الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غير سورة الأنعام " [وما جمعت الشياطين لسورة من القرآن جمعها لها، ولقد بعث بها إلي مع جبريل عليه السلام ومعه خمسون ملكا أو خمسون ألف ملك ترفعها أو تحفها حتى أقروها في صدري كما أقر ماء في الحوض، ولقد أعزني الله بها وإياكم بها عزا لا يذلنا بعده أبدا وبها دحض حجج المشركين وعد من الله لا يخلفه. وعن المنكدر لما نزلت سورة " الأنعام " سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق ". قال الأصوليون: وسبب هذه الفضيلة أنها اشتملت على دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وإبطال مذهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الرفعة] . بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ كَعْبُ الأحْبار رضي الله عنه: هذه الآيةُ [الكريمة] أوَّلُ آية في التوراة، وآخرُ آية في التوراة قوله تعالى:{وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك} [الإسراء:
1
11] الآية الكريمة.
قال ابنُ عَبَّاس رضي الله عنهما: فَتَحَ اللَّهُ بالحَمْدّ، فقال:«الحَمْدُ اللَّه الذي خلق السَّموات والأرضَ» ، وخَتَمَهُمْ بالحَمْدِ، فقال:«وقَّضَى بَيْنُمُ بالحقِّ» ، وقيل:{الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [الرمز: 75] .
فقوله: «الحمدُ لِلِّهِ» فحمد اللِّهُ نَفْسَهُ تعليماُ لعباده، أي: احمدوا اللِّهَ الذي خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ خصمها بالذِّكر؛ لأنَّهما أعْظَمُ المَخْلُوقَات فيما يرى العِبَادُ، وفيهما العبرةُ والمنافعُ للعباد.
وأعلم أنَّ المَدْحَ أعَمُّ من الحَمْدِ، والحَمْدُ أعَمُّ من الشكرِ؛ لأنَّ المْدْحَ يَحْصُلُ للعاقل وغي العاقلِ، فكما يُمْدَحُ الرَّجُلُ العاقلُ بفضله، كذلِك يُمْدَحُ اللُّؤلُؤ لحُسْنِ
شَكْلِهِ، ولَطَافَة خِلْقَتِهِ، ويُمْدَحُ اليَاقُوتُ لِصَفَائه وضقَالِته.
وأمَّا الحمْدُ فلا يحصلُ إلَاّ للفعال المُخْتَارِ على ما يَصْدُرُ عنه من الإنعام، وإنَّما كونُ الحَمْدِ أعم من الشُّكْر؛ فلأنَّ الحّمْد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام، سواء كان ذلك الإنعام واصلاً إليك أو إلى غيرك.
وأمَّا الشُّكْرُ فهو عِبَارةٌ عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليكَ، وإذا عُرِفَ ذلك، فإنَّمَا لَمْ يَقُلْ: المَدْحُ لله تبارك وتعالى لأنَّا بَيَّنَّا أنَّ المَدحَ كما يَحَصُلُ للفاعل المختار، فقد يَحْصُلُ لغيره.
وأمَّا الحَمْدُ فلا يَحْصُلُ إلا للفاعل المختار، وإنَّما لم يَقُلْ:«الشُّكر لِلَّهِ» لَمَا بَيَّنَّا أنَّ الشُّكْرَ عبارة عن تعظيم تسبب إنعام صدر منه، فيكون المطلوب الأصلي، وقبول النعمة إليه، وهذه دَرَجَةٌ حقيرةٌ.
وقوله: «الحَمْدُ لِلَّهِ» يَدُلُّ على أنَّ العَبْدَ حَمَدَهُ لأجل كونه مستحقاً للحمدِ، لا لخصوص كونه - تعالى - أوْصَلَ النَّعْمَةَ إليه فَيَكُونُ الإخلاصُ.
فصل في بيان لفظ الحمد
قوله: «الحَمْدُ» لفظٌ محلَّى بالألف واللام، فيفيد أنَّ هذه الماهية للَّهِ، وذلك يَمْنَعُ من ثبوت الحَمْدِ لغير الله، وهذا يقتضي أنَّ جميع أقْسَام الحَمْدِ والثناء والتعظيم ليس إلَاّ للَّهِ تبارك وتعالى، فإن قيل: إنَّ شُكْرَ المُنْعِمِ واحب مِثلَ شُكْرِ الأسْتَاذِ على
تعليمه، وشُكرِ السلطانِ على عَدْلَه، وشكر المُحسِن على إحسانه، قال عليه الصلاة والسلام ُ:«مَنْ لم يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ» فالواجبُ أنَّ المَحْمُودَ والمَشْكُورَ في الحقيقة هو اللَّهُ تعالى؛ لأنَّ صدور الإحسان من [قلب] العَبْدِ يتوقف على حُصُول داعية الإحسان في قلب العبد، وحصول تلك الدَّاعية في القلب ليس من العَبْدِ، وإلَاّ لافْتَقَرَ في حصولها إلى داعيةِ أخْرَى، ولَزِمَ التَّسلسُلُ، بل حصولها ليس إلَاّ من اللَّهِ تعالى، فتلك الدَّاعِيةُ عند حصولها يجب الفعلِ، وعند زوالها يَمْتَنعُ الفِعْلُ فيكون المحسنُ في الحقيقة لَيْسَ إلَاّ اللَّه تبارك وتعالى، فيكون المُسْتَحِقُّ لكُلِّ حَمْدٍ في الحقيقةِ هو اللَّه تعالى.
وأيضاً فإنَّ إحْسَانَ العَبْدِ إلى الغَيْرِ لا يَكْمُلُ إلَاّ بواسطة إحْسَانِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه لولا أنَّ اللَّهَ - تعالى - خَلَقَ أنواع النِّعَمِ، وإلَاّ لم يقدر الإنسانُ على إيصالِ تلك الحِنْطَةِ والفواكه إلى الغَيْرِ، فظهر أنَّه لا محسن في الحقيقة إلاِّ اللَّهُ تعالى، ولا مُسْتَحِقَّ للحمد في الحقيقة إلا الله، فلهذا قال:«الحمد لله» .
فصل في بيان قوله: «الحمد لله» بالألف واللام
وإنَّما قال: «الحَمْدُ للَّهِ» ولم يقل: أحْمَدُ اللَّهَ؛ لأنَّ الحَمْدَ صفةُ القلب، فرُبَّمَا احْتَاجَ الإنسان إلى أن يذكر هذه الَّفْظَة حال كونه غافلاً عند اسْتِحْضَارَ معنى الحَمْدِ، فلو قال وقت غَفْلَتِهِ: أحْمَدُ الله [تبارك وتعالى] كان كَاذِباً، واسْتَحقٌّ عليه الذَّنْب والعِقَاب حيثُ أخبر عن وجود شيءٍ لم يُوجَدْ، فإذا قال: الحَمْدِ لله، فمعناه أنَّ ماهيَّةَ الحَمْدِ مُسْتَحِقَّةٌ لِلَّهِ عز وجل، وهذا حقٌّ وصدقٌ، سواء كان معنى الحَمْدِ حَاضراً في قَلْبِه، أو لم يَكُنْ، وكان الكلام عِبَادَةٌ شَرِيفةً وطاعةً، وظَهرَ الفَرْقُ، واللَّهُ أعلمُ.
فصل
هذه الكلمة مذكورة في أوائل خَمْسَةٍ، أوَّلهَا سورةُ «الفاتحة» {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] .
وثانيها: هذه السورة {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} [الأنعام: 1] والأول أعَمُّ، لأنَّ العالمَ عبارةُ عن كل موجود سوى اللُّه تعالى.
وقوله: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} لا يَدْخُلُ فيه إلَاّ خَلْقُ السماوات والأرض، والظُّلُمَات والنور، ولا يدخل فيه سَائِرُ الكائنات، فكان هذا بَعْض الأقسام الداخلة تحت التَّحْمِيدِ المذكور في سورة «الفاتحة» .
وثالثها: سورةُ الكَهْفِ: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [الكهف: 1] .
وهذا أيضاً تحميدٌ مخصوصٌ بنوع خاصٍ من النعمة وهي نعمة العلم والمعرفَةِ والهِدايَةِ والقرآن، وبالجملة النعمُ الحاصلةٌ بسَبَب بَعْنَةِ الرُّسُلِ عليهم الصلاة والسلام.
وراربعها: «سبأ» : {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الآية: 1] .
وهذا أيضاً تحميدُ على كَوْنِهِ مَالِكاً لِكُلِّ ما في السَّمواتِ والأرضِ، وهو قِسْمٌ من الأقسام الدَّاخِلَةِ في قوله:{الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] .
وخامسها: سورةُ «فاطر» {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض} [الآية: 1] .
وهو أيضاً قِسْمٌ من الأقسام الدَّاخِلَةِ تحتَ قوله تبارك وتعالى: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] .
فإن قيل: ما الفرقُ بين الخالق وبين الفاطرِ والرَّبِّ. وأيضاً لم قال هَاهُنا: «خَلَق السَّمواتِ والأرْضَ» بصيغة فعل الماضي، وقال في سورة «فاطر» :«الحَمْدُ للَّهش فاطر السَّمواتِ» بصيغة اسم الفاعل؟ .
فالجواب عن الأول، أنَّ الخَلْقَ عبارة عن التَّقديرِ، وهو في حقِّ الله - تعالى - عبارةٌ عن علمه النَّافِذِ في جميع الكُلِّيات والجزئيات، وأمَّا كونُه فاطراً فهو عبارةٌ عن الإيجاد
والإبداع، فكونه تعالى خالقاً إشارة إلى صفة العلم، وكونه فاطراً إشارة إلى صفة القدرة، وكونه تعالى رَبَّا ومُرَبياً على الأمْرَيْنِ فكان ذلك أكمل.
وأمَّا الجَوابُ عن الثَّاني، فالحق أن الخَلْقَ عبارة عن التَّقدير، وهو في حقِّ الله - تعالى عبارةٌ عن علمه بالمَعْلُومَاتِ، والعلم بالشيء يصحُّ تقدُّمُهُ على وجود المَعْلُومِ؛ لأنه لا يمكن أن يعلم الشيء قَبَلَ وجوده، وأمَّا إيجادُ الشيء، لا يَحْصُل إلَاّ حالَ وجوده.
فصل في قوله: «الحمد لله»
قوله: «الحَمْدٌ للَّهِ» فيه قولان:
الأول: المرادُ احْمَدُوا اللَّهَ، وإنَّما جاء على صِفَةِ الخَبَرِ لوجوده:
أحدهما: أن قوله: «الحَمْدُ للَّهِ» يفيد تَعْظِيم اللفظ والمعنى، ولو قال:«احمدوا» لم يحصل مجموع هاتين الفاَئدتَيْن.
وثانيهما: أنه يُفيدُ كونه - تعالى - مُسْتحقّاً للحَمْدِ سَوَاءً حَمِدّهُ حَامدٌ أو لم يَحْمَدْهُ.
وثالثها: أنَّ المَقْصُودَ منه ذِكْرُ الحُجَّة فّذكْرُهُ بصيغة الخَبَرِ أوْلَى.
والقول الثاني: أن المراد منه تعليم العِبَادِ، وهو قولُ أكثره المفسرين.
قوله: {الذي خَلَقَ السماوات والأرض} فيه ثلاث سؤالات:
السؤال الأول: قوله: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} جار مجرى قولك: «جاءني الرَّجُلُ الفَقِيهُ» فإن هذا يدلُّ على وجود رَجُل آخر ليس لفقيه، وإلَاّ لم يكن لِذِكْر ذلك فَائِدةٌ، وكذا هاهنا قوله:{الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} يوهم أن هناك إلهاً لم يَخْلُق السماوات والأرض، وإلَاّ فأيُّ فائدة في ذِكْرِ هذه الصِّفَةِ. والجواب: أنا بَيَّنَّا أن قوله: «الله» جِارٍ مجرى اسم العلم، فإذا ذكر الوصف لاسم العلم لم يكن المقصود من ذكر الوَصْفش التمييز، بل تعريف كون ذلك الُسَمَّى مَوْصُوفاُ بتلك الصِّفَةِ. مثاله: إذا قلنا: الرِّجُلُ اسمٌ للمَاهِيَّةِ، فيتناول الأشخاص الكثيرين، فكان المقصود هاهنا من ذِكر الوصفِ تَمْييز هذا الرجل عن سَائِرِ الرجال بهذه الصفة. أمَّا إذا قلنا: زيدٌ العالم، فلفظُ «زيد» اسم عَلَم، وهو لا يُفيد إلا هذه الذَّات المُعَيَّنَة؛ لأنَّ أسماء الأعلام قائمة مَقَام الإشَارَاتِ، فإذا وَصَفْنَاهُ بالعلمية امتنع أنْ يكون المقصودٌ منه تَمْييز ذلك الشخص عن غيره، بل المقصود منه تعريف كون ذلك المُسمى
مَوْصُوفاً بهذه الصفة ولما كان لفظ «الله» من باب أسماء الأعلام لا جِرَم كان الأمر على ما ذكرناه. السؤال الثاني: لم قَدِّمَ «السَّمَاء» على «الأرضِ» مع أنَّ ظاهر التنزيل يَدُلُّ على أنَّ خَلْقَ الأرْضِ مُقدَّمٌ على خَلْقِ السماءِ. فالجواب: أنَّ السَّمَاءَ كالدَّائرة، والأرْض كالمركز، وحُصُولُ الدَّائرة يوجبُ تعيين المَرْكَزِ، ولا يَنْعَكِسُ، فإنَّ حصول المَرْكَزِ لا يوجبُ تعيين الدَّائرةِ لإمْكَانِ أنْ يُحيطَ بالمركز الواَحِدِ دَوَائِرُ لا نهاية لها، فلمَّا تَقَدَّمت السماءُ على الأرضِ بهذا الاعتبارِ، وجب تقديم ذِكْرِ السماءِ على الأرض، وعلى قوله من قالَ: إنَّ السمواتِ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الأرضِ، وهو قول قتادَةَ، فالسُّؤال زائدٌ.
السؤال الثالث لم ذكر السماء بصيغة الجَمْع، والأرض بصيغة الواحدِ، مع أنِّ الأرضِينَ أيضاً كثيرةٌ لقوله:{وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] ؟ . فالجوابُ: أنَّ السَّماءَ جَارِيَةٌ مجرى الفاعل، والأرض مجرى القابل، فلو كانت السَّمَاءُ واحدةً لتَشَابَهَ الأمرٌ، وذلك يخلُّ بمصَالِح هذا العَالَمِ، فإذا كانت كثيرةٌ اخْتَلَفَتِ الاتِّصَالَاتُ الكَوْكَبِيَّةُ، فحَصَلَ بسببها الفُصُولُ الأرَبعة، وسائر الأحوال المختلفة، وحَصَلَ بسبب تلك الاختلافات مصالح [هذا] العالم. أمَّا الأرض فهي قابلة للأثَرِ، والقَابِلُ الوَاحدُ كافٍ في القبول.
قوله: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} .
«جَعَلَ» هنا تتعدَّى لمعفول واحد؛ لأنها بمعنى «خَلَقَ» ، هكذا عِبَارةُ النحويين، ظاهرها أنهما مُتَرَادِفَانِ، إلَاّ أنَّ الزَّمخْشَرِيَّ فَرَّقَ بينهما فقال:«والفَرقُ بين الخَلْقِ والجَعْلِ أنَّ الخَلْقَ فيه معنى التقدير، وفي الجَعْلض معنى التَّصْييرِ كإنشاء شيء من شيء أو تَصْييرِ شيء شيئاً، أو نَقْلهِ فيه معنى التقدير، وفي الجَعْلُ التَّصْييرِ كإنشاء شيء أو تَصْييرِ شيء شيئاً، أو نَقْلِهِ من مكان إلى مكان، ومن ذلك {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] ، {وَجَعَلَ الظلمات والنور} ؛ لأنَّ الظُلمَاتِ من الأجْرَامَ المُتَكَاثِفَةِ، والنُّور مِنَ النَّارِ» .
وقال الطَّبرِيُّ: «جَعَلَ» هنا هي التي تتصَرَّفُ في طَرَفِ الكلام، كما تقول:«جَعَلْتُ أفعل كذا» .
فكأنه قال: «جَعَلَ إظلامها وإنارتها» ، وهذا لا يُشبه كلام أهل اللسان، ولكونها
عند الزمخشري لَيْست بمعنى «خَلَقَ» فسَّرها هُنا بمعنى «أحدث» و «أنشأ» .
وكذا الراغب جعلها بمعنى «أوْجَدَ» .
ثم إنَّ أبَا حيَّان اعْتَرَضَ عليه هنا لمَّا اسْتَطْرَدَ، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر ومثل بقوله:{وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] . فقال وما ذكر من أن جعل بمعنى صَيَّر في قوله {وَجَعَلُواْ الملائكة} [الزخرف: 19] لا يصحُّ؛ لأنهم لم يُصَيِّروهم إناثاً وإنما بعضُ النحويين أنها هنا بمعنى «سمَّى» .
قال شهابُ الدين: ليس المُرَادُ بالتصيير بالفعل، بل المُراد التصيير بالقول، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك، على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، وقد ظهر الفرقُ بين تخصيص السَّمواتِ والأرض بالخَلْقِ، والظُّلُمَاتِ والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشري.
فصل
قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الجَعْل في القرآن على خمسة أوجه:
الأول: بمعنى «خلق» قال تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة} ، وقوله {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا} [فصلت: 10] ، وقوله:{جَعَلَ الليل والنهار} [الفرقان: 62] .
والثاني: بمعنى «بعث» قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرا} [الفرقان: 62] .
والثالث: بمعنى «قدره» قال تعالى {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً} [الزمر: 8] وقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاَّ} [الزخرف: 19] وقوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً}
[فصلت: 9] أي تقولون.
الرابع: بمعنى «بَيّن» قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ} [الزخرف: 3] أي: بَيَّنَّاه بحَلالِه وحَرَامِهِ.
الخامس: بمعنى «صَيَّرَ» قال تعالى: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة} [الإسراء: 46] أي: صيرنا، وقوله {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} [التوبة: 19] ، وقوله {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين} [النمل: 61] ، وقوله:{إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِم} [يس: 8] .
فإن قيل: لِم وَحًّد النُّور، وجمعَ الظُّلمَاتِ. فالجواب من وجوه:
أحدهما: إنْ قُلْنَا: إنَّ الظُّلُمَاتِ هي الكُفُرُ، والنُّور هو الإيمان فظاهرٌ؛ لأنَّ الحقَّ واحِدٌ، والباطِلُ كثيرٌ.
وإنْ قٌلنا: إنَّ الظُّلْمَة الكيفية المحسوسة، فالنُّور [عبارة] عن تلك الكَيْفِيَّةِ الكَامِلَةِ القَويَّةِ وكذلك الظُّلْمةُ الكاملة القوية، ثمَّ إنَّها التَّناقٌض [قليلاً] وتلك المَرَاتَبُ كثيرة، فلهذا عَبَّرَ عن الظُّلُمَاتِ بصيغة الجَمْع.
وثانيها: أنَّ النُّور من جِنْسٍ واحِدٍ، وهو النار، والظُّلُمَاتِ كثيرة، فإنَّ مَا مِن جرْمٍ إلَاّ وله ظِلٌّ وظُلْمَةٌ.
وثالثها: أنَّ الصِّلَةَ التي قبلها تقدمَّ فيها جَمْعٌ ثُمَّ مفردٌ، فعطفت هذه عليها كذلك، وقَدْ تقَّدمَ في «البقرة» الحِكْمَةُ في جَمْع السماوات، وإفراد الأرض.
فإنْ قيل: لِمَ قُدِّمت الظُّلُمات [على النور] في الذكر؟ .
فالجوابُ: لأنه مُوَافِقٌ في الموجودِ؛ إذا الظُّلمة قَبْلَ النُّور عِنْدَ الجمهور.
فصل في المراد بالظلمات والنور
قال الوَاقِدِيُّ: كُلُّ مَا في القرآنِ من الظُّلُمَاتِ والنُّورِ هو الكُفْرُ والإيمان، إلَاّ في هذه الآية، فإنَّهُ يُريُد به اللَّيْلَ والنَّهَارَ.
وقال الحسنُ: المُرَادُ الكُفْرُ والإيمان.
وقيل: المرادُ بالظُّلمات الجَهْلُن وبالنُّور العِلْمُ.
وقال قتادة: يعني الجَنَّةَ والنَّار.
وقيل: معناها خَلْقُ السموات والأرض، وقد دجَعَلَ الظلمات والنُّور؛ لأنه خلقَ الظُّلْمَة والنُّور قبل السموات والأرضِ.
قال قتادة: خلق الله السَّمواتِ قَبْلَ الأرض، وخَلَقَ الظُّلْمَةّ قَبْلَ النُّورِ، والجنَّة قبل النَّار.
وروى عبد الله بن عمرو بن العَاص أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم َ قال: «إن الله خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمَةٍ، ثُمَّ عَلَيُهِم مَنْ ذّلِكَ اهْتَدَى، ومَنْ أخْطأهُ ضَلَّ» .
قوله تعالى: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ} .
«ثُمَّ» هذه ليست للتَّرْتِيبِ الزَّمَاني، وإنِّما هي للتَّراخي بين الرُّتبتينِ، والمُرَادُ اسْتِبْعَادُ أنْ يَعْدِلوا به غيره مع ما أوضحَ من الدِّلالاتِ، وهذه عطفٌ: إمَّا على قوله: «الحمدُ لله» ، وإمَّا على قوله:«خَلَقَ السَّمواتِ» .
قال الزمخشري: «فإن فما معنى» ثم «؟ قلت: استبعاد أنْ يَعْدِلُوا به بعد وضوح آيَاتِ قُدْرَتِهِ، وكذلك» ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُونَ «استبعاد لأنْ يمتروا فيه بعدما ثبتَ أنَّهث مُحْييهمْ، ومُميتُهُمْ وباعثهم» .
وقال ابن عطية: «ثُمَّ» دَالَّةٌ على قُبْحِ فَعْلِ الذين كَفَرُوا، فإنَّ خلْقَهُ للسموات والأرض وغيرهما قد تَقَرَّرَ، وآيَاتُهُ قَدْ سَطَعَتْ، وإنُعَامُه بذلك قد تَبيَّنَ، ثمَّ مع هذا كُلِّهِ يَعْدِلُون به غيره.
قال أبو حيَّان: ما قَالَاهُ من أنَّها للتَّوبيخ والاسْتِبْعَادِ ليس بصحيح؛ لأنها لم تُوضع لذلك، والاسْتِبعَادُ والتَّوْبِيخُ مُسْتَفَادٌ من الَسِّيَاقِ لا من «ثُمَّ» ، ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك، بل «ثمَّ» هنا للمُهْلَةٍ في الزَّمَانِ، وهي عَاطِفَةٌ جملةً اسميةً [على جملةٍ اسميةٍ] يعني على «الحَمْدُ للِّهِ» .
ثُمَّ اعترض على الزمخشري في تَجْوِيزِه أن تكون معطوفةً على «خَلَقَ» [لأنَّ «
خَلَقَ» ] صِلَةٌ، فالمعطوف عليها يُعطى حكمها، ولكن ليس ثم رابطٌ يعودٌ [منها] على الموصول.
ثُمَّ قال: «إلَاّ أنْ يكون على رَأي من يَرَى الرَّبْطَ بالظَّاهِرِ كقولهم:» أبو سعيدٍ الذي رَوَيْتُ عن الخدري «وهو قليلٌ جداً لا ينبغي أنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللِّهِ» .
قال شهابُ الدين: إنَّ الزمخشري إنَّما يريدٌ العَطْفَ ب «ثم» لتراخي ما بين الرتبتين، ولا يريدُ التَّرَاخي في الزَّمَانِ كما قد صَرَّحَ به هو، فكيف يلزمه ما ذكر من الخُلُوِّ عن الرابط؟ .
وكيفَ يتخيل كونها لِلمُهْلَة في الزمان كما أبو حيان.
قوله: «بربِّهمْ» يجوز أن يتعلَّق ب «كَفَرُوا» ، فيكون «يَعْدلُون» وقدِّم للفَوَاصِلِ، وفي «الباء» حينئذٍ احتمالان:
أحدهما: أن تكون بمعنى «عن» و «يَعْدلون» مِنَ العدول أي: يعدلون عن ربهم إلى غيره.
والثاني: أنها للتعدية ويعدلون من العَدْلِ وهو التسوية بين الشَّيْئَيْنِ، أي: ثُمَّ الذين كفروا يُسَوونَ بربَّهم غَيْرَه من المَخْلُوقِينَ، فيكون المَفْعُولُ محذوفاً.
وقيل معنى الآية كقول الفائل «أنْعَمْتُ عليكم بكذا، وتَفَصَّلْتُ عليكم بكذا، ثُم تكفرون نعمتي» .
أعلم أنَّ هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل آخر من دلائل إثبات الصانع سبحانه وتعالى، ويحتمل أن يكون الماد منه ذكرُ الدليل على صحة المعاد وصحة الحَشْرِ.
أمَّا الأول فتقريره: أنَّهُ - تعالى - لمَّا اسْتَدَلَّ بِخَلْقِهِ السَّمواتِ وتَعَاقُبِ الظُّلماتِ والنُّور على وجود الصَّانع الحكيم أتْبَعَهُ الاسْتِدلالِ بخلقه الإنسان على إثبات هذا المَطْلُوب، فقال:«هُو الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» ، والمراد منه خلق آدم [الأن آدَمَ
خلق] من طِين، وهو أبو البَشَرِ، ويُحتملُ أنَّ [يكون] المراد كَوْنَ الإنسان مَخْلُوقاً من المَنيَّ، ومن دَمِ الطَّمْثِ، وهما يَتَولدَان من الدَّم، والدَّمُ وإنَّما يَتَولَّدث من الأغْذِية [والأغذية] إمَّا حيوانية أو نَبَاتيَّة، فإن كانت حَيوانِيَّةَ كان الحالُ في [كيفية] تولُّد ذلك [الحيوان كالحال في كيفية تَوَلُّدِ الإنسان مخلوفاً من الأغدية النباتية، ولا شك أنها متولدة من الطين، فثبت أن كل إنسان متولد من الطين.
إذا عرفت هذا فتقول: هذا الطِّينُ قد تَوَلدُّت النُّطفة منه بهذا الطريق المذكور.
ثم تولّد من النُّطفَة أنواع الأعضاء المختلفة في الصِّفة، والصورة، واللون، والشكل] مثل القلب والدِّماغ والكبد، وأنواع الأعضاء البسيطةِ كالعظام والغَضاريفِ والرِّبَاطَاتِ والأوتار تولد الصفات المختلفة في المادة المُتَشَابِهَةِ، وذلك لا يمكنُ إلَاّ بتقْدير مُقدِّرِ حكيم.
وإن قلنا: المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد، فلأن خَلْقَ بَدَنِ الإنسان وترتيبه على هذه الصفات المختلفة إنَّما حَصَل بقُدْرَةِ فاعل حكيم، وتلك الحكمة والقدرة باقيةٌ بعد موت الحَيَوانِ، فيكون قادراً على إعَادتِهَاّ وإعَادَةِ الحياة فيها؛ لأنَّ القادِرَ على إيجادها من العَدَم قادرٌ على إعَادَتِهَا بطريق الأوْلَى.
قوله: «مِنْ طينٍ» فيه وَجْهَان:
أظهرهما: أنه متعلّق ب «خَلَقَكُمْ» ، و «مِنْ» لابتداء الغَايَةِ.
أظهرهما: أنه متعلّقٌ بمحذوف على أنه حَالٌ، وهل يحتَاج في هذا الكلام إلى حذف مضاف أم لا؟ فيه خلاف.
ذهب [جماعة] كالمهدويِّ ومكي، إلى أنه لا حَدْفَ، وأنَّ الإنسان مَخْلُوقٌ من الطين.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَا مِنْ مَولُودٍ يُولَدٌ إلَاّ ويُذّرُّ على النُّطْفَةِ مِنْ تُرَابِ حٌفْرَتِهِ» .
وقيل: إنَّ النُّطْفَةَ أصْلُهَا الطِّينٌ كما تقدَّم.
وقال أكْثرٌ المُفَسِّرينَ: ثَمَّ محذوفٌ، أي: خَلَقَ أصْلكم أو أباكم من طينٍ، يعنون آدم وقَصَّتُهُ مشهورة.
وقال امرؤ القيس: [الوافر]
2102 -
إلَي عِرْقِ الُّثرَى رَسَخَتْ عُرُوقِي
…
وهَذَا المَوْتُ يَسْلُبُنِي شَبَابِي
قالوا: أراد بعِرْقِ الثَّرى آدم عليه الصلاة والسلام ُ لأنَّه أصلُه.
فصل في بيان معنى «خلقكم من طين»
قوله: {خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ} [يعني أباكم] آدم خاطبهم به، إذ كانوا من ولدِهِ.
قال السُّديُّ: بَعَثَ اللهُ جِبْرِيلَ إلى الأرض لِيأتِيَهُ بطَائفةٍ منها، فقالت الأرْضُ: إنِّي أعُوذُ باللُّهِ منك أنْ اتنقضي مني، فرجع جبريل، ولم يأخذن قال يَا رَبَّ: إنَّها عَاذَتْ بِكَ، فبعث مِيكَائيل فاسْتَعَاذَتْ، فرجع، فبعث ملك الموت، فَعَاذَتْ منه باللِّهِ، فقال: وأنا أعوذُ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم، ثُمَّ عَجَنَهَا بالماء العَذْبِ والمِلْح والمُرّ، فلذلك اختلفت أخلاقهم، فقال اللَّهُ لِمَلكِ الموت:
«رحم جبريل وميكائيلُ الأرْضَ، ولم ترحمهما لا جَرَمَ أجعل أرواح من خُلِقَ من هذا الطِّين بَيَدِكَ» .
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه: «خَلَقَ اللِّهُ آدَمَ من أرضِ يقالُ لها دَجْناء» .
قال الحسن: «وخَلقَ حُؤجُؤهُ من ضَرِيَّة»
قال الجوهري: «ضَرِيَّة» قرية لبني كِلاب على طريق «البصرة» ، وهي إلى «مَكَّةَ» أقربُ.
وعن ابن مسعود قال: إنَّ الله بعث إبليس، فأخَذَ من أديم الأرْضِ عَذْبِها
وملحها، فخلقَ منه آدم عليه الصلاة والسلام ُ فكلُّ شيء خلقه من عَذْبها، فهو صائرٌ إلى الجَنَّةِ، وإن كان ابن كافر، وكُلُّ شيء خَلَقَهُ من ملحها فهو صائرٌ إلى النَّارِ وإنْ كان ابن تِقيِ؛ فَمنْ ثمَّ قال إبليسُ:{أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61] ؛ لأنَّه جاء بالطينة؛ فسمي آدم، خُلِقَ من أديم الأرض.
وعن عبد الله بن سلام قال: خلق الله آدم في آخر يوم الجمعة.
وعن عبد الله بن عباس قال: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَم كان رأسُه يَمَسْ السماءِ - قال - فوطده إلى الأرض حتَّى صار ستِّينَ ذِرَاعاً في سَبْعَةِ أذْرُعٍ عَرْضاً» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث فيه طول: وحَجَّ آدمُ عليه السلام من «الهِنْد» أربعين حجَّةُ على رِجْلَيْهِ، وكان آدمُ حين أُهبط تمسح رأسه السَّمَاء فمن ثَمَّ صَلَعَ، وأوْرثَ ولَدُهُ الصَّلعَ، ونفَرَت من طوله دواب الأرض، فصارت وحشاً من يومئذٍ، ولَمْ يَمُتْ حتىَّ بلغ ولده وولدُ ولدِه أربعين ألفاً وتوفي على ثور الجَبَلَ الذي أنزل؛ فقال شيث لجبريل:«صَلَّ عَلَى آدَمَ» فقال له جبريلُ: تقدَّم أنْتَ فصلِّ على أبيك كبر عليه ثلاثين تكبيرة، فأما خمس فهي الصلاة، وخمس وعشرون تفضيلاً لآدم.
وقيل: وكبِّرْ عليه أربعاً، فجعل أبو شيث آدم في مَغَارةٍ، وجَعَلوا عليها حافظاً لا يَقْربُهُ أحدٌ من بين قابيل، وكان الذين يأتونه ويَسْتَغْفِرُون له «بنو شيث» وكان عُمْرُ آدم تسعمائة سنة وستاً وثلاثين سنة.
قوله: «ثُمَّ قَضَى» إذا كان «قَضَى» بمعنى أظهر ف «ثُمَّ» للترتيبِ الزماني على أصلها؛ لأنَّ ذلك متأخِرٌ عن خَلْقِنا، وهي صفة فعل، وإن كان بمعنى «كَتَب» و «قَدَّر» فهي للترتيب في الذِّكرِ؛ لأنَّها صِفَةُ ذاتٍ، وذلك مُقدَّمّ على خَلْقِنا.
قوله: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} مبتدأ وخبر، وسوِّغَ الابتداء هنا شيئان:
أحدهماك وَصْفُهُ، كقوله:{وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِن} [البقرة: 221] .
والثاني: عَطْفُهُ ب «ثمَّ» والعطفُ من المُسَوِّغَاتِ.
قال الشاعر: [البسط]
2103 -
عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتِلْتِي
…
فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امْرُؤّ سَمِعَا؟
والتنكير في الأجلين لإبهام، وهنا مُسَوَّغُ آخر، وهو التفصيل كقوله:[الطويل]
2104 -
إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَه
…
ُ بِشِقِّ وَشِقٌ عِنْدّنَا لَمْ يُحَوَّل
ولم يَجِبْ هُنا تقديمُ إن كان المبتدأ نكرةً، والخبرُ ظرفاً، قال الزمخشري:
«لأنَّه تخصَّصَ بالصفة فقاربَ المعرفة» .
قال أبو حيَّان: «وهذا الذي ذَكَر من كَوْنِهِ مُسَوِّغاً للابتداء بالنكرة لكونها وُصِفَتْ لا تتعيَّنُ، لجواز أنْ يكونَ المُسَوِّغُ التفصيلَ» ثُمَّ أنشد البيت:
- 2105 إذَا مَا بَكَى
…
...
…
...
…
... . .....
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... . .
قال شهابُ الدين: والمزخشري م يَقُلْ: إنَّهُ تعيَّن ذلك حتَّى يُلْزِمَهُ به، وإنَما ذكر أشْهَرَ المسَّوغات فإنَّ العطف والتفصيل قَلَّ مَنْ يذكرُهما في المسوِّغات.
قال الزمخشري: «فإنْ قٌلت: الكلامُ السَّائِرُ أن يُقال:» عندي ثَوْبٌ جيَّدٌ، ولي عبدٌ كَيِّسٌ «فما أوجب التقديم؟ .
قلت: أوجبه أنَّ المعنى: وأيُّ أجَلٍ مسمى عنده، تعظيماً لشأن الساعة، فلمَّا جرى فيها هذا المعنى أوجب التقديم» .
قال أبو حيان: وهذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان التقدير: وأيُّ أجلٍ مسمى عنده كانت «أي» صفة لموصوف محذوف تقديره: وأجل مسمى عنه ولا يجوز حذفُ الصفةِ إذا كانت «أيّا» ولا حَذْفٌ موصوفها وإبقاؤها.
لو قلت: «مررتُ بأيِّ رجل» تريدُ برجلٍ أيِّ رجل م يَجُزْ.
قال شهاب الدين: ولم أدْرِ كيف يؤاخَدُ من فَسَّر معنّى بلفظٍ لم يَدِّع أن ذلك اللًّفْظَ هُوَ أصْلُ كلام المفسر، بل قال: معناه كيت وكيت؟ فكيف يلزمه أنْ يكَون ذلك الكلام الذي فَسَّر به هو أصْل ذلك المُفَسِّر؟ على أنَّه قَدْ وَرَدَ حَذْفُ موضوف «أيّ» وإبقاؤها كقوله: [المتقارب]
2106 -
إذا حَارَبَ الحَجَّاجُ أيَّ مُنَافِقِ
…
عَلَاهُ بِسَيفٍ كُلمَّاً هَزَّ يَقْطَعُ
قوله: «ثُمَّ» أنْتُم تَمْتَرُونَ «قد تقدَّم الكلامُ على» ثُمَّط هذه. و «تمترون» تَفْتَعُون من المِرْيَةِ، وتقدَّم معنها في «البقرة» عند قوله:{مِنَ الممترين} [البقرة: 147] .
وجعل أبو حيَّان هذا من باب الاتْتِفَاتِ، أعني قوله:«خَلَقكُمْ ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُون» ، يعني أنَّ قوله:«ثُمَّ الذين كفروا» غائبٌ، فالْتَفَتَ عنه إلى قوله:«خَلَقكُمْ ثُمَّ أنْتُم» ثُمَّ كأنَّه اعترض على نفسه بأنَّ خَلْقَكم وقضاءَ الأجلِ لا يَخْتَصُّ به الكُفَّار، بل المؤمنون مِثْلُهم في ذلك.
وأجاب بأنِّه إنَّما قَصَدَ الكُفَّار تَنْبِيهاً لهم على خَلْقِهِ لهم وقُدرَتِهِ وقضائه لآجالهم.
قال: «وإنِّما جَعَلْتُه من الالِتفَاتِ؛ لأن هذا الخطابَ، وهو» ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُون «لا يُمِكن أنْ يَنْدَرجَ فيه مَن اصْطَفاَهُ الله تعالى بالنبوَّة والإيمان» وأجَلٌ مسمَّى «مُسَمَّو؛ لأنه من مادة الاسم، وقد تقدَّم ذلك، فقُلبت الواوُ ياءً، ثم الياء ألفاً» .
وتمرتون أصله «تَمْتَرِيُون» فَأعِلَّ كنَظَائِرِه.
فصل في معنى «قضى»
والقضاء قد يَرِدُ بمعنى الحكم، والأمر قال تعالى:{وقضى رَبُّكَ أَلَاّ تعبدوا إِلَاّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وبمعنى صفة الفعل إذا تَمَّ، قال تعالى:{وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} [الإسراء: 4] وبمعنى صفة الفعل إذا تَمَّ، قال تعال:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات} [فصلت: 12] ومنه قولهم: «قضى فلان حاجةَ فلانٍ» .
وأمَّا الأجَلُ فهو في اللُّغَةِ عبارةٌ عن الوَقْتِ المضروب لإنقضاء المُدَّةِ، وأجَلُ الإنسان هو المؤقت المضروب؛ لانقضاء عُمْرِهِ. وأجَلُ الدَّيْنِ: مَحلُّهُ لانْقِضَاءِ التأخير فيه، وأصْلُهُ من التَّأخيرِ يُقال: أجلَ الشَّيء يَأجَلُ أجُولاً وهو آجلٌ إذا تأخَّرَ، والآجلُ نقيض العَاجِلِ، وإذا عُرِفَ هذا فقوله، «ثُمَّ قَضَى أجَلاً» معناه: أنَّهُ - تعالى - خَصَّصَ موت كُلَّ واحَد بوقتٍ مُعَيَّنٍ، «وأجلٌ مُسَمَّى عِنْدهُ» قال الحَسَنُ: وقتادة، والضحَّاكُ: الأجَلُ الأوّل من الولادَةِ إلى الموت. والأجَلُ الثاني: مِنَ الموتِ إلى البَعْثِ، وهو البَرْزَخُ وروي عن ابن عبَّاس، وقال: لِكُلِّ أحَدٍ أجلان أجل من الولادة إلى الموت أدنى البعث في أجل العُمر، فإن كان بالعكس قاطِعاً للرحَّمِ نُقِصَ من أجَل العُمر وزيد في أجَلِ البَعْثِ مخافة.
[وقال مجاهد] وسعيد بن جُبَيْرٍ: الأجَلُ الأوَّلُ أجَلُ الدنيا، والثَّاني أجَلُ الآخرة.
وقال عطيةُ عن ابن عبَّاس: الأجَلُ الأوَّل: النَّوم، والثاني: الموتُ. وقال أبو
مُسلِم: المرادُ بالأجَلِ الأوَّلٍ: آجال الماضين من الخَلْقِ وقوله: «وأجَلٌ مُسَمَّى عِنْدَهُ» :
المرادُ منه آجَالُ الباقين، فخضَّ هذا الأجل الثاني، بكونه مُسَمَّ عِندهُ؛ لأن الماضين لما ماتوا صارت آجالهُمْ معلومة، فلهذا المعنى قال:«وأجل مسمى عنده» وقيل: الأجَلُ الأوَّلُ: الموت، والأجَلُ المُسَمَّى عِنْدَ الله تعالى هو أجَلُ القيامة لأن مُدَّة حياتهم في الآخرة، لا آخِرَ لها ولا انْقِضَاءَ، ولا يَعْلَمُ أحد كيفية الحالِ في هذا الأجَلِ إلَاّ الله تعالى.
وقيل: الأجَلُ مقدار ما يُقضى من عمر كُلّ واحدٍ، والثاني: مقدارُ ما بَقِيَ من عمر كُلِّ أحدٍ.
وقيل: هما وَاحِدٌ - يعني «جعل لأعمارهم مُدَّة تنتهون إليها» .
وقوله: «وأجَلٌ مُسَمَّى عنده» يعني: وهو أجلٌ مُسَمَّى عنده لا يعلمهم غيره. قال حكماءُ الإسلام: إنَّ لكل إنسان أجَلَيْنِ:
أحدهما: الطبيعي.
والثاني: الآجالُ الاخْتِرامِيَّةُ، فالطَّبيعيُّ هو الذي لو بَقِيَ ذلك المِزَاجُ مَصُوناً من العوَارض الخارجية، لانْتَهَتْ مدّةُ بَقَائِه إلى الأوْقَات الفلانية، وأمَّا الآجال الاخترامية فهي التي تحصلُ بسبب من الأسباب الخارجية كالغَرَقِ، والحَرْقِ، ولَدْغِ الحشرات وغيرها من الأمور المُعْضِلَةِ.
وقوله: «ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُونَ» أي: تشكُّون في البَعْثِ.
وقيل: تمترون في صحة التوحيد.
أعلم أنَّا إذا قلنا: المراد من الآية المُتقدِّمة إقَامَةُ الدليل على وجود الصَّانع القادر المُخْتَارِ، فالمُرادُ من هذه الآيَةِ إقامَةُ الدليل على كونه عَالِماً بجميع المَعْلُومَاتِ؛ لأنها تَدُلُّ على كمالِ العلم.
وإن قلنا: المراد من الآية المُتقدِّمةِ إقامَةُ الدليل على صِحِّة المَعَادِ، فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان؛ لأنَّ مُنكِري المعاد إنَّما يُنْكِرُونَهُ لأمرين:
أحدهما: أنَّهم يَعْتَقِدُونَ أنَّ المؤثّر في حدوث بَدَن الإنسان هو امْتِزَاجُ الطَّبائِعِ، وإنْ سلَّموا كون المؤثّر فيه قَادِراً مختاراً، فإنَّهم يَقُولُونَ: إنِّهُ [غير] عالم بالجزئيات، فلا يمكنه تَمْييزث المُطيعِ من العَاصِيِ، ولا تمييز أجزاء بَدَنِ زيد عن أجْزاءِ بَدَن عن أجزاء بَدَنِ عمرو.
قوله: «وهُوَ اللِّهُ في السَّمواتِ» في هذه الآية أقْوالٌ كثيرة، وقد لُخِصَّتْ في اثْنَيْ عشر وَجْهاً؛ وذلك أن «هو» فيه قولان:
أحدهما: هو ضمير اسم الله - تعالى - يعودُ على ما عَادَتْ عليه الضَّمائِرُ قبله.
الثاني: أنَّهُ ضميرُ القِصَّةِ، قال أبو عليَّ.
قال أبو حيَّان: وإنَّما فرَّ إلى هذا؛ لأنه لو أعاد على اللِّهِ لَصَارَ التقديرُ: اللَّهُ اللَّهُ، فتركَّب الكلام من اسمين مُتَّحِدَيْنِ لفظاً ومعنى لا نِسْبَةَ بينهما إسنادية.
قال شهاب الدين: الضَّميرُ إنما هو عَائِدٌ على ما تقدَّمَ من المَوْصُوفِ بتلك الصِّفات الجلية، وهي خَلْقُ السَّموات والأرض، وجعل الظُّلُماتِ والنُّور، وخَلْق النَّاس من طين إلى آخرها، فصَارَ في الإخبار بذلك فَائِدَةٌ من غير شَكِّ، فعلى قولِ الجُمْهُورِ يكون «هو» مبتدأ، و «اللَّهُ» خبره، و «في السَّمَوَات» متعلقٌ بنفس الجلالة لمَّا تَضمَّنّتْهُ من معنى العِبَادةِ، كأنَّهُ قيل: وهو المَعْبُود في السَّموات، وهذا قول الزَّجَّاج، وابن عطيَّة، والزمخشري.
قال الزَّمخشري: «في السَّمَوَات متعلِّقٌ بمعنى اسم اللَّهِ، كأنَّهُ قيل: هو المَعْبُود فيها، ومنه: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله} [لزخرف: 84] أو هو المعروف بالإلهية والمتوحد بالإلهيّة فيها، أو الذي يُقَالُ له» اللَّه « [لا يشركه في هذا الاسم غيره] .
وقال شهابُ الدين: إنما قال: أو هو المَعْرُوفُ، أو هو الذي يُقال له: اللَّهُ؛] لأنَّ الاسم الشَّريف تقدَّم فيه خلافٌ، هل هو مُشْتَقٌ أوْ لا؟ فإن كان مُشْتقاً ظَهَرَ تلُّق الجَارِّ بِهِ، وإنْ كان لَيْسَ بمشتقِّ، فإمَّا أن يكون يتأوّل ذلك على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة.
فقوله:» المَعْبُود «راجعٌ للاشتقاقِ، وقوله:» المَعْرُوف «راجع لكونه عَلماً مَنْقُولاً،
وقوله:» الَّذي يُقَال له: اللَّهُ «راجع إلى كونه مُرْتجلاً، وكأنه رحمه الله اسْتَشْعَرَ بالاعتراض المذكور.
والاعْتِراضُ مَنْقُولٌ عن الفَارسيَّ.
قال:» وإذا جَعَلْتَ الظَّرْفَ متعلّقاً بام اللِّهِ جَازَ عندي على قياس مَنْ يقول: إنَّ الله أصْلُه «الإله» ومن ذَهَبَ بهذا الاسم مذهب الأعلام وجب ألَاّ يتعلٌّق به «عنده» إلَاّ أنْ تُقدِّر فيه ضَرْباً من معنى الفِعْلِ «، نقل عن أبي عليّ أنه لا يتعلَّقُ» في «باسم اللَّهِ؛ لأنَّه صار بدخول الألف واللام، والتغيير الذي دخله كالعلم، ولهذا قال تعالى:
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا} [مريم: 65] فظاهرُ هذا النقل أنه بمنعُ التعلُّق به وإنْ كاني في الأصْل مُشْتَقاً.
وقال الزَّجَّاج: «وهو مُتَعَلِّقٌ بما تَضَمَّنَهث اسْمُ من المَعاَاني، كقولك: أميرٌ المؤمنين الخَلِيفَة في المَشْرِق والمغْرِبِ» .
قال ابن عطيّة: «هذا عندي أفْضَلُ الأقوالِ، وأكثرها إحْرَازاً لفَصَاحَةِ اللَّفْظِ، وجَزَالَةِ المعنى.
وإيضاحُهُ أنَّهُ أراد أنْ يَدُلَّ على خَلْقِهِ وآثَارِ قُدْرتِهِ وإحاطتِهِ واستيلائه، ونحو الصفات، فجمع هذه كُلَّها في قوله:» وَهُوَ اللَّهُ «؛ أي: الذي له هذه كُلُّها في السَّموات، وفي الأرضِ كأنه قال: وهو الخالق، والرازق، والمحيي، والمحيط في السموات وفي الأرض كما تقول: زيد السُّلطانُ في» الشام «و» العراق «فلو قصدت ذات زَيْدٍ لكان مُحَالاً، فإذا كان مَقْصِدُ قولك [: زيد] الآمر النّاهي الذي يُوَلِّي ويَعْزلُ كان فَصِيحاً صَحِيحاً، فأقمت السَّلطَنَةَ مَقَامَ هذه الصِّفَاتِ، كذلك في الآية الكريمة أقَمْتَ» الله «مقام تلك الصِّفات» .
قال أبو حيَّان: ما ذكره الزَّجَّاجُ، وأوضحه ابن عطيَّةَ صحيحٌ من حيث المعنى، لكنَّ صَنَاعَةَ النحو لا تُسَاعِدُ عليه؛ لأنهما زَعَمَا أن «في السموات» متعلِّقٌ باسم الله؛ لما تَضَمَّنَهُ من تلك المعاني، ولو صَرَحَّ بتلك المعاني لم تَعْمَلْ فيه جَمِيعُهَا، بل العَمَلُ من حيث اللفظُ لواحد منها، وإن كان «في السموات» متعلّقاً بجميعها من حيث المعنى، بل الأولى أن يتعلَّق بلفظ «الله» لما تَضَمَّنَهُ من معنى الألُوهِيَّة، وإن كان عَلَماً؛ لأن العَلَمَ
يَعْمَلُ في الظَّرْفِ لما يتضمنه من المعنى كقوله: [الزجر]
2107 -
…
أنَا أبُو المِنْهَالِ بَعْضَ الأحْيَانْ
لأنَّ «بَعْضَ» نُصَبَ بالعَلَمِ؛ لأنَّه في معنى أنا المشهور.
عَمَلُهَا على سبيل التَّنَازُع، مع أنه لو سَكَتَ عن الجواب واضحاً. ولما ذكر أبو حيَّان ما قاله الزَّمخْشَريُّ قال:«فانظر كيف قدّرَ العامِلَ فيها واحِداً لا جميعها» .
يعني: أنَّهُ اسْتنْصَرَ به فيما ردَّ على الزَّجَّاج، وابن عطية.
الوجه الثاني: أن «في السَّمَوَات» متعّلق بمحذوفِ هو صِفَةٌ لله تعالى حُذِفت لفهم المَعْنَة، فقدَّرها بعضهم: وهو الله المعبود، وبعضهم: وهو اللَّهُ المُدَبِّرُ، وحذفُ الصِّفة قليلٌ جداً لم يَرِدْ منه إلَاّ مواضع يسيره على نَظَرٍ فيها، فمنها {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66] أي: المعاندون، {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] أي: النَّاجين، فلا ينبغي أن يُحْمَلَ هذا عليه.
الوجه الثالث: قال النَّحَّاس - وهو أحْسَنُ ما قيل فيه -: إنَّ الكلام تَمَّ عند قوله: «وَهُوَ اللِّهُ» والمَجْرُور متعلِّقٌ بمفعول «يَعْلَمُ» ، وهو «سِرَّكم وجَهْرَكُم» أي: يَعْلَمُ سِرَّكُم، وجَهْرَكُم فيهما.
وهذا ضعيفٌ جداً لما فيه من تَقْدِيمِ مَعْمُولِ المصجر عليه، وقد عرف ما فيه.
الوجه الرابع: أنَّ الكلامَ تَمَّ أيضاً عند الجلالةِ، وتعلِّق الظرفُ بنفس «يَعْلَمُ» وهذا ظاهِرٌ، و «يَعْلَمُ» على هذين الوَجْهَيْنِ مُسْتَأنَفٌ.
الوجه الخامس: أنَّ الكلامَ تَمَّ عند قوله: «في السموات» فيتعلَّق «في السموات» باسم الله على ما تقدَّمَ، ويتعلَّقُ «في الأرض» ب «يعلم» وهو قول الطَّبري.
وقال أبو البقاء: «وهو ضعيفٌ؛ لأنِّ اللَّهَ - تعالى - مَعْبودٌ في السَّمَوات وفي الأرض، ويَعْلمُ ما في السَّموات، وما في الأرض، فلا تتخصَّصُ إحْدى الصِّفَتَيْنِ بأحَدِ الظرفين» . وهخو رَدٌ جميلٌ.
الوجه السادس: أنَّ «في السموات» متعلِّقٌ محذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من «سِرَّكم» ، ثُمَّ قُدِّمَتِ الحالُ على صَاحبهَا، وعلى عاملها.
السابع: أنه متعلّق ب «يَكْسِبُونَ» ، وهذا فَاسِدٌ من جهة أنه يَلْزَمُ منه تقديم مَعْمُولِ الصِّلةِ على الموصول؛ لأن «ما» مَوْصُولةٌ اسمية، أو حرفيةٌ، وأيضاً فالمُخَاطبُونَ كيف يكيبون في السموات؟ ولو ذهب هذا القائلُ إلى أنَّ الكلام تَمَّ عند قوله:«في السموات» وعلّق «في الأرض» ب «يَكْسِبونَ» لسَهُل الأمْرُ من حيث المعنى لا من حَيْثٌ الصناعيةُ.
الوجه الثامن: أنَّ «الله» خَبَرٌ أوَّلُ، و «في السموات» خبر ثانٍ.
قال الزمخشري: «على معنى: أنَّه الله، وأنَّهُ في السموات وفي الأرض، وعلى معنى: أنَّهُ عالمٌ بما فيهما لا يَخْفَى عليه شيءٌ، كأنَّ ذَاتَهُ فيهما» .
قال أبو حيَّان: «وهذا ضعيفٌ؛ لأن المجرور ب» في «لا يّدُلُّ على كونٍ مُقَيَّدٍ، إنما يَدُلُّ على كونس مُطْلَقٍ، وتقدَّم جوابه مراراً» .
الوجه التاسع: أنْ يكون «هو» مبتدأ، و «اللَّهُ» بَدَلٌ منه، و «يَعْلَمُ» خبره و «في السموات» على ما تقدَّم.
الوجه العاشر: أنْ يكون «اللًّهُ» بَدَلاً أيضاً، و «في السموات» الخبرُ بالعنى الذي قاله الزمخشري.
الحادي عشر: أنَّ «هو» ضمير الشَّأنِ في مَحَلِّ رفع بالابتداء، والجلالةً مبتدأ ثانٍ، وخبرها «في السموات» بالمعنى المتقدَّمِ، أو «يَعْلَمُ» ، والجملة خبر الأول مفسرة له وهو الثاني عشر.
وأمَّا «يَعْلَمُ» فقد عرفت من تَفَاصِيلٍ ما تقدَّمَ أنَّه يَجُوزُ أن يكون مُسْتَأنَفاً، فلا مَحَلَّ له، أو في مَحَلِّ رفع خبراً، أو في مَحَلِّ نَصْبِ على الحال، و «سِرَّكم وجَهْرَكم» :
يجوز أن يَكُونَا على بابهما من المَصْدَرِيّة، ويكونان مضافين إلى الفاعل.
وأجاز أبو البَقَاء أن يكونا وَاقِعَيْنِ المفعول به، أي: مُسَرَّكم ومجهوركم، واسْتَدَلَّ بقوله تعالى:{يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77] ولا دَلَيلَ فيه، لأنه يجوز «ما» مصدرية وهو الألْيَقُ لمُنَاسَبَةِ المصدرين قبلها، وأن تكون بمعنى «الذي» .
فصل في معنى الآية
«وهو الله في السموات والأرض» كقوله: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله} [الزخرف: 84] .
وقيل: هو المعبود في السَّمواتِ والأرض.
وقال محمد بن جرير: معنيان: وهو اللَّهُ يعلمُ سرّكم وجهركم في السموات والأرض، يعلمُ ما تَكْسِبُونَ من الخيرِ والشَّر.
فصل في شبكة إنكار الفوقية
استدلَّ القائلون بأنَّ الله في السموات بهذه الآية.
قالوا: ولا [يلزمنا] أن يقال: فيلزم أن يكون في الأرض لقوله: «في الأرض» وذلك يقتضي حُصُولهُ في مكانين مَعاً، وهو مُحَالٌ؛ لأنَّا نقول: أجمعنا على أنه لَيْسَ مَوْجُوداً في الأرْضِ، ولا يَلْزمُ من ترك العَمَل بأحد الظَّاهرين ترك العمل بالظَّاهر الآخر من غير دليلٍ، فوجبَ أن يبقى قوله:{وَهُوَ الله فِي السماوات} على ظاهره ولأن من القراء من وقف عند قوله: {وَهُوَ الله فِي السماوات} ، ثم يبتدئ فيقول:«وفي السموات والأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجَهْرَكُمْ» ، والمعنى أنه تعالى يعلمُ سَرَائِرَكُمْ الموجودة في الأرْضِ، فيكون قوله:«وَفي الأرْضِ» صِلَةٌ لقوله: «سِرَّكُمْ» .
قال بان الخطيب: والجوابُ: أنَّا نُقِيمُ الِّدلالة أوّلاً على أنه لا يُمْكِنُ حَمْلُ هذا الكلام على ظَاهِرِهِ، وذلك من وجوه.
أحدهما: أنَّهُ قال في هذه السورة: {قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل للَّهِ} [الأنعام: 12] فَبَيَّن أنَّ كُلَّ ما في السموات والأرض، فهو مِلْكٌ لله تعالى ومملوك له فلو كان اله أحد الأشياء الموجودة في السموات لزم كونه ملك نفسه، وذلك مُحَالٌ وكذا قوله: في «طه» {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [طه: 6] . فإن قالوا: كلمة [ «ما» ] مختصَّةٌ [بمن لا يعقل] فلا يدخل فيها ذاتُ اللَّهِ.
قلنا: لا نُسَلِّمُ بدليل قوله: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 5 - 7] .
وقوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُد} [الكافرون: 3] والمراد بكلمة «ما» ها هنا «هو اللَّهُ تعالى» .
وثانيها: أنَّ قوله: «وهُوَ الله في السمواتِ» إمَّا أنْ يكون المُرَادُ منه أنَّهُ مَوْجُودٌ في جميع السمواتِ، أو المراد أنَّهُ مَوْجُودٌ في سماء واحدة.
والثاني ترك للظِّاهِر، والأوَّلُ على قسمين، لأنَّهُ إما أن يكون الحاصل منه -
تعالى - في أحد السَّمواتِ عين ما حصل منه في سائ السَّمواتِ أو غيره، والأوَّل يقتضي حُصُكول المتحيّز الواحد [في مَكَانَيْنِ، وهو باطلٌ ببديهَةِ العَقْلِ] .
والثاني يقتضي كونه - تعالى مُرَكَّباً من الأجْزَاءِ والأبْعَاضِ، وهو مُحَالٌ.
وثالثها: أنَّهُ لو كان مَوْجُوداً في السَّموات لكان مَحْدُوداً متناهياً وكُلُّ ما كان كذلك كان قَبُولُهُ للزيادة والنُّقْصَانِ مُمْكناً، وكُلُّ ما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ.
ورابعها: أنَّهُ لو كان في السَّمواتِ، فهل يَقْدرُ على خَلْقِ عالم آخر فوق هذه السموات أو لا يَقْدِر؟ وذلك من وجهين:
والثاني يوجبُ وهو مُحَالٌ والأول يقتضي أنَّهُ - تعالى - لو فعل ذلك لحَصلَ تَحْتَ ذلك العالم، والقوم منكرون كونه تحت العالم.
وخامسها: أنه تعالى قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 84] وقال {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] .
وقال: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض} [الزخرف: 84] وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] وكُلُّ ذلك يُبْدِلُ القولَ بالمَكَانِ والجهة، وإذا ثبت بهذه الدَّلائلِ أنَّهُ لا يمكنُ حَمْلُ هذا الكلام على ظاهره، وجَبَ التَّأويلُ، وهو من وجوه:
الأول: أنَّ قوله: {وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض} ، أي: في تدبير السمواتِ والأرض، كما يقال:«فلانٌ في أمْرِ كذا» أي: في تدبيره، وإصْلاحِ مُهِمَّاتِهِ، كقوله:{وَهُوَ الذي فِي السمآء إله} 84] .
الثاني: أنَّ قوله: [تَمَ] عند قوله: «وهُوَ اللَّهُ» ثُمَّ ابتدأ، فقال:«في السَّمواتِ وفِي الأرْض يَعْلمُ سِرَّكم وجهْرَكُم» ، أي: يَعْلمُ ما في السَّمواتِ الملائكة، وفي الأرض يعلمُ سَرائِرَ البَشَرِ الإنْس والجن.
الثالث: أنْ يكون الكلامُ على التقديم والتأخير، وهو «اللَّهُ يَعْلَمُ ما في السموات، وما في الأرض سِرَّكُم وجهركم» .
فصل في بيان معنى «ما تكسبون»
قوله: «ويَعْلمُ ما تكسبون» فيه سؤال، وهو أنَّ الأفعال إمَّا أفعال القُلُوبِ، وهو المُسَمَّى بالسِّرِّ، وإمِّا أعمال الجَوَارحِ، وهي المُسَمَّاةُ بالجَهْرِ، فالأفعالُ لا تخرجُ عن السِّرِّ والجهر.
فكان قوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون} يقتضي عَطْفَ الشيء على نفسه، وإنَّهُ فاسدٌ.
والجوابُ يجبُ حَمْلُ قوله: «مَا تَكْسِبُونَ» على ما يتسحقُّهُ الإنسانُ على فِعْلِه من ثوابٍ وعقابٍ.
والحاصلُ أنَّهُ مَحْمُلٌ على المُكْتَسَبِ كما يُقَالُ: «هذا كَسْبُ فلان» ، أي: مُكْتَسَبُهُ، ولا يجوز حَمْلُهُ على نفس الكَسْبِ؛ لأنَّهُ يلزم منه عَطْفُ الشيء على نفسه والآية تدل على كون الإنسان مكتسباً للفعل، والكَسْبُ هو الفعلُ المُفْضِي إلى اجْتِلَابِ نَفْع، أو دَفْع ضَرَرٍ، ولا يوصف فعلُ اللِّهِ بأنه كَسْبٌ لكونه - تعالى - مُنَزَّهٌ عن جَلْبِ النَّفْعِ، ودَفْعِ الضرر.
«فاعل زيدت فيه» مِنْ «لوُجُودِ الشرطين، فلا تَعَلُّقَ لها.
و» من آيات «صفة ل» آية «، فهي في مَحَلِّ جرٍ على اللَّفْظِ، أو رفعٍ على الموضع.
وقال الوَاحِدِيِّ:» مِنْ «في قوله:» مِنْ آية «صفةٌ ل» آية «أي: آية لاستغراق الجنْسِ الذي يقع في النَّفيِ، كقولك: ما أتاني من أحدٍ» .
والثانية: في قوله: «من آياتِ رَبِّهِم» للتبعيض.
والمعنى: وما يظهر لهم دَلِيلٌ قط من الدَّلائِل التي جيب فيها النَّظَرُ والاعتبار، إلَاّ كانوا عنها مُعْرِضينَ، والمُرادُ بهم أهل «مكة» ، والمرادُ بالآيات: إنْشِقاقُ القمر وغيره.
وقال عطاء: يريد: من آيات القرآن.
قوله: «إلَاّ كَانُوا» هذه الجملة الكَوْنِيَّةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما أنَّهُ الضميرُ في «تأتيهم» .
و «تأتيهم» يحتمل أن يكون ماضي المعنى لقوله: «كَانُوا» ، ويحتمل أنْ يكون مُسْتّقْبَلَ المعنى؛ لقوله «تَأتيهِمْ» .
واعلم أنَّ الفعْلَ الماضي لا يَقَعُ بَعْدَ «إلَاّ» بأحد شَرْطَيْنِ: إمَّا وقوعه بَعْدَ فِعْلٍ
كهذه الآية، أو يقترن ب «قد» نحو:«ما زيدٌ إلَاّ قد قام» وهنا الْتِفَاتٌ من خطاه بقوله «خلقكم» إلى آخره إلى الغيبةِ بقوله: «وَمَا تَأتِيهم» .
«الفاء» هنا للتَعْقِيب، يعني: أنَّ الإعْرَاض عن الآيات أعْقَبَهُ التَّكْذِيبُ.
وقال الزمخشري: «فَقَدْ كَذَّبوا» مردودٌ على كلام محذوف، كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات، فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها.
وقال أبو حيان: ولا ضرورة تدعو إلى في انتظام الكلام وقوله: «بالحق» من إقامة الظاهر مقام المُضْمَرِ، إذ الأصل: فقد كذبوا بها أي: بالآية.
فصل في بيان المراد «بالحق»
والمُرَادُ بالحقِّ ها هنا القرآن.
وقيل: [محمد صلى الله عليه وسلم َ وقيل:] جميع الآيات.
فصل
واعلم أنَّهُ - تعالى - رتّبَ أمورَ هؤلاء الكُفَّارِ على ثلاث مراتب:
أولها: كونهم معرضين عن التأمُّلِ والتَّفَكُّرِ في الدَّلائل [والبَيِّنَات] .
والمرتبة الثانية: كونهم مكذّبين بها، وهذه أزْيّدُ مما قَبْلَهَا؛ لأنَّ المُعْرِضَ عن الشِّيء قد لا يكون مكذباً به، بل قد يكون غَفِلَ عنه؛ صَارَ مُكَذِّباً به، فقد زاد على الإعْرَاضِ.
والمرتبة الثالثة: كونهم مُسْتَهْزِئينَ بها؛ [لأن المكذب] بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حدِّ الاسْتِهْزَاءِ، فإذا بلغ إلى هذا الحَدَّ، فقدْ بَلَغَ الغَايَة القُصْوَى في الإنكار، [ثُم] بَيَّن - تعالى أنَّ أولئك الكُفَّار وصلوا في هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب.
قوله تعال: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} .
«الأنبياء جمع» نبأ «وهو ما يعظم وقعه من الأخبار، وفي الكلام حَذْفٌ، أي: يأتيهم مَضْمونُ الأنباء، و» به «متعلّق بخبر» كانوا «.
و» لمّا «حرف وجوب أو ظرف زمان، والعامل فيه» كذبوا «
و» ما «يجوز أن تكون موصولةٌ اسميةً، والضميرُ في» به «عائد عليها، ويجوز أن تكون مصدرية.
قال بان عطيّة: أي: أنباء كونهم مستهزئين، وعلى هذا فالضميرُ لا يعودُ عليها؛ لأنها حرفية؛ بل تعود على الحقِّ، وعند الأخفش يعود عليها؛ لأنها اسم عنده.
ومعنى الآية: وسوف يأتيهم أخبارُ اسْتِهْزَائهِمْ وجَزَاؤهُ، أي: سيعلمون عاقبة اسْتهْزَائِهِمْ إذا عُذِّبُوا، فقيل: يوم» بدر «وقيل: يوم القيامة.
قوله تعالى: {َلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا} لمَّا منعهم من الإعراض والتَّكْذيب، والاسْتِهْزاءِ بالتهديد والوعيد، أتْبَعَهُ بما يجري المَوْعِظةِ، فوعظهم بالاعْتِبَار بالقُرُونِ الماضية.
و «كم» يجوز أن تكون اسْتِفْهاميَّةً وخبَريَّةً، وفي كِلَا التقديرين فهي معلقة للرؤية عن العَمَلِ، لأنَّ الخَبَريَّةَ تجري مجرى اسْتِفْهاميَّةِ في ذلك، ولذلك أعطيت أحكامها من وجوب التَّصْديرِ وغيره، والرُّؤيَةُ هنا عِلْميَّةٌ، ويضعف كونها بصرية، وعلى ككلا التقديرين فهي معلّقة عن العمل؛ لأنَّ البصرية تجر مجراها، فإن كانت عِلْمِيَّةً ف «كم» وما في حيَّزها سادَّة مسدَّ مفعولين، وإن كانت بَصَريَّةً فمسدّ واحد.
و «كم» يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص، فتكون مفعولاً بها، نَاصِبُهَا «أهْلَكْنا» أي: إهلاكاً، و «من قرنٍ» على هذا صِفَةٌ لمفعول «أهَلكْنَا» أي: أهلكنا قوماً، أو فوجاً من القُرُونِ؛ لأنَّ قرناً يُرَادُ به الجَمْعُ، و «مِنْ» تبعيضية، والأولى لابتداء الغاية.
وقال الحُوفي: «من» الثانية بَدَلٌ من «مِنْ» الأولى، وهذا لا يُعْقَلُ فهو وَهْمٌ بَيَّنٌ، ويحوز أن تكون «كم» عبارة عن الزَّمَانِ، فتنتصبُ على الظرف.
قال أبو حيان: تقديره: كم أزمنةٍ أهلكنا فيها.
وجعل أبو البقاء على هذا الوجه «مِنْ قَرْن» هو المفعول به، و «منْ» مَزيدَةٌ فيه، وجاز ذلك؛ لأن الكلام غير موجب، والمجرور نكرة، إلَاّ أنَّ أبا حيَّان مَنَعَ ذلك بأنَّهُ لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع لو قلت:«كم أزماناً ضَرَبْت رجلاً» أو كم مرة ضربت رجلاً لم يكن مدلولُ رجلٍ رجلاً، لأنَّ السؤال إنما يَقَعُ عن عدد الأزمنة أو المَرَّاتٍ التي ضربت فيها، وبأن هذا ليس مَوْضَعَ زيادة «مِنْ» لأنَّها لا تُزَادُ في الاستفهام، إلَاّ وهو استفهامٌ مَحْضٌ أو يكون بمعنى النَّفي، والاستفهام هنا لَيْسَ مَحْضاً ولا مُرَاداً به النفي انتهى.
قال شهابُ الدِّين: وجوابه لا يسلم.
و «قَرْن» الجماعة من النَّاسِ وجمعه «قرون» .
وقيل: القَرْنُ مُدَّة من الزمان، يقال: ثمانون سنةً، [ويقال: ستُّون سَنَةً] ويُقال: أربعون سَنَةً، ويقال: ثلاثون سَنَةً، ويقال: مائة سنة؛ لما روي أنَّه عليه السلام قال لعبد الله بن بشر المازني: «تَعِيْشُ قَرْناً» فعاش مائة سَنَةٍ، فيكون معنى الآية على هذه الأقَاوِيلِ من أهل قرنٍ؛ لأنَّ القَرْنَ الزمان، ولا حَاجَةَ إلى ذلك إلَاّ على [اعتقاد] أنه حقيقة فيه مَجَازٌ في النَّاسِ، وسيأتي بَقِيَّةُ الكلام عليه في الصَّفْحَةِ الثانية.
قوله: «مَكَّنَّاهُمْ في الأرْضِ» في موضع جرِّ صفة ل «قرن» ، وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبارِ معناه.
قاله أبُو البقاء رضي الله عنه، والحوفي رحمه الله. وضعَّفه أبو حيان بأن «من قرن» تمييز ل «كم» ، ف «كم» هي المُحَدَّثُ عنا بالإهلاكِ، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتَّمْكينِ لا ما بَعْدَهَا؛ إذ «من قرن» يجري مجرى التَّبْينِ، ولم يُحَدَّث عنه.
وجوَّز أبو حيَّان - رحمه اللَّهُ تعالى - أنْ تكون هذه الجُمْلَةُ اسْتِئْنَافاً جواباً لسؤال مُقَدَّرِ، قال: كأنَّه قيل: ما كان من حَالِهِمْ؟ فقيل: مَكَّنَّاهم، وجعله هو الظَّاهر، وفيه نظرٌ، فإنَّ النكرة مُفْتِقِرةٌ للصِّفَةِ فَجَعْلُهَا صفة ألْيَقُ، والفَرْقُ بين قوله تبارك وتعالى:{مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض} وقوله: {مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} [أن «مكنة في كذا] أثبته فيها، ومنه {وَلَقَدْ
مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ} [الأحقاف: 26] وأما مكنَّا جعل له مكاناً، ومنه:{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} [الكهف: 84]{أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ} [القصص: 57] .
ومثله» أرضٌ له «أي: جعل له أرضاً، هذا قول الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وأما أبو حيَّان رضي الله عنه فإنَّهُ يَظْهَرُ من كلامه التَّسْوِيّةُ بيهما، فإنَّهُ قال: وتعدِّي» مَكَّن «هنا للذَّوَات بنفسه وبحرف الجَرِّ، والأكْثَرُ تَعْدِيَتُهُ باللام [نحو] {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف: 21] {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ} [الكهف: 84]، {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ} [القصص: 57] .
وقال أبُو عُبَيْدَة:» مكَّنَّاهُمْ ومكَّنَّا لهم: لغتانِ فصيحتان، نحو: نَصَحْتُه، ونَصَحْتُ له «وبهذا قال أبو علي والجرحانيُّ.
قوله:» ما لم نُمكِّنْ لكم «في» ما «هذه همسة أوجه:
أحدهما: أنْ تكون مَوْصُولةَ بمعنى» الذِّي «، وهي حينئذٍ صفةٌ لموصوف محذوف، [والتقديرُ: التميكن الذين لم نُمَكِّنْ لكم، مَحْذُوفٍ تقديره: تمكيناً ما لم نُمَكِّنْهُ لَكُمْ.
الثاني: أنها نكرةٌ صفةٌ لمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تقديره: ما لم نُمَكِّنْهُ لكم، ذكرهما الحُوفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.
وردَّ أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - الأوَّلَ بأنَّ» ما «بمعنى» الذي «لا تكون صِفَةً لمعرفةٍ، وإن كان» الذي «يقع صِفَة لها، لو قلت:» ضَرَبْتُ الضَّرْبَ ما ضَرَبَ زيدٌ «تريد الضربَ الذي ضربه زَيْدٌ، لم يَجُرْ، فإن قلت:» الضَّرْبَ الذي ضربه زيد «جاز.
وَرَدَّ الثاني بأن» ما «النكرة التي تَقعُ صِفَةً لا يجوزُ حَذْفُ موضوفها، لو قلت:» قُمْتُ ما وضَربْتُ مَا «وأنت تعني: قُمْتُ قياماً ما وضربت ضرباً ما لم يَجُزْ.
الثالث: أن تكون مَفْعُولاً بها ل» مَكَّنَ «على المعنى، لأنَّ معنى مكَّنَّاهُمْ: أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ، ذكره أبُو البقاءِ رحمه الله.
قال أبُو حيَّان رحمه الله:» هذا تَضْمِينٌ، لا يَنْقَاسُ «.
الرابع: أن تكون» ما «مَصْدريَّةً، والزَّمَان محذوف، أي: مُدَّة ما لم نمكِّن لكم، والمعنى: مُدَّةَ انْتِفَاءِ التمكين لكم.
الخامس: أن تكون نكرةً موصُوفَةً بالجملة المنفيَّة بعدها، والعائد محذوف، أي: شيئاً لم نمكِّنه لكم، ذكرهما أيضاً أبو البقاء قال أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - في الأخير:» وهذا أقْرَبُ إلى الصَّوابِ «.
قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ولو قدَّره أبو البقاءِ بخاصِّ لكان أحْسَنَ من تقديرِه بلفظ «شيء» ، فكان يقول: مَكَّنَّاهُمْ تمكيناً لم نمكّنه لكم.
والضمير في «يروا» قيل: عائدٌ على المُسْتَهْزِئين، والخطابُ في «الكم» راجعٌ إليهم أيضاً، فيكون على هذا التِفَاتاً فائدتُهُ التَّعْريض بقلَّةِ تمكُّنِ هؤلاء، ونَقْصِ أحوالهم عن حَالِ أولئك، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهَلَاكُ، فكيف وأنتم أقَلُّ منهم تمكيناً وعدداً؟ .
وقال ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «والمُخَاطَبَةُ في» الكم «هي للمؤمنين ولجميع المُعَاصرين لهم ولسائِرِ النَّاس كافَّةً، كأنه قيل: لم نُمَكِّن يا أهل هذا العَصْرِ لكم، ويحتمل أن يُقدَّر معنى القول لهؤلاء الكَفَرَةِ، كأنه قال: يا مُحَمَّدُ قُل لهم:» ألَمْ يَرَوا كَمْ أهْلَكْنَا «الآية، فإذا أخبرت أنك قُلْتَ - أو أمَرْتَ أن يُقال - فلك في فَصيح كلام العرب أن تحكي الألْفَاظَ المَقُولَةَ بعينها، فتجيءَ بلفظ المُخَاطبة، ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغَيْبَةِ دون الخطاب» انتهى.
ومثاله: «قُلْتُ لزيد: ما أكرمك، أو ما أكرمه» .
و «القَرْنُ» يقع على مَعَانٍ كثيرةن فالقرن: الأمَّةُ من النَّاس، سُمُّوا بذلك لاقُتِرَانهِمْ في مُدَّةٍ من الزَّمانِ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ُ -:«خَيِْرُ القُرونِ قَرْنِي»
وقال الشاعر [في ذلك المعنى:][الطويل]
-
…
2108أخَبِّرُ أخْبَارَ القُرُونِ التي مَضَتْ
أدِبُّ كَأنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ
…
وقال قَسُّ بنُ سَاعِدَةَ: [مجزوء الكامل]
2109 -
…
فِي الذَّاهبينَ الأوَّلِي
نَ مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِر
…
وقيل: أصله الاتفاعُ، ومنه قَرْنُ الثَّوْرِ وغيره، فَسُمُّوا بذلك لارتفاع السِّنِّ.
وقيل: لأنَّ بعضهم يُقْرَنُ ببعض، ويُجْعَلُ مجتمعاُ معه، ومنه القرنُ للحَبْلِ يُجْمَعُ به بين البَعيريْنَ، ويُطلَقُ على المُدَّة من الزَّمان أيضاً.
وهل إطلاقُهُ على النَّاسِ والزَّمان بطريق الاشْتَرَاكِ، أو الحقيقة والمجاز؟ يُرَجَّعُ الثَّاني؛ لأنَّ المجَازَ خيرٌ من الاشْتِرَاكِ.
وإذا قُلنا بالراجح، فإنها الحقيقة، الظاهر أنه القَوْمُ؛ لأنَّ غالب ما يُطْلَقُ عليهم، والغَلَبَةُ مُؤذِنّةٌ الأصَالَةِ غالباً.
وقال ابنُ عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: - القَرْنُ أنْ يكون وفاةُ الأشيخ وولادَةُ الأطفال، ويَظْهَرُ ذلك من قوله تعالى:{وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِين} [الأنعام: 6] فجعله مَعْنّى، وليس بواضح وقيل: القَرْنُ: النَّاسُ المجتمعون كما تقدَّم، قلّت السِّنُون أو كثُرتْ، واستدلُّوا بقوله عليه الصلاة والسلام ُ:«خَيْرُ القُرونِ قَرْنِي» وبقوله: [مجزوء الكامل]
2110 -
فِي الذَّاهبين الأوَّلي
…
نَ مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِر
وبقول القائل في ذلك: [الطويل]
211 -
إذَا ذَهَبَ القَوْمُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِمُ
…
وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنِ فَأنْتَ غَرِيبُ
فأطلقوه على النَّاسِ ليفيد الاجتماع.
ثم اختلفت النَّاسِ في كميةِ القَرْنِ حالة إطلاقه على الزَّمان، فالجمهور على أنَّهُ مائة سنة، واستدلُّوا له بقوله عليه السلام:«تَعيشُ قَرْناً» فعاش مائة سَنَةٍ، وقيل: مائة وعشرون سنة، قاله إيَاسُ مُعَاويَةَ، وزارة بن أبي أوفى.
وقيل: ثمانون نقله أبو صالح عن ابن عبَّاسٍ.
وقيل: سبعون؛ قاله الفرّاء.
وقيل: ستُّون لقوله عليه السلام: «مُعْتَرَكُ المنَايَا ما بَيْنَ السِّتِّنَ إلى السِّبعينَ»
وقيل: أربعُون، حكاه محمد بن سيرين، يرفعه إلى النَّبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك الزَّهراوي أيضاً يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ وقيل: ثلاثون حكاهُ النَّفَّاش عن أبي عُبَيْدة، كانوا يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنة.
وقيل: عشرون سنةً، وهو رأي الحَسَنِ البصري.
وقيل: ثمانية عشر عاماً.
وقيل: المقدار الوَسَطُ مثل أعمار أهل ذلك الزمان، واسْتُحْسِنَ هذا بأنَّ أهل الزَّمَنِ القديم كانوا يعيشون أربعمائة سَنَةً، وثلاثمائة سنة، وألفاً وأكثر وأقلَّ.
ومعنى الآية: أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ.
وقال ابن عبَّاسٍ: أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح وعادٍ وثمود.
قوله: {وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً} يعني المَطَرَ «مِنفْعَال» من الدَّرِّ و «مِدْرَاراً» حالٌ من «المساء» إنْ أُريد بها السحاب، فإن السحاب يوصف بكثرةِ التَّتَابُع أيضاً.
قال ابنُ عبَّاسٍ: مِدْرَاراً مُتَتَبابِعاً في أوْقاتِ الحَاجَاتِ، وإن أُريَد بها الماء فكذلك، ويَدُلُّ على أنه يُرَادُ به المَاءُ قوله في الحديث:«في أثر سماءٍ كَانَتْ من اللَّيلِ» ويقولون: ما زلنا نَطَأُ السماء حتى أتيناكم، ومنه:[الوفر]
2112 -
إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأرْضِِ قَوْم
…
رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابا
أي: رَعَيْنَا ما نيشأ عنه، وإن أُريدَ بها هذه المِظَلَّةُ، فلا بُدّ من حذف مُضافٍ حينئذٍ، أي: مَطَر السماء، ويكون «مِدْرّاراً» حالاً منه.
و «مِدْرَاراً» مِفعال للمُبالغةِ كامرأة مِذْكارِ ومئناث.
قالوا: وأصله من «دَرَّ اللَّبَن» وهو كَثْرةُ ورودِه على الحالِبِ.
ومنه: «لا دَرَّ دَرُّهُ» في الدُّعَادءِ عليه بقلَّةِ الخير.
وفي المَثَلِ «سَبَقَتْ درَّتُه غِزَارَهُ» وهي مثلُ قولهم: «سَبَقَ سَيْلُهُ مَطَرَه» و «استدَّرت المِعْزَى» كناية عن طلبها الفَحْلَ.
قالوا: لأنَّها إذا طَلَبَتْهُ حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ فَدَرَّتْ.
قوله: {وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} إن جعلنا «جَعَلَ» تَصْييريةً كان «تجري» مفعولاً ثانياً، وإن جعلناها إيجادِيَّةً كان حالاً.
و «من تحتهم» يجوز فيه أوجه:
أن يكون متعلّقاً ب «تجري» ، وهو أظهرها، وأن كون حالاً، إمَّا من فاعل «تجري» ، أو من «الأنهار» ، وأنْ يكون مفعولاً ثانياً «جَعَلْنَا» و «تجري» على هذا حالٌ من الضمير في الجَازَّ، وفيه ضَعْفٌ لتقدُّمِهَا على العامل المَعْنَوِيّ، ويجوز أن يكون «من تحتهم» حالاً من «الأنْهَار» كما تقدَّم، و «تجري حالٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ فيه، الضَّعْفُ المتقدّمُ.
فصل
المُرَادُ من قوله: {وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} كَثْرَةُ البَسَاتيِن، والمعنى أنهم وَجَدُوا من مَنَافع الدُّنيا أكثر مما وَجَدَهُ أهلُ «مكَّة» المشرفة، ثُمَّ مع هذه الزيادة في العِزِّ، وكثرة العدد والبَسْطَةِ في المال والجِسْمِ لمَّا فجرى عليهم ما سمعتم من إهلاكهم، وهذا يوجب الاعتبار.
فإن قيل: ليس في هذا الكلام إلَاّ أن الإهلاك غي مختصّ بهم، بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضاً قد لهكوا فكيف يحسنُ إيرادُ هذا الكلام في مَعْرضِ الزَّجْرِ عن الكُفْرِ مع أ، هـ يشترك فيه الكَافِرُ والمؤمنُ؟ .
فالجوابُ: ليس المقصود منه الزَّجْر بمجرد المَوْتِ، والهلاك، بل المُرَاد منه أنهم بَاعُوا الدَّينَ بالدنيا؛ فعوقبوا بسبب الامْتِنَاعِ عن الإيمان، وهذا المعنى مُشْتَرَكٍ بين الكافر والمؤمن.
فإن قيل: كيف قال: «أوْ لَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنَا» مع أنَّ القَوْمَ ماتوا مُقِرِّين بِصِدْقِ محمد صلى الله عليه وسلم َ فيما يخبر به عنه، وأيضاً فهم لم يُشَاهدوا وقَائِعَ الأمم السَّالفة؟
فالجواب: أنَّ [أقَاصِيصَ المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا أخبارهم، ومجرد سماعها يكفي في الاعتبار.
فإن قيل: أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟
فالجواب: أن] فائدته التَّنْبِيهُ أنَّه لا يَتَعَاظَمُهُ إهْلاكُهُمْ وإخْلَاءُ بلادهم منهم، فإنه قَادِرٌ على إنشاء آخرين مَكَانَهُمْ يُعِّمرُ بهم بلاده، كقوله:{وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15] .
و «من بعدهم» متعلِّق ب «أنشأنا» .
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون حَالاً من «قرن» ؛ لأنه ظَرفُ زمان يعني: أنه منه؛ لكنه منعن ذلك كونُهُ ظرف زمان والزَّمَانُ لا يُخْبَرُ به عن الحَدَثَ ولا يُوصَفُ، وقد تقدَّمَ أنه يصحُّ ذلك بتأويل في «البقرة» عند قوله تعالى:{والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] و «آخرين» صِفَةٌ ل «قَرْن» ؛ لأنه اسم جَمْع ك «قوم» و «رهط» ، فذلك اعْتُبِر معنها، ومن قال: إنَّهُ قدَّرَ مُضَافَاً، أي: أهل قرن آخرين، وقد تقدَّمَ أنَّهُ مرْجُوحٌ، واللَّهُ أعلم.
قال الكلبي ومقاتل: تزلت هذه الآية في النَّضْرِ بن الحَرْثِ، وعبد الله بن أبي أميَّةَ، ونوفل بن خُوَيْلدٍ قالوا: يا محمد لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تأتينا بكتاب من عندِ اللَّهِ، ومعه أربعةٌ من الملائكة يَشْهدُونَ معه أنَّهُ من عند الله، وأنَّك رسوله، فأنزل الله تعالى:{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} مكتوباً من عنده «فَلَمَسُوه بأيديهم» أي: عَايَنُوهُ ومَسُّوهُ بأيديهم، وذكر اللَّمْسَ ولم يذكر المُعَايَنَةَ، لأن اللَّمْسَ أبْلَغُ في إيقاع العِلْمِ من الرؤية، ولأنّ السِّحْر يجري على المرئي، ولا يجري على الملموس.
قوله: «فِي قِرْطَاسٍ» يجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه صِفَةٌ ل «كتاب» ، سواء أريد ب «كتاب» المصدرُ، أم الشيْ المكتوب، ومن مجيء الكتاب بمعنى مكتوب قوله:[الطويل]
2113 -
…
...
…
...
…
... صَحِيفَة
…
ً أتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
ومن النَّاس من جعل «كتاباً» في الآية الكريمة مَصْدَراً؛ لأن نَفْسَ الكُتُبِ لا تُوصَفُ والقِرْطاس: الصَّحِيفة يُكتبُ فيها تكُون من رقِّ وكَاغِدٍ، بكسر القاف وضمها، والفصيح الكسر، وقرئ بالضّم شاذّاً نَقَلَهُ أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -
والقِرْطَاسُ: اسم أعْجِمِيُّ مُعَرَّبٌ، ولا يقال: قِرْطَاس إلَاّ إذا كان مكتوباً، وإلَاّ فهو طِرْسٌ وكَاغِدٌ، وقال زهير:[البسيط]
2114 -
…
- لَهَا أخَادِيدُ مِنْ آثَارِ سَاكِنِها
كَمَا تَردَّدِ فِي قِرْطَاسِهِ القَلَم
…
قوله: «فَلَمَسُوهُ» الضمير المنصوب يجوز أن يَعُودَ على «القِرْطاس» ، وأن يعود على «كتاب» بمعنى مَكْتُوب.
و «بأيديهم» متعلِّق ب «لَمَسَ» .
و «الباء» للاستعانة كعملت بالقَدُّوم. و «لَقَال» جواب «لو» جاء على الأفصح من اقتران جوابها المُثْبَتِ باللام.
قوله: «إنْ هذا» [و] و «إنْ» نافية، و «هذا» و «إلَاّ سحرٌ» خبره، فهو استثناء مُفَرَّغٌ، والجُمْلَة المَنْفِيَّةُ في مَحَلِّ نصب بالقولِ، وأوقع الظَّاهرَ مَوْقَعَ المضمر في قوله:«لَقَالَ الذين كَفَرُوا» شَهادَةً عليهم بالكُفْرِ، والجملة الامتنَاعِيَّةُ لا مَحَلَّ لها من الإعراب لاستئنافها.
ومعنى الآية الكريمة: أنَّهُ لا يَنْفَعُ معهم شيءٌ لما سبق فيهم من علمي، واللَّهُ أعلم.
وهذه شبهٌ ثالثةٌ من شُبَهِ النُّبوة، فإنهم يقولون: لو بَعَثَ اللَّهُ إلى الخَلْق رسولاً لوجب أن يكون ذلك الرَّسُولُ إذا أراد تحصيل مُهِّم، فإنما يَسْتعَعِينُ في تحصيله بمَنء هو أقْدّرُ على تحصيله، وإذا كان وقوع الشُّبُهَاتِ في نُبُوَّةِ الملائكة أقَلَّ وَجَبَ تعنُّتِهم وتَصَلُّبِهِم في كُفْرهم.
قيل: ويجوز أن تكون مَعْطُوفة على جواب «لو» ، أي: لو نزَّلْنَا عليك كتاباً لَقَالُوا كذا وكذا، ولقالوا: لو أُنزِ عليه مَلَكٌ.
وجيء بالجواب على أحد الجائزين، أعني حذف «اللام» من المثبت، وفيه بُعْد؛
لأن قولهم «لولا نُزِّلَ» ليس مُتَرَتِّباً على قوله: «لولا نَزَّلْنَا» و «لولا» هنا تخضيضِيَّةٌ، والضميرُ في «عَلَيْه» الظَّاهرُ عَوْدُهُ على النبي صلى الله عليه وسلم َ.
وقيل: يجوز أن يَعُودَ على الكتاب أو القِرْطَاسِ.
والمعنى: لولا أنْزِلَ مع الكتاب مَلَكٌ يشهدُ بِصحَّتِهِ، كما يُرْوَى في القِصَّةِ أنه قيل له: لن نؤمن لك حتى تَعْرُج فتأتي بكتاب، ومعه أربعة ملائكة يشهدون، فهذا يَظْهَرُ على رأي من يقولك إنَّ الجملة من قوله:«وقالوا: لولا أنْزِلَ» معطوفةٌ على جواب «لواء» ، فإنَّهُ تعلّق به من حيث المعنى حينئذٍ.
فصل في دحض شبهة منكري النبوة
واعلم أنَّ الله تبارك وتعالى أجاب عن هذه الشُّبْهَةِ بوجهين:
أحدهما: قوله: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر} ومعنى القضاء: الإتمام والإلزام، والمعنى: ولو أنزلنا ملكاً لم يؤمنوا، وإذا لم يؤمنوا اسْتُؤصِلُوا بالعذاب، وهذه سُنَّةُ اللَّهِ تعالى في الكُفَّار.
والوجه الثاني: أنَّهم إذا شاهدوا الملك زَهَقَتْ أرْوَاحُهُمْ من هَوْل ما يشاهدون؛ لأنَّ الآدمي إذا رأى الملك، فإمَّا أنْ يراه على صورتِهِ الأصْلِيَّةِ، أو على صورة البَشَرِ، فإن رآه على صورته الأصليَّةِ غُشِيَ عليه، وإنْ رآه على صورة البَشَرِ، فحينئذ يكونُ المَرْئيُّ شخصاً على صورة البشر عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط، وخصَّهم دَاوُد وجبريل حيثُ تَخَيَّل لمريم بَشَراً سَوِياً.
واعلم أنَّ عدم إرسال الملك فيه مصالح:
أحدهما: إن رؤية إنزال الملكِ على البشرِ آية قاهرةٌ فبتقدير نزوله على الكُفَّارِ، فرُبَّما لم يؤمنوا، كا قال الله تبارك وتعالى {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة} [الأنعام: 111] إلى قوله: {مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلَاّ أَن يَشَآءَ الله} [الأنعام: 111] ، وإذا يؤمنوا وجب إهلاكهُمْ بعذاب الاسْتئِصَالِ.
وثانيها: ما ذكرناه من عَدَمِ قُدْرِتِهِمْ على رية الملائكة.
وثالثها: إنَّ إنزال الملك معجزةٌ قاهِرةٌ جاريةٌ مجرى الإلْجْاءِ، وإزالة الاختيار، وذلك يخلُّ بمصلحة التكليف.
ورابعها: أنَّ إنزال المَلكِ وإن كان يّدْفَعُ الشُّبُهَاتِ من الوجوه المذكورة، لكنَّهُ يُقوِّي الشُّبْهَةَ من هذه الموجوه.
والمراد من قوله تعالى: {ثُمَّ لَا يُنظَرُون} فالفائدة في «ثم» التنبيه على أنَّ عَدَمَ الإنظار أشدُّ مُضِيَّ الأمر؛ لأن المُفَاجَئَةَ أشَدُّ من نفس الشدة.
قال قتادة: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً} ثمَّ لم يؤمنوا لعُجِّلَ لهم العذاب ولم يُؤخَّرْ طَرْفَةَ عَيْنِ.
وقال مجاهد: «لقضي الأمر» ، أي: لقامت القيامة.
وقال الضحَّاك: لو أتاهم ملكٌ في صورته لماتوا.
قوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً} يعني: لو أرسلناه إليهم مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً يعني في صورة رجلٍ آدمي؛ لأنهم لا يستطيعون النَّظَرَ إلى الملائكةِ، كان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم َ في صورة دِحْية الكلبي وجاء الملكان إلى دَاوُد عليه السلام في صورةِ رَجُلّيْنِ، ولأن الجنس إلى الجنس أميلُ وأيضاً فإنَّ طَاعَة الملائكة قَوِيَّةٌ، فَيَسْتحْقِرُونَ طَاعَاتِ البَشَرِ، ورُبَّما لا يعذرونهم بالإقدام على المعاصي.
قوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُون} في «ما» قولان:
أحدهما: أنها مَوْصولةٌ بمعنى «الذي» ، أي: ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم، أو على غيرهم، قاله أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وتكون «ما» حينئذٍ مفعولاً بها.
الثاني: أنَّها مَصْدَريَّةٌ، أي: ولَلَبْسنا عليهم مَثْلَ ما يلبسون على غيرهم ويسلكونهم، والمعنى شَبَّهوا على ضعفائهم فشُبِّهَ عليهم.
قال ابن عباس: هُمْ أهْلُ الكتاب، فَرَّقُوا دينهم وحَرَّفُوا الكَلِمَ عن مَوَاضَعِه، فَلَيَسَ اللَّهُ عليهم ما يلبسون.
وقرأ ابن مُخَيْصِن: «وَلَبَسْنا» بلام واحدة هي فاء الفَعْلِ، ولم يأت بلامٍ في الجواب اكْتِفَاءَ بها في المَعْطُوف عليه.
وقرأ الزهري: «ولَلَبَّسْنا» بلامين وتشديد الفعل على التَّكْثيرِ.
قال الواحدي: يقال لَبَّسْتُ الأمْرَ على القَوْمِ ألبَّسُهُ إذا شَبَّهْته عليهم،
وجعلته مُشْكلاً، وأصله من التَّستُّرِ بالثوب، ومنه لُبْسُ الثوبِ، لأنه يُفيد سَتْرَ النفسِ، والمعنى: إذا جَعَلْنَا الملكَ في صيورة البَشَرِ، فهم يظنون أن ذلك المَلَكَ بَشَراً، فيعود سؤالهم أنَّا لا نرضى برسالة هذا الشَّخْصِ، واللَّهُ أعلم.
قرأ حمزة، وعاصمٌ، وأبو عمرو بكشر الدَّال على أصل الْتِقَاءِ السَّكِنَيْنِ، والباقون بالضمن على الإتباع، ولم يبالِ بالساكن؛ لأنه حَاجِزٌ غير حصين وقد تَقَرَّرَتُ هذه القاعدة بدلائلها في سورة «البقرة» عند قوله تعالى:{فَمَنِ اضطر} [الآية: 173] و «برسلٍ» متعلّق ب «استهزئ» و «منْ قبلك» صفة ل «رسل» ، وتأويلُه ما تقدَّم في وقوع «من قبل» صلة.
والمرادُ من الآية: التَّسْلية لِقَلْبِ الرسول صلى الله عليه وسلم َ أي: أن هذه الأنواع الكثيرة التي يعاملونك بها كنت موجودة في سائِر القرون.
قوله: «فحاق بالذين سخِروا» ن فاعل «حاق» : «ما كانوا» ، و «ما» يجوز أن تكون موصُولةٌ اسميةً، والعائد «الهاء» في «به» و «به» يتعلَّق ب «يستهزئون» ، و «يستهزئون» خبر ل «كان» ، و «منهم» متعلّق ب «سخروا» على أنَّ الضمير يعود على الرُّسل، قال تبارك وتعالى:{إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} [هود: 38] .
ويجوز أن يتعدَّى بالباء نحو: سَخِرْت به، ويجوز أن يتعلّق «منهم» بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من فاعل «سَخِروا» والضمير في «منهم» يعود على الساخرين.
وقال أبو البقاء: «على المستهزئين» .
وقال: الحوفي: «على أمَمِ الرسل» .
وقد رَدَّ أبو حيَّان على الحوفي بأنه يَلْزَمُ إعادته على غير مذكور.
وجوابُهُ في قوة المذكور، وردَّ على أبي البقاء بأنه يصير المعنى: فحاق بالذين سَخِرُوا كائنين من المستهزئين، فلا حَاجَة إلى هذه الحال؛ لأنها مفهومةٌ من قوله:«سخروا» وجوَّزوا أن تكون «ما» مصدريَّةً، ذكره أبو حيَّانَ ولم يتعرض للضمير في «به» .
والذي يظهر أنه يعود على الرسول الذي يَتَضَمَّنُهُ الجَمْعُ، فكأنه قيل: فَحَاقَ بهم عَاقِبَةُ استهزائهم بالرسول المُنْدَرجِ في جملة الرُّسُلِ، وأمَّا على رأى الأخْفَشِ، وابن السراج فتعود على «ما» المصدريّة؛ لأنها اسم عندهما.
و «حاق» ألفه مُنْقَلِبَةٌ عن «ياء» بدليل «يَحِيق» ن ك «باع» «يبيع» ، والمصدر حَيْق وحُيُوق وحَيَقان كالغَلَيان والنَّزَوان.
وزعم بعضهم أنه من «الحَوْق» ، والمستدير بالشيء، وبعضهم أنه من «الحقّ» ، فأبدلت إحدى القافين ياءً كَتَظَنَّنتُ، وهذان لَيْسَا بشيء.
أمَّا الأول فلاختلاف المَادَّةِ، إلَاّ أن يريدوا الاشتقاق الأكبر.
وأما الثاني: فلأنها دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ من غير دليلٍ، ومعنى «حاق» أحاط.
وقيل: عاد عليه وبَالُ مَكْرهِ، قاله الفراء.
وقيل: دَارَ.
وقال الربيع بن أنس: نَزَلَ.
وقال عطاء: حَلَّ، والمعنى يدور على الإحاطة والشمول، ولا تستعمل إلا في الشر.
قال الشاعر: [الطويل]
2115 -
…
- فأوْطَأ جُرْدَ الخَيْلْ عُقْرَ دِيَارِهِمْ
وَحَاقَ بِهِمْ مِنْ بأسِ ضَبَّةَ حَائِقُ
…
وقال الراغب: «قيل: وأصله: حَقَّ، فقلب نحو» زَلَّ وزَال «وقد قرئ» فأزلهما وأزلَهُمَا «وعلى هذا ذَمَّهُ وذّامه» .
وقال الأزهري: «جعل أبو إسحاق» حاق «بمعنى» أحاط «، كأنَّ مَأخَذَهُ من» الحَوْق «وهو ما اسْتَدَارَ بالكَمَرَة» .
قال: «وجائز أن يكون الحَوْق فِعْلاً من» حاق يحيق «، كأنه في الأصل: حُيْق، فقلبت الياء واواً لانْضِمَامِ ما قلبها» .
وهل يحتاج إلى تقدير مضاف قبل «ما كانوا» ؟
نقل الوَاحِدِيُّ عن أكثر المفسرين ذلك، أي: عقوبة ما كانوا، أو جَزَاء ما كانوا، ثم قال:«وهذا إذا جعلت» ما «عبارة عن القرآن والشريعة وما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم َ، وإن جعلْتَ» ما «عبارة عن العذاب الذي كان صلى الله عليه وسلم َ يُوعدهم به إن لم يؤمنوا استَغْنَيْتَ عن تقدير المضاف، والمعنى: فَحَاقَ بهم العذابُ الذي يستهزئون به، وينكرونه» .
والسُّخْرِيَةُ: الاسْتِهْزَاءُ والتهَكُّمُ؛ يقال: سِخِرَ منه وبه، ولا يُقَالُ إلَاّ اسْتَهْزَاءً به فلا يَتَعَدَّى ب «مِنْ» .
وقال الراغب: «سَخَرْتُهُ إذا سِخَّرْتَهُ للهُزْءِ منه، يقال: رجل سُخَرَةٍ بفتح الخاء إذا كان يَسْخَرُ من غيره، وسُخْرَة بِسُكُونها إذا كان يُسْخَر منه ومثله:» ضُحَكة وضُحْكة «، ولا ينقاس» .
وقوله: {فاتخذتموهم سِخْرِيّاً} [المؤمنون: 110] يحتمل أن يكون من التسخير، وأن يكون من السُّخْرية.
وقد قرئ سُخْرياً وسِخْرياُ بضم السين وكسرها.
وسيأتي له مزيدُ بيان في موضعه إن شاء اللَّهُ تعالى.
قوله تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض} كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في الآية الأولى، حَذَّرَ القوم في الآية، وقال لرسوله: قل لهم: لا تغتروا بما وَصَلْتُمْ إليه من الدنيا ولذَّاتها، بل سيروا في الأرض لترعرفُوا صحة ما أخبركم الرسولُ عنه من نزول العذاب بمن كذب الرسل من الأمم السَّالفة قبلكم. يحذر كفار «مكّة» ، ويحتمل هذا السير أنْ يكون بالعقول والفِكَرِ، ويحتمل السَّيْرَ في الأرضِ.
قوله: «ثُمَّ» انْظُرُوا «: عطف على» سِيرُوا «ولم يجئ في القرآن العطف في مثل هذا الموضوع إلَاّ بالفاء، وهنا جاء ب» ثم «فيحتاج إلى فَرْقٍ.
فذكر الزمخشري الفرق وهو: أنْ جَعَل النَّظَرَ مُسَبَّباً عن السَّيْرِ في قوله:» فانْظُرُوا «كأنه قيل: سِيُروا لأجْلِ النظرِ، ولا تسيروا سَيْرَ الغافلين.
وهنا معناه إبَاحَةُ السَيَّرِ في الأرض للتجارة وغيرها من المَنَافِع، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبَّه عل ذلك ب» ثمَّ «لِتَبَعُدِ ما بين الواجب والمباح.
قال أبو حيَّان رضي الله عنه: وما ذكر أوَّلاً مُتَنَاقض؛ لأنه جعل النظر مُتَسَبِّباً عن السَّيْرِ، فكان السَّيْرُ سبباً للنَّظَرِ، ثم قال: فكأنه قيل: سيروا لأجْلِ النَّظَرِ، فجعل السَّيْرَ مَعْلُولاً بالنَّظَرِ، والنَّظَرِ، سَبَبٌ له فَتَنَاقَضَا، ودعوى أن» الفاء «سببيةٌ دعوى لا دَلِيلَ عليها وإنَّما مَعْنَاها التَّعْقِبُ فقط، وأمَّا» زَنَى ماعِز فَرُجم «فَفَهْمُ السببية من قَرِينَةٍ غيرها.
قال:» وعلى تقدير [تَسْلِيم] إفادتها السَّبَبَن فَلِمَ كان السيرُ هنا سَيْرَ إباحةٍ، وفي غيره سَيْرَ إيجاب؟ «.
وهذا اعترض صحيح إلَاّ قوله:» إنَّ «الفاء» لا تفيد السَّبِبِيَّةَ «فإنه غيرُ مُرْضٍ، [
ودليله في غير هذا الموضع] ومثُل هذا المكان في كون الزَّمَخْشَرِيّ جعل شيئاً عِلَّةً، ثم جعله مَعْلولاً، كما سيأتي إن شاء الله - تعالى - في أوَّلِ» الفتح «ويأتي هناك جوابه.
قوله:» كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ «كَيْفَ» خبرٌ مقدَّمٌ، و «عاقبة» اسمها، ولم يُؤنَّثْ، فعلْها؛ لأنَّ تأنيثها غير حقييقي؛ ولأنها بتأويل المآلِ والمُنْتَهَى، فإنَّ العاقبة مَصْدَرٌ على وزن «فاعلة» وهو محفوظ في ألْفَاظ تقدَّمَ ذِكْرُها وهي منتهى الشيء وما يَصيرُ إليه.
والعاقبةُ إذا أطْلِقَتْ اختصت بالثواب قال تعالى: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] وبالإضافة قد تستعمل في العُقُوبةِ كقوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواءى} [الروم: 10]، {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار خَالِدِينَ فِيهَا} [الحشر: 17] فَصَحَّ أن تكون اسْتِعَارةً من ضدَّهِ كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] .
و «كَيْفَ» مُعَلِّقة للنظر، فهي في مَحَلِّ نصبٍ على إسْقَاط الخافضح لأنَّ معناه هنا التَّفَكُّرُ والتدبُّرُ. والله أعلم.
«لِمَنْ» خَبَرٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديم، لاشْتِمَالهِ على مَا لهُ صَدْرُ الكلام، فإنَّ «مَنْ» استفهامية [والمبتدأ «ما» وهي بمعنى «الذي» ]، والمعنى: لمن اسْتَقَرَّ الذي في السموات.
وقوله: «قُلْ للَّهِ» قيل: إنَّمَا أمَرَه أن يجيب، وإن كان المقصود أن يُجِيبَ غيره؛ ليكون أوَّل من بَادرَ بالاعتراف بذلك.
وقيل: لمَّا سِألَهُمْ كأنَّهم قالوا: لمن هو؟ فقال اللَّهُ: قُلْ للَّهِ، ذكره الجُرْجَانِيُّ فعلى هذا قوله:«قُلْ للِّه» جوابٌ للسؤال المُضْمَرِ الصَّادِرِ من جهة الكُفَّارِ، وهذا بَعِيدث؛ لأنهم لم يكونوا يَشكُّون في أنَّهُ للَّهِ، وإنما هذا سؤالُ تَبْكِيتٍ وتَوبِيخٍ، ولو أجابو الم يَسَمْهُمْ أن يُجيبوا إلَاّ بذلك.
وقال ابن الخَطيبِ: إنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى أمَرَهُ بالسُّؤالِ أوَّلاً، ثمَّ بالجواب ثانياً، وهذا إنَّما يَحْسُنُ في المَوْضِعِ الذي يكونُ جوابُهُ قد بَلَغَ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره مُنْكِرٌ، ولمَّا كانت آثار الحدوث والإمْكان ظاهرة في ذَوَاتِ جميع
الأجْسَامِ، وفي جميع صفاتها، ولا جَرَمَ كان الاعْتِرَافُ بأنها بأسرها للَّه تعالى، ومِلْكٌ له، ومَحَلُّ تَصَرُّفِهِ وقُدرَتِهِ، لا جَرَمَ أمره بالسُّؤالِ أوّلاً، ثم بالجواب ثانياً لِيَدُلَّ ذلك على الإقْرَارَ بهذا المعنى ممَّا لا سبيل إلى دفعه ألْبَتَّةَ، كما قال تعالى:{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] وقوله: «اللَّه» خبر مبتدأ محذوف أي: هو اللَّهُ.
فصل في المراد بالآية
والمقصودُ من هذه الآية الكريمة تَقْرِيرُ إثْبَاتِ الصَّانع، وتقرير المعاد، وتقرير النُّبُوَّةِ، أما تقدير إثبات الصَّانِع، فلأن أحوال العالم العُلْوِيّ والسُّفْلي تدلُّ على أنَّ جميع هذه الأجْسَام موضوفةٌ بصفات كان يجوز عليها اتَّصَافُها بأضْدَادِهَا، وإذا كان كذلك كان اخْتِصَاصُ كُلِّ جُزْسِ منها بصفة مُعَيَّنَةٍ لابُدَّ وأن يكون لأجل أنَّ الصانعَ الحكيم القَادِرَ المُخْتَارَ خَصَّهُ بتلك الصِّفَةِ المعنية، وهذا يَدُلُّ على أن العَالَم مع كل ما فيه مَمْلُوكٌ للَّهِ تعالى، وإذا ثَبَتَ كَوْنُهُ قَادٍراً على الإعَادَةِ والحَشْر والنَّشْرِ؛ لأن التركيب الأوَّل إنما حَصَلَ لكونه - تبارك تعالى - مَلِكٌ مُطَاع، والمَلِكُ المُطاع مَنْ لَهُ الأمْرُ والنهي على عَبِيدهِ، لا بُدَّ من مُبَلِّغ، وذلك يَدُلُّ على أن بعْثَةَ الأنبياء والرُّسُلِ عليهم الصّلاة والسَّلام من اللَّهِ إلى الخَلْقَ غير ممتنع، فدَلَّت هذه الآية الكريمة على هذه المطالب الثلاثة، ولما سَبَقَ ذِكْرُ هذه المَسَائِلِ الثلاثةً ذكر اللَّهُ تبارك وتعالى بعدها هذه الآية لتكون مَقْرُنةً بمجموع تِلْكِ المَطَالِبِ.
قوله: «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ» أي: قَضَى وأوْجَبَ إيجَابَ تَفَضُّلٍ، لا تضمَّن من معنى القَسَمِ، وعلى هذا فلا توقُّف على قوله:«الرَّحْمَة» .
وقال الزجاج: إن الجملة في قوله: ليجمعنَّكم «في محل نصب على أنها بَدَلٌ من الرحمةِ؛ لأنه فسَّرَ قوله تعالى:» ليجمعنَّكم «بأنه أمْهَلَكم وأمَدَّ لكم في العُمْرِ والرِّزْقِ مع كُفْركم، فهو تفسيرٌ للرحمة.
وقد ذكر الفَرَّاء هذين الوجهين: أعني أن الجملة تَمَّتْ عن قوله تعالى: «الرَّحْمَة» ، أو أنَّ «ليجمعنَّكُمْ» بَدَلٌ منها، فقال: إن شئت جعلت الرَّحْمَةَ غَايَة الكلام، ثم
اسْتَأنَفْتَ بعدها «لَيَجْمَعَنَّكُمْ» وإن شئت جَعَلْتَهَا في موضع نصبٍ كما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ} [الأنعام: 54] قال شهابُ الدين رحمه الله: واسْتِشْهَادَهُ بهذه الآية الكريمة حَسَنٌ جداً.
ورَدَّ ابن عطيَّة هذا بأنه يَلْزَمُ دخول نون التوكيد [في الإيجاب قال: وإنما تدخل على الأمْر والنهي، وجواب القَسَمِ، ورد أبو حيان حصر ابن عطيَّة ورود نون التوكيد] فيما ذكر صحيحٌ، وردَّ كون «ليجمعنَّكم» بدلاً من الرحمة بِوَجْهٍ آخر، وهو أنَّ «ليجعنكم» جوابُ قَسَم، وجملةُ الجوابِ وَحْدَهَا لا موضوع لها من الإعراب، إنما يُحْكمُ على مَوْضع جملتي القَّسِمِ والجواب بمحلِّ الإعراب.
قال شهابُ الدين: وقد خلط مَكِّي المَذْهَبَيْنِ، وجعلهما مذهباً واحداً، فقال:«لَيَجْمَعنَّكُمْ» في موضع نصبٍ على البَدَلِ من «الرحمة» واللام لام القَسَمِ، فهي جواب «كَتَبَ» ؛ أنه بمعنى: أوْجَبَ ذلك على نَفْسِهِ، ففيه معنى القَسَم، وقد يظهر جوابٌ عما أوْرَدَهُ أبُو حيَّانَ على غير مكي، وذلك أنهم جَعَلُوا «لَيَجْمَعَنَّكُم» بَدَلاً من الرَّحْمَةِ - يعني هي وقَسِيمها المحذوف، واستغنوا عن ذك القَسَمِ، لا سيما وهو غير مذكور.
وأمَّا مكِّي فلا يظهر هذا جواباً له، لأنَّه نَصَّ على أنَّهُ جواب ل «كتب» ، فمن حَيْثُ جَعَله جَوَاباً ل «كَتَبَ» لا مَحَلَّ له، ومن حَيْثُ جعله بَدَلاً كان مَحَلُّه النَّصْبَ، فَتَنَافَيَا، والذي ينبغي في هذه الآيةِ الكريمةِ أنْ يكون الوَقْفُ عند قوله:«الرحمة» .
وقوله: «ليجمعنَّكم» جوابُ قَسَم محذوف أي: «واللَّهِ ليجعنَّكُم» ، والجملة القَسِمِيَّةُ لا مَحَلَّ لها بما قبلها من حَيْثُ الإعْرَاب، وإنْ تعلَّقت به من حَيْثُ المعنى.
و «إلى» على بابها، أي: ليجمعنَّكم منتهين إلى يوم القيامة.
وقيل: هي بمعنى «اللَاّمط كقوله تعالى: {إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ} [آل عمران: 9] وقيل: بمعنى» في «أي: لَيَجمعنَّكُمْ في يوم القيامة.
وقيل: هي زائدة، أي: ليجمعنكم يوم القيمامة، وقد يشهد له قراءة من قرأ {تهوي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] بفتح» الواو «إلَاّ أنه لا ضرورةَ هنا إلى ذلك.
وتقدَّمَ الكلامُ في {لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى} في أول» البقرة « [البقرة: 2] والجملة حالٌ من» يوم «والضمير في» فيه «يَعُودُ على» اليوم «.
وقيل: يَعُودُ على الجَمْعِ المدلول عليه بالفَعْلِ؛ لأنه رَدٌّ على منكري القيامة.
فصل في الكلام على الآية
قال بعضهم: هذا كلامُ لا تَعَلُّق له بما قبله، فيه تصريح بكمال إلهيته سبحانه تعالى بقوله:{قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل للَّهِ} ثم بَيَّن تبارك وتعالى أنه يرحمهم بالإمْهَالِ، ورفع عذاب الاستئصالن وبيَّنَ أنَّهُ يجمعهم إلى يوم القَيَامَةِ.
فقوله: {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} ، أي: يمهلمهم.
وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} أنَّهُ لا يمهلهم بل يحشرهم ويُحَاسِبُهم بِكُلِّ ما فعلوا.
وقال آخرون: إنه متعلّق [بما قبله]، والتقدير:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحَمْةَ ليجمعنَّكم إلى يوم القيامة} .
وقيل: إنه لمَّا قال: كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكأنه قيل: وما تلك الرحمة؟ فقيل: إنَّهُ تبارك وتعالى «ليجمعنكم» [إلى يوم القيامة «وذلك لأنَّهُ خَوْفُ العذاب لحصل الهَرَجُ والمَرَجُ فصار يوم القيامة من أعظم أسْبَابِ الرحمة، فكان قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} . كالتفسير لقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 54] .
فصل في المراد بهذه الآية
اختلفوا في المُرادِ بهذه الرَّحْمَةِ، فقيل: إنَّهُ -[تبارك وتعالى]- يُمْهِلهُمْ مُدَّةَ عُمْرِهِمْ، ويدفعُ عنهم عَذَابَ الاسْتِئْصَالِ، ولا يعاجلهم بالعُقُوبَةِ [في الدنيا] .
وقيل: المُرَادُ» كَتَبَ عَلَى نَفْسه الرَّحْمَةَ «لمن ترك التَّكْذِيِبَ بالرُّسُلِ، وقبل شريعتهم وتاب.
فصل في الإخبار عن سعة رحمه الله
ورى أبو هرير رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم َ:» لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ كَتَاباً فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ إنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي «.
وروى أبو الزّنَادِ، عن الأعْرَجِ، عن أبي هريرة:» إنَّ سِبَقِتْ غَضَبي «.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم َ:» إنَّ للِّهِ مِائَة رَحْمةٍ وَاحِدةٌ منها بَيْنَ الجِنِّ والإنْس والبَهَائِم والطير والهَوَامِّ فِيْهَا يتعاطفون وبها يَتَراحَمُونَ، وبِهَا تَعْطِفُ الوُحُوشُ عَلَى أوْلادِهَا وأخَّر تِسْعاً وتسعين رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهاَ عِبَادةُ يَوْمَ القِيَامَةِ «.
وعن عمر بن الخَطَّابِ رضي الله عنه قال:» قَدِمَ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسملم صَبِيُّ، فإن امرأةٌ من السَّبْي قَدْ تَحْلِبُ ثَدْيَهَا لِسَقْي إذ وَجَدَتْ صبياً في السَّبْي، فأخَذَتُهُ فألصَقَتْهُ بِبطْنِهَا وَأرْضَعتْهُ فَقَال لَنَا رَسُولُ اللِّهِ صلى الله عليه وسلم َ: أتَرَونَ هَذِهِ طَارحَةً وَلَدهَا في النَّارِ. قُلْنَا: لا وهِي تَقْدِرُ عَلَى أنْ تَطْرَحَهُ، فقالَ: لَلَّهُ أرْحَمُ بِعِباَدِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلدهَا «.
قوله:» الَّذِينَ خَسِرُوا «فيه ستَّة أوجه:
أحدهما: أنه مَنْصُوبٌ بإضمار» أذُمُّ «ن وقَدَّره الزَّمخشري ب» أريد «، وليس بِظَاهرٍ.
الثاني: أنه مبتدأ أخْبِرَ عنه بقوله:» فهم لا يُؤمِنُون «، وزيدت الفاءُ في خبره لِمَا تَضَمَّنَ من معنى الشَّرْطِ، قاله الزجاج، كأنه قيل: مَنْ يَخْسَرْ نَفْسَهُ فهو لا يومن.
الثالث: أنه مجرور على أنه نَعْتٌ للمكذِّبين.
الرابع: أنه بَدَلٌ منهم، وهذان الوَجْهَانِ بعيدان.
الخامس: أنه مَنْصُوبٌ على البَدَلِ من ضمير المُخَاطب، [وهذا] قد عرفت ما فيه غير مَرَّةٍ، وهو أنه يُبْدَل من ضمير الحَاضِر بَدَل كُلِّ من كل في غير إحاطة ولا شمول أم لا؟
ومذهبُ الأخفشِ جوازه، وقد تقدَّم دَلِيلُ الفَريقَيْنِ، وردَّ المبردُ عليه مَذْهَبَهُ، بأنَّ البَدَلَ من ضمير الخطابِ لا يجوز، كما لا يجوز:«مررتُ بَكَ زيد» وهذا عجيب؛ أنه اسْتِشْهَادٌ بمحلِّ النزاع، وهو «مَرَتُ بك زيدٍ» ، وردَّ ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - ردَّه فقال:«ما في الآية مُخَالِفُ للمثال؛ لأنَّ الفائدة في البدل مُتَرتِّبَةٌ من الثاني، فأمَّا في» مررتُ بك زيدٍ «فلا فائدة في الثاني.
وقوله:» لِيَجمَعَنَّكُمْ «يَصْلُحُ لِمُخَاطَبةِ النَّاس كافَّةً، فيفيدنُا إبدال» الَّذينَ «من الضمير أنهم هم المختصُّون بالخِطَابِ، وخُصُّوا على جهة الوَعيدِ، ويجيءُ هذا إبْدال البعضِ من الكُلِّ» .
قال أبو حيَّان: «هذا الرَّدُ ليس بِجَيِّدٍ؛ لأنه إذا جعلنا» لِيَجْمَعَنَّكُم «صالحاً لخِطَابِ جميع النَّاس كان» الَّذين «بَدَلَ بعض، ويحتاج إذا ذالك إلى ضميرٍ، تقديره: خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ فِيْهُمْ وقوله:» فيفيدنا إبْدَال الذين من الضمير أنهم هم المُخْتَصُّون بالخَطَابِ، وخُصُّوا على جِهَةِ الوعيدِ «وهذا يقتضي أن يكون بدل كلّ، فتناقَضَ أوَّل كلامه مع آخره؛ لأنه من حَيْثُ الصَّلاحِيّةُ بدل بعض، ومن حيث اخْتِصاص الخِطَابِ بهم يكون بدلَ كُلّ، فَتَنَاقَضَا» .
قال شهابُ الدِّينِ: ما أبْعَدَهُ عن التَّنَاقُضِ، لأن بدل البعض من الكُلِّ من حملةِ الخصِّصَات، كالتخصيص بالصِّفةِ والغاية والشرط، نصَّ العلماء رضي الله عنهم -
على ذلك فإذا تقرَّرَ هذا، فالمُبْدَلُ منه بالنسبة إلى اللَّفظِ في الظاهرِ عامُّ، وفي المعنى ليس المُرَادُ به إلَاّ ما أرَادَهُ المتكلِّم، فإذا وردَ:«واقتلوا المُشركين بين فلان» مثلاً، فالمشركون صالحٌ لكُلِّ مُشْرِكٍ من حيثُ اللَّفظِ، ولكنَّ المُرادَ به بَنُو فلان، فالعموم في اللفظ والخُصُوص في المعنى، فكذا قَوْلُ أبي مُحَمَّدٍ لمُخَاطَبةِ الناس، معناه أنه يَعُمُّهُمْ لَفْظاً.
وقوله «فيفيدنا إبدال الضمير إلى آخره» هذا هو المُخَصِّص فلا يجيء تناقُقَ ألْبَتَّة، وهذا مقرر في «أصول الفقه» .
السادس: أنه مَرْفُوعٌ على الذَّمِّ، قاله الزَّمخشري، وعبارته فيه وفي الوجه الأول:«نَصْبٌ على الذم أو رَفْعٌ، أي: أريد الذين خَسِرُوا أنفسهم، أو أنتم الذين خَسِرُوا أنفسهم» انتهى.
قال شهابُ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «إنما قَدَّر المبتد» أنتم «ليرتبط مع قوله:» ليجمعنَّكم «، وقوله:» خسروا أنفسهم «من مُراعاةِ الموصول، ولو قال:» أنتم الَّذين خسروا أنفسكم «مُراعَاةً للخطابٍ لجَازَ، تقول: أنت الذي قَعَدَ وإن شئت: قَعَدْت» .
فإن قيل: ظَاهِرُ اللَّفظِ يَدُلُّ على أنّ خُسْرَانهم سبب لعدم إيمانهم، والأمر على العكس؟
فالجواب: أنَّ هذا يَدُلُّ على أن سَبْقَ القضاء بالخُسْرَانِ والخِذْلانِ هو الذي حملهم على الامْتَنَاعِ من الإيمان، وهو مذهب أهْلِ السُّنَّة.
قوله: «ولَهُ مَا سَكَن» : جملة من مُبْتَدَأ وخبر، وفيها قولان:
أظهرهما: أنها اسْتَئْنَافُ إخبار بذلك.
والثاني: أنها في مَحَلّ نَصْبٍ نَسَقاً على قوله: «الله» ، أي: على الجملة المَحْكيَّةِ ب «قل» أي: قل: هو الله، وقل: له ما سَكَنَ.
و «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، ولا يجوز غَيْرُ ذلك.
و «سَكَنَ» قيل: معناه ثَبَتَ واسْتَقَرَّ، ولم يذكر الزمخشري غيره.
كقولهم: فلان يسكنُ بَلْدَة كذا، ومنه قوله تبارك وتعالى {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُم} [إبراهيم: 45] .
وقيل: هو مِنْ «سَكَنَ» مقابل «تَحَرَّك» ، فعلى الأوَّل لا حذف في الآية الكريمة.
قال الزمخشري: وتعدِّية ب «في» كما في قوله: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُم} [إبراهيم: 45] ، ورجَّع هذا التفسير ابن عطية.
وعلى الثَّاني اخْتَلَفُوان فمنهم من قال: لا بُدَّ من محذوفٍ لِفَهْمِ المعنى، وقدَّر ذلك
المحذوف معْطُوفاً، فقال: تقديره: لوه ما سَكَنَ وما تحرك، كقوله في موضع آخر:{تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبَرْد وحذف المعطوف فاشٍ في كلامهم، وأنشد القائل في ذلك:
2116 -
كَأنَّ الحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأمَامِهَا
…
وإذَا نَجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أعْسَرَا
وقال الآخر: [الطويل]
2117 -
فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً
…
أبُو حُجُرِ إلَاّ لَيَالٍ قَلَائِلُ
يريد: رِجْلَهَا ويدها، وبين الخير وبيني.
ومنهم من قال: لا حَذْفَ؛ لأنَّ كُلَّ متحرك قد يسكن.
وقيل: لأنَّ المُتَحرِّكَ أقَلُّ، والساكن أكثرُ، فلذلك أوثِرَ بالذِّكْرِ.
وقيل: إنما خصَّ السُّكون بالذِّكْرِ، لأن النعمة فيه أكثر.
فصل في نظم الآية
قال أبو مسلم: وجه نَظْمَ الآية الكريمة أنه تبارك وتعالى ذَكَرَ في الآية الأولى: السَّمَوَات والأرضِ؛ إذ لا مكانَ سِوَاهُمَا، وفي هذه الآية الكريمة ذكر الليل والنَّهار، إذ لا زمان سواهما، فالزَّمَان والمكان ظرفان للمحدثات، فأخبر تبارك وتعالى أنه مَالِكٌ للمكان والمَكَانِيَّاتٍ، ومالك للزَّمانِ والزَّمانِيَّاتِ.
قال محمد بن جرير: كُلُّ ما طلعت عليه الشَّمْسُ وغَرَبَتْ، فهو من مَسَاكن اللَّيل والنَّهَار، والمراد جميع ما في الأرض.
وقيل: مَعْنَاه له ما يمرُّ عليه اللَّيْلُ والنَّهَارُ، وهو السميعُ لأصواتهم، العَلِيمُ بأسْرَارِهِمْ.
أغَيْرَ اللَّهِ «مفعول أوّل ل» أتَّخِذُ «و» لياً «مفعولٌ ثانٍ، وإنما قدَّم المفعول الأوَّل على فعله لمعنى، وهو إنكار أن يُتَّخَذَ غَيْرَ اللَّهِ وليّاً لا اتّخَاذ الوليّ، ونحوه قولك لمن يُهِينُ زيداً وهو مستحقٌّ للإكرام:» أزيداً أهّنْتَ «؟! أنْكَرْتَ أن يكون مَثْلَهُ مُهَاناً.
وقد تقدَّم هذا موضحاً في قوله: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116]، ومثله:{أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً} [الأنعام: 164]، {أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64] {ءَآللَّهُ أَذِنَ
لَكُمْ} [يونس: 59]{ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} [الأنعام: 143] وهو كثيرٌ، ويجوز أن يكُونَ» أتخذ «متعدّياً لواحدٍ، فيكون» غير «مَنْصُوباً على الحال من» ولياً «؛ لأنه في الأصل صِفَةٌ له، ولا يجوز أن يكُونُ استثناءً ألْبَتَّةَ، كذا منعه أبو البقاء، ولم يُبَيَّنْ وجهه.
والذي يظهر أنَّ المَانِعَ تقدُّمه على المستثنى منه في المعنى، وهو» وَلياً «.
وأمَّا المعنى فلا يَأبى الاستثناء؛ لأن الاستفهام لا يُرَادُ به حقيقته، بل يُراد به الإنْكَار، فكأنه قيل: لا أتَّخذُ وليَّا غير اللَّه، ولو قيل كذا لكان صحيحاً، فظهر أنَّ المانع عنده إنما هو التَّقْديِمُ على المستثنى منه، لكن ذلك جائز وإن كان قليلاً، ومنه:[الطويل]
2118 -
ومَا لِي إلَاّ آل أحْمَدَ شِيعَةٌ
…
وَمَا لِيَ إلَاّ مَشْعَبَ الحَقَّ مشْعَبُ
وقرأ الجمهور» فَاطرِ «بالجر، وفيها تخريجان:
أحدهما - وبه قال الزخشريّ والحوفيّ وابن عطيّة -: صفة للجلالة المجرورة ب» غير «، ولا يَضُرُّ الفَضْلُ بين الصِّفَةِ، والموصوف بهذه الجملة الفعلية ومفعولها؛ لأنها ليست بأجنبيةٍ، إذ هي عاملةٌ في عامل الموصوف.
الثاني - وإليه نَحَا أبو البقاء -: أنه بَدَلٌ من اسم اللَّهِ، وكأنه فَرَّ من الفَصْلِ بين الصٍّفةِ وموصوفها.
فإن قيل: هذا لازمٌ له في البد، فإنه فَصَل بين التاَّبع ومتبوعه أيضاً، فيقال: إنَّ الفَصْلَ بين البدلِ والمبدل فيه أسهلح لأن البَدَلَ على نِيَّةِ تَكْرَارِ العمال، فهو أقربُ إلى الفَصْلِ، وقد يُرجَح تخريجه بوَجْهِ آخر، وهو أنَّ» فاطر «اسم فاعل، والمعنى ليس على المُضِيِّ حتى تكون إضافته غير مَحْضَةٍ، فيلزم وَصْفُ المعرفة بالنَّكرة؛ لأنه في نيَّةِ الانفصال من الإضافة، ولا يقال: اللَّهُ فَاطِرُ السموات والأرض فيما مضى، فلا يُرَادُ حالٌ ولا استقبالٌ؛ لأن كلام اللِّهِ تبارك وتعالى قديمٌ متقدّمٌ على خَلْقِ السموات، فيكون المراتد به الاسْتِقْبَال قطعاً، ويَدُلُّ على جواز كونه في نيَّة التَّنْوين ما يأتي ذكره عن أبي البَقَاءِ قريباً.
وقرأ ابن عَبْلَةَ برفعه، وتخريجه سَهْلٌ، وهو انه خبر مبتدأ محذوف.
وخرَّجه ابن عطية على أنه مبتدأ، فيحتاج إلى تقدير خَبَرِ، والدلالَةُ عليه خفيَّةٌ بخلاف تقدير المبتدأ، فإنه ضمير الأول، أي:» هو فاطر «. وقرئ شاذاً بنصبه، وخرَّجه أبو البقاء على وجهين:
أحدهما: أنه بَدَلٌ من» ولياً «قال:» والمعنى على هذا أجْعَلُ فاطر السموات والأرض غير اللِّهِ «، كذا قدَّرَهُ، وفيه نظر،؛ لأنه جعل المفعول الأول، وهو» غير الله «مفعولاً ثانياً، وجعل البدل من المفعول الثاني معفولاً أوَّل، فالتدقير عَكْسُ التركيب الأصلي.
والثاني: أنه صِفَةٌ ل «ولياً» قال: ويجوز أن يكون صَفَةٌ ل «وَليّاً» والتنوين مُرَادٌ.
قال شهاب الدين: يعني بقوله: «التنوين مُرَاد» أنَّ اسم الفاعل عاملٌ تقديراً، فهو في نِيَّةِ الانْفَصَالِ، ولذلك وقع وَصْفاً للنكرة كقوله:{هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] .
وهذا الوجه لا يَكَادُ يَصِحُّ، إذ يصير المعنى: أأتَّخِدُ غير اللَّهِ وليّاً فاطر السموات الحال من الجلالةِ، كما كان «فاطر» صفتها في قراءة الجمهور.
ويجوز على رأي أبي البقاءِ أن تكون صَفَةٌ ل «وليَّاً» ، ولا يجوز أن تكون صَفَةً للجلالة؛ لأن الجملة نكرةٌ.
والفَطْرُ: الشَّقُّ مُطْلقاً، وقيَّدَهُ الرَّاغب بالشَّقِّ طولاً، وقيَّدّهُ الواحدي بشقِّ الشيء عند إبتدائه.
والفطرُ: إبداع وإيجاد شيء على غير مثال، ومنه {فَاطِرِ السماوات والأرض} ، أي: أوجدها على غير مثال يُجْتدى.
وعن ابن عبَّاس: ما كنتُ أدْرِي ما معنى فَطَر وفَاطِر، حتَّى اختصم إليَّ أعْرَابيَّان
في بِئرِ، فقال أحدهما:«إنا فَطَرتُهَا» ، أي: أنْشَأتُهَا وابتدأتها.
ويقال: فَطَرْتُ كذا فَطْراً وفَطَر هو فُطوراً، وانْفَطَرَ إنْفَطَاراً وفَطَرْتُ الشَّاة: حَلَبْتُهَا بأصْبُعَيْنِ، وفَطرْتُ العَجينَ: خبرْته في وَقْتِهِ.
وقوله تبارك وتعالى: {فِطْرتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} [الروم: 30] إشارة منه إلى ما فَطَرَ، أي: أبدع وركز الناس من معرفته [ما ركز] ، ففطرة اللِّهِ ما رُكِّز من القُوِّةِ المُدْرِكة لمعرفته، وهو المُشَارُ إليه بقوله تعالى:{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] .
وعليه: «كُلُّ مولودٍ يُوْلَدُ على الفِطْرَةِ» الحديث.
وهذه الآية الكريمة نزلت حين دعا إلى الله آباءه فقال تعالى: يا محمد {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} رباً معبوداً وناصراً ومعيناً.
قوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} القراءة المَشْهُرة ببناء الأوَّل للفاعل، والثَّاني للمعفول، والضمير للِّهِ تعالى، والمعنى: وهو يَرْزَق، وهو موافق لقوله تعالى:{مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57] .
وقرأ سعيد بن جبير، ومجاهد بن حبر، والأعمش، وأبو حيوة، وعمرو بن عبيد، وأبو عمرو العلاء في رواية عنه: وَلَا يَطْعَمُ «بفتح الياء والعين، والضميرُ في ولا يُطْعِم للولِيّ.
وقرأ يعقوب في رواية أبي المأمون:» وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِم «ببناء الأوَّل للمفعول، والثَّاني للفاعل، على عَكْسِ القراءة المشهورة، والضمائر الثلاثة أعني هو والمستترين في الفعلين للولي فقط أي: وذلك الولي يُطعمه غيره، ولا يُطْعِمُ هو أحداً لعَجْزِه.
وقرأ الأشْهَبُ:» وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعِم «ببنائهما للفاعل.
وذكر الزمخشري فيهما تخريجين ثانيهما لنفسه، فإنه قال بعد أن حَكَى القراءة: وفُسِّر بأنَّ معناه وهو يُطْعِم ولا يِسْتطْعمِ.
وحكى الأزهري: أطعمت بمعنى اسْتَطْعِمْتُ، ونحوه: أفّدْت، ويجوز أن يكون المعنى: هو يُعطْعِمُ، تارةٌ، ولا يُطْعم أخرى على حسب المَصَالِحِ، كقولك: هو يعطي ويمنع، ويَقْدر ويبسط ويغني ويُفْقر.
قال شهابُ الدين: هكذا ذكر أبو حيَّان هذه القراءات.
وقراءةُ الأشهب هي كقراءة ابن أبي عَبْلَةَ والعماني سواء لا تَخَالُفَ بينهما، فكان ينبغي أن يذكر هذه القراءة لهؤلاء كُلِّهم، وإلَاّ يوهم هذا أنهما قِرَاءتانِ مُتغَايرَتَانِ، وليس كذلك.
وقُرئَ شاذّاً: «يَطْعَمُ» يفتح الياء والعين، «ولايُطعم» بضم الياء وكسر العين، أي: وهو يأكل، ولا يطعم غيره، ذكره هذه القراءة أبو البقاء قال:«والضميرُ راجع على الوَليّ الذي غَيْرُ اللِّهِ» .
فهذه ست قراءات، وفي بعضها - وهو تَخَالُفُ الفعلين - من صناعة البَديع تَجنيسُ التشكيل، وهو أن يكون الشَّكْلُ فارقاً بين الكلمتين، وسمَّاهُ أسَامةُ بن منقذ تجنيس التَّحْريفِ، وهو تَسْمِيَةٌ فَظِيعَةٌ، فتسميتهُ بتجنيس التَّشْكيل أوْلَى.
قوله: {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} يعني من هذه الأمَّةِ، والإسلامُ بمعنى الاسْتِسْلام لأمرِ اللِّهِ تعالى.
وقيل: أسْلمَ أخْلَصَ، و «مَنْ» يجوز أن تكون نكرة موصوفةً واقعةً موقع اسم جمع أي: أوَّل فريق أسلم، وأن تكون موصولةً أي: أوَّل الفريق الذي أسْلَم، وأفرد الضمير في «أسلم» إمَّا باعتبار «فريق» المُقَدَّر وإمَّا باعتبار لَفْظِ «مَنْ» ، وقد تقدَّم الكلام على «أول» وكيف يُضَاف إلى مفرد بالتأويل المذكور في سورة البقرة.
قوله: «ولا تَكُونَنَّ» فيه تأويلان:
أحدهما: على إضمار القول، أي: وقيل لي: لا تكونن.
قال أبو البقاء: «ولو كان مَعْطُوفاً على ما قبله لَفظاً لقال: وأنْ لا أكون» وإليه نَحَا الزمخشري فإنه قال: «ولا تَكُونَنَّ: وقيل لي لا تكونَنَّ، ومعناه: وأُمرت بالإسْلامِ، ونُهيت عن الشِّرْكِ» .
والثاني: أنه مَعْطُوفٌ على معلوم «قُلْ» حَمْلاً على المعنى، والمعنى: قل إني قيل لي: كُنْ مَنْ أسلمٍ، ولا تكوننَّ من المشركين، فهما جميعاً محمولان على القَوْلِ، لكن أتى الأوَّل بغير لفظ القول، وفيه معنهاه، فَحُمِلَ الثاني على المعنى.
وقيل: هو عَطْفٌ على «قل» أُمِرَ بأن يقول كذا، ونهي عن كذا.
قوله: {قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} فعبدت غيره «عذاب يوم عطيم» أي عذاب يوم القيامة، و «إنْ عصيت» شرط حُذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، ولذلك جيء بفعل الشرط ماضياً، وهذه الجملة الشرطية فيها وجهان:
أحدهما: أنه معترضٌ بين الفِعْلِ، وهو «أخاف» وبين مفعوله وهو «عذاب» .
والثاني: أنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال.
قال أبو حيَّان: كأنه قيل: «إني أخافُ عَاصٍياً ربِّي» ن وفيه نظر؛ إذ المعنى يَأبَاهُ. و «أخَافُ» وما في حَيِّزِه خبر ل «إنَّ» ، وإنَّ وما في حيِّزِهَا في مَحَلّ نصب ب «قل» وقرأ ابن كثيرِ، ونافع «إنِّيَ» بفتح الياء، وقرأ أبو عمرو، والباقون بالإرسال.
«مَنْ» شرطيةٌ، ومَحَلُّها يحتمل الرَّفْع والنصب، كما سيأتي بيانه.
وقرأ الأخوان، وأبو بكر عن عاصم:«يَصْرف» بفتح الياء وكسر الراء على تسمية الفاعل.
والباقون بضمِّ الياء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله.
فأمَّا في القراءة الأولى، ف «مَنْ» فيها تَحْتَمِلُ الرفع والنصب، فالرفعُ من وجهِ واحدٍ، وهو الابتداء، وخبرها فعل الشَّرطِ أو الجواب أو همان على حَسَبِ الخلاف، وفي مفعول «يَصْرِفط حينئذ احتمالان:
أحدهما: أنه مَذْكُورٌ وهو» يومئذ «، ولا بُدَّ من حَذْفِ مَضَافٍ، أي: من يَصْرِفِ اللَّ عنه هَوْلَ يومئذ أو عذابَ يومئذ - فقد رحمه - فالضمير في» يَصْرِف «ن يعود على اللَّهِ تعالى، ويدلُّ عليه قراءة أبَيِّ بن كعبٍ» مَنْ يَصْرِف اللَّهُ «بالتصريح به.
والضميران في» عنه «و» رحمه «ل» مَنْ «.
والثاني: أنه محذوف لدلالِة ما ذكر عليه قَبْلَ ذلك، أي: مَنْ يَصْرف اللَّهُ عنه العذاب» يومئذ «منصوب على الظرِف.
وقال مكيٌ:» ولا يَحْسُنُ أن تٌقَدَّر هاء؛ لأنها إنما تُحْذَفُ من الصِّلاتِ «.
قتل شهابُ الدين: يعني أنه لا يُقَدَّر المَفْعُولُ ضميراً عائداً على عذاب يوم؛ لأن الجملة الشرطية عنده صِفَةٌ ل» عَذَاب «، والعائِدُ منها محذوف، لكنَّ الحَذْفَ إنما يكون الجملة الشرطية عنده صَفَةٌ ل» عَذَاب «، والعائِدُ منها محذوف، لكنَّ الحَذْفَ إنما يكون من الصِّلَةِ لا من الصِّفَةِ، وهذا معنى قول الواحديّ أيضاً، إلَاّ أنَّ قَوْلَ مَكي» إنما يُحْذّفُ من الصِّلاتِ «يريدُ في الأحسن، وإلَاّ فيحذف من الصِّفاتِ والأخبار والأحوال، ولكنَّه دون الصِّلة.
والنصبُ من وجهين:
أحدهما: أنَّه مفعول مُقَدَّمٌ ل» يَصْرِف «والضمير في» عنه ‘لى هذا يتعيَّنُ عودهُ على العذابِ المتقدمّ، والتقدير: أيَّ شخصٍ يصرفِ اللَّهُ عن العذاب.
والثاني: أنه مَنْصُوبٌ على الاشْتِغَالِ بفعل مُضْمَرٍ لا يبرز، يفسره هذا الظَّاهِرُ من معناه لا من لَفْظِهِ، والتقدير: مَنْ نُكْرِمْ أو مَنْ نُنَجِّ يَصْرَف اللَّه.
والضمير في «عنه» للشرطية.
وأمَّا مفعول «يَصْرِفْ» على هذا فَيَحْتَمِلُ الوجهين المُتقدَّمينِ، أعني كونه مذكوراً، وهو «يومئذٍ» على حَذْفِ مُضافٍ، أو محذوفاً اختصاراً.
وأمَّا القراءة الثَّانية ف «مِنْ» تحتمل وجهين:
أحدهما: أنها في مَحَلّ رفع بالابتداء، وخبره ما بعده على ما تقدَّم والفاعل المَحْذُوفُ هو اللَّهُ - تعالى يَدُلُّ عليه قراءةُ أبّي المُتقدِّمةُ وفي القائم مقامه أربعة أوجه:
أحدهما: أنه ضمير العذاب، والضمير في «عنهط يعود على» مَنْ «فقط، والظرف فيه حينئذ ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه منصوب ب» يصرف «.
والثاني: أنه منصوب بالعذاب، أي: الذي قام ضميره مقام الفاعل، قاله أبو البقاء رضي الله عنه: ويلزم منه إعْمَالُ المصدر مضمراً، وقدر يقال: يُغْتَفَرُ ذلك في الظروف.
الثالث: قال أبو البقاء: «إنه حالة من الضمير» - يعني الضمير الذي قامَ مقامَ الفاعل، وجازَ وقوع الحال ظَرْفَ زمان؛ معنّى لا عن جُثّة.
الثاني من الأوجه الأربعة: أن القَائِمَ مقام الفاعل ضميره «مَنْ» والضمير في «عنه» يعُود على العذاب، والظَّرف منصوب، إمَّا ب «يُصْرف» وإمَّا على الحالِ من هاء «عنه» .
الثالث: أنَّ القائم مقام الفاعل «يومئذ» إمَّا على حذف مضاف أي: من يُصْرَف عنه فَزَعُ أو هَوْلُ يومئذ، وإمَّا على قيام الظروف دون مضاف، كقولك:«سير يوم الجمعة» ، وإنما بُنِيَ «يومئذٍ» على الفَتْح لإضافته إلى غير مُتَمَكِّنِ، ولو قُرِئَ بالرفع لكان جِائَزاً في الكلام، وقد قرئ:{وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66] فتحاً وجراً بالاعتبارين، وهما اعتبارانِ مُتَغَايِرَان.
فإن قيل: يلزمُ على عدم تقدير حَذْفِ المضاف إقامةُ الظِّرْفِ غير التام مقام الفاعل، وقد نصُّوا على أنَّ الظَّرْفِ المقطُوعَ عن الإضافة لا يُخبَرُ به، ولا يقوم مقام فاعل، ولو قلت:«ضُرب قبلُ» لم يَجُزْ، والزرف هنا في حكم المقطوع عن الإضافة فلا يجوز هنا قيامه مقام الفاعل، إلَاّ على حَذْفِ مضاف، فالجواب أن هذا في قُوَّة الظَّرْفِ المضاف؛ إذ التنوين عِوَضٌ عنه، وهذا ينتهضُ على رَأي الجمهور أما الأخفش فلا، لأنَّ التنوين عنده تَنْوِنيُ صَرْفِ والكَسْرُ كَسْرُ إعراب.
والرابع: أنَّ القائم مقامَهُ «عنه» ، والضميرُ في «عنه» يعودُ على «مَنْ» ، و «يومئذٍ» منصوب على الظَّرْفِ، والعامل فيه «يُصْرَفْ» ، ولا يجوز الوجهان الأخيران، أعني نَصْبَهُ على الحالِ، لأن الضمير لجُثَّة والزَّمَان لا يقع حالاً عنهما، كما لا يَقَعُ خبراً، وأعني كونه مَعْمُولاً للعذاب، إذ ليس هو قائماً مقام الفاعلِ.
والثاني من وَجْهي «مِنْ» في مَحَلِّ نصب بفعل مُضْمَرٍ يفسّره الظاهرُ بعده، وهذا إذا جعلنا «عنه» في مِحَلِّ نصب بأنْ يُجْعَلَ القائم مقامَ الفاعل: إمَّا ضميرَ العذاب، وإمَّا «يومئذ» .
والتقدير: مَنْ يكرم اللَّهُ، أو من يُنَجِّ يُصْرَفْ عنه العذابُ أو هولُ يومئذ، ونظيره:«زيدٌ به مُرُور حسن» ، أقمت المصدر فبقي «عنه» منصوب المَحَلّ.
والتقدير: جاوزت زيداً مُرَّ به مُرُور حسن، وأمَّا جُعل «عنه» قائماً مقام الفاعل تعيَّنَ رفعهُ بالابتداء.
وأعلم أنه متى قلت: مَنْصُوبٌ على الاشتغال، فإنما يُقدَّر الفعل بعد «مِنْ» ؛ لأن لها صدر الكلام، ولذلك لم أظْهِره إلَاّ مؤخّراً، ولهذه العِلَّةِ منع بعضهم الاشتغال فيما له صَدْرُ الكلام كالاسْتِفهَامِ والشرط.
والتنوين في «يومئذٍ يكون الجزاء، وإنَّما قلنا ذلك؛ لأنه لم يتقدَّم في الكلام جملةٌ مُصَرَّحٌ بها يكون التنوين عَوَضاً منهان وقد تقدَّم خلافُ الأخفش.
وهذه الجملة الشَّرطيَّةُ يجوز فيها وجهان: الاستئناف، والوصف ل» عذاب يوم «، فحيثُ جعلنا فيها ضميراً يعود على عذاب يوم، إمَّا مِنْ» يُصَرف «، وإمَّأ مِنْ» عنه «جاز أن تكون صفةٌ وهو الظَّاهر، وأن تكون مُسْتأنفةً، وحَيْثُ لم نجعلُ فيها ضميراً يعود عليه - وقد عرفت كيفية ذلك - تعيَّنَ أن تكون مُسْتَأنَفَةً، ولا يجوز أن تكون صِفَةً لخلوِّها من الضمير.
وَرجَّع بعضهم إحْدى القراءَتَيْنِ على الأخرى، وذلك على عَادتِهِمْ، فقال أبو عَلِيِّ الفارسي: قراءة» يَصْرِف «يعني المبنيَّ للفاعل أحْسَنُ لمناسبة قوله:» رحمه «، يعني: أنَّ كُلَاّ منهما مَبْنيُّ للفاعل، ولم يقل:» فقد رُحِمَ «واختارها أبو حَاتِم، وأبو عُبَيْد، ورجَّعَ بعضهم قراءة المبنى للمفعول بإجماعهم على قراءة قوله:{لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] يعني في كونه أتى بصيفة اسم المَفْعُول المُسْنَدِ إلى ضمير العذابِ المذكور أوَّلاً.
ورجَّحَهَا محمد بن جرير بأنها أقَلُّ إضماراً، ومكي رحمه الله تَلَعْثَم في كلامه في ترجيحه لقراءة الأخوين، وأتى بأمثلةٍ فَاسِدَةٍ في كتاب» الهداية «له.
قال ابن عطية:» وقد تقدَّمَ أوَّلَ الكتاب عن ثَعْلبٍ وغيره من العلماء أنَّ ترجيح إحدى القراءاتِ المتواترة على الأخرى بحيث تُضِعَّفُ الأخرى لا يجوز «.
والجملة من قوله:» فقد رحمه «في محلّ جَزْمٍ على جواب الشرط والفاء واجبة.
قوله:» وذلِكَ الفَوزُ «مبتدأ وخبر جيء بهذه الجُمْلَةِ مقرِّرةً لما تقدَّم من مضمون
الجملة قبلها، والإشارَةُ ب» ذلك «إلى المَصْدَرِ المفهوم من قوله:» يُصْرف «، أي: ذلك الصرف.
و» المبين «يحتمل أن يكون مُتَعَدِّياً، فيكون المفعول مَحْذُوفاً، أي: المبين غيرَه، وأن يكون قاصراً بمعنى يبين، وقد تقدَّمَ أنَّ» أبان «، يكون قاصراً بمعنى» ظَهَرَ «، ومتعدّياً بمعنى» أظهر «.
هذا دليل آخر في بَيَانِ أنه لا يجوز للعاقلِ أنْ يتّخذ ولياً غير الله.
و «الباء» في قوله: «بِضُرِّ» للتعدية، وكذلك في «بخير» ، والمعنى: وإن يمسك اللَّهُ الضُّرَ، أي: يجعلك ماسَّاً له، وإذا مست الضر فقد مَسَّك، إلَاّ أن التَّعديَةَ بالباء في الفعل المُتَعَدِّي قليلةٌ جداً، ومنه قولهم:«صَكَكْتُ أحَدَ الحجرين بالآخر» .
وقال أبو حيان: ومنها قولهك تعالى {وَلَوْلَا دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة: 251] .
وقال الواحدُّ: رحمه الله: «إن قيل: إن المَسَّ من صِفَةِ الأجَسْامِ فكيف قال: وإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ؟
فالجواب» الباء «لتعدية، والباء والألف يتعاقَبَانِ في التَّعديَةَ، والمعنى: إن أمَسَّك اللَّهُ ضُرّاً، أي: جعله مَاسَّك، فالفعلُ للضُّرِّ، وإن كان في الظاهر قد أسند إلى اسمِ اللَّهِ تعالى، كقولك:» ذهبَ زيدٌ بعمرو «، وكان الذَّهابُ فِعْلاً لعمرو، غير أن زيداً هو المُسَبِّبُ له والحاملُ عليه، كذلك هنا الميسُّ للضُرِّ، والله - تعالى - جعله مَاسّاً» .
قوله: «فلا كاشف له» : «له» «: خبر» لا «، وثمَّ مَحْذُوفٌ تقديره: فلا كاشف له عنك، وهذا المحذوف لي متعلِّقاً ب» كاشف «، إذ كان يلزمُ تنوينه وإعرابه، بل يتعلَّق بمحذوف، أي: أغني عنه. و» إلَاّ هو «فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدلٌ من مَحَلّ» كاشف «فإن مَحَلَّه الرفع على الابتداء.
والثاني: أنه بَدَلٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ في الخبر، ولا يجوز أن يرتفع باسم الفاعل، وهو» كاشف «؛ لأنه مطوَّلاً [ومتى كان مطوَّلاً] أعْرِبَ نَصْباً، وكذلك لا يجوز أن يكون بَدَلاً من الضمير المُسْتَكِنّ في» الكاشف «للعلَّةِ المتقدّمة؛ إذ يحلُّ مَحَلُّ مَحَلَّ المبدل
فإن قيل: المقابل للخير هو الشَّر، فكيف عدل عن لَفْظِ الشَّرِّ؟ والجواب أنه أراد تَغْلِيبَ الرحمة على ضِدِّهَا، فأتى في جانب الشَّرِّ بأخَصَّ منه وهو الضُّرُّ، وفي جانب الرَّحْمَةِ بالعام الذي هو الخَيْرُ تعليباً لهذا الجانب.
قال ابن عطية: نابَ الضُّرُ مَنَابَ الشِّرِّ، وإن كان الشِّرُّ أعَمَّ منه، فقابل الخير.
وهذا من الفصاحةِ عُدُولٌ عن قانون التكليف والصيغة، فإن باب التكليف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مُتءترناً [بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مُضاهاة فمن ذلك] {إِنَّ لَكَ أَلَاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تعرى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تضحى} [طه: 118 - 119] فجاءؤ بالجوع مع العُرْي، وبابه أن يكون مع الظَّمَأ.
ومنه قوله امرئ القيس: [الطويل]
2119 -
كَأنِّيَ أرْكَبْ جَواداً لِلَذَّةِ
…
وَلَمْ أتَبَطَّنْ كَاعِباً ذَاتَ خَلْخَال
وَلَمْ أسْبإ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أقُلْ
…
لِخَيْلِيَ كُرِّي كرَّةً بَعْدَ إجْفَالِ
ولم يوضّح ابن عطيَّة ذلكن وإيضاحه في آية «طه» اشْتَرَاكُ الجوع والعُرْي في شيء خاص وهو الخلُوُّ، فالجوع خُلُوُّ وفراغٌ من الباطن، والعُرْيُ خُلُوِّ وفراغٌ من الظَّاهرِ واشتراك الظَّمَأ والضِّحَي في الاحتراق، فالظَّمَأُ احترافي في الباطن، ولذلك تقول:«بَرَّدَّ الماءُ حَرارةَ كبدي وأوام عطشي» .
والضَّحَى: احْتِرَاقُ الظَّاهر.
وأمَّا البيتان، فالجامعُ بين الرُّكوب لِلذَّةِ وهو الصيد وتبطُّن الكَاعِب اشتراكهما في لَذَّةِ الاسْتِعْلاءِ، والقهر والاقْتِنَاصِ والظّفر بمثل هذا المركوب، ألا ترى إلى تسميتهم هَنَ المرأة «رَكَباً» ، بفتح الراء والكاف، وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كقوله:[الرجز]
2120 -
إنَّ لَهَا لَرَكَباً إرْزَبَّا
…
كَأنَّهُ جِبْهَةُ ذَرَّي حَبَّا
وأمَّا البيت الثاني فالجامعُ بين سَبَأ الخمر، والرُّجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذْل، فشراءُ الخَمْرِ بَذْلُ المال، والرجوع بعد الانهزام بَذْلُ الروح.
وقدَّم تبارك وتعالى مَسَّ الضُّرِّ الخير لمناسبة اتِّصالِ مسِّ الضُّر بما قبله من التَّرْهيبِ المدلول عليه بقوله تعالى: «إنِّي أخَافُ» ، وجاء جواب الشَّرْط الأوَّل بالحَصْر إشارةً إلى اسْتِقلالِهِ بكشف الضُّرُ دون غيره، وجاء الثاني بقوله تعالى {فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُير} إشارةً قدرته الباهرة، فيندرج فيها المَسُّ بخير وغيره، على أنَّه لو قيل: إنَّ جواب الثاني مَحْذُوفٌ لكان وَجْهاً أي: وإن يمسك بخيرٍ فلا رَادَّ لِفَضْلِهِ، للتصريح بمثله في موضع آخر.
فصل
والمرادُ بالقاهر الغالب، وفي «القاهِرِ» زيادَةُ معنى على القدرةِ وهو منع غيره من بلوغ المُرَادِ.
وقيل: المنفرد بالتَّدْبير الذي يجبرُ الخَلْق على مُرَادِه.
قوله: «فوق» فيه أوجه:
أظهرها: أنه مَنْصُوبٌ باسم الفاعل قَبْلَهُ، والفوقيَّةُ هنا عبارةٌ عن الاسْتِعْلاءِ والغَلَبَة.
أحدهما: أنه قاهرٌ.
والثاني: أنه فوق عباده بالغَلَبَةِ.
والثالث: أنه بَدَلٌ من الخبر.
والرابع: أنه منصوبٌ على الحال من الضمير في «القاهرة» كأنهُ قيل: وهو القاهرُ
مُسْتَعْلِياً أو غالباً، ذكره المهدوي وأبو البقاء.
الخامس: أنها زائدةٌ، والتقديرُ: وهو القَاهِرُ عِبَادَةُ.
ومثله: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} [الأنفال: 12] وهذا مردود؛ لأن الأسماء لا تزاد.
ثم قال «وهو الحكيم» أي في أمره، «الخبيرُ» بأعمال عباده.
قال الكَلْبِيُّ: أتى أهْلُ «مكة» رسوله الله صلى الله عليه وسلم َ، فقالوا: أرِنَا من يشهد بأنك رسول اللَّهِ، فإنَّا لا نَرَى أحَداً يُصَدِّقك، ولقد سالنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أنه ليس لك عِنْدَهُمْ ذكرٌ، فأنزل الله تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادة} أي: أعظم شهادة، فإن أجَابُوكَ، وإلَاّ فقل:{الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُم} على ما أقول لأني أوحي إليَّ هذا القُرْآن مُعَجزاً لأنكم أنتم البُلَغَاءُ والفصحاء، وقد عجزتم عن مُعَارضته، فكان مُعْجِزاً، وإذا كان مُعْجِزاً كان إظهار الله - تعالى - له على وَفْقِ دَعْواي شهادة من اللَّهِ على كوني صادقاً في دَعْوَاي.
قوله تعالى: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ} مبتدأ وخبرٌ، وقد تقدَّمَ أن «أيَّا» بعض ما تضاف إليه، فإذا كانت استفهامية اقتضى الظَّاهِرُ أن يكون مُسَمَّى باسم ما أضيف إليه.
قال أبو البقاء رحمه الله: «وهذا يُوجِبُ أن يُسَمّى اللَّهُ تعالى» شيئاً «، فعلى هذا تكون الجلالةُ خبرَ مبتدأ محذوف [والتقدير: الله أكبر شَهَادَةً، و» شهيد «على هذين القولين خَبَرُ مبتدأ محذوف] أي: ذلك الشيء هو الله تعالى، ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ خبره محذوف أي: هو شهيدٌ بيني وبينكم، والجملةُ من قوله:» قل اللَّه «على الوَجْهَيْنِ المتقدمين جواب ل» أي «من حَيْثُ اللفظ والمعنى، ويجوز أن تكون الجلالةُ مبتدأ، و» شهيد «خبرها، والجملة على هذا جواب ل» أيّ «من حيث المعنى، أي: إنها دالّةٌ على الجواب، وليست به.
قوله:» شَهَادَةً «نَصْبٌ على التمييز، وهذا هو الذي لا يَعْرَفُ النحاةُ غيره.
وقال ابن عطية رضي الله عنه: ويَصِحُّ على المفعول بأن يُحْمَلَ» أكثر «على
التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل وهذا ساقط جدّاً؛ إذ نصَّ النحويون على أان معنى شبهها باسم الفاعل في كونها تؤنّث وتُثَنَّى، وتُجْمَعُ، وأفعلُ مِنْ لا تُؤنَّثُ ولا تُثَنَّى ولا تُجْمَعُ، فلم يُشبه اسم الفاعل، حتَّى إنَّ أبا حيَّان نَسَبَ هذا الخِبَاطَ إلى النَّاسخِ دون أبي محمد.
قوله:» بيني وبينكم «متعلِّقٌ ب» شهيد «، وكان الأصل: قل اللَّهُ شهيدٌ بيننا، فكُرِّرت» بين «توكيداً، وهو نظير قوله:[الوافر]
2121 -
فَأيِّي ما وأيُّكَ كَانَ شَرًّا
…
فَسيقَ إلى المَقَامَةِ لا يَرَاهَا
وقوله: [الرجز]
2122 -
يَا ربَّ مُوسَى أظْلَمِيَ وأْظْلَمِيَ وأظْلَمُه
…
ْ أرسل عليه مَلِكاً لا يَرْحَمُهْ
وقوله: [الكامل]
2133 -
فَلَئِنْ لَقيتُكَ خَالِيَتْنِ لَتَعْلَمَنْ
…
أيِّي وَأيُّك فَارِسُ الأحْزَابِ
والجامع بينهما: أنَّهُ لمَّا أضاف إلى» الياء «وَحْدَها احتاج إلى تكرير ذلك المضاف.
ويجوزُ أبو البقاء أن يكون» بيني «متعلّقاً بمحذوف على أنَّهُ صفة ل» شهيد «، فيكون في مَحَلّ رفع، والظاهر خلافُهُ.
قوله: «وأوْحِيَ» الجمهور على بِنَائِهِ للمفعول، وحُذِف الفاعل للعمل به، وهو الله تبارك وتعالى.
و «القرآن» رفع به.
وقرأ أبو نهيك، والجحدري، وعكرمة، وابن السَّمَيْفَع:«وأوْحَىط ببنائه للفاعل،» القرآن «نَصْباً على المفعول به.
و» لأنْذِرَكُمْ «متعلِّقٌ ب» أوحي «.
قيل: وثمَّ مَعْطُوف حُذِفَ لدلالة الكلام عليه، أي: لأنذركم به وأبَشِّركم به، كقوله
تعالى: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ن وتقدم فيه نظائرُن وقيل: لا حاجة إليه، لأن المقام مَقَمامُ تخويف.
فصل في بيان معنى الآية
والمعنى: اللَّهُ شهيدٌ بيني وبينكم أنِّي قد أبلغكم وصدّقْتُ فيما قلته وادَّعْتُهُ من الرسالة، والقرآن أيضاً شَاهِدق بنبوتِّي لأنذركم به يا أهل» مكة «ن ومن بلغه القرآن العظيم.
قوله تعالى:» ومَنْ بَلَغَ «فيه ثلاثةُ أقوال:
أحدهما: أنه في مَحَلِّ نَصْبِ عطفاً على المنصوب في» لأنْذِرَكُمْ «، وتكون» مَنْ «موصولةٌ، والعائِدُ عليها من صِلَتِهَا مَحْذُوفٌ.
أعني: ولأنذر الذي بلغه القرآن الكريم من العَرَبِ والعَجَمِ.
وقيل: من الثَّقَلَيْنِ.
وقيل: من بَلَغَهُ [من القرآن الكريم] إلى يوم القيامةِ.
وعن سعيد بن جبير:» من بلغه من القرآن، فكأنما رأى مُحَمَّداً عليه الصلاة والسلام «.
الثاني: أنَّ في» بَلَغَ «ضميراً مرفوعاً يَعُودُ على» مَنْ «، ويكون المفعول محذوفاً، وهو منصوب المَحَلّ أيضاً نَسَقاً على مَفْعُول» لأنذركم «والتقدير: ولأنذر الذي بَلَغَ الحُلُمَ، فالعَائِدُ هنا مُسْتَتِرٌ في الفعل.
الثالث: أنّ» مَنْ «مرفوعةُ المحلِّ نَسَقاً على الضَّميرِ المرفوع في» لأنذركم «، وجاز ذلك؛ لأنَّ الفصل بالمفعول والجارِّ والمجرور أغْنَى عن تأكيده، والتقديرُ: لأنذركمن به، ولينذركم الذي بَلَغَهُ القرآن.
قوله:» أإنًّكُمْ «الجمهور على القراءة بهمزتين: أولاهما للاستفهام، وهو استفهامُ تَفْريعٍ وتوبيخ.
قال الفراء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ولم يَقُل آخر لأن الآلهة جمع، والجمع يقع
عليه التأنيث، كقوله:{وَللَّهِ الأسمآء الحسنى} [الأعراف: 180] وقوله: {فَمَا بَالُ القرون الأولى} [طه: 51][ولم يقل الأوّل، ولا الأولينن وكل ذلك صوابٌ] وقد تقدَّم الكلامُ في قراءاتٍ مثل هذا.
قال أبو حيَّان:» وبِتَسْهيلِ الثانية، وبإدخال ألف بين الهمزة الأولى والهمزة المُسَهَّلَة، روى هذه الأخيرة الأصمعي عن أبي عمرو، ونافع «انتهى.
وهذا الكلام يؤذن بأنها قراءةٌ مُسْتَغْرَبَةٌ، وليس كذلك، بل المَرْوِيُّ عن أبي عمرو رضي الله عنه المَدُّ بين الهَمْزَتَيْنِ، ولم يُخْتَلَفْ عن قالون في ذلك.
وقرئ بهمزة واحدة وهي محتملةٌ للاستفهام، وإنَّما حُذِفَتْ لفهم المعنى، ودلالة القراءة الشهيرة عليها، وتحتمل الخبر المَحْضَ.
ثم هذه الجملة الاستفهامية، يحتمل أن تكون مَنْصُوبَةَ المَحَلّ لكونها في حَيَّزِ القول، وهو الظَّاهرن كأنه أُمِرَ أن يقول: أيُّ شيء أكْبَرُ شَهَادً’ وأن يقول أإنكم لتشهدون.
ويحتمل أن تكون داخلَةً في حيَّزه فلا مَحَلّ لها حينئذٍ، و «أخرى» صفةٌ ل «آلهة» ؛ لأن ما لا يَعْقِل يُعَامَلُ جَمْعُهُ مُعاملةَ الوحداةِ المؤنّثة، كقوله:{مَآرِبُ أخرى} [طه: 18]، و {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى} [الأعراف: 180] كما تقدَّم.
قوله: «إنَّمَا هُوَ إلَهٌ واحِدٌ» [يجوز] في «ما» هذه وجهان:
أظهرهما: أنها كافَّةٌ ل «إنَّ» عن عملها، و «هو» مبتدأ، و «إله» خبر، و «واحد» صفته.
والثاني: أنها مَوْصُولَةٌ بمعنى «الذي» ، وهو مبتدأ، و «إله» خبره، وهذه الجملةُ صَلَةٌ وعائد، والموصول في مَحَلِّ نصب اسماً ل «إن» و «واحد» خبرها.
والتقدير: إنَّ الذي هو إله واحد، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيف، ويَدُلُّ على صِحَّةِ الوجه الأوَّلِ تعيُّنُه في قوله تبارك وتعالى:{إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} [النساء: 171] ، إذ لا يجوز فيه أن تكون مَوْصُولَةً لخلوِّ الجملة عن ضمير الموصول.
وقال أبو البقاء في هذا الوَجْهِ: وهو ألْيَقُ مما قبله.
قال شهابُ الدِّين: رضي الله عنه: ولا أدري ما وجه ذلك؟
فصل فيما تفيده الآية
أعملم أنَّ هذا الكلام دَلَّ على إيجاب التَّوحيدِ، والبراءةِ من الشِّرْكِ من ثلاثة أوجه:
أولها: قوله: «قُلْ لا أشْهَدُ» بما تذكرونه من إثبات الشّثرَكَاءِ.
وثانيها: قوله: «قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ» ، وكلمة «إنَّمَا» تفيد الحَصْرَ، ولفظ الواحد صريحٌ في التوحيد، ونفي الشركاء.
وثالثها: قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} ، وفيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشُّرَكَاءِ.
قال العلماء: يُسْتَحَبُّ لمن أسلم ابتداءً أن يأتي بالشهادتين، ويبرأ من كل دينٍ سوى دين الإسلام.
ونصَّ الشَّافعي - رحمه اله تعالى - على استحباب ضَمَّ التَّبَرِّي إلى الشهادة، كقوله تبارك وتعالى:{وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} عقيب التّصريح بالتوحيد.
اعلم أنَّ الكُفَّار لمَّا سألوا اليهود والنَّصَارى عن صَفَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم َ، فأنكروا دلالة التَّوْرَاةِ والإنجيل على نُبُوًّتِهِ بَيَّنَ اللَّهُ - تعالى - في الآية الأولى أنَّ شهادةَ اللَّه على صِحًّةِ نُبُوَّتِهِ كافيةٌ في ثبوتها، ثُمَّ بَيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم: لا نعرف محمداً، لأنهم يعرفونه بالنُّبُوًّةِ والرسالة، كما يعرفون أبناءهم.
روي أنه لما قدم رسوله الله صلى الله عليه وسلم َ «المدينة» قال عمر لعبد الله بن سلام: أنزل اللَّهُ على نبيِّه هذه الآية، فكيف هذه المعرفة؟ فقال: يا عمرُ لقد عرفته فيكم حين رَأيْتُهُ، كما أعرف ابني، ولأنا أشَدُّ معرفةٌ بمحمد منِّي بابني؛ لأني لا أدري ما صنعَ النساء وأشهدُ أنه حَقّ من الله تعالى.
قوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} الموصول مبتدأن و «يَعْرِفُونه» خبره، والضميرُ المَنْصُوبُ يجوز عَوْدُهُ على الرسول صلى اله عليه الصلاة والسلام، وعلى القرآن لتقدُّمهِ قوله:«وأوحِيَ إليَّ هذا القُرآنُ لأنذركُمْ بِهِ» أو على التوحيد لدلالة قوله: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} [الأنعام: 19] أو على كتابهم، أو على جميع ذلك، وأفرد الضمير باعتبار المَعْنَى، كأنَّهُ قيل: يعرفون ما ذكرنا وقَصَصْنَا.
وقد تقدَّم إعْرَابُ هذه الجملة في «البقرة» .
قوله: «الَّذينَ خَسِرُوا» في مَحَلّه أربعة أوجه:
أظهرها: أنه مبتدأ، وخبره الجملة من قوله:{فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ، ودخلت «الفاء» لما تقدَّم من شهب الموْصُولِ بالشرط.
الثاني: أنه نَعْت للذين آتياناهم الكتاب. قاله الزَّجَّاج.
الثالث: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين خسروا.
الرابع: أنه منصوبٌ على الذَّمِّ، وهذان الوجهان فَرْعَانِ على النعت؛ لأنهما مقطوعان عنه، وعلى الأقوال الثلاثة الأخيرة يكون {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} من باب عطف جملة اسمية على مَثْلَهَا، ويجوز أن يكون عَطْفاً على «خَسِرُواط وفيه نَظَرٌ من حيث إنه يؤدِّي إلى ترتُّب عدم الإيمان على خسرانهم، والظاهر أنَّ الخُسْرَانَ هو المترتب على عدم الإيمان وعلى الوجه الأول يكون» الذين خسروا «أعمُّ من أهل الكتاب الجاحدين والمشركين، وعلى غيره يكون خَاصّاً بأهل الكتاب، والتقدير: الذين خسروا أنفسهم منهم، أي: من أهْلِ الكتاب.
واسْتُشْكِلَ على كونه نَعْتاً الاستشهادُ بهم على كُفَّار قريش وغيرهم من العرب، يعني كيف يُسْتَشْهَدُ بهم، ويُذَمُّون في آيةٍ واحدة؟
فقيل: إنَّ هذا سيق للذَّم لا للاستشهاد.
وقيل: بل سِيقَ للاستشهاد، وإن كان في بعض الكلام ذَمٌّ لهم، لأنَّ ذلك بوجهين واعتبارين.
قال ابن عطية: فصَحَّ ذلك لاختلاف ما استشهد بهم فيه، وما ذُمُوا فيه، وأنَّ الذَّمَّ والاستشهاد ليسا من جِهِةٍ واحدةٍ.
فصل في بيان المراد من ظاهر الآية
ظَاهِرُ هذه الآية الكريمة يقتضي أن يكون علمهم بنُبُوَّةِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم َ علمهم بأبنائهم، وهنا سُؤالٌ - وهو أن يُقَالَ: المكتوب في التَّوْرَاةِ والإنجيل مُجَرَّدُ أنه سيخرج نَبِيٌّ في آخر الزمان يدعو الخَلْقَ إلى الحَقِّ، أو المكتوب فيه ذه االمعنى مع تعيين الزَّمَانِ والمكان والنَّسَبِ والصِّفَةٍ والحِلْيَةِ والشَّكْلِ، فإن كان الأول، فذلك القدر لا يَدُلُّ على أنَّ ذلك الشَّخْصَ هو مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم َ فكيف يَصِحُّ أن يقال: علمهم بنوبته مثل علمهم ببنوَّةِ أبنائهم وإن كان الثاني وجب أن يكون [جميع] اليَهُودِ والنَّصَارَى عالمين بالضرورة بأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم َ نَبِيُّ من عِنْدِ الله، والكَذِبٌ على الجَمْعِ العظيم لا يجوز، ولأنَّا نَعْلَمُ بالضرورة أن التوراة والإنجيل ما كانا مُشْتَمِلَيْنِ على هذه التفاصيل التَّامَّةِ الكاملة؛ لأن هذا التفصيل إمَّا
أن يُقَالَ: إنه كان بَاقِياً في التَّوْرَاةِ والإنجيل، أو كان مَعْدُماً في وَقْتِ طهوره، لأجل أن التَّحْريف قد تَطَرَّقَ إليهما قبل ذلك، والأول باطلٌ؛ لأنَّ إخْفاءَ مِثْلِ هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق والغرب مُمْتَنِعٌ.
والثاني: أيضاً باطل؛ لأن على هذا التقدير لم يكن يَهُودُ أهل ذلك الزمان، ونصارى ذلك الزَّمان عالمين بنبُوِّة مُحَمِّد صلى الله عليه وسلم َ علهمهم بنبوِّةِ أنبيائهم، وحينئدٍ يَسْقُطُ هذا الكلام.
والجوابُ ان يقالك المراد ب «الذين آتيناهم الكتاب» اليهود والنَّصارىن وهم كانوا أهْلاً للنَّظَرِ والاستدلال، وكانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول عليه الصلاة والسلام، فعرفوا بوساطة تلك المعجزات كونه رسولاً من عند اللَّهِ تعالى، والمقصود بمعرفتهم هي المعرفةُ من طريق النَّظرِ، والاستدلال من طري النَّقْلِ.
فصل في المراد بالخسران
قال المفسرون: معنى هذا الخُسْران أنَّ الله تبارك وتعالى جعل لكلِّ آدمي مَنْزِلاً في الجنِّةِ ومَنْزِلاً في النَّار، فإذا كان يوم القيامة جعل اللَّه تبارك وتعالى للمؤمنين مَنَازِلَ أهل النار في الجنة ولأهل النار منازل أهل الجنَّة في النَّار وذلك هو الخسران.
لمَّا بَيَّنَ خُسْرَانَ المنكرين في الآية الأولى بَيَّنَ في هذه الآية الكريمة سَبَبَ ذلك الخسران وهو أمران.
أحدهما: الافتراء على اللَّه كذباً، وهذا الافتراءُ يحتمل وجوهاً:
أحدهما: أن كُفَّار «مكة» المشرفة كانوا يقولون: هذه الأصنام شركاء الله، اللَّهُ أمرهم بعبادتها، وكانوا يقولون: الملائكة بَنَاتُ اللَّهِ.
وثانيها: أنَّ اليهود والنَّصارى كانوا يقولونك حصل في التَّوْراة والإنجيل أن هاتيْنِ الشريعيتين لا يَتَطَرَّقُ إليهما النَّسْخُ والتغييرُ.
وثالثها: ما حكاه تعالى عنهم بقوله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] .
ورابعها: قوله اليهود: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُه} [المائدة: 18] وقولهم: {لَن تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَاّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] وقول جُهَّالِهِمْ: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآء} [آل عمران: 181] ونحوه.
الأمرُ الثاني من أسباب خسارتهم؛ تكذيبهم بآيات الله تعالى: وقدحُهُمْ في معجزات محمد عليه الصلاة والسلام ُ - وإنكارهم كون القرآن العظيم معجزةً قاهرةً منه، ثم إنَّه لمَّا حكى عنهم سبب هذين الأمرين قال:{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظالمون} ، أي: الكافرون - أي لا يَظْفَرُونَ بِمطَالِبهمْ في الدنيا ولا في الآخرة.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ}
فيه خمسة أوجه:
أحدهما: أنه منصوبٌ بفعل مُضْمَرٍ بعده، وهو على ظرفيَّتِهِ، أي: يوم نحشرهم كان كيت وكيت، وحُذِف ليكون أبْلَغَ في التَّخْويفِ.
والثاني: أنه معطوفق على ظرفٍ محذُوفٍ، ذلك الظرف معمول لقوله:{لَا يُفْلِحُ الظالمون} [الأنعام: 21] والتقدير: أنه لا يفلح الظَّالمونَ اليوم في الدنيا، ويوم نحشرهم، قاله محمد ابن جَريرٍ.
الثالث: أنه منصوبٌ بقوله: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} [الأنعام: 24] وفيه بُعْدٌ لِبُعْدِهِ من عامله بكثرة الفواصِلِ.
الرابع: أنه مفعولٌ به ب «اذكر» مقدَّراً.
الخامس: أنه مفعولٌ به أيضاً، ونَاصِبُهُ: احذروا أو اتَّقُوا يوم نحشرهم، كقوله:{واخشوا يَوْماً} [لقمان: 33] وهو كالذي قبله فلا يُعَدُّ خامساً.
وقرأ الجمهور «نَحْشرهم» بنون العظمة، وكذا «ثم نقول» ، وقرآ حميد، ويعقوب بياء الغَيْبَةِ فيهما، وهو أنه تبارك وتعالى.
والجمهورعلى ضم الشين من «نَحْشُرهم» ، وأبو هريرة بكسرها، وهما لغتان في المُضَارع.
والضمير المنصوب في «نحشرهم» يعود على المفترين الكَذِبَ.
وقيل: على النَّاس كلهم، فيندرج هؤلاء فيهم، والتَّوْبيخُ مختصُّ بهم.
وقيل: يعود على المشركين وأصنَامِهِمْ، ويدلُّ عليه قوله:{احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22] .
و «جَمِيعاً» حالٌ نم مفعول «نحشُرهم» ن ويجوز أن يكون توكيداً عند من أثْبَتَهُ من النحويين ك «أجمعين» .
وعطف هنا ب «ثُمَّ» للتراخي الحاصل بين الحَشْر والقَوْلِ.
ومفعولا «تزعمون» محذوفان للعلم بهما، أي: تزعمونهم شركاء، أو تزعمون أنهما شُفَعَاؤكم.
وقوله: «ثُمَّ نَقُولُ للَّذينَ» إن جعلنا الضمير في «نَحْشُرهم» عائداً على المفترين الكذبَ، كان ذلك من باب إقامةِ الظَّاهرِ مقامَ المُضْمَرَ، إذ الأصل: ثم نقول لهم، وإنما أظْهِرَ تنبيهاً على قُبْحِ الشرك.
وقوله: {أيْنَ شُرَكاؤكُمْ} ؟ سؤالُ تَقْريع وتوبيخ وتَبْكيتٍ.
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: «كُلُّ زَعْمِ في كتاب الله فالمُرادُ به الكذبُ» .
قرأ حمزة والكسائي: «يَكُنْ» بالياء من تحت، «فتنتهم» نَصْباً.
وابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم:«تَكُنْ» بالتاء من فوق، «فَتْنَتُهُمْ» رفعاً.
والباقون بالتاء من فوق أيضاً، «فِتنتَهم» نصباً.
فأمَّا قراءة الأخويْنِ فهي أفْصَحُ هذه القراءات لإجرائِهَا على القواعد من غير تأويل، وَوَجْهُهَا أنَّ «فتنتهم» خبر مقدَّمٌ، وإن قالوا بتاويل اسم مؤخر.
والتقدير: «ثم لم تكن فِتْنَتهُمْ إلَاّ قولُهم» . وإنما كانت أفصحٍ؛ لأنه إذا اجتمع اسْمَانِ: أحدهما أعرفُ، فالأحْسْنُ جعله اسماً مُحَدَّثاً عنه، والآخر خَبَراً حديثاً عنه.
و «أن قالوا» يشبه المضمر، والمضمر أعرف المعارف، وهذه القراءة جُعِلَ الأعرفُ فيها اسْماً ل «كان» وغير الأعرافِ خبرها، ولم يؤنّث الفعل لإسناده إلى مذكر.
قال الواحدي: والاختبارُ قراءة من جعل «أن قالواط الاسم ذوي الخبر؛ لأنه إذا وصلت بالفعل لم تُوصَفْ، فأشبهت بامتناع وَصْفِهَا المُضْمَرِ، فكما أنَّ المُضْمَرَ، والمظهر إذا اجتمعا كان جَعْلُ المضمر اسماً أوْلَى من جعله خبراً، تقول: كنت القائم.
وأما قراءة ابن كثير ومن معه ف» فتنتهم «اسْمُهَا، ولذلك أنِّثَ الفِعلُ لإسناده إلى مؤنُّ، و» إلَاّ أنْ قالوا «خَبَرُهَا، وفيه أنك جعلت غير الأعرف اسماًن والأعرف خبراً، فليست في قُوَّةِ الأولَى.
وأمَّا قراءةُ الباقين ف» فتنتهم «خبر مقدمٌن و» إلَاّ أن قالوا «اسم مؤخَّرٌ، وهذه القراءةُ وإن كان فيها جَعْلُ الأعْرَفِ اسْماً - كالقراءة الأولى، إلا أنَّ فيها لِحَاقُ علامَةِ تأنيث في الفعل مع تذكير الفاعل، ولكنه بتأويل.
فقيل: لأنه قوله:» إلَاّ أنْ قالوا «في قوة مقالتهم.
وقيل: لأنه هو الفِتْنَةُ في المعنى، وإذا أخبر عن الشَّيءِ بمؤنَّثٍ اكتسب تأنيثاً، فعومل مُعامَلتهُ.
وجعل أبو علي منه {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] لمَّا كانت الأمْثَالُ هي الحَسَنَاتُ في المعنى عُومِلَ مُعَامَلَة المُؤنَّثِ، فسقطت» التاء «من عَدَدِهِ، ومثلُ الآية قوله:[الطويل]
2124 -
ألَمْ يَكُ غَدْراً مَا فَعَلْتُمْ بسَمْعَلٍ
…
وَقَدْ خَابَ مَنْ كَانَتْ سِرِيرتَه الغَدْرُ
ف» كانت «مُسْند إلى» الغَدْرِ «وهو مذكَّر، لكن لما أخبر عنه بمؤنث أنَّث فِعلَه.
ومثله قول لَبيدٍ: [الكامل]
2125 -
فَمَضَ وَقَدَّمِهَا وَكَانَتْ عَادَةً
…
مِنْهُ إذَا هِيَ عَرَّدَتْ إقْدَامُهَا
قال أبو عَلِيّ: فأنَّث الإقدام لما كان كالعادة في المعنى قال: وقد جاء في الكلام:» ما جاءَتْ حَاجَتُكَ «فأنّث ضمير» ما «حيث كانت كالحاجة في المَعْنَى، ولذلك نصب» حاجتك «.
وقال الزمخشري:» وإنما أنَّث « [أن] قالوا» لوُقُوعِ الخبر مؤنّثاً كقولهم: من كانت أمَّك «.
قال أبو حيَّان: وكلام الزَّمخشري ملفقٌ من كلام أبي عَلِيّ، وأمَّا» من كانت أمك «فإنه حَمَلَ اسمَ» كان «على معنى» مَنْ «ن فإنَّ لها لَفْظاً مُفرداً مذكّراً، ولها معنى بحسب ما تريد من إفراد وتَثنيٍة وجَمْعِ وتذكير وتأنيثٍ، وليس الحَمْلُ على المعنى لِمْرعَاةِ الخَبَرِ، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر، كقوله:
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] .
وقوله: [الطويل]
2126 -
…
-
…
...
…
... . .
تكُنْ مَثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ
…
قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ليت شِعْري، ولأي معنى خصَّ الزمخشري بهذا الاعتراض، فإنه وَارِدٌ على أبي عَلِيِّ أيضاً؟ إذ لقائل أن يقول: التأنيثُ في «جَاءَتْ» لحمل على معنى «ما» وإنْ لها هي أيضاً لفظاً ومعنى مَثْل «مَنْ» ن على أنه يقال: للتأنيث عِلَّتانِ، فذكر [إحداهما، ورجَّح] أبو عُبيدة قراءة الأخويْ ن بقراءة أبَيّ، وابن مسعود:«وما كان فتنتهم إلَاّ أن قالوا» فلم يُلْحِق الفعل علامة تأنيثٍ، ورجَّحها غيره بإجماعهم على نَصْبِ «حُجَّتهم» من قوله تبارك وتعالى:{كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَاّ أَن قَالُواْ} [الجاثية: 25] .
وقرئ شاذاً «ثم لم يكن فتنتهم إلا أنه قالوا» بتذكير «يكنْ» ، ورفع «فتنتهم» .
ووجه شُذُوذِهَا سقوط علامةِ التأنيث، والفاعل مؤنّث لَفْظاً، وإن كان غير حَقيقيِّ، وجَعْلُ غير الأعْرَفِ اسماً، والأعرف خبراً، فهي خبراً، فهي عَكْسُ القراءة الأولى، من الطَّرَفَيْنِ، و «أن قالوا» مما يجب تأخيره لِحصْرِهِ سواء أجُعِلَ اسماً أم خبراً.
فصل في معنى الفتنة في الآية
معنى قوله: «فتنتهم» ، أي: قولهم وجوابهم.
وقال ابن عبَّاس، وقتادة: معذرتهم، والفِتْنَةُ التِّجْرِبةٌ، فلمَّا كان سؤالهم تَجْرِبَةً لإظهار ما في قلوبهم قيل: فَتْنَة.
فصل في بيان لطيفة في الآية
قال الزَّجَّاج رحمه الله «لم تَكُنْ فتنتهم» معنى لَطِيفٌ، وذلك لأنَّ الله تبارك وتعالى بيَّن أنَّ المشركين مَفْتُونُونَ بِشِرْكِهِمْ متهالكين على حبّه، فأعلم
في هذه الآية الكريمة أنه لم يَكُنْ افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه إلَاّ أن تَبَرَّأوا عنه وتباعَدُوا، فَحَلفُوا أنهم ما كانوا مشركين، ومثاله أن ترى إنساناً ما يُحِبُّ طريقةً مذمومة، فإذا وقع في فِتْنَةٍ بسببه تَبَرَّأ منه، فيقال له:«ما كانت محبتك لفلان إلَاّ أن فَرَرْتَ منه» ، فالمُرَادُ بالفتنة هنا افْتَتَانُهُمْ بالأوْثَانِ، ويتأكد بما روى عَطَاءٌ عن ابن عباس أنه قال:«لم تكن فتنتهم» معناه: شركهم في الدنيا، وهذا القولُ راجعٌ إلى حذف المضاف؛ لأن المعنى ثُمَّ لم تكن عَاقِبَةُ أمرهم فتنتهم إلَاّ البَرَاءة.
قوله: «واللَّهِ رَبَّنَا» قرأ الأخوان: «ربَّنا» نَصْباً، والباقون جراً.
ونصبه: إمَّا على النِّداء، وإمَّا على النِّداء، وإمَّا على المَدْح، قاله ابن عطيَّة رحمه الله وإمَّا على إضْمَار «أعني» ، قاله أبو البقاء، والتقدير: يا ربنا.
وعلى كُلِّ تقدير فالجملة مُعْتَرضَةٌ بين القسم وجوابه، وهو قوله {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وخفضه من ثلاثة أوجه: النعت، والبدل، وعطف البَيان.
وقرأ عكرمة، وسلام بن مسكين:«واللَّهُ رَبُّنا» برفعهما على المبتدأ والخبر.
قال ابن عطية: «وهذا على تَقدِيمٍ وتأخيرٍ، كأنهم قالوا: واللَّهِ ما كُنَّا مشركين واللَّهُ ربُّنَا» يعني: أن ثَمَّ قَسَماً مُضْمَراً.
فصل في الكلام على الآية
ظاهرُ الآية الكريمة يقتضي أنهم حَلَفُوا في القيامة أنهم كانوا مشركين، وهذا يقتضي إقْدَامَهُمْ على الكذب يوم القيامة، وللناس فيه قولان:
الأول: وهو قول أبي عباس على الجبائي والقاضي -: أنه أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واحتج عليه بوجوه:
الأول: أن أهل القيامة يعرفون الله بالاضطرار وأنهم لو عرفوه بالاستدلال لصار موقف القيامة دَاَرَ تكُليفٍ، وذلك باطلٌ، وإذا كانوا عارفين بالله على سبيل الاضطرار
وجب أنْ يكونوا مُلْجئين على ألَاّ يفعلوا القبيح، وذلك يقتضي ألَاّ يقدم أحَدٌ من أهل القيامة على الكذبِ، فإن قيل: لم لا يجوز أن يُقالَ: إنهم أقدموا على فعل القَبيح؛ لأنهم لمَّا عَايَنُوا أهْوَال يوم القيامة اضطربت عُقُولُهُمْ، فقالوا هذا الكذب عند اخْتِلَالِ عقولهم، أو يقال: إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا؟
فالجواب عن الأوَّل: أنه لا يجوزأن يحشرهم ويوبخهم بقوله: {أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُون} [الأنعام: 22] ثم يحكي اعتذارهم مع أنهم غي عُقلاء، هذا لا يليقُ بحمة اللِّه تعالى.
وأيضاً فلا بُدَّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة ليعلموا أنهم فيما يعاملهم اللَّهُ به غير مظلومين. والجوابُ على الثاني: أنَّ نِسْيَانَهُمْ لما كانوا عليه طُول عمرهم في دار الدنيا مع كمال العقل [بعيدٌ] ، وإنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور.
الوجه الثاني: أنَّ هؤلاء الذين أقْدَمُوا على الكذب إمَّا أن يُقال: إنهم عُقَلاءُ أو غيرعقلاء، فالثاني باطلٌ، لأنه لا يليق بحكمةه الله تعالى أن يحكي كلام المجَانين في معرض تميهيد العُذْرِ وإن كانوا عقلاء يعلمون أنَّ كانوا عقلاء يعلمون أنَّ اللَّهَ عالمٌ أحْوَالَهُمْ مُطَّلِعٌ على افعالهم، ويعلمون أنَّ تجويز الكذب على اللَّهَ - تعالى - مُحَالٌ، وأنهم لا يستفيدون بذلك الكذب إلَاّ زيادة المَقْتِ والغَضَبِ، وإذا كان كذلك امتنع إقدامهم في مثل هذه الحالة على الكذب.
الوجه الثالث: أنهم لو كذبوا في مَوْقِفِ القيامة، ثُمَّ حَلَفُوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقْدَمُوا على نوعين من القَبيح، فإن قلنا: إنهم يستحُّون بذلك العقابَ، صارت الدار الآخرة دَارَ تكليف، وأجمعوا على أنَّ الأمْرَ ليس كذلك.
وإن قلنا: إنَّهم لا يستحقُّون على ذلك الكذب، ولا على ذلك الحلف الكاذب عَقَاباً، فهذا يقتضي حُصُول الإذن من اللَّهِ - تعالى - في ارتكاب القَبَائِِحِ، وذلك باطلٌ فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إقدَامُ أهل القيامة على القبيح والكذبِ، وإذا ثبت هذا فَيُحْمَلُ قولهم:«واللَّهِ ربَّنَا ما كنا مشركين» في اعتقادنا وظُنُوننا؛ لأن القوم يعتقدون ذلك.
فإن قيل: فعلى هذا التقدير يكنون صادقين في قولهم، فماذا قال تبارك وتعالى {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} فالجواب أنه ليس يجب من قوله:{انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} انهم كذبوا فيها تقدَّم ذِكْرُهُ من قولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِين} ، بل يجوز أن يكون المراد {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} في دار الدُّنْيَا في أمور يخبرون عنها بأنَّ ما هم عليه لَيْسَ بشرْكٍ، وأنهم على صواب ونحوه، فالمقصود من قوله تعالى:{انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} اخْتِلافُ الحالتين، وأنهم كانوا في دار الدنيا يكذبون، وأنهم في الآخرة يتحرَّزُون عن الكذب،
ولكن حيث لا ينفعهم الصِّدْقُ، فلتعلّق أحد الأمرين بالآخر، أظهر الله - تعالى - للرسول ذلك.
القول الثاني: قول جمهور المفسرين -: أن الكفار يكذبون في القيامة واسْتَدلُّوا بوجوه:
أحدهما: ما حكى اللَّهُ - تعالى - عنهم أنهم يقولون: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُون} [المؤمنون: 107] مع أنه - تعالى أخر عنهم بقول: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] .
وثانيها: قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} [المجادلة: 18] بعد قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب} [المجادلة: 14] فَشَبَّهَ كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدينا.
وثالثها: ما حَكَاهُ - تعالى - عنهم: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] .
والجوابُ عما قاله الجُبَّائي بان يُحْمَلَ قولهم ما كانوا مشركين في ظُنُونهم، هذا مُخَالفٌ للظَّاهرِ، ثّمَّ قوله بعد ذلك:{انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} بأنه مَحْمُولٌ على كذبهم في الدنيا يوجبُ تفكيك نَظْمِ الآية، وصَرْفََ أول الآية إلى أحوال القيامة، وصَرْفَ آخرها إلى أحوال الدنيا، وهو في غاية البُعْدِ.
وقولهم: كذبوا في حال كَمَالِ العَقْلِ، وحال نُقْصَانِهِ، فنقول: لا يبعد أنهم حَالَ ما عَايَنُوا أهوال القيامة، وشاهدوا مُوجِبَاتِ الخوف الشديد أخْتَلَّتْ عقولهم، فذكروا هذا الكلام.
قولهم: كيف يَلِيقُ بحكمة اللَّهِ - تعالى - أن يحكي عنهم ما ذكروه في حال اضْطَرَابِ العقول؟
فالجوابُ: هذا يوجب الخوف الشديد وذلك في دار الدنيا وأمَّا قولهم: إنَّ المكلفين لا بُدَّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة فنقو: اخْتلالُ عقولهم سَاعةً واحدة حالة ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع من كمالِ عقولهم في سِائرِ الأوقات.
قوله: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} «كيف» مَنْصُوبٌ على حدِّ نصبها في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] وقد تقدَّم.
و «كيف» وما بعدها في محل نصب ب «انظر» ؛ لأنها معلقةٌ لها عن العملِ، و «كّذَبُوا»
وإن كان معناه مُسْتَقْبلاً، لأنه في يوم القيامة، فهو لَتحَقُّقِهِ أبرزه في صورة الماضي.
وقوله: «وضَلَّ» يجوز أن يكون نَسَقاً على «كذبوا» ، فيكون داخلاً في حيَّز النَّظَرِ، ويجوز أن يكون اسْتِئنْافَ إخبارٍ، فلا يندرج في حيَّز المنظور إليه.
قوله: ما كانُوا «يجوز في» ما «أن تكون مصدريةً، أي: وضَلَّ عنهم افتراؤهم، وهو قول ابن عطية ويجوز أن تكون موصولة اسمية أي: وضل عنهم الذي كانوا يفترونه، فعلى الأول يحتاج إلى ضمير عائدٍ على» ما «عند الجمهور، وعلى الثاني لا بُدَّ من ضمير عند الجميع.
ومعنى الآية: انظر كيف كذبُوا على أنفسهم باعْتِذَارهم بالباطل وتَبرِّيهمْ عن الشرك.
و» ضلَّ عنهم «: زَالَ وذهب ما كانوا يفترون من الأصنام، وذلك أنهم كانوا يَرْجُونَ شَفَاعَتَهَا نُصْرَتَهَا، فبطل ذلك كله.
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْك}
راعى لفظ «مَنْ» فأفرد، ولو رَاعَى المعنى لجمع، كقوله في موضع آخر:{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ} [يونس: 42] .
وقوله: {على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} إلى آخره، حمل على معناها قوله:«وَجَعلْنَا» «جعل» هنا يحتمل أن يكون للتَّصْييرِ، فيتعدّى لاثنين، أوَّلُهُمَا:«أكنَّه» والثاني: الجار قبله، فيتعلّق بمحذوف، أي: صيَّرنا الأكِنَّة مستقرّة على قلوبهم، ويحتمل أن يكون بمعنى «خلق» ، فيتعدى لواحد، ويكنون الجار قبله حالاً فيتعلق بمحذوف؛ لأنه لو تأخر لوقع صفة ل «أكِنَّة» .
ويحتمل أن يكون بمعنى «ألقى» فتتعلّق «على» بهان كقولك: «ألقيتُ على زيد كذا» {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه: 39] .
وهذه الجملة تحتمل وجهين:
أظهرهما: أنها مُسْتأنَفَةٌ سيقت للإخبار بما تضَّمنَتْهُ من الخَتْمِ على قلوبهم وسمعهم. حال كونه مَجْعُولاً على قلبه كنانٌ، وفي أذنه وقرٌ، فعلى الأول يكون قد عطف جملة فعلية على اسمية، وعلى الثاني: تكون الواو للحال، و «قد» مضمرة بعدها عند مَنْ يُقَدِّرَها قبل الماضي الواقع حالاً.
والأكِنَّةُ: جمع «كِنَان» ، وهو الوعَاءُ الجامع.
قال الشاعر:
2127 -
إذَا ما انْتَضَوْهَا فِي الوَغَى مِن أكِنَّةٍ
…
حَسِبْتَ بُرُوقَ الغَيْثِ تَأتِي غُيُومُهَا
وقال بعضهم: «الكِنُّ» - بالكَسْرِ - ما يُحْفَظُ فيه الشَّيء، وبالفتح المصدر. يقال: كَننْتهُ كِنّاً، أي: جعلته في كِنِّ، وجُمِعَ على «أكنان» قال تبارك وتعالى:{مِّنَ الجبال أَكْنَاناً} [النحل: 81] .
والكِنَانُ: الغِطَاءُ السَّاتِرُ، والفعل من هذه المادة يُسْتعمل ثلاثياً ورُبَاعيَّاً، يقال: كَنَنْتُ الشَّيء، وأكنَنْتُه كنَّا وإكناناً، إلَاّ أن الراغب فَرَّق بين «فَعَلَ» و «أفْعل» ، فقال:«وخُصَّ كننت بما يستُر من بيت، أو ثوب، أو غير ذلك من الأجسام» ، قال تعالى:{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُون} [الصفات: 49] وأكننت بما يستر في النفس، قال تعالى:{أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] .
ويشهد لما قال قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78] وقوله تعالى: {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [القصص: 69] . و «كِنَان» يُجمع على «أكِنَّة» في القِلٌّةِ والكَثْرَةِ لتضعيفه، وذلك أن فَعالاً وفِعالاً بفتح الفاء وكسرها يُجْمَعُ في القِلَّةِ على «أفْعِلة» ك «أحمرة» و «أقْذِلَة» ، وفي الكَثْرَةِ على فُعُل ك «حُمُر» ، و «قُذُل» ، إلَاّ أن يكون مُضاعفاً ك «بَتَات» وكِنَان «، أو معتل اللام ك» خباء و «قباء» ، فيلتزم جمعه على «أفْعِلَة» ، ولا يجوز على «فُعل» إلَاّ في قليلٍ من الكلام كقولهم:«غُنُن» ، و «حُجُج» في جمع «عِنان» و «حجاج» .
قال القرطبي: والأكِنَّةُ: الأغْطِية مثل: الأسنَّة والسَّنَان، والأعنَّة والعِنَان، كَنَنْتُ الشيء في كِنَّةٍ إذا صُنْتهُ فيه، وأكْنَنْت الشَّيء أخْفَيْتُهُ، والكِنَانَةُ معروفة، والكَنَّة - بفتح الكاف والنون - امرأة أبيك، ويقال: امرأة الابن أو الأخ لأنها في كنة.
قوله: «أنْ يَفْقَهُوهُ» في مَحَلِّ نَصْبٍ على المفعول من أجْلِهِ، وفيه تأويلان سَبَقَا.
أحدهما: كَرَاهَةَ أن يفقهوه، وهو رأيُ البصريين.
والثاني: حَذْفُ «لا» ، أي: أن لا يَفْقَهُوهُ، وهو رأيُ الكوفيين.
قوله: «وَقْراً» عطفٌ على «أكِنَّة» فَيَنْتَسِبُ انْتَصَابَهُ، أي: وجعلنا في آذانهم وقرأ و «في آذانهم» كقوله: «عَلَى قُلُوبِهِمْ» .
وقد تقدَّمَ أنَّ «جَعَل» يحتمل معاني ثلاثة، فيكون هذا الجار مبنيَّاً عليها من كونه مفعولاً ثانياً قُدِّمَ، أو متعلّقاً بها نفسها أو حالاً.
والجمهور على فتح الواو من «وَقراً» .
وقرأ طَلحةُ بن مُصَرفٍ بكسرها، والفرق بين «الوَقْر» و «الوِقْر» أنَّ المفتوح هو الثِّقَلُ في الأذُنِ، يُقال منه: وَقَرتْ أذنه يفتح القاف وكسرها، والمُضارع تَقِرُ وتَوْقَر، بحسب الفعلين ك «تعد» و «تَوْجَل» .
وحكى أبو زيد: أذُنٌ مَوْقُورة، وهو جَارٍ على القياس، ويكون فيه دليلٌ على أنَّ «وَقَرَ» الثلاثي يكون متعدياً، وسُمِع «أذنٌ مَوْقُورةٌط والفعل على هذا» أوْقَرْتُ «رباعياً ك» أكرم «.
و» الوِقْر «- بالكسر - الحِمْلُ للحمار والبَغْلِ ونحوهما، كالوَسْق للبعير.
قال تعالى: {فالحاملات وِقْراً} [الذاريات: 2] فعلى هذا قراءة الجموهور واضحةٌ، أي: وجعلنا في آذانهم، ثِقَلاً، أي: صَمَاً.
وأمَّا قراءة طَلْحَةَ، فكأنه جعل آذانهم وقَرَتْ من الصمم كما تُوقَرُ الدَّابَّةُ بالحِمْلِ، والحاصلُ أنَّ المادة تَدُلُّ على الثَّقَلِ والرَّرانة، ومنه الوَقَارُ للتُّؤدَةِ، والسَّكينة، وقوله تعالى:{وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} فيه الفَصْلُ بين حَرْفِ العَطْفِ وما عطفه بالجار مع كون العاطف [على حرف واحد] وهي مسألة خلاف تقدَّم تَحْقِيقُهَا في قوله: {أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58] .
والظاهِرُ: أن هذه الآية ونظرئرها مثل قوله تعالى: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201] ليس مما فُصِلَ فيه بين العاطف ومعطوفه كما تقدَّم.
فصل في بيان سبب نزول الآية
قال الكَلْبِيُّ عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: اجتمع أبو سفيان بن حَرْبٍ، وأبو جهل بن هِشَام، والوليدُ بن المُغيرَةِ، والنضر بن الحارث، وعُتْبَةُ وشَيْبةَ ابنا رَبِيعة، وأميَّة وأبَىُّ ابنا خلفّ والحرث بن عامرٍ يستمعون القرآن العظيم، فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة: ما يقول محمد؟ قال ما أدري ما يقول إلَاّ أنه يُحَرِّكُ لِسَانُه وشَفَتَيْهِ وَيَتَكَلَّمُ بأسَاطِير الأوَّلين مثل ما كنت أحَدِّيَكُم عن القرون الماضية، وكان النَّضر كَثِرَ الحديث عن القُرونِ وأخبارها، فقال أبو سفيان: أبي لأرى بَعْضَ ما يقول حقاً.
فقال أبو جَهْلِ: كَلاّ، لا تقرّ من هذا، وفي رواية: للموتُ أهونُ علينا من هذا، فأنزل الله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} أي: إلى كلامك، «وجَعَلْنَا علَى قُلُوبِهِمْ
أكِنَّةً» أغْطِيَةً جمع «كِنَان» ، كالأعِنَّة جمع «عِنَان» «أنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانْهِمْ وَقْراً» أي: صَمَاً وثقلاً.
فصل بيان الدلالة من الآية
احتج أهْلُ السُّنةِ بهذه الآية الكريمة على أنه - تعالى - يَصْرِفُ عن الإيمان، ويَمْنَعُ منه؛ لأنه - تعالى - جعل القَلْبَ في الكِنَانِ الذي يمنعه عن الإيمان.
قالت المعتزلة: لا يمكن إجْراءُ هذه الآية على ظَاهرِهَا لوجوهٍ.
أحدهما: أنه تبارك وتعالى وإنَّما أنزل القرآن العظيم حُجَّةً للرُّسُلِ على الكُفَّارِ، لا ليكون حُجَّةً للكُفِّارِ على الرسول صلى الله عليه وسلم َ ولو كان المرادُ من هذه الآية الكريمة أنه - تعالى - منع الكُفَّارَ عن الإيمان، لكان لهم أن يقولوا لرسول عليه الصلاة والسلام لما حكم بأنه منعنا من الإيمان فلم يَذِمَّنَا على ترك الإيمان ولم يدعونا إلى فعل الإيمان.
وثانيها: أنه تبارك وتعالى لو مَنَعَهُمْ من الإيمان، ثم دَعَاهُمْ إليه لكان ذلك تكليفاً لِلْعَاجِزِ، وهو مَنْفِيِّ بصريح العَقْلِ، وبقوله تبارك وتعالى:{لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
وثالثها: أنه - تعالى - حكى ذلك الكلام عن الكُفَّارِ في معرض الذَّم، فقال تعالى:{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] وقال في آية أخرى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُون} [البقرة: 88] .
وإذا كان قد حَكَى عنهم هذا المَذهَبَ في معرض الذَّم لهم امتنع أن يكون ذكره هنا في معرض التقريع والتوبيخ، وإلَاّ لَزِمَ التَّنَاقُضُ.
ورابعها: أنه لا نَزَاعَ في أنَّ القَوْمَ كانوا يَفْقَهُوَن، ويَسْمَعُونَ، ويعقلون.
وخامسها: أنَّ هذه الآية وَرَدَتْ في معرض الذَّمِّ على ترك الإيمان، وإذا كان هذا الصَّدُّ، والمَنْعُ من قِبَلِ الله - تعالى - لما كانوا مَذْمُمينَ، بل كانوا معْذُورينَ.
وسادسها: أن قوله: {حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} يَدُلُّ على أنهم كانوا يفقهون، ويُمَيِّزُونَ الحَقَّ من الباطل، وعند هذا فلا بُدَّ من التأويل وهو من وُجُوه:
الأول: قال الجُبَّائِيُّ: إنَّ القوْمَ كانوا يَسْتَمِعُونَ قِراءةَ الرسول عليه الصلاة والسلام ُ، لِيَتَوَصَّلُوا بسمامع قراءته إلى مَعْرِفةِ مكانه باليل، فيقصدوا قَتْلَهُ وإيذَاءهُ، فكان اللَّهُ تبارك وتعالى يلقي في قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنَّةِ ويثقل أسْماعَهُمْ عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النَّوْمِ، وهو المراد من قوله:{وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} .
الثاني: أن الإنسان الذي عَلِمَ الله - تعالى - منه أنه لا يؤمن، وأنه يموت على الكُفْرِ، فإنه تبارك وتعالى يَسِمُ قَلبهُ بعلامة مَخْصُوصَةٍ يستدلُ الملائكة برؤيتها على أنهم لا يُؤمِنُونَ، فلا يَبْعُدُ تلك العلامةِ بالكَنَانِ والغَطاءِ المانع، وتلك العلامَةُ في نفسها ليست مَانِعَةً عن الإيمان.
الثالث: أنَّهم لمَّا أصًرُّوا على الكُفْرِ، وصَمَّمُوا عليه صار عدولهم عن الإيمان، والحالة هذه كالكِنَانِ المانِعِ عن الإيمان، فذكر الله تبارك وتعالى الكَنَانَ كِنَايَةٌ عن هذا المعنى.
الرابع: إنه تعالى لما منعهم الألطاف التي يفعل بمَنْ اهتدى، فأخْلاهُمْ منها، وفوَّضَ أمورهم إلى أنفسهم لِسُوءِ صَنِيعِهِمْ، لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه بقوله:{وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} .
الخامس: أن يكون الكلامُ وَرَدَ حِكَاية لما كانوا يذكرونه من قولهم: «قلوبنا غُلْفٌ» ، وقالوا:{قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] .
فالجواب: أن العَبْدَ الذي أتى بالكُفْرِ إن لم يقدِرْ على الإتيان بالإيمان فقد صَحَّ قولنا: بأنه تبارك وتعالى هو الذي حمله على الكُفْرِ [وصَدَّهُ عن الإيمان، وإن كان القادر على الكُفْر قَادراً على الإيمان فيمتنع صيرورة تلك القدجرة مَصْدراً للكُفْرِ] دون الإيمان إلَاّ عند انْضْمَام تلك الدَّاعية، وقد تقدَّم أنَّ مجموع القُدْرَةِ مع الدَّاعي يوجب الفِعْل، فيكون الكُفْرُ علَى هذا التقدير من اللَّهِ تعالى، وتكون الدَّاعية الجارة إلى الكُفر كِنَاناً للقلب عن الإيمان، ووقراً للسَّمع عن اسْتِمَاع دَلائِلَ الإيمان، فإذا ثبت في الدَّليلِ العَقْليِّ صِحَّةُ ما دَلَّ عليه ظَاهِرُ الآية الكريمة وجب حَمْلُهَا عليه عَمَلاً بالبرهان، وظاهر القرآن.
قوله: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَة} أي من المُعْجِزَاتِ والدَّلالاتِ {لَاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} وهذا يَدُلُّ على فَسَادِ تأويل الجُبَّائي؛ لأنه لو كان المراد بالأكِنَّةِ إلْقاء النوم على قلوب الكُفَّار لئلا يمكنهم التَّوصُّل بسمامع صوْتِهِ إلى وجدان مكانه، لما كان قوله:{وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَة لَاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} لائقاً بذلك الكلام، ولوجب أن يُقالَ: وجعلنا على قلوبهم أكنَّةً أنْ يسمعوه؛ لأن المقصود الذي ذكره الجُبَّائي إنما يَحْصُلُ بالمَنْعِ من سماع الصَّوتِ، أمَّا المَنْعُ من الفِقْهِ لكلامه فلا تعلُقَ له بما ذكره الجبائي.
قوله: «حَتَّى إذَا جَاءُوكَ» قد تقدَّم الكلامُ في «حتَّى» الداخلة على «إذا» في أول «النساء» .
وقال: أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هنا «إذا» في موضع نَصْبٍ بجوابها، وهو «يقول» وليس ل «حتَّى» غايةٌ و «يجادلونك» حال، و «يقول» جواب «إذا» ، وهو العامل في «إذا» .
وقال الزمخشري: [وهي]«حتى» التي تقع بعدها الجُمَلُ، والجملة قوله:«إذا جَاءُكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ» ، و «يُجَادِلُونَكَ» في موضع الحَالِ، ويجوزُ أن تكون الجارةَ، فيكون «إذا جاءوك» في مَحَلِّ الجر، بمعنى «حتَّى» وقت مجيئهم، و «يجادلونك» حالٌ،.
وقوله: {يَقُولُ الذين كَفَرُوا} تفسيرٌ له، والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويُنَاكِرُونَكَ.
وفسَّرَ مُجَادَلَتَهُمْ بأنهم يقولون: {إِنْ هاذآ إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأولين} قال أبو حيَّان: «وقد وُفَّقَ الحوفي، وأبو البقاء، وغيرهما للصواب في ذلك» ثمَّ ذكر عِبَارَةَ أبي البقاء والحوفي، وقال أيضاً: و «حتى» إذا وقع بعدهما «إذا» ، يُحْتمل أن تكون بمعنى «الفاء» ، ويحتمل أن تكون بمعنى «إلى أن» ، فيكون التقديرُ: فإذا جَاءُوك يُجَادِلُونَكَ يقول، أو يكون التقدير: وجعلنا على قلوبهم أكنَّة، وكذا إلى أن قالوا: إن هذا إلَاّ أساطير الأوَّلين، وقد تقدَّم أن «يُجَادِلُونك» حالٌ من فاعل «جَاءُوكَ» ، و «يقول» : إمَّا جواب: «إذا» وإمَّا مفسَّرةٌ للمجيء، كما تقدَّم تقريره.
و «أساطير» فيه أقوال:
أحدهما: أنه جمع لواحد مُقَدَّرٍ، واخْتُلِفَ في ذلك المُقَدَّرٍ، فقيل: أسْطُورة، وقيل: أسْطَارة، وقيل أسْطُور، وقيل: أسْطَار، وقيل إسْطِيرة وقال بعضهم: بل لُفِظَ بهذه المفردات.
والثاني: أنه جَمْعٍ ف «أساطير» جمع «أسْطار» ، و «أسطار» جمع «سَطَر» بفتح الطاء، وأمَّا «سَطْر» بسكونها فَجَمْعُهُ في القِلَّةِ على «أسْطُر» ، وفي الكثرة على «سطور» ك «فَلْس» و «أفْلُس» و «فُلُوس» .
والثالث: أنه جَمْعُ الجَمْعِ ف «أساطير» جمع «أسْطَار» ، و «أسطار» جمع «أسْطُر» ، و «سَطْر» جمع «سَطر» وهذا مرويُّ عن الزَّجَّاج، وليس بشيء فإنَّ «أسْطَار» ليس جمع «أسْطر» ، بل هما مِثَالاً جَمْع قلَّة.
الرابع: أنه اسم جمع.
قال: ابن عطية: «هو اسمُ جمع لا واحد له من لفظه» وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ النحويين قد نَصُّوا على أنه كان على صيغةٍ تَخُصُّ الجُمُوع لم يُسمُّوه اسم جمع، بل يقولون: هو جمع ك «عَبَاديد» و «شَمَاطِيط» ، فظاهر كلام الرَّاغب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: أن «أساطير» جمع «سَطَر» بفتح الطاء، فإنه قال: وجمع «سَطَر» - يعين بالفتح - «أسطار» و «أساطير» .
وقال المُبَرَّد - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هي جمع «أسْطُورة» نحو: «أرْجُوحَة» و «أراجيح» و «أحْدُوثَة» و «أحاديث» .
ومعنى «الأساطير» : الأحاديث الباطلة والُّرَّهَات ممَّا لا حَقيقَةَ له.
وقال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: - أصلُ «الأسَاطير» من «السَّطْر» وهو أن يجعل شيئاً ممتداً مُؤلَّفاً، ومنه سَطْرُ الكتاب، وسطر من شجر مفروش.
قال ابن السكيت: يقال سَطْرٌ وسِطْرٌ، فمن قال:«سَطْر» فجمعه في القليل «أسْطُر» ، والتكثير «سْطُور» ، ومن قال:«سِطْر» فجمعه «أسْطَار» ، و «الأساطير» جمع الجمع.
وقال الجبائي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: واحدُ الأساطير «أسْطُور» و «أسطورة» و «إسطيرة» .
قال جمهور المفسرين: أساطير الأولين ما سَطَّرَهُ الأوَّلون.
وقال ابن عباس: معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها، أي: يَكْتُبُونَهَا.
قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} في الضميرين - أعني «هم» وهاء «عنه» - أوجه:
أحدهما: أن المرفوع يعود لعى الكُفَّارِ، والمجرور يعود على القرآن الكريم، وهو أيضاً الذي عَادَ عليه الضَّميرُ المَنْصُوب من «يَفْقَهُوه» ، والمُشَارُ إليه بقولهم:«إنْ هَذَا» .
والثاني: أنَّ «هم» يعود على من تَقدَّمَ ذكرهم من الكُفَّار، وفي «عنه» يعود على الرسول، وعلى هذا ففيه الْتَفَاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبَةِ، فإن قوله:{جَاءُوَكَ يُجَادلونك} خطابٌ للرسول عليه الصلاة والسلام، فخرج من هذا الخطاب إلى الغَيْبَةَ.
وقيل: يعود المرفوع على أبي طالب وأتْبَاعِهِ.
وفي قوله: «يَنْهَوْنَ» و «يَنْأوْنَ» تَجْنِيسُ التصريف، وهو عِبَارةٌ عن انفراد كل كلمة
عن الأخرى بحرف ف «ينهون» انفردت بالهاء، و «يَنْأوْن» بالهمزة، ومثله قوله تعالى:{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} [الكهف: 104]{بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُون} [غافر: 75] .
وقوله عليه الصلاة والسلام ُ: «الخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَوَاصِيْهَا الخَيْرُ» ، وبعضهم يسميه «تجنيس التَّحْريف» وهو الفرق بين كلمتين بحرف وأنشدوا في ذلك قول القائل:[الكامل]
2128 -
إنْ لَمْ أشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً
…
لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نِهابِ نُفُسِ
وذكر غيره أن «تجنيس التحريف» هو أن يكون الشَّكْلُ، فرقاً بين كلمتين، وجعل منه «اللُّهِى تفتح اللَّهى» وقد تقدَّم تحقيقه.
وقرأ الحسن و «يَنَوْن» بإلقاء حركة الهمزة على النونه وحذفها، وهو تخفيف قياسي.
و «النَّأيُ» : البُعْدُ، قال:[الطويل]
2129 -
إذَا غَيَّرَ النَّأيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَزَل
…
ْ رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةً يبْرَحُ
وقال الآخر في ذلك، فأجَادَ، [الطويل]
2130 -
ألَا حَبَّذا هِنْد وأرْضٌ بِهَا هِنْدُ
…
وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونِهَا النَّايُ والبُعْدُ
عطف الشيء على نفسه للمُغَايَرَةَ اللَّفْظيَّة يقال: نَأي زيد يَنْأى نَأياً، ويتعدَّى بالهمزة، فيقال: أنْأيْتُهُ، ولا يُعَدِّى بالتضعيف، وكذا كل ما كان عينه همزةً.
ونقل الواحدي أنه يقال: نَأيْنُهُ بمعنى نَأيْتُ عنهُ.
وأنشد المُبَرِّدُ: [الطويل]
2131 -
أعَاذِلُ إنْ يُصْبِحْ صَدَاي بِقَفْرَةٍ
…
بَعيداً نآنِي صَاحِبِي وَقَريبِى
أي: نَأى عَنَّي.
وحكى اللَّيْثُ: «نَأيْثُ الشيء» ، أي: أبْعَدْتُهُ، وأنشد:[الطويل]
2132 -
إذَا مَا الْتَقَينا سَالض مِنْ عَبَرَاتِنَا
…
شَآبيبُ يُنْأى سِيْلُهَا بالأصَابِع
فَبَنَاهُ للمفعول، أي: يُنَحِّى ويُبْعَدُ.
والحاصلُ أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على البُعْدِ، ومنه أتَنَأى أي: أفْعَلُ النَّأيَ. والمَنْأى: الموضع البعيدُ.
قال النابغة: [الطويل]
2133 -
فَإنَّكَ كالمَوْتِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي
…
وَإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتَأى عَنْكَ وَاسِعُ
و «تَنَاءَى» أي: تباعد، ومنه النُّؤيُ للحُفَيْرَةِ التي حول الخِبَاءِ لتبعد عنه الماء.
وقُرِئ: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [فصلت: 51] وهو مَقْلُوبٌ من «نأى» ، ويَدُلُّ على ذلك أنَّ الأصل هو المَصْدَرُ وهو «النَّأيُ» بتقديم الهمزة على حرق العِلِّة.
فصل في المراد بالآية وسبب نزولها
معنى الآية الكريمة أنهم يَنْهَوْنَ النَّاسَ عن اتِّبَع مُحَمَّدِ صلى الله عليه وسلم َ ويَنْأوْنَ عنه، أي: يبتاعدون عنه بأنفسهم نزلت هذه الآية في كُفَّار «مكة» المشرفة، قال محمد بن الحَنَفِيَّةِ والسُّدي والضَّحاك، وقال قتادةُ: يَنْهَوْنَ عن القرآن، وعن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم َ ويتباعدون عنه.
واعلم أنَّ النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم َ مُحَلٌ فلا بد أن يكون النهي عن فعل يتعلَّقُ به، فذكروا فيه قولين:
الأول: ينهون عن تَدَبُّرِ القُرْآنِ واستمامعه، وعن التَّصديقِ بنبوة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم َ والإقرار برسالته.
الثاني: قال ابن عبَّاسِ رضي الله عنه ومقاتل: نزلت في أبي طالب كان ينهى النَّاس عن أذَى النبي صلى الله عليه وسلم َ ويمعنهم ويَنْأى عن الإيمان به أي: يَبْعَدُ، حتى روي أنه اجتمع
إليه رؤوس المشركين، وقالوا: تَخَيَّرْ من أصْبَحِنَا وَجْهاً وادْفَعْ إلينا محمداً، فقال أبو طالب: ما أنْصَفْتُمُونِي أدْفَعُ إليكم ولدي لِتَقْتُلُوهُ وأرَبِّي وَلَدَكُمْ.
وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ دَعَاهُ إلى الإيمان فقال: لولا أن تُعِيِّرُني قُرَيْشٌ لأقرت بها عَينكَ، ولكن أذُبُّ عنك ما حييتُ، وقال فيه أبياتاً:[الكامل]
2134 -
واللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بجَمْعِهِم
…
ْ حَتّى أوَسَّدَ فِي التُّرابِ دَفِينَا
فَاصْدَعْ بأمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ
…
وابْشِرْ وَقَرَّ بِذاكَ مِنْكَ عُيُونَا
وَدَعَوْتَنِي وَعَرفْتُ أنَّكَ نَاصِحي
…
وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أمِينَا
وَعرَضْتَ دِنيا قَدْ عَلِمْتُ بأنَّهُ
…
مِنْ خَيْرِ أدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلَا الملامَةُ أو حذارُ مَسَبَّة
…
ٍ لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا
واعلم أنَّ القول الأوَّلَ أشبه لوجهين: د
أحدهما: أنَّ جميع الآيات المتقدمة في ذَمِّ طريقتهم، فلذلك كان يبغي أن يكون قولهم:«وهم ينهون عنه» مَحْمُولاً على أمْرٍ مذموم، وإذا حملناه على أنَّ أبا طالبٍ كان ينهى عن إيذائه لما حصل هذا النَّظْمُ.
وثانيهما: قوله تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَاّ أَنفُسَهُم} يعني به ما تقدم ذكره، ولا يَليقُ ذلك النهي عن أذِنَّيِهِن لأن ذلك حسن لا يوجب الهلاك.
فإن قيل: إنَّ {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَاّ أَنفُسَهُم} يرجع إلى قوله: {يَنْأوْنَ عَنْهُ} لا قوله: «ينهون عنه» ؛ لأن المراد بذلك أنهم يبعدون عنه بمُفَارَقَةِ دينه وترك موافقته وذلك ذَمٌّ.
فالجوابُ أن ظاهر قوله: {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَاّ أَنفُسَهُم} يرجعُ إلى كل ما تقدَّمَ ذِكْرُهُ، كما يقال:«فلان يبعد عن الشيء الفلاني وينفر عنه، ولا يَضُرُّ بذلك إلَاّ نفسه» ، فلا يكون هذا الضرر متعلّقاً بأحد الأمرين دون الآخر.
قوله: «وإن يهلكون» «إنْ» نافية كالتي في قوله: {إِنْ هاذآ} [الأنعام: 25] و «أنفسهم» مفعولٌ، وهو استثناءُ مُفَرَّغٌ، ومفعول «يَشْعرون» محذوف: إمَّا اقتصاراً، وإمّا اختصاراً، أي: وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم بتماديهم في الكُفْرِ وغُلُوِّهِمْ فيه، قاله ابن عباس.
لمَّا بيَّن أنهم يهلكون أنْفُسَهُمْ شَرَحَ كَيْفِيَّة ذلك الهلاك فقال: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} ، وبجواب «لو» محذوف لفهم المعنى، والتقدير:«لرأيت شيئاً عظيماً وَهَوْلاً مُفْظَعْاً» .
وحذف الجواب كثر في التَّنْزِيلِ، وفي النظم كقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} [الرعد: 31] .
وقول الآخر [في ذلك:][الطويل]
2135 -
وَجَدِّكَ لَوْ شَيءٌ أتَانَا رَسُولُهُ
…
سِوَاكَ ولَكِنْ لَمْ نَجَدْ لَكَ مَدْفَعاَ
وقوله: [الطويل]
2136 -
…
- فَلَوْ أنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَة
َ ولَكنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أنْفُسَا
…
وقله الآخر فأجاد: [الكامل]
2137 -
كَذَبَ العَوَاذِلُ لَوْ رَأيْنَ مُنَاخَا
…
بِحَرْيزِ رَامَهض والمَطِيُّ سَوَامِي
وحذفُ الجواب أبْلِغُ [قالوا:] لأن السَّامِعَ تذهب نَفْسُهُ كل مذهب، ولو صرَّح له بالجواب وطَّنَ نفسه عليه فلم يحسن منه كثيراً، ولذلك قال كثير في ذلك:[الطويل]
2138 -
فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ كُلُّ مُصِيبَةٍ
…
إذَا وطِّنَتْ يَوْماً لَهَا النَّفْسُ ذَلَّتِ
وقوله: «ترى» يجوز أن تكون بصريسةً، ومفعولها محذوف، أي: ولو ترى حالهم،
ويجوز أن تكون القَلْبِيَّةَ، [والمعنى:] ولو صرفتع فكرك الصحيح لأنْ تَتَدَبَّرَ حَالَهُمْ لازْدَدْتَ يقيناً.
وفي «لو» [هذه] وجهان:
أظهرهما: أنها الامتناعية، فينصرف المُضَارعُ بعدها للمُضِيَّ، ف «إذا» باقيةٌ على أصلها من دلالتها على الزَّمِنِ الماضي، وهذا وإن كان لم يقع بعدُ؛ لأنه سيأتي يوم القيامة، إلَاّ أنه أبرز في صورة الماضي لتحقُّقِ الوَعْدِ.
والثاني: أنها بمعنى «أنْ» الشَّرطيَّة، و «إنْ» هنا تكون بمعنى «إذا» ، والذي حمل [هذا] القائل على ذلك كَوْنُهُ لم يقع بعد وقد تقدَّمَ تأويله.
وقرأ الجمهور رضي الله عنهم: - «وُقِفُوا» مبنيَّا للمفعول من «وقف» ثلاثياً [و «على» يحتمل أن تكون على بابها وهو الظاهر أي: حبسوا عليها، أو عرضوا عليها، وقيل: يجوز] أن تكون بمعنى «في» ، أي في النَّار، كقوله:«» عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ «، اي: في ملك سليمان.
وقرأ ابن السَّمَيْفَعِ، وزيد بن علي:» وَقَفُوا «مبيناً للفاعل.
و» وَقَفَ «يتعدَّى ولا يتعدَّىن وفرَّقَتِ العَرَبُ بينهما بالمَصْدَرِ، فمصدر اللازم على» فُعُول «، ومصدر المُتعدِّي على» فَعْل «ولا يقال: أوْقَفْتُ.
قال أبو عمرو بن العلاء:» لم أسْمَعْ شيئاً في كلام العرب: «أوقفت فُلاناً» ، إلَاّ أنِّي لو رأيت رَجُلاً وافقاً فقلت له:«ما أوقفك هاهنا» لكان عندي حَسَناً «وإنما قال كذلك؛ لأنَّ تعدِّي الفِعْل بالهمزة مقيسٌ نحو: ضحك زيدٌ وأضحكته أنا، ولكن سَمِعَ غيره في» وقف «المتعدي أوقفته.
قال الراغب:» ومنه - يعني من لفظِ وقفتُ القوم - اسْتُعِيرَ وقفت الدَّابَّة إذا سَبلْتَهَا «فجعل الوقف حقيقةٌ في مَنْع المشي، وفي التَسْبِيلِ مَحَازاً على سبيل الاسْتِعَارَةِ، وذلك أن الشَّيْءَ المُسْبَلَ كأنه ممنوعٌ من الحركةن والوقف لفظٌ مشترك بين ما تقدَّمَ وبين سوارٍ من عاجٍ، ومنه: حمار مُوقَّفٌ بأرْسَاغِهِ مِثْلُ الوقْفِ من البَيَاضِ.
فصل في معنى الوقوف على النار
وقال الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ومعنى وقفوا على النَّار يحتمل ثلاثة أوجه:
الأول: يجوز أن يكون قد وفقوا عندها وهم يُعَاينُوها فهم موقوفون على أن يدخلوا النار.
الثاني: يجوز أن يكون وقفوا عليها وهي تحتهم بمعنى أنهم وقفوا فوق النَّار على الصِّراطِ، جِسْرٌ فوق جَهَنَّمَ «على النَّار» .
[الثالث:] معناه: أنهم عرفوا حقيقتها تعريفاً من قولك: «وقَّفْتُ فلاناً على كلام فلان» أي: عَلَّمتُهُ معناه وعرَّفته، وفيه الوجه المتقدِّم، وهو أن يكون «على» بمعنى «» في «، والمعنى أنهم يكونون غَائِصينَ في النَّارِ، وإنَّما صحَّ على هذا التقدير أن يقول: وقفوا على النَّار، لأن النَّار دَرَكَاتٌ وطَبَقَاتٌ بعضها فوق بعض، فيصح هناك معنى الاسْتِعْلَاء.
قوله:» يا لَيْتنا «قد تقدَّم الكلام في» يا «المُبَاشرة للحرف والفعل.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن كثير، والكسائي» ولا نثكَذِّبُ «و» نكون «برفعهما وبنَصْبهمَا حمزة، وحفصُ عن عاصم، وبرفع الأول ونصب الثاني ابن عامر، وأبو بكر.
ونقل أبو حيَّان عن ابن عامرٍ أنَّهُ نصب الفعلين، ثم قال بعد كلام طويل: عن ابن عامر:» ولا نكذِّب «بالرفع، و» نكون «بالنصب، فأمَّا قراءة الرفع فيهما، ففيها ثلاثةُ أوجه:
أحدهما: أن الرفع فيهما على العَطْفِ على الفِعْلِ قبلهما، وهو» نُرَدُّ «، ويكونون قد تَمَنَّوا ثلاثة أشياء: الرَّدّ إلى دار الدنيا، وعدم تكذيبهم بآيات ربهم، وكونهم من المؤمنين.
والثاني: أن» الواو «واو الحال، والمضارع خبر مبتدأ مُضْمَرٍ، والجُمْلَةُ الاسمية في مَحَلِّ نصب على الحال من مرفوع» نُرَدُّ «.
والتقدير: يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذَّبين وكائنين [من المؤمنين فيكون تمني الرد مقيداً
بهاتين الحالين، فيكون الفعلان] أيضاً داخلين في التمنّي.
وقد اسْتَشْكَلَ الناسُ هذهين الوجهين، بأن التَّمَنِّي إنشاءن والإنْشَاءُ لا يدخله الصِّدْقُ ولا الكذب، وإنما يدخلان في الأخبار، وهذا قد دَخَلَهُ الكَذِبُ لقوله تعالى:{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه:
أحدهما: ذكره الزمخشري - قال: هذا تَمَنِّ تضمَّنَ معنى العِدَة، فجاز أن يدخله التَّكْذِيبُ كما يقول الرَّجُلُ:» ليت اللَّه يرزقني مالاً فأحْسِن إليك، وأكَافِئَكَ على صَنيعِكَ «فهذا مُتَمَنِّ في معنى الواعد، فلو رُزِقَ مالاً ولم يُحْسِنَ إلى صاحبه، ولم يكافئه كذب، وصَحَّ أن يقال له كاذب، كأنه قال: إن رزقني اللَّهُ مالاً أحسنتُ إليك.
والثاني: أن قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الأنعام: 28] ليس متعلّقاً بالمتمني، بل هو مَحْضُ إخبار من الله تبارك وتعالى، بأنهم دَيْدَنهم الكَذِبُ وهجيراهم ذلك، فلم يَدْخُلِ الكذبُ في التمنِّي، وهذان الجوابان واضحان، وثانيهما أوضح.
والثالث: أنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ التمنِّي لا يدخله الصِّدْقُ ولا الكذب، بل يدخلانه، وعُزِيَ ذلك إلى عيسى بن عُمَرَ، واحتج على ذلك بقول الشاعر [حيث قال] :[الطويل]
2139 -
مُنَى إنْ تَكُنْ حَقَّا تَكُنْ أحْسنَ المُنَى
…
وإلَاّ فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَنا رَغْدَا
قال: «وإذا جاز أن تُوصَفَ المُنَى بكونها حَقّاً جاز أن تُوصَفَ بكونها باطلاً وكذباً» .
وهذا الجواب سَاقِطٌ جداً، فإن الذي وُصِفَ بالحَقِّ إنما هو المُنَى، و «المنى» : جمع «مُنْيَة» و «المُنْيَةُ» تُوصَفُ بالصِّدقِ والكذب مجازاً، لأنها كأنها تَعِدُ النَّفْسَ بوقوعها، فيقال لما وقع منها: صَادِق، ولِمَا يَقَعْ منها: كاذب، فالصِّدْق والكذب إنما دَخَلا في المُنْيَةِ لا في التمني.
والثالث من الأوجه المتقدمة: أن قوله: «ولا نُكَذِّبُ» خبر لمبتدأ محذوف، والجملة اسْتئنَافِيَّةٌ لا تعلُّقَ لها بما قبلها، وإنما عطفت هاتان الجملتان الفعليتان على الجلمة المُشْتملة على أدَاةِ التمني وما في حيِّزهَا، فليستْ داخلةً في التَّمَنِّي أصلاً، وإنما أخبرَ الله تبارك وتعالى عنهم أنهم أخْبَرُوا عن أنفسهم بأنهم لا يكذبون بآيات ربِّهم، وأنَّهُمْ يكونون من المُؤمنينَ، فتكون هذه الجملة وما عُطِفَ عليها في مَحَلِّ نصبٍ بالقول، كأنَّ التقدير: فقالوا: يَا لَيْتَناَ نُرَدُّ وقالُوا: نحن لا نُكَذِّب ونكُون من المؤمنين.
واختار سيبويه هذا الوجه وشبَّهَهُ بقولهم: «دَعْنِي ولا أعُودُ» ، أي: وأنا لا أعود تَرَكْتَنِي أو لم تتركني، أي: لا أعود على كُلِّ حالٍ، كذلك معنى الآية: أخْبروا أنهم لا يُكَذِّبُون بآيات ربهم، وأنهم يَكُونُون من المؤمنين على كل حالٍ، رُدُّوا أوة لم يُرَدُّوا.
وهذا الوجهُ وإن كان النَّاسُ قد ذكروه ورجَّحثوه، وأختار سيبويه رحمه الله كما مَرَّ، فإن بعضهم اسْتَشْكَلَ عليه إشْكَالاً، وهو: أنَّ الكَذِبِ لا يَقَعُ في الآخرة، فكيف وُصِفُوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قولهم «ولانُكَذِّب ونكون» ؟
وقد أجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أن قوله {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الأنعام: 28] اسْتيثَاقٌ لذَمِّهِمْ بالكذب، وأن ذلك شأنهم كما تقدَّمَ ذلك آنفاً.
والثاني: أنهم صَمَّوا في تلك الحَالِ على أنهم لو رُدُّوا لما عادوا إلى الكُفْرِ لما شَاهَدُوا من الأهْوالِ والعقوبات، فأخبر اللَّهُ - تعالى - أنَّ قولهم في تلك الحَالِ:«ولا نكذِّبُ» وإن كان عن اعتقاد وتصميم يتغير على تقدير الرَّدِّ، ووقوع العَوْدِ، فيصير قولهم:«ولا نكذّب» كذباً، كما يقول اللِّصُّ عند ألم العقوبة:«لا أعود» ويعتقد ذلك ويصمم عليه، فإذا خُلِّصَ وعاد كاذباً.
وقد أجاب مَكّي أيضاً بجوابين:
أحدهما [قريب] مما تقدَّم، والثاني لغيره، فقال - أي لكاذبون في الدُّنْيَا في تكذيبهم الرُّسُلَ، فإنكارهم البَعْثَ للحال [التي] كانوا عليها في الدُّنْيَا، وقد أجاز أبو عمرو وغيره وُقُوعَ التكذيب في الآخرة، لأنهم ادَّعَوْا أنهم لو رُدُّوا لم يُكَذَّبوا بآيات الله، فعلم الله ما لا يكون لو كان كيف يكون، وأنهم لو رُدُّوا لم يؤمنوا ولكدَّبوا بآيات اللِّهِ، فأكذبهم اللَّهُ في دَعْوَاهُمْ.
وأمَّا نَصْبُهُمَا فبإضمار «أنْ» بعد الواو التي بمعنى «مع» ، كقولك:«ليت لي مالاً وأنْفِقَ منه» فالفعل منصوب بإضمار «أن» ، و «أنْ» مصدرية ينسبِكُ منها ومن الفعل بعدها مَصْدرٌ، و «الواو» حرف عَطْفٍ، فيستدعي معطوفاً عليه، وليس قبلها في الآية إلَاّ فعل، فكيف يُعْطَفُ اسْمٌ على فعل؟ فلا جَرَمَ أنْ نقدِّر مصدراً متوهّماً يُعْطَفُ هذا المصدر المُنْسَبكُ من «أنْ» وما بعدها عليه، والتقديرُ: يا ليتنا لنا رَدُّ، وانتفاء تكذيب بآيات ربنا وكَوْنُ من المؤمنين أي: ليتنا لنا ردٌّ مع هذين الشيئين، فيكون عدم التكذيب والكَوْنُ من
المؤمنين مُتَمَنَّيْيْنَ أيضاً، فهذه ثلاثة أشياء أعني الرَّدَّ وعدم التكذيب، والكون من المؤمنين مُتَمَنَّاةٌ بقيد الاجماع، لا أنَّ كُلَّ واحدٍ مُتَمَنَّي وَحْدَهُ؛ لما تقدَّم من أنَّ هذه «الواو» شرط إضمار «أنْ» بعدها: أن تصلح «مع» في مكانها، فالنصبُ يُعِّنُ أحد مُحْتَمَلاتِهَا في قولك:«لا تأكل السَّمَكَ وتشرب اللبن» وشبهه، والإشكال المتقدِّم وهو إدخال التكذيب على التمين ورادٌ هنا، وقد تقدم جوابه إلَاّ أن بَعْضَهُ يُتَعذَّر هنا، وهو كون «لا نكذِّبُ، ونكونُ» مُسْتَانَفَيْنِ سِيْقا لمجرد الإخبار، فبقي: إمَّا لكون المتني دَخَلَهُ معنى الوَعْدِ، وإمَّا أن قوله تبارك وتعالى:{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الأنعام: 28] ليس رَاجِعاً إلى تَمَنِّيهِمْ، وإمَّا لأنَّ التمِّني يدخله التكذيب، وقد تقدَّم فسادُهُ.
وقال ابن الأنباري رحمه الله: «أكْذَبَهم في معننى التَّمَنِّي، لأن تَمَنِّيهم راجعٌ إلى معنى:» نحنث لا نكذِّب إذا رُدِدْنا «فَغَلَّب عز وجل الكلام فَأكذَبَهُمْ، ولم يستعمل لفز التَّمنِّي» . وهذا الذي قاله ابن الأنباري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - تقدَّم معناه بأوضح من هذا.
قال أبو حيَّان: وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أن هذه «الواو» المنصوب بعدها هو على جواب التَّمَنِّي، كما قال الزمخشري: وقرئ: «ولا نكذِّبَ، ونكون» بالنصب بإضمار «أنْ» على جواب التمين، ومعناه إنْ رُدِدْنا لم نُكَذِّبْ، ونكن من المؤمنين.
قال: وليس كما ذَكَرَ، فإن نَصْبَ الفعل بعد «الوارو» ليس على جهة الجواب؛ لأن «الواو» لا تقعُ جواب الشَّرْط، فلا يَنْعَقِدُ ممَّا قبلها، ولا ممَّا بعدها شَرْطٌ وجواب، وإنما هي واو «مع» يُعْطَفُ ما بعدها على المَصْدَر المُتَوَهِّم قبلها، وهي واو العطف يتعيَّنُ مع النَّصْبِ أحدُ مَحَامِلِهَا الثلاثة: وهي المعيَّةُ ويميِّزها من «الفاء» تقديرُ «مع» موضعها، كما أنَّ فاء الجواب إذا كان بعدها فِعْلٌ منصوبٌ ميَّزَهَا تقديرٌ شرْط قبلها أو حَالٌ مكانها وشُبْهَةُ من قال: إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها «الفاء» ، فتوهَّم أنها جواب.
وقال سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انْتَصَبَ ما بعد «الفاء» ، والواو والفاء معناهما مختلفان، ألا ترى قوله:[الكامل]
2140 -
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَاتِيَ مِثْلَهُ.....
…
...
…
...
…
...
…
...
لو دخلت «الفاء» هنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد: لا تجمع النَّهْيَ والإتيان وتقول: «لا تأكل السِّمَكَ وتشرب اللبن» لو أدخلت الفاء هنا لفسد المعنى.
قال أبو حيَّان: ويوضِّح لك أنها ليست بجواب أنْفِرَادُ «الفاء» دونها، فإنها إذا حذفت انْجَرمَ الفعل بعدها بما قبلها لما تَضَمَّنَهُ من معنى الشَّرْطِ إلَاّ في النفي، فإن ذلك لا يجوز.
قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: قد سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزَّجَّاج، قال أبو إسحاق: نصب على الجواب بالواو في التَّمَنِّي كما تقول: «ليتك تَصِيرُ إليْنَا ونُكْرِمَكَ» .
المعنى: ليت مصيرك يقع وإكرامنا، ويكون المعنى:«ليت رَدَّنا وقع وأن لا نكذِّب» .
وأمَّا كون «الواو» ليست بمعنى «الفاء» فَصَحِيحٌ، على ذلك جُمْهُورُ النحاة، إلَاّ أنِّي رأيتُ أبا بكر بن الأنْبَارِيّ خَرَّجَ النَّصْبَ على وجهين:
أحدهما: أنَّ «الواو» بمعنى «الفاء» ، والتقدير: يا يلتنا نُردُّ فلا نكذِّبَ ونكونَ، فتكون «الواو» هنا يمنزلة «الفاء» في قوله:{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} [الزمر: 58] . يؤكد هذا قراءةُ ابن مسعود، وابن أبي اسحاق «يا ليتنا نُرَدُّ فلا نكذبَ» بالفاء [منصوباً] .
والوجه الآخر: النَّصْبُ على الصرف، ومعناه الحال، أي: يا ليتنا نُردُّ غي مكذِّبين.
أمَّا قراءة ابن عامر - برفع الأوَّل ونصب الثاني - فظاهرةٌ بما تقدَّم؛ لأن الأول يرتفع على حَدِّ ما تقدم من التأويلات، وكذلك نصب الثاني يتخرج على ما تقدم ويكون قد أدخل عدم التكذيب في التَّمَنِّي أو إسْتَأنَفَهُ، إلَاّ أنَّ المنصوبَ يحتمل أن يكون من تَمَام قوله:«نُرَدُّ» أي: تَمنَّوا الرَّدَّ مع كونهم من المؤمنين، وهذا ظَاهِرٌ إذا جعلنا:«ولا نكذب» مَعْطُوفاً على «نُرَدّ» أو حالاً منه.
وأمَّا إذا جعلنا «ولا نكِّب» مستأنفاً، فيجوز ذلك أيضاً، ولكن على سبيل الاعتراضِ، ويحتمل أن يكون من تمامِ «ولا نكذٍّب» أي: لا يكونُ منّا تكذيب مع كوننا
من المؤمنين في التمني، أو أستأنفه ويكون قوله:«ولا نكذب» حينئذٍ على حَالِهِ، أعني من احتماله العَطْفَ على «نُرَدُّ» أو الحاليّة، أو الاستئناف، ولا يخفى حينئذٍ دخول كونهم مع المؤمنين في التَّمَنِّي وخروجه منه بما تقدَّم تقريره.
وقُرئ شاذّاً عكس قراءة ابن عامرٍ، بِنَصْبِ «نكذبَ» ، ورفع «نكون» ، وتخريجها على ما تقدَّمَ إلاّ أنها يضعف فيها جَعْلُ «ونكونُ من المؤمنين» حالاً لكونه مُضَارعاً مثبتاً إلا بتأويل بَعيِيدٍ، كقوله:[المتقارب]
2141 -
…
...
…
...
…
...
…
نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكَا
أي: وأنا أرْهَنُهُمْ، وقولهم:«قمت وأصكُّ عَيْنَهُ» ، ويدلُّ على حذف هذا المبتدأ قراءةُ أبيِّ:«ونحن نكونُ من المؤمنين» .
فصل في تحرير معنى الرد
معنى الآية الكريمة: أنهم تَمَنَّوا الرَّدَّ إلى حالة التكليف، لأن لَفْظَ «الرَّدَّ» إذا استعمل في المُسْتَقْبَلِ في حالٍ إلى حالٍ، فالمعهود منه الرَّدُّ إلى الحالة الأولى، فإن الظَّاهِرَ مَنْ صدر عنه تَقْصِيرٌن ثمَّ عاين الشَّدائد والأهْوَال من ذلك التقصير أنه يتمنى الرَّدَّ إلى الحالة الأولى؛ ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصِيرَاتِ، وذلك التدارك لا يحصل بالعَوْدِ إلى الدنيا فقط ولا بترك التكذيب فقط، ولا بعمل الإيمان، بل إنَّما يَحْصُلُ التدارُكُ بمجموع هذه الأمور الثلاثة، فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني.
فإن قيل: كيف يحسنُ تمني الرد مع أنهم يعلمون أنَّ الرَّدَّ لا يحصل ألْبَتَّةَ؟
والجوابُ من وجهين:
أحدهما: لعلهم [لم] يعلموا أن الردَّ لا يحصل [ألبتة] ؟
والثاني: أنهم وإن علموا أن ذّلِكَ لا يَحْصُلُ إلَاّ أن هذا العلم لا يمنع من حصول إراة الرَّدِّ، كقوله تبارك وتعالى:{يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37] وقوله تعالى: {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} [الأعراف: 50] فلمّا صَحَّ أن يريدوا هذه الأشياء مع العِلْمِ بأنها لا تحصل، فبأن يتمنونه أقْرَبُن لأن باب التمني أوْسَعُ.
«بل» هنا للانْتِقَال من قِصَّةٍ إلى أخرى، وليست للإبطال، وعبارةُ بعضهم تُوهمُ أنَّ فيها إبْطالاً لكلام الكَفَرةِ، فإنه قال:«بل» رَدٌّ لِما تمنَّوْهُ أي: ليس الأمْرُ على ما قالوه؛ لأنهم لم يقولوا ذلك رَغْبَةً منهم في الإيمان، بل قالوه إشْفَاقاً من العذابِ وطَمَعاً في الرَّحْمَةِ.
قال أبو حيَّان: «ولا أدْرِي ما هذا الكلام» .
قال شهاب الدِّين: ولا أدري ما وَجْهُ عدم الدِّرَايَةِ منه؟ وهو كلامٌ صحيح ف نفسهن فإنهم لمَّا قالوا: ياليتنا كأنهم قالوا تَمَنَّيْنَا، ولكن هذا التمني ليس بصحيحٍ، لأنهم إنما قالوه تَقِيَّةً، فق يتمنى الإنسانُ شَيْئاً بلسانه، وقَلْبُهُ فَارغٌ منه.
وقال الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «بل» هنا استداركٌ وإيجابُ نَفْيِ، كقولهم:«ما قام زيد بل قام عمرو» .
وقال أبُو حيَّان: «ولا أدري ما النَّفْيُ الذي سَبَقَ حتى توجبه بل» ؟ قال شهابُ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: الظَّاهِرُ أن النفي الذي أراده الزَّجَّاج هو الذي في قوله: «ولا نكذِّبُ بآيات ربنا» إذا جعلناه مُسْتَأنفاً على تقدير: ونحنُ لا نُكَذِّبُ، والمعنى: بل إنهم مُكَدِّبُون.
وفاعلُ «بَدَا» قوله: «ما كانوا» ، و «ما» يجوز أ، تكون مَوْصُلةً اسميةً وهو الظَّاهرُ، أي: ظهر لهم الذي كانوا يُخْفُونَهُن والعائدُ محذوف، ويجوز أن تكون مصْدريَّةً، أي: ظهر لهم إخْفَاؤهُمْ، أي: عاقبته، أو أطْلِق المَصْدَرُ على اسم المفعول، وهو بَعِيدٌ، والظَّاهرُ أن الضميرين: أعني المجرور والمرفوع في قوله: {بَدَا لَهُمْ ما كَانُوا يُخْفُونَ} عائدان على شيء واحدٍن وهم الكُفَّار أو اليهود والنصارى خاصة.
وقيل: المجرور للأتْبَاعِ والمرفوعُ للرُّؤسَاءِ، أي: بل بدا للأتْبَاعِ ما كان الوُجَهَاءُ المتبوعون يُخْفُونَهُ.
فصل في معنى " يخفون "
واختلفوا في ذلك الذي أخفوه، فقال أبو روق: إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك، فيقولون:" والله ربنا ما كنا مشركين " فينطق الله جوارحهم،
فتشهد عليهم بالكُفْرِ، فذلك حين بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل.
قال الواحديّ: وعلى هذا القول أهل التفسير.
وقال المُبَرِّدُ: بَدَا لَهُمْ وبَالُ عقائدهم وأعمالهم وسُوءُ عاقبتها.
وقال الزجاج: بَدَا للأتْبَاعِ ما أخْفَاهُ الرؤساء عنهم من أمْرِ البعث والنشور، قال: ويدلُّ [على ذلك] أنه - تبارك وتعالى0 ذكر عَقِيبَهُ: وقالوا {إِنْ هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37] وهذا قول الحَسَنِ.
وقال بعضهم: هذا في المُنَافِقِينَ كانوا يُسِرُّون الكُفْرَ، ويظهرون الإسلام، وبدا لهم يوم القيامة، وهو ما كانوا يخفون من قبل.
وقيل: بَدَا لَهُمْ ما كان علماؤهم يخفون من جَحْد نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام ُ ونعته والبِشَارِةِ به، وما كانوا يُحَرِّفُونَ من التوراة.
قوله: «ولو رُدُّوا» قرأ الجمهور بضم الراء خالصاً.
وقرأ الأعمش، ويحيى بن وثاب، وإبراهيم:«رِدُّوا» بكسرها خالصاً.
وقد مَرَّ أن الفَعْلَ المُضَاعَفَ العين واللام يحوز في فائه إذا بُنِيَ للمفعول ثلاثة الأوجه المذكورة في «فاء» الثلاثي المُعْتَلِّ العين إذا بُنِيَ للمفعول، نحو: قِيلَ وبيعَ، وقد تقدَّم [ذلك] .
وقال الشاعرُ: [الطويل]
2142 -
وَمَا حِلَّ جَهْلٍ حُبَا حُلَمَائِنَا
…
وَلَا قَائِلُ المَعْرُوفِ فِينَا يُعَنَّفُ
بكسر الحاء.
قوله: «وإنهم لكاذبون» تقدمَّ الكلامُ على هذه الجملة: هل هي مُسْتَأنَفَةٌ أو راجعة إلى قوله: «يا ليتنا نُرَدُّ» ؟ .
فصل
والمعنى أنه تبارك وتعالى لو رَدَّهُمْ لم يحصل منهم تَرْكُ التكذيب وفَعْلُ الإيمان، بل كانوا يَسْتَمِرُّون على طريقتهم الأولى.
فإن قيل: إن أهْل القيامة قد عرفوا الله بالضرورة [وشاهدو أنواع] العقاب، فمع
هذه الأهوال كيف [يمكن] أن يقال: إنهم يَعُودُونَ إلى الكُفْرش والمعصية.
فالجواب: قال القاضي: تقديره: ولو رُدُّوا إلى حَالةِ التكليف، وإنَّما يَحْصُلُ الردُّ [إلى] هذه الحالة، إذا لم يحصل في القيامةِ مَعْرِفَةُ االلِّهِ بالضرورة، ولم يحصل هناك مُشَاهَدَةُ الأهوال وعذابُ جَهَنَّم، فهذا الشرط يكون مضمراً لا مَحَالَة.
وهذا الجوابُ ضعيفٌ، لأن المقصود من الآية الكريمة بَيَانُ غُلُوهِمْ في الإصرار على الكُفْرِ، وعدم رغبتهم في الإيمان، فلو قَدَّرْنَا عدمَ معرفة الله في القيامة وعدمَ مشاهدة الأهوال لم يكون إصْرَارُهُمْ على كفرهم الأول مزيد تَعجُّبٍ، وإذاً لم يكن اعتبار هذا الشَّرطِ الذي ذكره القاضي.
وقال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هذه الآية الكريمة من أظْهَرِ الدلائل على فساد قول المُعتزلةِ؛ لأن الله تبارك وتعالى بيَّن أنهم لو شاهدوا النَّار والعذابَ، ثم سألوا الرَّجْعَةَ ورُدُّوا إلى الدنيا لَعَادُوا إلى الشرك، وذلك للقضاء السَّابق فيهم، وإلَاّ فالعَاقِلُ لا يَرْتَابُ فيما شاهد.
قال القرطبي: وقد عَايَنَ إبليس ما عاينَ من آيات الله تبارك وتعالى ثم عَانَدَ.
قوله
: {وقالوا
} هل هذه الجملة مَعْطُوفة على جواب «لو» والتقدير ولو رُدُّوا لعادوا [ولقالوا] ، أو هي مُسْتأنَفَةٌ ليس دَاخِلَةٌ في خبر، أو هي معطوفة على قوله:{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الأنعام: 28] ثلاثة أوجه:
ذكر الزمخشري الوجهين الأوَّل والأخير، فإنه قال:«وقالوا» عطف على «لعادوا» ، أي لو رُدُّوا لكفروا، ولقالوا: إن هي إلَاّ حياتنا الدنيا، كما كانوا يقولون قبل مُعايَنةِ القيامة، ويجوز أن يُعْطَفَ على قوله:«وإنهم لكاذبون» [على معنى: وإنهم لَقَوْمٌ كاذبون] في كل شيء.
والوجه الأول منقول عن ابن زيد، إلَاّ أن ابن عَطِيَّة ردَّهُ فقال: وتوقِيفُ الله - تعالى - لهم في الآية بَعدها فيه دلالةٌ على البَعْثِ والإشارة إليه بقوله: «أليس هذا بالحقِّ» يردُّ على هذا التأويل، وقد يُجَابُ عن هذا باختلاف حالين: فإنَّ إقرارهم بالبعث حقيقة، إنما هو في الآخرة، وإنكارهم ذلك إنما هو في الدنيا بتقدير عَوْدهمْ إلى الدنيا، فاعرافهم به في الدار الأخرة غَيْرُ مُنَافٍ لإنكارهم إيَّاهُ في الدينا.
قوله: {إنْ هيَ إلا حَيَاتُنَا} «إن» نافية، و «هي» مبتدأ و «حَيَاتُنَا» خبرها، ولم يكتفوا بمجرد الإخبار بذلك حتى أبرزوها محصورةً في نفي وإثباتٍ، و «هي» ضمير مُبْهَمٌ يفسِّره خبره، أي: ولا نعلم ما يُرَادُ به إلَاّ بذكر خبره، وهو من الضمائر التي يفسِّرها ما بعدها لفظاً ورتبة وقد تقدم ذلك عند قوله:{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] وكون هذا مما يفسره ما بعده لفظاً ورتبةً فيه نظر، إذ لقائل أن يقول:«هي» تعود على شيء دلَّ على سياقِ الكلام، كأنهم قالوا: إنَّ العادة المستمرة، أو إن حَالَتَنَا وما عَهِدْنَا إلاِّ حياتنا الدنيا، واستند هذا القائل إلى قول الزَّمخشري:«هذا ضميرٌ لا يُعْلمَمُ ما يُرَادُ به إلَاّ بذكر ما بعده» .
ومثَّل الزمخشري بقول العرب «هِيَ النَّفْسُ تَتَحَمَّلُ ما حُمَّلَتْ» و «هي العرب تقول ما شاءت» . وليس فيما قاله الزمخشري دَلِيلٌ على أن الخبر مُفَسِّرٌ للضمير.
ويجوز أن يكون المعنى: إن الحَيَاة إلا حياتنا الدُّنْيَا، فقوله «إلا حياتنا الدنيا» دالٌّ على ما يُفَسِّرُ الضمير، وهو الحَيَاةُ مُطْلقاً، فصدق عليه أنه لا يعلم ما يُرَادُ ما يعود عليه الضمير إلَاّ بذكر ما بعده من هذه الحَيْثِيَة لا من حيثيَّة التفسير، ويَدُلُّ على ما قلنا قول أبي البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هي كِنَايَةٌ عن الحياة، ويجوز أن يكون ضمير القِصَّة.
قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: أمَّا أوَّل كلامه فصحيح، وأمَّا آخره وهو قوله:«إن هي ضمير القصّة» فليس بشيء؛ لأن ضمير القصِّة لا يفسَّرُ إلَاّ بجملةٍ مُصَرَّحٍِ بجزْأيْهَا.
فإن قيل: الكوفي يجوزُ تفسيره بالمفرد، فيكون نَحَا نَحْوهُمْ؟
فالجواب أنَّ الكوفيَّ إنما يُجَوِّزهُ بمفرد عامل عمل الفعل، نحو:«إنه قائم زيد» و «ظَنَنْتُهُ قائماً زيدٌ» لأنه في صورة الجملة إذ في الكلام مُسْنَدٌ ومُسْنَدٌ إليه.
أما نحو «هو زيد» فلا يجيزه أحدٌ، على أن يكون «هو» ضمير شأن لا قصّة، والدنيا صفة الحياة، وليست صِفَةً مزيلةً اشتراكاً عارضاً، يعني: أن ثَمَّ حياةً غير دنيا يُقرُّون بها؛ لأنها لا يعرفون إلَاّ هذه، فيه صَفَةٌ لمجرد التوكيد، كذا قيل، ويعنون بذلك أنها لا مَفْهُومَ لها، وإلَاّ قحقيقةُ التوكيد غَيْرُ ظاهرةٍ بخلاف {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] .
و «الباء» في قوله: «بمبعوثين» زائدةٌ لتأكيد الخبر المفني، ويحتمل مجرورها أن يكون مَنْصُوبَ المَحَلِّ على أنَّ «ما» هاهنا حجازيةٌ، أو مرفوعةٌ على أنها تميمية.