الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفلك الدائر على المثل السائر:
1-
ألف هذا الكتاب ليرد به على كتاب ابن الأثير "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" لأنه وجد فيه -كما في المقدمة- المحمود والمردود.
أما المحمود فإنشاء ابن الأثير وصناعته، إلا في الأقل النادر.
وأما المردود فنظره وجدله واحتجاجه واعتراضه وتحامله على الفضلاء، وإفراطه في الإعجاب بنفسه، والتقريظ لعلمه وصناعته.
كذلك قصد من تأليفه إلى أن يبين لمن راقهم كتاب المثل السائر من أكابر أهل الموصل وبغداد ما في الكتاب من وجوه النقص وألوان المآخذ، وأن يعلم ابن الأثير ورؤساء بلده أن في خدم المستنصر من يفوقه علما وافتنانا.
وكان كتاب المثل السائر قد وصل إليه في غرة ذي الحجة سنة 633هـ فتصفحه، وعلق عليه في خمسة عشر يوما كما ذكر في المقدمة، ولم يعاود النظر فيه مرة ثانية.
ولما ألفه كتب إليه أخوه موفق الدين هذين البيتين:
المثل السائر يا سيدي
…
صنفت فيه الفلك الدائرا
لكن هذا فلك دائر
…
أصبحت فيه المثل السائرا
وقد قدم كتابه إلى خزانة كتب الخليفة المستنصر بالله1.
1 أبو جعفر المنصور المستنصر بالله بن الظاهر: بويع بالخلافة يوم وفاة والده في 14 من رجب سنة 623 "11 يوليو سنة 1226" واستمر في الخلافة إلى أن توفي في 10 من جمادى الآخر سنة 640 وله آثار جليلة في بغداد منها المدرسة المستنصرية، وكان شهما جوادا عادلا.
أما تسمية الكتاب فقد أراد بها -كما ذكر في المقدمة- نقض كتاب المثل وإبطاله ومحوه؛ لأنهم يقولون لما باد ودثر قد دار عليه الفلك، كأنهم يريديون أنه قد طحنه ومحاه.
2-
رأينا أن نخرج هذا الكتاب؛ لأنه وثيق الصلة بكتاب المثل السائر، وهو في جملته تعليق عليه ونقد له، وتوسعة لمجال الدراسات البلاغية والنقدية.
والنسخة التي اعتمدنا عليها مطبوعة على الحجر سنة 1309هـ على نفقة الميرزا محمد الشيرازي، في 184 صفحة من القطع المتوسط.
وطبعتها رديئة جدا، تنوء بالتحريف والأغلاط، وليس بها ترتيب ما، وكل ما بها من شعر مدمج بالنثر إدماجا.
وكثيرا ما يكتفي المؤلف بالإشارات إلى بعض النصوص، وكثيرا ما يذكر النص مبتورا، سواء أكان آية قرآنية أم بيت شعر أم مثلا، وكثيرا يورد النصوص غير منسوبة إلى قائليها، وفي بعض الأحيان ينسبها إلى غير قائليها.
فاجتهدنا في معالجة هذا كله.
صححنا النصوص المحتاجة إلى تصحيح، وأكملنا ما يحتاج إلى إكمال، ونسبنا النصوص المجهولة إلى قائليها ما استطعنا، وصوبنا نسبة بعضها إلى أصحابها، ورجعنا كل نص إلى مصدره الذي أخذ منه أو الذي صححناه منه.
وراجعنا نقله من "المثل السائر" فقرة فقرة، سواء أكان النقل كاملا أم ملخصا، ونبهنا على ذلك.
وعرفنا بكثير من الأعلام والأحداث التي ذكرها في كتابه.
وشرحنا ما يحتاج من نثر المؤلف إلى شرح.
3-
يتبين من دراسة "الفلك الدائر" أن ابن أبي الحديد كان معجبا بنثر ابن الأثير، وببراعته في حل المنظوم، والاقتباس من القرآن الكريم والحديث النبوي، ويغلب على نقده الموضوعية:
ونستطيع أن نقسم نقده ثلاثة أقسام:
1-
بعضه حق، مثله قوله:
أ- قال المصنف -ابن الأثير: "ولا أدعي فيما ألفته فضيلة الإحسان، ولا السلامة من سبق اللسان". ثم قال بعد سطر واحد: "وإذا تركت الهوى قلت إن هذا الكتب بديع في إغرابه، وليس له صاحب من الكتب فيقال إنه متفرد من بين أصحابه".
وعلق ابن أبي الحديد بقوله: وهل يدعي أحد فضيلة الإحسان بأبلغ من هذا الكلام؟ وقد قال قبل هذا التواضع بثلاثة أسطر: "إن الله هداني لابتداع أشياء لم تكن من قبلي مبدعة، ومنحنى درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة وإنما تكون متبعة".
فمن يزعم أن الله هداه في هذا الفن إلى ابتداع أشياء لم يسبق بها، ورزقه فيها درجة الاجتهاد التي يتبعها الناس كيف يقول: لا أدعي فيما ألفته فضيلة إلا وبلغتها؟
ب- وكان ابن الأثير قد نبه الكُتَّاب على أن يعلموا فيما يعلمون ما يتصل بالنحو والصرف واللغة وقال: "وأما الإدغام فلا حاجة إليه لكاتب، لكن الشاعر ربما احتاج إليه؛ لأنه قد يضطر في بعض الأحوال إلى إدغام حرف، وإلى فك إدغام من أجل إقامة الميزان الشعري". ثم قال بعد ذلك: "وإنما قصدنا أن يكون الكتاب الذي يكتب في هذا المعنى مشتملا على الترغيب والترهيب والمسامحة في موضع والمحاققة في موضع".
وتلقف ابن أبي الحديد كلمة "المحاققة" فعلق عليها بقوله: قد ظهرت فائدة علم الإدغام في باب الكتابة، فإن الكاتب أراد أن يوازن لفظة المسامحة بلفظة المحاققة، وسها عن أن المحاققة بفك الإدغام غير جائزة.
جـ- قال ابن الأثير: "وقد مدح أبو الطيب كافورا بقوله:
فما لك تغني بالأسنة والقنا
…
وجدك طعان بغير سنان؟
وما لك تختار القسي وإنما
…
عن السعد يرمي دونك الملوان؟
وهذا يحتمل المدح والذم، بل هو بالذم أشبه؛ لأنه يقول إنك لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك، بل بجد وسعادة، وهذا لا فضل فيه؛ لأن السعادة ينالها الخامل والجاهل ومن لا يستحقها. وأكثر ما كان المتنبي يستعمل هذا الفن في القصائد الكافوريات.
وعلق ابن أبي الحديد على هذا تعليقا يدل على ذوقه الصائب، واطلاعه الواسع، وتحرره مما تناقله الناس، فقال: إن الناس واقع لهم واقع ظريف مع المتنبي في هذا الباب، وكان أصله الشيخ أبو الفتح عثمان بن جني رحمه الله.
وزعم بعضهم أن المتنبي كان يبغض كافورا ويحنق عليه، فكان يقصد ذلك ويتعمده بالشعر الموجه الذي يحتمل المدح والذم.
ومنهم من زعم أن كافورا كان يتفطن لذلك ويغضي عنه، وينقلون هذا عن المتنبي.
وما كان ذلك قط، ولا وقع شيء، ولا قصد أبو الطيب نحو ذلك أصلا.
ثم ضرب أمثلة من مدح المتنبي لسيف الدولة، فيها مدح بالجد وحسن الحظ، كقوله:
ولقد رمت بالسعادة بعضا
…
من نفوس العدا فأدركت كلا
وقوله:
إذا سعت الأعداء في كيد مجده
…
سعى جده في كيدهم سعي محنق
وقوله:
لو لم تكن تجري على أسيافهم
…
مهجاتهم لجرت على إقباله
وقوله:
هم يطلبون فمن أدركوا
…
وهم يكذبون فمن يقبل
وهم يتمنون ما يشتهون
…
ومن دونه جدك المقبل
وضرب أمثلة أخرى من شعر المتنبي فيها إشارة بالحظ المواتي والسعد المسعف، ثم قال: ولكن سيف الدولة لما اشتهر إخلاص أبي الطيب له عدل
الناس عن هذا الشعر الذي يتضمن ذكر الجد والحظ فلم يذكروه، ولم يجعلوه متوسطا بين المدح والذم، وقالوا ذلك في كافور لما حدث تغيره مع أبي الطيب، وانحراف كل منهما عن صاحبه، ومجاهرة أبي الطيب له بالهجاء بعد أن فارقه.
ثم زاد الفكرة تأكيدا بأمثلة من شعراء آخرين.
د- قال ابن الأثير في تفسير بيت أبي صخر الهذلي:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
…
فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
إنه يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما أنه أراد بسعي الدهر سرعة تقضي الأوقات مدة الوصال، فلما انقضى الوصل عاد الدهر إلى حالته الأولى في السكون والبطء.
والآخر أنه أراد بسعي الدهر سعي أهل الدهر بالنمائم والوشايات، فلما انقضى ما كان بينهما من الوصل سكنوا وتركوا السعاية.
فعلق ابن أبي الحديد بقوله: التفسير الثاني هو الصحيح، والأول غير صحيح، واللفظ لا يحتمله، وفي البيت ما يمنع منه؛ لأنه قال "بيني وبينها" وهذه اللفظة تمنع من أن يريد سرعة تقضي الزمان أيام وصالنا، فإنها قرينة تحمل لفظ السعي على العناية والنميمة بالشر، لا على السعي بمعنى الحركة والسير.
ألا تراهم يقولون سعي فلان بين فلان وفلان بالشر، أي ضرب بينهم، وحمل بعضهم على بعض، ولا يقولون سعى بينهم من السعي بمعنى الحركة والسير؟
وليس هذا مقصود البيت. ولو أراد السعي بمعنى سرعة مرور الزمان لقال عجبت لسعي الدهر أيام وصلنا، أو ما يشبه ذلك.
وفساد المعنى ظاهر عند من له أدنى نقد للمعاني الشعرية.
هـ- قال ابن الأثير: الأسماء المترادفة هي التي يتحد فيها المسمى وتختلف أسماؤه، كالخمر والراح والمدام.
وعلق ابن أبي الحديد بقوله: هذا من أمثال الغلطات التي نبه عليها المنطقيون، فقالوا قد يظن في كثير من الأسماء أنها مترادفة، وهي في الحقيقة متباينة، كالسيف والصارم والمهند، فكل واحد من هذه مباين للآخر، فالأسماء الموضوعة لها متباينة في الحقيقة، وإن ظن في الظاهر أنها مترادفة.
وكذلك ما مثل به هذا المصنف، فإن الخمر اسم موضوع لهذا الشراب المخصوص، والراح اسم لما ترتاح النفس إليه، والمدام اسم لما يدام استعماله، فالمعاني متباينة لا محالة، وإن توهم في الظاهر أنها مترادفة.
و قال ابن الأثير في بيان المشترك اللفظي: إن مقصود واضع اللغة البيان والتجنيس، والبيان يحصل بالألفاظ المتباينة الكافية في الإفهام، وأما التجنيس فإنه عمدة الفصاحة والبلاغة، ولا يقوم به إلا الأسماء المشتركة.
ورد ابن أبي الحديد بأن عدم الاشتراك اللفظي لا يذهب التجنيس، فإن التجنيس يحدث بين لفظتين متشابهتين في حروفهما الأصيلة، كقول أبي تمام:
متى أنت عن ذهلية الحي ذاهل؟
وأكثر التجنيس في الشعر والرسائل مثل هذا، ولا يستعمل التجنيس بالمشترك إلا نادرا.
ورد أيضا بأن عدم التجنيس لا يذهب حسن الكلام، وضرب أمثلة بأدب عبد الحميد وابن المقفع ومن قبلها ومن بعدهما من الفصحاء، وقال: فهل ترى لأحد منهم تجنيسا في كلامه إلا أن يقع اتفاقا غير مقصود؟
2-
وبعضه مجانب للحق؛ إذ كان الصواب فيما قاله ابن الأثير.
من ذلك أن ابن الأثير ذهب إلى أن صناعة تأليف الكلام من المنظوم والمنثور تفتقر إلى آلات كثيرة، وثقافة متنوعة، وقد قيل: ينبغي للكاتب أن يتعلق بكل علم، ويخوض في كل فن، وملاك هذا كله الطبع، فإنه إذا لم يكن ثم طبع فإنه لا تغني تلك الآلات شيئا
…
وعلق ابن أبي الحديد على هذا بأنه من دعاوي الكتاب وتزويقاتهم، ولا يعول عليه محصل؛ لأن الفنون التي يذكرها الكتاب، ويزعمون أن الكتابة مفتقرة إليها، إن أرادوا بها ضرورتها لها فهذا باطل؛ لأن سحبان وائل وقس بن ساعدة وغيرهما من خطباء العرب ما كانت تعرفها، كذلك من كان في أول الإسلام من الخطباء كمعاوية وزياد وغيرهما.
وإن أرادوا أنها متممة ومكملة فهذا حق، لكن عدمها لا يقتضي سلب اسم الكتابة، مع أن ما يحتاج إليه الكاتب يحتاج إليه الشاعر وزيادة.
ويبدو من تعليقه هذا أنه غفل عما تنبه إليه ابن الأثير من ضرورة الثقافة للكتاب.
ولم يكن موفقا في تمثيله بقس وسحبان ومعاوية وزياد؛ لأن هؤلاء خطباء، ولم يعرض ابن الأثير لثقافة الخطباء، بل عرض لثقافة الكتاب والشعراء.
والذي يقرأ ما كتبه ابن الأثير في هذا الفصل يجده قد أشرك الشعراء مع الكتاب في ألوان الثقافة، واختص الشعراء بنوع منها هو علم العروض والقوافي الذي يقام به ميزان الشعر.
فلا محل إذًا لاعتراض ابن أبي الحديد بقوله: مع أن ما يحتاج إليه الكاتب يحتاج إليه الشاعر وزيادة.
- وبعضه يبدو منه أن ابن أبي الحديد يتحامل أحيانا، ويقسو على ابن الأثير، وإن كان السمة الغالبة على كتابه أنه نقد موضوعي مدعوم بالبراهين.
من ذلك قوله: إن هذا الموضع من المواضع التي اشتبهت على هذا الرجل.
وقوله: وهذا من الغلط على ما تراه.
وقوله: إن كان هذا الرجل ممن ينفي القياس في الشرعيات كلمناه كلاما أصوليا، كما نكلم الشيعة والنظام وأهل الظاهر وغيرهم ممن نفى القياس في الفقه.
وإن كان يعترف بالقياس في الشرعيات فالقياس في النحويات كالقياس في الشرعيات.
وإذا كان ابن أبي الحديد قد أخذ على ابن الأثير إعجابه بفنه وإشادته بكتابه، فإن ابن أبي الحديد قد تورط في مثل هذا.
من ذلك قوله:
وقد كنت شرعت في حل سينيات المتنبي، وأن أجعل ذلك كتابا مفردا، وأنا أورد ههنا بعض ذلك، ليكون معارضا لما جاء به هذا الرجل.
ومن ذلك أنه أورد مثالا من نثره في حل بيتي المتنبي:
بناها فأعلى والقنا يقرع القنا
…
وموج المنايا حوله متلاطم
وكان بها مثل الجنون فأصبحت
…
ومن جثث القتلى عليها تمائم
وأورد مثالين لابن الأثير في حل البيتين.
ثم قال: ومن عنده أدنى ذوق في فن الكتابة يعرف الفرق بين كلامنا وهذا الكلام.
ثم قال: والزيادات العجيبة، والتسميطات والأسجاع التي أتينا بها تزري على ما أتى به هذا الكتاب، وتتجاوزه أضعافا مضاعفة.
ومن هذا ما ذكره في المقدمة من الزهو بعلماء بغداد والفخار بأدبائها، وتفضيلهم على من سواهم تفضيلا مبالغا فيه، وهو يريد نفسه، وإن كان قد حاول أن يستل نفسه ممن أشاد بهم.
نص الكتاب:
الحمد الله الذي فاوت بين عقول البشر وأخلاقهم، كما فاوت بين أعمارهم وأرزاقهم، فكان من خفايا تدبيره، ولطائف حكمته وتقديره، أن أرضى كلا منهم بعقله وخلقه، لا بعمره ورزقه، فلست ترى منهم إلا الراضي بعقله وآرائه، المعجب بما يرشح من إنائه، الحامد لسجيته، الزاري على الناكبين عن طريقته؛ تصديقا لقوله تعالى:{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} 1".
وقل أن تجد منهم القانع بدنياه، الراضي عن وقته بما قسم له "الله"2 وأعطاه.
فلا ترى إلا قانطا أو ساخطا أو حاسدا أو غابطا، دأبهم الكدح والنصب والجد والطلب؛ تصديقا لقوله "صلى الله عليه وسلم"3:"لو كان لابن آدم واديان من ذهب "لتمنى أن يكون له ثالث" 4.
وصلى الله على سيدنا محمد رسوله المويد بروح قدسه، والمعصوم من الخطأ في القول ولبسه، والحاكم بأن من جملة الثلاث المهلكات عجب المرء بنفسه، وعلى آله وأصحابه الذي منهم من هو "من"5 نوعه وجنسه.
وبعد، فقد وقفت على كتاب نصير الدين بن محمد الموصلي المعروف
1 سورة الإسراء: 84.
2 ما بين قوسين زيادات يقتضيها السياق.
3 ما بين قوسين زيادات يقتضيها السياق.
4 ما بين قوسين زيادات يقتضيها السياق.
5 ما بين قوسين زيادات يقتضيها السياق.
بابن أثير الجزيرة المسمى "كتاب المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" فوجدت فيه المحمود والمقبول، والمردود والمرذول.
أما المحمود منه فإنشاؤه وصناعته، فإنه لا بأس بذلك إلا في الأقل النادر. وأما المردود فيه فنظره وجدله، واحتجاجه واعتراضه، فإنه لم يأت في ذلك في الأكثر الأغلب بما يلتفت إليه مما يعتمد عليه.
فحداني على تتبعه ومناقضته في هذه المواضع النظرية أمور، منها إزراؤه على الفضلاء، وغضه منهم، وعيبه لهم، وطعنه عليهم، فإن في ذلك ما يدعو إلى الغيرة عليهم، والانتصار لهم.
ومنها إفراطه في الإعجاب بنفسه، والتبجح برأيه، والتقريظ لمعرفته وصناعته، هذا عيب قبيح عمل الإنسان والاجتهاد، ويوجب المقت من الله والعباد.
ومنها أنه قد أومأ مرارا في كتابه إلى عتاب دهره؛ إذ لم يعطه على قد استحقاقه، فأردنا أن نعرفه أن الأرزاق ليست على مقادير الاستحقاق، وأن الرزق مقسوم لا يجلبه الفضل، ولا يرده النقص.
ومنها أن جماعة من أكابر الموصل قد حسن ظنهم في هذا الكتاب جدا، وتعصبوا له، حتى فضلوه على أكثر الكتب المصنفة في هذا الفن، وأوصلوا منه نسخا معدودة إلى مدينة السلام1 وأشاعوه، وتداوله كثير من أهلها.
1 مدينة السلام: بغداد.
فاعترضت عليه بهذا الكتاب، وتقربت به إلى الخزانة الشريفة المقدسة النبوية الإمامية المستنصرية، عمر الله تعالى بعمارتها أندية الفضل ورباعه، وأطال بطول بقاء مالكها يد العلم وباعه، وجعل ملائكة السماء أنصاره وأشياعه، كما جعل ملوك الأرض أعوانه وأتباعه.
وكان أكثر قصدي في ذلك أن يعلم مصنف هذا الكتاب ورؤساء بلدته أن من أصاغر خول1 هذه الدولة الشريفة -فالعجب مبير، ولا أنبئ عني فمثلي كثير- من إذا ألغز أدرى، وإذا ضرب أفرى2 وإذا رشق أصمى3، وإذا نكا4 أدمى، وأن دار السلام، وحضرة الإمام ما خلت كما تزعم المواصلة ممن إذا سوبق خلى، وإذا بوسر5 فاز بالقدح المعلى6 وإذا خطب خضعت لبراعته المناصل7، وإذا كتب سجدت لبراعته الذوابل، وإذا شاء علم الناس السحر، وما أنزل على
1 الخول: الخدم والعبيد والإماء وغيرهم من الحاشية، للواحد والجميع والمذكر والمؤنث.
2 فرى وأفرى: شق.
3 أضمى الصيد: رماه فقتله مكانه.
4 نكأ القرحة على وزن منع: قشرها قبل أن تبرأ فنديت. ونكى الأعداء نكاية: جرحهم.
5 بسر: من معانيها قهر وابتدأ الشيء، ويظهر أن المؤلف صاغ من الفعل باسر بمعنى غالب وسابق، ثم بناه للمجهول.
6 القدح المعلى: أحد قداح الميسر عند العرب في الجاهلية، وهي عيدان تتخذ من النبع وهو شجر متين لين تصنع منه القسي والسهام، والقداح الرامجة سبعة وغير الرابحة ثلاثة، والمعلى أكثر الرابحة حظا لأن له سبعة أنصبة.
7 المناصل: جمع منصل وهو السيف.
الملكين ببابل، وأن في الأغفال المغمورين من رعايها من لو هدر1 لقرت له الشقاشق2، ولو نطق لتجلت بشموسه المهارق3، ولو جرد حسام قلمه لقال الملك للسيف اغرب فأنت طالق، فكيف بسدنة4 كعبتها والحافين بشريف سدتها5، فحول البلاغة الذين إذا ركض أحدهم في حلبة البيان أخجل البروق، وسخر بالرياح، وإذا ضرب الأعداء بصارم اللسان قد السلوقي المضاعف، حتى توقد نار الحباجب في الصفاح6.
وهذا الكتاب وقع إليَّ في غرة ذي الحجة من سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، فتصفحه، أولا أولا في ضمن الأشغال الديوانية التي أنا بصددها، وعلقت في هذا الكتاب في أثناء تصفحه على المواضع المستدركة فيه إلى نصف الشهر المذكور، فكان مجموع مطالعتي له واعتراضي عليه خمسة عشر يوما، ولم
1 هدر البعير هدرا وهديرا: صوت في غير شقشقة.
2 الشقاشق جمع شقشقة بالكسر: شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج.
3 المهارق: جمع مهرق وهي الصحيفة.
4 السدنة: جمع سادن وهو خادم الكعبة أو خادم بيت الصنم.
5 السدة: باب الدار.
6 من قول النابغة في مدح الغساسنة ووصف سيوفهم:
تقد السلوقي المضاعف نسجه
…
وتوقد بالصفاح نار الحباحب
السلوقي: الدروع المنسوبة إلى سلوق على وزن صبور بلدة باليمن تنسب إليها الدروع والكلاب. الصفاح: حجارة عراض رقاق. الحباحب: ذباب يطير بالليل له شعاع كالسراج، ومنه نار الحباحب. أو نار الحباحب ما اقتدح من شرر النار في الهواء من تصادم الحجارة، وقيل كان أبو حباحب رجلا لا يوقد ناره إلا بالحطب الشخث لئلا ترى، وقيل إنها من الحبحبة وهي الشررة تسقط من الزناد.
أعاود النظر فيه دفعة ثانية، وربما يسنح له عند المعاودة نكت أخرى، وإن وقع ذلك ألحقتها.
وقد سميت هذا الكتاب "الفلك الدائر على المثل السائر" لأنه شاع من كلامهم، وكثر في استعمالهم أن يقولوا لما بادودثر "قد دار عليه الفلك" كأنهم يرويدون أنه قد طحنه ومحا صورته. من ذلك قول أبي العتاهية:
إن كنت تنشدهم فإنهم
همدوا ودار عليه الفلك1
وأنا أسأل الله المعونة والتوفيق، وأستمنحه الهداية إلى سواء الطريق بمنه وكرمه
1-
قال المصنف: "نسأل الله أن يبلغ بنا من الحمد ما هو أهله"2.
أقول إنه أول ما تكلم سأل أمرا يستحيل عقلا؛ لأنه تعالى لا نهاية لما هو أهله من المحامد، سواء جعل الحمد بمعنى المدح أو أخص.
أما الأول فلان جلالته تعالى وعظمته وصفة كماله لا تقف عند غاية، ولا تنقطع عند حد، وأما الثاني فلأن نعمه لا نهاية لها بتعريضه إيانا للثواب والنعيم الذي لا نهاية له، فإذًا هو سبحانه أهل للحمد الذي لا نهاية له على
1 ليس البيت بديوانه.
2 نص عبارة ابن الأثير في أول المقدمة: "نسأل الله ربنا أن يبلغ بنا من الحمد ما هو أهله" 1/ 35.
كلا التفسيرين، ويستحيل أن يبلغ بنا إلى ذلك؛ لأن القوة المتناهية لا تقوى على أمور غير متناهية.
ليس لظان أن يظن هذا القول يجري مجرى قول الناس الحمد لله كما هو أهله، فإن ذلك كلام مجمل، لا يتضمن سؤالا، ولا يقتضي دعاءه تعالى ن يجعلنا حامدين حمدا لا بداية ولا نهاية.
2-
قال المصنف: "وأن يعلمنا من البيان ما تقصر عنه مزية للنطق وفضله"1.
أقول: هذا أيضا سؤال أمر مستحيل؛ لأن النطق هو كمال الصورة الإنسانية إن أُخذ على تفسير التعليم الطبيعي، والفصل المميز إن أُخذ على تفسير التعليم المنطقي. وعلى كلا التفسيرين فيه يكون الإنسان إنسانا، فيستحيل أن يفضله البيان في مرتبة وفضيلة؛ لأن الفرع لا يفضل الأصل الذي لولاه لما كان.
واعلم ن هذين الأعتراضين قد يعتذر المصنف عنهما بأنه إنما قال ذلك على سبيل المبالغة، ويسمى غلوًّا، وهو مستهجن في الكتابة وأحد عيوبها القبيحة، وإنما يسلكه الشعراء، وأما الكاتب ففي سعة عنه، ومذهب الكتابة غير مذهب الشعر.
1 عبارة ابن الأثير: "وأن يعلمنا من البيان ما تقصر عنه مزية الفضل وأصله".
3-
قال المصنف: وأن يُوفقنا للصلاة على رسوله محمد الذي هو أفصح من نطق بالضاد، ونسخ بهديه شريعة كل هاد1.
أقول في هذا الكلام عيب ظاهر، وذلك أن عطف الفعل وهو "نسخ" على الاسم وهو "أفصح" وهذا قبيح. ألا ترى أنه يقبح أن يقال: زيد أفصح القوم، وضرب زيد. والوجه أن يقال الذي هو أفصح من نطق بالضاد، والمنسوخ بهداه شريعة كل هاد.
4-
قال المصنف: "ولا أدعي فيما ألفته فضيلة الإحسان، ولا السلامة من سبق اللسان". ثم قال بعد سطر واحد: "وإذا تركت الهوى قلت إن هذا الكتاب بديع في إعرابه، وليس له صاحب من الكتب، فيقال إنه متفرد من بين أصحابه"2.
أقول: وهي يدعي أحد فضيلة الإحسان بأبلغ من هذا الكلام؟ وقد قال قبل هذا التواضع بثلاثة أسطر: "إن الله هداني لابتدع أشياء لم تكن من قبلي مبتدعة، ومنحنى درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة
1 عبارة ابن الأثير: "وأن يوفقنا للصلاة على نبينا ومولانا محمد رسوله الذي هو أفصح من نطق بالضاد. ونسخ هدية شريعة كل هاد" 1/ 35.
2 عبارة ابن الأثير: "فيقال إنه متفرد بين أصحابه من إخوانه أو من أترابه" 1/ 37.
وإنما تكون متبعة"1. فمن يزعم أن الله هداه في هذا الفن إلى ابتداع أشياء لم يسبق بها، ورزقه فيها بلوغ درجة الاجتهاد التي يتبعها الناس، ولا تكون تابعة لأحد منهم، كيف يقول لا أدعي فيما ألفته فضيلة إلا وبلغتها؟.
5-
قال المصنف: "موضوع الحساب هو الأعداد من جهة ما يعرض لها من الضرب والقسمة ونحوهما، وموضوع الطب بدن الإنسان من جهة مايصح ويمرض، وموضوع النحو هو اللفظ من جهة الدلالة على المعنى من طريق الوضع اللغوي، وموضوع علم البيان هو اللفظ والمعنى من جهة الحسن والقبح. ثم قال: صاحب هذا العلم هو والنحوي يشتركان في النظر في دلالة الألفاظ على المعنى من جهة الوضع اللغوي، وتلك دلالة عامة، وصاحب علم البيان ينظر في فضيلة تلك الدلالة، وهي دلالة خاصة"2.
أقول أما موضوع علم النحو فغير ما ذكر، بل الذي ذكر موضوع علم اللغة؛ لأن اللغوي هو الذي ينظر في الألفاظ من حيث كانت دلالة بالوضع
1 المقدمة 1/ 37.
2 قال ابن الاثير: "
…
وعلى هذا فموضوع علم البيان هو الفصاحة والبلاغة، وصاحبه يسأل عن أحوالهما اللفظية والمعنوية، وهو النحوي يشتركان في أن النحوي ينظر في دلالة الألفاظ على المعاني من جهة الوضع اللغوي، وتلك دلالة عامة وصاحب علم البيان ينظر في فضيلة تلك الدلالة، وهي دلالة خاصة، والمراد بها أن تكون على هيئة مخصوصة من الحسن، وذلك أمر وراء النحو والإعراب، ألا ترى أن النحوي يفهم معنى الكلام المنظوم والمنثور، ويعلم مواقع إعرابه، ومع ذلك فإنه لا يفهم ما فيه من الفصاحة والبلاغة 1/ 39.
اللغوي على المعاني، وأما موضوع علم النحو فهو الألفاظ من جهة تغييرات تلحق أواخرها أو تلحقها أنفسها على قول من جعل التصريف جزءا من النحو، ولم يجعله علما مفردا.
6-
قال المصنف: "وقد غلط مفسرو الأشعار في اقتصارهم على شرح المعنى، وما في الشعر من الكلمات اللغوية، وتبيين مواضع الإعراب فيه دون ما تضمنه من أسرار البلاغة والفصاحة".
أقول: إن مفسري الأشعار جعلوا قصدهم وكدهم كشف مراد الشاعر ليُعلم، ففسروا الألفاظ اللغوية وما في الشعر من إعراب نحوي يتعلق فهم المعنى به، وتارة يشرحون المعنى فقط، إذا لم يكن في البيت ألفاظ لغوية، ولا يرتبط المعنى بإعرابه، كأنهم إنما وضعوا الشروح المصنفة لتفسير مراد الشاعر فقط، فكل ما يذكرونه من زيادة على ذلك مقصودة بالعرض لا بالذات، وإذا كانت الحال هكذا لم يجز أن يقال إنهم غلطوا لإخلالهم بنقد الشعر والكلام على ما فيه من علم الصناعة الشعرية، والبحث عن فصاحته وبلاغته؛ لأن ذلك فن مفرد لم يضعوا شروحهم له، وكذلك لم يتكلموا في العروض والقوافي ودقائق التصريف. فإن قلت قد تكلم كثير من شارحي الأشعار في العروض والقوافي ودقائق في التصريف أيضا، قلت: وقد تكلم كثير من شارحي الأشعار في نقدها. وبحثوا عن فصاحتها وبلاغتها وما تحتهما من أسرار ذلك. ثم يقال له إن جمهور مفسري القرآن
اقتصروا على شرح المعاني واللغة والإعراب وأسباب النزول، وما يتضمنه الكتاب العزيز من الفقه والأصول ونحوها، ولم يذكروا في تفاسيرهم نقد ما فيه من البلاغة والفصاحة وأسرارها، فإن ارتكبت من ذلك قياسك، وغلطت المفسرين، كنت مغلطا لأكابر الصحابة، كعلي بن أبي طالب عليه السلام، وعبد الله بن عباس، وهما اللذان أخذ علم التفسير كله عنهما، ويكفيك ذلك قبحا وشناعة، وإن لم تغلط المفسرين، فقد انتقض ما قلته من شرح الأشعار.
7-
قال المصنف: "وصناعة تأليف الكلام من المنشور والمنظوم تفتقر إلى آلات كثيرة. وقد قيل إن كل ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسه إليه، فيقال فلان الكاتب لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن"1.
أقول هذا الكلام من أبهات2 الكتاب وتزويقاتهم، ولا يعول عليه محصل، وهذه الفنون التي يذكرها الكُتَّاب، ويزعمون أن الكتابة مفتقرة إليها، إن أرادوا بها ضررتها فهذا باطل؛ لأن سحبان3
1 ملخص من كلام ابن الأثير: 1/ 40.
2 الأبهات: جمع أبهة على وزن سكرة وهي العظمة والكبر.
3 سحبان وائل خطيب فصيح يضرب به المثل والبيان والفصاحة، خطب أمام معاوية فلم يشعر شاعر ولم يحطب خطيب؛ لأنهم بهروا بفصاحته البيان والتبيين 1/ 6، 48، 348.
وقسا1 وغيرهما من خطباء العرب ما كانت تعرفهما، وكذلك من كان في أول الإسلام من الخطباء كمعاوية2 وزيادة3 وغيرهما.
وإن أرادوا أنها متممة ومكملة فهذا حق، ولكن عدمها لا يقتضي سلب اسم الكتابة، مع أن كل ما يحتاج إليه الكاتب يحتاج إليه الشاعر وزيادة.
8-
قال المصنف: "ومن أقسام الفاعل والمفعول ما لا يفهم إلا بعلامة، كتقديم المفعول على الفاعل، فإنه إذا لم يكن ثم علامة تبين أحدهما عن الآخر، وإلا لأشكل الأمر، كقولك "ضرب زيد عمر" بالوقف عليهما ويكون زيد هو المضروب، فإنك إذا لم تنصب زيدا وترفع عمرا لم يُفهم ماذا
1 قس بن ساعدة الإيادي خطيب جاهلي من قبيلة إياد، كان يخطب الناس ويعظهم في سوق عكاظ، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: رأيته بالسوق على جمل أحمر وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت "البيان والتبيين 1/ 308".
وقال الجاحظ: ولإياد مزية ليست لأحد من العرب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي روى كلام قس بن ساعدة وموقفه على جملة بعكاظ وموعظته، وهذا إسناد تعجز عنه الأماني، وتنقطع دونه الآمال "البيان والتبيين 1/ 52".
2 معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية سنة 41هـ وكان من دهاة العرب وفصحائهم.
3 زياد بن أبيه أحد ولاة معاوية وخطباء العرب المشهورين وساستهم. ألحقه معاوية بنسب أبي سفيان سنة 44 فكان عنده عضده القوي وولاة البصرة والكوفة وسائر العراق، ولم يزل واليا حتى توفي.
أردت. ومن هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} 1.
أقول إن هذه الآية لا مدخل له في هذا الموضع؛ لأنا لو وقفنا على الفاعل والمفعول منها لم يحصل الالتباس، لعلمنا أن الله لا يخشى أحدا لا من العلماء ولا من غيرهم، فالآية تدل بنفسها لا بعلاقة لفظية على أنه تعالى مفعول، وأن العلماء فاعل، بخلاف ما إذا وقفنا على زيد ومحمد في ضرب زيد محمدا، فقد بان أن تمثيله بهذه الآية مضاهيا بضرب زيد محمد غير صحيح، وأن أحد المثالين لا يشابه الآخر.
9-
قال المصنف: "وكل خماسي يحذف منه في التصغير حرف، سواء كان في الكلمة حرف زائد أو لم يكن، مثال الزائد منطلق تصغيره مُطَيْلق، فإن كان في الكلمة حرفان زائدان استبقيت الميم لأنها زيدت لمعنى وأسقطت النون لأنها زيدت لغير معنى، ومثال الأصول جحمرش تصغيره جُحيمر"2.
أقول: هذه القضية على إطلاقها غير صحيحة، فإنهم قالوا في تصغير حمراء ونحوها حُميراء، وهي خماسية، ولم يسقطوا شيئا، وكذلك لفظة أجمال3 صغروها فقالوا أُجيمال، فهذه الخماسيات ما أسقطوا منها شيئا، ولا تصرفوا فيها بشيء سوى ياء التصغير فقط، ومن الخماسيات ما تصرفوا فيه نوع تصرف،
1 المثل السائر 1/ 45، والآية من سورة فاطر 28.
2 المثل السائر 1/ 49.
3 أجمال: جمع جمل.
ولم يسقطوا منه شيئا، نحو ميزان فإنهم قالوا مُويزين، فأبدلوا ولم يسقطوا، وبالجملة فقوله كل خماسي لا بد أن يسقط بعض حروفه قول غير صحيح.
10-
قال المصنف: "وقد غلط أبو نواس فيما لا يغلط فيه مثله حيث قال:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها
…
حصباء على أرض من الذهب1
فإن فُعلى أفعل لا يجوز حذف اللام منها إلا إذا أُضيفت، وإنما يُحذفان من فعلى التي لا أفعل لها، نحو حُبلى"2.
أقول إنا لا ننكر أن كثيرا من أئمة العربية طعن في هذا البيت، لكن كثيرا منهم انتصر له، وقالوا قد وجدنا فعلى أفعل في غير موضع وإرادة بغير لام لا مضافة، مثل دنيا في قول الراجز:
في سعي دنيا طال ما قد مدت
وقول الآخر "لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة
…
" ومثلها أخرى، وقد جاء جُلَّى في قوله:
وإن دعوت إلى جلي ومكرمة
…
..........................3
1 ديوان أبي نواس 243 وأكثر الرواة على أنها "فقاقعها" وهي النفاخات التي تعلو الماء أو الخمر.
2 المثل السائر 1/ 52.
3 تكملة البيت: يوما سراة كرام الناس فادعينا.
من قصيدة لبعض بني قيس بن ثعلبة، ويقال إنها لبشامة بن جزء "حزن" النهشلي، مطلعها:
إنا محيوك يا سلمى فحيينا
…
وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
"شرح الحماسة للمرزوقي 1/ 100".
وقالوا: طوبى لك.
وفي البيت وجه، وهو أن يُجعل من في قوله من فواقعها زائدة على مذهب أبي في الحسن، زيادة من في الواجب، فإنه يذهب إلى ذلك1.
ويحتج بقوله تعالى: "فيها من برد" أي فيها برد، وعلى هذا يكون فعلى من البيت مضافة، وقد وقع الاتفاق على جوازه.
1 أبو الحسن الأخفش، يرى هو والكسائي وهشام زيادة "من" بلا شرط مستدلين بقوله تعالى:"ويغفر لكم من ذنوبكم" لأن "من" في حيز الإيجاب وهي زائدة داخلة على المعرفة، قالوا: ولو لم نقل بزيادتها في الآية لزم التناقض بينها وبين قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ، وأجيب بأن قوله تعالى:{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} خطاب لقوم نوح، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} خطاب لأمة محمد عليه الصلاة والسلام. على أنه لو كان الخطاب لأمة واحدة لم يلزم التناقض بين الآيتين؛ لأن غفران بعض الذنوب، لا يناقض غفران كلها، بل عدم غفران بعضها يناقض غفران كلها.
والصحيح أن "من" في الآية تبعيضية، أي يغفر لكم شيئا من ذنوبكم كما قال سيبويه، والجمهور يشترط لزيادة "من" ثلاثة شروط:
أحدها: أن تكون مسبوقة بنفي نحو {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} أو نهي بلا نحو {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} أو استفهام بهل خاصة.
مثل قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ} وبعضهم ألحق الهمزة بهل في هذا الباب.
الثاني: أن يكون مجرورها نكرة كما تقدم.
الثالث: أن يكون مجرورها المنكر فاعلا أو مبتدأ أو اسما لكان أو مفعولا به.
وبعض الكوفيين أجازوا زيادتها بشرط تنكير مجرورها فقط.
ونقل السعد عن القوم أن "من" لا تزاد في الإثبات إلا في تمييز كم الخبرية إذا فصل منها بفعل متعد كقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} .
11-
قال المصنف: "وقد غلط أبو تمام في قوله:
بالقائم الثامن المستخلف اطأدت
…
قواعد الملك ممتدا لها الطول1
والصواب اتطدت بالتاء؛ لأن التاء تبدل من الواو في موضعين:
أحدهما: مقيس عليه كهذا الموضع؛ لأنك إذا بنيت افتعل من الوعد قلت اتعد، وهنا يجب أن يكون اتطد لأنه من وطد يطد، مثل وعد يعد"
أقول: قرأت بخط أبي زكريا رحمه الله: قال: العلماء: اشتقاق اطأدت من الطود، وهو الجبل بني على افتعلت من ذلك، فقيل اطادت لينا غير مهموز لأن تاء الافتعال إذا كان بعدها تاء قلبت ألفا، ثم همزها في الشعر للضرورة.
12-
قال المصنف: "وقد لحن أبو نواس في أمر ظاهر، فقال لمحمد بن الأمين:
يا خير من كان ومن يكون
…
إلا النبي الطاهر الميمون2
فرفع بعد الاستثناء من الموجب".
أقول إن أبا نواس يستعمل في شعره مذهب الكوفيين كثيرا، وهذا من جملة مذاهبهم، وقد قال:
1 تصويب البيت من المثل السائر 1/ 53.
الديوان 167.
2 ديوان أبي نواس 337 ومنه أكملنا الشطر الثاني وصححناه.
لمن طلل عافى المحل دفين
…
"عفا عهده إلا خوالد جون1"
فابتدأ بقوله خوالد جون، وحذف الخبر وتقديره فإن الأمين لا يفضله. على أن الناس من رواه "إلا النبي الطاهر الميمون" فنصب اللفظتين الأوليين على الاستثناء من الموجب ونعته، ورفع الميمون على حذف المبتدأ، تقديره هو الميمون، ويجوز في الوصف إذا كرر أن يتبع وأن يستأنف.
13-
قال المصنف: "وقد خفي على أبي الطيب المتنبي أمر ظاهر، فقال يصف ناقة:
وتكرمت ركباتها عن مبرك
…
تقعان فيه وليس مسكا أذ فرا
فجمع في حال التثنية فقال ركباتها عن مبرك تقعان فيه وليس للناقة إلا ركبتان"2.
أقول إن هذا من اتساع العرب ومذاهبها غير بعيد، كقولهم: امرأة ذات أوراك، وركان، وقال الشاعر:
ولا رهل لباته وبآدله3 وقد جاء مثله في حكم داود وسليمان في الغنم التي نفشث في الحرث وكنا لحكمهم شاهدين.
1 من أبيات له في مدح الأمين، منها:
ولي عهد ما له قرين
…
ولا له شبه ولا خدين
أستغفر الله بلى هارون
…
يا خير من كان ومن يكون
إلا النبي الطاهر الميمون
…
زلت له الدنيا وعز الدين
2 التصويب من ديوان المتنبي 1/ 368 ومن المثل السائر 1/ 55.
3 هذا هو الشطر الثاني من البيت: ط
فتى قد قد السيف لا متضائل
…
ولا رهل لباته وأباجله
وهو من قصيدة لزينب بنت الطثرية في رثاء أخيها:
"شرح الحماسة للمرزوقي 3/ 1046".
رهل: مسترخ. اللبات: المراد الصدر. الأباجل: جمع أبجل وهو عرق في باطن الذراع وعرق غليظ في الرجل.
وعلى رواية "بآدله" فإنها جمع بأدلة وهي لخمة الإبط والثندوة.
14-
قال المصنف: "فأما الإدغام فلا حاجة إليه لكاتب، لكن الشاعر ربما احتاج إليه؛ لأنه قد يضطر في بعض الأحوال إلى إدغام حرف أو فك أو إدغام من أجل إقامة الميزان الشعري".
أقول إن المعرفة بأبواب الإدغام ومباحثه كما يحتاج إليه الشاعر لإقامة الميزان الشعري قد يحتاج إليه الكاتب للقرينة، وقد يصيب فيه وقد يخطئ.
مثال الخطأ نقول: "وأخلص بعدما نافق، وأصحب بعدما شاقق" فقد دعته القرينة إلى أن أخطأن في فك الإدغام في موضع لا يجوز فكه فيه.
ومثال الصواب أن يقال أولاهم بالإحسان من لم يغش ولم يمارق ولم يشق عصا ولم يشاقق.
15-
قال المصنف: "والأسماء المترادفة هي التي يتحد فيها المسمى وتختلف أسماؤه كالخمر والرح والمدام، فإن المسمى بها شيء واحد، والأسماء كثيرة1.
أقول: هذا الموضع من أمثال الغلطات التي نبه عليها المنطقيون، فقالوا قد يظن في كثير من الأسماء أنها مترادفة، وهي في الحقيقة متباينة، كالسيف والصارم والمهند موضوع للمنسوب إلى الهند، فكل واحد من هذه المعاني
1 المثل السائر 1/ 56.
مباين للآخر فالأسماء الموضوعة لها متباينة في الحقيقة، وإن ظن في الظاهر أنها متردافة.
وكذا ما مثل به هذا المصنف، فإن الخمر اسم موضوع لهذا الشراب المخصوص، وإن كان مشتقا غير مرتجل، والراح اسم لما ترتاح النفس إليه، والمدام اسم لما يدام استعماله، كأنه أديم يدام فالمعاني متبانية لا محالة، وإن توهم في الظاهر أنها مترادفة.
16-
قال المصنف: "والأسماء المشتركة هي التي تتحد، وتختلف مسمياتها كالعين"1.
أقول ينبغي أن تزاد في ذلك زيادة فيقال هي التي وضعت لها وضعا أولا، ويكون ذلك احترازا عما يدل على شيء بالحقيقة وعلى غيره بالمجاز فإنه متحد تختلف مسمياته، ولا يُسمى مشتركا.
17-
قال المصنف: من الناس من منع وقوع اللفظ المشترك بمعنى أنه لا يكون حقيقة في مسميين، بل يكون مجازا في أحدهما، واحتج بأن ذلك مخل بفائدة وضع اللغة؛ لأن مقصود الواضع الإفهام والإبانة والاشتراك يخل بذلك.
1 قال ابن الأثير: كذلك يحتاج "الكاتب" إلى معرفة الأسماء المشتركة، ليستعين بها على استعمال التجنيس في كلامه، وهي اتحاد الاسم واختلاف المسميات، كالعين فإنها تطلق على العين الناظرة وعلى ينبوع الماء وعلى العطر وغيره
…
"المثل السائر 1/ 56".
ثم أجاب فقال: لا نسلم أن مقصود الواضع هو البيان فقط، بل البيان والتجنيس، فالبيان يحصل بالألفاظ المتباينة التي هي كافية في الإفهام، وأما التجنيس فإنه مهم في هذه اللغة؛ لأنه عمدة الفصاحة والبلاغة، ولا يقوم به إلا الأسماء المشتركة، وهي وإن أخلت بفائدة البيان إلا أنه إخلال يمكن استدراكه بالقرينة الدالة على المراد من اللفظ المشترك، والإخلال بوضع الألفاظ المشتركة تسقط به الفصاحة والبلاغة ورونقها، ولا استدراك له بحال، فكان وضع الألفاظ المشتركة متعينا1.
أقول: لا نسلم أنه بتقدير عدم الألفاظ المشتركة يذهب التجنيس من الكلام، ولا يزول رونقه وبهاؤه كما زعم هذا الرجل، وبيانه أن التجنيس يحصل بتشابه لفظتين في الحروف الأصلية، وإن كانت في إحداهما زوائد ليست في الأخرى، مثاله أبي تمام:
متى أنت عن ذهلية الحي ذاهل2
وقوله:
تطل الطولول الدمع من كل موقف
وقوله:
منازل لم يخف الربيع ربوعها
1 ملخص ما قاله ابن الأثير 1/ 57.
2 تكلمته: وقلبك منها مدة الدهر آهل.
وهو مطلع قصيدته في مدح محمد بن عبد الملك الزيات "الديوان 3/ 112".
فذهلية منسوبة إلى ذهل اسم رجل، وذاهل فاعل ذهل عن الأمر يذهل. ويطل الطلول كذلك؛ لأن يطل مضارع أطل دمه أي أهدره، والطلول جمع طلل وهو ما شخص من آثار الديار. وكذلك الربيع وهو العشب والربوع جمع ربع وهو المنزل، فهذه كلها تتضمن التجنيس، وليست من المشتركات؛ لأنها ليست متماثلتين دالتين على مسميين مختلفين، كلفظة العين.
وأكثر التجنيس في الشعر والرسائل مثل هذا، ولا يستعمل فيه التجنيس بالمشترك إلا في النادر أيضا، فلو كان كل تجنيس في الذهن بالمشترك فقط لم يكن ذلك من المقصودات الأصلية التي تقتضي وضع المشترك مع ما فيه من تردد فهم السامع وعدم معرفته، فإن محذور ذلك أعظم من تزويق اللفظ بالمشتركات، خصوصا ويمكن استدراك غير اللفظ بغير التجنيس، كالمطابقة والمقابلة وغيرهما من أنواع البديع.
والعجب من قول هذا الرجل إن عدم التجنيس يذهب حسن الكلام، وقوله إن واضع اللغة نظر إلى ما تحتاج إليه الفصاحة والبلاغة، فوجد من مهمات ذلك التجنيس الذي لا يقوم إلا بالأسماء المشتركة، وهو يرى القرآن عاريا عن التجنيس، وهو أحسن الكلام وأفصحه وأبلغه، كما قال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيث} 1.
وليت شعري كيف تحتاج البلاغة إلى التجنيس؟ أتراه يعلم ما البلاغة؟
1 الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.
سورة الزمر: 23.
ألم يسمع كلام عبد الحميد بن يحيى1 وابن المقفع2 ومن جاء بعدهما من الكتاب، ومن كان قبلهما من فصحاء العرب الذين كلامهم محض البلاغة؟ فهل ترى لأحد منهم تجنيسا في كلامه، اللهم إلا أن يقع ذلك اتفاقا غير مقصود قصده؟
18-
قال المصنف: وقد استعمل المشترك في الكلام العزيز قال سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} 3 فالساعة الأولى هي القيامة والساعة الثانية هي هذا المقدار المخصوص من الزمان4.
أقول لذاهب أن يذهب إلى أن الساعة في الموضعين بمعنى واحد، وهو هذا المقدار المعين من الزمان، وسميت القيامة ساعة لما يجري فيها من الأهوال والأمور الشاقة، وهذه عادتهم إذا استعظموا أمرا يقع في زمان مخصوص اكتفوا بذكر ذلك الزمان في الدلالة عليه، كقولهم يوم الجمل5 ويوم ذي قار6 وليلة الهرير7 وقوله سبحانه: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ
1 عبد الحميد بن يحيى مولى فارسي لبني عامر نشأ بالشام في أخريات الدولة الأموية، وكتب لمروان بن محمد سنة 127هـ ويعتبر من الزعماء الذين كان لهم أثر عظيم في النثر الفني توفي سنة 132هـ.
2 ابن المقفع هو عبد الله بن المقفع أحد فحول البلاغة في العصر العباسي الأول ولد حوالي 106 وقتل سنة 142 وله مؤلفات شتى منها الأدب الكبير والأدب الصغير وترجمة كليلة ودمنة.
3 سورة الروم: 55.
4 لم نجد هذا النص في كلام ابن الأثير عن المشترك ولكننا وجدناه قد استدل بالآية في التجنيس "المثل السائر 1/ 343".
5 موقعة كان بين علي بن أبي طالب وطلحة والزبير والسيدة عائشة سنة 36هـ بالقرب من البصرة، واقتصر فيها علي بن أبي طالب، وانحصر بعدها النزاع بين حزبين اثنين هما حزب معاوية بن أبي سفيان. وحزب علي بن أبي طالب.
6 يوم ذي قار أشهر الوقائع بين بني بكر بن وائل وبني شيبان وبني عجل وبين كسرى وحلفائه من العرب، كان النصر فيه للعرب، وكان ذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد البعثة. وقد أشاد الشعراء بانتصار العرب أيما إشادة "مروج الذهب 1/ 134 والتنبيه والإشراف 208 والأغاني 2/ 29 و20/ 132 وتاريخ الطبري 2/ 146".
7 ليلة الهرير: ليلة بصفين كانت بين علي ومعاوية، حدث معاوية أنه هم فيها بالفرار، لولا أبيات لعمرو بن الإمنابة ثبتته وقوته على البقاء "العمدة 1/ 10" ومن أيام العرب في الجاهلية يوم الهرير بين بكر بن وائل وتميم "القاموس المحيط مادة هر".
تُوعَدُونَ} 1 ولم يقل أحد إن لفظة يوم مشتركة، وأنها في هذا الموضع بمعنى القيامة وفي غيره بمعنى هذا الزمان المخصوص، وعلى هذا يكون معنى قوله تقوم الساعة أن تحضر الساعة التي وعدوا بالمجازاة فيها، فلا تكون اللفظة مشتركة كما زعمه هذا المصنف، أو يكون مجازا في القيامة حقيقة في الوقت المخصوص، فلا يتم أيضا ما يريده من الاشتراك.
ويؤكد بطلان الاشتراك أن العرب لم تكن تعرف القيامة فيضعوا لها لفظة الساعة، كما وضعوا لفظة الفرس لهذا الحيوان المخصوص، اللهم إلا أن يقال إنها حقيقة شرعية، فيكون ذلك تسليما لما يقوله المعترض؛ لأن الحقيقة الشرعية مجاز حقيقي في أصل الوضع.
19-
قال المصنف: وقد تعسف قوم وأجابوا عن شبهة الاشتراك في اللغة فقالوا: الأسماء المشتركة إنما وضعتها قبائل مختلفة لا واضع واحد. قال: وهذا باطل؛ لأنه قد ورد الجموع ما يقع على مسميين مختلفين مثل كعاب جمع كعب وجمع الكعبة لهذه البنية المخصوصة، وقد ورد لفظ لمفرد وجمع لغيره على وزنه، مثل الراح اسم الخمر، وجمع راحة وهي راحة الكف، ومثل عقاب للعقوبة وجمع عقبة، ونظائر هذا كثيرة2.
أقول لصاحب هذا الجواب أن يقول إن هذه الجموع أيضا وضعتها قبائل مختلفون، فوضع بنو تميم مثل الكعاب جمع كعبة، وكذلك ما جاء مثل الراح المفرد بمسمى والراح الجمع لمسمى آخر يجوز أن يكون ورد عن قبيلتين كل واحدة منهما وضعت اللفظة بمسمى غير ما وضعته القبيلة الأخرى له،
1 سورة الأنبياء: 103 {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} .
2 المثل السائر 1/ 59.
فالقدر الأول عن وقوع الاشتراك في اللغة مطرد فيما ظن هذا المصنف أنه لا يمكن اطراده فيه حذو النعل بالنعل.
20-
قال المصنف: "وحد المثل هو القول الوجيز المرسل ليعمل عليه"1.
هذا باطل بقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاة} 2 فإنه قول وجيز أرسل ليعمل عليه، وليس بمثل، وأيضا فإن أراد بقوله ليعمل عليه أي ليعمل بموجب ما فيه من الاقتضاء والطلب، فهذا باطل بأكثر الأمثال، نحو قولهم: هو أفعل من كذا.
وإن أراد بقوله ليعمل عليه أن يستعمل في الموضع اللائق، فكل بيت شعر من أشعار الجاهلية والمحدثين قول وجيز مرسل يستعمل في موضع يليق به، وذلك يقتضي أن يكون الشعر كله أمثالا، ولم يقل بذلك قائل.
والصحيح أن يقال المثل يطلق على نوعين: أحدهما ما قصد به المبالغة بلفظه أفعل، كقولهم: أشغل من ذات النحيين3، والثاني كل كلام وجيز منثور أو منظوم قيل وفي واقعة مخصوصه تضمن معنى وحكمة، وقد تهيأ بتضمنه ذلك لأن يستشهد به في نظائر تلك الواقعة.
21-
قال المصنف: وقد كتبت كتابا لمن اقترحه عليَّ أذكر فيه فتح مصر معارضا لكتاب كتبه عبد الرحيم بن علي البيساني في المعنى فقلت فيه. "ومن
1 المثل السائر 1/ 62.
2 تكرر هذا الأمر في سورة البقرة 43، 83، 110 وفي سور أخرى.
3 كانت امرأة من بني تيم الله بن ثعلبة تبيع السمن في الجاهلية، فأتاها خوات بن جبير الأنصاري يبتاع منها سمنا، فلم ير أحدا عندها، وساومها، فحلب نحيا -وعاء لبن- فنظر إليه، ثم قال: أمسكيه حتى أنظر إلى غيره، فلما حلب آخر قال أريد غير هذا فأمسكيه، فلما شغل يديها ساورها فلم تقدر على دفعه، حتى قضى ما أراد وهرب "مجمع الأمثال للميداني 1/ 255":
جملتها ما فعله الخادم في الدولة المصرية، وقد قام بها منبر وسرير، وقالت منا أمير ومنكم أمير، فرد الدعوة العباسية إلى معادها، وأذكر المنابر ما نسبته بها من زهو أعوادها، ولم يعدها إلى وطنها حتى تغربت لها الأرواح عن أوطانها، وسهرت لها أجفان السيوف سهر العيون عن أجفانها".
قال فانظر إلى كيف أتيت فيه بكلام الحباب بن المنذر الأنصاري1 حيث قال يوم السقيفة للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير والقصة مشهورة فقال أبو بكر: بل نحن الأمراء وأنتم الوزراء قال: وهذا نكتة هذا الفتح التي عليها المعول، ومركزه الذي عليه يدور.
وعجيب من عبد الرحيم بن علي البيساني مع تقدمه في فن الكتابة كيف فاته أن يأتي به في كتابه2.
أقول إن القاضي الجليل الفاضل النبيل أبا علي عبد الرحيم كان موقفا حيث لم يذكر ما ذكره هذا الرجل وأعجب به، وذلك أن الحباب بن المنذر والأنصار راموا أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير، وملوك الدولة
1 هو الحباب بن المنذر بن الجموح بن زيد السلمي، يكنى أبا عمرو، شهد بدرا وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
كان يقال له ذو الرأي، وهو الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل على ماء بدر للقاء القوم.
وشهد أحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله وهو القائل يوم السقيفة: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير.
مات في خلافة عمر رضي الله عنه. الاستيعاب 1/ 316.
جذيلها المحكك: الجذل عود ينصب للجربي لتحتك به، ومنه: أنا جذيلها المحكك وهو تصغير تعظيم، يريد أنه حكيم محنك يشتفي الناس برأيه كما تشتفي الإبل الجربى باحتكاكها بهذا العود. عذيقها المرجب: العذيق النخلة يكثر حملها فيجعل تحتها دعامة تسمى الرجبة، أو المراد أنه نافع كريم كهذه النخلة التي يكثر حملها.
2 ملخص من المثل السائر 1/ 66.
الطالبية1 بمصر لم يقتصروا على أن يكون منهم خليفة ومن الأئمة العباسية خليفة، بل كانوا يدعون أن الخلافة ليست إلا لهم خاصة، دون غيرهم، وما زالت الحرب بين الفريقين قائمة، والمنهج سائمة على ذلك، ولو لم يكن إلا ما جرى في الأيام القائمة لكفى. فكيف كان القاضي الفاضل على جلالته ممن يذهب عليه هذا، ويشبه واقعتهم بواقعة الأنصار، ويورد كلام الحباب ابن المنذر ويشوه وجه رسالته الحسناء به؟ وإنما ترصع الرسالة بالوقائع والأيام المشهورة إذا كانت مطابقة للحال الحاضرة، لا إذا كانت مخالفة لها، فأما الكلام المنثور الذي أنشأه في هذا فليس من جيد قوله، وفيه مالا يجوز، وإن جاز فهو على ضعف شديد وتكلف عظيم. فمن ذلك قوله:"واذكر المنابر ما نسيته بها عن زهو أعوادها" فإن الباء في بهالا محالة متعلقة بزهو، وإلا لم يبق للكلام معنى، وحينئذ التقدير "وأذكر المنابر ما نسبته من زهو أعواد بها" وحرف الجر إذا تعلق بالمصدر صار من صلته، فلا يجوز تقديمه عليه إلا على تأويل بعيد، وهو أن يقدر مثله شيء قد دل عليه المصدر المتأخر، وهو في هذا الموضع متعذر التقدير أو مستهجن التقدير.
ومن ذلك قوله: "وسهرت لها أجفان السيوف سهر العيون عن أجفانها" فقوله سهر العيون عن أجفانها كلام بارد، لأن العيون لا تسهر عن الأجفان، وما سمعنا من نثر ولا نظم سهرت عيني عن جفني. ولا شبهة أنه أراد وسهرت لها أجفان السيوف سهر أجفان العيون، فلم يستوسق2 له ذلك، فأتى بلفظ إما ألا يكون صحيحا أصلا، أو يحتاج في تصحيحه إلى تعب شديد، ليس تحت اللفظ من المعنى الغريب ما يساوي ذلك التعب.
1 الطالبية هي الفاطمية.
2 لم يستوسق. لم يجتمع.
22-
قال المصنف: وإنما قصدنا أن يكون الكتاب "الذي يكتب" في هذا المعنى مشتملا على الترغيب والترهيب والمسامحة في موضع والمحاققة في موضع1.
أقول قد ظهرت فائدة علم الإدغام في باب الكتابة كما قدمناه، فإن الكاتب أراد أن يوازن لفظة المسامحة بلفظة المحاققة، وسها عن أن المحاققة بفك الإدغام غير جائزة.
23-
قال المصنف: اللفظ قد يتأول في المعنى وضده، وقد يتأول على المعنى وغيره الذي ليس يضد. والأول أغرب وأظرف. فمما جاء منه قوله عليه السلام:"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام".
قال فهذا الحديث يستخرج منه معنيان ضدان: أحدهما أن المسجد الحرم أفضل من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من المسجد الحرام، إلا أن صلاة واحدة فيه لا تفضل ألف صلاة في المسجد الحرام، بل تفضل ما دونها بخلاف المساجد الباقية، فإن ألف صلاة فيه تقصر عن صلاة واحدة فيه2.
أقول: هذا الحديث لا يدل على أن المسجد الحرام أفضل من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا على أن مسجد رسول الله أفضل من المسجد الحرام، وليس الأمر كما توهمه هذا الرجل، وإنما يدل على أن حكم المسجد الحرام مخالف لهذا الحكم الذي قد حكم به صلى الله عليه وسلم في حق مسجده وباقي المساجد؛ لأن تقدير الكلام كل مسجد في الأرض إذا صلى فيه ألف صلاة فهي في الفضيلة دون الصلاة الواحدة في مسجدي، واستثنى من هذا الحكم
1 المثل السائر 1/ 71.
2 ملخص من المثل السائر 1/ 76.
المسجد الحرام فدل في المطابقة على أن المسجد الحرام يخالف باقي المساجد في هذا الحكم.
هذا هو الذي يدل عليه هذا اللفظ فقط، ولا يدل على شيء آخر، لا أفضلية مسجده على المسجد الحرام، ولا أفضلية المسجد الحرام على مسجده.
لكن هذه المخالفة تحتمل أمورا، منها أن يكون مسجده عليه السلام لا تفضل الصلاة الواحدة فيه ألف صلاة في المسجد الحرام، بل تفضل تسعمائة صلاة أو ثمانمائة صلاة مثلا.
ومنها أن يكون مسجده صلى الله عليه وسلم تفضل الصلاة الواحدة فيه صلاة واحدة في المسجد الحرام، لا فرق بينهما.
ومنهما أن تكون الصلاة الواحدة في المسجد الحرام أفضل من صلاة كثيرة في مسجده، إما ألف صلاة أو أقل منها أو أكثر، ومراتب ذلك غير متناهية ولا معلومة، فهذه الاحتمالات كلها تدخل تحت المخالفة التي دل الاستثناء عليها.
فقد ظهر أنه لم يصب في قوله إن هذا الحديث يمكن أن يستخرج منه معنيان ضدان، هما أفضلية مسجده عليه السلام، للمسجد الحرام، والآخر أفضلية المسجد الحرام لمسجده عليه السلام؛ لأنا قد بينا أن الحديث إنما يدل على أن حكم المسجد الحرام مخالف لما قد حكم به في حق مسجده وبقية المساجد، ولا يدل لى شيء آخر لا في هذا ولا في ذاك، لكن المخالفة المدلول عليها يمكن انقسامها إلى أفضلية كل واحد منهما، وإلى تساويهما أيضا.
فالحاصل أن الحديث ما دل على شيئين ضدين كما ذكره صلى الله عليه وسلم، وإن سلم له أنه قد دل فإنه يدل أيضا على المساواة، وهي أمر ثالث، قصدت أيضا، وهي شيء غير أفضلية كل واحد منهما، وذلك لم يذكره المصنف، فقد ظهر أن الذي ذكر مستدرك على كلا التقديرين:
24-
قال المصنف: وقد قال أبو الطيب المتنبي:
وأظلم أهل الظلم منبات حاسدا
…
لمن بات في نعمائه يتقلب
قال: هذا البيت يستخرج منه معنيان ضدان، أحدهما أن المنعم عليه يحسد المنعم، والآخر "أن المنعم يحسد" المنعم عليه1.
أقول أما أولا فإن هذين المعنيين ليسا بضدين، لأنه يجوز اجتماعهما معا، فيكون زيد قد أنعم على عمرو، ثم حسده، وعمرو يحسده أيضا، فيكون المنعم والمنعم عليه كل واحد منهما يحسد صاحبه، فقد بطل التضاد الذي ذكره، ووجب دخول هذا البيت في القسم الأول الآخر، وهو أن تتأول اللفظ على المعنى وغيره لا على المعنى وضده، وأيضا فإن لفظة البيت تشعر بأنه أراد أن المنعم عليه يحسد المنعم، وكذلك سياق الشعر، أم الفظ البيت فلأنه سماه ظالما وقال إنه أظلم الظالمين، ولا شبهة أن من أنعم عليه بنعمة فحسد من أنعم بها عليه وود زوال نعمته، وانتقالها إليه، فإنه يكون قد كافأ الإحسان بالإساءة، وكان ظالما. فإذا أنعم إنسان على غيره ثم حسد ذلك الغير فإنه
1 التصويب من المثل السائر 1/ 77.
والبيت من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب
…
وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
الديوان 1/ 128.
لا يسمى ظالما؛ لأنه لم يكافئ الإحسان بالإساءة. نعم قد يسمى بخيلا كما قال ابن هانئ:
وهب الدهر نفيسا فاسترد
…
ربما جاد بخيل فحسد1
وأما سياق البيت فإن هذا المصنف ذكر في بيت أبي الطيب وهو:
فإن نلت ما أملت منك فربما
…
شربت بماء يعجز الطير ورده2
أنه ليس مترددا بين المدح والذم كما قد توهمه قوم؛ لأن سياق الشعر يقتضي أنه أراد المدح لا الذم، وإذا كان كذلك فسياق هذا الشعر يقتضي أنه أراد أن المنعم عليه يحسد المنعم؛ لأنه قال:
تريد بك الحساد ما الله دافع
…
وسمر العوالي والحديد المذرب
إذا طلبوا جدواك أعطوا وحكموا
…
وإن طلبوا الفضل الذي فيك خيبوا
ولو جاز أن تعطي علاك وهبتها
…
ولكن من الأشياء ما ليس يوهب
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا
…
لمن بات في نعمائه يتقلب3
فهذا يدل على أن الممدوح يعطي هؤلاء وهم يحسدونه، وإذا كانت السياقة تدل على أنه أراد هذا المعنى خرج من كونه دالا على معنيين ضدين كما حكم به في البيت المتقدم.
1 هو أبو القاسم محمد بن هانئ الأزدي الأندلسي، ولد بالأندلس بمدينة إشبيلية ونشأ بها واشتغل بالأدب، ومهر في الشعر، ولما خرج معز الدولة يريد مصر شيعه ومدحه بقصيدة مشهورة، ثم جاء إلى مصر ليلحق به فقتل ببرقة سنة 362.
"وفيات الأعيان 4/ 49".
2 من قصيدته في مدح كافور التي مطلعها:
أود من الأيام ما لا توده
…
وأشكو إليها بيننا وهي جنده
الديوان 1/ 262.
3 من قصيدته في مدح سيف الدولة الديوان 1/ 128.
25-
قال المصنف: وقد قال أبو الطيب أيضا في كافور:
فما لك تعني بالأسنة والقنا
…
وجدك طعان بغير سنان
ومالك تختار القسي وإنما
…
عن السعد يرمي دونك الملوان1
فإن هذا يحتمل المدح والذم، بل هو بالذم أشبه؛ لأنه يقول إنك لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك، بل بجد وسعادة، وهذا لا فضل فيه؛ لأن السعادة ينالها الخامل والجاهل ومن لا يستحقها. قال: وأكثر ما كان المتنبي يستعمل هذا الفن في القصائد الكافوريات2.
أقول إن الناس واقع لهم واقع ظريف مع المتنبي في هذا الباب، وكان أصله الشيخ أبو الفتح عثمان بن جني3 رحمه الله، فإنه نبه المتنبي، ولم يكن ذلك لبغضه لكافور وحنقه عليه، فصار فيه حديث طويل.
وزعم من جاء بعده أن المتنبي كان يقصد ذلك ويتعمده ويمدحه بالشعر الموجه الذي يحتمل المدح والذم.
ومنهم من يزعم أن كافورا كان يتفطن لذلك، ويغضي عنه، وينقلون هذا عن المتنبي، وما كان ذلك قط ولا وقع شيء منه، ولا قصد أبو الطيب نحو ذلك أصلا.
1 رواية الديوان تقديم البيت الثاني على الأول. وفيه "يرمي دونك الثقلان". الديوان 4/ 247.
2 المثل السائر 1/ 78.
3 هو أبو الفتح عثمان بن جني الإمام النحوي، كان من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف، صنف في ذلك كتابا تفوق فيها على المتقدمين وأعجز عن مثلها المتأخرين، منها الخصائص وشرح ديوان المتنبي. وكان يحضر مجلس المتنبي وبناظره، وكان المتنبي يجب بذكائه، وحذقه ويقول: هذا الرجل لا يعرف قدره كثير من الناس.
ولد حوالي سنة 330 وتوفي سنة 392هـ "معجم الأدباء 12/ 81".
فأما هذا الشيئان فقد قال في سيف الدولة أبي الحسن1 مثلهما كثيرا، نحو قوله له:
ولقد رمت بالسعادة بعضا
…
من نفوس العدا فأدركت كلا2
وقوله له:
إذا سعت الأعداء في كيد مجده
…
سعى جده في كيدهم سعى محنق3
وهذه الرواية الأولى من رواية من روى "سعى مجده في جده" لأن قوله بعدها:
وما ينصر الفضل المبين على العدا
…
إذا لم يكن فضل السعيد الموفق يؤكد ما ذكرناه
ونحو قوله له:
لو لم تكن تجري على أسيافهم
…
مهجاتهم لجرت على إقباله4
ونحو قوله له:
هم يطلبون فمن أدركوا
…
وهم يكذبون فمن يقبل
1 سيف الدولة بن حمدان أمير حلب الذي مدحه المتنبي كثيرا.
2 من قصيدته في تعزية سيف الدولة بأخته الصغرى وتسليته بالكبرى التي مطلعها:
إن يكن صبر ذي الرزية فضلا
…
تكن الأفضل الأعز الأجسلا
الديوان 2/ 96.
3 صوبنا البيت من الديوان.
وهو من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي
…
وللحب ما لم يبق مني وما بقي
الديوان 1/ 457.
4 من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
لا الحلم جاد به ولا بمثاله
…
لولا ادكار وداعه وزياله
الديوان 2/ 50.
وهم يتمنون ما يشتهون
…
ومن دونه جدك المقبل1
وقد قال لعضد الدولة أبي شجاع وهو أعظم ملكا من سيف الدولة أبي الحسن وأشد بأسا، وأكثر انتقادا للشعر، وهو يذكر هزيمته "وهشوذان" هو بعيد عن عسكر لدولة أبيه:
وليت يومي فناء عسكره
…
ولم تكن دانيا ولا شاه
ولم يغب غائب خليفته
…
جيش أبيه وجده الصاعد2
وقال له في هذه القصيدة وقد صرح بأنه يقهر الأعداء بالجد فقط:
إن كان لم يعمد الأمير لما
…
لقيت منه فيمنه عامد
فلا يبل قاتل أعاديه
…
أقائما نال ذاك أم قاعد3
وقال له في قصيدة الوداع:
وأيا شئت يا طرقي فكوني
…
أذاة أو نجاة أو هلاكا
1 من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
أيقدح في الخيمة العذل
…
وتشمل من دهرها يشمل
الديوان 2/ 59.
2 من قصيدته في مدح عضد الدولة أبي شجاع حينما حارب وهشوذان ملك الديار وهزمه وأفنى عسكره، ولم يحضر عضد الدولة القتال في الموقعتين، ولم يكن قريبا منهما فكتب النصر له وهو غائب، كأن ستعده ناب عنه في قتالهم.
مطلع القصيدة:
أزائر يا خيال أم عائد
…
أم عند مولاك أنني راقد
الديوان 1/ 298.
3 الخطاب موجه إلى ملك الديلم الذي لم يقصده الأمير بنفسه.
ومعنى البيت الثاني أن من قتل أعاديه لا يبالي أقتلهم قائما أم قاعدا، بنفسه أم بغيره. قال الواحدي: كان حقه أن يقول لا يبال بحذف الياء للجزم لكنه قاس على قولهم لا يبل بمعنى لا تبال، وإنما جاز ذلك لكثرة الاستعمال ولم يكثر استعمالهم لا يبل فيجوز فيه ما جاز في غيره.
يشرد يمن فنا خسر عني
…
قنا الأعداء والطعن الدراكا1
وقال لغيره من ممدوحيه:
نفذ القضاء بما أردت كأنه
…
لكل كلما أزمعت شيئا أزمعا
وأطاعك الدهر العصى كأنه
…
عبد إذا ناديت لي مسرعا2
ولكن سيف الدولة لما اشتهر إخلاص أبي الطيب في ولائه عدل الناس عن هذا الشعر الذي يتضمن ذكر الجد والحظ، فلم يذكروه، ولم يجعلوه موجها متوسطا بين المدح والذم، وقالوا ذلك في كافورا لما حدث تغيره مع أبي الطيب، وانحراف كل واحد منهما عن صاحبه، ومجاهرة أبي الطيب له بعد مفارقته بالهجاء.
ولو تأملت الأشعار كلها وأردت أن تستنبط منها ما يمكن أن يكون هجاء لقدرت.
هذا السيد الحميري من الشيعة العلوية3، لا يختلف في ذاك اثنان
1 من قصيدته في وداع أبي شجاع عضد الدولة ومدحه التي مطلعها:
فدى لك من يقصر عن مداكا
…
فلا ملك إذن إلا فداكا
فنا خسرو: اسم عضد الدولة. الطعن الدراك: المتتابع.
الديوان 2/ 17.
2 من قصيدته في مدح عبد الواحد بن العباس بن أبي الإصبع الكاتب التي مطلعها:
أركائب الأحباب إن الأدمعا
…
تطس الخدود كما تطسن اليرمعا
تطس: تدق. اليرمع: حجارة بيض صغار رخوة.
الديوان 1/ 424.
3 شاعر شيعي ولد سنة 105 وتوفي سنة 173 فأدرك الدولة الأموية والعباسية وكان من غلاة الشيعة، يفرط في سب أصحاب رسول الله وأزواجه، فتحامى الناس شعر. ولولا ما في شعره من سب السلف ما تقدمه أحد من طبقته "الأغاني 7/ 3".
وقال أبو عمرو الجاحظ في كتاب الياقوتة إن بعض الشيعة أنشد أبا مخلد قول السيد:
أقسم بالله وآلائه
…
المرء عما قال مسئول
أن علي بن أبي طالب
…
على الهدى والمبر مجبول
وأنه كان الإمام الذي
…
له على الأمة تفضيل
كان إذا الحرب مرتها القنا
…
وأحجمت عنها البهاليل
يمشي إلى الروع وفي كفه
…
أبيض ماضي الحد مصقول
مشى العفرني بين أشباله
…
أضجره للقنص الغيل1
ذاك الذي سلم في ليله
…
عليه ميكال وجبريل
ميكال في الألف وجبريل في
…
ألف ويتلوهم إسرافيل
في يوم بدر بددا كلهم
…
كأنهم طير أبابيل2
تقال أبو مخلد في هذا: إن الشاعر لم يمدح صاحبك، وإنما هجاه في موضعين: أحدهما أنه زعم أن عليا مجبول على البر والهدى، ومن جبل على أمر لم يمدح عليه؛ لأنه لم يكتسبه بسعيه.
والثاني: أنه زعم أنه أيد في حروبه بالملائكة، ولا فضيلة له إذًا في الظفر؛ لأن أباحية النميري3، لو أيده هؤلاء لقهر الأعداء وغلبهم.
1 أسد عفرتي: شديد.
2 البيتان الأولان بالأغاني 7/ 3.
3 أبو حية النميري اسمه الهيثم بن ربيع شاعر مجيد من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، مدح الخلفاء فيهما، وكان أهوج جبانا كذابا بخيلا، وله في الأكاذيب أخبار شتى "الأغاني 15/ 61" منها أنه دخل ليلة إلى بيته كلب، فظنه لصا، فانتضى سيفه الذي كان يسميه لعاب المنية، ووقف في وسط داره وهو يقول: أيها المغتر بنا والمجترئ علينا، بنص والله ما اخترت لنفسك، خير قليل، وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، مشهورة ضربته، لا تخاف نبوته، أخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، إني والله إن أدع قيسا إليك لا تقم لها، وما قيس؟ تملأ والله الفضاء خيلا ورجلا. فبينما هو كذلك إذا الكلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مسخك كلبا، وكفاني حربا.
واعلم أن الشعراء ما زالت على قديم الدهر وحديثه يمدحون الرئيس بعلو جده، ومساعدة الأقدار له، ومطاوعة الأفلاك والكواكب والدهر لإرادته. وأقوالهم في هذا أكثر من أن تورد وتحكى، وإن كان الأصل في إكثارهم من ذلك أن يهدوا "إلى" أسماع أعداء الممدوح وخصومه، ويوقروا في صدورهم، ويثبتوا في نفوسهم أنه منصور من السماء، وأنه محاط بالعناية الإلهية، وأن الكواكب تساعده والأفضلية والأقدار تجري على مراده، فيوقعوا الرعب منه في الصدور، والخوف في القلوب، إلى أن ينخذل من يناوئه من غير حرب ولا كيد.
وقد رُوي أن ملك الصين عرض عسكره إلى الإسكندر فاستعظمه، ورأى ما هاله، فقال: قد كنت قادرا على أن أصادمك بهذه العساكر العظيمة، لكني رأيت الأفلاك ناصرة لك، فرأيت ألا أحارب من تنصره. ثم أعطاه الطاعة، ودفع إليه الإتاوة.
26-
قال المصنف: فأما ما يدل على الشيء وغيره، لا على شيء وضده، فمثل قوله تعالى في قصة إبراهيم وولده:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} 1 إلى قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} 1 قال: فقوله فبشرناه بإسحاق يحتمل أن يكون استئنافا لذكر إسحاق بعد ذكر الغلام الحليم صاحب القصة الذي هو إسماعيل. ويحتمل أن يكون قوله وبشرناه بإسحاق بنبوته بعد البشارة بميلاده، أو يكون قوله فبشرناه بغلام حليم إشارة إلى إسحاق وهو بشرى الولادة فقط، وقوله: وبشرناه
1 سورة الصافات الآيات 99-112.
بإسحاق نبيًّا بشرى النبوة، ويكون هو صاحب القصة لا غير1.
أقول هذا القسم بأن يجعل في جملة القسم الأول وهو ما يدل على الشيء وضده أليق؛ لأن هذه الآية تجاذ بها حتما؛ لأنه يستحيل الجمع بينهما؛ لأن الناس مجمعون على أن أحدهما هو الذبيح لا كلاهما، فكل واحد من القولين يناقض الآخر ويضاده، فتكون الآية من باب ما يمكن استخراج أمرين متنافيين منه، فلا وجه لإدخالها في هذا القسم، ولا هي من صوره إن صح أن هذين الاحتمالين يتجاذبانها على السواء.
والصحيح أن حملها على أن الذبيح هو إسماعيل أرجح وأظهر من حملها على أنه إسحاق، لأن الظاهر يقتضي البشارة بمولد إسحاق لا بنبوته؛ لأنه إذا قيل قد بشر عمران بموسى تبادرت الأفهام إلى البشارة بمولده، ولأنه عطف على قوله:{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} ثم قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} فهذه البشارة هي مثل تلك البشارة الثانية وكلاهما بالولد، ولأنه لو كان صاحب القصة هو إسحاق والمراد بالبشارة2 البشارة بنبوته لقال وبشرناه به نبيا من الصالحين؛ لأن قبله ضمائر كثيرة ترجع إليه، فلو كان هو المراد لأتى بالضمير كالضمائر المتقدمة.
27-
قال المصنف: ومن هذا القسم أيضا ما يحكى أن الحرورية ظفرت برجل فقالت له: ابدأ من علي وعثمان.
1 عبارة ابن الأثير: قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} قد يكون بشارة بنبوته بعد البشارة بميلاده، وقد يكون استئنافا بذكره بعد ذكر إسماعيل وذبحه. والتأويل متجاذب بين هذين الأمرين. ولا دليل على الاختصاص بأحدهما. ولم يرد في القرآن ما يدل على أن الذبيح إسماعيل ولا إسحاق، وكذلك لم يرد في الأخبار التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
1/ 80.
2 ما بين قوسين تكملة تتم المعنى ملحقة بهامش النسخة الأصلية.
فقال أنا من علي وعثمان بريء. فهذا يدل على معنيين: أحدهما أنه برئ من عثمان وحده، والآخر أنه برئ منهما معا، ولكن الرجل لم يرد "إلا" الوجه "الأول"1.
والرواية أنا من علي، ومن عثمان برئ بإثبات من الثانية، وهو الصحيح، لأنها لو حذفت لعطف بالواو على عاملين، وهو غير جائز، بل التقدير أنا من أصحابه، وأنا من عثمان برئ، ولم أجد لفظة من في النسخة التي وقفت عليها بهذا الكتاب، ولعل الناسخ قد أوهم.
وأيضا فإن هذه الحكاية بأن تلحق بالقسم الأول أولى، لأنه قد استخرج منها معنيان متضادان: أحدهما البراءة من عثمان والاتباع له، والثاني البراءة من علي وعثمان، ولا أرى أن أحد هذين القسمين مناف للآخر، فهو بالقسم الأول أشبه.
28-
قال المصنف: ومن هذا ما يحكى أن عبد المسيح بن بقيلة دخل على خالد بن الوليد بالحيرة، فقال له خالد: من أين أقصي أثرك؟ قال من ظهر أبي. قال: من أين خرجت؟ قال: من بطن آمي. قال: علام أنت؟ قال. على الأرض. قال فيم أتيت؟ قال: في ثيابي. قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد. قال: وهذا من توجيه الكلام على نمط حسن، وهو يصلح أن يكون جوابا لخالد عما سأل، ويصلح أن يكون جوابا لغيره مما ذكره عبد المسيح2.
1 ما بين قوسين تكملة من ابن الأثير 1/ 82.
2 المثل السائر 1/ 82.
أقول إن اللفظ الذي يحمل على المعنى وغيره في هذه الحكاية هو ألفاظ خالد علام أنت؟ يحتمل أن يريد به على أي حال أنت، أوعلى أي دين، أو على أي عزم، ويحتمل أن يريد به على أي مكان أنت، وكذا بقية الألفاظ، فعبد المسيح ترك ما علم أنه غرض خالد، وعدل إلى المحمل الآخر الذي يعلم أنه ليس بغرضه، فقول المصنف "هذا من توجيه الكلام على نمط حسن وهو يصلح أن يكون جوابا لخالد" هو إشارة بغير شك إلى أن ألفاظ عبد المسيح ليست موجهة، بل الموجه ألفاظ خالد، لأنها هي المحتملة الأمرين، فقد بان أن قول المصنف أن ألفاظ عبد المسيح موجهة ليس بصحيح، وأيضا فقوله:"هو يصلح أن يكون جوابا لخالد عما سأل، ويصلح أن يكون جوابا لغيره" غير صحيح أيضا؛ لأن هذه الأجوبة لا تصلح أن تكون أجوبة لخالد؛ لأن خالدا سأل عن أمر، فأجاب عبد المسيح عن غيره، فالذي قال عبد المسيح لا يصلح أن يكون جوابا لخالد عما سأله عنه، بخلاف ما قاله هذا الرجل.
29-
قال المصنف: وقد ورد في التوراة: لا تأكل الجدي بلبن أمه. وهذا التحريم يحتمل وجهين: أحدهما ما دل عليه ظاهر اللفظ، وهو تحريم أكل الجدي بلبن أمه خاصة، فإذا أكل بلبن غير "لبن" أمه جاز ولم يكن حراما، واليهود لا تقول بذلك. والآخر أن كل شيء من اللحوم بكل شيء من اللبن حرام، وهو قول كافة اليهود. الثاني الذي في التوراة لا تنضج الجدي بلبن أمه، أي لا تأكل1.
وهذه سواء كانت لا تنضج أو لا تأكل خارجة عن هذا القسم الذي
1 المثل السائر 1/ 83 بتصرف.
قبله أيضا؛ لأنها دالة على إنضاج الجدي بلبن أمه، أو تحريم أكله بلبن أمه، وليس منها ما يدل بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام على تحريم أكل الجدي بغير لبن الأم، واليهود لا تحرم أكل اللحم باللبن بمجرد هذه الآية، بل بنصوص أخرى نقلها فقهاؤهم عن نبيهم، فإدخال هذه الآية في باب الألفاظ المترددة في المعاني المختلفة لا وجه له.
30-
قال المصنف: ومما يجري على هذا النهج ما حُكي عن أفلاطون1 أنه قال: ترك الدواء دواء. فذهب بعض الأطباء إلى أنه أراد أنه إذا لطف المزاج وانتهى إلى غاية فهو دواء، فتركه حينئذ والإضراب عنه دواء.
وذهب آخرون إلى أنه أراد بالترك الوضع، أي ترك وضع الدواء على الدواء دواء، يشير بذلك إلى حذق الطبيب في وقت علاجه2.
أقول إن مراد الحكيم ليس واحدا من هذين التفسيرين، ومراده ظاهر، كقول العامة دائما وهو أن ترك التداوي حيث لا حاجة إليه هو التداوي بعينه. وقد شرح ذلك جالينوس3، فقال: الحمية في الصحة كالتخليط في المرض. فأما التفسيران المذكوران فباردان جدا، وخصوصا الثاني منهما، فإنه بعيد أن يحمل الكلام عليه. وليست الأدواء كلها
1 أفلاطون من أكبر فلاسفة اليونان ولد نحو سنة 428 قبل الميلاد، وله الفضل في جمع الآراء الفلسفية المتناثرة واستنباط فلسفة خاصة به، وقد خلف كتبا كثيرة في الفلسفة صاغها في أسلوب حوار، متأثرا في ذلك بأستاذه سقراط، واتخذ سقراط بطلا لكثير من المناقشات وهو في فلسفته أديب فنان.
2 المثل السائر 1/ 83.
3 جالينوس طبيب يوناني قبل الميلاد يعتبر من أساطين الطب في عصره، ونقل العرب كثيرا من آرائه في كتبهم الطبية وقد توفي بعد بعثة المسيح.
مما يوضع الدواء على داء عارض في الأعضاء الظاهرة وسطح البشرة، وبالجملة فهو تفسير ركيك لا يستحسن حمل كلام ذلك الحكيم الفاضل عليه.
31-
قال المصنف: ومما ينخرط في هذا السلك قول أبي صخر الهذلي:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
…
فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر1
قال: وهذا يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما أنه أراد بسعي الدهر سرعة تقضي الأوقات مدة الوصال، فلما انقضى الوصل عاد الدهر إلى حالته الأولى في السكون والبطء، والآخر أنه أراد بسعي الدهر سعي أهل الدهر بالتمائم والوشايات، فلما انقضى ما كان بينهما من الوصل سكنوا وتركوا السعاية2.
أقول: التفسير الثاني هو الصحيح، والأول غير صحيح، واللفظ لا يحتمله، وفي البيت ما يمنع منه، بيان ذلك أنه قال:"بيني وبينها" وهذه اللفظة تمنع من أن يريد سرعة تقضي الزمان أيام وصالنا. فإنها قرينة تحمل لفظة السعي على السعاية والنميمة بالشر لا على السعي بمعنى الحركة والسير، ألا تراهم يقولون سعى فلان بين فلان وفلان بالشر، أي ضرب بينهم، وحمل بعضهم على بعض، ولا يقولون سعى بينهم من السعي بمعنى الحركة والسير، إلا أن يراد أنه كان يتحرك ويسير بين قوم مفترقين في أماكن شتى، وليس
1 البيت من قصيدة لأبي صخر الهذلي وليست لأبي كبير الهذلي كما في الأصل وهو عبد الله بن سلم السهمي الهذلي شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية" مطلعها:
أما والذي أبكى وأضحك والذي
…
أمات وأحيا والذي أمره الأمر
شرح الحماسة المرزوقي 3/ 1231 والأمالي 1/ 148".
2 المثل السائر 1/ 84.
هذا مقصود البيت، ولو أراد السعي بمعنى سرعة مرور الزمان لقال عجبت لسعي الدهر أيام وصلنا أو ما يشبه ذلك، وبالجملة فساد المحمل الأول ظاهر عند من له أدنى نقد للمعاني الشعرية.
32-
قال المصنف: وليس كل من حمل ميزانا سمي صرافا، ولا كل من وزن به سمي عرافا1.
أقول: العراف هو الكاهن، وليس الوزن من الكهانة ولا يناسها، ولو قال ولا كل من تفرس أو من تكهن سمي عرافا كان أولى، اللهم إلا أن يريد ليس كل من وزن بخاطره أي لمح ونقد سمي عرافا، فيجوز، لكنه تأويل بعيد، وخير الكناية ما كان معناه جليا، ويحمد فيها من وضوح المعنى ما لا يحمد في كثير من الشعر.
33-
قال المصنف: والفرق بين الترجيح البياني والترجيح الفقهي أن هناك يُرجح بين دليلي الخصمين في حكم شرعي، وههنا يرجح بين جانبي فصاحة وبلاغة في ألفاظ ومعان خطابية.
وبيان ذلك أن صاحب الترجيح الفقهي يرجح بين خبر الواحد مثلا وبين خبر المتواتر، وبين المسند والمرسل2، أو ما جرى هذا المجرى، وهذا لا يتعرض له صاحب علم البيان؛ لأنه ليس من شأنه، ولكن الذي من شأنه أن يُرجح بين حقيقة ومجاز، أو بين حقيقتين، أو بين مجازين، ويكون في ذلك كله ناظرا إلى الصناعة الخطابية3.
1 المثل السائر 1/ 86.
2 خبر الواحد ما رواه الواحد. المتواتر هو الذي رواه جمع يؤمن تواطؤه على الكذب واستمر هذا في إسناده. المسند هو الذي ذكر جميع رواته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. المرسل هو الذي سقط منه الصحابي الذي رواه عن الرسول.
3 كان في العبارة سقط فأصلحناها من المثل السائر 1/ 86.
أقول إنه قال أطال هذا الفصل وأسهب بما لا ثمرة له إلا تسويد الكاغد، وتضييع الزمان، فإن كل أحد يعلم أن الباب المعقود في هذا العلم للترجيحات لا يكون متضمنا ترجيحات الفقهاء، ولا ترجيحات النحاة، ولا ترجيحات الأصوليين، فأي حاجة له إلى أن يقص هذه القصص، ويطيل هذه الإطالة؟ ومن العجب قوله "وبيان ذلك" وهذه لفظة تقال فيما يحتاج إلى بيان وبرهان. فأما من قال إن مباحث النحاة مثلا في باب الصلة والموصول غير مباحث الفلاسفة في ماهية الزمان والمكان، فإنه لا ينازعه في ذلك عاقل حتى يحتاج إلى أن يقول "وبيان ذلك".
34-
قال المصنف: والترجيح إنما يقع بين معنيين يدل عليهما لفظ واحد، ولا يخلو الترجيح بينهما من ثلاثة أقسام: إما أن يكون اللفظ حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر، أو حقيقة فيهما معا، أو مجازا فيهما معا.
قال: والترجيح بين الحقيقتين أو بين المجازين يحتاج إلى نظر.
وأما الترجيح بين الحقيقة والمجاز فإنه يعلم بالبديهة لمكان الاختلاف بينهما، والشيئان المختلفان يظهر الفرق بينهما، بخلاف الشيئين المتشابهين1.
أقول: الذي يعلم بالبديهة هو الفرق بين الحقيقة والمجاز لا الترجيح؛ لأنا إذا علمنا في لفظ مستعمل في شعر أو خطابة أنه متردد بين مسميين وهو موضوع لأحدهما وضعا أولا ومنقول إلى الآخر ثنايا فقد علمنا الفرق، وأما ترجيح أحد المحملين على الآخر فإنه لا يعلم الترجيح بين محملين في لفظ واحد، وكلاهما حقيقة أو كلاهما مجاز إلا بالنظر، ويدل على ذلك
1 المثل السائر 1/ 87.
الآية التي قد أوردها بعد هذا الكلام بلا فصل، وهي قوله {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم} فإن لفظة الجلود ها هنا مترددة عنده بين الجلود الحقيقية وبين الفروج على سبيل المجاز، ويحتاج ترجيح أحد المحملين على الآخر إلى نظر دقيق.
35-
قال المصنف: وبيان الترجيح بين الحقيقة والمجاز قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1 قال فالجلود ههنا يمكن أن تكون هذه الجلود الحقيقية، ويمكن أن يراد بها الفروج مجازا، لكن المانع البلاغي منع من حمل لفظ الجلود في هذا الموضع على حقيقتها، لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه. قال: ويمكن أن يستدل على ذلك من وجه آخر استنباطا بأن يقال إما أن يراد بالجلود هذه الجلود المعروفة والجوارح التي هي ذوات الأعمال، والأول باطل؛ لأن شهادة الجلود وهي غير قابلة شهادة بطلة؛ لأن المراد الإقرار بأن تقول اليد أنا أخذت كذا، وتقول الرجل أنا مشيت إلى كذا، وكذلك بقيت الجوارح، وهو باطل؛ لأنه قد دخل تحته السمع والبصر فلا يكون لتخصيصها بالذكر فائدة، أو بعض الجوارح فيكون ذلك البعض هو الفروج؛ لأن حمله عليها أولى من وجهين:
أحدهما: أن الجوارح قد ذكرت في القرآن شاهدة على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج، فكان حمل الجلد عليه أولى ليستكمل ذكر جميع الأعضاء، والثاني: أنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلا الفرج، فكنى عنه بالجلد كراهية لذكره. ثم سأل نفسه: لم لا يجوز أن يراد كل الجوارح
1 سورة فصلت: 20.
ويكون ذكر السمع والبصر من باب التفضيل كقوله تعالى: {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّان} 1 وهما من الفاكهة؟
وأجاب فقال: هذا الكلام يؤيد استدلالنا، لأن النخل والرمان إنما أفردا بالذكر لفضيلتهما على الفاكهة، وليس السمع والبصر أفضل وأكثر وزرا من غيرهما من الأعضاء في المعصية؛ لأن قصارى العصيان بهما إبصار محرم أو سماع محرم، وكل ذلك لا يوجب الحد، وأما غيرهما من الأعضاء فيقع به الكبائر التي توجب الحدود، فكان ينبغي أن تكون تلك الأعضاء هي المخصوصة بالذكر دون السمع والبصر2.
هذا ملخص ما ذكره بعد حذف التطويلات.
أقول: أما الوجه الأول فليس بشيء؛ لأنه ما زاد على أن قال هذا مانع بلاغي يمنع من حمل الجلود على حقيقتها، وأن تحمل على الفروج، وهذا ضعيف لأنه بمنزلة قول من يقول إن الجلود في قوله تعالى:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} 3 بمعنى الفروج، وإن هذه الآية نزلت في الزناة، وكنى عن الفروج بالجلود لأنها كناية لطيفة، وأيضا كان سبحانه قد ذكر ثلاثة أجزاء من أجزاء بدن الإنسان، وهي السمع والبصر والجلد، وقال إنها تشهد عليهم، فلم حمل الجلد على الفرج؟ لأجل أن الفرج يليق ألا بذكر تصريحا، ويحسن أن يكنى عنه بغيره أولى من أن يحمل السمع والبصر على الفرج لهذه العلة، وإنما يتعين حمل الجلد على الفرج إذا كان بين لفظتي
الجلد والفرج أو معناهما مناسبة لا تحصل بين السمع والفرج ولا بين البصر والفرج، ونحن لا نجد فرقا بين هذه الأجزاء الثلاثة، وكل واحد منها بعيد عن الفرج لا مناسبة بينه وبينه، اللهم إلا أن يكون لأجل أن الجلد جزء من أجزاء ماهية الفرج، فعبر عن الكل بالبعض، وهذا بعيد جدا.
فأما استدلاله له ثانيا، وإبطاله أن يراد بالجلود هذه الجلود الحقيقية، لأنها ليست هي الفاعلة، بخلاف الأعضاء كاليد والرجل، فينبغي أن يجاب عنه بالضحك من عاقل يتوهم أن اليد هي التي فعلت الشيء، وأن اللسان هو الذي فعل النطق، وهذا وهم عامي لا يعتقده محصل، فإنما إبطاله أن تكون الجلود هي جملة الأعضاء والجوارح بقوله إنه قد ذكر السمع والبصر فلا يكون لإفرادهما بالذكر فائدة، فجوابه ما سأل عنه نفسه، وهو أن المراد بذلك ما أراد من قوله تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} .
وقوله هذا لا يجوز، لأن العصيان بالسمع والبصر أخف، فيقال له بل هو هذا الترتيب، والصحيح في نظم الكلام، ولا كما توهمته، مثال ذلك يقال دخلت قرية كذا فوثب على الولدان والنساء وكل من فيها. يود الولدان والنساء ويخصهم بالذكر، لأنه ليس من شأنهم أن يثبوا بالرجال ويقبلوا عليهم، وأنت إنما تريد أنه وثب عليك الضعيف والقوى، فكذلك الآية تقديرها شهد عليهم من الجوارح ما المعصية به صغيرة، والمعصية به كبيرة.
ثم يقال له أسلمنا أنه ليس المراد كل الجوارح بل بعضها فلم قلت إن ذلك البعض هو الفرج؟
وقوله: "لأن سائر الأعضاء قد ذكر في القرآن أنها تشهد إلا الفرج
فوجب أن يكون هو المراد بالجلود لتكامل شهادة كل الأجزاء" باطل لأنه لم يذكر في القرآن شهادة الأعضاء، وإنما ذكر شهادة الأيدي والأرجل والسمع والبصر والألسنة والجلود في آيات متفرقة، فأما القلوب فلم يذكر لها صريح شهادة، بل قال: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 1 ولا ذكر شهادة "الذوق وهي اللهاة فيما ذاقته من الحرام والحلال، ولا شهادة حاسة اللمس بما لمسته من المحرمات، فقد بطل قوله إنه إنما وقع الإخلال من جميع الأعضاء من الشهادة بالفرج وحده.
وأما قوله إنه يجب حمله على الفرج لأنه مما يكره التصريح بذكره، فوجب أن يجعل هذا اللفظ كناية عنه، فباطل لأنه تعالى قد ذكره في غير موضع، فقال:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون} 2 وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُن} 3 وقال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَام} 4 وما رأيناه كنى في هذه المواضع بكناية أصلا.
36-
قال المصنف: ومما استدل به على مراد المتكلم بقرينة دقيقة لطيفة قوله صلى الله عليه وسلم: "من جعل نفسه قاضيا للمسلمين فقد ذبح بغير سكين" 5 قال ومعناه أن من جعل قاضيا فقد حيل بينه وبين نفسه وهواها،
1 سورة الإسراء: 36.
2 سورة المؤمنون: 5.
3 سورة النور: 31.
4 سورة لقمان: 34.
5 النص في المثل السائر: وأما ما يستدل عليه بقرينة ليست من توابعه، فإن ذلك أرق من الأول، وألطف مأخذا. فمما ورد منه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من جُعل قاضيًا بين الناس فقد ذبح بغير سكين" 1/ 93.
لأنه يكون محمولا على الامتناع من أخذ الرشا، ومأمورا أن يحكم لعدوه على صديقه، وأن يرفع الحجاب بينه وبين الناس، ويجلس للقضاء في وقت راحته، ويتعب نفسه ويجهدها. قال: فلما اشترك القضاء والذبح في الألم الشديد، وكان الذبح الحقيقي هو قطع الحلقوم، والقضاء هو قطع النفس عن هواها، لا جرم كان الشخص الذي يجعل قاضيا مذبوحا ذبحا معنويا. قال: وهذا موضع غامض لطيف1.
أقول إن تأويلات الباطنية2 لآيات الكتاب العزيز أوقع وأقرب إلى العقل من هذا التأويل، وكيف يجوز أن يُنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله أنه أراد هذا المعنى؟ وهل هذا إلا في قوة أن يقال من رتب قاضيا فإنه بتعب، ويجد مشقة، وينقطع عليه كثير من أوقات راحته؟ ومنصب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم من أن يكون هذا المقدار فحوى كلامه.
1 بتصرف من 1/ 93.
2 فرقة من الإسماعيلية الذين ينسبون الإمامة لإسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق. وفي رأيهم أن الأرض لن تخلوا من إمام حي قائم إما ظاهر مكشوف وإما باطن مستور. ولهم آراء شتى منها أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. وأشهر ألقابهم الباطنية، وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا ولكل تنزيل تأويلا.
وهم يلقبون بالعراق الباطنية والقرامطة والمزدكية، ويلقبون بخراسان التعليمية والملحدة. ويقولون نحن إسماعيلية لأننا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم وهم الشخص.
وقد خلط الباطنية القدماء كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج. ومن آرائهم نفي الصفات؛ لأن إثباتها الحقيقي يقتضي شركة بين الله تعالى وسائر الموجودات وذلك تشبيه.
ولهم دعوة جديدة تزعمها الحسن بن محمد الصباح في القرن الخامس الهجري.
"الملل والنحل 1/ 170".
ومعلوم أنه إنما أخرج هذه اللفظة مخرج التحذير لأصحابه من القضاء، لما فيه من التعرض للآثام والمؤاخذة الأخروية، وأنه ليس كل أحد يقدر على ضبط نفسه عن الميل إلى أحد الخصمين، ولا يملك سورة الغضب التي تفضي به إلى الحكم بغير الحق، ولا يستطيع تجنب المراقبة والمحاباة لأبناء الدنيا وأصحاب السلطان، ولذلك كان الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم يتأذون من القضاء، ويفرون منه، ويستترون الدهر الأطول إذا ندبوا إليه، ويتحملون مشقة الهرب والاستتار ومفارقة الأوطان حذارا من عقاب الآخرة لا غير.
وكيف يحذر رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه وأمته من الدخول في القضاء لكونه مجاهدة لهوى النفس، وكونه يورث التعب والمشقة الدنيوية، وهو يأمرهم بالجهاد ومناهضة المشركين وقتل أولادهم وآبائهم وإخوانهم في طاعة الله ورسوله؟
ومعلوم أن ذلك أصعب وأشق منا متاعب القضاء بأضعاف مضاعفة، وهم مأمورون لما فيه من ثواب الجهاد، فكذلك القضاء متاعبه ومشاقه مغمورة بما فيه من ثواب الانتصار للحكم بالحق، ونصرة المظلوم، وإقامة شعائر الإسلام، وما أعلم ما أقول فيمن حمل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك التأويل الرديء.
37-
قال المصنف: ومثال ما يتردد بين معنيين ويحمل على أحدهما القرينة المتقدمة في أول الكلام قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} 1 فإنه يحتمل أن يريد به لا تدعوه باسمه فتقولوا يا محمد،
1 سورة سبأ: 54.
كما يدعو بعضكم بعضا بأسمائكم، ويحتمل أن يريد به أنكم إذا حضرتم في مجلسه فلا يكن حضوركم كحضوركم في مجالسكم، أي لا تفارقوا مجلسه إلا بإذنه، والزموا معه الأدب. قال: والحمل على هذا المحمل أولى1 لأن قبل هذه {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} 2.
أقول: هذه قرينة متقدمة لعمري، ولكن في الآية قرينة أخرى متأخرة تقتضي حمله على محمل آخر هذا وغير المحمل الأول، ولعله الأصح، وهو أن يراد بالدعاء الأمر، يقال دعا فلان قومه إلى كذا أي أمرهم به وندبهم إليه، قال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} 3 أي ندبكم. وقال سبحانه: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُم} 4 أي أمرتهم وندبتهم. والقرينة المتأخرة قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَة} 5 فلم كان حمل الآية على ما ذكره لأجل القرينة المتقدمة أولى من حمله على هذا المحمل لأجل القرينة المتأخرة؟
38-
قال المصنف في حد الحقيقة: هي اللفظ الدال على موضوعه الأصلي، والمجاز ما أريد به غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة. وهو مأخوذ من جاز من هذا الموضع إلى هذا الموضع إذا تخطاه إليه، فالمجاز إذن اسم للمكان الذي يجاز فيه، كالمعاج والمزار وأشباههما.
1 المثل السائر 1/ 94.
2 سورة النور: 62.
3 سورة الأنفال: 24.
4 سورة نوح: 7.
5 سورة النور: 63.
وحقيقته هو الانتقال من مكان إلى مكان، فجعل ذلك لنقل الألفاظ من محل إلى محل1.
أقول: أما حد الحقيقة الذي ذكره فمنقوض بلفظ الدابة إذا استعملت في الدودة والقملة، فإنها قد دلت على موضوعها الأصلي؛ لأنها موضوعة لما يدب، مع أنها بالنسبة إلى الوضع العرفي مجاز، فإذن قد دخل المجاز العرفي فيما جعله حدا لمطلق الحقيقة، وبلفظة الصلاة إذا استعملت في الدعاء فإنها قد دلت على موضوعها الأصلي، فيكون قد دخل المجاز الشرعي فيما جعله لمطلق الحقيقة، وهو غير جائز.
والواجب أن يقال: الحقيقة ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به، فيدخل في ذلك الحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية.
فأما ما ذكره في حد المجاز فهو باطل أيضا في الحقيقتين العرفية والشرعية، فإنهما يدلان على غير ما وضعا له في الأصل، وهما حقيقتان.
على أن قوله "المجاز ما أريد به غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة" ليس بجيد لأنه لو عبر بالسماء عن الأرض لكان قد أراد باللفظ غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة، وليس مجازا، والأجود أن يبدل لفظ ما أريد به بلفظ ما أفيد به، أو ما يدل، وفيه مع ذلك الإشكال الذي ذكرناه أولا.
وأصلح ما قيل في حد المجاز أنه لما أفيد به معنى مصطلح عليه غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة التي وقع التخاطب بها، لعلاقة بينه وبين المعنى الأول.
1 المثل السائر 1/ 105.
وهذا القيد الأخير يتم تحديد المجاز؛ لأنه لولا تلك العلاقة لما كان مجازا من الأول، بل كان وضعا جديدا.
ومن العجب أن هذا الرجل قال: "المجاز اسم للمكان الذي يجاز فيه" ثم قال عقبه بلا فصل: "المجاز هو الانتقال من مكان إلى مكان"1 فتارة يجعل الفعل ههنا اسما للمكان كالمقام لموضع الإقامة، وتارة يجعله اسما للمصدر كالمقام من قال يقول قولا ومقالا، وهذه مناقضة ظاهرة.
فأما قوله: "فجعل ذلك لنقل الألفاظ من محل إلى محل" فإنه أراد من مسمى يعدل عن اللفظ الجيد إلى اللفظ الرديء، فإنه يوهم أن المعنى شيء يحل فيه اللفظ، ولسنا نضايقه في ذلك وأمثاله.
39-
قال المصنف: والفرق بين الحقيقة والمجاز بتبادر الفهم عند الإطلاق إلى الحقيقة دون المجاز، كالشمس لهذا الكوكب المخصوص دون وجه المستحسن فإن قلت: فإنا نرى الأفهام تبادر عند سماع كثير من الألفاظ العرفية إلى غير حقائقها الأصلية، كالغائط الذي لا يفهم منه إلا الحاجة المخصوصة دون المطمئن من الأرض. قلت هذا شيء يذكره الفقهاء ولا طائل له؛ لأن المعتبر بمبادرة أفهام الخاصة من الناس لا العامة، كالحدادين والنجارين والخبازين والحاكة والأساكفة، ومعلوم أن الخواص من العلماء لا يفهمون من الغائط إلا المطمئن من الأرض. قال: والعجب من الفقهاء كيف دونوا هذا وذهبوا إليه2.
1 المثل السائر 1/ 105.
2 ملخص من 1/ 106 وما بعدها.
أقول: الجواب الصحيح أن يقال إن تبادر الأفهام إلى أن المراد بالغائط الحاجة المخصوصة، وبالدابة الفرس، وبالرواية المزادة، وبالملك الرسول الروحاني خاصة، دليل على أن هذه الألفاظ حقائق في الوضع العرفي الجديد، وذلك لا ينقض قولنا إن تبادر الأفهام إلى المعنى دليل على أن اللفظ حقيقة فيه، لأنا قد قلنا بموجبه، وجعلنا هذه الألفاظ حقائق، ولكنها عرفيات. فأما الجواب الذي أجاب به فليس بجيد، لأنه إما أن ينفي الحقائق، العرفية أو يثبتها فقد بطل قوله إنه لا إعتبار بمواضعه أهل العرف، وإن نفاها فهو باطل، لأن الحقائق الأصلية اللغوية ما كانت حقائق القرآن أنزله الله تعالى فيها، بل لأن طائفة من الناس تواضعوا عليها، فلأي حال كانت مواضعة العرب في الجاهلية على ألفاظ مخصوصة لمعان مخصوصة تقتضي جعلها حقائق في مسمياتها، ولا تكون مواضعة طائفة أخرى موجودين الآن على ألفاظ مخصوصة لمعان مخصوصة تقتضي جعلها حقائق في مسمياتها؟
أليس وضع الأكراد والفرس والترك والروم لغاتهم وألفاظهم لمعان قد اصطلحوا عليها بينهم يوجب جعل تلك الألفاظ حقائق فيما وضعت له؟ فليس الأمر في هذا الباب موقوفا على مواضعة العرب قبل الإسلام، فقد ظهر أن الذي دونه الفقهاء هو الحق، ون ما اعترضهم به ليس بحق.
ونحن نستنبط بعد هذا من نص كلامه ما نخصه به، وننتصر به للفقهاء عليه، وذلك أنه قال ما هذه صورته: إن كان إطلاق اللفظ بين عامة الناس من إسكاف وحداد ونجار وخباز ومن جرى مجراهم، فهؤلاء لا اعتبار بهم ولا اعتداد بأقوالهم.
فيقال له ما تعني بالإسكاف؟ كل صانع أم صانع النعال خاصة؟
فإن قال صانع النعال خاصة، قيل له فأنت من الخاصة لا من العامة، وقد تبادر ذهنك إلى ما ليس بحقيقة أصلية؛ لأن كل صانع إسكاف عند العرب، وكتب اللغة كلها تشهد بذلك. وإن قال أردت كل صانع، قيل له لا تغالط، فإنك قلت من إسكاف وحداد ونجار وخباز، فجعلت الإسكاف صاحب صناعة مفردة كالنجار والحداد، ولو أردت العموم لقلت من حداد ونجار وخباز وغيرهم من الأساكفة، ولم تقل ذلك.
فإذا كان نص كلامك يشهد عليك أن ذهنك قد تبادر إلى الاصطلاح العرفي وهو قصر لفظة الدابة على هذا الحيوان المخصوص، فقد بطل قولك إنه لا يتبادر إلى أفهام الخاصة عند إطلاق كل لفظ إلا حقيقته لا غير.
40-
قال المصنف: والفرق بين الحقيقة والمجاز أن الحقيقة جائزة على العموم في نظائرها، كقولنا فلان عالم، يصدق على كل ذي علم، بخلاف:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1. لأنه لا يصح إلا في بعض الجمادات دون بعض؛ إذ المراد به أهل القرية؛ لأنهم ممن يصح السؤال عنهم، ولا يجوز أن يقال واسأل الحجر والتراب2.
أقول: أما دعوى وجود اطراد الحقيقة ففيه كلام، فإنا قد رأيناها غير مطردة في مواردها، إما لأن العقل يمنع من ذلك، كلفظة الدليل عند من يقول إنه حقيقة في فاعل الدلالة، فإنه لما كثر استعماله في نفس
1 سورة يوسف: 82.
2 المثل السائر: 1/ 110.
الدلالة لا جرم لم يحسن استعماله في حق الله تعالى إلا مقيدا كقولهم: يا دليل المتحيرين، وإما لأن الشرع يمنع من ذلك، كتسميته تعالى بالفاضل والسخي، فإن الشرع يمنع من ذلك، مع حصول حقيقتهما له تعالى، وإما لأن اللغة تمنع من ذلك، كامتناع استعمال الأبلق في غير الفرس، ولا يصح أن يعتذر عنه بأن الأبلق موضوع للملون بهذين اللونين، بشرط أن يكون فرسا، لأنه يلزم عليه أن يجوز في كل مجاز لا يطرد أن يكون سبب عدم اطراده لاشتراط كونه ذلك المسمى بعينه، وحينئذ لا يمكن الاستدراك بعدم الاطراد على كونه مجازا.
وأما قوله "عالم" لما كان موضوعا لذي العلم اطرد في كل علم، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} لم يطرد في كل الجمادات، فإنه استدلال على أمر كلي بصورة جزئية.
ومن أين له أن كل حقيقة فإنها جارية في الاطراد مجرى قولنا "عالم" لذي العلم، وأن كل المجازات لا تطرد كقوله {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} .
ولم لا يجوز أن يكون المجاوز وإن لم يجب اطراده فإن بعضه قد يطرد لا على سبيل الوجوب؟
ولا يمكن أن يدعي أنه قد استقرى الألفاظ كلها فلم يجد فيها مجازا مطردا، ولو كان ذلك قد وقع لكانت ألفاظ المجاز كلها قد علمت وعلم أن ما عداها حقيقة قبل العلم بنفي اطرادها، وذلك يقتضي أن يكون الفرق بين الحقيقة والمجاز قد وقع قبل هذه الدلالة.
41-
قال المصنف: واعلم أن كل مجاز فله حقيقة؛ لأنه لا يصح أن يطلق عليه اسم المجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة له، وليس من ضرورة كل حقيقة أن تكون مجازا، فإن من الأسماء مالا مجاز له، كأسماء الأعلام التي وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق بين الصفات1.
أقول: هذا يدل على أن يتوهم أن أسماء الأعلام حقائق في الأشخاص المسمين بها، وليس كما توهمه لأن الحقيقة ما أفيد به ما وضع له، ونعني بقولنا ما وضع أهل اللغة وأرباب الاصطلاح، فتكون اللفظة حقيقة تبعا لكونها موضوعة لشيء قبل استعمال المستعمل، حتى إذا استعملها المستعمل فيما وضعت له كانت حقيقة فيه، وأسماء الأعلام لم تقع على مسمياتها المعنية بوضع من أهل اللغة ولا من الشرع حتى يكون من اتبعهم فيها في أصل موضوعهم فقد استعملها على حقيقتها.
وهذا الكلام كما ينفي أن تكون الحقيقة داخلة في أسماء الأعلام ينفي أن يكون المجاز أيضا داخلا فيها.
والصواب أن يقال: المجاز هو المستعمل في غير موضوعه الأصلي لمشابهة بينهما. وهذا تصريح بأن من ضرورة تحقيق المجاز ثبوت الحقيقة، وليس يلزم من كون اللفظ موضوعا لشيء أن يصير موضوعا لشيء آخر بينه وبين الأول مشابهة ومناسبة، لجواز أن يعدم ذلك عن بعض المسميات.
1 المثل السائر 1/ 110 بتصرف.
وههنا دقيقة، وهي دلالة اللفظ على المعنى في الموضوع الأول فدخلت عن كونها حقيقة ومجازا؛ لأن الحقيقة استعمال اللفظ في موضوعه الأصلي، فلا تكون الحقيقة حقيقة إلا إذا كانت مسبوقة بالوضع الأول، والمجاز هو المستعمل في غير موضوعه الأصلي، فيكون هو أيضا مسبوقا بالوضع الأول، فثبت أن شرط كون اللفظ حقيقة أو مجازا حصول الوضع الأول، فالوضع الأول وجب ألا يكون حقيقة ولا مجازا.
وهذا الكلام على ظاهره يقدح في قولنا المجاز فرع الحقيقة، ومتى وجد الأصل فالمجاز لا يكون مجازا إلا والحقيقة موجودة؛ لأن المجاز لا يستدعي إلا مجرد كونه موضوعا قبل ذلك لمعنى آخر، فهو يتوقف على ذلك فقط لا على الحقيقة؛ لأن الوضع الأول ليس بحقيقة.
وجوابه أنا لا ندعي أن المجاز يتوقف على الحقيقة، بل متوقف على أنه موضوع في الأصل لمعنى آخر، متى استعمل اللفظ في ذلك الموضوع كان حقيقة.
42-
قال المصنف: فأما الفرق بين الفصاحة والبلاغة فقد أكثر الناس فيه، وخلاصة ما ذكروه أن الفصاحة هي الظهور، يقال أفصح يفصح إذا ظهر، ثم يقفون عند هذا ولا يكشفون عن السر فيه1.
أقول: قد وقفت لأبي محمد بن الخشاب على رسالة في الفرق بين الفصاحة والبلاغة أتى فيها بنوادر شريفة. وقد ذكر أبو هلال العسكري في كتاب
1 المثل السائر: 1/ 112.
الصناعتين كلاما جيدا في هذا المعنى1. وقد ذكرنا نحن في كتاب "العبقري الحسان" أقوالا كثيرة في هذا الباب، وما أظن أن أحدا ممن يتصدى لكلام في هذا الفن إلا وقد قال قولا بالغا في هذه المسألة، فما أعلم كيف يدعي هذا الرجل على الناس أنهم يقتصرون في هذا البحث بتينك اللفظتين لا غير.
1 قل أبو هلال العسكري: البلاغة من قولهم بلغت الغاية إذا انتهيت إليها، وبلغتها غيري، ومبلغ الشيء منتهاه، والمبالغة في الشيء الانتهاء إلى غايته. فسميت البلاغة بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه، وهي البلاغ أيضا. ويقال للدنيا بلاغ لأنها تؤدي إلى الآخرة. والبلاغ أيضا التبليغ في قول الله عز وجل:{هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} أي تبليغ. ويقال بلغ الرجل بلاغة إذا صار بليغا، كما يقال نبل نبالة إذا صار نبيلا. ويقال: أبلغت في الكلام إذا أتيت بالبلاغة فيه.
والبلاغة من صفة الكلام لا من صفة المتكلم، وتسمية المتكلم بأنه بليغ توسع، والحقيقة أن كلامه بليغ، كما نقول فلان رجكم محكم والحقيقة أن أفعاله محكمة، إلا أن كثرة الاستعمال جعلت تسمية المتكلم بأنه بليغ كالحقيقة، كما أنها جعلت تسمية المزادة رواية كالحقيقة، وكان الراوية حامل المزادة وهو البعير ونحوه، ولذا سمي حامل الشعر راوية.
فأما الفصاحة فقد قال قوم إنها من قولهم أفصح فلان عما في نفسه إذا أظهره وأفصح الصبح إذا أضاء، وأفصح اللبن إذا انجلت رغوته فظهر. وأفصح الأعجمي إذا أبان بعد أن لم يكن يفصح ويبين.
وإذا كان الأمر على هذا فالفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما؛ لأن كل واحد منهما إنما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له.
وقال بعض علمائنا: الفصاحة تمام آلة البيان، فلا يسمى الألثغ والتمتام فصيحين، لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف، وعلى هذا تكون الفصاحة والبلاغة مختلفتين؛ لأن الفصاحة تمام آلة البيان، فهي مقصورة على اللفظ؛ لأن الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى، والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب، فكأنها مقصورة على المعنى.
ومن الدليل على أن الفصاحة تتضمن اللفظ والبلاغة تتناول المعنى أن الببغاء يسمى فصيحا ولا يسمى بليغا؛ إذ هو يقيم الحروف وليس له قصد إلى المعنى الذي يؤديه. ويجوز مع هذا أن يسمى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى سهل اللفظ جيد السبك غير مستكره فح ولا متكلف وخم، ولا يمنعه من أحد الاسمين شيء لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف
وإذا كان الكلام يجمع نعوت الجودة ولم يكن فيه فخامة وفضل جزالة سمي بليغا ولم يسم فصيحا.
"ملخص من الصناعتين 7-10".
43-
قال المصنف: ولا يجوز أن تفسر الفصاحة بهذا لوجهين: أحدهما أن اللفظ قد يكون ظاهر المعنى عند زيد لا عند عمرو، فيجب أن يكون فصيحا غير فصيح، وهذا محال، بل الفصيح يجب أن يكون فصيحا مطلقا.
والثاني: أن اللفظ القبيح الذي ينبو عن السمع ولكنه ظاهر المعنى يجب أن يكون فصيحا، وهذا محال؛ لأن الفصاحة وصف حسن، فلا يجوز أن يكون اللفظ قبيحا1.
أقول إن أرباب علم البيان لم يقتصروا في حد الفصاحة على أنها ظهور المعنى من اللفظ فقط، بل قالو في حدها وحقيقتها ما يعرفه من تمارس كتبهم، ولو قالوا ذلك لم يكن ما أورده عليهم قادحا في كلامهم.
أما الوجه الأول فإنه ليس من شرط الفصيح أن يكون ظاهرا مكشوف المعنى لكل سامع، فإن الزنج والروم لا يفهمان المراد بالقرآن، ولا يقدح ذلك في كونه فصيحا، والفصاحة أمر نسبي لأنها صفة اللفظ، واللغات والألفاظ تختلف باختلاف الأمم قرونها وبلادها.
وأما الوجه الثاني فلأن القبيح الظاهر المعنى فصيح من حيث ظهور معناه وإن كان قبيحا من وجه آخر، ونظير ذلك الكلام الفصيح يتضمن شتم الأنبياء والثناء على إبليس والشياطين أو غير ذلك من الوجوه التي يقبح
1 ذكر ابن الأثير ثلاثة اعتراضات لخص ابن أبي الحديد ثانيها وثالثها، ولم يذكر أولها وهو: أنه إذا لم يكن اللفظ ظاهرا بينا لم يكن فصيحا، ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحا المثل السائر: 1/ 113.
لأجلها، فإنه حسن من وجه وقبيح من وجه، وليس يلزم من قبح الشيء من جهة ألا يكون حسنا من جهة أخرى، كما لا يلزم من كون سماع صوت العود حراما ألا يكون لذيذا.
44-
قال المصنف: والفصاحة مختصة بالألفاظ دون المعاني، لوجوه منها أن الفصيح هو المألوف الاستعمال، وإنما كان مألوف الاستعمال لحسنه، وحسنه يدرك بالسمع؛ لأنه أمر عائد إلى تركيب حروفه وخفتهما وتباعد مخارجها، والذي يدرك بالسمع يكون صوتا يأتلف من مخارج الحروف، وكل ما ليس بمسموع لا يكون فصيحا1.
أقول هذا الكلام يحتمل أمرين: أحدهما أن يجعل حد الفصاحة هي الألفاظ المألوفة الاستعمال، وإنما كانت مألوفة الاستعمال لخفتها وسلاستها. والآخر ألا يجعل ذلك حد الفصاحة، بل مراده تعليل اختصاص اللفظ بوصف الفصاحة، وكون المعاني لا يجوز أن توصف بالفصاحة.
فإن أراد الأول لم نضايق على ذلك؛ لأن لكل واحد أن يتكلم بما شاء، ويقول عنيت به كذا وكذا. وإن أراد الثاني وهو الظاهر من كلامه قيل له إن كان كثرة الاستعمال وسلاسة اللفظ توجب أن يسمى اللفظ فصيحا فليس
1 المثل السائر 1/ 115 وليست به هذه الجملة "وكل ما ليس بمسموع لا يكون فصيحا" بل ملخص قوله: إن الكلام الفصيح هو الظاهر البين، وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة؛ لأنها مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر، وإنما كانت مألوفة الاستعمال لمكان حسنها؛ لأن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها، فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه، ونفوا القبيح منها فلم يستعملوه، فحسن الألفاظ سبب استعمالها دون غيرها، واستعمالها دون غيرها لظهورها وبيانها، فالفصيح إذا من الألفاظ هو الحسن.
ذلك بمانع من أن توجد دلالة أخرى على تسمية المعنى فصيحا، فليس ذلك بمانع لأن دلالتك على ما تدعيه لا توجب انتفاء الأدلة على إطلاق هذه اللفظة على المعنى، فغاية ما في الباب أنك استدللت على أن اللفظ يطلق عليه الوصف بالفصاحة، فلم قلت إن الوصف بالفصاحة لا يطلق على المعاني؟
45-
قال المصنف: وأيضا فإن لفظتي المزنة والديمة كلفظة البعاق، فكل واحد من هذه الألفاظ يدل على معنى واحد، ولو كانت الفصاحة ترجع إلى المعاني لما اختلفت هذه الألفاظ، ولا كان فيها ما يستحسن استعماله، وفيها ما يستقبح؛ لأنها في الدلالة على المعنى سواء. لكن لا ريب في حسن استعمال اللفظتين الأوليين، وأما لفظة البعاق فقبيحة منكرة1.
أقول إن هذا الرجل يتوهم أن من قال إن المعاني قد توصف بالفصاحة فقد أراد المعاني المفردة، وهذا غلط، فإن أحدا لم يقل ذلك.
وإنما قالوا إن الكلام المركب الدال على معنى قد يسمى فصيحا أيضا، وقد يقولون لمعنيين أحدهما أكثر بيانا وأوضح عند السامعيين: هذا المعنى أفصح من هذا، بل قد يقال له بليغ، والفصاحة للألفاظ، فوقع بينهم النزاع في ذلك، لا في اللفظة المفردة الدالة على المسمى المفرد.
46-
قال المصنف: وأيضا فإن الفصيح على وزن فعيل بمعنى فاعل، نحو كريم
1 صفحة: 115.
وشريف ولطيف، والفاعل للإبانة عن المعنى هو اللفظ لا غير وكانت الفصاحة مختصة به لا غير1.
أقول إن هذا الموضع من المواضع التي اشتبهت على هذا الرجل، وذلك أن أفعال الطبائع نحو فصيح وظريف وشريف وكريم إنما تُعطي الاتصاف بتلك الصفة فقط، ولا تعي معنى الفاعلية أصلا، ولا تدل على المؤثر. ألا ترى أن قولنا كريم ولطيف لا يدل على أنه فعل الكرم واللطف، وإنما يدل على أنه ذو لطف وكرم فقط، مع قطع النظر عن الفاعل لهما من هو.
فالفصيح معناه ذو الفصاحة، لا فاعل الفصاحة، كالجميل والصبيح معناهما ذو الجمال والصباحة لا فاعلهما، وهذا الرجل توهم أن فصيحا فاعل الفصاحة، ثم بنى الدليل على هذا وقال إن فاعل الإبانة للمعنى والمكيف له هو اللفظ، فكان الفصيح هو اللفظ، وهذا من الغلط على ما تراه.
وعلى أنه لو كان ما توهمه صحيحا لكان لخصمه أن يقول: المعنى الواضح هو الذي فعل الفهم والإدرك في نفس السامع، وأوضحه له فانكشف له فحواه ومغراه، فهلا سميت المعنى فصيحا بهذا الاعتبار؟
وإن النزاع في هذ المسألة لفظي محض. والذي قاله المحققون أنا وجدنا الاصطلاح واللغة يشهد أن بأن الفصاحة للألفاظ والبلاغة للمعاني، فإنهم يقولون: هذا معنى دقيق، وهذا معنى غامض، ولهذا يقولون في الحيوان غير الناطق كالببغاء هو فصيح، لإقامته الحروف ولا يسمونه بليغا؛ إذ ليس له
1 المثل السائر: 1/ 116.
قصد إلى المعنى، وإذا كان أهل اللغة والاستعمال قد اصطلحوا على ذلك واتفقوا عليه وجب اتباعهم لأن البحث لفظي.
47-
قال المصنف: "واعلم أن البيان علم عقلي يدرك بالذوق والعقل حسنه من قبحه، وليس كعلم النحو، فإنه تقليد العرف، والذي تكلفه النحاة من التعلات واه لا يثبت على محك النظر؛ لأنهم إنما سمعوا من واضح اللغة رفع الفاعل ونصب المفعول من غير دليل أبداه لهم، فاستخرجوا لذلك أدلة وعللا، وإلا فمن أين علم هؤلاء أن الحكمة التي دعت الواضع إلى رفع الفاعل ونصب المفعول من غير دليل أبدا هي التي ذكروها1.
أقول: إن كان هذا الرجل ممن ينفي القياس في الشرعيات كلمناه كلاما أصوليا كما تكلم الشيعة والنظام2 وأهل الظاهر3 وغيرهم ممن نفى القياس في الفقه، وإن كان يعترف بالقياس في الشرعيات فالقياس في الشرعيات كقياس في النحويات؛ لأنا علمنا أن الحكمة التي دعت الواضع إلى رفع الفاعل ونصب المفعول هي الوجوه التي يذكرها النحاة، لكونها
1 بتصرف من: 1/ 119.
2 النظام هو إبراهيم بن سيار بن هانئ البصري، انفرد في الاعتزال بمذهب خاص، وكان أستاذ الجاحظ، وكان متكلما عالما أديبا له نثر جيد وشعر رقيق، وقد بنى مذهبه الكلامي على الشك والتجربة. توفي سنة 221هـ.
3 أهل الظاهر هم الذين ينكرون الرأي والقياس، أسس المذهب داود الظاهري الأصفهاني الأصل البغدادي الدار، وعماد مذهبه إنكار القياس، والاعتماد على أن في الكتاب والسنة ما يفي بمعرفة الواجبات والمحرمات، والجري على تقديم ظواهر الآيات والأحاديث على التعليل العقلي للأحكام.
مات ببغداد سنة 270هـ ونشر مذهبه بعده ابنه محمد المتوفى سنة 279.
وقد كثر أتباع المذهب بالعراق وفارس والأندلس، ثم انقرضوا بعد المائة الخامسة.
مناسبة، والحكم ثابت على وفقها، نحو قولهم الفاعل للفعل الواحد لا يكون إلا واحدا، والمفعولات قد تكثر وتتعدد، والفعل واحد ويتعدى مع ذلك إلى أشياء، كالمفعولات في المعنى نحو الحال والظرف والمصدر، فكان الفاعل أخف لقلته فأعطي الرفع وهو أثقل الحركات تعديلا بين الثقيل والخفيف. ونحو قولهم لما كان الفعل والفاعل جملة مفيدة كالمبتدأ والخبر أُعطي الفاعل إعراب المبتدأ وهو الرفع للمشابهة بينهما من الجهة المذكورة، وغير ذلك من الوجوه التي قد ذكرناها في كتاب "العبقري الحسان" وذكرها غيرنا، فصار ذلك كتعليل سقوط قضاء الصلاة عن الحائض بالمشقة، فإنه مناسب، وقد ثبت الحكم على وقته في سقوط قضاء الركعتين المنقطعتين من صلاة الظهر في السفر، فهذا تعليل متفق بين القايسين على صحته. ولم يكن لقائل أن يقول من أين علمتم أن الحكمة التي دعت إلى إسقاط قضاء الصلاة عن الحائض هي المشقة؛ لأن الشارع لم يذكر ذلك، وإنما حكم بسقوط القضاء فقط ولم يذكر العلة.
48-
قال المصنف: فأما نثر المنظوم فينبغي أن يكون كذا وكذا، ثم ذكر له شروطا، وضرب من كلامه أمثلة أكثرها جيد، وفيها ما ليس بجيد مثل قوله:"فسرنا في غمامة من الكتائب، تظلها غمامة من الطيور الأشائب، فهذه يضمها بحر من حديد، وهذه يضمها بر من صعيد"1 وذلك لأن الصعيد وجه الأرض، والطيور التي تظل الجيس إنما يضمها بحر من الجو والهواء لا من الأرض. ومثل قوله في ذكر الصليب: "ولم يعلموا أن الله كتب عليه الهوان
1 بتصرف واختصار 1/ 141 وأصلحنا النص من المثل السائر.
عقب تلك الكرامة، وأنه ذو شعب أربع، والتربيع نحس في علم النجامة"1 فإن لفظة النجامة لفظة رديئة مستغفلة، على أنا لا نعرف صحتها أو جوازها، ولا سمعناها اسما للتننجيم ولا مصدرا.
ومثل قوله: "قد عد الخادم احتمال تثقيله من جملة الأيادي التي أثقلته وأراد أن يجري معها بسوابق شكره فأعجلته وما أمهلته، وهو الآن مرتهن منها بين قديم وجديد، وأصبح كخراش إذ تكاثرت الظباء عليه فلا يدري لكثرتها ما يصيد"2 فإن تشبيه نفسه بخراش قبيح جدا؛ لأنه إن كان لا يعلم أن خراشا في هذا البيت اسم كلب فهو معذور، حيث لم يعرف مراد الشاعر، وإن كان يدري فقد شبه نفسه تشبيها قبيحا. أليس هو الذي استقبح في هذا الكتاب قول الرضوي الموسوي3:
يعز على أن أراك وقد خلت
…
من جانبيك مقاعد العواد
لأجل لفظة مقاعد؟
وقول أبي الطيب المتنبي:
أذاق الغواني حسنه ما أذقنني
…
وعف فجازاهن عني على الصرم4
1 1/ 145.
2 1/ 148.
3 هو الشريف الرضي أو الحسن محمد بن الحسين بن موسى ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي ولد ببغداد سنة 359 وكان من أكابر الشعراء.
4 صححنا البيت من ديوان المتنبي، وهو من قصيدته في مدح الحسين بن إسحاق التنوخي التي مطلعها:
ملامي النوى في ظلمها غاية الظلم
…
لعل بها مثل الذي بي من السقم
الديوان 2/ 320.
وقد استقبح ابن الأثير المتنبي وقال: وإن الصرم في اللغة القطع: فغيرتها العامة، وجعلتها دالة على المحل المخصوص من الحيوان دون غيره فأبدلوا السين صادا، ومن أجل ذلك استكراه استعمال هذه اللفظة وما جرى مجراها، لكن المكروه منها ما يستعمل على صيغة الاسمية، كما جاءت في هذا البيت. وأما إذا استعملت على صيغة الفعل كقولنا صرمه وتصرم فإنها لا تكون كريهة؛ لأن استعمال العامة لا يدخل في ذلك.
"المثل السائر 1/ 255".
لأجل لفظة الصرم:
وقول أبي تمام:
أعطيتني دية القتيل وليس لي
…
عقل ولا حق عليك قديم1
لأجل قوله ليس لي عقل.
ومثل قوله2 في صفة فرس: وخلفها جنيب من الخليل يقبل بجذع ويدبر بصخرة، وينظر من عين جحظة، ويسمع بأذن حشرة3 فإنا ما سمعنا إلا عينا جاحظة ولم نسمع جحظة، ولو قال من عين حذرة لاستغنى عن جحظة التي لم تستعمل.
وقد كان زاد في القرائن قرينة، وأتى بلفظة امرئ القيس في قوله:
عين لها حدرة بدرة
…
وشقت ماقيهما من أخر4
والعين الحدرة هي المكتنزة الصلبة.
1 من قصيدته في مدح محمد بن الهيثم بن شبانة التي مطلعها:
أسقي طلولهم أجس هزيم
…
وغدت عليهم نضرة ونعيم
الديوان 3/ 292.
2 يريد ابن الأثير.
3 من كتاب له 1/ 154.
4 صوبنا البيت من لسان العرب مادة أخر. قاله امرؤ القيس في وصف فرس حجر -أنثى- عين حدرة: مكتنزة صلبة. بدرة: تبدر بالنظر، ويقال هي التامة كالبدر. شلت من أخر: مفتوحة شقت من مؤخرها.
ومثل قوله إن إنسانا كلفه أن يرصع قوله "إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه سورة ولا تمثال" في فصل من الكتابة فقال: "قد أصبح الخادم وليس بقلبه سوى الولاء والإيمان، فهذا يظهر أثره في طاعة السر، وهذا في طاعة الإعلان، وما عداهما فإن دخوله إلى قلبه من الأشياء المحظورة، والملائكة لا تدخل بيتا فيه تمثال ولا صورة"1.
فإن ترصيع الخبر في هذا المقصد بعيد جد؛ لأن الولاء والإيمان ليسا بصورة ولا تمثال. ثم إن ما عداهما أمر يغم ويتسع جدا إلى مالا نهاية له، وقد يكون مضاد لهما كالكفر والنفاق، ولا يحسن أن يقال الكفر ونية الخروج على الإمام لا يدخلان في قلب؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ولا تمثال، ولا هذا مناسب ذاك، ولا قريب منه، وقد سألني بعض الأصدقاء هل يمكن استعمال هذا الخبر في الكتابة وإخراجه في معرض آخر، ألطف من هذا. فقلت: قد يمكن ذلك بأن يكتب إلى صديق أو حبيب: قد تمثلت صورتك في سواد العين وسويداء الجنان، وملأت أقطارهما؟ فلم يبق لغيرهما فيهما مكان، فإذا صليت الظهر لم أعلم أركعتان هي أم ثمان؟ وقد منعت صورتك القلبية محلها من اعتقاد الهدى، وفرغته لاعتقاد الضلال، لأنهما من آثار الملك والشيطان، والملائكة لا تدخل بيتا في صورة ولا تمثال".
واعلم أن هذا الباب وهو حل النظوم وهو عين هذا الكتاب وخلاصته ووجه جميعه، وطراز حلته، وكأنه لم يصنفه إلا لأجله، وليظهر صناعته فيه.
1 المثل السائر: 1/ 193.
على أن كتابته كلها إذا تأملها العارف بهذا الفن وجدها من هذا الباب؛ لأنها إما محلول منظوم، أو ترضيع آية أو خبر أو مثل أو واقعة، وهذه إحدى طرائق الكتاب عندي، وإليها أذهب، ولها استعمل.
وقد كنت شرعت في حل سيفيات أبي الطيب المتنبي1 لشهرتها، وغلبتها على ألسنة الناس، وأن أجعل ذلك كتابا مفردا أتقرب به أيضا إلى الخزانة الشريفة -عمرها الله تعالى- فخرج بعضه، وصدف عن إتمامه- عوائق الوقت أو شواغله.
وأنا أوردها هنا بعض ذلك، ليكون معارضا لما جاء به هذا الرجل، ولكيلا يكون كتابنا هذا مقصورا على المناقضات النظرية والمؤاخذات الجدلية في علم الكتابة فقط، بل يكون حاويا لذلك، ولجزء من الكتابة نفسها
فصل في التهنئة بعيد:
"لا زالت المواسم تغشاك وأغصانها وريقة، وحدائقها أنيقة، والأعياد تلقاك، وأنت عيدها على الحقيقة، ولا برحت تهتصر من الشباب لدنارطيبا، وتنضو من الأعياد سملا وتلبس قشيبا، فهذا اليوم الشريف في الأيام مثلك في الأنام، لكنه أوحد عام محصور، وأنت أوحد الأعوام والدهور، ولا أحيل ذلك على محض الجد الذي أسهرك وحاسدك راقد وشانئك قاعد".
"لا زالت المواسم تغشاك وأغصانها وريقة، وحدائقها أنيقة، والأعياد تلقاك، وأنت عيدها على الحقيقة، ولا برحت تهتصر من الشباب لدنارطيبا، وتنضو من الأعياد سملا وتلبس قشيبا، فهذا اليوم الشريف في الأيام مثلك في الأنام، لكنه أوحد عام محصور، وأنت أوحد الأعوام والدهور، ولا أحيل ذلك على محض الجد الذي أسهرك وحاسدك راقد وشانئك قاعد".
هذا محلول قوله:
هنيئا لكل العيد الذي أنت عيده
…
وعيد لمن سمي وضحى وعيدا
ولا زالت الأعياد لبسك بعده
…
تسلم مخروقا وتعطي مجددا
1 سيفيات المتنبي هي قصائده في مدح سيف الدولة بن حمدان أمير حلب والموصل:
فذا اليوم في الأيام مثلك في الورى
…
كما كنت فيهم أوحدا كان أوحدا
هو الجد حتى تفضل العين أختها
…
وحتى يكون اليوم لليوم سيدا1
وقد زدت عليه بأن جعلت توحيده بالاستحقاق لا بالجد والإنفاق، وفيه زيادة، أخرى وهي عموم توحيده وخصوص توحيد العيد في أيام العاد مفردة.
فصل في لقاء عدو:
"فلو كشف لك عن قلوبنا لرأيت التشوق قد فعل فيها ببرحائه، فعلى قنا الأمير في صدور أعدائه، فإنه جعلهم هلكى يطعنون مخلوجة وسلكى، فالفضاء الرحب لديهم أحرج من التابوت، ونسج داود عليهم أوهن من بيت العنكبوت".
هذا محلول قوله2:
نودعهم والبين فينا كأنه
…
قنا ابن الهيجاء في قلب فيلق
قواض مواض نسج داود عندها
…
إذ أوقعت فيه كنسج الخدردنق
وفيه أيضا حل قول امرئ القيس:
1 من مدحه لسيف الدولة، وتهنئته بالعيد.
الديوان 1/ 189.
2 من قصيدة في مدح سيف الدولة، مطلعها:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي
…
وللحب ما لم يبق من وما بقي
الديوان 1/ 461.
أبو الهيجاء: والد سيف الدولة: الفيلق: الكتبية من الجيش. نسج داود: الدروع. الخدرنق: العنكبوت.
نطعنهم سلكى ومخلوجة
…
كرك لأمين على نابل1
فصل في وصف منهزم:
"أجفل إجفال النعام، وانقشع إنقشاع الغمام، يتوهم كل حفيف يسمعه رشق نابل، ويرى الأرض في عينيه كفة حابل. وقد كان أبي ألا ينكص له قدم، وعقبى يمين الجبان حنث وندم، وإذا تزلزلت الأقدام لم ترد اليمين في الإقدام، والحرب يحسن الهزائم، ويغير العزائم، ويجعل أهون شيء ما يقول اللوائم".
هذا محلول قوله:
عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم
…
ماذا يزيدك في إقدامك القسم2
وقوله:
والعيان الجلي يحدث للظن
…
زوالا وللمراد انتقالا3
1 من قصيدته التي مطلعها:
يا دار مية بالحائل
…
فالسهب فالخبتين من عاقل
الديوان 151 ولسان العرب مادة لأم
سلكى: مستقيمة: مخلوجة: معوجة. كرك لأمين على نايل: مر الشاعر بنابل وصاحبه يناوله الريش في سرعة فشبه به.
2 مطلع قصيدته في مدح سيف الدولة حينما قيل في مجلسه إن البطريق أقسم عند ملك الروم أنه سينتصر على سيف الدولة، وسألة أن ينجده بالمحاربين، ففعل، فانهزم.
"الديوان 2/ 294".
3 صححنا البيت من الديوان. وهو من قصيدة في مدح سيف الدولة لما نهض لينفذ ثغر الحدث من الروم، ومطلعها:
ذي المعالي فليعلون من تعالى
…
هكذا هكذا وإلا قلا لا
"الديوان 2/ 109".
وقول بعض شعراء الحماسة:
ملأت عليه الأرض حتى كأنها
…
من الضيق في عينيه كفة حابل1
وقول القائل:
إذا هبت النكباء بيني وبينكم
…
فأهون شيء ما يقول العواذل
فصل في الصفح عن الجرائم:
"سيف الإحسان والإجمال أقتل من سيف القتل والاستئصال، وطالما غل يدا مطلقها، واسترق رقبة معتقها، إلا أن اللئيم يفسده الإحسان، ويصلحه الهوان، كما ينفر من الضيم ذو الأنف الحمى، ويفر عنه فرار الطائر الوحشي".
هذا محلول قوله:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم
…
ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
…
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا2
1 القائل هو الطرماح بن حكيم الطائي وهو من فحول الشعراء الإسلاميين وفصحائهم، وكان صديقا للكميت، والبيت من أبيات له بديوان الحماسة.
الكفة: يجوز أن يريد به الحفيرة التي ينصب فيها الحابل الحبالة، أو يريد بها ناموس الصياد، أو هي الحبالة نفسها؛ لأنها تحبل كالطواق، وهذا أقرب لأن الخليل فسر الكفة على ذلك، وجازت إضافتها إلى الحابل كما تضاف الحبالة إليه.
الحابل: ناصب الحبالة "شرح المزروقي 1/ 228".
2 من قصيدته في مدح سيف الدولة وتهنئته بالعيد، مطلعها:
لكل امرئ من دهره ما تعودا
…
وعادات سيف الدولة الطعن في العدا
"الديوان 1/ 191".
وقال الرضي الموسوي:
ما مقامي على الهوان وعندي
…
مقول صارم وأنف حمى
وإباء محلق بي عن الضيم
…
كما راغ طائر وحشي1
وأدخلت أيضا فيه لفظة لبعض الخوارج قالها لقطري بن الفجاءة2، والقصة مشهورة.
فصل في ذكر المرسلة:
"وتوالت منهم رسائل جعلوها عليهم أدراعا، وقصدوا بهما تزجية للوقت ودفاعا، فظاهرها الإعظام لنا والإجلال، وباطنها الإرجاء لهم والإمهال".
هذا محلول قوله:
دروع لملك الروم هذي الرسائل
…
يرد بها عن نفسه ويشاغل
هي الزرد الضافي عليه ولفظها
…
عليك ثناء سابغ وفضائل3
فصل:
"باب المعمور كعبة الحيا، ومغناطيس الشفا، فالملوك تقبل بساط ديوانه، وتقصر عن تقبيل كمه وبنانه".
هذا محلول قوله:
تقبل أفواه الملوك بساطه
…
ويكبر عنها كمه وبراجمه4
1 ديوان الشريف الرضي 546 وقد سبق التعريف به.
2 زعيم من زعماء الخوارج شاعر خطيب.
3 من قصيدته في مدح سيف الدولة حينما جاء إليه رسول ملك الروم "الديوان 2/ 90" ورواية الديوان "يرد" بدلا من "يذب" التي في الأصل.
4 من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه
…
بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
فصل:
"إذا كان الهوى من القلب في الشغاف والصميم، واللوم يحوم حول ذلك الحمى والحريم، وكلما شاهد الحر فتى ثار، وكلما عاين النار استطار، لا جرم أنه يستحيل جوهره هباء، ويذهب زبده جفاء، ويثبت في محله ذلك الهوى، ويلقي عصاه، ويستقر به النوى".
هذا محلول قوله:
عذل العواذل حول قلب التائه
…
وهوى الأحبة منه في سودائه
يشكو الملام إلى اللوائم حره
…
ويصد حين يلمن عن برحائه1
فألقت عصاها واستقر بها النوى
…
كما قر عينا بالإياب المسافر
فصل في ذكر معقل:
"حماها فأجلى، وبناها فأعلى، ونيران المران تضطرم، وأمواج الأرماح تلتطم، وشبا الظبا يصطدم، ولظى الوغى تحتدم، نقرت بعد انزعاجها، وسلمت بعد ارتتاجها، وشفيت من ألمها، وبرئت من لممها، وأصبحت متقلدة بغمائم من أشلاء الفوارس، تدفع عنها عين العائين ونفس النافس، وليست كقلائد عراف اليمامة وعراف نجد، ولكنها قلادة طرفاها الشرف وواسطتها المجد".
= البراجم: مفاصل الأصابع، مفردها برجمة.
"ديوان المتنبي 2/ 239".
1 الديوان 1/ 1.
وقد حللت في هذا قوله في وصف قلعة الحديث:
بناها فأعلى والقنا يقرع القنا
…
وموج المنايا حولها متلاطم
وكان بها مثل الجنون فأصبحت
…
ومن جثت القتلى عليها تمائم1
وأشرت فيه إلى قوله صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين عليهما السلام: "أعيذكما من عين العائن ونفس النافس" 2
وإلى قوله عروة بن حزام:
ضمنت لعراف اليمامة حكمه
…
وعراف نجد إن هما شفياني3
47-
وقد نثر هذا المصنف هذين البيتين، فقال:"بناها والأسنة في بنائها متخاصمة، وأمواج المنايا فوق أيدي البانين متلاطمة، فما أحلت الحرب عنها حتى زلزلت أقطارها بركض الجياد، وأصيبت بمثل الجنون، فعلقت عليها تمائم من الرءوس والأجساد، ولا شك أن الحرب تعرد عمن عز جانبه، وتقول ألا هكذا فليكسب المجد كاسبه"4.
1 من قصيدته في مدح سيف الدولة لما بنى ثغر الحدث، ومطلعها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
…
وتأتي على قدم الكرام المكارم
"الديوان 2/ 269".
2 النفس: من معانيها العين والحسد، يقال نفسه بنفسه إذا أصابه بعين "القاموس المحيط مادة نفس".
3 عروة بن حزام بن مهاصر شاعر غزل عذري قصر حبه على عفراء بنت عمه، وحالت عوائق دون زواجه بها، فمرض حتى قضى نحبه سنة 28 أو 30.
ورواية البيت "جعلت" بدلا من "ضمنت".
الأغاني 20/ 153 وفوات الوفيات لابن شاكر 2/ 35 وتزيين الأسواق لداود الأنطاكي 75.
4 المثل السائر 1/ 135.
ونثرهما على أسلوب آخر فقال: "بناها ودون ذلك البناء شوك الأسل، وطوفان المنايا الذي لا يقال سآوي منه إلى جبل، ولم يكن بناؤها إلا بعد أن همدت رءوس عن أعناق، وكأنما أصيبت بجنون فعلقت القتلى عليها مكان التمائم، أوشينت بعطل فعلقت مكان الأطواق"1.
ومن عنده أدنى ذوق في فن الكتابة يعرف الفرق بين كلامنا وهذا الكلام.
وقد نثر هذا الكتاب البيت الثاني خاصة فجاء أصلح مما قاله في نثر البيتين وهو: "سرى إلى حصن كذا مستعيدا منه سبية نزعها العدو اختلاسا، وأخذ مخادعة لا افتراسا، فأنزلها حتى استقادها، ولا نزلها حتى استعادها، وكأنما كان بها جنون فبعث لها من عزائمه عزائم، وعلق عليها من رءوس القتلى تمائم"2.
وهذا وإن كان حسنا لكن الزيادات العجيبة والتسميطات والأسجاع التي أتينا بها نحن تزرى على ما أتى به هذا الكاتب، وتتجاوزه أضعافا مضاعفة.
فصل:
"أنا أستعين بك عليك، فالخصومة فيك ومنك وإليك، وأستميحك عدل قضائك الذي عم الخلق وعداني، وشمل الناس وتخطاني. وأعيذ مرآة فكرك وهو الجوهر الشريف، والشغاف اللطيف، ألا يظهر فيها تلبيس
1 المثل السائر: 1/ 136.
2 المثل السائر: 1/ 135 ومنه أصلحنا النص.
الحاسد، وبهتان الكاشح المعاند، وأخلاقك التي تظلم إذا قيست في اللطافة بالسلافة، وفي الصفاء بالصهباء، أن تحمل قذى الغش الصراح، وهي ألطف من أن تمزج بالماء القراح".
هذا محلول قوله:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
…
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم1
وقوله غيره:
أخلاقك الغر الصفايا ما لها
…
حملت قذى الواشين وهي سلاف؟
واللبس في مكنون رأيك ماله
…
يخفى وأنت الجوهر الشفاف؟
فصل في صفة جيش:
قد تسربل قميصا من الزرد المحكم إلا أنه محمل بالرماح، وتردى بردا من النقع المظلم إلا أنه معلم بوميض الصفاح، تسحب جياده الحديد فتخالها تمشي بغير قوائم، وتستغنى بعده عن المخالب بعد أن خلقت رماحه والصوارم، ولا يعرف في بريقه البرامك فالثياب مثلها والعمائم، وبطن حديده ماء، وهو يخدع خدع السراب، تحسب خيالته ساكنة وهي تمر مر السحاب.
1 من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
واحر قلباه ممن قلبه شيم
…
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
"الديوان 2/ 258".
هذا محلول قوله:
وملمومة زرد ثوبها
…
ولكنه بالقنا مخمل1
وقوله:
أتوك يجرون الحديد كأنما
…
سروا بجياد مالهن قوائم
إذا برقو لم تعرف منهم
…
ثيابهم من مثلها والعمائم
وقوله:
وما ضرها خلق بغير مخالب
…
وقد خلقت أسيافه والقوائم2
فصل:
"العادة طبيعية غالبة، وسجية إلى فعل المعتاد جاذبة. وعادتك طعن الأحداق، وضرب الأعناق، وطبال، ونبال يهويان ذاك، وأنت تبلغ النفوس هواها، والقلوب مناها، فأجرمتهما على أعراقك، ومعهود عوائدك وأخلاقك، فإن الملك لا تثبت دعائمه، حتى تخضب بالدم صوارمه".
1 من مدحه لسيف الدولة مطلعها:
أيقدح في الخيمة العذل
…
وتشمل من دهرها يشمل
"الديوان 2/ 62"
2 من قصيدته في مدح سيف الدولة مطلعها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
…
وتأتي على قدر الكرام المكارم
"الديوان 2/ 272".
هذا محلول قوله:
لكل امرئ من دهره ما تعودا
…
وعادات سيف الدولة الطعن في العدا1
وقوله أيضا:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
…
حتى يراق على جوانبه الدم2
وقول ابن هند:
سيوفك تهوى أن تبيح لها العدا
…
فلا تحرمنها إن عادتك الندا
48-
فصل في نثر قوله:
لا تعذل المشتاق في أشواقه
…
حتى يكون حشاك في أحشائه3
نثره هذا المصنف فقال: "لا تعذل المحب فيما يهواه، حتى تطوى القلب على ما طواه"4.
1 مطلع قصيدته في مدح سيف الدولة.
"الديوان 1/ 185".
2 من قصيدته التي مطلعها:
لهوى النفوس سريرة لا تعلم
…
عرضا نظرت وخلت أني أسلم
"الديوان 2/ 383".
3 من قصيدته التي مطلعها:
القلب أعلم يا عذول بدائه
…
وأحق منك بجفنه وبمائه
"الديوان 1/ 3".
4 المثل السائر 1/ 133.
ونثره أيضا على وجه آخر فقال: "إذا اختلفت العينان في النظر، فالعذل ضرب من الهذر"1:
وقد نثرناه نحن على وجوه منها: "لا تعذل المحب في حبه، حتى ينطق لسانك عن قلبه" ومنها: "المتبول يعذل المتبول، والفارع مغري بالمشغول". ومنها. "لو ذقت ما يذوق العاشق لتركت عذل وعرفت عذره، ومن يضع يده في الماء يجد برده ويعرف حره" ومنها: "إذا لم يتوارد القلبان على مورد واحد، فالعادل يضرب في حديد بارد" ومنها: "لو اتحدت الغرائز والأخلاق، لعذرت المشتاق في الأشواق، ولكن النفس الواحدة لا تدبر تدبيرين، كما لا يكون الاتفاق واحدا ولا الواحد اثنين". ومنها: "لو كنت تود بقلبي، وتراني بطرفي لعذرتني فيما أبدي، ورحمتي مما أخفى" وفي هذا إشارة إلى قوله في هذه القصيدة:
ما الخل إلا من أود بقلبه
…
وأرى بطرف لا يرى بسوائه2
فصل في صفة السيوف:
فنهدنا إليهم وفي أيدينا النار الموقدة في الرءوس، المعبودة قبل ملة المجوس، التي يفسدها الماء، ولا يطفئها الهواء، ولا تحرق الأغماد، ولا خمدت ليلة الميلاد ترمي بالدم لا بالشرر، وتوقد بالناس لا بالحجر، تحكم تارة بالتعظيم وتارة
1 المثل السائر: 1/ 133.
2 الديوان: 1/ 4.
بالتصغير، وتجمع قوما جمع السلامة، وقوما جمع التكسير".
هذا محلول قوله:
وفي أكفهم النار التي عبدت
…
قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم
هندية إن تصغر معشرا صغروا
…
بحدها أو تعظم معشرا عظموا1
وفد زدت عليه زيادات كثيرة، ورمزت إلى الخبر الوارد في أن نار فارس خمدت ليلة ميلاد نبينا صلى الله عليه وسلم، وخرجت إلى قوله:{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْر} 2 وقوله سبحانه: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 3 ثم خرجت إلى نكتة نحوية وهي جمع السلامة وجمع التكسير.
فصل:
السيف بالضارب لا بمضاء المضارب، والحسام في دي الجبان كهام، والكهام في يد الشجاع حسام، ولذلك قال عمرو لعمر: لا لوم على ولا حيف، فإني لا أنحلك الساعد، وإنما نحلتك السيف.
1 من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم
…
ماذا يزيدك في إقدامك القسم
الديوان 2/ 300.
2 سورة المرسلات: 32.
3 سورة التحريم.
هذا محلوله قوله:
إن السيوف مع الذين قلوبهم
…
كقلوبهن إذا التقى الجمعان
تلقى الحسام على جراء حده
…
مثل الجبان بكف كل جبان1
فصل في العتاب:
"العتاب نسيم الحياة، والعتب سمومن الحياة، فأنا أعاملك بالأول، لأنه من شيم الأحباب، والود باق ما بقي العتاب، وأجل مجدك الرفيع المباني عن المعاملة بالثاني".
نظرت في هذا إلى قوله:
هذا عتباك إلا أنه مقة
…
قد ضمن الدر إلا أنه كلم2
فصل في ذكر السبايا:
فلم يعتصم منا إلا ربات الفتاخ والوشاخ3، ومن شيمها جر الذيول لأجر الرماح، فإنهن طعن فيه بالعدو بالمران، وكان لهن أوجه شفيع إلينا، وهو الشفيع العريان، فنحن بين لاه ولاعب، وأهلهن عليهن بين باك ونادب، وهذه سجية الدني تعمر البيت بخراب البيت، وتميت الحي بحياة الميت.
1 من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
…
هو أول وهي المحل الثاني
الديوان 2/ 432
2 من قصيدته في عتاب سيف الدولة مطلعها:
واحر قلباه ممن قلبه شيم
…
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
الديوان 2/ 266
3 الفتاخ: جمع فتخة وهي الخاتم أو الخلخال.
الوشاح: أديم عريض مرصع بالجوهر تشده المرأة بين عاتقها وكشحها.
هذا محلول قوله:
فلم يبق إلا من حماها من الظبا
…
لمى شفتيها والثدى النواهد
تبكي عليهن البطاريق في الدجى
…
وهن لدينا ملقيات كواسد
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
…
مصائب قوم عند قوم فوائد1
وقد رمزت فيه إلى قول القائل:
كتب القتل والقتال علينا
…
وعلى المحصنات جر الذيول2
وقول آخر:
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا
…
مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
49-
فصل في نثر قوله:
إن القتيل مضرجا يدموعه
…
مثل القتيل مضرجا بدمائه3
نثره المصنف فقال: "القتيل بسيف العيون، كالقتيل بسيف المنون،
1 من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
عواذل ذات الخال في حواسد
…
وإن ضجيع الخود من لماجد
الديوان 1/ 183.
2 قائله عمر بن أبي ربيعة، الأغاني 8/ 132.
3 ديوان المتنبي 1/ 5 وقبله قوله:
لا تعذل المشتاق في أشواقه
…
حتى يكون حشاك في أحشائه
فجعل جريان الدموع كجريان الدماء؛ لأن العاشق مثل القتيل.
غير أن ذاك لا يجرد من غمد، ولا يقاد صاحبه بعمده" ونثره على وجه آخر فقال:"دمع المحب ودم القتيل متفقان في التشبيه والتمثيل، ولا تجد بينهما بونا، سوى أنهما يختلفان لونا"1.
وقد نثرناه نحن على وجوه منها: القتيل المتشحط في نجيعه، كالعاشق المنخرط في دموعه، وكلا الماءين دم، إلا أن سال على أصل الخلقه، وهذا صعد من حرقه الفرقة.
ومنها "القتيل الذي قطعت شرايين نجيعه، أروح من القتيل الذي قطعت شرايين دموعه، فذاك قد فارق الدنيا فأمن شرها وخيرها، كلما نضجت جلوده بدل جلويا غيرها".
ومنها "الدمع دم أحالت لونه نار الهوى فابيض، وقطت سلكه يد النوى فتبدد وارفض، ولا فرق بينهما عند البصر والبصيرة، إلا ن هذا يسيل من عضو واحد، وذاك من أعضاء كثيرة".
ومنها "مصارع العشاق كمصارع الشجعان، يتماثلان في المعنى وإن اختلفا في العيان، وكلا القتيلين شهيد، فهذا نزيف من العين وذاك من الوريد".
فصل:
فلله آراؤك التي نكست القوم عن صهوات الشواهق لا من صهوات
1 المثل السائر: 1/ 133.
السوابق، وطعنت فرسانها برماح الكيد والحط لا برماح سمهر والخط1، فكأنما كانت جبالها تشكو عطل الأعناق، فنظمت جيادك لها مكان القلائد، وأدرتها مكان الأطواق، وخضبت ذلك الصعيد بخضاب من الدماء لا من الكتم2 والحناء، وجعلت حمامه سجودا في غير محراب، وهجودا لا برون حكما إلا حكم العذاب، وكم هدمت لهم من حصن بعد حصن، في مشهد بعد مشهد، وأعدتها أطلالا، ولكنها ليست لخولة ببرقة تهمد، وجعلت عمارة تلك المعالم كرواجع الوشوم في نواشر المعاصم، وأذقت الردى أهلها والجنادل، وسقت ما فوق المعاقل حتى كدت تسوق المعاقل.
هذا محلول قوله:
تنكسهم والسابقات جبالهم
…
وتطعن فيهم والرماح المكايد
وتضحى الحصون المشمخرات في الذرى
…
وخيلك في أعناقهن قلائد
مخضبة والقوم صرعى كأنها
…
وإن لم يكونوا ساجدين مساجد
وألحقن بالصفصاف" سابور فانهوى
…
وذاق الردى أهلاهما والجلامد3
1 سمهر: رجل كان يقوم الرماح فنسبت إليه. الخط: مرفأ بالبحريين، كانت ترد إليه الرماح من الهند.
2 الكتم: بالتحريك نبت يخلط بالوشم يختضب به.
3 الديوان 1/ 182 وفي الديوان البيت الثالث مقدم على الأبيات.
يقول إنك تنزلهم من جبالهم منكوسين أو من خيولهم التي كأنها الجبال. المشمخرات: المرتفعات. الصفصاف وسابور: حصنان منيعان للروم.
وأضفنا إليه من مواضع أخر ما كمل به المعنى، وهو قول الشاعر:
وأرضك أرضك إن تأتنا
…
تنم نومة ليس فيها حلم
وزدنا عليه أن نفوسهم تعذب بعد الموت فيتألمون، كما يتألم النائم بالأحلام المزعجة، وقول طرفة بن العبد:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد1
وقول زهير:
ديار لها بالرقمتين كأنها
…
رواجع وشم في نواشر معصم2
وقول البحتري:
وقد سقت ما فوق المعاقل منهم
…
فلم يبق إلا أن تسوق المعاقلا
وزدنا على لفظة أبي الطيب وهي "مخضبة" قول علي وقد قبض لحيته: "أما والله لتخضبن هذه بخطاب دم لاخضاب عطر وعنبر" فخرج من مجموع هذا ما وقفت عليه.
فصل:
"عذر الخيمة واضح في السقوط، لأنها علت على مولانا فتأه بت له
1 من مطلع معلقته:
لخولة أطلال بيرفة ثهمد
…
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
2 من معلقته التي مطلعها:
أمن أوفى دمنة لم تكلم
…
بحرمانة الدراج فالمتثلم
يالهبوط، وعلمت عجزها عن أن تشمل من يشمل الزمان، وأن تعلو من يعلو على بهرام1 وكيوان2، فأر جاؤها في السعة بحيث يركض في كل قطر منها جحفل، ولكنها تضيق عن العالم المجموع في الواحد الأجمل، وتقصر عنه وتطول على القنا الذبل، وأظنا لماأشرقت بأنواره، وتاهت لما عدت من جملة دياره، لم تملك نفسها فخرت وضعفت، ورب نفس أفرط عليها الفرح فزهقت. ولو رزق الناس ما رزقت من الشرف الباذخ البنيات لخانتهم الأرجل وخروا سجود اللجباه والأذقان، وما سقطت عبثا وإنما أشارت بالرحيل، كما أن القصواء3 ما خلأت4 وإنما حبسها حابس الفيل".
هذا محلوله قوله:
أيقدح في الخيمة العذل
…
وتشمل من دهرها يشمل؟
وتعلو الذي زجل تحته
…
محال لعمرك ما تسأل؟
تضيق بشخصك أرجلؤها
…
ويركض في الواحد الجحفل
وتقصر ما كنت في جوفها
…
وتركز فيها القنا الذبل
1 بهرام: ملك فارسي حكم الفرس قبل الإسلام. وهم أربعة بهذا الاسم، ولعله بقصد بهرام جور بن يزدرجرد، وهو الذي ربي تربية عربية في الحيرة في عهد النعمان بن المنذر ثم توفي ملك فارس بعد أبيه وضبط أمورها وحمى حدودها "تاريخ الطبري 2/ 74":
2 كيوان: تجم في السماء هو الذي يسمى زحل.
3 القصواء: اسم ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم.
4 خلأت: حرنت أو بركت فلم تبرح.
رأت لون نورك في لونها
…
كلون الغزالة لا يغسل
وأن لها شرفا باذخا
…
وأن الخيام بها تخجل
فلا تنكرن لها صرعة
…
فمن فرح النفس ما يقتل
ولو بلغ الناس ما بلغت
…
لخانتهم حولك الأرجل
ولما أمرت بتطنيها
…
أشيع بأنك لا ترحل
فما اعتمد الله تقويضها
…
ولكن أشار بما تفعل1
وزدت على ذلك الخبر المشهور وهو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركب ناقته القصواء في عام الحديبية متوجها إلى مكة، فلم تنبعث تحته، فزجرها مرارا وزجرها أصحابه فلم تنبعث، فقالوا خلات القصواء، فقال النبي:"ما خلأت، وإنما حبسها حابس الفيل". وجرى من توقفه عن مكة وصلحه قريشا في تلك السنة ما هو مشهور.
فصل:
"هنيئا لأهل كذا جميل رأيك وحسن بلائك، وعميم آلائك، فقد
1 من قصيدة للمتنبي يمدح بها سيف الدولة ويذكر الخيمة التي أوقعتها الريح، وكان سيف الدولة قد ضرب خيمة كبيرة بميا فارقين وأشاع الناس أن مقامه يتصل بها، فهبت ريح شديدة أوقعت الخيمة، فتكلم الناس في ذلك "الديوان 1/ 59" وقد صححنا الأبيات من الديوان.
الجحفل: الجيش العظيم. القلا الذيل: الرماع اللبنة. الغزالة: الشمس. لا يغسل: لا يزول: التطنبب: مد الاطناب.
كان الدهر جار عليهم واعتدى فثقفته فاعتدل، واعترق العظم منهم وانتقى، فزجرته فأنتقل، فأمرك ممتثل فيخطبه، وخوفك ماثل في قلبه، فإن شك فليحدث بهم ضربا من الحادثات، لترقل له القنا باللهازم والراعفات، فيوماك يوم يخمد نار الحرب والحرب، ويوم يبرد أوار الجدب والسغب".
هذا محلول قوله1.
هينئا لأهل الثغر رأيك فيهم
…
وأنك حزب الله صرت لهم حزبا
وأنك رعت الدهر فيها وريبه
…
فإن شك فليحدث بساحتها خطبا
فيوما بخيل تطرد الروم عنهم
…
ويوما بجود تطرد الفقر والجدبا
وقول أبي حية النميري:
أما إنه لو كان غيرك أرقلت
…
إليه القنا بالراعفات اللهازم2
1 من قصيدته في مدح سيف الدولة لما بنى معرش، ومطلعها:
فديناك من ربع وإن زدتنا كربا
…
فإنك كنت الشرق للشمس والغراب
الديوان 1/ 44.
2 أرقلت: أسرعت. اللهازم: جمع لهزمة، وهي الناتئ تحت الأذنين، والمراد هنا الأعناق.
فصل:
"كريم ما شَتم ولا شُتم، ولا ظَلم وظُلم، فالملوك تشتم بالفعل لا بالقول، كالأسود لا تفرس بالحيل بل بالحول، وما أفرجت الأعداء عن البلاد حباله بل حذرا من شدة نكاله، ولا عزبت عنه بقيا عليه، ولكن خوفا من ضرر يناله".
هذا محلول قوله:
ولم تفترق عنه الأسنة رحمة
…
ولم تترك الشام الأعادي له حبا
ولكن نفاها عنه غير كريمة
…
كريم الثناما قط ولا سبا1
وقد أضيف إليه قول الأول:
وتجهل أيدينا ويحكم رأينا
…
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
وقول الآخر:
فما بقيا على تركتماني
…
ولكن خفتما ضرر النبال
50-
فصل في حل قوله:
تباري نجوم القذف في كل ليلة
…
نجوم له منهن ورد وأدهم2
1 الديوان 1/ 48 من قصيدته في بناء مرعش.
2 من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم
…
أكل فصيح قال شعرا متيم
الديوان 2/ 251.
ورد: ما بين الكميت والأشقر من الخيل.
أدهم: أسود نجوم القذف: هي التي تقذف بها الشياطين.
قد حله المصنف فقال: "تركب ظهر الليل تباري مسير شهبه، وتستقرب بعد المدى في نيل مطلبه، غير أن ذاك يفري أديم الغياهب، وهذا يفري أديم السباسب1.
وقد نثرناه نحن على وجوه منها: فما زلنا نقطع الأدهم الواقف بالدهم السائرات، ونساري الشهب النيرات بالشهب الطائرات، إلا أن تلك نجوم القذف والرجوم، وهذ نجوم الغارة والهجوم.
ومنها:
"فما زلت أباري أدهم الليل بدهم الخيل، وأجاري شهبة بالشهب التي تسبق جرى السيل، حتى وردت مدينة كذا قبيل الصباح، والثريا2 معترضة تعرض أثناء الوشاح، ومنها أدهم3 مقدود4 من الغياهب5، ملطوم الوجه ببعض الكواكب، يفوت الرياح إذا جرى، ويسبق النجوم إذا انكدرت6، إلا أن تقذف من أنصت ليسمع واسترق".
1 المثل السائر: 1/ 153.
السباسب: مع سبسب وهو المفازة.
2 مجموعة نجوم صغار متقاربة.
3 أدهم: أسود.
4 مقدود: مقطوع والمراد مخلوق.
5 الغياهب: جمع غيهب وهو الظلام والشديد الظلمة.
6 انكدرت: تناثرت وسارت.
فسطاط مصور:
"فرأيت إلى خيمته من الحرير مصورة بأنواع التصاوير، تكاد آسادها تزأر وتصول، وفرسانها تنطق وتقول، وأفراسها تركض وتجول. لم نغن الحمائم على حدائق جنانها، ولا حاكت أيدي السحائب رياض جدرانها، ولا عطت1 إلى فروع الأراك أعناق غزلانها، ولا خضعت رعيتها لملوكها، ولا نظمت عقد عذارها في سلوكها، إذا صافحت الرياح جلبابها، ونازعتها أهدابها، مالت ميل الغزل، ورقصت رقص الشارب الثمل2، قد تألفت الأضداد فيها تألف الأضراب والأشكال، فالكتاب ضيف الأرنب والفهد ونزيل الغزال".
هذا محلول قوله:
وأحسن من ماء الشبيبة كله
…
حيا بارق في فازة أنا شائمه
عليها رياض لم تحكها سحابة
…
وأغصان دوح لم تغن حمائمه
وفوق حواشي كل ثوب موجه
…
من الدر سمط لم يثقبه ناظمه
ترى حيوان مصطلحا بها
…
يحارب ضد ضده ويسالمه
1 عطت: مدت أعناقها ورءوسها متطاولة إلى الشجر لتتناول منه.
2 الثمل: النشوان الذي أثر فيه الشراب.
إذا ضربته الريح ماج كأنه
…
تجول مذاكيه وتدآى ضراغمه1
فصل:
"قصار رمحك أطول من ظلالها، وطول رماح أعدائك أقصر من زجاجها2 ونصالها3. وكم من رمح قصر فأطلته بخطاك، وكم من بلد بعد فقربته بسراك، وقطرك في الندى والردى سيول وبحار، وعزمك في الخصوم والعدا نصول وشفار، وأناملك راجحة ولكن خلقت سيوفك من عجل، فكلما نهيتها عن ولوغ الدماء قالت سبق السيف العذل4. وقد
1 من قصيدته في مدح سيف الدول عند نزوله أنطاكية بعد ظفره بحصن برزويه وكان جالسا تحت خيمة من الديباج عليها صورة ملك الروم وصور وحش وحيوان مطلعها:
رفاؤ كما كالربع أشجاه طاسمه
…
بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
الديوان 2/ 238.
ماء الشبيبة: نضارتها وحسنها. حبا: مطر. بارق: سحاب ذو برق. فازة: قبة أو خيمة أو مظلة بعمودين نصبت لسيف الدولة وكانت من حرير. شائمه: ناظر إليه يرجو المطر. دوح: جمع دوحة وهي الشجرة العظيمة. لم تغن حمائمه: يصف الخيمة بأنها مصورة بصور رياض وأشجار ولكن الحمائم لا تتغنى على أغصانها لأنها صور غير ذات روح. ثوب موجه: ذو وجهين. سمط من الدر: أراد به الدوائر البيض على حاشية الأثواب التي اتخذت منها الخيمة. يحارب ضده ويسالمه: نرى الوحوش مصطلحه بالخيمة مع أن من طبعها التفارس وقد نقشت على الديباج في صور المتحابة، لكنها لا تتحارب لأنها جماد لا روح فيه. المذكى: المسنة من الخيل: تدأى: تختل وتخدع. الضراغم: الأسود.
2 الزجاج: جمع زج وهو الحديدة التي في أسفل الرمج.
3 النصال: جمع نصل وهو حديدة الرمح والسهم والسيف.
4 مثل قديم قاله ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، كان الحارث بن كعب قد قتل ابنا لضبة، ثم لقيه في الحج فقتله. فقيل له: يا ضبة أفي الشهر الحرام؟ فقال سبق السيف العذل:
"مجمع الأمثال للميداني 1/ 133، 221".
ينسب الجاهل حلمك أحيانا إلى تدبير أو خداع، ولا يعلم أن الليث لا يأكل الجيفة، ولا يفترس الضباع".
هذا محلول قوله:
طول قنا تطاعنها قصار
…
وقطرك في ندى ووغى بحار
وفيك إذا جني الجاني أناه
…
تظن كرامة وهي احتقار1
وقول السموءل:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها
…
خطانا إلى أعدائنا فتطول2
1 من قصيدته في مدح سيف الدولة لما أوقع ببعض العرب الذين تمردوا عليه.
الديوان 1/ 316 وصححنا الأبيات من الديوان.
2 لم نجد هذا البيت في أبيات السموءل التي بديوان الحماسة وأولها:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
…
فكل رداء يرتديه جميل
"شرح المرزوقي 1/ 110"
ولا في البيان والبيتين ضمن بعض الأبيات السابقة 3/ 185.
وفي المفضليات 2/ 7 بيت للأخنس بن شهاب بن شريق التغلي هو:
وإن قصرت أسيافنا كان وصلها
…
خطانا إلى القوم الذين نضارب
وقال ثعلب: هذا البيت تتنازعه الأنصار وقريش وتغلب، فقد زعم علماء الحجاز أنه لضرار بن الخطاب الفهري أحد بني محارب من قريش. وقال الأنباري في ترجمة الأخنس هو أول العرب وصل قصر السيوف بالخطا، وذكر البيت، ثم قال: ومنه استرق كعب بن مالك الأنصاري قوله:
فصل السيوف إذا قصرن يخطونا
…
قدما ونلحقها إذا لم تلحق
على أن قيس بن الخطيم أخذه بلفظه تقريبا فقال:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها
…
خطانا إلى أعدائنا فنضارب
وأما البيت الذي نسبه الأنباري لكعب بن مالك فقد نسبه ابن قتيبة في الشعر والشعراء لربيعة بن مقروم، وذكر أنه من قول قيس بن الخطيم إذ أن قيسا أخذه منه.
خزانة الأدب 3/ 164 والمفضليات 2/ 7.
فصل:
"الآراء الصائبة، والشجاعة الثاقبة، تستبعد الصوارم، وتستخدم المخاذم1، فالتدبير أمير والشجاعة جنده، والرأي حسام والصرامة غمده.
ولو لم يلحظ هذا المعنى ويعتبر، لكانت السباع أفضل من البشر، وطالما نكست الأعلام بالأقلام، وملكت الأصقاع بالرقاع، ونفذت المكائد قبل نفوذ الحدائد. فإذا اجتمع لنفس سعيدة هذان الأمران نالت أقصى الإمكان، وبلغت من العليا كل مكان".
هذا محلول قوله:
الرأي قبل شجاعه الشجعان
…
هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة
…
بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه
…
بالرأي قبل تطاعن الأقران
لولا العقول لكان أدنى ضيغم
…
أدنى إلى شرف من الإنسان2
1 المخاذم: جمع مخذم على وزن منبر وهو السيف القاطع. وكانت الكلمة بالأصل "المخازم".
2 من قصيدته في مدح سيف الدولة.
الديوان 2/ 425.
فصل:
"عزائمك لا تفل، وآراؤك لا تضل، ومدائحك لا تمل، وأحكامك لا تميل، وسيفك شريك المنايا في قبض النفوس، فهذه لاختطاف الأرواح، وهذا لاقتطاف الرءوس. وكل دم لم تحصبه1، ظباك أصبح مطلولا، وكل ممات لم تشارك فيه عدة خيانة وغلولا".
هذا محلول قوله:
شريك المنايا والنفوس غنيمة
…
فكل ممات لم يمته غلول2
فصل في حل قوله:
وما الحسن في وجه الفتى شرفا له
…
إذا لم يكن في فعله والخلائق3
قد نثرناه على وجوه منها: "شرف الفتى بأفعاله، لا بحسنه وجماله، كالسيف يقطع بجوهره، لا بحسن منظره".
ومنها: "لو كان شرف الإنسان بصورته وخلقه لا بمعناه وخلقه، لما قيل ما الإنسان إلا القلب واللسان".
1 لم تحصبه ظباك: لم تسفكه وتبسطه سيوفك.
2 من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
ليالي بعد الظاعنين شكول
…
طوال وليل العاشقين طويل
الديوان 2/ 88.
3 من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
تذكرت ما بين العذيب وبارق
…
مجر عوالينا ومجرى السوابق
الديوان 1/ 469.
ومنها: "لا فخر في الصورة المليحة، وأفعالها قبيحة، كالشجرة السامية الخضراء الناضرة، وفي أكلها الفاقرة"1.
ومنها: "لو كان الفخر بما بدا في الصورة وظهر، لا بما بطن من المعنى واستتر، لكانت صورة النمارق2، أشرف من الحيوان الناطق".
52-
فصل في هيئة عسكر:
"للأمير أيده الله جيشان: النسور في الجو والجياد في الدو3، فكأن الفضاء ثوب مطير4، بالجوارح والعقبان، وكأن العز فرس محجل بالسوابق والفرسان، فعسكر الطير ضيف يستطعم عسكر السيف، فإذا رمى بهما جيشاه نفاه، فأباد هذا أرواحه، وأباد هذا أشباحه".
هذا محلول قوله:
له عسكر خيل وطير إذا رمى
…
بها عسكر لم يبق إلا جماجمه
سحاب من العقبان يزحف تحتها
…
سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه5
1 الفاقرة: الداهية.
2 النمارق: جمع نمرق ونمرقة وهي الوسادة أو الطنفسة.
3 الدو: الدوية وهي الفلاة.
4 ثوب مطير: منقوشة فيه صور الطيور.
5 من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه
…
بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
الديوان 2/ 240 ومن الديوان صححنا الأبيات.
وقد حله هذا المصنف فقال:
"فسرنا في غمامة من الكتائب، تظللها غمامة من الطيور الأشائب1 فهذه يضمها بحر من حديد، وهذه يضمها بحر من صعيد"2.
فصل:
"حسام لولا ترقرق الماء في جوانبه، لتلمست النار الموقدة من مضاربه، فقد أضربه حب الجماجم والأعناق حتى عاد نضوا كالهلال، وودت سباع الطير والوحش أنها تفديه بالمخالب والأنياب إذا فدى غيره بالأنفس والأموال، فأحسن ما خضب بالدم الممار، لا بالعسجد والنضار، والحسناء حسناء وهي في الأسمال والأطمار. وإذا كان الحلي لإتمام النقص يعمل، فتشف الأفضل أنبل، وعطل الأكمل أجمل".
هذا محلول قوله:
أحسن ما يخصب الحديد به
…
وخاضبيه النجيع والغضب
فلا تشييننه بالنضار فما
…
يجتمع الماء فيه والذهب3
1 الأشائب، الأخلاط جمع أشابة بضم الهمزة.
2 المثل السائر: 1/ 141.
3 عرض على سيف الدولة سيوف مذهبة، وفيها سيف غير مذهب، فأمر بتذهيبه، فقال المتنبي هذين البيتين:
الديوان 1/ 52.
فصل في ذكر الدنيا:
"هي الهرة تأكل أولادها، والموتورة تظهر أحقادها، أخون من البغايا1، وأخدع من الحنايا2، تصيد الصقر بالحزب3، وتكسر النبع4 بالغرب5، تغدر بأضيافها، وتقتل أزواجها ليلة زفافها، أفنت العشائر والقبائل، ولم يحصلوا من حبها على طائل".
هذا محلول قوله:
فلا تنلك الليالي إن أيديها
…
إذا ضربن كسرن النبع بالغرب
ولا يعن عدوا أنت قاهره
…
فإنهن يصدن الصقر بالخرب6
وقوله:
فذي الدار أخون من مومس
…
وأخدع من كفة الحابل
1 البغايا: الطلائع تكون قبل ورود الجيش.
2 الحنايا: جمع حنية وهي القوس.
3 الخرب: محركة ذكر الحباري.
4 النبع: شجر صلب تتخذ منه القسي والسهام.
5 الغرب: نبت ضعيف ينبت على الأنهار.
6 من قصيدته في رثاء أخت سيف الدولة. وقد صححنا البيتين من الديوان. الديوان 1/ 68.
تفاني الرجال على حبها
…
وما يحصلون على طائل1
فصل:
"فلما أبوا إلا شقاقا وجماحا، واستنزلوا حينا عليهم مكتوبا ولهم مباحا، نهد الأمير أيده الله إليهم في كتيبة حسناء، تهز حوله جانبيها، كما تنفض العقاب جناحيها، فهو ربيبها في السير، وحارسه في النزول، وطليعها في النفير، وسائقها في القفول".
هذا محلول قوله:
يهز الجيش حولك جانبيه
…
كما نفضت جناحيها العقاب2
وقول البحتري:
طليعتهم إن وجه الجيش غازيا
…
وساقتهم إن وجه الجيش قافلا3
1 من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
الإم طماعية العاذل
…
ولا رأي في الحب للعاقل
الديوان 2/ 38.
المومس: المومسة: الفاجرة. الكفة: الشرك. الحابل: الصائد بالشرك.
2 من قصيدته في مدح سيف الدولة لما أوقع ببني كلاب، مطلعها:
بغيرك راعيا عبث الذئاب
…
وغيرك صارما ثلم الضراب
الديوان 1/ 55.
العقاب: طائر من الجوارح يطلق على الذكر والأنثى قوي المخالب له منقار أعقف.
3 من قصيدته في مدح محمد بن يوسف التي مطلعها:
أرى بين ملتف الأراك منازلا
…
مواثل لو كانت مهاها مواثلا
الديوان 2/ 204 ومنه أصلحنا البيت.
فصل في صفة الخيل:
جيش قد حملت فيه الرجال على السلاهب1، بل الأفاعي على العقارب، وغلب فيه فائتهم الأبرد2 على الغزلان، بل الأجادل3 على العقبان، خوارق الأرض فلا تحمل إلا الأبطال والحديد، ومتبدلات الأحوال فكم لهما من بئر معطلة وقصر مشيد.
من كل جياش4 العنان، مضمون السبق يوم الرهان، إن قرع الطود فصقر، جارح، أو ركب البحر فنون5 سايح، لما من النقع، براقع وجلال6، ومن الكواكب غرر، ومن الأهلة فعال. قد خالفتا صدورها، وعاقدتنا لباتها ونحورها أن تجول مع فارسها حيث جال، وأن تخوض دونه المكاره والأهوال، وأن تجري في المضيق ولو أم السراط، وأن تلج المأزق7 وإن كان أضيق من سم الخياط.
هذا محلول قوله:
فأتتهم خوارق الأرض ما تحـ
…
ـمل إلا الحديد والأبطالا
1 السلاهب: جمع سلهب وهو الفرس الطويل العظيم.
2 الأبرد: النمر.
3 الأجادل: جمع أجدل وهو الصقر.
4 كانت بالأصل "جناس".
5 النون: الحوت.
6 الجلال: جمع جل بضم الجيم وفتحها ما تلبسه الدابة لتصان به.
7 كانت بالأصل "المارق".
خافيات الألوان قد نسج النقـ
…
ـع عليها براقعا وجلالا
حالفته صدورها والعوالي
…
لتخوضن دونه الأهوالا
ولتمضين حيث لا يجد الرمـ
…
ـح مدارا ولا الحصان مجالا1
الترصيع بالآيات القرآنية وغيرها:
أما الترصيع بالآيات القرآنية والحكم النبوية والأمثال في الكتابة فقد ذكر هذا المصنف من إنشائه فصولا تتضمن ذلك.
ولما كنا قد ذكرنا في حل المنظوم ما عارضنا به ما ذكره وجب أن نذكر من كلامنا في ترصيع الآيات والأمثال فصولا تعارض ما ذكره أيضا.
فمن ذلك قولي في توقيع إلى أحد النظار ببعض الصدقات الشريفة المتقبلة: "وليحرس فلان عليه هذا المشرب النمير عن رتق التكدير2، ولا يشوه وجه هذه المبره المتقبلة بالمطل والتأخير، وليحذف عنه أسباب الإرجاء والمدافعات ومطاعن عن الاعتراض والتأويلات، فهذه صدقة يصدق بها مالك الرق، وإمام الحق، وسيد الخلق، جعل الله تعالى صدقاته المبرورة التي
1 من قصيدته في مدح سيف الدولة لما نهض إلى ثغر الحدث لينقذه من الروم.
الديوان 2/ 105 ومنه أصلحنا الأبيات.
ألتهم: أي الجياد.
2 كان الأصل "زيق التكرير".
لا تدركها الأوهام، ولا تحصرها الأفهام، ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام1، جنودا مجندة حول لوائه المنصور، وكافلة لدولته الشريفة بالخلود إلى يوم النفخ في الصور، ومعقبات من بين يديه ومن خلفه من أمر الله2 تحفظه أحقابا، وباقيات صالحات هي عند الله أحسن عملا وخير ثوابا"3.
وهذا الفصل قد رصع بثلاث آيات من الكتاب العزيز واقعة مواقعها. ومن ذلك قولي من جملة من كتاب أصف فيه حربا: "حتى إذا زلزلت الأرض عليهم زلزالها، وأخرجت أثقالها4، وكرعتهم الحرب عرك الرحا ثفالها5، وعصبتهم الهيجاء عصب السلم6، ومرتهم غمر البين، وهزهم الروع هز الجنوب ضحى عيدان يبرين7، لم يكن إلا كحسوة طائر أو خطوة سائر، حتى خالطت السيوف أجسامهم". فأول هذا الكلام من الكتاب العزيز، وقولي وعركتهم من قول زهير:
فتعرككم عرك الرحا بثفالها8
1 سورة لقمان: 27 "ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله".
2 سورة الرعد: 11 {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} .
3 سورة الكهف: 46 {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} .
4 سورة الزلزلة: 1، 2 {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} .
5 الثقال: ما يوضع بين الوحي والأرض.
6 السلم: شجر.
7 يبرين: رمل شرقي حجر اليمامة.
8 تكملة البيت:
وتضر إذا ضربتموناه فتضرم
من معلقته.
وقولي وعصبتهم من قول الحجاج لأهل العراق: والله لأعصبنكم عصب السلم، ولألحونكم لحو العصا، ولأغمرنكم بغمار البين.
وقولي وهزهم من قول الشاعر:
يهززن للمشي أعطافا منعمة
…
هز الجنوب ضحى عيدان يبرينا
وأحسن ما نقل المنظوم أو غيره إلى الكتابة إذا كان هكذا، لأن الشاعر ذكر هذا التشبيه في الغزل فقلبته أنا إلى الوصف.
وقولي حسوة طائر من قول الباخرزي شاعر العجم1:
ولو غبت عن هذين حسوة طائر
…
لزال نظام أو لفض ختام
ومن ذلك في توقيع لبعض العدول، وقد رتبه مشرفا ببعض الأعمال أحذره من الخيانة، وأنه إن واقع ذلك أخذ طيلسانه، وأسقطت عدالته، وهو كناية لطيفة تنزع إلى القرآن الكريم، سكونا إلى أمانته ونزاهته، ووثوفا بحريته واستنابته وكفايته، إلى تقمصه بجلباب الديانة، وتحليه بحلاها، وإخلادا
1 هو أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي الشاعر المشهور.
قال عنه ابن خلكان إنه كان أوحد عصره في فضله وذهنه والسابق إلى حيازة القصب في نظمه ونثره.
اشتغل أول أمره بالفقه على مذهب الشافعي، ثم مال إلى الكتابة، وبرع في الشعر، وصنف كتاب "دمية القصر وعصرة أهل العصر" وهو مطبوع.
ويعتبر ذيلا لكتاب يتيمة الدهر للثعالبي.
وقد وضع البيهقي كتابا كالذيل للدمية سماه "وشاح الدمية" قتل الباخرزي في مجلس أنس سنة 467 ببلدة باخرز، وهي ناحية من نواحي نيسابور بها قرى ومزارع. "وفيات الأعيان 1/ 360، وشذرات الذهب 3/ 327".
إلى ما هو موسوم به من العدالة التي يقترن لفظها إن شاء الله بمعناها، ثم أتممت هذا الكلام بما يناسبه إلى أن قلت:"وأهم ما نفرضه عليه، والدنيا ألقت به إليه، لزوم الأمانة والعفاف، وصيانة العرض وحفظ الأطراف، فليحذر أن تدليه الأطماع بغرورها، وجهلها، وتلهيه بحلاوة شهدها عن إبر نحلها، وليكن من إغواء الشيطان بإطعامه الشجرة على أتم حذر، وأشد فرق، فإنه إن استزله نزع عنه لباس الرضا، ثم لا يتمكن من خصف الورقن فليحرص قاعدة العدالة التي هي مرسوم موسوم بشعارها، ومندوب إلى اقتفاء آثارها، والاهتداء بمنارها".
فهذه الكتاية من قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} 1 وقولي في أول التوقيع التي يقترن لفظها إن شاء الله بمعناها لا يخفى ما فيه من الحلاوة في هذا الموضع.
ومن ذلك قولي في جملة وصايا يتضمنها توقيع لبعض النظار: "أيد الله نائب الأعمال الواسطية وحراسة الارتفاعات بالسطوة التي تزهق النفوس، وتغض لها الأبصار وتنكس الرءوس، وتحفظ بها الأموال المتمزقة في أقصى الديار، المشردة تحت الكواكب كتبدد الكواكب، فهو شجاعها المقدام وصارمها الصمصام، وقد نبهنا عمرو إن كنا لا ننام، فليستأصل شاقة2 المفسدين،
1 سورة الأعراف: 27.
2 شأفة: أصل.
وليغلظ عليهم، وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم. فالسياسة شموس جامع لا يصحب1 إلا بالسيف والنطع، وعروس فارك لا تقطف حتى يخلق ملؤها بالنجيع".
وقد رصعت هذا الفصل ببعض قوله تعالى:
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} 2 وحللت فيه قول الشاعر:
إن المعالي عروس غير واصلة
…
ما لم يخلق رداؤها بنضخ دم
ومن ذلك قولي في هذا التوقيع في الوصاة بتخير العمال: وعماله ونوابه بالأعمال فهم جذوة من ناره، وأثر من آثاره وشعاع من شمسه، ودوحة من غرسه، وفضيلتهم نتيجة فضله، واختيار المرء بضعة من عقله، فليحسن في ارتيادهم، واختيارهم، وليجمل في اصطناعهم واصطفائهم، وليتخير أرباب الأغراض الزكية، والأفعال المرضية، والتجربة، والمسألة، والشباب، والحيلة، فإن كبا منهم سابق -والجواد قد يكبو- ونبا منهم صارم -والحسام قد ينبو- عالجه بالتقويم والإرشاد، فإن أصر فبالتخويف والإبعاد، وإن فاء فبالإقصاء والإبعاد، وإن أنس من أحد ما يقدح في الأمانة، ويشهد بوقوع الخيانة عاقبة معاقبة المجرمين، وجعله نكالا لما بين يديه وما خلفه وموعظة للمتقين3.
1 يصحب: ينقاد.
2 سورة الأنفال: 58.
3 سورة البقرة: 66 {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} .
آخر هذا من القرآن العزيز. وقد تضمن أيضا أمثالا غير خافية.
ومن ذلك قولي في هذا التوقيع: "وليواصل بالحمول الدارة في أوقاتها مواصلة توجب له الزيادة، وتستدر له أختلاف السعادة، وتجعله ممن وضحت براهينه، وثقلت موازينه، وأنار صباحه، وفازت قداحه، ويطلق عقله لسانه إذ خرس العاجز فلا يفوه، ويبيض وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"1. موضع الترصيع من هذا الكلام بالألفاظ القرآنية الشريفة واضح.
ومن ذلك قولي في آخرل هذا التوقيع: "وليطالع الديوان العزيز بصالح الأعمال، ومتجددات الأحوال، في أوقاتها وأزمانها من غير إرجاء يفضي إلى فواتها وبطلانها، ليدبر من تقدماته العالية، وآرائه السامية بما يجعله من الأرشدين دليلا، والأوضحين سبيلا، وينتظم باقتفائه واحتذائه في سلك الذين التحق سرهم في الإخلاص بإعلانهم، ويعد باتباعه وامتثاله من الذين يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم"2.
وموضع الترصيع من هذا الفصل بالآية أيضا ظاهر.
ومن ذلك ما كتبته في بعض التوقيعات لناظر من نظار السواد والضياع: "فهي الأمهات الحوامل، والمرضعات الكوافل، فليتخير بها طيبة البقاع، ضامنة بنمو الارتفاع فتخير الضياع كتخير المناكح، من أحسن فيها الاختيار اليوم أنجبت عرسه غدا،
1 سورة آل عمران: 106 {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} .
2 سورة الحديد: 12 {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} .
والفدادين2 فهي حاملة الأثقال، وعامرة الأعمال، ومراكب البضاعة ورأس المال، فليجتهد في إراحة عاملها3، والسلامة من درك نقصها وخللها" وما عساه يعوزها يتمة، وما تسرب منها يجمعه ويلمه، فقد من الله على عباده بأن خلقها كثيرة الحرث، ووسقاهم مما في بطونها من بين دم وفرث4.
والآيات المدرجة في غضون هذا الكلام ظاهرة.
ومن ذلك قولي في هذا التوقيع: "فإذا تم ارتفاعه، وتكامل صلاحه وإيناعه، وبلغ الكتاب أجله لميعاده، ودنا الوقت الذي قيل فيه وآتوا حقه يوم حصاده، فليواصل بالحمول إدرارا، وليندب نفسه في جمع المال ليلا ونهارا، وليرهف للاستيفاء والاستخراج شبا العزم، ولينصب لذلك انتصاب أمثاله من ذوي البصيرة والحزم، فاستيفاء الأموال والحقوق هو النتيجة المرادة، والثمرة المستفادة، وذلك المحض عن هذه الزبدة أسفر، وذلك السرار5 عن هذا الهلال أبدر6، وذلك الغرس لهذه الفائدة أثمر، وذلك البدل لهذه النفس النفيسة صور، وعلى قالبها تصور، والمضجع في الاستيفاء بعد
1 سورة الأعراف: 58 {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} .
2 الغداق: على وزن سحاب وشداد: الثور أو الثوران يقرن بينهما للحرث جمع فدادين. وفي الأصل "الفدن" وقد أراد بالفدادين البقر كما يتبين من السياق.
3 في الأصل "عالمها".
4 سورة النحل: 66 {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} .
5 السرار: آخر ليلة من الشهر.
6 أبدرنا: طلع لنا البدر أوسرنا في ليلته.
ارتكاضه السابق وتعبه مستحق المثل الإلهي: كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا1، وناهيك به".
فأول هذا الفصل آية وآخره آية أخرى2.
وفي وصايا التوقيعات التي تتضمن الكلام النبوي قولي في توقيع بعض النظار: "وليعن بأمر الأكارة، فإنهم عمار الأراضي والضياع، وقوام المال والارتفاع، وجند السواد، وأوتاد البلاد، وليشملهم بالعدل والإنصاف، وليؤمنهم بوائق الجور والإجحاف، وليسهل إذنه عليهم، وليواصل إحسانه إليهم، فالكثير منهم يثبت ويقيم بالبشر والطلاقة، وينفر ويفر بالعنف والفظاظة، والاستقصاء على الرعية فراق، وفي الحكمة النبوية: إذا لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم. ويقال إنه ليس كلمة أجمع لمكارم الأخلاق منهما".
وأما الكتابة التي تتضمن الأمثال وهي مرصعة بالوقائع والأيام والنكت، فمن ذلك قولي في جملة توقيع: "وأهم ما يؤمر به وإن كان شيمته، وآكد ما يوصى به، وإن كان خلقه وسجيته، الاستمرار على ما اشتهر به من الأمانة
1 الأنكاث: جمع نكث على وزن بئر وهو الغزل من الصوف أو الشعر بيرم وينسج فإذا خلقت النسيجة قطعت قطعا صغارا ونكثت خيوطها المبرومة وخلطت بالصوف الجديد ونشبت به ثم ضربت بالمطارق وغزلت ثانية واستعملت. ومن هذا نكث العهد وهو نقضه بعد إحكامه كما تنكث خيوط الصوف المغزول بعد إبرامه.
2 الآية الأولى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} سورة الأنعام: 141.
والآية الثانية {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} سورة النحل: 92.
التي فاز من تدرع بأثوابها، وتعلق بأسبابها، وتحلى بسمطها ووشاحها، وتجلى في لألاء إصباحها، وارتقى أعلى مراتبها، واقتنى أسنى مناقبها، وارتدى بأرديتها، واجتى بأنديتها، وضير من نضا وأنضى ركابها، وعند عن طريقها، والقيام بحقوقها، وباعها بالثمن البخس، ووكس فيها شروكس، ورجع بالجد المنعوس1، والحظ المنحوس، والرأس المنكوس، متلففا في العاجل بثوب الخزى والصغار، متعرضا في الآجل للنكال والبوار، فالحرة لا تأكل بثديها وإن جاعت، ولو اضطرت إلى الدنية لما أطاعت، ورب أكلة هاضت، وزيادة زيد عليها ففاضت، وطالما تئوب، البطنة بصاحبها، ثم يندم على سوء عاقبتها، ومن أكل قليلا نام قريرا، والثرئ من القناعة غني وإن كان فقيرا".
فهذا الفصل يشتمل على أمثال عدة2 مع ما فيه3 من شرف الصنعة.
ومن ذلك ما قلته في توقيع بعض النظار بأعمال السواد: "وليجتهد في تربية المزروعات و.. كرتبة الأولاد، وليحرسها من بوائق العيب والفساد،
1 النعس لين الرأي والجسم وضعفهما وكساد السوق.
2 تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، أي لا تكون ظئرا وإن آذاها الجوع. وأول من قال ذلك الحارث بن سليل الأسدي، وكان حليفا لعلقمة بن خصفة الطائي، فزاره فنظر إلى ابنته الزباء، وكانت من أجمل أهل دهرها، فأعجب بها، فخطبها، فاستمهله علقمة، واستشار امرأته، فاستثثارت ابنتها، ثم لم تزل بها حتى غلبتها على رأيها، فتزوجها الحارث، ورحل بها إلى قومه، وبينما هو يوما جالس بفناء داره وهي إلى جانبه أقبل شباب من بني أسد، فبكت، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: ما لي وللشيوخ الناهضين كالفروخ. فقال لها: ثكلتك أمك، تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها "مجمع الأمثال للميداني 1/ 82".
3 بالأصل "معمافيه".
وليستكثر من نواطيرها1 وسقاتها، في تطوافه عليها بنفسه في معظم أوقاتها، ففضيلة العمل في استتمامه، والهلال حسن وليس كحسنه لتمامه، وليهتم بإصلاح "السكور" و"البريدات" و"الرؤف" و"المرادات" ليأمن عليها من الانفتاح والانفجار، وتأسيس أساسها على شفا جرف هار. وليكن من الاعتناء بها والاهتمام بحيث يحلم بها في المنام، ويتخيلها في الأحلام، فإن الزلل فيها مذهب الأموال ومجتاح الرعية، وهي من المصالح الكلية، لا من المحقرات الجزئية، فإياه أن يستصغر منها الصغير، أو يستحقر الحقير، فرب أمر قل ثم جل، وفي المثل أول الغيث طل2.
فهذا الفصل يشتمل على أمثال مأخوذة من الشعر، فمنها من قول أبي تمام:
هذا الهلال يروق أبصار الورى
…
حسنا وليس كحسنه لتمامه3
ومنه من قوله أيضا:
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه
…
وأول الغيث طل ثم ينسكب
ومن ذلك قولي في هذا التوقيع: "وإياه أن يسلك في حراسة الأموال مسلك المداهنة، أو يذهب في السياسة مذهب الإغضاء والملاينة، فتضيع حركاته،
1 النواطير: جمع ناطور وهو حارس الكرم والنخل.
2 الطلل: المطر الضعيف.
3 من أبيات في مدح إسحاق بن أبي ربعي أولها:
لولا أبو يعقوب في إبرامه
…
سبب العلا لانحل ثنى زمامه
الديوان 3/ 269.
وتذهب حسنانه ويصبح كالتي أراقت سجلها1 أو يصبح كالتي نقضت غزلها، ويكثر العبث والفساد، ويستحكم الطبع ويزداد، فأدعى الأشياء إلى انحلال النظام وضع الصفح موضع الانتقام.
ولينتصب لاستيفاء الأموال وحملها، فقد علم أنها الثمرة المنتظرة، والغاية المرتقبة والزبدة التي تمخضت عنها هذه الحركات، والنتيجة التي تقدمت لها هذه المقدمات، فليواصل بها مواصلة يجني جناها، ويحمد عند الصباح سراها، وليطالع الديوان العزيز بجاري أحواله، ومصالح أعماله، ليدبر من آرائه العالية، وتقدماته السامية، بما يبصره، ويرشده، ويوفقه ويسدده، ويحميه من موارد الردى، ويجعله من الذين اهتدوا وزادهم هدى".
فهذا الفصل يتضمن آيتين من الكتاب العزيز وهما {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} 2 و {الَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} 3.
ويشتمل على أمثال شعرية وهي قول المتنبي:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
…
مضر كوضع السيف في موضع الندى4
1 السجل: الدلو.
2 سورة النحل: 92.
3 سورة محمد: 17.
4 من قصيدته في مدح سيف الدولة وتهنئته بالعيد، مطلعها:
لكل امرئ من دهره ما تعودا
…
وعادات سيف الدولة الطعن في العدا
الديوان 1/ 191.
وقول الآخر: عند الصباح يحمد القوم السرى1.
ومن ذلك ما قلناه في توقيع بعض كتاب: "وليرتب بديوان المعاملات نائبا جلدا يثق بأمانته، ويطمئن إلى كفايته، يقوم مقامه، ويسد مسده، فإنه لا غنى له عن المساعد على أثقاله، والمعاضد له في جميع أحواله، فالوادي لا يزخر بغير شعابه2، والبيت لا يقوم إلا بعمده وأطنابه3، والسيف يحتاج إلى القائم4، والخوافي عدة للقوادم".
فهذا الفصل يتضمن أمثالا شعرية منها قول أبي تمام:
فاضمم قواصيهم إليك فإنه
…
لا يزخر الوادي بغير شعاب
والسهم بالريش اللؤام ولن ترى
…
بيتا بلا عمد ولا أطناب5
ومنها قول بشار:
1 قال المفضل: أول من قال ذلك خالد بن الوليد لما بعث إليه أبو بكر وهو باليمامة أن سر إلى العراق، فأراد سلوك المفازة، فقال له رافع الطائي قد سلكتها في الجاهلية، ولا أظنك تقدر عليها إلا أن تحمل الماء، فاشترى خالد مائه شارف، فعطشها ثم سقاها الماء ثم كتبها وكم أفواهها وسلك المفازة بها، فلما مضى يومان نحر الإبل واستخرج ما في بطونها من الماء، فسقى الناس والخيل ومضى، وبعد أربعة أيام بدا لهم السدر، فقال خالد: عند الصباح يحمد القوم السرى "مجمع الأمثال 1/ 303".
2 شعاب الوادي: جمع شعب بكسر السين وهو الطريق في الجبل ومسيل الماء في بطن أرض.
3 الأطناب: جمع طنب بضم الطاء والنون وهو حبل طويل يشد به سرادق البيت وهو أيضا الوتد.
4 قائم السيف: مقبضه.
5 من قصيدته في مدح مالك بن طوق التغلبي، مطلعها:
لو أن دهرا رد رجع جواب
…
أو كف من شأويه طول عتاب
الديوان 1/ 94.
اللؤام: الذي يلائم بعضه بعضا، وذلك أجود الريش عندهم.
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
…
فإن الخوافي عدة للقوادم
وما خير كف أمسك الغل أختها
…
وما خير سيف لم يؤيد بقائم1
ومن ذلك ما قلناه في هذا التوقيع أيضا وهو:
"وليباشر بنفسه، أو من يقوم مقامه كل ما يستوفي ويحرر ويقرر ويحل ويعقد، ويستظهر على الأموال المستوفاة بختمه، ويضبط الحقوق بعمله وعلمه، فهو الشاهد المصدق في النقض والإبرام، وحذام في صناعته، والقول ما قالت حذام"2 وموضع المثل من هذا الفصل والبيت الذي فيه معلومان.
ومن ذلك قولي في هذ التوقيع أيضا عند وصية الكاتب بقوانين وقواعد يعتمدها في هذا الحساب ورفعه: "ولا حاجة له إلى أن يُجرى له في هذا الباب ما يتبعه ويقفوه، ولا يمثل له ما يطأ عقبه ويتلوه، فغيره تقرع
1 من قصيدة له أنشدها إبراهيم بن عبد الله بن حسن.
الأغاني 3/ 29.
2 أي القول السديد المعتد به ما قالته، وإلا فالصدق والكذب يستويان في أن كلا منهما قول.
يضرب هذا المثل في التصديق: قال ابن الكلبي: إن المثل للجيم بن صعب والد حنيفة وعجل، وكانت حذام امرأته فقال فيها زوجها لجيم:
إذا قالت حذام فصدقوها
…
فإن القول ما قالت حذام
مجمع الأمثال 2/ 35.
له العصا1، وسواه يقعقع له بالحصا، والعوان لا تعلم الخمرة2، والفطن3 لا يوصى إلا مره. وإذا احتاج الحسام إلى الغمد والجواد إلى الهمز، فهو4 الغني يرشده عن الإرشاد، وابن جلا وطلاع النجاد5".
هذا الفصل يتضمن أمثالا عدة منها: فغيره يقرع له بالعصا، من قول الشاعر:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
…
وما علم الإنسان إلا ليعلما
1 قال ابن الأعرابي: أول من قرعت له العصا عامر بن الظرب العدوائي -وقيل غيره- وكان من حكماء العرب لا تعدل بفهمه فهما ولا بحكمه حكما. فلما طعن في السن أنكر من عقله شيئا، فقال لبنيه إني قد كبرت سني وعرض لي سهو، فإذا رأيتموني خرجت من كلامي فاقرعوا لي المجن بالعصا. وهو الذي يريده المتلمس بقوله:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
…
وما علم الإنسان إلا ليعلما
والمثل يضرب لمن إذا نبه انتبه "مجمع الأمثال 1/ 25".
2 بالأصل "القران". والعوان هي المرأة المتزوجة. والخمر الاختمار أي أنها لا تحتاج إلى من يعلمها وضع الخمار. يضرب المثل للرجل المجرب "مجمع الأمثال 1/ 13":
3 في الأصل "الكفن".
4 في الأصل "فهي".
5 يضرب للمشهور المتعالم، وهو من قول سحيم بن وثيل الرياحي:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
…
متى أضع العمامة تعرفوني
وتمثل به الحجاج في خطبته بالكوفة. قال بعضهم ابن جلا النهار، وحُكي عن عيسى بن عمر أنه كان لا يصرف رجلا يسمى بضرب "فعل ماض"، ويحتج بهذا البيت، ويقول: لم ينون رجل لأنه على وزن فعل. قالوا: لا حجة له في البيت لأن الشاعر أراد الحكاية فحكى الاسم على ما كان قبل التسمية. وتقديره أنا ابن الذي يقال له جلا الأمور وكشفها.
وذو الحلم هو عامر بن الظرب العدواني حكيم العرب، وقصته مشهورة، وكذلك الفطن لا يوصى إلا مرة.
وأما ابن جلا وطلاع النجاد فمثل شعري أصله قول القائل:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
…
متى أضع العمامة تعرفوني
ومن ذلك ما كتبته في توقيع كاتب آخر وهو "حيث توقل "من"1 هذه الصناعة قللها، واجتاب2 ملابسها وحللها، وكشفت التجربة أنه ابن بجدتها، ورضيع درتها وجهينة أخبارها، وجواد مضمارها، ونسج وحدها، وصمصامة غمدها، واشتهرت عنه الأمانة التي تقمص برديها، واستلان سبلها3 ونهج طريقها، وحمى حقيقتها".
وفي هذا الكلام أمثال كثيرة، وألفاظ تجري مجرى الأمثال4. ومن ذلك ما كتبته في وصايا توقيع بعض النظار وهو: "الحركة الدائمة التي
1 كان بالأصل تحريف في كلمة "توقل" وأضفنا "من" ليستقيم المعنى.
2 كانت الكلمة في الأصل "وأحباب" فرجحنا أنها اجتاب بمعنى قطع وفصل.
3 في الأصل "واستلام شبلها" فرجحنا هذا التصويب.
4 عند جهينة الخبر اليقين. مثل له قصة طويلة عن هشام بن الكلبي.
وقال الأصمعي وابن الأعرابي هو جفنية بالفاء، وكان عنده خبر رجل مقتول، وفيه يقول الشاعر:
أسائل عن أبيها كل ركب
…
وعند جفنية الخبر اليقين
فسألوا جفنية فأخبرهم خبر القتيل، وقال بعضهم هو حفينة بالحاء.
يضرب في معرفة الشيء حقيقة.
مجمع الأمثال 1/ 304.
ابن مجدتها: البجدة الأصل ودخلة الشيء وباطنه، وعنده بجدة ذلك أمي علمه. يقال للعالم بالشيء والدليل الهادي.
تذهب الكلال، وترهف الكليل، وتنزع الغل وتشفي الغليل، وتعقب الراحة، وإن عجلت النصب، وتقوم الأعمال مقام الدواء للوصب. فليكن لها ملازما، وعليها مواظبا، ولمهاد الدعة وجانب الكسل مجانبا، فمن لم تسوده البيداء لم تسوده العلياء، ومن لم تلفح جسمه السمائم لم تبيض وجهه المكارم".
وهذا مأخوذة من قوله:
ما ابيض وجه المرء في طلب العلا
…
حتى يسود وجهه في البيد
ومن ذلك قولي في هذا التوقيع لناظر قد رتب على زراعة غيره، وأمر بتربية ذلك المزروع وهو:"وبتربية المزروعات لسنة كذا الخراجية، وترتيب النواطير والحفطة لها، وتعاهدها بالسقى عند حاجتها، فليكن معظم زمانه مصروفا إليه، وموقوفا عليه، فهذا الارتفاع إن لم يكن غارسه فهو حارسه، وإن كان قد سبقه إنشاؤه وابتداؤه فعليه تربيته وإنماؤه، فالأعمال بختامها، والمبادئ بإتمامها، وليس لمن وضع أسه، بل لمن كمله، ولا الصيد لمن أثاره، بل لمن حصله".
في هذا الكلام من الأمثال المشهورة قولهم: "الأعمال بخواتيمها"، ومن الأمثال النبوية قوله: ليس الصيد لمن أثاره، بل لمن حصله.
ومن ذلك قولي في هذا التوقيع توصية بالمعاملات لسنة كذا الخراجية: "فليضاعف رجالها، وليعمر أعمالها، فهو مفتتح ارتفاعه، وبكر خدمته،
والشاهد على وفور اجتهاده، وعلو همته، وعليه الاعتماد والمعول، فليحذر أن يقال إذا ما أول".
هذه إشارة إلى البيت المشهور الذي قد صار مثلا وهو:
إذا ما أول الخطى أخطا
…
فلن يرجي لآخره انتصار
ومن ذلك قولي: "فيحكم بنيانها، وليشيد أركانها، ليستر عوارها، ويأمن انفجارها، وتثبت تحت المياه عند طغيانها، وتقوى على تمردها وعصيانها. وليحذر عاقبة الهوينا فيها، ومغبة الإهمال لأمرها، فالدخان تلتهب ناره، والشر تبدو صغاره".
هذان مثلان مشهوران قد وقعا في هذا الكلام موقعهما.
ومن ذلك ما قلته في الوصاة بالأكرة1: "والأكرة فهم جنده الذي به يحارب وسيفه الذي به يضارب، فليسجع في ملكته2، ولينصف ضعيفهم في معاملته، وليوفر عليهم حصصهم وحقوقهم، وليخفف ما استطاع رسومهم وطسوقهم3، فهم جند الرغبة، لا جند الرهبة، وعبيد البرو الإحسان، لا عبيد الظلم والطغيان، ومن طوق الأجياد فقد أوثق الأقياد، ومن لم يملك القلوب لم يملك الأجساد. والأكرة جند لا تزال البلاد ساكنة
1 الأكرة: جمع أكار وهو الحرث.
2 الملكة محركة الامتلاك مع القدرة على الاستبداد.
3 الطسق بالفتح ما يوضع من الخراج على الأفدنة أو شبه ضريبة معلومة.
آمنة، ما سكتوا وأمنوا، وفي الحكمة القديمة، استوصوا بأهل الخراج، فلا تزالون سمانا ما سمنوا".
في هذا الكلام من الأمثال قولهم: ملكت فأسجح1، وقول أردشيرين بابك: استوصوا بأهل الخراج فإنكم ما تزالون سمانا ما سمنوا. وفيه نظر إلى قول المتنبي:
وقيدت نفسي في هواك محبة
…
ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا2
ومن ذلك ما صدرت به توقيعا في تقريظ بعض النظار وهو: "لما كان فلان من الرجال الأفراد الذين عليهم الخناصر تعقد، وإذا طلبت النظائر مثلهم تعز وتفقد، وكانت شمائله تنطق عنه بالكفاية ولو لم يخبر ويشهد، له مخايل الفراسة بخصائص النجابة، وقد دلت سوابق الاختبار له على حسن الاختيار، وإثبات سوالف مآثر خدماته على حميد الآثار، واستحقاق الإيثار. وكان الديوان العزيز قد بلاه في حالتي عمله وعطلته، وعرف ما تنطوي عليه أنباء برديه في يوم فقره وثروته، وكان في أيام خدماته
1 الإسجاح: حسن العفو، أي ملكت الأمر فأحسن العفو. وأصله السهولة والرفق. قال أبو عبيدة: يروى عن عائشة أنها قالت لعلي يوم الجمل حين ظهر على الناس فدنا من هودجها ثم كلمها بكلام: ملكت فأسجح. فجهزها عند ذلك بأحسن جهاز، وبعث معها أربعين امرأة، وقيل سبعين حتى قدمت المدينة.
"مجمع الأمثال 2/ 158".
2 من قصيدته في مدح سيف الدولة وتهنئته بعيد الأضحى، مطلعها:
لكل امرئ من دهره ما تعودا
…
وعادات سيف الدولة الطعن في العدا
الديوان 1/ 194.
وكان في الأصل "ومن قصد الإحسان" فأصلحناه من الديوان.
الرجل الشهم الذي ينفذ نفوذ السهم، ويدرك بحسه الثاقب خفي الوهم إذا سفى به أرضا صابها1، وإن رمى به رمية أصابها، وإن عالج تدبيره معاملة سقيمة أبرأ أوصابها.
هذا إلى ما خص به من سياسة تمنع خطاب الضمير، فضلا عن خطوات التدبير، وأمانة ضم عليه إهابها، وسمع قرقعة جلبابها، وضفا عليه سربالها وتخب وراءه أذيالها. ومن أيام عطلته رب الصيانة التي لا تجحد، ومدخر القناعة التي هي كنز لا ينفد، والصابر على البؤس بل على العطب، بل لا يصبر على النار إلا خالص الذهب. فرأى الديوان العزيز إعادة النظر بالمعاملات الفلانية إليه، والتعويل في إصلاح فاسدها وتقويم مائدها عليه علما أنه قد سلم القوس إلى باريها، وأضاف العقيلة إلى كفئها وكافيها".
في هذا الكلام من الأمثال والنكت الرائقة ما لا خفاء به.
ومن ذلك قولي في هذا التوقيع من الوصايا: "وليهتم أولا بحفظ البذور التي هي رأس المال، وذخيرة الأعمال، والعروس التي تجتنى ثمارها، والبضاعة التي إذا حرست أمن بوارها، والتفريط في القليل عنها ليس بقليل ولا قريب.
وفي المثل: كم بذي الأثل دوحة من قضيب2، وليتخيرها خالية من الغش
1 صابت السماء: أمطرت، وجادت الأرض، فهو لازم ومتعد كما في تاج العروس مادة صوب.
2 الأثل: شجر واحدته أثلة وهي السمرة أو شجرة من العضاة طويلة مستقيمة تعمل منها القصاع والأقداح. الدوحة: الشجرة الضخمة. القضيب: الغصن. والمعنى كم من شجرة ضمة أصلها فرع صغير.
والدغل، فالغش في المتاجر الدنيوية، والغش في المتاجر الدينية، كلاهما يبصل العمل، ومن هون في البذر فيوم الحصاد يندم، وكل امرئ على ما قدم يقدم، ولا يتولد عن المعدوم إلا العدم، ومن أشبه أباه فما ظلم"1.
هذا الفصل يتشعب شعبا، فمنه ما ينزع إلى الخبر النبوي وهو قوله "وإنكم لتقدمون على ما قدمتم"، ومنه ما هو مأخوذ من قول القائل:
إذا أنت لم تزرع وأدركت حاصدا
…
ندمت على التقصير في زمن البذر
ومنه ما يرجع إلى قوله أبي تمام:
لا تذيلن صغير همك وانظر
…
كم بذي الأثل دوحة من قضيب2
1 مثل معناه أن من أشبه أباه لم يضع الشبه في غير موضعه؛ لأنه ليس أحد أولى به منه بأن يشبهه. ويجوز أن يراد فما ظلم الأب أي لم يظلم حين وضع زرعه حيث أدى إليه الشبه. وكلا القولين حسن.
"مجمع الأمثال 2/ 170".
2 لا تذيلن: لا تهملن. الهم: الحزن أو الهمة. الأثل: شجر معروف يعظم ويكبر. أي لا تهمل نظرك في صغير همك، فإن كان خيرا فإن يثمر وتعظم المنفعة به، وإن كان مما يحذر فإنه لا يؤمن أن يتفاقم.
وهذا المعنى قصده نهشل بن حري في قوله:
قال الأقارب لا يغررك كثرتنا
…
وأغن شأنك عنا أيها الرجل
على بني يشد الله أزرهم
…
والنبع ينبت قضبانا ويكتهل
وبيت أبي تمام من قصيدته في مدح سليمان بن وهب التي مطلعها:
أي مرعى عين ووادي نسيب
…
لحيته الأيام في ملحوب
الديوان 1/ 127.
ونصبت كلمة "دوحة" مع أنها تتميز لكم الخيرية؛ لأن من شروط جر تمييزكم الخبرية الاتصال، فإن فصل نصب تمييزها حملا على الاستفهامية، وذلك جائز في السعة، والصحيح اختصاصه بالشعر "حاشية الصبان على الأشموني".
وقد دخل فيه أيضا المثل السائر: من أشبه أباه فما ظلم.
وقولي: "ولا يتولد عن المعدوم إلا العدم" نكتة كلامية1.
وقولي: "إن الغش الدنيوي كالغش الديني كلاهما يبطل العمل"، لا يخفى ما فيه من الحلاوة مع لطف الصنعة.
ومن ذلك قولي في الوصاة بحراسة الارتفاع وهو: "وحراسة الغلات عند الإدراك والحصاد، وإظهار الوزعة التي تشرد بالرقاد، وتغني عن تجريد السيوف من الأغماد. فأنت رضيع لبانها، لا شريك عنانها2، والمضروبة بين أمثاله الأمثال، والمنقوضة لديه الأحلاس، والمحطوطة إليه الرحال. وسبيلك الأخذ على القتيل والنقير، وألا يحتقر في هذا الباب ما هو أحقر من الحقير، فقليل الجناية يدعو إلى كثيرها، وربما تهاج كبيرات الأمور بصغيرها، والشراك بالشراك3 يتصل، ومن الذود إلى الذود إبل".
في هذا الفصل من الأمثال والنكت قولهم: هما رضيعا لبان4، وقولهم: هما شريكا عنان. ومن بيت الحماسة:
"يهيج كبيرات الأمور صغارها"5
1 من اصطلاح علماء الكلام.
2 العنان في الشركة أن تكون في شيء خاص دون سائر ما للشريكين، أو هو التساوي في الشركة؛ لأن عنان الدابة له طاقتان متساويتان.
3 الشراك: سير النعل.
4 يقال هو أخوه بلبان أمه؛ لأن اللبان بالكسر الرضاع، قال يعقوب وابن السكيت لا يقال بلبن أمه، لأن اللبن الذي يشرب. وفي الأمثال هما فرسا رهان ورضيعا لبان.
5 لشبيب بن البرصاء:=
وبيت البحتري:
من لغا هذا إلى مخسوس ذا
…
ومن الذ ود إلى الذود إبل1
ومن ذلك ما قلته من الوصاة يتخير النواب والعمال وهو: "والمستنابون بالأعمال فهم اليد الباطشة، والرجل الساعية، والعين الباصرة، والأذن الواعية، وأنت لهم بمنزلة الجسد ذي الأدوات، والقلب المستعمل للأعضاء والآلات، فإن صحوا كنت الصحيح السليم، وإذا سقموا كنت المريض السقيم، لأنهم أجزاؤك وأبعاضك، فصحتهم صحتك، وأمراضهم أمراضك. فأذك عليهم عيون التطلع، ولا تخلهم من التصفح والتتبع، واجعلهم نصب عينيك، وتجاه ناظرك، وتلقاء وجهك، وإزاء خاطرك، فمن كان أمينا أقررته وأدنيته، ومن شككت فيه طردته وأقصيته، ومن ثبت عليه هفوة، أو صحت عليه عثرة أو كبوة، فسبيلك أن تنكل به، وتبالغ في حسن أدبه. ولا تسلك في ذلك مسلك المجاملة والمداهنة، فما كل وقت تصلح
=
وإني لتراك الضغينة قذ بدا
…
ثراها من المولى فيما أستثيرها
مخافة أن تجني علي وإنما
…
يهيج كبيرات الأمور صغيرها
"شرح المرزوفي 3/ 1123".
1 في الأصل "من لذا هذا إلى محبوس ذا". والتصويب من الديوان.
وقبل البيت قول البحتري:
أصل النزر إلى النزر وقد
…
يبلغ الحبل إذا الحبل وصل
ديوان البحتري 1/ 215.
اللغاء: على وزن سماء التراب وكل خسيس حقير يسير. مخسوس: من خس فلان نصيب فلان إذا جعله خسيسا دنيئا حقيرا.
الذود: من ثلاثة أبعرة إلى عشرة أو خمس عشرة أو عشرين أو ثلاثين أو ما بين الثنتين والتسع. وقولهم "الذود إلى الذود إبل" يدل على أنها في موضع اثنتين لأن الثنتين إلى اللغتين جمع "القاموس المحيط مادة ذود".
الملاينة، وليس كل ذنب يحتمل الإغضاء والطي، ومن الأمراض مالا يحسم إلا بالكي، وأفسد الأشياء لقانون الرياسة وضع الصفح موضع السياسة، وأدعى الأشياء إلى انحلال النظام، الصفح عن ذوي الذنوب والأجرام".
وهذه الأخيرة، قد تقدم نظيرها، وقو قولنا: فأدعى الأشياء إلى انحلال النظام، وضع العفو موضع الانتقام، وقد ذكرنا بيت أبي الطيب الذي أخذناها منه1.
ومن ذلك قولي في خاتمة الوصايا في هذا التوقيع: "ولا حاجة لنا مع كما له وسداده، وهديه المجمع عليه ورشاده، إلى استقصاء ما في الوصايا والأوامر، ولو تيقن الكناية لقال فيها كم ترك الأول للآخر، فهو يخترع من محاسن التصرف من الخدمة ما يعجز عنه الكبير من أرباب السياسة والتدبير، ويستنبط بخبرته ما يستغنى به عمن يرشده، ولا ينبئك مثل خبير"2.
فآخر هذا الفصل من الكتاب العزيز، وصدره مثل شعري نظمه أبو تمام فقال3:
لا زلت من شكري في حلة
…
لابسها ذو سلب فاخر
يقول من تقرع أسماعه
…
كم ترك الأول للآخر
ومن ذلك قولي في هذا التوقيع: "وليطالع الديوان العزيز بأحوال عمله
1 البيت الذي يريده هو:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
…
مضر كوضع السيف في موضع الندى
2 سورة فاطر: 14.
3 من قصيدته في مدح أبي سعيد التي مطلعها:
قل للأمير الأريحي الذي
…
كفاه للبادي وللحاضر
الديوان 2/ 161.
في أوقاتها، من غير إرجاء يفضي إلى قواتها، مستمدا من تدبيره الصائب ورشده، ما يبصر به سبيل قصده، ومستنجدا من رأيه الثاقب ما إذا شذ بزنده ضرب بنصل يقطع الهام من غمده".
هذا يتضمن من الأمثال الشعرية قول أبي الطيب المتنبي:
إذا شد زندي حسن رأيك في يدي
…
ضربت بنصل يقطع الهام مغمدا1
ومن ذلك قولي في توقيع بعض مشرفي الأعمال في ذكر الأمانة: "فإنها الدرع التي تسخر بالنبال، وتهزأ بالنصال، وتضمن سلامة دارعها يوم النزال. وقل من أصبح منها حاسرا، إلا وأمسى في صفقته خاسرا، أو كان لها مجانبا، إلا ونزل عن السعادة جانبا، فالأمانة سر المرء وجوهره، وباطن الإنسان ومخبره، وبها يستدل على شرف نفسه وديانتها، ومنها يعلم ثمنها ومقدار قيمتها، فإن كملت وتمت دلت على عزة النفس وعلوها، واحتقارها لدنايا الحطام وسموها، وإن نقصت أبانت عن لؤم المرء ونقصه، وكشفت عن شرهه وحرصه، فيستسلف عاجلا أقبح الذكر، ويتحمل آجلا أثقل الوزر، وقل أن يعدم بينهما تقديم العقوبة وتعجيلها، وطروق الحادثة وحلولها، فلتكن عصمة الله ممن يستشعر الحذر، ويشاهد الأشياء بالبصيرة قبل مشاهدتها بالبصر".
وفي أول هذا الفصل معنى قول الراجز، وقد صار مثلا:
1 من قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
لكل امرئ من دهره ما تعودا
…
وعادات سيف الدولة الطعن في العدا
الديوان 1/ 193.
ونثرة1 تهزأ بالنصال
…
كأنها من خلع الهلال
ومن ذلك قولي في هذا التوقيع: "غير مستهين بالنزر اليسير، ولا مغض عن الأمر الحقير، ولا مسامح في الفتيل ولا النقير، فقد يهدي الأبؤس الغوير، وكم مطر بدؤه مطير".
في هذا الكلام ثلاثة أمثال: أحدها القتيل2 والنقير3، والثاني قولهم عسى الغوير أبؤسا4. وقد نظمه أبو تمام فقال:
أهدى لها الأبؤس الغوير
…
كم مطر بدؤه مطير5
ومن ذلك قولي في توقيع لبعض المشرفين أيضا: "سكونا إلى تدرعه من العفة والنزاهة بأوفى جنة، والاعتصام من حولهما وقوتهما، بأتم حول، وأعظم منه، واتحادهما ألزم فرض وآكد سنة، فيواظب على حج كعبتهما، والتوجه إلى قبلتهما، والتدين بشرعهما، والسلوك في شرعتهما، وليستمر
1 النثرة: الدرع الملساء أو الواسعة.
2 الفتيل: السحاة التي في شق النواة.
3 النقير: النكتة في ظهر النواة.
4 الغوير: تصغير غار. الأبؤس: جمع بؤس وهو الشدة. وأصل المثل فيما يقال من قول الزباء حين قالت لقومها عند رجوع قصير من العراق ومعه الرجال وبات بالغوير على طريقه: عسى الغوير أبؤسا. أي لعل الشر يأتيكم من قبل الغار. وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب يحمل لقيطا فقال عمر: عسى الغوير أبؤسا. قال ابن الأعرابي إنما عرض بهذا الرجل، أي لعلك صاحب اللقيط. ونصب أبؤسا على معنى عسى الغوير يصير أبؤسا. وقال أبو علي جعل عسى بمعنى كان ونزل منزلته. بضرب للرجل يقال له لعل الشر جاء من جهتك.
مجمع الأمثال 1/ 312.
5 لم نعثر على النص بديوانه.
على التغشي ببردهم السني، والتعري عن ثوب الإسفاف الدني، وليكن في إحراز الذكر الجميل إذا عرض ماهرا، ولنفسه عن مطعن السوء إن اعترض قاهرا، وفيما يثبت مدمه جاهدا، وللشيطان المسئول له مجاهدا، ليكون بأفعاله الحسنة مكافيا للإنعام، ومستحقا لزيادة الموهبة والدوام، فقديما قيل في المثل الزم الصحة يلزمك العمل".
وقد ذكره عبد الحميد بن يحيى الكاتب في رسالته إلى الكتاب.
ومن ذلك قولي في هذا التوقيع: "فإذا كان وقت الحصاد، وتفتقت الأكمام عن ثمار الاجتهاد، رتب من الأعوان من يثق بمناصحته، ويسكن إلى حراسته، وأذكى عليهم عيون التطلع، وأصغى إليهم بمسامع التصفح والتتبع، فمن وجده للمحجة سالكا، وللدناءة تاركا، أقره واستخدمه، وأدناه وأكرمه، ومن ألفاه عن الجدد1 ناكبا، ولاتباع الطمع راكبا، أحسن تأديبه وتقويمه، وفرى بضرب السياسة أديمه، وجعل ما يعتمده من نكاله رادعا لأمثاله، ونافعا له في مستقبل أمره ومآله، فليس الكهل كالحدث الصبي، ولا القارح2 كالجذع3 الفتى. والحوادث ذخيرة العواقب، والمصائب أثمان التجارب".
هذا معنى قولهم في المثل المشهور: إن المصائب أثمان التجارب.
1 الجدد: المراد الطريق الواضح.
2 القارح: البازل وهو البعير في سنته الخامسة.
3 الجذع: البعير في سنته الثالثة.
ومن ذلك قولي في آخر هذا التوقيع: "فحقيق عليه بعد تعيينه واختباره، وإفراده بالتقديم والتأهيل وإيثاره، أن يهجر لذة الرقاد في بلوغ المراد، وأن يكون لين المهاد عند أحسن أخشن القتاد1، إلى أن يقال له قد رقيت ولقيت، وعولج بك فشفيت".
هذا ينظر إلى قول ديك الجن2:
فإذا شوفي بي كنت حماما
…
وإذا عولج بي كنت شفاء
ومن ذلك قولي في هذا التوقيع أيضا: "وليواصل متجددات العمل في أوقاتها، على اختلاف أنواعها وجهاتها، ولا يستحقر منها حقيرا، ولا يستصغر صغيرا، فالكتاب سطر إلى سطر، وأول الغيث قطر إلى قطر".
هذا هو البيت المشهور للطائي:
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه
…
وأول الغيث طل ثم ينسكب3
ومن البديع النادر اللفظة التي ضممتها إليه وهي قولي: فالكتاب سطر إلى سطر.
ومن ذلك قولي في توقيع لبعض النظار: "وليشرع في تطواف المعاملات
1 القتاد: شجر له شوك.
2 اسمه عبد السلام بن رغبان وديك الجن لقب غلب عليه.
وهو شاعر مجيد يذهب مذهب أبي تمام والشاميين في شعره، وكان من ساكن ولم يبرح نواحي الشام ولا وفد إلى العراق أو غيره منتجعا بشعره، وكان يتشيع تشيعا "الأغاني 12/ 136".
3 سبق هذا البيت في توقيع لابن أبي الحديد.
واستقرائها، وتصفحها واستبرائها، ومشاهدة مزروعها وضياعها ورساتيقها1 وبقاعها ومحاويلها وأعمدتها ونواحيها وأكرتها2، ليحصل عنده صورها وأشكالها، ويثبت في ذهنه هيئتها وخيالها، ولا يقنع بالأخبار والسماع، والتعويل على ما في المطالعات والرقاع.
فليس الخبر كالعيان، ولا التقليد كالبرهان، ومن عول على سماع الأقوال، واكتفى بها عن مشاهدة الأحوال، قصرت بنانه عند المطاولة، وأفحم لسانه عند المجادلة، وكان منقطع المادة، محتاجا لنقصه إلى التمام والزيادة.
وليواصل الحركة التي يدرك بها ما بعد من أعماله ونأى، كإدراكه ما قرب إليه ودنا، بحيث يكون كل عامل من عماله، ومتقدم من أكرته ورجاله، لا يأمن هجومه على غرة وقدومه على فترة فتكون عماله كلها آخذة أهبتها لابسة زينتها، منتظرة طلوعه عليها، مرتقبة وصوله إليها، فلا يزال الاجتهاد فيها بين المنار، ظاهر الآثار".
هذا المعنى ينظر إلى قول "بنت" المنتشر بن "وهب" الباهلي3 في قصيدتها المشهورة:
1 الرساتيق: جمع رستاق فارسي معرب والمراد المزرعة.
2 الأكرة: جمع أكار وهو الحرث.
3 كان الأصل "أخت المنتشر بن الباهلي".
وهي الدعجاء بنت المنتشر بن وهب بن سلمة. قال السيد المرتضى في أماليه: إن هذه القصيدة من المرائي المفضلة المشهورة بالبلاغة والبراعة. وقيل إنها للدعجاء أخت المنتشر والصواب بنته. وكثير من الأدباء ينسب المرثية إلى أعشى باهلة واسمه عامر بن الحارث بن رباح، وهو أخو المنتشر لأمه، ومرثيته في جمهرة أشعار العرب بين المرائي السبع.
"خزانة الأدب والكامل للمبرد وجمهرة أشعار العرب والأصمعيات، وتاج العروس 2/ 567".
لا يأمن القوم ممساه ومصبحه
…
من كل أوب وإن لم يغز ينتظر
ومن ذلك قولي في صدر توقيع لكاتب: "لما كانت الكتابة الفلانية محتاجة إلى ناهض بأعبائها، فارج لغمائها، كاشف لمبهمها ومجهولها، ضابط لمجملها وتفاصيلها، نثلت1 كنانة ألرجال، وعجمت عيدان النصال، وانتصبت صوارم الكتاب الأجلاد ليوم الجلاد وأجريت سوابق الكتابة في مضمار السباق والطراد، كان فلان أوراها زندا، وأرواها عدا، وأصفاها وردا، وأضفاها بردا، وأتقنها صناعة، وأوسعها بضاعة، وأطهرها جيبا، وآمنها غيبا، وأبعدها عيبا فعول عليه في الكتابة بالأعمال المذكورة، علما أن قلمه يتمم نقصها، ويرقع خرقها، ويرأب صدعها، ويجمع شملها، ويجبر وهنها، ويلم شعثها، ويسد خللها، ويمحو زللها، ويحيي رسومها الداثرة، ويعمر بربوعها العافية".
أول هذا الفصل مأخوذ من قول الحجاج في خطبته بالكوفة: إن أمير المؤمنين نثل كنانته فعجمها عودا عودا. فوجدني أشدها عودا، وأصلبها مكسرا2.
1 نثلت الكنانة: استخرج الرجل تبله فنثرها.
وفي الأصل "نكبت".
2 عجم الرجل العود إذا عضه ليعرف صلب هو أم رخو. هذا هو الأصل فيه.
والخطبة بتاريخ الطبري 2/ 210 وتهذيب الكامل للمبرد 1/ 170.
وباقي ألفاظ هذا الفصل ثلاث تجري مجرى الأمثال.
ومن ذلك قولي في صدر توقيع يصلح أن يوقع به لعارض الجيش وهو: "عوائد الديوان العزيز إهداء عقائل النعم إلى الأكفاء، وإسداء صنائع الكرام إلى الأولياء، وإيداع المعروف حيث ينشر ويشكر، لا حيث يجحد ويكفر، وعند من يعرف مواقعه، لا عند من ينفر واقعه، وأن يتخير لعروس إحسانه أطيب المغارس وأزكاها، وأخلقها أن يحلو لي حسناها، لتكون نعمه مستقرة في نصابها، رافلة في قشيب جلبابها، مودعة حيث تصان الودائع وتزكو الصنائع.
ولما كان فلان الرجل الذي تضرب به الأمثال، ولا تعدله الأمثال، والمهذب الذي لا يسأل له أي الرجال، والفائز بشرف الاستعلاءؤ على الأولين والحائز لقصب السبق يوم الرهان، والمتوحد بخصائصه عن مزاحمة المثالب، والمنفرد عن الأضراب بجميل الضرائب، رأي الديوان العزيز الإنعام عليه برد النظر في ديوان العرض المعمور إليه، علما باستقلاله واضطلاعه وثقة بصعة صدره وامتداد باعه، وسكونا إلى إغنائه وغنائه، وإيفائه ووفائه، وعلمه وتيقظه، وامتداد باعه، وسكونا إلى إغنائه وغنائه، وإيفائه ووفائه، وعلمه وتيقظه، وحزمه وتحفظه، وطمأنينة إلى قيامه بالمهم، ودفاعه للملم، وثباته حين تصيش الحلوم، وانتصاره حين يجيش الخصوم فليقابل هذه النعمة بالشكر الذي يكون لزيادتها مقتضيا، ولمضاعفتها ممتريا1، ولأمثالها
1 ممتريا: المراد جالبا وجاذبا من مرى الضرع إذا مسحه ليدر.
مستمدا، ولما أخلق منها مستجدا، فالنعمة ضيف قراه الشكر إن وجدته لم ترم1، وإن فقدته لم تقم".
في هذا الكلام إشارة إلى قول النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمه
…
على شعث أي الرجال المهذب2
ومن ذلك قولي في هذا التوقيع: "ولينتصب لاستيفاء أموال الإقطاعات انتصابا يظهر أثره، ويجتنى ثمره في ضمن قوة خالية من العنف، ولين لا ينسب معه إلى ضعف، فالزعماء كثرهم الله أولو الحمية، والنفوس الأبية، وعلى الحقيقة فهم السباع الوحشية في الصور الإنسية. فليحسن التوصل في مداراتهم، والاستيفاء منهم، والاستعانة بهيبة الديوان العزيز عليهم، غير مراقب من ذلك لعظيم منهم ولا جليل، ولا مغض عن كثير مما عليهم ولا قليل. فبا لمال تستمال الرجال، وتبلغ الآمال، وتفتح الصياصي3 وتملم النواصي، ويستدنى القاصي. والجند بالمال يجمع، والملك بالجند يمنع".
في هذا الفصل إشارة إلى الغزى4 في صفة الأتراك:
من رأى قبلهم مجتمعا
…
خلقة الناس وأخلاق الأسود
1 لم ترم: لم نزل.
2 من قصيدته في الاعتذار للنعمان بن المنذر.
3 الصياصي: الحصون جمع صيصية.
4 هو أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى بن عثمان بن محمد الكلبي الأشهبي، كان شاعرا محسنا، ولد بغزة سقة 441 وتوفي سنة 524هـ بين مرو وبلخ ودفن بها.
ومن ذلك ما قلت في صدر توقيع لناظر بالسواد: "لما كان فلان ممن خبر رشاده فعلا، وسداده قولا، وتكاملت محاسنه وخصائصه، فلا يقال فيها لولا، وسبقت له سوابق الكتابة التي تقلد نطاقها، وأقام أسواقها، وأحكم ميثاقها، واجتلى بها عقائل المحامد بعد أن أغلى صداقها، وحمدت مذاهبه في حال إصداره وإيراده، وشهدت بعفافه وأمانته ألسنة أوليائه وحساده، رأى الديوان العزيز الإنعام عليه بنظر كذا، فليسأل الله التوفيق والخبرة، وليقدم تقواه فهي أنفع عدة، وأنفس ذخيرة، وليتوجه إلى الأعمال المذكورة بصدر رحب الفناء، وعزم نافذ المضاء، وأمل واثق بشمول الآلاء، وليسلك في جميع أنحائه مسلك أمثاله من ذوي الرشاد والتحصيل، ولا يتبع الهوى فيضل عن سواء السبيل"1.
آخر هذا الكلام من القرآن العزيز، وفي أوله إشارة إلى قول القائل:
ليس فيها ما يقال له
…
كملت لو أن ذابك لا أقول
وأنا أختم هذا الفصل بتوقيع كتبته لبعض الزعماء، وقد رتب شحينة واسط وهو: "أولى الأولياء باجتلاء عقائل النعم الجزيلة، وامتطاء كواهل الرتب الجليلة، واعتلاء صهوات المنازل السنية، وارتقاء درجات المناصب العلمية من محضت طاعته وعبوديته، واستوى سره في الإخلاص وعلانيته،
1 سورة ص: 26 {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .
وحسنت أفعاله وآثاره، وطبت أنباؤه وأخباره، وكرم مغيبه، وعظم مشهده وأبر يومه على أمسه، وأربى على يومه غده.
ولما كنت أيها الأمير الأجل فلان الدين الجامع هذه الأوصاف والخصائص، والمتحلي من جواهر المناقب بما لم تظفر بمثله يد غائض1، واقترنت بمسألتك التي سألت منها السيوف نفوسا ومهجا، وبرمايتك التي لم يجعل الله تعالى فيها عوجا ولا أمتا2.
هذا مع ما خصصت به من وفور آياتك، ورجحان حصافتك، وعلو همتك، وطهارة شيمتك، وأنك بذذت الأشكال والأضراب، وأوتيت حزم الشيخوخة في عنفوان الشباب، ربي الإنعام عليك برد شحينة الأعمال الواسطية إليك، لاستقبال كذا.
فتلق هذه النعمة التي ترضيك بشكر يرضيها، وهذه المنزلة التي تضاهيك بحمد يضاهيها، وتوجه إلى الأعمال المذكورة بصدر رحب، ورأي مصيب، وسيف من دم أهل الكيد خضيب، واستشعر تقوى الله فالعاقبة لأهلها وقف عند حدودها، ولتستظل بظلها، وتذكر لها كلمة قصيرة غير طويلة:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} 3 وناهيك بها فضيلة.
1 بالأصل "بما لم يظفر مثله بدعائص".
2 الأمت: العوج والاختلاف في الشيء والعيب.
3 سورة النحل: 128.
وابدأ بالرفق الذي ما دخل في شيء إلا زانه، ولا استعان به أحد في مشكل إلا أعانه.
والق الناس ببشرك ولطفك وطولك1، ولا تبدأهم بالفظاظة، فلو كنت فظاغليظ القلب لانفضوا من حولك2.
والرعايا فهم الودائع عندك الموثوق لهم أن تلحقهم أمانك ورفقك، وتفرشهم3 سدادك ورشدك، واكفف عن الأذى، وأزح عنهم القذى، وقل لهم كما أدبك الله حسنا، وبدلهم من بعد خوفهم أمنا، ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا4، وكن لهم حسبة5 من الجور وحصنا، واحمهم ممن يتعرض بهم في عرض هذا6 الأني، واسلك بالمعدلة فيهم صراطا سويا، واجل قويهم في الباطل ضعيفا، وضعيفهم في الحق قويا.
وحراسة الارتفاقات الديوانية بالسطوات المرهوبة، والنقمات المصبوبة، والهيبة التي تملأ القلوب ارتياعا، وتطير الأنفس منها شعاعا، فأنت فارسها
1 الطول والطائل والطائلة: الفضل.
2 سورة آل عمران: 159 {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} .
3 تفرشهم سدادك: توسع لهم فيه أي تشملهم به.
5 الحسبة: من قولهم حسن الحسبة أي حسن التدبير.
6 الأنى بفتح الهمزة أو كسرها وسكون النون فيهما والأناء بالمد الوهن والساعة من الليل.
المعلم1، وشجاعها المقدم، وليثها الذي تحجم الليوث ولا يحجم، فأمد وطأتك على أهل الريب والفساد، وشرد بهم عن جميع الأعمال والبلاد، وانتدب للقيام بسياستهم كانتدابك للقيام بالفرض، فما كان لزعيم أن تكون له سياسة حتى يثخن2 في الأرض.
والأموال المتمزقة في أقصى الأعمال ونائيها3 لا تحرس إلا بإراقة الدماء على جوانبها، ومن الجور البين والحيف وضع الصفح موضع السيف.
ونوابك الذين ترتبهم في الأعمال، وتستعين بهم على حراسة الأموال، فأصلحهم أولا وطهرهم، ليحصل بهم الصلاح والطهارة، ولا ترض لهم أن يكونوا ممن يأمر الناس وينسى نفسه الأمارة.
وألزمهم بمداومة فعل الخير يكونوا "أهله"، ولا تجعلهم ممن ينهى عن خلق ويأتي مثله.
وأقم عليهم الأرصاد، واقعد لهم بالمرصاد، ورضهم على اتباع منهاجك القويم، واهتداء صراطك المستقيم، وعلمهم من سجاياك المحمودة ما لم يعلموا "وفوق كل ذي علم عليم".
وحراسة الطرق والمذاهب، وحماية المسالك والمشارب وقمع كل ناجم
1 الفارس المعلم: بكسر اللام هو الذي يجعل لنفسه علامة الشجعان في الحرب.
2 يثخن: من أثخن في العدو أي بالغ الجراحة فيهم، وأثخن فلنا إذا أوهنه، وقوله تعالى:{حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} أي غلبتموهم وكثرت فيم الجراح.
3 بالأصل "ودنايها".
بفساد، أو قادح للشر بزناد، أو مخيف سبيل، أو قائد رعيل1.
فكن في ذلك كالليث السغب2 ينهض إلى فريسته، والصقر القطم3 ينقض على طريدته، حتى توسع كل ساع بالفساد قتلا وأسرا، وتوثق كل عادل عن السداد حبسا وحصرا، وتأمن السبل والأطراف، وتصبح الناس فيها كحمام الحرم لا يخاف.
فهذه الأعمال مظلمة، فكن أضوأ من السراج، وهذه المدرة4 حجاجية5 فكن أهيب من الحجاج.
وقد تلخص من مجموع وصايا الملك أن يكون الملك ذالونين: أزهر وأقتم، وذا طعمين: أحلى من العسل، وأمر من الملقم، وذا وجهين: طلق وشتيم6، وذا يومين: يوم بؤس ونعيم.
والدعامة التي تقوم بها السياسة، وبنصب عليها عمل الرياسة هي القوة من غير عنف، واللين من غير ضعف، فالرعية كمريض هذه زبدة علاجه، والسياسة كبدن هذا تعديل مزاجه.
واجعل أعظم كدك، وغاية قصدك، استجلاب الأدعية الصالحة
1 الرعيل: الجماعة من الخيل، والمراد هنا الثوار الخيالة.
2 السغب: الجائع، وكذلك ساغب وسغبان.
3 القطم: الذي يشتهي اللحم. والقطامي بفتح القاف وضمها الصقر.
4 المدرة: المدينة.
5 حجاجية: حجاج بلدة في بيهقي.
6 شتيم: كريه الوجه عابس. كانت بالأصل "سئيم".
لهذه الأيام الشريفة الزاهرة، التي يحسدها سائر الأيام، ويتنافس الناس عليها فلا يبيعون ساعاتها بالأعوام، أن تدوم لأهلها فهم من الحوادث أمان، وتظن لرونقها ونضارتها أنها أيام الجنان، أيدها بدوام لا تماسك لسجابه، وبقاء لا نفاد لحسابه.
فهذه معظم وصايا التوقيع المذكور، وقد تضمنت من ترصيع الآيات الشريفة والأبيات الشريفة والنكت والأمثال جملة صالحة.
أما الآيات الشريفة فقوله تعالى: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} 1 وقوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين} 2، وقوله تعالى:{مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} 3 وقوله تعالى {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} 4 وقوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} 5 وقوله: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} 6 وقوله: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} 7 وقوله: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} 8 وقوله: {أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} 9 وقوله {شَرِّدْ بِهِمْ مَنْ
1 سورة طه: 107.
2 سورة الأعراف: 128 {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وسورة القصص: 83 {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا} .
3 سورة النحل: 128 {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .
4 سورة آل عمران: 159.
5 سورة البقرة: 83.
6 سورة النور: 55.
7 سورة طه: 131.
8 سورة الأعراف: 169.
9 سورة مريم: 43 {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} .
خَلْفَهُم} 1 وقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} 2.
نقلته أنا إلى السياسة فقلت ما كان لزعيم أن تكون له سياسة حتى يثخن في الأرض3.
ولا يخفى ما في النقل من اللطافتين. وقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُم} 4 وقوله: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد} 5 وقوله: {صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم} 6 وقوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم} 7.
وأما حل الأبيات الشعرية فقول الشاعر:
حالك اليوم فوق حالك بالأمس وأرجو لك المزيد غدا8
قد نثرناه نحن فقلنا: وأبر يومه على أمسه، وأربى على يومه غده.
وقول السموءل:
تسيل على حد السيوف نفوسنا
…
وليس على غير السيوف تسيل9
1 سورة الأنفال: 57 {فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} .
2 سورة الأنفعال: 67.
3 جملة مكررة في الأصل حذفناها.
4 سورة البقرة: 44.
5 سورة التوبة: 5.
6 سورة الأعراف: 16 {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} .
7 سورة يوسف: 76.
8 حذفنا في من "في الأمس" ليستقيم الوزن.
9 في شرح الحماسة للمرزوقي 1/ 110 روايتان: "حد الظبات" و"حد السيوف"
ونسبة القصيدة إلى عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو للسموءل بن عادياه.
وأول الأبيات قوله:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
…
فكل رداء يرتديه جميل
أخذناه فقلنا: بمسألتك التي سالت منها السيوف نفوسا ومهجا.
وقول المتنبي:
وشيخ في الشباب وليس شيخا
…
يسمى كل من بلغ المشيبا1
حللناه نحن فقلنا: وأوتيت حزم الشيخوخة في عنفوان الشباب.
وقول قطري بن الفجاءة2 من شعراء الحماسة:
أقول لها وقد طارت شعاعا
…
من الأبطال ويحك لا تراعي
أخذناه فقلنا: تملأ القلوب ارتياعا، وتطير النفوس منها شعاعا.
وقول المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
…
حتى يراق على جوانبه الدم3
1 من قصيدته، في مدح علي بن محمد بن سيار بن مكرم التميمي التي مطلعها:
ضروب الناس عشاق ضروبا
…
فأعذرهم أشفهم حبيبا
الديوان 1/ 101.
2 في الأصل "عمرو بن الإطنابة" والصواب أن البيت من أبيات لقطري بين الفجاءة كما في شرح التبريزي للحماسة 1/ 50.
3 من قصيدته في هجاء إسحاق بن إبراهيم بن كيغلغ مطلعها:
لهوى النفوس سريرة لا تعلم
…
عرضا نظرت وخلت أني أسلم
وكان أبو الطيب قد سار من الرملة يريد أنطاكية فنزل بطرابلس وبها إسحاق هذا، وكان يجالسه ثلاثة من بني حيدرة، فقالوا لإسحاق: أتحب أن يتجاوزك ولا يمدحك؟ وجعلوا يغرونه، فراسله أن يمدحه، فاحتج بيمين لحقته ألا يمدح أحدا إلى مدة. فعاقه عن طريقه ينتظر المدة. ومات الثلاثة الذين كانوا يغرونه في مدة أربعين يوما. فهجاه المتنبي وأهلي القصيدة على من يثق به، ثم فر إلى دمشق.
"الديوان 2/ 379".
حللناه فقلنا: والأموال المتمزقة في أقاصي الأعمال ونائيها لا تحرس إلا بإراقة الدماء على جوانبها.
وقول المتنبي أيضا: "ووضع الندى في موضع الانتقام"1 حللناه فقلنا: ومن الجور البين والحيف، وضع الصفح في موضع السيف.
وقد حللت هذا البيت بعبارات ثلاث والمعنى واحد وقد تقدم ذكرها،
وهي: أفسد الأشياء لقانون الرياسة، وضع العفو موضع السياسة.
والثانية فأدعى الأشياء إلى انحلال النظام، وضع الصفح موضع الانتقام.
والثالثة هذا الموضع.
وقول القائل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم2
1 يشير إلى قول المتنبي:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
…
مضر كوضع السيف في موضع الندى
وقد سبق.
2 المشهور أن هذا البيت لأبي الأسود الدؤلي من قصيدة له أولها:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
…
فالقوم أعداء له وخصوم
وقد وقع في قصيدة للمتوكل بن عبد الله الليثي فنسبه بعضهم إليه. وهو شاعر في عهد يزيد بن معاوية، وقصيدته أولها.
للغانيات بذي المجاز رسوم
…
فببطن مكة عهدهن قديم
قال شارح أبيات الإيضاح: نسب البيت إلى أبي الأسود الدؤلي وللمتوكل بن نهشل بن مسافع الليثي، وللطرماح بن حكيم ولحسان بن ثابت وللأخطل.
وقال: الصحيح عندي أنه لأبي الأسود أو للمتوكل الليثي، وقد رأيته في قصيدة كل منهما "شرح شواهد المغني للسيوطي وخزانة الأدب للبغدادي وشواهد العيني".
وذكر الآمدي في المؤتلف والمختلف 179، وذكر المرزباني في معجم الشعراء 410 أنه للمتوكل الليثي.
أخذناه نحن فقلنا: وألزمهم بمداومة فعل الخير يكونوا أهله، ولا تجعلهم ممن ينهى عن خلق ويأتي مثله.
وقول ابن هرمة:
كريم له وجهان وجه لذي الرضا
…
أسيل ووجه في الكريهة باسل1
أخذناه فقلنا: وذا وجهين طلق وشتيم.
وقول الشاعر:
له يوم بؤس فيه للناس أبؤس
…
ويوم نعيم فيه للناس أنعم
أخذنا فقلنا: ذا يومين: يوم بؤس ويوم نعيم.
وقول الشاعر:
تنافس الناس في أيام دولته
…
فما يبيعون أياما بأعوام
أخذناه فقلنا: ويتنافس الناس عليها، فما يبيعون ساعاتها بالأعوام.
1 هو إبراهيم بن علي بن سلمة شاعر مجيد أدرك العصر العباسي.
وقد مدح المنصور بقصيدة مطلعها:
سرى ثوبه عنك الصبا المتخايل
حتى انتهى إلى قوله:
له لحظات عن حفافي سريره
…
إذا كرها فيها عقاب ونائل
"الأغاني 5/ 172".
وقول المتنبي:
نسقوا لنا نسق الحساب مقدما
…
وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا1
أخذناه نحن فقلنا: بدوام لا تماسك لسحابه، وبقاء لانفاد لحسابه.
وأما الأمثال والنكت فقولهم. ما دخل الرفق في شيء إلا زانه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه على قريش: اللهم اشدد وطأتك على مضر.
وقد صار ذلك مثلا سائرا.
وقولهم السياسة لين من غير ضعف، وقوة من غير عنف.
ويقال إن أول من قال ذلك أبو بكر الصديق. وقولهم: هذا عصر تحسده الأعصر الخالية، وقد جاء في الشعر كثيرا، كقول ابن هانئ:
فأما الليالي السالفات فقطعت
…
أناملها من حسرة وتندم
وأما الليالي الحاضرات فأدركت
…
مآربها من بهجة وتكرم
1 من قصيدته في مدح أبي الفضل محمد بن العميد التي مطلعها:
باد هواك صبرت أم لم تصبرا
…
وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
وقبل البيت قوله:
من مبلغ الأعراب أني بعدها
…
شاهدت رسطاليس والإسكندرا
وسميت بطليموس دارس كتبه
…
متملكا مبتديا متحضرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما
…
رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا.................
…
...............................
"الديوان 1/ 370".
أي أنه جمع من الفضل ما في أولئك السابقين جميعا؛ لأنهم مضوا متتابعين متقدمين على ابن العميد، فلما أتى كان فيه من الفضائل ما كان فيهم، مثل لحساب تذكرت تفاصيله أولا ثم تجمل التفاصيل فتكتب في آخر الحساب.
وفي الفصول المذكورة من الألفاظ والتكت الجارية مجرى الأمثال، عدا ما ذكرناه ما لا خفاء به.
فهذه نبذة من حل المنظوم ذكرناها كعجلة القرى1، وكهيئة الطارق إذا عرا2.
إن وجدنا أدنى فسحة أتممنا ما شرعنا فيه من حل سيفيمات أبي الطيب المتنبي، وتقريبها إلى خزانة مالك الأمر، ووارث الدهر، جعله الله بألطافه وكراماته الجليلة ممنوحا، وأعطاه من البسطة في الملك والعمر ما لم يعطه الإسكندر ونوحا.
50-
قال المصنف: وقد ذكر ابن سنان الخفاجي أن أحد ما يشترط في حسن اللفظة أن تكون مخارج حروفها متباعدة.
قال: وهذا باطل؛ لأنه لو كان العلم بحسن اللفظة وقبحها مشروطا بتباعد مخارجها أو تقاربها لوجب ألا يحكم على الفور بقبح لفظة أو حسنها حتى تعتبر مخارج الحروف.
ونحن نجد الأمر بعكس ذلك، فإنا ساعة ما نسمع اللفظة نُفتي بحسنها أو قبحها. وما ذاك إلا لأن هذا أمر يرجع إلى حاسة السمع، فإذا استحسنت
1 عجالة القرى: ما يقدم في سرعة للضيف.
2 الطارق: من يطرق الباب ليلا. عرا: غشى وجاء طالبا المعروف.
شيئا أو استقبحته، وجدت ما تستحسنه متباعدا مخارج الحروف، فاستحسانها واستقباحها إنما قيل اعتبار المخارج لا بعده1.
أقول: ليس بمنكر أن يعلم المعلول قبل العلة، والمشروط قبل الشرط. ألا ترى أنك إذا رأيت الجارية الحسناء، فإنك تستحسنها على الفور، ولا يتوقف استحسانك إياها على أن تستحضر في ذهنك علة الحسن من رقة شفتيها وأنفها وامتداد سالفتيها، ومخالطة الحمرة للبياض في بشرة وجهها، وغير ذلك من أسباب الحسن. ولا يطعن حكمك بالحسن على الفور في تعليلي الحسن بهذه الأمور؟
ومن ذلك أنه قد اعترف أن كل ما تستقبحه من الألفاظ تجده متقارب الحروف، وما تستحسنه منها تجده متباعد الحروف، ولكنه زعم أنه لا يعلل الاستقباح والاستحسان بهما، فقال له إذا كان تقارب المخارج والاستقباح متلازمين لا يفترقان، فلابد من أمر أوجب ملازمتهما، فيمكنك أن تقول إن الاستقباح أوجب تقارب المخارج فيما هو متقارب المخارج، وهو أمر ذاتي له لا يتوقف على الاستقباح.
فإذا لم يكن الاستقباح أوجب تقارب المخارج ولا بد لملازمته إياه من سبب، فلا سبب إلا أن يقال: المخارج علة الاستقباح.
1 المثل السائر 1/ 222 بتلخيص.
51-
قال المصنف: وقد وجدنا ألفاظا متقاربة المخارج وهي غير مستقبحة، كلفظة ملع إذا عدا وأسرع1.
أقول إن ابن سنان لم يدع الاطراد المطلق، وإنما قال إن الأكثر الأغلب استقباح الألفاظ المتباعدة المخارج، إذا لم توجد فيها علة أخرى توجب استقباحها، والشاذ لا يعتد به.
على أن هذا لازم له؛ لأنه قد اعترف أن كل لفظة متقاربة مخارج الحروف فإنها مستقبحة، وإن لم يعلل الاستقباح بذلك.
فم أورده على ابن سنان لازم على ما اعترف هو به من تلازم الأمرين:
قال: وقد غلط أبو نواس في لفظة الظرف فقال:
اختصم الجود والجمال
…
فيك فصارا إلى جدال
فقال هذا يمينه لي
…
للعرف والبذل والنوال
وقال هذاك وجهه لي
…
للظرف والحسن والكمال
فافترقا فيك عن تراض
…
كلاهما صادق المقال2
1 المثل السائر: 1/ 225.
2 المثل السائر: 1/ 256.
قال: فوصف الوجه بالظرف، والظرف من صفات النطق خاصة، وليس كما يتوهمه العامة من حسن الصورة ودماثة الأخلاق1.
أقول: إن هذا الذي ذكره قد قاله كثير من الناس، وقال كثير من الناس غير ذلك، فإن صاحب ديوان الأدب قال: الظرف الكياسة، ولم يزد على ذلك، وهكذا قال صاحب الصحاح. ومعلوم أن الكياسة لا تكون راجعة إلى النطق اللساني خاصة، وعلى كل الأحوال فأبو نواس لم يغلط؛ لأن أداة الظرف وهي اللسان على ما يريده جزء من أجزاء الوجه، فإذا قال الجمال إن وجه هذا الممدوح لي؛ لأنه محل الظرف، ومحل آلة الشيء محل الشيء، كما يقال: الرأس محل الشم والذوق؛ لأنه محل آلتيهما2.
52-
قال المصنف: وقد غلط أبو تمام في قوله:
ودماثة الخلق التي لو مازجت
…
خلق الزمان الفدم عاد ظريفا
فوصف الخلق بالظرف، والظرف يختص باللسان والنطق3. أقول:
1 عبارة ابن الأثير: فأبو نواس غلط ههنا في أنه وصف الوجه بالظرف، وهو من صفات النطق، وأبو تمام غلط في أنه وصف الخلق بالظرف، وهو من صفات النطق أيضا، إلا أن هذا غلط لا يوجب في هذه اللفظة قبحا، لكنه جهل بمعرفة أصلها في وضع اللغة.
2 يظهر أن في العبارة سقطا لأن جواب إذا لم يتم.
3 المثل السائر 1/ 257.
من قصيدة لأبي تمام في مدح أبي سعيد محمد بن يوسف، وقبل البيت قوله:
لك هضبة الحلم التي لو وازنت
…
أجأ إذن ثقلت وكان خفيفا
والبيت بالديوان هكذا:
وحلاوة الشيم التي لو مازجت
…
خلق الزمان الفدم عاد ظريفا
"ديوان أبي تمام 309".
لو سلمنا له ما يريده من تفسير الظرف لكان لقول أبي تمام مذهب لا بأس به؛ لأن تهذيب الأخلاق ورياضتها وتسهيل حزنها وتدميثه مما يعين على حسن التوصلات النطقية، ويؤثر في تلطيف الألفاظ، وإصابة الأغراض بهما.
ألا ترى أن النبطي الجافي لا يكاد يبلغ أغراضه بالكلام، ويحسن التوصل إلى إدراك ما يرويه بلسانه، بخلاف من قد خالط وجرب، وراض أخلاقه وهدب نفسه؟ فمن هذا الوجه جعل أبو تمام دماثة الخلق مؤثرة في الظرف، وإن كان عائدا إلى النطق اللساني خاصة.
53-
قال المصنف: وقد ذكر ابن سنان الخفاجي في كتابه أن من أوصاف الكلمة أن تكون مؤلفة من أقل الأوزان تركيبا، وأنها إذا طالت قبحت.
ومثل ذلك بقول المتنبي:
إن الكرام بل كرام منهم
…
مثل القلوب بلا سويداواتها
فإن لفظة سويداواتها قبيحة لطولها.
قال: ليس الأمر كذلك، فإنها لو قبحت لطولها، لقبح قوله تعالى:{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّه} 1، وقوله سبحانه:{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْض} 2 فإن إحداهما تسعة أحرف، والأخرى عشة أحرف3.
أقول: ألست قلت في باب المعاظلة إنهما مما وقع الإجماع على قبحه، وقلت إنها لتكرير الحروف، ومثلت لها بقول القائل:
"جنى جنات وجنات الحبيب"
وقولهم:
"وليس قرب قبر حرب قبر"4
فلقائل أن يقول لك: قد ورد في القرآن الكريم مثل ذلك وهو قوله تعالى: {بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} 5.
فهذه ميمات كثيرة يتلو بعضها بعضا، فإما أن يكون استعمالها في القرآن غير مستحسن، أو يكون مستحسنا، فإن لم يكن مستحسنا مع أنها قد استعملت، فاختزلا بن سنان أن تكون الكلمة الطويلة كقوله:"ليستخلفنهم" غير مستحسنة، وقد استعملت، وإن كانت المغالطة قبيحة إلا في القرآن الكريم،
1 سورة البقرة: 32.
2 سورة النور: 55 {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} .
3 المثل السائر: 1/ 265.
4 المثل السائر: 1/ 401 وفيه البيت كاملا:
وقبر حرب بمكان قفر
…
وليس قرب قبر حرب قبر
5 سورة هود: 48 {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} .
فاختر لابن سنان أن يكون كثرة حروف الكلمة حروف الكلمة قبيحة إلا في القرآن الكريم.
وبالجملة فإما أن يلزمك ما ألزمته أو تتخلص مما يتخلص به.
54-
قال المصنف: وأكثر أسجاع الصابي1 وابن العميد2 وكثير من المتقدمين والمتأخرين من الكتاب بتكرير المعنى بعينه في السجعتين المزدوجتين، كقول الصابي في التحمدي:"لا تخلقه العصور بمرورها، ولا تهر مه الدهور بكرورها".
ثم قال في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم "فلم يدع3 للكفر أثرا إلا طمسه ومحاه، ولا رسما إلا أزاله وعفاه". قال: ولا فرق بين محو الأثر ولا تعفية الرسم، ولا بين مرور العصور، وكرور الدهور.
قال: ومثل قوله: "لم تزل الدولة العباسية تعتل طورا، وتصح أطوارا،
1 أبو إسحاق إبراهيم بن هلال بن زهرون، كان كاتب الإنشاء في بغداد عن الخليفة وعند عز الدولة بن بختيار بن معز الدولة بن بويه، وتقلد ديوان الرسائل سنة 349 وكان على مذهب الصابئة كما يدل على ذلك اسمه، وله صداقة مع الشريف الرضي، وقد اشتهر بكتابته المسجوعة، وله رسائل مطبوعة "وفيات الأعيان 1/ 12 ويتيمة الدهر 2/ 23 ومعجم الأدباء 1/ 324".
2 أبو الفضل محمد بن العميد. والعميد لقب أبيه على عادة أهل خراسان في التعظيم كان وزيرا الركن الدولة الحسن بن بويه والد عضد الدولة سنة 328 وكان متوسعا في اللغة والنجوم والأدب حتى سموه الأستاذ والرئيس والجاحظ الثاني. وهو صاحب مذهب في النثر مشهور.
"وفيات الأعيان 4/ 189".
3 في المثل السائر "لم ير للكفر".
وتلتاث مرة وتستقل مرارا، من حيث أصلها راسخ لا يتزعزع، وبنياتها ثابت لا يتضعضع".
قال: وهذه الأسجاع كلها متساوية المعاني، فإن الاعتلال والالتياث والطور والمرة والرسوخ والثبات سواء. ثم ذكر عدة مواضع من كلامه يجري هذا المجرى1.
أقول هذه سنة الكتاب وعادتهم ما زالوا عليها قديما وحديثا، وهم يرون ذلك من باب سعة العبارة والاقتدار على الألفاظ.
ثم إن السجعة الثانية تؤكد معنى الأولى، والتأكيد عمدة البيان والكتابة، ولذلك أحبوا فيها الإطالة، وفي الشعر الاختصار.
ولهم في هذا الباب عذر يتضمن تعليله. والسبب الذي لأجله توسعوا في عبارات الكتابة وأسهبوا، واقتصروا في النظم واختصروا أن القرآن الكريم وهو على غاية الإيجاز والاختصار قد تضمن ذلك في كثير من المواضع نحو قوله:
{أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ} 2 فالرب ها هنا والملك والإله بمعنى، فكل واحدة من هذه السجعات قد أعطت معنى الأخوى.
ومثل قوله: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا، وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} 3. فإن الجنات هي البساتين، ولا معنى للبساتين إلا ما كان محتويا على الحب والنبات.
1 المثل السائر 1/ 282 ومنه أصلحنا النص.
2 سورة الناس.
3 سورة النبأ: 15، 16.
ومثل قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} 1 فإن عدم اعتقادهم للحساب هو تكذيبهم بالآيات.
ومثل هذا في القرآن العزيز كثير جدا.
فإن قلت: يمكن أن يقال إن الملك غير الإله، لأن أمير كل بلدة يوصف بأنه ملكها، ولا يوصف بأنه إلهها، وكذلك رب الدار لا يقال له إلهها، وأيضا يمكن أن يقال إنه أراد باحلب الأقوات، وبالنبات مالا ساق له من الشجر، وبالجنات ماله ساق، وغير ذلك من التأويلات.
قلت: إذا شرعت في هذا كن لقائل أن يقول إن قول الصابي: لا تخلقه العصور غير قوله لا تهرمه الدهور؛ لأن الهرم إنما يكون للحي المختار، والأخلاق أعم من ذلك، لأنه يكون للجماد، فزاد أنه لا تغيره الأوقات، على كلا مذهبي المتكلمين والحكماء.
وقوله: "لم يدع له أثرا من آثار الديار والأماكن ولا رسما" من قولهم قد رسمت لك في هذا الكتاب رسوما فاعمل بها. وأيضا فإن تعتل غير تلتاث، لأن الالتياث الضعف فقط، وإن لم يكن عن علة، ولذلك أعقبه بقوله تستقل، كما أعقب الاعتدال بالصحة. ومثل هذه التدقيقات الخفية في التأويلات لا يتعذر تحصيلها على من عنده فقه في موارد هذه الصناعة.
1 سورة النبأ: 27، 28.
55-
قال المصنف والتصريع سبعة أنواع1.
الأول أن يستقل كل واحد من المصراعين بنفسه استقلالا تاما، وهو التصريع الكامل، كقول امرئ القيس:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
…
وإن كنت قد أزمعت هجري فأجملي2
وقول المتنبي:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم
…
أكل فصيح قال شعرا متيم؟ 3
الثاني: أن يكون المصراع الأول مستقلا بنفسه، والثاني غير مستقل بنفسه، بل يكون مرتبطا بالأول كقول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
يسقط اللوى بين الدخول فحومل4
وقول أبي تمام:
ألم يان أن تروى الظماء الحوائم
…
وأن ينظم الشمل المبدد ناظم؟ 5
1 المثل السائر 1/ 338.
2 من معلقته.
3 مطلع قصيدته في مدح سيف الدولة.
الديوان 2/ 249.
4 مطلع المعلقة.
5 مطلع قصيدته في مدح أحمد بن أبي دواد.
الديوان: 285.
والثالث: أن يمكن وضع كل واحد من المصراعين موضع الآخر، وهو التصريع الموجه، كقول ابن الحجاج:
من شروط الصبوح في المهرجان
…
خفة الشرب مع خلو المكان1
وهذا في الجودة كالنوع الثاني.
والرابع: أن يكون المصراع الأول مستقلا بنفسه، ويفتقر فهم معناه إلى الثاني وهو مذموم، ويسمى التصريع الناقص، كقول المتنبي:
مغاني الشعب طيبا في المغاني
…
بمنزلة الربيع من الزمان2
والخامس: أن يكون التصريع بلفظة واحدة في الضرب والعروض، إما حقيقة كقول بن الأبرص.
وكل ذي غيبة يئوب
…
وغائب الموت لا يئوب3
وإما مجازا كقول أبي تمام:
فتى كان شربا للعفاة ومرتعي
…
فأصبح للهندية البيض مرتعا4
1 يتيمة الدهر 3/ 65.
2 مطلع قصيدته في مدح الدولة وولديه، ووصف شعب يوان.
الديوان 2/ 481.
3 من قصيدته التي مطلعها:
أقفر من أهله ملحوب
…
فالقطبيات فالذنوب
4 من قصيدته في رثاء أبي نصر محمد بن حميد الطائي التي مطلعها:
أصم بك الناعي وإن كان أسمعا
…
وأصبح مغني الجور بعدك بلقعا
الديوان: 374.
العفاة: طلاب العطاء. مرتعي: موضع رعى. مرتع: مسرح.
والسادس: أن يذكر مصراع الأول ويكون معلقا على صفة يأتي ذكرها في أول المصراع الثاني، ويسمى التصريع المعلق، وهو معيب جدا، ومثله قول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى
…
بصبخ وما الإصباخ منك بأمثل1
فإن المصراع الأول معلق على قوله بصبح.
ومثله قول المتنبي:
قد علم البين منا البين أجفانا
…
تدمى وألف في ذا القلب أحزانا2
فإن المصراع الأول معلق على قوله تدمى.
والسابع: أن يكون التصريع في البيت مخالفا لقافيته، ويسمى التصريع المنتظم، وهو أقبح التصريعات، كقول أبي نواس:
أقلني قد ندمت على الذنوب
…
وبالإقرار عدت من الجحود3
1 من معلقته.
2 مطلع قصيدته في مدح أبي سهل سعيد بن عيد الله الأنطاكي.
الديوان 2/ 457.
يريد أن الفراق قد علم الأجفاق الفراق، فما تلتقي سهرا، وجعل الفراق يؤلف الحزن إغرابا في الصنعة.
والبيت الآخر.
3 أحد بيتين كتب بهما إلى الفضل بين الربيع، والبيت الآخر هو:
وإن تصفح فإحسان جديد
…
سبقت به إلى شكر جديد
الديوان 109.
أقول إن النوع السادس عند التحقيق هو النوع الثاني، فإن كان الثاني جيدا كما زعم فالثاني معيب.
بيانه أن المصراع من النوع السادس مستقل بنفسه، غير محتاج إلى الذي يليه أصلا، لأنهلو وقف على قوله. "ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى" لكان مفيدا، لأنه سأل الليل أن ينجلي وينكشف، وهذا كلم تام مستقل بنفسه، كقوله:"قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" بل أتم استقلالا منه، لأنه إذا ذكر الحبيب والمنزل ولم ينعتهما كان الكلام يخرج عن الإفادة. وقوله لليل:"ألا انجلي" معناه واضح، كأنه قال ما أطولك ياليل فانكشف.
وبيت المتنبي مثل هذا، بل أتم استقلالا، لأن قوله:"قد علم البين منا البين أجفاقا" كلام حسن مفيد عند من يفهم معناه، ومعنى هذا المصراع أن البين قد علم أجفاننا البين، أي فراق الأحباب قد علم أجفاننا أن يفارق بعضها بعضا.
وهذا معنى لطيف، وكلام حسن مستقل بنفسه، لا حاجة له إلى المصراع الثاني، ولا هو معلق عليه أصلا.
وليس قوله: "تدمى" يوجب تعلق المصراع الأول عليه، لأن موضعه النصب، من حيث كان صفة لقوله "منزل"1 فلا فصل بين الموضعين.
1 هكذا بالأصل ولعل الصواب "من حيث كان صفة لقوله أحيانا كما أن يسقط اللوى صفة لقوله منزل".
واعلم أنه قد أخل في أقسام التصريع بقسمين آخرين: أحدهما أن يكون معنى المصراع الأول مباينا لمعنى المصراع الثاني بالكلية، لا رابطة بينهما، كقول المتنبي:
جللا كما أبى فليك التبريح
…
أغذاء ذا الرشا الأغن الشيح؟ 1
فإنه لا مناسبة بين صدر البيت وعجزه، وإن ثبت أن بينهما مناسبة كما قد تكلفه قوم فما الغرض المثال، وإنما الغرض التمثيل.
وهذا غير القسم الأول الذي ذكره المصنف، لأن قوله:"وإن كنت قد أزمعت هجري فأجملي" له ارتباط معنوي في الجملة بقوله: "أفاطم مهلا" وتقدير الكلام إن كان صدك دلالا فأمهلي منه، وإن كنت قد أزمعت الهجر والقطيعة بالكلية فأجملي من ذلك.
والقسم الثاني التصريع في العروض بحركة تخالف حركة الضرب، نحو أن يكون أحدهما بالرفع والآخر بالجر، كقول أبي نواس:
اختصم الحسن والجمال
…
فيك فصارا إلى جدال
وهذا يخالف القسم السابع الذي ذكره المصنف، لأن ذاك اختلاف الحرفين، وهذا اختلاف الحركتين.
1 مطلع قصيدته في مدح مساور بن محمد الرومي.
الديوان 1/ 164 ومنه أصلحنا البيت.
الحل: الأمر العظيم. التبريح: الجهد والشدة. الرشأ. ولد الظبية. الشح: نبات طيب الرائحة.
56-
قال المصنف: فأما التجنيس1 فهو أن يكون اللفظ واحدا والمعنى مختلفا، وهذا ينقسم إلى أقسام يدخل فيها ما هو التجنيس الحقيقي وما يشبه به.
قال: وقد يظن أن قول أبي تمام:
أظن الدمع في خدي سييقى
…
رسوما من بكائي في الرسوم
من هذا الباب نظرا إلى مساواة اللفظ، وهو غلط؛ لأن المعنى غير مختلف فيهما، ومن شرط التجنيس وما يشابهه اختلاف المعنى مع تماثل اللفظ.
ثم قال: فمثال التجنيس الحقيقي قول أبي تمام:
من القوم جعد أبيض الوجه والندى
…
وليس بنان يجتدى منه بالجعد2
قال: الجعد: السيد، ويقال للبخيل إنه لجعد البنان. قال ومثل قوله:
كم أحرزت قضب الهندي مصلتة
…
تهتز من قضب تهتز في كتب
1 المثل السائر 1/ 342 وما بعدها بإيجاز.
2 من قصيدة يمدح بها حفص بن عمر الأزدي.
الديوان 131.
بيض إذا أنتضيت من حجبها رجعت
…
أحق بالبيض أبدانا من الحجب1
قال فالقضب: السيوف، والقضب: القدود، والبيض: السيوف، والبيض: النساء2.
أقول إن لفظتي قضب في البيت الأول، ولفظتي البيض في البيت الثاني، خارجة عن باب التجنيس بالكلية؛ لأن القضب جمع قضيب، وهو العود الرشيق من الشجرة، هذا هو حقيقة هذا اللفظ في أصل وضعه، وإنما سمي السيف به مجازا أيضا.
ولا تظن أن تسمية السيف قضيبا من حيث كان قاطعا، من القضب وهو القطع، فيكون فعيل بمعنى فاعل، كقدير وعليم؛ لأنهم لو كانوا أرداوا ذلك لسمو السيف العظيم العرض قضيبا، وما رأيناهم سموه بذلك، وإنما سموا به السيف اللطيف.
ومثل ذلك البيض فإنها ليست من أسماء النساء، والبيضاء ومرأة لفظتين مترادفتان كالمؤمن والهكوك3 ونحوهما، ولا البيض من أسماء السيوف
1 أصلحتا البيتين من المثل السائر ومن الديوان10 والبيتان من قصيدته في مدح المعتصم لما فتح عمورية ومطعلها:
السيف أصدق أنباء من الكتب
…
في حده الحد بين الجد واللعب
2 المثل السائر 1/ 344 ونص عبارة الأثير: "فالقضيب السيوف والقضب القدود على حكم الاستعارة، وكذلك البيض السيوف، والبيض النساء.
3 من معاني المؤمن المصدق والواثق والخاضع وقابل الشريعة.
ومن معاني الهكوك المكان الغليظ الصلب أو السهل ضد. والسمين والماجن.
ولا سمعنا أن الأبيض اسم السيف، كما أن الليث اسم الأسد، وإنما البيض عبارة عن أشياء ذوات بياض فقط، ثم استعيرت اللفظة للسيوف والنساء صفة لا اسما وهذا أمر خارج عن باب التجنيس، ولو كان هذا من التجنيس لوجب إذا قيل في الليل أسود وفي الجنة سوداء وفي أسود من قولهم عندي الأسودان أن يكون هذا تجنيسا، ولم يقل ذلك أحد؛ لأن هذه الصفات تختلف موصوفاتها ولا تختلف هي.
فلئن كان مثل هذا تجنيسا، فليكن بيت أبي تمام الأول تجنيسا؛ لأن رسوم الدمع هي مجارية وآثاره، ورسوم الدار جمع رسم وهو مصدر رسمت الدار، أي عفيتها قال:"أمن رسم دار مربع ومصيف" وهذا أشد اختلافا من البيض والبيض، والقضب والقضب.
57-
قال المصنف: ومن التجنيس أيضا قول أبي تمام:
أناس إذا ما استلحم الروع صدعوا
…
صدور العوالي في صدور الكتائب1
قال فلفظ الصدور في البيت واحد والمعنى مختلف.
1 المثل السائر: 1/ 344 من قصيدة لأبي تمام في مدح أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي مطلعها:
على مثلها من أربع وملاعب
أذبلت مصونات الدموع السواكب
صدعوا: شققوا. العوالي: الرماح. الكتائب: الجيوش.
أقول: وهذا أيضا من القرار الأول الذي قلنا إنه ليس بتجنيس؛ لأن الصدر اسم لهذا العضو المخصوص، لكنه لما كان هو مقدم الإنسان، نقل إلى صدور العوالي وهي رءوسهما وما يتقدم منها، وإلى صدور الكتائب وهي ما يتقدم منها أيضا، فالمعنى واحد في الموضوعية، وإذا اتحد المعنى خرج عن باب التجنيس.
58-
قال المصنف: ومن أقسام التجنيس أن يقع الاختلاف في الوزن والتركيب بحرف واحد، كقول محمد بن وهيب:
قسمت صروف الدهر بأسا ونائلا
…
فمالك موتور وسيفك واتر1
أقول إذن إدخال هذا البيت في التجنيس، من ظريف الأشياء، فإن المعنى في الكلمتين واحد، وإنما يختلف الفاعل وصيغة المفعول كالمضروب، ولو كان هذا تجنيسا لوجب أن يكون قول القائل:"ضرب زيدا بالعصا ضربا فلق المضروب بالضارب" قد تضمن لتجنيس في أربعة مواضع: الفعل، والمصدر، واسم الفاعل، واسم المفعول، وهذا مما لم يذهب إليه ذاهب.
1 المثل السائر: 1/ 355.
59-
قال المصنف في باب الموازنة: مما جاء في الموازنة شعرا قول الأول1:
إن يعتلوك فقد ثللت عروشهم
…
بعتيبة بن الحارث بن شهاب
بأشدهم بأسا على أعدائهم
…
وأعزهم فقدا على الأصحاب
فإن بأسا وفقدا على وزن واحد.
أقول إنه قال في أول قسم الألفاظ المركبة إن صناعة تركيب الألفاظ والمعاني تنقسم إلى ثمانية أقسام، منهما السجع وهو يختص بالمنثور، ومنهما التصريع وهو مختص بالمنظوم، ومنهما التجنيس وهو عام لهما، ومنهما الموازنة وهي تختص بالمنثور2.
وهو هنا يذكر أن في الشعر موازنة، وذلك نقض ما قدمه.
60-
قال المصنف في الكلام عن الصناعة المعنوية: وصاحب هذا الفن لا يحتاج إلى ما ذكره الحكماء في علم المنطق في الشعر. وقد قرأت كلام أبي على بن سينا في المنطق، ما قاله في الشعر فوجدته يقول إن ذلك
1 المثل السائر 1/ 380 والبيتان لربيعة بن عبيد بن سعد بن جذيمة بن مالك بن نصر بن قعين أحد بني أسد. وربيعة هذا هو أبو ذؤابة الأسدي. وقد نسب الشعر في حماسة أبي تمام 1/ 354 لرجل من بني نصر بن قعين. وفي الحماسة والمثل السائر "على أصحابه" بدلا من "على أعدائهم".
2 المثل السائر 1/ 271.
يورد على مقدمتين ونتيجة. قال وقد كان ابن سينا ينظم الشعر ولا يرتبه عند إفاضته في صوغه بالأصالة؛ لأنه لم تخطر المقدمتان والنتيجة له ببال، ولو أنه استحضر المقدمتين والنتيجة، ثم أتى بالنظم والنثر بعدهما لم يأت بشيء ينتفع به، وإنما هذه فقافع وألفاظ طول القوم بها كتبهم1.
أقول: هذه جناية عجب الإنسان بنفسه، وذلك أن الإنسان يدعوه فرط اعتقاده في نفسه، وشغفه بما يخطر له أن يتكلم على قوم لا يعرف أقوالهم، ولا يحصل معنى اصطلاحاتهم، فضلا عن أن يبلغ رتبتهم، ويترقى في درجتهم، إلى أن ينقض عليهم، فيقع هذا الموقع.
وليس مراد القوم بالشعر ما يتوهمه.
1 ملخص من المثل السائر 2/ 5 قال ابن الأثير: اعلم أن المعاني الخطابية قد حصرت أصولها، وأول من تكلم في ذلك حكماء اليونان، غير أن ذلك الحصر كلي لا جزئي، ومحال أن تحصر جزئيات المعاني وما يتفرع عليها من التفريعات التي لا نهاية لها
…
ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا، وانساق الكلام إلى شيء ذكره لأبي علي بن سينا في الخطابية والشعر، وذكر ضربا من ضروب الشعر اليوناني، وقام فأحضر كتاب الشفاء لأبي علي ووفقني على ما ذكره، فلما وقفت عليه استجهلته، فإنه طول فيه وعرض، كأنه يخاطب بعض اليونان، وكل الذي ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئا.
ثم مع هذا جميعه فإن معول القوم فيما يذكر من الكلام الخطابي أنه يورد على مقدمتين ونتيجة، وهذا مما لم يخطر لأبي سينا ببال فيما صاغه من شعر وكلام مسجوع، فإن له شيئا من ذلك في كلامه، وعند إفاضته في صوغ ما صاغه لم تخطر المقدمتان والنتيجة له ببال. ولو أنه فكر أولا في المقدمتين والنتيجة، ثم أتى بنظم أو نثر بعد ذلك لما أتى بشيء ينتفع به، ولطال الخطب عليه.
بل أقول شيئا آخر: وهو أن اليونان أنفسهم لما نظموا ما نظموه من أشعارهم لم ينظموه في وقت نظمه وعندهم فكرة في مقدمتين ولا نتيجة، وإنما هذه أوضاع توضع، وتطول بها مصنفات كتبهم في الخطابة والشعر، وهي كما يقال فقاقع ليس لها طائل، كأنها شعر الإبيوردي.
والذي يريدونه بالشعر يأتي في كل قياس مخيل يعلم العاقل كذبه، لكنه يحدث له مع ذلك نوع قبض أو بسط أو إقدام أو إحجام، كما يقال: لا تأكلوا العسل، فإنه ثمرة مقيئة1، أو يقال للحلواء الرطبة المزعفرة لا تأكلها فإنها غائط. فالعقل والحس يكذبان هذا الكلام الذي هو في قوة قياس، صورته هكذا: كل غائط فهو غير مأكلة. ومع علمه بكذبه ينقبض عن الأكل. وأكثر إقدام الناس وإحجامهم بسبب هذه التخيلات والأوهام، وهي الأقيسة الشعرية التي يذكرونها، وإنما سميت شعرية لمشابهتها مقاصد الشعراء في تخيلاتهم وتزويقاتهم.
وأما توهمه أن الشاعر يحتاج وقت نظم الشعر إلى استعمال مقدمتين ونتيجة، وقوله إن ابن سينا كان ينظم شعرا ولا يرتب المقدمتين وقت نظمه، فتوهم بعيد، وإن كان القوم عنده بهذه الصورة ويراهم بهذه العين فإنه لم يعرفهم:
61-
قال المصنف: وقد تصفحت كتاب الخصائص لأب الفتح ابن جني، فوجدته قد ذكر في المجاز شيئا يتطرق النظر إليه، وذلك أنه قال: لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمعان ثلاثة: وهي الاتساع، والتشبيه والتوكيد،
1 ثمرة مقيئة، يقفق هذا مع قول الشاعر:
تقول هذا مجاج النحل تمدحه
…
وإن ذممت فقل قيء الزفابير
وكان بالأصل "مرة مقيئة".
فإن عدمت هذه الثلاثة كانت الحقيقة البتة. فمن ذلك قوله تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} 1.
فهذا الكلام اجتمعت فيه المعاني الثلاثة المذكورة.
أما الاتساع فإنه زاد في أسماء الجهات والمحال اسما هو الرحمة.
وأم التشبيه فإنه شبه الرحمة -وإن لم يصح الدخول فيها- بما يصح الدخول فيه.
وأما التوكيد فإنه أخبر عما لا يدرك بالحاسة بما يدرك بالحاسة تعاليا بالمخبر عنه، وتفخيما له، إذ صير بمنزلة ما يشاهد ويعاين.
قال والكلام عليه من ثلاثة وجوه: أولها أنه جعل وجود هذه المعاني الثلاثة سببا لوجود المجاز، وعدمها سببا لعدمه، وهذا خطأ، فإنه ليس وجود "هذه الثلاثة سببا لوجود"2 المجاز بل وجود واحد منه أيها كان سبب وجوده. وأيضا فلو كان وجود هذه المعاني الثلاثة سببا لوجود المجاز لكان عدم أحدها أيها كان سببا لعدمه، كما إذا قلنا: لا يوجد الإنسان إلا بأن يكون حيوانا ناطقا، والحيوانية والنطق سبب وجود الإنسان، فإذا عدم واحد منهما بطل أن يكون إنسانا، وكذلك كل صفة تكون مقوية لوجود شيء من الأشياء، كان وجودها يوجب وجود ذلك الشيء، وعدم واحد منها يوجب عدمه3.
1 بالأصل "وأدخلناهم".
2 ما بين قوسين زيادة يقتضيها السياق.
3 المثل السائر 2/ 85 وهنا زيادات ليست بالمثل السائر؛ لأن ابن الأثير قال: هذا مجموع قول أبي الفتح رحمه الله من غير زيادة ولا قفص. وانظر يتطرف إليه من ثلاثة=
أقول: ليس مراد أبي الفتح رحمه الله ما ظنه، فكيف يذهب إلى أن يقول المجازية متوقفة على اجتماع هذه الأمور الثلاثة؟ وقدحصرت ضرب أمثلة كثيرة للمجاز في كتابه هذا، وكل موضع منها مختص بواحد من هذه الثلاثة فقط، وإنما ذكر هذه الآية ليبين بها أنه قد وجد موضعا اجتع فيه الشروط الثلاثة التي يتوقف المجاز عليها لمعان ثلاثة، مثل قوله في كتاب اللمع: والكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف، فإنه لا يريد أن كل لفظة من الكلام يجتمع لها أن تكون اسما وفعلا وحرفا، إنما مراده أن كل لفظة من الكلام فإنها لا تخلو عن هذه الأنواع الثلاثة، بل تكون واحدا منها أيها كان، ولكنه يتسامح في اللفظ اعتمادا على فهم السامع، وثقة بأن مثل هذا الكلام لا يزال الناس يستعلمونه في محاوراتهم.
فأما قوله: "فإذا عدمت هذه الثلاثة كانت الحقيقة البتة لا غير" جيدا لا اعتراض عليه، لأنه لو عدم أحدها فقط لم تأت الحقيقة متعينة البتة، لأن أحد القسمين الباقيين يكفي في حسن المجاز، وإنما تتعين الحقيقة البتة إذا عدمت الثلاثة كلها.
ومن هذا الموضع يجب أن يفهم معنى قوله: "لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمعان ثلاثة" لأنه لو كان أراد اجتماع معان ثلاثة لما قال: "فإذا عدمت هذه
= أوجه. الأول أنه جعل وجود هذه المعاني الثلاثة سببا لوجود المجاز، بل وجود واحد منها سببا لوجوده. ألا ترى أنه إذا وجد التشبيه وحده كان ذلك مجازا، وإذا وجد الاتساع وحده كان ذلك مجازا. ثم إن كان وجود هذه المعاني الثلاثة سببا لوجود المجاز كان عدم واحد منها سببا لعدمه، ألا ترى أنا إذ قلنا: لا يوجد الإنسان إلا بأن يكون حيوانا ناطقا، فالحيوانية والنطق سبب لوجود الإنسان، وإذا عدم واحد منهما بطل أن يكون إنسانا، وكذلك كل صفات تكون مقدمة لوجود الشيء فإن وجودها بوجوده، وعدم واحد منها يوجب عدمه.
الثلاثة كانت الحقيقة البتة" لأن الذي لا يحسن استعماله إلا عند اجتماع عدة أشياء ينتفي حسن استعماله عند انتفاء واحد فقط من تلك الأشياء؛ لأنه إذا انتفى أحدها فقد زال اجتماع تلك الأشياء الذي جعلنا حسن الاستعمال موقوفا عليه.
وأما تمثيله بالإنسان والحيوانية والنطق فتمثيل غير مطابق لما نحن فيه، لأن حملنا كلام أبي الفتح على ما قد توهمه خطأ، إلا إن حملناه على المحمل الصحيح، فاجتماع هذه الأشياء الثلاثة التي أشار أبو الفتح إليها ليس مقوما للمجاز، ولا هي اسباب ووده، وإنما هي شرائط حسن استعماله فكيف مثل ذلك بأجزاء الماهية المقومة؟
62-
قال المصنف: الوجه الثاني أنه ذكر التشبيه والتوكيد، وكلاهما شيء واحد على الوجه الذي ذكره، لأنه شبه الرحمة وهي لا تدرك بالبصر بمكان يدخل فيه، وهو صورة تدرك بالبصر، فدخل تحت ذلك التوكيد الذي هو إخبار عما لا يدرك بالحاسة بما يدرك بالحاسة1.
أقول: إن لقوله تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} اعتبارين: أحدهما أنه جعل الرحمة ظرفا وصرح بذلك حين أتى بلفظة "في" وهي مختصة بالظرفية، والرحمة هي إرادة الثواب، والإرادة لا تكون ظرفا.
1 المثل السائر: 2/ 86 ونص عبارة ابن الأثير "بما قد يدرك بالحاسة".
والثاني أن فحوى الكلام: رحمتنا قد دخل فيها قوم، كما يقوم دارنا قد دخلها قوم، والدخول حركة مخصوصة، وكل حركة فهي مرئية بالبصر، فقد أخبر عما لا يدرك بالبصر، وأحد هذين الاعتبارين مغاير للآخر، ألا ترى أن قولهم "فلان قد عضه الدهر" فحواه أمر يدرك بالبصر وهو العض فلأجل تغاير هذين الاعتبارين جعلهما أبو الفتح رحمه الله قسمين.
63-
قال المصنف: على أن التوكيد ها هنا لا أعلم ما أراد به، لأنه لا يؤتى به في اللغة العربية إلا لمعنيين: أحدهما أنه يرد بألفاظ محصورة، نحو نفسه وعينه وكله وغير ذلك مما هو مذكور في كتب النحاة، والآخر أنه يرد على وجه التكرير، كقولك قام زيد قام، زيد فكرر اللفظ تحقيقا وتوكيدا للمعنى المقصود، وأبو الفتح لم يرد أحد هذين القسمين، فلا يكون له معنى إلا أن يريد إبراز المعنى الموهوم إلى صورة المشاهدة، وقد عبر عنه بالتوكيد، فيكون ذلك هو التشبيه بعينه، فلا حاجة إلى إيراده بالذكر1.
أقول: ما أراد أبو الفتح رحمه الله شيئا مما توهمه هذا الرجل، وقد اعترف بأنه لمي فهم مراده مع ظهوره. وذلك أن أحد الأغراض الصحيحة في نقل العبارة عن موضعها الأصلي إلى غيره تأكيد المعنى على وجه يفعل في نفس السامع مالا تفعله الحقيقة، كقوله تعالى:{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} 2
1 المثل السائر: 2/ 86 بتلخيص.
2 سورة الرحمن 31 الثقلان: الإنس والجن.
ومراده سنقصد، ولم يقل ذلك، لأن ذلك، لأن في الفراغ معنى ليس في القصد، وهو التهديد والوعيد، فإن قول الملك لصاحب الجريمة: سأفرغ لك يتضمن من التخويف مالا يتضمنه قوله سأقصد لك.
وقوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَب} 1 ومراده ذهب، لكن "سكت" آكد لما يريده، لأن فيه دليلا على توقع عود غضبه إذا عاودوا النكر في عبادتهم العجل، كما أن الساكت يتوقع كلامه.
وكقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} 2 مراده عمدنا، لكن "قدمنا" آكد وأبلغ، كأنه كان بإمهاله لهم كالغائب عنهم، ثم قدم منهم على ما لا ينبغي، فجازاهم بحسبه، فهذا هو مراد الشيخ أبي الفتح رحمه الله.
64-
قال المصنف: والوجه الثالث أنه قال: وأما الاتساع فإنه زاد في أسماء الجهات والمحال اسما هو الرحمة. قال: ويلزم على قياس هذا القول أن يكون "جناح الذل" في قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل} هكذا يكون قد زاد في أسماء الطيور اسما هو الذل، وأن يكون قول أبي تمام:
لبست سواه أقواما فكانوا
…
كما أغنى التيمم بالصعيد
1 سورة الأعراف: 154 {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} .
2 سورة الفرقان: 23.
زيادة في أسماء اللباس، وهو الإنسان1.
أقول: إن هذا الذي ألزمته أبا الفتح رحمه الله لا يمنع من التزامه، بل هو قياس مطرد في جميع التوسعات، فما الذي أنكرت من ذلك؟ وإنما يصح اعتراضك لو ألزمته شيئا لا يقدر على التزامه، ويحتاج إلى بيان الفرق بينه وبين المسألة التي الكلام فيها، فأما إذا كان الكل ينساق سياقة واحدة فأي محذور يلزم أبا الفتح من ذلك؟
65-
قال المصنف: قد نظرت في كتاب "أصول الفقه" للغزالي فوجدته قد قصم المجاز إلى أربعة عشر قسما. قال: وهذه الأقسام الأربعة عشر ترجع إلى ثلاثة أقسام: وهي التشبيه، والتوسع، والاستعارة. قال: والتقسيم لا يصح في شيء إلا إذ اختص كل قسم من الأقسام بصفة لا يختص بها غيره2.
أقول أنا قبل النظر في اعتراضاته على الغزالي "لا بد من تقديم مقدمة"3 وهي أنه لا بد في سائر المجاات من علاقة بين الأصل والمنقول عنه والفرع المنقول إليه، وإلا لم تكن تلك اللفظة مجازا من تلك الحقيقة، بل تكون وضعا جديدا لا تعلق له بغيره، وليس الكلام في ذلك، فالأصوليون قد
1 المثل السائر: 2/ 87 بتلخيص.
2 المثل السائر: 2/ 88.
3 كانت بالأصل تقدم مقدمة.
اتفقوا على أنه لا بد من علاقة وارتباط في الجملة، لكنهم قسموا تلك العلاقة وذلك الارتباط أقساما كثيرة، فقالوا: قد تكون تلك العلاقة باعتبار كذا، وقد تكون باعتبار كذا إلى آخر الأقسام.
قال هذا الرجل: إن تلك الاعتبارات التي يذكرونها متداخلة، لا لأنه قد شملها الأمر الأعظم وهو العلاق من حيث هي علاقة، بل لأنها في خصوصياتها التي ابتدعها الأصوليون متداخلة، وقد صحت اعتراضاته، وإلا فهي ساقطة.
66-
قال المصنف: فالقسم الأول من الأقسام التي ذكرها الغزالي وهو تسمية الشيء باسم ما يشاركه في الخاصية كقولهم للشجاع أسد، وللبليد حمار. قال: وهذا القسم إما داخل في الاستعارة إن ذكر المنقول إليه فقط، كقولك ركبت أسدا، أو في التشبيه المحذوف الأداة إن ذكر المنقول والمنقول إليه معا، كقولك زيد أسد1.
أقول: إنا لا نخالفه في هذا، ولكن ننظر فيما يقوله فيما بعد.
67-
قال المصنف: والقسم الثاني تمسية الشيء باسم وما يؤول إليه، كقوله تعالى:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} وإيما رأي أنه يعصر عنبا. قال: وهذا القسم داخل في القسم المذكور قبله بصفة المشابهة بين المنقول منه والمنقول إليه، وهو
1 المثل السائر: 2/ 88.
من باب الاستعارة، بل هذا أوغل في المشاهبة منها، لأن الخمر من العنب، وليس الأسد من الرجل، ولا الرجل من الأسد1.
أقول: هذا القسم خارج عن القسم الذي قبله، لأن القسم الذي قبله هو تسمية الشيء باسم ما يشابهه في خاصيته، كتسمية الشجاع أسدا؛ لأن الشجاعة من أخص صفات الأسد، ولذلك لم يسموا الأبرخا أسدا؛ لأنه لم يكن البخر من صفات الأسد الخاصة، فالخمر والعنب ليت شعري في أي الخواص اشتركا حتى يقول إن هذا القسم داخل في القسم الذي قبله؟.
فأما قوله: بل هذا أوغل في المشابهة من الأسد للشجاع، لأن الخمر من العنب، وليس الأسد من الإنسان، فإنه يقال له ليس كون الخمر من العنب مما يقتضي المشابهة التي ينقل لأجلها اسم أحدهما إلى الآخر، فإن الدقيق من الحنطة، ولا يجوز أن يقال إنه لما كان منها كان أوغل في التشابه من استعارة الأسد للشجاع، فوجب أن يطلق على الحنطة لفظ الدقيق.
وتحقيق هذا الموضع هو أن كون الشيء بعنطرة من غيره، أو يستحيل غيره إليه، لا يتقضي أن يكون بين الأمرين مشابهة في أمر خاص لأحدهما قد اشتهر به، وضرب المثل به في فنه، كما اشتهر الأسد بالشجاعة وضربت به الأمثال فيها، فلذلك نقل اسم الأسد إلى الشجاع، للمشابهة في ذلك الأمر الخاص، ولم ينقل اسم الدقيق إلى الحنطة، ولا نقل اسم الخمر إلى
1 المثل السائر: 2/ 89.
العنب، بالاعتبار الذي به نقل اسم الأسد إلى الشجاع، بل باعتبار آخر وهو تسمية الشيء باسم ما يئول إليه.
وقد حقق الأصوليون هذا القسم تحقيقا أزيد من هذا، فقالوا: من أقسام المجاز إطلاق اسم السبب على المسبب، ولا يثبت في العلوم الحكمية لأن العلل أربعة: الفاعل، والصورة، والمادة، والغاية. وكانت أنواع هذا القسم أربعة:
الأول تسمية الشيء باسم العلة الفاعلية إما حقيقة أو ظنا، كتسمية المطر سماء الثاني تسمية الشيء باسم العلة الصورية، كتسميتهم اليد بالقدرة، الثالث تسمية الشيء باسم العلة القابلية، كقولهم سال الوادي، يعنون المطر، الرابع تسمية الشيء باسم العلة الغائية، كتسمية العقد بالنكاح، والعنب الخمر.
68-
قال المصنف: والقسم الثالث تسمية الشيء باسم فرعه، كقول الشاعر.
وما العيش إلا نومة وتشوق
…
وتمر على رأس النخيل وماء
فسمى الرطب تمرا. وهذا القسم والذي قبله سولا، لأن هناك سمي النب خمرا، وها هنا سمي الرطب تمرا؛ لأنه أصل التمر، وهما داخلان في القسم الأول.
قال وهب أن الغزالي لم يحقق أمر المجاز، وقسمه أقساما لا حاجة إليها،
ألم ينظر إلى هذين القسمين اللذين هما العنب الخمر، والرطب والتمر، ويعلم أنهما شيء واحد، لا فرق بينهما؟ 1.
أقول: بل بينهما فرق ظاهر لو أمعنت النظر؛ لأن العنب إذا صار خمرا فقد استحال من صورة إلى صورة مباينة للأولى في جميع أحوالها، إلا فيما لا بد من الاشتراك فيه كالجسمية ونحوها، فهو كالماء يستحيل هواء، والهواء يستحيل نارا، والرطب إذا صار تمرا لم يستحل إلى صورة أخرى بل هو ذلك الجسم بعينه، إلا أنه يبس وجف بعد أن كان رطبا، كاللحم الغريض يصير قديدا، والتين الرطب يصير يابسا، فإنما تغير عنه عرض واحد، وهو الرطوبة التي تبدلت باليبوسة لا غير. فبين الأمرين فرق واضح، وبحسب ذلك الفرق جعل أحد القسمين غير الثاني.
فأما قوله: وهما داخلان في القسم الأول أيضا: فإنه ليس بداخل في القسم الأول، لأن معتمد القسم الأول المشابهة في الوصف الأخص، ولا مشابهة بين الإنسان والنطفة.
69-
قال المصنف: والقسم الخامس تسميته بما يدعو إليه، كتسميتهم الاعتقاد قولا، نحو قولهم هذا يقول بقول الشافعي، أي يعتقد اعتقاده.
قال: وهذا القسم يدخل في القسم الأول أيضا، لأن بين الاعتقاد والقول مناسبة كالمناسبة بين السبب والمسبب، والباطن والظاهر2.
1 المثل السائر: 2/ 89.
2 المثل السائر: 2/ 90.
أقول: إن كان يعني بهذه المناسبة الاشتراك في صفة خاصة، كاشتراك الشجاع والأسد في الشجاعة، فليس الأمر كذلك؛ لأن الاعتقاد القلبي مثل هذه المشاركة، وإن أراد مناسبة أعم من هذا أي بينهما علاقة وارتباط، وهو الذي أراده؛ لأنه مثله بمناسبة السبب للمسبب، فهذا مسلم. ولكن نحن لم نمنع أن بين المجاز وبين موضوعه الأصلي مناسبة في الجملة، وكيف نمنع ذلك، ولولا المناسبة لم يكن مجازا؟.
فإن كان يحاول أن يرد الأقسام كلها إلى قسم واحد لأجل أن الأقسام تشترك في أن بين المنقول إليه والمنقول عنه مناسبة، فإنه لم يفهم مراد الأصوليين في هذا الموضع، وما هو إلا مثل أن يقول لهم: لا تقسموا الحكم إلى واجب وندب ومحظور ومكروه؛ لأن هذه الأقسام قد اشتركت في أنها اقتضاء أمر من المكلف. فالواجب ما اقتضى فعله لا بد منه، والحرام ما اقتضى تركه لا بد منه، والندب ما اقتضى فعله مع تجويز تركه، والمكروه ما اقتضى تركه مع تجويز فعله، فهل يجوز لقائل: لما كان الاقتضاء يعد هذ الأقسام، وتتباين خصوصيتها، فلا تفصلوها، ولا تجعلوها أقساما متعددة؟.
70-
قال المصنف: والقسم السادس تسمية الشيء باسم مكانه، كقولهم للمطر سماء لأنه ينزل منها. قال: وهذا القسم أيضا داخل في الأول للمناسبة
بين المنقول والمنقول إليه. قال: على أن تسمية المطر سماء يغلب على الظن أنه حقيقة وليس بمجاز1.
أقول: قد بينا أنه لابد من مناسبة ما، ولكن هذا القسم ليس بداخل في القسم الأول؛ لأن مناسبة القسم الأول هي المشابهة، كالحمار والبليد، والأسد والشجاع، ولا مشابهة بين المطر والفلك، فإنه توهم أنه لأجل العلو، فالمطر الذي يمكث في الأرض أياما ما يسمى سماء، قالوا: ما زلت أطأ السماء حتى جئتك. ونحن قد بينا لم سموا المطر سماء. وأما قوله إنه حقيقة فيه فقريب، ولا يبعد أيضا ذلك عندي.
71-
قال المصنف: والقسم السابع تسميتهم الشيء باسم ما يجاوره، كقولهم للمزادة راوية، وإنما الراوية الجمل الذي يحملها. قال: وهذا القسم من باب التوسع لا من باب التشبيه، ولا من باب الاستعارة، لأن على قياسه ينبغي أن يسمى الجمل زاملة؛ "لأنه يحملها"2.
أقول: إنا قد استظرفنا اعترافه أن هذا القسم خارج عن الأول، فعجبنا منه كيف لم يعده إليه بأمر ما يتعلق به، مثل أن يقول إن المزادة ينتفع به، والبعير ينتفع به، فتشابها في عموم الانتفاع بهما، ونحو ذلك من التعلقات الضعيفة التي جرت عادته أن يتمسك بها.
1 المثل السائر: 2/ 90.
2 المثل السائر: 2/ 91 وما بين القوسين زيادة من المثل السائر.
واعلم أن من الأصوليين من جعل هذا القسم مفردا برأسه، وقال إن المجاورة علاقة ما بين المتجاورين، فنقل بطريقها اسم المجاور إلى صاحبه، وهؤلاء يلزمهم قوله: فهلا سموا الجمل مزادة لأنه يحملها؟. لأن استعمال اللفظ في معناه المجازي عنده لا يؤخذ قياسا في كل موضع، ألا يرى أنهم يطلقون النخلة على الرجل الطويل، ولا يطلقونها على غيره من الطوال؟ ولأنه لو كفى في استعمال اللفظ المجازي مجرد علاقة وصلة كيف كانت لقالوا للأبخر أسد، لأن الأسد أبخر، فلم لم يقولوا ذلك؟ علمنا أن هذا أمر لا يطرد، وأيضا فإن هذا الرجل يلزمه ما ألزمهم؛ لأنه إن كان يلزمهم لما قالوا إن هذا المجاز لأجل المجاورة أن يسمى الجمل زاملة أيضا على طريق الاتساع.
ومن الأصوليين من جعل هذا القسم، من أقسام المجاز بسبب العلة القابلية، وقال إنه بمنزلة تسمية الشراب كأسا؛ لأن الكأس قابل للشراب.
72-
قال المصنف: القسم الثامن تسمية الشيء باسم جزئه، كقولهم: أبعد الله وجهه، وإنما يريدون سائر جثته.
قال: وهذا القسم داخل في القسم الأول، وهو تسمية الشيء باسم فرع1.
أقول: قد بينا أنه لا يدخل هذا وأمثاله في القسم الأول بوجه من الوجوه أصلا.
1 المثل السائر: 2/ 91.
وقد قال الأصوليون إنه قد يسمى الجزء باسم الكل، كإطلاق اللفظ العام، مع أن المرد به الخصوص، نحو قوله تعالى:{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 1. والمراد بعضهم، وقد يسمى الكل باسم الجزء، كما يقال الزنجي أسود، والمراد أسود البشرة، لكن المجاز الأول أدخل في باب المجاز وأولى من الثاني؛ لأن الجزء يلازم الكل، وأما الكل فلا يلزم الجزء.
73-
قال المصنف: والقسم التاسع تسمية الشيء باسم ضده، كقولهم جون للأبيض، وهو اسم للأسود، قال: وهذا ليس من المجاز، بل هو حقيقة في الموضعين، مثل شمت السيف إذا أغمدته وسللته2.
أقول إن تسمية الشيء باسم ضده قد ذكره الأصوليون، وقالوا إنه كقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 3 وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} 4. وما رأيناهم ذكروا هذا المثال الذي حكاه، ولا يبعد عندي أن يكون ما اعترض به عليه صحيحا، فإن أكثر أهل اللغة قالوا إن الجون من الأضداد، وليس إفساد المثال موجبا إفساد المثل عليه، ومن الناس من جعل قوله تعالى: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} من باب المجاز
1 سورة التوبة: 5 {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} .
2 المثل السائر: 2/ 91 قال ابن الأثير: لأن من الأسماء المشتركة، كقولهم شمت السيف إذا سللته، وشمته إذا غمدته، فدل الشيم على الضدين معا بالوضع الحقيقي.
3 سورة الشورى: 40.
4 سورة البقرة: 194.
لا التشبيه، وهو الذي يسمى التسعارة، وهو القسم الأول الذي حاول هذا الرجل أن يعيد إليه أكثر هذه الأقسام، وقالوا إن جزاء السيئة يشبه السيئة في كونها سيئة بالنسبة إلى من وصل ذلك الجزاء إليه، وليت هذا الرجل لما حاول أن يعيد الأقسام إلى القسم الأول بينه في هذا القسم، فهذه المشابهة أوردها، فكان يأتي بشيء له ذوق.
74-
قال المصنف: والقسم العاشر تسمية الشيء بفعله، كتسمية الخمر مسكرا، قال: وهذا القسم داخل في القسم الأول، وأي مشاركة أقرب من هذه المشاركة؟ فإن الإسكار صفة لازمة لخمر، وليست الشجاعة صفة لازمة لزيد، لأنه يمكن أن يكون زيد ولا شجاعة، ولا يمكن أن يكون خمر ولا إسكار، ألا ترى أنها لم تسم خمرا إلا لإسكارها، فإنها تخمر العقل أي تستره1.
أقول: إن هذا الرجل لم يعلم المراد بهذا القسم، فإن السكر هو الفاعل، من أسكر يسكر، فهو مسكر، كالضارب فاعل من ضرب يضرب فهو ضارب، ولا يكون الإنسان ضاربا إلا إذا ضرب، وأما قبل وقوع الضرب منه وبعد انقضاء الضرب لا يكون حقيقة؛ لأنه ليس في تلك الحال بضارب، والقوم قالوا إن الخمر تسمى مسكرا قبل ألا تشرب وتسكر شاربها، فقد
1 المثل السائر: 2/ 92.
سموا الشيء بما من شأنه أن يفعله، وبأثره قبل أن يفعله ويؤثره، وهذا هو المجاز، وليس يصلح أن يجاب عن هذا بما ذكره من قوله هذا داخل في القسم الأول، وأي مشاركة أقرب من هذه المشاركة؛ لأن الإسكار ليس صفة لازمة للخمر، وإنما الصفة اللازمة لها القوة على الإسكار.
والقوم ما قالوا إن المجاز في قولنا الخمر قوية على الإسكار، بل في قولنا الخمر مسكرة وبهذا بطل قوله لا يمكن أن يكون خمر ولا إسكار، وقد يمكن أن يكون زيد ولا شجاعة، فإنه ظن أن الإسكار الذي يريدونه ها هنا هو الإسكار بالقوة، وليس هو مرادهم، بل مرادهم الإسكار بالفعل، وباعتباره جعلوا قولنا الخمرة مسكرة مجازا.
ومما يوضح غلطه في هذا الموضع أنه لو كان الإسكار صفة لازمة للخمر، ولا توجد خمر إلا وهي مسكرة على الوجه الذي قاله وادعاه، لكان إطلاق لفظة المسكر على الخمر حقيقة، كإطلاق لفظة الليث على الأسد، فكيف يكون هذا القسم داخلا في القسم الأول، كقولنا للشجاع أسد، وللبليد حمار؟ وأين المماثلة بين هذا الموضع وبين ذلك القسم؟ فإن ذلك القسم عبارة عن شيئين تشابها في صفة خاصة بأحدهما، فنقل اسمه إلى ما شابهه، وليست الخمر مشاركة في شيء آخر يسمى مسكرا في معنى الإسكار، فنقل اسمه إليها.
75-
قال المصنف: والقسم الحادي عشر تسمية الشيء بكله، كقولك في جواب سائل سألك: ما فعل زيد؟ فقلت: القيام. فإن القيام فإن القيام جنس يتناول جميع أنواعه.
قال: وهذا القسم لا ينبغي أن يدخل في أقسام المجاز، لأن القيام لزيد حقيقة، فإن قلت يشتمل على جميع أنواعه من الماضي والحاضر والمستقبل، قلت فهذا من أقرب أقسام المجاز مناسبة، لأنه إقامة المصدر مقام الفعل الماضي، والمصدر أصل الفعل، وعلى ذها فإن القسم داخل في القسم الأول1.
أقول: إنا قد ذكرنا تسمية الجزء بالكل كيف يكون، وضربنا لذلك مثالا، فأما هذا الذي ذكره فإنه شيء غلط، قاله أبو الفتح عثمان بن جني في كتاب الخصائص، ووهم فيه؛ لأنه ظن أن المصدر لفظ يدل على أشخاص تلك الماهية، وليس بصحيح، بل المصدر لفظ يدل على مجرد الماهية، وهو القدر المشترك بين الواحد والكل.
فأم الماهية من حيث هي، فلا تستلزم الوحدة والكثرة، لأنها لو استلزمت إحداهما لما كانت مجردة من حيث هي، وقد قرضناها كذلك، فإذن لا المصدر ولا الفعل المشتق من المصدر يدلان على الكثرة وعلى
1 المثل السائر: 2/ 93.
الوحدة، لكن أبا الفتح ذكر مثل هذا القسم بمثال مطابق فقال: أنا إذا قلت ضربت عمرا، فإني إنما ضربت بعضه.
فأما هذ المصنف فلم يعترض على الكلام كما ينبغي، أما أولا فلأنه ظن أن المصدر ههنا يقوم مقام الفعل الماضي، وليس بصحيح؛ لأنك إذا قلت فعل زيد القيام فقد أقررت أنه صدر عنه أثر ما مفعول حسب صدور الآثار عن المؤثرات، والفعل الماضي ليس بأثر يصدر عن المؤثر، ولا المستقبل أيضا، ولا الحاضر؛ لأن الفعل الذي هو قسيم للاسم والحرف لو كان أثرا لمؤثر لكان اسما لا فعلا.
وأما ثانيا فلأنه لو صح ما قاله لما كان هذا القسم داخلا تحت القسم الأول، لأنه كون أصلا له لا يقتضي وقوع المشابهة بينهما بنقل اسم أحدهما للآخر، وقد قررنا ذلك فيما تقدم.
76-
قال المصنف: القسم الثاني عشر الزيادة في الكلام لغير فائدة، كقوله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُم} معناه فبرحمة من الله. قال: وهذا خطأ، أما أولا فإن المجاز هو دلالة اللفظ على غير ما وضع له في أصل اللغة، وهذه الآية دالة على الوضع اللغوي المنطوق به في أصل اللغة.
وأما ثانيا: فإن لفظة "ما" ههنا غير خالية من المعنى، لأنها تعطي من
الفخامة والفصاحة والجزالة ما لا تعطي الآية عند فقدها، كقول الزباء "ولكنه شيمة ما أناس"1 قال وهذا شيء لا يعرفه إلا أهله.
والغزالي معذور في ألا يعرف ذلك، لأنه ليس من فنه2.
أقول إن ما قاله الغزالي وغيره في هذا الموضع مأخوذ من قول شيخنا أبي عبد الله البصيري المتكلم، فإنه قال: الحقيقة ما انتظم لفظها معناها من غير زيادة ونقصان ولا نقل، والمجاز ما لا ينتظم لفظه معناه إلا لزيادة ونقصان أو نقل، كزيادة الكاف في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} 3 فإنا لو أسقطنا الكاف استقام المعنى. ومثال النقصان قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 4، فإنا إذا زدنا فيه لفظة الأهل استقام المعنى. ومثال النقل قولنا: رأيت أسدا، تعني به الرجل الشجاع، فإنه منقول من السبع.
وإذا أردنا الكلام على هذا الوجه، كان قوله "فيما رحمة" مجازا، لأنه لا ينتظم اللفظ معناه إلا بحذف "ما".
قلنا: لا نسلم أن هذا مجاز، بل هذه دالة على الوضع اللغوي المنطوق به في أصل اللغة، فيقال له أما أولا فإن القوم حدوا المجاز بحد هو موجود في هذا الموضع، ولا يجوز أن يقال لمن حد أمرا بحد: لم قلت إن هذا هذه؟ لأن القوم قد اختاروا أن يضعوا اللفظ المجاز لما كان بهذه الصفة. والمنازعة بعد ذلك لهم منازعة لفظية.
1 وردت هذه الجملة في كلمات له مع جذيمة الأبرش، قال ابن الأثير: معنى الكلام ولكنه شيمة أناس، وإنما جاءت لفظه ما ههنا تفخيما لشأن صاحب تلك الشيمة وتعظيما لأمره، ولو أسقطت لما كان للكلام هذه الفخامة والجزالة.
2 المثل السائر: 2/ 94.
3 سورة الشورى: 11.
4 سورة يوسف: 82.
وأما ثانيا فلأن "ما" في هذا الموضع حرف، والحروف لا يدخلها المجاز بالذات؛ لأنها غير مستقلة بأنفسها بالمفهومية، بل لا بد أن تنضم إلى شيء آخر لتحصيل الفائدة، فإن انضمت إلى كلام يرتبط به، ويخل إسقاطها بالمعنى المفهوم منه فالمركب حقيقة، وإلا فهو مجاز.
ولا شبهة في أن "ما" في هذا الموضع ليست مرتبطة بغيرها ارتباطا مفهوما للمعنى المطلوب.
فأما جوابه الثاني فيلزم عليه أن يكون قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل} 1 حقيقة لا تعطي من الفخامة والفصاحة ما لا تعطيه الآية عند حذفه وكذلك القول في سائر المجازات.
فإن قال إنني لم أجعل إفادة هذه اللفظة الفخامة والجزالة مخرجة لها من باب المجاز، وإنما منعت قول من قال إنه لا فائدة فيها أصلا، قيل له: فإذا اعترفت أنها من باب المجاز فقد سلمت قول الغزالي، فلأي معنى تنتقصه، وتقول هو معذور في ألا يعرف هذا؛ لأنه ليس من فنه؟ والغزالي إنما أراد بقوله إن "ما" زائدة لا معنى لها في خصوص المقصد المطلوب بالآية لا غير ذلك.
77-
قال المصنف: القسم الثالث عشر تسمية الشيء بحكمه، كقوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} فسمى النكاح هبة.
1 سورة الإسراء: 24.
قال: وهذا القسم داخل في القسم الأول، للمشابهة بين النكاح والهبة في التمكين من الانتفاع والتصرف1.
أقول: إن هذا الاعتراض الذي ذكره صحيح لا منازعة فيه، ثم إنا نقول إن تمثيل هذا القسم بالنكاح هبة فلم يسم الشيء بحكمه، بل بما يفيد مثل حكمه، وفرق بين الحكم وبين المفيد لمثل الحكم. على أن أكثر المفسرين لم يذهبوا إلى أنه سمي النكا هبة، بل جعلوا لفظة الهبة حقيقة صريحة في هذه الواقعة.
78-
قال المصنف: القسم الرابع عشر النقصان الذي لا يبطل به المعنى، كحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، نحو قوله:"ثم يرم به بريئا"2 أي شخصا، وكحذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقمه، كقوله:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي أهلها.
قال: وهذا القسم داخل في القسم الأول؛ لأن الصفة لازمة للموصوف. وقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} دل على الساكن بالمسكن.
قال: فهذه الأقسام المجاز التي ذكرها الغزالي قد انتهت في تقسيمها، وإنما يرجع إلى ثلاثة أقسام: التوسع، والتشبيه، والاستعارة3.
أقول: قد تكرر منا إيضاح غلطه في إعادة هذه الأقسام إلى القسم الأول،
1 المثل السائر: 2/ 95.
2 المثل السائر: 2/ 95 {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} سورة النساء: 112.
3 المثل السائر: 2/ 96.
الذي يتوهم عودها إليه؛ لأن الصفة لو لازمت الموصوف لما كانت من باب المشابهة الموجودة في السبع والشجاع، بل كانت بابا آخر، وكذلك الدلالة بالمسكن على الساكن، هي مجاز باعتبار آخر غير ذينك الاعتبارين.
وكل قسم من هذه الأقسام له خصوصية ينفرد بها، ويمتاز عن غيره بها، ولو أن هذا الرجل يقف على التقسيمات العقلية الدقيقة في العلوم الحكمية والكلامية التي يمتاز كل قسم منها على الآخر بما هو أدق من الشعر، ولا يفهمه إلا الراسخون في العلم، لكانت هذه التقسيمات في امتياز بعضها عن بعض أجلى من فلق الصبح، لأنه ليس فيها من الغموض ما يوقع في مثل هذا الغلط.
على أنه زعم أنه قد أعادها إلى ثلاثة: وهي الاستعارة، والتشبيه، والتوسع، ولم يعد منها إلى التشبيه شيئا أيضا.
79-
قال المصنف: ومن شرط بلاغة التشبيه أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم، كما قال بعض كتاب1 مصر في تشبيه حصن من حصون الجبال:"هامة عليها من الغمامة عمامة، وأنملة خضبها الأصيل، فكان الهلال منها قلامة": فإنه أخطأ في قوله أنملة، وأي مقدار للأنملة بالنسبة إلى حصن على رأس جبل؟ قال: فإن قلت فقد قال الله عز وجل:
1 هو القاضي الفاضل رئيس ديوان الإنشاء وصاحب الطريقة الفاصلية ووزير صلاح الدين الأيوبي توفي سنة 596هـ "1199م".
{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاح} فشبه نوره نما هو دونه، وقد قال سبحانه في القمر:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيم} فشب بما هو دونه، قلت: هذه الآية تشبيهها لطيف غريب، لأنه أراد به النبي صلى الله عليه وسلم وآله، لأن قلبه عليه السلام وما هو عليه من الصفاء والشفافية كالزجاجة التي كأنها كوكب قلبه عليه السلام وما هو عليه من الصفاء والشفافية كالزجاجة التي كأنها كوكب لصفائها وإضاءته، والشجرة المباركة التي لا شرقية ولا غربية هي ذات النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم؛ لأنه من أرض الحجاز التي لا تميل إلى المشرق ولا إلى المغرب، وزيت هذه الزجاجة مضيء من غير أن تمسه نار، معناه أن فطرته صافية من الأكدار منيرة من قبل مصافحة الأنوار، فهذا هو المراد من التشبيه من هذه "الآية".
وأما الآية الثانية فإنه تعالى شبه الهلال بالعرجون في نحو له واستدارته لا في مقداره؛ لأن مقدار الهلال عظيم لا نسبة للعرجون إليه، لكنه شبهه به في الهيئة والشكل1.
أقول إن التشبيه يحسن ويقبح باعتبار الجهة التي وقع التشبيه فيها، فإذا شبه العظيم مقدارا "بأقل منه" في المقدارية قبح، وكانت القضية كاذبة. فإن شبه به لا في المقدار، بل في أمر آخر يتناسبان فيه كان حسنا، وهذا كقوله تعالى في صفة لصحابة رضي الله عنهم:{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} 2، فإن عقلا
1 المثل السائر: 2/ 127.
2 سورة الفتح 29 الشط: فراخ الزرع أو ورقه أو ما حول أصل النبات.
لا يقول: هذا التشبيه قبيح؛ لأن أجسام الصحابة وجثثهم أكبر وأعظم مقدارا من الزرع، لأنه ما أراد التشبيه في المقدارية، بل في أمر آخر.
وهكذا قوله: "حتى عاد كالعرجون القديم" لا يريد مقداره، بل شكله. وكذلك تشبيه الكافر بالكلب في قوله:{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} 1.
لا يعني الصورة والجثة، بل معنى آخر، وكذلك هذا الكتاب المضري. والذي حمل هذا الرجل على أن عابه بما عاب به نفسه، حسده له.
وهو لا يعني أن الحصن العظيم على ذروة الجبل الشاهق كالأنملة في مقدارها وجثتها، بل بينه وبين الأنملة مشابهة لطيفة وهي أن الأنملة جسم صغير ناتئ من جسيم كبير وهو البدن، وكذلك الحصن على الجبل، وهذا هو الذي أراده الرجل، والأمر فيه واضح بين.
فأما تفسير الآية النور فظريف جدا، أما أولا فلأنه سبحانه لو قال:
"مثل نوري كالنور الذي في قلب محمد صلى الله عليه وسلم" لكان ركيكا.
وأما ثانيا فلأنه قال: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} .
فإذا كان قلب النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم هو الزجاجة، ولا شبهة أن المصباح الذي فيها هو النور، والمشكاة ما هي؟ فقد زعم أنها ذات النبي صلى الله عليه
1 سورة الأعراف: 176.
وآله وسلم، فإنه قد قال إن ذات النبي هي الشجرة المباركة، فلا يبقى للمشكاة ما تحمل عليه.
وأما ثالثا فإن الله تعالى وصف الشجرة بأنها زيتونة لا شرقية ولا غربية، ونرى هذا المفسر قد فسر قوله لا شرقية ولا غربية، ولم يفسر قوله زيتونة، وقد كان الواجب عليه أن يفيدنا بتفسير ذلك.
وأما رابعا فلأن غلاة الباطنية1 الذين يقولون في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} 2 المراد به على بن أبي طالب أعذر في تأويلاتهم، وأقرب إلى الأذهان من هذا الرجل.
وأما خامسا فإنه لم ينفصل من السؤال، لأنه لو سلم له جميع ما ذكره، أليس قد شبه الله تعالى نوره بنور محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ ونور محمد دون نور الله تعالى لأنه مستافد من نوره، وما يستفاد من أصل يكون دون الأصل المستفاد منه، وقد توه الإشكال.
80-
قال المصنف: فأما التجريد فهو إخلاص الخطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك.
قال: وهو نوعان: تجريد بمعنى التوسع فقط، وتجريد حقيقة. فأما التجريد بمعنى التوسع، فكقول الصمة القشيري:
1 الباطنية أشهر ألقاب الإسماعيلية، وهم الذين يثبتون الإمامة لإسماعيل بن جعفر، وقد خطل القدماء منهم كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج، ولهم آراء غريبة ذكر الشهرستاني طرفا منها "الملل والنحل 1/ 172".
2 سورة مريم: 50.
حننت إلى ريا ونفسك باعدت
…
مزارك من ريا وشعبا كما معا
فإنه قال بعد أبيات:
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني
…
على كبدي من حره أن تقطعا1
فانتقل إلى ذكر نفسه، ولو لم يقل "وأذكر أيام الحمى" لقضينا عليه بأنه تجريد حقيقة.
ومثال التجريد الحقيقي قول الحيص بيص:
إلام يراك المجد في زي شاعر
…
وقد نحلت شوقا فروع المنابر
فإنه لم ينتقل إلى هدا بعد ذكر نفسه، بل استمر على التجريد؛ لأنه قال بعد هذا البيت:
كتمت بعيب الشعر علما وحكمة
…
ببعضهما ينقاد صعب المفاخر
أما وأبيك الخير إنك فارس المقال ومحيي الدراسات الغوابر
وإنك أغنيت المسامع والنهى
…
بقولك عما في بطون الدفاتر2
أقول: إنه قد انتقل بعد هذا إلى ذكر نفسه، فعدل عن كاف الخطاب، إلى ياء الضمير، إلى تاء المتكلم فقال:
تطاول ليلى ما أرى ذا نباهة
…
يجلى دجى ظلمائه عن خواطري
1 البيت في المثل السائر وفي ديوانه الحماسة "على كبدي من خشية أن تصدعا".
2 المثل السائر: 2/ 163.
سهرت لبرق من ديار ربيعة
…
ولم أك للبرق اللموع بساهر
قال: كأن الصمة القشيري في شعره لم يأت بالتجريد الحقيقي، لعوده بعد أبيات عن كاف الخطاب، فالحيص بيص مثله.
81-
قال المصنف: وقد قال أبو علي الفارسي رحمه الله إن العرب كانت تعتقد في الإنسان معنى كامنا فيه، كأنه حقيقته ومحصوله، فتخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجردا من الإنسان، كأنه غيره، وهو هو بعينه، نحو قولهم: لئن لقيت فلانا لتلقين منه الأسد، ولئن سألته لتسألن منه البحر، وهو بعينه الأسد والبحر، لا أن هناك شيئا منفصلا عنه ومتميزا منه.
وهذا ليس بتجريد، بل هو تشبيه مضمر الأداة، وتقديره لتسألن منه كالبحر، ولتلقين منه كالأسد، وليس هو من التجريد المشار إليه في الأبيات الشعرية، ولا حقيقة التجريد موجودة فيه1.
أقول إن الحد الذي حد هذا الرجل التجريد به لم يأت فيه نص من كتاب الله تعالى، ولا ورد عن رسول الله، وإنما هو حد اختاره هو، وفسر التجريد به، فإنه حجر على أبي علي رحمه الله أن يجعل التجريد شيئا آخر. ومعلوم أن هذه الاصطلاحات والمواصفات موكولة إلى آراء العقلاء واختياراتهم، فأبو علي
1 المثل السائر: 2/ 167 وفي كلام ابن أبي الحديد زيادة لا تخل بالمعنى، ليست في المثل السائر.
رحمه الله قد اختار أن يسمى قولهم "إذ سألت زيدا سألت البحر" تجريدا، وقد شرح ذلك وأوضحه بقوله إن ظاهر هذه اللفظة أن المسئول غير زيد؛ لأن ألفاظها تقتضي ذلك، ألا ترى أنك تقول صحبت زيدا فاقتبست منه العلم، وقتلت فلانا فأخذت منه السلب. فيقتضي ظاهره بأن العلم غير المصحوب، وأن السلب غير المقتول، فهكذا يقتضي ظاهر قوله سألته فسألت منه البحر، أن البحر غيره.
فأبو علي رحمه الله سماء تجريدا، وهو غير مانع لك من اصطلاحك ولا مساح لك في حدك الذي ذكرته، للتجريد، فكذلك أنت لا تجور ولا تضايقه في اصطلاحه وتجريده.
82-
قال المصنف: وأيضا فهذا يتنتقض بقول العرب: لئن رأيت الأسد لترين منه هشبة، ولئن لقيته، لتلقين منه الموت. فأي معنى لتخصيص أبي على ذلك بالإنسان؟ مع أن العرب تستعمل هذا اللفظ في الإنسان وغيره1.
أقول إن أبا علي لم يرد أن هذا الاستعمال مقصور على الإنسان فقط، ولا صرح بذلك، ولا كنى عنه، ولا هو مفهوم من فحوى قوله إن العرب تعتقد في الإنسان معنى كامنا فيه لا يدل على نفي الحكم عما عداه، وإنما مثل بالإنسان؛ لأنه أشهر، ولأن استعماله فيه ودورانه على ألسنتهم وفي ألفاظهم أكثر.
1 المثل السائر: 2/ 168.
83-
قال المصنف: وقد سبق القول: بأن التجريد هو أن تطلق الخطاب على غيرك ولا يكون هو المراد، بل المراد شيئا آخر، وهذا لا يوجد في هذا الموضع؛ لأن قوله إن لقيته لتلقين منه الأسد، لم يجرد عن المنقول عنه شيئا، وإنما شبه بالأسد في شجاعته، وأداة التشيه مضمرة، وما أعلم كيف ذهب هذا عن أبي علي رضي الله عنه1.
أقول: قد بينا أن المنازعة في هذا الموضع لفظيه لاطائل تحتها، ولو أن أبا علي رضي الله تعالى عنه اختار أن يسمى المجاز تجريدا بمعنى أنه لفظ قد جرد عن موضوعه الأول، أي خلع عنه، وجعل لغيره، واصطلح هو ونفسه، أو هو وأصحابه على ذلك، هل كان لنا أن نخاصمهم، وننازعهم، ونقول لهم قد أخطأتم في هذا الاصطلاح وهذه المواضعة؟ وهل المعاني تستحق الأسماء المخصوصة لذاتها حتى يكون الإنسان مخطئا إذا وضع لفظ مخصوصا لمعنى مخصوص؟ وقد فسرنا نحن قول أبي علي رضي الله عنه المقصد الذي قصده.
84-
قال المصنف: وقول أبي علي إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنا كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله فغير العرب أيضا تعتقد ذلك.
1 المثل السائر: 2/ 168.
الكامن معنى الإنسانية، وهو الاستعداد للعلوم والصنائع، فكل أحد يعرف ذلك، ولا خصوصية للعرب فيه. وإن عنى بالمعنى الكامن الأخلاق كالشجاعة والسخاء، فليس هذا مختصا بالإنسان، بل جميع الحيوانات يوجد فيها ذلك، كالشجاعة في الأسد، والسخاء في الديك، وما أعلم ما أراد أبو علي بهذا الكلام.
على أن هذا القسم الأخير ليس عبارة عن حقيقة الإنسان، فإنه لا يقال في حده حيوان شجاع، ولا حيوان سخي، بل حيوان ناطق، فقد أخطأ أبو علي من وجهتين: أحدهما أنه جعل حقيقة الإنسان عبارة عن خلقه، والثاني أنه أدخل في التجريد ما ليس منه1.
أقول: إن أبا علي رضي الله عنه لا يلزمه تفسير ما كانت العرب تتخيله وتتوهمه في الإنسان، ولا هذا من وظيفته، ولكن أبا علي قال إننا لما وجدنا العرب الذين صناعتنا البحث عن مجاري كلامهم يخاطبون في الشعر أنفسهم، فيقولون: قلت لقلبي، وقال لي، وقلت لنفسي، وقالت لي، ويقولون: سألت مه لما سألته البحر، فيأتن بلفظة منه، كما يأتون بها في قولهم غصبت منه السيف، وأخذت منه الثوب، فيفيد ظاهر كلامهم أن المسئول منه غيره، كما أن المغصوب منه غيره، أفادنا إكثارهم من هذا وتكرارهم لاستعماله أنهم يتوهمون أن في هذه البنية المشاهدة أمرا كامنا، هو محصول الإنسان، وهذا الهيكل الظاهر هو
1 المثل السائر: 2/ 169.
كالقالب لذلك المعنى، وكالقشر لذلك اللب، ومن الجائز أن يكون هذا المعنى الباطن غير القسمين اللذين قد ذكرهما المصنف، وهما مجرد الاستعداد للعلوم والخلق فليناظر في نقيض، خصوصا ومذاهب العقلاء في هذا الموضع كثيرة جدا، وكلها خارجة عن هذين القسمين اللذين قد ظن هذا الرجل أنه لا يمكن تفسير ما توهمه العرب إلا بواحد منهما، ثم يقال له لم لا تفسر قول أبي علي رحمه الله بالوجه الأول وهو قولك إن غير العرب أيضا تعتقد ذلك، فيقال لك إن أبا علي ما قال إنه لا يعتقد ذلك أحد من الأمم إلا العرب خاصة، وإنما كانت صناعته البحث عن مجاري كلام العرب، وقال إنهم لا يعتقدون كذا وكذا؛ لأنه لا ينظر في لغة أمة أخرى غير العرب، وإنما كتبه وتصانيفه مقصورة على البحث عن لغاتهم خاصة، فلا يدل كلامه على نفي هذا الحكم عن غير العرب.
وأيضا فلو فسر قوله بالتفسير الثاني -وإن كنا نعلم أنه رحمه الله لم يرده- لما توجه عليه ما اعترض به؛ لأنه لم يفرد الإنسان خاصة من دون سائر الحيوان بهذا الحكم، وإنما ضربه مثلا؛ لأنه النوع الأعرف.
ومن العجب قوله: ولا أعرف ما أراده أبو علي بقوله: إنهم يتوهمون في الإنسان معنى كامنا هو حقيقته ومحصوله، إلا أن يكون أحد هذين القسمين اللذين أشرت إليهما.
ولا شبهة أن هذا الرجل ما وقف على أقوال العقلاء في هذا الموضع، فإن مذاهبهم كثيرة، وكل منهم يذهب إلى أن حقيقة الإنسان ومحصوله أمر وراء
هذه البنية المشاهدة، ولم يذهب منهم ذاهب إلى أحد هذين القسمين اللذين قد توهم هذا الرجل أنه لا يمكن المصير إلى غيرهما.
فأما قوله إن أبا علي رضي الله عنه أخطأ حيث جعل حقيقة الإنسان عبارة عن الخلق، فإن أبا علي رضي الله عنه أخطأ، وقال هذا الكلام لا عن نفسه ولا عن غيره، أما إنه لم يقله عن نفسه فمعلوم، وأما إنه لم يقله عن غيره فلأنه قال عن العرب إنهم اعتقدوا أن في الإنسان معنى كامنا كأنه حقيقته ومحصوله، فصرح بأداة التشبيه وهي كأن، وما قال عنهم إنهم قالوا إن ذلك المعنى هو حقيقة الإنسان، ليقول لهم ذلك المعنى وهو خلقه، وخلقه غير داخل في حده وحقيقته.
وينبغي للناس إذا حكوا شيئا شرعوا في نقضه أن يتأملوا ما حكوا، ثم ينقضوا، وبالجملة فمقام الشيخ أبي علي رضي الله عنه مقام جليل يقتضي أن يحترم ويصان، ولا يستعمل معه التسرع بالتخطئة والرد، وإذا وجد في كلامه ما يستدرك استدرك مع استعمال الأدب.
85-
قال المصنف في الالتفات: هو الانتقال من خطاب الحاضر إلى الغائب وبالعكس، وما يجري مجرى ذلك. وقال إن الزمخشري قال إن الرجوع من أحد هذين النوعين إلى الآخر إنما استعمله العرب تقننا في الكلام، وانتقالا من أسلوب إلى أسلوب تطرية لسماع السامع، وإيقاظا للاستماع إليه.
قال: وليس الأمر كما ذكر؛ لأن هذا الكلام يتضمن أن السامع قد يمل من أسلوب واحد، فينتقل إلى غيره لينشط المستمع للاستماع، وهذا قدح في الكلام، لا وصف له؛ لأنه لو كان حسنا لما مل1:
أقول: لكم قلت إنه إذا كان حسنا لا يمل، وهل الملال إلا من الملذ؟ ألا تراهم كيف يقولون مل فلان التنزه في البستان، ويقولون قد مللت من أكل الحلواء. ومللت من سماع الأغاني؟ ولأن الأشياء الكريهة المملولة لا يقال لها مللتها، ألا تراهم يستقبحون قول من يقول قد مل المحبوس من الحبس، والمضروب من الضرب؟ فالذي ذكره المصنف عكس الصحيح.
86-
قال المصنف: وأيضا فلو صح ما قاله لكان الالتفات إنما يوجد في الكلام المطول الذي من شأنه أن يمله السامع لطوله، والأمر بخلاف ذلك؛ لأنا قد وجدنا الالتفات في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، ومجموع الجانبين معا لا يبلغ عشرة ألفاظ2.
أقول: لما كان مراد الواضع الإفهام للسامع، وكان الإفهام لا يحصل إلا بالإصغاء، احتال الواضع لتحصيل الإصغاء بكل طريق، فكان من تلك الطرق نقل الخطاب من الحضور إلى الغيبة وبالعكس، ليجد السامع ما يوقظه
1 المثل السائر: 2/ 171.
2 المثل السائر: 2/ 172.
وينبه على الاستماع؛ لأنه باستمرار الخطاب على نمط واحد ربما قد يمل، فنقل من أسلوب الخطاب إلى أسلوب آخر مستأنف، ليطرأ على ذلك السهو الذي عساه حصل فيزيله، ثم لفرط العناية بالإفهام وقع ذلك في قصير الكلام حسب وقوعه في طويله، لا في كل قصير منه، كما أنه لم يقع في كل طويل منه، ولكن بحسب ما تقتضيه المصلحة.
ولهذه العلة أنزل في القرآن الكريم ألفاظ وحروف غير مفهومة، مثل طسم والمص وغيرها، ليعارض المشركون فيها عند سماعها، فيكون ذلك كالاستجرار لهم إلى سماع غيرها من الآيات المنزلة، فإنها إذا قرعت أسماعهم قرعها أمر غريب تنزع النفس عند سماعه، وتتشوق إلى معرفته، فينبعث الداعي إلى سماع ما بعدها ليفسر ما به، كما يفسر بعض الكلام ببعض، فتحصل الفائدة من وقوفهم على فصاحة القرآن وسر إعجازه.
ونظير اعتراض المصنف وهو قوله: لو كان هذا خوفا للملال لكان في طويل الكلام دون قصيره، أن يعترض هنا المثال الذي قد مثلنا به فيقال: لو كن هذا هو المراد من هذه الحروف لكانت في ميع السور بل في السورة الواحدة مرات كثيرة، لتكون أدعى للمشركين إلى تأمله. والجواب عن الموضعين واحد، وهو أن ذلك إنما يكون بحسب ما تقضي به المصلحة، ولهذا كرر سبحانه:{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 1 مرارا كثيرة في سورة واحدة، لما كانت
1 سورة الرحمن.
المصلحة تكراره فالمخاطب أعرف بما يخطاب به، وأدرى بما يتوصل به إلى اجتناء ثمرة المخاطبة، سواء كان الباري سبحانه أو واحدا منا.
87-
قال المصنف: وعلى هذا فيجب إذا وجدنا كاملا قد استعمل فيه الإيجاز أو الإطناب -ولكنه لم يقع فيه الالتفات لكن كل واحد من لطرفين واقع موقعه- أن نقول هذا ليس بحسن إذا لم ينتقل فيه من أسلوب إلى أسلوب، وهذا قول ما فيه، وما أعلم كيف ذهب على مثل الزمخشري مع معرفته بفن الفصاحة والبلاغة1.
أقول: إن هذا الاعتراض من أظرف ما يحكى وذلك أن الزمخشري ما جعل حسن الكلام مقصورا على الالتفات كالشروط التي تقدم عند عدم شروطها، ولكنه قال إن الالتفات مما تستعمله العرب، ووجه استعمالها أنه يحصل منه نوع تنبيه ما للسامع وتجديد لنشاطه إلى سماع الخطاب، فلا يلزم من ذلك أن كل خطاب لا التفات فيه فإنه لا يكون حسنا، كما إذا قلنا إنما حسن استعمال المطابقة والتجنيس في الشعر لكذا وكذا، لا يلزم منه أن يكون كل شعر لا تجنيس فيه ولا مطابقة غير حسن.
وغير هذا الكلام أن محسنات العشر والخطابة أمور كثيرة، فإذا فقد بعضها قام غيره مقامه، فحصل الحسن المطلوب.
1 المثل السائر: 2/ 173.
لكن لو فقدت كل الحسنات لزم لا محالة ألا يكون الكلام حسنا.
فقد بان أن هذا الموضع ما ذهب على الزمخشري، وإنما ذهب على من اعترضه.
ثم يقال: ألست القائل: قد يعدل عن لفظة الغيبة إلى لفظة الحضور تعظيما، كقوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فإنه عدل عن لفظ الغيبة وهو قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لأن العبادة أعظم من الحمد، فجعل العبادة بكاف الخطاب لعظم شأنها، وكاف الخطاب أصرح وأدل من هاء الغيبة، فجعل الأعظم للأعظم، فيقال لك: فقد قال سبحانه في موضع آخر {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1 فيجب أن تكون هذه الآية غير حسنة لفقد المعنى الذي ذكرته، كما قلت إنه لو كان الألتفات حسنا كما قاله
الزمخشري لوجب أن يكون كل خطاب واقع موقعه، والألتفات فيه غير حسن، فكل ما يجيب به فهو جواب الزمخشري.
88-
قال المصنف: وقد يؤكد الضمير المتصل، كقوله تعالى:{لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} وقد يؤكد الضمير المنفصل بالمنفصل: وذلك مثل قول أبي تمام:
لا أنت أنت ولا الديار ديار
…
خف الهوى وتولت الأوطار
ومثل قول المتنبي:
قبيل أنت أنت وأنت منهم
…
وجدك جدك الملك الهمام2
1 سورة العنكبوت: 17.
2 رواية الديوان والمثل السائر "وجدك بشر" المثل السائر: 2/ 197.
أقول: إن هذين البيتين لا يصلح أن يمثل بهما على توكيد الضمائر، وذلك أن التوكيد ما لو حذف وبقي المؤكد يبقى اللفظ دالا على المعنى، إلا أنه غير مؤكد له كالآية التي استشهد بها، فإنه لو حذف أنت لبقي أنك الأعلى، وهو كلام مفيد للمعنى، إلا أنه غير مؤكد.
وكقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} 1 وكقوله: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} 2 ولو حذف أنت الثانية من بيت أبي تمام أو من بيت المتنبي لخرج الكلام عن الإفادة أصلا. وكيف يفيد هو مبتدأ وخبر، وقد حذف الخبر؟ ومراد أبي تمام لست أيتها المرأة كما كنت أعهد ولا الديار كما كنت أعهد، ولو قوله لا أنت أنت من باب التوكيد لكان قوله ولا الديار ديار من باب التوكيد.
وكذلك قول القائل:
فما الناس بالناس الذين عهدتهم
…
ولا الدار بالدار التي كنت أعرف
وفي ذلك امتزاج أبواب البيان بعضها ببعض، وهو غير جائز.
ومراد المتنبي بقوله أنت أي أنت المشهور الذي يستغنى عن شرح صفاته وممادحه، كما يقول: قد قتل زيد بينه أسدا والأسد الأسد. وكقول الراجز:
"أنا أبو النجم وشعري شعري"
وهذا معنى آخر غير التوكيد، ولكنه قد اشتبه على هذا المصنف لا محالة.
1 سورة المائدة: 116.
2 سورة الأعراف: 115.
89-
قال المصنف: ومثال تأكيد الضمير المتصل بالمتصل قوله تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ثم شرع يبين لماذا قال لك ها هنا، وقال من قبل {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ} ولم يقل لك في خرق السفينة1.
أقول: أما قوله لك فوجهه مشهور قد قاله الناس من قبل، وذكره من يتعاطى استخراج الدقائق والمعاني الغامضة من القرآن، وليس غرضنا الآن عن البحث في صحة ذلك وفساده، ولكن تمثيله بهذه الآية على تأكيد الضمير المتصل فليس من هذا الباب أصلا، وإنما عدى الفعل منها إلى المفعول بحرف الجر لا غير، ولو كان هذا توكيدا للضمير لكان قولنا مررت بزيد تأكيدا للضمير، وهذا مالا يقوله أحد.
وكيف يتوهم أن قوله لك تأكيد للضمير في قوله إنك، وأين أحدهما من الآخر؟ نعم لو قال سبحانه:{أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ} كان قوله أنا تأكيد للضمير في قوله: {أَلَمْ أَقُلْ} فيكون تأكيدا للمتصل بالمنفصل لا بالمتصل.
فإن قيل لعله لم يتكلم في التأكيد على الاصطلاح النحوي، بل على اصطلاح آخر يرجع إلى علم البيان والبلاغة، فلا يلزمه ما ذكرت.
قيل: لعمري إن غرضه البحث في علم البيان، ولكنه لم يخرج هذا الفصل
1 المثل السائر: 2/ 193.
والكلام فيه إلا على الاصطلاح النحوي، فلما أراد أن يطبق الآيات والأشعار عليها وقع في الغلط كما رأيت.
90-
قال المصنف في باب العام والخاص إنه تعالى قال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل بضوئهم؛ لأن الضوء نور وزيادة.
فلو قال بضوئهم لكان المعنى يعطي ذهاب تلك الزيادة، وبقاء ما يسمى نورا، لأن الإضاءة هي فرط الإنارة، ولذلك قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} فكل ضوء نور، وليس كل نور ضوءا، فقال سبحانه:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} لأنه إذا أزال النور فقد أزال الضوء أصلا1.
أقول: إن هذا الرجل قد شحن كتابه بأمثال هذه الترهات، وأطال فيها وأسهب وأعجب بها، وظن أنه أتى بغريب.
وهذه المعاني قد صنفت فيها الكتب الكثيرة، وتكلف الناس من قبله في استنباط أمثال هذه الوجوه الغامضة والمعاني الخفية من القرآن العزيز، وإنه لم أتى بهذه اللفظة دون تلك، ولم قدم هذا وأخر هذا؟ وقد قيل في هذا الفن أقوال طويلة عريضة أكثرها باردغث، ومنها ما يشهد العقل وقرائن الأحوال أنه مراد.
1 المثل السائر: 2/ 210.
وقد ورد إلينا في مدينة السلام في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة رجل من وراء النهر كان يتعاطى هذا، ويحاول إظهار وجوه نظرية في هذه الأمور في جميع آيات الكتاب العزيز، نحو أن يقول في قوله تعالى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} 1.
ثم قال: لم قال "ما" ولم يقل "لا" ولم قال "يأتيهم" ولم يقل "يجيئهم"، ولم قال "من ذكر" ولم يقل "من كتاب" ولم قال "من ربهم" ولم يقل "من إلههم". ولأي حال قال في وضع آخر "من الرحمن" وما وجه المناسبة في تلك الآية في لفظها وسياقه كلامها وبين لفظة الرحمن؟ وما وجه المناسبة بين هذه الآية وسياقها؟ وبين لفظة ربهم.
وعلى هذا القياس.
وكذلك كان يتكلف تعليل كل ما في القرآن من الحروف التي تسقط في موضع وتثبت في موضع، نحو قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ} 2 وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ} 3 لم أثبت الواو هناك، وأسقطها ها هنا، ونحو قوله:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} 4 وقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ} لم فك الإدغام في موضع ولم يفكه في موضع آخر؟.
1 سورة الأنبياء: 2.
2 سورة الملك: 19.
3 سورة النحل: 48.
4 سورة النساء: 115.
كنا نعجب منه ونستظرفه، حتى وصل إلينا هذا هذا الكتاب، فقلنا إنه فوق كل ذي علم عليم.
ولو أخذنا تناقضه في هذا لأطلنا كما أطال، وسمجنا كما سمج.
ومتى يتسع الوقت لمناقضة هذه التكلفات القبيحة؟ ولكنا قد نكلمه. في بعض المواضع منها لكيلا يخلو كتابنا هذا عن مجادلته في هذا الفن بالكلية، فنقول له: لم قلت إن الضوء نور وزيادة؟ أمن كتب اللغة أخذت هذا؟ أم من غيرها؟ فقد تصفحنا كتب اللغة فلم نجد ما نشاهده بما ذكرت، ولا الاصطلاح مساعدا لك في عرف الناس ومواضعاتهم.
وإذا لم يكن موجودا في أصل اللغة ولا الاصطلاح العرفي لم يجز لك أن تحمل كلام الله تعالى عليه وتفسره به.
وقد قال ابن السكيت في كتاب إصلاح المنطق -وهو عين الكتب اللغوية، ومصنفه إمام الناس كلهم في اللغة، ومن لا يختلف اثنان في كتبه- في باب فعل وفعل باختلاف المعنى: النير علم الثوب والنور الضياء شيئا واحدا.
وليس في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} 1 ما يدل على اختلاف المعنيين، ولا قوله:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 2 ما يدل على اختلاف المعنيين.
1 سورة الحشر: 4.
2 سورة المائدة: 48.
91-
قال المصنف: وإنما قال سبحانه: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل أذهب الله نورهم؛ لأن كل من ذهب بشيء فقد أذهبه، وليس كل من أذهب شيئا فقد ذهب به، لأن قولنا ذهب به يفهم منه أنه استصحبه معه، وأمسكه عن الرجوع إلى حالته الأولى، وليس كذلك أذهبه1.
أقول: إن قوله إن الله تعالى ذهب بنورهم معناه أنه استصحبه ومضى، كما يقول القائل مررت بزيد وعنده سيف فذهبت به، أي أخذته ومضيت، وكما قال سبحانه:{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا} 2 معناه أخذوا يوسف صحبتهم ومضوا، فإن قال نعم هكذا تفسير الآية فهذا كفر وتهجم. فأما قوله: كل من ذهب بشيء فقد أذهبه، بمعنى أنه أعدمه عن الوجود أصلا، لكنه قد أذهبه عن موضعه الأول الذي أخذ منه.
واعلم أن الغلط دخل عليه من اشتراك لفظة ذهب، فإنها تستعمل في معنيين أحدهما قولهم ذهب فلان في الطريق الفلاني، أي مضى فيه ونفذ فيه
ومنه سمي السبيل مذهبا؛ لأنه يذهب فيه أي يمضي فيه. وسمي قول الشاعر ويره مذهبا، كأنه صار طريقا فسلكه الفقهاء وغيرهم.
1 المثل السائر: 2/ 210.
2 سورة يوسف: 15 {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} .
والمعنى الثاني ذهب بمعنى عدم وفقد، وقولهم ذهب الشباب وذهب العمر، أي فنى وعدم.
ولعل هذا الاعتبار الثاني هو الحقيقة الأصلية، والمحمل الأول هو المجاز، لأنه لما مضى زيد في تلك الطريق، فقد تقدم بالنسبة إلى غيرها، فسمى مضيه فيها ذهابا.
وإذا بان لك اشتراك اللفظ ظهر غلطه، لأنه توهم أن قوله تعالى {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم} مثل قولنا: ذهب زيد بثياب عمرو واحتملها ومضى، وقد صرح بتفسير الآية على هذا الوجه، وهذا معنى لا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى، لأنه لا تصح عليه الحركة، ولا استصحاب الأشياء واحتمالها من مكان إلى مكان، وعلى أنه لو صح عليه سبحنه ذلك لكان قوله أذهب الله نورهم أبلغ في المعنى من قوله ذهب الله بنورهم على هذا التفسير؛ لأن إعدام النور بالكلية أبلغ من قوله:{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُون} من أين يذهب بالنور بالتفسير الذي زعمه فيكون للنور وجود في الجملة، وإنما نقل من موضع إلى موضع؟
وإذ ظهر لك غلطه فاعلم أن معنى قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} هو معنى قوله: "أذهب الله نورهم".
كلا اللفظتين تدل على معنى واحد، كما أن قولك فقدت بزيد مثل قولك فقدت زيدا، لا فرق بين الكلامين؛ لأن الأفعال اللازمة إذا أردت تعديتها عديتها تارة بحرف الجر وتارة بالهمزة، وتقول ذهب الشباب وذهب
الدهر بالشباب وأذهب الدهر الشباب، كما تقول خرجت بريد من البلد، وأخرجت زيدا من البلد، ولست تعني بقولك خرجت بزيد من البلد أنك استصحبت زيدا معك.
كلا ليس هذا هو المراد من تعدية اللازم، بل محض قولك أخرجت زيدا لا زيادة على ذلك.
92-
قال المصنف. فأما الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي يكون بينها وبين أحدهاتاء التأنيث فإنه متى أريد النفي كان استعمال أحدها أبلغ، ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ، نحو قوله تعالى في قصة نوح:{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ} .
كان أبلغ في نفي كونه ضالا من أن يقول ليس بي ضلال، كما لو قيل: ألك تمر؟ فقلت في الجواب: ما لي تمرة. فإنه أنفى للتمر، ولو قلت: ما لي تمر لم يؤد المعنى الذي أداه القول الأول.
قال: ولا يظن أنه لما كان الضلال والضلالة مصدرين من قولك ضل يضل كان القولان سواء؛ لأن الضلالة في هذه الآية ليست عبارة عن المصدر، بل عن المرة الواحدة، كما يقال ضربت ضربة وأكلت أكلة، بمعنى مرة واحدة، فإذا نفي نوح عن نفسه المرة الواحدة من الضلال فقد نفي ما فوقها من المرتين والمرات الكثيرة1.
1 المثل السائر: 2/ 212 وهنا تفصيل ليس في المثل السائر.
أقول إن الذي غير صحيح، لا إن كانت لفظة ضلالة في الآية مصدرا ولا إن كانت المرة الواحدة.
أما الأول فلأنه إذا كانت هذه اللفظة مصدرا وقد وافق على أن ضلال مصدرا أيضا وجيب أن تكون دلالتهما سواء في نفي كونه ضالا على الإطلاق، فلايكون أحد اللفظين أبلغ في الدلالة من الآخر، لأنهما معا يدلان على نفي ماهية الضلال نفسه، فإن المصدر يدل على الماهية فقط من غير دلالة على شيء آخر، فإذا نفي فقد نفيت الماهية نفسها، فلا فرق على هذا التقدير بين الضلال والضلالة.
وأما الثاني وهو أنه لا يصح ما قاله بتقدير أن يكون المراد بالضلالة المرة الواحدة؛ لأنه لو قال قائل ما عندي تمرة بمعنى تمرة واحدة وعنده تمر كثير يصح ذلك، ولم يكن كاذبا.
ألا يرى أنه لو ظهر ما أضمر فقال ليس عندي تمرة واحدة فقط، بل عندي تمر كثير، لم يكن فيما قاله متناقضا؟ فالمثال الذي ذكره يدل على عكس ما أراده.
وقول نوح "ليس بي ضلالة"، لو كان يريد به العدد بمعنى ليس بي ضلالة واحدة كما زعم هذا الرجل، ثم تركناه وظاهر اللفظ، لم يكن نافيا لكونه ضالا؛ لأنه إذا كانت الضلالة مختلفة الأنواع، وقال: ليس بي ضلالة واحدة فقط، لم يكن هذا اللفظ مفيدا لانتفاء كونه ضالا، لجواز ألا تكون ضلالة واحدة بل ضلالاته مختلفة متنوعة، فاللفظ لو تركناه وظاهره لم يدل على
انتفاء كونه ضالا، بتقدير أن يراد بالضلالة المرة على الواحدة على ما قد توهمه هذا الرجل.
وأما قوله إذا نفي عن نفسه المرة الواحدة من الضلالة فقد نفي ما فوقها من المرتين والمرات الكثيرة، فكلام من لم يمعن النظر في قوله المرة الواحدة، لأنه إذا أخذ في تفسير الضلالة أن تكون واحدة، وجعلت الضلالات أشياء متعددة مختلفة كالضربات المختلفة والأكلات المتنوعة، ثم نفى عن نفسه ضلالة واحدة مشروطا فيها أن تكون واحدة، لم يلزم من انتفائها بهذا القيد أن تنتفي عنه ضلالات كثيرة، لأن وجود الضلالات الكثيرة ملحوظا فيها كونها كثيرة لا ينافي اقتضاء الضلالة الواحدة عنده، لأن معنى الواحدة ليس معها غيرها، ومن وجدت عنده ضلالات كثيرة، فقد صدق عليه أنه وجدت عنده ضلالة واحدة، بمعنى أنه ليس معها غيرها.
واعلم أن مراده تعالى بقوله حاكيا عن نوح "ليس بي ضلالة" نفي الضلالة الذي هو المصدر؛ لأنه هو الذي بانتفائه ينتفي كون نوح ضالا انتفاء مطلقا، لا كما توهمه هذا الرجل من أنه عبارة عن المرة الواحدة واللفظ واضح، والمعنى ظاهر، وعند التعمق الزلل.
93-
قال المصنف: واعلم أن القياس يقتضي أن يقال: "ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها" لأنه إذا قدم الصغيرة لم يحتج إلى
أن يقول ولا كبيرة؛ لأن وجود المؤاخذة على الصغيرة يلزم منه وجود المؤاخذة على الكبيرة، وإذا لم يعف عن الصغيرة لم يعف عن الكبيرة.
وإذ قدم في اللفظ الكبيرة احتاج إلى أن يقول ولا صغيرة؛ لأنه لم يعف عن الكبيرة فيجوز أن يعفو عن الصغيرة، فاحتاج إلى أن يذكر ما قال.
غير أن الكتاب العزيز أحق أن يتبع فيقاس عليه، فوجب ترك القياس لأجل هذه الآية1.
أقول: أما أولا فإن هذه الآية لم تذكر لبيان المؤاخذة والعفو، ولا أن معنى قوله "لا يغادر صغيرة ولا كبيرة" العقاب والغفران، بل معناه الإحصاء والعد.
ألا ترى إلى قوله سبحانه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} 2 "ليس المراد فيه" العقاب والغفران، بل معناه الإحصاء والعد؟ ألا ترى قوله:{إِلَّا أَحْصَاهَا} فهو أمر راجع إلى إحاطة علم الباري سبحانه بأفعال العباد خفيها وظاهرها وجليلها وحقيرها، فالذي توهمه هذا الرجل من كون هذه الآية لتفصيل أحوال المؤاخذة توهم باطل.
وأما ثانيا فلأن هذه الآية وردت لبيان أنه تعالى يعلم الكبائر من الذنوب والصغائر، وللناس خلاف مشهور في الكبائر والصغائر من الذنوب ما هي؟ فمعنى الآية أنه تعالى يعلم كبائر الذنوب وصغائرها.
1 المثل السائر: 2/ 123.
2 سورة الكهف: 49.
وعلى هذا التفسير إذا قدم الصغيرة لا يلزم منه أن يستغني عن ذكر الكبيرة؛ لأنه ليس إذا علم الصغائر كان بأن يعلم الكبائر أولى، كما يقول القائل إذا أبصرت من عشرة فراسخ كنت بأن أبصر من فرسخ واحد أولى؛ لأنه ليس أحد نوعي الكبائر والصغائر بالنسبة إلى عالميته تعالى أجلى من الآخر على جميع مذاهب العقلاء، والأبصار على حد فرسخ واحد أولى لمن يبصر على حد عشرة فراسخ.
وأما ثالثا فلو سلمنا أنه لم يعن كبائر الذنوب وصغائرها، بل عنى الخفي من أفعال العباد وهي أفعال القلوب، والجلي الظاهر منها وهي أفعال الجوارح، فإنه لا يمكن حمل الآية إلى على أحد هذين المحملين ولا ثالث لهما، فلم يقتض القياس أن يقول لا يغادر صغيرة ولا كبيرة؛ لأنه قد قال التفسير عوض، وذلك بأن يقول ما لهذا الكتاب لا يغادر خفيا ولا جليا إلا أحصاه؛ لأن كل من أثبت أن البارئ تعالى عالم بأفعال الجوارح أثبته عالما بأفعال القلوب، كالدلالة على أنه تعالى بعلم الجزئيات عامة في القسمين، وليس أحدهما أولى بالتقدم من الآخر.
فإن قلت أليس قد ثبت في الإنس أن الجلي أولى بالمعلومية من الخفي، والقرآن العزيز يدل على ما يتعارفه الناس وخوطبوا به على قدر أذهانهم؟ قلت: إنه لو قال تعالى ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة إلا أحصاها، فربما يتوهم أن الكتاب موضوع لإحصاء فعل القلوب فقط، لا بمعنى أنه تعالى يعلم أفعال القلوب فقط، بل بمعنى أنه قد يتوهم أن الكتاب الذي فيه ذنوب
بين آدم وحسناتهم موضوع لإحصاء أفعال قلوبهم خاصة، ولا يكون فيه شيء هي معدودة مضبوطة فيه، والمراد من هذه الآية وأمثالها إرهاب العصاة، وهم إذا سمعوا أن أعمالهم كلها مضبوطة مكتوبة في كتاب يشتمل عليها كما يشتمل على سائر الحساب لا على ما فيها، كاننا أخوف وأشد تباعدا من المعاصي.
فعلى هذه الطريقة قال "ولا كبيرة" لتكون الآية بعيدة عن التوهم الذي يخل نظام الزجر.
94-
قال المصنف: وكذلك قد كان القياس أن يقول "فلا تنهرهما ولا تقل لهما أف" لأنه إذا لم يقل لهما أف فقد امتنع أن ينهرهما.
قال: نظير ذلك في الترتيب الواقع على وفق القياس قول البحتري يصف نحول الركائب.
كالقسي المعطفات بل الأسـ
…
ـهم مبرية بل الأوتار1
فشبهها أولا بالقسي، ثم قال بل كالأسهم؛ لأنها أبلغ في النحول من القسي ثم قال بل كالأوتار؛ لأنها أبلغ في النحول من الأسهم.
1 من قصيدة له في مدح أبي جعفر بن حميد، مطلعها:
أبكاء في الدار بعد الدار
…
وسلو بزينب عن نوار
ثم يصف نحول القلائص، فيقول قبل هذا البيت:
يترقرقن كالسراب وقد خضـ
…
ـن غمارا من السراب الجاري
وكان بالأصل "الأسهم ميزته".
قال: لكني قد رفضت القياس، وقدمت ما استعمل في الكتاب العزيز عليه1.
أقول إن الله تعالى لو قال: "فلا تقل لهما أف بل لا تنهرهما" لكان على خلاف القياس؛ لأن لفظة بل للاستدراك، فيعطي في الثاني معنى لم يكن في الأول، فيصح أن يقال لا تنهر السائل بل لا تضربه، ويقتضي القياس أن يقال لا تضرب السائل بل لا تنهره.
وبيت البحتري إنما وقع موافقا للقياس لاستعماله لفظه بل، فأما الآية فوردت بالواو العاطفة، وهي غير مقتضية للترتيب، فلا فرق بين أن يقول فلا تنهرهما ولا تقل لهما أف، وأن يقول فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما
…
95-
قال المصنف: وقد أغفل كثير من الشعراء الترقي من الأدنى فالأدنى إلى الأعلى كالمتنبي في قوله:
يا بدر يا بحر يا غمامة يا
…
ليث الشرى يا حمام يا رجل
فإن الواجب أن يقول يا بدر؛ لأنه اسم الممدوح، ثم يقول بعده يا رجل، يا ليث الشري، يا غمامة، يا بحر، يا حمام؛ لأن البدر أعظم من الليث، والبحر أعظم من الغمامة، والحمام أعظم من البحر، فيرتفع من شيء إلى ما هو أعلى منه؛ لأنه مقام مدح، ولو كان مقام ذم لعكس القضية2.
1 المثل السائر: 2/ 214 بتصرف.
2 المثل السائر: 2/ 215 بتصرف.
أقول: إن أبا الطيب لم يقصد إلا مقصدا صالحا، ولكن هذا الرجل لم يتفطن له؛ لأنه مدحه بالسخاء والشجاعة، وهما المعنيان الشريفان الجليلان، فقال في القسم الأول وهو قسم السخاء يا بحر يا غمامة، وابتدأ بالبحر لأنه دون الغمامة مكانا؛ لأنه تحتها وهي ربته؛ لأنه منها يتكون، ولولا الغمامة لم تكن مياه الغدران والأمطار، وما يتكون منها كالأنهار، فإن هذه الأشياء هي التي يعنيها بالبحر لا البحر الذي هو الماء الملح، ولا الأسطقس الكلي1.
ثم قال في قسم الشجاعة: يا ليث الشري يا حمام، فابتدأ بالليث وانتقل إلى الحمام بعده، لأن الليث لولا الحمام لم يرهب، فالحمام أشد رهبة في الصدور من الليث، ثم ختم البيت بقوله يا رجل، أي أنت هذه الأشياء كلها، وأنت مع ذلك إنسان من البشر، وذلك أعجب وأطرف.
وإنما قدم السخاء على الشجاعة؛ لأن حاجة جمهور الناس إلى السخاء أكثر من حاجتهم إلى الشجاعة، والناس إلى رئيس عظيم السخاء أميل منهم إلى رئيس عظم الشجاعة؛ لأن انتفاعهم به أكثر، فأبو الطيب قصد هذا المقصد، أو يصح أنه يقصد هذا المقصد، ولو أتى بالبيت على الترتيب الذي ذكره المصنف لم يحصل له هذا المعنى.
1 الأسطقس: والأستقص هو الشيء البسيط الذي يتركب منه الشيء المركب مثل الحجارة والقراميد والخشب التي يتركب منها البناء، والحروف التي يتركب منها الكلام، والواحد الذي يتركب منه العدد. والأسطقسات الأربعة هي النار والهواء والماء والتراب "مفاتيح العلوم للخوارزمي 82".
96-
قال المصنف: ونظير هذا قول أبي تمام في الافتخار بقوله:
نجوم طوالع جبال فوارع
…
غيوث هوامع سيول دوامع
فإن السيول دون الغيوث، والجبال دون النجوم، ولو قدم ما أخر لما اختل النظم، بأن يقول:
سيول دوافع غيوث هوامع
…
جبال فوارع نجوم طوالع1
أقول إن في بيت أبي تمام لسرا خفيا إما أن يكون قد قصده، أو يمكن أن يقصده، وذلك أن قبله:
سما بي أوس في السماء وحاتم
…
وزيد القنا والأثرمان ورافع2
فأوس هو أوس بن حارثة الطائي، وكان وضيئا جميلا، وحليما ذكيا، فضرب به المثل في وضاءته، ورصانته، فهو المراد بقوله "نجوم طوالع جبال فوراع".
وحاتم بن عبد الله الجواد هو المراد بقوله "غيوث هوامع" وأما زيد القنا والأثرمان، ورافع وهو رافع بن عميرة بن جابر فهم بالشجاعة أشهر، وهم المراد بالسيول التي تهلك وتخترق ما تأتي عليه، فهذا هو وجه ترتيب البيت.
1 المثل السائر: 2/ 215.
2 البيت في المثل السائر والديوان "سما بي أوس في الفخار".
97-
قال المصنف: فأما تقديم المفعول على الفعل، فهو كقولك زيدا ضربت، وضربت زيدا، لأن اللفظ الأول يفيد أنك لم تضرب إلا زيدا خاصة، والثاني لا يقتضي ذلك.
قال: وذلك لأنك إذا قدمت الفعل كنت بالخيار في إيقاعه على أي مفعول شئت، بأن تقول بكرا أو عمرا أو خالدا، وإذا أخرت الفع لزم الاختصاص بزيد وحده1.
أقول: إننا لا ننكر أن قوما من أهل العربية قد ذهبوا إلى هذا المذهب، ولكن أرباب النظر في هذه المباحث وهم الأصوليون لا يعرفون هذا، وقولهم فيه هو الصحيح المفسر، ولا فرق عندهم بين قولك ضربت زيدا وزيدا ضربت، في أن كلا اللفظين لا يدل واحد منهما على اختصاص الضرب بزيد وحده.
وكذلك لو قلت زيدا ضربت وعمرا ألم يكن الكلام متناقضا؟ ولو كان قولك زيدا ضربت يدل على أن الضرب مقصور عل زيد وحده لكان قولك وعمرا نقضا لذلك.
فأما قوله: لأنك إذا قدمت الفعل كنت بالخيار في تعيين المفعول، وإذا أخرته لزم الاختصاص، فيقال له أيكون بالخيار إذا قدم الفعل وإن كان قد
1 المثل السائر: 2/ 217.
تلفظ بالمفعول أو قبل أن يتلفظ بالمفعول؟ الأول ممنوع، لأنه بعد تعيين المفعول لا يبقى خيار، والثاني مسلم، لكن مثل هذا موجود في تأخير الفعل؛ لأنك إذا قدمت المفعول فأنت بالخيار قبل أن تتلفظ بالفعل، فيمكن أن تقول أكرمت وضربت أو رأيت، فلست مضطرا عند ذكر المفعول وقبل ذكر الفعل إلى أن تقول زيدا ضربت لا غير ذلك من الألفاظ.
فالحاصل أن الصورتين سواء في التخيير وعدم التخيير، لكن تقدير المفعول بتخير فيه في الفعل لا في المفعول؛ لأنك قد ذكرته وسبق منك تعيينه، فإن قولك زيدا ضربت يفيد في اللغة أنك لم تضرب إلا زيدا، كأن قولك ضربت زيدا يفيدا أنه لم يقع منك في حق زيد إلا الضرب فقط، وهذا محال؛ لأنك لا تعني بقولك ضربت زيدا ألا تكون قد شتمته ولا رأيته ولا أصبته ولا اعترضته، كما لا يدل تعيين الفعل أولا والابتداء به على انتفاء غيره من المفعولين.
ويدل على فساد هذا الكلام قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} 1 فإن ذلك لا يدل على الاختصاص إسحاق ويعقوب بالهداية؛ لأنه قد هدى غيره ممن كان في زمانه.
98-
قال المصنف: وعلى هذا ورد قوله تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِين} فإنه يفيد الأمر باختصاص العبادة به دون غيره، ولو قال اعبد الله وكن من الشاكرين لم يفد الاختصاص2.
1 سورة الأنعام: 84.
2 المثل السائر: 218.
أقول إن الاختصاص ما استفيد في هذه الآية من مجرد تقديم المفعول، بل من القرينة؛ لأنه تعالى قال:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} وهذا تصريح بالاختصاص، لأنه قال لا تشرك بالله في العبادة فتخسر، بل وحد الله في العبادة.
فالاختصاص مفهوم من سياق الكلام، لا من تقديم المفعول.
ولو قال في هذا السياق بل اعبد الله لأفاد الاختصاص لا محاله، فلا تأثير ها هنا في الاختصاص المعلوم، لا لتقديم المفعول ولا لتأخيره.
99-
قال المصنف: وقد قال الزمخشري إن قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} لاختصاص العبادة والاستعانة به سبحانه دون غيره.
قال: وليس الأمر كذلك، بل ها هنا مراعاة السجع الذي جاء في الآيات السابقة على حرف النون، فلو قال نعبدك ونستعينك زالت طلاوة السجع1.
أقول: إن كان تقديم المفعول يقتضي الاختصاص كما يراه الزمخشري وجماعة من أهل العربية، فلا مانع من أن يكون المراد من قوله إياك نعبد
1 المثل السائر: 2/ 219.
وإياك نستعين كلا الأمرين: الاختصاص والسجع، ولا منافاة بين هذين المطلوبين.
100-
قال المصنف وكذلك قوله تعالى: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوه} ليس تقديم المفعول ههنا للاختصاص، بل للفضيلة السجعية فقط، فإنه لو قال خذوه فغلوه ثم صلوه الجحيم لم يكن في الحسن كالأول.
قال: فإن قلت بل تقديم المفعول ههنا للاختصاص؛ لأنها نار عظيمة، ولو أخرت لجاز وقوع الفعل على غيرها، فالجواب عن ذلك أن الدرك الأسفل أعظم من الجحيم، فكان ينبغي أن يخص بالذكر دون الجحيم، على ما ذهب إليه؛ لأنه أعظم، لكن استعمال هذه اللفظة هنا أحسن من استعمال غيرها من الألفاظ نحو لظي وجهنم ونحوهما، والطلاوة عليها دون غيرها أكثر1.
أقول: إن كان تقديم المفعول يقتضي الاختصاص كما قد قال قوم فلا مانع أن يكون الاختصاص مرادا في قوله: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوه} لأن الجحيم والجاحم في اللغة هو أشد النار، قال أبو تمام.
إن يعد من حرها عدو الظليم فقد
…
أوسعت جاحمها من كثرة الحطب2
1 المثل السائر: 2/ 220 ومنه أصلحنا النص.
2 من قصيدته في مدح المعتصم بعد فتح عمورية التي مطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتب
…
في حد الحد بين الجد واللعب
والبيت من أبيات يصف فيها فرار توفلس القائد الرومي.
"الديوان 1/ 74".
ولا منافاة بين أن يراد الاختصاص وتراد الفضيلة السجعية معا.
وأما قوله: فهلا ذكر الدرك الأسفل من النار؟ فيقال له لم لا يكون الدرك الأسفل هو الجحيم بعينه أيضا؟ ولم يكون الجحيم أشد إحراقا وتعذيبا من الدرك الأسفل؟ وليس في قوله إن المنافقين في الدرك الأسفل ما يقتضي أن يكون هذا الموضع أشد المواضع النارية إحراقا، فالجواز أن يكون غير المنافقين أشد عذابا منهم، وأيضا فلو كان الدرك الأسفل أهول وأصعب لم يلزم ما ذكره؛ لأن الترغيبات والترهيبات تذكر على حسب ما يراه المتكلم من المصلحة، وقد رهب ورغب بأشياء غيرها أبلغ في الترهيب والترغيب منها.
ألا ترى أنه لو قال عوض قوله تعالى: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَد} 1 في جيدها ثعبان من نار لكان أرهب وأزعج، ولم يقل ذلك.
وأما قوله إن الطلاوة في لفظة فقط دون غيرها من الألفاظ فإنه يقال: له قد قلت ذلك، ومعلوم أنه لو بدل عوض الجحيم السعير لكان على عدد حروفها أو وزنها، ولا يتغير انتظام الكلام وأسلوبه باستعمالها حسب استعمال لفظ الجحيم حذو القذة بالقذة2.
1 سورة المسد.
2 القذة بضم القاف الريشة المقذوذة، يقال حذو القذة بالقذة "أساس البلاغة مادة قذ".
101-
قال المصنف: ومن مقتضيات الاختصاص أيضا تقديم خبر المبتدأ عليه، فإنك إذا قلت قائم زيد فقد أثبت له القيام دون غيره، وإذا قلت: زيد قائم لم تكن قد خصصته بالقيام دون غيره من الناس، والعلة فيه ما ذكرناه في تقديم المفعول، فإنك إذا قلت زيد قائم كنت بالخيار، حيث ابتدأت بذكر زيد، إن شئت قلت جالس أو ضاحك أو غيرها. وإذا قدمت قولك قائم حصل الاختصاص لزيد بالقيام دون غيره من الناس1.
أقول: إنا لا نعرف ذاهبا ذهب إلى أن قولنا قائم زيد يقتضي اختصاص زيد بالقيام دون غيره من الناس.
لكن جماعة من النحاة الذاهبين إلى أن تقديم المفعول يقتضي الاختصاص، يقولون إن قولنا "القائم زيد" بالألف واللام يقتضي اختصاص زيد بالقيام كما نقول "الشجاع علي والجواد حاتم" أي لا شجاع إلا ذاك، ولا جواد إلا هذا.
فأما تقديم خبر المبتدأ عليه مع بقائه على النكير فإنه لا يعرف ذاهب ذهب إلى أنه يقتضي الاختصاص.
والعلة في اختصاص زيد بالقيام إذا قلت "القائم زيد" علة تعود إلى
1 المثل السائر: 2/ 217.
دخول الألف واللام على الخبر، وهي أن قولك "القائم" معناه الذي له القيام، فكأنك قلت الذي له القيام هو زيد، وقولك الذي له القيام هو زيد من طريق الاصطلاح العرفي في قوة ذلك الذي يختص بالقيام أو الذي ينفرد بالقيام ونحو ذلك.
والقائلون بهذا القول يلزمهم عليه أن يفيد قولنا "زيد القائم" الاختصاص الذي يذكرونه أيضا؛ لأنك إذا أزلت عن نفسك الوهم في كون القائم صفة زيد، وأطبقت ذلك المبتدأ أو الخبر، صار تقديره زيد الذي له القيام، وذلك في قوة قولك زيد هو الذي يختص بالقيام، فلو كان غيره قائما لما صدق قولك زيد هو الذي له القيام.
فقد ظهر أنه لا فرق بين تقديم قائم وتأخيره، وأن هذا لو صح لكان في الأخبار المعرفة باللام لا في الأخبار المنكرة، كما توهمه هذا الرجل.
وأما احتجاجه بأنك تكون مخبرا إذا أخرت الخبر، ولا تكون مخبرا إذا قدمته، فاحتجاج ضعيف قد تكلمنا عليه في تقديم المفعول.
102-
قال المصنف: ومن باب تقديم خبر المبتدأ الذي يفيد الاختصاص قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} قال سبحانه ذلك، ولم يقل وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم؛ لأن في تقديم الخبر الذي هو مانعتهم على المبتدأ الذي هو حصونهم دليلا على فرط اعتقادهم في حصانتها، وزيادة وثوقهم بمنعها إياهم، وفي جعل ضميرهم اسما لأن، وفي إسناد الجملة إليه دليل
على تقريرهم في أنفسهم أنهم في عزة وامتناع لا يبالي معها بقصد قاصد ولا تعرض معترض1.
أقول: إن حصونهم لا ترفع بأنه مبتدأ كما ظنه إلا على وجه ضعيف، والصحيح أنه فاعل، تقديره وظنوا أنهم تمنعهم حصونهم، فما نعتهم اسم فاعل معتمد على ما قبله؛ لأنه في الحقيقة خبر مبتدأ، من حيث كان خبرا لأن، وأن من شأنها أن تدخل على المبتدأ والخبر، ومتى كان اسم الفاعل خبرا لمبتدأ كل معتمدا عليه، فعمل فيما بعده عمل الفعل، كقولك "زيد قائم أبوه" فأبوه رفع بالفاعلية، وليس بمبتدأ على القول الصحيح في صناعة العربية.
وكذلك إذا اعتمد اسم الفاعل على همزة الاستفهام أو حرف النفي، أو وقع حالا لذي حال، أو صفة لموصوف، أو صلة لموصول.
وحكم الظرف حكم اسم الفاعل إذا وقع معتمدا أيضا في كونه يرفع ما بعده الفاعلية لا غير، كقوله تعالى:{فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْف} 2 وقوله: {أَفِي اللَّهِ شَك} 3 وقوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَاب} 4 فجزاء، وشك، وعلم، كلها مرفوعة بالفاعلية، لاعتماد الظرف تارة على المبتدأ، وتارة على همزة الاستفهام، وتارة لوقوعه صلة.
1 المثل السائر: 2/ 222.
2 سورة سبأ: 37.
3 سورة إبراهيم: 10 {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
4 سورة الرعد: 43.
ومما جاء من ذلك شعر قول حسان:
ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم
…
وفيكم نبي عنده الوحي واضعه1
فالوحي فاعل. وقول الشاعر:
أحقا بني أبناء سلمى ابن جندل
…
تهددكم إياي وسط المجالس؟
فتهددكم فاعل وليس بمبتدأ.
فأما قوله إن في تقديم ما نعتهم زيادة معنى فقد تكلمنا عليه فيما سبق.
103-
قال المصنف: ومن باب هذا الباب قوله تعالى: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} فقدم خبر المبتدأ عليه.
ومثل قوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، قال: فهذا يدل على تخصيص الشخوص بالأبصار دون غيرها، وعلى تخصيص الكفار بالشخوص دون غيرهم.
أما الأول فلأنه لو قال فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة جاز أن يضع موضع شاخصة حائرة أو مطموسة أو غير ذلك، فلما قدم الضمير اختصت الأبصار بالشخوص دون غيرها.
وأما الثاني فلأنه لما أراد أن الشخوص خاص بالكفار دون غيرهم دل
1 ديوان حسان 72 وفي الفلك الدائر "وفينا نبي".
عليه بتقديم الضمير أولا، ثم بصاحبه ثانيا، كأنه قال فإذا هم شاخصون دون غيرهم، ولولا أنه أراد هذين الأمرين المشار إليهما لقال فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة، لأنه أخص بحذف الضمير من الكلام.
قال ومن هذا النوع قول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" وتقدير الكلام هو الذي ماؤه طهور، وميتته حل؛ لأن الألف واللام ها هنا بمعنى الذي1.
أقول: لا يخلو إما أن يكون الضمير وهو هي في قوله تعالى "فإذا هي" ضمير الشأن والقصة أو ضمير الأبصار، وقد قدم بشرط التفسير، فإن كان ضمير الأبصار لم يكن قوله:{أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} مرفوعا بالابتداء، بل كان فاعلا؛ لأن "شاخصة" اسم فاعل معتمد على ما قبله، وهو "هي" الذي موضعه رفع بالابتداء، وقد تقدم أن اسم الفاعل إذا وقع خبرا لمبتدأ يرفع ما بعده على القول الصحيح، كما يرفعه الفعل الصريح، نحو قولهم زيد قائم أبوه، وقوله تعالى:{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} 2 فعلى هذا التقدير بطل قولهم إن شاخصة خبر مقدم.
وإن كان هي في قوله تعالى: "فإذا هي" ضمير الشأن والقصة كان شاخصة خبرا مقدما كما ذكره، ويصير تقديره فإذا الشأن والأمر أبصار الذين كفروا
1 المثل السائر: 2/ 222.
2 سورة النحل: 69.
شاخصة، ولا يكون على هذا التقدير شاخصة اسم فاعل معتمدا على ما قبله، لأن ضمير الشأن والقصة لا تعتمد عليه اللفظة الواقعة بعده، لأنه موضوع لأن يقع بعده جمله مركبة من المبتدأ والخبر، أو لأن تقع بعد لفظة مفردة، تعتمد عليه، وتصير هذه الآية كقوله تعالى:{إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُم} 1 فإن الضمير في إنه اللشأن، وبعد جملة مركبة من مبتدأ وخبر، والمبتدأ مؤخر والخبر مقدم، وكل موضع جاء فيه ضمير الشأن والقصة وبعده مثل هذه الجملة فهي ليست فاعلا لعدم الاعتماد الذي هو شرط الفاعلية، لكن على هذا التقدير يبطل قوله إنه لما أراد تعالى أن الشخوص خاص بالكفار دون غيرهم دل عليه بتقديم الضمير أولا، ثم بصابحه ثانيا، كأنه قال: فإذا هم شاخصون دون غيرهم؛ لأن هذا الكلام يقتضي أن الضمير وهو هي في قوله تعالى "فإذا هي" ضمير الأبصار لا ضمير الشأن، ألا تراه كيف قال دل عليه بتقديم الضمير أولا ثم بصاحبه ثانيا؟
فالحاصل أن كلام هذا الرجل لا يستقيم، سواء جعلنا الضمير الشأن أو للأبصار.
فأما قوله إن قوله تعالى: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ} قد قدم فيه خبر المبتدأ عليه فغير صحيح أيضا لأن قوله: {أَرَاغِبٌ} اسم فاعل معتمد على همزة الاستفهام، فيكون قوله:{أَنْتَ} في موضع الرفع بالفاعلية، إلا على القول الضعيف المتروك، والمسألة مشهورة.
1 سورة هود: 81.
ففي نحو أذهب وأقائم الزيدان، يرتفع قائم وذاهب بالابتداء، ويسد كل واحد من الفاعلين مسد الخبر.
قال النحاة إن همزة الاستفهام تستدعي الفعل بذاتها؛ لأن الاستفهام إنما يكون من فعل، ألا ترى أنك إذا فرضت شيئا مجردا، عن فعل لم يستفهم عنه، فأجروا قوله:"مجرى" أترغب.
لذلك قلنا إن قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّت} 1 السماء مرفوع بالفاعلية بتقدير فعل دل عليه انشقت، لأن "إذا" تستدعي الفعل، وكذلك ما جرى مجرى "إذا" في هذا المعنى، نحو قولهم: لو ذات سوار لطمتني2، وإن الله أمكنني من فلان.
فأما قوله في البحر: "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" وتوهمه أن ذلك من باب تقديم الخبر على المبتدأ فمثل الوهم الأول في الغلط، بل هما مرفوعان بالفاعلية، كأنه قال هو الشيء الذي ظهر ماؤه، وحلت ميتته، فحذف الموصوف وأقام الصفة المركبة من الموصول والصلة مقامه، والصفة تعمل كالفعل في هذا الموضع، فيكون ماؤه وميتته فاعلين.
1 سورة الاشتقاق: 1.
2 لو ذات سوار لطمتني: أي لو لطمتني ذات سوار؛ لأن لو طالبة للفعل داخلة عليه. والمعنى لو ظلمني من كان كفئا لي لهان علي، ولكن ظلمني من هو دوني. وقيل أراد لو لطمتني حرة، فجعل السوار علامة للحرية؛ لأن العرب فلما تلبس الإماء السوار، فهو يقول لو كانت اللاطمة حرة لكان أخف علي، وهذا كما قال الشاعر:
فلو أني بليت بهاشمي
…
خئولته بنو عبد المدان
لهان على ما ألقى ولكن
…
تعالوا فانظروا بمن ابتلائي
"مجمع الأمثال للميداني 2/ 81".
ومثله في التنزيل: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُس} 1 في قول من جعل عاليهم صفة لقوله تعالى: {وِلْدَانٌ مُخَلَّدُون} فأما استنباطه زيادة المعنى في التقديم والتأخير فشيء قد تكلمنا عليه.
104-
قال المصنف: ومن المواضع التي تفيد الاختصاص تقديم الظرف إذا كان الكلام إثباتا، كقولك إن إلى مصير هذا الأمر، فإنه يدل على أنه ليس مصير هذا الأمر إلا إليك، بخلاف ما إذا أخرت الظرف، فقلت إن مصير هذا الأمر إلي، فإنه لا يفيد الاختصاص؛ لأنه يحتمل أن توقع الكلام "بعد الظرف" على غيرك فتقول عوض ضميرك إلى زيد أو عمرو.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} 2.
أقول: إنه إنم فهم أن الإياب والحساب إلى الله تعالى من دليل آخر لا من مجرد هذا اللفظ، ولو خيلنا ومجرد هذا اللفظ لم يدل على أن الإياب والحساس ليس إلا إليه وعليه سبحانه، فإنك لو قلت إن في الدار زيدا، لم يدل ذلك على أن غيره ليس في الدار، وكذلك لو قلت وعمرا لم يتناقض الكلام.
وقد قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِي} 3 ولا يدل ذلك على أن غير الرواسي لم يجعله تعالى في الأرض.
1 سورة الإنسان: 21.
2 المثل السائر: 2/ 224.
3 سورة الأنبياء: 31.
وقال لآدم: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا} 1 ولم يكن ذلك مختصا به، فقد كانت أمثلة.
وقال تعالى: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْم} 2، ولا يدل ذلك على ما نفشت إلا فيه؛ لأن النفش هو انتشار الغنم من غير راع، سواء كانت في حرث أو في غير حرث.
وقال تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين} 3 فقدم الظرف، ولا يدل ذلك على أنه لم يشهد إلا حكمهم.
وقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} 4 ولا يدل ذلك على أنه ما أصلح زوج أحد قط إلا زوج زكريا.
وفي الكتاب العزيز ألف آية مثل هذا تبطل دعوى الحصير والاختصاص.
فأما قول القائل إلى مصير هذا الأمر، فإما ألا يدل ذلك على الاختصاص وهو الصحيح، أو يدل لكن كما يدل مع تقديم الظرف يدل مع تأخيره إذا قلت إن مصير هذا الأمر إلي، ولا فرق بين الموضعين.
والصحيح أن القرينة تلد على الاختصاص، وهو الصحيح في هذا
1 سورة طه: 118.
2 سورة الأنبياء: 78.
3 سورة الأنبياء: 78.
4 سورة الأنبياء: 90.
الموضع، لا مجرد الصيغة؛ لأنه ما جرت العادة أن الولاية وما يجري مجراها لا تنتقل إلا إلى واحد فقط.
وأما قوله إنك إذا أخرت احتمل توقيع الكلام على غيرك فضعيف، وقد تكلمنا عليه في تقديم المفعول.
105-
قال المصنف: فأما إذا كان الكلام نفيا فقد يتقدم الرف ويكون القصد به تفضيل المنفي على غيره، كقوله تعال:{لا فِيهَا غَوْلٌ} والمراد تفضيلها على خمور أهل الدنيا.
وقد يتأخر الظرف ويكون القصد به النفي فقط لا التفضيل كقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه} .
فإن القصد في إيلاء حرف النفي الريب نفي الريب عنه، وإثبات أنه حق ليس كما يزعم المشركون، ولو أولاه، الظرف وقال لا فيه ريب لكان قد قصد أن كتابا آخر فيه الريب لا في هذا الكتاب، كما قلنا في قوله:{لا فِيهَا غَوْلٌ} قال ومثل ذلك أن يقال لا عيب في الدار، ويقال لا فيها عيب، في أن الأول يقتضي نفي العيب عن الدار فقط، والثاني يقتضي تفضيلها على غيرها، أي ليس فيها ما في غيرها من العيب1.
1 المثل السائر: 2/ 225.
أقول: إن هذا الذي ذكره شيء لا يعرفه أهل العربية، ولا أهل الفقه، ولا فرق عندهم في النفي المطلق بين قولهم لا ريب فيه ولا فيه ريب، إلا من جهة أخرى، وهي أنه يقبح الاختصار على قوله لا فيه ريب في القواعد النحوية، حتى يضم إليه شيء آخر، فيقول ولا شك مثلا أو نحو ذلك.
فأما ما يعود إلى نفي الريب فاللفظان يدلان عليه دلالة واحدة، ولعله ظن أن حرف النفي إذا شافه المنفي بغير واسطة كان أبلغ في النفي من أن يتخلل بينهما واسطة، ويجريه مجرى المؤثرات الحسية، فإن السيف إذا شافه الجسم بلا واسطة كان أبلغ في القطع من أن يتخلل بينهما ثوب أو درع، فيظن أن هذا مثل ذاك، وهذا وهم عامي لا يلتفت إليه محصل.
وما نعلم كيف وقع له أنه قال: لو أنه قال ليس فيه ريب لدل على أنه ليس كغيره من الكتب التي فيها ريب، وأنه لو قال: ليس في الدار عيب لدل على أنهاليست كغيرها من الدور المعيبة، وأنه إذا قال: ليس في خمر الجنة غول يدل على أنه ليس كخمور الدنيا التي فيها غول، فإنهليس في اللفظ تعرض لذلك لا بصريحه ولا فحواه، ولو جاز أن ينسب إلى الألفاظ دلالة لا تقتضيها لا بصريحها ولا فحواها لجاز أن ينسب إليها أمور، لا تتناهى، وذلك محال.
وقال سبحانه: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} 1 وليس
1 سورة الطور: 23.
تفسير هذا الرجل لقوله تعالى "لا فيها غول" يأن المراد تفضيلها على لخمور التي فيها غول بأولى من أن تعكس القضية عليه ويفسر نحو قوله تعالى: {لا لَغْوٌ فِيهَا} بأنه يدل على تفضيلها على خمور الدنيا التي فيها اللغو والتأثيم، فيجعل حرف النفي إذا باشر المنفي وتأخر الظرف دالا على الأفضلية، وإذا تقدم الظرف دالا على النفي المطلق على مناقضة ما ذكره، فإنه لا فضل بين القولين إلا مجرد التسمي والتحيم.
106-
قال المصنف: وتقديم الحال على ذي الحال يفيد الاختصاص، نحو قولك جاء راكبا زيد، بخلاف ما إذا قلت جاء زيد راكبا، فإنه لا يدل على ذلك، لجواز أن يكون ضاحا أو ماشيا أو غير ذلك1.
أقول: أتزعم أنك إذا قلت جاء راكبا زيد فإنك قد قصرت زيدا من دون سائر الأحوال والهيائت على الركوب فقط، وأن ذلك ينفي كونه لابسا وضاحكا وجائعا وغير ذلك من الأمور التي يحتمل أن يكون عليها؟ فإن قيل نعم قيل له: كيف زعمت ذلك، ولامعافاة بين كونه راكبا وكونه على هذه الأوصاف، وأي دلالة في تقديم الحال على انتفاء غيرها؟ وهذا لغو من القول.
1 المثل السائر: 2/ 226.
107-
قال المصنف: والاستثناء المتقدم جار هذا المجرى، نحو قولك: ما قام إلا زيد أحد، وإنه يدل عل الاختصاص بخلاف قولك ما قام أحد إلا زيدا1.
أقول: لعمري إن قولك ما قام إلا زيدا أحد يدل على اختصاص زيد بالقيام، لا لأجل تقديمه على الفاعل، بل لأجل الاستثناء الذي يدل على إخراجه مما حكم به على غيره، فلولا اختصاصه بذلك لبطلت فائدة الاستثناء، ولكن هذا المعن مطرد في حالتي تقديم زيد وتأخيره؛ لأن الاستثناء يدل في كلا الموضعين دلالة واحدة على اختصاص زيد بالقيام دون غيره؛ لأنه لو قام غيره لكذب في قوله إلا زيدا.
ألا ترى أن من تحاول تكذيبه تقول له كذبت؛ لأن خالدا قد قام أيضا، فلا فرق في هذا الاختصاص بين تقديم المستثنى وتأخيره.
فإن كان هذا الرجل وحسه قد تفطن لاختصاص زائد على هذا المعنى عند تقديم المستثنى لا يؤخذ عند تأخيره، فهذا الرجل قد أدرك ما غفل عنه الأولون والآخرون، ورزق حسا وذوقا وقف بهما على ما لم يقف عليه غيره، ولا كلام لنا مع من هو بهذه الصفة، وإنما نتحدث مع أمثالنا وأشكالنا، وأما من تر في إلى طبقة أخرى فإن أمره يجل عن ذلك..
1 المثل السائر 2/ 226.
108-
قال المصنف: وقد اختلف الناس في حمل مريم عليها السلام كم مدته، فقال قوم كحمل غيرها من النساء، وقيل ثلاثة أيام، وقيل أقل، وقيل أكثر. قال: والصحيح أن حملها ووضعها كانا متقاربين على الفور من غير مهلة، وربما كان ذلك في يوم واحد أو أقل، لقوله تعالى:{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} لأنه عطف بالفاء وهي للفور، ولو كان هناك تراخ ومهلة لعطف بثم التي هي تفيد المهلة1.
أقول: إن الفاء ليست للفور، بل هي للتعقيب على حسب ما يصح إما عقلا أو عادة، ولهذا صح أن يقال دخلت البصرة فبغداد، وكان بينهما زمان كثير، لكن تعقيب دخول هذه عن دخول تلك على ما يمكن، بمعنى أنه لم يمكث بواسط مثلا سنة أو مدة طويلة، بل طوى المنازل بعد البصرة ولم يقم بواحد منها إقامة يخرج بها عن حد السفر إلى أن دخل بغداد، وهذا هو الذي يقوله أهل اللغة وأهل الأصول، وليست الفاء للفور الحقيقي.
أقول: معناه حصول هذا بعد هذا2 بغير فصل ولا زمان كما توهماه هذا الرجل، ألا ترى إلى قوله تعالى:{لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} 3 والعذاب متراخ عن الافتراء.
1 المثل السائر: 2/ 237.
2 يريد حدوث الوضع بعد الحمل.
3 سورة طه: 61.
وقال: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} 1 والردى متراخ عن الصد عنها. وقال: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} 2 وليس خروج النبات عقب إنزال المطر، بل هو متراخ عنه. وقال:{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} 3 ولم يكن النسيان عقب العهد، فإنه قد دام مكثه متجنبا للشجرة التي نهى عن أكلها مائة عام، ثم أكلها.
وفي القرآن من هذاالجنس الكثير الواسع، فإذن لا يدل على قوله تعالى:{فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} ، أن ذلك كله كان في يوم واحد أو أقل كما اعتقده هذا الرجل.
109-
قال المصنف: ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} قال فذكر الخلق الأول من الطين وهو آدم، ثم عطف عليه الخلق الثاني بثم لما بينهما من التراخي، ولما صار إلى القدر الذي يتبع بعضه بعضا من غير تارخ عطفه بالفاء، ولما انتهى إلى جعله ذكرا أو أنثى وهو آخر الخلق عطه بثم.
1 سورة طه: 16.
2 سورة طه: 53.
3 سورة طه: 115.
ثم اعترض على نفسه فقال قد وردت آية أخرى بلفظة ثم لهذه التقلبات بعينها، وهي قوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} ثم أمسك عن الجواب1، فلم يقل شيئا، هكذا وجدته في نسخة هذا الكتاب التي وصلت إلينا من الموصل فطلبت نسخة أخرى، ثم تأملتها فوجدته أيضا قد أخلى بياضا للجواب.
أقول: قد كان الواجب عليه أن يتفطن من ههنا لحقيقة الفاء، وأنها ليست كما يظن أنها تقتضي الفور الحقيقي، وإن وجد أحدهما في الزمان الأول، والآخر في الزمان الثاني بلا فصل، بل تقتضي التعقيب على ما يصح ويمكن كما قدمنا فأما ثم فتقتضي تراخيا ومهلة أكثر مما في الفاء.
ومن العجيب ظنه أن الفاء في قوله تعالى: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} للتعقيب الذي يتوهمه، وهو عدم الزمان المحسوس بين الحالتين، وكيف يمكن أن نعتقد هذا، وبين صيرورة العلقة مضغة زمان طويل، وبين صيرورة المضغة عظاما مثل ذلك، ولو كان الأمر كما تصوره هذا الرجل لوجب القول بأن الزمان الذي تتكون فيه النطقة علقة، تتكون في الزمان الثاني منه بلا فضل مضغة، وتتكون في الذي يليه بلا فصل عظاما، وتتكون في الزمان الذي يليه على تلك العظام لحم، وتتكون هذه المراتب كلها، وتقع جميعها في أقل من عاشرة من عواشر الدقائق، وهذا أمر ما قاله مخلوق قط:
1 المثل السائر: 2/ 238 وليس في الكتاب جواب عن السؤال.
وهو مع ذلك مخالف للحس والوجدان، فالآية الثانية الواردة بلفظة ثم غنية عن التأويل محكمة واضحة؛ لأن لفظة ثم واقعة موقعها.
فإنا إذا استقبحنا على سياق كلامه أن يقول قام زيد يوم السبت، فقام عمرو يوم الأحد، لأجل أن بينهما يوما واحدا، وأوجبنا أن يقول ثم قام عمرو يوم الأحد، وجعلنا مدة اليوم فقط مهلة وتراخيا يليق أن يؤتى بثم لأجلها، فالأولى أن يؤتى بثم في أطوار الخلقة التي لا ينتقل طور منها إلى طور آخر إلا في الأيام الطويلة التي تتجاوز الشهر.
فأما قوله: ولما صار إلى جعله ذكرا أو أنثى وهو آخر الخلق عطفه بثم، فنقول له: أين في الآية ذكر جعله ذكرا وأنثى؟ فإن كنت تعني قوله "ثم أنشأناه خلقا آخر" فإن تقسيم الحيوان المخصوص إلى ذكر أو أنثى ما كان في آخر المراتب كما يتوهم، بل إما في أول التكوين وابتداء الأطوار على ما يعتقده قوم، أو عند جعله عظاما ولحما؛ لأنه لا يغيره أن يجعله لحما وعظاما فيكون إنسانا كاملا ومع ذلك فليس بذكر أو أنثى.
فالذي سبق إلى ذهن هذا الرجل من أن المراد بقوله {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَر} الذكورة والأنوثة قد سبق قبله إلى أذهان قوم من صنعة المفسرين، وهو غلط، بل المراد بذلك أنا أخرجناه من ذلك الوعاء إلى خارجه، وجعلناه مستقلا بنفسه بعد أن كان جزءا من أمه؛ لأنه كان يغتذي باغتذائها، كما يغتذي عضو من أعضائها، فلما استقل بنفسه في الغذاء وغيره وجميع صورته، وظهر شخصه صار خلقا آخر.
110-
قال المصنف: ومن الألفاظ ألفاظ يراد بها المبالغة والتكثير، كالألفاظ التي تجئ على وزن فعال كتواب وغفار فإنهما يفيدان كثرة التوبة والمغفرة وتكررهما من الفاعل، وليسا كتائب وغافر، فإنهما يدلان على وقوع المغفرة والتوبة من الفاعل ولو مرة واحدة.
قال وقد وهم بعض شعراء الحماسة في هذا الموضع فقال:
لله تيم أي رمح طراد
…
لاقى الحمام وأي نصل جلاد
ومحش حرب مقدم متعرض
…
للموت غير مكذب حياد
قال فانعكس عليه القصد؛ لأنه إذا نفى كونه حيادا فقد نفى عنه كونه كثير الهزيمة والانحراف عن قرينه، وذلك أن يكون قليلهما، ولا شبهه أن يكون غير حياد ولكنه حائد، أي وجدت منه الحيدودة مرة واحدة. وإذا وجدت منه مرة كان ذلك جبنا، ولم يكن شجاعة، والأولى أن كان قال: غير مكذب حائد1:
أقول: فعلى هذا القياس يكون قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد} 2 يقتضي أن يكون دالا على نفي تكرر الظلم، ويكون مفهوم ذلك وفحواه أنه
1 المثل السائر: 2/ 254 ومنه أصلحنا النص.
2 سورة فصلت: 46.
بظلم العباد ظلما قليلا، كما كان فحوى بيت الشاعر أن هذا المرثي يجبن نادرا، وأن يكون قوله صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام:"لأعطين الراية غدا لرجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار" أي لا يكثر الفر بل يفر أحيانا في النادر، مع أن عليا لم يفر قط على ما نقل عنه المخالف والمؤالف، وأن يكون قول سطيح1 في كهانته على رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس بفظ ولا صخاب" يقتضي ألا يصخب كثيرا، بل يصخب في وقت بعيد.
واعلم أن العرب إذا استعملت هذه اللفظة في النفي فإنهم لا يعنون بها إلا ما يعنون بلفظة فاعل فقط، ولو شئت أن أذكر من ذلك الأمثلة الكثيرة لذكرتها، فأما في الإثبات فإنهم قل أن يستعملوها إلا في الكثرة والتكرير كما ذكره هذا الرجل، وكان الواجب أن يتصفح كلامهم، ويفرق بين استعمالهم لها نفيا واستعمالهم لها إثباتا.
111-
قال المصنف: وينبغي أن يعلم أنه إذا وردت لفظة من الألفاظ، ويجوز حملها على التضعيف الذي هو طريق المبالغة، وحملها على غيره، أن ينظر فيها.
1 سطيح كاهن بني ذئب، كان يتكهن في الجاهلية، وأخبر بمبعثه صلى الله عليه وسلم، ومات بعد مولد النبي. قالوا إنه سمي بذلك لأنه كان إذا غضب قعد منبسطا فيما زعموا، وقيل إنه سمي بذلك لأنه لم يكن بين مفاصله قصب تعتمده فكان أبدا منبسطا منسطحا على الأرض لا يقدر على قيام ولا قعود. وهو خال عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة الغساني، وابن خالة شق الكاهن "هامش القاموس مادة سطح".
فإن اقتضى حملها على المبالغة. فهو الوجه.
وذلك أن قوة اللفظ لقوة المعنى لا تستقيم إلا في نقل صيغة إلى صيغة أكثر منها، كنقل الثلاثي إلى الرباعي.
وإذا فإذا كانت صيغة الرباعي مثلا موضوعة لمعنى، فإنه لا يراد بها ما أريد من نقل الثلاثي إلى مثل تلك الصيغة.
ألا ترى أنه إذا قيل في الثلاثي "قتل" ثم نقل إلى الرباعي فقيل "قتل" بالتشديد، فإن الفائدة من هذا النقل هي التكثير، أي أن القتل وجد منه كثيرا؟.
وهذه الصيغة الرباعية بعينها لو وردت من غير نقل لم تكن دالة على التكثير، كقوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ، إذ أنه لا ثلاثي لهذه اللفظة1.
أقول: إنه لا يصح أن يقال على الإطلاق متى كان لهذه الصيغة وهي فعل بالتشديد ثلاثي، فإنها تُعطي معنى التكثير والقوة، وذلك أنا قد وجدناها في مواضع بخلاف هذه الصفة، نحو قولك قلصت شفته إذا انزوت بالتخفيف، ومثله قلصت بالتشديد، ولا فرق بينهما عند أهل اللغة في كثرة ولا قلة، وقد نصوا عليه، وذكر ذلك صاحب ديوان الأدب فقال: قصر من الصلة وقصر منها2.
1 المثل السائر: 2/ 253-255 ومنه نقلنا النص وصححناه.
2 في أساس البلاغة: قصر من الصلاة قصرا وأقصر وقصر "بتشديد الصاد في الأخيرة".
فأما قوله إن فعل مشددا إذا لم يكن له ثلاثي قد نقل عنه فإنه لا يدل على الكثرة فصحيح، لكن تمثيله بقولهم رتل القراءة غير صحيح؛ لأن هذه اللفظة لها فعل ثلاثي وهو رتلت قراءته بالكسر رتلا أيضا، ويقال منهما ثغر مرتل، وكلام مرتل.
فأما تمثيله بكلم فتمثيل صحيح لا نزاع فيه.
112-
قال المصنف: وقد ذهب جمهور علماء العربية إلى أن عليما أبلغ في معنى العلم من عالم.
قال: ولا أرى ذلك صوابا؛ لأنك تجد الحروف في الموضعين على عدة واحدة لم ينتقل فيها الأدنى عددا إلى الأعلى، بل الذي يوجبه القياس يقتضي عكس ما قالوا؛ لأن فعيل في وزن طريق وكريم وأمثالهما من أمثال الأخلاق والطبائع التي لا تقع إلا قاصرة1، وفاعلها على هذا الوزن هو فعيل2 لا غير، وليس بناء فاعل كذلك؛ لأنه يجيء من المتعدي كضارب ومن اللازم كقائم، وما يشبه مالا يكون إلا للقاصر أضعف مما يكون بناؤه للمتعدي والقاصر معا3.
1 يريد بالقاصرة اللازمة.
2 قال ابن الأثير: عالم اسم فاعل، من علم وهو متعد، وعليم اسم فاعل من علم "بضم اللام" إلا أنه أشبه وزن الفعل القاصر، نحو شرف فهو شريف وكرم فهو كريم، فهذا الوزن، لا يكون إلا في الفعل القاصر. فلما أشبهه "عليم" انحط عن رتبة "عالم" الذي هو متعد.
3 المثل السائر: 2/ 256 بتصرف.
أقول إن فعيلا وإن لم ينص العرب على أنه للمبالغة فقد نبهوا على ذلك باستعمالهم إياه خبرا عن الجماعة، وإجراء صفته المذكر والمؤنث، أما كونه خبرا عن الجماعة فنحول قول جرير:
جلون العيون النجل ثم رميننا
…
بأعين أعداء وهن صديق1
ومثله في الخبر قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين} 2، ولم يقل قريبة.
وإذا وصف به المذكر والمؤنث ووقع خبرا عن الجماعة صار كالمصادر الواقعة للأجناس المشترك في الوصف بها المفرد والمع والمذكر والمؤنث، نحو قولهم رجل فطر وامرأة فطر ورجال فطر ونساء فطر، ومثل هذا لم يجئ في وزن فاعل، وعلة ذلك أن فعيلا أشبه فعولا، لأنه صفة مثله وثالثه حرف مد، وفعول قد وقع للجمع والمفرد والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، قال الله تعالى:{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِين} 3 فعدو فعول، وقد أخبر به عن الجماعة، أي أنهم لي أعداء.
1 البيت في الديوان "368":
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا
…
بأسهم أعداء وهن صديق
من قصيدته في مدح الحجاج التي مطلعها:
بت أرائي صاحبي تجلدا
…
وقد علقتني من هواك علوق
2 سورة الأعراف: 56.
3 سورة الشعراء: 27.
وقالوا امرأة شكور كما قالوا رجل سكور، وإنما استعملوا فعولا للمبالغة والكثرة؛ لأنه على لفظ فعول الذي يقع مصدرا، نحو الدخول وليس بينه وبينه إلا ضم هذا وفتح هذا.
وقال أبو الفتح رحمه الله سرى التذكير من فعول المصدري إلى فعول الوصفي، يعني أن المصدر للجنس، والغالب على الجنس التذكير، فلذلك لم يؤنث فعول إذا وقع للمؤنث بمعنى فاعل، نحو امرأة صبور، وامرأة شكور، وشذ قولهم امرأة عدوة، حملوه على قولهم امرأة صديقة بالهاء الفارقة في الواحد بين المذكر والمؤنث.
فأما قوله إن فعيلا يجيء من أفعال الغرائز فذلك لا ينافي وقوعه للمبالغة؛ لأن قولنا قدم فهو قديم فيه مبالغة، وكذلك عتق فهو عتيق بمعنى قدم في الزمان على جهة المبالغة، وقال سبحانه:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيم} 1.
113-
قال المصنف: ومن التطويل الذي لا حاجة إليه قول العجير السلولي من شعراء الحماسة:
طلوع الثنايا بالمطايا وسابق
…
إلى غاية من يبتدرها يقدم
قال: فالزيادة قوله المطايا؛ لأنه أراد ما أراده الحجاج بقوله: "أنا ابن جلا
1 سورة يس: 39.
وطلاع الثنايا" أي سامي الهمة إلى معالي الأمور، فالمطايا فضلة؛ لأن معالي الأمور لا يُرقى إليها بالمطايا، وإن أراد به أنه كثير الأسفار فتخصيصه الثنايا بالذكر دون سائر الأرض من المفاوز وغيرها لا فائدة فيه.
وعلى كلا الوجهين فذكر المطايا فضلة لا حاجة إليها، وهو تطويل بارد غث1.
أقول: إن هذا الكلام مدخول من ثلاثة أوجه: الأول أنه لو أراد ما أراده الحجاج من سمو همته إلى معالي الأمور، وإحاطة علمه بالخفايا كما يحيط علم الربيئة الذي يطلع الثنايا بأحوال الأرض ومن يصير فيها، لم يكن قوله بالمطايا زيادة لا معى تحتها؛ لأنه كنى بالمطايا عن مساعيه وآثاره ومقامامته التي تقدم بها في معال الأمور، واكتسبها، وسماها مطايا لأنها هي التي أوصلته إلى المعالي، كما يصل الإنسان بالمطية إلى مقصده.
ولهذه العلة استعاروا هذه اللفظة، فقالوا الليل والنهار مطيتان تقربان البعيد، وسمي أبو الطيب نعله ناقة، فقال:
لا ناقتي تقبل الرديف ولا
…
بالسوط يوم الرهان أجهدها2
1 المثل السائر: 2/ 270.
2 من قصيدته في مدح محمد بن عبيد الله العلوي التي مطعلها:
أهلا بدار سباك أغيدها
…
أبعد ما بان عنك خردها
الديوان 1/ 195.
والبيت في الفلك الدائر هكذا:
لا ناقتي تقبل الرديف لما
…
كانت توصله إلى مقصوده
فمراد الشاعر إذن أنني نلت معالي الأمور بالسعي والآثار والتوصل، لا بالميراث ولا الاقتصار على شرف الأنساب.
والوجه الثاني لو أراد الإبانة عن كثرة الأسفار لكان لقوله الثنايا مزية ظاهرة على غيرها من الأرض؛ لأن الثنايا والعقاب والروابي أشق الأرض سيرا، قال الشاعر:
وثنية قذف يحاربها القطا
…
ويضل فيها حين يغدو الأحقب1
وقال:
ومزناة لا تستطاع قطعتها
…
بهيق كتابوت النصارى شمرول2
وأشعارهم في هذا الباب كثيرة جدا.
الوجه الثالث أنه أدعى أن لفظة المطايا هي الفضلة الزائدة، ثم برهن على ذلك بأن قسم المعنى إلى قسمين، ثم بين أن أحد القسمين إن كان هو المراد فالمطايا فضلة زائدة، وهو المطلوب، ثم قال: وإن كان القسم الثاني هو المراد
1 الأحقب: الحمار الوحشي الذي في بطنه بياض.
2 المزنأة: مكان الصعود في الجبل، زنأ في الجبل أي صعد.
الهيق: ذكر النعام، شبه به الجمل.
الشمردل: القوي السريع الحسن الخلق الفتى من الإبل وغيرها.
والبيت بالأصل "ومرثاة" وقد رجحنا أن يكون تصويبها "ومزنأة" أو "ومنقبة" لأن المنقبة الطريق الظاهر على رءوس الجبال والآكام والربا.
فالثنايا فضلة زائدة، فإذن استدلاله لا ينتح المطلوب؛ لأنه إنما كان ينتج المطلوب لو ثبتت زيادة قوله بالمطايا على كلا القسمين، فأما إذا كان أحد القسمين لا يقتضي زيادتها، بل زيادة غيرها، فقد بطل قوله ودعواه أن ذكر المطايا فضلة لا حاجة إليها، على كلا الوجهين.
114-
قال المصنف: فأما بيت أبي تمام وهو:
يتجنب الآثام ثم يخافها
…
فكأنما حسناته آثام
فإنه قد جاء في بعض النسخ:
يتجنب الآثام خيفة غيها
…
فكأما حسناته آثام
وليس بشيء؛ لأن المعنى لا يصح به، والوجه الرواية الأولى.
وقد خطر لي في معناه أنه نظير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة} وتقديره أنه يتجنب الآثام، فيكون قد أتى بحسنة، ثم يخاف تلك الحسنة، فكأنما حسناته آثام، وهو على طباق الآية سواء1.
أقول: إن هذا التفسير يكاد يكون التفسير، ولكنه لم يوضحه؛ لأنه قال ثم يخاف تلك الحسنة، ولا ريب أن الحسنة التي صدرت منه هي تجنب الآثام، وهي طاعة لا يخافها أحد، فما باله خاف التجنب حتى صار كأنه من الآثام؟
1 المثل السائر: 2/ 288.
فقد بان أنه قد أعوزته كلمة لم يذكرها، وهو أنه لا يخاف الآثام، بل يخاف ألا يُقبل منه وألا يُثاب عليه، فيكون خوفه من ذلك خوفه من الآثام نفسها، ويكون هذا من باب حذف المضاف، كأنه قال يتجنب الآثام ثم يخاف ردها أو يخاف إحباطها، والضمير إلى مصدر قوله يتجنب، لأن يتجنب قد دل على التجنب.
فإن قلت ضمير المؤنث ههنا كيف جاء والتجنب مذكر؟ قلت: هو محمول على المعنى؛ لأن التجنب كالجفوة والهجرة والمفارقة، وإعادة الضمير على المعنى في باب التذكير والتأنيث كثيرة مشهورة.
وعلى هذا التحقيق ظهرت مطابقته بالآية على أحد تفسيريها.
فأما قوله إن رواية "خيفة غيها" لا يصح المعنى بها، فإن بعض المفسرين قال إن هذا البيت محمول على القلب، وتقديره: فكأنما آثامه حسنات، قال ومعناه كأن آثامه حسنات وغيره؛ لأنه من الأبرار الأولياء الذين حسنات الناس سيئات بالنسبة إلى عباداتهم، ومن كلامهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين، يعنون علو طبقة المقربين على طبقة الأبرار.
والقلب قد جاء في الكلام كثيرا نحو قولهم: أدخلت الخاتم في إصبعي، والتحقيق أدخلت إصبعي في الخاتم؛ لأن الإصبع هي التي أدخلت في الخاتم، وقولهم كأن الزنا فريضة الرجم، وقال الآخر:
وبلد عامية أعماؤه
…
كأن لون أرضه سماؤه1
وقد جاء في التنزيل شيء من ذلك قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} 2 أي فإني عدو لهم وعداوته تعالى لهم يراءته منهم ولعنته لهم، وإذا ثبت هذا فالرواية التي أفسدها وزعم أنها لا تصح صحيحة غير منكرة
…
115-
قال المصنف: فأما بيت أبي نواس، وهو قوله:
سنه العشاق واحدة
…
فإذا أحببت فاستكن
ومن الناس من يرويه فاستنم بالنون، وهذا لا معنى له؛ لأنه إذا لم يبين سنه العشاق ما هي، فبأي شيء يستن المستن منها؟ 3.
أقول: إن البيت الذي قبله يوضح العشاق التي أمره أن يستن بها، ألا ترى أن من قال لغيره إذا دخلت على الملك فاسجد، ثم قال عقيب ذلك عادة عبيد الملك وخوله مشهورة، فإذا أحببت أن تكون منهم فاعمل بها، فإنه يفهم من هذا الكلام أنه إشارة بالعادة إلى ما قدمه أولا من السجود للملك.
1 البيت لرؤبة، والأعماء المجاهل، وأعماء عامية على المبالغة، على حد قولهم ليل لائل، وشغل شاغل. وقال الأزهري: عامية دراسة وأعماؤه مجاهله "لسان العرب مادة عمى".
2 سورة الشعراء: 77.
3 المثل السائر: 2/ 289.
116-
قال المصنف: بعد أن ذكر آيات كثيرة من الكتاب العزيز تتضمن حذف جمل مفيدة وغير مفيدة: ومن هذا الباب قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ، قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} لأن الأمر بتفكيره لا يكون إلا بعد أن جيء به إليه1.
أقول: تقدير هذا الحذف غير محتاج إليه في هذه الآية؛ لأنا إن جعلنا الضمير في "رآه وفي عنده" راجعا إلى الذي عنده علم من الكتاب جعلنا الضمير في "قال نكروا لها" راجعا إلى سليمان، فيكون تقدير الكلام: فلما رأى الرجل الذي عنده علم من الكتاب عرش بلقيس مستقرا عنده، قال: هذا من فضل ربي إلى آخر الآية، ثم هذا يحكي قول سليمان "نكروا لها عرشها" فلا تحتاج الآية إلى حذف ولا إضمار.
وإن جعلنا الضمائر كلها راجعة إلى سليمان لم يحتج أيضا إلى الحذف الذي ذكره، بل يكون قوله نكروا لها عرشها إما معطوفا حذف منه حرف العطف، تقديره وقال نكروا لها عرشها، كما قال:{لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} 2
1 المثل السائر: 2/ 293.
2 سورة آل عمران: 113.
أو جوابا ثانيا للم، أو كلاما مستأنفا، كأنه فرغ من تلك القصة، ثم شرع في جملة أخرى، وهي أنه لا حاجة إلى حذف المذكور؛ لأنه لما قال فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي، وهذا يغني عن أن يقدر مرة ثانية "فلما جيء به" لأن معناهما واحد.
117-
قال المصنف: وقد نص أبو الفتح ابن جني على أن حذف الفاعل لا يجوزه قال: وبيت حاتم يشهد بخلاف قوله وهو:
أماوى ما يغني الثراء عن الفتى
…
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وقال الله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} ولم يذكرها1.
أقول: إن البصريين كلهم قد منعوا حذف الفاعل لقاعدة مقررة عندهم، وهي أن الفاعل ينزل منزلة جزء من الكلمة؛ لأنهم سكنوا لام الفعل إذا اتصل به ضمير الفاعل، نحو ضربت، كي لا تتوالى أربع متحركات لوازم في كلمة واحدة، فإن ذلك لا يوجد إلا أن يكون قد حذف حرف من الكلمة للتخفيف، نحو علبط2، فإسكانهم لام الكلمة تنزيل لضمير المتكلم وهو الفاعل منزلة حرف من نفس الكلمة، ولذلك لم يسكنوا
1 المثل السائر: 2/ 296 ولم يذكر ابن الأثير هذه الآية، بل ذكر آية أخرى هي:{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} وقال إن الضمير في بلغت للنفس ولم يجر لها ذكر.
2 العلبط والعلابط بضم عينهما وفتح لامهما وكسر بائهما الضخم والقطيع من الغنم "القاموس المحيط".
لام الفعل إذا اتصل به ضمير المفعول كقوله تعالى: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُه} 1 لأنه في نية الانفصال، بخلاف قوله:{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى} 2 قالوا وكذلك جعلوا النون في يفعلان وبابه علامة الرفع، فلولا أن الألف بمنزلة حرف من نفس الكلمة لما جعلوا الإعراب بعده، ولأنهم ألحقوا علامة التأنيث بالفعل في قولهم: قامت هند، والفعل لا يؤنث، فلو لم يكن الفاعل بمنزلة جزء من الفعل لما جاز إلحاق علامة التأنيث به.
وقد نسبوا إلى "كنت" فقالوا كنتي قال الشاعر:
فأصبحت كنتيا وأصبحت عاجنا
…
وشر خصال المرء كنت وعاجن3
فأثبتوا الياء، ولولا تنزيلها منزلة جزء من الكلمة لم يثبتوها في النسب، ولهم على هذه القاعدة أدلة، كثيرة مذكورة في مواضعها.
وإذا كان الفاعل بمنزلة جزء من الكلمة لم يجز حذفه، كما لا يجوز حذف الدال من زيد، ولكنه يضمر، فتارة يرجع إلى شيء متقدم في اللفظ، كقولنا زيد قام، وتارة إلى ما يدل عليه لفظ مصرح به، وإن لم يكن المضمر راجعا إلى ذلك اللفظ، كقولهم: من كذب كان شرا له،
1 سورة الأحزاب:12 {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} .
2 سورة البقرة: 51.
3 الكنتي: الكبير العمر "الناموس مادة كان".
العاجن: الشيخ الكبير، يقال فلان عجن وخبز أي شاخ وكبر؛ لأنه إذا أراد القيام اعتمد على ظهور أصابع يديه كالعاجن، وعلى راحتيه كالخابز "أساس البلاغة مادة عجن".
فاسم كان مضمر دل عليه لفظ كذب، والمعنى كان الكذب شرل له، قال الله سبحانه:{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} 1 أي بدالهم بداء، فأضمر الفاعل لدلالة بدا عليه.
وقد أضمره الشاعر فقال:
لعلك والموعود حق لقاؤه
…
بدا لك في تلك القلوص بدء2
وقد تقدم أن قوة العلم بالفاعل في بعض المواضع تقوم مقام ذكره أو ذكر ما يدل عليه، كقوله تعالى:{حَتَّى تَوَارَتْ} 3 وقول حاتم: "إذا حشرجت".
والضابط في ذلك ألا يزيد ذكر الفاعل في قوة العلم به على ما يحصل من قوة العلم وهو غير مذكور كما في الآية والبيت، فإنه لو ذكر الشمس والنفس لم تزد قوة العلم على ما نجده الآن، وإن لم يذكرهما، وهذا هو الفرق بين حذف الفاعل وحذف غيره، فإن هذا الضابط، غير معتبر في شيء من المواضع إلا في الفاعل إذا لم يذكر.
1 سورة يوسف: 35.
2 القلوس: الناقة الفتية أو الباقية على السير. بداء: رأي ناشئ.
3 سورة ص32 {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي الشمس.
118-
قال المصنف: وقد يحذف الفعل لدلالة المفعول عليه، كقولهم:"أهلَكَ والليلَ" بنصبهما معا أي الحق أهلك وبادر الليل1.
أقول: ظاهر هذا الكلام أنه انتصب اللفظان بإضمار فعلين، وهو خلاف ما تقوله النحاة؛ لأنهما عندهم منصوبان بفعل واحد، تقديره بادر أهلك والليل، ومعناه بادر أهلك قبل الليل، وتحقيق ذلك أن معنى المبادرة مسابقتك الشيء إلى الشيء، كقولك بادرت زيد للمنزل، كأنك سابقته إليه، فلما عطف الليل على الأهل وجعلهما مبادرين أمره بمبادرتهما قبل أن يسقه أحدهما إلى الآخر.
119-
قال المصنف: حذف الفعل ينقسم إلى قسمين: أحدهما يظهر بدلالة المحذوف عليه، كما ذكرناه من قولهم أهلك والليل، وكقول المتنبي:
وما أرضى لمقلته بحلم
…
إذا انتبهت توهمه ابتشاكا2
ولا إلا بأن يصغي وأحكي
…
فليتك لا يتيمه هواكا
فقوله ولا إلا بأن تصغي فيه محذوف، تقديره ولا أرضى إلا بأن تصغي وأحكي.
1 المثل السائر: 2/ 297.
2 الابتشاك: الكذب.
قال: والقسم الثاني لا يظهر فيه الحذف، لأن هناك منصوبا يدل عليه، بل بالنظر إلى ملاءمة الكلام، كقوله تعالى:{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ} وكقوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} وكقوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ} فتقدير ذلك كله: وقلنا لقد جئتمونا، وقلنا أذهبتم طيباتكم، وقلنا وإن جاهداك1.
أقول: لا فرق بين هذا القسم وبين قوله إلا بأن تصغي وأحكي؛ لأنه لو أظهر "وقلنا" لكان ما بعده منصوبا لأنه مفعول به، كما لو أظهر المفعول فقال ولا أرضى شيئا إلا بأن تصغي، فالقول ينصب ما بعده إذا كان كلا مقولا كما ينصب الفعل مفعوله، وكما أن موضع "لقد جئتمونا" هو المنصوب لا لفظه، ولا فصل بين الموضعين، فدعواه أن هذه الآيات علم الحذف منها بالنظر إلى ملاءمة الكلام لا بأن في الكلام مفعولا يدل على حذف الفاعل، وأن قوله "ولا إلا أن تصغي وأحكي" خلاف ذلك دعوى غير مقبولة.
120-
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
…
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذا لقام بنصري معشر خشن
…
عن الحفيظة إن ذو لوثة لانا
1 المثل السائر: 2/ 300.
فجواب الشرط قد استوفاه في البيت الأول، فلا بد في البيت الثاني من تقدير لو دفعة ثانية، أي لو كنت منهم إذن لقام بنصري معشر خشن1.
أقول: إن هذه المسألة تنبني على أن العامل في البدل هو العامل في المبدل منه أم لا، فإن لم يثبت ذلك لم يصح هذا الكلام؛ لأنه جاز أن يكون قوله "إذن لقام بنصري" بدلا من قوله "لم تستبح إبلي" لأنه في معناه، والفعل يبدل من الفعل إذا كان في معناه، نحو ادن يا فتى أحسن إليك أعطك سالا، وإذا لم يحتج في البدل إلى تكرير العامل لم يحتج هنا إلى تكرير لو، وإن لم تثبت هذه القاعدة فإن ما ذكره صحيح لا ريب فيه.
121-
قال المصنف في باب التكرير: التكرير على قسمين تكرير في اللفظ والمعنى جميعا، وتكرير في المعنى فقط دون اللفظ، فالأول نحو قولك لمن تستدعيه أسرع أسرع، ونحو قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} ومثل قول أبي الطيب المتنبي:
ولم أر مثل جيراني ومثلي
…
لمثلي عند مثلهم مقام2
أقول التمثيل باللفظة المذكورة وبالآية تمثيل جيد.
وأما التمثيل بالبيت فغير جيد؛ لأنه لم يتكرر فيه اللفظ والمعنى حسب
1 المثل السائر: 2/ 321.
2 المثل السائر: 3/ 3.
تكرره في الآية وفي اللفظة المذكورة؛ لأنه لم يذكر في صدر البيت إلا في نفي رؤية مثله ومثل جيرانه، ولم يبين في ماذا، ولا هذه المثلية والمشابهة في أي شيء، فمن الممكن أنه كان يعني أر مثلي ومثلهم في حب بعضنا لبعض، أو في بغض بعضنا لبعض، أو في جودنا لم أر مثلي، ومثلهم في حب بعضنا لبعض، أو في بغض بعضنا لبعض، أو في جودنا أو في شجاعتنا، أو في ديانتنا، فلما قال في عجز البيت "لمثلي عند مثلهم مقام" كشف ذلك الإجمال، وأزال ذلك الإبهام، وأبان عن أن مراده لم أر مثلي مقيما بين ظهراني مثلهم، يعني أنهم على غاية الإساءة لعشرته، وأنه على غاية الصبر عليهم، والاحتمال لهم، وأن مقامه عظيم لا يصلح أن يكون مثله مقيما بين هؤلاء الرعاع.
فالشاعر لم يكرر كما تكررت ألفاظ الآية، ولا وجد اللفظ والمعنى معا مرددين مكررين في هذا البيت، ولكن أول ألفاظه يعطي معنى مجملا، والثاني يعطي معنى مفصلا، وهو شرح ذلك المجمل، فلم يكن ذلك تكريرا مشتملا على إعادة اللفظ والمعنى معا، فلم يجز إدخاله في هذا القسم، وذكره في جملة أمثلته.
122-
قال المصنف: فأما قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فليس كما يتوهم من أنه تكرير فقط، بل المراد به إيجاب صوم الأيام السبعة عند الرجوع في الطريق على الفورلا عند الوصول إلى البلد، كما ذهب إليه بعض الفقهاء، وقال: لأن الأمر إذا صدر بلفظ التكرير مجردا عن قرينة تخرجه عن وصفه، ولم يكن مؤقتا بوقت معين،
كل ذلك حثا للمأمور على المبادرة على الفور، كما تقول لصاحبك قم قم، فإنما تريد بهذا اللفظ المكرر أن يبادر إلى القيام في الحال الحاضر1.
أقول: إن المذهب الذي قد اختاره هو مذهب مجاهد، والاحتجاج الذي قد احتج به لنصرته ضعيف؛ لأن فحوى كلامه أنه يذهب إلى أن الأمر إذا ورد مجردا عن التكرير لم يدل على الفور، ألا تراه كيف قد قيد كلامه فقال إذا صدر بلفظ التكرير غير مؤقت، فلو كان ممن يذهب إلى أن الأمر يقتضي على الفور مجردا لم يحتج إلى هذه القيود.
وإذا كان كذلك فأدلة القائلين بأن الأمر لا يقتضي الفور جميعها موجودة في أن الأمر المكرر قرينة يفهم منها الفورية، مثل أن يقول له قمْ قمْ قول غضب أو إرهاق، أو يشاهد وجهه أو يسمع كلامه، فيدرك منها ما يدل على ذلك، أو يظهر من حركاته وقرائن أحواله أمارات تقتضي ذلك.
فأما مجرد فقط فلا يدل تكريره على الفورية؛ لأن الزمان من ضروريات وقوع الامتثال، كما أن المكان من ضرورياته أيضا، وكما لا يدل تكرار الأمر على وجوب إيقاع المأمور به في مكان معين، فكذلك لا يدل تكرار على وجوب إيقاعه في زمان معين.
ولا حيلة في دفع هذا لمن ذهب إلى أن الأمر يقتضي الفور سواء كرر
1 المثل السائر: 3/ 30.
أو لم يكرر، فإنه يتكلم على هذا الدليل كلام من أثبت الفورية للأمر، حيث كان أمرا لا باعتبار التكرير.
ثم يقال له لو سلمنا أن الأمر المكرر اللفظ يدل على الفور، لكن ليس قوله "فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة" مثل قول الإنسان لغيره قم قم، ولا تكون السبعة والثلاثة والحكم بأنها عشرة كاملة كذلك التكرير اللفظي في مبادرة الأفهام إلى أن المراد منه تعجيل امثتال المأمور به، فإنما نظيره أن يقول من تمتع بالعمرة إلى الحج فقد أوجبت عليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
فأما قوله سبحانه {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فلا يعطي هذا المعنى؛ لأنه ليس إعادة لفظ الأمر كقولك قم قم، ولا معناه كقولك قم لا تقعد، وإنما هو نعت المأمور به فقط.
وقد اختلف الناس في فائدة هذا النعت، فقال قوم معناه عشرة كاملة ثواب الهدى، أي إذا وقعت بدلا منه استكملت ثوابه، وقال قوم غير ذلك، والمقصود أنه ليس قوله {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} تكرير الأمر بلفظه لإفادة الفورية منه؛ إذ ثبت أنه لا يفيد الفورية.
123-
قال المصنف: فإن قلت بل الغرض بتكرير الأمر أن يتكرر في نفس المأمور أنه مراد منه، وليس الغرض الحث على المبادرة إلى امثتال الأمر قلت
في الجواب: المرة الواحدة كافية في تعريف المأمور أن المأمور به مراد منه، فالزيدة على المرة الواحدة إن دلت على ما دلت عليه المرة الواحدة لا غير كان ذلك تطويلا لا فائدة فيه، وهو ينافي إعجاز القرآن وفصاحته، وإن دلت على أمر زائد فتلك الزيادة ليست إلا لحث على المبادرة إلى الامتثال، وإلا فليبين الخصم معنى هذه الزيادة، ولا سبيل إلى ذلك1.
أقول: إنه قد قال قبل هذا الموضع بأسطر إن قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أن هذه الألفاظ كلها بمعنى واحد، وإنما كررها للزيادة في تحسين عفو الوالد عن ولده والزوج عن زوجته.
وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه} وزعم أن ذلك من باب البلاغة.
فإذا كان هذا قوله فما المانع من أن يكون المراد بالمرة الثانية والثالثة في الأمر زيادة التكرير في نفس المأمور، وأن المأمور به مراد منه؟ فإن هذا غرض صحيح، لأنه لو قال له اعلم أن هذا الشيء مما أريده منك، وكرر هذا مرتين أو مرارا لم يكن قبيحا، إذا قصد تأكيد تلك الحال وتقريرها في نفس المخاطب فلم يذهب إلى أن المرة الثانية أفادت عين ما أفادته المرة الأولى من غير زيادة، بل أفادت زيادة بينة، وهي قوة اعتقاد المخاطب أن ذلك الشيء المأمور به مراد لا محال، ما أفاد قوله:{وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا}
1 المثل السائر: 3/ 31.
زيادة تحسين العفو كما ذكره، فقد بطل قوله: فليبين الخصم معنى هذه الزيادة، ولا سبيل إلى ذلك، وقد بينت أن سبيل الخصم إليها أوضح سبيل.
124-
قال المصنف: وقد قال قوم إن الواو ها هنا أكدت قوله تلك عشرة كاملة، لئلا يتوهم أنها بمعنى "أو" قال: وهذا باطل؛ لأن الواو تجعل بمعنى "أو" مخالفة لأصلها، لمرجح يرجح على كونها عاطفة الذي هو الأصل، ولا مرجح ههنا1.
أقول: صاحب هذا القول إنما يقوله بعد ثبوت مقدمات، منها أنه لا بد في كلام الله من فائدة، ومنها لا فائدة إذا جعلناها عاطفة، فإذا ثبت ذلك له قال صحت حينئذ، وجعلها بمعنى أو، ولا نزاع أنه إذا ثبت له ذلك كانت بمعنى أو.
125-
قال المصنف: وأيضا فإن القرآن منتهى البلاغة الفصاحة، فهلا قال:"وبدأ بيننا وبينكم العداوة"، ولم يقل والبغضاء، وهلا قال إنما "أشكو بثي"، ولم يقل وحزني2.
1 المثل السائر: 3/ 32.
2 لم يعلق ابن أبي الحديد بشيء.
126-
قال المصنف: وأيضا فإن الصوم عبادة يجب فيها الاحتياط والإتيان بها على أكمل صورة، فكيف يظن أن الواو ههنا بمعنى "أو"1.
أقول: أليس قد وردت الواو بمعنى أو في قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاع} 2 وهو في النكاح، والخطأ فيه أصعب من الخطأ في هذا الصوم، فيجوز أن يكون سبحانه قال:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة} لإزالة توعم من يتوهم أن هذه الواو كتلك الواو.
127-
قال المصنف: وأيضا فالسبعة ليست مماثلة للثلاثة حتى تجعل مقابلته، لأن معنى الآية إذا كانت الواو فيها بمعنى "أو": إما أن تصوموا ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجعتم3.
أقول: ولا إطعام المساكين يماثل في الصورة لكسوتهم، ولا لعتق الرقبة، فكيف قال:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 4 فليس من شرط "أو" أن تتوسط بين المتماثلين في الصورة، وهذا الكلام ناقص جدا.
1 المثل السائر: 3/ 32.
2 سورة النساء: 3.
3 المثل السائر: 3/ 32 ومنه صححنا النص.
4 سورة المائدة: 89.
128-
قال المصنف: فأما عطف لفظة على لفظة ومعناهما واحد فكثير، كقول المنخل اليشكري:
الكاعب الحسناء تر
…
فل فل الدمقس وفي الحرير
فإن الدمقس هو الحرير، وكقول آخر من شعراء الحماسة:
إني وإن كان ابن عمي غائبا
…
لمقاذف من خلفه وورائه
فإن الخلف هو الوراء1.
أقول: المثال الأول لا بأس به، والثاني غير جيد؛ لأن الوراء قد وردت والمراد القدام في قوله تعالى:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} 2 لأنه لو لم يكن قدامهم ما خافوا منه، ولا احتاج إلى خرق السفينة.
وقال لبيد:
أليس ورائي إن تراخت منيتي
…
لزوم العصا تحني عليها الأصابع3
ومنه أيضا قوله سبحانه وتعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّم} 4.
1 المثل السائر: 3/.
2 سورة الكهف: 79.
3 من قصيدته التي مطلعها:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع
…
وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
"الديوان 23 طبعة فينا بتحقيق ضياء الخالدي المقدسي".
4 سورة إبراهيم: 16.
وقال آخر:
أثر جو بنو مروان سمعي وطاعتي
…
وقومي تيم والفلاة ورائيا1
129-
قال المصنف: فأما حد الكناية فهي ما إذا وردت تجاذ بها جانبا حقيقة ومجاز، ومجاز حملها على الجانبين معا لوصف جامع، كقوله تعالى:{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} فإنه يصح المعنى ولا يختل بالحمل على كل واحد من المعنيين وهما الجماع وإلصاق الجسد بالجسد، ولذلك ذهب أبو حنيفة والشافعي إلى كل واحد من القولين2.
ولهذا الحد تنفصل الكناية عن التشبيه والاستعارة وسائر المجازات؛ لأنه لا يجوز حمل ذلك أجمع إلا على الجهة المجازية فقط، كقولنا زيد أسد، فإنه لا يجوز حمله إلا على المجاز خاصة؛ لأنه يستحيل أن يكون زيد سبعا حقيقة.
قال: والدليل على صحة ما قلناه أن الكناية أن تتكلم بشيء وأنت تريد غيره، فإما أن يكون في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة ومجاز، أو في لفظ تجاذبه جانبا مجاز ومجاز، أو في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة وحقيقة.
ولا يصح أن تكون في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة وحقيقة؛ لأن ذلك هو
1 كان بالأصل "وقوم نيم".
2 عبارة ابن الأثير: ولهذا ذهب الشافعي رحمه الله إلى أن اللمس هو مصافحة الجسد الجسد، فأوجب الوضوء على الرجل إذا لمس المرأة، وذلك هو الحقيقة في اللمس. وذهب غيره إلى أن المراد باللمس هو الجماع، وذلك مجاز فيه، وهو الكناية.
اللفظ المشترك، وإذا أطلق من غير قرينة تخصصه كان مبهما غير مفهوم، وإذا أضيف إليه القرينة صار مختصا بشيء بعينه، والكناية أن تتكلم بشيء وتريد غيره، وذلك مخالفا للفظ المشترك إذا أضيف القرينة؛ لأنه يختص بشيء واحد لا يتعداه.
وكذلك لا يصح أن تكون الكناية في لفظ تجاذبه جانبا مجاز ومجاز؛ لأن المجاز لا بد له من حقيقة نقل عنها؛ لأنه فرع عليها.
وذلك اللفظ الدال على المجازين إما أن يكون للحقيقة شركة في الدلالة عليه أولا يكون لها شركة في الدلالة، فيكون اللفظ الواحد قد دل على ثلاثة أشياء: أحدها الحقيقة، وهذا مخالف لأصل لوضع، وإن لم يكن للحقيقة شركة في الدلالة كان ذلك مخالفا للوضع أيضا؛ لأن أصل الوضع أن تتكلم بشيء وأنت تريد غيره.
وإذا أخرجت الحقيقة عن أن يكون لها شركة في الدلالة لم يكن الذي تكلمت به دالا على ما تكلمت به، وهذا محال.
فتحقق حينئذ أن الكناية أن تتكلم بالحقيقة وأنت تريد المجاز1.
أقول: إنا ما عرفنا أن الحدود يبرهن عليها، ولا هي من باب الدعاوي التي تحتاج إلى الأدلة لأن من وضع لفظ الكناية لأمر من الأمور لا يحتاج إلى دليله،
1 المثل السائر: 3/ 52 ومنه نقلنا النص.
ثم يقال له: ألم تعد في أمثلة الكناية قول النبي للحادي بالحث: "رفقا بالقوارير" يعني النساء؟ وقول عبد الله بن سلام لمن رأى عليه ثوبا معصفرا "لو أن ثوبك في تنور أهلك أو تحت قدورهم لكان خيرا" وقول الشاعر:
إن لم تكن نصلا فغمد نصال1.
يعني امرأة هلكت، فهل هذه المواضع مما يتجاذبها الجانبان، ويجوز حملها على كل واحد منهما؟ وهل يتوهم عاقل أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر أنجشة أن يرفق بالزجاج؟ وأن عبد الله بن سلام أمر صاحب الثوب المعصفر أن يحرق ثوبه؟ والبيت الشعري أبعد؛ لأن المرأة إنسان، والإنسان لا يكون غمدا للسيف؛ لأن الحيوان لا يكون جمادا، فإن جاز أن تكون هذه المواضع كنايات مع أن الأذهان لا تحملها إلا على محمل واحد، ولا يسوغ حملها على غيرها جاز أن يكون قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} 2 وقول الشاعر:
"ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب"
كناية، وإن كان لا يجوز حمله على كلا المحملين، وإلا فما الفرق؟
ثم يقال: أهذا الاستدلال هو استدلال على أن الكناية هي ما جاز حمله على واحد من محملي الحقيقة والمجاز، أم على الكناية لا بد أن يتجاذبها جانبا حقيقة ومجاز، مع قطع النظر عن جواز الحمل عليهما وعدم جوازه؟ فإن أردت الأول فالاستدلال لا يماثل ذلك بحال، ولا تعلق له به، وإن أردت
1 راجع التعليق في: 3/ 70.
2 سورة إبراهيم: 46.
الثاني فإن أصحاب علم البيان قبلك لم يخالفوك في ذلك لتحاجهم وتعيب عليهم، وأنت لما حكيت أقوال أصحاب هذه الصناعة لم تحك عنهم أنهم لم يشترطوا ذلك في الكناية، أعني أن تكون مترددة بين محمل حقيقي ومحمل مجازي، وإنما حكيت عنهم أنهم لم يشترطوا أن يجوز حمل الكلام على كلا المحملين، فهذا هو الذي حكيت عنهم، وخالفتهم، وزعمت أنك استنبطت وتكلفت الدلالة عليه، فكيف تتركه جانبا، وتستدل على ما لا تعلق له به أصلا؟
ثم يقال له: قد نزلنا على ما تريد، ونحن نكلمك فيما يتعلق دليلك به، لم قلت إنه لا بد أن يتردد لفظ الكناية بين محملي حقيقة ومجاز، ولم يتردد بين مجازين؟ والذي تكلمت به على ذلك ليس بشيء، أما أولا فإنك أردت أن تقول: إما أن يكون اللفظ الدال على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة التي هي أصل لهما، فأما قولك هذا فإنه يقتضي أن يكون الإنسان متكلما بشيء، وهو يريد تبيين غيره، وأصل الوضع أن يتكلم بشيء وهو يريد شيئا غيره، فيقال لك: أليس معنى قولك الكناية أن تتكلم بشيء وأنت تريد غيره أن قولك "شيئا" تريد واحدا غيره؟
كلا، ليس هذا هو المقصود أن تتكلم بشيء وأنت تريد غيره، فإن أردت شيئا واحدا فقط أردت غيره، وإن أردت شيئين أو ثلاثة أشياء أو ما زاد فقد أردت غيره؛ لأن كل ذلك غير ما دل عليه ظاهر لفظك، فليس في لفظة "غير" ما يقتضي التوحيد والإفراد.
وأما ثالثا فلم لا يجوز ألا يكون اللفظ الدال على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة أصلا، بل لا يدل إلا على المجازين فقط؟
فأما قولك إذا خرجت الحقيقة من أن يكون لها في ذلك شركة لم يكن الذي تكلمت به دالا ما تكلمت به، وهو محال، فيقال لك: لم قلت ذلك؟ ولم لا يجوز أن يكون للحقيقة مجازان قد كثر استعمالهما حتى نسيت تلك الحقيقة، فإذا تكلم الإنسان بذلك اللفظ كان دالا به على أحد دينك المجازين، ولا يون له تعرض ما لتلك الحقيقة، فلا يكون الذي تكلم به حقيقة، لأن حقيقة ذلك اللفظ قد صارت منسية، فلا يكون عدم إرادتها موجبا أن يكون اللفظ الذي قد تكلم به المتكلم غير دال على ما تكلم به؛ لأنها قد خرجت بترك الاستعمال عن أن تكون هي ما تكلم به المتكلم.
130-
قال المصنف: فأما حد الألغاز والأحاجي فهو معنى يستخرج بالحزر والحدس لا بدلالة اللفظ عليه حقيقة ولا مجازا ولا تعريضا، كقول القائل في الضرس:
وصاحب لا أمل الدهر صحبته
…
يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد
ما إن رأيت له شخصا فمذ وقعت
…
عيني عليه افترقنا آخر الأبد1
1 رويدا.
قال: فهذا كلام لا يفهم منه أن الضرس حقيقة ولا مجازا ولا من طريق المفهوم، بل هو شيء يحدس ويحزر، والخواطر تختلف في الإسراع والإبطاء عند عثورها عليه1.
أقول: هذا يلزم عليه أن يكون كلام الزنجي إذا تعاطى العربي حزر معناه من باب الأحاجي والألغاز، والصحيح أن يقال عوض هذا: هو كل معنى يستخرج لا بدلالة اللفظ عليه حقيقة ولا مجازا ولا تعريضا، بل بالحدس من صفة أو من صفات تنبه عليه.
وعلى هذا فالضرس إنما عرف من هذا الشعر حدسا من مجموع هذه الصفات، وهي كونه صاحبا لا تمثل صحبته، وأنه يسعى لينتفع به الإنسان، وأن الإنسان لا يراه، فإذا رأه فقط افترقا فراق الأبد، ومجموع هذه الصفات ليست إلا للضرس، فتنبه الذهن من هذه الصفات والخصائص على مراد الملغز.
131-
قال المصنف: ومن الحذاقة في هذه الصناعة أن تجعل التحميدات في أوائل الكتب السلطانية مناسبة لمعاني تلك الكتب، قال: ووجدت أبا إسحاق الصابي على تقدمه في فن الكتابة في فتح بغداد وهزيمة الأتراك عنها الذي أوله "الحمد لله رب العالمين الملك الحق" ثم ذكر منه نحو عشرة أسطر سنذكرها في الجواب عن كلامه، ثم قال: وهذه التحميدة لا تناسب هذا الكتاب، ولكنها
1 المثل السائر: 3/ 85.
تصلح أن توضع في صدر كتاب مصنفات أصول الدين كالشامل للجويني أو الاقتصار للغزالي أو ما جرى مجراهما، فأما في كتاب فتح فلا1.
أقول: إن إبا إسحاق رحمه الله لم يخل هذه التحميدة من الإشارة إلى معنى الكتاب الذي هو مغزاه ومقصده، وذلك أن هذا الكتاب كتب في انتصار عضد الدولة أبي شجاع وعز الدولة أبي منصور على الأتراك الذين ترأس عليهم سبكتكين الحاجب الذي كان أمير جيوش معز الدولة أبي الحسين وعز الدولة أبي منصور بعده، وهما سلطانا الحضرة ببغداد، وكان مع هؤلاء الأتراك الطائع لله الخليفة العباسي والمطيع لله والفتكين القائد الجليل المشهور بالشجاعة بين الأتراك2 وبأيديهم بغداد وأعمالها، فإن عضد الدولة وعز الدولة تضافرا على المسير إلى هؤلاء من فارس والأهواز، وصدها الأتراك صدمة عظيمة فطحنوهم، وانحاز الطائع لله إلى تكريت متحصنا بالقلعة، وطار الأتراك وهم زيادة على عشرة آلاف فارس إلى الشام ومصر، ودخل عضد الدولة ومعز الدولة إلى مدينة الشام، واستقر على سرير المملكة، بعد أن وقع اليأس من ذلك.
فقول أبي إسحاق الصابي: "الأبدي بلا انتهاء" وقوله: "الدائم لا إلى أجل معدود" وقوله: "لا تخلقه العصور، ولا تغيره الدهور" وقوله: "لا تزاحمه مناكب القرناء، ولا تحاذيه أقدام النظراء" وقوله: "الصمد الذي لا كفء له،
1 المثل السائر: 3/ 108.
2 ذكر ابن كثير في البداية والنهاية 11/ 277 أن الأتراك التفوا حول أمير يقال له الفتكين.
والفذ الذي لا توءم له" وقوله: "الحي الذي لا تختزمه منون، والقيوم الذي لا تشغله الشئون" وقوله:"القدير الذي لا تئوده المعضلات، والخبير الذي لا تعيبه المشكلات" كل ذلك إشارة إلى أن الملك ليس إلا لله تعالى، وأن ملك البشر لا حقيقة له، لسرعة زواله وانقضائه، وأن كل أحد من ملوك الأرض وإن عظم شأنه وقهر الملوك سلطانه يزول سريعا، وينقضي وشيكا، فهؤلاء الملوك الذين طحنهم الدهر بكلكله في هذه الواقعة فإن منهم من مات كالمطيع لله، وسبكتكين وهما خليفة وملك ماتا في الطريق قبل الواقعة، ومنهم من فر ولاذ بالمعاقل، ونحصن خوفا على نفسه كالطائع، ومنهم من حمله الرعب على أن صار برعيه، وسوقة تحت أيدي ملوك أخر كالفتكين، فإنه لم يبن وجهه إلا بمصر، وصار من جملة رعية العزيز نزارين معد صاحبها، ومنهم من تشرد في البلاد، وفارق الأموال والأولاد، كالأتراك، فجميع ما أوما إليه الصابئ ملائم للواقعة التي كتب هذا الكتاب فيها، وغير خارج عن مقصدها ومغزاها.
والعجب قوله ينبغي أن تكون هذه التحميده في صدر كتاب من أصول الدين كالشامل للجويني والاقتصار للغزالي، وأين الاقتصار من الشامل حتى يجمع بينهما في التمثيل، والاقصتار مقدمة في نحو خمسة كراريس، والشامل كتاب كبير في أكثر من خمسة مجلدات؟.
وهذا مثل أن يقال: هذا ينبغي أن يكون في كتاب فقهي كالبغية لأبي إسحاق الشيرازي أو الحاوي للماوردي، ومثل أن يقال: هذا ينبغي أن يكون في كتاب نحوي كاللمع لابن جني أو شرح سيبويه للسيرافي، ومثل أن يقال:
هذا ينبغي أن يكون في كتاب لغوي كالفصيح لثعلب أو تهذيب اللغة للأزهري، وكان الواجب حيث ذكر الشامل أن يذكر ما يناسبه كالهداية لابن الباقلاني وإذ ذكر الاقتصار ضم إليه ما يجري مجره كالإرشاد للجويني، وهذا يدل على أنه قد سمع بهذين الكتابين سماعا ولم يرهما عيانا.
132-
قال المصنف: فأما المطابقة فهي اصطلاح أهل هذه الصناعة على أنها الجمع بين الشيء وضده، كالليل والنهار، والسواد والبياض.
قال: ولا أعلم من أي شيء اشتقوا هذا الاسم، ولا وجة مناسبة بينه وبين مسماه، ولعلهم قد علموا لذلك مناسبة لطيفة لم نعلمها نحن1.
أقول: الطبق في اللغة المشقة قال الله سبحانه: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَق} 2 أي مشقة بعد مشقة، فلما كان الجمع بين الضدين على الحقيقة شاقا بل متعذرا، ومن عادتهم أن تعطي الألفاظ حكم الحقائق في نفسها توسعا سموا كل كلام جمع فيه بين الضدين مطابقة.
133-
قال المصنف: فأما ترتيب التفسير فمثل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَة} فقد الليل ثانيا لما قدمه أولا3، وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ،
1 المثل السائر: 3/ 143.
2 سورة الأحقاف: 19.
3 {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} سورة الإسراء: 12.
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّار} ، فابتدأ بتفصيل أحوال الأشقياء؛ لأنه ابتدأ بذكرهم أولا.
قال: ومن ذلك قول أبي تمام:
وكان لهم غيثا وعلما فمعدم
…
فيسأله أو باحث فيسائله
وقول علي بن جبلة:
فتى وقف الأيام بالسخط والرضا
…
على بذل عرف أو على حد منصل1
أقول: إنه سها في إدخال بيت علي بن جبلة في جملة هذه الأمثال؛ لأن الشاعر لما فسر قدم بذل العرف وهو المراد بالرضا وأخر حد المنصل، وهو المراد بالسخط، وهما في صدر البيت على خلاف هذا الترتيب، ولكن هذا نظير قوله تعالى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2.
143-
قال المصنف: وفيما يؤخذ على الأعشى قوله:
وما مزبد من خليج الفرا
…
ت جون غواربه تلتطم
بأجود منه بما عونه
…
إذا ما سماؤهم لم تغم
1 المثل السائر: 3/ 175.
2 سورة آل عمران: 106.
قال: فمدح ملكا بالجود بالماعون، والماعون كل ما يستعار من قدوم أو قصة أو قدر وما أشبه ذلك، ومدح الملوك بل السوقة بذلك قبيح1.
أقول: إن الماعون هنا هو الصدقة، ذكر ذلك علماء التفسير، وأنشدوا بيت الراعي.
قوم على الإسلام لما يمنعوا
…
ما عونهم ويصيعوا التهليلا2
وقال صاحب ديوان الأدب: الماعون الزكاة، وقال أبو عبيدة: الماعون المنافع كلها.
1 المثل السائر 3/ 179.
2 الراعي هو عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل، سمي راعي الإبل لكثرة وصفه لها. طبقات الشعراء لابن سلام 250، 434.
والبيت من قصيدته في مدح عبد الملك بن مروان وشكواه من عمال الصدقات ومن الخوارج، ومطلعها:
ما بال دفك بالفراش مذيلا
…
أقذى بعينك أم أردت رحيلا؟
الدف: الجنب. مذيل: قلق غير مستقر.
والقصيدة كلها في جمهرة أشعار العرب 353 وفي خزانة الأدب للبغدادي 2/ 303 كثير من أبياتها.
وقبل البيت الذي استشهد به ابن أبي الحديد قوله:
أخليفة الرحمن إن عشيرتي
…
أمسى سوامهم عرين فلولا
أي أن فقر عشيرته وسوء حالها تمثل في أن ماشيتهم صارت عارية من الأحمال والرجال ومتفرقة مبعثرة، ويصح أن تكون الكلمة "عزين" جمع عزة وهي الفرقة والجماعة.
والبيت في اللسان مادة هلل وفي تفسير الطبري وتفسير الزمخشري في سورة الماعون هكذا:
قومي على الإسلام لما يمنعوا
…
ما عونهم ويضيعوا التهليلا
وفي اللسان مادة معن وفي خزانة الأدب 2/ 304:
قوم على التنزيل لما يمنعوا
…
ما عونهم ويبدلوا التنزيلا
وفي جمهرة أشعار العرب:
قوم على الإسلام لما يتركوا
…
ما عونهم ويضيعوا التهليلا
وأما الماعون فقد ذكر المفسرون واللغويون أن معناه المال أو الزكاة المفروضة أو الطاعة والزكاة أو ما يستعان به ويستعار كالدلو والفأس والقدر، وذكروا أن المراد بالتهليل التوحيد ورفع الصوت بالشهادتين.
135-
قال المصنف: وقد وقعت على كلام لأبي إسحاق الصابي في الفرق بين المترسل والشاعر، ثم ذكر الفصل وهو منثور، وسيأتي في حكاية اعتراضه، وقال في آخر حكايته: وقد عجبت من ذلك الرجل الموصوف بذلاقة اللسان وبلاغة البيان، كيف يصدر عنه مثل هذا القول الناكب عن الصواب، الذي هو في باب ونصى1 النظر في باب "اللهم غفرا.
قال: أما قوله إن خير المترسل ما وضح معناه، وأعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنت ألفاظه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه، فإن هذه دعوى لا مستند لها، بل الأحسن في الأمرين معا هو الوضوح والبيان، فإن احتج أبو إسحاق بما قد ذكره في نصرة ذلك من قوله إن الشعر بني على حدود مقررة، وأوزان مقدرة، وفصلت أبياته، فكان كل بيت منها قائما بذاته، فليس يحتاج إلى غيره إلا ما جاء على وجه التضمين، وهو عبث، فلما كان النفس لا يمتد في البيت الواحد بالنثر من مقدار عروضه وضربه وكلاهما قليل، احتيج إلى أن يكون الفضل في المعنى، واعتمد أن يلطف ويدق، والترسل مبني على مخالفة هذه الطريق إذ كان كلاما واحدا لا يتجزأ ولا يتفصل إلا فصولا طوالا، وهو موضوع وضع ما يمر على أسماع شيء من خاصة ورعية وذوي أفهام ذكية، وأفهام غبية، فإذا كان سهلا
1 نصى النظر: لعلها من نصى الرجل الثوب إذا كشفه.
ساغ فيها وقرب، فجميع ما يستحب في الأول يكره في الثاني حتى إن التضمين عيب في الشعر، وفضيلة في الترسل، فإن هذا الذي ذكره أبو إسحاق ليس بجواب.
وهب أن الشعر كان كل بيت منه قائما بذاته فلم كان مع ذلك غامضا؟ وهب أن الكلام المنثور كان واحدا لا يتجزأ فلم كان مع ذلك واضحا؟ ثم سلمت إليه هذا فماذا يقول في الكلام المسجوع الذي كل فقرة منه بمنزل بيت من الشعر1.
أقول: إن من أظرف الأشياء أنك تحكي جواب أبي إسحاق، من أوله إلى آخره، ثم تعيد السؤال الأول بعينه الذي قد حكى جوابه، وذلك أن أبا إسحاق قد سأل نفس فقال: ولم صار الأحسن في الشعر الغموض وفي الرسائل الوضوح؟ وأجاب عنه بما قد ذكره، ومن يحكي ذلك الجواب لا يحسن له أن يقول في الاعتراض عليه: وهب أن الشعر كان كل بيت قائما بذاته، فلم كان مع ذلك غامضا؟ وهب أن الكلام المنثور كان واحدا لا يتجزأ فلم كان مع ذلك واضحا؟
وذلك أن الجواب قد أتى على الفرق بين الموضعين، ونحن نعيده فنقول إن البيت الشعري لما كان محجورا على الشاعر أن يزيد فيه أو ينقص منه أو يلحق به بيتا آخر فيحصل أحدهما مرتبطا بصاحبه بخلاف الرسائل،
1 ملخص من المثل السائر: 4/ 6.
فكان المعنى قد يساوي ألفاظ البيت تارة، ويزيد عليها تارة، وينقص عنها أخرى، فكان الأحسن أن يزيد المعنى؛ لأن اللفظ الحسن بغير معنى كامرأة ميتة حسنة الصورة.
وكلما كانت معاني الكلام أكثر، ومدلولات ألفاظه أتم كان أحسن، ولهذا قيل خير الكلم ما قل ودل، فإذا كان أصل الحسن معلولا لأصل الدلالة.
وحينئذ يتم إشعاع الجملة، لأن المعاني إذا كثرت، وكانت الألفاظ تفي بالتعبير عنها احتيج بالضرورة إلى أن يكون الشعر يتضمن ضروبا من الإشارة وأنواعا من الإيماءات والتنبيهات، فكان فيه غموض، كما قال البحتري:
والشعر لمح تكفي إشارته
…
وليس بالهذر طولت خطبه1
ولسنا نعني بالغموض أن يكون كأشكال إقليدس والمجسطي والكلام في الجزء، بل أن يكون بحيث إذا ورد على الأذهان، بلغت عنه معاني غير مبتذلة، وحكما غير مطروقة، فلا يجوز أن يكون الشعر الذي يتضمن الحكم ليس بالأحسن، فثبت أن الشعر الذي يتضمن الحكم هو أحسن الشعر، ومعلوم أن
1 يقول قبل هذا البيت:
كلفتمونا حدود منطقكم
…
والشعر يغني عن صدقه كذبه
ولم يكن ذو القروح يلهج بالمنطق ما نوع وما سببه من قصيدته التي رد بها على عبيد الله بن عبد الله "ولعله ابن طاهر" التي مطلعها:
لا الدهر مستنفد ولا عجبه
…
تسومنا الخسف كله نوبه
نال الرضا مادح وممتدح
…
فقل لهذا الأمير ما غضبه؟
الديوان 1/ 132.
أحسن الشعر الذي يتضمن الحكم هو المعنوي كشعر أبي تمام ومن أخذ أخذه، فذلك القدر من المعنى هو لذي يعنيه أبو إسحاق بالغموض لا غير.
فأما قوله: "فماذا تقول في الكلام المسجوع الذي كل فقرة منه بمنزلة بيت من الشعر؟ فجوابه أن السجع ليس شرطا في المنثور فقد تكون الرسائل غير مسجوعة، ولا يمكن أن يكون الشعر إلا وزنا محدودا.
وبعد فالرسائل المسجوعة لا يلزم فيها ما ذكرناه في الشعر؛ لأن الفقرة الواحدة قد يطيلها الكاتب، وقد يقصرها، وقد يأتي بفقرتين طويلتين، ثم يأتي بعدهما باثنتين قصيرتين، ثم يأتي بعد ذلك بفقرتين إحداهما قصيرة والأخرى طويلة، فهو يضرب يمينا وشمالا، ويمد نفسه تارة ويقصره أخرى، وليس كذلك القصيدة، فإن صاحبها عند ابتدائها يلتزم عروضا واحدة، ولو زاد فيها حرفا واحدا أو نقصه لكان شعره فاسدا، فأين أحد النوعين من الآخر؟
136-
قال المصنف: قال أبو إسحاق: والفرق بين المترسلين والشعراء أن الشعراء إنما أغراضهم التي يرمون إليها وصف الديار والآئار، والحنين إلى الأهواء والأوطان، والتشبيب، النساء، والطلب، والاستدعاء، والمدح والهجاء، فأما الكتاب فإنما يترسلون في سداد ثغر، أو إصلاح فساد، أو تحريص على جهاد، واحتجاج على فئة، أو مجادلة لملة، أو دعاء لألفة، أو نهي
عن فرقة، أو تهنئة بعطية، أو تعزية. قال: وهذا من أبي إسحاق تحكم محض لا يستند إلى شبهة فضلا عن بينة.
وأي فرق بين الشاعر والكاتب في هذا المقام؟ وكما يصف الشاعر الآثار والديار ويحن إلى الأهواء والأوطان، فكذلك يكتب الكاتب في الاشتياق إلى الأوطان، ومنازل الإخوان والأحباب، ولهذا كانت الكتب الإخوانيات بمنزلة الغزل والتشبيب من الشعر، وكما يكتب الكاتب في إصلاح فساد أو سداد ثغر أو دعاء إلى ألفة أو نهي عن فرقة أو تهنئة أو تعزية فكذلك الشاعر. فإن ندت عن الصبابي قصائد الشعراء في أمثال هذه المعاني فكيف خفي عنه قصيدة أبي تمام في استعطاف مالك بن طوق على قومه التي مطلعها:
حسم الصلح ما اشتهته الأعادي
وقصيدة البحتري التي يذكر فيها غزو البحر، ومطلعها:
ألم تر تغليس الربيع المبكر
والقصائد التي تجري على هذا المجرى1 كثيرة.
أقول: السؤال في هذا المقام قد يقع عن أمرين أحدهما أن يقال ما الفرق بين الشعر والكتابة؟ والثاني أن يقال لم كانت منزلة الشاعر دون منزلة الكاتب؟ وأحد هذين السؤالين غير الثاني، وكلام أبي إسحاق هو في السؤال الثاني؛ لأنه هكذا قال: إنما كانت حقيقة الشاعر دون الكاتب لكذا وكذا، وهذا جواب صحيح.
1 ملخص من المثل السائر: 4/ 7.
أما أولا فإنه بنى الشعر على الاجتداء والطلب حتى إن امرأ القيس وهو الملك ابن الملك اجتدى سعد بن الضباب بالشعر، وقد كان ابن المنصور الخليفة ابن الخلائف يجتدي بالشعر من عبيد الله بن سليمان بن وهب ومن ولده القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد والمكتفي، فإن لم يكن يجتدي مالا فإنه كان يجتدي جاها.
ولم تبن الكتابة على هذا، ولا عرفت بهذا.
وأما ثانيا فلأن المراد من الكتابة ومقصدها الذي وضعت لأجله ماذكره أبو إسحاق من سداد الثغور، وإصلاح الأمور، والدعاء إلى الألفة، والنهي عن الفرقة، والاستعداد لحرب، والإعلام بفتح، ولم يوضح الشعر لذلك.
ألا ترى أنا ما رأينا ولا سمعنا ملكا كتب إلى ملك آخر في إصلاح فساد، أو استمداد على عدو، أو إعلام بفتح قصيدة من الشعر، وإنما كتب الرسائل؟.
وأما القصائد التي ذكرها هذا الرجل لأبي تمام وأبي عبادة وأبي الطيب فإنا لم ننف كون الشعر قد يشتمل على ذلك، ولكنا قلنا إنه ليس هو الغرض الأصلي الذي وضع الشعر له ولا يكون أصلا فيه بل عارضا وطارئا، والرسائل بخلاف ذلك؛ لأن هذا المعنى هو الغرض الأصلي فيها.
وكذلك نجد هذا الفن في الديوان الذي حجمه عشرون كراسا في قصيدة أو قصيدتين، ونجده في الرسائل التي حجمها عشرون كراسا في خمسة عشر كراسا.
ونحن فما عرضنا إلا الفرق بين مقصدي النوعين، وقد اتضح.
فأما قوله قد يكتب كاتب الإخوانيات، ويذكر فيها الحنين والشوق، فهي في المنثور كالنسيب في المنظوم، فيقال له إن القصائد التي وضعت للمدح يستحب أن يكون أولها نسيبا وغزلا، وهكذا وجدنا كتابا في فتح أو استنجاد أو تعريض أو تخذيل في صدره رسالة إخوانية تتضمن الحنين والبكاء وذكر الآثار والديار، فيكفي أبا إسحاق في الفرق بينهما هذا القدر فقط، فإن ذلك من أدل الدلائل على أن الشعر في الأصل موضوع لهذا المعنى، والاجتداء والطلب، فلذلك لم يحتج أحدهما للآخر، وجعل منه الرسائل بخلاف ذلك.
137-
قال المصنف: فهذه الفروق كلها ضعيفة، والذي عندي أن الفرق بين النوعين من ثلاثة أوجه:
أحدها أن هذا منظوم، وذاك منثور، والآخر أن من الألفاظ ألفاظا لا يحسن استعمالها في الكتابة ويحسن في الشعر، كبعض الألفاظ العربية.
والثالث أن الشاعر إذا أطال في شرح معان متعددة واحتاج أن يأتي بمائتي بيت أو أكثر فإنه لا يحتذي في الجميع، بل في الأول، والكاتب لا يأتي من ذلك جميعه1.
أقول: قد بينا أن إسحاق الصابي لم يتعرض لبيان الفرق بين الكتابة
1 ملخص من المثل السائر: 4/ 10.
والشعر من حيث هما كتابة وشعر، وإنما تكلم عن العلة التي كانت لأجلها مرتبة الكاتب أعلى من مرتبة الشاعر، فأما الفرق بين الكتابة والشعر فهي كثيرة، وليست مقصورة على هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرها هذا الرجل.
فإن من جملة الفروق أن للشاعر أن يُطري نفسه ويمدحها في شعره، وليس ذلك للكاتب.
ومنها أن للشاعر أن يبالغ ويوغل حتى يدخل في الإحالة، وليس ذلك للكاتب.
ومنها أن الشعر يحسن فيه الكذب ولا يستحسن في الكتابة.
ومنها أن الشاعر يخاطب الملك بالكاف كما يخاطب السوقة، ويدعوه باسمه، وينسبه إلى أمه، وليس ذلك للكاتب.
والفروق بين الشعر والكتابة كثيرة، وإنما نبهنا على بعضها إبطالا لقوله إن الفروق هذه الثلاثة فقط.
فهذا ما سنح لي بأدنى النظر من الاعتراض على هذا الكتاب، وقد اعترضت على مواضع كثيرة منه للقول فيها مجال فلم أذكرها إيثارا للإيجاز، ومواضع يرجع كلامه فيا إلى الجدل ومحض العناد، لا في المعنى، فكان الاشتغال بها والبحث فيها تضييعا للوقت من غير فائدة.
ورأيت أن يتم الكتاب ههنا حامدا الله، ومصليا على خير خلقه
"محمد النبي الأمي صلوات الله عليه وسلامه"