْنَى الْجَوْدَةَ فَقَدْ اسْتَثْنَى الْبَعْضَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَصَحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا مِائَةً؛ فَأَمَّا إذَا قَالَ قَبَضْت عَشَرَةً جِيَادًا فَقَدْ أَقَرَّ بِالْوَزْنِ بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ وَبِالْجَوْدَةِ بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ، فَإِذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ فَقَدْ اسْتَثْنَى الْكُلَّ مِنْ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْجَوْدَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، كَمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِينَارٌ إلَّا دِينَارًا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا، وَإِنْ ذَكَرَهُ مَوْصُولًا كَذَا هَاهُنَا (قَوْلُهُ: وَفِي السَّتُّوقَةِ لَا يُصَدَّقُ) يَعْنِي لَوْ ادَّعَاهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِقَبْضِ الْعَشَرَةِ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لَمْ يَجُزْ فَكَانَ مُتَنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: ذَكَرَ هَذَا الْحُكْمَ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَنَقَلَ عَنْ الْمَبْسُوطِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنْ ادَّعَى الرَّصَاصَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ، إنْ كَانَ مَفْصُولًا لَمْ يُسْمَعْ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا لَا يُسْمَعْ. وَالسَّتُّوقَةُ أَقْرَبُ إلَى الدَّرَاهِمِ مِنْ الرَّصَاصِ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الرَّصَاصِ ذَلِكَ فَفِي السَّتُّوقَةِ أَوْلَى وَكَأَنَّ الِاعْتِرَاضَيْنِ وَقَعَا لِذُهُولٍ عَنْ التَّدْقِيقِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، فَإِنَّ كَلَامَهُ فِيمَا إذَا قَالَ مَفْصُولًا بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ ثُمَّ

ص: 331

لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا ذَكَرْنَا لَا يَجُوزُ.

وَالزَّيْفُ مَا زَيَّفَهُ بَيْتُ الْمَالِ، وَالنَّبَهْرَجَةُ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ، وَالسَّتُّوقَةُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْغِشُّ

ادَّعَى فَإِنَّهُ لِلتَّرَاخِي، وَلَا نِزَاعَ فِي غَيْرِ الزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ أَنَّهُ إذَا ادَّعَاهُ لَا تُقْبَلُ مَفْصُولًا، وَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ يُقْبَلُ مَوْصُولًا أَوْ لَا لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِهِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ وَهُوَ لَا يُقْبَلُ مَفْصُولًا وَيُقْبَلُ مَوْصُولًا، وَذِكْرُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَهَّمَ الْجَانِبَ الْآخَرَ.

بَقِيَ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِالدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ وَادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مَفْصُولًا وَلَا مَوْصُولًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ عَنْ قَبُولِ الْمَوْصُولِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارٍ عَارِضٍ وَهُوَ لُزُومُ اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ كَمَا مَرَّ، لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَانُ تَغْيِيرٍ إنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ الْأَصْحَابِ أَوْ عَنْ الْمَشَايِخِ وَقَدْ اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنَّهُ مَا عَزَاهُ إلَى شَيْءٍ مِنْ النُّسَخِ، وَتَمْثِيلُهُ بِاسْتِثْنَاءِ الدِّينَارِ قَدْ لَا يَنْهَضُ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ وَصْفٌ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ، ثُمَّ فَسَّرَ الزُّيُوفَ بِمَا زَيَّفَهُ بَيْتُ الْمَالِ: أَيْ رَدَّهُ، وَالنَّبَهْرَجَةَ بِمَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ، وَلَعَلَّهُ أَرْدَأُ مِنْ الزَّيْفِ، وَالسَّتُّوقَةُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْغِشُّ، قِيلَ هُوَ مُعَرَّبُ ستو وَهِيَ أَرْدَأُ مِنْ النَّبَهْرَجَةِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ.

ص: 332

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ ثُمَّ قَالَ فِي مَكَانِهِ بَلْ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ) لِأَنَّ إقْرَارَهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَقَدْ ارْتَدَّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ، وَالثَّانِي دَعْوَى فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ أَوْ تَصْدِيقِ خَصْمِهِ،

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَخْ) اعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ أَوْ بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَسْتَقِلَّ الْمُقِرُّ بِإِثْبَاتِهِ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمُقِرَّ يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِهِ، وَالثَّانِي يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِ خَصْمِهِ، فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ. ثُمَّ قَالَ فِي مَكَانِهِ بَلْ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِمَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ بِإِثْبَاتِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ رَدَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَيَرْتَدُّ.

وَقَوْلُهُ: بَلْ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ حُجَّةٍ: أَيْ بَيِّنَةٍ أَوْ تَصْدِيقِ الْخَصْمِ حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ الْمُقِرُّ ثَانِيًا لَزِمَهُ الْمَالُ اسْتِحْسَانًا.

وَإِذَا قَالَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْكَرَ لَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ وَإِنْ كَانَ بِمَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ لَكِنَّ الْمُقِرَّ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِإِثْبَاتِهِ فَلَا يَتَفَرَّدُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِالْفَسْخِ كَمَا لَا يَتَفَرَّدُ بِالْعَقْدِ: يَعْنِي الْمُقَرُّ لَهُ لَا يَتَفَرَّدُ بِالرَّدِّ، كَمَا أَنَّ الْمُقِرَّ لَا يَتَفَرَّدُ بِإِثْبَاتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حَقُّهُمَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فَعَمِلَ التَّصْدِيقُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يَتَفَرَّدُ بِالْإِثْبَاتِ فَيَتَفَرَّدُ الْآخَرُ بِالرَّدِّ. قُلْت: إنَّ عَزْمَ الْمُقِرِّ عَلَى تَرْكِ

ص: 333

بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ اشْتَرَيْت وَأَنْكَرَ الْآخَرُ لَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ، لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَتَفَرَّدُ بِالْفَسْخِ كَمَا لَا يَتَفَرَّدُ بِالْعَقْدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حَقُّهُمَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فَعَمِلَ التَّصْدِيقُ، وَأَمَّا الْمُقَرُّ لَهُ يَتَفَرَّدُ بِرَدِّ الْإِقْرَارِ فَافْتَرَقَا.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا

الْخُصُومَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يُفِيدَهُ التَّصْدِيقُ بَعْدَ الْإِنْكَارِ، فَإِنَّ الْفَسْخَ قَدْ تَمَّ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً حَلَّ وَطْؤُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ قَالَ فِي مَكَانِهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَزْمَ وَالنَّقْلَ كَانَا دَلِيلَ الْفَسْخِ، وَبِهِ سَقَطَ مَا قَالَ فِي الْكَافِي ذَكَرَ فِي الْهِدَايَةِ أَنَّ أَحَدَ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَتَفَرَّدُ بِالْفَسْخِ وَذَكَرَ قَبْلَهُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرَى فَاتَ رِضَا الْبَائِعِ فَيَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهِ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ كَلَامَيْهِ صَعْبٌ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ يَسْتَبِدُّ، وَهَاهُنَا لَمَّا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي فِي مَكَانِهِ بِالشِّرَاءِ لَمْ يَتَعَذَّرْ الِاسْتِيفَاءُ فَلَا يَسْتَبِدُّ بِالْفَسْخِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، كَمَا إذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ عَبْدِهِ مِنْ إنْسَانٍ فَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْمُقِرُّ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ النَّسَبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ إقْرَارٌ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَإِنْ وَافَقَهُ الْمُقِرُّ عَلَى ذَلِكَ.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا إلَخْ) إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَقَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ، وَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي عَلَى سَبِيلِ

ص: 334

فَقَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى أَلْفٍ وَأَقَامَ هُوَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَضَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ) وَكَذَلِكَ عَلَى الْإِبْرَاءِ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَيَكُونُ مُنَاقِضًا.

وَلَنَا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى وَيَبْرَأُ مِنْهُ دَفْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالشَّغَبِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ وَقَدْ يُصَالَحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يُقْضَى، وَكَذَا إذَا قَالَ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ أَظْهَرُ (وَلَوْ قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُك لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى الْقَضَاءِ) وَكَذَا عَلَى الْإِبْرَاءِ لِتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَقَضَاءٌ وَاقْتِضَاءٌ وَمُعَامَلَةٌ بِدُونِ الْمَعْرِفَةِ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رحمه الله أَنَّهُ تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُحْتَجِبَ أَوْ الْمُخَدَّرَةَ قَدْ يُؤْذَى بِالشَّغَبِ عَلَى بَابِهِ

الِاسْتِغْرَاقِ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَضَاهُ أَوْ عَلَى الْإِبْرَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ.

وَقَالَ زُفَرُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: إنَّهَا لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ، وَقَبُولُ الْبَيِّنَةِ يَقْتَضِي دَعْوَى صَحِيحَةٍ. وَلَنَا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى وَيُبْرَأُ مِنْهُ دَفْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالشَّغَبِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ كَمَا يُقَالُ قُضِيَ بِحَقٍّ، وَقَدْ يُصَالَحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يُقْضَى، وَكَذَا إذَا قَالَ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا؛ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ لَيْسَ لِنَفْيِ الْحَالِ، فَإِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعَى بِهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ

ص: 335

فَيَأْمُرُ بَعْضَ وُكَلَائِهِ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ ثُمَّ يَعْرِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَتَهُ فَقَالَ لَمْ أَبِعْهَا مِنْك قَطُّ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ فَوَجَدَ بِهَا أُصْبُعًا زَائِدَةً فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهَا تُقْبَلُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا.

عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ قَبْلَ زَمَانِ الْحَالِ لَمْ يُتَصَوَّرْ تَنَاقُضٌ أَصْلًا.

قَالُوا: دَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَبُولِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ إمْكَانِ التَّوْفِيقِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ، وَاسْتَدَلَّ الْخَصَّافُ لِمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ بِفَصْلِ دَعْوَى الْقِصَاصِ وَالرِّقِّ فَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَمَ عَمْدٍ فَلَمَّا ثَبَتَ عَلَيْهِ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى الْإِبْرَاءِ وَالْعَفْوِ أَوْ الصُّلْحِ مَعَهُ عَلَى مَالٍ قُبِلَتْ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى رَقَبَةَ جَارِيَةٍ فَأَنْكَرَتْ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى رَقَبَتِهَا ثُمَّ أَقَامَتْ هِيَ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ أَعْتَقَهَا أَوْ كَاتَبَهَا عَلَى أَلْفٍ وَأَنَّهَا أَدَّتْ الْأَلْفَ إلَيْهِ قُبِلَتْ؛ وَلَوْ قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُك أَوْ مَا أَشْبَهَ كَقَوْلِهِ وَلَا رَأَيْتُك وَلَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَك مُخَالَطَةٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَذَا عَلَى الْإِبْرَاءِ لِتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ إذْ لَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَقَضَاءٌ وَاقْتِضَاءٌ وَمُعَامَلَةٌ بِلَا خُلْطَةٍ وَمَعْرِفَةٍ.

وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ أَيْضًا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَجِبَ أَوْ الْمُخَدَّرَةَ قَدْ يُؤْذَى بِالشَّغَبِ عَلَى بَابِهِ فَيَأْمُرُ بَعْضَ وُكَلَائِهِ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ ثُمَّ يَعْرِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ التَّوْفِيقُ مُمْكِنًا. قَالُوا: وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ يَتَوَلَّى الْأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَقِيلَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِبْرَاءِ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِلَا مَعْرِفَةٍ.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَتَهُ هَذِهِ إلَخْ) وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَتَهُ هَذِهِ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ أَبِعْهَا مِنْك قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَمْ يَحْدُثْ مِثْلُهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ وَأَرَادَ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ. ذَكَرَهَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا. وَالْخَصَّافُ أَثْبَتَهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ صُورَةِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَنْكَرَهُ أَصْلًا ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ

ص: 336

وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ اقْتِضَاءِ وَصْفِ السَّلَامَةِ إلَى غَيْرِهِ فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ الْبَيْعِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْضَى وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا عَلَى مَا مَرَّ.

قَالَ (ذِكْرُ حَقٍّ كُتِبَ فِي أَسْفَلِهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ الْحَقِّ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ كُتِبَ فِي شِرَاءٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ وَتَسْلِيمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَطَلَ الذِّكْرُ كُلُّهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ عَلَى الْخَلَاصِ وَعَلَى مَنْ قَامَ بِذِكْرِ الْحَقِّ، وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ ذَكَرَهُ فِي الْإِقْرَارِ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ لِأَنَّ الذِّكْرَ لِلِاسْتِيثَاقِ، وَكَذَا الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَادُ

قُبِلَتْ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ هَاهُنَا أَنْ يَقُولَ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا بَيْعٌ لَكِنَّهُ لَمَّا ادَّعَى عَلَيَّ الْبَيْعَ سَأَلْته أَنْ يُبَرِّئَنِي مِنْ الْعَيْبِ فَأَبْرَأَنِي. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ اقْتِضَاءِ وَصْفِ السَّلَامَةِ إلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ أَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ بِدُونِ الْمَوْصُوفِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ وَهُوَ قَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْضَى وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا عَلَى مَا مَرَّ.

قَالَ (ذِكْرُ حَقٍّ كَتَبَ فِي أَسْفَلِهِ إلَخْ) إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ وَكَتَبَ صَكًّا وَكَتَبَ فِي آخِرِهِ: وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ الْحَقِّ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ أَخْرَجَ هَذَا الصَّكَّ وَطَلَبَ مَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ فَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ كَتَبَ فِي كِتَابِ شِرَاءٍ مَا أَدْرَكَ فِيهِ فُلَانًا مِنْ دَرَكٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ وَتَسْلِيمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَطَلَ الذِّكْرُ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: الِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى قَوْلِهِ عَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ وَإِلَى مَنْ قَامَ بِذِكْرِ الْحَقِّ وَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ، وَالْمَالُ الْمُقَرُّ بِهِ لَازِمٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ؛ لِأَنَّهُ لِلِاسْتِيثَاقِ وَالتَّوْكِيدِ وَصَرْفُهُ إلَى الْجَمِيعِ مُبْطِلٌ، فَمَا فُرِضَ لِلِاسْتِيثَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ، هَذَا خُلْفٌ بَاطِلٌ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَادُ فَلَا يَكُونُ مَا فِي الصَّكِّ بَعْضُهُ مُرْتَبِطًا بِبَعْضٍ فَيَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى مَا يَلِيهِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الذِّكْرَ لِلِاسْتِيثَاقِ مُطْلَقًا، أَوْ إذَا لَمْ يَكْتُبْ فِي آخِرِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ عَيْنُ النِّزَاعِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَالُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ وَهُوَ الْعَطْفُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْكُلَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِحُكْمِ الْعَطْفِ فَيَنْصَرِفُ إلَى

ص: 337

وَلَهُ أَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِحُكْمِ الْعَطْفِ فَيُصْرَفُ إلَى الْكُلِّ كَمَا فِي الْكَلِمَاتِ الْمَعْطُوفَةِ مِثْلِ قَوْلِهِ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَلَوْ تَرَكَ فُرْجَةً قَالُوا: لَا يَلْتَحِقُ بِهِ وَيَصِيرُ كَفَاصِلِ السُّكُوتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْكُلِّ، كَمَا لَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجَمِيعِ، هَذَا إذَا كَتَبَ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا مِنْ غَيْرِ فُرْجَةٍ بِبَيَاضٍ لِيَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ الِاتِّصَالِ فِي الْكَلَامِ، وَأَمَّا إذَا تَرَكَ فُرْجَةً قُبَيْلَ قَوْلِهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ فَقَدْ قَالُوا لَا يُلْتَحَقُ بِهِ وَيَصِيرُ كَفَاصِلِ السُّكُوتِ. وَفَائِدَةُ كَتْبِهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ فِي الشُّرُوطِ إثْبَاتُ الرِّضَا مِنْ الْمُقِرِّ بِتَوْكِيلِ مَنْ يُوَكِّلُهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْخُصُومَةِ مَعَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ لَا يَصِحُّ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَكَوْنُهُ تَوْكِيلًا مَجْهُولًا لَيْسَ بِضَائِرٍ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِسْقَاطِ، فَإِنَّ لِلْمُقِرِّ أَنْ لَا يَرْضَى بِتَوْكِيلِ الْمُقَرِّ لَهُ مَنْ يُخَاصِمُ مَعَهُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ زِيَادَةِ الضَّرَرِ بِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْخُصُومَةِ، فَإِذَا رَضِيَ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ مَعَ الْجَهَالَةِ جَائِزٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ هُوَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ، إلَّا إذَا رَضِيَ بِوَكَالَةِ وَكِيلٍ مَجْهُولٍ لَا عَنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ الرِّضَا بِالْوَكَالَةِ الْمَجْهُولَةِ عِنْدَهُ لَا يَثْبُتُ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.

ص: 338

(فَصْلٌ فِي الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ)

قَالَ (وَإِذَا مَاتَ نَصْرَانِيٌّ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً وَقَالَتْ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: الْقَوْلُ قَوْلُهَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ. وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْحِرْمَانِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ فَيَثْبُتُ فِيمَا مَضَى تَحْكِيمًا لِلْحَالِ كَمَا فِي جَرَيَانِ مَاءِ

فَصْلٌ فِي الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ:

قَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِيمَا يُوجِبُ تَأْخِيرَ هَذَا الْفَصْلِ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالَ (وَإِذَا مَاتَ النَّصْرَانِيُّ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً إلَخْ) ذَكَرَ مَسْأَلَتَيْنِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ إثْبَاتُهُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهُوَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ أَمْرٍ فِي وَقْتٍ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ. وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ كَانَ ثَابِتًا فِي الْمَاضِي فَيَكُونُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ. وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ هُوَ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ فَيُحْكَمُ بِثُبُوتِهِ فِي الْمَاضِي كَجَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَهُوَ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ لَا مُثْبِتَةٌ عِنْدَنَا كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِذَا مَاتَ النَّصْرَانِيُّ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً وَقَالَتْ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ لِلْوَرَثَةِ.

وَقَالَ زُفَرُ: الْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ حَادِثٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْحَادِثُ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِذَلِكَ. وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْحِرْمَانِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ، وَكُلُّ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ يَكُونُ ثَابِتًا فِيمَا مَضَى تَحْكِيمًا لِلْحَالِ: أَيْ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ كَمَا فِي جَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ إذَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَعَاقِدَانِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا فِي الْحَالِ كَانَ الْقَوْلُ لِلْآجِرِ وَهُوَ صَاحِبُ الطَّاحُونَةِ، وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا كَانَ الْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ.

ص: 339

الطَّاحُونَةِ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ نَعْتَبِرُهُ لِلدَّفْعِ؛ وَمَا ذَكَرَهُ يَعْتَبِرُهُ لِلِاسْتِحْقَاقِ؛ وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ وَلَهُ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ فَجَاءَتْ مُسْلِمَةً بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ أَسْلَمْت قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ أَيْضًا، وَلَا يُحَكَّمُ الْحَالُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ، أَمَّا الْوَرَثَةُ فَهُمْ الدَّافِعُونَ

قَوْلُهُ: وَهَذَا) يَعْنِي تَحْكِيمَ الْحَالِ أَوْ الْحَالَ (ظَاهِرٌ نَعْتَبِرُهُ لِدَفْعِ اسْتِحْقَاقِهَا الْمِيرَاثَ) وَهُوَ صَحِيحٌ (وَهُوَ) أَعْنِي زُفَرَ (يَعْتَبِرُهُ لِلِاسْتِحْقَاقِ) وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَنَا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ زُفَرَ لَمْ يَجْعَلْ اسْتِحْقَاقَهَا لِلْمِيرَاثِ بِالْحَالِ بَلْ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحَادِثِ الْإِضَافَةُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا ظَاهِرٌ، وَالظَّاهِرُ اسْتِصْحَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ لَا يُعْتَبَرُ لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِالِاسْتِصْحَابِ كَمَا سَيَظْهَرُ (وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ وَلَهُ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ فَجَاءَتْ مُسْلِمَةً بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ أَسْلَمْت قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ أَيْضًا وَلَا يُحَكَّمُ الْحَالُ)؛ لِأَنَّ تَحْكِيمَهُ يُؤَدِّي إلَى جَعْلِهِ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ الَّذِي هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَتِمُّ الدَّلِيلُ.

وَقَوْلُهُ: (أَمَّا الْوَرَثَةُ فَهُمْ الدَّافِعُونَ) إشَارَةً إلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْهَا اجْتَمَعَ نَوْعَا

ص: 340

وَيَشْهَدُ لَهُمْ ظَاهِرُ الْحُدُوثِ أَيْضًا.

الِاسْتِصْحَابِ. أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّ نَصْرَانِيَّةَ امْرَأَةِ النَّصْرَانِيِّ كَانَتْ ثَابِتَةً فِيمَا مَضَى ثُمَّ جَاءَتْ مُسْلِمَةً وَادَّعَتْ إسْلَامًا حَادِثًا؛ فَبِالنَّظَرِ إلَى مَا كَانَتْ فِيمَا مَضَى وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَبْقَى هُوَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَبِالنَّظَرِ إلَى مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِيمَا مَضَى هُوَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي، فَلَوْ اعْتَبَرْنَا الْأَوَّلَ حَتَّى كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا كَانَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ مُثْبِتًا وَهُوَ بَاطِلٌ فَاعْتَبَرْنَا الثَّانِيَ لِيَكُونَ دَافِعًا فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ.

وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّ نَصْرَانِيَّتَهَا كَانَتْ ثَابِتَةً وَالْإِسْلَامُ حَادِثٌ، فَالنَّظَرُ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ يَقْتَضِي بَقَاءَهَا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالنَّظَرُ إلَى الْإِسْلَامِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا قَبْلَ مَوْتِهِ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَاهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ مُثْبِتًا وَهُوَ لَا يَصْلُحُ فَاعْتَبَرْنَا الْأَوَّلَ لِيَكُونَ دَافِعًا وَالْوَرَثَةُ هُمْ الدَّافِعُونَ فَيُفِيدُهُمْ الِاسْتِدْلَال بِهِ. وَقَوْلُهُ:(وَيَشْهَدُ لَهُمْ) دَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْإِسْلَامَ حَادِثٌ وَالْحَادِثُ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ ظَاهِرُ الْحُدُوثِ مُعْتَبَرٌ فِي الدَّلَالَةِ كَانَ ظَاهِرُ زُفَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مُعَارِضًا لِلِاسْتِصْحَابِ وَيَحْتَاجُ إلَى مُرَجِّحٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي الدَّفْعِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَزُفَرُ يَعْتَبِرُهُ لِلْإِثْبَاتِ. وَنُوقِضَ بِنَقْضٍ إجْمَالِيٍّ وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ عَلَى أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِثْبَاتِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا بِجَمِيعِ مُقَدِّمَاتِهِ لَمَا قُضِيَ بِالْأَجْرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إذَا كَانَ مَاءُ الطَّاحُونَةِ جَارِيًا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِهِ لِإِثْبَاتِ الْأَجْرِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ لِدَفْعِ مَا يَدَّعِي الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْآجِرِ مِنْ ثُبُوتِ الْعَيْبِ الْمُوجِبِ لِسُقُوطِ الْأَجْرِ، وَأَمَّا ثُبُوتُ الْأَجْرِ فَإِنَّهُ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ الْمُوجِبِ لَهُ

ص: 341

قَالَ (وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ هَذَا ابْنُ الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ حَقُّ الْوَارِثِ خِلَافَةً فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ حَقُّ الْمُوَرِّثِ وَهُوَ حَيٌّ أَصَالَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَكِيلُ الْمُودِعِ بِالْقَبْضِ أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ حَيْثُ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقِيَامِ حَقِّ الْمُودِعِ إذْ هُوَ حَيٌّ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى مَالِ الْغَيْرِ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، بِخِلَافِ الْمَدْيُونِ إذَا أَقَرَّ بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ (فَلَوْ قَالَ الْمُودَعُ لِآخَرَ هَذَا ابْنُهُ أَيْضًا وَقَالَ الْأَوَّلُ لَيْسَ لَهُ ابْنٌ غَيْرِي قَضَى بِالْمَالِ لِلْأَوَّلِ) لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ لِلْأَوَّلِ انْقَطَعَ يَدُهُ عَنْ الْمَالِ فَيَكُونُ هَذَا إقْرَارًا عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِلثَّانِي، كَمَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ ابْنًا مَعْرُوفًا، وَلِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فَصَحَّ، وَحِينَ أَقَرَّ لِلثَّانِي لَهُ مُكَذِّبٌ

فَيَكُونُ دَافِعًا لَا مُوجِبًا، وَاعْتَبِرْ هَذَا وَاسْتَغْنِ عَمَّا فِي النِّهَايَةِ مِنْ التَّطْوِيلِ.

قَالَ (وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً إلَخْ) رَجُلٌ مَاتَ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَأَقَرَّ الْمُودَعُ لِرَجُلٍ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ يَقْضِي الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِدَفْعِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ حَقُّ الْوَارِثِ وَمِلْكُهُ خِلَافَةً. وَمَنْ أَقَرَّ بِمِلْكِ شَخْصٍ عِنْدَهُ وَجَبَ دَفْعُهُ إلَيْهِ كَمَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ حَقُّ الْمُورَثِ وَهُوَ حَيٌّ أَصَالَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَكِيلُ الْمُودِعِ بِالْقَبْضِ أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ حَيْثُ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقِيَامِ حَقِّ الْمُودِعِ لِكَوْنِهِ حَيًّا فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى مَالِ الْغَيْرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنْ لَا يُؤْمَرَ بِالدَّفْعِ لِجَوَازِ قِيَامِ حَقِّ الْمَيِّتِ فِي الْمَآلِ بِاعْتِبَارِ مَا يُوجِبُ قِيَامَهُ فِيهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ كَالدَّيْنِ وَغَيْرِهِ: فَإِنَّ خِلَافَةَ الْوَارِثِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ ذَلِكَ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوَارِثِ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ بِيَقِينٍ، وَمَا يُوجِبُ قِيَامَ حَقِّ الْمَيِّتِ فِي الْمَآلِ مُتَوَهَّمٌ فَلَا يُؤَخَّرُ الْيَقِينُ بِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ فِي الْوَدِيعَةِ حَتَّى هَلَكَتْ هَلْ يَضْمَنُ أَوْ لَا؟ قِيلَ يَضْمَنُ، وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ وَكِيلِ

ص: 342

فَلَمْ يَصِحَّ.

الْمُودِعِ فِي زَعْمِهِ كَالْمَنْعِ مِنْ الْمُودِعِ وَفِي الْمَنْعِ عَنْهُ يَضْمَنُ فَكَذَا مِنْ وَكِيلِهِ، وَإِنْ سَلَّمَهَا هَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا؟ قِيلَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ، بِخِلَافِ الْمَدْيُونِ إذَا أَقَرَّ بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ بِالْقَبْضِ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ، بَلْ الْإِقْرَارُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، وَلَوْ أَقَرَّ الْمُودَعُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ لِرَجُلٍ آخَرَ بِأَنَّهُ أَيْضًا ابْنُ الْمَيِّتِ وَأَنْكَرَهُ الْأَوَّلُ بِأَنْ قَالَ لَيْسَ لَهُ ابْنٌ غَيْرِي قُضِيَ بِالْمَالِ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ لِلْأَوَّلِ فِي وَقْتٍ لَا مُزَاحِمَ لَهُ انْقَطَعَ يَدُهُ عَنْ الْمَالِ، فَالْإِقْرَارُ الثَّانِي يَكُونُ إقْرَارًا عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ كَمَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ ابْنًا مَعْرُوفًا؛ وَلِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ لَمْ يُكَذِّبْهُ أَحَدٌ فَصَحَّ إقْرَارُهُ، وَحِينَ أَقَرَّ لِلثَّانِي كَذَّبَهُ الْأَوَّلُ فَلَا يَصِحُّ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ تَكْذِيبَ غَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي إقْرَارِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ نِصْفِ مَا أَدَّى لِلْأَوَّلِ. وَأَجَابُوا بِالْتِزَامِ ذَلِكَ إذَا دَفَعَ الْجَمِيعَ بِلَا قَضَاءٍ كَاَلَّذِي أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ الْوَدِيعَةِ مِنْ الْقَاضِي بَعْدَمَا أَقَرَّ لِغَيْرِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي وَقَدْ

ص: 343

قَالَ (وَإِذَا قُسِمَ الْمِيرَاثُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَفِيلٌ وَلَا مِنْ وَارِثٍ وَهَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَهُوَ ظُلْمٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ وَالْإِرْثُ بِالشَّهَادَةِ وَلَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ.

تَقَدَّمَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي، وَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ كَانَ فِي الْإِقْرَارِ الثَّانِي مُكَذِّبًا شَرْعًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ بِهِ

قَالَ (وَإِذَا قَسَمَ الْمِيرَاثَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ إلَخْ) إذَا حَضَرَ رَجُلٌ وَادَّعَى دَارًا فِي يَدِ آخَرَ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ؛ فَإِمَّا أَنْ يُقِرَّ بِهِ ذُو الْيَدِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ قَالُوا تَرْكُهَا مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَلَمْ يَعْرِفُوهُمْ وَلَا عَدَدَهُمْ وَفِيهِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَلَا يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُعْرَفْ نَصِيبُ هَذَا الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ. وَالثَّانِي أَنَّهُمْ شَهِدُوا أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَارِثُهُ لَا نَعْرِفُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، وَفِيهِ يَقْضِي الْحَاكِمُ بِجَمِيعِ التَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ تَلَوُّمٍ وَهَاتَانِ بِالِاتِّفَاقِ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ مَالِكِ هَذِهِ الدَّارِ وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَقُولُوا فِي شَهَادَتِهِمْ لَا نَعْرِفُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَتَلَوَّمُ زَمَانًا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى.

وَقَدَّرَ الطَّحَاوِيُّ مُدَّةَ التَّلَوُّمِ بِالْحَوْلِ، فَإِنْ حَضَرَ وَارِثٌ غَيْرُهُ قُسِمَتْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ دَفَعَ الدَّارَ إلَيْهِ إنْ كَانَ الْحَاضِرُ مِمَّنْ لَا يُحْجَبُ حِرْمَانًا كَالْأَبِ وَالِابْنِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحْجَبُ بِغَيْرِهِ كَالْجَدِّ وَالْأَخِ فَإِنَّهُ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحْجَبُ نُقْصَانًا كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ يَدْفَعُ إلَيْهِ أَوْفَرَ النَّصِيبَيْنِ وَهُوَ النِّصْفُ وَالرُّبُعُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَأَقَلُّهُمَا وَهُوَ الرُّبُعُ وَالثُّمُنُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مُضْطَرِبٌ، فَإِذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يُحْجَبُ وَدُفِعَتْ الدَّارُ إلَيْهِ هَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِمَا دَفَعَ إلَيْهِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا يُؤْخَذُ وَنَسَبَ الْقَائِلَ بِهِ إلَى الظُّلْمِ. قِيلَ أَرَادَ بِهِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَقَالَا: لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً قَاصِرَةً. لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ لِلْغَيْبِ وَلَا نَظَرَ بِتَرْكِ الِاحْتِيَاطِ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ فَيَحْتَاطُ الْقَاضِي بِأَخْذِهِ،

ص: 344

لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ لِلْغُيَّبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي التَّرِكَةِ وَارِثًا غَائِبًا أَوْ غَرِيمًا غَائِبًا، لِأَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَقَعُ بَغْتَةً فَيُحْتَاطُ بِالْكَفَالَةِ. كَمَا إذَا دَفَعَ الْآبِقَ وَاللُّقَطَةَ إلَى

كَمَا إذَا دَفَعَ الْقَاضِي الْعَبْدَ الْآبِقَ وَاللُّقَطَةَ إلَى رَجُلٍ أَثْبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَاحِبُهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا، وَكَمَا لَوْ أَعْطَى نَفَقَةَ امْرَأَةِ الْغَائِبِ إذَا اسْتَنْفَقَتْ فِي غَيْبَتِهِ وَلَهُ عِنْدَ إنْسَانٍ وَدِيعَةٌ يُقِرُّ بِهَا الْمُودَعُ وَبِقِيَامِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَفْرِضُ لَهَا النَّفَقَةَ وَيَأْخُذُ مِنْهَا كَفِيلًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ قَطْعًا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ بِيَقِينٍ، أَوْ ظَاهِرًا إنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ فِي الْوَاقِعِ لَمْ يَظْهَرْ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ بِإِظْهَارِهِ بَلْ بِمَا ظَهَرَ عِنْدَهُ مِنْ الْحُجَّةِ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَالثَّابِتُ قَطْعًا أَوْ ظَاهِرًا لَا يُؤَخَّرُ لِمَوْهُومٍ كَمَنْ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ أَثْبَتَ الدَّيْنَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى بِيعَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي وَالدَّيْنَ إلَى الْمُدَّعِي مِنْ غَيْرِ كَفِيلٍ، وَإِنْ كَانَ حُضُورُ مُشْتَرٍ آخَرَ قَبْلَهُ وَغَرِيمٍ آخَرَ

ص: 345

صَاحِبِهِ وَأَعْطَى امْرَأَةَ الْغَائِبِ النَّفَقَةَ مِنْ مَالِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ قَطْعًا، أَوْ ظَاهِرًا فَلَا يُؤَخَّرُ لِحَقٍّ مَوْهُومٍ إلَى زَمَانِ التَّكْفِيلِ كَمَنْ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِمَّنْ فِي يَدِهِ أَوْ أَثْبَتَ الدَّيْنَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى بِيعَ فِي دَيْنِهِ لَا يَكْفُلُ، وَلِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ مَجْهُولٌ فَصَارَ كَمَا إذَا كُفِلَ لِأَحَدِ الْغُرَمَاءِ

فِي حَقِّ الْعَبْدِ مُتَوَهَّمًا فَلَا يُؤَخَّرُ حَقُّ الْحَاضِرِ لِحَقٍّ مَوْهُومٍ إلَى زَمَانِ التَّكْفِيلِ.

(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ الْكَفِيلِ، وَذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ وَهَاهُنَا الْمَكْفُولُ لَهُ مَجْهُولٌ فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ كَفَلَ لِأَحَدِ الْغُرَمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا أَقَرَّ بِهِ ذُو الْيَدِ يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ كَفَالَةٌ لِمَجْهُولٍ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ وَلَمْ يُثْبِتْ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ فَكَانَ مَظِنَّةَ أَنَّ ثَمَّةَ مَالِكًا لَا مَحَالَةَ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ يُثْبِتُ الْمَالَ وَهُوَ مَعْلُومٌ فَكَانَ التَّكْفِيلُ لَهُ. وَنَقَلَ التُّمُرْتَاشِيُّ فِيهِ خِلَافًا فَإِنْ ثَبَتَ فَلَا إشْكَالَ. لَا يُقَالُ: الْحَاكِمُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ وَلَا لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لِتَوْثِيقِ الْمُطَالَبَةِ كَمَا مَرَّ وَهِيَ مِنْ الْمَيِّتِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ.

وَعُورِضَ بِأَنَّ الْقَاضِيَ يَتَلَوَّمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا يَرَاهُ، وَفِي ذَلِكَ تَأْخِيرٌ لِحَقٍّ ثَابِتٍ قَطْعًا أَوْ ظَاهِرًا كَمَا ذَكَرْتُمْ لِحَقٍّ مَوْهُومٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ جَائِزٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّلَوُّمَ لَيْسَ لِلْحَقِّ الْمَوْهُومِ، بَلْ إنَّمَا هُوَ

ص: 346

بِخِلَافِ النَّفَقَةِ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ ثَابِتٌ وَهُوَ مَعْلُومٌ.

وَأَمَّا الْآبِقُ وَاللُّقَطَةُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ. وَقِيلَ إنْ دَفَعَ بِعَلَامَةِ اللُّقَطَةِ أَوْ إقْرَارِ الْعَبْدِ يَكْفُلُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُمْنَعَ. وَقَوْلُهُ ظُلْمٌ: أَيْ مَيْلٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَهَذَا يَكْشِفُ عَنْ مَذْهَبِهِ رحمه الله أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ لَا كَمَا ظَنَّهُ الْبَعْضُ.

قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ فُلَانٍ الْغَائِبِ قُضِيَ لَهُ بِالنِّصْفِ وَتَرَكَ النِّصْفَ الْآخَرَ فِي يَدِ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ وَلَا يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: إنْ كَانَ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ جَاحِدًا أُخِذَ مِنْهُ وَجُعِلَ فِي يَدِ أَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَجْحَدْ تُرِكَ فِي يَدِهِ)

لَهُمَا أَنَّ الْجَاحِدَ خَائِنٌ فَلَا يُتْرَكُ الْمَالُ فِي يَدِهِ، بِخِلَافِ الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ أَمِينٌ. وَلَهُ أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ لِلْمَيِّتِ مَقْصُودًا

أَمْرٌ يَفْعَلُهُ الْقَاضِي لِنَفْسِهِ احْتِيَاطًا فِي طَلَبِ زِيَادَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ شَرِيكٍ لِلْحَاضِرِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِحَيْثُ يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِ الشُّهُودِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ الشُّهُودِ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْيِ بَاطِلَةٌ بَلْ خَبَرٌ يُسْتَأْنَسُ بِهِ عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ، وَالتَّلَوُّمُ مِنْ الْقَاضِي يَقُومُ مَقَامَهُ فِي إفَادَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَلَيْسَ ثَمَّةَ طَلَبُ شَيْءٍ زَائِدٍ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ، بِخِلَافِ طَلَبِ الْكَفَالَةِ.

وَقَوْلُهُ: (بِخِلَافِ النَّفَقَةِ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ، أَمَّا مَسْأَلَةُ النَّفَقَةِ فَلِأَنَّ التَّكْفِيلَ فِيهَا لِحَقٍّ ثَابِتٍ وَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ الْحَاكِمُ مِنْ الْمَالِ مِنْ مُودَعِ الزَّوْجِ وَالْمَكْفُولُ لَهُ وَهُوَ الزَّوْجُ مَعْلُومٌ أَيْضًا فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ (وَأَمَّا الْآبِقُ وَاللُّقَطَةُ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِوَايَتَانِ) قَالَ فِي رِوَايَةٍ: لَا أُحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: أُحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا، قَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ حِينَئِذٍ.

وَقَالَ الْعَتَّابِيُّ (إنْ دَفَعَ الْعَبْدَ بِإِقْرَارِهِ إلَى الْمُدَّعِي وَاللَّقْطَةَ بِإِخْبَارِ الْمُدَّعِي عَنْ عَلَامَةٍ فِيهِ يَكْفُلُ بِالْإِجْمَاعِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (؛ لِأَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ ثَابِتٍ) وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ

ص: 347

وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ مُخْتَارَ الْمَيِّتِ ثَابِتٌ فَلَا تُنْقَضُ يَدُهُ كَمَا إذَا كَانَ مُقِرًّا وَجُحُودُهُ قَدْ ارْتَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْجُحُودِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِصَيْرُورَةِ الْحَادِثَةِ مَعْلُومَةً لَهُ وَلِلْقَاضِي، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مَنْقُولٍ فَقَدْ قِيلَ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْحِفْظِ وَالنَّزْعُ أَبْلَغُ فِيهِ،

قَوْلُهُ: وَقَوْلُهُ) أَيْ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (ظُلْمٌ: أَيْ مَيْلٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) إنَّمَا ذَكَرَهُ تَمْهِيدًا لِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (وَهَذَا) أَيْ إطْلَاقُ الظُّلْمِ عَلَى الْمُجْتَهَدِ فِيهِ (يَكْشِفُ عَنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ) وَيُقَرِّرُ أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ بَرَاءٌ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ فِي أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَادِّعَائِهِمْ أَنْ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ رحمهم الله وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَوْفًى.

قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ إلَخْ) دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخُوهُ فَلِأَنَّ الْغَائِبَ قَضَى لَهُ بِالنِّصْفِ وَتَرَكَ النِّصْفَ الْآخَرَ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ ذِي الْيَدِ كَفِيلٌ، وَهَذَا: أَيْ تَرْكُ النِّصْفِ الْآخَرِ فِي يَدِ مَنْ فِي يَدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَأَمَّا عَدَمُ الِاسْتِيثَاقِ بِالْكَفِيلِ هَاهُنَا فَبِالْإِجْمَاعِ، وَقَالَا: مَنْ فِي يَدِهِ الدَّارُ إنْ كَانَ جَاحِدًا أُخِذَ مِنْهُ النِّصْفُ الْآخَرُ وَجُعِلَ فِي يَدِ أَمِينٍ وَإِلَّا تُرِكَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدَ خَائِنٌ وَالْخَائِنُ لَا يُتْرَكُ مَالُ الْغَيْرِ فِي يَدِهِ وَالْمُقِرُّ أَمِينٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ الْمَالُ بِيَدِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ لِلْمَيِّتِ مَقْصُودًا تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ وَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْقَضَاءُ يُعْتَبَرُ فِيمَنْ الْمَقْضِيُّ بِيَدِهِ كَوْنُهُ مُخْتَارًا لَهُ وَهُوَ ثَابِتٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا تُنْقَضُ يَدُهُ بِيَدِ مَنْ هُوَ غَيْرُ مُخْتَارٍ لَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَالِ بِيَدِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ بِاخْتِيَارِ الْمَيِّتِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ، وَاحْتِمَالُ ذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ فَاكْتُفِيَ بِهِ كَمَا إذَا كَانَ مَنْ بِيَدِهِ مُقِرًّا فَإِنَّهُ إنَّمَا يُتْرَكُ الْبَاقِي بِيَدِهِ كَذَلِكَ (قَوْلُهُ: وَجُحُودُهُ) جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرَاهُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْخِيَانَةَ بِالْجُحُودِ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِاعْتِبَارِ مَا مَضَى أَوْ مَا سَيَأْتِي، وَالْأَوَّلُ قَدْ ارْتَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَكَذَا لَازِمُهُ. وَالثَّانِي ظَاهِرُ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَةَ لَمَّا صَارَتْ مَعْلُومَةً لِلْقَاضِي وَلِمَنْ بِيَدِهِ ذَلِكَ، وَكُتِبَتْ فِي الْخَرِيطَةِ الظَّاهِرُ أَنْ لَا يَجْحَدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ الْفَائِدَةِ. لَا يُقَالُ: مَوْتُ الْقَاضِي وَالشُّهُودِ وَنِسْيَانُهُمَا لِلْحَادِثَةِ وَاحْتِرَاقُ الْخَرِيطَةِ أُمُورٌ مُحْتَمَلَةٌ فَكَانَ الْجُحُودُ مُحْتَمَلًا؛؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ (وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مَنْقُولٍ) وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا

ص: 348

بِخِلَافِ الْعَقَارِ لِأَنَّهَا مُحَصَّنَةٌ بِنَفْسِهَا وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ بَيْعَ الْمَنْقُولِ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ دُونَ الْعَقَارِ، وَكَذَا حُكْمُ وَصِيِّ الْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ عَلَى الصَّغِيرِ.

وَقِيلَ الْمَنْقُولُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِيهِ أَظْهَرُ لِحَاجَتِهِ إلَى الْحِفْظِ، وَإِنَّمَا لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ خُصُومَةٍ وَالْقَاضِي إنَّمَا نُصِبَ لِقَطْعِهَا لَا لِإِنْشَائِهَا، وَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ وَيُسَلَّمُ النِّصْفُ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ

فَقَدْ قِيلَ يُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ) النِّصْفُ الْآخَرُ (بِالِاتِّفَاقِ) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَقَارِ أَنَّ الْمَنْقُولَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْحِفْظِ، وَمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْحِفْظِ فَالنَّزْعُ أَبْلَغُ فِيهِ، أَمَّا أَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْحِفْظِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ بِنَفْسِهِ لِقَبُولِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ، أَوْ مَا أَنَّ النَّزْعَ أَبْلَغُ فِيهِ فَلِأَنَّ النَّزْعَ أَبْلَغُ فِي الْحِفْظِ؛؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَهُ مَنْ بِيَدِهِ رُبَّمَا يَتَصَرَّفُ لِخِيَانَتِهِ أَوْ لِزَعْمِهِ أَنَّهُ مَلَكَهُ، وَإِذَا نَزَعَهُ الْحَاكِمُ وَوَضَعَهُ فِي يَدِ أَمِينٍ كَانَ هُوَ عَدْلًا ظَاهِرًا فَكَانَ الْمَالُ بِهِ مَحْفُوظًا (بِخِلَافِ الْعَقَارِ فَإِنَّهَا مُحْصَنَةٌ بِنَفْسِهَا وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ بَيْعَ الْمَنْقُولِ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ دُونَ الْعَقَارِ، وَكَذَا وَصِيُّ الْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ عَلَى الصَّغِيرِ) وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ وَلَهُمْ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَهَذَا مِنْ بَابِهِ (وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ الْمَنْقُولُ أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ أَظْهَرُ) بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَاجَتِهِ إلَى الْحِفْظِ، فَإِذَا تُرِكَ فِي يَدِهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَلَوْ أَخَذَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى الَّذِي يَضَعُهُ الْقَاضِي فِي يَدِهِ فَكَانَ التَّرْكُ أَبْلَغَ فِي الْحِفْظِ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ مَا قِيلَ إنَّهُ لَمَّا جَحَدَ مَنْ فِي يَدِهِ رُبَّمَا يَتَصَرَّفُ لِخِيَانَتِهِ أَوْ لِزَعْمِهِ أَنَّهُ مَلَكَهُ سَاقِطًا لِعِبْرَةٍ نَظَرًا إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ عِلْمِ الْقَاضِي وَطَائِفَةٍ مِنْ النَّاسِ وَكِتَابَتِهِ فِي الْخَرِيطَةِ. وَذَلِكَ ثَابِتٌ مُقْتَضٍ ثُبُوتَ الْخِلَافِ فِي الْعَقَارِ فَسَقَطَ الْفَرْقُ (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْخَذْ الْكَفِيلُ) رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ وَلَا يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ. وَمَعْنَاهُ أَخْذُ الْكَفِيلِ إنْشَاءُ خُصُومَةٍ؛؛ لِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ الْبَاقِي قَدْ لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِإِعْطَائِهِ وَالْقَاضِي يُطَالِبُهُ بِهِ فَيُنْشِئُ الْخُصُومَةَ وَالْقَاضِي لَمْ يُنَصَّبْ لِإِنْشَائِهَا بَلْ لِقَطْعِهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يُنَصَّبْ لِذَلِكَ فَلْيَكُنْ الْخَصْمُ هُوَ الْحَاضِرَ يُطَالِبُهُ بِالْكَفِيلِ وَالْقَاضِي يَقْطَعُهَا بِحُكْمِهِ بِإِعْطَائِهِ. قُلْت: يُجْعَلُ تَرْكِيبُ الدَّلِيلِ هَكَذَا طَلَبُ الْكَفِيلِ هَاهُنَا إنْشَاءُ خُصُومَةٍ هُوَ مَشْرُوعٌ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَرَفْعِهَا فَمَا فَرَضْنَاهُ رَافِعًا لِشَيْءٍ كَانَ مُنْشِئًا لَهُ هَذَا خُلْفٌ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ) اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي

ص: 349

يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ لَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَعَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْمَيِّتُ فِي الْحَقِيقَةِ وَوَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ يَصْلُحُ خَلِيفَةٌ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَوْفِي إلَّا نَصِيبَهُ وَصَارَ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ، الْكُلِّ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ إذَا كَانَ الْكُلُّ فِي يَدِهِ.

ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ خَصْمًا بِدُونِ الْيَدِ فَيَقْتَصِرُ الْقَضَاءُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ.

وُجُوبِ إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ إذَا حَضَرَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْقِصَاصِ إذَا أَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ عَمْدًا ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ، قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ (لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ لِلْمَيِّتِ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ) إنْ كَانَ الْكُلُّ بِيَدِهِ كَمَا سَيَجِيءُ (دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَعَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَيِّتُ) لِمَا ذَكَرْنَا (وَوَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ يَصْلُحُ خَلِيفَةً عَنْهُ فِي ذَلِكَ) كَالْوَكِيلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ إذَا غَابَ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُخَاصِمَ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى أَحَدِهِمْ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمْ دَيْنًا لِلْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْكُلِّ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَلَحَ أَحَدُهُمْ لِلْخِلَافَةِ لَكَانَ كَالْمَيِّتِ وَجَازَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْجَمِيعِ كَالْمَيِّتِ لَكِنْ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ سِوَى نَصِيبِهِ بِالْإِجْمَاعِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فَلْيَكُنْ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي نَصِيبِهِ وَنَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ فِيمَا زَادَ وَلَا مَحْظُورَ فِيهِ.

وَجَوَابُهُ أَنَّ السَّائِلَ قَالَ: لَكِنْ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ سِوَى نَصِيبِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ، وَقَوْلُهُ:(وَصَارَ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ) أَيْ بِدَيْنٍ لِلْمَيِّتِ أَوْ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ وَوَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ يَصْلُحُ خَلِيفَةً عَنْهُ وَتَقْرِيرُهُ مَا مَرَّ وَقَوْلُهُ: (إلَّا أَنَّهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا إلَى قَوْلِهِ لَهُ وَعَلَيْهِ: يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى أَحَدٌ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ يَكُونُ خَصْمًا عَنْ جَمِيعِ الدَّيْنِ إنْ كَانَ جَمِيعُ التِّرْكَةِ بِيَدِهِ، ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ وَإِلَّا كَانَ خَصْمًا عَمَّا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ خَصْمًا بِدُونِ الْيَدِ فَيَقْتَصِرُ الْقَضَاءُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ.

ص: 350

قَالَ (وَمَنْ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِالْكُلِّ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ رحمه الله لِعُمُومِ اسْمِ الْمَالِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ.

قَالَ (وَمَنْ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ إلَخْ) رَجُلٌ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ كَالنَّقْدَيْنِ وَالسَّوَائِمِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ بَلَغَ النِّصَابَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ جِنْسُ مَالِ الزَّكَاةِ وَالْقَلِيلُ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالُوا إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، فَإِنْ قَضَى بِهِ دَيْنَهُ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِقَدْرِهِ عِنْدَ تَمَلُّكِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ جِنْسُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ وَلَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَجِبُ فِي جِنْسِهَا الزَّكَاةُ كَالْعَقَارِ وَالرَّقِيقِ وَأَثَاثِ الْمَنَازِلِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (وَإِنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْقِيَاسُ) فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا (أَنْ يَقَعَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ بِهِ زُفَرُ)؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمَالِ عَامٌّ

ص: 351

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْصَرِفُ إيجَابُهُ إلَى مَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ فِيهِ الصَّدَقَةَ مِنْ الْمَالِ.

أَمَّا الْوَصِيَّةُ فَأُخْتُ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهَا خِلَافَةٌ كَهِيَ فَلَا يَخْتَصُّ مَالٌ دُونَ مَالٍ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ الْتِزَامُ الصَّدَقَةِ مِنْ فَاضِلِ مَالِهِ وَهُوَ مَالُ الزَّكَاةِ، أَمَّا الْوَصِيَّةُ تَقَعُ فِي حَالِ الِاسْتِغْنَاءِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ وَتَدْخُلُ فِيهِ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِأَنَّهَا سَبَبُ الصَّدَقَةِ، إذْ جِهَةُ الصَّدَقَةِ فِي الْعُشْرِيَّةِ رَاجِحَةٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا تَدْخُلُ لِأَنَّهَا سَبَبُ

يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ.

(وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ) إذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ مُسْتَبِدًّا بِهِ لِئَلَّا يَنْزِعَ إلَى الشَّرِكَةِ وَإِيجَابِ الشَّرْعِ فِي الْمَالِ مِنْ الصَّدَقَاتِ مُضَافٌ إلَى أَمْوَالٍ خَاصَّةٍ، فَكَذَا إيجَابُ الْعَبْدِ، وَلَا يَرِدُ الِاعْتِكَافُ حَيْثُ لَمْ يُوجَبْ فِي الشَّرْعِ مِنْ جِنْسِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَبِثَ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ عِبَادَةً وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لِانْتِظَارِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا اُخْتُصَّ بِمَسْجِدِ جَمَاعَةٍ، وَالْمُنْتَظِرُ لِلصَّلَاةِ كَأَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ (أَمَّا الْوَصِيَّةُ فَهِيَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهَا خِلَافَةٌ كَالْوِرَاثَةِ) مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ بَعْدَ الْمَوْتِ (وَلَا يَخْتَصُّ الْمِيرَاثُ بِمَالٍ دُونَ مَالٍ) فِي الشَّرْعِ فَكَذَا الْوَصِيَّةُ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ) دَلِيلٌ آخَرُ: يَعْنِي أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ النَّاذِرِ (الْتِزَامُ الصَّدَقَةِ مِنْ فَاضِلِ مَالِهِ وَهُوَ مَالُ الزَّكَاةِ)؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ إلَى مَا تَقُومُ بِهِ حَوَائِجُهُ الْأَصْلِيَّةُ فَيَخْتَصُّ النَّذْرُ بِمَالِ الزَّكَاةِ. (أَمَّا الْوَصِيَّةُ فَإِنَّهَا تَقَعُ فِي حَالِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْأَمْوَالِ فَتَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ، وَالْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ تَدْخُلُ فِي النَّذْرِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ الصَّدَقَةِ إذْ جِهَةُ الصَّدَقَةِ عِنْدَهُ رَاجِحَةٌ) فِي الْعُشْرِ فَصَارَتْ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ كَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ (وَلَا تَدْخُلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْأَرْضَ الْعُشْرِيَّةَ وَالتَّذْكِيرُ لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ (سَبَبُ الْمُؤْنَةِ إذْ جِهَةُ الْمُؤْنَةِ رَاجِحَةٌ عِنْدَهُ) فَصَارَتْ مِثْلَ عَبْدِ الْخِدْمَةِ (وَأَمَّا الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ

ص: 352

الْمُؤْنَةِ، إذْ جِهَةُ الْمُؤْنَةِ رَاجِحَةٌ عِنْدَهُ، وَلَا تَدْخُلُ أَرْضُ الْخَرَاجِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَتَمَحَّضُ مُؤْنَةً.

وَلَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ فَقَدْ قِيلَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَالٍ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ لَفْظِ الْمَالِ. وَالْمُقَيَّدُ إيجَابُ الشَّرْعِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِلَفْظِ الْمَالِ فَلَا مُخَصِّصَ فِي لَفْظِ الْمِلْكِ فَبَقِيَ عَلَى الْعُمُومِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ بِاللَّفْظَيْنِ الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ عَلَى مَا مَرَّ،

فَلَا تَدْخُلُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَحَّضُ مُؤْنَةً)؛ لِأَنَّ مَصْرِفَهُ الْمُقَاتِلَةُ وَفِيهِمْ الْأَغْنِيَاءُ (وَلَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةً فِي الْمَسَاكِينِ فَقَدْ قِيلَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَالٍ) زَكَوِيًّا أَوْ غَيْرَهُ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، ذَكَرَهَا فِي الْأَمَالِي؛ لِأَنَّ مَا أَمْلِكُ أَعَمُّ مِنْ مَالِي؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ وَغَيْرِهِ، يُقَالُ مِلْكُ النِّكَاحِ وَمِلْكُ الْقِصَاصِ وَمِلْكُ النَّفَقَةِ، وَالْمَالُ لَا يُطْلَقُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِذَا كَانَ أَعَمَّ يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ أَيْضًا إظْهَارًا لِزِيَادَةِ عُمُومِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الصَّدَقَةُ بِالْأَمْوَالِ مُقَيَّدَةٌ فِي الشَّرْعِ بِأَمْوَالِ الزَّكَاةِ فَزِيَادَةُ التَّعْمِيمِ خُرُوجٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ الْوَاجِبِ الرِّعَايَةِ.

أَجَابَ (بِأَنَّ الْمُقَيَّدَ إيجَابُ الشَّرْعِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِلَفْظَةِ الْمَالِ وَلَا مُخَصِّصَ فِي لَفْظَةِ الْمِلْكِ فَيَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ) وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ إيجَابُ الْعَبْدِ مُعْتَبَرًا بِإِيجَابِ الشَّرْعِ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا) أَيْ لَفْظَ مَالِي وَمَا أَمْلِكُ (سَوَاءٌ) فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَيَخْتَصَّانِ بِالْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ (؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ بِاللَّفْظَيْنِ الْفَاضِلَ عَنْ الْحَاجَةِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: إنَّ قَوْلَهُ (عَلَى مَا مَرَّ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَ مِنْ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ بِقَوْلِهِ إنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى

ص: 353

(ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى مَا دَخَلَ تَحْتَ الْإِيجَابِ يُمْسِكُ مِنْ ذَلِكَ قُوتَهُ، ثُمَّ إذَا أَصَابَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِ مَا أَمْسَكَ) لِأَنَّ حَاجَتَهُ هَذِهِ مُقَدَّمَةٌ وَلَمْ يُقَدِّرْ مُحَمَّدٌ بِشَيْءٍ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ.

وَقِيلَ الْمُحْتَرِفُ يُمْسِكُ قُوتَهُ لِيَوْمٍ وَصَاحِبُ الْغَلَّةِ لِشَهْرٍ وَصَاحِبُ الضِّيَاعِ لِسَنَةٍ عَلَى حَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي مُدَّةِ وُصُولِهِمْ إلَى الْمَالِ، وَعَلَى هَذَا صَاحِبُ التِّجَارَةِ يُمْسِكُ بِقَدْرِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مَالُهُ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْوَصِيَّةَ حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ) فَهُوَ وَصِيٌّ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَكِيلِ حَتَّى يَعْلَمَ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا لِأَنَّ الْوِصَايَةَ إنَابَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتُعْتَبَرُ بِالْإِنَابَةِ قَبْلَهُ وَهِيَ الْوَكَالَةُ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ لِإِضَافَتِهَا

وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ ذَلِكَ الْوَجْهَ بِقَوْلِهِ وَالْمُقَيَّدُ إيجَابُ الشَّرْعِ وَهُوَ لَفْظُ الْمَالِ، وَلَعَلَّهُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ الْتِزَامُ الصَّدَقَةِ مِنْ فَاضِلِ مَالِهِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فَارْجِعْ إلَيْهِ (ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى مَا دَخَلَ تَحْتَ الْإِيجَابِ يُمْسِكُ مِنْ ذَلِكَ قُوتَهُ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ هَذِهِ مُقَدَّمَةٌ) إذْ لَوْ لَمْ يُمْسِكْ لَاحْتَاجَ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ مِنْ يَوْمِهِ وَقَبِيحٌ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَيَسْأَلَ النَّاسَ مِنْ يَوْمِهِ (ثُمَّ إذَا أَصَابَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِمَا أَمْسَكَ وَلَمْ يُبَيِّنْ مُحَمَّدٌ) فِي الْمَبْسُوطِ (مِقْدَارَ مَا يُمْسِكُ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ) بِكَثْرَةِ الْعِيَالِ وَقِلَّتِهَا (وَقِيلَ الْمُحْتَرِفُ يُمْسِكُ قُوتَ يَوْمِهِ)؛ لِأَنَّ يَدَهُ تَصِلُ إلَى مَا يُنْفِقُ يَوْمًا فَيَوْمًا (وَصَاحِبُ الْغَلَّةِ) وَهُوَ صَاحِبُ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْبُيُوتِ الَّتِي يُؤَجِّرُهَا الْإِنْسَانُ (لِشَهْرٍ) لِأَنَّ يَدَهُ تَصِلُ إلَى مَا يُنْفِقُ شَهْرًا فَشَهْرًا (صَاحِبُ الضَّيَاعِ لِسَنَةٍ)؛ لِأَنَّ يَدَ الدِّهْقَانِ تَصِلُ إلَى مَا يُنْفِقُ سَنَةً فَسَنَةً (وَصَاحِبُ التِّجَارَةِ يُمْسِكُ بِقَدْرِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مَالُهُ) وَفِي إيرَادِ مَسْأَلَةِ النَّذْرِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ فَصْلِ الْقَضَاءِ فِي الْمَوَارِيثِ نَظَرٌ، وَلَعَلَّهُ ذَكَرَهَا بِاعْتِبَارِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ الَّتِي هِيَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ إلَخْ) وَجْهُ إيرَادِ مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ فِي الْمَوَارِيثِ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا. وَمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوِصَايَةِ حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ

ص: 354

إلَى زَمَانِ بُطْلَانِ الْإِنَابَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي تَصَرُّفِ الْوَارِثِ.

أَمَّا الْوَكَالَةُ فَإِنَابَةٌ لِقِيَامِ وِلَايَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ لَا يَفُوتُ النَّظَرُ لِقُدْرَةِ الْمُوَكَّلِ، وَفِي الْأَوَّلِ يَفُوتُ لِعَجْزِ الْمُوصِي (وَمَنْ أَعْلَمَهُ مِنْ النَّاسِ بِالْوَكَالَةِ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ) لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ لَا إلْزَامُ أَمْرٍ.

قُلْ (وَلَا يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: هُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَبِالْوَاحِدِ فِيهَا كِفَايَةٌ.

التَّرِكَةِ فَهُوَ وَصِيٌّ وَبَيْعُهُ جَائِزٌ، وَإِذَا وُكِّلَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوَكَالَةِ حَتَّى بَاعَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْإِنَابَةِ: أَيْ النِّيَابَةِ جَامِعٌ، فَإِنَّ الْوِصَايَةَ إنَابَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْوَكَالَةَ إنَابَةٌ قَبْلَهُ، وَكَمَا لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ قَبْلَ الْعِلْمِ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ قَبْلَهُ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ لَا نِيَابَةٌ؛ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إلَى زَمَانِ بُطْلَانِ النِّيَابَةِ، وَالْخِلَافَةُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ فِي التَّصَرُّفِ كَمَا إذَا تَصَرَّفَ الْوَارِثُ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِ الْمُورَثِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ، بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهَا إنَابَةٌ لِقِيَامِ وِلَايَةِ الْمُسْتَنِيبِ، وَالْإِنَابَةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ تَوَقَّفَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَفُتْ النَّظَرُ لِقُدْرَةِ الْمُوَكِّلِ، وَفِي الْأَوَّلِ لَوْ تَوَقَّفَتْ عَلَى عِلْمِهِ فَاتَ لِعَجْزِ الْمُوصِي. فَإِنْ قِيلَ: إذَا قَالَ لِرَجُلٍ اشْتَرِ عَبْدِي مِنْ فُلَانٍ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَذَا الْقَوْلِ فُلَانٌ وَبَاعَ عَبْدَهُ صَحَّ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى عِلْمِهِ.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى رِوَايَةِ الْجَوَازِ أَنَّهُ ثَبَتَ ضِمْنًا، وَالْكَلَامُ فِي الْوَكَالَةِ يَثْبُتُ قَصْدًا، وَهَذَا كَمَا إذَا قَالَ بَايِعُوا عَبْدِي وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْعَبْدُ فَإِنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ فِي إحْدَاهُمَا صَحَّ تَصَرُّفُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ لِثُبُوتِهِ ضِمْنًا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عِلْمَ الْوَكِيلِ

ص: 355

وَلَهُ أَنَّهُ خَبَرٌ مُلْزِمٌ فَيَكُونُ شَهَادَةً مِنْ وَجْهٍ فَيُشْتَرَطُ أَحَدُ شَطْرَيْهَا وَهُوَ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْمُوَكَّلِ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِرْسَالِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أُخْبِرَ الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ

بِالْوَكَالَةِ شَرْطُ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامٍ، فَمَنْ أَعْلَمَهُ مِنْ النَّاسِ بِذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ بَالِغًا مُسْلِمًا عَدْلًا أَوْ عَلَى أَضْدَادِ ذَلِكَ بَعْدَمَا كَانَ مُمَيِّزًا جَازَ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ لَا إلْزَامُ أَمْرٍ: أَيْ إطْلَاقٌ مَحْضٌ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْإِلْزَامِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ كَافٍ.

وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْوَكَالَةِ فَلَا يَثْبُتُ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: هُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُعَامَلَاتِ، وَجِنْسُهَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْفَاسِقِ كَالْوَكَالَةِ وَإِذْنِ الْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خَبَرٌ مُلْزِمٌ، أَمَّا أَنَّهُ خَبَرٌ فَلِأَنَّهُ كَلَامٌ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ يَحْصُلُ بِهِ الْإِعْلَامُ، وَأَمَّا أَنَّهُ مُلْزِمٌ فَلِأَنَّهُ يَنْفِي جَوَازَ التَّصَرُّفِ بَعْدَهُ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ خَبَرًا كَالْخَبَرِ بِالتَّوْكِيلِ وَالْإِذْنِ وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهَا، وَبِالنَّظَرِ إلَى مَا فِيهِ مِنْ نَوْعِ إلْزَامٍ كَانَ فِي مَعْنَاهَا فَيُشْتَرَطُ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ عَمَلًا بِالْوَجْهَيْنِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلْزَامٌ أَصْلًا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهَا أَصْلًا فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِرْسَالِ، إذْ رُبَّمَا لَا يَتَّفِقُ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ بَالِغٌ عَدْلٌ يُرْسِلُهُ إلَى وَكِيلِهِ (قَوْلُهُ: وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ) يَعْنِي الَّذِي ذَكَرَهُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي اشْتِرَاطِ أَحَدِ شَطْرَيْهَا فِيمَا فِيهِ إلْزَامٌ الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ.

قَالَ فِي النِّهَايَةِ إنَّهَا سِتُّ مَسَائِلَ ثَلَاثٌ مِنْهَا ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ فِي الْمَبْسُوطِ وَاثْنَتَانِ ذَكَرَهُمَا فِي النَّوَادِرِ، وَالسَّادِسَةُ قَاسَهَا الْمَشَايِخُ عَلَيْهَا، وَالْمُصَنِّفُ تَرَكَ مِنْهَا مَسْأَلَةً. أَمَّا الْأُولَى فَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ عَزْلِ الْوَكِيلِ. وَالثَّانِيَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْمَبْسُوطِ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِالْحَجْرِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ عَدْلٌ أَوْ اثْنَانِ ثَبَتَ الْحَجْرُ صُدِّقَ الْعَبْدُ أَوْ كُذِّبَ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا وَكَذَّبَهُ ثَبَتَ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ وَقَيَّدَ بِتِلْقَاءِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّسُولِ

ص: 356

وَالشَّفِيعُ وَالْبِكْرُ وَالْمُسْلِمُ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا.

قَالَ (وَإِذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ عَبْدًا لِلْغُرَمَاءِ وَأَخَذَ الْمَالَ فَضَاعَ وَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ لَمْ يَضْمَنْ) لِأَنَّ أَمِينَ الْقَاضِي قَائِمٌ مَقَامَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي مَقَامَ الْإِمَامِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَلْحَقُهُ ضَمَانٌ كَيْ لَا يَتَقَاعَدُ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ فَيُضَيِّعُ الْحُقُوقَ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغُرَمَاءِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ وَاقِعٌ لَهُمْ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرُّجُوعِ عَلَى الْعَاقِدِ، كَمَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُبَاعُ بِطَلَبِهِمْ

حُكْمُ مُرْسِلِهِ كَمَا مَرَّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا. وَالثَّالِثَةُ الْعَبْدُ الْجَانِي إذَا أَخْبَرَ الْمَوْلَى بِجِنَايَتِهِ اثْنَانِ أَوْ وَاحِدٌ عَدْلٌ فَتَصَرَّفَ فِيهِ بَعْدَهُ بِعِتْقٍ أَوْ بَيْعٍ كَانَ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِلْفِدَاءِ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ وَصَدَّقَهُ فَكَذَلِكَ، وَإِلَّا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا خِلَافًا لَهُمَا.

وَأُولَى النَّوَادِرِ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إذَا أَخْبَرَهُ اثْنَانِ أَوْ عَدْلٌ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْفَرَائِضِ لَزِمَتْهُ وَبِتَرْكِهَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ وَكَذَّبَهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ جَعَلَهُ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَلْزَمَهُ. وَثَانِيهَا الشَّفِيعُ إذَا أَخْبَرَهُ اثْنَانِ أَوْ عَدْلٌ بِالْبَيْعِ فَسَكَتَ سَقَطَتْ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ بِهِ وَكَذَّبَهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ.

وَالسَّادِسَةُ إذَا بَلَغَ الْبِكْرَ تَزْوِيجُ الْوَلِيِّ فَسَكَتَتْ فَإِنْ أَخْبَرَهَا اثْنَانِ أَوْ عَدْلٌ كَانَ رِضًا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ أَخْبَرَهَا فَاسِقٌ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ.

قَالَ (وَإِذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ عَبْدًا لِلْغُرَمَاءِ) إذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ عَبْدًا لِلْمَيِّتِ لِأَجْلِ أَصْحَابِ الدُّيُونِ (وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَضَاعَ الثَّمَنُ وَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ لَمْ يَضْمَنْ) الْعَاقِدُ وَهُوَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ (؛ لِأَنَّ أَمِينَ الْقَاضِي قَائِمٌ مَقَامَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي قَائِمٌ مَقَامَ الْإِمَامِ، وَالْإِمَامُ لَا يَضْمَنُ كَيْ لَا يَتَقَاعَدَ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ فَتَضِيعَ الْحُقُوقُ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَاقِعٌ لَهُمْ وَلِهَذَا يُبَاعُ بِطَلَبِهِمْ) وَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْبَيْعُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي إذَا تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ عَلَى الْعَاقِدِ (كَمَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ) صَبِيًّا مَحْجُورًا أَوْ عَبْدًا (مَحْجُورًا عَلَيْهِ) وَهَاهُنَا قَدْ تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ عَلَى الْعَاقِدِ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغُرَمَاءِ. (فَإِنْ

ص: 357

(وَإِنْ أَمَرَ الْقَاضِي الْوَصِيَّ بِبَيْعِهِ لِلْغُرَمَاءِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَضَاعَ الْمَالُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَصِيِّ) لِأَنَّهُ عَاقِدٌ نِيَابَةً عَنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ بِإِقَامَةِ الْقَاضِي عَنْهُ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ بِنَفْسِهِ.

قَالَ (وَرَجَعَ الْوَصِيُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ) لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُمْ، وَإِنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ فِيهِ بِدَيْنِهِ. قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَرْجِعُ بِالْمِائَةِ الَّتِي غَرِمَهَا أَيْضًا لِأَنَّهُ لَحِقَهُ فِي أَمْرِ الْمَيِّتِ، وَالْوَارِثُ إذَا بِيعَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ كَانَ الْعَاقِدُ عَامِلًا لَهُ.

فَصْلٌ آخَرُ.

أَمَرَ الْقَاضِي الْوَصِيَّ بِبَيْعِ الْعَبْدِ لِلْغُرَمَاءِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَضَاعَ الثَّمَنُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَصِيِّ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ نِيَابَةً) فَإِنْ أَوْصَى إلَيْهِ الْمَيِّتُ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ أَقَامَهُ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا أَقَامَهُ نَائِبًا عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَنْ نَفْسِهِ، وَعَقْدُ النَّائِبِ كَعَقْدِ الْمَنُوبِ عَنْهُ (فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ) الْمَيِّتُ (بِنَفْسِهِ) فِي حَيَاتِهِ وَفِي ذَلِكَ كَانَ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ فَهَا هُنَا يَرْجِعُ عَلَى مَنْ قَامَ مَقَامَهُ (ثُمَّ يَرْجِعُ الْوَصِيُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُمْ وَإِنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ فِيهِ بِدَيْنِهِ) أَيْ يَأْخُذُ دَيْنَهُ مِنْ ذَلِكَ وَهَلْ يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ لِلْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ (قَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ لَحِقَهُ فِي أَمْرِ الْمَيِّتِ) وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا ضَمِنَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى غَيْرِهِ وَالْوَارِثُ إذَا بِيعَ لَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ كَانَ الْعَاقِدُ عَامِلًا لَهُ).

(فَصْلٌ آخَرُ)

ص: 358

فَصْلٌ

(وَإِذَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَضَيْت عَلَى هَذَا بِالرَّجْمِ فَارْجُمْهُ أَوْ بِالْقَطْعِ فَاقْطَعْهُ أَوْ بِالضَّرْبِ فَاضْرِبْهُ وَسِعَك أَنْ تَفْعَلَ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا وَقَالَ: لَا تَأْخُذْ بِقَوْلِهِ حَتَّى تُعَايِنَ الْحُجَّةَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ وَالْخَطَأَ وَالتَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُقْبَلُ كِتَابُهُ. وَاسْتَحْسَنَ الْمَشَايِخُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لِفَسَادِ حَالِ أَكْثَرِ الْقُضَاةِ فِي زَمَانِنَا إلَّا فِي كِتَابِ الْقَاضِي لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ.

وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أُخْبِرَ عَنْ أَمْرٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيُقْبَلُ لِخُلُوِّهِ عَنْ التُّهْمَةِ، وَلِأَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ وَاجِبَةٌ، وَفِي تَصْدِيقِهِ طَاعَةٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ رحمه الله: إنْ كَانَ عَدْلًا عَالِمًا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِانْعِدَامِ تُهْمَةِ الْخَطَإِ وَالْخِيَانَةِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَاهِلًا يُسْتَفْسَرُ، فَإِنْ أَحْسَنَ التَّفْسِيرَ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَاسِقًا أَوْ عَالِمًا فَاسِقًا لَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يُعَايِنَ سَبَبَ الْحُكْمِ لِتُهْمَةِ الْخَطَإِ وَالْخِيَانَةِ.

جَمَعَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً يَجْمَعُهُمَا أَصْلٌ وَاحِدٌ يَتَعَلَّقُ بِكِتَابِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي بِانْفِرَادِهِ قَبْلَ الْعَزْلِ وَبَعْدَهُ مَقْبُولٌ أَوَّلًا.

قَالَ (وَإِذَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَضَيْت إلَخْ) إذَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَضَيْت عَلَى هَذَا بِالرَّجْمِ فَارْجُمْهُ أَوْ بِالْقَطْعِ فَاقْطَعْهُ أَوْ بِالضَّرْبِ فَاضْرِبْهُ وَسِعَك أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا وَقَالَ: لَا تَأْخُذْ بِقَوْلِهِ مَا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ بِحَضْرَتِك، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ وَالتَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَاسْتَحْسَنَ الْمَشَايِخُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لِفَسَادِ حَالِ قُضَاةِ زَمَانِنَا، وَهِيَ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُقْبَلَ كِتَابُهُ

ص: 359

قَالَ (وَإِذَا عُزِلَ الْقَاضِي فَقَالَ لِرَجُلٍ أَخَذْتُ مِنْك أَلْفًا وَدَفَعْتهَا إلَى فُلَانٍ قَضَيْتُ بِمَا عَلَيْك فَقَالَ الرَّجُلُ أَخَذْتَهَا ظُلْمًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي، وَكَذَا لَوْ قَالَ قَضَيْت بِقَطْعِ يَدِك فِي حَقٍّ، هَذَا إذَا كَانَ الَّذِي قُطِعَتْ يَدُهُ وَاَلَّذِي أُخِذَ مِنْهُ الْمَالُ مُقِرَّيْنِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ قَاضٍ) وَوَجْهُهُ أَنَّهُمَا لَمَّا تَوَافَقَا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي قَضَائِهِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ.

أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوهَا فِيهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ.

وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ أَخْبَرَ عَمَّا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إنْشَاءِ الْقَضَاءِ، وَمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِنْشَاءِ عَمَّا أَخْبَرَ بِهِ لَمْ يُتَّهَمْ فِي خَبَرِهِ، وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ أَوْ بِدُونِهَا. وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَالْأَوَّلُ يَجُرُّ إلَى غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ مُعَايَنَةِ الْحُجَّةِ، وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ وَطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ وَاجِبَةٌ وَفِي تَصْدِيقِهِ طَاعَتُهُ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْسَارٍ، وَقَالُوا بِهِ إذَا كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا فَقِيهًا، وَعَلَى هَذَا تَتَأَتَّى الْأَقْسَامُ الْعَقْلِيَّةُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ، فَإِنْ كَانَ عَدْلًا عَالِمًا يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِعَدَمِ تُهْمَةِ الْخَطَإِ لِعِلْمِهِ وَالْخِيَانَةِ لِعَدَالَتِهِ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِفْسَارِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَاهِلًا يَسْتَفْسِرُ عَنْ قَضَائِهِ لِبَقَاءِ تُهْمَةِ الْخَطَأِ، فَإِنْ أَحْسَنَ تَفْسِيرَ الْقَضَاءِ بِأَنْ فَسَّرَ عَلَى وَجْهٍ اقْتَضَاهُ الشَّرْعُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا اسْتَفْسَرْت الْمُقِرَّ بِالزِّنَا كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِيهِ وَحَكَمْت عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَثَبَتَ عِنْدِي بِالْحُجَّةِ أَنَّهُ أَخَذَ نِصَابًا مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَأَنَّهُ قَتَلَ عَمْدًا بِلَا شُبْهَةٍ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ وَقَبُولُ قَوْلِهِ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَظُنُّ بِسَبَبِ جَهْلِهِ غَيْرَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا أَوْ الشُّبْهَةَ غَيْرَ دَارِئَةٍ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَاسِقًا أَوْ عَالِمًا فَاسِقًا لَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يُعَايِنَ سَبَبَ الْحُكْمِ لِتُهْمَةِ الْخَطَإِ فِي الْجَهْلِ وَالْخِيَانَةِ فِي الْفِسْقِ.

قَالَ (وَإِذَا عُزِلَ الْقَاضِي فَقَالَ لِرَجُلٍ إلَخْ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْقَاضِي مِنْ قَضَائِهِ فِي زَمَنِ وِلَايَتِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ بَعْدَ عَزْلِهِ، فَإِذَا أَخْبَرَ الْقَاضِي الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَزْلِ بِمَا قَضَى وَأَسْنَدَ إلَى حَالِ وِلَايَتِهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيمَا قَالَ فَلَا كَلَامَ فِيهِ أَوْ يُكَذِّبَهُ فِي حَقِيقَتِهِ

ص: 360

إذْ الْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالْجَوْرِ ظَاهِرًا (وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْقَاضِي.

(وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ وَالْآخِذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ أَيْضًا) لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَالِ الْقَضَاءِ وَدَفْعُ الْقَاضِي صَحِيحٌ كَمَا إذَا كَانَ مُعَايِنًا (وَلَوْ زَعَمَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ أَوْ الْمَأْخُوذُ مَالُهُ أَنَّهُ فَعَلَ قَبْلَ التَّقْلِيدِ

وَيُصَدِّقَهُ فِي كَوْنِهِ فِي زَمَنِ الْوِلَايَةِ أَوْ يُكَذِّبَهُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْقَوْلُ لِلْقَاضِي بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ. فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ أَخَذْت مِنْك أَلْفًا وَدَفَعْتهَا إلَى فُلَانٍ قَضَيْت بِهَا عَلَيْك وَقَالَ لِآخَرَ قَضَيْت بِقَطْعِ يَدِك فِي حَقٍّ فَقَالَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْمَالُ وَالْمَقْطُوعُ يَدُهُ فَعَلْت ذَلِكَ فِي حَالِ قَضَائِك ظُلْمًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَوَافَقَا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي قَضَائِهِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ إذْ الْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالْجَوْرِ ظَاهِرًا وَالْقَوْلُ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ إيجَابَهَا عَلَيْهِ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ أُمُورِ النَّاسِ بِامْتِنَاعِ الدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ. وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ أَوْ الْآخِذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي حَالِ الْقَضَاءِ وَدَفْعَ الْقَاضِي وَأَمْرَهُ بِالشَّيْءِ صَحِيحٌ كَمَا إذَا كَانَ دَفْعُهُ الْمَالَ إلَى الْآخِذِ مُعَايِنًا فِي حَالِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْآخِذُ حِينَئِذٍ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَكَذَا إذَا كَانَ أَمْرُهُ بِالْقَطْعِ مُعَايِنًا فِي حَالِ الْقَضَاءِ وَإِنْ قَالَ الْمَأْخُوذُ مَالُهُ وَالْمَقْطُوعُ يَدُهُ فَعَلْت ذَلِكَ قَبْلَ التَّقْلِيدِ أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ فَالْقَوْلُ أَيْضًا لِلْقَاضِي فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ

ص: 361

أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ فَالْقَوْلُ لِلْقَاضِي أَيْضًا) هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ فِعْلَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ طَلَّقْت أَوْ أَعْتَقْت وَأَنَا مَجْنُونٌ وَالْجُنُونُ مِنْهُ كَانَ مَعْهُودًا

أَسْنَدَ فِعْلَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ لِمَا مَرَّ أَنَّ حَالَةَ الْقَضَاءِ تُنَافِي الضَّمَانَ فَالْقَاضِي بِذَلِكَ الْإِسْنَادِ مُنْكِرٌ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ فَصَارَ إسْنَادُ الْقَاضِي هَاهُنَا كَإِسْنَادِ مَنْ عُهِدَ مِنْهُ الْجُنُونُ إذَا قَالَ طَلَّقْت أَوْ أَعْتَقْت وَأَنَا مَجْنُونٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ

ص: 362

(وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ أَوْ الْآخِذُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي بِضَمَانٍ) لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَقَوْلُ الْقَاضِي مَقْبُولٌ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ لَا فِي إبْطَالِ سَبَبِ الضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ (وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْآخِذِ قَائِمًا وَقَدْ أَقَرَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْمَالُ صُدِّقَ الْقَاضِي فِي أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي قَضَائِهِ أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ قَضَائِهِ يُؤْخَذُ مِنْهُ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لَهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى تَمَلُّكِهِ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَقَوْلُ الْمَعْزُولِ فِيهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.

مَعْلُومًا بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ: حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لِإِضَافَتِهِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلْإِيقَاعِ، وَإِنَّمَا قَالَ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا عَمَّا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُدَّعِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُنَازَعَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاضِي تَحْكُمُ الْحَالَ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ فِعْلُهُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ، وَأَمَّا فِي الْأُولَى فَقَدْ تَصَادَقَا أَنَّهُ فَعَلَهُ وَهُوَ قَاضٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ قَضَاؤُهُ حَقًّا، وَلَكِنْ فِي عَامَّةِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوْلَ لِلْقَاضِي.

(وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ وَالْآخِذُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي ضِمْنًا؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَقَوْلُ الْقَاضِي مَقْبُولٌ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ لَا فِي إبْطَالِ سَبَبِ الضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ) لَا يُقَالُ: الْآخِذُ وَالْقَاطِعُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَسْنَدَا الْفِعْلَ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَضْمَنَا كَالْقَاضِي؛ لِأَنَّ جِهَةَ الضَّمَانِ رَاجِحَةٌ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ، وَالظَّاهِرُ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعِيَّ، وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْقَاضِي أَيْضًا لَكِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْحُقُوقِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ مَخَافَةَ الضَّمَانِ.

(وَلَوْ كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا فِي يَدِ الْآخِذِ وَأَقَرَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي أَخَذَ مِنْهُ الْمَالَ) سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْمَالُ فِي أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي قَضَائِهِ أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ قَضَائِهِ (؛ لِأَنَّ الْآخِذَ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى تَمَلُّكِهِ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَقَوْلُ الْمَعْزُولِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ) فِيهِ لِكَوْنِهِ شَهَادَةَ فَرْدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 363

(كِتَابُ الشَّهَادَاتِ)

كِتَابُ الشَّهَادَاتِ

إيرَادُ هَذَا الْكِتَابِ عَقِيبَ كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ، إذْ الْقَاضِي فِي قَضَائِهِ يَحْتَاجُ إلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَ إنْكَارِ الْخَصْمِ. وَمِنْ مَحَاسِنِ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ أَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} فَلَا بُدَّ مِنْ حُسْنِهِ. وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِخْبَارِ بِصِحَّةِ الشَّيْءِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ وَعِيَانٍ، وَلِهَذَا قَالُوا إنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي تُنْبِئُ عَنْ الْمُعَايَنَةِ. وَفِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْفِقْهِ: عِبَارَةٌ عَنْ إخْبَارٍ صَادِقٍ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فَالْإِخْبَارُ كَالْجِنْسِ يَشْمَلُهَا وَالْأَخْبَارَ الْكَاذِبَةَ. وَقَوْلُهُ: صَادِقٌ يُخْرِجُ الْكَاذِبَةَ وَقَوْلُهُ: فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ

ص: 364

(قَالَ: الشَّهَادَةُ فَرْضٌ تَلْزَمُ الشُّهُودَ وَلَا يَسَعُهُمْ كِتْمَانُهَا إذَا طَالَبَهُمْ الْمُدَّعِي) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}

يُخْرِجُ الْأَخْبَارَ الصَّادِقَةَ غَيْرَ الشَّهَادَاتِ. وَسَبَبُ تَحَمُّلِهَا مُعَايَنَةُ مَا يَتَحَمَّلُهَا لَهُ وَمُشَاهَدَاتُهُ بِمَا يَخْتَصُّ بِمُشَاهَدَتِهِ مِنْ السَّمَاعِ فِي الْمَسْمُوعَاتِ وَالْإِبْصَارِ فِي الْمُبْصَرَاتِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَسَبَبُ أَدَائِهَا إمَّا طَلَبُ الْمُدَّعِي مِنْهُ الشَّهَادَةَ، أَوْ خَوْفُ فَوْتِ حَقِّ الْمُدَّعِي إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُدَّعِي كَوْنَهُ شَاهِدًا. وَشَرْطُهَا: الْعَقْلُ الْكَامِلُ وَالضَّبْطُ وَالْوِلَايَةُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْإِسْلَامُ إنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُسْلِمًا. وَحُكْمُهَا: وُجُوبُ الْحُكْمِ عَلَى الْحَاكِمِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ، لَكِنْ لَمَّا شَرَطَ الْعَدَالَةَ لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ وَوَرَدَتْ النُّصُوصُ بِالِاسْتِشْهَادِ جُعِلَتْ مُوجِبَةً.

قَالَ (الشَّهَادَةُ فَرْضٌ تَلْزَمُ الشُّهُودَ إلَخْ) أَدَاءُ الشَّهَادَةِ فَرْضٌ يَلْزَمُ الشُّهُودَ بِحَيْثُ لَا يَسَعُهُمْ كِتْمَانُهُ أَكَّدَ الْفَرْضَ بِوَصْفَيْنِ وَهُوَ اللُّزُومُ وَعَدَمُ سَعَةِ الْكِتْمَانِ دَلَالَةً عَلَى تَأَكُّدِهِ، وَشَرَطَ مُطَالَبَةَ الْمُدَّعِي تَحْقِيقًا لِسَبَبِ الْأَدَاءِ عَلَى مَا مَرَّ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} أَيْ لِيُقِيمُوا الشَّهَادَةَ أَوْ لِيَتَحَمَّلُوهَا، وَسُمُّوا شُهَدَاءَ بِاعْتِبَارِ مَا تَئُولُ إلَيْهِ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْإِبَاءِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ كِتْمَانِهَا عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَحَدِ النَّقِيضِينَ وَهُوَ الْكِتْمَانُ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ النَّقِيضِ الْآخَرِ لِئَلَّا يَرْتَفِعَ النَّقِيضَانِ، فَإِذَا كَانَ الْكِتْمَانُ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَانَ الْإِعْلَانُ ثَابِتًا وَهُوَ يُسَاوِي الْإِظْهَارَ فَيَكُونُ ثَابِتًا، وَثُبُوتُهُ بِالْأَدَاءِ وَمَا لَمْ يَجِبْ لَا يَثْبُتُ فَكَانَ إظْهَارُ الْأَدَاءِ وَاجِبًا.

ص: 365

وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ طَلَبُ الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا حَقُّهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. .

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِضِدِّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فَهُوَ أَمْرٌ بِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ الْكِتْمَانِ عَمَّا فِي الْأَرْحَامِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، وَلَيْسَ بِالصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ (وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ طَلَبُ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهَا حَقُّهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ) وَنُوقِضَ بِمَا إذَا عَلِمَ الشَّاهِدُ الشَّهَادَةَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْمُدَّعِي وَيَعْلَمُ الشَّاهِدُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَشْهَدْ يَضِيعُ حَقُّهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ وَلَا طَلَبَ ثَمَّةَ.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْمَطْلُوبِ دَلَالَةً، فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِلْأَدَاءِ عِنْدَ الطَّلَبِ إحْيَاءُ الْحَقِّ وَهُوَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مَوْجُودٌ فَكَانَ فِي مَعْنَاهُ فَأُلْحِقَ بِهِ. لَا يُقَالُ: قَدْ مَرَّ آنِفًا أَنَّ طَلَبَ الْمُدَّعِي سَبَبٌ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ طَلَبُ الْمُدَّعِي فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَلَبَهُ شَرْطٌ وَهُوَ غَيْرُ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ وُجُوبُ سَبَبِ الْأَدَاءِ وَهُوَ طَلَبُ الْمُدَّعِي، فَالطَّلَبُ سَبَبٌ وَوُجُودُهُ شَرْطٌ فَلَا مُخَالَفَةَ حِينَئِذٍ. فَإِنْ قُلْت: أَمَا تَجْعَلُهُ شَرْطًا وقَوْله تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ} {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}

ص: 366

(وَالشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ يُخَيَّرُ فِيهَا الشَّاهِدُ بَيْنَ السَّتْرِ وَالْإِظْهَارِ) لِأَنَّهُ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ إقَامَةِ الْحَدِّ وَالتَّوَقِّي عَنْ الْهَتْكِ (وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ «لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَفِيمَا نُقِلَ مِنْ تَلْقِينِ الدَّرْءِ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ السَّتْرِ

سَبَبًا. قُلْت: نِعْمَ؛ لِأَنَّهُ خِطَابُ وَضْعٍ يَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} .

قَالَ (وَالشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ يُخَيَّرُ فِيهَا الشَّاهِدُ بَيْنَ السَّتْرِ وَالْإِظْهَارِ إلَخْ) الشَّاهِدُ فِي الْحُدُودِ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ وَأَنْ يُظْهِرَ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَشْهَدَ حِسْبَةً لِلَّهِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَوَقَّى عَنْ هَتْكِ الْمُسْلِمِ حِسْبَةً لِلَّهِ، وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ نَقْلًا وَعَقْلًا، أَمَّا الْأَوَّلُ «فَقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ وَهُوَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ هُزَالٌ الْأَسْلَمِيُّ لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك وَفِي رِوَايَةٍ بِرِدَائِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» وَقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَمَا رُوِيَ مِنْ تَلْقِينِ الدَّرْءِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم فَإِنَّ فِيهَا دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَفْضَلِيَّةِ السَّتْرِ. قِيلَ الْأَخْبَارُ مُعَارِضَةٌ لِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ وَإِعْمَالُهَا نَسْخٌ لِإِطْلَاقِهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُدَايَنَةِ لِنُزُولِهَا فِيهَا، وَرُدَّ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فِيمَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي السَّتْرِ وَالدَّرْءِ مُتَوَاتِرٌ فِي الْمَعْنَى فَجَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهِ. وَقِيلَ إنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ وَرَدَ فِي مَاعِزٍ وَحِكَايَتُهُ مَشْهُورَةٌ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ شُهْرَةَ حِكَايَةِ مَاعِزٍ لَا تَسْتَلْزِمُ شُهْرَةَ الْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهَا بِالسَّتْرِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ السَّتْرَ وَالْكِتْمَانَ إنَّمَا يَحْرُمُ لِخَوْفِ فَوَاتِ حَقِّ الْمُحْتَاجِ إلَى الْأَمْوَالِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ

ص: 367

(إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ فِي السَّرِقَةِ فَيَقُولُ: أَخَذَ) إحْيَاءً لِحَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ (وَلَا يَقُولُ سَرَقَ) مُحَافَظَةً عَلَى السَّتْرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَتْ السَّرِقَةُ لَوَجَبَ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ لَا يُجَامِعُ الْقَطْعَ فَلَا يَحْصُلُ إحْيَاءُ حَقِّهِ.

الْعَالَمِينَ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ خَوْفُ فَوَاتِ الْحَقِّ فَبَقِيَ صِيَانَةُ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَلَا شَكَّ فِي فَضْلِ ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ يُخَيَّرُ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمَالِ لَيْسَتْ بِدَاخِلَةٍ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهَا إحْيَاءً لِحَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَيَقُولُ أَخَذَ وَلَا يَقُولُ سَرَقَ (مُحَافَظَةً عَلَى السَّتْرِ)؛ وَلِأَنَّهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ

ص: 368

(وَالشَّهَادَةُ عَلَى مَرَاتِبَ: مِنْهَا الشَّهَادَةُ فِي الزِّنَا يُعْتَبَرُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (وَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ) لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ رضي الله عنه: مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَلِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ

(وَمِنْهَا الشَّهَادَةُ بِبَقِيَّةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}

لَا يَجْتَمِعَانِ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ، وَأَحَدُهُمَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْآخَرُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَالسَّتْرُ الْكُلِّيُّ إبْطَالٌ لَهُمَا وَفِيهِ تَضْيِيعُ حَقِّ الْعَبْدِ فَلَا يَجُوزُ. وَالْإِقْدَامُ عَلَى إظْهَارِ السَّرِقَةِ تَرْجِيحُ حَقِّ اللَّهِ الْغَنِيِّ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ الْمُحْتَاجِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ فَتَعَيَّنَ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَالِ دُونَ السَّرِقَةِ.

قَالَ (وَالشَّهَادَةُ عَلَى مَرَاتِبَ) رَتَّبَهَا الشَّرْعُ عَلَى مَا عَلِمَ فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ، فَمِنْهَا الشَّهَادَةُ بِالزِّنَا يُعْتَبَرُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وَلَفْظُ أَرْبَعَةٍ نَصٌّ فِي الْعَدَدِ وَالذُّكُورَةِ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْعَدَالَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِرَاطُهَا.

وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْأَرْبَعَةِ فِيهِ دُونَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَغَيْرِهِ فَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ السَّتْرَ عَلَى عِبَادِهِ وَلَا يَرْضَى بِإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ: «مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخَلِيفَتَيْنِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ») وَتَخْصِيصُهُمَا بِالذِّكْرِ لِمَا وَرَدَ فِي حَقِّهِمَا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» (وَلِأَنَّ فِي شَهَادَتِهِنَّ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ) فِي غَيْرِ الْحُدُودِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} عَلَى سِيَاقِ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} وَإِنَّمَا قَالَ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا إنَّمَا تَكُونُ فِيمَا امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِالْبَدَلِ مَعَ إمْكَانِ الْأَصْلِ كَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَيْسَ شَهَادَتُهُنَّ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِشَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ، وَإِذَا كَانَ فِيهَا شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ (فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ).

(وَمِنْهَا الشَّهَادَةُ بِبَقِيَّةِ الْحُدُودِ) كَحَدِّ الشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ (وَالْقِصَاصُ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} فَإِنَّهُ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الْمَطْلُوبَ وَغَيْرَهُ لِمَا مَرَّ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي بَيَانِ الْعَدَدِ وَالذُّكُورَةِ وَالْبُلُوغِ خَلَا أَنَّ بَابَ

ص: 369

(وَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ) لِمَا ذَكَرْنَا.

(قَالَ: وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ مِثْلُ النِّكَاحِ) وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْوَقْفِ وَالصُّلْحِ (وَالْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ) وَالْهِبَةِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْوَلَدِ وَالْوِلَادِ وَالنَّسَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْقَبُولِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَاخْتِلَالِ الضَّبْطِ وَقُصُورِ الْوِلَايَةِ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِمَارَةِ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ وَحْدَهُنَّ إلَّا أَنَّهَا قُبِلَتْ فِي الْأَمْوَالِ ضَرُورَةً، وَالنِّكَاحُ أَعْظَمُ خَطَرًا وَأَقَلُّ وُقُوعًا فَلَا يَلْحَقُ بِمَا هُوَ أَدْنَى خَطَرًا وَأَكْثَرُ وُجُودًا.

الزِّنَا خَرَجَ بِمَا تَلَوْنَا فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى تَنَاوُلِهِ (قَوْلُهُ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ، فَالْآيَةُ هَذِهِ عُقِّبَتْ بِقَوْلِهِ {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وَلَيْسَتْ شَهَادَتُهُنَّ فِيهَا مَقْبُولَةً.

وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ، وَلَئِنْ أَوْجَبَ فَعَدَمُ قَبُولِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ وَشُبْهَةِ الْبَدَلِيَّةِ فِي شَهَادَتِهِنَّ.

فَإِنْ قُلْت: مَا مَسْلَكُ الْحَدِيثِ مِنْ الْآيَةِ هَاهُنَا أَتَخْصِيصٌ أَمْ نَسْخٌ. قُلْت: مَسْلَكُهُ مِنْهَا مَسْلَكُ آيَةِ شَهَادَةِ الزِّنَا مِنْ هَذِهِ، وَهُوَ إمَّا التَّخْصِيصُ إنْ ثَبَتَتْ الْمُقَارَنَةُ أَوْ النَّسْخُ. وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ: مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخَلِيفَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى تَلْقِيَةِ الصَّدْرِ الْأَوَّلُ بِالْقَبُولِ فَكَانَ مَشْهُورًا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ.

قَالَ (وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ إلَخْ) وَمَا سِوَى الْمَرْتَبَتَيْنِ مِنْ بَقِيَّةِ الْحُقُوقِ (مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ) أَيْ الْوِصَايَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي تَعْدَادِ غَيْرِ الْمَالِ (وَنَحْوِ ذَلِكَ) يَعْنِي الْعَتَاقَ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ بِمَا تَلَوْنَا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا) كَالْإِعَارَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكَفَالَةِ وَالْأَجَلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ. وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي شَهَادَتِهِنَّ عَدَمُ الْقَبُولِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَاخْتِلَالِ الضَّبْطِ وَقُصُورِ الْوِلَايَةِ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِمَارَةِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبُولِ (لَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ وَحْدَهُنَّ إلَّا أَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ فِي الْأَمْوَالِ ضَرُورَةَ إحْيَاءِ حُقُوقِ الْعِبَادِ) لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَدُنُوِّ

ص: 370

وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْقَبُولُ لِوُجُودِ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ وَالضَّبْطُ وَالْأَدَاءُ، إذْ بِالْأَوَّلِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلشَّاهِدِ، وَبِالثَّانِي يَبْقَى، وَبِالثَّالِثِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي وَلِهَذَا يُقْبَلُ إخْبَارُهَا فِي الْأَخْبَارِ، وَنُقْصَانُ الضَّبْطِ بِزِيَادَةِ النِّسْيَانِ انْجَبَرَ بِضَمِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا الشُّبْهَةُ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ

خَطَرِهَا فَلَا يُلْحَقُ بِهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا وَأَقَلُّ وُجُودًا كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالْوَلَاءِ وَالْعِدَّةِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ (وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْقَبُولُ لِوُجُودِ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ) الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْعِلْمُ وَالضَّبْطُ الَّذِي يَبْقَى بِهِ الْعِلْمُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَالْأَدَاءُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْقَبُولِ أَصْلًا فِيهَا (قَبْلَ إخْبَارِهَا فِي الْأَخْبَارِ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْتُمْ مِمَّا يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لَهَا أَوْ شَرْطًا، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالضَّبْطِ وَالْأَدَاءِ لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ لِذَلِكَ لَا جَمْعًا وَلَا فُرَادَى. وَالثَّانِي كَذَلِكَ لِعَدَمِ تَوَقُّفِهَا عَلَيْهَا كَذَلِكَ لَا جَمْعًا وَلَا فُرَادَى، عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ هَيْئَةٌ شَرْعِيَّةٌ تَحْصُلُ بِمَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ. وَأَمَّا الْمُشَاهَدَةُ وَالضَّبْطُ وَالْأَدَاءُ فَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ لَهَا. وَإِنَّمَا هِيَ عِلَّةٌ لِأَهْلِيَّةِ قَبُولِهَا. فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُجُودَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ أَيْضًا وَفَاتَهُ أَحَدُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ الْمُشَاهَدَةُ أَوْ الضَّبْطُ أَوْ الْأَدَاءُ إذَا أَدَّى بِغَيْرِ لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ. وَإِنْ كَانَتْ عِلَّةً اسْتَلْزَمَ وُجُودُهَا وُجُودَ مَعْلُولِهَا وَهُوَ الْقَبُولُ، وَعَلَى هَذَا يُقَدَّرُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مُضَافٌ: أَيْ أَهْلِيَّةُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ (قَوْلُهُ: وَنُقْصَانُ الضَّبْطِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتِلَالُ الضَّبْطِ.

وَتَوْجِيهُهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ انْجَبَرَ بِضَمِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا شُبْهَةُ

ص: 371

وَعَدَمُ قَبُولِ الْأَرْبَعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَيْ لَا يَكْثُرَ خُرُوجُهُنَّ.

قَالَ (وَتُقْبَلُ فِي الْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ وَالْعُيُوبِ بِالنِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ» وَالْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ فَيَتَنَاوَلُ الْأَقَلَّ.

وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا سَقَطَتْ الذُّكُورَةُ لِيَخِفَّ النَّظَرُ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ فَكَذَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ إلَّا أَنَّ الْمُثَنَّى وَالثَّلَاثَ أَحْوَطُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ

الْبَدَلِيَّةِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَتُقْبَلُ فِيمَا يَثْبُتُ بِهَا، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَثْبُتُ بِهَا. أَمَّا النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ فَظَاهِرٌ لِثُبُوتِهِمَا مَعَ الْهَزْلِ، وَأَمَّا الْوَكَالَةُ وَالْإِيصَاءُ وَالْأَمْوَالُ فَإِنَّهُ يَجْرِي فِيهَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ أَمَارَةُ ثُبُوتِهَا مَعَ الشُّبْهَةِ فَلِذَلِكَ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِهِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَلَا عَنْ قَوْلِهِ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِي عَقْلِهِنَّ فِيمَا هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ: الْأُولَى اسْتِعْدَادُ الْعَقْلِ وَيُسَمَّى الْعَقْلَ الْهَيُولَانِيَّ وَهُوَ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ فِي مَبْدَإِ فِطْرَتِهِمْ. وَالثَّانِيَةُ أَنْ تَحْصُلَ الْبَدِيهِيَّاتُ بِاسْتِعْمَالِ الْحَوَاسِّ فِي الْجُزْئِيَّاتِ فَيَتَهَيَّأُ لِاكْتِسَابِ الْفِكْرِيَّاتِ بِالْفِكْرِ، وَيُسَمَّى الْعَقْلَ بِالْمَلَكَةِ وَهُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ. وَالثَّالِثَةُ أَنْ تَحْصُلَ النَّظَرِيَّاتُ الْمَفْرُوغُ عَنْهَا مَتَى شَاءَ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى اكْتِسَابٍ وَهُوَ يُسَمَّى الْعَقْلَ بِالْفِعْلِ.

وَالرَّابِعَةُ هُوَ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا وَيَلْتَفِتَ إلَيْهَا مُشَاهَدَةً وَيُسَمَّى الْعَقْلَ الْمُسْتَفَادَ، وَلَيْسَ فِيمَا هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ وَهُوَ الْعَقْلُ بِالْمَلَكَةِ فِيهِنَّ نُقْصَانٌ بِمُشَاهَدَةِ حَالِهِنَّ فِي تَحَصُّلِ الْبَدِيهِيَّاتِ بِاسْتِعْمَالِ الْحَوَاسِّ فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَبِالتَّنْبِيهِ إنْ نَسِيَتْ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ نُقْصَانٌ لَكَانَ تَكْلِيفُهُنَّ دُونَ تَكْلِيفِ الرِّجَالِ فِي الْأَرْكَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم «هُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ» الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْلُ بِالْفِعْلِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَصْلُحْنَ لِلْوِلَايَةِ وَالْخِلَافَةِ وَالْإِمَارَةِ، وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي أَيْضًا فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: وَعَدَمُ قَبُولِ الْأَرْبَعِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي قَبُولَ ذَلِكَ أَيْضًا لَكِنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ كَيْ لَا يَكْثُرَ خُرُوجُهُنَّ.

قَالَ (وَتُقْبَلُ فِي الْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ) اُخْتُصَّ قَبُولُ شَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ

ص: 372

(ثُمَّ حُكْمُهَا فِي الْوِلَادَةِ شَرَحْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ) وَأَمَّا حُكْمُ الْبَكَارَةِ فَإِنْ شَهِدْنَ أَنَّهَا بِكْرٌ يُؤَجَّلُ فِي الْعِنِّينِ سَنَةً وَيُفَرَّقُ بَعْدَهَا

وَالْعُيُوبِ بِالنِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لَا تُقْبَلُ فِي غَيْرِهَا فَهُوَ قَصْرُ إفْرَادٍ قَصْرُ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ لَا عَكْسُهُ كَمَا فَهِمَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ.

وَاعْتُرِضَ بِقَبُولِ شَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِيهَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ النَّظَرَ إلَيْهِ» وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ إذَا دَخَلَ الْجَمْعُ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِنْسِ فَيَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَةَ فَمَا فَوْقَهَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ تَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي الشَّهَادَاتِ. قَوْلُهُ: (وَلِأَنَّهُ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ لَنَا. وَوَجْهُهُ أَنَّ الذُّكُورَةَ سَقَطَتْ بِالِاتِّفَاقِ لِيَخِفَّ النَّظَرُ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ أَخَفُّ وَفِي إسْقَاطِ الْعَدَدِ تَخْفِيفُ النَّظَرِ فَيُصَارُ إلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْمُثَنَّى وَالْمُثَلَّثَ أَحْوَطُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ نَوْعَ مُنَاقَضَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَوَازُ الِاكْتِفَاءِ بِنَظَرِ الْوَاحِدَةِ لِخِفَّةِ نَظَرِهَا لَمَا كَانَ نَظَرُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثِ أَحْوَطَ مِنْ نَظَرِ الْوَاحِدَةِ.

وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: خِفَّةُ النَّظَرِ تُوجِبُ عَدَمَ وُجُودِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ، وَمَعْنَى الْإِلْزَامِ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ فَعَمِلْنَا بِهِمَا وَقُلْنَا بِعَدَمِ الْوُجُوبِ وَالْجَوَازِ احْتِيَاطًا (ثُمَّ حُكْمُهَا) أَيْ حُكْمُ شَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْوِلَادَةِ (شَرَحْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ) يَعْنِي فِي بَابِ ثُبُوتِ النَّسَبِ

ص: 373

لِأَنَّهَا تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ إذْ الْبَكَارَةُ أَصْلٌ، وَكَذَا فِي رَدِّ الْمَبِيعَةِ إذَا اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ، فَإِنْ قُلْنَ إنَّهَا ثَيِّبٌ يَحْلِفُ الْبَائِعُ لِيَنْضَمَّ نُكُولُهُ إلَى قَوْلِهِنَّ وَالْعَيْبُ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي حَقِّ الْإِرْثِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَطْلُعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ إلَّا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْإِرْثِ أَيْضًا لِأَنَّهُ صَوْتٌ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَلَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ عَادَةً فَصَارَ كَشَهَادَتِهِنَّ عَلَى نَفْسِ الْوِلَادَةِ

حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَجَحَدَ الزَّوْجُ الْوِلَادَةَ تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقَالَا: تَطْلُقُ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ طَلُقَتْ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يَعْنِي تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِقَوْلِ امْرَأَتِهِ وَعِنْدَهُمَا يُشْتَرَطُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ، وَأَمَّا حُكْمُ الْبَكَارَةِ فَإِنَّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَهِيرَةً أَوْ مَبِيعَةً لَا بُدَّ مِنْ نَظَرِ النِّسَاءِ إلَيْهَا لِلْحَاجَةِ إلَى فَصْلِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا نَظَرْنَ إلَيْهَا وَشَهِدْنَ فَإِمَّا أَنْ تَتَأَيَّدَ شَهَادَتُهُنَّ بِمُؤَيِّدٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَتْ شَهَادَتُهُنَّ حُجَّةً، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَا بُدَّ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا مَا يُؤَيِّدُهَا، فَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدْنَ بِأَنَّهَا بِكْرٌ فَإِنْ كَانَتْ مَهِيرَةً تُؤَجَّلُ فِي الْعِنِّينِ سَنَةً وَيُفَرَّقُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ تَأَيَّدَتْ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْبَكَارَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مَبِيعَةً بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ فَلَا يَمِينَ عَلَى الْبَائِعِ لِذَلِكَ وَلِمُقْتَضَى الْبَيْعِ وَهُوَ اللُّزُومُ، وَإِنْ قُلْنَ إنَّهَا ثَيِّبٌ يَحْلِفُ الْبَائِعُ لِيَنْضَمَّ نُكُولُهُ إلَى قَوْلِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ قَوِيٌّ وَشَهَادَتَهُنَّ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَمْ تَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ فَيَحْلِفُ بَعْدَ الْقَبْضِ بِاَللَّهِ لَقَدْ سَلَّمْتهَا بِحُكْمِ الْبَيْعِ وَهِيَ بِكْرٌ وَقَبْلَهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْتهَا وَهِيَ بِكْرٌ، فَإِنْ حَلَفَ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ وَإِنْ نَكَلَ تُرَدُّ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: شَهَادَةُ النِّسَاءِ حُجَّةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَيَجِبُ بِالرَّدِّ بِقَوْلِهِنَّ وَالتَّحْلِيفُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ.

أَجَابَ بِأَنَّ الْعَيْبَ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ يَعْنِي فِي حَقِّ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَالتَّحْلِيفِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا ادَّعَى عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إثْبَاتِ قِيَامِهِ بِهِ فِي الْحَالِ لِيَثْبُتَ لَهُ وِلَايَةُ

ص: 374

قَالَ (وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّاهِدُ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَقَالَ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ) أَمَّا الْعَدَالَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الْمُعِينَةُ لِلصِّدْقِ، لِأَنَّ مَنْ يَتَعَاطَى غَيْرَ الْكَذِبِ قَدْ يَتَعَاطَاهُ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَأْجَرُ لِوَجَاهَتِهِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ لِمُرُوءَتِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ،

التَّحْلِيفِ، وَإِلَّا كَانَ الْقَوْلُ لِلْبَائِعِ لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ. فَإِذَا قُلْت: إنَّهَا ثَيِّبٌ ثَبَتَ الْعَيْبُ فِي الْحَالِ وَعُمِلَ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ يَحْلِفُ الْبَائِعُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهَا ذَلِكَ الْعَيْبُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ فِي يَدِهِ.

وَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فَفِي حَقِّ الْإِرْثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله غَيْرُ مَقْبُولَةٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ صَوْتُ الصَّبِيِّ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَهُوَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَلَا تَكُونُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ حُجَّةً لَكِنَّهَا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَشَهَادَتُهُنَّ فِيهَا حُجَّةٌ كَشَهَادَتِهِنَّ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ. وَعِنْدَهُمَا فِي حَقِّ الْإِرْثِ أَيْضًا مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّهُ صَوْتٌ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَالرِّجَالُ لَا يَحْضُرُهَا عَادَةً فَصَارَ كَشَهَادَتِهِنَّ عَلَى نَفْسِ الْوِلَادَةِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ إمْكَانُ الِاطِّلَاعِ وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ فَلَا مُعْتَبَرَ بِشَهَادَتِهِنَّ، وَنَفْسُ الْوِلَادَةِ هُوَ انْفِصَالُ الْوَلَدِ عَنْ الْأُمِّ وَذَلِكَ لَا يُشَارِكُ الرِّجَالُ فِيهِ النِّسَاءَ.

(قَالَ وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْعَدَالَةِ إلَخْ) لَا بُدَّ فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُرُوطِ الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةُ وَهِيَ كَوْنُ حَسَنَاتِ الرَّجُلِ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الِاجْتِنَابَ عَنْ الْكَبَائِرِ وَتَرْكَ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ (وَلَفْظُهُ الشَّهَادَةَ) حَتَّى لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ عِنْدَ الشَّهَادَةِ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ (أَمَّا اشْتِرَاطُ) الْعَدَالَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَالْفَاسِقُ لَا يَكُونُ مَرَضِيًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (وَلِأَنَّ) الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ بِاعْتِبَارِ الصِّدْقِ وَ (الْعَدَالَةُ هِيَ الْمُعَيِّنَةُ لِلصِّدْقِ) فَهِيَ عِلَّةُ الْحُجِّيَّةِ وَمَا سِوَاهَا مُعَدَّاتٌ (؛ لِأَنَّ مَنْ يَتَعَاطَى غَيْرَ الْكَذِبِ) مِنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ (فَقَدْ يَتَعَاطَاهُ أَيْضًا.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ وَجِيهًا) أَيْ ذَا قَدْرٍ وَشَرَفٍ (فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ) أَيْ إنْسَانِيَّةٍ وَالْهَمْزَةُ وَتَشْدِيدُ الْوَاوِ فِيهَا لُغَتَانِ (تُقْبَلُ) شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَأْجَرُ لِوَجَاهَتِهِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ لِمُرُوءَتِهِ، (وَالْأَوَّلُ) يَعْنِي عَدَمَ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ مُطْلَقًا وَجِيهًا ذَا مُرُوءَةٍ كَانَ أَوْ لَا (أَصَحُّ)؛ لِأَنَّ قَبُولَهُمَا إكْرَامٌ لِلْفَاسِقِ

ص: 375

إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَصِحُّ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَصِحُّ، وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ. وَأَمَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ النُّصُوصَ نَطَقَتْ بِاشْتِرَاطِهَا إذْ الْأَمْرُ فِيهَا بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَلِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ تَوْحِيدٍ، فَإِنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَكَانَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْكَذِبِ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ أَشَدَّ.

وَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْعَدَالَةُ، وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهَا

وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا لَقِيت الْفَاسِقَ فَالْقَهُ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ» وَالْمُعْلِنُ بِالْفِسْقِ لَا مُرُوءَةَ لَهُ (لَكِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ صَحَّ عِنْدَنَا، وَأَمَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ النُّصُوصَ نَطَقَتْ بِاشْتِرَاطِهَا إذْ الْأَمْرُ فِيهَا بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» (وَلِأَنَّ فِي لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ زِيَادَةَ تَوْكِيدٍ) لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْمُشَاهَدَةِ (وَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ فَكَانَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْكَذِبِ بِهَذَا اللَّفْظِ أَشَدُّ) وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِخِلَافِ لَفْظِ التَّكْبِيرِ فِي الِافْتِتَاحِ فَإِنَّهُ لِلتَّعْظِيمِ فَيَجُوزُ تَبْدِيلُ مَا هُوَ أَصْرَحُ فِيهِ بِهِ (قَوْلُهُ: فِي ذَلِكَ كُلِّهِ) يُرِيدُ بِهِ مَا وَقَعَ فِي الْمُخْتَصَرِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ: أَيْ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ حَتَّى يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ، وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ حَتَّى اُخْتُصَّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَاشْتُرِطَ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ.

وَقَوْلُهُ: هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ فَإِنَّهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ فِيهَا لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا أَقَامَ

ص: 376

شَهَادَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ حَتَّى اخْتَصَّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: يَقْتَصِرُ الْحَاكِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَسْأَلُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ حَتَّى يَطْعَنَ الْخَصْمُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» وَمِثْلُ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الِانْزِجَارُ عَمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ دِينُهُ، وَبِالظَّاهِرِ كِفَايَةٌ إذْ لَا وُصُولَ إلَى الْقَطْعِ.

(إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ) لِأَنَّهُ يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا فَيُشْتَرَطُ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهَا دَارِئَةٌ، وَإِنْ طَعَنَ الْخَصْمُ فِيهِمْ

الْمُدَّعِي الشُّهُودَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَطْعَنَ الْخَصْمُ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: يَقْتَصِرُ الْحَاكِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ حَتَّى يَطْعَنَ الْخَصْمُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الِانْزِجَارُ عَمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي دِينِهِ وَبِالظَّاهِرِ كِفَايَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ يَكْفِي لِلدَّفْعِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَهَاهُنَا يَثْبُتُ لِلْمُدَّعِي اسْتِحْقَاقُ الْمُدَّعَى بِهِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ. فَالْجَوَابُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ إذْ لَا وُصُولَ إلَى الْقَطْعِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْتَفِ بِالظَّاهِرِ لَاحْتِيجَ إلَى التَّزْكِيَةِ وَقَبُولُ قَوْلِ الْمُزَكِّي فِي التَّعْدِيلِ أَيْضًا عَمَلٌ بِالظَّاهِرِ لِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَ الْمُزَكِّي صِدْقٌ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْأَوَّلِ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَيَدُورُ أَوْ يَتَسَلْسَلُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: بِالظَّاهِرِ هَاهُنَا اُعْتُبِرَ لِلرَّفْعِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَإِنْكَارَ الْخَصْمِ تَعَارَضَا، وَشَهَادَةُ الشُّهُودِ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ كَذَلِكَ، وَبِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ انْدَفَعَ مُعَارَضَةُ الذِّمَّةِ فَكَانَ دَافِعًا.

(قَوْلُهُ: إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ حَتَّى يَطْعَنَ الْخَصْمُ، إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ لِأَنَّهُ يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا فَيُشْتَرَطُ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا؛ وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهَا دَارِئَةٌ فَيَسْأَلُ عَنْهَا

ص: 377

سَأَلَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ تَقَابَلَ الظَّاهِرَانِ فَيَسْأَلُ طَلَبًا لِلتَّرْجِيحِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَبْنَاهُ عَلَى الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْعُدُولِ فَيَتَعَرَّفُ عَنْ الْعَدَالَةِ، وَفِيهِ صَوْنُ قَضَائِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ.

وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ

عَسَى يَطَّلِعُ عَلَى مَا يَسْقُطُ بِهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يَسْأَلُ عَنْهُمْ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُسْلِمِ فِي الشُّهُودِ مُعَارَضٌ بِحَالِ الْخَصْمِ إذَا طَعَنَ فِيهِمْ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَكْذِبُ بِالطَّعْنِ عَلَى مُسْلِمٍ لِأَجْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا فَيَحْتَاجُ الْقَاضِي حِينَئِذٍ إلَى التَّرْجِيحِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْقَضَاءِ عَلَى الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْعُدُولِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَرُّفِ عَنْ الْعَدَالَةِ، وَفِي السُّؤَالِ صَوْنُ الْقَضَاءِ عَنْ الْبُطْلَانِ عَلَى تَقْدِيرِ ظُهُورِ الشُّهُودِ عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا (وَقِيلَ هَذَا) الِاخْتِلَافُ (اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ)؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجَابَ فِي زَمَانِهِ وَكَانَ الْغَالِبُ مِنْهُمْ عُدُولًا. وَهُمَا أَجَابَا فِي زَمَانِهِمَا وَقَدْ تَغَيَّرَ النَّاسُ وَكَثُرَ الْفَسَادُ، وَلَوْ شَاهَدَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ

ص: 378

وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ.

قَالَ (ثُمَّ التَّزْكِيَةُ فِي السِّرِّ أَنْ يَبْعَثَ الْمَسْتُورَةَ إلَى الْمُعَدِّلِ فِيهَا النَّسَبُ وَالْحَلْيُ وَالْمُصَلَّى وَيَرُدُّهَا الْمُعَدِّلُ) كُلُّ ذَلِكَ فِي السِّرِّ كَيْ لَا يَظْهَرَ فَيُخْدَعَ أَوْ يُقْصَدَ (وَفِي الْعَلَانِيَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُعَدِّلِ وَالشَّاهِدِ) لِتَنْتَفِي شُبْهَةُ تَعْدِيلِ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَتْ الْعَلَانِيَةُ وَحْدَهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَوَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِالسِّرِّ فِي زَمَانِنَا تَحَرُّزًا عَنْ الْفِتْنَةِ.

لَقَالَ بِقَوْلِهِمَا. وَلِهَذَا قَالَ (وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ)

قَالَ (ثُمَّ التَّزْكِيَةُ فِي السِّرِّ إلَخْ) اعْلَمْ أَنَّ التَّزْكِيَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ تَزْكِيَةٌ فِي السِّرِّ وَتَزْكِيَةٌ فِي الْعَلَانِيَةِ. فَالْأُولَى (أَنْ يَبْعَثَ الْقَاضِي الْمَسْتُورَةَ) وَهِيَ الرُّقْعَةُ الَّتِي يَكْتُبُهَا الْقَاضِي وَيَبْعَثُهَا سِرًّا بِيَدِ أَمِينِهِ إلَى الْمُزَكِّي سُمِّيَتْ بِهَا؛ لِأَنَّهَا تُسْتَرُ عَنْ نَظَرِ الْعَوَامّ (إلَى الْمُعَدِّلِ) مَكْتُوبًا (فِيهَا النَّسَبُ وَالْحُلَى) بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا جَمْعُ حِلْيَةِ الْإِنْسَانِ صِفَتُهُ وَمَا يُرَى مِنْهُ مِنْ لَوْنٍ وَغَيْرِهِ (وَالْمُصَلَّى) أَيْ مَسْجِدُ الْمَحَلَّةِ حَتَّى يَعْرِفَهُ الْمُعَدِّلُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْعَثَ إلَى مَنْ كَانَ عَدْلًا يُمْكِنُ الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِهِ وَصَاحِبِ خِبْرَةٍ بِالنَّاسِ بِالِاخْتِلَاطِ بِهِمْ يَعْرِفُ الْعَدْلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ طَمَّاعًا وَلَا فَقِيرًا يُتَوَهَّمُ خِدَاعُهُ بِالْمَالِ، وَفَقِيهًا يَعْرِفُ أَسْبَابَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِنْ جِيرَانِهِ وَأَهْلِ سُوقِهِ، فَمَنْ عَرَفَهُ بِالْعَدَالَةِ يَكْتُبُ تَحْتَ اسْمِهِ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَيْهِ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ، وَمَنْ عَرَفَهُ بِالْفِسْقِ لَا يَكْتُبُ شَيْئًا احْتِرَازًا عَنْ الْهَتْكِ، أَوْ يَقُولُ: اللَّهُ يَعْلَمُ إلَّا إذَا عَدَّلَهُ غَيْرُهُ وَخَافَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ فَحِينَئِذٍ يُصَرِّحُ بِذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ بِعَدَالَةٍ أَوْ فِسْقٍ يَكْتُبُ تَحْتَ اسْمِهِ مَسْتُورٌ وَيَرُدُّهَا الْمُعَدِّلُ إلَى الْحَاكِمِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذَلِكَ سِرًّا كَيْ لَا يَظْهَرَ فَيُخْدَعَ أَوْ يَقْصِدَ الْخِدَاعَ.

وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَجْمَعَ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْمُعَدِّلِ وَالشَّاهِدِ فَيَقُولُ الْمُعَدِّلُ هَذَا الَّذِي عَدَّلْته يُشِيرُ إلَى الشَّاهِدِ لِتَنْتَفِيَ شُبْهَةُ تَعْدِيلِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الِاسْمِ وَالنِّسْبَةِ؛ وَقَدْ كَانَتْ التَّزْكِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ وَحْدَهَا فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا صُلَحَاءَ وَالْمُعَدِّلُ مَا كَانَ يَتَوَقَّى عَنْ الْجَرْحِ لِعَدَمِ مُقَابَلَتِهِمْ الْجَارِحَ بِالْأَذَى (وَوَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِالسِّرِّ فِي زَمَانِنَا)؛ لِأَنَّ الْعَلَانِيَةَ

ص: 379

وَيُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله: تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ. ثُمَّ قِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْمُعَدِّلُ هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُعَدَّلُ، وَقِيلَ يَكْتَفِي بِقَوْلِهِ هُوَ عَدْلٌ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالدَّارِ وَهَذَا أَصَحُّ. .

قَالَ (وَفِي قَوْلِ مَنْ رَأَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْخَصْمِ إنَّهُ عَدْلٌ) مَعْنَاهُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَزْكِيَتُهُ، لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضُمُّ تَزْكِيَةَ الْآخَرِ إلَى تَزْكِيَتِهِ لِأَنَّ الْعَدَدَ عِنْدَهُ شَرْطٌ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْخَصْمَ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ مُبْطَلٌ فِي إصْرَارِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُعَدِّلًا، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ هُمْ عُدُولٌ إلَّا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوْ نَسُوا، أَمَّا إذَا قَالَ صَدَقُوا أَوْ هُمْ عُدُولٌ صَدَقَةٌ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ.

بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ لِمُقَابَلَتِهِمْ الْجَارِحَ بِالْأَذَى (يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ. ثُمَّ قِيلَ: لَا بُدَّ لِلْمُعَدِّلِ أَنْ يَقُولَ هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُعَدَّلُ، وَقِيلَ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ هُوَ عَدْلٌ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالدَّارِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا أَصَحُّ)؛ لِأَنَّ فِي زَمَانِنَا كُلَّ مَنْ نَشَأَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ الْحُرِّيَّةَ وَلِهَذَا لَا يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْ إسْلَامِهِ وَحُرِّيَّتِهِ وَإِنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ عَدَالَتِهِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ فِي الْمُزَارَعَةِ مِنْ التَّخْرِيجِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُلْ بِالسُّؤَالِ إذَا سَأَلَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُمْ عُدُولٌ إلَّا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوْ نَسُوا، وَيُقْبَلُ إذَا قَالَ صَدَقُوا أَوْ هُمْ عُدُولٌ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ.

(وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَزْكِيَتُهُ لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضُمُّ تَزْكِيَةَ آخَرَ إلَى تَزْكِيَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ عِنْدَهُ) هَذَا إذَا كَانَ عَدْلًا يَصْلُحُ مُزَكِّيًا، فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورًا وَسَكَتَ عَنْ جَوَابِ الْمُدَّعِي وَلَمْ يَجْحَدْهُ فَلَمَّا شَهِدُوا عَلَيْهِ قَالَ هُمْ عُدُولٌ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْدِيلُ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي الْمُزَكِّي عِنْدَ الْكُلِّ (وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْخَصْمَ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ مُبْطِلٌ فِي إصْرَارِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُعَدِّلًا) لِاشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: تَعْدِيلُ الْخَصْمِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ فَكَانَ مَقْبُولًا؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْمُقِرِّ بِالِاتِّفَاقِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ (وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ إذْ قَالَ هُمْ عُدُولٌ إلَّا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوْ نَسُوا) وَمِثْلُهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بِالْحَقِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُشْتَمِلٌ عَلَى

ص: 380

(وَإِذَا كَانَ رَسُولُ الْقَاضِي الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ وَاحِدًا جَازَ وَالِاثْنَانِ أَفْضَلُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا يَجُوزُ إلَّا اثْنَانِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُزَكِّي، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ رَسُولُ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي وَالْمُتَرْجِمُ عَنْ الشَّاهِدِ لَهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ تَنْبَنِي عَلَى ظُهُورِ الْعَدَالَةِ وَهُوَ بِالتَّزْكِيَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَمَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِيهِ، وَتُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ فِي الْمُزَكِّي وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ، وَاشْتِرَاطُ الْعَدَدِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فِي الشَّهَادَةِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا.

الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ فَيُصَدَّقُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ وَيَرُدُّ الْغَيْرَ لِلتُّهْمَةِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا إقْرَارَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُمْ فِي ذَلِكَ إلَى الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ فَأَنَّى يَكُونُ إقْرَارًا.

قَالَ (وَإِذَا كَانَ رَسُولُ الْقَاضِي الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ) بِلَفْظِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ (وَاحِدًا جَازَ وَالِاثْنَانِ أَفْضَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إلَّا اثْنَانِ) ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ هَاهُنَا هُوَ الْمُزَكِّي، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ رَسُولُ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي) وَرَسُولُ الْمُزَكِّي إلَى الْقَاضِي (وَالْمُتَرْجِمُ عَنْ الشَّاهِدِ. لِمُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ تُبْتَنَى عَلَى ظُهُورِ الْعَدَالَةِ وَالْعَدَالَةُ بِالتَّزْكِيَةِ) فَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ تُبْتَنَى عَلَى ظُهُورِ التَّزْكِيَةِ، وَإِذَا كَانَتْ فِي مَعْنَاهَا (يُشْتَرَطُ فِيهَا شَرَائِطُهَا مِنْ الْعَدَدِ وَغَيْرِهِ كَمَا اُشْتُرِطَ الْعَدَالَةُ وَيُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ فِيهِ فِي الْحُدُودِ) وَالْأَرْبَعَةُ فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الزِّنَا (وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ) فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا اُشْتُرِطَ فِيهَا، سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ

ص: 381

(وَلَا يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ فِي الْمُزَكِّي فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ) حَتَّى صَلُحَ الْعَبْدُ مُزَكِّيًا، فَأَمَّا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ فَهُوَ شَرْطٌ، وَكَذَا الْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ رحمه الله لِاخْتِصَاصِهَا بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ. قَالُوا: يُشْتَرَطُ الْأَرْبَعَةُ فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الزِّنَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله.

(فَصْلٌ)

ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِبَقَاءِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ فِيهَا؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَهُ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّوَاتُرِ وَرُجْحَانُ الصِّدْقِ إنَّمَا هُوَ بِالْعَدَالَةِ لَا الْعَدَدِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِالْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ لَا الْعِلْمُ وَلَا الْعَمَلُ لَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَدَدِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا إلَى التَّزْكِيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَتُلْحَقُ بِهَا بِالدَّلَالَةِ وَمُوَافَقَةُ الْقِيَاسِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهَا. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا أُلْحِقَ لَوْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ وَالتَّعَدِّيَةُ جَمِيعًا.

(قَالَ: وَلَا يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ إلَخْ) تَزْكِيَةُ السِّرِّ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُزَكَّى فِيهَا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ فَصَلَحَ الْعَبْدُ مُزَكِّيًا لِمَوْلَاهُ وَغَيْرِهِ وَالْوَالِدُ لِوَلَدِهِ وَعَكْسُهُ (فَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ فَهِيَ شَرْطٌ، وَكَذَلِكَ الْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ) وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ يُنَافِي عَدَمَ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ؛ لِأَنَّ الْمُزَكِّي فِي السِّرِّ هُوَ الْمُزَكِّي فِي الْعَلَانِيَةِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَصَّافَ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمُزَكِّي فِي السِّرِّ غَيْرَ الْمُزَكِّي فِي الْعَلَانِيَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ شَرْطًا فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: شَرَطَ الْخَصَّافُ أَنْ يَكُونَ الْمُزَكِّي فِي الْعَلَانِيَةِ غَيْرَ الْمُزَكِّي فِي السِّرِّ، أَمَّا عِنْدَنَا فَاَلَّذِي يُزَكِّيهِمْ فِي السِّرِّ يُزَكِّيهِمْ فِي الْعَلَانِيَةِ

فَصْلٌ:

ص: 382

وَمَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ وَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الشَّاهِدُ أَوْ رَآهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا هُوَ الْمُوجِبُ بِنَفْسِهِ) وَهُوَ الرُّكْنُ فِي إطْلَاقِ الْأَدَاءِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام «إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» قَالَ (وَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ وَلَا يَقُولُ أَشْهَدَنِي) لِأَنَّهُ كَذِبٌ، وَلَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّ النَّغْمَةَ تُشْبِهُ النَّغْمَةَ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ إلَّا

لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَرَاتِبِ الشَّهَادَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ. وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْإِشْهَادِ مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ وَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَإِذَا سَمِعَ الشَّاهِدُ مَا كَانَ مِنْ الْمَسْمُوعَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ رَأَى مَا كَانَ مِنْ الْمُبْصَرَاتِ كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا هُوَ الْمُوجِبُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الْحَادِثَةُ بِمَا يُوجِبُهُ.

وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الْأَدَاءُ بِوُجُودِ مَا هُوَ الرُّكْنُ فِي جَوَازِ الْأَدَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» قِيلَ جَعْلُ الْعِلْمِ بِالْمُوجِبِ رُكْنًا فِي الْأَدَاءِ مُخَالِفٌ لِلنَّصَّيْنِ جَمِيعًا فَإِنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى شَرْطِيَّتِهِ لَا عَلَى رُكْنِيَّتِهِ، إذْ الْأَحْوَالُ شُرُوطٌ وَإِذَا مَوْضُوعَةٌ لِلشَّرْطِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ إشَارَةً إلَى شِدَّةِ احْتِيَاجِ الْأَدَاءِ إلَيْهِ.

قَالَ (وَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ إلَخْ) إذَا سَمِعَ الْمُبَايَعَةَ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهَا وَاحْتِيجَ إلَى الشَّهَادَةِ يَقُولُ الشَّاهِدُ أَشْهَدُ إنَّهُ بَاعَ (وَلَا يَقُولُ أَشْهَدَنِي؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَلَوْ سَمِعَ الْإِقْرَارَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) يُحْجَبُ عَنْ رُؤْيَةِ شَخْصِ الْمُقِرِّ (لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ وَلَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي) بِأَنْ قَالَ أَشْهَدُ بِالسَّمَاعِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ (لَا يَقْبَلُهُ؛ لِأَنَّ النَّغْمَةَ) وَهُوَ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ (تُشْبِهُ النَّغْمَةَ) وَالْمُشْتَبَهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَانْتَفَى الْمُطْلَقُ لِلْأَدَاءِ.

وَقَوْلُهُ: (إلَّا)

ص: 383

إذَا كَانَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ سِوَاهُ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْبَابِ وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ مَسْلَكٌ غَيْرُهُ فَسَمِعَ إقْرَارَ الدَّاخِلِ وَلَا يَرَاهُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.

(وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَإِذَا سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ

إذَا كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا إذَا كَانَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ سِوَاهُ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْبَابِ وَلَيْسَ لِلْبَيْتِ مَسْلَكٌ غَيْرُهُ فَسَمِعَ إقْرَارَ الدَّاخِلِ وَلَا يَرَاهُ وَشَهِدَ عِنْدَهُ اثْنَانِ بِأَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ حِينَئِذٍ، وَكَذَا إذَا رَأَى شَخْصَ الْمُقِرِّ حَالَ الْإِقْرَارِ لِرِقَّةِ الْحِجَابِ، وَلَيْسَتْ رُؤْيَةُ الْوَجْهِ شَرْطًا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.

قَالَ (وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِنَفْسِهِ إلَخْ) النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الشَّهَادَةِ مَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِنَفْسِهِ (مِثْلُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا لَا يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ مَا لَمْ يَشْهَدْ، فَإِذَا سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ

ص: 384

إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُوجِبَةً بِالنَّقْلِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنَابَةِ وَالتَّحْمِيلِ وَلَمْ يُوجَدْ (وَكَذَا لَوْ سَمِعَهُ يُشْهِدُ الشَّاهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لَمْ يَسَعْ لِلسَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ) لِأَنَّهُ مَا حَمَلَهُ وَإِنَّمَا

؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ) أَيْ شَهَادَةَ الْأُصُولِ (مُوجِبَةٌ بِالنَّقْلِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ) وَلَا يَكُونُ النَّقْلُ إلَّا بِالْإِنَابَةِ وَالتَّحْمِيلِ. وَالْأَوَّلُ إشَارَةٌ إلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ رحمه الله فَإِنَّهُ يَقُولُ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ وَلَا تَوْكِيلَ إلَّا بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ، وَالثَّانِي إشَارَةٌ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَجْعَلَاهُ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّحْمِيلِ.

قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى الْفُرُوعِ، لَكِنَّ تَحَمُّلَهُمْ إنَّمَا يَصِحُّ بِعِيَانِ مَا هُوَ حُجَّةٌ، وَالشَّهَادَةُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فَيَجِبُ النَّقْلُ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي لِيَصِيرَ حُجَّةً فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّحْمِيلَ حَصَلَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ النَّقْلِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّحْمِيلِ، وَفِيهِ مُطَالَبَةٌ؛ لِأَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ النَّقْلَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ تَوَقُّفَهُ عَلَى التَّحْمِيلِ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ، فَلَوْ سَلَكْنَا فِيهِ أَنْ نَقُولَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ تَحْمِيلٌ؛ لِأَنَّا لَا نَعْنِي بِهَا إلَّا ذَلِكَ، وَلَا تَحْمِيلَ فِيمَا لَا يَشْهَدُ ثَمَّ الْبَيَانُ، وَعَلَى هَذَا إذَا سَمِعَهُ يُشْهِدُ الشَّاهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِ

ص: 385

حَمَلَ غَيْرَهُ.

وَلَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ إذَا رَأَى خَطَّهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ الشَّهَادَةَ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ. قِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله

لَمْ يَسَعْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ؛ لِأَنَّهُ مَا حَمَّلَهُ وَإِنَّمَا حَمَّلَ غَيْرَهُ.

قَالَ (وَلَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ إذَا رَأَى خَطَّهُ إلَخْ) الشَّاهِدُ إذَا رَأَى خَطَّهُ فِي صَكٍّ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ (؛ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ) وَالْمُشْتَبَهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ كَمَا تَقَدَّمَ (قِيلَ: هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالْخَطِّ وَيُشْتَرَطُ الْحِفْظُ، وَلِهَذَا قَلَّتْ رِوَايَتُهُ لِاشْتِرَاطِهِ فِي الرِّوَايَةِ

ص: 386

وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ. وَقِيلَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ فِي دِيوَانِهِ أَوْ قَضِيَّتَهُ، لِأَنَّ مَا يَكُونُ فِي قِمْطَرِهِ فَهُوَ تَحْتَ خَتْمِهِ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ وَلَا كَذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي الصَّكِّ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا تَذَكَّرَ الْمَجْلِسَ الَّذِي كَانَ فِيهِ الشَّهَادَةُ أَوْ أَخْبَرَهُ قَوْمٌ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّا شَهِدْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ. .

الْحِفْظِ مِنْ وَقْتِ السَّمَاعِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ (وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ) رُخْصَةً (وَقِيلَ هَذَا) أَيْ عَدَمُ حِلِّ الشَّهَادَةِ (بِالِاتِّفَاقِ) وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْقَاضِي شَهَادَةَ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ وَاشْتَبَهَ فِي قِمْطَرِهِ أَيْ خَرِيطَتِهِ وَجَاءَ الْمَشْهُودُ لَهُ يَطْلُبُ الْحُكْمَ وَلَمْ يَحْفَظْهُ الْحَاكِمُ (أَوْ قَضِيَّتَهُ) أَيْ وَجَدَ حُكْمَهُ مَكْتُوبًا فِي خَرِيطَتِهِ كَذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله لَا يَرَى جَوَازَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ وَهُمَا جَوَّزَاهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ يَعْجِزُ عَنْ أَنْ يَحْفَظَ كُلَّ حَادِثَةٍ وَلِهَذَا يَكْتُبُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ إذْ جَازَ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ الَّذِي لَيْسَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَإِذَا كَانَ فِي قِمْطَرِهِ تَحْتَ خَتْمِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ يَدٌ مُغَيِّرَةٌ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ (وَلَا كَذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي الصَّكِّ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ وَعَلَى هَذَا) الِاخْتِلَافِ (إذَا ذَكَرَ الْمَجْلِسَ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ أَوْ أَخْبَرَهُ قَوْمٌ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِمْ أَنَّا شَهِدْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ) فَإِنَّهُ قِيلَ لَا يَحِلُّ لَهُ

ص: 387

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ إلَّا النَّسَبَ وَالْمَوْتَ وَالنِّكَاحَ وَالدُّخُولَ وَوِلَايَةَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ

ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ، وَقِيلَ لَا يَحِلُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ إلَخْ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِلْمَ شَرْطُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ (فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ إلَّا النَّسَبَ وَالْمَوْتَ وَالنِّكَاحَ وَالدُّخُولَ وَوِلَايَةَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ)

ص: 388

مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ وَذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَلَمْ يَحْصُلْ فَصَارَ كَالْبَيْعِ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ تَخْتَصُّ بِمُعَايَنَةِ أَسْبَابِهَا خَوَّاصٌ مِنْ النَّاسِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ تَبْقَى عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرُونِ،

بِالِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ (وَذَلِكَ بِالْعِلْمِ) أَيْ الْمُشَاهَدَةِ وَكَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَكُونُ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْمُشَاهَدَةُ تَكُونُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ (وَلَمْ يَحْصُلْ فَصَارَ كَالْبَيْعِ) فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ بِالسَّمَاعِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ (وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ) الْأُمُورَ الْخَمْسَةَ لَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهَا (أُمُورٌ تَخْتَصُّ بِمُعَايَنَةِ أَسْبَابِهَا خَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ) لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا هُمْ (وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ تَبْقَى عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرُونِ) كَالْإِرْثِ فِي النَّسَبِ وَالْمَوْتِ

ص: 389

فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِالِاشْتِهَارِ وَذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ.

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِيَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ عِلْمٍ. وَقِيلَ فِي الْمَوْتِ يَكْتَفِي بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يُشَاهِدُ غَيْرُ الْوَاحِدِ إذْ الْإِنْسَانُ يَهَابُهُ وَيَكْرَهُهُ فَيَكُونُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ بَعْضُ الْحَرَجِ، وَلَا كَذَلِكَ النَّسَبُ وَالنِّكَاحُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ

وَالنِّكَاحِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي وَكَمَالِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَالنَّسَبِ فِي الدُّخُولِ (فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى ذَلِكَ) وَهُوَ بَاطِلٌ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ مِمَّا يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الِاسْتِحْسَانُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ فَإِنَّ الْعِلْمَ مَشْرُوطٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا عِلْمَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.

أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ) يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنْ لَا عِلْمَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ (أَنْ يَشْهَدَ بِالِاشْتِهَارِ وَذَلِكَ التَّوَاتُرُ أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ) وَبَيَّنَ أَنَّ الْعَدَدَ فِيمَنْ يَثِقُ بِهِ شَرْطٌ وَهُوَ (أَنْ يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِيَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ عِلْمٍ) وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ مَا لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامَّةِ بِحَيْثُ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ صِدْقُ الْخَبَرِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الشُّهْرَةُ عِنْدَهُمَا بِخَبَرِ عَدْلَيْنِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا قَالُوا؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ زِيَادَةَ عِلْمٍ شَرْعًا لَا يُوجِبُهَا لَفْظُ الْخَبَرِ (وَقِيلَ يُكْتَفَى فِي الْمَوْتِ بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدَةٍ) فَرَّقُوا جَمِيعًا بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: أَيْ النِّكَاحِ وَالْوِلَادَةِ وَتَقْلِيدِ الْإِمَامِ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا أَنْ تَكُونَ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ، أَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، وَالْوِلَادَةُ فَإِنَّهَا تَكُونُ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ فِي الْغَالِبِ، وَكَذَلِكَ تَقْلِيدُ الْإِمَامِ لِلْقَضَاءِ.

وَأَمَّا الْمَوْتُ (فَإِنَّهُ قَلَّمَا يُشَاهِدُهُ غَيْرُ الْوَاحِدِ إذْ الْإِنْسَانُ يَهَابُهُ وَيَكْرَهُهُ فَيَكُونُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ بَعْضُ الْحَرَجِ) بِخِلَافِ النَّسَبِ وَالنِّكَاحِ (وَقَوْلُهُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ) بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ ذَلِكَ فَيَقُولَ فِي النَّسَبِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ كَمَا يَشْهَدُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما ابْنَا أَبِي قُحَافَةَ وَالْخَطَّابِ وَلَمْ

ص: 390

أَمَّا إذَا فَسَّرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالتَّسَامُعِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ كَمَا أَنَّ مُعَايَنَةَ الْيَدِ فِي الْأَمْلَاكِ تُطْلِقُ الشَّهَادَةَ، ثُمَّ إذَا فَسَّرَ لَا تُقْبَلُ كَذَا هَذَا.

وَلَوْ رَأَى إنْسَانًا جَلَسَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخُصُومُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى كَوْنِهِ قَاضِيًا وَكَذَا إذَا رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً يَسْكُنَانِ بَيْتًا وَيَنْبَسِطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ انْبِسَاطَ الْأَزْوَاجِ كَمَا إذَا رَأَى عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِ. وَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ شَهِدَ دَفْنَ فُلَانٍ أَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ فَهُوَ مُعَايَنَةٌ، حَتَّى لَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي قَبْلَهُ ثُمَّ قَصَرَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكِتَابِ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ يَنْفِي اعْتِبَارَ التَّسَامُعِ فِي الْوَلَاءِ وَالْوَقْفِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله آخِرًا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَلَاءِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ»

يُشَاهِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ (فَأَمَّا إذَا فَسَّرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالتَّسَامُعِ لَمْ تُقْبَلْ كَمَا أَنَّ مُعَايَنَةَ الْيَدِ فِي الْأَمْلَاكِ تُطْلِقُ الشَّهَادَةَ وَإِذَا فَسَّرَ) بِأَنَّهُ إنَّمَا يَشْهَدُ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ فِي يَدِهِ (لَا تُقْبَلُ كَذَلِكَ هَذَا، وَلَوْ رَأَى إنْسَانًا جَلَسَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخُصُومُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِكَوْنِهِ قَاضِيًا) وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ تَقْلِيدَ الْإِمَامِ إيَّاهُ (وَإِذَا رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً يَسْكُنَانِ بَيْتًا وَيَنْبَسِطُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ انْبِسَاطَ الْأَزْوَاجِ) جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ، فَإِنْ سَأَلَهُ الْقَاضِي هَلْ كُنْت حَاضِرًا؟ فَقَالَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالتَّسَامُعِ كَمَا يَشْهَدُ بِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَعَلَى الرُّؤْيَةِ أَوْلَى.

وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَمْ يُعَايِنْ الْعَقْدَ تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ شَهِدَ بِهِ بِالتَّسَامُعِ، وَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ؛ لِأَنِّي سَمِعْت لَا تُقْبَلُ فَكَذَا هَذَا (وَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ شَهِدَ دَفْنَ فُلَانٍ أَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ فَهُوَ مُعَايَنَةٌ حَتَّى لَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي قَبْلَهُ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْفَنُ إلَّا الْمَيِّتُ وَلَا يُصَلَّى إلَّا عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَا نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ مَنْ نَثِقُ بِهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا هُوَ الْأَصَحُّ. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الدُّخُولِ بِالشُّهْرَةِ وَالتَّسَامُعِ فَقَدْ ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مَشْهُورَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا فَفِي عَدَمِ قَبُولِهَا حَرَجٌ وَتَعْطِيلٌ.

وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ قَصَرَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكِتَابِ) بَيَانُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالتَّسَامُعِ هَلْ هِيَ مَحْصُورَةٌ فِيمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَوْ لَا فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَحْصُورَةٌ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله آخِرًا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ») وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ بِالتَّسَامُعِ

ص: 391

وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ، إلَّا أَنَّا نَقُولُ الْوَلَاءُ يُبْتَنَى عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمُعَايَنَةِ فَكَذَا فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْوَقْفُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِي أَصْلِهِ دُونَ شَرَائِطِهِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ هُوَ الَّذِي يَشْتَهِرُ.

جَائِزَةٌ كَمَا مَرَّ فَكَذَا عَلَى الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ قَنْبَرًا مَوْلَى عَلِيٍّ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَإِنْ لَمْ نُدْرِكْ ذَلِكَ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ فِي الْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ).

وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَلَاءَ يَبْتَنِي عَلَى إزَالَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمُعَايَنَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِكَلَامٍ تَسْمَعُهُ النَّاسُ وَلَيْسَ كَالْوِلَادَةِ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى إقَامَةِ التَّسَامُعِ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعِتْقِ بِالتَّسَامُعِ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْوَقْفُ فَذَهَبَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إلَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ مُطْلَقًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الْكِتَابِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُقْبَلُ فِي أَصْلِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ دُونَ شَرَائِطِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ هُوَ الَّذِي يَشْتَهِرُ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْجِهَةِ بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ وُقِفَ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَقْبَرَةِ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِمْ لَا تُقْبَلُ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.

ص: 392

قَالَ (وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَسِعَك أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ) لِأَنَّ الْيَدَ أَقْصَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمِلْكِ إذْ هِيَ مَرْجِعُ الدَّلَالَةِ فِي الْأَسْبَابِ كُلِّهَا فَيَكْتَفِي بِهَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ

قَالَ وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ إلَخْ) رَجُلٌ رَأَى عَيْنًا فِي يَدِ آخَرَ ثُمَّ رَآهَا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْمِلْكَ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِأَنَّهُ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْيَدَ أَقْصَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمِلْكِ إذْ هِيَ مَرْجِعُ الدَّلَالَةِ فِي الْأَسْبَابِ كُلِّهَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ عَايَنَ الْبَيْعَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ لَا يَعْلَمُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي إلَّا بِمِلْكِ الْبَائِعِ وَمِلْكُ الْبَائِعِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالْيَدِ، وَأَقْصَى

ص: 393

قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرًا لِإِطْلَاقِ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي الرِّوَايَةِ فَيَكُونُ شَرْطًا عَلَى الِاتِّفَاقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: دَلِيلُ الْمِلْكِ الْيَدُ مَعَ التَّصَرُّفِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رحمهم الله لِأَنَّ الْيَدَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى إنَابَةٍ وَمِلْكٍ.

قُلْنَا: وَالتَّصَرُّفُ يَتَنَوَّعُ أَيْضًا إلَى نِيَابَةٍ وَأَصَالَةٍ. ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ: إنْ عَايَنَ الْمَالِكُ الْمِلْكَ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَكَذَا

مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ انْسِدَادُ بَابِ الشَّهَادَةِ الْمَفْتُوحِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهَا إذَا لَمْ تَجُزْ بِحُكْمِ الْيَدِ انْسَدَّ بَابُهَا.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ لَهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّهَادَةِ الْعِلْمُ بِالنَّصِّ وَعِنْدَ إعْوَازِ ذَلِكَ يُصَارُ إلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الْقَلْبُ (قَالُوا: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ شَهَادَةِ الْقَلْبِ (تَفْسِيرَ إطْلَاقِ مُحَمَّدٍ فِي الرِّوَايَةِ) وَهُوَ قَوْلُهُ: وَسِعَك أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ: يَعْنِي إذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ. قِيلَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي الشَّهَادَةِ لَقَبِلَهَا الْقَاضِي إذَا قَيَّدَهَا الشَّاهِدُ بِمَا اسْتَفَادَ الْعِلْمَ بِهِ مِنْ مُعَايَنَةِ الْيَدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّا جَعَلْنَا الْعِيَانَ مُجَوِّزًا لِلشَّاهِدِ أَنْ يَقْدَمَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ لِمَا قُلْنَا، وَأَمَّا أَنْ يَلْزَمَ الْقَاضِيَ الْعَمَلُ بِهِ فَلَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ دَارٌ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا وَأَرَادَ ذُو الْيَدِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَالْقَاضِي لَا يَقْضِي لَهُ عِنْدَ إنْكَارِ الْمُشْتَرِي أَنْ تَكُونَ الدَّارُ مِلْكَ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْعِيَانَ لَيْسَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ.

(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: دَلِيلُ الْمِلْكِ الْيَدُ مَعَ التَّصَرُّفِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا) وَهُوَ الْخَصَّافُ (؛ لِأَنَّ الْيَدَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى إنَابَةٍ وَمِلْكٍ) فَلَا تُفِيدُ الْعِلْمَ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِّ التَّصَرُّفِ إلَيْهَا.

وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّصَرُّفَ كَذَلِكَ، وَضَمُّ مُحْتَمَلٍ إلَى مُحْتَمَلٍ يَزِيدُ الِاحْتِمَالَ فَيَنْتَفِي الْعِلْمَ (ثُمَّ) هَذِهِ (الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ) أَرْبَعَةٍ بِالْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ:؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعَايِنَ الْمِلْكَ وَالْمَالِكَ، أَوْ لَمْ يُعَايِنْهُمَا،

ص: 394

إذَا عَايَنَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ دُونَ الْمَالِكِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ فَيَحْصُلُ مَعْرِفَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْهَا أَوْ عَايَنَ الْمَالِكَ دُونَ الْمِلْكِ لَا يَحِلُّ لَهُ.

أَوْ عَايَنَ الْمِلْكَ دُونَ الْمَالِكِ أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِأَنْ عَرَفَ الْمَالِكَ بِوَجْهِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَعَرَفَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ وَحُقُوقِهِ وَرَآهُ فِي يَدِهِ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَنْ عِلْمٍ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَسَمِعَ مِنْ النَّاسِ أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ضَيْعَةً فِي بَلَدِ كَذَا حُدُودُهَا كَذَا وَكَذَا لَا يَشْهَدُ؛ لِأَنَّهُ مُجَازِفٌ فِي الشَّهَادَةِ.

وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ وَهُوَ إنْ عَايَنَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ يُنْسَبُ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ وَلَمْ يُعَايِنْهُ بِوَجْهِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ بِنَسَبِهِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِالْمِلْكِ لِلْمَالِكِ مَعَ جَهَالَةِ الْمَشْهُودِ لَهُ وَجَهَالَةُ الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ جَوَازَ الشَّهَادَةِ فَكَذَا جَهَالَةُ الْمَشْهُودِ لَهُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَعْلُومٌ وَالنَّسَبَ يَثْبُتُ بِالشُّهْرَةِ وَالتَّسَامُعِ فَكَانَتْ شَهَادَةً بِمَعْلُومٍ لِمَعْلُومٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الْمِلْكِ إنْ كَانَتْ امْرَأَةً لَا تَبْرُزُ وَلَا تَخْرُجُ كَانَ اعْتِبَارُ مُشَاهَدَتِهَا وَتَصَرُّفِهَا بِنَفْسِهَا لِجَوَازِ الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ مُبْطِلًا لِحَقِّهَا وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَعُورِضَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الشَّهَادَةَ بِالتَّسَامُعِ فِي الْأَمْوَالِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَالِ لَيْسَتْ بِالتَّسَامُعِ بَلْ بِالْعِيَانِ، وَالتَّسَامُعُ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّسَبِ قَصْدًا وَهُوَ مَقْبُولٌ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ يَثْبُتُ الْمَالُ وَالِاعْتِبَارُ لِلْمُتَضَمِّنِ. وَإِنْ كَانَ الرَّابِعُ فَهُوَ كَالثَّانِي لِجَهَالَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ.

ص: 395

وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَكُونُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ إلَّا أَنَّهُمَا صَغِيرَانِ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ فَذَلِكَ مَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيُدْفَعُ يَدُ الْغَيْرِ عَنْهُمَا فَانْعَدَمَ دَلِيلُ الْمِلْكِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِمَا أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالثِّيَابِ، وَالْفَرْقُ مَا بَيِّنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ) مَرْدُودٌ إلَى قَوْلِهِ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا رَأَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً فِي يَدِ شَخْصٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَعْرِفَ رِقَّهُمَا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُمَا مِلْكُ مَنْ هُمَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَكُونُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا أَوْ كَبِيرَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ عَاقِلًا غَيْرَ بَالِغٍ كَانَ أَوْ بَالِغًا فَذَلِكَ مَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، فَإِنَّ الْيَدَ فِي ذَلِكَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي أَيْدِي أَنْفُسِهِمَا وَذَلِكَ يَرْفَعُ يَدَ الْغَيْرِ عَنْهُمَا حُكْمًا، حَتَّى إنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي يَعْقِلُ إنْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ جَازَ وَيَصْنَعُ بِهِ الْمُقَرُّ لَهُ مَا يَصْنَعُ بِمُلُوكِهِ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ لَوْ كَانَا لِتَعْبِيرِهِمَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا لَاعْتُبِرَ دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ مِنْهُمَا بَعْدَ الْكِبَرِ فِي يَدِ مَنْ يَدَّعِي رِقَّهُمَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ لِثُبُوتِ الرِّقِّ عَلَيْهِمَا لِلْمَوْلَى فِي الصِّغَرِ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمَا رِقٌّ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِمَا أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالثِّيَابِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَجَعَلُوا الْيَدَ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ فِي الْكُلِّ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ وَذُو الْيَدِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فَالْقَوْلُ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِقِيَامِ يَدِهِ كَمَا فِي الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا وَهُوَ قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا يَدْفَعَانِ بِهَا يَدَ الْغَيْرِ عَنْهُمَا، بِخِلَافِ الثِّيَابِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 396

(بَابُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ)

قَالَ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: تُقْبَلُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى السَّمَاعِ وَلَا خَلَلَ فِيهِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَجُوزُ إذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْأَدَاءُ يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ وَلِسَانُهُ غَيْرُ مُوفٍ وَالتَّعْرِيفُ يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَيِّتِ.

بَابُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ:

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا تُسْمَعُ فِيهِ الشَّهَادَةُ وَمَا لَا تُسْمَعُ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ تُسْمَعُ مِنْهُ الشَّهَادَةُ وَمَنْ لَا تُسْمَعُ، وَقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ مَحَالُّ الشَّهَادَةِ وَالْمَحَالُّ شُرُوطٌ وَالشُّرُوطُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَأَصْلُ رَدِّ الشَّهَادَةِ وَمَبْنَاهُ التُّهْمَةُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ» وَلِأَنَّهَا خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَحُجَّتُهُ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ وَبِالتُّهْمَةِ لَا يَتَرَجَّحُ، وَهِيَ قَدْ تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الشَّاهِدِ كَالْفِسْقِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَنْزَجِرُ عَنْ غَيْرِ الْكَذِبِ مِنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ فَقَدْ لَا يَنْزَجِرُ عَنْهُ أَيْضًا فَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ، وَقَدْ تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الْمَشْهُودِ لَهُ مِنْ قَرَابَةٍ يُتَّهَمُ بِهَا بِإِيثَارِ الْمَشْهُودِ لَهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ كَالْوِلَادَةِ وَقَدْ تَكُونُ لِخَلَلٍ فِي أَدَاءِ التَّمْيِيزِ كَالْعَمَى الْمُفْضِي إلَى تُهْمَةِ الْغَلَطِ فِيهَا وَقَدْ تَكُونُ بِالْعَجْزِ عَمَّا جَعَلَ الشَّرْعُ دَلِيلَ صِدْقِهِ كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى إلَخْ) شَهَادَةُ الْأَعْمَى إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ كَالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قُبِلَتْ عِنْدَ زُفَرَ وَهُوَ

ص: 397

وَلَنَا أَنَّ الْأَدَاءَ يَفْتَقِرُ إلَى التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمَيِّزُ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ، وَفِيهِ شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ وَالنِّسْبَةِ لِتَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ فَصَارَ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

وَلَوْ عَمِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ يَمْتَنِعُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ قِيَامَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ وَقْتَ الْقَضَاءِ

رِوَايَةُ ابْنِ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ وَالْمَشْهُودِ بِهِ غَيْرُ مَنْقُولٍ قُبِلَتْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ، وَإِنْ انْتَفَى أَحَدُهُمَا لَمْ تُقْبَلْ بِالِاتِّفَاقِ. فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْإِبْصَارُ عِنْدَ التَّحَمُّلِ، وَعِنْدَهُمَا اسْتِمْرَارُهُ، حَتَّى لَوْ عَمِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ. أَمَّا عَدَمُ الْقَبُولِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَلِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالصَّوْتُ وَالنَّغْمَةُ فِي حَقِّ الْأَعْمَى يَقُومُ مَقَامَ الْمُعَايَنَةِ، وَالْحُدُودُ لَا تَثْبُتُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ. وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ فَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى السَّمَاعِ وَلَا خَلَلَ فِيهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ ذَلِكَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَسَيَأْتِي جَوَابٌ آخَرُ.

وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُعَايَنَةِ حَصَلَ عَنْهُ التَّحَمُّلُ، وَمَنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِالْمُعَايَنَةِ عِنْدَ التَّحَمُّلِ صَحَّ تَحَمُّلُهُ لَا مَحَالَةَ، وَالْأَدَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَلَا خَلَلَ فِي الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ لِسَانَهُ غَيْرُ مُوَفٍّ فَكَانَ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ مَوْجُودًا وَالْمَانِعُ وَهُوَ عَدَمُ التَّعْرِيفِ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْمَيِّتِ إذَا شَهِدَا عَلَى الْمَيِّتِ بِأَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ كَذَا مِنْ الدَّيْنِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا ذَكَرَ نِسْبَتَهُ.

وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَوْلَ يَسْتَبِدُّ بِتَحْصِيلِ الْأَدَاءِ بَلْ الْأَدَاءُ مُفْتَقِرٌ إلَى التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمَيِّزُ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ، وَفِيهِ أَيْ فِي النَّغْمَةِ بِتَأْوِيلِ الصَّوْتِ شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ، فَإِنَّ بِالشُّهُودِ الْبُصَرَاءِ كَثْرَةً وَفِيهِمْ غُنْيَةً عَنْ شَهَادَةِ الْأَعْمَى، وَالْمُرَادُ بِالتَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ التَّمَكُّنُ مِنْهُ لِئَلَّا يُنْتَقَضَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْغَائِبِ لِأَجْلِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهَا تُقْبَلُ، وَلَا إشَارَةَ ثَمَّةَ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحُضُورِ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى. وَفِي قَوْلِهِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَنْ الْمَيِّتِ، فَإِنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ وَإِنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الشُّهُودِ يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الِاسْمِ، وَالنِّسْبَةِ مَقَامَ الْإِشَارَةِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ غَيْبَتِهِ، وَإِلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ قَدْ اعْتَبَرْتُمْ النَّغْمَةَ مُمَيَّزَةً لِلْأَعْمَى فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ الْأَمْوَالِ وَهُوَ وَطْءُ زَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمَيِّزُهُمَا عَنْ غَيْرِهِمَا إلَّا بِالنَّغْمَةِ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ.

وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهَا بِغَيْرِهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ مَعَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَاتِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الْمَانِعِ فَإِنَّ انْتِفَاءَهُ بِحُصُولِ التَّعْرِيفِ بِالنِّسْبَةِ وَالنِّسْبَةُ لِتَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ أَيْضًا إلَى الْجَوَابِ عَنْ الْمَيِّتِ فَصَارَ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي كَوْنِ النِّسْبَةِ غَيْرَ مُفِيدَةٍ لِلتَّعْرِيفِ.

وَأَمَّا وَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَنْعِ

ص: 398

لِصَيْرُورَتِهَا حُجَّةً عِنْدَهُ وَقَدْ بَطَلَتْ وَصَارَ كَمَا إذَا خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ فَسَقَ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا، لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْمَوْتِ قَدْ انْتَهَتْ وَبِالْغَيْبَةِ مَا بَطَلَتْ.

(قَالَ وَلَا الْمَمْلُوكِ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ لَا يَلِي نَفْسَهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ

الْقَضَاءِ بِالْعَمَى الطَّارِئِ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَهُوَ أَنَّ شَرْطَ الْقَضَاءِ قِيَامُ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِصَيْرُورَةِ الشَّهَادَةِ حُجَّةً عِنْدَهُ، وَلَا قِيَامَ لَهَا بِالْعَمَى فَصَارَ كَمَا إذَا خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ فَسَقَ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ، وَالْأَمْرُ الْكُلِّيُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا يَمْنَعُ الْأَدَاءَ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَدَائِهَا الْقَضَاءُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَمْنَعُ الْأَدَاءَ بِالْإِجْمَاعِ فَتَمْنَعُ الْقَضَاءَ، وَالْعَمَى الطَّارِئُ بَعْدَ التَّحَمُّلِ يَمْنَعُ الْأَدَاءَ عِنْدَهُمَا فَيَمْنَعُ الْقَضَاءَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَمْنَعُ الْأَدَاءَ فَلَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قِيَامَ الْأَهْلِيَّةِ وَقْتَ الْقَضَاءِ شَرْطٌ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ إذَا مَاتَ أَوْ غَابَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا يُمْنَعُ الْقَضَاءُ وَلَا أَهْلِيَّةَ عِنْدَهُ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْمَوْتِ انْتَهَتْ وَالشَّيْءُ يَتَقَرَّرُ بِانْتِهَائِهِ وَبِالْغَيْبَةِ مَا بَطَلَتْ

(قَالَ وَلَا الْمَمْلُوكِ إلَخْ) لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَمْلُوكِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وِلَايَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ

ص: 399

(وَلَا الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} وَلِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَانِعًا فَيَبْقَى بَعْدَ التَّوْبَةِ كَأَصْلِهِ، بِخِلَافِ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ لِأَنَّ الرَّدَّ لِلْفِسْقِ وَقَدْ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله

وَلَا الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الْأَبَدِ وَهُوَ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهِ يُنَافِي الْقَبُولَ فِي وَقْتٍ مَا، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَهُمْ: أَيْ لِلْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ وَبِالتَّوْبَةِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ؛ وَلِأَنَّهُ يَعْنِي رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَانِعًا عَنْ الْقَذْفِ كَالْجَلْدِ وَالْحَدِّ وَهُوَ الْأَصْلُ يَبْقَى بَعْدَ التَّوْبَةِ لِعَدَمِ سُقُوطِهِ بِهَا فَكَذَا تَتِمَّتُهُ اعْتِبَارًا لَهُ بِالْأَصْلِ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَاسِقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وَالْفَاسِقُ إذَا تَابَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَالْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ إنْ كَانَ لِلْفِسْقِ زَالَ بِزَوَالِهِ بِالتَّوْبَةِ فَقُبِلَتْ كَالْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ لِلْفِسْقِ إذْ الْحُكْمُ الثَّابِتُ لَهُ التَّوَقُّفُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} لَا النَّهْيُ عَنْ الْقَبُولِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا تَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} اسْتَثْنَى التَّائِبَ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجَمِيعِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا إلَّا الَّذِينَ تَابُوا.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا يَلِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وَهُوَ

ص: 400

تُقْبَلُ إذَا تَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} اسْتَثْنَى التَّائِبَ. قُلْنَا: الِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيه وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}

لَيْسَ بِمَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ طَلَبِيٌّ وَهُوَ إخْبَارِيٌّ. فَإِنْ قُلْت: فَاجْعَلْهُ بِمَعْنَى الطَّلَبِيِّ لِيَصِحَّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قُلْت: يَأْبَاهُ ضَمِيرُ الْفَصْلِ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ حَصْرَ أَحَدِ الْمُسْنَدَيْنِ فِي الْآخَرِ وَهُوَ يُؤَكِّدُ الْإِخْبَارِيَّةَ. سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ يَلْزَمُ جَعْلُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ كَانَ إذْ ذَاكَ جَزَاءً فَلَا يَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ

ص: 401

أَوْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ.

(وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ) لِأَنَّ لِلْكَافِرِ شَهَادَةٌ فَكَانَ رَدُّهَا مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ، وَبِالْإِسْلَامِ حَدَّثَتْ لَهُ شَهَادَةٌ أُخْرَى، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا فَتَمَامُ حَدِّهِ يَرُدُّ شَهَادَتَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ.

كَأَصْلِ الْحَدِّ وَهُوَ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ. سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ كَانَ أَبَدًا مَجَازًا عَنْ مُدَّةٍ غَيْرِ مُتَطَاوِلَةٍ وَلَيْسَ بِمَعْهُودٍ. سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ جَعْلَهُ مَجَازًا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا بَلْ جَعْلُهُ مُنْقَطِعًا أَوْلَى دَفْعًا لِلْمَحْذُورَاتِ، وَتَمَامُ الْعُثُورِ عَلَى هَذَا الْمَبْحَثِ يَقْتَضِي مُطَالَعَةَ تَقْرِيرِنَا فِي تَقْرِيرِنَا فِي الِاسْتِدْلَالَاتِ الْفَاسِدَةِ.

قَوْلُهُ: (وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ) يَعْنِي إذَا حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْكُفَّارِ، فَإِذَا أَسْلَمَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ لِلْكَافِرِ شَهَادَةً عَلَى مِثْلِهِ، وَمَنْ لَهُ ذَلِكَ وَحُدَّ فِي الْقَذْفِ كَانَ رَدُّ شَهَادَتِهِ مِنْ تَتِمَّةِ حَدِّهِ، وَبِالْإِسْلَامِ حَدَّثَتْ لَهُ شَهَادَةٌ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ الْأُولَى فَلَا يَكُونُ الرَّدُّ مِنْ تَمَامِهَا، وَالْعَبْدُ إذَا حُدَّ فِي الْقَذْفِ ثُمَّ أُعْتِقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ إلَّا مَا كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَجُعِلَ رَدُّهَا مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مُسْلِمٍ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ فَخَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ فِي الْقَذْفِ حَيْثُ جُعِلَ الْقَذْفُ قَائِمًا فِي حَقِّهِ إلَى حُصُولِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَجْعَلْ الزِّنَا قَائِمًا إلَى حُصُولِ نُفُوذِ الْوِلَايَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الزِّنَا لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْحَدِّ لِانْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا، وَالْقَذْفُ مُوجِبٌ فِي حَقِّ الْأَصْلِ فَيُوجِبُ الْوَصْفَ عِنْدَ إمْكَانِهِ.

وَاعْتُرِضَ عَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْيِيدِ الْحَدِّ بِكَوْنِهِ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُدَّ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ أَيْضًا لِمُلَاقَاةِ الْحَدِّ وَقْتَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَأَوْجَبَ الرَّدَّ.

وَأَمَّا إذَا قَذَفَ

ص: 402

(قَالَ وَلَا شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَلَا الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ» وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ مُتَّصِلَةٌ لِهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ فَتَكُونُ شَهَادَةٌ

الْكَافِرُ مُسْلِمًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَحُدَّ فِي حَالِ إسْلَامٍ لَمْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ حُدَّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ قُبِلَتْ فَكَانَ ذِكْرُ الْحَدِّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُفِيدًا. وَالْجَوَابُ أَنَّ فَائِدَتَهُ تَطْبِيقُ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي عُرُوضِ مَا يَعْرِضُ بَعْدَ الْحَدِّ مَعَ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ الْمُحْوِجِ إلَى الْفَرْقِ. وَأَمَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ كَمَا أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ قَبْلَهُ فَلَا مُنَافَاةَ فِيهِ.

قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَلَا الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ») قِيلَ: مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ لِسَيِّدِهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ فِي حَقِّ أَحَدٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا عَدَّ مَوَاضِعَ التُّهْمَةِ ذَكَرَ الْعَبْدَ مَعَ السَّيِّدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ لَمْ تُقْبَلْ فِي حَقِّ سَيِّدِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ مُتَّصِلَةٌ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ

ص: 403

لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ تَتَمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ. قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ عَلَى مَا قَالُوا التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَعُدُّ ضَرَرَ أُسْتَاذِهِ ضَرَرَ نَفْسِهِ وَنَفْعَهُ نَفْعَ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ» وَقِيلَ الْمُرَادُ الْأَجِيرُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهِرَةً أَوْ مُيَاوَمَةً فَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِمَنَافِعِهِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَأْجَرِ عَلَيْهَا.

إلَيْهِمْ، وَاتِّصَالُهَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ أَنْ يَتَمَكَّنَ فِيهِ شُبْهَةٌ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ عَلَى مَا قَالَ الْمَشَايِخُ هُوَ التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَعُدُّ ضُرَّ أُسْتَاذِهِ ضَرَرَ نَفْسِهِ وَنَفْعَهُ نَفْعَ نَفْسِهِ) قِيلَ: التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ هُوَ الَّذِي يَأْكُلُ مَعَهُ وَفِي عِيَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ» مِنْ الْقُنُوعِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّائِلِ يَطْلُبُ مَعَاشَهُ مِنْهُمْ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَجِيرُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً، وَهُوَ الْأَجِيرُ الْوَاحِدُ فَيَسْتَوْجِبُ: أَيْ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرُ بِمَنَافِعِهِ، وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَتِهَا فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَأْجَرِ عَلَيْهَا، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ تُرِكَ بِهِ وَجْهُ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَبُولُهَا لِكَوْنِهَا شَهَادَةَ عَدْلٍ لِغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إذْ لَيْسَ لَهُ فِيمَا شَهِدَ فِيهِ مِلْكٌ وَلَا حَقٌّ وَلَا شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ بِسَبَبِ اتِّصَالِ الْمَنَافِعِ، وَلِهَذَا جَازَ شَهَادَةُ الْأُسْتَاذِ لَهُ وَوَضْعُ الزَّكَاةِ فِيهِ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُنْعَقِدَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ حُجَّةٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ. وَأَمَّا شَهَادَةُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فَمَقْبُولَةٌ

ص: 404

قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: تُقْبَلُ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَالْأَيْدِي مُتَحَيِّزَةٌ وَلِهَذَا يَجْرِي الْقِصَاصُ وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ بَيْنَهُمَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لِثُبُوتِهِ ضِمْنًا كَمَا فِي الْغَرِيمِ إذَا شَهِدَ لِمَدْيُونِهِ الْمُفْلِسِ

؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِأُسْتَاذِهِ، وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِهِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ.

قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ، وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَالْأَيْدِيَ مُتَحَيِّزَةٌ) أَيْ يَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُجْتَمِعَةٌ بِنَفْسِهَا غَيْرُ مُتَفَرِّقَةٍ فِي مِلْكِ الْآخَرِ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ إلَيْهِ، وَلِهَذَا يُقْضَى مِنْ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَيُحْبَسُ بِدَيْنِهِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ كَالْأَخَوَيْنِ وَأَوْلَادِ الْعَمِّ وَغَيْرِهِمْ. لَا يُقَالُ: فِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ نَفْعٌ لِلشَّاهِدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُدُّ نَفْعَ صَاحِبِهِ نَفْعَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَصْدِيٍّ بَلْ حَصَلَ فِي ضِمْنِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا. كَرَبِّ الدَّيْنِ إذَا شَهِدَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ مُفْلِسٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ نَفْعٌ لِحُصُولِهِ ضِمْنًا

ص: 405

وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مُتَّصِلٌ عَادَةً وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَيَصِيرُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ يَصِيرُ مُتَّهَمًا، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ عَلَى الْمَشْهُودِ بِهِ.

(وَلَنَا مَا رَوَيْنَا) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ» (وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مُتَّصِلٌ) وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ (وَهُوَ) أَيْ الِانْتِفَاعُ (هُوَ الْمَقْصُودُ) مِنْ الْأَمْوَالِ (فَيَصِيرُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ يَصِيرُ مُتَّهَمًا) فِي شَهَادَتِهِ بِجَرِّ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ وَشَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ مَرْدُودَةٌ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْغَرِيمِ) جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ الْغَرِيمَ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمَشْهُودِ بِهِ إذْ هُوَ مَالُ الْمَدْيُونِ وَلَا تَصَرُّفَ لَهُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ لِكَوْنِهِ قَوَّامًا عَلَيْهَا هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهَا عَادَةً. لَا يُقَالُ: الْغَرِيمُ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ يَأْخُذُهُ؛ لِأَنَّ الظَّفَرَ أَمْرٌ مَوْهُومٌ وَحَقُّ الْأَخْذِ

ص: 406

(وَلَا شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ مِنْ وَجْهِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّ الْحَالَ مَوْقُوفٌ مُرَاعَى (وَلَا لِمُكَاتَبِهِ) لِمَا قُلْنَا.

(وَلَا شَهَادَةُ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا، وَلَوْ شَهِدَ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ.

(وَتَقْبَلُ‌

‌ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَعَمِّهِ)

لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ وَمَنَافِعَهَا مُتَبَايِنَةٌ وَلَا بُسُوطَةَ لِبَعْضِهِمْ فِي مَالِ الْبَعْضِ.

بِنَاءً عَلَيْهِ وَلَا كَذَلِكَ الزَّوْجَانِ.

قَالَ (وَلَا شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ إلَخْ) لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ لِمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُ لَهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهِيَ لَهُ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْحَالَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى بَيْنَ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ لِلْغُرَمَاءِ بِسَبَبِ بَيْعِهِمْ فِي دَيْنِهِمْ وَبَيْنَ أَنْ يَبْقَى لِلْمَوْلَى كَمَا كَانَ بِسَبَبِ قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهِيَ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا يَمْلِكُ لِمَوْلَاهُ (وَلَا) تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَى (لِمُكَاتَبِهِ لِمَا قُلْنَا) مِنْ كَوْنِ الْحَالِ مَوْقُوفًا مُرَاعًى؛ لِأَنَّهُ إنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ صَارَ أَجْنَبِيًّا، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ عَادَ رَقِيقًا فَكَانَتْ شَهَادَةً لِنَفْسِهِ.

(وَلَا شَهَادَةُ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا)؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ فِي الْبَعْضِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَعْضُ بَطَلَ الْكُلُّ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُتَجَزِّئَةٍ إذْ هِيَ شَهَادَةٌ وَاحِدَةٌ (وَلَوْ شَهِدَ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا قُبِلَتْ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ) قِيلَ: هَذَا إذَا كَانَا شَرِيكَيْ عِنَانٍ. أَمَّا إذَا كَانَا مُتَفَاوِضَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ؛؛ لِأَنَّ مَا عَدَاهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ.

قَالَ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ إلَخْ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَشَهَادَةُ الرَّجُلِ لِعَمِّهِ وَلِسَائِرِ الْأَقَارِبِ غَيْرِ الْوِلَادِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ

ص: 407

قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ) وَمُرَادُهُ الْمُخَنَّثُ فِي الرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، فَأَمَّا الَّذِي فِي كَلَامِهِ لِينٌ وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ فَهُوَ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ.

(وَلَا نَائِحَةٍ وَلَا مُغَنِّيَةٍ) لِأَنَّهُمَا يَرْتَكِبَانِ مُحَرَّمًا فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام «نَهَى عَنْ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةُ» (وَلَا مُدْمِنِ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ) لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مُحَرَّمَ دِينِهِ

بِتَبَايُنِ الْأَمْلَاكِ وَمَنَافِعِهَا.

(وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُخَنَّثٍ وَهُوَ فِي الْعُرْفِ مَنْ عُرِفَ بِالرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ) أَيْ التَّمَكُّنِ مِنْ اللِّوَاطَةِ (فَأَمَّا الَّذِي فِي كَلَامِهِ لِينٌ وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ فَهُوَ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ).

(وَلَا نَائِحَةٍ وَلَا مُغَنِّيَةٍ) لِارْتِكَابِهِمَا الْمُحَرَّمَ طَمَعًا فِي الْمَالِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْحُرْمَةِ «نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ» وَصَفَ الصَّوْتَ بِصِفَةِ صَاحِبِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّائِحَةِ الَّتِي تَنُوحُ فِي مُصِيبَةِ غَيْرِهَا وَاِتَّخَذَتْ ذَلِكَ مَكْسَبًا. وَالتَّغَنِّي لِلَّهْوِ مَعْصِيَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ.

قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: إذَا أَوْصَى بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْوَصِيَّةَ لِلْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ خُصُوصًا إذَا كَانَ الْغِنَاءُ مِنْ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ نَفْسَ رَفْعِ الصَّوْتِ مِنْهَا حَرَامٌ فَضْلًا عَنْ ضَمِّ الْغِنَاءِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُقَيِّدُهَا هُنَا بِقَوْلِهِ لِلنَّاسِ وَقَيَّدَ بِهِ فِيمَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فِي غِنَاءِ الرَّجُلِ (وَلَا مُدْمِنِ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مُحَرَّمَ دِينِهِ)

ص: 408

(وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ) لِأَنَّهُ يُورِثُ غَفْلَةً وَلِأَنَّهُ قَدْ يَقِفُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ بِصُعُودِهِ عَلَى سَطْحِهِ لِيُطَيِّرَ طَيْرَهُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ وَهُوَ الْمُغَنِّي (وَلَا مَنْ يُغْنِي لِلنَّاسِ) لِأَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَى ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ.

وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَنْ أَدْمَنَ عَلَى شُرْبِ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ خَمْرًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا مِثْلَ السُّكَّرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَالْمُنَصَّفِ. وَشَرَطَ الْإِدْمَانَ لِيَظْهَرَ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ، فَإِنَّ الْمُتَّهَمَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فِي بَيْتِهِ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرَةً (وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ غَفْلَةً لَا يُؤْمَنُ بِهَا عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الشَّهَادَةِ مَعَ نِسْيَانِ بَعْضِ الْحَادِثَةِ) ثُمَّ هُوَ مُصِرٌّ عَلَى نَوْعِ لَعِبٍ (وَلِأَنَّهُ قَدْ يَقِفُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ بِصُعُودِهِ عَلَى سَطْحِهِ لِتَطْيِيرِ طَيْرِهِ) وَذَلِكَ فِسْقٌ. فَأَمَّا إذَا كَانَ يَسْتَأْنِسُ بِالْحَمَامِ فِي بَيْتِهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ، إلَّا إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْبَيْتِ فَإِنَّهَا تَأْتِي بِحَمَامَاتِ غَيْرِهِ فَتُفَرِّخُ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ يَبِيعُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنْ حَمَامِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ آكِلًا لِلْحَرَامِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ وَهُوَ الْمُغَنِّي فَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَلَا مَنْ يُغَنِّي لِلنَّاسِ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ آلَةُ لَهْوٍ أَوْ لَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ عَنْ ذِكْرِهِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الْمُغَنِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ لِلنَّاسِ حَتَّى لَوْ كَانَ غِنَاؤُهُ لِنَفْسِهِ لِإِزَالَةِ وَحْشَتِهِ لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ، وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَى ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ. وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ يَتَغَنَّى وَكَانَ مِنْ زُهَّادِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.

وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ كَرِهَ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَبِهِ أَخَذَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ، وَحَمَلَ حَدِيثَ الْبَرَاءِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ الْأَشْعَارَ الْمُبَاحَةَ الَّتِي فِيهَا الْوَعْظُ وَالْحِكْمَةُ وَاسْمُ الْغِنَاءِ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى ذَلِكَ.

ص: 409

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 410

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 411

(وَلَا مَنْ يَأْتِي بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَدُّ) لِلْفِسْقِ.

قَالَ (وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ مِئْزَرٍ) لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ.

(أَوْ يَأْكُلُ الرِّبَا أَوْ يُقَامِرُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ). لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ لِلِاشْتِغَالِ بِهِمَا، فَأَمَّا مُجَرَّدُ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ فَلَيْسَ بِفِسْقٍ مَانِعٍ مِنْ الشَّهَادَةِ،

قَالَ (وَلَا مَنْ يَأْتِي بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ إلَخْ) مَنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَدُّ فَسَقَ وَسَقَطَتْ عَدَالَتُهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَبِيرَةَ أَعَمُّ مِمَّا فِيهِ حَدٌّ أَوْ قَتْلٌ. وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ: هِيَ السَّبْعُ الَّتِي ذَكَرهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ وَهِيَ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتُ الْمُؤْمِنِ، وَالزِّنَا، وَشُرْبُ الْخَمْرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ.

(وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إزَارٍ؛ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ).

(وَلَا مَنْ يَأْكُلُ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ، وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ أَوْ الشِّطْرَنْجِ) إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ أَحَدُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْقِمَارُ، أَوْ تَفْوِيتُ الصَّلَاةِ بِالِاشْتِغَالِ بِهِ أَوْ إكْثَارُ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ

ص: 412

لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا. وَشَرَطَ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ آكِلُ الرِّبَا مَشْهُورًا بِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَنْجُو عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ رِبَا.

مِنْ الْكَبَائِرِ وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْ الثَّالِثَةَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الْأَوَّلَانِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ فِي شَرْطِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. وَفَرَّقَ فِي الذَّخِيرَةِ، وَجَعَلَ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ مُسْقِطًا لِلْعَدَالَةِ مُجَرَّدًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَلْعُونٌ مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ» وَالْمَلْعُونُ لَا يَكُونُ عَدْلًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إفْرَادُ قَوْلِهِ فَأَمَّا مُجَرَّدُ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ فَلَيْسَ بِفِسْقٍ مَانِعٍ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ إشَارَةً إلَى ذَلِكَ (قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا) قِيلَ:؛ لِأَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ يَقُولَانِ بِحِلِّ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ آكِلُ الرَّبَّا مَشْهُورًا بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَنْجُوَ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ رِبًا، فَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ إذَا اُبْتُلِيَ بِهِ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ غَالِبًا، وَهَذَا بِخِلَافِ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ

ص: 413

قَالَ (وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ كَالْبَوْلِ عَلَى الطَّرِيقِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ) لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْمُرُوءَةِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَحْيِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ فَيُتَّهَمُ.

وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِهِ لِعَدَمِ عُمُومِ الْبَلْوَى.

(وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ) وَفِي نُسْخَةِ الْمُحْتَقَرَةَ، وَفِي أُخْرَى الْمُسْتَقْبَحَةَ، وَفِي أُخْرَى الْمُسْتَخَفَّةَ، وَفِي أُخْرَى الْمُسَخِّفَةَ كُلُّهَا عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ سِوَى الْمُسَخِّفَةِ بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ التَّسْخِيفِ وَهُوَ النِّسْبَةُ إلَى السُّخْفِ: رِقَّةُ الْعَقْلِ، مِنْ قَوْلِهِمْ ثَوْبٌ سَخِيفٌ إذَا كَانَ قَلِيلَ الْغَزْلِ، وَصَحَّحَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ هَذِهِ الْأَخِيرَةَ (كَالْبَوْلِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْمُرُوءَةِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَحِي مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ) فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ (لَا يَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ) فَكَانَ مُتَّهَمًا.

ص: 414

(وَلَا تُقْبَلُ‌

‌ شَهَادَةُ مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ)

لِظُهُورِ فِسْقِهِ بِخِلَافِ مَنْ يَكْتُمُهُ.

(وَتُقْبَلُ‌

‌ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ

إلَّا الْخَطَّابِيَّةُ)

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ) وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ (لِظُهُورِ فِسْقِهِ) وَقَيَّدَ بِالْإِظْهَارِ حَتَّى لَوْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ وَلَمْ يُظْهِرْهُ فَهُوَ عَدْلٌ. رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ يَبْرَأُ مِنْهُمْ. وَفَرَّقُوا بِأَنَّ إظْهَارَ سَبِّهِ لَا يَأْتِي بِهِ إلَّا الْأَسْقَاطُ السَّخَفَةُ، وَشَهَادَةُ السَّخِيفِ لَا تُقْبَلُ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُتَبَرِّئُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ دِينًا وَإِنْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ فَلَمْ يَظْهَرْ فِسْقُهُ.

(وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ) مِنْهُمْ، وَالْهَوَى مَيَلَانُ النَّفْسِ إلَى مَا يَسْتَلِذُّ بِهِ مِنْ الشَّهَوَاتِ، وَإِنَّمَا سُمُّوا بِهِ لِمُتَابَعَتِهِمْ النَّفْسَ وَمُخَالَفَتِهِمْ السُّنَّةَ كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ، فَإِنَّ أُصُولَ الْأَهْوَاءِ الْجَبْرُ وَالْقَدْرُ وَالرَّفْضُ وَالْخُرُوجُ وَالتَّشْبِيهُ وَالتَّعْطِيلُ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَفْتَرِقُ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ فِرْقَةً.

ص: 415

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ وُجُوهُ الْفِسْقِ. وَلَنَا أَنَّهُ فِسْقٌ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ وَمَا أَوْقَعَهُ فِيهِ إلَّا تَدَيُّنُهُ بِهِ وَصَارَ كَمَنْ يَشْرَبُ الْمُثَلَّثَ أَوْ يَأْكُلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا مُسْتَبِيحًا لِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي.

أَمَّا الْخَطَّابِيَّةُ فَهُمْ مِنْ غُلَاةِ الرَّوَافِضِ يَعْتَقِدُونَ الشَّهَادَةَ لِكُلِّ مَنْ حَلَفَ عِنْدَهُمْ. وَقِيلَ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ لِشِيعَتِهِمْ وَاجِبَةً فَتَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِمْ.

قَالَ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ) وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ.

(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ وُجُوهِ الْفِسْقِ) إذْ الْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ شَرٌّ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي (وَلَنَا أَنَّهُ فِسْقٌ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ) وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ تَدَيُّنٌ لَا تَرْكُ تَدَيُّنٍ، وَالْمَانِعُ مِنْ الْقَبُولِ تَرْكُ مَا يَكُونُ دِينًا فَصَارَ كَحَنَفِيٍّ شَرِبَ الْمُثَلَّثَ أَوْ شَافِعِيٍّ أَكَلَ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا مُعْتَقِدًا إبَاحَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ بِهِ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ. وَالْخَطَّابِيَّةُ قِيلَ هُمْ غُلَاةٌ مِنْ الرَّوَافِضِ يُنْسَبُونَ إلَى أَبِي الْخَطَّابِ رَجُلٍ كَانَ بِالْكُوفَةِ قَتَلَهُ عِيسَى بْنُ مُوسَى وَصَلَبَهُ بِالْكَنَائِسِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ عَلِيًّا الْإِلَهُ الْأَكْبَرُ وَجَعْفَرًا الصَّادِقَ الْإِلَهُ الْأَصْغَرُ. وَقِيلَ هُمْ قَوْمٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ ادَّعَى مِنْهُمْ شَيْئًا عَلَى غَيْرِهِ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بَقِيَّةُ شِيعَتِهِ بِذَلِكَ، وَقِيلَ لِكُلِّ مَنْ حَلَفَ عِنْدَهُمْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ إنْ كَانُوا كَمَا قِيلَ أَوَّلًا، وَلِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِي شَهَادَتِهِمْ إنْ كَانُوا كَمَا قِيلَ ثَانِيًا أَوْ ثَالِثًا.

قَالَ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إلَخْ) شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ عِنْدَنَا وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ كَالْيَهُودِيِّ مَعَ النَّصْرَانِيِّ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إنْ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ قُبِلَتْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا شَهَادَةَ لِأَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ كُلِّهَا» وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُخَالِفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}

ص: 416

(وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ. وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى جِنْسِهِ،

وَالْمُرَادُ بِهِ الْوِلَايَةُ دُونَ الْمُوَالَاةِ فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وَالْعَطْفُ قَرِينَةٌ يُرَاعَى بِهِ تَنَاسُبُ الْمَعَانِي (وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَالظَّالِمُ فَاسِقٌ (فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُرْتَدِّ لِجِنْسِهِ وَلِخِلَافِ جِنْسِهِ (وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ») رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو مُوسَى (وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ) وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ (فَلَهُ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ عَلَى جِنْسِهِ) كَالْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُسْلِمُ لَهُ أَهْلِيَّةٌ عَلَى جِنْسِهِ وَعَلَى خِلَافِ جِنْسِهِ دُونَ الذِّمِّيِّ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي الذِّمِّيِّ كَذَلِكَ، لَكِنَّ تَرْكَ خِلَافِ الْجِنْسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى

ص: 417

وَالْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ غَيْرُ مَانِعٍ لِأَنَّهُ يَجْتَنِبُ مَا يَعْتَقِدُهُ مُحَرَّمَ دِينِهِ، وَالْكَذِبُ مَحْظُورُ الْأَدْيَانِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ، وَبِخِلَافِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يَتَقَوَّلُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَغِيظُهُ قَهْرُهُ إيَّاهُ، وَمِلَلُ الْكُفْرِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَلَا قَهْرَ فَلَا يَحْمِلُهُمْ الْغَيْظُ عَلَى التَّقَوُّلِ.

{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْنَا أَوْ مُطْلَقًا. وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ. وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ إذْ لَيْسَ مَا يَمْنَعُ رِضَانَا يَمْنَعُ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ (قَوْلُهُ: وَالْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ غَيْرُ مَانِعٍ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ. وَتَقْرِيرُهُ: الْفِسْقُ مَانِعٌ مِنْ حَيْثُ تَعَاطِي مُحَرَّمِ الدِّينِ أَوْ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ. وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ فِسْقُ الْكُفْرِ لَيْسَ مِنْ بَابِهِ فَإِنَّ الْكَافِرَ يَجْتَنِبُ مُحَرَّمَ دِينِهِ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الِاجْتِنَابَ عَنْ مَحْظُورِ الدِّين يُعْتَبَرُ دَلِيلًا عَلَى الِاجْتِنَابِ عَنْ الْكَذِبِ الَّذِي هُوَ مِنْ بَابِ شَهَادَةِ الزُّورِ، وَهُمْ ارْتَكَبُوا الْكَذِبَ بِإِنْكَارِ الْآيَاتِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِحَقِيقَتِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِخْبَارُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَوَاطِئُونَ عَلَى كِتْمَانِ بَعْثِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ عِنْدَنَا وَمِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ فَالتَّكْذِيبُ مِنْهُمْ تَدَيُّنٌ وَمُطْبَقُونَ عَلَى كَوْنِ الْكَذِبِ عَلَى أَحَدِ مَحْظُورٍ إذْ هُوَ مَحْظُورُ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا.

وَقَوْلُهُ: (بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ لَا عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى أَوْلَادِهِ وَهِيَ رُكْنُ الدَّلِيلِ. وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَعَمَّا يُقَالُ لَوْ اسْتَلْزَمَتْ الْوِلَايَةُ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ لَقُبِلَتْ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ لِوُجُودِهَا كَمَا ذَكَرْتُمْ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ وِلَايَتَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمُسْلِمِ مَعْدُومَةٌ، وَهُوَ كَمَا تَرَى مُنِعَ لِوُجُودِ الْمَلْزُومِ، وَقَدْ مَرَّ لَنَا جَوَابٌ آخَرُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَقَوَّلُ عَلَيْهِ جَوَابٌ آخَرُ. وَتَقْرِيرُهُ: سَلَّمْنَا أَنَّ عِلَّةَ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ مُتَحَقِّقَةٌ لَكِنْ الْمَانِعُ مُتَحَقِّقٌ وَهُوَ تَغَيُّظُهُ بِقَهْرِ الْمُسْلِمِ إيَّاهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى التَّقَوُّلِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مِلَلِ الْكُفْرِ فَإِنَّهَا وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَلَا قَهْرَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَحْمِلُهُمْ الْغَيْظُ عَلَى التَّقَوُّلِ.

ص: 418

قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ) أَرَادَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمُسْتَأْمَنُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا

قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ إلَخْ) لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (أَرَادَ بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنَ) وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْحَرْبِيِّ الَّذِي لَمْ يُسْتَأْمَنْ عَلَى الذِّمِّيِّ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَمِنْ شَرْطِ الْقَضَاءِ الْمِصْرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِلَا اسْتِئْمَانٍ فَيُحْضَرُ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ قَهْرًا فَيَصِيرُ عَبْدًا، وَلَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ لِأَحَدٍ وَلَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الذِّمِّيِّ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَالْمُسْتَأْمَنُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ حُكْمًا يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِ رِسَالَتِنَا فِي الْفَرَائِضِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَهُوَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ: أَيْ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ وَلِهَذَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ دُونَ الْمُسْتَأْمَنِ اسْتِظْهَارًا عَلَى الِاخْتِلَافِ لِتَمَامِ الدَّلِيلِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُزْءُ الْعِلَّةِ انْقِطَاعَ الْوِلَايَةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لِكَوْنِهِ أَعْلَى حَالًا أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ فَصَارَتْ شَهَادَتُهُ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ تُقْبَلُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ حُكْمًا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي انْقِطَاعِ

ص: 419

وَهُوَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَعَلَى الذِّمِّيِّ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ دَارَيْنِ كَالرُّومِ وَالتُّرْكِ لَا تُقْبَلُ) لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ وَلِهَذَا يَمْنَعُ التَّوَارُثَ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ.

(وَإِنْ كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَغْلَبُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ أَلَمَّ بِمَعْصِيَةٍ) هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَوَقِّي الْكَبَائِرِ كُلِّهَا وَبَعْدَ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ كَمَا ذَكَرْنَا،

الْوِلَايَةِ بَيْنَ الْحَرْبِيَّيْنِ إذَا كَانَا مِنْ دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَدَخَلَا دَارَنَا مُسْتَأْمَنَيْنِ فَضُمَّ ذَلِكَ إلَيْهِ لِلْعِلِّيَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ دُونَ بَعْضِ الْحُكْمِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ. فَإِنْ قُلْت: أَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِقَبُولِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لَا جُزْءًا لِعِلَّةِ انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ. قُلْت: بَلَى لَكِنَّ تَرْكِيبَ كَلَامِهِ لَا يُسَاعِدُهُ فَتَأَمَّلْ.

وَسَنَذْكُرُ الْجَوَابَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ مَعَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ حُكْمًا عَلَى وَجْهٍ لَا يُلْزِمُ ذَلِكَ. قَالَ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إلَخْ) الْمُسْتَأْمَنُونَ فِي دَارِنَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأُوَلُ قُبِلَتْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَالتُّرْكِ وَالرُّومِ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ كَمَا مَرَّ وَلِهَذَا يُمْنَعُ التَّوَارُثُ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ لَوْ قَطَعَ الْوِلَايَةَ لَمَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لِوُجُودِهِ لَكِنَّهَا قُبِلَتْ. وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ الذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ لِشَرَفِهَا، فَكَانَ الْوَاجِبُ قَبُولَ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لِوُجُودِهِ لَكِنَّهَا قُبِلَتْ.

وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ الذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ لِشَرَفِهَا فَكَانَ الْوَاجِبُ قَبُولَ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ كَعَكْسِهِ، لَكِنْ تَرَكْنَا بِالنَّصِّ كَمَا مَرَّ، وَلَا نَصَّ فِي الْمُسْتَأْمَنِ فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا كَانُوا مِنْ دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ قُبِلَتْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ دَارِنَا فَهِيَ تَجْمَعُهُمْ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِينَ.

قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَكْثَرَ مِنْ السَّيِّئَاتِ إلَخْ) وَإِذَا كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَكْثَرَ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَتْرُكُ الْفَرْضَ وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَبِيرَةٌ يُعْتَبَرُ غَالِبُ أَحْوَالِهِ فِي تَعَاطِي الصَّغَائِرِ.

ص: 420

فَأَمَّا الْإِلْمَامُ بِمَعْصِيَةٍ لَا تَنْقَدِحُ بِهِ الْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ فَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ الْمَشْرُوعَةُ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ اجْتِنَابِهِ الْكُلَّ سَدَّ بَابِهِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ إحْيَاءً لِلْحُقُوقِ.

قَالَ (وَتُقْبَلُ‌

‌ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ)

لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ إلَّا إذَا تَرَكَهُ اسْتِخْفَافًا بِالدِّينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِهَذَا الصَّنِيعِ عَدْلًا.

فَإِنْ كَانَ إتْيَانُهُ بِمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِي الشَّرْعِ أَغْلَبَ مِنْ إلْمَامِهِ بِالصَّغَائِرِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ وَلَا تَنْقَدِحُ عَدَالَتُهُ بِإِلْمَامِ الصَّغَائِرِ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى تَضْيِيعِ حُقُوقِ النَّاسِ بِسَدِّ بَابِ الشَّهَادَةِ الْمَفْتُوحِ لِإِحْيَائِهَا.

(وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ وَهُوَ مَنْ لَمْ يُخْتَنْ)؛ لِأَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَتَرْكُ السُّنَّةِ لَا يُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ إلَّا إذَا تَرَكَهَا اسْتِخْفَافًا بِالدِّينِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى حِينَئِذٍ عَدْلًا بَلْ مُسْلِمًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ وَقْتًا مُعَيَّنًا، إذْ الْمَقَادِيرُ بِالشَّرْعِ وَلَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ بَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ مِنْ سَبْعِ سِنِينَ إلَى عَشْرٍ، وَبَعْضُهُمْ الْيَوْمَ السَّابِعَ مِنْ وِلَادَتِهِ أَوْ بَعْدَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ

ص: 421

(وَالْخَصِيِّ) لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَبِلَ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ، وَلِأَنَّهُ قُطِعَ عُضْوٌ مِنْهُ ظُلْمًا فَصَارَ كَمَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ.

(وَوَلَدِ الزِّنَا) لِأَنَّ فِسْقَ الْأَبَوَيْنِ لَا يُوجِبُ فِسْقَ الْوَلَدِ كَكُفْرِهِمَا وَهُوَ مُسْلِمٌ. وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: لَا تُقْبَلُ فِي الزِّنَا لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ كَمِثْلِهِ فَيُتَّهَمُ. قُلْنَا: الْعَدْلُ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَحِبُّهُ، وَالْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ.

قَالَ (وَ‌

‌شَهَادَةُ الْخُنْثَى

جَائِزَةٌ) لِأَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَشَهَادَةُ الْجِنْسَيْنِ مَقْبُولَةٌ بِالنَّصِّ.

(وَشَهَادَةُ الْعُمَّالِ جَائِزَةٌ) وَالْمُرَادُ عُمَّالُ السُّلْطَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ لَيْسَ بِفِسْقٍ إلَّا إذَا كَانُوا أَعْوَانًا عَلَى الظُّلْمِ.

- رضي الله عنهما خُتِنَا الْيَوْمَ السَّابِعَ أَوْ بَعْدَ السَّابِعِ، لَكِنَّهُ شَاذٌّ.

(وَ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ (الْخَصِيِّ) وَهُوَ مَنْزُوعُ الْخُصْيَةِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَبِلَ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ، وَلِأَنَّهَا قُطِعَتْ ظُلْمًا فَصَارَ كَمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ.

(وَ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ (وَلَدِ الزِّنَا)؛ لِأَنَّ فِسْقَ الْأَبَوَيْنِ لَا يَرْبُو عَلَى كُفْرِهِمَا وَكُفْرُهُمَا غَيْرُ مَانِعٍ لِشَهَادَةِ الِابْنِ فَفِسْقُهُمَا أَوْلَى (وَقَالَ مَالِكٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ كَمِثْلِهِ) وَالْكَافُ زَائِدَةٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَيُهْتَمُّ: قُلْنَا: الْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ وَحُبُّهُ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ لَيْسَ بِقَادِحٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ مَا لَمْ يَتَحَدَّثْ بِهِ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَدْلَ يَخْتَارُ ذَلِكَ أَوْ يَسْتَحِبُّهُ.

(وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْخُنْثَى؛ لِأَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَشَهَادَةُ الْجِنْسَيْنِ مَقْبُولَةٌ بِالنَّصِّ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وَيَشْهَدُ مَعَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ لِلِاحْتِيَاطِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالنِّسَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً.

(قَالَ وَشَهَادَةُ الْعُمَّالِ جَائِزَةٌ) قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ رحمهم الله مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنَّهُ كَانَ

ص: 422

وَقِيلَ الْعَامِلُ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ لَا يُجَازِفُ فِي كَلَامِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَمَا مَرَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي الْفَاسِقِ، لِأَنَّهُ لِوَجَاهَتِهِ لَا يَقْدُمُ عَلَى الْكَذِبِ حِفْظًا لِلْمُرُوءَةِ وَلِمَهَابَتِهِ لَا يُسْتَأْجَرُ عَلَى الشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ.

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ الرَّجُلَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَى فُلَانٍ وَالْوَصِيُّ يَدَّعِي ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَصِيُّ لَمْ يَجُزْ) وَفِي

يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْعُمَّالِ عُمَّالِ السُّلْطَانِ الَّذِينَ يُعِينُونَهُ فِي أَخْذِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ كَالْخَرَاجِ وَزَكَاةِ السَّوَائِمِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ لَيْسَ بِفِسْقٍ، لِأَنَّ أَجِلَّاءَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم كَانُوا عُمَّالًا وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ فِعْلُ مَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ، إلَّا إذَا كَانُوا أَعْوَانَ السُّلْطَانِ مُعِينِينَ عَلَى الظُّلْمِ فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ الْعَامِلُ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ لَا يُجَازِفُ فِي كَلَامِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ) لَعَلَّهُ يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَ عَوْنًا لَهُ عَلَى الظُّلْمِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَمْثِيلُهُ بِمَا مَرَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَاسِقِ (؛ لِأَنَّهُ لِوَجَاهَتِهِ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْكَذِبِ حِفْظًا لِلْمُرُوءَةِ وَلِمَهَابَتِهِ لَا يُسْتَأْجَرُ عَلَى الشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ) وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْعُمَّالِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِأَيْدِيهِمْ أَوْ يُؤَاجِرُونَ أَنْفُسَهُمْ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، فَيَكُونُ إيرَادُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَدًّا لِقَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمْ أَطْيَبُ الْأَكْسَابِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَفْضَلُ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ» فَأَنَّى يُوجِبُ جَرْحًا؟ قَالَ.

(وَإِذَا شَهِدَ الرَّجُلَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَى فُلَانٍ إلَخْ) إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَى فُلَانٍ أَوْ شَهِدَ الْمُوصِي لَهُمَا بِذَلِكَ أَوْ شَهِدَ غَرِيمَانِ لَهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ شَهِدَ غَرِيمَانِ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ أَوْ شَهِدَ وَصِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى ثَالِثٍ مَعَهُمَا فَذَلِكَ خَمْسُ مَسَائِلَ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ مَعْرُوفًا وَالْوَصِيُّ رَاضِيًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ إلَّا فِي الرَّابِعَةِ فَإِنَّ ظُهُورَ الْمَوْتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةُ مُتَّهَمٍ

ص: 423

الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ إنْ ادَّعَى، وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَ الْمُوصِي لَهُمَا بِذَلِكَ أَوْ غَرِيمَانِ لَهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ أَوْ شَهِدَ الْوَصِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى هَذَا الرَّجُلِ مَعَهُمَا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا شَهَادَةٌ لِلشَّاهِدِ لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ نَصْبِ الْوَصِيِّ إذَا كَانَ طَالِبًا وَالْمَوْتُ مَعْرُوفٌ، فَيَكْفِي الْقَاضِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ لَا أَنْ يَثْبُتَ بِهَا شَيْءٌ فَصَارَ كَالْقُرْعَةِ وَالْوَصِيَّانِ إذَا أَقَرَّا أَنَّ مَعَهُمَا ثَالِثًا يَمْلِكُ الْقَاضِي نَصْبَ ثَالِثٍ مَعَهُمَا لِعَجْزِهِمَا عَنْ التَّصَرُّفِ بِاعْتِرَافِهِمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَنْكَرَا وَلَمْ يَعْرِفْ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ نَصْبِ الْوَصِيِّ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ، وَفِي الْغَرِيمَيْنِ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْتُ مَعْرُوفًا لِأَنَّهُمَا يُقِرَّانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيَثْبُتُ الْمَوْتُ بِاعْتِرَافِهِمَا فِي حَقِّهِمَا

لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ بِنَسَبِ مَنْ يَقُومُ بِإِحْيَاءِ حُقُوقِهِ أَوْ فَرَاغِ ذِمَّتِهِ وَلَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ حَقِيقَةٍ؛ لِأَنَّهَا مَا تُوجِبُ عَلَى الْقَاضِي مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِدُونِهَا وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ نَصْبِ الْوَصِيِّ إذَا رَضِيَ الْوَصِيُّ وَالْمَوْتُ مَعْرُوفٌ حِفْظًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ الضَّيَاعِ لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي صَلَاحِيَّةِ مَنْ يُنَصِّبُهُ وَأَهْلِيَّتِهِ وَهَؤُلَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ كَفَوْهُ مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ وَلَمْ يُثْبِتُوا بِهَا شَيْئًا فَصَارَ كَالْقُرْعَةِ فِي كَوْنِهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بَلْ هِيَ دَافِعَةٌ مُؤْنَةَ تَعْيِينِ الْقَاضِي. فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ لِلْقَاضِي نَصْبُ وَصِيٍّ ثَالِثٍ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ مُوجِبَةً عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ. أَجَابَ بِأَنَّ الْوَصِيَّيْنِ إذَا اعْتَرَفَا بِعَجْزِهِمَا كَانَ لَهُ نَصْبُ ثَالِثٍ وَشَهَادَتُهُمَا هَاهُنَا بِثَالِثٍ مَعَهُمَا اعْتِرَافٌ بِعَجْزِهِمَا عَنْ التَّصَرُّفِ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهَا بِهِ فَكَانَ كَمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَنْكَرَ وَلَمْ يَعْرِفْ الْمَوْتَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَصْبُ وِلَايَةِ الْوَصِيِّ إذْ ذَاكَ فَكَانَتْ هِيَ الْمُوجِبَةَ إلَّا فِي الْغَرِيمَيْنِ لَهُ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْمَوْتَ؛ لِأَنَّهُمَا يُقِرَّانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالْمَالِ فَيَثْبُتُ الْمَوْتُ

ص: 424

(وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا الْغَائِبَ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دُيُونِهِ بِالْكُوفَةِ فَادَّعَى الْوَكِيلُ أَوْ أَنْكَرَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا) لِأَنَّ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ نَصْبَ الْوَكِيلِ عَنْ الْغَائِبِ، فَلَوْ ثَبَتَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا وَهِيَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ.

فِي حَقِّهِمَا بِاعْتِرَافِهِمَا، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ أَبُوهُمَا الْغَائِبَ وَكَّلَ فُلَانًا بِقَبْضِ دُيُونِهِ بِالْكُوفَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا أَنْكَرَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ

ص: 425

قَالَ (وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى جَرْحٍ وَلَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ) لِأَنَّ الْفِسْقَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّ لَهُ الدَّفْعَ بِالتَّوْبَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْزَامُ، وَلِأَنَّهُ هَتْكُ السِّرِّ وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ وَالْإِشَاعَةُ حَرَامٌ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ ضَرُورَةَ إحْيَاءِ الْحُقُوقِ

أَوْ ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ نَصْبَ الْوَكِيلِ عَنْ الْغَائِبِ، فَلَوْ ثَبَتَ كَانَتْ مُوجِبَةً وَالتُّهْمَةُ تَرُدُّ ذَلِكَ.

قَالَ (وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى جَرْحٍ إلَخْ) الْجَرْحُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدًا أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ حُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ لَا. وَالثَّانِي هُوَ الْمُفْرَدُ لِتَجَرُّدِهِ عَمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي وَلَك أَنْ تُسَمِّيَهُ مُرَكَّبًا، فَإِذَا شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعِي عَلَى الْغَرِيمِ بِشَيْءٍ وَأَقَامَ الْغَرِيمُ بَيِّنَةً عَلَى الْجَرْحِ الْمُفْرَدِ مِثْلَ إنْ قَالُوا هُمْ فَسَقَةٌ أَوْ زُنَاةٌ أَوْ آكِلُو رِبًا فَالْقَاضِي لَا يَسْمَعُهَا. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِتَمَكُّنِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ مِنْ رَفْعِهِ بِالتَّوْبَةِ وَرَفْعِ الْإِلْزَامِ، وَسَمَاعُهَا إنَّمَا هُوَ لِلْحُكْمِ وَالْإِلْزَامِ. وَالثَّانِي قِيلَ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ أَنَّ فِي الْجَرْحِ الْمُفْرَدِ هَتْكَ السِّرِّ وَهُوَ إظْهَارُ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ فَكَانَ الشَّاهِدُ فَاسِقًا بِهَتْكِ وَاجِبِ السَّتْرِ وَتَعَاطِي إظْهَارِ الْحَرَامِ فَلَا يَسْمَعُهَا الْحَاكِمُ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا مُعَدِّلِينَ فِي الْعَلَانِيَةِ فَيُسْمَعُ مِنْهُمْ الْجَرْحُ الْمُفْرَدُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مَنْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَوْ يُعْلِمَ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ سِرًّا إذَا سَأَلَهُ الْقَاضِي تَفَادِيًا عَنْ التَّعَادِي وَاحْتِرَازًا عَنْ إظْهَارِ الْفَاحِشَةِ، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ وَلَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَدَمُ السَّمَاعِ يُفِيدُهُ

ص: 426

وَذَلِكَ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ (إلَّا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ تُقْبَلُ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ.

قَالَ (وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ لَمْ تُقْبَلْ) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى جَرْحٍ مُجَرَّدٍ، وَالِاسْتِئْجَارُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَيْهِ فَلَا خَصْمَ فِي إثْبَاتِهِ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ لِيُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ وَأَعْطَاهُمْ الْعَشَرَةَ مِنْ مَالِي الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ

لِجَوَازِ أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ بِعِلْمِهِ فَقَالَ وَلَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ أَيْضًا (قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ: أَيْ لَكِنْ إذَا شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ شُهُودِي فَسَقَةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ (لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ) وَلَمْ يُظْهِرُوا الْفَاحِشَةَ وَإِنَّمَا حَكَوْهَا عَنْ غَيْرِهِمْ وَهُوَ الْمُدَّعِي، وَالْحَاكِي لِإِظْهَارِهَا لَيْسَ كَمُظْهِرِهَا.

وَكَذَا إذَا شَهِدُوا بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ لَمْ يَسْمَعْهَا؛ لِأَنَّهُ جَرْحٌ مُجَرَّدٌ، وَضَمُّ الِاسْتِئْجَارِ إلَيْهِ لَيْسَ بِمُخْرِجٍ لَهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَحْتَاجُ إلَى خَصْمٍ يَحْكُمُ لَهُ الْحَاكِمُ وَلَا خَصْمَ فِيهِ لِكَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ.

(حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَهُمْ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِيُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ وَأَعْطَاهُمْ الْعَشَرَةَ مِنْ مَالِي الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ قُبِلَتْ؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ) فَكَانَ

ص: 427

ثُمَّ يَثْبُتُ الْجَرْحُ بِنَاءً عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا أَقَامَهَا عَلَى أَنِّي صَالَحْت الشُّهُودَ عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ. وَدَفَعْتُهُ إلَيْهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا الْبَاطِلِ وَقَدْ شَهِدُوا وَطَالَبَهُمْ بِرَدِّ ذَلِكَ الْمَالِ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ قَاذِفٌ أَوْ شَرِيكُ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ.

جَرْحًا مُرَكَّبًا فَدَخَلَ تَحْتَ الْحُكْمِ وَثَبَتَ الْجَرْحُ بِنَاءً عَلَيْهِ (وَكَذَا إذَا أَقَامَهَا عَلَى أَنِّي صَالَحْت الشُّهُودَ عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ وَدَفَعْته إلَيْهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا الزُّورِ وَقَدْ شَهِدُوا وَطَالَبَهُمْ بِرَدِّ الْمَالِ) لِمَا قُلْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ دَفَعْته إلَيْهِمْ فَإِنَّهُ جَرْحٌ مُجَرَّدٌ غَيْرُ مَسْمُوعٍ (قَوْلُهُ: وَلِهَذَا قِيلَ) أَيْ وَلِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى جَرْحٍ فِيهِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَوْ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرُ فِي الْمَتْنِ، وَقِيلَ لِمَا قُلْنَا مِنْ الدَّلِيلَيْنِ فِي الْجَرْحِ الْمُجَرَّدِ قُلْنَا كَذَا وَهُوَ بَعِيدٌ وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ وَلِذَلِكَ وَهَذَا أَسْهَلُ، وَالْمَعْنَى إذَا أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ (أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ سَارِقٌ أَوْ قَاذِفٌ أَوْ شَرِيكُ الْمُدَّعِي قُبِلَتْ)؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ يَدْخُلُ تَحْتَ

ص: 428

قَالَ (وَمَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى قَالَ أُوهِمْتُ بَعْضَ شَهَادَتِي، فَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَازَتْ شَهَادَتُهُ) وَمَعْنَى قَوْلِهِ أُوهِمْتُ أَيْ أَخْطَأْت بِنِسْيَانِ مَا كَانَ يَحِقُّ عَلَيَّ ذِكْرُهُ أَوْ بِزِيَادَةٍ كَانَتْ بَاطِلَةً. وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ لِمَهَابَةِ

الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ إشَاعَةِ فَاحِشَةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ عَبْدٌ فَلِمَا أَنَّهُ يَثْبُتُ الرِّقُّ وَهُوَ ضَعْفٌ حُكْمِيٌّ أَثَرُهُ فِي سَلْبِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ وَهُوَ إكْمَالُ الْحَدِّ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ حَدُّ الشُّرْبِ وَحَدُّ الْقَذْفِ وَحَدُّ السَّرِقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إظْهَارُ الْفَاحِشَةِ كَمَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ سُمِعَتْ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ إظْهَارَ الْفَاحِشَةِ إذَا دَعَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «اُذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ» وَقَدْ تَحَقَّقَتْ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ.

لَا يُقَالُ: وَقَدْ تَحَقَّقَتْ فِي الْجَرْحِ الْمُجَرَّدِ أَيْضًا لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ بِشُهُودٍ غَيْرِ مَرْضِيَّةٍ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَنْدَفِعُ بِأَنْ يَقُولَ لِلْقَاضِي سِرًّا وَلَا يُظْهِرُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَعَلَى هَذَا فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ اعْتِبَارَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بِجَرْحِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ. وَالثَّانِي لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَهُوَ مَقْبُولٌ، وَمِنْ عَلَامَاتِهِ عَدَمُ التَّقَادُمِ. وَأَمَّا إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الدَّفْعِ بِالتُّهْمَةِ كَمَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاهِدَ ابْنَ الْمُدَّعِي أَوْ أَبُوهُ.

قَالَ (وَمَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ إلَخْ) وَمَنْ شَهِدَ ثُمَّ قَالَ أَوْهَمْت بَعْضَ شَهَادَتِي قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: أَيْ أَخْطَأَتْ بِنِسْيَانِ مَا يَحِقُّ عَلَيَّ ذِكْرُهُ أَوْ بِزِيَادَةٍ كَانَتْ بَاطِلَةً: يَعْنِي تَرَكْت مَا يَجِبُ عَلَيَّ أَوْ أَتَيْت بِمَا لَا يَجُوزُ لِي، فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَوْ بَعْدَمَا قَامَ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَوْ غَيْرَهُ، وَالْمُتَدَارَكُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ شُبْهَةِ التَّلْبِيسِ وَالتَّغْرِيرِ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ قَالَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ ذِكْرَ اسْمِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ الْإِشَارَةَ إلَى أَحَدِهِمَا سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَتَدَارُكُ تَرْكِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ إذْ مِنْ شَرْطِ الْقَضَاءِ أَنْ يَتَكَلَّمَ الشَّاهِدُ بِلَفْظِ أَشْهَدُ وَالْمَشْرُوطُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الشَّرْطِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ شُبْهَةِ التَّلْبِيسِ كَمَا إذَا شَهِدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ غَلِطْت بَلْ هِيَ خَمْسُمِائَةٍ أَوْ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ إذَا قَالَ فِي الْمَجْلِسِ بِجَمِيعِ مَا شَهِدَ أَوَّلًا عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ،؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ اسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ وَوَجَبَ قَضَاؤُهُ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ أَوْهَمْت وَبِمَا بَقِيَ أَوْ زَادَ عِنْدَ آخَرِينَ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ مِنْ الْعَدْلِ فِي الْمَجْلِسِ كَالْمَقْرُونِ بِأَصْلِهَا وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله وَهَذَا التَّدَارُكُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ وَبَعْدَهَا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى

ص: 429

مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَانَ الْعُذْرُ وَاضِحًا فَتُقْبَلُ إذَا تَدَارَكَهُ فِي أَوَانِهِ وَهُوَ عَدْلٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ ثُمَّ عَادَ وَقَالَ أُوهِمْتُ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْمُدَّعِي بِتَلْبِيسٍ وَخِيَانَةٍ فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ، وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ إذَا اتَّحَدَ لَحِقَ الْمُلْحَقُ بِأَصْلِ الشَّهَادَةِ فَصَارَ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ، وَلَا كَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ. وَعَلَى هَذَا إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ الْحُدُودِ أَوْ فِي بَعْضِ النَّسَبِ وَهَذَا إذَا كَانَ مَوْضِعَ شُبْهَةٍ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ الْكَلَامِ أَصْلًا مِثْلُ أَنْ يَدَعَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ وَإِنْ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا.

بِمِثْلِهِ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَانَ الْعُذْرُ وَاضِحًا فَيُقْبَلُ إذَا تَدَارَكَهُ فِي أَوَانِهِ) وَهُوَ قَبْلَ الْبَرَاحِ مِنْ الْمَجْلِسِ (وَهُوَ عَدْلٌ وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَمَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ فَلَمْ يُقْبَلْ)؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْمُدَّعِي بِإِطْمَاعِهِ الشَّاهِدَ بِحُطَامِ الدُّنْيَا وَالنُّقْصَانَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ (فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ)(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ إذَا اتَّحَدَ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَا مَالَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ أَلْحَقَ الْمُلْحَقَ بِأَصْلِ الشَّهَادَةِ فَصَارَ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا يُوجِبُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْلِسِ فِي دَعْوَى التَّوَهُّمِ (إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ الْحُدُودِ) فَذَكَرَ الشَّرْقِيَّ مَكَانَ الْغَرْبِيِّ أَوْ بِالْعَكْسِ (أَوْ فِي بَعْضِ النَّسَبِ) كَأَنْ ذَكَرَ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ

ص: 430

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ عَدْلًا، وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَدَلَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ مَثَلًا، فَإِنْ تَدَارَكَهُ قَبْلَ الْبَرَاحِ عَنْ الْمَجْلِسِ قُبِلَتْ وَإِلَّا فَلَا (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ:) فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ أَيْضًا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فَرْضَ عَدَالَتِهِ يَنْفِي تَوَهُّمَ التَّلْبِيسِ وَالتَّغْرِيرِ (وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ) أَوَّلًا مِنْ تَقَيُّدِ مَا فِيهِ شُبْهَةُ التَّغْرِيرِ بِالْمَجْلِسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 431

(بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ)

قَالَ (الشَّهَادَةُ إذَا وَافَقَتْ الدَّعْوَى قُبِلَتْ،

بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ:

تَأْخِيرُ اخْتِلَافِ الشَّهَادَةِ عَنْ اتِّفَاقِهَا مِمَّا يَقْتَضِيهِ الطَّبْعُ لِكَوْنِ الِاتِّفَاقِ أَصْلًا، وَالِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ بِعَارِضِ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ فَأَخَّرَهُ وَضْعًا لِلتَّنَاسُبِ.

قَالَ (الشَّهَادَةُ إذَا وَافَقَتْ الدَّعْوَى قُبِلَتْ إلَخْ) الشَّهَادَةُ إذَا وَافَقَتْ الدَّعْوَى قُبِلَتْ، وَإِنْ خَالَفَتْهَا لَمْ تُقْبَلْ، وَقَدْ عَرَفْت مَعْنَى الشَّهَادَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَى هِيَ مُطَالَبَةٌ بِحَقٍّ فِي مَجْلِسِ مَنْ لَهُ الْخَلَاصُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ، وَمُوَافَقَتُهَا لِلشَّهَادَةِ هُوَ أَنْ يَتَّحِدَا نَوْعًا وَكَمًّا وَكَيْفًا وَزَمَانًا وَمَكَانًا وَفِعْلًا وَانْفِعَالًا وَوَضْعًا وَمِلْكًا وَنِسْبَةً. فَإِنَّهُ إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَشَهِدَ الشَّاهِدُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ ادَّعَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَشَهِدَ بِثَلَاثِينَ، أَوْ ادَّعَى سَرِقَةَ ثَوْبٍ أَحْمَرَ وَشَهِدَ بِأَبْيَضَ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَشَهِدَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْفِطْرِ بِالْبَصْرَةِ، أَوْ ادَّعَى شَقَّ زِقِّهِ وَإِتْلَافَ مَا فِيهِ بِهِ وَشَهِدَ بِانْشِقَاقِهِ عِنْدَهُ أَوْ ادَّعَى عَقَارًا بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ مِلْكِ فُلَانٍ وَشَهِدَ بِالْغَرْبِيِّ مِنْهُ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ مِلْكُهُ وَشَهِدَ أَنَّهُ مِلْكُ وَلَدِهِ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ عَبْدُهُ وَلَدَتْهُ الْجَارِيَةُ الْفُلَانِيَّةُ وَشَهِدَ بِوِلَادَةِ غَيْرِهَا لَمْ تَكُنْ

ص: 432

وَإِنْ خَالَفَتْهَا لَمْ تُقْبَلْ) لِأَنَّ تَقَدُّمَ الدَّعْوَى فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِيمَا يُوَافِقُهَا وَانْعَدَمَتْ فِيمَا يُخَالِفُهَا.

الشَّهَادَةُ مُوَافِقَةً لِلدَّعْوَى.

وَأَمَّا الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ لَفْظَيْهِمَا فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَقُولُ ادَّعَى عَلَيَّ غَرِيمِي هَذَا وَالشَّاهِدُ يَقُولُ أَشْهَدُ بِذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ تَقَدُّمَ الدَّعْوَى فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ فِي مَا يُوَافِقُهَا وَانْعَدَمَتْ فِيمَا يُخَالِفُهَا) أَمَّا أَنَّ تَقَدُّمَهَا فِيهَا شَرْطٌ لِقَبُولِهَا فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِّبَ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ فَلَا بُدَّ مِنْهَا، وَلَا نَعْنِي بِالْخُصُومَةِ إلَّا الدَّعْوَى، وَأَمَّا وُجُودُهَا عِنْدَ الْمُوَافَقَةِ فَلِعَدَمِ مَا يَهْدُرُهَا مِنْ التَّكْذِيبِ.

وَأَمَّا عَدَمُهَا عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ فَلِوُجُودِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لِتَصْدِيقِ الدَّعْوَى، فَإِذَا خَالَفَتْهَا فَقَدْ كَذَّبَتْهَا فَصَارَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءً. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: تَقَدُّمُ الدَّعْوَى شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ فِيمَا يُوَافِقُهَا وَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ تَعَارَضَ كَلَامُ الْمُدَّعِي وَالشَّاهِدِ فَمَا الْمُرَجِّحُ لِصِدْقِ الشَّاهِدِ حَتَّى اُعْتُبِرَ دُونَ كَلَامِ الْمُدَّعِي؟ الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ عِلَّةَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ الْتِزَامُ الْحَاكِمِ سَمَاعَهَا عِنْدَ صِحَّتِهَا وَتَقَدُّمُ الدَّعْوَى شَرْطُ ذَلِكَ، فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ انْتَفَى الْمَانِعُ فَوَجَبَ الْقَبُولُ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ، لَا أَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ اسْتَلْزَمَ وُجُودَهُ.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشُّهُودِ الْعَدَالَةُ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَالَةُ الْمُدَّعِي لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الشُّهُودِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ.

ص: 433

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 434

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 435

قَالَ (وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَلْفَيْنِ).

وَعَلَى هَذَا الْمِائَةُ وَالْمِائَتَانِ وَالطَّلْقَةُ وَالطَّلْقَتَانِ وَالطَّلْقَةُ وَالثَّلَاثُ.

قَالَ (وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ) الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ شَرْطُ قَبُولِهَا كَمَا كَانَتْ شَرْطًا بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا شَرْطٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى أَوْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى خَاصَّةً، فَأَمَّا الْمُوَافَقَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَا بُدَّ مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ، وَاخْتِلَافُ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ التَّرَادُفُ لَا يَمْنَعُ بِلَا خِلَافٍ، وَلِهَذَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ وَالْآخَرُ بِالْعَطِيَّةِ فَهِيَ مَقْبُولَةٌ، وَأَمَّا اخْتِلَافُهُ بِحَيْثُ يَدُلُّ بَعْضُهُ عَلَى مَدْلُولِ الْبَعْضِ الْآخَرِ بِالتَّضَمُّنِ فَقَدْ نَفَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَوَّزَاهُ (فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَهُ وَقَالَا: تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفَيْنِ وَهُوَ دَيْنٌ وَعَلَى هَذَا الْمِائَةُ وَالْمِائَتَانِ وَالطَّلْقَةُ وَالطَّلْقَتَانِ وَالطَّلْقَةُ وَالثَّلَاثُ)

ص: 436

لَهُمَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ أَوْ الطَّلْقَةِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ فَيَثْبُتُ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا فَصَارَ كَالْأَلْفِ وَالْأَلْفِ وَالْخَمْسِمِائَةِ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا لَفْظًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ بِاللَّفْظِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَلْفَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْأَلْفَيْنِ بَلْ هُمَا جُمْلَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ فَحَصَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَصَارَ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَالِ.

لَهُمَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ أَوْ الطَّلْقَةِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ) وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ فِيهِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا، كَمَا إذَا ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَا سَيَجِيءُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا لَفْظًا)؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُفْرَدٌ وَالْآخَرَ تَثْنِيَةٌ، وَاخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ إفْرَادًا وَتَثْنِيَةً يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي الدَّالَّةِ هِيَ عَلَيْهَا بِالضَّرُورَةِ، وَإِنْ شِئْت بِالتَّثْنِيَةِ فَإِنَّ الْأَلْفَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْأَلْفَيْنِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَالْأَلْفَانِ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْأَلْفِ كَذَلِكَ فَكَانَ كَلَامُ كُلٍّ مِنْهُمَا كَلَامًا مُبَايِنًا لِكَلَامِ الْآخَرِ (وَحَصَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ) فَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهُمَا وَصَارَ اخْتِلَافُهُمَا هَذَا كَاخْتِلَافِهِمَا فِي جِنْسِ الْمَالِ. شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِكُرِّ شَعِيرٍ وَالْآخَرُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ، قِيلَ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا ادَّعَى أَلْفَيْنِ وَشَهِدَا بِأَلْفٍ قُبِلَتْ بِالِاتِّفَاقِ، وَوُجُوبُ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ كَوُجُوبِهَا بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ فَمَا جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الِاتِّفَاقِ بَيْنَهُمَا لَيْسَ حَسَبَ اشْتِرَاطِهِ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْغَصْبَ وَشَهِدَا بِالْإِقْرَارِ بِهِ قُبِلَتْ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْغَصْبِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لَمْ تُقْبَلْ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ

ص: 437

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تَقَدَّمَ فِي تَلْقِينِ الشَّاهِدِ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ بِأَنْ ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِأَلْفٍ فَالْقَاضِي يَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ وَاسْتَفَادَ الشَّاهِدُ عِلْمًا بِذَلِكَ وَوَفَّقَ فِي شَهَادَتِهِ كَمَا وَفَّقَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا نَقَلْت مِنْ الْمَبْسُوطِ مَا تَرَى مِنْ التَّنَافِي.

فَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُحْمَلَ مَا نُقِلَ عَنْ الْمَبْسُوطِ عَلَى مَا إذَا وَفَّقَ الشَّهَادَةَ بِدَعْوَى الْإِبْرَاءِ أَوْ الْإِيفَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ أَبَا حَنِيفَةَ مَا إذَا قَالَ لَهَا زَوْجُهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقْت وَاحِدَةً كَانَ ذَلِكَ مِنْهَا جَوَابًا فَوَقَعَتْ وَاحِدَةً، وَلَا مَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفًا فَإِنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِي ذَلِكَ ثَابِتٌ فَيَتَضَمَّنُ الْأَقَلَّ، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يَشْهَدُ بِهِ وَاحِدٌ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ.

ص: 438

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 439

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَلْفِ) لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى، لِأَنَّ الْأَلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ جُمْلَتَانِ عُطِفَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَالْعَطْفُ يُقَرِّرُ الْأَوَّلَ وَنَظِيرُهُ الطَّلْقَةُ وَالطَّلْقَةُ وَالنِّصْفُ وَالْمِائَةُ وَالْمِائَةُ وَالْخَمْسُونَ، بِخِلَافِ الْعَشَرَةِ وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ فَهُوَ نَظِيرُ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ (وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي لَمْ يَكُنْ لِي عَلَيْهِ إلَّا الْأَلْفُ فَشَهَادَةُ الَّذِي شَهِدَ بِالْأَلْفِ وَخَمْسِمِائَةٍ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّهُ كَذَّبَهُ الْمُدَّعِي فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَكَذَا إذَا سَكَتَ إلَّا عَنْ دَعْوَى الْأَلْفِ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ ظَاهِرٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ، وَلَوْ قَالَ كَانَ أَصْلُ حَقِّي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَلَكِنِّي اسْتَوْفَيْت خَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَبْرَأْتُهُ عَنْهَا قُبِلَتْ

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إلَخْ) وَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ اتِّفَاقَ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى شَرْطُ الْقَبُولِ (إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَكْثَرَ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَلْفِ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ جُمْلَتَانِ عُطِفَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَالْعَطْفُ يُقَرِّرُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ) وَنَظِيرُهُ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِطَلْقَةٍ وَالْآخَرُ بِطَلْقَةٍ وَنِصْفِ أَوْ بِمِائَةٍ أَوْ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِعَشَرَةٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ عَطْفٍ فَصَارَا مُتَبَايِنَيْنِ كَالْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَكْثَرَ، وَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْأَقَلَّ وَقَالَ (لَمْ يَكُنْ لِي إلَّا الْأَلْفُ فَشَهَادَةُ مَنْ شَهِدَ بِالْأَكْثَرِ بَاطِلَةٌ) لِتَكْذِيبِهِ الْمُدَّعِي فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَبِهِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يُكَذِّبْهُ إلَّا فِي الْبَعْضِ فَمَا بَالُ الْقَاضِي لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْبَاقِي كَمَا قَضَى بِالْبَاقِي فِي الْإِقْرَارِ إذَا كَذَّبَ الْمُقِرَّ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ تَكْذِيبَ الشَّاهِدِ تَفْسِيقٌ لَهُ وَلَا شَهَادَةَ لِلْفَاسِقِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُقِرِّ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَتَفْسِيقُهُ لَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ (قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا سَكَتَ) يَعْنِي إذَا ادَّعَى الْأَقَلَّ وَسَكَتَ عَنْ قَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ إلَّا الْأَلْفُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يُقْضَى لَهُ بِشَيْءٍ (لِأَنَّ التَّكْذِيبَ ثَابِتٌ ظَاهِرًا) فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِدُونِ التَّوْفِيقِ؛ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِذِكْرِ التَّوْفِيقِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْأَصَحِّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: كَانَ أَصْلُ حَقِّي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَلَكِنْ اسْتَوْفَيْت خَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَبْرَأْته عَنْهَا قُبِلَتْ لِلتَّصْرِيحِ بِالتَّوْفِيقِ. وَعُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ أَحْوَالَ مَنْ يَدَّعِي أَقَلَّ الْمَالَيْنِ إذَا اخْتَلَفَتْ الشَّهَادَةُ لَا تَخْلُو عَنْ ثَلَاثَةٍ: إمَّا أَنْ يُكَذِّبَ الشَّاهِدَ بِالزِّيَادَةِ أَوْ يَسْكُتَ عَنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّوْفِيقِ، أَوْ يُوَفِّقَ. وَجَوَابُ الْأَوَّلَيْنِ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ دُونَ الْآخَرِ.

ص: 440

لِتَوْفِيقِهِ.

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَا بِأَلْفٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا بِالْأَلْفِ) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ (وَلَمْ يُسْمَعْ قَوْلُهُ إنْ قَضَاهُ) لِأَنَّهُ شَهَادَةُ فَرْدٍ (إلَّا أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ آخَرُ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَقْضِي بِخَمْسِمِائَةٍ، لِأَنَّ شَاهِدَ الْقَضَاءِ مَضْمُونُ شَهَادَتِهِ أَنْ لَا دَيْنَ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ. وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا. قَالَ (وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ) إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ (أَنْ لَا يَشْهَدَ بِأَلْفٍ حَتَّى يُقِرَّ الْمُدَّعِي أَنَّهُ قَبَضَ خَمْسَمِائَةٍ) كَيْ لَا يَصِيرَ مُعِينًا عَلَى الظُّلْمِ.

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَا بِأَلْفٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ) إذَا ادَّعَى أَلْفًا شَهِدَا بِأَلْفٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ (قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا بِالْأَلْفِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ وَلَمْ يُسْمَعْ قَوْلُهُ: إنَّهُ قَضَاهُ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةُ فَرْدٍ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ آخَرُ). فَإِنْ قِيلَ شَهَادَةُ مَنْ شَهِدَ بِالْقَضَاءِ مُتَنَاقِضَةٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَضَاهُ خَمْسَمِائَةٍ لَا يَكُونُ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَلْفٌ بَلْ خَمْسُمِائَةٍ لَا غَيْرُ. أُجِيبَ بِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ وَذَلِكَ بِقَبْضِ الْعَيْنِ مَكَانَ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ غَيْرُهُ فَكَانَ قَوْلُهُ: قَضَاهُ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةٍ شَهَادَةً عَلَى الْمُدَّعِي بِقَبْضِ مَا هُوَ غَيْرُ مَا شَهِدَ بِهِ أَوَّلًا وَهُوَ الدَّيْنُ فَلَمْ يَعُدْ مُتَنَاقِضًا (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْضَى بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ شَاهِدَ الْقَضَاءِ مَضْمُونُ شَهَادَتِهِ أَنْ لَا دَيْنَ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ)؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِطَرِيقِ التَّمَلُّكِ لَمَّا أَوْجَبَ الضَّمَانَ بَطَلَتْ مُطَالَبَةُ رَبِّ الدَّيْنِ غَرِيمَهُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ إلَّا خَمْسَمِائَةٍ، فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَفِي ذَلِكَ يُقْضَى بِالْأَقَلِّ كَمَا قُلْنَا فِي الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا خَالَفَهُ هُنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بِالْأَقَلِّ وَقَعَتْ ابْتِدَاءً وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. اهـ.

(وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا) أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الْأَلْفِ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَضَاءِ وَالْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ لَا مَحَالَةَ. وَعُورِضَ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ كَذَّبَ مَنْ شَهِدَ بِقَضَائِهِ خَمْسَمِائَةٍ وَتَكْذِيبُهُ تَفْسِيقٌ لَهُ، وَكَيْفَ يُقْضَى بِشَهَادَتِهِ وَجَوَابُهُ سَيَأْتِي (قَوْلُهُ: وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ) يَعْنِي أَنَّ الشَّاهِدَ بِقَضَاءِ خَمْسِمِائَةٍ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْهَدَ

ص: 441

(وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَجُلَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِقَرْضٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ قَضَاهَا، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ عَلَى الْقَرْضِ) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَضَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رحمه الله لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَكْذَبَ شَاهِدَ الْقَضَاءِ. قُلْنَا: هَذَا إكْذَابٌ فِي غَيْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْقَرْضُ وَمِثْلُهُ لَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ.

بِأَلْفٍ حَتَّى يُقِرَّ الْمُدَّعِي أَنَّهُ قَبَضَ خَمْسَمِائَةٍ كَيْ لَا يَصِيرَ مُعِينًا عَلَى الظُّلْمِ بِعِلْمِهِ بِدَعْوَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَجُلَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِقَرْضِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ قَضَاهَا فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ عَلَى الْقَرْضِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ وَتَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا بِالْقَضَاءِ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَتْ قَبْلَهَا أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ كُلِّهِ وَفِيمَا قَبْلَهَا شَهِدَ بِبَعْضِهِ (وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَكْذَبَ شَاهِدَ الْقَضَاءِ) وَهُوَ تَفْسِيقٌ لَهُ (قُلْنَا: هَذَا إكْذَابٌ فِي غَيْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْقَرْضُ)؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَهُ فِيمَا عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَيْرُ الْأَوَّلِ لَا مَحَالَةَ، وَمِثْلُهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ لِشَخْصٍ آخَرَ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَا لَهُ فَأَكْذَبَهُمْ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ إكْذَابَ الْمُدَّعِي لِشُهُودِهِ تَفْسِيقٌ لَهُ لِكَوْنِهِ اخْتِيَارِيًّا، وَأَمَّا إكْذَابُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ

ص: 442

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ قَتَلَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَاجْتَمَعُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ لَمْ يَقْبَلْ الشَّهَادَتَيْنِ) لِأَنَّ إحْدَاهُمَا كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى (فَإِنْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا وَقَضَى بِهَا ثُمَّ حَضَرَتْ الْأُخْرَى لَمْ تُقْبَلْ) لِأَنَّ الْأُولَى تَرَجَّحَتْ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا فَلَا تُنْتَقَضُ بِالثَّانِيَةِ.

فَلَيْسَ بِتَفْسِيقٍ؛ لِأَنَّهُ لِضَرُورَةِ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ.

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ إلَخْ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَكَانِ يَمْنَعُ الْقَبُولَ، فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَآخَرَانِ بِقَتْلِهِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِالْأُولَى لَمْ يَقْبَلْهُمَا؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ؛ إذْ الْعَرْضُ الْوَاحِدُ: أَعْنِي الْقَتْلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانَيْنِ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى (فَإِنْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا وَقُضِيَ بِهَا ثُمَّ حَضَرَتْ الْأُخْرَى لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَرَجَّحَتْ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا فَلَا تُنْتَقَضُ بِمَا لَيْسَتْ مِثْلَهَا).

ص: 443

(وَإِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ بَقَرَةً وَاخْتَلَفَا فِي لَوْنِهَا قُطِعَ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا بَقَرَةً وَقَالَ الْآخَرُ ثَوْرًا لَمْ يُقْطَعْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (وَقَالَا: لَا يُقْطَعُ فِي الْوَجْهَيْنِ) جَمِيعًا، وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ فِي لَوْنَيْنِ يَتَشَابَهَانِ كَالسَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ لَا فِي السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَقِيلَ هُوَ فِي جَمِيعِ الْأَلْوَانِ. لَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ فِي السَّوْدَاءِ غَيْرُهَا فِي الْبَيْضَاءِ فَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَصَارَ كَالْغَصْبِ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ أَمْرَ الْحَدِّ أَهَمُّ وَصَارَ كَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ. وَلَهُ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ فِي اللَّيَالِي مِنْ بَعِيدٍ وَاللَّوْنَانِ يَتَشَابَهَانِ أَوْ يَجْتَمِعَانِ فِي وَاحِدٍ فَيَكُونُ السَّوَادُ مِنْ جَانِبٍ وَهَذَا يُبْصِرُهُ وَالْبَيَاضُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ وَهَذَا الْآخَرُ يُشَاهِدُهُ

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ بَقَرَةً) وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْكَيْفِ يَمْنَعُ الْقَبُولَ فَإِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِسَرِقَةِ بَقَرَةٍ (وَاخْتَلَفَا فِي لَوْنِهَا قُطِعَ) سَوَاءٌ كَانَ اللَّوْنَانِ يَتَشَابَهَانِ كَالْحُمْرَةِ وَالسَّوَادِ أَوْ لَا كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَقِيلَ إنْ كَانَا يَتَشَابَهَانِ قُبِلَتْ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ لَمْ يُقْطَعْ وَقَالَا لَا يُقْطَعْ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ سَرِقَةَ السَّوَادِ غَيْرُ سَرِقَةِ الْبَيَاضِ فَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَلَا قَطْعَ بِدُونِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَا بِالْغَصْبِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّمَا لَمْ تُقْبَلْ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْحَدِّ أَهَمُّ لِكَوْنِهِ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِيهِ إتْلَافُ نِصْفِ الْآدَمِيِّ فَصَارَ كَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي الْمُغَايَرَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ (التَّحَمُّلَ فِي اللَّيَالِي مِنْ بَعِيدٍ) لِكَوْنِ السَّرِقَةِ فِيهَا غَالِبًا (وَاللَّوْنَانِ يَتَشَابَهَانِ) كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ (أَوْ يَجْتَمِعَانِ) بِأَنْ تَكُونَ بَلْقَاءَ أَحَدُ جَانِبَيْهَا أَسْوَدُ يُبْصِرُهُ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ أَبْيَضُ يُشَاهِدُهُ الْآخَرُ، وَإِذَا كَانَ التَّوْفِيقُ مُمْكِنًا وَجَبَ الْقَبُولُ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ شُهُودُ الزِّنَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ.

وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ طَلَبَ التَّوْفِيقِ هَاهُنَا احْتِيَالٌ لِإِثْبَاتِ الْحَدِّ وَهُوَ الْقَطْعُ، وَالْحَدُّ يُحْتَالُ لِدَرْئِهِ لَا لِإِثْبَاتِهِ.

ص: 444

بِخِلَافِ الْغَصْبِ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ فِيهِ بِالنَّهَارِ عَلَى قُرْبٍ مِنْهُ، وَالذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَاحِدَةٍ، وَكَذَا الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ فَلَا يَشْتَبِهُ.

وَالثَّانِي أَنَّ التَّوْفِيقَ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِيمَا ثَبَتَ بِالشُّبُهَاتِ فَكَيْفَ يُعْتَبَرُ إمْكَانُهُ فِيمَا يُدْرَأُ بِهَا.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ احْتِيَالًا لِإِثْبَاتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ فِي اخْتِلَافِ مَا كُلِّفَا نَقْلَهُ وَهُوَ مِنْ صُلْبِ الشَّهَادَةِ كَبَيَانِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ لِيُعْلَمَ هَلْ كَانَ نِصَابًا فَيُقْطَعُ بِهِ أَوْ لَا، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي اخْتِلَافِ مَا لَمْ يُكَلَّفَا نَقْلَهُ كَلَوْنِ ثِيَابِ السَّارِقِ وَأَمْثَالِهِ فَاعْتِبَارُ التَّوْفِيقِ فِيهِ لَيْسَ احْتِيَالًا لِإِثْبَاتِ الْحَدِّ لِإِمْكَانِ ثُبُوتِهِ بِدُونِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ سَكَتَا عَنْ بَيَانِ لَوْنِ الْبَقَرَةِ مَا كَلَّفَهُمَا الْقَاضِي بِذَلِكَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يُكَلَّفَا نَقْلَهُ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، بِخِلَافِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فَإِنَّهُمَا يُكَلَّفَانِ النَّقْلَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِمَا فَكَانَ اخْتِلَافًا فِي صُلْبِ الشَّهَادَةِ.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ جَوَابُ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ اعْتِبَارُ إمْكَانِ التَّوْفِيقِ، أَوْ يُقَالُ التَّصْرِيحُ بِالتَّوْفِيقِ يُعْتَبَرُ فِيمَا كَانَ فِي صُلْبِ الشَّهَادَةِ وَإِمْكَانُهُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْغَصْبِ) جَوَابٌ عَنْ مَسْأَلَةِ الْغَصْبِ بِأَنَّ التَّحَمُّلَ فِيهِ بِالنَّهَارِ إذْ الْغَصْبُ يَكُونُ فِيهِ غَالِبًا عَلَى قُرْبٍ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: (وَالذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَا بِهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ بِهِمَا فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَاحِدٍ،

ص: 445

قَالَ (وَمَنْ شَهِدَ لِرَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفٍ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ السَّبَبِ وَهُوَ الْعَقْدُ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثَّمَنِ فَاخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ بِهِ وَلَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ،

وَكَذَا الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ فَلَا يَشْتَبِهُ لِيُحْتَاجَ إلَى التَّوْفِيقِ.

قَالَ (وَمَنْ شَهِدَ لِرَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى عَبْدَ فُلَانٍ بِأَلْفٍ إلَخْ) رَجُلٌ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ أَوْ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ ذَلِكَ فَشَهِدَ شَاهِدٌ بِأَلْفٍ وَآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ؛ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ دَعْوَى الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إثْبَاتُهُ وَهُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الثَّمَنِ؛ إذْ الشِّرَاءُ بِأَلْفٍ غَيْرُهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَاخْتِلَافُ الْمَشْهُودِ بِهِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْعَقْدِ بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ وَالسَّبَبُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ دَعْوَى السَّبَبِ الْمُعَيَّنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ثُبُوتَهُ هُوَ الْمَقْصُودُ لِيَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمِلْكُ؛ إذْ لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَادَّعَاهُ وَهُوَ

ص: 446

وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْبَائِعَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي أَقَلَّ الْمَالَيْنِ أَوْ أَكْثَرَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا

(وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعَقْدُ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْعَبْدَ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ هُوَ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ السَّبَبِ

لَا يَحْتَاجُ إلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ صَحِيحَةٌ فَكَانَ مَقْصُودُهُ السَّبَبَ. فَإِنْ قِيلَ: التَّوْفِيقُ مُمْكِنٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَوَّلًا أَلْفًا فَزَادَ فِي الثَّمَنِ وَعَرَّفَ بِهِ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ. أُجِيبَ بِأَنَّ السَّيِّدَ الشَّهِيدَ أَبَا الْقَاسِمِ السَّمَرْقَنْدِيَّ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ وَقَالَ: تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَا بِجِنْسَيْنِ كَأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمِائَةِ دِينَارٍ. وَوَجْهُ مَا فِي الْكِتَابِ أَنَّ الشِّرَاءَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْأَلْفُ وَالْخَمْسُمِائَةِ مُلْصَقَيْنِ بِالشِّرَاءِ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ زَادَ خَمْسَمِائَةٍ فَلَا يُقَالُ اشْتَرَى بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَلِهَذَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِأَصْلِ الثَّمَنِ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى ذَلِكَ (وَكَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْبَائِعَ) سَوَاءٌ ادَّعَى الْبَيْعَ بِأَلْفٍ أَوْ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ السَّبَبُ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْكِتَابَةِ، أَمَّا إذَا كَانَ يَدَّعِيهَا الْعَبْدُ فَلَا خَفَاءَ فِي كَوْنِ الْعَقْدِ مَقْصُودًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ الْمَوْلَى فَلِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ

ص: 447

(وَكَذَا الْخُلْعُ وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمَرْأَةَ أَوْ الْعَبْدَ أَوْ الْقَاتِلَ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْعَقْدِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الدَّيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْعَفْوُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ بِاعْتِرَافِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَبَقِيَ الدَّعْوَى فِي الدَّيْنِ وَفِي الرَّهْنِ، إنْ كَانَ الْمُدَّعَى هُوَ الرَّهْنَ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الرَّهْنِ فَعَرِيَتْ الشَّهَادَةُ عَنْ الدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الدَّيْنِ.

الْعَقْدِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ قَالَ الْعِتْقُ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ مَقْصُودَ الْمَوْلَى هُوَ الْعِتْقُ وَالْأَدَاءُ هُوَ السَّبَبُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَقْصُودُهُ الْبَدَلُ وَالسَّبَبُ هُوَ الْكِتَابَةُ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَوْلَى إذَا ادَّعَى الْكِتَابَةَ وَالْعَبْدُ مُنْكِرٌ فَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْفَسْخِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ تَقْرِيرَهُ بَدَلُ الْعِتْقِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَالْأَدَاءُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْكِتَابَةَ. أَوْ يُقَالُ مَعْنَاهُ أَنَّ مَقْصُودَ الْمَوْلَى هُوَ الْعِتْقُ، وَالْعِتْقُ لَا يَقَعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْكِتَابَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ قَوْلَهُ فَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْفَسْخِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَخْتَارَ الْفَسْخَ وَيُخَاصِمَ لِأَدْنَى الْبَدَلَيْنِ

(وَكَذَا الْخُلْعُ وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ) أَمَّا أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا كَانَ هُوَ الْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ وَالْقَاتِلَ فَلَا خَفَاءَ فِي كَوْنِ الْعَقْدِ مَقْصُودًا وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى إثْبَاتِ الْعَقْدِ لِيَثْبُتَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْعَفْوُ بِنَاءً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ بِأَنْ قَالَ خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِي الْأَلْفَ، أَوْ قَالَ مَوْلَى الْعَبْدِ أَعْتَقْتُك عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْعَبْدُ يَدَّعِي الْأَلْفَ، أَوْ قَالَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ صَالَحْتُك بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَالْقَاتِلُ يَدَّعِي الْأَلْفَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الدَّيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ أَنَّهُ تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إذَا ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا ادَّعَى أَلْفَيْنِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَإِنْ ادَّعَى أَقَلَّ الْمَالَيْنِ يُعْتَبَرُ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ مِنْ التَّوْفِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالسُّكُوتِ عَنْهُمَا (لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْعَفْوُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ بِاعْتِرَافِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَتَبْقَى الدَّعْوَى فِي الدَّيْنِ، وَفِي الرَّهْنِ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الرَّاهِنَ لَا تُقْبَلُ)

ص: 448

وَفِي الْإِجَارَةِ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ فَهُوَ نَظِيرُ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَالْمُدَّعِي هُوَ الْآجِرُ فَهُوَ دَعْوَى الدَّيْنِ.

لِعَدَمِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ كَانَ دَعْوَاهُ غَيْرَ مُفِيدَةٍ وَكَانَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرْتَهِنَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ يَقْضِي بِأَقَلِّ الْمَالَيْنِ إجْمَاعًا قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ بِأَلْفٍ غَيْرِهِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَيَجِبُ أَنْ لَا تُقْبَلَ الْبَيِّنَةُ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمُرْتَهِنَ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ حَيْثُ كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الرَّدِّ مَتَى شَاءَ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ لِدَعْوَى الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَكُونُ إلَّا بِدَيْنٍ فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ وَيَثْبُتُ الرَّهْنُ بِالْأَلْفِ ضِمْنًا وَتَبَعًا لِلدَّيْنِ. وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ كَمَا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْعَقْدِ وَقَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْبَدَلِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي هُوَ الْآجِرَ أَوْ الْمُسْتَأْجِرَ، فَإِنْ كَانَ الْآجِرُ فَهُوَ دَعْوَى الدَّيْنِ يَقْضِي بِأَقَلِّ الْمَالَيْنِ إذَا ادَّعَى الْأَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ إذَا انْقَضَتْ كَانَتْ الْمُنَازَعَةُ فِي وُجُوبِ الْأَجْرِ وَصَارَ كَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ جَازَتْ عَلَى الْأَلْفِ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ خِلَافًا لَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرَ.

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: كَانَ ذَلِكَ اعْتِرَافًا مِنْهُ بِمَالِ الْإِجَارَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا اعْتَرَفَ بِهِ وَلَا حَاجَةَ إلَى اتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ وَاخْتِلَافُهُمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنْ أَقَرَّ بِالْأَكْثَرِ لَمْ يَبْقَ نِزَاعٌ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْأَقَلِّ فَالْآجِرُ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ بِبَيِّنَةٍ سِوَى ذَلِكَ. وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ: فَإِنْ كَانَ الدَّعْوَى مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ فَهَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى إذَا كَانَتْ فِي الْعَقْدِ بَطَلَتْ

ص: 449

قَالَ (فَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِأَلْفٍ اسْتِحْسَانًا، وَقَالَا: هَذَا بَاطِلٌ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا) وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. لَهُمَا أَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْعَقْدِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ السَّبَبُ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ

الشَّهَادَةُ فَيُؤْخَذُ الْمُسْتَأْجِرُ بِاعْتِرَافِهِ.

قَالَ (فَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِأَلْفٍ اسْتِحْسَانًا) إذَا اخْتَلَفَ الشُّهُودُ فِي النِّكَاحِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ قُبِلَتْ بِأَلْفٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هَذَا بَاطِلٌ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا. وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. لَهُمَا أَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي السَّبَبِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ هُوَ الْعَقْدُ، وَالِاخْتِلَافُ فِي السَّبَبِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَالَ فِي النِّكَاحِ تَابِعٌ وَلِهَذَا يَصِحُّ بِلَا تَسْمِيَةِ مَهْرٍ، وَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي النِّكَاحِ مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ كَالْعَمِّ

ص: 450

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْمَالَ فِي النِّكَاحِ تَابِعٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحِلُّ وَالِازْدِوَاجُ وَالْمِلْكُ

وَالْأَخِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي التَّابِعِ لَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ ثَابِتًا (قَوْلُهُ: وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحِلُّ وَالِازْدِوَاجُ) دَلِيلٌ آخَرُ.

وَتَقْرِيرُهُ الْأَصْلُ فِي النِّكَاحِ الْحِلُّ وَالِازْدِوَاجُ وَالْمِلْكُ؛ لِأَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِذَلِكَ، وَلُزُومُ الْمَهْرِ لِصَوْنِ الْمَحَلِّ

ص: 451

وَلَا اخْتِلَافَ فِي مَا هُوَ الْأَصْلُ فَيَثْبُتُ، ثُمَّ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي التَّبَعِ يَقْضِي بِالْأَقَلِّ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ

الْخَطِيرِ عَنْ الِابْتِذَالِ بِالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِ مَجَّانًا كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا اخْتِلَافَ لِلشَّاهِدَيْنِ فِيهَا فَيَثْبُتُ الْأَصْلُ، لَكِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي التَّبَعِ وَهُوَ الْمَالُ فَيُقْضَى بِالْأَقَلِّ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ.

وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ فِيهِ تَكْذِيبَ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ فِيمَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ وَهُوَ الْمَالُ وَالتَّكْذِيبُ فِيهِ لَا يُوجِبُ التَّكْذِيبَ فِي الْأَصْلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ مُرَادَ الْمُعْتَرِضِ لَيْسَ بُطْلَانَ الْأَصْلِ بَلْ بُطْلَانُ التَّبَعِ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنْ يَبْطُلَ الْمَالُ الْمَذْكُورُ فِي الدَّعْوَى وَيَلْزَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ.

وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ بِدَافِعٍ لِذَلِكَ كَمَا تَرَى. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا كَانَ كَالدَّيْنِ، وَالِاخْتِلَافُ

ص: 452

وَيَسْتَوِي دَعْوَى أَقَلِّ الْمَالَيْنِ أَوْ أَكْثَرِهِمَا فِي الصَّحِيحِ. ثُمَّ قِيلَ: لِاخْتِلَافٍ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الزَّوْجَ إجْمَاعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّ مَقْصُودَهَا قَدْ يَكُونُ الْمَالَ وَمَقْصُودَهُ لَيْسَ إلَّا الْعَقْدَ. وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَهَذَا أَصَحُّ وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فِيهِ بِطَرِيقِ الْعَطْفِ لَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالتَّشْكِيكُ فِيهِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيَسْتَوِي دَعْوَى أَقَلِّ الْمَالَيْنِ أَوْ أَكْثَرِهِمَا) بِكَلِمَةٍ أَوْ وَالصَّوَابُ كَلِمَةُ الْوَاوِ بِدَلَالَةِ يَسْتَوِي.

وَقَوْلُهُ: (فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ لَمَّا كَانَ الدَّيْنُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّعْوَى بِأَكْثَرِ الْمَالَيْنِ كَمَا فِي الدَّيْنِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَوَجْهُ مَا فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ الْعَقْدُ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبَدَلِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ فَلَا يُرَاعَى فِيهِ مَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْمَقْصُودِ: أَعْنِي الدَّيْنَ.

وَقَالَ (ثُمَّ قِيلَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الزَّوْجُ فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهَا قَدْ يَكُونُ الْمَالَ) بِخِلَافِ الزَّوْجِ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ لَيْسَ إلَّا الْعَقْدَ فَيَكُونُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ وَهُوَ يَمْنَعُ الْقَبُولَ (وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ) يَعْنِي مَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَدَّعِي وَمَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ يَدَّعِي (وَهَذَا أَصَحُّ)؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي أَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي الْعَقْدَ أَوْ الْمَالَ أَوْ الْمَرْأَةُ تَدَّعِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ الْمَهْرِ هَلْ يُوجِبُ خَلَلًا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ لَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُوجِبُ ذَلِكَ. وَقَالَا يُوجِبُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 453

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 454

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 455

(فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِرْثِ)

(وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَارٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ أَعَارَهَا أَوْ أَوْدَعَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 456

أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ) وَأَصْلُهُ أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ مِلْكُ الْمُورَثِ لَا يَقْضِي بِهِ لِلْوَارِثِ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله. هُوَ يَقُولُ: إنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مِلْكُ الْمُورَثِ فَصَارَتْ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِلْمُورَثِ شَهَادَةٌ بِهِ لِلْوَارِثِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: إنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مُتَجَدِّدٌ فِي حَقِّ الْعَيْنِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْجَارِيَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَيَحِلُّ لِلْوَارِثِ الْغَنِيِّ مَا كَانَ صَدَقَةً عَلَى الْمُورَثِ الْفَقِيرِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّقْلِ، إلَّا أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالشَّهَادَةِ عَلَى قِيَامِ مِلْكِ الْمُورَثِ وَقْتَ الْمَوْتِ لِثُبُوتِ الِانْتِقَالِ ضَرُورَةً، وَكَذَا عَلَى قِيَامِ يَدِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَقَدْ وُجِدَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْيَدِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَأْجِرِ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِهِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ

‌فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِرْثِ:

ذَكَرَ أَحْكَامَ الشَّهَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَيِّتِ عَقِيبَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْيَاءِ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْوَاقِعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الشَّهَادَةِ بِالْمِيرَاثِ، هَلْ تِحْتَاحُ إلَى الْجَرِّ وَالنَّقْلِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الشَّاهِدُ عِنْدَ الشَّهَادَةِ هَذَا الْمُدَّعِي وَارِثُ الْمَيِّتِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ أَوْ لَا.

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بُدَّ مِنْهُ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. هُوَ يَقُولُ: إنَّ مِلْكَ الْمُورَثِ مِلْكُ الْوَارِثِ لِكَوْنِ الْوِرَاثَةِ خِلَافَةً وَلِهَذَا يَرُدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ صَارَتْ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِلْمُورَثِ شَهَادَةً بِهِ لِلْوَارِثِ. وَهُمَا يَقُولَانِ مِلْكُ الْوَارِثِ مُتَجَدِّدٌ فِي حَقِّ الْعَيْنِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْجَارِيَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَيَحِلُّ الْوَارِثُ الْغَنِيُّ مَا كَانَ صَدَقَةً عَلَى الْمُورَثِ الْفَقِيرِ، وَالْمُتَجَدِّدُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّقْلِ لِئَلَّا يَكُونَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ مُثْبِتًا إلَّا أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالشَّهَادَةِ عَلَى قِيَامِ مِلْكِ الْمُورَثِ وَقْتَ الْمَوْتِ لِثُبُوتِ الِانْتِقَالِ حِينَئِذٍ ضَرُورَةً

ص: 457

الْجَرِّ وَالنَّقْلِ (وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدِهِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ) لِأَنَّ الْأَيْدِي عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ بِوَاسِطَةِ الضَّمَانِ وَالْأَمَانَةُ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالتَّجْهِيلِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى قِيَامِ مِلْكِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ

وَكَذَا عَلَى قِيَامِ يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ بِوَاسِطَةِ الضَّمَانِ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ يُسَوِّيَ أَسْبَابَهُ وَيُبَيِّنَ مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ الْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُهُ فَجَعَلَ الْيَدَ عِنْدَ الْمَوْتِ دَلِيلَ الْمِلْكِ. لَا يُقَالُ: قَدْ تَكُونُ الْيَدُ يَدَ أَمَانَةٍ وَلَا ضَمَانَ فِيهَا لِتَنْقَلِبَ بِوَاسِطَتِهِ يَدَ مِلْكٍ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَةَ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالتَّجْهِيلِ بِأَنْ يَمُوتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا وَدِيعَةُ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَرَكَ الْحِفْظَ وَهُوَ تَعَدٍّ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَارٍ أَنَّهَا لَهُ كَانَتْ لِأَبِيهِ أَعَارَهَا أَوْ أَوْدَعَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ بِالِاتِّفَاقِ. أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْجَرَّ فِي الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ

ص: 458

(وَإِنْ قَالُوا لِرَجُلٍ حَيٍّ نَشْهَدُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي مُنْذُ شَهْرٍ لَمْ تُقْبَلْ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْيَدَ مَقْصُودَةٌ كَالْمِلْكِ؛ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَهُ تُقْبَلُ فَكَذَا هَذَا صَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا بِالْأَخْذِ مِنْ الْمُدَّعِي. وَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ بِمَجْهُولٍ لِأَنَّ الْيَدَ مُنْقَضِيَةٌ وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى مِلْكٍ وَأَمَانَةٍ وَضَمَانٍ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِإِعَادَةِ الْمَجْهُولِ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ، وَبِخِلَافِ الْآخِذِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَحُكْمُهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ، وَلِأَنَّ يَدَ ذِي الْيَدِ مُعَايِنٌ وَيَدُ الْمُدَّعِي مَشْهُودٌ بِهِ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ

قِيَامَ الْيَدِ عِنْدَ الْمَوْتِ يُغْنِي عَنْ الْجَرِّ وَقَدْ وُجِدَتْ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُودَعِ يَدُ الْمُعِيرِ وَالْمُودِعِ، وَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدِهِ، فَكَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ انْقِلَابِ الْأَيْدِي عِنْدَ الْمَوْتِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَامَهَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَمَنْ أَقَامَهَا أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ وَلَمْ يَقُولُوا مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ الْجَرِّ، وَمَا قَامَ مَقَامَهُ، وَتُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِشَهَادَتِهِمْ بِمِلْكِ الْمُورَثِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ قَالُوا لِرَجُلٍ حَيٍّ) مَسْأَلَةٌ أَتَى بِهَا اسْتِطْرَادًا إذْ هِيَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْمِيرَاثِ، وَصُورَتُهَا: إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَى آخَرُ أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ لَمْ تُقْبَلْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مَقْصُودَةٌ كَالْمِلْكِ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَهُ قُبِلَتْ فَكَذَا هَذَا وَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَا بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَخَذَهَا مِنْ الْمُدَّعِي فَإِنَّهَا تُقْبَلُ وَتُرَدُّ الدَّارُ إلَى الْمُدَّعِي. وَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا: إنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ بِمَجْهُولٍ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مُنْقَضِيَةٌ تَزُولُ بِأَسْبَابِ الزَّوَالِ فَرُبَّمَا زَالَتْ بَعْدَمَا كَانَتْ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَجْهُولٌ، وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ.

وَقَوْلُهُ: (وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ) دَلِيلٌ آخَرُ: أَيْ الْيَدُ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى يَدِ مِلْكٍ وَأَمَانَةٍ وَضَمَانٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَجْهُولٌ، وَالْقَضَاءُ بِإِعَادَةِ الْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ، وَبِخِلَافِ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَحُكْمُهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ؛ وَلِأَنَّ يَدَ ذِي الْيَدِ مُعَايِنٌ وَيَدَ الْمُدَّعِي مَشْهُودٌ بِهِ وَالشَّهَادَةُ خَبَرٌ وَلَيْسَ الْمُخْبَرَ بِهِ لِاحْتِمَالِ زَوَالِهِ بَعْدَمَا كَانَتْ كَالْمُعَايَنِ الْمَحْسُوسِ عَدَمُ زَوَالِهِ

ص: 459

(وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُفِعَتْ إلَى الْمُدَّعِي) لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ (وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) يَعْنِي إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ فِي يَدِ هَذَا الْمُدَّعِي دُفِعَتْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ دُفِعَتْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ

ص: 460

أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي دُفِعَتْ إلَيْهِ) لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ هَاهُنَا الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَعْلُومٌ.

(بَابٌ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ)

قَالَ (الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ

بِهِ هُوَ الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَالْجَهَالَةُ فِي الْمُقَرِّ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَشَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ شَيْئًا جَازَتْ الشَّهَادَةُ وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 461

جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، إذْ شَاهِدُ الْأَصْلِ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِبَعْضِ الْعَوَارِضِ، فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَدَّى إلَى إتْوَاءِ الْحُقُوقِ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ، إلَّا أَنَّ فِيهَا شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ الْبَدَلِيَّةُ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا زِيَادَةَ احْتِمَالٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

‌بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:

الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَرْعُ شَهَادَةِ الْأُصُولِ فَاسْتَحَقَّتْ التَّأْخِيرَ فِي الذِّكْرِ، وَجَوَازُهَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَزِمَتْ الْأَصْلَ لَاحِقًا لِلْمَشْهُودِ لَهُ لِعَدَمِ الْإِجْبَارِ، وَالْإِنَابَةُ لَا تَجْرِي فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا جَوَازَهَا فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ لِشِدَّةِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَائِهَا لِبَعْضِ الْعَوَارِضِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَأَدَّى إلَى إتْوَاءِ الْحُقُوقِ وَلِهَذَا جُوِّزَتْ وَإِنْ كَثُرَتْ: أَعْنِي الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ بَعُدَتْ (إلَّا أَنَّ فِيهَا شُبْهَةً) أَيْ لَكِنْ فِيهَا شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ وَهَذِهِ كَذَلِكَ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ لَمَا جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمْ لِعَدَمِ جَوَازِهِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، لَكِنْ لَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ وَهُوَ أَصْلٌ وَآخَرَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدٍ آخَرَ جَازَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَدَلِيَّةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ هُوَ شَهَادَةُ الْأُصُولِ، وَالْمَشْهُودُ بِهِ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ هُوَ مَا عَايَنُوهُ مِمَّا يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ بَدَلًا عَنْ شَهَادَةِ الْأُصُولِ فَلَمْ يَمْتَنِعُ إتْمَامُ الْأُصُولِ بِالْفُرُوعِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْبَدَلِيَّةُ فِيهَا لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ.

وَقَوْلُهُ (أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا زِيَادَةَ) احْتِمَالٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ حَيْثُ الْبَدَلِيَّةُ: يَعْنِي أَنَّ فِيهَا شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا زِيَادَةَ احْتِمَالٍ، فَإِنَّ فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ تُهْمَةَ الْكَذِبِ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ، وَفِي شَهَادَةِ الْفُرُوعِ تِلْكَ التُّهْمَةُ مَعَ زِيَادَةِ تُهْمَةُ كَذِبِهِمْ مَعَ إمْكَانِ احْتِرَازٍ بِجِنْسِ الشُّهُودِ بِأَنْ يَزِيدُوا فِي عَدَدِ الْأُصُولِ عِنْدَ إشْهَادِهِمْ حَتَّى إنْ تَعَذَّرَ إقَامَةُ بَعْضٍ قَامَ بِهَا

ص: 462

(وَتَجُوزُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ). وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ إلَّا الْأَرْبَعُ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ اثْنَانِ لِأَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ قَائِمَانِ مَقَامَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ فَصَارَا كَالْمَرْأَتَيْنِ

الْبَاقُونَ، فَلَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

قَوْلُهُ: (وَيَجُوزُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ) أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَانِ غَيْرِ اللَّذَيْنِ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ الْآخَرِ فَذَلِكَ أَرْبَعٌ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ اثْنَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ قَائِمَانِ مَقَامَ وَاحِدٍ فَصَارَا كَالْمَرْأَتَيْنِ لَمَّا

ص: 463

وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه: لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، وَلِأَنَّ نَقْلَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ مِنْ الْحُقُوقِ فَهُمَا شَهِدَا بِحَقٍّ ثُمَّ شَهِدَا بِحَقٍّ آخَرَ فَتُقْبَلُ.

(وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ) لِمَا رَوَيْنَا، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رحمه الله، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِصَابِ الشَّهَادَةِ.

(وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ

قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَمْ تَتِمَّ حُجَّةُ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمَا (وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه: لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ) فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يُفِيدُ الِاكْتِفَاءَ بِاثْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِأَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ كُلِّ أَصْلٍ فَرْعَانِ (وَلِأَنَّ نَقْلَ الشَّهَادَةِ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ مَعْنًى، وَمَعْنَاهُ أَنَّ نَقْلَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ، فَإِذَا شَهِدَا بِهَا فَقَدْ تَمَّ نِصَابُ الشَّهَادَةِ، ثُمَّ إذَا شَهِدَا بِشَهَادَةِ الْآخَرِ شَهِدَا بِحَقٍّ آخَرَ غَيْرِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ فَإِنَّ النِّصَابَ لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى وَاحِدٍ خِلَافًا لِمَالِكٍ.

قَالَ: الْفَرْعُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصْلِ مُعَبِّرٌ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ رَسُولِهِ فِي إيصَالِ شَهَادَتِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَكَأَنَّهُ حَضَرَ وَشَهِدَ بِنَفْسِهِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِرِوَايَةِ الْإِخْبَارِ فَإِنَّ رِوَايَةَ الْوَاحِدِ عَنْ الْوَاحِدِ مَقْبُولَةٌ. وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَهُوَ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِصَابِ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ

قَالَ (وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ: شَاهِدُ الْأَصْلِ إلَخْ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ مَشْرُوعِيَّتِهَا وَكَمِّيَّةِ الشُّهُودِ الْفُرُوعِ شَرَعَ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْإِشْهَادِ وَأَدَاءِ الْفُرُوعِ فَقَالَ: وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ: شَاهِدُ الْأَصْلِ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا

ص: 464

لِشَاهِدِ الْفَرْعِ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ) لِأَنَّ الْفَرْعَ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ وَالتَّوْكِيلِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ كَمَا يَشْهَدُ عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ (وَإِنْ لَمْ يَقُلْ أَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ جَازَ) لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ إقْرَارَ غَيْرِهِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ (وَيَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَتِهِ، وَذِكْرِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَذِكْرِ التَّحْمِيلِ، وَلَهَا لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا وَأَقْصَرُ مِنْهُ

وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ كَالنَّائِبِ عَنْ الْأَصْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحَمُّلِ وَالتَّوْكِيلِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنَّمَا قَالَ كَالنَّائِبِ عَنْهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْفَرْعَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْأَصْلِ فِي شَهَادَتِهِ بَلْ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ الْأَصْلُ عِنْدَ الْفَرْعِ كَمَا يَشْهَدُ الْأَصْلُ عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهُ مِثْلَ مَا سَمِعَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ كَمَا يَشْهَدُ الْفَرْعُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَالْأَوَّلُ أَوْضَحُ لِقَوْلِهِ لِيَنْقُلَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْأَصْلُ عِنْدَ التَّحْمِيلِ أَشْهَدَنِي نَفْسَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ إقْرَارَ غَيْرِهِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ.

قَالَ (وَيَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ إلَخْ) هَذَا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الْفُرُوعِ الشَّهَادَةَ (يَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَتِهِ: أَعْنِي الْفَرْعَ وَذَكَرَ شَهَادَةَ الْأَصْلِ وَذَكَرَ التَّحْمِيلَ) وَالْعِبَارَةُ الْمَذْكُورَةُ تَفِي بِذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ أَوْسَطُ الْعِبَارَاتِ (وَلَهَا) أَيْ لِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ (لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْفَرْعُ عِنْدَ الْقَاضِي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا شَهِدَ عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا مِنْ الْمَالِ وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ الْآنَ فَذَلِكَ ثَمَانِي شِينَاتٍ وَالْمَذْكُورُ أَوَّلًا خَمْسُ شِينَاتٍ (وَأَقْصَرُ مِنْهُ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْفَرْعُ عِنْدَ الْقَاضِي أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ فُلَانٍ بِكَذَا وَفِيهِ شِينَانِ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ شَيْءٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ

ص: 465

وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا.

(وَمَنْ قَالَ أَشْهَدَنِي: فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَشْهَدْ السَّامِعُ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ جَمِيعًا حَتَّى اشْتَرَكُوا فِي الضَّمَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا

أَبِي اللَّيْثِ وَأُسْتَاذِهِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ.

(وَمَنْ قَالَ أَشْهَدَنِي فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ) لَمْ يَشْهَدْ السَّامِعُ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي؛ لِأَنَّهُ (لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ) بِالِاتِّفَاقِ. أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَهُ يَقَعُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ حَتَّى إذَا رَجَعُوا جَمِيعًا اشْتَرَكُوا فِي الضَّمَانِ: يَعْنِي يَتَخَيَّرُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بَيْنَ تَضْمِينِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ وَلَا تَوْكِيلَ إلَّا بِأَمْرِهِ.

وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ حَتَّى لَوْ أَشْهَدَ إنْسَانًا عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ مَنَعَهُ مِنْ الْأَدَاءِ لَمْ يَصِحَّ مَنْعُهُ وَجَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِتَصِيرَ الشَّهَادَةُ حُجَّةً فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي نَفْسِهَا مَا لَمْ تُنْقَلْ، وَلَا بُدَّ لِلنَّقْلِ مِنْ التَّحْمِيلِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ مُضْطَرِبٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَطْلُوبَ فِي كَلَامِهِ التَّحْمِيلَ، وَاسْتَدَلَّ

ص: 466

لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِيَصِيرَ حُجَّةً فَيَظْهَرَ تَحْمِيلُ مَا هُوَ حُجَّةٌ. .

عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ النَّقْلِ لِيَصِيرَ حُجَّةً وَعُطِفَ عَلَيْهِ فَيَظْهَرُ بِالنَّصْبِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّحْمِيلُ مِمَّا يَحْصُلُ بَعْدَ النَّقْلِ وَالنَّقْلُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّحْمِيلِ.

ذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ قَوْلَهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً إلَّا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِقِيَامِ الْحَقِّ بِمُجَرَّدِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ مُزَيَّفٌ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَسَعُهُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ شَهِدَ بِالْحَقِّ عِنْدَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالتَّحْمِيلِ وَالتَّوْكِيلِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ لَهُ مَنْفَعَةٌ فِي نَقْلِ الْفَرْعِ شَهَادَتَهُ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْأَصْلِ يَجِبُ عَلَيْهِ إقَامَتُهَا وَيَأْثَمُ بِكِتْمَانِهَا مَتَى وُجِدَ الطَّلَبُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إذَا تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِقَضَائِهِ عَنْهُ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ، فَبِاعْتِبَارِ هَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْأَمْرُ لِصِحَّتِهَا، غَيْرَ أَنَّ فِيهَا مَضَرَّةً مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِهَةٌ فِي بُطْلَانِ وِلَايَتِهِ فِي تَنْفِيذِ قَوْلِهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَإِبْطَالُ وِلَايَتِهِ بِدُونِ أَمْرِهِ مَضَرَّةٌ

ص: 467

قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ يَغِيبُوا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا أَوْ يَمْرَضُوا مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ) لِأَنَّ جَوَازَهَا لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا تُمَسُّ عِنْدَ عَجْزِ الْأَصْلِ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ. وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا السَّفَرَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ وَمُدَّةُ السَّفَرِ بَعِيدَةٌ حُكْمًا حَتَّى أُدِيرَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ فَكَذَا سَبِيلُ هَذَا الْحُكْمِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ صَحَّ الْإِشْهَادُ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ، قَالُوا: الْأَوَّلُ أَحْسَنُ

فِي حَقِّهِ، فَبِاعْتِبَارِ هَذَا يُشْتَرَطُ الْأَمْرُ وَصَارَ كَمَنْ لَهُ وِلَايَةٌ فِي إنْكَاحِ الصَّغِيرَةِ إذَا أَنْكَحَهَا أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ لِسَدِّ الْخَلَلِ. وَأَمَّا عِبَارَةُ الْمَشَايِخِ فَهِيَ مُشْكِلَةٌ لَيْسَ فِيهَا إشْعَارٌ بِالْمَطْلُوبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا فِي هَذَا الْبَحْثِ كَلَامٌ فِي أَوَّلِ الشَّهَادَاتِ بِوَجْهٍ آخَرَ مُفِيدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ إلَخْ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُجَوِّزَ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ مِسَاسُ الْحَاجَةِ فَلَا تَجُوزُ مَا لَمْ يُوجَدْ وَلَا تُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ الْأُصُولُ أَوْ يَغِيبُوا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ يَمْرَضُوا مَرَضًا يَمْنَعُهُمْ الْحُضُورَ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَتَحَقَّقُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِعَجْزِ الْأُصُولِ عَنْ إقَامَتِهَا، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ السَّفَرُ؛ لِأَنَّ الْمُعَجِّزَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ وَمُدَّةُ السَّفَرِ بَعِيدَةٌ حُكْمًا حَتَّى أُدِيرَ عَلَيْهَا عِدَّةُ أَحْكَامٍ كَقَصْرِ الصَّلَاةِ وَالْفِطْرِ وَامْتِدَادِ الْمَسْحِ وَعَدَمِ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ وَالْجُمُعَةِ وَحُرْمَةِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ بِلَا مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ صَحَّ لَهُ الْإِشْهَادُ) دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَ (إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ قَالُوا: الْأَوَّلُ) أَيْ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ (أَحْسَنُ)؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ شَرْعًا

ص: 468

وَالثَّانِي أَرْفَقُ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.

قَالَ (فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودَ الْأَصْلِ شُهُودُ الْفَرْعِ جَازَ) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ (وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ فَعَدَّلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ صَحَّ)

يَتَحَقَّقُ بِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي عَدَّدْنَاهَا فَكَانَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَكَانَ أَحْسَنَ (وَالثَّانِي أَرْفَقُ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ) وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانُوا فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ قَوْلَهُمْ فَكَانَ كَنَقْلِ إقْرَارِهِمْ

(فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودُ الْأَصْلِ شُهُودَ الْفُرُوعِ جَازَ) وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرْعَيْنِ إذَا شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ أَصْلَيْنِ فَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: إمَّا أَنْ يَعْرِفَهُمَا الْقَاضِي أَوْ لَا يَعْرِفَهُمَا، أَوْ عَرَفَ الْأُصُولَ دُونَ الْفُرُوعِ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَإِنْ عَرَفَهُمَا بِالْعَدَالَةِ قَضَى بِشَهَادَتِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمَا يَسْأَلْ عَنْهُمَا، وَإِنْ عَرَفَ الْأُصُولَ دُونَ الْفُرُوعِ يَسْأَلُ عَنْ الْفُرُوعِ، وَإِنْ عَرَفَ الْفُرُوعَ يَسْأَلْ عَنْ الْأُصُولِ، فَإِنْ عَدَّلَ الْفُرُوعُ الْأُصُولَ تَثْبُتُ عَدَالَتُهُمْ بِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ لِكَوْنِهِمْ عَلَى صِفَةِ الشَّهَادَةِ. (وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ فَعَدَّلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ صَحَّ

ص: 469

لِمَا قُلْنَا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ لَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ، كَيْفَ وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَةُ صَاحِبِهِ فَلَا تُهْمَةَ. قَالَ (وَإِنْ سَكَتُوا عَنْ تَعْدِيلِهِمْ جَازُوا نَظَرَ الْقَاضِي فِي حَالِهِمْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ إلَّا بِالْعَدَالَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَمْ يَنْقُلُوا الشَّهَادَةَ فَلَا يُقْبَلُ. وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِمْ النَّقْلُ دُونَ التَّعْدِيلِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ، وَإِذَا نَقَلُوا يَتَعَرَّفُ الْقَاضِي الْعَدَالَةَ كَمَا إذَا حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَشَهِدُوا

لِمَا قُلْنَا) إنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ، وَقَوْلُهُ:(غَايَةُ الْأَمْرِ) رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمَشَايِخِ لَا يَصِحُّ تَعْدِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ تَنْفِيذَ شَهَادَةِ نَفْسِهِ بِهَذَا التَّعْدِيلِ فَكَانَ مُتَّهَمًا، فَأَشَارَ إلَى رَدِّهِ بِقَوْلِهِ غَايَةُ الْأَمْرِ: أَيْ غَايَةُ مَا يَرِدُ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الشُّبْهَةِ أَنْ يُقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ تَعْدِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِسَبَبِ (أَنَّ فِي تَعْدِيلِهِ مَنْفَعَةً) لَهُ مِنْ حَيْثُ تَنْفِيذُ الْقَاضِي قَوْلَهُ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ (لَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ) فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا شَهِدَ فِيمَا شَهِدَ لِيَصِيرَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَ تَنْفِيذِ الْقَاضِي قَوْلَهُ عَلَى مُوجِبِ مَا شَهِدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ فِيهِ فِي الْوَاقِعِ (كَيْفَ) يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْعٌ يَفُوتُ بِتَرْكِ التَّعْدِيلِ (لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي نَفْسِهِ مَقْبُولٌ وَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَةُ صَاحِبِهِ) حَتَّى إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ الْعُدُولِ حَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا (فَلَا تُهْمَةَ، وَإِنْ سَكَتُوا عَنْ تَعْدِيلِهِمْ) وَقَالُوا لَا نُخْبِرُك (جَازَتْ) شَهَادَتُهُمْ (وَ) لَكِنْ (يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي حَالِ الْأُصُولِ) بِأَنْ يَسْأَلَ مِنْ الْمُزَكِّينَ غَيْرِ الْفُرُوعِ (عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُقْبَلُ)

شَهَادَةُ الْفُرُوعِ (لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ إلَّا بِالْعَدَالَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَمْ يَنْقُلُوا الشَّهَادَةَ فَلَا تُقْبَلُ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِمْ نَقْلُ الشَّهَادَةِ دُونَ تَعْدِيلِ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا نَقَلُوا) فَقَدْ أَقَامُوا مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ الْقَاضِي (يَتَعَرَّفُ الْعَدَالَةَ كَمَا إذَا حَضَرَ الْأُصُولُ بِأَنْفُسِهِمْ فَشَهِدُوا) وَإِذَا قَالُوا لَا نَعْرِفُ أَنَّ الْأُصُولَ عُدُولٌ أَوْ لَا؟ قِيلَ: ذَلِكَ وَقَوْلُهُمْ لَا نُخْبِرُك سَوَاءٌ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا.

وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: لَا يَرُدُّ الْقَاضِي شَهَادَةَ الْفُرُوعِ وَيَسْأَلُ عَنْ الْأُصُولِ غَيْرَهُمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ شَاهِدَ الْأَصْلِ بَقِيَ مَسْتُورًا

ص: 470

قَالَ (وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ الْفَرْعِ) لِأَنَّ التَّحْمِيلَ لَمْ يَثْبُتْ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ وَهُوَ شَرْطٌ.

(وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَا أَخْبَرَانَا أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا فَجَاءَ بِامْرَأَةٍ وَقَالَا:

وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأُصُولِ الشَّهَادَةَ) بِأَنْ قَالُوا مَا لَنَا فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ شَهَادَةٌ ثُمَّ جَاءَ الْفُرُوعُ يَشْهَدُونَ بِشَهَادَتِهِمْ (لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ التَّحْمِيلَ لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّعَارُضِ بَيْنَ خَبَرِ الْأُصُولِ وَخَبَرِ الْفُرُوعِ، وَهُوَ) أَيْ التَّحْمِيلُ (شَرْطُ) صِحَّةِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ.

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ إلَخْ) إذَا شَهِدَ فَرْعَانِ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلَيْنِ (عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَا أَخْبَرَانَا) الْأَصْلَانِ (أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا فَجَاءَ الْمُدَّعِي بِامْرَأَةٍ وَقَالَا)

ص: 471

لَا نَدْرِي أَهِيَ هَذِهِ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنِّسْبَةِ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْحَقَّ عَلَى الْحَاضِرَةِ وَلَعَلَّهَا غَيْرُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِتِلْكَ النِّسْبَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ بِبَيْعٍ مَحْدُودَةً بِذِكْرِ حُدُودِهَا وَشَهِدُوا عَلَى الْمُشْتَرِي لَا بُدَّ مِنْ آخَرَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ الْمَحْدُودَ بِهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْمَذْكُورَةَ فِي الشَّهَادَةِ حُدُودُ مَا فِي يَدِهِ. .

قَالَ (وَكَذَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي)

الْفَرْعَانِ (لَا نَعْلَمُ أَهِيَ هَذِهِ أَمْ لَا يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا هِيَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَعْرِفَةُ بِالنِّسْبَةِ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْحَقَّ عَلَى الْحَاضِرَةِ وَلَعَلَّهَا غَيْرُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِتِلْكَ النِّسْبَةِ. وَنَظِيرُ هَذَا إذَا تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ بِبَيْعِ مَحْدُودَةٍ بِذِكْرِ حُدُودِهَا وَشَهِدُوا عَلَى الْمُشْتَرِي) بَعْدَمَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْدُودُ بِهَا فِي يَدِهِ (لَا بُدَّ مِنْ) شَاهِدَيْنِ (آخَرَيْنِ) يَشْهَدَانِ بِأَنَّ الْمَحْدُودَ بِهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِي غَيْرُ مَحْدُودٍ بِهَذِهِ الْحُدُودِ.

وَكَذَلِكَ (إذَا كَتَبَ قَاضِي بَلَدٍ إلَى آخَرَ) شَاهِدَانِ شَهِدَا عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ كَذَا فَاقْضِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي فُلَانًا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَدَفَعَ إلَيْهِ الْكِتَابَ يَقُولُ الْقَاضِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَحْضَرْته هُوَ فُلَانٌ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْكِتَابِ لِتَمَكُّنِ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ،

ص: 472

لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لِكَمَالِ دِيَانَتِهِ وَوُفُورِ وِلَايَتِهِ يَنْفَرِدُ بِالنَّقْلِ (وَلَوْ قَالُوا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسُبُوهَا إلَى فَخِذِهَا) وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الْخَاصَّةُ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي هَذَا، وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامَّةِ وَهِيَ عَامَّةٌ إلَى بَنِي تَمِيمٍ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يُحْصَوْنَ

لِأَنَّهُ) أَيْ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي (فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ) عَلَى الشَّهَادَةِ (إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لِكَمَالِ دِيَانَتِهِ وَوُفُورِ وِلَايَتِهِ يَنْفَرِدُ بِالنَّقْلِ) فَلَا يَلْزَمُ مَا قِيلَ تَمْثِيلُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ، إذْ الْعَدَدُ مِنْ شَأْنِهِمْ دُونَ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ دِيَانَتَهُ وَوُفُورَ وِلَايَتِهِ قَامَ مَقَامَ الْعَدَدِ (وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ) يَعْنِي بَابَ الشَّهَادَةِ وَبَابَ كِتَابِ الْقَاضِي (فُلَانَةُ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسُبُوهَا إلَى فَخْذِهَا وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الْخَاصَّةُ) يَعْنِي الَّتِي لَا خَاصَّةَ دُونَهَا. قَالَ فِي الصِّحَاحِ الْفَخْذُ آخَرُ الْقَبَائِلِ السِّتِّ: أَوَّلُهَا الشَّعْبُ، ثُمَّ الْقَبِيلَةُ، ثُمَّ الْفَصِيلَةُ، ثُمَّ الْعِمَارَةُ، ثُمَّ الْبَطْنُ، ثُمَّ الْفَخْذُ وَقَالَ فِي غَيْرِهِ: إنَّ الْفَصِيلَةَ بَعْدَ الْفَخْذِ؛ فَالشَّعْبُ بِفَتْحِ الشِّينِ يَجْمَعُ الْقَبَائِلَ، وَالْقَبَائِلُ تَجْمَعُ الْعَمَائِرَ، وَالْعِمَارَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ تَجْمَعُ الْبُطُونَ، وَالْبَطْنُ يَجْمَعُ الْأَفْخَاذَ، وَالْفَخْذُ بِسُكُونِ الْخَاءِ يَجْمَعُ الْفَصَائِلَ (وَهَذَا) أَيْ عَدَمُ الْجَوَازِ (لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ الْعَامَّةِ وَالتَّمِيمِيَّةُ عَامَّةٌ) بِالنِّسْبَةِ إلَى بَنِي تَمِيمٍ؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يُحْصَوْنَ فَكَمْ تَكُونُ بَيْنَهُمْ نِسَاءٌ

ص: 473

وَيَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَخِذِ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ. وَقِيلَ الْفَرْغَانِيَّةُ نِسْبَةٌ عَامَّةٌ وَالْأُوزَجَنْدِيَّةُ خَاصَّةٌ، (وَقِيلَ السَّمَرْقَنْدِيَّة وَالْبُخَارِيَّةُ عَامَّةٌ) وَقِيلَ إلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ، وَإِلَى الْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ وَالْمِصْرِ عَامَّةٌ.

ثُمَّ التَّعْرِيفُ وَإِنْ كَانَ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، فَذِكْرُ الْفَخِذِ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ لِأَنَّهُ اسْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْجَدِّ الْأَدْنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ)

اتَّحَدَتْ أَسَامِيهِنَّ وَأَسَامِي آبَائِهِنَّ (وَيَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَخْذِ؛ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ) ثُمَّ التَّعْرِيفُ وَإِنْ كَانَ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، فَذِكْرُ الْفَخْذِ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ؛ لِأَنَّ الْفَخْذَ اسْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْجَسَدِ الْأَدْنَى فِي النِّسْبَةِ وَهُوَ أَبٌ الْأَبِ

ص: 474

(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: شَاهِدُ الزُّورِ أُشَهِّرُهُ فِي السُّوقِ وَلَا أُعَزِّرُهُ. وَقَالَا: نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ

فَصْلٌ:

(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: شَاهِدُ الزُّورِ أُشَهِّرُهُ فِي السُّوقِ إلَخْ) شَاهِدُ الزُّورِ، وَهُوَ الَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ شَهِدَ بِالزُّورِ أَوْ شَهِدَ بِقَتْلِ رَجُلٍ فَجَاءَ حَيًّا يُعَزَّرُ، وَتَشْهِيرُهُ تَعْزِيرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَوْلُهُ: وَلَا أُعَزِّرُهُ: يَعْنِي لَا أَضْرِبُهُ، وَقَالَا: نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ. لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ وَسَخَّمَ وَجْهَهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، مِنْ السُّخَامِ: وَهُوَ سَوَادُ الْقَدْرِ، أَوْ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ الْأَسْحَمِ وَهُوَ الْأَسْوَدُ. لَا يُقَالُ: الِاسْتِدْلَال بِهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى مَذْهَبِهِمَا؛؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ بِجَوَازِ التَّسْخِيمِ لِكَوْنِهِ مُثْلَةً وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلَا يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ إلَى أَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا إثْبَاتُ مَا نَفَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ التَّعْزِيرِ بِالضَّرْبِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ

ص: 475

وَلِأَنَّ هَذِهِ كَبِيرَةٌ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إلَى الْعِبَادِ وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ. وَلَهُ أَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ، وَلِأَنَّ الِانْزِجَارَ يَحْصُلُ بِالتَّشْهِيرِ فَيَكْتَفِي بِهِ، وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ وَلَكِنَّهُ يَقَعُ مَانِعًا عَنْ الرُّجُوعِ فَوَجَبَ التَّخْفِيفُ نَظَرًا إلَى هَذَا الْوَجْهِ.

وَحَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَالتَّسْخِيمِ

الضَّرْبِ مَشْرُوعٌ فِي تَعْزِيرِهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى السِّيَاسَةِ.

قَوْلُهُ: (وَلِأَنَّ هَذِهِ) أَيْ شَهَادَةَ الزُّورِ (كَبِيرَةٌ) ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} وَبِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْت لَا يَسْكُتُ» (وَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إلَى الْعِبَادِ) بِإِتْلَافِ أَمْوَالِهِمْ (وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزِّرُهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ شُرَيْحًا رحمه الله كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ) وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرَةٌ، وَمَا كَانَ يَخْفَى مَا يَعْمَلُهُ عَلَيْهِمْ وَسَكَتُوا عَنْهُ فَكَانَ كَالْمَرْوِيِّ عَنْهُمَا وَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ (وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِانْزِجَارُ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالتَّشْهِيرِ فَيُكْتَفَى بِهِ. وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ لَكِنَّهُ قَدْ يَقَعُ مَانِعًا مِنْ الرُّجُوعِ) فَإِنَّهُ إذَا تَصَوَّرَ الضَّرْبَ يَخَافُ فَلَا يَرْجِعُ وَفِيهِ تَضْيِيعٌ لِلْحُقُوقِ (فَوَجَبَ التَّخْفِيفُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) وَذَلِكَ بِتَرْكِ الضَّرْبِ (وَحَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ) وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. قَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» .

(وَ) بِدَلَالَةِ (التَّسْخِيمِ) هَذَا تَأْوِيلُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ، وَأَوَّلَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْخِيمِ التَّخْجِيلُ بِالتَّفْضِيحِ وَالتَّشْهِيرِ، فَإِنَّ الْخَجِلَ يُسَمَّى مُسْوَدًّا مَجَازًا، قَالَ اللَّهُ

ص: 476

ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّشْهِيرِ مَنْقُولٌ عَنْ شُرَيْحٍ رحمه الله، فَإِنَّهُ كَانَ يَبْعَثُهُ إلَى سُوقِهِ إنْ كَانَ سُوقِيًّا، وَإِلَى قَوْمِهِ إنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا، وَيَقُولُ: إنَّ شُرَيْحًا يُقْرِئُكُمْ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوا النَّاسَ مِنْهُ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله أَنَّهُ يُشَهَّرُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا.

وَالتَّعْزِيرُ وَالْحَبْسُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا، وَكَيْفِيَّةُ التَّعْزِيرِ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: شَاهِدَانِ أَقَرَّا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ لَمْ يُضْرَبَا وَقَالَا يُعَزَّرَانِ) وَفَائِدَتُهُ أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُكْمِ هُوَ الْمُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، فَأَمَّا لَا طَرِيقَ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلشَّهَادَةِ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

تَعَالَى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} (وَتَفْسِيرُ التَّشْهِيرِ مَا نُقِلَ عَنْ شُرَيْحٍ رحمه الله أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ إلَى سُوقِهِ، إنْ كَانَ سُوقِيًّا، أَوْ إلَى قَوْمِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ يَكُنْ سُوقِيًّا بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا) أَيْ مُجْتَمَعِينَ، أَوْ إلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ أَكْثَرَ جَمْعًا لِلْقَوْمِ (وَيَقُولُ: إنَّ شُرَيْحًا يُقْرِئكُمْ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوهُ النَّاسَ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ عِنْدَهُمَا أَيْضًا يُشَهَّرُ، وَالْحَبْسُ وَالتَّعْزِيرُ مِقْدَارُهُ مُفَوَّضٌ إلَى مَا يَرَاهُ الْقَاضِي) وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ فِيمَنْ كَانَ تَائِبًا أَوْ مُصِرًّا أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ. وَقَدْ قِيلَ إنْ رَجَعَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ لَا يُعَزَّرُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى سَبِيلِ الْإِصْرَارِ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي قُلْنَا. ثُمَّ إنَّهُ إذَا تَابَ هَلْ تَقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ إنْ كَانَ فَاسِقًا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى الزُّورِ فِسْقُهُ وَقَدْ زَالَ بِالتَّوْبَةِ، وَمُدَّةُ ظُهُورِ التَّوْبَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَعِنْدَ آخَرِينَ سَنَةٌ. قَالُوا: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا لَا تُقْبَلُ أَصْلًا، وَكَذَا إنْ كَانَ عَدْلًا عَلَى رِوَايَةِ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ الْحَالُ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَبَعْدَهَا سَوَاءً، وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ. قَالُوا: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.

قَالَ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) وَذَكَرَ أَنَّ فَائِدَةَ ذِكْرِ رِوَايَتِهِ هِيَ مَعْرِفَةُ شَاهِدِ الزُّورِ بِأَنَّهُ الَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، فَأَمَّا إثْبَاتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلشَّهَادَةِ وَالْبَيِّنَاتُ شُرِعَتْ لِلْإِثْبَاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الَّذِي شَهِدَ بِقَتْلِ شَخْصٍ وَظَهَرَ حَيًّا أَوْ بِمَوْتِهِ وَكَانَ حَيًّا إمَّا لِنُدْرَتِهِ وَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُ أَنْ يَقُولَ كَذَبْت أَوْ ظَنَنْت ذَلِكَ أَوْ سَمِعْت ذَلِكَ فَشَهِدَتْ وَهُمَا بِمَعْنَى كَذَبْت لِإِقْرَارِهِ بِالشَّهَادَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 477

(كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ)

(قَالَ: إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا سَقَطَتْ) لِأَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي

كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ:

تَنَاسُبُ هَذَا الْكِتَابِ لِكِتَابِ الشَّهَادَاتِ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْ فَصْلِ شَهَادَةِ الزُّورِ ظَاهِرٌ، إذْ الرُّجُوعُ عَنْهَا يَقْتَضِي سَبْقَ وُجُودِهَا وَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ كَوْنُهَا زُورًا وَهُوَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ دِيَانَةً؛ لِأَنَّ فِيهِ خَلَاصًا مِنْ عِقَابِ الْكَبِيرَةِ، فَإِذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ بِأَنْ قَالُوا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ رَجَعْنَا عَمَّا شَهِدْنَا بِهِ أَوْ شَهِدْنَا بِزُورٍ فِيمَا شَهِدْنَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ سَقَطَتْ الشَّهَادَةُ عَنْ إثْبَاتِ الْحَقِّ بِهَا عَلَى الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَا قَضَاءَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِكَلَامٍ مُتَنَاقِضٍ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْإِتْلَافِ، وَلَا

ص: 478

بِكَلَامٍ مُتَنَاقِضٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا شَيْئًا لَا عَلَى الْمُدَّعِي وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ (فَإِنْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ) لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِمْ يُنَاقِضُ أَوَّلَهُ فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِالتَّنَاقُضِ وَلِأَنَّهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّدْقِ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ (وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ) لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ)

إتْلَافَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا شَيْئًا لَا عَلَى الْمُدَّعِي وَلَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَمَّا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الْمُدَّعِي فَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إنْ كَانَتْ حَقًّا فِي الْوَاقِعِ وَرَجَعُوا عَنْهَا صَارُوا كَاتِمِينَ لِلشَّهَادَةِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ يَكْتُمُهَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ يُنَاقِضُ الْأَوَّلَ، وَالْكَلَامُ الْمُنَاقِضُ سَاقِطُ الْعِبْرَةِ عَقْلًا وَشَرْعًا فَلَا يُنْقَضُ بِهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى التَّسَلْسُلِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ رُجُوعِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَيْسَ لِبَعْضٍ عَلَى غَيْرِهِ تَرْجِيحٌ فَيَتَسَلْسَلُ الْحُكْمُ وَفَسْخُهُ وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَوْضُوعَاتِ الشَّرْعِ؛ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ الْآخَرَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّدْقِ كَالْأَوَّلِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ سَاوَاهُ وَاحْتِيجَ فِيهِ إلَى التَّرْجِيحِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يُنْتَقَضُ بِهِ، وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، فَقَضَاءُ الْقَاضِي وَإِنْ كَانَ عِلَّةً لِلتَّلَفِ لَكِنَّهُ كَالْمَلْجَإِ مِنْ جِهَتِهِمْ، فَكَانَ التَّسْبِيبُ مِنْهُمْ تَعَدِّيًا فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِمْ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ. فَإِنْ قِيلَ: كَلَامُهُمْ مُتَنَاقِضٌ وَذَلِكَ سَاقِطُ الْعِبْرَةِ فَعَلَامَ الضَّمَانُ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ وَوَعَدَ بِتَقْرِيرِهِ مِنْ بَعْدُ، وَاكْتَفَى عَنْ ذِكْرِ التَّعْزِيرِ فِي الْفَصْلَيْنِ بِذَكَرِهِ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ.

قَالَ (وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ إلَخْ) الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِحَضْرَةِ حَاكِمٍ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ أَوْ لَا

ص: 479

لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ الْمَجْلِسِ وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَاضِي أَيَّ قَاضٍ كَانَ، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ تَوْبَةٌ وَالتَّوْبَةُ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ، فَالسِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْإِعْلَانُ بِالْإِعْلَانِ.

وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا لَا يَحْلِفَانِ، وَكَذَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ لِأَنَّ السَّبَبَ صَحِيحٌ.

؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ فَالرُّجُوعُ مُخْتَصٌّ بِهِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ فَسْخَ الشَّهَادَةِ يَخْتَصُّ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ الشَّهَادَةُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ إقْرَارٌ بِضَمَانِ مَالِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الْإِتْلَافِ بِالشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ، وَالْإِقْرَارُ بِذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَرْتَفِعُ مَا دَامَتْ الْحُجَّةُ بَاقِيَةً فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِهَا، وَالرُّجُوعُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَيْسَ بِرَفْعٍ لِلْحُجَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ كَمَا مَرَّ، وَالْإِقْرَارُ بِالضَّمَانِ مُرَتَّبٌ عَلَى ارْتِفَاعِهَا أَوْ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِهِ فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِهِ. لَا يُقَالُ: الْبَيِّنَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لَا بَقَاءً، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الْبَقَاءُ مَشْرُوطًا بِشَرْطِ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ أَسْهَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: مَجْلِسُ الْحُكْمِ مَحَلُّهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ كَالْمَحْرَمِيَّةِ فِي النِّكَاحِ وَوُجُودِ الْمَبِيعِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ وَصِحَّةِ الْفَسْخِ (وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ تَوْبَةٌ وَالتَّوْبَةُ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ فَالسِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالْإِعْلَانُ بِالْإِعْلَانِ) وَشَهَادَةُ الزُّورِ جِنَايَةٌ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَالتَّوْبَةُ عَنْهَا تَتَقَيَّدُ بِهِ (وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا) وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً أَوْ عَجَزَ عَنْهَا وَأَرَادَ أَنْ يُحَلِّفَ الشَّاهِدَيْنِ (لَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي بَيِّنَةً عَلَيْهِمَا وَلَا يُحَلِّفُهُمَا)؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ وَالْيَمِينَ يَتَرَتَّبَانِ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَدَعْوَى الرُّجُوعِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ بَاطِلَةٌ (حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ) بَيِّنَتُهُ (لِأَنَّ السَّبَبَ صَحِيحٌ) وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي ضَمَّنَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْقَاضِي، وَمَعْنَاهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ لَكِنَّهُ لَمْ يُعْطِ شَيْئًا إلَى الْآنَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّعِي وَمَعْنَاهُ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي تَضْمِينَهُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ بَدَلٌ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَهُوَ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ: أَيْ؛ لِأَنَّ سَبَبَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ صَحِيحٌ وَهُوَ دَعْوَى الرُّجُوعِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَقِيلَ هُوَ الضَّمَانُ، وَمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ صَحِيحٌ وَهُوَ الرُّجُوعُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى حِينَئِذٍ لَيْسَتْ مُطَابِقَةً لِلدَّلِيلِ فَإِنَّهَا قَبُولُ الْبَيِّنَةِ لَا وُجُوبُ

ص: 480

(وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ التَّسْبِيبَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي

الضَّمَانِ فَتَأَمَّلْ.

(وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ عُلِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهَا لِبَيَانِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ وَلِمَا يَأْتِي مِنْ رُجُوعِ بَعْضِ الشُّهُودِ دُونَ بَعْضٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا تَسَبَّبَا فِي الْإِتْلَافِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُبَاشِرِ. وَقُلْنَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَبَّبَا لِلْإِتْلَافِ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي وَذَلِكَ يُوجِبُ الضَّمَانَ إذْ لَمْ يُمْكِنْ إضَافَتُهُ إلَى الْمُبَاشِرِ،

ص: 481

سَبَّبَ الضَّمَانَ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَقَدْ سَبَّبَا لِلْإِتْلَافِ تَعَدِّيًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَضْمَنَانِ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّسْبِيبِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ. قُلْنَا: تَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَهُوَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ كَالْمَلْجَإِ إلَى الْقَضَاءِ، وَفِي إيجَابِهِ صَرْفُ النَّاسِ عَنْ تَقَلُّدِهِ وَتَعَذُّرُ اسْتِيفَائِهِ مِنْ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْحُكْمَ مَاضٍ فَاعْتُبِرَ التَّسْبِيبُ، وَإِنَّمَا يَضْمَنَانِ

وَهَاهُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ هُوَ الْقَاضِي، وَإِضَافَةُ الضَّمَانِ إلَيْهِ مُتَعَذِّرَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَالْمُلْجَإِ إلَى الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّأْخِيرِ يَفْسُقُ وَلَيْسَ بِمُلْجَإٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْمُلْجَأَ حَقِيقَةً مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْقَاضِي لَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ فِي إيجَابِهِ عَلَيْهِ صَرْفَ النَّاسِ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ عَامٌّ فَيُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِأَجْلِهِ، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمُدَّعِي أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَاضٍ لِمَا تَقَدَّمَ فَاعْتُبِرَ السَّبَبُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُ كُلٍّ مِنْكُمْ وَمِنْ الشَّافِعِيِّ تَرَكَ أَصْلَهُ الْمَعْهُودَ فِي الشَّهَادَةِ بِالْقَتْلِ ثُمَّ الرُّجُوعِ، فَإِنَّهُ إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا فَاقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَا فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا فِي مَالِهِمَا عِنْدَكُمْ، وَمَا جَعَلْتُمْ كَالْمُبَاشِرِ حَتَّى يَجِبُ الْقِصَاصُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ، جَعَلَ الْمُسَبَّبَ كَالْمُبَاشِرِ. قُلْنَا: فِعْلُ الْمُبَاشِرِ الِاخْتِيَارِيُّ قَطَعَ النِّسْبَةَ أَوْ صَارَ شُبْهَةً كَمَا سَيَجِيءُ، وَالشَّافِعِيُّ جَعَلَهُ مُبَاشِرًا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي شَاهِدَيْ السَّرِقَةِ إذَا رَجَعَا: لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْت أَيْدِيَكُمَا.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِهِ رضي الله عنه أَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ، وَجَازَ أَنْ يُهَدِّدَ الْإِمَامُ بِمَا لَا يَتَحَقَّقُ كَمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَلَوْ تَقَدَّمْت فِي الْمُتْعَةِ لَرُجِمْت، وَالْمُتْعَةُ لَا تُوجِبُ الرَّجْمَ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنَانِ: يَعْنِي أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ إذَا قَبَضَ الْمُدَّعِي مَا قُضِيَ لَهُ بِهِ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْإِتْلَافِ، وَالْإِتْلَافُ يَتَحَقَّقُ بِالْقَبْضِ، وَفِي ذَلِكَ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ أَخْذِ الْعَيْنِ وَإِلْزَامِ الدَّيْنِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا إذَا أُلْزِمَا دَيْنًا بِشَهَادَتِهِمَا، فَلَوْ ضَمِنَا قَبْلَ الْأَدَاءِ إلَى الْمُدَّعِي كَانَ قَدْ اسْتَوْفَى مِنْهُمَا عَيْنًا بِمُقَابَلَةِ دَيْنٍ أَوْجَبَا وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا. وَفَرَّقَ شَيْخُ الْإِسْلَامَ بَيْنَ

ص: 482

إذَا قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا، لِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِهِ يَتَحَقَّقُ، لِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ أَخْذِ الْعَيْنِ وَإِلْزَامِ الدَّيْنِ. قَالَ (فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ)

الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ عَيْنًا فَلِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَ بَعْدَ الرُّجُوعِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَقْبِضَهُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْإِتْلَافِ وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ، وَإِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ عَيْنًا فَالشَّاهِدَانِ بِشَهَادَتِهِمَا أَزَالَاهُ عَنْ مِلْكِهِ إذَا اتَّصَلَ الْقَضَاءُ بِهَا، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِزَالَةُ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِمَا بِأَخْذِ الضَّمَانِ لَا تَنْتَفِي الْمُمَاثَلَةُ، وَإِذَا كَانَ دَيْنًا فَبِإِزَالَةِ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ تَنْتَفِي الْمُمَاثَلَةُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ ثَبَتَ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ بِالْقَضَاءِ وَلَكِنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِ مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَيْنِ شَيْئًا مَا لَمْ يَخْرُجْ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي.

قَالَ (وَإِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ إلَخْ) الْمُعْتَبَرُ فِي بَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَقِّ فِي الْحَقِيقَةِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَمَا زَادَ فَهُوَ فَضْلٌ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ، إلَّا أَنَّ الشُّهُودَ إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ الِاثْنَيْنِ يُضَافُ الْقَضَاءُ وَوُجُوبُ الْحَقِّ إلَى الْكُلِّ لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ.

وَإِذَا رَجَعَ وَاحِدٌ زَالَ الِاسْتِوَاءُ وَظَهَرَ إضَافَةُ الْقَضَاءِ إلَى الْمُثَنَّى وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَ اثْنَانِ فَرَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ بِشَهَادَةِ مَنْ بَقِيَ نِصْفُ الْحَقِّ. قِيلَ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْبَاقِيَ فَرْدٌ لَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ شَيْءٍ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَيَجُوزُ أَنْ يَصْلُحَ فِي الْبَقَاءِ

ص: 483

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَذَا بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ وَقَدْ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ نِصْفُ الْحَقِّ

(وَإِنْ شَهِدَا بِالْمَالِ ثَلَاثَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ بَقِيَ بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بَاقٍ بِالْحُجَّةِ، وَالْمُتْلِفُ مَتَى اسْتَحَقَّ (سَقَطَ الضَّمَانُ فَأَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ) فَإِنْ رَجَعَ الْآخَرُ

لِلْإِثْبَاتِ مَا لَا يَصْلُحُ فِي الِابْتِدَاءِ لِذَلِكَ، كَمَا فِي النِّصَابِ فَإِنَّ بَعْضَهُ لَا يَصْلُحُ فِي الِابْتِدَاءِ لِإِثْبَاتِ الْوُجُوبِ وَيَصْلُحُ فِي الْبَقَاءِ بِقَدْرِهِ.

(وَإِذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ فَرَجَعَ وَاحِدٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ بَقِيَ بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ (لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعِي لِلْمَشْهُودِ بِهِ بَاقٍ بِالْحُجَّةِ) التَّامَّةِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمُتْلِفِ يُسْقِطُ الضَّمَانَ فِيمَا إذَا أَتْلَفَ إنْسَانٌ مَالَ زَيْدٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ عَلَى الْمُتْلِفِ بِالضَّمَانِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمُتْلِفُ عَمْرٌو وَأَخَذَ الضَّمَانَ مِنْ الْمُتْلِفِ سَقَطَ الضَّمَانُ الثَّابِتُ لِزَيْدٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَى الْمُتْلِفِ فَلَأَنْ يَمْنَعَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ (فَإِنْ رَجَعَ الْآخَرُ

ص: 484

ضَمِنَ (الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الْمَالِ) لِأَنَّ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمْ يَبْقَى نِصْفُ الْحَقِّ

(وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ امْرَأَةٌ ضَمِنَتْ رُبُعَ الْحَقِّ) لِبَقَاءِ ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ بِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ (وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَ الْحَقِّ) لِأَنَّ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ بَقِيَ نِصْفُ الْحَقِّ (وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرَةُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ ثَمَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ) لِأَنَّهُ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ (فَإِنْ رَجَعَتْ أُخْرَى كَانَ عَلَيْهِنَّ رُبْعُ الْحَقِّ) لِأَنَّهُ بَقِيَ النِّصْفُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالرُّبْعُ بِشَهَادَةِ الْبَاقِيَةِ فَبَقِيَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ

(وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَالنِّسَاءُ فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْحَقِّ وَعَلَى النِّسْوَةِ خَمْسَةُ

ضَمِنَ الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الْحَقِّ) قِيلَ يَجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى الرَّاجِعِ الْأَوَّلِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ، وَبَعْدَ رُجُوعِ الْأَوَّلِ كَانَ نِصَابُ الشَّهَادَةِ بَاقِيًا فَإِذَا رَجَعَ الثَّانِي فَهُوَ الَّذِي أَتْلَفَ نِصْفَ الْحَقِّ فَيَقْتَصِرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْأَوَّلِ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ التَّبَيُّنِ أَوْ الِانْقِلَابِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ كَانَ بِشَهَادَتِهِمْ جَمِيعًا، ثُمَّ إذَا رَجَعَ الْأَوَّلُ ظَهَرَ كَذِبُهُ وَاحْتُمِلَ كَذِبُ غَيْرِهِ، فَإِذَا رَجَعَ الثَّانِي تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِتْلَافَ مِنْ الِابْتِدَاءِ كَانَ بِشَهَادَتِهِمَا، أَوْ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ بِالشَّهَادَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ مِنْهُمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَعِنْدَ رُجُوعِ الْأَوَّلِ وُجِدَ الْإِتْلَافُ، وَلَكِنَّ الْمَانِعَ وَهُوَ بَقَاءُ النِّصَابِ مَنَعَ إيجَابَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَجَعَ الثَّانِي ارْتَفَعَ الْمَانِعُ وَوَجَبَ الضَّمَانُ بِالْمُقْتَضِي.

(وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ امْرَأَةٌ ضَمِنَتْ رُبُعَ الْحَقِّ لِبَقَاءِ ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ بِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَ الْحَقِّ)؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْحَقِّ بَاقٍ لِشَهَادَةِ الرَّجُلِ (وَإِذَا شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ ثَمَانٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ، فَإِنْ رَجَعَتْ أُخْرَى كَانَ عَلَيْهِنَّ رُبُعُ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ النِّصْفُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالرُّبُعُ بِشَهَادَةِ الْبَاقِيَةِ فَبَقِيَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَالنِّسَاءُ جَمِيعًا فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْحَقِّ وَعَلَى النِّسَاءِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ عِنْدَ

ص: 485

أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسْوَةِ النِّصْفُ)

لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ يَقُمْنَ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا بِانْضِمَامِ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، «قَالَ عليه الصلاة والسلام فِي نُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ عُدِّلَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ» فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ بِذَلِكَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا (وَإِنْ رَجَعَ النِّسْوَةُ الْعَشَرَةُ دُونَ الرَّجُلِ كَانَ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ الْحَقِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ) لِمَا قُلْنَا

(وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا دُونَ الْمَرْأَةِ) لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَيْسَتْ بِشَاهِدَةٍ بَلْ هِيَ

أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسَاءِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ يَقُمْنَ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ) فَتَعَيَّنَ لِلْقِيَامِ بِنِصْفِ الْحُجَّةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ بِكَثْرَةِ النِّسَاءِ، وَإِذَا ثَبَتَ نِصْفُ الْحَقِّ بِشَهَادَتِهِ ضَمِنَهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ) بِالنَّصِّ «قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي نُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ عُدِلَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ» وَإِذَا كَانَتَا كَرَجُلٍ صَارَ كَأَنَّهُ شَهِدَ بِذَلِكَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا) وَفِي وَجْهِ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ نَظَرٌ، وَإِنَّمَا تَمَّ أَنْ لَوْ قَالَ عَدَلَتْ شَهَادَةُ كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ مُكَرَّرٌ فَكَانَ الْإِطْلَاقُ كَكَلِمَةِ كُلٍّ (وَإِنْ رَجَعَ النِّسْوَةُ الْعَشْرُ دُونَ الرَّجُلِ كَانَ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ الْحَقِّ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِمَا قُلْنَا) أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ، فَالرَّجُلُ يَبْقَى بِبَقَائِهِ نِصْفُ الْحَقِّ.

(وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا دُونَ الْمَرْأَةِ)؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ شَطْرُ الْعِلَّةِ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ فَكَانَ الْقَضَاءُ مُضَافًا إلَى شِهَادِ رَجُلَيْنِ

ص: 486

بَعْضُ الشَّاهِدِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ.

قَالَ (وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى امْرَأَةٍ بِالنِّكَاحِ بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا) لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَ الْإِتْلَافِ لِأَنَّ التَّضْمِينَ يَسْتَدْعِي الْمُمَاثَلَةَ عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِنَّمَا تُضْمَنُ وَتُتَقَوَّمُ بِالتَّمَلُّكِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُتَقَوِّمَةً ضَرُورَةَ الْمِلْكِ إبَانَةً لِخَطَرِ الْمَحَلِّ

دُونَهَا فَلَا تَضْمَنُ عِنْدَ الرُّجُوعِ شَيْئًا.

قَالَ (وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى امْرَأَةٍ بِالنِّكَاحِ إلَخْ) وَإِنْ شَهِدَ عَلَى امْرَأَةٍ بِالنِّكَاحِ ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُتْلَفَ هَاهُنَا مَنَافِعُ الْبُضْعِ وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ عِنْدَنَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ التَّضْمِينَ يَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ بِالنَّصِّ عَلَى مَا عُرِفَ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا تَتَقَوَّمُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْمَنَافِعُ مُتَقَوِّمَةً لَكَانَتْ بِالتَّمَلُّكِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ هُوَ عَيْنُ الدَّاخِلِ فِي الْمِلْكِ، فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّقَوُّمِ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ تَقَوُّمُهَا فِي الْأُخْرَى لَكِنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَ الدُّخُولِ بِالِاتِّفَاقِ.

وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا إنَّمَا تُضْمَنُ وَتَتَقَوَّمُ بِالتَّمَلُّكِ إبَانَةً لِخَطَرِ الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ خَطِيرٌ لِحُصُولِ النَّسْلِ بِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي حَالَةِ الْإِزَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَشْرُوطٌ عِنْدَ التَّمَلُّكِ بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ بِهِ عِنْدَ الْإِزَالَةِ كَالْمَشْهُودِ وَالْوَلِيِّ، وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ مُسْتَوْفًى بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا عَلَى زَوْجٍ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ بِعِوَضٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ حَالَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ

ص: 487

(وَكَذَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا) لِأَنَّهُ إتْلَافٌ بِعِوَضٍ لَمَّا أَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ حَالَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافٍ، وَهَذَا لِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْإِتْلَافِ بِعِوَضٍ وَبَيْنَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ (وَإِنْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الزِّيَادَةَ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.

قَالَ (وَإِنْ شَهِدَا بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ مَعْنًى

كَلَا إتْلَافَ، كَمَا لَوْ شَهِدَا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ (قَوْلُهُ: وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِتْلَافَ بِغَيْرِ عِوَضٍ مَضْمُونٌ بِالنَّصِّ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا فَلَا يُلْتَحَقُ بِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ (وَإِنْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا لِلزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ) وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ.

قَالَ (وَإِنْ شَهِدَا بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إلَخْ) شَهِدَا بِأَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَجَعَا، فَإِنْ كَانَ

ص: 488

نَظَرًا إلَى الْعِوَضِ (وَإِنْ كَانَ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ ضَمِنَا النُّقْصَانَ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا هَذَا الْجُزْءَ بِلَا عِوَضٍ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ فِيهِ خِيَارُ الْبَائِعِ، لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْبَيْعُ السَّابِقُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ إلَيْهِ فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِمْ

الْأَلْفُ قِيمَتَهُ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِتْلَافَ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافَ، وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ ضَمِنَا لِلْبَائِعِ أَلْفًا؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا هَذَا الْجُزْءَ الَّذِي هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْأَلْفِ مِنْ قِيمَتِهِ بِلَا عِوَضٍ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ فِيهِ خِيَارُ الْبَائِعِ بِأَنْ شَهِدَا بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ كَالصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ وَبِأَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَتَقَرَّرَ الْبَيْعُ ثُمَّ رَجَعَا فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ فَضْلَ مَا بَيْنَ الْقِيمَةِ وَالثَّمَنِ لِإِتْلَافِهِمَا الزَّائِدَ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُزِيلٍ لِلْمِلْكِ وَالْبَائِعُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ فِي الْمُدَّةِ فَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ رَاضِيًا بِهِ وَالرِّضَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ لَكِنَّ حُكْمَهُ مُضَافٌ إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمَشْهُودُ بِهِ، وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي بِزَوَائِدِهِ، وَالْبَائِعُ لَمَّا كَانَ مُنْكِرًا لِأَصْلِ الْبَيْعِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ، إذْ الْعَاقِلُ يُتَحَرَّزُ عَنْ الِانْتِسَابِ إلَى الْكَذِبِ حَسَبَ طَاقَتِهِ، فَلَوْ أَوْجَبَا الْبَيْعَ فِي الْمُدَّةِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِتْلَافُ.

ص: 489

(وَإِنْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ) لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا ضَمَانًا عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ الزَّوْجِ أَوْ ارْتَدَّتْ سَقَطَ الْمَهْرُ أَصْلًا وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ فَيُوجِبُ سُقُوطَ جَمِيعِ الْمَهْرِ كَمَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ

وَإِنْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِأَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ) بِالِارْتِدَادِ أَوْ مُطَاوَعَةِ ابْنِ الزَّوْجِ، وَعَلَى الْمُؤَكِّدِ مَا عَلَى الْمُوجِبِ لِشُبْهَةٍ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا أَخَذَ صَيْدًا فَذَبَحَهُ شَخْصٌ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ أَكَّدَ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِالتَّخْلِيَةِ؛ وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ لِعَوْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْبُضْعُ إلَى الْمَرْأَةِ كَمَا كَانَ، وَالْفَسْخُ يُوجِبُ سُقُوطَ جَمِيعِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْعَقْدَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَكَانَ وُجُوبُ نِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ بِسَبَبِ شَهَادَتِهِمَا فَيَجِبُ الضَّمَانُ بِالرُّجُوعِ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ اللُّزُومِ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ، لَكِنْ لَمَّا عَادَ كُلُّ

ص: 490

ثُمَّ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ فَكَانَ وَاجِبًا بِشَهَادَتِهِمَا

قَالَ (وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِمَا بِهَذَا الضَّمَانِ فَلَا يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ

الْمُبْدَلِ إلَى مِلْكِهَا مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِيهِ أَشْبَهَ الْفَسْخَ.

(وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ) فَقُضِيَ بِذَلِكَ (ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ) وَذَلِكَ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ. قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْعِتْقَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ فِي ذَلِكَ شَرْعًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْحُجَّةِ. وَقِيلَ لَمَّا ثَبَتَ الْوَلَاءُ ثَبَتَ الْعِوَضُ فَانْتَفَى الضَّمَانُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ

ص: 491

(وَإِنْ شَهِدُوا بِقِصَاصٍ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَتْلِ ضَمِنُوا الدِّيَةَ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُمْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُقْتَصُّ مِنْهُمْ لِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُمْ تَسْبِيبًا فَأَشْبَهَ الْمُكْرِهَ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ الْوَلِيَّ يُعَانُ وَالْمُكْرِهَ يُمْنَعُ. وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ مُبَاشَرَةَ لَمْ يُوجَدْ، وَكَذَا تَسْبِيبًا

بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ الضَّمَانُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِكَوْنِهِ ضَمَانَ إتْلَافٍ وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ.

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَا بِقِصَاصٍ ثُمَّ رَجَعَا إلَخْ) إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالْقِصَاصِ فَاقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الدِّيَةَ فِي مَالِهِمَا (وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْتَصُّ مِنْهُمَا لِوُجُودِ الْقَتْلِ تَسْبِيبًا فَأَشْبَهَ الْمُكْرَهَ) أَيْ فَأَشْبَهَ الْمُسَبِّبَ هَاهُنَا وَهُوَ الشَّاهِدُ الْمُكْرَهُ إنْ كَانَ اسْمَ فَاعِلٍ، أَوْ فَأَشْبَهَ الْقَاضِيَ الْمُكْرَهَ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُلْجَإِ بِشَهَادَتِهِمَا، حَتَّى لَوْ لَمْ يَرَ الْوُجُوبَ كَفَرَ إنْ كَانَ اسْمَ مَفْعُولٍ. وَقِيلَ أَشْبَهَ الْوَلِيَّ الْمُكْرَهَ وَهُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْجَإٍ إلَى الْقَتْلِ. وَقَوْلُهُ:(بَلْ أَوْلَى) أَيْ التَّسْبِيبُ هَاهُنَا أَوْلَى مِنْ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ التَّسْبِيبَ مُوجِبٌ مِنْ حَيْثُ الْإِفْضَاءُ وَالْإِفْضَاءُ هَاهُنَا أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يُمْنَعُ عَنْ الْقَتْلِ وَلَا يُعَانُ عَلَيْهِ، وَالْوَلِيُّ يُعَانُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فَكَانَ هَذَا أَكْثَرَ إفْضَاءً، وَمَعَ ذَلِكَ يُقْتَصُّ مِنْ الْمُكْرَهِ لِلتَّسْبِيبِ فَمِنْ الشَّاهِدِ أَوْلَى (وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً لَمْ يُوجَدْ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ إلَّا أَنْ

ص: 492

لِأَنَّ التَّسْبِيبَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، وَهَاهُنَا لَا يُفْضِي لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ، بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ ظَاهِرًا، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ مِمَّا يَقْطَعُ النِّسْبَةَ، ثُمَّ لَا أَقَلَّ مِنْ الشُّبْهَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقِصَاصِ

يَكُونَ إيمَاءً إلَى أَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلْقَتْلِ وَهُوَ الْوَلِيُّ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ فَكَيْفَ يَلْزَمُ غَيْرَهُ وَهُوَ تَكَلُّفٌ بَعِيدٌ، وَكَذَا تَسْبِيبًا؛ لِأَنَّ التَّسْبِيبَ إلَى الشَّيْءِ هُوَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ غَالِبًا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ ظَاهِرًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ظُهُورُ إيثَارِ حَيَاتِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ شَرْعًا أَوْ طَبْعًا، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْدُوبٌ إلَى الصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ فَصَارَ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ مُعَارَضٌ بِطَبْعِ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ فَإِنَّهُ يُؤْثِرُ التَّشَفِّيَ بِالْقِصَاصِ ظَاهِرًا وَلِهَذَا تَنَزَّلَ فَقَالَ (وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ ثَمَّةَ تَسْبِيبًا، وَلَكِنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ يَقْطَعُ نِسْبَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ إلَى غَيْرِهِ، وَالْفِعْلُ هَاهُنَا وَهُوَ الْقَتْلُ وُجِدَ مِنْ الْوَلِيِّ بِاخْتِيَارِهِ الصَّحِيحِ فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ إلَى الشُّهُودِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ نِسْبَتَهُ إلَى الشُّهُودِ لَكِنْ لَا أَقَلَّ أَنْ يُورِثَ شُبْهَةً يَنْدَرِئُ بِهَا الْقِصَاصُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَوْرَثَ شُبْهَةً لَا تَدْفَعُ

ص: 493

بِخِلَافِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَالْبَاقِي يُعْرَفُ فِي الْمُخْتَلِفِ.

قَالَ (وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ صَدَرَتْ مِنْهُمْ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمْ (وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَقَالُوا لَمْ نُشْهِدْ شُهُودَ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِنَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ)

الدِّيَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْقِصَاصِ.

أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ) فَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ مَا سَقَطَ بِالشُّبُهَاتِ سُقُوطُ مَا ثَبَتَ بِهَا، وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الدَّلِيلُ الْجَوَابَ عَنْ صُورَةِ الْإِكْرَاهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَحَلَّلْ هُنَاكَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَقْطَعُ النِّسْبَةَ عَنْ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ فَاسِدٌ وَاخْتِيَارَ الْمُكْرَهِ صَحِيحٌ، وَالْفَاسِدُ فِي مُقَابَلَةِ الصَّحِيحِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَجُعِلَ الْمُكْرَهُ كَالْآلَةِ وَالْفِعْلُ الْمَوْجُودُ مِنْهُ كَالْمَوْجُودِ مِنْ الْمُكْرَهِ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ، وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَإِنْ رَجَعَ الْوَلِيُّ مَعَهُمَا أَوْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا فَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْخِيَارُ بَيْنَ تَضْمِينِ الشَّاهِدَيْنِ وَتَضْمِينِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُتْلِفٌ حَقِيقَةً وَالشَّاهِدَيْنِ حُكْمًا، وَالْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَالْحَقِيقِيِّ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَلِيُّ لَمْ يَرْجِعَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ بِفِعْلٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الْوَلِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا. قَالَا: كَانَا عَامِلَيْنِ لِلْوَلِيِّ فَيَرْجِعَانِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: ضُمِّنَا لِإِتْلَافِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ حُكْمًا، وَالْمُتْلِفُ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَضْمَنُ بِتَسْبِيبِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ، وَعَلَيْهِ يُعْرَفُ فِي الْمُخْتَلِفِ تَصْنِيفِ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ لَا تَصْنِيفِ عَلَاءِ الدِّينِ الْعَالِمِ.

قَالَ (وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا بِالِاتِّفَاقِ)؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ صَدَرَتْ مِنْهُمْ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمْ. وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ، فَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا لَمْ نُشْهِدْ الْفُرُوعَ عَلَى شَهَادَتِنَا،

ص: 494

لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا السَّبَبَ وَهُوَ الْإِشْهَادُ فَلَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ فَصَارَ كَرُجُوعِ الشَّاهِدِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ (وَإِنْ قَالُوا أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا ضَمِنُوا وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِمَا يُعَايِنُ مِنْ الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَتُهُمْ. وَلَهُ أَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ فَصَارَ كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا

أَوْ يَقُولُوا أَشْهَدْنَاهُمْ غَالِطِينَ أَوْ رَجَعْنَا عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأُصُولِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ وَهُوَ الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا، وَلَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُمْ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ الْأُصُولُ وَقَضَى بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: ضَمِنُوا (لَهُمَا أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِمَا يُعَايِنُ مِنْ الْحُجَّةِ) وَقَدْ عَايَنَ شَهَادَتَهُمْ، وَالْمَوْجُودُ مِنْ الْأُصُولِ شَهَادَةٌ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ حَتَّى تَكُونَ سَبَبًا لِلْإِتْلَافِ (وَلَهُ أَنَّ الْفَرْعَيْنِ قَامَا مَقَامَ الْأَصْلَيْنِ فِي نَقْلِ شَهَادَتِهِمَا إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي) وَالْقَضَاءُ يَحْصُلُ بِشَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ وَلِهَذَا

ص: 495

(وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ جَمِيعًا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَهُمَا عَلَى الْفُرُوعِ لَا غَيْرُ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَتِهِمْ: وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولَ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْفُرُوعَ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَا وَبِشَهَادَةِ الْأُصُولِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي التَّضْمِينِ (وَإِنْ قَالَ شُهُودُ الْفَرْعِ كَذَبَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ غَلِطُوا فِي شَهَادَتِهِمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ) لِأَنَّ مَا أُمْضِيَ مِنْ الْقَضَاءِ لَا يُنْتَقَضُ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مَا رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ إنَّمَا شَهِدُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالرُّجُوعِ

يُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُمَا فَصَارَا كَأَنَّهُمَا حَضَرَا بِأَنْفُسِهِمَا وَشَهِدَا ثُمَّ رَجَعَا، وَفِي ذَلِكَ يَلْزَمُهُمْ الضَّمَانُ فَكَذَا هَاهُنَا.

(وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ جَمِيعًا) فَعِنْدَهُمَا (يَجِبُ الضَّمَانُ) عَلَى الْفُرُوعِ لَا غَيْرُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَتِهِمْ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ) بَيْنَ تَضْمِينِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ، وَذَلِكَ (لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ) أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ (وَبِشَهَادَةِ الْأُصُولِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ) وَالْعَمَلُ بِهِمَا أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ أَحَدِهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ حَتَّى يَضْمَنَ كُلُّ فَرِيقٍ نِصْفَ الْمُتْلَفِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ)؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْأُصُولِ كَانَتْ عَلَى أَصْلِ الْحَقِّ وَشَهَادَةُ الْفُرُوعِ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ، وَلَا مُجَانَسَةَ بَيْنَهُمَا لِيُجْعَلَ الْكُلُّ فِي حُكْمِ شَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ كَالْمُنْفَرِدِ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَأْخِيرُ دَلِيلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ.

قَوْلَ مُحَمَّدٍ (وَإِنْ قَالَ شُهُودُ الْفَرْعِ كَذَبَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ غَلِطُوا فِي شَهَادَتِهِمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِمْ) وَلَا يَبْطُلُ بِهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ؛؛ لِأَنَّهُمْ مَا رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ

ص: 496

قَالَ (وَإِنْ رَجَعَ الْمُزَكَّوْنَ عَنْ التَّزْكِيَةِ ضَمِنُوا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

وَقَالَا: لَا يَضْمَنُونَ لِأَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارُوا كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ. وَلَهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ إعْمَالٌ لِلشَّهَادَةِ، إذْ الْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِهَا إلَّا بِالتَّزْكِيَةِ فَصَارَتْ بِمَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ، بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مَحْضٌ

(وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْيَمِينِ وَشَاهِدَانِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ

إنَّمَا شَهِدُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالرُّجُوعِ وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا.

قَالَ (وَإِنْ رَجَعَ الْمُزَكُّونَ عَنْ التَّزْكِيَةِ ضَمِنُوا إلَخْ) إذَا شَهِدُوا بِالزِّنَا فَزُكُّوا فَرُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ثُمَّ ظَهَرَ الشُّهُودُ عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا، فَإِنْ ثَبَتُوا عَلَى التَّزْكِيَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا عَلَى مَا سَمِعُوا مِنْ إسْلَامِهِمْ وَحُرِّيَّتِهِمْ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُمْ بِمَا أَخْبَرُوا مِنْ قَوْلِ النَّاسِ إنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ وَلَا عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُمْ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ؛ إذْ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ رَجَعُوا عَنْ تَزْكِيَتِهِمْ وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا ضَمِنُوا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله خِلَافًا لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُزَكِّينَ مَا أَثْبَتُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّهُ الزِّنَا وَمَا تَعَرَّضُوا لَهُ، وَإِنَّمَا أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُثْنِي عَلَى الشُّهُودِ كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ. وَلَهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ إعْمَالٌ لِلشَّهَادَةِ؛ إذْ الْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِالشَّهَادَةِ إلَّا بِالتَّزْكِيَةِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ، وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ كَالْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا، وَإِنَّمَا قَالَ بِمَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ سَبَبٌ أُضِيفَ إلَيْهِ الْحُكْمُ لِتَعَذُّرِ الْإِضَافَةِ إلَى الْعِلَّةِ، بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا بِدُونِ الْإِحْصَانِ مُوجِبَةٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَشُهُودُ الْإِحْصَانِ مَا جَعَلُوا غَيْرَ الْمُوجِبِ مُوجِبًا.

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْيَمِينِ إلَخْ) إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلَتْ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا

ص: 497

ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ، وَالتَّلَفُ يُضَافُ إلَى مُثْبِتِي السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ الْمَحْضِ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ الْيَمِينِ دُونَ شُهُودِ الشَّرْطِ، وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ. وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ يَمِينُ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ.

وَشَهِدَ آخَرَانِ عَلَى دُخُولِهَا ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ خَاصَّةً، وَقَوْلُهُ: خَاصَّةً رَدٌّ لِقَوْلِ زُفَرَ رحمه الله فَإِنَّهُ يَقُولُ: الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَالَ تَلِفَ بِشَهَادَتِهِمَا. وَقُلْنَا: السَّبَبُ هُوَ الْيَمِينُ لَا مَحَالَةَ، وَالتَّلَفُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ الْمَحْضِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إذَا صَلَحَ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ لَا يُصَارُ إلَى الشَّرْطِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ مَعَ الْمُلْقِي فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِ دُونَ الْحَافِرِ (قَوْلُهُ: أَلَا تَرَى) تَوْضِيحٌ لِلْإِضَافَةِ إلَى السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْمَعُ الشَّهَادَةَ بِالْيَمِينِ وَيْحُكُمْ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِالدُّخُولِ (وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ) وَمَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ، وَفِيمَا إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ ثَابِتَةً بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَرَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ ظَنَّ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا هَاهُنَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَعَدٍّ فَيُضَافُ إلَى الشَّرْطِ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ وَشَبَّهَهُ بِحَفْرِ الْبِئْرِ. قِيلَ وَهُوَ غَلَطٌ، بَلْ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ لَا يَضْمَنُونَ بِحَالٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ حُرٌّ مُبَاشَرَةٌ لِإِتْلَافِ الْمَالِيَّةِ، وَعِنْدَ وُجُودِ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الْعِلَّةِ دُونَ الشَّرْطِ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي أَوْ لَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ هُنَاكَ ثِقَلُ الْمَاشِي، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ فِي شَيْءٍ فَلِذَلِكَ جُعِلَ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ (قَوْلُهُ: وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ) يُرِيدُ بِهِ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا فِي صَدْرِ الْبَحْثِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ

ص: 498

(كِتَابُ الْوَكَالَةِ)

كِتَابُ الْوَكَالَةِ:

عَقَّبَ الشَّهَادَاتِ بِالْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا خُلِقَ مَدَنِيًّا بِالطَّبْعِ يَحْتَاجُ فِي مَعَاشِهِ إلَى تَعَاضُدٍ وَتَعَاوُضٍ، وَالشَّهَادَاتُ مِنْ التَّعَاضُدِ وَالْوَكَالَةُ مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا التَّعَاوُضُ أَيْضًا فَصَارَتْ كَالْمُرَكَّبِ مِنْ الْمُفْرَدِ فَأُوثِرَ تَأْخِيرُهَا. وَالْوِكَالَةُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا اسْمُ التَّوْكِيلِ مِنْ وَكَّلَهُ بِكَذَا إذَا فَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الْقَائِمُ بِمَا فُوِّضَ إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَيْهِ الْأَمْرُ: أَيْ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ. وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ إقَامَةِ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ. وَهِيَ عَقْدٌ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} وَلَمْ يَلْحَقْهُ النَّكِيرُ. وَالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام وَكَّلَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ بِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ» وَبِالْإِجْمَاعِ. فَإِنَّ الْأُمَّةَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِهَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَسَبَبُهَا تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِتَعَاطِيهَا. وَرُكْنُهَا لَفْظُ وَكَّلْت وَأَشْبَاهُهُ. رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ أَحْبَبْت أَنْ تَبِيعَ

ص: 499

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عَبْدِي هَذَا أَوْ هَوِيت أَوْ رَضِيت أَوْ شِئْت أَوْ أَرَدْت فَذَاكَ تَوْكِيلٌ وَأَمْرٌ بِالْبَيْعِ. وَشَرْطُهَا أَنْ يَمْلِكَ الْمُوَكِّلُ التَّصَرُّفَ. وَيَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَصِفَتُهَا أَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ يَمْلِكُ كُلٌّ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ الْعَزْلَ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِهِ.

ص: 500

قَالَ (كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فَيَكُونَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ

وَحُكْمُهَا جَوَازُ مُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ.

قَالَ (كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ إلَخْ) هَذِهِ ضَابِطَةٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ مَبْنَاهُ الِاحْتِيَاجُ، فَقَدْ يَتَّفِقُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ (فَيَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ

ص: 501

وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ بِالشِّرَاءِ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ وَبِالتَّزْوِيجِ عُمَرَ بْنَ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما» .

وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ بِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ وَبِالتَّزْوِيجِ عُمَرَ بْنَ أُمِّ سَلَمَةَ بِتَزْوِيجِهَا إيَّاهُ عليه الصلاة والسلام» .

وَاعْتُرِضَ عَلَى الضَّابِطَةِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ وَمُنْعَكِسَةٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ بِنَفْسِهِ، وَالتَّوْكِيلُ بِهِ بَاطِلٌ، وَالْوَكِيلُ يَعْقِدُ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَالذِّمِّيُّ إذَا وَكَّلَ مُسْلِمًا فِي الْخَمْرِ لَمْ يَجُزْ، وَجَازَ أَنْ يَعْقِدَ الذِّمِّيُّ بِنَفْسِهِ فِيهَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ عَقْدُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا بِنَفْسِهِ، وَلَوْ وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِذَلِكَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ مِنْ شُرُوطِهِ لِكَوْنِ الْمَحَالِّ شُرُوطًا كَمَا عُرِفَ، وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي يَسْتَقْرِضُهَا الْوَكِيلُ مِلْكُ الْمُقْرِضِ، وَالْأَمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ. رُدَّ بِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِلنَّقْضِ لَا دَافِعٌ، وَبِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ جَائِزٌ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مَوْجُودٌ فِيهِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّخَلُّفِ لِمَانِعٍ، وَقَيْدُ عَدَمِ الْمَانِعِ فِي الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ غَيْرُ لَازِمٍ، وَأَنَّ مَحَلَّ عَقْدِ الْوَكَالَةِ فِي الشِّرَاءِ هُوَ الثَّمَنُ وَهُوَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ، وَفِي الِاسْتِقْرَاضِ الدَّرَاهِمُ الْمُسْتَقْرَضَةُ وَهِيَ لَيْسَتْ مِلْكَهُ.

ص: 502

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لَا يُقَالُ هَلَّا جَعَلْتُمْ الْمَحَلَّ فِيهِ بَدَلَهَا وَهُوَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ التَّوْكِيلِ بِإِيفَاءِ الْقَرْضِ لَا بِالِاسْتِقْرَاضِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ يَعْقِدُهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ هُوَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَبِدًّا بِهِ وَالْوَكِيلُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَالذِّمِّيُّ جَازَ لَهُ تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ وَالْمُمْتَنِعُ تَوَكُّلُ الْمُسْلِمِ عَنْهُ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ عَنْ التَّوْكِيلِ وَإِنْ صَحَّ التَّوْكِيلُ وَقَدْ وُجِدَ الْمَانِعُ وَهُوَ حُرْمَةُ اقْتِرَابِهِ مِنْهَا وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْعَكْسَ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ. وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ بِأَنَّهُ دَلِيلٌ أَخَصُّ مِنْ الْمَدْلُولِ وَهُوَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ عَجْزٌ أَصْلًا.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بَيَانُ حِكْمَةِ الْحُكْمِ وَهِيَ تُرَاعَى

ص: 503

قَالَ (وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَاجَةِ إذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى وُجُوهِ الْخُصُومَاتِ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه وَكَّلَ عَقِيلًا، وَبَعْدَمَا أَسَنَّ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رضي الله عنه (وَكَذَا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ بِاسْتِيفَائِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ) لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ، بِخِلَافِ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الرُّجُوعِ، وَبِخِلَافِ حَالَةِ الْحَضْرَةِ لِانْتِفَاءِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ.

فَلَوْ مُنِعَ عَنْهُ

فِي الْجِنْسِ لَا فِي الْأَفْرَادِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَكَرَ الْخَاصَّ وَأَرَادَ الْعَامَّ وَهُوَ الْحَاجَةُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لِلْعَجْزِ حَاجَةٌ خَاصَّةٌ وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَنَاطُ هُوَ الْحَاجَةَ وَقَدْ تُوجَدُ بِلَا عَجْزٍ.

قَالَ (وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ إلَخْ) الْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ بِالْخُصُومَةِ، وَكَذَا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا. أَمَّا بِالْخُصُومَةِ فَلِمَا قَدَّمْنَا مِنْ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ، إذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى وُجُوهِ الْخُصُومَاتِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه وَكَّلَ عَقِيلًا فِي الْخُصُومَةِ لِكَوْنِهِ ذَكِيًّا حَاضِرَ الْجَوَابِ، وَبَعْدَمَا أَسَنَّ عَقِيلٌ وَقَرَّهُ فَوَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، وَأَمَّا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا فَلِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ بِاسْتِيفَائِهَا فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَا تُسْتَوْفَى بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرْبِ شُبْهَةٍ كَمَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ. وَقَوْلُهُ:(وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ) دَلِيلٌ عَلَى الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَا يُعْفَى عَنْهَا.

وَتَقْرِيرُهُ: الْقِصَاصُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ

ص: 504

يَنْسَدُّ بَابُ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصُ بِإِقَامَةِ الشُّهُودِ أَيْضًا) وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رحمهم الله، وَقِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي غَيْبَتِهِ

الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ قَدْ عَفَا وَلَمْ يُشْعِرْ بِهِ الْوَكِيلَ، بَلْ الظَّاهِرُ هُوَ الْعَفْوُ لِلنَّدَبِ الشَّرْعِيِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ، يَقُولُ هُوَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيُسْتَوْفَى بِالتَّوْكِيلِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ.

قُلْنَا: سَائِرُ حُقُوقِهِ لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ: يَعْنِي يَسْتَوْفِي الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ عِنْدَ غَيْبَتِهِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي حَقِّهِ الرُّجُوعُ وَالظَّاهِرُ فِي حَقِّهِ عَدَمُ الرُّجُوعِ إذْ الْأَصْلُ هُوَ الصِّدْقُ لَا سِيَّمَا فِي الْعُدُولِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا حَضَرَ الْمُوَكِّلُ لِانْتِفَاءِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: أَيْ شُبْهَةِ الْعَفْوِ فَإِنَّهُ فِي حُضُورِهِ مِمَّا لَا يَخْفَى. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِيفَاءِ إذْ هُوَ يَسْتَوْفِيهِ بِنَفْسِهِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ: يَعْنِي لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ أَوْ؛ لِأَنَّ قَلْبَهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ حُضُورِهِ اسْتِحْسَانًا لِئَلَّا يَنْسَدَّ بَابُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ (قَوْلُهُ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي جَوَازَ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ وَإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا وَاسْتَثْنَى إيفَاءَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءَهُمَا فَبَقِيَ إثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَقَالَ (هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِإِقَامَةِ الشُّهُودِ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله مُضْطَرِبٌ. وَقِيلَ: هَذَا الِاخْتِلَافُ إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا) أَمَّا إذَا حَضَرَ فَلَا اخْتِلَافَ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ عِنْدَ حُضُورِهِ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ وَالْإِنَابَةُ فِيهَا شُبْهَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا الْبَابُ مِمَّا

ص: 505

دُونَ حَضْرَتِهِ لِأَنَّ كَلَامَ الْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ عِنْدَ حُضُورِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِنَفْسِهِ. لَهُ أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ وَشُبْهَةُ النِّيَابَةِ يُتَحَرَّزُ عَنْهَا فِي هَذَا الْبَابِ (كَمَا فِي الشَّهَادَةِ وَكَمَا فِي الِاسْتِيفَاءِ) وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ مَحْضٌ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُضَافٌ إلَى الْجِنَايَةِ وَالظُّهُورَ إلَى الشَّهَادَةِ فَيَجْرِي فِيهِ التَّوْكِيلُ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ التَّوْكِيلُ بِالْجَوَابِ مِنْ جَانِبِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ.

وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِيهِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَمْنَعُ الدَّفْعَ، غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةِ عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ.

يُحْتَرَزُ فِيهِ عَنْ الشُّبُهَاتِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكَمَا فِي الِاسْتِيفَاءِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُضَافٌ إلَى الْجِنَايَةِ وَالظُّهُورُ إلَى الشَّهَادَةِ) وَالشَّرْطُ الْمَحْضُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ يَجُوزُ لِلْمُوَكِّلِ مُبَاشَرَتُهُ فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ لِقِيَامِ الْمُقْتَضِي وَانْتِقَاءِ الْمَانِعِ. لَا يُقَالُ: الْمَانِعُ وَهُوَ الشُّبْهَةُ مَوْجُودٌ كَمَا فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي الشَّرْطِ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالْوُجُوبِ وَالظُّهُورِ وَالْوُجُودِ، بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ، وَبِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا الظُّهُورُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا وَكَّلَ الْمَطْلُوبَ بِالْقِصَاصِ وَكِيلًا بِالْجَوَابِ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ. وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُعْتَبَرَةً لَا تَمْنَعُ الدَّفْعَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْعَفْوِ صَحِيحَةٌ، لَكِنَّ هَذَا الْوَكِيلَ لَوْ أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى مُوَكِّلِهِ لَمْ يَصِحَّ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ صِحَّتُهُ، لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا قَالَهُ مِنْ شُبْهَةِ عَدَمِ

ص: 506

(وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا. وَقَالَا: يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ.

الْأَمْرِ بِهِ.

قَالَ (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ) اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ بِدُونِ رِضَا الْخَصْمِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهَا إلَّا بِرِضَاهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ هُوَ الْمُدَّعِيَ أَوْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا بِالْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ (وَقَالَا: يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَهَلْ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ أَوْ لَا؟ عِنْدَهُ يَرْتَدُّ خِلَافًا لَهُمْ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ مَجَازًا لِقَوْلِهِ وَلَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْجَوَازِ وَأَرَادَ اللُّزُومَ، فَإِنَّ الْجَوَازَ لَازِمٌ لِلُّزُومِ فَيَكُونُ ذَكَرَ اللَّازِمَ وَأَرَادَ الْمَلْزُومَ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَوَازَ لَازِمٌ لِلُّزُومِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَجَازٍ.

وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ

ص: 507

لَهُمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ كَالتَّوْكِيلِ بِتَقَاضِي الدُّيُونِ.

وَلَهُ أَنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ وَلِهَذَا يَسْتَحْضِرُهُ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْخُصُومَةِ، فَلَوْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا يَتَخَيَّرُ الْآخَرُ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ لِأَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِمَا هُنَالِكَ،

إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ فِي قُوَّةِ قَوْلِنَا التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرُ لَازِمٍ، بَلْ إنْ رَضِيَ بِهِ الْخَصْمُ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ وَإِلَى التَّوْجِيهِ بِجَعْلِهِ مَجَازًا (لَهُمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ)؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ وَالْخُصُومَةِ لِدَفْعِ الْخَصْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ حَقُّهُ لَا مَحَالَةَ، وَالتَّصَرُّفُ فِي خَالِصِ حَقِّهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ كَالتَّوْكِيلِ بِالتَّقَاضِي: أَيْ بِقَبْضِ الدُّيُونِ وَإِيفَائِهَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: إنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، فَإِنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ. وَلِهَذَا يَسْتَحْضِرُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْغَيْرِ لَا يَكُونُ خَالِصًا لَهُ. سَلَّمْنَا خُلُوصَهُ لَهُ لَكِنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ غَيْرُهُ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْخُصُومَةِ، فَلَوْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ لَتَضَرَّرَ بِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَاتَبَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فِي خَالِصِ حَقِّهِ لِمَكَانِ ضَرَرِ شَرِيكِهِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْمَرِيضِ) بَيَانُ وَجْهِ مُخَالَفَةِ الْمُسْتَثْنَى لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِمَا فَكَانَ خَالِصُ حَقِّهِ وَيُزَادُ

ص: 508

ثُمَّ كَمَا يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ عِنْدَهُ مِنْ الْمُسَافِرِ يَلْزَمُ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً لَمْ تَجْرِ عَادَتُهَا بِالْبُرُوزِ وَحُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ قَالَ الرَّازِيّ رحمه الله: يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ لِأَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَنْطِقَ بِحَقِّهَا لِحَيَائِهَا فَيَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا. قَالَ: وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ.

جَوَابًا عَنْ التَّنَزُّلِ بِأَنَّ تَوَقُّعَ الضَّرَرِ اللَّازِمِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ مِنْ آفَاتِ التَّأْخِيرِ وَالْمَوْتِ أَشَدُّ مِنْ اللَّازِمِ بِتَفَاوُتِ الْجَوَابِ فَيُحْمَلُ الْأَسْهَلُ، وَالْمَرَضُ الْمَانِعُ عَنْ الْحُضُورِ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ عَنْهُ مُطْلَقًا.

وَأَمَّا الْمُسْتَطِيعُ بِظَهْرِ الدَّابَّةِ أَوْ الْحَمَّالُ فَإِذَا ازْدَادَ مَرَضُهُ صَحَّ التَّوْكِيلُ وَإِنْ لَمْ يَزْدَدْ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَإِرَادَةُ السَّفَرِ كَالسَّفَرِ فِي صِحَّةِ التَّوْكِيلِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لَكِنْ لَا يُصَدَّقُ مِنْهُ دَعْوَى ذَلِكَ إلَّا بِالنَّظَرِ إلَى زِيِّهِ وَعِدَّةِ سَفَرِهِ أَوْ بِالسُّؤَالِ عَنْ رُفَقَائِهِ كَمَا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ (وَلَوْ كَانَ الْخَصْمُ امْرَأَةً مُخَدَّرَةً وَهِيَ مَنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهَا بِالْبُرُوزِ وَحُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تَنْطِقَ بِحَقِّهَا لِحَيَائِهَا فَيَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ) وَأَمَّا فِي الْأَصْلِ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْمُخَدَّرَةِ وَغَيْرِهَا الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْوَكَالَةِ إلَّا بِالْعُذْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ

ص: 509

(قَالَ: وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ)

فِي جَوَازِهَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: تُقْبَلُ مِنْ الْبِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ وَالرَّجُلِ.

قَالَ (وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: إنَّ هَذَا الْقَيْدَ وَقَعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْخَمْرِ، وَلَوْ وُكِّلَ بِهِ جَازَ عِنْدَهُ، وَمَنْشَأُ هَذَا التَّوَهُّمِ أَنَّ جَعْلَ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ لِلْعَهْدِ: أَيْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ وَأَمَّا إذَا جُعِلَتْ لِلْجِنْسِ حَتَّى يَكُونَ مَعْنَاهُ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ احْتِرَازًا عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَيَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُلِّ

ص: 510

لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لِيُمَلِّكَهُ مَنْ غَيْرَهُ.

وَهُوَ الْمُرَادُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فَإِنَّ الْأَنْسَبَ بِكَلِمَةِ مِنْ جِنْسُ التَّصَرُّفِ (قَوْلُهُ: وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ) يَحْتَمِلُ أَحْكَامَ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَجِنْسَ الْأَحْكَامِ، فَالْأَوَّلُ احْتِرَازٌ عَنْ الْوَكِيلِ إذَا وَكَّلَ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ دُونَ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الْأَحْكَامُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ شَرْطَانِ. وَالثَّانِي احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَيَكُونُ مِلْكُ التَّصَرُّفِ وَلُزُومُ الْأَحْكَامِ شَرْطًا وَاحِدًا، وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إذَا أَذِنَ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ صَحَّ وَالْأَحْكَامُ لَا تَلْزَمُهُ. فَإِنْ قُلْت: إذَا جَعَلْتهمَا شَرْطًا وَاحِدًا لَزِمَك الْوَكِيلُ فَإِنَّهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ وَيَلْزَمُهُ جِنْسُ الْأَحْكَامِ وَلَا يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ. قُلْت: غَلَطٌ، فَإِنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ لَا سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ فَوَاتُ رَأْيِهِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْوَكِيلَ) دَلِيلُ اشْتِرَاطِ مَا شُرِطَتْ بِهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ لِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْهُ فَيَكُونُ التَّوْكِيلُ تَمْلِيكَ التَّصَرُّفِ وَتَمْلِيكُ التَّصَرُّفِ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُهُ مُحَالٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْوَكِيلُ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ أَوْ التَّصَرُّفَ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ، وَالثَّانِي مُسْلَمٌ وَيُنْتَقَضُ بِتَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ الْخَمْرِ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِأَهْلِيَّتِهِ وَلِهَذَا لَوْ تَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ صَحَّ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَكِيلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَكِيلٌ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لَهُ خِلَافَةٌ عَنْ الْوَكِيلِ فِيمَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ وَتَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ وَلَا الْكَلَامُ فِيهِ. وَلَا يُنَافِيهِ أَيْضًا لِجَوَازِ ثُبُوتِ شَيْءٍ بِأَمْرَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَنْ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ وَيَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ بِحَيْثُ يَلْزَمُهُ أَحْكَامُ مَا بَاشَرَهُ

ص: 511

(وَ) يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ (الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ) لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْعِبَارَةِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ صَبِيًّا لَا يَعْقِلُ أَوْ مَجْنُونًا كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا.

الْوَكِيلُ لِأَهْلِيَّتِهِ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ يَمْلِكُهُ أَوْ لَا لِعَارِضٍ عَرَضَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوَسُّعِ.

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ وَالشِّرَاءَ جَالِبٌ وَيَعْرِفُ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ وَالْغَبْنَ الْفَاحِشَ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَعْقِلْ وَالْمَجْنُونِ، وَيَقْصِدُهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ هَازِلًا؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْعِبَارَةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ مِنْ الْفَاحِشِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ التَّوْكِيلِ لَكِنْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ، وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَوَكُّلَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ صَحِيحٌ وَمَعْرِفَةُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى " الإل نيم " فِي الْمَتَاعِ وَ " الإل يازده " فِي الْحَيَوَانِ وَ " الإل دوازده " فِي الْعَقَارِ أَوْ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ

ص: 512

(وَإِذَا وَكَّلَ الْحُرُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ أَوْ الْمَأْذُونُ مِثْلَهُمَا جَازَ) لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَكِيلَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ (وَإِنْ وَكَّلَا صَبِيًّا مَحْجُورًا يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا جَازَ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْحُقُوقُ وَيَتَعَلَّقُ بِمُوَكِّلِهِمَا) لِأَنَّ الصَّبِيَّ

إلَّا بَعْدَ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْفِقْهِ.

(وَإِذَا وَكَّلَ الْحُرُّ الْبَالِغُ أَوْ الْمَأْذُونُ الْبَالِغُ مِثْلَهُمَا جَازَ) وَيُفْهَمُ جَوَازُ تَوْكِيلِ مَنْ كَانَ فَوْقَهُمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَكِيلُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ. وَكُلُّ وَكَالَةٍ كَانَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَكِيلُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ فِيهَا صَحِيحَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ وَكَّلَ الْحُرُّ الْبَالِغُ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ فَعَلَ الْمَأْذُونُ ذَلِكَ جَازَ لِانْتِفَاءِ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ، أَمَّا مِنْ جَانِبِ الْمُوَكِّلِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْوَكِيلِ فَلِأَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ مَالِكٌ لَهُ، وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالتَّوْكِيلُ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي حَقِّهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْتِزَامُ الْعُهْدَةِ: الصَّبِيُّ لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ؛ وَالْعَبْدُ لِحَقِّ سَيِّدِهِ. وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أُعْتِقَ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ لُزُومِهَا حَقَّ الْمَوْلَى قَدْ زَالَ، وَالصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ لَمْ تَلْزَمْهُ

ص: 513

مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَالْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ مَالِكٌ لَهُ وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَالتَّوْكِيلُ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْتِزَامُ الْعُهْدَةِ. أَمَّا الصَّبِيُّ لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ وَالْعَبْدُ لِحَقِّ سَيِّدِهِ فَتَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْبَائِعِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنَّ حُقُوقَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، فَإِذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ يَتَخَيَّرُ كَمَا إذَا عَثَرَ عَلَى عَيْبٍ.

؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قِصَرُ أَهْلِيَّتِهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُلْزَمًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي هَذَا الْوَقْتِ فَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِيهِمَا إشَارَةً إلَى أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مَأْذُونَيْنِ تَعَلَّقَ الْحُقُوقُ بِهِمَا لَكِنْ بِتَفْصِيلٍ وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ إذَا وُكِّلَ بِالْبَيْعِ فَبَاعَ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا، وَإِذَا وُكِّلَ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لَمْ يَلْزَمْهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا بَلْ يَكُونُ عَلَى الْآمِرِ يُطَالِبُهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ لَيْسَ بِضَمَانِ ثَمَنٍ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الثَّمَنِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلضَّامِنِ فِي الْمُشْتَرَى، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ إنَّمَا هَذَا الْتَزَمَ مَالًا فِي ذِمَّتِهِ اسْتَوْجَبَ مِثْلَ ذَلِكَ عَلَى مُوَكِّلِهِ وَذَلِكَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ، وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ وَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ، وَأَمَّا إذَا وُكِّلَ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنٍ حَالٍّ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْعُهْدَةُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ ضَمَانُ ثَمَنٍ حَيْثُ مَلَكَ الْمُشْتَرِي مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ، فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ بِالثَّمَنِ يُسْتَوْفَى مِنْ الْمُوَكِّلِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَاعَ مِنْهُ، وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ.

وَالْجَوَابُ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْبَائِعِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ صَبِيٌّ أَوْ عَبْدٌ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مَجْنُونٌ وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُجَنُّ وَيُفِيقُ (لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ)؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْعَقْدِ إلَّا عَلَى أَنَّ الْحُقُوقَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، فَإِذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ يَتَخَيَّرُ كَمَا إذَا عَثَرَ عَلَى عَيْبٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ.

ص: 514

.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 515