المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: [متى يفرق بين الغائب وامرأته - القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب - جـ ٢

[ابن رجب الحنبلي]

الفصل: ‌فصل: [متى يفرق بين الغائب وامرأته

‌فصل: [متى يفرق بين الغائب وامرأته

؟]

وأما الغائب المعلوم خبره إذا طلبت امرأته قدومه، فإن كان سفره فوق ستة أشهر وأبى القدوم من غير عذر؛ فإنه يفرق بينهما عند الإمام أحمد، نص عليه في رواية ابن منصور. قال ابن منصور: قلت لأحمد: كم يغيب الرجل عن أهله؟ قال: ستة أشهر.

قال إسحاق بن راهويه: كذا هو قول أحمد: يكتب إِلَيْهِ؛ (فإن أبى أن يرجع فرقت، فإن رجع وإلا فرق)(1).

وقال حرب: سألت أحمد قلت: كم يجوز للرجل أن يغيب عن أهله؟

قال: يروى ستة أشهر حديث عمر، وقد يغيب الرجل أكثر من ذلك لابد له.

وحمل القاضي أبو يعلى هذ الرواية عَلَى أن الزيادة عَلَى ستة أشهر كانت في سفره واجب متعين لابد منه، كالحج والجهاد، فلا يحتسب عليه بالزيادة، وكلام أحمد أعم من ذلك.

وفي مسائل إسحاق بن هانئ عن أحمد: سألته عن رجل يغيب عن امرأته أكثر من ستة أشهر قال: إذا كان في حج أو غزو أو مكتسب -كسب عليَّ عياله- أرجو أن لا يكون به بأس، إذا كان قد تركها في كفاية من النفقة، ومحرم رجل يكفيها، مثل أب أو عم أو خال.

ومذهب مالك: إذا أطال الغيبة عن امرأته مختارًا لذلك، وكرهت امرأته غيبته أمر بالقدوم إليها أو نقلتها إِلَيْهِ، فإن امتنع منه أمر بفراقها؛ فإن لم يفعل فرق الحاكم بينهما:

نقله صاحب "التفريع".

(1) كذا!!

ص: 589

وقال ابن عقيل من أصحابنا في كتاب "المفردات": قد يباح الفسخ وطلاق الحاكم لأجل الغيبة إذا قصد بها الإضرار، بناء عَلَى أصلنا: إذا ترك الاستمتاع بها من غير يمين أكثر من أربعة أشهر، فعلى هذه الغيبة المضرة بمجردها قد أثبتت الفسخ لنكاحه، انتهى.

وهذا الأصل الَّذِي أشار إِلَيْهِ قد ذكره القاضي في خلافه ومن تبعه، وهو ترك الوطء لقصد الإضرار بغير يمين أن حكمه حكم المولى، وأخذه من قول أحمد، في رجل تزوج بامرأة، فلم يدخل بها ويقول: اليوم أدخل، وغدًا أدخل، قال: أذهب إِلَى أربعة أشهر، إِن دخل بها وإلا فرق بينهما.

ونص فيمن ظاهر من امرأته سنة فجاءت تطالب فليس له أن يعضلها بعد أربعة أشهر، ثم تطلق عليه إِن أبي التكفير والطلاق.

وقال ابن عقيل في "عمدة الأدلة" وفي كتاب "المفردات": عندي إِن قصد الإضرار خرج مخرج الغائب، وإلا فمتى حصل إضرارها بامتناعه من الوطء، وإن كان ذاهلاً عن قصد الإضرار تضرب له المدة. وذكر في آخر كلامه: إِن حصل له الضرر بترك الوطء لعجزه عنه كان حكمه كالعنين.

فيؤخذ من كلامه أن حصول الضرر للزوجة بترك الوطء لعجزه عنه كان حكمه يقتضي الفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد، وسواء كان مع قدرته أو عجزه، وكذا ذكره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في العاجز، وألحقه بمن طرأ عليه خنث أو عُنة، وبالعاجز عن النفقة.

وذكر أبو الخطاب، وصاحب "المحرر" إِن امتنع من وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر بغير عذر، وطلبت الفرقة فرق بينهما، ولم يعتبرا قصد الإضرار.

وقال صاحب "المغني": لابد أن يظهر دليل يدل عَلَى إرادة الضرر.

ومذهب مالك وأصحابه أن ترك الوطء من غير عذر يوجب الفسخ مع اختلافهم في تقدير المدة، فهذا كله في حق الزوجات.

ص: 590

فأما الإماء، فمذهب أحمد أنه يجب عَلَى السيد إعفافهن إذا طلبن الإعفاف: إما بنفسه إِن أمكن، وإما بالتزويج، أو بخروجهن عن ملكه بالعتق، وفي إجباره عليه ضرر له، فَإِذَا لم يعفهن بنفسه تعين إعفافهن بالتزويج.

وقد ذكر القاضي في غير موضع من كتابه "الجامع الكبير" أن الحاكم لا يجبر السيد عَلَى تزويج إمائه إذا طلبن ذلك؛ لأنّ لنا طريقًا إِلَى إزالة ضررها بدون النكاح، فلذلك قام الحاكم فيه مقام الأولياء عند امتناعهم منه، وهذا التعليل يقتضي أن أم الولد يزوجها الحاكم إذا امتنع السيد من تزويجها؛ لأنّه لا يمكن نقل الملك فيها إلا أن نقول: يجبره الحاكم عَلَى أحد أمرين: إما إعفافهن بالوطء، أو بالنكاح.

وقد يقال: إنه يمكن إزالة ضررها، بإخراجها عن ملكه بالعتق لتصير حرة.

ثُم قال القاضي -بعد ما ذكره من التعليل والفرق-: فعلى هذا لو كان السيد غائبًا غيبة منقطعة، وله أمة، وقد دعيت إلي التزويج، أو كان سيدها صبيًّا أو مجنونًا احتمل أن يزوجها الحاكم كما ينفق عليها من ماله.

ومعنى هذا أنه إذا طلبت الأمة النكاج وكان الزوج ممن لا يمكن أن يطلب منه عقد النكاح عليها، إما لغيبته أو صغره أو جنونه؛ فإن الحاكم يقوم مقامه حينئذ فيه؛ لأنّه حق وجب إبقاوه، وقد تعذر فعله منه، فقام الحاكم فيه مقامه كما يقوم مقامه في الإنفاق عَلَى الأمة من ماله، وهذا المعنى لا فرق فيه بين أمهات الأولاد وغيرهن للاشتراك في وجوب الإعفاف، والله تعالى أعلم.

ولذلك ذكر القاضي في "خلافه" أن سيد الأمة إذا غاب غيبة منقطعة، فطلبت منه التزويج في غيبته زوجها الحاكم، وأن هذا قياس المذهب، ولم يذكر فيه خلافًا.

وكذلك نقله عنه صاحب "المحرر" في تعليقه عَلَى "الهداية" ولم يعترض عليه بشيء.

ص: 591

وكذلك أبو الخطاب في "الانتصار": أن السيد إذا غاب زوج أمته من يلي ماله. قال: وأومأ إِلَيْهِ أحمد في رواية بكر بن محمد.

فإن قيل: فقد ذكر طائفة من أصحابنا كصاحب "المغني" ومن اتبعه أن حكم الإماء مخالف لحكم الزوجات في أنهن لا يجب لهن قسم، ولا يثبت في حقهن ما يثبت للزوجات من الفسخ بالجب (1) والعنة، ولا يضرب لهن مدة الإيلاء، وهذا يدل عَلَى أنه لا يتعرض لأمة الغائب بشيء حتى يقدم.

قيل: إِنَّمَا مرادهم بذلك أن الإماء لا يساوين الزوجات في حكم الزوجات المختص بهن، من وجوب القسم والتسوية بينهن مع حضور السيد، ولا يثبت لهن به مع غيبة السيد ما يثبت للزوجات مع غيبة الزوج من مراسلته بعد ستة أشهر؛ فإن أبى القدوم أزيل ملكهن عنه، فإن هذا الحكم مختص بالزوجات، فلا تشاركهن فيه الإماء، وهذا لا ينافي أن للإماء المطالبة بحقهن من الإعفاف، عند تضررهن بترك الوطء مع الغيبة وإزالة ضررهن، فمراد الأصحاب بما قالوا نفي الحكم الأخص، وهو مساواة ما للزوجات، وليس مرادهم نفي الحكم الأعم، وهو وجوب إزالة الضرر لماء بترك الوطء، ومعلوم أن نفي الخاص لا يلزم منه نفي العام، ألا ترى أنهم قالوا: لا قسم عليه للإماء مع حضوره، ولم يكن قولهم هذا منافيًا لما ذكروه من وجوب إعفافهن بالوطء، ولا مناقضًا له، فحكم الزوجات يخالف حكم الإماء في حال حضور الزوج وغيبته.

أما في حال حضوره، فإن الزوج يجب عليه القسم والمبيت والوطء في كل أربعة أشهر، والسيد لا يجب عليه سوى الإعفاف عند الحاجة إِلَيْهِ، ولا يتعذر ذلك بمدة معينة.

وأما في حالة غيبته فإن الزوج إذا طالت غيبته فوق ستة أشهر، وطلبت زوجته قدومه، وأبى ذلك من غير عذر فرق بينهما.

(1) الجب: هو القطع والمراد به هنا قطع الذكر.

ص: 592

والأمة لا تساوي الزوجة في ذلك من وجهين:

أحدهما: تقدير المدة ستة أشهر.

والثاني: إزالة ملك السيد عنها بالكلية، ولكن إذا طالت غيبته وتضررت بترك الوطء، زَوَّجها الحاكمُ ولم يزل ملكه عن رقبتها بالكلية.

فيجب الجمع بين كلام الأصحاب (1) في هذا كله، ولا يرد بعضه ببعض، ولا يؤخذ بعضه ويترك بعضه، ولا يجعل متناقضًا، بل يجمع بينه، ويؤخذ بجميعه عَلَى الوجه الَّذِي ذكرنا، وبذلك يزول الإشكال عنه، ويتدفع التناقض، والله أعلم.

فإن قيل: فالزوج لو غاب غيبة ظاهرها السلامة، ولم يعلم خبره وتضررت زوجته بترك النكاح لم يفسخ نكاحها عَلَى المشهور من كلام الإمام أحمد وأصحابه، فكيف يزوج أمة السيد الغائب في هذه الحال؟

قيل: أما عَلَى قول ابن عقيل الَّذِي تقدم ذكره؛ فإنه يزوج المرأة بذلك كما سبق، فتزويج الأمة حينئذ عَلَى قوله أولى.

وأما عَلَى المشهور فالفرق بين تزويج المرأة وتزويج الأمة أن تزويج الأمة إِنَّمَا يجوز بعد الحكم بفسخ نكاح الزوج، ولا يجوز عند الإمام أحمد فسخ نكاحه في هذه الحال.

وأما تزويج الأمة فليس فيه فسخ لملك السيد؛ إذ الأمة باقية عَلَى ملكه لم تخرج بذلك عن ملكه، وإنما يزال ضررها بالتزويج.

(1) كتب في هامش "الأصل" ما يأتي:

قف تأمل -رحمك الله- كلام الشيخ إذا وجد في عبارات الأصحاب ما يشكل أو يتعسر فهمه أو يظهر للمفتي أو العالم منه التناقض أو عدم الجمع أنه يجب الجمع بينه .. إلخ، فما أجله من تنبيه لو تأمله الجاهل بحال أعيان حملة الشرع، وعلو مقامهم، وسعة علومهم وأفهامهم، فتجد الجاهل بمحلهم من العِلْم، المخصوص بسوء الفهم، المعجب بنفسه كثيرًا ما يحط من قدرهم، ويرى أنه خفي عليهم ما خص به

الفهم. فالله المستعان.

ص: 593

فقد يقال: فقد أخرجتم منفعة بعضها عن ملكه بتزويجها؛ لأنا نقول: ملك بضع الأمة للسيد ليس هو كملك الزوج لبضع زوجته؛ لأنّ بضع الزوجة يملكه الزوج للاستمتاع به بنفسه خاصة، فلا يجوز لغيره مشاركته فيه إلا بعد انقطاع علق الزوج عنه، وأما بضع الأمة فمملوك للسيد لا عَلَى طريق الانتفاع به بنفسه خاصة، بل ينتفع به بنفسه وتارة يعارض عليه، ولهذا يجوز له أن يتملك من يحرم عليه وطؤها عَلَى التأبيد.

فظهر بهذا أن ملك الإماء ليس موضوعًا للاستمتاع بخلاف النكاح، وقد قرر أصحابنا هذا الفرق في مواضع متعددة من كتب الفقه.

وحينئذ فنقول: لا يجوز إلحاق الأمة ببضع الزوجة في هذا الموضع، ويدل عليه أن الأمة لو طلبت من السيد تزويجها، عند امتناعه من الوطء، وتعذر عليه شرعًا أو حسّا أجبر عَلَى تزويجها بخلاف الزوجة.

فظهر من هذا أن وجوب تزويج الأمة إِنَّمَا هو من باب إزالة ضررها لا غير، مع بقاء ملكها وملك بضعها عليه، وهذا أوسع من فسخ نكاح الحرة، فيجوز تزويج الأمة في حال لا يجوز تزويج الزوجة فيه، فإن الأمة لا يجوز منعها من نكاح عند طلبه، كما لا يجوز منعها من النفقة والكسوة عند الحاجة.

وأما الزوجة فإنها -وإن كان يجب لها عَلَى الزوج حق الوطء- لكن لا يمكنها استيفاءه بالأمة خاصة، فَإِذَا لم يجز فسخ نكاحه فقد تعذر استيفاء هذا الحق منه، بخلاف الأمة؛ فإنه يجب إزالة ضررها بالنكاح مع حضور السيد، ويمكنه منه إذا تعذر حصول الوطء منه، ولا يعتبر امتناعه من ذلك كما لو كان السيد صبيًّا أو مجنونًا كما صرح به القاضي فيما تقدم، والله أعلم.

ومما يبين ما بين الأمة والزوجة في هذا أن الزوجة لا تملك فسخ نكاح زوجها بطول مرضه وامتناعه من الوطء، فكذلك لا تملكه بغيبته، بخلاف الأمة؛ فإنها تطالب السيد بالتزويج عند تعذر استمتاعه بها لمرض وغيره، فكذا تطالب به مع غيبته، والله أعلم.

ص: 594

فتبين بهذا أن الأمة حقها في إزالة ضررها بالوطء من السيد أو غيره بخلاف الزوجة، فإن حقها في الوطء من الزوج خاصة، فكذلك تزوج أمة الغائب دون زوجة الغائب إلا حينما يجوز فسخ نكاحها بالغيبة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم عَلَى خير خلقه أجمعين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إِلَى يوم الدين.

***

ص: 595