الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنّة أو بالحكمة: دراسة أصوليّة
أيمن صالح
أستاذ الفقه وأصوله
جامعة قطر
الملخّص
ثَمَّ جدلٌ نظريٌ في كتب الأصول، قديمًا وحديثًا، حولَ القول بجواز أن يُعلَّل الحكم بحكمته، أم يجب أن يُعلَّل بالمظنّة الظاهرة المنضبطة (العلّة). وبالنظر إلى الفروع العملية للفقهاء، فإنّا وجدناهم ينيطون الأحكام بالحكمة نفسها تارةً، وبالمظنة/ العلة تارةً أخرى، فاحتاج الأمر إلى معرفة العوامل التي تؤثّر في اختياراتهم هذه. وبالاستقراء توصّل الباحث إلى تسعة عوامل تؤثِّر في نوط الحكم بالمظنّة أو بالحكمة في الوقائع.
الكلمات المفتاحية: التعليل بالحكمة، التعليل بالمظنة، العلة، الحكمة.
المقدّمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد:
فإنّ علم مقاصد الشريعة بلغ مبلغًا عظيمًا هذه الأزمان، من حيث انتشارُ تناولِه، وكثرةُ المؤلّفات فيه، وهو علمٌ حقيق بالعناية والرعاية، عظيم الفائدة، كبير العائدة، ولاسيّما في تسديد النظر في القضايا الاجتهادية المعاصرة، لكنّه في الوقت نفسه مَزِلّة قدم إذا أُخذ بمعزلٍ عن أصله ومعدنِه، علمِ أصول الفقه، الذي اشتمل على آليّات تحديد المقاصد، وشروطها، وضوابط إعمالها. فالحقيقةُ التاريخية التي لا ينبغي إغفالها هي أنّ علم مقاصد الشريعة فرعٌ عن علم أصول الفقه، عنه انبثق ومنه اشتُق، ولا ينبغي للفرع أن يعود على أصله بالإبطال، وإلا أبطل نفسه.
وكثيرٌ من الخائضين في البحث المقاصدي، سيّما من غير المتخصّصين في الأصول، يندفعون بحماسٍ زائد مع المقاصد، أو ما يخالونها المقاصد، من غير تقيُّد بمقرّرات الأصوليين العتيدة في ضوابط تحديدها وإعمالها: إمّا جهلًا بهذه المقرّرات لوعورة مباحثها، ودقّتها، وكثرة الخلاف والخلط فيها في مباحث القياس من كتب الأصول، وإمّا إعراضًا عنها بقصد الالتفاف على الأحكام الشرعيّة التي تفيدها النصوص، وتعطيلِها بذريعة إعمال المقاصد، كما يظهر ذلك جليًّا في كتابات الحداثيين والعَلمانيين أصحاب القراءات الجديدة للنصوص الدينيّة.
وفي المقابل هناك طائفةٌ من أهل الشريعة «متحفِّظة» على علم المقاصد برمّته؛ لما تراه من تعسُّف في توظيفه والتذرّع به إلى الافتئات على الشريعة، وتعطيل ظواهرها ونصوصها ومقرّراتها، من قِبَل كثيرين، هم في الغالب دخلاء على العلوم الشرعيّة.
فبعيدًا عن هذين المسلكين: مسلك المتهاونين، ومسلك المتحفِّظين، يأتي هذا البحث ليربط علم المقاصد بعلم أصول الفقه، بتجلية عوامل عِدّة ذكرها الأصوليون: صراحةً، أو إشارة، تؤثِّر في تعليق الأحكام: إما بالمقاصد والحِكَم، وإما بالمظانّ والأسباب.
وهذا البحث هو الثالث في هذا السّياق إذ سُبق ببحثين تمهيديين مهمّين:
أحدهما: بعنوان: "العلة والحكمة والتعليل بالحكمة: دراسة مصطلحيّة"، وقد هدف إلى تجلية الاصطلاحات المتعلّقة بموضوع التعليل بالحكمة، كالعلة والحكمة والسبب والمظنة وضابط السبب، ولا سيّما أن بعض هذه الاصطلاحات بلغ الغاية في الغموض والاضطراب، ممّا أورث نزاعاتٍ كثيرةً في تعريفها، وفيما ترتب على ذلك من شروطها، والمسائل المرتبطة بها في الدراسات الأصولية: قديمها وحديثها. وممّا هدف إليه البحث المذكور أيضًا تحريرُ محلّ نزاع الأصوليين في مشروعية نوط الحُكم: وجودًا، أو عدمًا، أو كليهما، بالحكمة دون المظنة/ العلة، وهو ما يُسمّى عندهم بالتعليل بالحكمة.
والبحث الثاني: بعنوان "التعليل بالمظنة لا بالحكمة: دراسة أصوليّة"، وقد هدف إلى تأصيل القول بنوط الأحكام بالأوصاف الظّاهرة المنضبطة (العِلَل أو المظانّ لا الحِكَم والمقاصد) ببيان معناه، وشواهده من أقوال العلماء، وأدلّته الشّرعيّة، وغايته التي تمثِّل الفلسفة الأصوليّة التي يقوم عليها. وقد أُشير في البحث المذكور إلى أنّ التعليل بالمظنة، وإن كان هو الغالب في أحكام الشرع، فيُمكن العدول عنه إلى اعتبار الحكمة كليًّا أو جزئيًّا، وجودًا أو عدمًا، في أحوالٍ خاصّة. وهو ما سنبيّنه في هذا البحث إن شاء الله تعالى.
وبعد الفراغ من هذا البحث، تظلّ الحاجة قائمة في قابل الأيام إلى إنجاز بحوث تطبيقية تفصيلية، تتناول قضايا فقهية معاصرة محدَّدة، نبيِّن فيها الكيفية التطبيقية لإعمال القواعد والعوامل التي خلصنا إليها في هذه السلسلة الثلاثية من البحوث النظرية، كما فعلناه في كتابنا الأخير حول البصمة الوراثية، وهو ما نسأل الله تعالى أن ييسّره لنا بعونه وتوفيقه.
إشكاليّة البحث:
ثَمَّ جدلٌ نظريٌ في كتب الأصول، قديمًا وحديثًا، حولَ القول بجواز أن يُعلَّل الحكم بحكمته، أم يجب أن يُعلَّل بالمظنّة الظاهرة المنضبطة (العلّة). وبالنظر إلى الفروع العملية للفقهاء، فإنّا وجدناهم ينيطون الأحكام بالحكمة نفسها تارةً، وبالمظنة/ العلة تارةً أخرى، فاحتاج الأمر إلى استقراء العوامل التي تؤثِّر في اختياراتهم هذه.
وعليه، تتركّز إشكاليّة البحث في السؤال الآتي:
ما العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بمظنته أو بحكمته، كما تدلّ عليه مباحث الأصوليين ومذاهب الفقهاء؟
ويسبق هذا السؤال الرئيس سؤالان تمهيديّان:
أحدهما: ما خلاصة القول في تحرير الاصطلاحات الدائرة في باب التعليل بالحكمة والتعليل بالمظنة؟
والسؤال الثاني: ما أشكال تصرّفات الفقهاء عند تردّد الحكم بين أن يُناط بالمظنة أو بالحكمة؟
أهداف البحث:
1.
ذِكر خلاصة القول في تحرير الاصطلاحات المستعملة في مبحث التعليل بالمظنة أو الحكمة.
2.
استقراء أشكال تصرفات الفقهاء عند تردُّد الحكم بين أن يُناط بالمظنة أو بالحكمة.
3.
استقراء العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنة أو بالحكمة عند الأصوليين والفقهاء، وبيانُها.
منهج البحث:
اعتمد البحث على المنهجين: التحليلي، والاستقرائي، على حدٍّ سواء.
الدراسات السابقة:
مع كثرة ما كتبه المعاصرون في باب التعليل عمومًا، وفي مسألة التعليل بالحكمة خصوصًا، فإنّ الغالب المعظم من هذه البحوث تناول القضايا الكبرى في الموضوعات المذكورة، وقليلٌ منها ولج إلى التفاصيل الدقيقة، وأعني بذلك تفاصيل التفاصيل، كما أنّ أكثرها خلا من تقعيدٍ يضبط آلية التعليل بالحكمة عند تعارضه مع التعليل بالمظنّة، وبيان كيفية توظيفه في القضايا الفقهية قديمةً ومعاصرة. وهذا ما لاحظه بعض الباحثين في التجديد الأصولي، قال حسين آيت سعيد:
(1)
(2)
.
وممّا وقفنا عليه من الدراسات وله تعلُّقٌ قريب، نوعًا ما، بموضوعنا دراستان:
الأولى: بحث بعنوان: "الاجتهاد المقاصدي الأصولي: نوط الأحكام بمقاصدها نموذجًا"، للدكتور جاسر عودة، نشره في ضمن عدّة بحوث أخرى في المقاصد في كتاب بعنوان: الاجتهاد المقاصدي من التصوّر الأصولي إلى التنزيل العملي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط 1، 2013 م. الصفحات 45 - 89.
(1)
سعيد، "التجديد في التعليل الفقهي"، في الاجتهاد الفقهي أي دور وأي جديد، 121.
(2)
المرجع السابق، 122.
والبحث مستلّ مع تعديلات يسيرة من رسالة الماجستير للباحث التي نُوقشت في العام 1425 هـ/ 2004 م، وصدرت بعد ذلك في كتاب بعنوان: فقه المقاصد: إناطة الأحكام بمقاصدها، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، ط 1، 1427 هـ/ 2006 م.
هدف البحث إلى الإجابة عن السؤال: «هل يصلح المقصد كوصف يتعلّق به الحكم، كما هو الحال في العلة التي يَتّفق على حجّيتها أغلب الفقهاء»
(1)
.
وجاء البحث - كما قال المؤلِّف - في سياق التجديد في البحث المقاصدي محاولًا: «الإسهام في هذا التجديد المعاصر عن طريق إعمال المقاصد في حال تعارض النصوص وتفسيرها، ويقترح القاعدة التالية: "تدور الأحكام الشرعية العملية مع مقاصدها: وجودًا وعدمًا، كما تدور مع عللها: وجودًا وعدمًا"»
(2)
.
واعتمد المؤلّف على ضابط وحيد لجواز التعليل بالمقصد، وذلك بالتفريق بينه وبين الحكمة فقال:«على الرغم من أنَّ الحكمة من الحُكم لا تختلف عن المقصد من الحُكم عند كثيرٍ من الأصوليّين، إلا إنّه يبدو لي أنّ هناك فارقًا معتبرًا بين ما يُقصد بالحكمة وما يُقصد بالمقصد، وهذا الفارق له أثره في مسألة التعليل. فالحكمة مصلحة تترتب على الحكم، أمّا المقصد فهو مصلحة، أو مجموعة مصالح، ينصّ الشارع أو يغلب على ظن المجتهد أنّها المقصودة من الحكم، أي لولاها لما شُرع الحكم أصلًا. وأرى بناء على ذلك أنّ الحكمة قد تختلف عن المقصد، وقد تكون جزءًا من المقصد، وقد تساوي المقصد، وأنّ النقد الموجّه إلى التعليل بالحكمة، وإناطة الحُكم بها، لا يلزم أن ينطبق على التعليل بالمقصد»
(3)
.
وحاصل ذلك أن المؤلّف يرى أنّ الحكمة أعمّ من المقصد، والمقصدَ أخصُّ منها، والحُكم يدور مع المقصد لا مع مطلق ما يُسمّى حكمة. والمقصد عنده هو ما لولاه لم يُشرع الحكم أصلًا، بينما الحكمة قد تكون كذلك فيُناط بها الحكم، كالمقصد تمامًا، وقد تكون مجرّد مصلحة تترتّب على الحكم من دون أن تكون هي الباعث الكلّي عليه، وهذه لا يُناط بها الحكم.
(1)
عودة، فقه المقاصد: إناطة الأحكام بمقاصدها، 55.
(2)
المرجع السابق، 54.
(3)
عودة، الاجتهاد المقاصدي من التصور الأصولي إلى التنزيل العملي، 79.
والبحث في نظري لا يقدِّم جديدًا في هذا السياق، وأكثرُ من ذلك أنّه يقوم على فهمٍ شائع مغلوطٍ لقول من قال من الأصوليين بجواز التعليل بالحكمة، حيث يبدو من صنيع الباحث بإيراده عددًا من الفروع الفقهية التي اعتُرض بها على نوط الحُكم بالحكمة: كنوط عدّة المرأة ببراءة الرحم لا بعدد القروء، ونوطِ الفطر في السفر بذات المشقّة لا بالسفر، ونوطِ التحريم الناشئ عن الرَّضاع بالجزئيّة لا بنفس الارتضاع، وتكلّفِه في الجواب عن هذه الفروع - يبدو من ذلك أنّه فهم من قول من قال من الأصوليين بجواز التعليل بالحكمة أنهم يوجبون ذلك عند كلّ حكمة، مع أنّ لفظ "الجواز" يشير إلى عدم لزوم ذلك، بل تخضع كلّ مسألة عندهم لنظر المجتهد، وما يمكن مراعاته من شروط أخرى تتوفّر في الحكمة محلّ النظر، كانفرادها بالحُكم، وتأثيرها، وعدم انتقاضها، وعدم معارضتها بغيرها، ونحو ذلك مما يُذكر في شروط العلة المناسبة التي تُناط بها الأحكام. فالقائل بجواز التعليل بالحكمة أنّما يتخلّى عن شرط واحد فقط من شروط العلة هو الظهور والانضباط، ولا يتخلّى عن باقي الشروط. وهذا مفهوم بالبداهة من حديث الأصوليين عن التعليل بالحكمة.
وهذا الفهم لمذهب القائلين بجواز التعليل بالحكمة - غير السديد في نظرنا - هو الذي اضطّر الباحث إلى الخروج عن الاصطلاح الشائع عند الأصوليّين في الحكمة والمقصد؛ ففرّق بينهما في حين لم يكن الأصوليّون والفقهاء يفرِّقون بينهما في مجاري كلامهم. والخروج عن الاصطلاح الشائع - من غير حاجة ماسّة - إنّما هو خطأ آخر ينضاف إلى الخطأ الذي أدّى إليه.
وعلى أية حال فهذا البحث لا يلتقي مع دراستنا هذه في الهدف ولا في المضمون، لأنّ دراستنا معنيّة باستقراء العوامل المؤثّرة في التعليل بالمظنة أو التعليل بالحكمة في آحاد الوقائع، أمّا دراسة الباحث فعُنيت ببيان جواز - أو بالأحرى لزوم - التعليل بالحكمة (المقصد) إلى جانب التعليل بالمظنة، أي التعليل بالحكمة لتوسيع الحُكم، لا على حساب التعليل بالمظنة، ولا في معارضته. حيث قال المؤلّف: «التعليل بالمقاصد هنا ليس مطروحًا
كبديل عن التعليل بالعلل المنضبطة الظاهرة، وإنما التعليل بالمقاصد إضافةٌ إلى التعليل بالعلل وتوسيعٌ لمفهومها»
(1)
. فدراستنا عند التعارض بين التعليل بالمظنة والتعليل بالحكمة في آحاد الوقائع، ودراسته بفرض التوافق بينهما، مع أنّ فرض مثل هذا التوافق نظريٌّ قليلُ الوقوع، إذ الغالب الساحق أن التعليل بالحكمة في مسألة ما يؤثِّر في التعليل بالمظنة في المسألة نفسها، لأنّه يؤثِّر في الأفراد والجزئيات المنضوية تحتها طردًا وعكسًا، ضيقًا وسَعَةً، إلا ما نَدر.
والدراسة الثانية: بحث بعنوان "أثر الاختلاف في إناطة الحكم بعلّته أو حكمته في اختلاف الفقهاء" لزميلنا الدكتور إياد نمر، المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، مج (12)، ع (1)، 1437 هـ/ 2016 م، الصفحات 191 - 212.
هدف البحث إلى بيان مسوّغات إناطة الحكم بكلٍّ من العلة أو الحكمة عند الأصوليين، مسلِّطًا الضوء على أثر انعكاس التردُّد في إناطة الحكم بعلّته أو حكمته على اجتهادات الفقهاء في القياس الأصولي، أو في التعليل المجرّد عن القياس. وتوصّل الباحث إلى إمكانية الالتقاء بين العلة والحكمة في إناطة الأحكام بكلٍّ منهما، إذا ما رُوعيت ضوابط العلة، وشُروط الحكمة المعتبرة التي تحمي الفقيه من الانجرار وراء القياس المجرّد عن حكمته، أو الحكمة المخالفة لظواهر النصوص التي انبنى عليها القياس.
وقد ذهب الباحث - تبعًا لبعض الباحثين في التعليل بالحكمة
(2)
- إلى اشتراط أن تكون الحكمة المعلَّل بها ظاهرة منضبطة
(3)
. وهذا الاشتراط - في نظري - يُفرِغ موضوع القول بجواز التعليل بالحكمة من مضمونه الذي هو التعليل بالوصف الخفي أو غير المنضبط، لأنّ الحكمة إذا كانت ظاهرة منضبطة فإنّها تكون حكمة وعلّة في الوقت نفسه، وحينئذٍ فلا خلاف يتحقّق في جواز التعليل بها بين الأصوليّين والفقهاء.
وعلى أية حال فهذا البحث كذلك لا يلتقي مع دراستنا هذه في الهدف ولا في المضمون، إذ بحثنا يهدف إلى استقراء العوامل المؤثّرة في نوط الحُكم بالمظنة أو الحكمة عند الأصوليين والفقهاء، وبيانِها، وهو ما لم يتطرّق إليه البحث المذكور، وإنما تطرّق إلى بيان
(1)
المرجع السابق، 82.
(2)
أبو مؤنس، منهج التعليل بالحكمة، 168.
(3)
نمر، "أثر الاختلاف في إناطة الحكم بعلّته أو حكمته في اختلاف الفقهاء"، المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، م 12، عدد 1، 202.
الدوافع والمسوِّغات العامّة التي يمكن الاعتماد عليها للقول بجواز التعليل بالحكمة جنبًا إلى جنب مع القول بالتعليل بالمظنة.
الإضافة العلمية في البحث:
أهمّ الإضافات العلمية في هذا البحث:
أولًا: استقراء أشكال تصرّفات الفقهاء في الوقائع عند تردّد الحكم بين أن يُناط بالمظنة، أو بالحكمة، وقد حصرها الباحث في أربعة أشكال عامّة.
ثانيًا: استقراء العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم إما بالحكمة، وإما بالمظنة، في آحاد الوقائع، من كتابات الأصوليين وتصرّفات الفقهاء، وقد توصّل الباحث إلى تسعة عوامل.
ثالثًا: نظرات ونَقَدات في قضايا جزئيّة متناثرة في البحث أصولية وفروعيّة.
هيكل البحث:
بعد هذه المقدّمة، اشتمل البحث على مطالب ثلاثة وخاتمة:
المطلب الأول: خلاصة القول في تحرير الاصطلاحات الدائرة في باب التعليل بالحكمة، والتعليل بالمظنة.
المطلب الثاني: أشكال تصرفّات الفقهاء عند تردُّد الحكم بين المظنّة والحكمة.
المطلب الثالث: العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنة أو بالحكمة.
وخاتمة في نتائج البحث.
المطلب الأول: خلاصة القول في تحرير الاصطلاحات الدائرة في باب التعليل بالحكمة، والتعليل بالمظنّة
تعليل الحُكم بالمظنّة/ العلة مصطلحٌ مقابلٌ لتعليله بالحكمة. وما يقتضيه أحدهما في تحديد المساحة الفروعية التي يغطّيها الحُكم المنصوص يختلف عمّا يقتضيه الآخر، سَعةً وضيقًا، طردًا وعكسًا.
فنهي المرأة عن السفر إلا بزوجٍ أو مَحْرَم - مثلًا - إذا عُلِّل بالمظنة المذكورة في الحديث، وهي السفر، يختلف فيما يقتضيه ويشمله من وقائع عمّا إذا عُلِّل بالحكمة المعقولة من النهي - كما رآها الشافعي وجماعة - وهي عدم الأمن على المرأة والخشية من أن يُعتدى عليها إذا لم يصحبها زوجٌ أو محرم
(1)
:
فنوطُ الحكم بالمظنة (السفر) يقتضي تحريم سفر المرأة إلا مع الزوج والمحرم، حتّى لو وُجد الطريق الآمن، في حين أنّ نوطه بالحكمة (عدم الأمن) يقتضي جواز سفرها من دون محرم أو زوج إذا أمنت خطر الطريق، كأن تكون الطريق آمنة في نفسها بأمان البلد، أو تكون المرأة بصحبة غير الزوج والمحرم، كنساءٍ ثقات.
ومن جهةٍ أخرى يقتضي النوطُ بالحكمة تحريمَ تنقُّل المرأة بمفردها فيما دون مطلق السفر أو لم يبلغ المسافة التي عيّنها الفقهاء لأقلّ السفر، إذا كان هذا التنقل ينعدم فيه الأمن وكانت المرأة فيه عرضة للاعتداء والتحرّش، كما في بعض البلاد، في حين لا تقتضي المظنّة ذلك؛ لأنّ هذا التردّد وإن انعدم فيه الأمن فإنّه لا يدخل في مفهوم السفر.
وفيما يأتي رسمٌ يوضّح مواضع التباين ومواضع التقاطع بين دائرتي ما تقتضيه المظنّة وما تقتضيه الحكمة في مثال نهي المرأة عن السفر إلا بمحرم أو زوج.
(1)
الشافعي، الأم، 2/ 127.
رسم توضيحي 1: تباين المساحة الفروعية التي تغطيها المظنة والحكمة في مثال النهي عن سفر المرأة وتقاطعها
|
ولفهم المقصود بمصطلحي التعليل بالمظنة/ العلة، والتعليل بالحكمة تمام الفهم لا بدّ من فهم الاصطلاحات الجزئيّة المكوِّنة لهما: التّعليل، والحكمة، والمظنّة/ العلة. وقد كنت نشرت بحثًا مفصَّلا أسهبت فيه في التّعريف بهذه الاصطلاحات وتحقيقها والتفريق الدقيق بينها
(1)
. ثم أردفت ذلك ببحث ثان لبيان أنّ "التعليل بالمظنة" هو الغالب في التعليل الذي يُراد به ربط الأحكام بالعلل السببية الموجبة لها والمنصوبة للمكلّف علامةً على تطبيقها، واستدللت لذلك بأدلّة مُسهبة مع تفصيلٍ في بيان الفلسفة الأصوليّة المقاصدية التي يقوم عليها التعليل بالمظنة
(2)
. وقد كان هذا ضروريًّا في ظلّ النقد القاسي الذي وجّهه بعض فضلاء المعاصرين
(3)
للأصوليين لعنايتهم وتقديمهم التعليل بالمظنة/ العلة على التعليل بالحكمة، وقد نجم ذلك النقد عن خَلطٍ عند هؤلاء الفضلاء في تحرير المقصود بـ «التعليل بالحكمة» الذي اختلف الأصوليّون في جوازه.
(1)
صالح، "العلّة والحكمة والتّعليل بالحكمة"، مجلة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، م 31، عدد 2، 65.
(2)
صالح، "التعليل بالمظنة لا بالحكمة: دراسة أُصولية"، مجلة الصراط، م 21، عدد 38، 48.
(3)
شلبي، تعليل الأحكام، 184؛ إمام، "بحث في التّعليل بالحكمة"، مجلة كلية الشريعة والقانون بأسيوط، م 3، عدد 18، 665؛ الجبوري، "التعليل بالحكمة عند الأصوليين"، مجلة كلية الآداب - جامعة بغداد، عدد 15، 191؛ الحكمي، "حقيقة الخلاف في التعليل بالحكمة"، مجلة جامعة أم القرى، عدد 9، 12.
وأجتزئ هنا في هذا المطلب التمهيدي بنقل ما يفي بالغرض من ذانك البحثين، متخفِّفًا من كثير من العزو والتّطويل، محيلًا من أراد مزيدًا من التفصيل والتمثيل والتوثيق على البحثين المذكورين. فأقول:
العلّة لفظٌ مشترك متعدِّد المعاني في كلام الأصوليين، وهو يأتي عندهم في معنيين رئيسين: السبب والحكمة.
أمّا السبب فهو الوصف الظاهر المنضبط الذي يلزم من حصوله حصولُ الحكم في حقّ المكلّف، لتحقيق حكمة، كالسفر الذي يلزم عنه إباحة الفطر في رمضان، والدلوك الذي يلزم عنه وجوب صلاة الظهر. ويكثر أن يُعبَّر عن السبب عند الأصوليين والفقهاء بألفاظ أخرى مثل: العلّة، والموجب، والمعرّف، والمناط، والمقتضي، والعلة السببية، وأمارة المصلحة، والمظنّة.
وأمّا الحكمة، فهي مقصود الحكم، أو ما لأجله شُرع الحكم. ويمكن تعريفها بأنّها: المعنى المَصلحي (المناسب) المقصود جلبه أو دفعه من تشريع الحُكم إن كان تكليفيًّا، أو المتضمَّن فيه إن كان وضعيًّا، أو قُلْ: هي باعث الشّرع على التّكليف بالحُكم، أو على وضعه. قال الغزالي:«لسنا نعني بالحكمة إلا العلّة المخيلة والمعنى المناسب»
(1)
. وقال الطّوفي: «المراد بحكمة الحُكم: هو المعنى المناسب الذي نشأ عنه الحُكم»
(2)
. ويُعبَّر عنها في كلام الفقهاء والأصوليين بـ المصلحة، وعين المصلحة، ووجه المصلحة، والمعنى، والمعنى المُخيل، والمعنى المناسب، والعلّة، والمَئِنَّة، وحقيقة العلّة، ورُوح العلّة، وعلّة السّبب، وعلّة العلّة، والباعث، والحامل، والدّاعي، والمحرِّك، والغرض، والمغزى، والمرمى، والمراد، والمقصد، والمقصود، والقصد، والغاية، والفائدة، والعلّة الغائيّة.
وهي ضربان: حِكمة الحُكم، وحِكمة السّبب.
فحكمة الحُكم: هي المعنى المصلحي المقصود جلبه أو دفعه من تشريع الحُكم التّكليفي:
(1)
الغزالي، شفاء الغليل، 613.
(2)
الطوفي، شرح مختصر الروضة، 1/ 423.
• كحفظ العقل المقصود من تحريم شرب الخمر. وتحصيل الزّجر، ومن ثمّ تقليل القتل، المقصود من إيجاب القصاص.
• وكحفظ الأسرة والنّسل المقصود من تحريم الزّنى.
• وكدفع المشقّة (=التّيسير أو التّخفيف) المقصود من إباحة الفطر للمسافر.
وهذا النّوع من الحكمة أولى بأن يُخصّ باسم المقصد أو الغرض أو الباعث.
وحكمة السّبب: هي المعنى المصلحي الذي لأجل اشتمال سبب الحُكم عليه، علَّق الشّارع الحُكمَ بهذا السّبب، وذلك لتحقيق حكمة الحُكم التكليفي المترتِّب على هذا السّبب في نهاية الأمر:
• كالمشَقّة المتضمَّنة في السّفر التي من أجلها جُعل السّفر سببًا لإباحة الفطر؛ تحقيقًا لحكمة التّيسير.
• وكتضييع المال المتضمَّن في السّرقة، الذي من أجله جُعلت السّرقة سببًا لوجوب القطع؛ تحقيقًا لحكمة الزّجر عن تضييع المال.
• وكتشوُّش الذِّهن المتضمَّن في غضب القاضي، الذي من أجله جُعل الغضب سببًا لكراهة القضاء أو تحريمه؛ تحقيقًا لحكمة العدل.
• وكالإسكار المتضمّن في شرب الخمر، الذي من أجله جُعل شرب الخمر سببًا لوجوب الحدّ؛ تحقيقًا لحكمة الزّجر عن تضييع العقل، ودفع ما يلزم عن تضييعه من مفاسد.
وألصق الأسماء بهذه الحكمة: المعنى، والمئنّة، وعلّة السّبب، وعلّة العلّة، وحقيقة العلّة.
وأمّا المَظِنّة، بفتح الميم وكسر الظّاء، فهي المحلّ/ الوصف الظاهر المنضبط الذي يُظنّ فيه وجود الحكمة.
وهذا المحلّ - الذي هو مظنّة الحكمة - يختلف بحسب نوع الحُكم:
• فإن كان الحُكم تكليفيًّا، كالوجوب والحرمة ونحوها: كان المحلّ هو فعل المكلَّف الذي تعلَّق به الحُكم، فمثلًا المحلّ في حُكم تحريم شرب الخمر، هو الفعل "شرب الخمر"، وهذا الفعل
مظنّة إحداث السُّكر. ومحلُّ الحُكم في حرمة السّرقة، هو فعل السّرقة، وهو مظنّة تضييع المال. ومحلُّ الحُكم في إباحة البيع هو فعل البيع (التّعاقد)، وهو مظنّة تراضي المتبايعين بتبادل الملك، وهذا التراضي مظنّة رغبتهما، أو حاجتهما، إلى هذا التّبادل، وهكذا
…
• وإن كان الحُكم وضعيًّا، كالسّبب والشّرط والمانع، كان المحلّ هو الفعل أو الصّفة أو الحَدث الذي وضعه أو جعله الشّارع سببًا أو شرطًا أو مانعًا. وهو السَّبب نفسه، أو الشّرط، أو المانع، نفساهما: كفعل السّفر الذي هو سبب إباحة الفطر، ومظنّة المشقّة. وصفة البلوغ التي هي شرط وجوب الصّلاة، ومظنّة تكامل العقل. وفعل القتل الذي هو مانعٌ من استحقاق الميراث، ومظنّة استعجال الشيء قبل أوانه بفعلٍ محرّم.
وعليه، فالمظنّة، وإن اشتهر إطلاقها على العلّة بمعنى السّبب، فهي أعمّ منه، لأنّها تشمل الشّرط والمانع ومحلّ الحُكم التّكليفي؛ إذ كلّ أولئك مظانّ لحكمة الحُكم المتعلِّق بها، تكليفيًّا كان أو وضعيًّا.
ويتحَدَّد المعنى المقصود من العلة إذا جاءت في كلام الأصوليين بحسب قرائن السياق، فإذا ذُكرت العلة والسبب في سياق واحد، كما يذكرهما الشاطبي وغيره، فالمقصود بالعلة حينئذٍ الحكمة (أي العلة الغائية)، وإذا ذُكرت العلة والحكمة في سياق واحد، كقول كثير من الأصوليين: يدور الحكم مع العلة لا مع الحكمة، فالمقصود بالعلة في هذا السياق السبب أو المظنة (العلة السببيّة).
وأمّا التّعليل فهو يُطلق أصوليًّا على: بيان علّة الحُكم، سواء أكان ذلك بفعل الشّارع، أم المجتهد، وسواء أكان ذلك لمجرّد إبداء الحكمة التشريعيّة للحكم من غير ربط الحكم بهذه الحكمة وجودًا وعدمًا، أم لغرض نوط الحكم بها وجودًا -كما في قياس الطرد - أو عدمًا - كما في قياس العكس - أو كليهما.
كما يُطلق التّعليل على القول بأنّ الأحكام معلَّلة بالمصالح. فالقائلون بالتّعليل هم الجمهور، ويقابلهم الظّاهرية المنكرون للتّعليل.
وأمّا فيما يخصّ مصطلحي: التّعليل بالمظنّة والتّعليل بالحكمة، فالمقصود بهما نوط الحكم بالعلّة، سواء أكانت علة سببية (مظنّة)، أم علّة غائية (حكمة). فقول الأصوليين: يجوز - أو لا يجوز - التعليل بالحكمة، معناه: يجوز - أو لا يجوز - نوطُ الحُكم بالحكمة، وجودًا أو عدمًا، وليس المقصود به: أنّ الأحكام من حيث المبدأ معلّلة بالمصالح والحِكَم، ولا المقصود به مجرّد بيان الحكمة التشريعية للحكم من غير نوطٍ له بها.
وإذا تقرّر ما سبق، فـ «التّعليل بالمظنّة» هو نوط الحُكم، وجودًا، أو عدمًا، أو كليهما، بالمظنّة، وهو يُطلق في مقابل «التّعليل بالحكمة» الذي هو نوط الحكم، وجودًا، أو عدمًا، أو كليهما، بالحكمة.
ومعنى النّوط وجودًا: إثبات الحُكم في كلّ محلٍّ تُوجد فيه المظنّة أو الحكمة. وهذا قد يقتضي قياس الطَّرد، كما في قياس الجوع والألم المفرطين على الغضب؛ لأنّهما يشوّشان الذّهن (وجود الحكمة). وكما في قياس الأرزّ على البرّ بعلّة الكيل التي هي ضابط محلّ الحُكم بتحريم ربا الفضل عند الحنفيّة (وجود المظنّة).
ومعنى النّوط عدمًا: نفي الحُكم عن كلّ محلٍّ تنتفي عنه المظنّة أو الحكمة. وهذا قد يقتضي قياس العكس، كنفي حُكم الكراهة عن قضاء القاضي مع الغضب اليسير؛ لأنَّه لا يشوّش (انتفاء الحكمة). وكما في نفي الحنفيّة حُكم التّحريم عن بيع قليل البرّ بقليل البرّ، كالحَفْنة بالحَفنتين؛ لأنّه لا يُكال (انتفاء المظنّة).
ولحصول المظنّة والحكمة في آحاد الوقائع المحكوم فيها ثلاثُ حالات:
الأولى: أن يحصلا معًا في الواقعة محلّ الحكم.
والثّانية: أن ينعدما معًا.
والثّالثة: أن تُوجد إحداهما في الواقعة دون الأخرى.
وفي هذه الحالة الأخيرة فقط يحدث الإشكال الفقهي، ويُحتاج إلى الاجتهاد بالمفاضلة والموازنة بين التعليل بالمظنّة والتّعليل بالحكمة.
والقاعدة العامّة التي تحكم عمليّة الموازنة بين نوط الحكم بالمظنّة ونوطه بالحكمة عند الفقهاء والأصوليّين، بإطباقٍ منهم، هي أنّ الأصل والغالب أن يُناط الحُكم بالمظنّة (التي تكون منصوصة عادة) لا بالحكمة (التي تكون مستنبطة عادة). ويُخرَج عن هذا الأصل في حالات خاصّة هي ما سنوضّحه في هذا البحث إن شاء الله تعالى.
والغاية من نوط الحكم بالمظنّة لا بالحكمة هي تشوُّف الشّارع إلى الضّبط والحَسْم والوضوح في وضع الأحكام وسنّ القوانين. ومقصدُ الضّبط هذا ينطوي على مقاصد أو مصالح أخرى. فالضَّبط، على التّحقيق، ليس غايةً في نفسه، بل الغاية الحقيقيّة هي ما يترتَّب عليه من مصالح للمكلّفين أفرادًا وجماعاتٍ. وتتمثّل هذه المصالح - المترتّبة على الضّبط - في ثلاثة معانٍ يمكن عدُّها الغايات المصلحيّة لنوط الأحكام بالمظانّ دون الحِكَم، وهي: التّسهيل، والاحتياط، وقطع النّزاع. وقد تجتمع هذه الغايات، كلّها أو بعضها، في المثال الواحد والمسألة الواحدة، وقد يتجلَّى انفراد أحدها أو غلبته على غيره في أمثلة أو مسائل أخرى.
المطلب الثاني: أشكال تصرّفات الفقهاء عند تردُّد الحكم بين المظنّة والحكمة
بالاستقراء والتأمّل فيما يُوجد عند الفقهاء من مسائل فقهية، يتردَّد الحكم فيها بين أن يُناط بالمظنة، أو يُناط بالحكمة، وجدتُّ أنّ تصرُّفاتِهم، تتّخذ أشكالًا أربعة:
الأوّل: أن يقطعوا الحكم عن المظنّة المنصوصة، ويديروه مع الحكمة وجودًا وعدمًا، وهذا إذا كانت الحكمة منفردة بالحكم، ومفهومة بوضوح من النصَّ على المظنّة.
ومثاله: «لا يقضي الحاكم بين اثنين وهو غضبان»
(1)
، أداروا حكم كراهة القضاء مع تشوُّش الذهن (الحكمة) وجودًا وعدمًا، وقطعوه عن الدوران مع ذات الغضب (المظنّة المنصوصة)، فكلُّ ما يشوِّش - كالألم والاحتقان والجوع والعطش المفرطين - مكروهٌ معه القضاء. والغضبُ اليسير غير المشوِّش يرتفع عنه حكم الكراهة. فالغضب نفسه لم يعد مَناطًا للحكم، بل تشوّش الذهن، وجودًا وعدمًا
(2)
.
(1)
أحمد، المسند، 34/ 14 واللفظ له. قال الأرناؤوط: إسناده صحيح؛ البخاري، الصحيح، 9/ 65؛ مسلم، الصحيح، 3/ 1342.
(2)
ينظر: ابن المنذر، الإشراف على مذاهب العلماء، 4/ 185؛ ابن حجر، فتح الباري، 13/ 137.
ومثاله أيضًا: اجتهاد الجمهور في حديث: «إذا استيقظ أحدُكم من نومه فليغسل يده قبل أن يُدخلها في وَضوئه، فإنّ أحدكم لا يدري أين باتت يده»
(1)
، أداروا حكم ندب غسل اليد على الشكّ في نجاستها (الحكمة)، سواء أكان ذلك بسبب الاستيقاظ من النوم (المظنة المنصوصة)، أم غير ذلك من الحالات، ورفعوا حكم ندب الغسل عن المستيقظ من نومه المتيقِّنِ عدمَ نجاسة يده، كمن نام ويداه مقيّدتان خلف ظهره، أو كمن نام ويداه في قفّازين. فالاستيقاظ من النّوم ليس مناطًا للحُكم، بل الشكّ في نجاسة اليد، وجودًا وعدمًا
(2)
.
والشكل الثاني: عكس الأول وهو: أن يديروا الحكم مع المظنّة المنصوصة، ويقطعوه عن الحكمة بالكلّية، وهذا في الأحكام التعبّدية والتقديرية والمخصوصة بأصحابها.
ومثاله: تحريم لحم الخنزير، فالحكمة هي كونه رجسًا وقذرًا، ومع هذا لا يُقاس عليه غيره من الحيوان، حتى لو فُرض كونه أقذر منه، ولا يرتفع حكم التحريم عن الخنزير، حتى لو جعلناه يعيش في بيئة نظيفة، ولم نطعمه إلا طعامًا نظيفًا. فحكم التحريم هنا يدور مع المظنّة (محل الحكم)، وهي تناول لحم الخنزير، وجودًا وعدمًا، وهو مقطوع عن حكمة التحريم، وهي كون الخنزير رجسًا وقذرًا أو مصدرًا لكثير من الأمراض، وغير ذلك ممّا يُقال في حكمة تحريم أكل الخنزير.
ومثاله أيضًا: وجوب افتتاح الصلاة عند الجمهور بلفظ التكبير "الله أكبر" لحِكمة إجلال الله تعالى وتعظيمه، ولا يُقاس على لفظ التكبير غيره، وإن أدَّى معنى الإجلال والتعظيم، كـ "الله أعظم"، و"الله أجلّ"، كما أنّ الصلاة تصحّ مع لفظ التكبير، حتى لو كان المصلّي وقتئذٍ غافلًا عن معنى التعظيم والإجلال (فقدان الحكمة)
(3)
.
ومثاله أيضًا: الأحكام المخصوصة بالنصّ، كشهادة خزيمة التي جُعلت بشهادة رجلين
(4)
، وإجزاء العَناق عن أبي بردة
(5)
، وإباحة الزواج بأكثر من أربع للنبي، صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الأحكام المخصوصة بأصحابها بالنصّ، التي قد تُفهم حكمةُ تخصيصها بأصحابها، ولكن، مع ذلك، لا يُقاس عليها.
(1)
البخاري، الصحيح، 1/ 44؛ مسلم، الصحيح، 1/ 233.
(2)
ينظر: النووي، شرح صحيح مسلم، 3/ 180؛ ابن حجر، فتح الباري، 1/ 264.
(3)
ينظر: ابن دقيق العيد، إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، 1/ 260.
(4)
قال الألباني: «صحيح. أخرجه أبو داود (3607)، والنسائي (2/ 229)، والحاكم (2/ 17 ـ 18)، وأحمد (5/ 215)» . الألباني، إرواء الغليل، 5/ 127.
(5)
البخاري، الصحيح، 2/ 23؛ مسلم، الصحيح، 3/ 1552.
والشكل الثالث: أن يُبقوا الحكم دائرًا مع المظنّة المنصوصة لا مع الحكمة، ولكن يشترطون في المظنّة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى الحكمة.
ومثاله حكم إباحة الفِطر في رمضان مع السّفر، أداروا الحكم مع السّفر لا مع المشقَّة، فلم يجيزوا للحمَّالين وأصحاب المهن الشاقَّة الفطر كالمسافر
(1)
، ومع هذا فإنّهم، في جمهورهم، قيَّدوا السّفر المبيح للفطر بكونه طويلًا، وضبطوا طوله: إمّا بمسافة معيّنة، كأربعة بُرُد، وإمّا بمسافة تُقطع في مدّة معيّنة، كمسيرة ثلاثة أيام، أو يوم وليلة، وذلك التفاتًا إلى معنى المشقّة
(2)
. وكذلك المرض المبيح للفطر ضبطوه بكونه يشقّ، أو يضرّ، معه الصوم، حالًا أو مآلًا
(3)
.
ومثاله أيضًا: حكم نقض الوضوء بلمس المرأة عند الجمهور، فالسّبب المنصوص هو مطلق لمس النِّساء، ومع هذا فقد اشترط الفقهاء في هذا اللمس شروطًا لكي يكون مظنّةً للحِكمة، أي للمعنى المناسب لحصول الانتقاض بلمس لمرأة، وهو الشهوة، فاشترط المالكية
(4)
والحنابلة
(5)
وجودَ الشهوة (اللذة) أو قصدَها، واشترط الحنفية
(6)
وجودَ المسّ الفاحش، أي مباشرة الجسد الجسد، إذ المعتبر عندهم شهوة قويّة تكون مظنة لخروج المذي لا أي شهوة، واشترط الشافعيّة
(7)
أن تكون المرأة من اللاتي يُقصدن باللمس للالتذاذ والشهوة عادةً، فلم يعتبروا لمس الصغيرات، ولا لمس المحارم، لأنّهنّ لسن مظنّة للشهوة. وكلُّ هذه الاشتراطات - على تفاوتها - تلتفت في نهاية المطاف إلى حكمة الحُكم بنقض الوضوء من لمس المرأة، وهو أنّه مظنّة للشهوة والالتذاذ.
والشكل الرابع: وهو عكس السابق: أن يديروا الحُكم مع الحكمة لا مع المظنّة المنصوصة، ولكن يشترطون مع تحقُّق الحكمة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى المظنّة المنصوصة.
ومثال ذلك اجتهاد الشافعيّة
(8)
والحنابلة
(9)
في حديث الاستنجاء أنه، صلى الله عليه وسلم، «أمر بثلاثة أحجار»
(10)
، فقد أداروا الحكم على إنقاء المحلّ من النجاسة (الحكمة)، ولم يديروه على استعمال الثلاثة أحجار (المظنة)، فمن جهة الوجود: قاسوا على الحجارة كلّ
(1)
ينظر: ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، 2/ 420؛ البكري الدمياطي، إعانة الطالبين، 2/ 267؛ البهوتي، دقائق أولي النهى، 1/ 478؛ الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/ 176.
(2)
ينظر: ابن قدامة، المغني، 3/ 106؛ ابن الهمام، فتح القدير، 2/ 30.
(3)
ابن المنذر، الإشراف على مذاهب العلماء، 3/ 138؛ الموسوعة الفقهية الكويتية، 28/ 45.
(4)
الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، 1/ 296.
(5)
البهوتي، كشاف القناع، 1/ 301.
(6)
الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، 1/ 12.
(7)
الشربيني، مغني المحتاج، 1/ 145.
(8)
المرجع السابق، 1/ 163.
(9)
البهوتي، كشاف القناع، 1/ 139.
(10)
أبو داود، سنن أبي داود، 1/ 208. قواه الارناؤوط وحسنه الالباني.
مزيل من الطاهرات، كالورق وغيره، ومن جهة العدم: قالوا بعدم إجزاء الحجارة الثلاثة إذا لم تنقِ المحلّ. ولكنّهم، مع ذلك، اشترطوا في المزيل أن يُستعمل في ثلاث مَسَحاتٍ على الأقلّ، وهذا الاشتراط التفاتٌ منهم إلى لفظ التثليث الوارد في المظنّة المنصوصة.
أمَّا الحنفيّة
(1)
والمالكيّة
(2)
، فأداروا الحكم مع حكمة الإنقاء وقطعوه عن المظنة تمامًا، فأجازوا الاستنجاء بكلّ طاهر مزيل، وقالوا بعدم إجزاء الحجارة الثلاثة إذا لم تنقِ المحلّ، ولم يشترطوا في المزيل أن يُستعمل في ثلاث مَسحات، بل تكفي المسحة الواحدة إذا كانت مُنقية، فالعبرة عندهم بحكمة الإنقاء لا بعين المزيل ولا عدده. فهم أداروا الحكم مع الحكمة بالكُلِّية، وجودًا وعدمًا، لوضوحها وانفرادها، فاجتهادهم في هذه المسألة من الشكل الأول. والشافعيّة والحنابلة أداروه مع الحكمة، ولكنّهم اشترطوا معها شرطًا استمدّوه من المظنة المنصوصة، إمّا احترامًا لظاهر النصَّ، وإمّا لأنَّهم قدَّروا وجود نوعٍ من التعبُّد في الحكم المنصوص. وإمّا لأمر معنوي وهو أنَّ إنقاء الدّبُر يعسر أن يكون بمسحة واحدة، كما يعسر غالبًا التحقّق من حصول الإنقاء في الواقع لغياب موضعه عن نظر المستجمر، فكان الاحتياط ألّا يُجتزأ بأقلَّ من ثلاث مسحات. وهو ملحظٌ وجيه.
المطلب الثالث: العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنة أو بالحكمة في الوقائع:
نظريًّا، التعليلُ بعين الحكمة يَفْضُل التعليل بالمظنة من حيث إنه تعليل بالمقصود من الحكم نفسه، لا بما هو وسيلة إليه، وهذا أدنى إلى تحقيق قصد الشارع من الحكم من غير تفويت له في أيّ جزئية من جزئيّات الحكم.
وفي المقابل التعليل بالمظنة يَفْضُل التعليل بالحكمة من حيث ما يحقِّق من مصالح ثانويةٍ تتمثّل في الضبط مع ما يستبطنه هذا الضبط من التسهيل والاحتياط وقطع النزاع، بالإضافة إلى تحقيق الحكمة والمقصود من الحُكم في معظم الجزئيّات. والتضحيةُ بفوات تحقيق المقصود من الحُكم في بعض الجزئيات؛ نتيجةً للنوط بالمظنة، تُعوِّضُه المصالح الأخرى المترتِّبة على الضبط واطّراد الأحكام.
(1)
ابن الهمام، فتح القدير، 1/ 213.
(2)
الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، 1/ 289.
ولأجل هذا التكافؤ النظري بين نوعي التعليل هذين، كلٌّ من جهة، يتردَّد الفقهاء بينهما في آحاد الوقائع، فمنهم من يعلِّل الحُكم بالحكمة في واقعة، ويخالفه فقيهٌ آخرُ فيعلِّل الحُكمَ بالمظنة في الواقعة نفسها، وأحيانًا يكون للمجتهد الواحد قولان في الواقعة نفسها: أحدُهما دائرٌ مع المظنة، وآخرُ دائرٌ مع الحكمة.
هذا، وإن كان الغالب أن الشارع يعلِّل بالمظانّ المنضبطة، كما ذكر غيرُ أصولي
(1)
، فتعليله بالحِكَم، وبالأوصاف المطلقة غير المنضبطة بنفسها كلّ الضبط، كثيرٌ أيضًا.
والأمثلة على تردُّد حكم الواقعة بين أن يُجرى مع مقتضى المظنّة، أو مع مقتضى الحكمة - كما مرّ بنا، وسيمرّ أيضًا فيما بقي من هذا البحث - كثيرةٌ جدًّا. وميلُ الفقيه إلى تقرير الحُكم بحسب ما تقتضيه المظنّة (التعليل بالمظنة)، أو ما تقتضيه الحكمة (التعليل بالحكمة)، تؤثِّر فيه عواملُ متعدّدة. ومن الأهميّة بمكان تسليط الضوء على هذه العوامل، ولكن قبل ذلك لابدّ من تحرير محلّ النزاع في التعليل بالحكمة الذي يتعارض مع التعليل بالمظنة؛ إذ تحرير ذلك مقدّمة لا غنى عنها لإدراك مدى تأثير هذه العوامل في نوط الحكم بالمظنة أو بالحكمة.
ولذلك جاء هذا المطلب في فرعين:
أحدهما: تحرير محلّ النزاع في التعليل بالحكمة الذي يتعارض مع التعليل بالمظنة.
والفرع الثاني: بيان العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنة أو بالحكمة في الوقائع.
الفرع الأول: تحرير محلّ النزاع في التعليل بالحكمة الذي يتعارض مع التعليل بالمظنّة:
اتّفق الأصوليون - من حيث المبدأ - على جواز التعليل بالمظنة: منصوصةً أو اجتهاديّة. وهم متّفقون - فيما يظهر لنا - على جواز التعليل بالحكمة في ثلاثة مواطن
(2)
:
أحدها: إذا كان يُقصد بالتعليل مجرّد إبداء المناسبة والمصلحة من غير نوطٍ للحُكم بالحكمة.
(1)
ينظر: صالح، "التعليل بالمظنة لا بالحكمة: دراسة أُصولية"، مجلة الصراط، م 21، عدد 38، 53.
(2)
ينظر: صالح، "العلّة والحكمة والتّعليل بالحكمة"، مجلة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، م 31، عدد 2، 97.
والموطن الثاني: إذا كانت الحكمة ظاهرة منضبطة، فينطبق عليها ما ينطبق على العلة/ المظنة.
والموطن الثالث: إذا كانت الحكمةُ حكمةً للحُكم المستفاد من خطاب التكليف الابتدائي (أي: غير القائم على سبب)، حتّى لو لم تكن ظاهرة أو منضبطة، ونيط الحكم بها وجودًا، كحكم تحريم السرقة حفظًا للمال؛ فيُقاس عليها في التحريم - لا في وجوب الحد - كلُّ ما يؤدّي إلى تضييع المال، كالنبش، والنشل، والاختلاس
…
الخ.
واختلفوا في جواز التعليل بالحكمة في موطنين:
أحدهما: في حكمة الحكم الوضعي (حكمة السبب والمانع والشرط) - أو الخطاب التكليفي المترتِّب عليه - هل يجوز تعدية الحكم بها أو لا، وهي ما تُعرف بمسألة القياس في الأسباب، ككقياس النبش والنشل والاختلاس على السرقة في وجوب الحدّ لحكمة الزجر عن تضييع المال، وقياس العمل الشاقّ على السفر في إباحة الفطر في رمضان لحكمة دفع المشقّة، حيث نقل النّاقلون - كما قال الغزالي - عن أبي زيد الدّبوسي (ت 430 هـ):«أنَّ الأحكام تتبع الأسباب دون الحِكَم، وأنَّ الأسباب لا تُعلَّل، وأنّ وضع الأسباب بالرأي والقياس لا وجه له، وأنَّ الحكمة ثمرةُ الحُكم ومقصودُه لا علّته»
(1)
(2)
. وما قاله الدّبوسي يندرج فيما قررَّه شيخ شيوخه الكرخي حين قال: (ت 340 هـ): «الأصل أنّه يُفرَّق بين علّة الحُكم وحكمته، فإنَّ علَّته موجِبة وحكمتَه غير موجبة»
(3)
.
وممّا يخرّجه الأصوليّون على الخلاف في هذه القضية الخلاف بين الجمهور والحنفية في: قياس النبّاش على السارق، في وجوب القطع، واللائط على الزاني، في وجوب الحدّ، والقاتل بالمثقَّل على القاتل بالمحدَّد، في وجوب القصاص.
(1)
الغزالي، شفاء الغليل، 604.
(2)
الدبوسي، تقويم الأدلة في أصول الفقه، 295.
(3)
الكرخي، "أصول الكرخي"، في رسالة في الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية، 127.
وهذا التخريج ليس بسديد من وجهة نظرنا؛ إذ يمكن ردُّه لخلافهم في القياس في أسباب الحدود خاصّة، لا في عموم الأسباب، والحدود لها مزية أنها تُدرأ بالشبهة لذلك لم يقبل بعض الحنفية في إثباتها خبر الواحد فضلا عن القياس
(1)
.
وقد لقي القول بمنع القياس في الأسباب نقدًا شديدًا من الأصوليّين غير الحنفية، فوصفه الغزالي بأنّه «فاسد، والبرهان قاطعٌ على أنّ نصب السبب حُكمٌ شرعي، فيُمكن أن تُعقل علته، ويمكن أن يتعدّى إلى سبب آخر»
(2)
، وقال ابن تيمية: هو «خلاف ما عليه الفقهاء، وهو قولٌ باطلٌ قطعًا»
(3)
. قلت: ومما يؤكد فساده وبطلانه إطباقُ القائسين، حتى الحنفيّة، على قياس ما يشوِّش الذهن على الغضب في «لا يقضي القاضي وهو غضبان» ، فهو «قياس مظنّة على مظنّة» كما قال ابن دقيق العيد
(4)
. والفروعُ المنقولة عن أبي حنيفة، رحمه الله، وحاصلها قياس الأسباب على الأسباب، كثيرة، ولكنّ الحنفيّة يعتذرون عنها بأنّها ليست قياسًا وإنّما دلالة نص (مفهوم موافقة)، أو تنقيح مناط
(5)
، وإذا كان الأمر كذلك تؤول المسألة إلى خلافٍ في اللفظ والتسمية، ولا ثمرة لها، وهو ما انتهى إليه عددٌ ممن أفرد المسألة بالبحث
(6)
.
والموطن الثاني: اختلفوا في العلة الغائية (حكمة الحُكم أو حكمة السبب) إذا عادت - بعكسها - على مظنتّها المنصوصة بالتخصيص أو التقييد، سواء أكانت هذه المظنة محلّاً للحكم التكليفي، أم الوضعي، كما حصل في استثناء الشافعي "السفر الآمن" من عموم المظنة (السفر) في حديث النهي عن سفر المرأة إلا بمحرم.
وقد أفردنا مسألة عود العلة على أصلها بالتخصيص هذه بالبحث والتأصيل والتمثيل في كتاب "أثر تعليل النص على دلالته"، وزدناها توضيحًا في بحث "فوائد تعليل الاحكام"، وحاصل القول فيها: إنّه يجوز من حيث المبدأ التخصيص والتقييد بالعلّة، ومع ذلك تظل كلُّ مسألة فقهية خاضعةً لنظر خاصٍّ من المجتهد على حيالها، يعتمد على الموازنة بين قوّة العلة/ الحكمة من جهة، وقوّة شمول العموم/ الإطلاق للمحلّ أو الفرد الذي يُراد إخراجه منه
(1)
أبو الحسين البصري، المعتمد، 2/ 96.
(2)
المستصفى، 329 بتصرف.
(3)
ابن تيمية، الصارم المسلول، 487.
(4)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، 2/ 272.
(5)
السرخسي، أصول السرخسي، 1/ 242.
(6)
ينظر: الربيعة، "القياس في الأسباب"، أضواء الشريعة، عدد 12، 93؛ النملة، المهذب في علم أصول الفقه المقارن، 4/ 1946.
بالحكمة من جهة أخرى، فكما الحكمة على درجات من حيث القوّة، فكذلك العموم تتفاوت قوّة دلالته على الأفراد/ المحالّ المشمولةِ به بحسب الفرد/ المحل المراد تخصيصه هل هو كثير أو قليل، نادر أو غالب، يخطر بالبال عند ذكر العموم أو لا يخطر.
فإذا تقرّر ما سبق وتحرّر محل النزاع في التعليل بالحكمة الذي يعارض التعليل بالمظنة فقد آن الأوان لبيان العوامل المؤثِّرة في التعليل بأحد الأمرين عند التقابل: المظنة أو الحكمة.
الفرع الثاني: بيان العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنّة أو بالحكمة في الوقائع:
هي باستقرائنا العوامل التسعة الآتية:
1.
كون المظنّة أو الحكمة منصوصة أو اجتهادية.
2.
وجود نصٍّ صريح يلغي التعليل بالمظنّة أو الحكمة في عين الواقعة.
3.
مدى احتياج التعليل بالمظنّة، أو بالحكمة، إلى تأويل ظاهر النصّ أو تخصيصه.
4.
مذاهب الصحابة في الواقعة محلّ النظر، وهل جرت مع المظنّة أو مع الحكمة.
5.
مدى الخفاء أو الاضطراب في الحكمة، والذي قد يتغيّر بتغيّر الزمان.
6.
مدى إفضاء المظنّة إلى الحكمة، والذي قد يتغيّر بتغيّر الزمان.
7.
مدى قوّة مناسبة الحكمة لحُكم الواقعة.
8.
مدى انفراد الحكمة بحكم الواقعة.
9.
كون الواقعة المعلّلة في مجالٍ يكثر فيه التعبُّد، أو في مجالٍ يكثر فيه التعليل.
أوّلًا: كون المظنّة أو الحكمة منصوصة أو اجتهادية:
لا شك في أنّ النص الشرعي له الصدارة في نظر المجتهد عند تقرير الحكم الشرعي في مواطن الخلاف، فهو يعلو ولا يُعلى عليه، ويقضي ولا يُقضى عليه. ولذلك لا تتمتّع المظانّ التي لا تستند إلى نصٍّ صريح - بأن قال بها العلماء اجتهادًا - وكذلك الحِكَم
المستنبطة، لا تتمتّعان بنفس الوزن والاعتبار الذي تناله المظانّ والحِكَم المنصوصة أو المجمع عليها.
وللمظنة والحكمة في آحاد الوقائع أربعُ حالات من حيث الاستناد إلى النص، أو الاجتهاد، كالآتي:
الأولى: أن تكون المظنة منصوصة والحكمة اجتهاديّة.
الثانية: العكس: بأن تكون الحكمة منصوصة والمظنة اجتهاديّة.
والثالثة: أن تكون المظنة والحكمة كلاهما منصوصًا.
والرابعة: العكس: بأن تكون المظنة والحكمة كلاهما اجتهاديًّا.
وفيما يلي إلقاء للضوء على هذه الحالات الأربع:
الحال الأولى: أن تكون المظنة منصوصة والحكمة اجتهادية:
ومثال ذلك النهي عن سفر المرأة إلا مع محرم أو زوج، فالسفر، وهو المظنة، منصوصٌ عليه، وأمّا الحكمة، وهي أمن الطريق، فمستنبط، لذلك دار الجمهور مع المظنة ونازعوا في أنّ الأمن وحده هو المقصود من النهي، لأنّ المرأة، بالإضافة إلى الأمن، تحتاج إلى من يقوم على حاجاتها في السفر أيضًا
(1)
.
ومثاله أيضا قطع الزكاة عن المؤلّفة قلوبهم، كما في اجتهاد أبي حنيفة، رحمه الله، لأنّ إعطاء النبي، صلى الله عليه وسلم، إيّاهم كان معلولًا بحكمة ضعف المسلمين، فكأنّ إعطاءَهم كان لحاجة الدولة إليهم دفعًا لخطرهم المحتمل إذا ما انقلبوا، أو دفعًا لخطر مَنْ وراءَهم من الكفار، أو تكثيرًا لسواد المسلمين، ومع عزّة الإسلام، وانتشاره، وكثرة أتباعه، تنتفي هذه الحكمة. والجمهور داروا مع المظنة وهي وجود وصف التأليف نفسه، لا مع الحكمة المذكورة، ورأوا أنّ التأليف والتحبيب في الإسلام مقصودٌ أيضًا بغضّ النظر عن حاجة الدولة للمؤلّفة وعدمها، ومن ثَمّ لا يتأثّر بقوّة الدولة وضعفها
(2)
.
(1)
ينظر: ابن الهمام، فتح القدير، 2/ 421.
(2)
ينظر: أبو عبيد، الأموال، 720؛ ابن هبيرة، اختلاف الأئمة العلماء، 1/ 215.
الحال الثانية: أن تكون الحكمة منصوصة والمظنّة اجتهادية:
الغالب في الشرع النصّ على المظنة لا على الحكمة، ولكن ثمّة حالات ينصّ الشارع على وصف لا يبلغ الغاية في الانضباط والظهور، أو ربّما صارت تلزم عنه مفسدة بتغيّر الزمن، فيجتهد الفقهاء بوضع ضابط لهذا الوصف يكون مظنة له، وينيطون الحكم بهذه المظنة الاجتهادية، ويقطعونه عن الوصف الشرعي المنصوص (المظنة المنصوصة)، أي أنّهم يقيمون المظنة الاجتهادية مقام المظنة المنصوصة. وحينئذٍ تُصبح المظنة المنصوصة حِكمةً بالنّسبة إلى المظنّة الاجتهادية؛ لأنّ هذه الأخيرة (المظنة الاجتهادية) تُفضي إليها (أي إلى المظنة المنصوصة) وتضبطها. وكنا قد أشرنا إلى أنّ اعتبار وصف ما "مظنة" أو "حكمة" هو أمر نسبي في عديد الأحيان تحكمُه ظاهرة تسلسل العلل والأوصاف، فيكون الوصف مظنةً بالنسبة لما يقع بعده في التسلسل من الأوصاف، ويكون حكمةً، في الوقت نفسه، بالنسبة لما يقع قبله
(1)
.
ومثال هذه الحالة نوط جمهور الفقهاء وجوب المهر كاملًا على الزوج بمجرّد خلوته بالمرأة، مع أنّ النصّ علَّق الحكم ظاهرًا بالدخول ولم يذكر الخلوة، ولكن لما رأى كثيرٌ من الفقهاء أنّ الدخول يتّصف بالخفاء عن الشهود، فيعسر إثباته في مجاري القضاء، إذا ادّعته المرأة ونفاه الزوج، ناطوا الحكم بمظنّته، وهي الخلوة، وأداروا الحكم معها بغضّ النظر عن حصول الدخول وعدمه
(2)
.
ومثال ذلك أيضًا نوطُ الفقهاء البلوغَ بسنٍّ معيّنة، سواء ظهرت علامات البلوغ على المكلّف أم لم تظهر، مع أنّ الشرع نصّ على الاحتلام والحيض ولم ينصّ على السنّ، لكنّهم اعتبروا أنّ هذه السنّ مظنّة للبلوغ الحقيقي، واختلفوا في تقديرها اختلافًا كثيرًا. وكذلك اختلفوا في السنّ التي يثبت معها النَّسب من الزوج، فبعضهم جعلها سنّ البلوغ نفسها؛ لأنها مظنّة القدرة على الإنجاب؛ وبعضهم نزل فيها دون ذلك؛ لأنّ البلوغ الحقيقي كثيرًا ما يكون بأقلّ منها في الواقع، والنَّسب مبناه على الاحتياط
(3)
.
(1)
صالح، "العلّة والحكمة والتّعليل بالحكمة"، مجلة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، م 31، عدد 2، 86.
(2)
ينظر: الطحاوي، مختصر اختلاف العلماء، 2/ 348.
(3)
ينظر: السبكي، إبراز الحكم من حديث رفع القلم، 70.
وقريبٌ من ذلك أيضًا اجتهاد أبي حنيفة، رحمه الله، في حدِّ سنّ الرشد (الذي يَدفع الوليُّ بموجبه المالَ إلى اليتيم) بما لا يتجاوز خمسًا وعشرين سنة
(1)
، مع أن الآية الموجِبة للدفع أطلقت إيناس الرشد من اليتيم من غير حدّه بسنّ معينة، لكن رأى أبو حنيفة، رحمه الله، أنّ سنّ خمس وعشرين مظنّة غالبة للرشد فناط الحكم بها، سواء أُنِس الرشد من اليتيم فِعلًا أم لا، وذلك دفعًا لتعسّف الأولياء في ادّعاء عدم رشد اليتيم على ما يبدو.
الحال الثالثة: أن تكون المظنّة والحكمة كلاهما منصوصًا:
وهو كثيرٌ في الشرع، كما ورد النص في رخصة الفطر في رمضان في السفر والمرض لحكمة التيسير. والأمر بالوضوء عند القيام للصلاة لحكمة التطهير، والأمر بالزواج عند الباءة لأنه أغض للبصر وأحصن للفرج، وندب الاقتصار على زوجة واحدة لأنه أبعد عن الظلم أو عن الفقر على اختلاف المفسرين في قوله تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]
(2)
، وتحريم الخمر والميسر للعداوة والبغضاء والصد عن الذكر، وورد تحريم الخمر في السنة معلَّلا بالإسكار، وهو نوع ضبط للحكمة المذكورة في القرآن، لأنّ حصول السكر هو مظنة حصول العداوة والبغضاء والصد عن الصلاة والذكر. والنهي عن السفر بالقرآن مخافة أن يناله العدو، والنهي عن مناجاة اثنين دون الثالث؛ لأنّ ذلك يحزنه، وغير ذلك كثير.
الحال الرابعة: أن تكون المظنّة والحكمة كلاهما اجتهاديًّا:
وهذا إنما يكون في الأحكام غير المنصوص على مظنتها ولا على حكمتها، وهي الأحكام القائمة على الاستصلاح المرسل، كالذي يكون في التنظيمات الإدارية والأحكام الوضعية، كإلزام المفتي والقاضي بالقضاء بمذهب معين أو بالمعتمد منه أو بالقانون، وذلك لحكمة ضبط القضاء ومنع التلاعب به، وإلزام الناس بقواعد المرور والعقاب على تركها، وكذا إلزامهم باستصدار بطاقات الهوية وجوازات السفر ورخص العمل والإقامة وغير ذلك من
(1)
السرخسي، المبسوط، 24/ 162.
(2)
ينظر: الطبري، جامع البيان، 7/ 458.
التنظيمات الإدارية التي تهدف إلى حفظ المصالح على الناس ودفع المفاسد عنهم بوسائل منضبطة بأسبابها وشروطها وموانعها من جهة الاجتهاد لا النص.
وعدمُ وجود النص الشرعي على هذه الوسائل/ المظانّ بعينها، ولا على نظيرٍ قريب منها يمكن قياسها عليه، لا يعني عدم مشروعيّتها واعتبارها، وذلك لأنَّ المصالح الناجمة عنها تندرج بأجناسها العُليا في المصالح الشرعية، فكونها أحكامًا مرسلة يعني أنها مرسلة عن النص والقياس اللذين يشيران إلى المعنى المصلحي المترتب عليها بعينها أو بنوعها القريب، وليست مرسلة عن جنس المصالح الشرعيّة، كعموم حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل والعرض، بل هي مندرجة فيها، ولذلك كانت هذه المظانّ المحقِّقة لهذه المصالح المندرجة في عموم مقاصد الشريعة مظانَّ معتبرةً شرعًا.
والحاصل بعد استعراض هذه الحالات الأربع وأمثلتِها، أنّ النص على المظنة أو الحكمة أو الإجماع عليهما يجعل لهما مزيّةً واعتبارًا أقوى ممّا لو لم يكونا منصوصين، وذلك لما يحمله النصّ - وكذا الإجماع - من دلالة على اعتبار الشارع لهما.
ومما تجدر الإشارة إليه هاهنا أنّ النصّ على كلٍّ من المظنة أو الحكمة قد يكون بنصٍّ واحد أو بمجموعة نصوص، وقد يكون بنصٍّ أو نصوصٍ صريحة أو غير صريحة (إشارية). وكلُّ هذا يؤثّر في مدى قوّة الاعتماد على كلٍّ من المظنّة أو الحكمة. ومثال ذلك مسألة النهي عن سفر المرأة إلا بمحرم، حكمتها وهي أمن الطريق مستنبطة، لكن قوّاها الشافعية بالمعنى الإشاري الذي جاء في الحديث:«لترينّ الظعينة ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلا الله»
(1)
.
ومثال ذلك أيضًا النهيُّ عن إسبال الثوب، جاء مطلقًا في نصوصٍ ومقيَّدًا في أخرى بحكمة الخيلاء
(2)
، وجاء في نصٍّ شبه صريح نوطُ حكم الإسبال، من جهة العدم، بالخيلاء، حيث قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:«إنّك لست تصنع ذلك خيلاء»
(3)
. وقد كان لذلك
(1)
البخاري، الصحيح، 4/ 197.
(2)
ينظر: المرجع السابق، 7/ 141؛ مسلم، الصحيح، 1/ 102.
(3)
البخاري، الصحيح، 5/ 6.
أثرٌ كبير في تبنّي جمهور الفقهاء القول بعدم نوط حكم التحريم بمجرّد الإسبال (المظنة)، بل بما يتضمّنه الإسبال عرفًا من معنى الخيلاء (الحكمة).
ثانيًا: وجود نصٍّ صريح يلغي التعليل بالمظنّة أو الحكمة في عين الواقعة:
هذا العامل يؤثّر بطريقة معاكسة للعامل السابق؛ إذ عِوضًا عن تأييد اعتبار المظنة أو الحكمة بالنص، قد يعمد الشارع إلى إلغاء اعتبار التعليل بأحدهما بالنصّ على هذا الإلغاء.
ومن الأمثلة على ذلك عدم اعتبار «الشّبَه» في إلحاق نسب المولود بالزوج أو السيّد؛ إذ ممّا لا شكّ فيه أنّ انقطاع الشبه بين المولود والزوج -كولدٍ أبيضَ لزوجين أسودين أو العكس - وإن لم يكن قاطعًا في انتفاء النسب، فهو مظنّة قويّة للارتياب فيه. ومع هذا فقد ألغاه النبي، صلى الله عليه وسلم، على حياله، حُجّة لإثبات النسب أو نفيه، كما دلّ عليه الحديثان: حديث «لعلّه نزعه عرق»
(1)
، وحديث ولد زَمْعة:«الولد للفراش»
(2)
.
ومن الأمثلة أيضًا إعلانُ الكافر لإسلامه مع قيام قرائن عدم صدقه في ذلك، كأن يعلن كلمة الإيمان تحت السيف، فغالب الظنّ أنه أسلم تعوّذًا لإحراز دمه لا إيمانًا. ومع ذلك جاء النص بلزوم العمل بالمظنة (إعلان كلمة الإسلام)، وترك التعويل على الحكمة (حقيقة الإيمان)، كما دلّ عليه حديث أسامة بن زيد، رضي الله عنه، حين قَتل من نطق بكلمة التوحيد خوفًا من السيف، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم:«يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله»
(3)
.
ومنها: تركُ التعويل على ظنّ الإحداث في الصلاة بمجرّد الحسّ الداخلي، من دون سماع صوت ظاهر أو شمّ ريح
(4)
، وفي هذا دليل على لزوم ترك العلامة الخفية (مظنة الإحداث)، والتعويل على العلامة الظاهرة القطعية التي يُتيقّن معها من حصول الحكمة (حقيقة الإحداث)، فهو نقل للاعتبار من المظنة إلى المئنة/ الحكمة. وكذلك في الحكم بنجاسة الثوب أو المكان دلّت أدلة شرعية عدّة على اعتبار المئنة/ الحكمة وعدم التعويل على المظانّ.
(1)
المرجع السابق، 7/ 53؛ مسلم، الصحيح، 2/ 1137.
(2)
البخاري، الصحيح، 3/ 81؛ مسلم، الصحيح، 2/ 1080.
(3)
البخاري، الصحيح، 5/ 144؛ مسلم، الصحيح، 1/ 96.
(4)
ينظر: البخاري، الصحيح، 1/ 39؛ مسلم، الصحيح، 1/ 276.
ومن الأمثلة على إلغاء اعتبار التعليل بالحكمة في بعض المواطن ما دلّ النصُّ على بقائه من الأحكام بعد زوال حكمته التي شرُع لأجلها ابتداء، وذلك كرَمَله واضطباعه، صلى الله عليه وسلم، في حجّة الوداع، ولم يكن يومئذٍ بمكة مشرك، فدلّ ذلك على إلغاء التعليل بالحكمة التي شُرع الرمل والاضطباع لأجلها في عمرة القضية، وهي إظهار القوّة والجلَد للمشركين
(1)
.
ومن ذلك أيضًا: إلغاءُ التعليل بحكمة الخوف التي لأجلها شُرع القصر في السفر: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 101]، وذلك لاستمرار فعل النبي، صلى الله عليه وسلم، القصر، حتى مع ارتفاع الخوف، ولقوله حين روجع في ذلك:«صدقةٌ تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته»
(2)
.
ومما يجدر التنبيه إليه هنا أنّ زوال الحكمة في هذه الوقائع لا يعني أنّ الحكم استمرّ من غير حكمة مطلقًا، فهذا غير وارد لأنّ الشارع حكيم، بل كلُّ ما في الأمر أنّ الحُكم شرُع ابتداءً لحكمة معيّنة ثمّ استمرّ لحكمةٍ أخرى خَلَفتِ الحكمةَ الأولى.
ثالثًا: مدى احتياج التعليل بالمظنّة، أو بالحكمة، إلى تأويل ظاهر النصّ أو تخصيصه:
قد لا يلزم أن تكون المظنة أو الحكمة المقول بهما اجتهادًا واقعتين في مقابل نصٍّ صريح، بل في مقابل نصٍّ ظاهرٍ أو عام. وحينئذٍ تتباين مسالكُ الفقهاء في اتّباع أيٍّ منهما.
ومثال ذلك حادثة الأمر بالصلاة في بني قريظة المشهورة
(3)
، فمن اعتبر الحكمة نظر إلى الإسراع فصلى في الطريق عندما خشي فوات الوقت فاستثنى من عموم النص في الأحوال هذه الحالة، ومن لم يعتبر الحكمة لمعارضتها ظاهر النص صلّى في بني قريظة ولو خارج الوقت، أو يُقال بأنّه رأى أنّ النزول إلى الصلاة في الطريق مع ما يستلزمه من التأخير، ولو يسيرًا، يفوّت حكمة الإسراع ولو جزئيًّا. وحينئذٍ يكون الخلاف بين الطرفين لا لمجرّد التعارض بين اللفظ والمعنى، كما درج كثيرون على ذكره، وإنما بسبب اختلاف وجهة النظر فيما يحقِّق الحكمة على التمام أو ينتقصها بعض الشيء. وهو ما نرجّحه لأنّ معنى الإسراع
(1)
البخاري، الصحيح، 2/ 159؛ مسلم، الصحيح، 2/ 923.
(2)
مسلم، الصحيح، 1/ 478.
(3)
البخاري، الصحيح، 2/ 15؛ مسلم، الصحيح، 3/ 1391.
المفهوم من النص في غاية الجلاء، ويبعُد أن تغفله طائفة كبيرة من الصحابة بالكلّيّة وتتشبّث بالألفاظ بجمود، على طريقة الظاهرية.
وكنّا قد أشرنا سالفًا في مقدّمة هذا المطلب إلى مسألة "تأثير تعليل النص على دلالته"، وإلى حاصل القول فيها، فلا نكرّر الكلام هنا.
وأحيانًا تكون المظنة المقول بها اجتهادًا هي المعارضة لظاهر النص لا الحكمة، كما في اجتهاد الجمهور في إناطة ثبوت المهر بالخلوة لا بالدخول، وكما في اجتهاد أبي حنيفة بتقييد إيناس الرشد بسنّ معيّنة على خلاف إطلاق نص الشارع.
وفي هذه الأحوال - عندما تقع الحكمة أو المظنة الاجتهادية - في مقابل ظاهر النص يلجأ المجتهد إلى الموازنة بين الظنّين: الظنّ المستفاد من ظاهر النص، والظنّ المستفاد من الحكمة أو المظنة الاجتهادية، ولا شكّ أنّه لا يصير إلى ما تقتضيه المظنة أو الحكمة إلا إذا وجد إحداهما من القوّة بمكان بحيث تفوق قوّة الظهور في ألفاظ النصّ المقابل لها.
رابعًا: مذاهب الصحابة في الواقعة محلّ النظر، وهل جرت مع المظنّة أو مع الحكمة:
مذاهب الصحابة، رضوان الله عليهم، تحظى بتقديرٍ كبير من الفقهاء، ولا شكّ في أنّ الصحابة إذا اتّفقوا على حكم المسألة، سواء أكان حكمهم سائرًا مع المظنة، أم مع الحكمة، فإنّ الفقهاء يتّبعونه، ولكن الذي يحصل كثيرًا أن تكون أقوالهم مختلفة، أو تُنقل المسألة عن الواحد منهم، أو عن العدد اليسير، من غير تحقُّق من انتشار قولهم وما عساه يكون مؤشِّرا على إجماعهم عليه، وحينئذٍ يتفاوت الفقهاء في العمل بأقوالهم التي تجري مع المظنة أو مع الحكمة، ولاسيّما إذا لزم من هذه الأقوال تأويلُ النصّ الشرعي أو تخصيصه، كمثل اجتهاد عمر، رضي الله عنه، في المؤلّفة قلوبهم
(1)
، حيث ناط الحُكمَ بحكمةٍ مستنبطة، تخصِّص النص بحالٍ دون أخرى، وكما في اجتهاده، رضي الله عنه، في نقل الدية من العاقلة إلى أهل الديوان
(2)
، وهو قياس مظنة على مظنة بحكمة التناصر، وكما في اجتهاد عثمان، رضي الله عنه، بتوريث المبتوتة في مرض الموت
(3)
؛ نظرًا إلى الحكمة، وهي معاملة المطلِّق في مرض
(1)
قلت: «أخرجه من حكاية عَبيدَة السَّلماني ابنُ أبي شيبة (المصنف: 6/ 473) مختصرا. والبخاري (التاريخ الأوسط: 1/ 56) مختصرا، ويعقوب بن سفيان الفسوي (المعرفة والتاريخ: 3/ 293)
…
والبيهقي (السنن الكبرى: 7/ 32)، وابن عساكر (تاريخ دمشق: 9/ 195)، «بإسنادٍ صحيح» ، كما قال ابن حجر (الإصابة في تمييز الصحابة: 1/ 254)» ينظر: صالح، أهل الألفاظ وأهل المعاني: دراسة في تاريخ الفقه، 23.
(2)
عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، 9/ 159.
(3)
المرجع السابق، 7/ 26؛ وصححه الألباني، إرواء الغليل، 6/ 159.
الموت بنقيض قصده، مع أن ذلك مخصِّصٌ لظواهر النصوص القاضية بعدم ميراث المبتوتة، ومُخرِجٌ حالَ مرض الموت منها، وكما في جَعْل عمر، رضي الله عنه، وأكثرِ الصحابة، ثبوتَ كامل المهر منوطًا بالخلوة لا بالدخول
(1)
، وحكمِهم بوفاة المفقود بعد أربع سنين
(2)
، وجعْلِهم حدَّ شرب الخمر ثمانين
(3)
؛ لأنّ الشارب في مظنة القاذف فأُلحق به، فهو من القياس في المظانّ، وهذا مخالفٌ لما كان عليه الحال في زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، وزمن أبي بكر، رضي الله عنه
(4)
.
وعند اختلاف الصحابة، فإنّه من الملاحظ أنّ الشافعي، رحمه الله، يَجري - في الغالب - مع المذاهب التي لا يلزم منها تخصيصُ النصوص وتأويلها، حتّى لو كان القائلون بها قلّةٌ من الصحابة خالفوا بها جمهورهم، أو خالفوا مذاهب الخلفاء الراشدين، بخلاف بقيّة الأئمة المجتهدين الثلاثة أبي حنيفة ومالك وأحمد، عليهم الرحمة، ولذلك لم يَقُل الشافعي بتوريث المبتوتة في مرض الموت
(5)
، ولا بالحكم بوفاة المفقود في أربع سنين
(6)
، ولا بنقل الدّية إلى أهل الديوان
(7)
، ولا بالجلد ثمانين في الخمر
(8)
، ولا بثبوت كامل المهر بالخلوة
(9)
، وغير ذلك ممّا لو استُقرئ لوجد كثيرًا، ولعلّ هذا كان سببًا في توهّم من قال من الشافعية: إنّ الشافعي لا يحتجّ بأقوال الصحابة، مع أنّ هذا مخالفٌ لما صرَّح به من اعتماده عليها
(10)
. ولعلّ الصواب القول إنّه يحتجّ بآثار الصحابة، وبقول جمهورهم، لكن إذا لم تقتض تأويلَ النصّ. والمسائلُ المنقولة آنفًا تخالف أقوالُ جمهورِهم فيها ظاهرَ النصّ، فلعلّه لهذا لم يأخذ بها، رحمه الله. والله أعلم.
خامسًا: مدى الخفاء أو الاضطراب في الحكمة، والذي قد يتغيّر بتغيّر الزمان.
الحكمة هي الوصف الحقيقي المقصود من الحُكم، ولكن يَعدِل الشارع عن نوط الحكم بهذا الوصف إذا كان خفيًّا أو مضطِّربًا، إلى نوطه بوصفٍ ظاهرٍ منضبط هو مظنّة له. وهذا العدول لثلاث غايات: التسهيل والاحتياط وقطع النزاع، وقد أفضنا في بيان ذلك في بحثٍ سابق
(11)
.
(1)
عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، 6/ 338؛ وصححه الألباني، إرواء الغليل، 6/ 356.
(2)
عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، 7: 47؛ وصححه الألباني، إرواء الغليل، 6/ 150.
(3)
مسلم، الصحيح، 3/ 1331.
(4)
المرجع السابق.
(5)
الشافعي، الأم، 5/ 241.
(6)
المرجع السابق، 1/ 299.
(7)
المرجع السابق، 6/ 124.
(8)
المرجع السابق، 7/ 192.
(9)
المرجع السابق، 5/ 264.
(10)
العلائي، إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، 37.
(11)
صالح، "التعليل بالمظنة لا بالحكمة: دراسة أُصولية"، مجلة الصراط، م 21، عدد 38، 59.
والحِكَم، في اتّصافها بالخفاء أو الاضطراب، طرفان وواسطة:
فمنها حِكَمٌ ظاهرة منضبطة يتّفق أكثر الفقهاء على نوط الحكم بها وجودًا وعدمًا، كحكمة الإسكار في الخمر، وحكمة الإنقاء في الاستجمار، وحكمة تطهير الأسنان في الاستياك، وحكمة إرهاب العدوّ في الأمر بإعداد القوة ورباط الخيل، وغير ذلك من الحِكَم التي يدور معها الحكم وجودًا وعدمًا.
ومنها حِكَمٌ غايةٌ في الخفاء أو الاضطراب، لذلك يتّفق الفقهاء على عدم نوط الحكم بها في ذاتها، بل بمظنّتها، كوصف الرضا في العقود، والعمدية في القتل الموجب للقصاص، والمشقّة في رخصة الإفطار، والزجر في وجوب الحدود.
ومنها حِكَمٌ هي في الوسط، ولذلك يختلف الفقهاء بين نوط الحكم بها مباشرة، أو بمظنتها:
كحكمة ثبوت كامل المهر هل يكون بالخلوة أو الوطء، لأنّ الوطء مما لا خفاء فيه في ذاته، بل هو ظاهر منضبط علّق الشارع به كثيرًا من الأحكام، كوجوب الغسل، ووجوب الحدّ، وغير ذلك، ولكن في موضوع ثبوت المهر احتيج إلى ظهورٍ يمكن إثباته عند تنازع الزوجين - أو ورثة أحدهما - فيه بين منكر ومثبت، والوطء ممّا يعسر إثباته بالبيّنة عند النّزاع، ولذلك أُقيمت الخلوة مقامه عند الجمهور؛ لأنّها ممّا يتيسّر إثباتها بالبيّنة عند الإنكار
(1)
.
ومن ذلك أيضًا حكمة الشهوة - أو اللّذة - التي علّق بها المالكية
(2)
والحنابلة
(3)
حكمَ نقض الوضوء؛ إذ كثيرًا ما يختلط أمرها على المكلّف، ولذلك علّق الشافعيّة
(4)
الحكم بمظنّتها لا بعينها، وهو لمس من هنّ مظنّة للشهوة من النساء، سواء حصلت الشهوة أم لم تحصل.
ومما تجدر الإشارة إليه هاهنا أن الحكمة قد تكون خفيّة أو مضطربة في زمن النص، أو بعده، فينيط الشارع أو الفقهاء الحكم بمظنّتها، ولكن بتغيّر الزمن تنقلب هذه الحكمة من
(1)
ينظر: ابن رجب، القواعد، 3/ 132؛ ابن قدامة، المغني، 8/ 100.
(2)
الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، 1/ 296.
(3)
البهوتي، كشاف القناع، 1/ 301.
(4)
الشربيني، مغني المحتاج، 1/ 145.
وصف الخفاء إلى وصف الظهور فتحتاج حينئذٍ المسألة إلى إعادة اجتهاد؛ لأنّ الحُكم إنما شُرع للحكمة لا للمظنّة، وأُنيط بالمظنّة في زمن النص أو زمن الفقهاء استثناءً لمصلحة الضبط والتيسير، فإذا أمكن نوطُه بالحكمة مباشرة في الأزمان اللاحقة؛ لأنّها أصبحت ظاهرة منضبطة فهو أولى. قال الآمدي (ت 631 هـ):«إذا كانت الحكمة - وهي المقصود من شرع الحكم - مساويةً للوصف في الظهور والانضباط كانت أولى بالتعليل بها»
(1)
. وقال الزَّنجاني (ت 656 هـ): «حيث اعتبرنا صور الأسباب دون مضمونها فذلك لتعذُّر الوقوف والاطّلاع على مضمونها، وإلا فمتى أمكن الاطّلاع على مضمون السّبب فهو المعتبر لا صورة السّبب»
(2)
. وقال القرافي (ت 684 هـ): «القاعدة: أنّه لا يُعدَل إلى المظنّة إلا عند عدم انضباط الوصف [أي الحكمة] دائمًا أو في الأغلب»
(3)
. وقال ابن تيميّة (ت 728 هـ): «المظنّة إنّما تُقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفيّةً، أو غير منضبطة، فأمّا مع ظهورها وانضباطها فلا»
(4)
. وقال الرّهوني (ت 773 هـ): «لو وُجدت حكمة مجرّدة، وكانت ظاهرة منضبطة بحيث يمكن اعتبارها ومعرفتها، جاز اعتبارها وربطُ الأحكام بها على الأصحّ؛ لأنّا نعلم قطعًا أنّها هي المقصودة للشارع، واعتباره المظنّة لمانع خفائها واضطرابها، فإذا زال المانع من اعتبارها، جاز اعتبارها قطعًا»
(5)
. وقال الونشريسي (ت 914 هـ): «مَنْعُ التعليل بالحكمة مشروطٌ بالخفاء أو عدم الانضباط. أمّا مع الظهور والانضباط فلا على ما هو المختار»
(6)
.
ومن الأمثلة على ذلك حكمُ بعض الفقهاء بعدم جواز شقّ بطن المرأة الحامل المتوفّاة لاستخراج الجنين، لأنّ الغالب موتُه بموتها. فناطوا الحكم بالمظنة؛ لأنّ الوقوف على حقيقة حياته لم تكن ممكنة في زمنهم. قال إسحاق بن راهويه (ت 238 هـ):«وكيف يجوز ذلك، وليس أحد يستيقن بأنّه ولدٌ حي؟!»
(7)
، وأمّا اليوم فلا حاجة لأن يُناط الحكم بالمظنة، بل يُناط بحقيقة الحكمة مباشرة، وهي حياة الجنين، فيُقال إن كان حيًّا، ويمكن إخراجه حيًّا، فيجوز شقُّ بطنها لاستخراجه، وإلا فلا يجوز، ويسهل على الأطباء اليوم تحديد ما إذا كان الجنين في بطنها حيًّا أو ميتًا قبل إجراء عملية الشقّ عن طريق أجهزة السونار.
(1)
الآمدي، الإحكام، 3/ 203.
(2)
الزنجاني، تخريج الفروع على الأصول، 300.
(3)
القرافي، الفروق، 2/ 170.
(4)
ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، 1/ 348.
(5)
الرهوني، تحفة المسؤول، 4/ 28.
(6)
الونشريسي، المعيار المعرب، 6/ 295.
(7)
الكوسج، مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، 7/ 3743.
ومن الأمثلة أيضًا نوطُ ثبوت النسب بأسباب ثانوية غير الزواج، كالشهادة والإقرار والقيافة والقرعة ونحوها، وإناطة الحُكم بنفي النسب باللعان، فحكمةُ ثبوت النسب، كما دلّت عليها نصوص الشرع، واتّفق عليها الفقهاء هي البعضية - أو الجزئية - بين الوالد والمولود، أي كون هذا من صلب هذا، {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23]، ولكن لما كان يتعذّر الوقوف عليها بعينها لخفائها نيطَ حُكم النسب بأسباب أخرى ظاهرة، كالفراش، وما أُلحق به من أسباب. وفي هذه الأيام أمكن الوقوف على البعضية ذاتها بين المولود والزوج بيقين عن طريق فحص البصمة الوراثية، لذلك ينبغي أن يُعاد النظر في الأحكام الاجتهادية التي لجأ إليها الفقهاء في تقرير أسباب النسب ونفيه؛ لأنهم بنوها على خفاء الحكمة في زمنهم، والحكمة الآن ظاهرة. والحكمة إذا ظهرت وانضبطت نيط الحكم بها لا بمظنتها، وقد قدّمنا في ذلك نظرات فقهية موسّعة، تستند إلى دلائل الشرع وقواعد الأصول ومناهج الفقهاء، في كتاب مستقلٍّ أفردناه لهذا الغرض، فلتُنظر هناك
(1)
.
سادسًا: مدى إفضاء المظنّة إلى الحكمة، والذي قد يتغيّر بتغيّر الزمان.
المظنّة - كما أسلفنا - هي المحلّ الذي يغلب فيه وجود الحكمة، ولذلك سُمّيت مظنة؛ لأنّ الحكم يُظنّ عندها. فإذا لم تفض هذه المظنة إلى تحقيق حكمة الحكم ومقصوده في جميع الأفراد والجزئيّات المنضوية تحت الحكم، أو أكثرها، لم تكن مظنّة، وفقدت المزية التي لأجلها ناط الشارع الحكمَ بها، بدلًا عن نوطه بالحكمة ذاتها.
وممّا يقتضيه كونها مظنةً التسليمُ بوجود بعض الجزئيات التي تشملها هذه المظنة بالحكم، ومع ذلك لا يتحقّق فيها المقصود من الحُكم (الحكمة). فهذا لا يلغي كون المظنّة مظنّة، ولا يلغي أيضًا أنّ ثمّة حكمة أخرى سوّغت إمضاء الحُكم على هذه الجزئيات رغم غياب حِكمة هذا الحُكم عنها، وهذه الحكمة هي الضبط بما قد يشمله من التسهيل والاحتياط ورفع النزاع. قال الشيخ عبد الرحمن المعلّمي: «اغتُفر
…
الإخلال بأصل الحكمة في بعض
(1)
صالح، التحقق من النسب بفحص البصمة الوراثية والكشف عن نتائجه العرضية: نظرات فقهية جديدة، 143.
الجزئيّات مراعاةً لِحكمة الضَّبط التي هي أهمُّ»
(1)
. وقال خلَّاف: «تخلُّف الحكمة في بعض الجزئيّات لا أثر له، بإزاء استقامة التّكاليف واطّراد الأحكام»
(2)
.
فمثلًا: شربُ قليل النبيذ لا يؤدّي إلى السكر، المتمثِّل في غياب العقل مع بقاء الحواسّ، المؤدِّي إلى العداوة والبغضاء والصدّ عن الذكر والصلاة، ومع هذا فإنّ هذا القليل مشمولٌ بحُكم التحريم عند جماهير الفقهاء، حتّى مع غياب هذه الحكمة عنه، وذلك لوجود حكمةٍ أخرى خَلَفت الحكمة الأصليّة، وهي الضبط والاحتياط المعبَّر عنه في هذه الجزئيّة بحسْم مادّة الفساد؛ إذ لو لم يُحرَّم هذا القليل لما أمكن المنع من تداول المسكرات واقتنائها والاتجار بها، ولَتَهاون الأفراد في شربها؛ لأنّ شرب القليل منها يؤدّي، مع الاعتياد والألفة، إلى شرب الكثير، هذا فضلًا عن أنّ القدر الذي لا يسكر لا ينضبط، فما يُسكر بعض الناس لا يسكر آخرين، وما يسكر الشخص الواحد في حال قد لا يسكره في حال أخرى. إذن الحكمة من تحريم قليل النبيذ ليست هي حصول السّكر نفسه، وما يترتب عليه، كما في تحريم الكثير، بل هي سدّ ذريعة السكر احتياطًا وضبطًا.
ومثلًا نوط حكم رخصة الإفطار في رمضان بالسفر تتحقّق فيه الحكمة غالبًا، وهي دفع مشقّة الصوم غير المعتادة بسبب السفر الطويل، لكنّها مع ذلك قد تغيب في بعض الأسفار الطويلة في حقّ بعض الناس، ورغم هذا تشملهم الرخصة؛ لأنّ هذه الحكمة (المشقّة الزائدة) غير منضبطة، فالناس يتفاوتون في تقديرها والشعور بها فأنيط الحكم بالسفر الطويل الذي يكون مظنّة لها، حتّى لو لم تتحقّق هي في حقّ بعض الناس فِعلًا، وذلك من باب التسهيل والضبط ورفع الحيرة عن المكلّف عند امتثال الحكم.
والحاصل أنّ الجزئيات أو الأفراد الذين تشملهم المظنّة، ولا يتحقّق فيهم حكمة الحُكم عند نوطه بالمظنة، يتّصفون بصفتين:
أولا: أنهم أقليّة واستثناء بالنسبة لسائر الجزئيّات والأفراد الذين يشملهم حُكم المظنة.
(1)
المعلمي اليماني، آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيي المعلمي اليماني، 2/ 83.
(2)
خلاف، علم أصول الفقه، 66.
ثانيًا: أنّه، حتّى لو لم تتحقّق فيهم حكمة الحُكم نفسه، فإنّه خَلَفتها حكمةٌ أخرى اقتضت شمولهم بهذا الحكم، وهي الضبط، وما ينطوي عليه من التسهيل والاحتياط وقطع النزاع.
ومع التسليم بما سبق من حيث الجملة فالأصوليّون يختلفون في بعض الجزئيات والأفرادِ الذين تشملهم المظنة ولا تشملهم الحكمة: هل يُستثنون من حكم المظنة لعدم وجود الحكمة أو لا. وهذه الجزئيّات هي التي تغيب عنها حكمةُ الحُكم على وجه اليقين، أي أنّه لا احتمال لحصول الحكمة فيها البتة.
وجمهورهم على أنّ هذه الجزئيّات الفاقدة للحكمة قطعًا تُستثنى من حُكم المظنة ويُرفع عنها، وخالف في ذلك الحنفية فالحُكم عندهم يدور مع المظنّة، حتى لو انتفت الحكمة يقينًا عن الفرد الجزئي محلّ الخلاف. قال الآمدي (ت: 631 هـ): «المقصود من شرع الأحكام الحِكَم فَشرْعُ الأحكام مع انتفاء الحكمة يقينًا لا يكون مفيدًا، فلا يَرِد به الشرع خلافًا لأصحاب أبي حنيفة»
(1)
.
ويمثّل الاصوليون لذلك بالمسألة المشهورة: نكاح المشرقي للمغربيّة (أي نكاح من كان بالمشرق لمن هي بالمغرب بالوكالة من دون لقاء) فالجمهور لا يثبتون نسب الولد إذا أتت به المغربيّة لعدم إمكان اللقاء بينها وبين زوجها، فحِكمة البعضيّة التي يدلّ عليها إمكان الوطء بينهما منتفيةٌ قطعًا في هذه الحالة. أمّا أبو حنيفة فينيطُ حكمَ النسب بعقد النكاح نفسه، سواء انتفت اللقيا قطعًا أم لا. وشبيهٌ بهذه المسألة أيضًا من تزوّج وطلّق في المجلس نفسه بحضرة القاضي والشهود، وكذا من قال لامرأة إذا تزوجتك فأنت طالق، فتطلُق فورَ تزوّجها، فالجمهور لا يثبتون نسب ولدها من هذا الزوج للقطع بعدم حصول الجماع بينهما، في حين أنّ أبا حنيفة، رحمه الله، يثبت النسب في هذه الحالات إذا جاءت المرأة بالولد في مُدّة الحمل، وذلك نظرًا إلى وجود العقد
(2)
.
(1)
الإحكام، 3/ 273.
(2)
المرجع السابق؛ الزنجاني، تخريج الفروع على الأصول، 302؛ ابن السبكي، الأشباه والنظائر، 2/ 176؛ الزركشي، البحر المحيط، 4/ 294؛ ابن أمير حاج، التقرير والتحبير، 3/ 146.
ومثال ذلك أيضًا بعض العقود والإيقاعات، كالنكاح والطلاق، فأبو حنيفة، رحمه الله، يصحِّحها إذا وجدت المظنة، وهي الصيغة، حتى لو انتفت الحكمة التي لأجلها اعتُبرت الصيغة، وهي الرضا، كما في حالات الإكراه؛ لأنه يلتزم المظنة، وهي موجودة ولا يلتفت إلى الحكمة وإن انتفت قطعًا. أمّا الجمهور فيستثنون الحالات التي يختلُّ فيها الرضا قطعًا، فلا يصحِّحون هذه العقود والإيقاعات. قال ابن الهمام من الحنفية:«وجميعُ ما يثبت مع الإكراه أحكامُهُ عشرةُ تصرُّفات: النكاح، والطلاق، والرجعة، والإيلاء، والفيء، والظّهار، والعِتاق، والعفو عن القصاص، واليمين، والنَّذر»
(1)
(2)
.
وفي هذا الصدد تنبغي الإشارة إلى أنّ عامل الزمن قد يؤثِّر في مدى إفضاء المظنة إلى الحكمة في بعض الوقائع، فقد تكون المظنة مفضية إلى الحكمة غالبًا في زمن النص إذا كانت هذه المظنة منصوصة، أو في زمن الفقهاء إذا كانت اجتهادية، لكنّها بتغير الزمان والأحوال يقلُّ إفضاؤها إلى الحكمة أو ينعدم، فهاهنا يجدر إعادة الاجتهاد في نوط الحكم بهذه المظنة.
ومثال ذلك الأمر بإعداد رباط الخيل المنصوص عليه في القرآن، وما جاء في السنة في فضل اتخاذ الخيل وتربيتها والإنفاق عليها
(3)
، والحكمة هو أنّها كانت وسيلة حاسمة ومهمّة في الجهاد وتحقيق النصر {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، أمّا اليوم فلم تعد الخيل وسيلةً فاعلة في الحرب،
(1)
فتح القدير، 3/ 489.
(2)
الأشباه والنظائر، 2/ 176.
(3)
ينظر: الأعظمي، الجامع الكامل في الحديث الصحيح الشامل، 7/ 282.
أي أنّ المظنّة لم تعد مُفضيةً إلى الحكمة التي شرعت لأجلها بعد أن كانت كذلك سابقًا، ومن ثَمّ يرتفع حُكم النصّ عنها، وهو ندب اتخاذها، ويرجع حكمها إلى الأصل، وهو الإباحة.
ومثال ذلك، أيضًا، حكمُ الفطر في السفر، إذ جاء السفر مطلقًا في القرآن الكريم، منصوصَ الحكمة وهي التيسير، فرأى جمهور الصحابة - نظرًا إلى الحكمة - تقييدَ هذا الإطلاق بالسفر الطويل، واختلفوا في حدّ الطول على أقوالٍ كثيرة بلَّغها بعضهم نحو عشرين قولًا
(1)
، وارتضى كثيرٌ من الفقهاء من هذه الأقوال القولُ بأنه سفرُ مسافةِ أربعة بُرُد (85 كم)؛ لأنَّ هذه المسافة مظنّة للمشقّة فعلًا، وما دونها ليس كذلك. وهذا الاجتهاد من الصحابة، رضوان الله عليهم، ومن تبعهم من الأئمة الفقهاء، هو من باب تقييد النصّ المطلق بالحكمة المستفادة منه، وهو ضربٌ شائع في اجتهاد الصحابة والأئمة الفقهاء، كما بينّاه في "أثر تعليل النص على دلالته"
(2)
.
وإذا كان سفر أربعة بُرُد (85 كم) مظنة للمشقة فعلًا في زمن الصحابة والفقهاء، ومن بعدهم إلى قريب عصرنا في حقّ معظم الناس، فإنّه - بلا ريب - لم يعد كذلك الآن؛ لأن المسافة المذكورة تُقطع في أقلّ من ساعة بالسيارة في أوقاتنا هذه، في حين كانت في زمن الصحابة والفقهاء تُقطع في يومين أو ثلاثة أيام بلياليها. وعليه احتاجت المسألة إلى إعادة نظر في ضابط السفر المبيح لرخصة الفطر، لأنّه، وكما قلنا، إذا لم تفض المظنة إلى الحكمة غالبًا لا يصحّ وصفها بأنها مظنّتها، ومن ثَمّ فإنّ شرع الحكم معها يعني فقدان حكمته ومقصوده في غالب الأفراد، لا في بعضهم فحسب، كما كان الحال في زمن النصّ وزمن الفقهاء.
ولا يُقال هنا: إنّ الفقهاء والأصوليين نصُّوا على أنّ الحكم في مسألة السفر يدور مع المسافة بغض النظر عن المشقّة، فتُشرع الرخصة في حقّ من قطع المسافة المذكورة بلحظة كمن يستعين بالجنّ مثلا، أو من كان مرفَّهًا في سفره كالملِك المحمول.
(1)
ابن حجر، فتح الباري، 2/ 556.
(2)
صالح، أثر تعليل النص على دلالته، 81.
وذلك لأنّ حالات قطع المسافة المذكورة بلا مشقّة كانت نادرة في زمنهم فلا تؤثّر لقلّتها في صلاحية المظنّة بأن يُناط بها الحكم، إذ الغالب من حال الناس أيّامئذٍ أنّهم يجدون المشقة في قطع المسافة المذكورة، ولا يضرّ تخلّف الحكمة عن بعض الأفراد؛ ويطّرد الحُكم فيهم جريًا مع المظنّة التي لا يتأثّر عموم حكمها بنوادر التخلُّف. أمّا اليوم فالمسافة المذكورة ليست مظنّة للمشقّة في حقّ معظم الناس إن لم يكن جميعهم، والشارع عندما قرّر هذه الرخصة عَقّبها بقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، فمعنى رفع الحرج ملحوظٌ في مشروعية الفطر عند السفر والمرض قطعًا، وعليه انبنى تقييدُ الصحابة والفقهاء السفرَ المبيحَ للرخصة بالطول وإن اختلفوا في تقدير ذلك.
فالفرق بين زمننا وزمن الفقهاء، أنّ المسافة التي حدّدوها كانت مظنة للمشقّة في وقتهم وتخلُّف المشقّة عن قطعها كان نادرًا، أمّا في زمننا فهذه المسافة لم تعد مظنة للمشقة أصلًا، وما كان في زمنهم يُعدّ من النوادر صار الآن هو الأصلَ والغالبَ، ولذلك اقتضت المسألة إعادة نظر، ولا يحسن بنا أن نلتزم بأحكام الفروع التي سطّرها الفقهاء دون الالتفات إلى القواعد التي بنوا عليها أحكام تلك الفروع، فالفروع كثيرًا ما تتّسم أحكامها بالتغيُّر والتقلُّب بتغير الأزمان بخلاف القواعد التي تتّسم بالثبات.
ومما قد يُقترح في هذه المسألة خاصّة:
إمّا إعادة تقدير المسافة المبيحة للرخصة وزيادتها إذ ليست هي توقيفًا بدليل كثرة اختلاف أقاويل السلف في تقديرها.
وإمّا - ولعلَّه أفضل ممّا سبق - نوطُ الحكم بمدّة السفر لا بمسافته، وهذه طريقة الحنفية في تقدير المسافة، ولذلك فالمسافة الموجبة للرخصة عندهم تختلف في الطريق الوعر عنها في الطريق السهل، وفي البحر عنها في البر، لكن المدّة التي حدّدوها لضبط المسافة (مسيرة ثلاثة أيام) ملائمة في طولها لعصرهم لا لعصرنا؛ لأنّ معظم الأسفار في عصرنا هي
دون تلك المدّة بخلافها في الزمن القديم، فاعتماد هذه المدّة في ضبط المسافة الآن يرفع الرخصة عن جُلّ ما يُسمّى سفرًا في زمننا، وهو ما لا نخاله مقصودًا للشارع.
وإمّا - وهو ما أميل إليه - يُناط الفطر في السفر بالمشقّة ذاتها ويُترك تقديرها لأمانة المكلَّف، كالمرض تمامًا، فيُقال للمكلّف إن شقّ عليك الصيام في السفر فأفطر وإلا فلا، كما يُقال له: إنْ شقّ عليك الصيام مع المرض أو خشيت الضرر معه فأفطر، فالسفر والمرض رخصتان للفطر وردتا في سياق واحد، وهما معلَّلتان بحكمة واحدة وهي التيسير، فالأولى التسوية بينهما في الحكم. والله أعلم
(1)
.
وهذه المسألة تحتمل بسطًا أكثر من هذا لكن نكتفي بهذا القدر؛ لأنّ المقصود التمثيل، وقدح زناد الفكر الفقهي، لا أكثر.
وما نريد الوصول إليه هنا هو أنّ تغيُّر الأزمان قد يكون ذا أثر في انقلاب المظنّة عن كونها مظنّة بحيث تحتاج هذه المظنة إلى إعادة نظر ومُعايرة جديدة، حتى تظلَّ مظنّة فعلًا تؤدّي وظيفتها في الإفضاء إلى الحكمة غالبًا.
وملخّص القول في هذا العامل أن لمدى إفضاء المظنة إلى الحكمة في واقعة ما أثرًا كبيرًا في مدى التزام الفقهاء بنوط حكم هذه الواقعة بهذه المظنة، أو قطعه عنها، نظرًا إلى انتفاء الحكمة أو مرجوحيّة حصولها. فتقرير هذا القول وبيانه هو الغرض في إيراد ما أوردناه، وإلا فالكلام على مسألة استثناء ما لا تتحقّق فيه الحكمة من حكم المظنة، يستحقّ بسطًا وتفصيلًا أكثر ممّا قيل هنا، وحريٌّ به أن يُفرد بالبحث لتأصيله بالأدلة، وضبطه بالقواعد، وبيان كيفية تنزيله على المستجدّات.
سابعًا: مدى قوّة مناسبة الحكمة لحُكم الواقعة.
رفعُ الحكم عن بعض الجزئيات التي يشملها النص بعمومه لانتفاء الحكمة عنها ليس بالأمر الهيّن، خصوصًا إذا كانت الحكمة مستنبطة لا منصوصة؛ لأنّه من باب ترك ظاهر
(1)
ما قلناه هنا ينحصر في سفر رخصة الفطر. وأما سفر رخصة القصر فلا ينطبق عليه ذلك والله أعلم؛ لأنّ حكمة مشروعية القصر في الأصل الخوف لا المشقة، ولأنه لا يستحيل إلى بدل بخلاف الصوم فإنه يُقضى، ولأن القصر عزيمة أو مستحب بالإجماع بخلاف الفطر في السفر. وعليه كان الأولى أن لا يُسوّى سفر القصر بسفر الفطر، بل لو جرى الحكم فيه مع إطلاق اللفظ، كما قال ابن حزم وغيره، لما كان بعيدًا، وثمة دلائل عِدّة تشير إلى ذلك.
النص بالرأي، ولأجل هذا يختلف العلماء في مسائل هذا الصنف ويتردَّدون: بين سائرٍ منهم مع المظنة التي يدلّ عليها ظاهر النص، وآخر سائرٍ مع ما يقتضيه انتفاء الحكمة.
ومع هذا فمِمّا لا تخطئُه عينُ المستقرئ للفروع التي يستثنيها الفقهاء من عموم حُكم المظنّة المنصوصة، مراعاةً لانتفاء الحكمة، أنّ هذه الحكمة تكون دلالةُ النصّ عليها في غاية الوضوح، حتى إنها تكاد تجاري ظاهره قوّةً وظهورًا وسبقًا إلى فهم السامع، كحكمة تشوّش الذهن في النهي عن قضاء القاضي وهو غضبان، وحكمة الشكّ في نجاسة اليد في الأمر بغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وحكمة منع ما يؤثِّر في الخشوع في الأمر بتقديم العَشاء على العِشاء، وحكمة كون الولد بعضًا من الوالد في إثبات نسبه منه، وحكمة الشهوة في الأمر بالوضوء من لمس النساء، وحكمة الإيذاء في النهي عن قربان المسجد عند أكل الثوم والبصل، وحكمة الإشغال عن السعي للصلاة في النهي عن البيع وقت النداء للجمعة، وحكمة الإنقاء في الأمر بالاستجمار، وحكمة الإيذاء في النهي عن بيع المسلم على بيع أخيه وخطبته على خطبته، ونحو ذلك من المسائل.
وأمّا إذا لم تكن الحكمة المستنبطة قويّة الظهور، فإنّ الفقهاء لا يجرونها في تخصيص النص مجرى الحِكَم السابقة، بل يوازنون بينها وبين شمول النص للفرد الذي يُراد استثناؤه بسبب انتفاء هذه الحكمة، فربّما رجح تناول ظاهر النص له، وربما كان رفعُ حكم النص عنه لانتفاء الحكمة أرجحَ وأولى. ولا يتعيّن في هذا الأمر قاعدة منضبطة، بل كلّ مسألة ترجع إلى ذوقٍ اجتهادي خاصّ، كما أسلفناه عند الحديث على العامل الثالث.
وممّا يمكن التمثيل به في هذا المقام، ما ذهب إليه كثيرٌ من الفقهاء من تخصيص الاحتكار المنهي عنه، بالأقوات وفي حال الغلاء، وذلك نظرًا إلى أن المقصود بالنهي هو الإضرار بعامّة الناس، وهذا إنّما يتحقّق فيما هم محتاجون إليه، فيخرج عن النهي احتكارُ السِّلع الكمالية، وكذا السّلع الحاجيّة وقت توافرها، فيجوز احتكارها والتربُّص بها إلى وقت غلاء سعرها. قال النووي (ت 676 هـ): «قال العلماء والحكمةُ في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن
عامّة الناس
…
وأمّا ما ذُكر في الكتاب عن سعيد بن المسيب ومعمر راوي الحديث أنّهما كانا يحتكران، فقال ابن عبد البر وآخرون: إنّما كانا يحتكران الزيت، وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه والغلاء. وكذا حمله الشافعي وأبو حنيفة وآخرون، وهو الصحيح»
(1)
.
وقال الصنعاني (ت 1182 هـ): «ظاهر حديث مسلم تحريم الاحتكار للطعام وغيره
…
وقد ذهب أبو يوسف إلى عمومه، فقال: كلّ ما أضرّ بالناس حبسه فهو احتكار وإن كان ذهبًا أو ثيابًا. وقيل: لا احتكار إلا في قوت الناس وقوت البهائم، وهو قول الهادوية والشافعية، ولا يخفى أنّ الأحاديث الواردة في منع الاحتكار وردت مطلقة
…
وهذا يقتضي أنّه يُعمل بالمطلق في منع الاحتكار مطلقًا، ولا يُقيَّد بالقُوْتَين
…
وكأنّ الجمهور خصّوه بالقُوتين نظرًا إلى الحكمة المناسبة للتحريم، وهي دفع الضرر عن عامّة الناس، والأغلب في دفع الضرر عن العامّة إنّما يكون في القُوتين، فقيَّدوا الإطلاق بالحكمة المناسبة»
(2)
.
قلت: ولا تخفى وجاهة قول أبي يوسف، رحمه الله، بالسير مع المظنة على إطلاقها في النص من دون تخصيص بالأقوات، لأنَّ الحكمة التي استند إليها الجمهور، وإن كان واضحًا حصولها في الأقوات لحاجة عامّة الناس لها، لكنّها أيضًا يمكن أن تتحقّق في غيرها من السلع التي قد يحتاجها بعض الناس لا أكثرهم أو جميعهم، إذ الضرر واقعٌ على هؤلاء من احتكار ما ليس قوتًا، وحتى غير المحتاج للسلعة، وإنما هي له كمال، يقع عليه ضرر من احتكارها، بسبب غلاء سعرها نتيجة للاحتكار بلا بدّ. وقصرُ الحكمة على ضرر عامّة الناس واستثناء الضرر الحاصل لبعضهم تحكُّم، لأنّ الضرر في الشريعة يُزال كلُّه، لا فرق فيه بين ضرر عام وضرر خاص إلا عند الموازنة بينهما إذا حصل تعارض، وأمّا حيث أمكن دفع الضررين كليهما فهو أولى، فكيف إذا كان هذا الأولى في الرأي منسجمًا مع ظاهر النص، فهو مزيد قوّة على قوّة، وظاهرُ النص إذا كان يحتمل معنى مناسبًا صحيحًا فإنّه يبعد إسقاطه بمعنى مناسب آخر استنادًا إلى محض الرأي. والحاصلُ أنّ تعليل الاحتكار بالإضرار بعامّة الناس ضعيف، والأولى تعليله بالإضرار مطلقًا، ولو بطائفة من الناس. والله أعلم.
(1)
شرح صحيح مسلم، 11/ 43.
(2)
سبل السلام، 2/ 33.
ثامنًا: مدى انفراد الحكمة بحُكم الواقعة:
قد تكون الحكمة التي عُلِّل بها الحُكم صحيحةً وقويّة في نفسها لا ضعيفة، لكنّها لا تنفرد بالحُكم، بل يكون للحُكم حِكَمٌ ومقاصدُ أخرى غيرها، وهذا مما يُبطل عكسَ هذه الحكمة، وهذا يعني أنّ الحكم لا ينتفي بانتفائها لثبوته بالحِكَمة أو الحِكَم الأخرى. وعلى هذا، فإنّ تمثيل الآمدي بنكاح المرأة الآيسة، التي لا يفضي نكاحها إلى التناسل والتوالد عادةً - تمثيله بها على الحُكم الذي لا يحصل المقصود منه إلا نادرًا
(1)
؛ لا يصلح مثالًا على جواز شرع الحكم في محلٍّ ما مع مرجوحيّة حصول مقصوده وحِكمته، وذلك من جهتين:
الأولى: أن الآيسة صورة جزئيّة استثنائية من الحكم العام، وهو مشروعية النكاح، ومن ثَمّ لا يمكن الاستنتاج منه بأنّ الحُكم - هكذا بإطلاق - يُشرع حتى مع انتفاء حكمته غالبًا، وإنما غاية الاستدلال أن يُقال: قد يُشرع الحكم مع انتفاء تحقق مقصوده في بعض الصور الجزئية. وهو ما أوضحناه سابقًا من أن تعميم الحكم بحسب المظانّ لا يقدح فيه نوادرُ التخلّف.
والجهة الثانية: وهي غرضنا من الإيراد: أنّ النكاح لم يُشرع لغرض التناسل وحده، بل له حِكَمٌ كثيرة، كالسكن الجسدي والنفسي والعاطفي، والأنس، والحصول على النفقة، والخدمة أو التعاون على القيام بالأعمال بالمعروف، وغير ذلك. فانتفاء حكمة التناسل لا يعني انتفاءَ غيرها، ومن ثَمّ يظلّ الحُكم مشروعًا مع الحِكَم الأخرى.
نعم المثال يُقصد منه تفهيم الفكرة لا الاستدلال عليها، لكنَّ الآمدي لم يدلِّل على أنّ الحُكم يُشرع مع انتفاء حكمته غالبًا بشيءٍ سوى ما ذكره من هذا المثال، فكأنّه استدلّ بالوقوع على الوجود. فكان مثاله حريًّا بالنقد لتتوافر الهمم على تحصيل مثال غيره أمثل منه إن وُجِد.
ومما قد يُمثّل به على مدى تأثير انفراد الحكمة بحُكم الواقعة على مناحي الاجتهاد فيها مسألةُ إيجاب العدّة على المرأة، حتى لو تحقّقنا من براءة رحمها، فقد اقترح بعضهم استثناء الحالات التي يمكن التحقُّق من براءة الرحم فيها يقينًا
(2)
، كما في المرأة التي
(1)
الإحكام، 3/ 272.
(2)
منجية السوايحي، "هل العدة في الإسلام حبس للمرأة"، إيلاف، 19/ 11/ 2008، http:// elaph.com/ Web/ ElaphWriter/ 2008/ 11/ 383948.htm، تاريخ التصفح: 1/ 8/ 2018.
استؤصل رحمها، وزاد بعضهم من يمكن بفحص الدم التحقّق من عدم حملها، مع أنّ هذا مظنون لا مقطوع به، إذ ثمة أنواع من الحمل الخفي (Cryptic Pregnancy) لا تُظهرها فحوصُ الدم، ولا ينقطع معها طمث المرأة إلا في فترات متأخّرة
(1)
. وعلى الحالين فهذا الاقتراح على إطلاقه غير مقبول؛ لأن العدّة لم تُشرع للتحقق من براءة الرحم فحسب، ولو كانت كذلك لحدِّدت بحيضة واحدة، كما في استبراء الإماء، ولم تُحدد بثلاثة قروء، أو بعدّة أشهر، كما في عدة الوفاة، وعدّة من يئست من الحيض، فدلّ هذا على أنّ المدّة مقصودة، وهذا بيّنٌ في عِدّة الرجعيّة، وكذا عدّة البائن بالفسخ، لأنّ المدّة الطويلة تُعطي مجالا للتراجع والتصالح، وأمّا البائن لانتهاء عدد الطلقات، مع القطع بعدم إمكان حملها - كمن استُؤصل رحمها - فلا يخفى أنّه ثمة عُرفٌ عامّ يستهجن على المرأة الزواج من آخر فور طلاقها، ويجرّ إليها القيل والقال، فقد يكون هذا مقصودًا من إيجاب التربّص على أمثال هذه. ومع ذلك فالقول بعدم وجوب التربص على مثل هذه المرأة (أي المطلقة ثلاثًا واستؤصل رحمها) يحتمل الاجتهاد، والله أعلم.
والحاصل أن الحِكَم إذا تعدّدت للحُكم الواحد، فإنّه لا يرتفع بارتفاع بعضها، بل لا بدّ من ارتفاع جميعها. وهذا عاملٌ مهم في تقرير الفقهاء لنوط الحُكم بحكمةٍ ما في آحاد الوقائع.
تاسعًا: كون الواقعة المعلّلة في مجال يكثر فيه التعبُّد، أو في مجالٍ يكثر فيه التعليل:
من العوامل المؤثرة في دوران الحكم مع مظنته أو حكمته مجالُ الحكم، هل هو في العبادات أو فيما سواها؛ إذ لا يُجرأ على تعليل العبادات بالحِكَم ونوطها بها مثلما يُجرأ على تعليل ما ورد في العادات والمعاملات. ففي العبادات قد لا يُناط الحُكم بالحِكمة حتى مع النصّ عليها، وفي العادات والمعاملات ينوط الفقهاء الحُكم بالحكمة، حتى لو كانت ضعيفة المناسبة أحيانًا. وذلك لأنّ العلماء يقدِّرون في الأحكام التعبّدية معاني وحِكَمًا وأسرارًا خفيّة لم يوقفنا الشرع عليها، بخلاف العادات والمعاملات التي تستهدف في الغالب المصالح العاجلة ومكارم الأخلاق. ولذلك وضع الشاطبي قاعدته الشهيرة: «الأصل في العبادات بالنسبة إلى
(1)
" What Is a Cryptic Pregnancy? Symptoms، Length، and More"، Healthline، 26/ 2/ 2019، https:// www.healthline.com/ health/ pregnancy/ cryptic-pregnancy، تاريخ التصفح: 20/ 8/ 2021.
المكلف التعبُّد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني»
(1)
، ولكنّ هذه القاعدة غير مطّردة في التطبيق عند الفقهاء، إذ قد وجدنا أبا حنيفة، رحمه الله، يسترسل في تعليل العبادات بحِكَمٍ ومعانٍ مصلحية تعود على مظانّها بالتأثير توسيعًا وتضييقًا، مخالفًا بذلك مسلك الأئمة الثلاثة الآخرين، فمن ذلك مثلًا قولُه:
بجواز أداء القِيَم في الزكوات بالنظر إلى حكمة سدّ الحاجة
(2)
،
وجواز إزالة النجاسة بغير الماء، بالنظر إلى حكمة التطهير
(3)
،
وعدم اشتراطه النية في الوضوء ولا المولاة ولا الترتيب، لأن المقصود بالوضوء بالنص التطهير، {إنما يريد الله ليطهِّركم} ، والأركان المذكورة لا هي منصوصة ولا هي مؤثّرة في حصول الحكمة أو انتفائها؛ إذ الحكمة حاصلة بها وبدونها
(4)
،
وإجازته قولَ ما يدلّ على التعظيم في مكان تكبيرة الإحرام كالله أعظم والله أجلّ ونحو ذلك
(5)
،
وأجرأ من هذا كلِّه إجازته - في ظاهر الرواية - قراءة القرآن بالمعنى وبغير العربية في الصلاة حتى للقادر على قراءته بالعربية، وذلك لأنّه أتى بالمعنى، وهو المقصود برأيه
(6)
.
ورغم وجاهة مذهب أبي حنيفة، رحمه الله، في بعض ما قال في هذه المسائل وأشباهها، فإن ذلك لا يلغي من وجهة نظرنا قاعدة الشاطبي ولا يبطلها عنده، فلا يمكن منه أن نقول: إن أبا حنيفة لا يعتمدها مطلقًا، وإنما حسبنا أن نقول هو أجرأ من باقي الأئمّة على تعليل الأحكام العبادية بغرض توسيعها والقياس عليها.
والحاصل أنّ لمجال الحُكم أثرًا لا ينكر في تعليله بالحكمة أو المظنة.
(1)
الموافقات، 2/ 513.
(2)
السرخسي، المبسوط، 2/ 156.
(3)
المرجع السابق، 1/ 66.
(4)
المرجع السابق، 1/ 56.
(5)
المرجع السابق، 1/ 36.
(6)
المرجع السابق، 1/ 37.
الخاتمة
أهم النتائج:
1.
رغم أنّ القاعدة العامّة عند الفقهاء هي نوط الحكم بمظنته لا بحكمته فإنّ الحُكم عندهم كثيرًا ما يتردّد بين أن يُناط بالمظنة أو بالحكمة.
2.
ثمّة أربعة أشكال لتصرفات الفقهاء في الحكم عندما يتردّد بين أن يُعلّل بالمظنة أو بالحكمة، وهي:
الأول: قطعُه عن المظنّة المنصوصة، وإدارته مع الحكمة وجودًا وعدمًا.
والشكل الثاني: عكس الأول وهو: أن يديروا الحكم مع المظنّة المنصوصة، ويقطعوه عن الحكمة بالكلّية.
والشكل الثالث: أن يُبقوا الحكم دائرًا مع المظنّة المنصوصة لا مع الحكمة، ولكن يشترطون في المظنّة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى الحكمة.
والشكل الرابع: وهو عكس السابق: أن يديروا الحُكم مع الحكمة لا مع المظنّة المنصوصة، ولكن يشترطون مع تحقُّق الحكمة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى المظنّة المنصوصة.
3.
ميلُ الفقيه إلى تقرير الحُكم بحسب ما تقتضيه المظنّة (التعليل بالمظنة)، أو ما تقتضيه الحكمة (التعليل بالحكمة)، تؤثِّر فيه عواملُ متعدّدة، هي باستقرائنا العوامل التسعة الآتية:
(أ) كون المظنّة أو الحكمة منصوصة أو اجتهادية.
(ب) وجود نصٍّ صريح يلغي التعليل بالمظنّة أو الحكمة في عين الواقعة.
(ج) مدى احتياج التعليل بالمظنّة، أو بالحكمة، إلى تأويل ظاهر النصّ أو تخصيصه.
(د) مذاهب الصحابة في الواقعة محلّ النظر، وهل جرت مع المظنّة أو مع الحكمة.
(هـ) مدى الخفاء أو الاضطراب في الحكمة، والذي قد يتغيّر بتغيّر الزمان.
(و) مدى إفضاء المظنّة إلى الحكمة، والذي قد يتغيّر بتغيّر الزمان.
(ز) مدى قوّة مناسبة الحكمة لحُكم الواقعة.
(ح) مدى انفراد الحكمة بحُكم الواقعة.
(ط) كون الواقعة المعلّلة في مجالٍ يكثر فيه التعبُّد، أو في مجالٍ يكثر فيه التعليل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
قائمة
المصادر والمراجع
ابن السبكي، تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين. الأشباه والنظائر. ط 1. بيروت: دار الكتب العلمية، 1991/ 1411.
ابن المنذر، محمد بن إبراهيم. الإشراف على مذاهب العلماء. تحقيق صغير الأنصاري. ط 1. رأس الخيمة: مكتبة مكة الثقافية، 2004/ 1425.
ابن الهمام، كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي. فتح القدير. بيروت: دار الفكر، د. ت.
ابن أمير حاج، شمس الدين محمد بن محمد بن محمد. التقرير والتحبير. ط 2. بيروت: دار الكتب العلمية، 1983/ 1403.
ابن تيمية، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم. تحقيق ناصر العقل. ط 7. بيروت: دار عالم الكتب، 1999/ 1419.
-. الصارم المسلول على شاتم الرسول. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. المملكة العربية السعودية: الحرس الوطني السعودي، د. ت.
ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني. فتح الباري شرح صحيح البخاري. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. بيروت: دار المعرفة، 1959/ 1379.
ابن دقيق العيد، تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، د. ت.
ابن رجب، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد. تقرير القواعد وتحرير الفوائد [المشهور بـ «قواعد ابن رجب»]. تحقيق مشهور آل سلمان. ط 1. المملكة العربية السعودية: دار ابن عفان للنشر والتوزيع، 1999/ 1419.
ابن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز. حاشية ابن عابدين (رد المحتار على الدر المختار). ط 2. بيروت: دار الفكر، 1992/ 1412.
ابن قدامة، موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد. المغني. تحقيق عبد الله التركي و عبد الفتاح الحلو. ط 3. المملكة العربية السعودية: دار عالم الكتب، 1968/ 1388.
- المغني. القاهرة: مكتبة القاهرة، 1968/ 1388.
ابن هبيرة، يحيى بن هُبَيْرَة بن محمد. اختلاف الأئمة العلماء. تحقيق السيد يوسف أحمد. ط 1. بيروت: دار الكتب العلمية، 2002/ 1423.
أبو الحسين البصري، محمد بن علي الطيب. المعتمد في أصول الفقه. تحقيق خليل محيي الدين الميس. ط 1. بيروت: دار الكتب العلمية، 1982/ 1403.
أبو داود، سليمان بن الأشعث. سنن أبي داود. تحقيق شعيب الأرناؤوط. ط 1. بيروت: مؤسسة الرسالة، 2009/ 1430.
أبو عبيد، القاسم بن سلام. الأموال. تحقيق خليل هراس. بيروت: دار الفكر، د. ت.
أبو مؤنس، رائد. منهج التعليل بالحكمة وأثره في التشريع الإسلامي: دراسة أصولية تحليلية. ط 1. فرجينيا - الولايات المتحدة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2007/ 1427.
أحمد، ابن حنبل. مسند الإمام أحمد بن حنبل. تحقيق شعيب الأرناؤوط. ط 1. بيروت: مؤسسة الرسالة، 2001/ 1421.
الآمدي، سيف الدين علي بن أبي علي الآمدي. الإحكام في أصول الأحكام. تحقيق عبد الرزاق عفيفي. بيروت: المكتب الإسلامي، د. ت.
الأعظمي، محمد عبد الله. الجامع الكامل في الحديث الصحيح الشامل المرتب على أبواب الفقه. ط 1. الرياض: دار السلام للنشر والتوزيع، 2016/ 1437.
الألباني، محمد ناصر الدين. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل. ط 2. بيروت: المكتب الإسلامي، 1985/ 1405.
البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسننه وأيامه). تحقيق محمد زهير الناصر. ط 1. بيروت: دار طوق لنجاة، 2001/ 1422.
البكري الدمياطي، عثمان بن محمد. إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين. ط 1. القاهرة: دار الفكر، 1997/ 1418.
البهوتي، منصور بن يونس بن صلاح الدين ابن حسن بن إدريس. دقائق أولي النهى لشرح المنتهى (شرح منتهى الإرادات). ط 1. بيروت: عالم الكتب، 1993/ 1414.
- كشاف القناع عن متن الإقناع. ط 1. المملكة العربية السعودية: وزارة العدل، 2008/ 1429.
الجبوري، حسين خلف. "التعليل بالحكمة عند الأصوليين". مجلة كلية الآداب - جامعة بغداد، عدد 15 (1972/ 1391): 183 - 193.
الحطاب، محمد بن محمد بن عبد الرحمن. مواهب الجليل في شرح مختصر خليل. ط 3. بيروت: دار الفكر، 1992/ 1412.
الحكمي، علي بن عباس بن عثمان. "حقيقة الخلاف في التعليل بالحكمة". مجلة جامعة أم القرى، عدد 9 (1994/ 1414): 11 - 85.
الدبوسي، عبد الله بن عمر بن عيسى. تقويم الأدلة في أصول الفقه. تحقيق خليل محيي الدين الميس. ط 1. بيروت: دار الكتب العلمية، 2001/ 1421.
الربيعة، عبد العزيز. "القياس في الأسباب". أضواء الشريعة، عدد 12 (1981/ 1401): 67 - 95،https://search.mandumah.com/Record/103906الرهوني، أبو زكريا يحيى بن موسى. تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول. تحقيق الهادي شبيلي و يوسف القيم. ط 1. دبي: دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، 2002/ 1422.
الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر. البحر المحيط. ط 1. مصر: دار الكتبي، 1994/ 1414.
الزنجاني، محمود بن أحمد بن محمود بن بختيار. تخريج الفروع على الأصول. تحقيق محمد أديب الصالح. ط 2، 1978/ 1398.
الزيلعي، عثمان بن علي بن محجن البارعي. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق. ط 1. القاهرة: المطبعة الكبرى الأميرية، 1895/ 1313.
السبكي، أبو الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي. إبراز الحكم من حديث رفع القلم. تحقيق محمد خليفة كيلاني. ط 1. بيروت: دار البشائر الإسلامية، 19922/ 1412.
السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل. أصول السرخسي. بيروت: دار المعرفة، د. ت.
- المبسوط. بيروت: دار المعرفة، 1993/ 1414.
السوايحي، منجية. "هل العدة في الإسلام حبس للمرأة". إيلاف، 19/ 11/ 2008،http://elaph.com/Web/ElaphWriter/2008/11/383948.htm
الشاطبي، إبراهيم بن موسى. الموافقات. تحقيق مشهور آل سلمان. ط 1. السعودية: دار ابن عفان، 1997/ 1417.
الشافعي، محمد بن إدريس. الأم. بيروت: دار المعرفة، 1990/ 1410.
الشربيني، شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج. ط 1. بيروت: دار الكتب العلمية، 1994/ 1415.
الصنعاني، محمد بن إسماعيل بن صلاح. سبل السلام. القاهرة: دار الحديث، د. ت.
الطبري، أو جعفر محمد بن جرير. جامع البيان في تأويل القرآن (تفسير الطبري). تحقيق محمود شاكر. مكة المكرمة: دار التربية والتراث، د. ت.
الطحاوي، أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك. مختصر اختلاف العلماء. ط 2. بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1995/ 1416.
الطوفي، سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم. شرح مختصر الروضة. تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي. ط 1. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1987/ 1407.
العلائي، صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله الدمشقي. إجمال الإصابة في أقوال الصحابة. تحقيق محمد الأشقر. الكويت: جمعية إحياء التراث الإسلامي، 1987/ 1407.
الغزالي، محمد بن محمد بن محمد الطوسي. المستصفى. ط 1. بيروت: دار الكتب العلمية، 1993/ 1413.
- شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل. تحقيق حمد الكبيسي. ط 1. بغداد: مطبعة الإرشاد، 1971/ 1390.
القرافي، شهاب الدين أحمد بن إدريس. الفروق (أنوار البروق في أنواء الفروق). بيروت: عالم الكتب، د. ت.
الكرخي، أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلال بن دلهم. "تأسيس النظر ويليه رسالة الإمام أبي الحسن الكرخي في الأصول". في رسالة في الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية، تحقيق مصطفى القباني. بيروت: دار ابن زيدون، د. ت.
الكوسج، إسحاق بن منصور بن بهرام المروزي. مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. ط 1. المدينة النبوية: عمادة البحث العلمي في الجامعة الإسلامية، 2004/ 1425.
المعلمي اليماني، عبد الرحمن بن يحيي. آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيي المعلمي اليماني. تحقيق علي بن محمد العمران. ط 1. مكة المكرمة: عالم الفوائد، 2013/ 1434.
الموسوعة الفقهية الكويتية. الكويت: ذات السلاسل، د. ت.
النملة، عبد الكريم. المهذب في علم أصول الفقه المقارن. ط 1. الرياض: مكتبة الرشد، 1999/ 1420.
النووي، محيي الدين يحيى بن شرف. المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج. ط 2. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1972/ 1392.
الونشريسي، أحمد بن يحيى. المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب. المغرب: وزارة الأوقاف المغربية، 1981/ 1401.
إمام، صلاح أحمد عبد الرحيم. "بحث في التّعليل بالحكمة: دراسة أصولية تطبيقية". مجلة كلية الشريعة والقانون بأسيوط 3، عدد 18 (2006/ 1426): 457 - 693.
خلاف، عبد الوهاب. علم أصول الفقه. مصر: مكتبة الدعوة، د. ت.
سعيد، الحسين آيت. "التجديد في التعليل الفقهي". في الاجتهاد الفقهي أي دور وأي جديد. الرباط: جامعة محمد الخامس - كلية الآداب بالرباط، 1996/ 1416.
شلبي، محمد مصطفى. تعليل الأحكام. ط 2. بيروت: دار النهضة العربية، 1981/ 1401.
صالح، أيمن. أثر تعليل النص على دلالته. ط 1. عمان: دار المعالي، 1999،https://sites.google.com/site/draymansaleh2/publications-1- التحقق من النسب بفحص البصمة الوراثية والكشف عن نتائجه العرضية: نظرات فقهية جديدة. ط 1. قطر: دار نشر جامعة قطر، 2020/ 1441.
- "التعليل بالمظنة لا بالحكمة: دراسة أُصولية". مجلة الصراط 21، عدد 38 (2018): 48 - 77،https://qspace.qu.edu.qa/handle/10576/18225- " العلة والحكمة والتعليل بالحكمة: دراسة مصطلحية". مجلة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية 31، عدد 2 (31/ 12/ 2017): 65 - 114،https://www.asjp.cerist.dz/en/article/39808
- أهل الألفاظ وأهل المعاني: دراسة في تاريخ الفقه. ط 1. ألمانيا: النور للنشر، 2016،https://sites.google.com/site/draymansaleh2/publications-1.
عبد الرزاق الصنعاني. المصنف. ط 2. القاهرة: دار التأصيل، 2013/ 1437.
عودة، جاسر. الاجتهاد المقاصدي من التصور الأصولي إلى التنزيل العملي. ط 1. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2013.
- فقه المقاصد: إناطة الأحكام بمقاصدها. ط 1. فرجينيا - الولايات المتحدة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2006/ 1427.
مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري. صحيح مسلم (المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ت.
نمر، إياد. "أثر الاختلاف في إناطة الحكم بعلّته أو حكمته في اختلاف الفقهاء". المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية 12، عدد 1 (2016/ 1437): 191 - 212،
https://repository.aabu.edu.jo/jspui/handle/123456789/1010
" What Is a Cryptic Pregnancy? Symptoms، Length، and More".Healthline،26/2/2019،https://www.healthline.com/health/pregnancy/cryptic-pregnancy