الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المُؤمن الجنَّة، والكافر النَّار، ولكن سبق من الله الأجل، فجعل موعدهم يوم القيامة.
قوله: «وَيَقُولُونَ» أي: كفَّار مكَّة، «لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ» أي: على محمَّد «آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ» على ما نقترحُه، وذلك أنَّهم قالوا: القرآن الذي جئنا به كتابٌ مشتملٌ على أنواع من الكلمات، والكتاب لا يكون معجزاً، كما أنَّ كتابَ موسى، وعيسى ما كان معجزاً لهما، بل كان لهما أنواع من المعجزات، دلَّت على نُبُوَّتهما سوى الكتاب، وكان في أهْل مكَّة من يدَّعي إمكان المعارضة، كما أخبر الله - تعالى - عنهم في قوله:{لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ} [الأنفال: 31] .
فلذلك طلبُوا منه شيئاً آخر سوى القرآن؛ ليكون معجزاً، فأمر الله تبارك وتعالى رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بأن يجيبهم بقوله:{إِنَّمَا الغيب للَّهِ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} [يونس:
20]
.
وتقريرُ هذا الجواب: أنه أقام الدلالة القاهرة على أنَّ القرآن معجزةٌ قاهرةٌ؛ لأنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - نشأ بينهُم، وعلموا أنَّهُ لم يُطالِعْ كتاباً، ولا تتلمذ لأستاذ، مدَّة أربعين سنة مُخالطاً لهُم، ولم يشتغل بالفِكْرِ والتَّعلم قط، ثم إنَّه أظهر هذا القرآن العظيم، وظهورُ مثل هذا الكتاب على مثل ذلك الإنسان، لا يكونُ إلَاّ بالوحي، وإذا كان كذلك، فطلب آية أخرى سوى القرآن يكون اقتراحاً لا حاجة إليه وعناداً، ومثل هذا يكون مُفَوَّضاً إلى مشيئة الله - تعالى -، فإن شاء أظهر، وإن شاء لم يظهر، فيكون من باب الغيب، فيجبُ على كلِّ أحدٍ أن ينتظر، هل يفعله الله أم لا؟ ولكن سواء فعل أم لم يفعل فقد ثبت نُبُوَّتُه، وظهر صدقُه، وهذا المقصُود لا يختلف بحُصُول تلك الزِّيادة وعدمها.
قوله تعالى: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} الآية.
وهذا جوابٌ آخر لسُؤالهم، وطلبهم المعجزة، وذلك من وجهين:
الأول: أنَّ عادتهُم العناد، والمكر، وعدم الإنصاف، فبتقدير أن يعطوا ما سألوه، فإنهم لا يُؤمنون، بل يبقون على كفرهم، وعنادهم؛ وبيانه أنَّ الله - تعالى - سلَّط القَحْط على أهل مكَّة سبع سنين، ثمَّ رحمهم، وأنزل المطر على أراضيهم، ثم إنَّهم أضافُوا المنافع إلى الأنواء والكواكب.
الوجه الثاني: أنَّه لو أنزل عليهم المعجز لم يقبلُوه؛ لأنَّه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التَّشدد في الدِّين، وإنما غرضُهُم الدَّفع، والمبالغة في صون مناصبهم الدنيويَّة؛ لأنَّه - تعالى - لمَّا سلَّط البلاء عليهم، ثم أزالهُ عنهم، فهم مع ذلك استمرُّوا على الكُفْر.
قوله: «وَإِذَآ أَذَقْنَا» شرطيَّةٌ؛ جوابها «إذا» الفُجائيَّةُ في قوله: «إذا لهُم مكرٌ» ، والعاملُ في «إذَا» الفُجائيَّة؛ الاستقرارُ الذي في «لَهُمْ» ، وقد تقدَّم الخلافُ في «إذَا» هذه، هَلْ هِيَ حرفٌ أو ظرفُ زمان على بابها، أو ظرفُ مكان؟ قال أبو البقاءِ:«وقيل:» إذا «الثانية زمانيَّة أيضاً، والثانية وما بعدها جواب الأولى» ، وهذا الذي حكاهُ قولٌ ساقطٌ لا يفهم معناه.
فصل
معنى الآية: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس} يعني: الكفار {رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ} أي: راحة ورخاء من بعد شدة وبلاء.
وقيل: القطر بعد القحط، «مَسَّتْهُمْ» أي: أصابتهُم.
واعلم: أنَّ رحمة الله لا تُذاق بالفَمِ، وإنَّما تُذاق بالعقْلِ.
وقوله {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا} قال مجاهد: تكذيب واستهزاء، وسُمِّي التكذيبُ مكراً؛ لأنَّ المكر عبارةٌ عن صرف الشَّيءِ عن ظاهره بطريق الحيلة، وهؤلاء يحتالُون لدفع آيات الله سبحانه وتعالى بكل ما يقدرون عليه من إلقاء الشُّبْهَة، أو التَّخْليط في المناظرة، أو غير ذلك من الأمور الفاسدة.
وقال مقاتل: لا يقولون هذا من رزق الله، إنَّما يقولون سُقِينَا بِنَوء كذا، وهو كقوله:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] .
وقوله: «في آيَاتِنَا» متعلقٌ ب «مَكْرٌ» ، جعل الآيات محلاًّ للمكر مبالغة، ويضعف أن يكون الجارُّ صفةً ل «مَكْرٌ» .
قوله: {قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً} «أسرَعُ» مأخوذٌ من «سَرُعَ» ثلاثياً؛ حكاه الفارسي.
وقيل: بل مِنْ «أسْرَع» وفي بناء أفعل وفِعْلى التعجُّب من «أفعل» ثلاثةُ مذاهب:
الجواز مطلقاً.
المنع مطلقاً.
التَّفصيلُ: بين أن تكون الهمزةُ للتَّعدية فيمتنع، أو لا فيجوز. وقال بعضهم:«أسْرَعُ» هنا ليست للتفضيل. وهذا ليس بشيءٍ، إذ السِّياق يردُّه، وجعله ابن عطيَّة - أعني كون أسرع للتَّفضيل - نظير قوله:«لَهِي أسودُ مِنَ»
قال أبو حيَّان: «وأما تنظيرُهُ» «أسود من القَار» ب «أسْرَع» ففاسد؛ لأنَّ «أسْوَد» ليس
فعلهُ على وزن «أفْعَل» ، وإنما هو على وزن «فَعِل» نحو: سَوِد فهو أسْود، ولم يمتنع التَّعجُّب، ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو: سَوِدَ، وحَمِرَ، وأدِمَ، إلَاّ لكونه لوناًن وقد أجاز ذلك بعضُ الكوفيين في الألوان مطلقاً، وبعضهم في السَّواد والبياض فقط «.
قال شهاب الدِّين: تنظيره به ليس بفاسدٍ؛ لأنَّ مراده بناءُ أفعل ممَّا زاد على ثلاثة أحرُف، وإن لم يكن على وزن» أفْعَل «، و» سَوِد «وإن كان على ثلاثةٍ، لكنه في معنى الزَّائد على ثلاثة، إذ هو في معنى» أسْوَد «، و» حَمِرَ «في معنى أحْمَر؛ نصَّ على ذلك النحويُّون، وجعلوه هو العلَّة المانعة من التعجُّب في الألوان.
و» مَكْراً «نصبٌ على التَّمييز، وهو واجبُ النَّصب؛ لأنَّكَ لو صُغْتَ من» أفْعَل «فعلاً، وأسندته إلى تمييزه فاعلاً، لصحَّ أن يقال:» سَرُع مَكْرُه «، وأيضاً فإنَّ شرط جواز الخفضِ، صِدْقُ التمييز على موصوفِ أفعل التَّفضيل، نحو:» زيدٌ أحسنُ فقيهٍ «، ومعنى» أسْرَعُ مَكْراً «: أعجل عُقُوبة، وأشدُّ أخذاً، وأقدر على الجزاء، أي: عذابه أسرع إليكم ممَّا يأتي منكم في دفع الحقِّ.
قوله: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} قرأ الحسن، وقتادة، ومجاهد، والأعرج، ويعقوب، ونافع رضي الله عنهم في رواية:«يَمْكُرُوْنَ» بياء الغيبة جرياً على ما سبق، والباقون بالخطاب: مبالغة في الإعلام بمكرهم، والتفاتاً لقوله:«قُلِ اللهُ» ؛ إذ التقدير: قُلْ لهُمْ، فناسب الخطاب، وقوله:«إنَّ رُسُلنَا» التفاتٌ أيضاً، إذ لو جرى على قوله:«قُلِ اللهُ» ، لقيل: إنَّ رسله، والمراد بالرُّسل: الحفظة.
قوله تعالى: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر} الآية.
لمَّا ذكر في الآيةِ الأولى، مجيء الرَّحمة بعد الضرِّ، أو الرَّخاء بعد الشدَّة، ذكر في هذه الآية مثالاً لذلك، وبياناً لنقل الإنسان من الضرِّ إلى الرحمة، وذلك أنَّ الإنسان إذا ركب السَّفينة، ووجد الرِّيح الطيبة الموافقة لمقصوده، حصل له المسرَّة القويَّة، والنَّفْع التَّام، ثم قد تظهرُ علامات الهلاك؛ بأنْ تجيئهم الرِّياح العاصفة، أو تأتيهم الأمواج
العظيمة من كل جانبٍ، أو يغلب على ظنونهم أنَّ الهلاكَ واقعٌ بالانتقال من تلك الأحوال الطيِّبة، إلى هذه الأحوال الشديدة، فوجب الخوفُ العظيمُ، والإنسان في هذه الحالة، لا يطمعُ إلا في فضْلِ الله سبحانه وتعالى، ويقطع طعمهُ عن جيمع الخلق، ويصير بجميع أجزائه مُتضرِّعاً إلى الله - تعالى -، ثُمَّ إذا نجَّاهُ الله - تعالى - من هذه البليَّة العظيمة، نسي النِّعمة، ورجع إلى ما ألفهُ من العقائد الباطلةِ.
قوله: «يَنْشُركم» قراءةُ ابن عامر من النَّشْرِ ضدَّ الطيّ، والمعنى: يُفَرِّقكم ويَبُثُّكُم، وقرأ الحسن:«يَنْشِركُم» من «أنْشَر» ، أي: أحْيَا، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً، وقرأ بعضُ الشَّاميين:«يُنَشِّركم» بالتشديد؛ للتَّكثير من النَّشْر الذي هو مطاوع الانتشار، وقرأ الباقون:«يُسَيِّركُم» من التَّسْييرِ، والتَّضعيفُ فيه للتعدية، تقول: سَارَ الرَّجُل، وسيَّرْتُهُ أنَا.
وقال الفارسيُّ: «هو تَضْعيفُ مُبَالغةٍ لا تضعيفُ تعديةٍ؛ لأنَّ العرب تقول: سِرْتُ الرَّجُلَ وسيَّرته» .
ومنه قول الهُذليِّ: [الطويل]
2882 -
فَلا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنْتَ سِرْتَهَا
…
فأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
وهذا الذي قالهُ أبو علي غير ظاهر؛ لأنَّ الأكثر في لسان العرب، أنَّ «سار» قاصرٌ، فجعلُ المضعف مأخوذاً من الكثير أولى.
وقال ابن عطيَّة: «وَعَلى هذا البيت اعتراضٌ، حتَّى لا يكون شاهداً في هذا؛ وهو أن يكون الضَّمير كالظرف كما تقول: سِرْتُ الطريق» .
قال أبو حيَّان: «وأمَّا جعلُ ابن عطيَّة الضَّميرَ كالظَّرفِ كما تقول: سِرْتُ الطَّريقَ. فهذا لا يجوزُ عند الجمهور؛ لأنَّ» الطَّريق «عندهم ظرفٌ مختصٌّ كالدَّار، فلا يصلُ إليها الفعلُ غير» دَخَلتُ «عند سيبويه، و» انطلقتُ «و» ذَهَبْتُ «عند الفرَّاء - إلَاّ بوساطة» في «، إلَاّ في ضرورة، وإن كان كذلك فضميرهُ أحرى أن لا يتعدَّى إليه الفعل» .
وزعم ابنُ الطَّراوةِ أنَّ «الطَّريقَ» ظرفٌ غيرُ مختصٍّ، فيصلُ إليه الفعلُ بنفسه، وأباهُ النُّحَاة «.
قوله:» حتى إِذَا «» حتَّى «متعلقةٌ ب» يُسَيِّركم «، وقد تقدَّم الكلامُ على» حتَّى «هذه
الداخلة على» إذَا « [النساء: 6] ، قال الزمخشري:» كيف جعل الكونَ في الفُلكِ غاية التَّسيير في البَحْر، والتَّسييرُ في البَحْر، إنَّما هو بالكون في الفلك؟ قلت: لَمْ يجعلِ الكون في الفلكِ غاية التَّسيير، ولكنَّ مضمونَ الجملةِ الشرطيةِ الواقعةِ بعد «حتَّى» بما في حيِّزها، كأنَّه قال: يُسَيِّركُم حتَّى إذا وقعت هذه الحادثةُ، فكان كيت وكيت من مجيء الرِّيح العاصفِ، وتراكُم الأمواج، والظَّن للهلاك، والدُّعاء بالإنجاء «، وقرأ أبو الدَّرْدَاء وأمُّ الدرداء:» في الفُلْكِيّ «بياء النَّسب، وتخريجها يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يراد به الماءُ الغَمْرُ الكثيرُ، الذي لا يجري الفلكُ إلَاّ فيه، كأنَّه قيل: كنتم في اللُّجِّ الفلكيِّ، ويكون الضمير في» جَرَيْنَ «عائداً على الفلك؛ لدلالةِ» الفُلْكي «عليه لفظاً، ولزوماً.
والثاني: أن يكون من باب النِّسبةِ، كقولهم:«أحْمَرِيٌّ» ، كقوله:[الرجز]
2883 -
أطَرَباً وأنتَ قِنَّسْرِيُّ
…
والدَّهْرُ بالإنسَانِ دَوَّارِيُّ
وكنسبتهم إلى العلم، في قولهم:«الصَّلتَانيّ» ، كقوله:[الطويل]
2884 -
أنَا الصَّلتانِيُّ الذي قَدْ عَلِمْتُمُ.....
…
...
…
...
…
...
…
.
فزاد ياء النَّسب في اسمه.
قوله: «وجَريْنَ» يجُوزُ أن يكون نسقاً على «كُنْتُم» ، وأن يكون حالاً على إضمار «قَدْ» ، والضمير عائدٌ على «الفُلْكِ» ، والمراد به هنا: الجمع، وقد تقدَّم أنه تكسير، وأنَّ تغييره تقديريٌّ [البقرة: 164] ، فضمَّتُه كضمَّةِ «بُدْن» ، وأنَّهُ ليس باسم جمع كما زعم الأخفشُ.
وقوله: «بِهِمْ» فيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة.
قال الزمخشري: «فإن قلت ما فائدةُ صرف الكلامِ، عن الخطابِ إلى الغيبةِ؟ قلت: المبالغةُ؛ كأنه يذكُرُ لغيرهم حالهُ ليُعَجِّبَهم منها، ويستدعي منهم الإنكارَ والتَّقبيحَ» ، وقال ابنُ عطيَّة:«بِهِمْ: خروجٌ من الخطاب إلى الغَيْبَة، وحسُنَ ذلك؛ لأنَّ قوله:» كُنتُمْ في الفُلْكِ «هو بالمعنى المعقُول، حتى إذا حصل بعضكم في السُّفُن» . انتهى، فقدَّر اسماً غائباً، وهو ذلك المضافُ المحذوف، فالضميرُ الغائب يعود عليه، ومثله {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي
بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور: 40]، تقديره: أو كذي ظُلُمات، وعلى هذا فليس من الالتفات في شيءٍ.
وقال أبو حيَّان: «والذي يظهر أنَّ حكمةَ الالتفاتِ هنا: هي أنَّ قوله {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ} خطابٌ فيه امتنانٌ، وإظهارُ نعمةٍ للمخاطبين، والمُسَيَّرون في البَرِّ والبَحْر مؤمنون وكُفَّار، والخطابُ شاملٌ، فحسُنَ خطابُهُم بذلك، ليستديمَ الصَّالحُ على الشُّكْر، ولعلَّ الطَّالحَ يتذكَّرُ هذه النّعْمَة.
ولمَّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنَّهم إذا نجوا بغَوا في الأرض، عدلَ عن خطابهم بذلك إلى الغَيْبة؛ لئلَاّ يخاطب المؤمنين بما لا يليقُ صُدُورُه منهم، وهو البغيُ بغير الحقِّ» .
قوله: «بريحٍ» متعلِّقٌ ب «جَرَيْنَ» ، فيقال: كيف يتعدَّى فعلٌ واحدٌ، إلى معمولين بحرف جرٍّ متحدٍ لفظاً ومعنًى؟ فالجوابُ: أنَّ الياءَ الأولى للتَّعدية، كهي في «مَرَرْتُ بزَيْدٍ» ، والثانية للحالِ، فتتعلق بمحذُوف، والتقدير: جريْنَ بهم مُلتبسةً بريحٍ، فتكونُ الحالُ من ضميرِ الفُلْكِ.
قوله: «وَفَرِحُواْ بِهَا» يجُوزُ أن تكون هذه الجملةُ نسقاً على «جَرَيْنَ» ، وأن تكُون حالاً، و «قد» معها مُضْمَرةٌ عند بعضهم، أي: وقد فَرِحَوا، وصاحبُ الحَالِ الضَّمير في «بِهِمْ» .
قوله: «جَآءَتْهَا» الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة الفعليَّة جواب «إِذَا» ، وأنَّ الضمير في «جَاءَتْهَا» ضميرُ الرِّيح الطيِّبة، أي: جاءتِ الريحَ الطَّيبةَ ريحٌ عاصفٌ، أي: خَلَفْتْهَا، وبهذا بدأ الزمخشري، وسبقه إليه الفرَّاء وجوَّز أن يكون الضميرُ للفلك، ورجَّح هذا بأنَّ الفلك هو المُحَدَّث عنه.
قوله: «وظَنُّوا» يجُوزُ أن يكون معطوفاً على «جَاءَتْهَا» ، الذي هو جوابُ «إذَا» ، ويجوز أن يكون معطوفاً على «كُنتُمْ» ، وهو قولُ الطبري؛ ولذلك قال: وظَنُّوا جوابه «دعوُا الله» .
قال أبو حيَّان: «ظاهرُه العطفُ على جواب» إذَا «، لا أنَّه معطوفٌ على كُنتُمْ، لكنَّه محتمل، كما تقول:» إذا زَارك فلان أكرمهُ، وجاءكَ خالدٌ فأحسن إليه «، وكأنَّ أداةَ الشَّرطِ مذكورةٌ» .
وقرأ زيد بن علي: «حِيطَ» ثلاثيّاً.
قوله: «دَعَوُاْ الله» قال أبو البقاء: «هو جوابُ ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشَّرطِ، تقديره: لمَّا ظنُّوا أنَّهُم أحيط بهم دعوُا الله» ، وهذا كلامٌ فارغٌ، وقال الزمخشري:«هي بدلٌ من» ظَنُّوا «؛ لأنَّ دعاءهم من لوازم ظنِّهم الهلاكَ، فهو مُتلبسٌ به» ،
ونقل أبو حيَّان عن شيخه أبي جعفر: «أنَّه جوابٌ لسُؤال مقدَّر، كأنَّه قيل: فماذا كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل: دَعَوا الله» ، وهذا نقله ابنُ الخطيب عن بعضهم، و «مُخْلِصينَ» حال، و «لَهُ» متعلِّقٌ به، و «الدِّينَ» مفعوله.
قوله: «لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا» : اللَاّمُ: موطئةٌ للقسم المحذوف، و «لنَكُونَنَّ» : جوابه، والقسمُ وجوابُهُ: في محلِّ نصب بقول مقدَّر، وذلك القولُ المقدَّر: في محلِّ نصبٍ على الحالِ، والتقديرُ: دعوا قائلين: لَئِن أنْجَيتنَا من هذه لنكُوننَّ، ويجوزُ أن يجرى «دعَوا» مجرى «قالُوا» لأنَّ الدُّعَاء والقول بمعنى؛ إذ هو نوعٌ من أنواعه، وهو مذهبٌ كوفيٌّ.
قوله: «إِذَا هُمْ يَبْغُونَ» : جوابُ «لمَّا» ، وهي «إذَا» الفُجائيَّة، وقوله:«بِغَيْرِ الحق» : حالٌ، أي: ملتبسين بغير الحقِّ، قال الزمخشري:«فإن قلت: ما معنى قوله:» بِغَيْرِ الحقِّ «والبغيُ لا يكون بحقٍّ؟ قلت: بلى، وهو استيلاءُ المسلمين على أرض الكُفَّار، وهدْمُ دُورهم، وإحراقُ زُرُوعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ببني قريظة» ، وكان قد فسَّر البغي بالفساد، والإمعان فيه، مِن «بَغَى الجرحُ: إذا ترامى للفساد» .
ولذلك قال الزجاج: «إنّه الترقِّي في الفساد» ، وقال الأصمعي أيضاً:«بَغَى الجرحُ: ترقَّى إلى الفساد، وبغتِ المرأةُ: فجرت» .
قال الواحدي: «وأصلُ البغي: الطلب» ، وقد تقدم أنَّ هذه الآي، ترُدُّ على الفارسي، أنَّ «لمَّا» ظرف بمعنى «حين» ؛ لأنَّ ما بعد «إذَا» الفُجائيَّة، لا يعمل فيما قبلها، وإذا قد فرض كون «لمَّا» ظرفاً لزم أن يكون لها عاملٌ «.
فصل
دلَّت هذه الآية: على أن فعل العبد خلق لله - تعالى -؛ لأنَّه قال:» يُسَيِّركُمْ «، وقال: {قُلْ سِيرُواْ} [الأنعام: 11] وهذا يدل على أن سيرهم منهم، ومن الله، فيكون كسباً لهم وخلقاً لله. ونظيره قوله - تعالى -: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} [الأنفال: 5] وقال في آيةٍ أخرى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} [التوبة: 40] ، وقوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] ، مع قوله: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} [التوبة: 82] ، قال القفال:» هو الذي يسيركم في البرِّ والبحْرِ؛ أي: هو الهادي لكم إلى السَّيْرِ في البحر والبر، طلباً للمعاش، وهو المسير لكم؛ لأنَّه هيَّأ لكم أسباب ذلك السَّيْر «، والجواب: لا شك أنَّ المسيِّر في
البحر هو الله - تعالى جلَّ ذكره -؛ لأنَّه هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السَّفينة، وإضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة، فيجبُ أن يكون مسيراً لهم في البرِّ والبحر، إذ لو كان مسيّراً لهم في البرِّ بمعنى إعطاء الآلات والأدوات، لكان مجازاً، فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازاً دفعةً واحدةً، وذلك باطلٌ، على ما تقرر في أصول الفقه، قال أبو هاشم:» لايبعُد أن يقال: إن الله تعالى تكلَّم به مرَّتين «، وهذا باطلٌ؛ لأن هذا القول لم يقل به أحدٌ من الأئمَّة، ممَّن كانوا قبله، فكان خلافاً للإجماع، فيكون باطلاً.
فصل
معنى الآية: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر} على ظهور الدَّوابِّ، وفي البحر على الفلك، {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} أي: في السفن. والفلك: تكون واحداً، وجمعاً،» وَجَرَيْنَ بِهِم «أي: جرت الفلك بالنَّاس، رجع من الخطاب إلى الغيبة.
والفائدة فيه من وجوه:
أحدها: ما تقدم عن الزمخشري، وهو المبالغةُ بذكر حالهم لغيرهم؛ ليعجبوا منها، ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتَّقبيح.
وثانيها: قال الجُبَّائي: «إنَّ مخاطبته - سبحانه جلَّ ذكره - لعباده، على لسان الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بمنزلة الخبر عن الغائب، وكل من أقام الغائب مقام المخاطب، حسن منه أن يردَّه مرة أخرى إلى الغائب» .
وثالثها: قال ابن الخطيب: «إن الانتقال من لفظ الغيبة، إلى لفظِ الحضور، يدلُّ على مزيد التقريب، والإكرام، وأمَّا الانتقال من لفظ الحضور، إلى لفظ الغيبة، فإنه يدلُّ على المقتِ، والتعذيب، وهو اللَاّئق بحال هؤلاء، لأنَّ من كان صفته، أنَّه يقابل إحسان الله إليه بالكفر، أن يكون اللَاّئقُ به ذلك» . والأول كما في الفاتحة، فإن قوله:{بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1 - 3] خطاب غيبة، ثم قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] : وهذا يدل على أن العبد، كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، وهو يوجب عُلُو الدرجة، وكمال القرب.
ثم قال: «بريحٍ طيبةٍ» : لينة، «وفَرِحُوا بها» أي: بالرِّيح، «جَاءَتْهَا» أي: جاءت الفلك، أو جاءت الريح اللينة كما تقدَّم، «ريح عاصف» شديدة، ولم يقل عاصفة؛ لاختصاص الرِّيح بالعُصُوف، وقيل:«الرِّيح» يُذكَّر ويؤنث.
قال الفراء، والزجاج: يقال: ريحٌ عاصفٌ، وعاصفةٌ، وقد عصفتْ عُصُوفاً وأعْصَفَتْ فهي مُعْصِف ومُعْصِفَة، وعصفت الريح: اشتدتْ وأصلُ العَصْف: السُّرعة، يقال: ناقةٌ عاصفٌ، وعصُوفٌ؛ سريعة، وإنما قيل:«ريحٌ عاصفٌ» لأنَّه يُراد ذات عُصُوف، كما قيل: لابنٌ وتامرٌ؛ أو لأنه لفظ يذكَّر ويؤنَّث.
فإن قيل: الضميرُ في «جَاءتْهَا» يعودُ على الفلك، وهو ضمير الواحد، والضمير في قوله:«وجَريْنَ بهمْ» عائد على الفلك، وهو ضميرُ الجمع، فما السببُ فيه؟ .
فالجواب من وجهين:
الأول: لا نُسَلِّم أن الضمير في «جَاءتْهَا» ، عائدٌ إلى الفلك، بل يعُود على الرِّيح الطيِّبة.
الثاني: لو سلَّمنا ذلك، إلَاّ أنّض لفظ الفكل يصلح للواحد والجمع. ثم قال:«وجَاءَهُم» أي: ركَّاب السفينة «الموج مِن كُلِّ مكانٍ» وهو حركةُ الماءِ واختلاطهُن وقيل: المَوْج ما ارتفع من الماء فوق البحر، «وظَنُّوا» : أيْقَنُوا «أنَّهُم أحيطَ بهم» أي: ظنُّوا القرب من الهلاك، وأصله: أنَّ العدوَّ إذا أحاط بقوم أو بلدٍ، فقد دنوا من الهلاك، {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي: أخلصُوا لله في الدعاء، ولم يدعُوا أحداً سواه، قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: يريد: ترك الشرك، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً، وقال الحسن رحمه الله:«دَعَوُا اللهُ مُخْلصينَ؛ جارياً مُجْرَى الإيمان الاضطراري» ، وقال ابن زيد:«هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا جاء الضُّرُّ والبلاء لم يدعُوا إلَاّ الله» وعن أبي عبيدة: أنَّ المراد من ذلك الدعاء قولهم: أهْيَا شر هَيَا، أي: يا حيُّ يا قيُّوم، وقالوا: لَئِنْ أنْجيتنا يا رب من هذه الريح العاصف، أو من هذه الأمواج، أو من هذه الشدائد، وهذه الألفاظ، وإن لم يسبق ذكرها؛ إلا أنه سبق ما يدلُّ عليها، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} لك بالإيمان والطَّاعة.
واعلم: أنَّه يمكن أن يقدَّر في الآية إضمار، تقديره: دعوا اللهَ مخلصين لهُ الدِّ] ن، مريدين أن يقولوا: لَئِنْ أنْجَيْتَنا، ويمكن أن يقال: لا حاجة إلى الإضمار؛ لأنَّ قوله: «دعَوُا اللهَ» يصير مُفَسَّراً بقوله: {أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} فهم في الحقيقة، ما قالُوا إلَاّ هذا القول.
ولمَّا حكى عنهم التَّضرع الكامل، ذكر أنَّهُم بعد الخلاص من تلك البليَّة، أقدموا في الحالِ على البغي في الأرض بغير الحقِّ، قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: يريد: بالفسادِ والتَّكذيب والجُرْأة على الله عز وجل.
قوله: {يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} أي: وباله راجعٌ إليها، وقيل: المرادُ: بغي بعضكم على بعض، كقوله:{اقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 66]، {وَلَا تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، {وَلَا تلمزوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] والمعنى: أنَّ بغي بعضهم على
بعض، منفعة الحياة الدنيا، ولا بقاء لها، والبغي من منكرات المعاصي، قال: صلوات الله وسلامه عليه -: «أسْرَعُ الخَيْرِ ثواباً صلةُ الرَّحم، وأعجلُ الشَّرِّ عقاباً البغي، واليمين الفاجرة» ، وروي:«ثنتان يعجلهما الله - تعالى - في الدنيا: البَغْي، وعقُوقُ الوالدين» وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «لو بغى جَبَلٌ على جبلٍ، لاندَكَّ الباغِي» .
وقال محمد بن كعب رضي الله عنه ثلاثٌ من كنَّ فيه كنَّ عليه: البغيُ، والنَّكْثُ، والمَكْرُ، قال - تعالى -:{إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} ، {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَاّ بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنعام: 123] ، {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} [الفتح: 10] .
قوله: {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} قرأ حفص: «مَتَاعَ» بالنصب، ونصبُه على خمسة أوجه:
أحدها: أنَّهُ منصوب على الظرف الزمانيُّ، نحو:«مَقْدمَ الحجَّاج» ، اي: زمن متاع الحياة.
والثاني: أنَّه منصوبٌ على المصدرِ الواقع موقع الحالِ، أي: مَتَمتِّعينَ، والعاملُ فِي هذا الظرف، وهذه الحال: الاستقرارُ الذي في الخبر، وهو «عليكم» ، ولا يجوزُ أن يكونا منصوبين بالمصدر؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصلُ بين المصدر، ومعموله بالخبر، وقد تقدَّم أنَّه لا يخبرُ عن الموصول إلَاّ بعد تمام صلته.
والثالث: نصبه على المصدر المؤكَّد بفعلٍ مقدرٍ، أي: يتمتَّعُون متاع الحياة الدُّنْيا.
الرابع: أنه منصوبٌ على المفعول به، بفعلٍ مقدر يدلُّ عليه المصدر، أي: يَبْغُون متاع الحياةِ الدُّنيا، ولا جائزٌ أن ينتصب بالمصدر؛ لما تقدَّم.
الخامس: أن ينتصب على المفعول من أجله، أي: لأجل متاع، والعامل فيه: إمَّا الاستقرارُ المقدَّرُ في «عَلَيْكُم» ، وإمَّا فعلٌ مقدَّرٌ، ويجوز أن يكون النَّاصبُ له، حال جعله ظرفاً، أو حالاً، أو مفعولاً من أجله: نفس البغي، لا على جعل «عَلَى أنْفُسِكُم» خبراً، بل على جعله متعلِّقاً بنفس البغي، والخبرُ محذوفٌ؛ لطول الكلام، والتقدير: إنَّما بغيكم على أنفسكم، متاع الحياة مذمومٌ، أو مكروهٌ، أو مَنْهيٌّ عنه.
وقرأ باقي السبعة «مَتَاعُ» بالرفع - وفيه أوجه:
أظهرها: أنَّه خبرُ «بَغْيُكُمْ» ، و «عَلَى أنفُسِكُمْ» : متعلقٌ بالبغي.
ويجُوزُ أن يكون «عليكم» خبراً، و «مَتَاعُ» خبراً ثانياً.
ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هو متاع كقوله: {لَمْ يلبثوا إِلَاّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ} [الأحقاف: 35] . أي: هذا بلاغٌ.
وقرأ ابن أبي إسحاق، «مَتَاعاً الحياةَ» بنصب «مَتَاعاً» و «الحَيَاة» ، ف «مَتَاعاً» : على ما تقدَّم، وأمَّا «الحَيَاة» : فيجُوزُ أن تكون مفعولاً بها، والنَّاصِبُ لها المصدر، ولا يجوزُ والحالةُ هذه، أن يكون «مَتَاعاً» مصدراً مؤكداً؛ لأنّض المؤكِّد لا يعمل. ويجُوزُ أن تنتصب «الحَيَاة» على البدل من «مَتَاعاً» لأنها مشتملةٌ عليه، وقرىء أيضاً:«مَتاعِ الحياة» ، بجرِّ «متاع» ، وخُرِّجت على النَّعت لأنفسكم، ولا بُدَّ من حذف مضافٍ حينئذٍ، تقديره: على أنفسكم ذوات متاع الحياة، كذا خرَّجهُ بعضهم، ويجُوزُ أن يكون ممَّا حذف منه حرفُ الجَرّ، وبقي عمله، أي: إنَّما بَغْيُكم على أنفسكم؛ لأجل متاع، ويدلُّ على ذلك؛ قراءةُ النَّصْب في وجه من يجعله مفعولاً من أجله، وحذفُ حرف الجرِّ، وإبقاءُ عمله قليلٌ، وهذه القراءةُ لا تتباعَدُ عنه.
وقال أبُو البقاء: «ويجوزُ أن يكون المصدر، بمعنى اسم الفاعل، أي: مُتَمتِّعات» ، يعني: أنَّهُ يجعلُ المصدر نعتاً ل «أنْفُسِكُم» ، من غير حذف مضافٍ، بل على المبالغة، أو على جعل المصدر بمعنى: اسم الفاعل، ثم قال:«ويضعُف أن يكون بدلاً إذا أمكن أن يجعل صفة» .
قال شهابُ الدِّين: «وإذا جعل بدلاً على ضعفه، فمنْ أيِّ قبيل البدلِ يجعل؟ والظاهر: أنَّه من بدلِ الاشتمال، ولا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ حينئذٍ، أي: متاع الحياة الدُّنيا لها» . ثم قال: «ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ» أي: ما وعدنا من المُجازاة على أعمالكم {فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} والإنبَاءُ: الإخبار، وهو هُنَا وعيدٌ بالعذابِ، كقول الرَّجُل لغيره: سأخْبِرُكَ بما فعلتَ.
قوله - تعالى - {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} الآية.
لمَّا قال - تعالى -: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا} [يونس: 23] ضرب هذا المثل لمن اغترَّ بالحياةِ الدُّنيا، واشتد تمسُّكه بها، وأعرض عن التأهُّبِ للآخرة، فقال:{إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} وهذه الجملةُ سيقتْ؛ لتشبيه الدُّنْيَا بنباتِ الأرض، وقد شرح الله وجه الشَّبه بما ذكر.
قال الزمخشري: «هذا من التَّشبيه المُركَّب، شُبِّهتْ حال الدُّنيا، في سرعةِ تقضِّيهَا،
وانقراضِ نعيمها بعد الإقبالِ، بحالِ نباتِ الأرض في جفافه، وذهابه حطاماً بعدما التفَّ، وتكاثف، وزيَّن الأرض بخُضْرته، ورونقه» ، التَّشبيهُ المركبُ في اصطلاح البيانيِّين: إمَّا أن يكون طرفاهُ مركَّبين، أي: تشبيهُ مركَّبٍ بمركَّبٍ؛ كقول بشَّار بن بُردٍ: [الطويل]
2885 -
كَأن مُثارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُءُوسِنَا
…
وأسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كواكِبُه
وذلك أنَّه يُشبِّه الهيئة الحاصلة، من هُوِيِّ أجرام مشرقة، مستطيلة متناسبةِ المقدارِ، متفرقةٍ في جوانب شيءٍ مُظْلم، بليلٍ سقطتْ كواكبُه، وإمَّا أن يكون طرفاهُ مُخْتلفين بالإفرادِ والتَّركيب، وتقسيماتُه في غير هذا الموضوع.
قوله: «كَمَآءٍ» : هو خبرُ المبتدأ، و «أَنزَلْنَاهُ» : صفة ل «مَاءٍ» ، و «مِنَ السَّمَاءِ» : متعلِّقٌ ب «أنزَلنَاهُ» ، ويضعفُ جعله حالاً من الضَّمير المنصوب، وقوله:«فاختلط بِهِ» في هذه الباءِ وجهان:
أحدهما: أنها سببيَّةٌ، قال الزمخشري:«فاشْتبكَ بسببهِ، حتى خالط بعضه بعضاً» .
قال ابن عطيَّة: «وصَلَتْ فِرْقَةٌ» النَّبات «، بقوله:» فاخْتَلَطَ «، أي: اختلط النَّبَاتُ بعضه ببعضٍ بسبب الماء» .
والثاني: أنَّها للمُصاحبة، بمعنى: أنَّ الماء يجري مجرى الغذاء له، فهو مُصاحبه، وزعم بعضُهم: أنَّ الوقف على قوله: «فاختلط» ، على أنَّ الفاعِلَ ضميرٌ عائدٌ على الماءِ، وتبتدىءُ «بِهِ نَبَاتُ الأرض» على الابتداء والخبر، والضمير في «بِهِ» على هذا، يجُوزُ عودُه على الماءِ، وأن يعُود على الاختلاط الذي تضمَّنَهُ الفعل، قاله ابن عطيَّة، وقال أبو حيَّان:«الوقْفُ على قوله:» فاخْتلَطَ «لا يجُوزُ، وخاصَّةً في القرآن؛ لأنَّه تفكيكٌ للكلام المتَّصل الصحيح، والمعنى الفصيحِ، وذهابٌ إلى اللُّغْزِ، والتَّعقيد» .
قوله «مِمَّا يَأْكُلُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه متعلِّقٌ ب «اخْتَلَطَ» ، وبه قال الحُوفيُّ.
والثاني: أنَّه حالٌ من «النَّبات» ، قاله أبو البقاء، وهو الظاهرُ، والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة المُستقرَّة، أي: كائناً أو مُسْتقرّاً ممَّا يأكل.
ولو قيل: إنَّ «مِنْ» لبيان الجنسِ، لجاز، وقوله:«حتَّى» غايةٌ فلا بُدَّ لها من شيءٍ مُغَيّاً، والفعلُ الذي قبلها - وهو «اخْتَلَطَ» - لا يصح أن يكون مُغَيّاً، لقصر زمنهِ، فقيل: ثمَّ فعل محذوفٌ، أي: لم يزلِ النباتُ ينمُو حتى كان كَيْتَ وكَيْتَ وقيل: يجوز «فاخْتَلَطَ»
بمعنى: فدام اختلاطه، حتى كان كَيْتَ وكَيْتَ، و «إذَا» بعد «حتَّى» هذه تقدَّم التَّنبيه عليها، قوله:«وازينت» بوصل الهمزة، وتشديد الزاي والياء، والأصلُ «وتزَيَّنَتْ» فلمَّا أريدَ إدغامُ التَّاء في الزَّاي بعدها، قُلبت زاياً، وسُكِّنَت فاجتُلِبَت همزة الوصْل؛ لتعذُّر الابتداء بالسَّاكن، فصار «ازَّيَّنت» ، وتقدَّم تحريرُ هذا عند قوله - تعالى -:
{فادارأتم
فِيهَا} [البقرة: 72] .
وقرأ أبيّ بن كعب وعبد الله وزيد بن علي، والأعمش:«وتَزيَّنَتْ» على تفعَّلَتْ، وهو الأصلُ المُشَار إليه، وقرأ سعد بن أبي وقَّاص، والسُّلمي، وابنُ يعمُر، والحسن، والشَّعبي، وأبُو العالية، ونصر بن عاصم، وابنُ هرمز، وعيسى الثقفي:«وَأزْيَنَتْ» على وزن أفعَلَتْ، وأفعل هنا بمعنى: صار ذا كذا، كأحْصَدَ الزَّرعُ وأغدَّ البعيرُ، والمعنى: صارت ذا زينة، أي: حضرت زينتها وحانَتْ، وكان من حقِّ الياءِ على هذه القراءة، أن تُقْلبَ ألفاً، فيقال: أزَانَتْ، كأنَابَت فتُعَلُّ بنقلِ حركتها إلى السَّاكِن قبلها، فتتحرَّك حينئذٍ، وينفتح ما قبلها، فتقلب ألفاً كما تقدَّم في نحو: أقامَ وأنابَ، إلَاّ أنَّها صحَّتْ شذُوذاً؛ كقوله:«أغْيَمت السماء، وأغْيَلَت المرأة» ، وقد ورد ذلك في القرآن، نحو:{استحوذ} [المجادلة: 19] وقياسه: اسْتَحَاذَ؛ كاستقام.
وقرأ أبو عثمان النَّهديُّ - وعزاه ابن عطيَّة لفرقةٍ غير مُعيَّنة -: «وازْيأنَّتْ» بهمزة وصل، بعدها زايٌ ساكنةٌ، بعدها ياءٌ مفتوحةٌ خفيفةٌ، بعدها همزةٌ مفتوحةٌ، بعدها نونٌ مشددةٌ، قالوا: وأصلها: «وازْيَانَّتْ» بوزن «احْمَارَّتْ» بألف صريحة، ولكنَّهُم كرهُوا الجمع بين السَّاكنين، فقُلبتَ الألفُ همزة، كقراءة {الضآلين} [الفاتحة: 7] ، و {جَآنٌّ} [الرحمن: 39] ، وعليه قولهم:«احْمأرَّت» بالهمز، وأنشد:[الطويل]
2886 -
…
...
…
...
…
...
…
...
…
إذَا مَا احْمَأرَّتْ بالعَبيطِ العَوامِلُ
وقد تقدَّم هذا مُشْبَعاً في آخر الفاتحة.
وقرأ أشياخ عوف بن أبي جميلة: «وَازْيَأنَّت» بالأصل المشار إليه، وعزاها ابن
عطيَّة لأبي عثمان النَّهْدي، وقرىء:«وازَّايَنَتْ» ، والأصلُ: تزاينت، فأدغم.
وقوله: «أهْلُهَا» أي: أهل نباتها. و «أتَاهَا» : هو جوابُ «إذَا» ، فهو العاملُ فيها.
وقيل: الضَّميرُ عائدٌ على الزِّينة.
وقيل: على الغَلَّةِ، أي: القُوت فلا حذفَ حينئذٍ، و «لَيْلاً ونَهَاراً» ظرفان؛ للإتيان، أو للأمر، والجعل هنا تصْييرٌ، وحصيد: فَعِيل بمعنى: مفعول، ولذلك لم يؤنث بالتاء، وإن كان عبارة عن مُؤنَّث، كقوله: أمْرَأة جريحٌ. قوله: «كَأَن لَّمْ تَغْنَ» هذه الجملة يجُوزُ أن تكون حالاً من مفعول «جَعَلْنَاها» الأوَّل، وأن تكون مستأنفةٌ جواباً لسُؤالٍ مقدَّرٍ، وقرأ هارون بن الحكم «تتغَنَّ» ، بتاءين بنزنة تتفعَّل؛ كقول الأعشى:[المتقارب]
2887 -
…
...
…
...
…
...
…
...
…
طَويلَ الثَّواءِ طويلَ التَّغَنْ
وهو بمعنى: الإقامة، وقد تقدَّم في الأعراف، وقرأ الحسن، وقتادة:«كأنْ لم يَغْنَ» بياء الغيبة، وفي هذا الضمير ثلاثة أوجه:
أجودها: أن يعود على الحصيد؛ لأنَّه أقرب مذكور.
وقيل: يعودُ على الزخرف، أي: كأن لم يَقُم الزُّخْرُف.
وقيل: يعودُ على النَّبات أو الزَّرع الذي قدَّرته مضافاً، أي: كأن لم يَغْنَ زَرْعُها ونَبَاتُهَا.
و «بالأمْسِ» : المرادُ به: الزَّمن الماضي، لا اليوم الذي قبل يومك؛ كقول زهير:[الطويل]
2888 -
وأعْلَمُ عِلْمَ اليومِ والأمْسِ قبلهُ
…
ولكنَّنِي عَنْ عِلْمِ ما فِي غَدٍ عَمِ
لمْ يقْصِدْ بها حقائقها، والفرقُ بين الأمسيْن: أنَّ الذي يُرَاد به قبل يومك مبنيٌّ؛ لتضمُّنه معنى الألف واللَاّم، وهذا مُعْرَبٌ تدخل عليه «ألْ» ويضافُ، وقوله:«كَذلِكَ نُفَصِّلُ» نعت مصدرٍ محذُوف، أي: مثل هذا التَّفصيل الذي فصَّلناه في الماضي، نُفَصِّل في المستقبل.
فصل
معنى الآية: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} في فنائها، وزوالها {كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ} أي: بالمطر {نَبَاتُ الأرض} قال ابن عباسٍ: نبت بالماءِ من كل لون {مِمَّا يَأْكُلُ الناس} : من الحُبُوبِ والثِّمار، «والأنعام» من الحشيش {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} : حسنها، وبهجتها، وظهر الزهْرُ أخضرُ، وأحمرُ، وأصفرُ، وأبيضُ، «وازينت» شبهها بالعروس، إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون {وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ} على جذاذها وقطافها وحصادها، ردَّ الكناية إلى الأرض، والمراد: النبات إذ كان مفهوماً، وقيل: إلى الغلَّة، وقيل: إلى الزِّينَة «أَتَاهَآ أَمْرُنَا» : قضاؤنا بالهلاك {لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} أي: محصودة مقطوعة، وقال أبو عبيدة:«الحصيد: المستأصل» ، {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} من غني بالمكان: إذا أقام به.
قال الليث «يقال للشيء إذا فني: كأن لم يَغنَ بالأمْسِ، أي: كأنْ لمْ يَكُنْ» .
فصل
اعلم: أن تشبيهَ الحياة الدنيا بالنبات يحتملُ وجوهاً، لخَّصها القاضي.
أحدها: أنَّ عاقبةَ هذه الحياة التي يُنفقُهَا المرء في هذه الدنيا، كعاقبة هذا النَّبات، الذي حين عظُم الرَّجَاء في الانتفاع به، وقع اليأس منه؛ لأنَّ المُتَمسِّك بالدنيا، إذا عظمت رغبتُه فيها، يأتيه الموت، وهو معنى قوله:{حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] .
وثانيها: أنَّه - تعالى - بيَّن أنَّه كما لم يحصل لذلك الزَّرْع عاقبةٌ تُحْمد، فكذلك المُغترُّ بالدُّنْيَا المُحبُّ لها، لا يحصل له عاقبة تحمد.
وثالثها: أنَّ هذا التشبيه، كقوله - تعالى -:{وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] أي: لمَّا صار سعي هذا الزَّرع باطلاً، بسببِ حدوث المهلك، فكذلك سعي المغترَّ بالدُّنْيَا.
ورابعها: أنَّ مالكَ هذا البستان لمَّا أتْعَبَ نفسه في عمارته، وكذلك الرُّوحَ، وعلَّق قلبه بالانتفاع به، فإذا حدث السببُ المهلكُ، صار العناءُ الشديد، الذي تحملُه في الماضي، سبباً لحصول الشقاء الشَّديد لهُ في المستقبل، وهو ما يحصُل في قلبه من الحشرات.
فكذلك حالُ من أحبَّ الدنيا، وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات، وفاتهُ كلُّ ما نال، صار العناء الذي تحمَّله في تحصيل الدنيا، سبباً لحُصُول الشقاء العظيم له في الآخرة.
وخامسها: لعلَّه - تعالى - إنَّما ضرب هذا المثل لمنْ لا يُؤمن بالمعاد؛ لأنَّا نرى الزَّرْع الذي انتهى إلى الغايةِ في الحسن، ثمَّ إنَّ ذلك الحسنَ يزول بالكلِّيَّة، ثم تصير تلك الأرضُ موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى، فذكر - تعالى - هذا المثال؛ ليدلَّ على أنَّ مَنْ قَدَر على ذلك، كان قادراً على إعادة الأحياء في الآخرة؛ ليَجَازيَهُم على أعمالهم.
قوله تعالى: {والله يدعوا إلى دَارِ السلام} الآية.
لمَّا نفر العقلاء عن الميل إلى الدُّنيا، رغَّبهُم في الآخرة بهذه الآية، قال قتادة:«السَّلام هو الله، وداره الجنَّة» .
وسمِّي الله - تعالى - بالسَّلام لوجوه:
أحدها: أنَّه لمَّا كان واجب الوُجُودِ لذاته، فقد سَلِمَ من الفناء والتَّغيير، وسلم في ذاته وصفاته من الافتقار إلى الغير، وهذه الصِّفةُ ليست إلَاّ له - سبحانه.
وثانيها: وصف بالسلام، أي: أنَّ الخَلْق سَلِمُوا من ظُلْمِهِ؛ ولأنَّ كل ما سواه فهو مُلْكُه ومِلْكُه، وتصرُّفُ المالك في ملك نفسه لا يكون ظُلْماً.
وثالثها: قال المُبَرِّد: «وصف بالسلام، أي: لا يقدر على السَّلام إلَاّ هو، والسَّلام: عبارة عن تخليص العاجزين عن الآفات، وهو المنتصف للمظلُومين من الظالمين» وعلى هذا التقدير: السَّلام مصدر «سَلِمَ» .
وقيل: سُمِّيت الجنَّة دارَ السلام؛ لأنَّ من دخلها سلم من الآفات، وقيل: المرادُ بالسَّلام: التَّحية؛ لأنَّه - تعالى - يُسَلِّم على أهلها، قال - تعالى -:{سَلَامٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] ، والملائكةُ يُسلِّمُون عليهم أيضاً، قال - تعالى -:{وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 23 - 24] ، وهم يُحيُّون بعضهم بعضاً بالسَّلام، قال - تعالى -:{وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [يونس: 10] .
فصل
قال ابن عبَّاسٍ: «الجِنان سبعٌ: دار الجلال، ودار السَّلام، وجنَّة عدن، وجنَّةُ المأوى، وجنَّة الخُلْدِ، وجنَّة الفردوس، وجنَّة النَّعيم» .
ثم قال تعالى: {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : وهو الإسلام.
وروي عن عليِّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - قال: سمعت رسُول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول: الصِّراط المستقيم: كتابُ الله.
وقال قتادة، ومجاهد: هو الحق.
وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، وأبو بكر، وعمر.
واحتجَّ أهلُ السُّنَّة: على أنَّ الكفر والإيمان بقضاء الله - تعالى -؛ لأنَّه - تعالى - بيَّن في هذه الآيةِ، أنَّه دعا جميع الخلق إلى دارالسَّلام، ثم بيَّن أنَّه ما هدى إلَاّ بعضهم، فهذه الهدايةُ الخاصَّةُ، يجبُ أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامَّة، ولا شكَّ أنَّ الإقدار، والتمكين، وإرسال الرُّسُل، وإنزال الكُتُب أمورٌ عامَّة، فوجب أن تكون الهداية الخاصَّة مغايرة لكلِّ هذه الأشياء، وما ذاك إلَاّ أنَّه - تعالى - خصَّه بالعلم والمعرفة، دُون غيره.
وأجاب القاضي بوجهين:
الأول: أن المراد: ويهدي الله من يشاء، إلى إجابة تلك الدَّعوة، أي: أنَّ من أجاب الدُّعاء، وأطاع واتَّقَى، فإنَّ الله يهديه إليها.
والثاني: أن المراد بهذه الهداية الألطافُ، وأجيب عن هذين الوجهين، بأنَّ عندكم يجب على الله فعل هذه الهداية، وما يكون واجباً، لا يكون معلَّقاً بالمشيئةِ، فامتنع حمله على ما ذكرتم.
قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} الآية.
لمَّا دعا عبادهُ إلى دار السَّلام، ذكر السَّعادات الحاصلة لهم فيها، فقال:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} أي: أحسنوا العمل في الدُّنيا، فأتوا المأمورات، واجتنبوا المنهيات.
وقال ابن عبَّاسٍ: للذين ذكرُوا كلمة لا إله إلَاّ الله، فأمَّا الحُسْنَى: فهي الجنَّة وأمَّا الزيادة: فقال أبو بكر الصِّدِّيق، وحذيفة، وأبو موسى، وعبادة بن الصامت: هي النَّظرُ إلى وجه الله الكريم، وبه قال الحسن، وعكرمة، وعطاء، ومقاتل، والضحاك، والسدي.
روى ابن أبي ليلى، عن صهيبٍ قال:«قرأ رسُول الله صلى الله عليه وسلم َ هذه الآية: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} قال: إذا دخل أهلُ الجنَّةِ الجنَّة، وأهلُ النَّارِ النَّارَ، نادى منادٍ: يا أهل الجنَّة: إنَّ لكم عند الله موعداً، قالوا: ما هذا الموعدُ، ألمْ يُثقِّل موازِيننا، ويُبيض وُوجوهنا، ويدخِلْنَا الجنَّة، ويُنْجِنَا من النَّارِ؟ قال: فيرفعُ الحجابَ فينظرون إلى وجهِ الله عز وجل، قال:» فما أعْطُوا شَيْئاً أحَبَّ إليهم من النَّظر إليْهِ «ويؤيد هذا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] .
وقالت المعتزلةُ: لا يجوزُ حملُ الزِّيادة على الرؤية، لوجوه:
أحدها: أنَّ الدلائل العقليَّة دلَّت على أنَّ رؤية الله - تعالى - ممتنعةٌ.
وثانيها: أنَّ الزيادة يجبُ أن تكون من جنس المزيد عليه، ورؤيةُ الله - تعالى - ليست من جنس نعيم الجنَّة.
وثالثها: أنَّ الحديث المرويَّ يوجب التشبيه؛ لأنَّ النظر: عبارةٌ عن تقليب الحدقة، إلى جهة المرئيِّ، وذلك يقتضي كون المرئيِّ في الجهة؛ لأنَّ الوجه اسم للعضو المخصوص، وذلك يوجبُ التشبيه، فثبت أنَّ هذا اللفظ، لا يمكن حملُه على الرُّؤية، فوجب حملهُ على شيء آخر. قال الجبائي: الحُسْنَى: هي الثَّواب المستحق، والزِّيادة:
ما يزيده الله على ذلك الثَّواب من التفضُّل، كقوله - تعالى -:{لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} [فاطر: 30] ، ونقل عن عليٍّ رضي الله عنه، أنه قال:» الزِّيادة: غرفة من لُؤلؤة واحدة «.
وعن ابن عبَّاسٍ:» الحُسْنَى: هي الحسنة، والزِّيادة عشرُ أمثالها «، وعن الحسن:» عشُر أمثالها إلى سبْعمائة ضعف «، وعن مجاهد:» الزيادة: مغفرة من الله ورضوان «.
وعن يزيد بن سمرة:» الزِّيادة: أن تمُرَّ السَّحابة بأهْلِ الجنَّة، فتقول: ما تُرِيدُون أن أمطركُم، فلا يُريدُون شيئاً إلَاّ أمطرتهم «.
وأجاب أهل السُّنَّة عن هذه الوجوه، فقالوا: أمَّا قولهم: إنَّ الدلائل العقليَّة دلَّت على امتناع رؤية الله - تعالى -، فهذا ممنوع؛ لأنَّا بيَّنا في كتب الأصُول: أن تلك الدلائل في غاية الفُتُور، وثبت بالأخبارِ الصحيحة إثبات الرُّؤية، كقوله عليه الصلاة والسلام ُ -:» هل تُمَارُونَ في رُؤْيةِ الشَّمْسِ ليس دُونهَا سَحَاب؟ «
حين سألوه عن رؤية الله - تعالى -، وقوله عليه الصلاة والسلام ُ -:«هل تُمارُونَ في رُؤيةِ القمرِ ليلة البدر؟» فوجب إجراؤها على ظواهرها.
وقولهم: «الزِّيادة يجبُ أن تكُون من جنْسِ المزيد عليه» ، فنقول: المزيد عليه إذا كان مقدراً بمقدار معيَّن، كانت الزِّيادةُ من جنسها، وإذا كان مقدراً بمقدار غير معيَّن، وجب أن تكون الزِّيادة مخالفة له، مثال الأول: قول الرَّجُل لغيره: أعطْتُك عشرة أمدادٍ من الحنطة وزيادة، فتكون تلك الزيادة من الحنطة، ومثال الثاني: قوله أعطيتك الحنطة وزيادة، فيجبُ أن تكون الزِّيادة غير الحنطة.
فلفظ: «الحُسْنَى» : وهي الجنَّة، مطلقة، وهي غير مقدَّرة بقدر معيَّن، فتكون الزِّيادة شيئاً مغايراً لما في الجنة.
وقولهم: «الحديثُ يدلُّ على إثبات الوجه، وذلك يوجب التشبيه» ، فنقولُ: قام الدَّليل على أنَّه - تعالى - ليس بجسم، ولم يقم الدَّليلُ على امتناع الرُّؤية، فوجب ترك العمل بما قام الدَّليل على فساده.
فصل
قال أبو العبَّاس المقري: وردت الحُسْنَى على أربعة معان:
الأول: بمعنى الجنَّة، قال - تعالى -:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] .
الثاني: الحسنى: الصَّلاح، قال - تعالى -:{وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ الحسنى} [التوبة: 107] أي: الصَّلاح.
الثالث: البنون، قال - تعالى -:{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى} [النحل: 62] أي: البنُون.
الرابع: الخلف في النفقة، قال - تعالى -:{فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى} [الليل: 5 - 6] أي: بالخلف، ومثله {وَكَذَّبَ بالحسنى} [الليل: 9] .
قوله: «وَلَا يَرْهَقُ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها مستأنفةٌ.
والثاني: أنها في محل نصب على الحال، والعامل في هذه الحال: الاستقرار الذي تضمَّنَهُ الجارُّ، وهو «للَّذين» لوقوعه خبراً عن «الحُسْنَى» ، قاله أبو البقاء، وقدَّره بقوله:«استقرَّ لهم الحسنى، مضموناً لهم السَّلامة» ، وهذا ليس بجائزٍ؛ لأنَّ المضارع متى وقع حالاً منْفيَّا ب «لا» ، امتنع دخولُ واو الحال عليه كالمثبت، وإن ورد ما يُوهم ذلك، يُؤوَّل بإضمار مبتدأ، وقد تقدَّم تحقيقه مراراً [المائدة: 54] .
والثالث: أنها في محلِّ رفع نسقاً على «الحُسْنَى» ، ولا بدَّ حينئذٍ من إضمار حرفٍ مصدريٍّ، يصحُّ جعلُه معه مخبراً عنه بالجارِّ، والتقدير: للذين أحسنوا الحسنى، وأنْ لا يرهق، أي: وعدم رهقهم، فلمَّا حذفت «أنْ» رفع الفعلُ المضارع؛ لأنَّه ليس من مواضع إضمار «أن» الناصبة، وهذا كقوله - تعالى -:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] أي: أن يريكم، وقوله:«تسْمَع بالمُعَيدي، خيرٌ من أن تراه» .
وقوله: [الطويل]
2889 -
ألَا أيُّهَا الزَّاجري أحْضُرُ الوغَى.....
…
...
…
...
…
...
…
أي. أن أحضر، روي برفع «أحْضُر» ونصبه، ومنع أبو البقاء هذا الوجه، وقال:«ولا يجوز أن يكون معطوفاً على» الحُسْنَى «؛ لأنَّ الفعل إذا عطف على المصدر، احتاج
إلى» أنْ «ذكراً، أو تقديراً، و» أنْ «غير مقدَّرة؛ لأن الفعل مرفوعٌ» .
فقوله: «وأنْ غيرُ مقدَّرةٍ؛ لأنَّ الفعل» مرفوع «ليس بجيِّد؛ لأن قوله - تعالى -: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] معه» أنْ «مقدَّرة، مع أنه مرفوع، ولا يلزم من إضمار» أنْ «نصب المضارع، بل المشهور أنَّهُ: إذا أضمرت» أنْ «في غير المواضع التي نصَّ النحويُّون على إضمارها فيها ناصبة، ارتفع الفعلُ، والنصب] قليلٌ جدّاً.
فصل
والرَّهق: الغشيان، يقال: رَهِقَهُ يَرْهقُه رَهَقاً، أي: غشيهُ بسرعة، ومنه {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي} [الكهف: 73] ، {فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً} [الجن: 13] . يقال: رَهِقْتُه وأرْهَقْتُه نحو: رَدِفْتُه وأرْدَفْتُه، ففعل وأفعل بمعنًى، ومنه:» أرْهَقْت الصَّلاة «، إذا أخَّرْتَها، حتى غَشِي وقتُ الأخرى، ورجلٌ مُرْهقٌ، أي: يغشاه الأضياف.
وقال الأزهريُّ:» الرَّهَقُ: اسم من الإرهاق، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيقُ، ويقال: أرْهَقْتُهُ عن الصَّلاةِ، أي: أعْجَلْتُه عنها «.
وقال بعضهم: أصل الرَّهقِ، المقاربةُ، ومنه غلامٌ مراهقٌ، أي: قارب الحلم، ومنه الحديث» ارْهَقُوا القبلة «، أي: أقربُوا منها، ومنه: رهقت الكلابُ الصَّيدَ، أي: لحقته، والقَتَر والقَتَرة، الغُبَارُ معه سوادٌ؛ وأنشدوا للفرزدق:[البسيط]
2890 -
مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ المُلْكِ يتْبَعُهُ
…
مَوْجٌ تَرَى فوقَهُ الرَّاياتِ والقَتَرَا
أي: غبار العسكر، وقيل: القَتَرُ: الدُّخان، ومنه: قُتارُ القِدْر، وقيل: القَتْر: التَّقليل، ومنه {لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [الفرقان: 67] ، ويقال: قَتَرْتُ الشَّيء وأقْتَرْتُهُ وقتَّرته، أي: قَلَّلتُه، ومنه {وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} [البقرة: 236] وقد تقدَّم، والقترة، نامُوس الصَّائد، وقيل: الحفرة، ومنه قول امرىء القيس:[المديد]
2891 -
رُبَّ رامٍ بَنِي ثُعلٍ
…
مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِه
أي: في حُفرتهِ التي يحفُرها، وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر، وأبو رجاء، والأعمش:» قَتْرٌ «، بسكون التاء، وهما لغتان: قَتْر وقَتَر، كقَدْر وقَدَر.
فصل
المعنى: لا يَغْشَى وجوههم قتر: غبار، جمع قترة، وقال ابن عبَّاس، وقتادة: سواد الوُجُوه،» ولا ذلَّةٌ «: هوان، وقال قتادة:» كآبة «قال ابن أبي ليلى:» هذا بعد نظرهم إلى ربِّهم «، {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} إشارة إلى كونها دائمة، آمنة من الانقطاع.
قوله تعالى: {والذين كَسَبُواْ السيئات} الآية.
لمَّا شرح حال المسلمين، شرح بعدهُ حال المُسيئين.
قوله: {والذين كَسَبُواْ} : فيه سبعةُ أوجه:
أحدها: أن يكون» والذين «: نسقاً على» لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ «، أي: لِلَّذينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى، والذين كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جزاءُ سيِّئةٍ بمثلها، فيتعادل التَّقسيم، كقولك: في الدَّار زيدق، والحجرة عمرٌو، وهذا يسمِّيه النحويُّون: عطفاً على معمولي عاملين، وفيه ثلاثة مذاهب:
أحدها: الجواز مطلقاً، وهو قول الفرَّاء.
والثاني: المنعُ مطلقاً، وهو مذهبُ سيبويه.
والثالث: التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو: في الدَّار زيدٌ، والحجرة عمرو، فيجوز، أو لا، فيمتنع نحو: إن زيداً في الدَّار، وعمراً في القصر، أي: وإنَّ عمراً في القصر، وسيبويه وأتباعهُ يُخَرِّجُون ما ورد منه على إضمار الجارِّ، كقوله - تعالى -:{واختلاف الليل والنهار وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرياح آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 5] بنصب «آيَات» في قراءة الأخوين، على ما سيأتي؛ كقوله:[المتقارب]
2892 -
أكُلَّ امرىءٍ تَحْسَبينَ امْرَأ
…
ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا
وقول الآخر: [الرجز]
2893 -
أوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قَلْباً حُرّاً
…
بالكَلْبِ خَيْراً والحَمَاةِ شَرًّا
وسيأتي لهذا مزيد بيان - إن شاء الله -، وممَّن ذهب إلى أنَّ هذا الموصول مجرورٌ عطفاً على الموصول قبله: ابن عطيَّة، وأبو القاسم الزمخشري.
الثاني: أن «الَّذينَ» مبتدأ، و «جَزَآءُ سَيِّئَةٍ» مبتدأ ثانٍ، وخبره «بمثلها» ، والباء فيه زائدةٌ، أي: وجزاءُ سيئةٍ مثلها، كقوله - تعالى -:{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] كما زيدتْ في الخبرِ، كقوله:[الوافر]
2894 -
فَلَا تَطْمَعْ - أبَيْتَ اللَّعنَ - فيها
…
ومنْعُكُهَا بشيءٍ يُسْتَطَاعُ
أي: شيء يُستطاع.
وكقول امرىء القيس: [الطويل]
2895 -
أ - فإنْ عنْهَا حِقْبَةً لا تُلاقِهَا
…
فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
أي: المُجرِّب، وهذا قولُ ابن كيسان في الآية.
الثالث: أنَّ الباء ليست بزائدةٍ، والتقدير: مقدَّر بمثلها، والمبتدأ الثاني وخبرُهُ خَبَرٌ عن الأول.
والرابع: أنَّ خبر «جزاء سيَّئةٍ» محذوفٌ، فقدَّرهُ الحُوفيُّ بقوله:«لهم جزاءُ سيئة» ، قال: ودلَّ على تقدير «لَهُمْ» ، قوله:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} حتى تتشاكل هذه بهذه، وقدَّرهُ أبو البقاء: جزاءُ سيِّئة مثلها واقع، وهُو وخبرُهُ أيضاً خبرٌ عن الأول، وعلى هذين التقديرين، فالباء متعلقةٌ بنفس «جزاءُ» ؛ لأنَّ هذه المادَّة تتعدَّى بالباءِ، قال - تعالى -:{جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ} [سبأ: 17]، {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} [الإنسان: 12] إلى غير ذلك.
فإن قلت: أين الرَّابطُ بين هذه الجملة، والموصول الذي هو المبتدأ.
قلت: على تقدير الحوفيُّ، هو الضمرُ المجرور باللَاّم المقدَّر خبراً، وعلى تقدير أبي البقاء: هو محذوفٌ، تقديره: جزاءُ سيئة بمثلها منهُم واقعٌ، نحو:«السَّمْنُ منوانِ بدرهم» ، وهو حذفٌ مُطَّرِد، لما عرف.
الخامس: أن يكون الخبرُ، الجملة المنفيَّة من قوله:{مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} ، ويكون «مِنْ عَاصمٍ» إمَّا فاعلاً بالجارِّ قبله؛ لاعتماده على النَّفي، وإمَّا مبتدأ، وخبرُه الجارُّ مقدماً عليه، و «مِنْ» مزيدة فيه على كلا القولين، و «مِنَ الله» متعلِّق ب «عَاصِم» ، وعلى
كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراضٍ، وفي ذلك خلافٌ عن الفارسيِّ تقدَّم التنبيهُ عليه، وما استدلَّ به عليه.
السادس: أنَّ الخبر هو الجملةُ التشبيهيَّة، من قوله:{كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} ، و «كأنَّما» حرف مكفوف، و «مَا» هذه زائدة، تُسمَّى كافَّة ومُهيئة، وتقدَّم ذلك [البقرة: 11] . وعلى هذا الوجه، فيكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بثلاث جمل اعتراضٍ.
السابع: أنَّ الخبر هو الجملة من قوله: {أولئك أَصْحَابُ النار} ، وعلى هذا القول، فيكون قد فصل بأربع جمل معترضة.
وهي: {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} .
والثانية: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} .
والثالثة: {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} .
الرابعة: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ} ، وينبغي أن لا يجُوزَ الفصل بثلاث جُمل فضلاً عن أربع.
قوله: «وَتَرْهَقُهمْ» فيها وجهان:
أحدهما: أنَّها في محلِّ نصب على الحال، ولم يُبيِّنْ أبو البقاء صاحبها، وصاحبها هو الموصولُ أو ضميره، وفيه ضعفٌ؛ لمباشرته الواو، إلَاّ أنْ يجعل خبر مبتدأ محذوف.
الثاني: أنَّها معطوفةٌ على «كَسَبُوا» .
قال أبو البقاء: وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ المستقبل لا يعطفُ على الماضي، فإن قيل: هو بمعنى الماضي فضعيفٌ جداً، وقرىء:«ويرْهَقُهمْ» بالياء من تحت؛ لأنَّ تأنيثها مجازيٌّ.
قوله: «قطعاً» قرأ ابنُ كثير، والكسائي، «قِطْعاً» بسكون الطاء، والباقون بفتحها:«فأمَّا القراءة الأولى فاختلفت عبارات النَّاس فيها: فقال أهل اللغة:» القِطْع «: ظُلْمَة آخر الليل.
وقال الأخفش في قوله: {بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} [الحجر: 65] بسواد من الليل، وقال بعضهم:» طائف من الليل «، وأنشد الأخفش:
2895 -
ب - افتحي الباب فانظري في النجومِ
…
كم علينا من قطعِ ليلٍ بهيم
وأمَّا قراءةُ الباقين فجمعُ» قطعة «نحو: دِمْنة ودِمَن، وكِسْرة وكِسَر وعلى القراءتين يختلف إعراب» مظلماً «، فإنه على قراءة الكسائي وابن كثير يجوز أن يكون نعتاً ل»
قِطْعاً «، ووصف بذلك مبالغة في وصف وجوههم بالسواد، ويجوز أن يكون حالاً ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه حالٌ من» قِطْعاً «، ووصف بذلك مبالغة في وصف وجوههم بالسواد، ويجوز أن يكون حالاً ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه حالٌ من» قِطْعاً «، وجاز ذلك لتخصُّصه بالوصف بالجارِّ بعده وهو» من الليل «.
والثاني: أنه حالٌ من» الليل «.
والثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في الجارِّ لوقوعه صفة.
قال الزمخشري: فإن قلت: إذا جعلت» مظلماً «حالاً من» الليل «فما العاملُ فيه؟ قلت: لا يخلو: إما أن يكون» أغْشِيَتْ «من قبل أنَّ» من الليل «صفةٌ لقوله:» قِطْعاً «، وكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكون معنى الفعل في» من الليل «. قال أبو حيان:» أمَّا الوجه الأول فهو بعيدٌ لأنَّ الأصل أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في ذي الحال، والعاملُ في «من الليل» هو الاستقرار، و «أغْشِيَتْ» عاملٌ في قوله:«قطعاً» الموصوف بقوله: «من الليل» فاختلفا، فلذلك كان الوجهُ الأخير أولى، أي: قطعاً مستقرة من الليل، أو كائنة من الليل في حال إظلامه «.
وقال شهاب الدِّين: ولا يعني الزمخشري بقوله: «إنَّ العامل أغْشِيَتْ» ، إلَاّ أن الموصوف، وهو «قِطْعاً» معمول ل «أغْشِيَتْ» ، والعامل في الموصوف هو عاملٌ في الصِّفة.
قال شهاب الدين: والصِّفةُ هي «مِنَ الليل» فهي معمولةٌ ل «أغْشِيَتْ» ، وهي صاحبةُ الحال، والعامل في الحالِ هو العاملُ في ذي الحال، فجاء من ذلك أنَّ العامل في احال هو العاملُ في صاحبها بهذه الطريقة، ويجوز أن يكون «قِطْعاً» : جمع قِطْعَة، أي: اسم جنسٍ لها، فيجُوزُ حينئذٍ وصفُه بالتَّذكير، نحو:{نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] ، والتأنيث، نحو:{نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] .
وأمَّا قراءة الباقين، فقال مكِّي، وغيره: إنَّ «مظلماً» حالٌ من «اللَّيْلِ» فقط، ولا يجوز أن يكون صفة ل «قِطعاً» ، ولا حالاً منه، ولا من الضمير في «مِنَ اللَّيل» ؛ لأنَّه كان يجبُ أن يقال فيه: مظلمةٌ، يعنُون: أنَّ الموصوف حينئذ جمعٌ، وكذا صاحب الحال، فتجب المطابقةُ. وأجاز بعضهم ما منعهُ هؤلاء، وقالوا: جَازَ ذلك؛ لأنَّه في معنى الكثير، وهذا فيه تعسُّفٌ.
وقرأ أبيٌّ «يَغْشَى وجوههم قطع» بالرفع، و «مُظْلمٌ» ، وقرأ ابن أبي عبلة كذلك، إلَاّ أنَّه فتح الطَّاء. وإذا جعلتَ «مُظْلماً» ، نعتاً ل «قِطْعاً» ، فتكون قد قدَّمتَ النَّعْتَ غير الصَّريح على الصَّريح.
قال ابن عطيَّة: فإذا كان نعتاً - يعني: مُظلماً: نعتاً لقطع - فكان حقه أن يكون قبل الجملة، ولكن قد يجيء بعد هذا، وتقدير الجملة: قطعاً استقرَّ مظلماً، على نحو قوله:{وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] .
قال أبو حيَّان: «ولا يتعيَّن تقدير العامل في المجرور بالفعل، فيكون جملة، بل الظاهرُ تقديره باسم الفاعل، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير: قطعاً كائناً من اللَّيل مُظْلِماً» .
قال شهاب الدِّين: «المحذُورُ تقديمُ غير الصَّريح على الصَّريح، ولو كان مُقدَّراً بمفرد» ، و «قِطَعاً» : منصوبٌ ب «أغْشِيتْ» ، مفعولاً ثانياً.
فصل
المعنى: {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} ؛ لقوله: {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلَا يجزى إِلَاّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] .
والفرق بين الحسنات والسيئات: أنَّه إذا زاد في الحسنات يكون تفضُّلاً، وذلك حسن، وفيه ترغيبٌ في الطَّاعة، وأمَّا الزِّيادة على قدر الاستحقاق على السيئات، فهو ظلمٌ، والله منزله عنه، ثم قال:{وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي: هوانٌ وتحقير {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي: ما لهم عاصمٌ من الله في الدُّنيا، ولا في الآخرة، {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} أي: أُلْبِسَتْ وجوههم، {قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً} والمراد: سوادُ الوجه.
وقال حكماء الإسلام: المرادُ من هذا السَّواد، سوادُ الجَهْل، وظلمةُ الضَّلالة، فإنَّ العلم طبعه طبع النُّور، والجهل طبعُه طبع الظُّلْمَة.
قيل: المراد بقوله: {والذين كَسَبُواْ السيئات} : الكفار؛ لأن سواد الوجه من علامات الكفر، قال تعالى:{مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [آل عمران: 160] وقال: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 40 - 42] .
وقال القاضي: {والذين كَسَبُواْ السيئات} عامٌّ يتناول الكافر، والفاسق، وأجيبُ: بأن الصيغة وإن كانت عامَّة، إلَاّ أن الدلائل التي ذكرناها مخصِّصة، ثم قال:{أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}