المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قال بعض المفسرين: «ابتدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالعطف - اللباب في علوم الكتاب - جـ ٦

[ابن عادل]

الفصل: قال بعض المفسرين: «ابتدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالعطف

قال بعض المفسرين: «ابتدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالعطف على‌

‌ النساء

والأيتام، ذكر فيها أحكاماً كثيرة، وبذلك ختمها، ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس والطِّبَاع، افتتحها بالأمر بالتقوى المشتملة على كل خير» .

فصل

روى الواحدي عن ابن عباس في قوله: {ياأيها الناس} أن هذا الخطاب لأهل مكة.

ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً

وأما الأصوليون من المفسرين فاتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلّفين، وهذا هو الأصحُّ؛ لأن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق، ولأنه علّل الأمر بالاتِّقَاءِ لكونه تعالى خالق لهم من نفس واحدة، وهذه العلة موجودة في جميع المكلفين.

وأيضاً فالتكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة، بل هو عام، وَإذَا كان لفظ الناس عاماً، والمر بالتقوى عاماً، وعلة هذا التكليف عامةً، فلا وجه للتخصيص، وحجة ابن عباس أن قوله:{واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء:‌

‌ 1]

مختص بالعرب؛ لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم، فيقولون:«أسألك بالله وبالرحم، أنشدك الله والرحم» ، وإذا كان كذلك، كان قوله:{واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] ، مختصاً بالعرب، فيكون قوله:{ياأيها الناس} مختصاً بهم، لأن الخطابين متوجهان إلى مخاطب واحد.

ويمكن الجواب عنه بأن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم الآية.

فصل

اعلم أنه تعالى جعل الافتتاح لسورتين في القرآن:

أحدهما: هذه وهي السورة الرابعة من النصف الأول من القرآن، وعلل الأمر بالتقوى فيهما بما يدل على معرفة المبدأ بأنه خلق الخلق من نفس واحدة، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وحكمته.

ص: 139

والثانية: سورة الحج وهي الرابعة أيضاً من النصف الثاني من القرآن وعلَّلَ الأمر بالتقوى فيها بما يدل على معرفة المعاد.

فَجَعَلَ صدر هاتين السورتين دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد، وقدّم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد، وهذا سر عظيم.

{مِّن نَّفْسٍ} متعلق ب «خلقكم» فهو في محل نصب، و «من» لابتداء الغاية، وكذلك «منها زوجها وبتَّ منهما» والجمهور على واحدة بتاء التأنيث، وأجمع المسلمون على أنَّ المراد بالنفس الواحدة [هاهنا] آدم عليه السلام، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس لقوله تعالى:{أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74] .

وابن أبي عبلة واحدٍ من غير [تاء] تأنيث وله وجهان:

أحدهما: مراعاة المعنى؛ لأنه المراد بالنفس آدم عليه السلام.

والثاني: أن النفس تذكر وتؤنث. وعليه قوله: [الوافر]

1726 -

ثَلَاثَةُ أنْفُسٍ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ

لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي

قوله: {وَخَلَقَ} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه عطفٌ على معنى «واحدة» لما فيه من معنى الفعل، كأنه قيل:«من نفس وحدت» أي: انفردت، يُقال:«رجل وَحُد يَحِدُ وَحْداً وَحِدَة» انفرد.

الثاني: انه عَطْفٌ على محذوف.

قال الزَّمَخْشرِيُّ: «كأنه قيل: من نفسٍ واحدةٍ أنشأها أو ابتدأها وخلق منها، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه، والمعنى شَعَّبكم من نفس واحدةٍ هذه صفتها» بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقكم منها، وَإنَّما حمل الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى والقائل الذي قبله على ذلك مراعاةُ الترتيب الوجودي؛ لأن خلق حواء - وهي المعبر عنها بالزوج - قبل خلقنا ولا حاجة إلى ذلك، لأن الواو لا تقتضي ترتيباً على الصحيح.

الثالث: أنه عطف على «خَلْقَكُمْ» ، فهو داخل في حيز الصلة والواو ولا يُبَالَى بها،

ص: 140

إذ لا تقتضي ترتيباً؛ إلا أن الزَّمَخشريَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى خَصَّ هذا الوجه بكون الخطاب [للمؤمنين] في {ياأيها الناس} لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال: والثاني أنه يُعْطَفُ على «خلقكم» ويكون الخطاب للذين بُعِثَ إليهم الرسول، والمعنى: خلقكم من نفس آدم؛ لأنه من جملة الجنس المفرّع [منه] وخلق منها أُمَّكم حواء.

فظاهر هذا خصوصيَّةُ الوجه الثاني أن يكون الخطاب للمعاصرين، وفيه نظر، وَقَدَّرَ بعضهم مضافاً في «منها» أي:«مِنْ جِنْسِها زوجَها» ، وهو قول أبي مسلم، قال: وهو كقوله: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [النحل: 72] وقال {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 164] وقوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ} [التوبة: 28] .

قال: وحواء لم تخلق من آدم، وإنما خلقت من طينة فَضَلَتْ من طينة آدم.

قال الْقَاضِي: والأول أقوى لقوله: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} .

قال ابن الخَطِيبُ: «يمكن أن يجاب بأن كلمة» مِن «لابتداء الغاية، فَلمَّا كان ابتداء الغاية وهو ابتداء التخليق والإيجاد وقع بآدم صحّ أن يُقَالَ: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} وأيضاً فالقادر على خلق آدم من التراب، [كان قادراً أيضاً على خلق حواء من التراب] ، وَإذا كان كذلك فأيّ فائدة في خلقها من ضلع من أضلاعه» .

وقرئ «وخالِقُ وباثٌّ» بلفظ اسم الفاعل، وخَرَّجَهُ الزمخشريُّ على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: وهو خالِقٌ وباثٌّ.

وَيُقَالُ: بَثَّ وأبَثَّ ومعناه «فَرَّقَ» ثلاثياً ورباعياً.

قال ابن المظفر: «البثُّ تَفْرِيقَكَ الأشياء» .

يقال: بَثَّ الخيلَ في الغارة، وبَثَّ الصَّيادُ كِلَابَهُ، وخلق الله الخلق: بَثَّهُمْ في الأرض، وبثثت البسطة إذا نشتريها. قال تعالى:{وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 16] .

فإن قيل: ما المناسبةُ بين الأمر بالتقوى وما ذكر معه من الوصف؟ فالجواب: لما ذكر أنَّه خَلَقَنَا من نفس واحدة، وذلك علة لوجوب الانقياد علينا لتكاليفه؛ لأنا عبيدة وهو

ص: 141

مولانا، ويجب على العبد الانقياد لمولاه؛ ولأنه أنعم ومَنَّ بوجوه الإنعام والامتنان، فأوجَدَ وأَحْيَا وعَلَّمَ وهَدَى، فعلى العبد أن يُقَابِلَ تلك النِّعَم بأنواع الخضوع والانقياد؛ ولأنه بكونه موجداً وخالقاً وِرِبَّاً يجبُ علينا عبادته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ويلزم من ذلك ألا نوجب لتلك الأفعال ثواباً؛ لأن أداء الحق لمستحقه لا يوجب، وثواب هذا إن سَلَّمْنَا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه، فكيف وهذا محال؛ لأن الطاعات لا تحصل إلَاّ بخلق الله - تعالى - القدرة عليها، والداعية إليها [ومتى حصلت القدرة والداعي كان] مجموعهما موجباً لصدور الطاعة، فتكون تلك الطاعة إنعاماً آخر.

وأيضاً أنَّهُ خلقنا مِنْ نفسٍ واحدةٍ، ذلك أيضاً يوجبُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ لأنَّ ذلك يَدُلُّ على كمالِ القدرة؛ لأن ذلك لو كان بالطبيعة لما تولد عن الإنسان إلَاّ إنسان يشاكله ويشابهه في الْخِلْقَةِ والطبيعةِ، ولَمَّا اختلف الناس في الصفات والألوان، دَلَّ على أن الخالق قَادِرٌ مختارٌ عَالِمٌ، يجب الانقياد لتكاليفه؛ ولأن الله تَعالى عَقَّبَ الأمر بالتقوى بالأمر بالإحسان إلى الْيَتَامَى والنساءِ والضُّعَفَاء وكونهم من نفْس واحدة باعث على ذلك بكونه [وذلك لأن الأقارب لا بد أن] يكون بينهم مواصلة وقرابة، وذلك يزيد في المحبة، ولذلك يفرح الإنسان بمدح أقاربه ويحزن بذمهم فقدَّمَ ذكرهم، فقال:{مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ليؤكد شفقة بعضنا على بعض.

فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: وبَثَّ منها الرِّجال والنِّسَاءَ.

فالجواب: لأن ذلك يقتضي كونهما مبثوثين من نفسيهما، وذلك محال، فلهذا عدل إلى قوله:{وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} .

وقوله: «كثيراً» فيه وجهان:

أظهرهما: أنه نَعْتٌ ل «رِجَالاً» .

قال أبو البقاء: ولم يؤنثه حَمْلاً على المعنى؛ لأن «رجالاً» بمعنى عدد أو جمع أو جنس كما ذَكَّر الفعل المسند إلى جماعةِ لمؤنثِ لقوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة} [يوسف: 30] .

والثاني: أنه نعت لمصدر تقديره: وبث منهم بثاً كثيراً؛ وقد تقدم أن مذهب سيبويه في مثله النصبُ على لحالِ.

ص: 142

فإن قيل: لم خَصَّ لرّجالَ بوصفِ الكثرةِ دون النساء؟ ففيه جوابان:

أحدهما: أنه حَذَفَ صِفَتَهُنّ لدلالة ما قبلها عليها تقديره: ونساءً كثيرة.

والثاني: أنَّ الرِّجال لشهرتهم [وبروزهم] يُنَاسِبُهم ذلك بخلاف النِّسَاء، فإنَّ الأليقَ بِهِنَّ الخمولُ والإخفاء.

قوله: {تَسَآءَلُونَ} قرأ الكوفيون «تَسَاءَلُونَ» بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً، والأصل:«تتساءلون» به، وقَدْ تَقَدَّمَ الخلافُ: هَلْ المحذوفُ الأولى أو الثانية وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين؛ لأن مقاربتها في الهمس، ولهذا تُبْدَلُ من السين، قالوا:«ست» والأصل «سِدْسٌ» وقرأ عبد الله: «تَسْاَلُون» من سأل الثلاثي، وقُرِئَ «تَسَلون» بنقل حركة الهمزة على السين، و «تَسَاءلون» على التفاعل فيه وجهان:

أحدهما: المشاركة في السؤال.

والثاني: أنه بمعنى فَعَلَ، ويدلّ عليه قراءة عبد الله.

قال أبُو البَقَاءِ: «وَدَخَلَ حَرْفُ الجرِّ في المفعول؛ لأن المعنى:» تتخالفون: يعني أن الأصل تعدية «تسألون» إلى الضمير بنفسه، فلما ضُمِّن «تتخلفون» عُدِّي تَعْدِيَتَه «.

قوله: {والأرحام} الجمهور نصبوا الميم، وفيه وجهان:

أحدهما: أنه عطف على لفظ الجلالة، أي: واتقوا الأرحام أي: لا تقطعوها، وقَدَّرَ بعضهم مضافً أي: قَطْعَ الأرحام.

ويقال: إنَّ هذا في الحقيقةِ من عطف الخاصِّ علا العام، وذلك أن معنى اتقوا

ص: 143

الله؛ اتقوا مخالَفَتَه، وقَطْعُ لأرحام مندرج فيه، وهذا قول مجاهد وقتادة والسَّدي والضحاك والفرّاء والزّجّاج.

قال الواحدي: ويجوز أن يكون منصوباً بالإغراء، أي: والأرحام احفظوها وصلوها كقولك: الأسدَ الأسدَ، وهذا يَدُلُّ على تحريم قطعيةِ الرحم ووجوب صلته.

والثاني: أنه معطوف على محل المجرور في» به «، نحو: مررت بزيد وعمراً، ولمَّ لم يَشْرَكه في الإتباع على اللفظ تبعه على الموضع، وه يؤيده قراءة عبد الله» وبالأرحام «.

وقال أبو البقاء: تُعَظِّمُونه والأرحام، لأنَّ الحَلْفَ به تَعْظِيم له» ،

وقرأ حمزة «والأرحامِ» بالجر، قال القفال: وقد رويت هذه القراءة عن مجاهد وغيره، وفيها قولان.

أحدهما: أنه عَطَفَ على الضمير المجرور في «به» من غير إعادة الجار، وهذا لا يجيزه البصريون، وقد تَقَدَّم تحقيقُ ذلك، وأن فيها ثلاثةَ مذاهب، واحتجاج كل فريق

ص: 144

في قوله تعالى: {وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] وقد طَعَنَ جَمَاعَةٌ في هذه القراءة، كالزجاج وغيره، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال: حدثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم، قال:{والأرحام} بخفض [الأرحام] هو كقولهم: «أسألك باللَّهِ والرحمِ» قال: «وهذا قبيح؛ لأنَّ العرب لا ترُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قَدْ كُنِي به، وَضَعَّفَهُ بَعْضُهمُ بأنه عطف للمظهر على الضمير، وهو لا يجوز.

قال ابن عيس: إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على الضمير المرفوع، فلا يجوز أن يقال:» اذهب وزيد «و» ذهبت وزيدا «، بل يقولون: اذهبْ أنت وزيد وذهبت أنا وزيد، قال تعالى:{فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ} [المائدة: 24] مع أن الضمير المرفوع قد ينفصل، فإذا لم يجز عطف المظهر على الضمير المرفوع مع أنه أقوى من الضمير المجرور، بسبب أنه قد ينفصل؛ فلأن لا يجوز عطف المظهر على الضمير المجرور، مع أنه [لا] ينفصل أَلْبَتَّةَ أولى.

والثاني: أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور، بل الواو للقسم وهو خفض بحرف القسم مقسم به، وجوابُ القسمِ {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} وضُعِّفَ هذا بوجهين:

أحدهما: أن قراءتي النصبِ وإظهار حرفِ الجر في ب» الأرحام «يمنعان من ذلكَ، والأصلُ توافق القراءات.

والثاني: أنَّهُ نُهِيَ أن يُحْلَفَ بغيرِ الله تعالى، والأحاديثُ مُصَرَّحةٌ بذلك.

ص: 145

وَقَدَّرَ بَعْضهم مضافاً فراراً من ذلك فقال: «ورَبِّ الأرحام» .

قال أبو البقاء: وهذا قد أغنى عنه ما قبله «يعني: الحلف بالله تعالى.

ويمكن الجواب عن هذا بأن للهَ تعالى أن يُقسمَ بما يشاء من مخلوقاته [كما أقسم] بالشمس والنجم والليل، وإن كنا نَحْنُ منهيين عن ذلك، إلا أنَّ المقصود من حيث المعنى، ليس على القسم، فالأولى حمل هذه القراءات على العطف على الضمير، ولا التفات إلى طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فيها.

وأجاب آخرون بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية؛ لأنهم كانوا يقولون: أسألك بالله وبالرحم، فمجيء هذا الفعل عنهم في الماضي لا ينافي ورود النهي عنه في المستقبل؛ وأيضاً فالنهي ورد عن الحلف بالآباء فقط، وهاهنا ليس كذلك، بل هو حلف باللهِ أولاً، ثُمَّ قرن بِهِ بَعْدَ ذكر لرحم، وهذا لا ينافي مدلول الحديث.

أيضاً فحمزة أحد القراءة السبعة، الظاهر أنه لم يأتِ بهذه القراءة من عند نفسه، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وذلك يوجب القطع بصحة اللغة، ولا التفات إلى أقيسة النحاة عند وجود السماع، وأيضاً فلهذه القراءة وجهان:

أحدهما: ما تقدم من تقدير تكرير الجر، وإن لم يجزه البصريون فقد أجازه غيرهم.

والثاني: فقد ورد في الشعر وأنشد سيبويه: [البسيط]

1727 -

فاليَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتُمْنَا

فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَب

وقال الآخر [الطويل]

1728 -

تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوَاري سُيُوفُنَا

وَمَا بَيْنَهَا والْكَعْبِ غَوْطٌ نَفَانِفُ

وقال آخر [الوافر]

1729 -

أكُرُّ على الكِتيبَةِ لا أُبالِي

أفِيهَا كَانَ حَتْفِي أمْ سِوَاهَا

ص: 146

وحمزة بالرتبة السَّنيَّة المانعةِ له من نقلِ قراءة ضعيفة.

قال بن الخطيبِ:» والعَجَبُ من هَؤلاء [النحاة] أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين، ولا يستحسنوها بقراءة حمزة ومجاهد، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن «.

وقرأ عبد الله أيضاً» والأرحامُ «رفعاً على الابتداء، والخبرُ محذوف فقدَّرَهُ ابن عطية: أهلٌ أنْ توصل، وقَدَّرَهُ الزمخشري:» والأرحام مِمَّا يتقي «أو» مما يتساءل به «.

وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية، والمعنوية، بخلاف الأول فإنَّه للدلالة المعنوية فقط، وقَدَّرَهُ أبو البقاء: والأرحام محترمة، أي: واجبٌ حرمتها.

فإن قيل: ما فائدةُ هذا التكرير في قوله أولاً:» اتقوا الله الذي خلقكم «. ثم قال بعده:» واتقوا الله «.

فالجواب فائدته من وجوه:

الأول: فائدته تأكيد الأمر والحث عليه.

والثاني: أن الأمر الأول عامّ في التقوى بناء على الترتيب. والأمر الثاني خاص فيما يلتمس البعض من البعض، ويقع التساؤل به.

الثالث: قوله أولاً: {اتقوا رَبَّكُمُ} ولفظ» الرَّبِّ «يَدَلُّ على التربية والإحسان، وقوله ثانياً {واتقوا الله} ولفظ» الإله «يدل على الغلبة والقهر، فالأمر الأول بالتقوى بناء على الترغيب، والأمر الثاني يدل على الترهيب، فكأنَّهُ قيل: اتقِ الله إنه ربّاك، وأحسن إليك، واتق مخالفته؛ لأنه شديدُ العقاب عظيم السطوة.

وقوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} .

جارٍ مجرى التعليل والرقيب: فَعيل للمبالغة من رَقَبَ يَرْقُبُ رَقْباً، ورُقوباً، ورِقْباناً

ص: 147

إذا أحدَّ النَّظَرَ [لأمر يريد تحقيقه] ، والرقيب هو المراقب الذي يحفظ جميع أفعالك، واستعماله في صفات الله تعالى بمعنى الحفيظ قال:[مجزوء الكامل]

1730 -

كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ للضْ

ضُرَبَاءِ أيْدِيهمْ نَوَاهِدْ

وقال: [الكامل]

1731 -

وَمَعَ الحَبيبِ بِهَا لَقَدْ نِلْتَ المُنَى

لِي عَقْلَهُ الْحُسَّادُ وَالرُّقَباءُ

والْمَرْقَبُ: المكان العالي المشرف يقف عليه الرقيب، والرقيب أيضاً [ضرب] من الحيات، والرقيب السهم الثالث من سهام الميسر، وقد تقدمت من البقرة، والارتقاب: الانتظار.

فصل

دَلَّتْ الآيةُ على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعه.

قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] .

وقال تعالى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 10] قيل: إنَّ الإلّ القرابة، قال:{وقضى رَبُّكَ أَلَاّ تعبدوا إِلَاّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] وقال عليه السلام: قال الله تعالى: «أنا الرحمن وهي الرحم اشتققتُ لها اسماً من اسمي، من وَصَلَها وَصَلْتُه، ومن قطعها قطعته» .

فصل

قال القرطبيُّ: الرحم: اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره. وأبو حنيفةَ يعتبر الرَّحم المحرم في منع الرجوعِ في الهِبَةِ، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام، مع أنَّ القطيعة موجودة، والقرابة حاصلة ولذلك تعلّق بها الإرث، والولاية، وغيرهما من الأحكام، فاعتبار المحرم زيادة على نصِّ القرآن من غير دليل، وهم يرون ذلك [نسخاً] ، سيما وفيه إشارة بالتعليل إلى القطيعة قد جوَّزها في حق بني الأعمام، وبني الأخوال والخالات.

فصل

أجمعت الأمةُ على أنَّ صلة الرَّحم واجبة، وأن قطيعتها محرَّمة، وقد صحَّ أن

ص: 148

رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال لأسْمَاءَ وقد سألته: أأصِلُ أمِّي؟ «صِلِي أمَّكِ» فأمرها بصلتها وهي كافرة فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافرة حتى انتهى لحل بأبي حنيفة وأصحابه ومن وافقهم إلى توارث ذوي الأرحام، إذا لم يكن عصبة، ولا ذو فرض ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرّحم، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام ُ «مَنْ مَلَكَ ذَا رحمٍ محرمٍ فَهُوَ حُرٌّ» وهذا قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف.

فصل

واختلفوا في ذَوِي المَحَارمِ من الرِّضَاعةِ، فقال أكْثَرُ أهلِ العلمِ: لا يدخلون في مقتضى الحديث.

وقال شريك القاضي: يُعْتَقُونَ.

وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب [لا] يعتق على الابن إذا ملكه.

ص: 149

لما وَصَّى في الآية السابقة بالأرحام وصَّى في هذه الآية بالأيتام؛ لأنهم قد صاروا بحيثُ لا كافِلَ لهم ولا مُشْفِقَ فيهم - أسوأ حلاً ممن له رحم، فإنه عطفه عليه، وهذا خطاب الأولياء والأوصياء. قالوا: إن اليتيم من لا أب له ولا جد، والإيتاء: الإعطاء قال أبو زيد: أتَوْتُ الرجلَ آتُوه إتاوَةٌ، وهي الرّشوة.

وقال الزمخشري: الأيتام الذين مات آباؤهم، وَالايُتْمُ: الانفراد، ومنه الرملة اليتيمة، والدُّرة اليتيمة.

وقيل: [اليتيم] في الأناسي من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات.

قال: وحق هذا الاسم أن يقع على الضعفاء والكبار لمن يبقى معنى الانفراد عن الآباء، إلا أنَّ في العرف اختصّ هذا الاسم بمن لم يبلغ، فإذا صار مستعينً بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافله، زال عنه هذا الاسم؛ وكانت قريش تقول لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم َ: يَتِيم أبي طَالِبٍ، إمَّا على القياس، وإما حكاية للحال التي كان عليها حين صغره ناشئاً في حجر عمه توضيعاً له.

وأما على قوله عليه السلام: «لَا يتم بَعْدَ بُلُوغ» فهو تعليم للشريعة لا تعليم للغة.

وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ فكتب إليه: إذا أونِسَ منه الرشد انقطع يتمه.

ص: 150

وفي بعض الروايات: إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعدُ [فأخبر ابن عباس] أن اسم اليتيم يلزمه بعد البلوغ، إذا لم يؤنس منه الرُّشْدُ، ثم قال أبو بكر:«واسم اليتم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها» .

قال عليه السلام: «تستأمر اليتيمة في نفسها» وهي لا تستمر إلَاّ وهي بالغة.

قال الشاعر: [الرجز]

1732 -

إنَّ الْقُبٌورَ تَنْكِحُ الأيَامى

النِّسْوَةَ ولأرَمِلَ الْيَتَامَى

فالحاصل أنّ اسم اليتيم بحسب اللُّغة يتناول الصغير والكبير.

فإن قيل: كيف جُمِعَ اليتيمُ على يتامى؟ واليتيم فعيل: فيجمع على فعلى، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى؟ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ: فيه وجهان.

أحدهما: أن يقال: إن جمع اليتيم، يَتْامَى، ثمّ يجمع فعلى على فَعَالَى كأسير وأسَارِى.

والثاني: أن نقول: جمع اليتيم يتائم؛ لأن اليتيم جار مجرى الاسم نحو «صاحب» و «فارس» ثم تنقلب «اليتائم» «يتامى» .

قال القفّال: «ويجوز يتيم ويتامى كنديم وندامى، ويجوز أيضاً يتيم وأيتام كشريف وأشراف» .

فإن قيل: إن اسم اليتيم مختص بالصغير فما دام يتيماً، فكيف قال:{وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} .

فالجوابُ من وجهين:

الأول: أن يقال: المراد من اليتامى الذين بلغوا وكبروا، وسمَّاهم لله - تعلى - يتامى، إما على أصل اللغة، وإما لقرب عهدهم باليُتْم، وإن كان قد زال من هذا الوقت

ص: 151

كقوله تعالى:

{وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} [الأعراف: 120] .

أي: الذين كانوا سحرة قبل السُّجود، وأيضاً سمَّى اللهُ تعالى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] والمعنى مقاربة الأجل، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى:{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] والإشهاد عليهم لا يصح قبل البلوغ.

الوجه الثاني: أن يقال: المراد باليتامى الصِّغار، وعلى هذا ففي الآية وجهان:

أحدهما: أن قوله «وَآتَوَا» أمر، والأمر يتناول المستقبل فيكون المعنى: أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم. فتزول المناقضة.

والثاني: أنَّ المُرَاد: وآتوا اليتامى حال كونهم يَتَامَى ما يحتاجونه مِنْ نفقتهم وكسوتهم، والفائدة فيه: أنه كان يجوز أن يظنّ أنّه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال صغره، فباح اللهُ - تعالى - ذلك، وفيه إشكال وهو: أنه لو كان المراد ذلك لقال: وآتوهم من أموالهم، والآية تَدُلُّ على إيتائهم كل مالهم.

فصل

نقل أبو بكر الرازيُّ في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم، وعزلوا أموالهم عن أموال اليتامى، فَشَكَوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ فنزل اللهُ تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] . فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.

قال المفسرون: الصحيح أنها «نزلت في رجل من غطفان، كان معه كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عمُّهُ فترافعا إلى النَّبيِّ صلى لله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فلما علمها العَمُّ قال: أطَعْنَا لرَّسُولَ، نعوذ بالله من الحُوب الكبير، ودفع إليه ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ» وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَيطعْ رَبَّهُ هكذا فإنَّهُ يَحِلُّ دَارَهُ «أي: جَنَّتهُ، فلما قبض الصَّبِيُّ ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى لله عليه وسلم» ثَبَتَ الأجْرُ وَبَقِيَ الوِزْرُ «.

قال القرطبيُّ: وإيتاء اليتامى أموالهم يكون من وجهين:

ص: 152

أحدهما: إجراء الطَّعام والكسوة ما دامت الولاية، إذْ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي كالصغير والسفيه الكبير.

والثاني: الإيتاء بالتمكين وتسليم المال إليه، وذلك عند ابتلاء والإرشاد وتكون تسميته حينئذ يتيماً مجازاً بمعنى: الَّذي كان يتيماً استصحاباً للاسم، كقوله {فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} [الشعراء: 46] أي الذين كانوا سحرة، وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم َ» يتيم أبي طالب «فإذا تحقَّقَ الوليّ رشده حَرُمَ عليه إمساك ماله عنه.

قال أبو حنيفة: إذا بلغ خمساً وعشرين سنة، أعطي ماله على كل حال؛ لأنَّه يصير جداً.

قوله: {وَلَا تَتَبَدَّلُواْ} وقد تقدَّم في البقرة قوله: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ}

[البقرة: 59] أنَّ المجرور بالباء هو المتروك، والمنصوب هو الحاصل، وتفعل هنا بمعنى استفعل، وهو كثير، نحو تَعَجَّل وَتََأَخَّرَ بمعنى استعجل واستأخر ومن مجيء تبدَّلَ بمعنى اسْتَبْدَلَ قولُ ذي الرمة:[الطويل]

1733 -

فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا

عَنِ الدَّارِ وَالمُسْتَخْلَفِ الْمَتِبَدِّلِ

أي: المستبدل.

قل الواحدي: «تبدل الشَّيء بالشيء إذا أخذ مكانه» .

قوله: «بالطّيب» .

هو المفعول الثاني ل «تتبدلوا» .

وفي معنى هذا التبدُّل وجوه:

الأول: قال الفرّاء والزَّجَّاج: لا تستبدلوا الحرام، وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي لأبيح لكم.

الثاني: قل سعيد بن المسيب والنخعي والزهْري والأسُّدِّيُّ: وكان ولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتم ويجعل مكانها المهزولة، ويأخذ الدرهم الجيد، ويجعل مكانه الزيف، يقول: درهم بدرهم، فَنُهُوا عن ذلك.

وطعن الزمخشريُّ: في هذا الوجه فقال: ليس هذا تَبَدُّلاً، إنما هو تبديل.

ص: 153

الثالث: أن يكون صديقه فيأخذ منه نعجة عجفاء مكان سمينة من مال الصبي.

الرابع: معناه لا تأكلوا مال اليتيم سلفاً مع التزام بَدَلِهِ بعد ذلك.

فصل

قل أبو العباس المقرئ: ورد لفظ «الطيِّب» في القرآن على أربعة أوجه:

الأول: الحلال كهذه الآية.

الثاني: بمعنى الظَّاهر كقوله تعالى: {صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43] أي: ظاهراً.

الثالث: بمعنى الحَسَن قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] أي: الحسن، ومثله {والطيبات لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26] أي: الكلام الحسن للمؤمنين.

الرابع: الطيِّبَ: المؤمن قال تعالى: {حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب} [آل عمران: 179] يعني: الكافر من المؤمن.

قوله: {وَلَا تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} في قوله ثلاثة أوجه:

أحدها: أن «إلى» بمعنى «مع» كقوله: {إِلَى المرافق} [المائدة: 6] ، وهذا رأي الكوفيين.

الثاني: أنها على بابها وهي ومجرورها متعلّقة بمحذوف على أنَّه حال، أي: مضمومة، أو مضافة إلى أموالكم.

الثالث: أن يضمَّن «تأكلوا» بمعنى «تضموا» كأنه قيل: ولا تَضمُّوها إلى أموالكم آكلين.

قال الزمخشري: «فإن قلت: قد حَرَّمَ عليهم أكل مال اليتامى، فدخل فيه أكله وحده ومع أموالهم، فَلِمَ ورد النهي عن أكلها معها؟

قلت:» لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله - تعالى - من الحلال، وهم من ذلك يَطْعمون منها، كان القبحُ أبلغ والذمُّ ألحق، ولأنهم كنوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم، وَنَّعَ بهم ليكون زجر لهم «.

واعلم أنه تعالى، وَإن ذكر الأكل، فالمرادُ به سائر التصرفات المملكة للمال، وإنما

ص: 154

ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع التصرف لأجله.

قوله: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً} في الهاء ثلاثة أوجه:

حده: أنها تعود على الأكل المفهوم، من» لا تأكلوا «.

الثَّاني: على التبدُّلِ المفهوم من» لا تَتَبَدَّلُوا الخبيث «.

الثالث: عليهما ذهاباً به مذهب اسم الإشارة نحو:

{عَوَانٌ

بَيْنَ

ذلك

} [البقرة: 68] ومنه: [الرجز]

1714 -

كأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ

وقد تقدم ذلك في البقرة، والأول أولى لأنه أقرب مذكور.

وقرأ الجمهور «حُوبً» بضم الحاءِ، ولحسن بفتحها، وبعضهم:«حَباً» بالألف، وهي لغت في المصدر، والفتح لغة تميم.

ونظير الحوْب والحاب، والقول والقال، والطُّرد والطَّرْد - وهو لإثم - وقيل: المضموم اسم مصدر، [والمفتوح مصدر] وصله من حوب الأبل، وهو زجرها فسُمِّي به لإثم؛ لأنه يزجر به، ويطلق على الذَّنب أيضاً؛ لأنه يزجر عنه، ومنه قول عليه السلام:«إنَّ طَلاقَ أمِّ أيُّوبَ لَحُوبْ» أي: لذنب عظيم. وقل القرطبي: والحوبُ الوحشة، ومنه قوله عليه السلام أبي أيوب «إن طلاق أم أيوب لحوب» .

قال القفال: وكأن أصل لكلمةِ من لتَّحوُّبِ وهو التَّوجُّعُ، فالحوبُ هو ارتكاب ما يتوجَّعُ لمرتكبُ منه، يقال: حَابَ يَحُوب، حَوْباً، وحَاباً وحِيابة.

قال المخبل السعدي: [الطويل]

1735 -

فلا يَدْخُلَنَّ الدَّهْرَ قَبْرَكَ حُوبُ

فَإنَّكَ تَلْقَاهُ عَلَيْكَ حَسِيبُ

ص: 155