المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تأليف الدكتور عمر سليمان الأشقر - المدخل إلى دراسة المدارس والمذاهب الفقهية

[عمر سليمان الأشقر]

فهرس الكتاب

تأليف

الدكتور عمر سليمان الأشقر

ص: -1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

المَدْخَل إلَى دراسةِ المدارِسِ والمذاهِب الفقهيَّة

ص: 3

حُقُوقُ الطَّبع محَفوظَة

الطبعة الثَّانِيَة

1418 هـ - 1998 م

دَار النفائس للنشر والتوزيع

العبدلي - مُقَابل عمَارَة جَوْهَرَة الْقُدس

هَاتِف: 693940 - فاكس: 693941

ص. ب: 211511 - عمان 11121

الْأُرْدُن

[إِن دَار النفائس للنشر والتوزيع - الْأُرْدُن، هِيَ صَاحِبَة الْحق وَحدهَا فِي طباعة مؤلفات الدكتور عمر سُلَيْمَان الْأَشْقَر وَلَا صِحَة لما تزعمه بعض دور النشر من حُصُولهَا على إِذن من الْمُؤلف بطباعة مؤلفاته، وَعَلِيهِ فَلَا يجوز لأي جِهَة أَن تطبع أَو تترجم أَو تصور كتب الْمُؤلف الْمَذْكُور أَو جُزْءًا مِنْهَا، وسوف نقوم بالإجراءات القانونية المتبعة للحفاظ على حقوقنا]

ص: 4

‌المقدمة

الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى الدين القويم والصراط المستقيم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اهتدى بهديه وسلك سبيله إلى يوم الدين وبعد:

فإن المقصد من وراء هذا المؤلف إعانة طلبة العلم على التعرف إلى المدارس الفقهية والمذاهب الفقهية، بحيث يصبح مدخلاً لدراسة هذين الموضوعين.

وقد دعاني إلى تدوين هذا الكتاب ما رأيته من قصور لدى كثير من الطلبة في كليات الشريعة في المرحلة الجامعية الأولى، وفي المراحل المتقدمة في الدراسات العليا فيما يتعلق بالمدارس الفقهية والمذاهب الفقهية، وهذا القصور يظهر في دراستهم كما يظهر في أبحاثهم، ورسالتهم، وأكثر ما يتبدى هذا القصور في الدائرة التي يشملها المذهب، وطريقة تحقيق المذهب، والكتب التي تحققه، ولذا فإن هذا البحث يعد مدخلاً مفيداً لدراسة المذاهب الفقهية، يعين الدارسين والباحثين على أن يكونوا أكثر علماً بهذه المذاهب، وأكثر دقة في تحديد المذاهب، وأكثر قدرة في الرجوع إلى الكتب المعتمدة في كل مذهب.

وقد تم هذا البحث في ثلاثة أبواب:

الباب الأول يتناول بالدراسة المدارس الفقهية، وقد مهدت لهذا الباب ببيان المراد من هذا المصطلح، كما بينت أن هذه المدارس انقسمت إلى ثلاثة أقسام.

وعقدت فيه ثلاثة فصول للحديث عن كل مدرسة من هذه المدارس التي وجدت عبر التاريخ الإسلامي، وعقدت في كل فصل من الفصول الثلاثة عدة مباحث للتعريف بكل مدرسة، وتحدثت عن الأصول التي تقوم عليها هذه المدارس، والمحاسن التى تتصف بها، والمؤاخذات التي أخذت على كل

ص: 5

منها، وعقدت فصلاً رابعاً للموازنة بين المدراس الثلاثة.

وعقدت الباب الثاني للحديث عن المذاهب الفقهية، وقسمت هذا الباب إلى فصلين، الفصل الأول مخصص للتعريف بالمذاهب الفقهية.

وقد عرضت في المبحث الأول من هذا الفصل للكيفية التي تكونت بها المذاهب الفقهية.

وعرفت فيه المذهب في اللغة والاصطلاح.

كما بينت فيه خطأ الذين نسبوا إلى إمام المذهب كل ما يضمه المذهب من اجتهادات.

وعرضت في المبحث الثاني إلى جهود الأئمة في تصحيح مذاهبهم.

وبينت في المبحث الثالث السبب في صعوبة معرفة الصحيح من المذهب.

وخصصت المبحث الرابع للحديث عن الجهود التي قام بها علماء كل مذهب في تصحيح مذاهبهم وتهذيبها.

وقد عقدت لهذا المبحث خمسة مطالب.

بينت في المطلب الأول جهودهم في فقه أقوال إمام المذهب وتحديد مذهبه.

وذكرت في المطلب الثاني الطرق التي اتبعها علماء كل مذهب في تحقيق المذهب، وبينت في المطلب الثالث الخطأ الذي وقع فيه الذين كانوا يتخيرون من الأقوال بالتشهي والهوى.

وذكرت في المطلب الرابع نموذجاً لجهود مصححي المذهب.

وفي المطلب الخامس عرض لاجتهاد علماء المذهب، وفيه ذكر لبعض ضوابط اجتهاد هؤلاء العلماء، وقد عرضت في المطلب السادس لمسألة مهمة جدًّا، وهي مدى صحة القياس على قول إمام المذهب.

وقد خصصت الفصل الثاني للحديث عن المذاهب الأربعة التي لها أتباع حتى

ص: 6

اليوم، وقد ترجمت فيه لكل واحد من الأئمة الأربعة، موجزا قواعد مذهبه، متحدثاً عن علمه وفضله وشيوخه وتلامذته وتقدير أهل العلم له، مبيناً مدى انتشار مذهبه، متحدثاً عن أهم المصطلحات التي تدور على السنة علماء المذهب، ملقياً الضوء على مدونات المذهب والكتب المعتمدة فيه.

وفي الباب الثالث حديث عن موقف المسلم من الأئمة، وبيان حكم تقليدهم.

وقد عرفت في هذا الباب التقليد، وبينت حكمه، ورددت قول من أوجبه من وجوه كثيرة، وبينت في ختام هذا الباب الحالات التي يجوز التقليد فيها.

أرجو أن أكون قد قدمت في هذا الكتاب لطلاب العلم ما يوسع منهم الآفاق، ويرشد إلى الصواب، ويسدد المسار، ويقوِّم الانحراف، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

د. عمر سليمان الأشقر

كلية الشريعة - الجامعة الأردنية

عمان

ص: 7

‌الباب الأول

المدارس الفقهية

تمهيد: التعريف بالمدارس الفقهية.

* الفصل الأول: مدرسة أهل الحديث.

* الفصل الثاني: مدرسة أهل الرأي.

* الفصل الثالث: مدرسة أهل الظاهر.

* الفصل الرابع: موازنة بين المدارس الفقهية.

ص: 9

‌تمهيد:

التعريف بالمدارس الفقهية

تبلورت الاتجاهات الفقهية في عصر التدوين والأئمة المجتهدين في القرن الثاني الهجري، وشكَّل كل منها تيارا في الأمة الإسلامية، له زعماؤه وأتباعه، ووضع علماء كل اتجاه أصولا ومعالم ميزت طريقهم عن غيره، وبذلك تكونت المدارس الفقهية.

ولا يراد بالمدرسة الفقهية بناءٌ يتدارس فيه الفقه، ولكن يقصد بها طريقة ينتهجها الفقيه، فيأخذها عنه غيره، ويتابعونه عليها، وبذلك تصبح تياراً ومسلكاً، يُعْرَفُون بها دون غيرهم.

وقد نسبت المدارس في بداية الأمر إلى المدائن التي نشئت فيها، فالمدينة المنورة هي مهد مدرسة أهل الحديث، والكوفة مهد مدرسة أهل الرأي، ثم خرجت كل واحدة من المدرستين من مهدها، فشكلت تياراً له أتباعه في مختلف ديار الإسلام، فعرفت مدرسة أهل المدينة بمدرسة أهل الحديث، ومدرسة الكوفة باسم مدرسة أهل الرأي، وكل من اطلعنا على قوله من أهل العلم رأيناه يقصر المدارس الفقهية على هاتين المدرستين.

ولكننا نرى الظاهريين أتباع داود الظاهري قد استقلوا ببعض الأصول، مما يجعلنا نعدهم مدرسة مستقلة، وبذلك تصبح المدارس الفقهية في نظرنا ثلاث مدارس:

1 -

مدرسة أهل الحديث.

2 -

مدرسة أهل الرأي.

3 -

مدرسة أهل الظاهر.

ص: 11

‌الفصل الأول مدرسة أهل الحديث

‌المبحث الأول: مهد مدرسة الحديث وامتدادها

كان مهد مدرسة الحديث في أول نشأتها بالحجاز، وفي المدينة المنورة بالذات، وعُرفَت بمدرسة المدينة؛ لأنها مهد السنة، ومأوى الفقهاء، وبها سلالة الصحابة الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم، وحفظوا عنه الحديث وتناقلوه، واقتدوا به في أفعاله وتصرفاته، فكان من الطبيعي أن يتأثر فقهاء هذه المدرسة بفقهاء الصحابة الأوائل، وعلماء التابعين الذين استوطنوا المدينة، ونهجوا نهج الصحابة

وعلماء التابعين الذين كانوا يمثلون مدرسة المدينة كثيرون، وأشهرهم الفقهاء السبعة

(1)

، وقد كونوا المدرسة الفقهية الأولى، ووضعوا الأسس الأولى للمنهج الفقهي، وعملوا على نفاذ الحياة بأسرها -ومنها الحياة التشريعية- على القواعد الدينية والخلقية، التي استمدوها من القرآن الكريم

(2)

.

وقد انتهت رياسة مدرسة المدينة إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى، يقول ابن تيمية:"مالك أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه، كان له من المكانة عند أهل الإسلام -الخاص والعام- ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام"

(3)

.

وقد ضَمَّن الإمام مالك كتابه (الموطأ) ذلك المنهج الذي تلقاه عمن قبله، وقد تلقاه أولئك عن الصحابة.

(1)

انظر كتابنا: تاريخ الفقه الإسلامي، ص 85. وسيأتي ذكرهم قريبا.

(2)

مناهج الاجتهاد في الإسلام، لمحمد سلام مدكور: 100، نشرته جامعة الكويت.

(3)

صحة عمل أهل المدينة، لشيخ الإسلام ابن تيمية.

ص: 13

‌المبحث الثاني: مكانة مدرسة المدينة

لقد كان لمدرسة المدينة مكانة كبيرة عند الحكام والمحكومين، فخلفاء بني أميَّة كانوا يرجِّحون علماءَ الحجاز وقولهم على أهل الشام وقولهم، وكذلك كان المنصور والمهدي والرشيد -وهم سادات خلفاء بني العباس- يرجِّحون علماء الحجاز وقولهم على علماء أهل العراق، وعندما وجد فيهم من عدل إلى الآراء المشرقية كثر الإحداث فيهم وضعفت الخلافة

(1)

.

ويذكر مؤرخ الإسلام الذهبي وغيره أن الرشيد أراده على الخروج معه إلى بغداد فأبى

(2)

.

وذكر الذهبي في ترجمة الإمام مالك أن أبا جعفر المنصور قال للإمام مالك: "قد طلبت هذا الشأن في زمن بني أمية، فقد عرفته، فأمَّا أهل العراق فأهل إفك وباطل، وأما أهل الشام فأهل جهاد، وليس فيهم كبير علم، وأما أهل الحجاز ففيهم بقية علم"

(3)

.

كما يذكر ابن تيمية أن سائر أمصار المسلمين كانوا منقادين لعلم أهل المدينة، لا يعدُّون أنفسهم أكفاءهم في العلم، كأهل الشام ومصر، مثل الأوزاعي ومن قبله ومن بعده من الشاميين، ومثل الليث بن سعد ومَنْ قبله، ومَنْ بعده من المصريين، وتعظيمهم لعمل أهل المدينة، واتباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر بَيِّنٌ، وكذلك علماء أهل البصرة، كأيوب، وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي وأمثالهم

(4)

. وقد كان كبار العلماء يقدِّمون علماء أهل المدينة على غيرهم، وقد فضل الشافعي الإمامَ مالك على أبى حنفية في مناظرة جرت بينه وبين محمد بن الحسن.

(1)

صحة عمل أهل المدينة: 32.

(2)

الإكمال في أسماء الرجال. انظر مشكاة المصابيح: 3/ 987. إحياء علوم الدين: 1/ 27.

(3)

تاريخ الإسلام للذهبي: حوادث سنة: 171 - 180.

(4)

صحة عمل أهل المدينة: 26.

ص: 14

ففي تاريخ الإسلام للذهبي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال سمعت الشافعي يقول: "قال لي محمد بن الحسن أيما أعلم صاحبنا أو صاحبكم؟ (يريد بصاحبنا الإمام أبي حنيفة، وبصاحبكم الإمام مالك).

قلت: أنشدك الله من أعلم بالقرآن؟ قال: صاحبكم.

قلت: من أعلم بالسنة؟ قال: اللهم صاحبكم.

قلت: فمن أعلم بأقاويل الصحابة والمتقدمين؟ قال: صاحبكم.

قلت: لم يبق إلى القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، فمن لم يعرف الأصول فعلى أي شيء يقيس! "

(1)

وقد فضَّل الإمام أحمد الإمام مالكا على سفيان الثوري، مع أن سفيان كان أعلمَ أهل العراق بالفقه والحديث.

فقد قالوا للإمام أحمد: من أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك أم سفيان؟

فقال: بل مالك.

فقيل له: أيما أعلم بآثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك أم سفيان؟

فقال: بل مالك.

فقيل له: أيما أزهد مالك أم سفيان؟

فقال: هذه لكم

(2)

.

لقد كان مذهب أهل المدينة في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم كما يقول ابن تيمية "أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقاً وغربا في الأصول والفروع"

(3)

، ويقول ابن تيمية في موضع آخر: "في القرون التي أثنى

(1)

تاريخ الإسلام للذهبي. حوادث سنة 171 - 180. وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 8/ 76، 112.

(2)

صحة عمل أهل المدينة: 39.

(3)

صحة عمل أهل المدينة: ص 17.

ص: 15

عليها الرسول صلى الله عليه وسلم كان مذهب أهل المدينة أصح مذاهب أهل المدائن، فإنهم كانوا يتأسون بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سائر الأمصار، وكان غيرهم من أهل الأمصار دونهم في العلم بالسنة النبوية واتباعها، ولهذا لم يذهب أحد من علماء الإسلام إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة"

(1)

.

‌المبحث الثالث: انتشار مذهب أهل المدينة

لم يزل علماء أهل المدينة منذ عهد الخلفاء الراشدين يخرجون إلى مختلف أمصار المسلمين؛ لنشر العلم، وقد كان عمر بن عبد العزيز يرسل إلى علماء المدينة يسألهم، ويستفتيهم.

وطلب أبو جعفر المنصور من علماء الحجاز أن يذهبوا إلى العراق، وينشروا فيه العلم، فقدم عليهم هشام بن عروة، ومحمد بن إسحاق، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة ابن أبى عبد الرحمن، وحنظلة ابن أبى سفيان الجمحي، وعبد العزيز ابن أبي سلمة الماجشون، وغير هؤلاء، وكان أبو يوسف يختلف في مجالس هؤلاء، ويتعلم منهم الحديث، وأكثر عمن قدم من الحجاز

(2)

.

وقد رحل الناس من فجاج الأرض إلى الإمام مالك، فقد أخذ (الموطأ) عن الإمام مالك أهل الحجاز والشام والعراق، ومن أصغر من أخذ عنه الشافعي

(3)

.

وقد رحل تلاميذ الإمام أبى حنيفة إلى الإمام مالك، وأخذوا عنه العلم، وقد ذكر ابن تيمية مسائل سأل عنها أبو يوسف الإمام مالك

(4)

.

(1)

صحة عمل أهل المدينة: 20.

(2)

صحة عمل أهل المدية: 26.

(3)

صحة عمل أهل المدينة: 36.

(4)

صحة عمل أهل المدية: 25.

ص: 16

‌المبحث الرابع: ظهور مدرسة أهل الحديث في بغداد

لم تكن مدرسة أهل الحديث محصورة في إطار المدينة المنورة، ولا في إطار الحجاز، بل كان العلماء المنادون بها، والقائمون عليها منتشرون في كل قطر، ولكن أهل المدينة كانوا إلى عهد الإمام مالك أقوم بها من غيرهم، وبعد موت الإمام مالك وأمثاله من علماء الحجاز برزت بغداد من بين المدائن كأبرز معقل لأهل الحديث، لأنه قد سكن بها من أفشى السنة، وأظهر حقائق الإسلام، مثل أحمد بن حنبل، وأبي عبيد، وأمثالهما من فقهاء أهل الحديث، وظهرت بها السنة في الأصول والفروع منذ ذلك الوقت، وانتشرت السنة منها إلى الأمصار، وظهر في المشرق علماء أعلام، أمثال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه وأصحابه، وأصحاب عبد الله بن المبارك، وصار إلى المغرب من عِلم أهل المدينة ما نقل إليهم من علماء الحديث، فصار في بغداد وخراسان والمغرب من العلم ما لا يكون مثله إذ ذاك بالحجاز والبصرة

(1)

.

‌المبحث الخامس: أشهر علماء أهل الحديث

آلت زعامة مدرسة أهل الحديث إلى الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، يقول الشهرستاني:"أصحاب الحديث هم أهل الحجاز، هم أصحاب مالك بن أنس، وأصحاب محمد بن إدريس الشافعى، وأصحاب سفيان الثوري، وأصحاب داود بن علي الأصفهاني"

(2)

.

ونقل البيهقي في كتابه (المدخل) عن يحيى بن محمد العنبري قوله: "طبقات أصحاب الحديث خمسة: (المالكية، والشافعية، والحنبلية، والرهاوية،

(1)

راجع صحة عمل أهل المدينة: 32.

(2)

الملل والنحل، للشهرستاني: 1/ 206.

ص: 17

والخزمية)

(1)

، ومراده بالرهاوية أصحاب الإمام إسحاق بن راهويه، وبالخزمية أتباع محمد بن إسحاق بن خزيمة، وكانا من كبار علماء الحديث.

وليس مراد الشهرستاني ويحيى بن محمد أن أهل الحديث محصورون في هؤلاء، بل مراده أن هؤلاء هم أهل الحديث الذين لهم أتباع في العصور التي كان فيها هذان العالمان، ولا يزال لمالك والشافعي وأحمد أتباع إلى اليوم، وقد انقرض من عداهم.

أمَّا أهل الحديث المشهورون الذين لهم أتباع في هذا القرن الثاني والثالث فهم كثير، وأشهرهم في القرن الثاني الهجري: يحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجاج، وعبد الرحمن بن مهدي، والأوزاعي، والليث بن سعد

(2)

.

ومن مشاهيرهم في القرن الثالث الهجري: علي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبو بكر ابن أبي شيبة، وأبو زرعة الرازي، وابن جرير الطبري، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن قتيبة الدينوري

(3)

.

‌المبحث السادس: السبب في تسميتهم بأهل الحديث

يقول الشهرستاني: "وإنما سموا بأصحاب الحديث؛ لأن عنايتهم بتحصيل الأحاديث، ونقل الأخبار، وبناء الأحكام على النصوص، ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدوا خبرا أو أثرا"

(4)

وكانوا يكرهون الخوض بالرأي، ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بدًّا.

(1)

إعلام الموقعين: 2/ 284.

(2)

الحديث والمحدثون، لأبي زهرة: 387، وانظر مفاتيح الفقه الحنبلي: 1/ 55.

(3)

الحديث والمحدثون: 342، وانظر مفاتيح الفقه الحنبلي: 1/ 55.

(4)

الملل والنحل، للشهرستاني: 1/ 206.

ص: 18

ومدرسة أهل الحديث كان لها فضل السبق إلى تدوين السنة، وقد كابد علماء الحديث في سبيل جمع الحديث وتدوينه الشيء الكثير. وقد جمعوا السنة، وخلصوها مما شابها، ودونوها، وجمعوا مع السنة آثار فقهاء كلِّ بلد من الصحابة والتابعين، ودونوا المدونات التي تبحث في رجال الحديث، ووضعوا القواعد والضوابط التي يحكم بها على عدالة الرجال، وبذلك دُوِّنَ فن مصطلح الحديث، والجرح والتعديل.

‌المبحث السابع: أصول أهل الحديث في بيان الأحكام

لم يكن من طريقة أهل الحديث أن يقلدوا رجلا بعينه في كل ما يذهب إليه، ولذلك نجدهم اتبعوا منهجا واضحا للتوصل إلى الحكم الصحيح، من خلال ما وجدوه من الأحاديث والآثار، وقد بين الدهلوي أصول هذا المنهج ومعالمه

(1)

:

1 -

إذا وجدوا في المسألة قرآنا ناطقا، فإنهم لا يجيزون التحول منه إلى غيره، فإذا كان القرآن محتملا لوجوه، فالسنة قاضية عليه.

2 -

فإذا لم يجدوا حكم المسألة في كتاب الله، فإنهم يأخذون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يفرقون في هذا بين السنة المستفيضة الدائرة بين الفقهاء وغير المستفيضة، ولا يشترطون مجيء الحديث من رواية أهل بلد أو أهل بيت أو بطريقة خاصة، كما أنهم لا يشترطون عمل الصحابة بالحديث، أو عمل التابعين، كل ما يشترطونه هو صحة الحديث.

ومتى صح الحديث فلا يتبعون خلافه، فلا اعتبار للآثار، ولا لآراء المجتهدين، إذا خالفت الحديث.

3 -

وإذا أفرغوا جهدهم في تتبع الأحاديث، ولم يجدوا في المسألة حديثا، أخذوا بأقوال جماعة من الصحابة والتابعين، ولا يتقيدون بقوم دون قوم،

(1)

الإنصاف في أسباب الاختلاف، للدهلوي: ص 47.

ص: 19

ولا بلد دون بلد، كما كان يفعل من قبلهم. فإن اتفق جمهور الخلفاء والفقهاء على شيء فهو المتبع، وإن اختلفوا أخذوا بحديث أعلمهم علما، أو أورعهم ورعاً، أو أكثرهم ضبطاً، أو ما اشتهر عنهم، فإن وجدوا شيئا يستوي فيه قولان، فهي مسألة ذات قولين.

4 -

فإن عجزوا عن ذلك تأملوا في عمومات الكتاب والسنة وإيماءاتهما، واقتضاءاتهما، وحملوا نظير المسألة عليها في الجواب، إذا كانتا متقاربتين بادي الرأي، لا يعتمدون في ذلك على قواعد من الأصول، ولكن على ما يخلص إلى الفهم، ويثلج به الصدر.

ص: 20

‌الفصل الثاني مدرسة أهل الرأي

‌المبحث الأول: المراد بأهل الرأي

المراد بالرأي العلم بالشيء على سبيل الظن والاعتقاد، وقد خصَّه الفقهاء بالنظر وإعمال الفكر في الوقائع التي لم يرد بها نص، وكثيرا ما استعمل الصحابة كلمة رأي في اجتهاداتهم، التي ظهر أنها مبنية على اعتبار المصلحة، أو قائمة على أساس من القياس أو الاستحسان ونحوهما، بل شمل الرأي عندهم تفسير النصوص، وبيان وجه الدلالة منها، ومن ذلك تفسير أبى بكر لمعنى الكلالة في قوله تعالى:{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}

(1)

.

فإنه قال: أقول فيها برأي "الكلالة: ما عدا الولد والوالد.

والمراد بأهل الرأي الذين أكثروا من استعمال الرأي والقياس في بيان الأحكام الشرعية، وليس المراد أنهم لم يكونوا يعتمدون على الكتاب والسنة.

وأصحاب الرأي كما يقول الشهرستاني: (هم أهل العراق، أصحاب أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومن أصحابه: محمد بن الحسن، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن محمد القاضي، وزفر بن الهذيل، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وابن سماعة، وعافية القاضي، وأبو مطيع البلخي، وبشر المريسي"

(2)

(1)

سورة النساء: 176.

(2)

الملل والنحل: 1/ 207.

ص: 21

‌المبحث الثاني: السبب في تسميتهم بأهل الرأي

يقول الشهرستاني: "وإنما سموا أصحاب الرأي؛ لأن أكثر عنايتهم بتحصيل وجه القياس، والمعنى المستنبط من الأحكام، وبناء الحوادث عليها، وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار، وقد قال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي أحسن ما قدرنا عليه، فمن قدر على غير ذلك، فله ما رأى، ولنا ما رأينا"

(1)

.

ولم تعن هذه المدرسة بالنصوص عناية المدرسة الأولى، وتوسعوا في الرأي، كما توسعوا في النظر في المسائل الفرضية التي لم تقع بعد.

‌المبحث الثالث: أخطاء أهل الرأي

وقد أحصى ابن القيم أخطاء أهل الرأي فكانت خمسة

(2)

:

‌الأول: ظنهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث.

وقد عقد ابن القيم فصلا كبيرا، بين فيه شمول النصوص للأحكام، وأنها مغنية عن الرأي والقياس

(3)

، وقد ساق فيه مسائل كثيرة اختلف فيها السلف الصالح، وقالوا فيها برأيهم، وأعملوا فيها القياس، مع أن النصوص قد بينتها، والقياس الصحيح شاهد أو تابع، وليس مستقلا في إثبات حكم من الأحكام لم تدل عليه النصوص.

ومن أمثلة ذلك اختلافهم في النباش الذي يسرق أكفان الموتى، هل تقطع يده؟ والصحيح أنه سارق داخل في قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}

(4)

، ومن ذلك الاكتفاء بقوله صلى الله عليه وسلم:(كل مسكر خمر) عن

(1)

المصدر السابق.

(2)

إعلام الموقعين: 1/ 390.

(3)

إعلام الموقعين: 1/ 392.

(4)

سورة المائدة: 38.

ص: 22

إثبات التحريم بالقياس في الاسم أو الحكم.

ومن ذلك الاكتفاء بقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}

(1)

في تناوله لكل يمين منعقدة يحلف بها المسلمون من غير تخصيص إلا بنص أو إجماع، وقد بين ذلك سبحانه في قوله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}

(2)

، فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة فهذه كفارتها، وقد أدخلت الصحابة في هذا النص الحلف بالتزام الواجبات، والحلف بأحب القربات المالية إلى الله وهو العتق، كما ثبت ذلك عن ستة منهم، ولا مخالف لهم بين بقيتهم

(3)

.

‌الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس.

وقد أورد ابن القيم فيضاً من النصوص ترك فيها القياسيون الأحاديث وأخذوا بالرأي والقياس، فمن ذلك تركهم حديث العرايا، وحديث تغريب الزاني غير المحصن، وحديث عدم إبطال كلام الناسي، والجاهل بالصلاة، وحديث دفع اللقطة إلى من جاء فوصف وعاءها ووكاءها وعفاصها، وحديث المصراة، وغير ذلك من الأحاديث التي تركوها بالرأي والقياس

(4)

.

‌الثالث: اعتقادهم في كثير من الأحكام الشرعية أنها على خلاف الميزان والقياس، والميزان: هو العدل، فظنوا أن العدل خلاف ما جاءت به من هذه الأحكام.

وقد بين بطلان ما ذهبوا إليه في مبحث طويل، نقل فيه عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية فصلا كبيرا، ضرب فيه كثيرا من الأمثلة التي قال أهل

(1)

سورة التحريم: 2.

(2)

سورة المائدة: 89.

(3)

انظر هذه الأمثلة في إعلام الموقعين: 1/ 429.

(4)

إعلام الموقعين: 1/ 274.

ص: 23

القياس: إنها مخالفة للقياس، وقد ناقشهم فيها، وبين أنها موافقة للقياس.

ومما ظنوه مخالفاً للقياس: المضاربة، والمساقاة، والمزارعة، لأنها عندهم من جنس الإجارة، لأنها عمل بِعِوض، والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوَّض، فلما رأوا العمل والربح في هذه العقود غير معلومين، قالوا: هي على خلاف القياس، وبيَّن أنهم غلطوا في هذا؛ فإن هذه العقود من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات المحضة، التي يشترط فيها العلم بالعِوَض والمعوَّض، والمشاركات جنس غير جنس المعاوضات، وإن كان فيها شوب المعاوضة

(1)

.

ومما رأوا مخالفته للقياس وناقشهم فيه: الحوالة، والقرض، وإزالة النجاسة، وطهارة الخمر بالاستحالة، والوضوء من لحم الإبل، والتيمم، والسلم، ومكاتبة العبد، والإجارة، وغير ذلك مما أطال فيه القول.

‌الرابع: اعتبارهم عللا وأوصافا لم يعلم اعتبار الشارع لها، وإلغاؤهم عللا وأوصافا اعتبرها الشارع.

وهذا يظهر من دعواهم أن جملة من الأحكام الشرعية شرعت على خلاف القياس، فهم إنما قالوا هذا لاعتبارهم عللا مخالفة للعلل التي جاءت النصوص بها.

‌الخامس: تناقضهم في القياس.

وقد مثَّل لتناقضهم بأمثلة كثيرة، فمن ذلك أنهم أجازوا الوضوء بنبيذ التمر، وقاسوا عليه في أحد القولين سائر الأنبذة، وفي القول الآخر لم يقيسوا، ولم يقيسوا عليه الخل، ولا فرق بينهما

(2)

.

وقاسوا الماء الذي وردت عليه النجاسة، فلم تغير له لونا، ولا طعما، ولا

(1)

إعلام الموقعين: 1/ 432.

(2)

إعلام الموقعين: 1/ 300.

ص: 24

ريحا، على الماء الذي غيرت النجاسة لونه وطعمه وريحه، وهذا من أبعد القياس عن الشرع الحسن. وتركوا قياسا أصح منه، وهو قياس الماء الذي وردت عليه النجاسة فلم تغير لونه وطعمه وريحه على الماء الذي ورد على النجاسة، فقياس الوارد على المورود مع استوائهما في الحد والحقيقة والأوصاف أصح من قياس مائة رطل ماء، وقع فيه شعرة كلب على مائة رطل خالطها مثلها بولا وعذرة حتى غيَّرها

(1)

.

وقاسوا باطن الأنف على ظاهره في غسل الجنابة، فأوجبوا الاستنشاق، ولم يقيسوه عليه في الوضوء الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالاستنشاق، ففرقوا بينهما، وأسقطوا الوجوب في محلِّ الأمر به، وأوجبوه في غيره، والأمر بغسل الوجه في الوضوء كالأمر بغسل اليدين في الجنابة سواء

(2)

، وقد أكثر من ذكر الأمثلة للتدليل على تناقض القياسيين

(3)

.

(1)

المصدر السابق: 1/ 302.

(2)

إعلام الموقعين: 1/ 33.

(3)

ومن هذه الأقيسة ما قال به الحنفية، ومنها ما قال به المالكية، ومنها ما قال به الشافعية.

ص: 25

‌الفصل الثالث مدرسة أهل الظاهر

‌المبحث الأول: المراد بأهل الظاهر

هذه المدرسة تقابل مدرسة أهل الرأي، فأهل الرأي توسعوا في الأخذ بالرأي، وأهل الظاهر غلوا في رفضه وردِّه، وتنسب هذه المدرسة إلى داود ابن علي بن خلف

(1)

الأصبهاني الأصل، الكوفي المولد، البغدادي الدار، الشهير بداود الظاهري، المولود في سنة 200 هـ، أو بعدها بقليل، المتوفى في سنة 270 هـ.

وقد تفقه داود على أبي ثور تلميذ الإمام الشافعي، وإسحاق بن راهويه، وهو إمام من أئمة أهل الحديث، وأخذ عن الفقهاء الأعلام في وقته، وكان داود معظما للإمام الشافعي، آخذا بأصوله، ثمَّ اختطَّ لنفسه طريقا، خالف فيه غيره من فقهاء الإسلام، وطريقته تتمثل في الاعتماد على ظاهر النصوص والإجماع، ونفي الأصول الأخرى التي اعتمد عليها غيره من العلماء، كالقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والسبب الذي جعله ينفي القياس هو دعواه أن الأحكام غير معللة، وأن الله شرع ما شرع من أحكام بمحض المشيئة المجردة عن الحكمة والتعليل.

لقد رأى أهل الظاهر ما جناه الرأي على النصوص الشرعية بحيث لذم الرأي على النص في كثير من الأحكام، بسبب إهمال النصوص حفظا وفقها

(1)

انظر ترجمته في تاريخ بغداد: 8/ 369 - 375 مطبعة السعادة سنة 1931، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي: 1/ 182، دار الطباعة المنيرية - مصر، وطبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين السبكي: 2/ 42 - 48، المطبعة الحسينية - المصرية، وتذكرة الحافظ، للذهبي: 2/ 572 - 573 - دار إحياء التراث العربي - بيروت - الطبعة الرابعة.

ص: 27

ودراسة، فكان موقف داود ردَّة فعل للذين تطرفوا بالأخذ بالرأي، فجاء موقفه تطرفا في الجانب الآخر، فمنع الأخذ بالقياس

(1)

، وقال بعدم تعليل النصوص، وقصر منهجه على الأخذ بظاهر النصوص.

وقد أدى منهجه هذا إلى الاعتناء بالنصوص حفظا ومدارسة وفقها وتعليما إلا أنهم وقفوا عند ظاهرها، ولم يغوصوا في أعماقها.

‌المبحث الثاني: أخطاء أهل الظاهر

لقد أدى هذا المنهج بأهل الظاهر إلى نتائج خطيرة، فقد جوزوا ورود الشريعة بالفرق بين المتساويين، والجمع بين المختلفين؛ لأنهم -كما عرفت- يقرون أن الشارع ينهى عن الشيء لا لمفسدة، ويأمر به لا لمصلحة

(2)

(3)

وقد خطأهم ابن القيم من أربعة أوجه

(4)

:

‌أحدها: رد القياس الصحيح

(5)

، ولا سيما المنصوص على علته، الذي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم، فلا يشك عاقل أن قوله صلى الله عليه وسلم:(إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس) بمنزلة قوله: ينهيانكم عن كل رجس.

(1)

سبق إبراهيم بن سيار النظام المعتزلي داود الظاهري إلى هذا القول، وتابعه معتزلة أئمة في الاعتزال على قوله، منهم جعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، ومحمد بن عبد الله الإسكافي، انظر جامع بيان العلم، لابن عبد البر: 2/ 78.

(2)

من ظاهرية أصحاب الظاهر أنهم لا يجوزون لمن بال في الماء الدائم الذي لا يجري أن يتوضأ منه عملا بالحديث الذي ينهى عن ذلك، ولكنهم يجوزون لغير البائل أن يتوضأ منه ويغتسل، كما فرقوا بين البول في الماء مباشرة، والبول في إناء ثم صبه في الماء، أو بوله بجانب الماء بحيث يجري البول إلى الماء، فلم يحرموا التوضأ إلا على الماء الذي يتبول فيه مباشرة. انظر المجموع، للنووي.

(3)

إعلام الموقعين: 2/ 34، 149.

(4)

اعلام الموقعين: 1/ 377.

(5)

انظر الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم: 2/ 977

ص: 28

وقوله في الهر: (ليست بنجس؛ إنَّها من الطوافين عليكم والطوافات) بمنزلة قوله: كل ما هو من الطوافين عليكم والطوافات، فإنه ليس بنجس، ولا يستريب عاقل في أن من قال لغيره: لا تأكل هذا الطعام؛ فإنه مسموم، نهي عن كل طعام كذلك، وإذا قال: لا تشرب هذا الشراب؛ فإنه مسكر، نهي له عن كل مسكر، ولا تتزوج هذه المرأة؛ فإنها فاجرة، نهي له عن كل امرأة فاجرة.

‌الثاني: تقصيرهم في فهم النصوص،

فكثير من الأحكام دلت عليها النصوص، ولم يفهموا دلالتها عليها، وسبب هذا أنهم حصروا الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وإشارته وتنبيهه وعرفه عند المخاطبين، فلم يفهموا من قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا. . .}

(1)

ضربا ولا سباً ولا إهانة، يقول ابن حزم في الآية:"ما فهم أحد قط في لغة العرب ولا العقل أن قول: "أف" يعبر به عن القتل والضرب، ولو لم يأت إلا هذه الآية ما حَرُم إلا قول "أف" فقط"

(2)

.

وهذه ظاهرية عجيبة، وقد علق الحافظ الذهبي على كلام ابن حزم هذا قائلا:" يا هذا، بهذا الجمود وأمثاله جعلت على عرضك سبيلا، ونصبت نفسك أعجوبة وضحكة، بل يقال لك: ما فهم أحد من عربي ولا نبطي، ولا عاقل ولا واع أن النهي عن قول: "أف" للوالدين، إلا وما فوقها أولى بالنهي منها، وهل يفهم ذو حس سليم إلا هذا؟! وهل هذا إلا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، وبالأصغر على الأكبر، بل مثل هذا مما أمن فيه حفظ اللسان العربي، بل العجمي، والتركي وجميع خطاب بني آدم، وهل إذا قال "لا تنهر والديك" إلا والنهي عن شتمهما، أو لعنهما، أو ضربهما حتى يستغيثا، أو خنقهما حتى يموتا بطريق الأولى؟! ".

(1)

سورة الإسراء: 23.

(2)

ملخص إبطال القياس: 9

ص: 29

وضرب مثالا يوضح هذا "فإن الرجل إذا قال لزوجته: لا تكلمي الرجال أضربك، فذهبت وزنت مع الرجال ولم تكلمهم كلمة، كانت عاصية له قطعا، بل كانت أشد عصيانا بذلك، وأحق بالضرب وأولى من أن لو كلمت الرجال فقط".

‌الثالث: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه وجزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل، وليس عدم العلم علما بالعدم،

والاستصحاب في اللغة: اعتبار المصاحبة، وفي اصطلاح الأصوليين: هو الحكم على الشيء بالحال التي كان عليها من قبل، حتى يقوم دليل على تغير تلك الحال، أو جعل الحكم الذي كان ثابتا في الماضي باقيا في الحال، حتى يقوم دليل على تغيره.

والاستصحاب ثلاثة أقسام: استصحاب البراءة الأصلية، واستصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي، حتى يثبت خلافه، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع.

فاستصحاب البراءة الأصلية إثبات الإباحة للأشياء التي لم نجد نصا يدلُّ على تحريمها، فالله تعالى خلق كل ما في الأرض لنا، كما قال:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}

(1)

. فإذا وجدنا في بلد ما حيوانا أو طعاما أو شرابا، ولم نجد دليلا ينص على حكمه، فإننا نحكم بإباحته؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولم نجد نصًّا ينقل حكم الإباحة إلى التحريم أو الكراهة، ومن هنا وضع الفقهاء عدة قواعد متشابهة، فقالوا:"الأصل في الأشياء الإباحة، وما ثبت باليقين لا يزول بالشك، والأصل في الإنسان البراءة".

واستصحاب الوصف الشرعي كاستصحاب حكم الطهارة، أو حكم الحدث، واستصحاب بقاء النكاح، حتى يثبت خلاف ذلك، فالذي جزم بأنه متوضئ، ثم شكَّ في الحدث، فإنَّه يستصحب حكم الطهارة، ولا يلتفت إلى الشك،

(1)

سورة البقرة: 29.

ص: 30

وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم الصائد، إذا وجد صيده غريقا في الماء، عن أكله؛ لأن الأصل في الذبائح التحريم، وكون الصيد مات من السهم مشكوك فيه، لاحتمال أن يكون الماء قد قتله.

واستصحاب حكم الإجماع: هو أن يستصحب حال المجمع عليه حتى يثبت ما يزيله.

والذي قرره طائفة من الفقهاء والأصوليين وبعض الأحناف أن استصحاب البراءة الأصلية حجة للدفع لا للإثبات، ومرادهم أنَّه حجة على إبقاء ما كان على ما كان، ودفع ما يخالفه حتى يقوم دليل يثبت هذا الذي خالفه، وليس حجة لإثبات أمر غير ثابت، كالمفقود يُحكمُ باستصحاب الحال التي عُرِف عليها، وهي الحياة، حتى يقوم دليل على الوفاة، وهذا الاستصحاب حجة يدفع بها دعوى الوفاة، والإرث منه، وفسخ إجارته، وطلاق زوجته، ولكنه ليس حجة لإثبات إرثه من غيره؛ لأن حياته الثابتة بالاستصحاب حياة اعتبارية لا حقيقية.

ولم يتنازع الفقهاء في النوع الثاني وهو استصحاب الوصف المثبت للحكم وإنما تنازعوا في بعض أحكامه، واختلفوا في استصحاب حكم الإجماع والصحيح أنه حجَّة.

وخلاصة ما قرره ابن القيم أن "الاستصحاب لا يجوز الاستدلال به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل"

(1)

.

‌الرابع: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان، حتى يقوم الدليل على الصحة،

فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس، وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلاف هذا، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما

(1)

راجع إعلام الموقعين: 1/ 378، وعلم أصول الفقه، لخلاف:91.

ص: 31

أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح، فإنه الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرَّمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثَّم الله ورسوله به فاعله، كما أنَّه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله.

فالأصل في العبادات البطلان، حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة، حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم.

والفرق بينهما أن الله -سبحانه- لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حَقُّهُ على عباده، وحقه الذي أحقه هو، ورضي به، وشرعه.

وأمَّا العقود والشروط والمعاملات، فهي عفو حتى يحرمها، ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما لم يشرعه، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه، لكان عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله، فإن الحلال ما أحكه الله، والحرام ما حرَّمه، وما سكت عنه، فهو عفو.

ص: 32

‌الفصل الرابع موازنة بين المدارس الفقهية

‌المبحث الأول: النزاع بين المدارس الفقهية

تبادلتا هذه الفرق الثلاث فيما بينها ألفاظ القدح والتجريح، وحاول علماء كل فريق أن يكشف ضعف موقف الآخرين، وقد كان في كل فريق كثير من المعتدلين، وبعض الغلاة الذين لا يرون حسنات الآخرين، وقد دوَّن قادة كل مدرسة وأتباعها كتبا بينوا فيها أصولهم وفروعهم، وردوا على أصحاب الاتجاهات الأخرى.

ومن لطيف العلم الذي تنبه له ابن تيمية أن الإمام مالك في ترتيبه للموطأ، وما عقد فيه من تراجم، وما ساق فيه من آثار، قصد فيه بيان مذهب أهل العراق ببيان السنة، والردَّ على من خالفها، ولذلك قال ابن تيمية:"من كان بمذهب أهل المدينة والعراق أعلم كان أعلم بمقدار (الموطأ) "

(1)

.

ويذكر الحافظ الزيلعي أن: "البخاري كثير التتبع لما يرد على أبى حنيفة من السنة، فيذكر الحديث، ثمَّ يعرض بذكره، فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وكذا، وقال بعض الناس: كذا وكذا، يشير ببعض الناس إليه، ويشنع لمخالفة الحديث عليه"

(2)

.

وقد دوَّن أهل الحديث منهجهم كما دونوا انتقاداتهم على أهل الرأي والظاهرية في عدة مؤلفات منها: (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي، (والمصنف) لابن أبى شيبة، و (تأويل مختلف الحديث) لابن قتيبة.

(1)

صحة عمل أهل المدينة: 78.

(2)

نصب الراية: 1/ 356.

ص: 33

ودون علماءُ أهل الرأي منهجهم وآراءهم ومآخذهم على أهل الحديث وأهل الظاهر، وقد قام بهذا علماء الأحناف.

وإذا شئت أن تطلع على أصول أهل الظاهر وهجومهم على من قال بالرأي والقياس، فارجع إلى كتب ابن حزم الأندلسي أمثال (المحلى) و (الأحكام)، فإنك ستشهد على صفحات كتبه معركة هائلة، حشد فيها من الحجج والبراهين الشيء الكثير، ونال من علماء الفرق الأخرى بلسانه وقلمه ما لا يستطيع أن يناله بسيفه وسنانه.

‌المبحث الثاني: مقارنة بين المدارس الثلاثة

لقد أحسن أهل الظاهر في الاعتناء بالنصوص الشرعية حفظا ومدارسة وتفقها، ولكنهم أخطؤوا في وقوفهم عند ظاهر النصوص، وقصَّروا في فهمها.

وأهل الرأي أحسنوا؛ إذ لم يقفوا عند ظاهر النص، بل غاصوا في أعماق النصوص، واستخلصوا علل الأحكام، ووسعوا دلالة النص، فنظروا في إشارته وإيمائه، وقاسوا النظير على النظير، والشبيه على الشبيه، ولكنهم أساؤوا فيما أحسن فيه أهل الظاهر، فلم يعتنوا بالنصوص عنايتهم بالعلل والقياس، ولم يبذلوا جهدهم في طلبها، ومعرفة الصحيح والضعيف من الأحاديث.

يقول ابن القيم واصفا حال هذه المدرسة: "وأهل الرأي والقياس لم يعتنوا بالنصوص، ولم يعتقدوها وافية بالأحكام، ولا شاملة لها، وغلاتهم على أنها لم تَفِ بعشر معشارها، فوسعوا طريق الرأي والقياس، وقالوا بقياس الشبه

(1)

. وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أن الشارع علقها بها، واستنبطوا عللا لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها، ثمَّ اضطرهم ذلك إلى أن

(1)

قياس الشبه هو: الجمع بين الأصل والفرع بمجرد الله من غير علة تجمع بينهما، كقول أخوة يوسف:{إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [سورة يوسف: 77]، فقد استدلوا على سرقته بكون أخاه قد سرق من قبل.

ص: 34

عارضوا بين كثير من النصوص والقياس، ثم اضطربوا، فتارة يقدمون القياس، وتارة يقدمون النصوص، وتارة يفرقون بين النص المشهور وغير المشهور، واضطرهم ذلك أيضا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرعت على خلاف القياس"

(1)

.

أمَّا مدرسة أهل الحديث فقد توسطت بين المدرستين السابقتين، ذلك أنها وارثة علم الصحابة والتابعين، فقد أخذت من كل مدرسة محاسنها، وتجنبت مساوئها، فقد عنيت بما عُني به أهل الظاهر، لقد عنيت بالنصوص عناية كبيرة، وشغلت بغربلة الأحاديث والتعرف على الصحيح والضعيف، واجتهدت في فقه النصوص، واستنباط الأحكام منها، وتطبيق هذه النصوص على الوقائع، وأحسنت فيما أحسن فيه أهل الرأي؛ إذ لم يقفوا عند ظاهر النص، فنظروا في منطوق النصِّ ومفهومه، كما نظروا في إشارته وإيمائه، ولم يهملوا علل الأحكام، ولكنهم لم يتعدوا النصوص إلى الرأي إلا عند الاضطرار، حيث لا يجدون نصا بعد الطلب والتحري.

يقول الشافعي رحمه الله تعالى: "ونحكم بالإجماع، ثم القياس، وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلة ضرورة؛ لأنه لا يحلُّ القياس والخبر موجود، كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الأعواز من الماء، ولا يكون طهارة إذا وجد الماء، إنما يكون طهارة عند الإعواز"

(2)

، وقد روى الإمام أحمد عن الشافعي قوله:"القياس عند الضرورة"

(3)

.

انحراف المسار عند بعض أهل الحديث.

استمر أهل الحديث باتباع منهج الرعيل الأول، الذين اختطوا لهم ذلك المنهج الذي يسيرون عليه، ولكنَّ بعض المنتسبين لهذه المدرسة انحرفوا عن

(1)

إعلام الموقعين: 1/ 39.

(2)

الرسالة للشافعي: 599.

(3)

فتح الباري: 13/ 291، إعلام الموقعين: 1/ 23، 27.

ص: 35

المسار السوي، وشغلوا أنفسهم بأمور لم يلتفت لها الرواد الأعلام من هذه المدرسة، يقول الخطابي، وهو من أهل هذه المدرسة -مبيناً حال كثير من أهل الحديث في عصره-:"إن الأكثرين من أهل الحديث إنما وَكْدهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، ولا يستنبطون سيرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء، وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن"

(1)

.

وقال ابن عبد البر، يصف حال أهل الحديث في عصره: "فطائفة تروي الحديث وتسمعه، فقد رضيت بالدؤوب في جمع ما لا تفهم، وقنعت بالجهل في حمل ما لا تعلم، فجمعوا بين الغث والسمين، والصحيح والسقيم، والحق والكذب في كتاب واحد، وربما في ورقة واحدة، ويدينون بالشيء وضده، ولا يعرفون ما في ذلك عليهم، قد شغلوا أنفسهم بالاستكثار عن التدبر والاعتبار، فألسنتهم تروي العلم، وقلوبهم قد خلت من الفهم، غاية أحدهم معرفة الكتب الغريبة، والاسم الغريب، وتجده قد جهل ما لا يكاد يسع أحدا جهله من علم صلاته وحجه وصيامه وزكاته

(2)

".

وممن بيَّن حال أهل الحديث في عصره مؤرخ الإسلام الذهبي، وهو من أهل هذه المدرسة، ولكن انحراف المسار ببعض أهل الحديث يوجب البيان والنصح، قال الذهبي رحمه الله تعالى متوجعا مما صار إليه كثير من أهل الحديث في عصره:

"غالب المحدثين لا يفقهون، ولا همة لهم في معرفة الحديث، ولا في التدين به، بل الصحيح والموضوع عندهم بنسبة، إنما همتهم في السماع على جهلة الشيوخ، وتكثير العدد من الأجزاء والرواة، لا يتأدبون بآداب الحديث، ولا يستفيقون من سكرة السماع، الآن يسمع الجزء ونفسه تحدثه: متى يرويه

(1)

معالم السنن: 1/ 6.

(2)

جامع بيان العلم: 1/ 208.

ص: 36

أبعد الخمسين سنة! ويحك ما أطول أملك، وأسوأ عملك"

(1)

.

وقد وجه الذهبي طلاب علم الحديث إلى الاهتمام بدراسة كتب الحديث النافعة فقال:

"طالب الحديث اليوم ينبغي له أن ينسخ أولاً (الجمع بين الصحيح)

(2)

و (أحكام عبد الحق)

(3)

و (الضياء)

(4)

، ويدمن النظر فيهن، ويكثر من تحصيل تواليف البيهقي، فإنها نافعة، ولا أقل من مختصر كالإلمام

(5)

".

(1)

زغل العلم: ص 27.

(2)

الجمع بين الصحيحين لمحمد بن أبي نصر الحميدي.

(3)

هو عبد الحق بن عبد الرحمن الأذري الإشبلي، كان فقيهاً حافظاً عالماً بالحديث وعلله عارفا بالرجال، موصوفاً بالخير والصلاح والزهد.

(4)

يريد كتاب الأحاديث المختارة لمحدث الشام في عصره: ضياء الدين أبي عبد الله محمد ابن الواحد الحنبلي.

(5)

زغل العلم: ص 28.

ص: 37

‌الباب الثاني

المذاهب الفقهية

* الفصل الأول: التعريف بالمذاهب.

* الفصل الثاني: التعريف بالأئمة الأربعة ومذاهبهم.

ص: 39

‌الفصل الأول التعريف بالمذاهب

‌المبحث الأول: نشأة المذاهب وتكونها

نبغ في عصر التابعين وعصر الأئمة المجتهدين مجموعة كبيرة من العلماء، وكانت الأمصار في الدولة الإسلامية تزخر بالعلم والعلماء، وكثير من هؤلاء العلماء بلغوا مرتبة الاجتهاد المطلق.

وقد اختط بعض هؤلاء العلماء الأخيار طريقة سلكوها في التعرف على الأحكام، وأصبح لكل منهم تلاميذ واتباع يتبنون طريقته، وقد عرفت هذه الطرق بالمذاهب.

والمذاهب الفقهية الباقية إلى اليوم هي مذهب الإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد. وهناك مذاهب انقرض اتباعها، كمذهب الليث بن سعد، ومذهب داود الظاهري، وابن جرير الطبري.

ومن ينظر اليوم في المذاهب الفقهية الباقية فإنه يجد أن لكل مذهب بناء فقيهاً هائلاً له مؤلفاته وقواعده وأصوله وعلماؤه ومؤلفاته، وجذور كل مذهب تمتد إلى صاحب المذهب ومؤسسه.

ومؤسسو المذاهب علماء أعلام، تربوا على أيدي العلماء الذين سبقوهم، وأخذوا عنهم ما حفظوه وفقهوه من ميراث النبوة، وقد كانت البلاد الإسلامية في عصر الأئمة تموج بالعلم والعلماء، وقد استقطبت العلوم الشرعية أصحاب العقول الراجحة، والنفوس الزاكية، والهمم العالية، فالعلماء بالشريعة كانوا هم أصحاب المكانة العالية المرموقة في المجتمعات الإسلامية.

وقد تفتحت عقول الأئمة على أنوار الوحي من الكتاب والسنة من غير أن

ص: 41

يعزلها عنه ظلمات التقليد التي منعت العقول فيما بعد من الغوص في الكتاب والسنة وهي تواجه المسائل والمستجدات والقضايا التي تعرض للمسلمين في ذلك العصر.

لقد سما الأئمة رضوان الله عليهم بما علموه من علم الوحي إلى درجات راقية، وأحكموا مذاهبهم وقعدوها، وتركوا لمن بعدهم ثروة علمية تعين من وراءَهم على معرفة الحق، كما تعينهم على فقه النصوص.

يقول العلامة أبو شامة الفقيه الشافعي: "بنى الشافعي مذهبه بناء محكماً، وذلك أنه كان اعتماده على كتاب الله وسنة رسوله، والنظر الصحيح من الاجتهاد الراجع إلى الكتاب والسنة، وترجيح أشبه المذاهب بالكتاب والسنة"

(1)

، وكل الأئمة أحكموا مذاهبهم على هذا النهج الذي ذكره أبو شامة.

وقد تمثلت مذاهبهم في أقوالهم التي دونوها في كتبهم، أو أملوها على تلامذتهم، أو أجابوا بها من سألهم واستفتاهم، وقد حملها عنهم أصحابهم وتلامذتهم.

وجاء أصحاب الأئمة من بعدهم، فكان لهم دور كبير في استيعاب علوم أئمتهم، وحفظها ونقلها، ولولاهم لضاعت مذاهبهم وتلاشت، واعتبر بهذا بعالم مصر المحدث الفقيه الليث بن سعد رحمه الله، فإن جمعا من أهل العلم يقدمونه على الإمام مالك، ولكن أصحابه لم يحفظوا فقهه، يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:"الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به"

(2)

.

ولم يقتصر دور أصحاب الأئمة وتلامذتهم على نقل أقوال أئمتهم واستيعاب. ما سمعوه منهم، فقد كان الرعيل الأول من أهل كل مذهب أصحاب عقول راجحة، قادرة على النظر والاستنباط، ولذلك فإن كثيراً منهم كانوا يزاحمون

(1)

مختصر كتاب: "المؤمل في الرد إلى الأمر الأول" لأبي شامة، مجموعة الرسائل المنيرية: 3/ 37.

(2)

تاريخ الإسلام للذهبي: 1/ 307، حوادث: 171 - 180. تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 2/ 74.

ص: 42

أئمتهم في الاجتهاد، ولم يكونوا يتحرجون من مخالفة أئمتهم إذا تبين لهم أن الحق في خلاف قولهم.

واعتبر في هذا بالمذهب الحنفي، فإن أصحاب الإمام أبى حنيفة وتلامذته شاركوا الإمام في تأصيل المذهب وإنضاجه، فمدونات الحنفية تذكر أن أصحاب أبى حنيفة الذين دونوا معه الكتب كانوا أربعين رجلاً، كانوا يختلفون عنده في جواب المسألة، فيأتي هذا بجواب، وهذا بجواب، ثمَّ يرفعونها إليه، ويسألونه عنها، فيأتي بالجواب عن كثب، وكانوا يقيمون في المسألة ثلاثة أيام، ثمَّ يكتبونها في الديوان

(1)

.

ويبدو أن هذا الديوان الذي كتبت فيه مسائل الفقه التي تمخص عنها اجتهاد أبي حنيفة وأصحابه تمثل أصول المدونات الفقهية التي دونها أصحاب أبى حنيفة من بعده.

والكتب المعتمدة عند الحنفية لا تقصر المذهب على أقوال أبي حنيفة، فقد يكون المذهب قول أبى حنيفة، وقد يكون قول أبي يوسف، أو محمد بن الحسن، أو قول زفر، أو الحسن بن زياد، وسيأتي بيان هذا وتوضيحه.

المذهب: لغة واصطلاحاً

المذهب في لغة العرب: الطريق الذي يذهب فيه؛ أي يُسارُ فيه، ويمرُّ منه، ويطلق أيضا على الشيء الذي يذهب إليه الإنسان، سواءً أكان حسيا أو معنويا، يقول الشيخ أحمد الصاوي:"المذهب في الأصل محل الذهاب، كالطريق المحسوسة"

(2)

، وجاء في لسان العرب أن "المذهب المتوضأ؛ لأنه يذهب إليه، والمعتقد الذي يذهب إليه"

(3)

، ويذكر الكسائي أن العرب تطلقه

(1)

انظر مقدمة نصب الراية: 1/ 38. وهذه الأقوال منقولة عن أسد بن الفرات، وإسحاق ابن إبراهيم، والموفق المكي وغيرهم.

(2)

حاشية أحمد الصاوي على شرح الصغير للدردير: 1/ 16.

(3)

لسان العرب: 1/ 1081.

ص: 43

على موضع الخلاء، وفي الحديث:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الغائط أبعد في المذهب"

(1)

. "وتقول العرب: ذهب مذهب فلان: قصد قصده وطريقته"

(2)

، ويقولون أيضا:"ذهب فلان مذهبا حسنا"

(3)

.

والمذهب في اصطلاح كل قوم: الطريقة التي اختطها شخص أو مجموعة سواء أكانت في مجال الاعتقاد، أو السلوك، أو الأحكام، أو غيرها.

ولا يكون الأمر مذهبا لشخص ما، إلا إذا كان طريقة اختص بها دون غيره، فالأكل والشرب والنوم ليس مذهبا يختص بفرد أو مجموعة، ولا يطلق المذهب عند أصحاب العلم والمعرفة إلا على منهج تكوَّن بعد تأمل ونظر، واختط صاحبه خطة واضحة المعالم، بينة الأبعاد، تقوم على أصول وقواعد، ففي المعجم الوسيط:"المذهب عند العلماء مجموعة من الآراء والنظريات العلمية والفلسفية، ارتبط بعضها ببعض ارتباطا يجعلها وحدة متسقة"

(4)

.

ولذا فإنه أطلق على المنهج الذي اختطه علماء الكلام في التأصيل العقائدي للمذهب الكلامي، والذي يسلك طريقتهم في الاستدلال فإنه يذهب مذهبهم، يقول الجرجاني:"المذهب الكلامي: أن يورد حجة على طريق أهل الكلام"

(5)

.

ويطلق المذهب عند علماء الفقه على المنهج الفقهي الذي سلكه فقيه مجتهد، اختص به من بين الفقهاء، أدى به إلى اختيار جملة من الأحكام في مجال علم الفروع.

يقول القرافي، في سياق تعريفه مذهب مالك: (مذهب مالك ما اختص

(1)

لسان العرب: 1/ 1081، وراجع القاموس المحيط: ص 110.

(2)

القاموس المحيط: 110، والمصباح المنير: ص 211.

(3)

لسان العرب: 1/ 1081.

(4)

المعجم الوسيط، لإبراهيم أنيس وآخرون: 1/ 317. دار إحياء التراث العربي. الثانية.

(5)

التعريفات، لعلي بن محمد الريف الجرجاني:220.

ص: 44

به من الأحكام الشرعية الفروعية الاجتهادية، وما اختص به من أسباب الأحكام والشروط والموانع والحجاج المثبتة لها"

(1)

.

وعرفه الدردير بقوله: "مذهب مالك مثلاً: عبارة عما ذهب إليه من الأحكام الاجتهادية التي بذل وسعه في تحصيلها"

(2)

.

وقال الشيخ أحمد الصاوي: "مذهب مالك ما ذهب إليه مالك من الأحكام الاجتهادية"

(3)

.

وهذه التعريفات هي: تعريف للمذهب من حيث هو مذهب، ولا اختصاص له بمذهب إمام دون غيره.

وإذا أنت تأملت في هذه التعريفات تجد أن المجال الذي يعمل فيه المذهب الفقهي هو الأحكام الشرعية الفرعية، فلا عمل للمذهب في الأحكام الأصولية، لا أصول الدين، ولا أصول الفقه.

فالاختلاف في العقيدة يقسم الأمَّة إلى فرق، فعلماء المذاهب الفقهية السنية كلهم أتباع منهج واحد في الاعتقاد، فعقيدتهم هي عقيدة أهل السنة والجماعة، ومخالفوهم فرق انحرف بها المسار كالخوارج والمعتزلة، فلا مذاهب بين علماء أهل السنة في مجال الاعتقاد، والصحابة جميعاً على طريقة واحدة في الاعتقاد، ولكنهم اختلفوا في بعض أحكام مسائل الفروع.

وينبغي للباحث أيضا أن يتنبه إلى أن مسائل الفروع ليست كلها مما يصح أن يدخل في إطار ما يسمى بالمذهب الفقهي، فالأحكام التي لا مجال للاختلاف فيها، لكون أدلتها قطعية الدلالة، قطعية الثبوت، مثل وجوب الصلوات الخمس، ووجوب شهر رمضان، ووجوب الزكاة، وكون صلاة الظهر أربعا، والمغرب ثلاثا ونحو ذلك، لا يصح أن تنسب إلى مذهب شخص بعينه، فلا

(1)

الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 220.

(2)

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 1/ 19.

(3)

حاشية أحمد الصاوي على الشرح الصغير: 1/ 16.

ص: 45

يقال: مذهب أبي حنيفة أن صلاة الظهر واجبة، ومذهب مالك أن صوم رمضان واجب، ومذهب الشافعي أن الخمر حرام، فلا خصوصية لواحد منهم بواحد من هذه؛ فإن مذاهبهم جميعا في هذه مذهب واحد، وحتى يكون الرأي أو الحكم مذهبا للإنسان، لا بدَّ أن يكون صالحا لأن يختص به دون غيره، ولذا فإن المسائل المجمع عليها لا يصح أن تنسب إلى مذهب رجل بعينه، وإن كان دليلها ظني الثبوت، أو ظني الدلالة، فنكاح المرأة على عمتها، أو على خالتها متفق على تحريمه عند أهل السنة، ودليله خبر آحاد.

وفي هذا يقول القرافي رحمه الله: "لا يقال: هذا مذهب مالك أو الشافعي إلا فيما يختص به؛ لأنه ظاهر اللفظ في الإضافة والاختصاص"

(1)

.

ويقول: "المذاهب طرق متبوعة لا يضاف لعالم منها إلا ما اختص به، والمذاهب المشهورة أربعة، ولن يحصل التعدد إلا بالاختصاص، لا بالمشترك بينها"

(2)

.

وقال أيضا: "الطرق المشتركة لا يحسن إضافتها لآحاد الناس توسعا، وعلى التحقيق لا يضاف إلا المختص"

(3)

.

وقال الدردير في شرحه الكبير: "الأحكام التي نص الشارع عليها في القرآن أو في السنة لا تعدُّ من مذهب أحد من المجتهدين"

(4)

.

وقد حدد القرافي المسائل التي يمكن أن تدخل في إطار المذاهب بخمس: "الأحكام، وأسبابها، وشروطها، وموانعها، والحجاج المثبتة للأسباب، والشروط والموانع".

وهو يريد بذلك كله المختلف فيه لا المتفق عليه.

وقد مثلنا للمتفق عليه من الأحكام، والمختلف فيه مثل حكم الوتر، وحكم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد، ونحو ذلك.

(1)

الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 199.

(2)

الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 200.

(3)

المصدر السابق.

(4)

الشرح الكبير: 1/ 9.

ص: 46

والمتفق عليه من الأسباب كالزوال ورؤية الهلال، والمتفق عليه من الشروط كالحول في الزكاة والطهارة في الصلاة.

والمتفق عليه من الموانع كالحيض، فإنه يمنع الصلاة والصوم، والجنون والإغماء، فإنهما يمنعان التكليف.

ويريد بالحجاج المثبتة للأسباب والشروط والموانع ما يعتمد عليه الحكام من البينات والأقارير ونحو ذلك، ومثال المجمع عليه في هذا الشاهدان في الأموال، والأربعة في الزنى، والإقرار في جميع ذلك إذا صدر من أهله في محله، ولم يأت بعده رجوع عن الإقرار

(1)

.

فهذه كلها لا تدخل فيما يطلق عليه اسم المذهب؛ للاتفاق عليها، وعدم اختصاص عالم فيها بقول دون غيره.

ومثَّل القرافي للأسباب المختلف فيها الداخلة في إطار المذهب الفقهي بالرضاع المحرم، فإن بعض أهل العلم يجعل المحرم منه رضعة واحدة، وبعضهم ثلاثاً، وبعضهم خمس رضعات.

ومثل للشروط المختلف فيها بالولي والشهود في النكاح.

ومثل للمتفق عليه من الموانع بمنع النجاسة الصلاة، ومنع الدين الزكاة.

والمختلف فيه من الحجاج المثبتة للأسباب والشروط والموانع الشاهد واليمين، وشهادة الصبيان في القتل والجراح، والإقرار إذا تعقبه رجوع، وشهادة النساء إذا اقتصر منهن على اثنتين فيما يختص بهن الاطلاع عليه، كعيوب الفروج، واستهلال الصبي ونحو ذلك، وإثبات القصاص بالقسامة، فهذه الحجاج يثبت بها عند الحكام الأسباب نحو القتل، والشروط نحو الكفاءَة، وعدم الموانع نحو الخلو عن الأزواج

(2)

.

هذا هو المراد بالمذهب، وهذه هي الدائرة التي يصح أن يقال: إن مذهب فلان فيها كذا، وهي الدائرة التي يجوز فيها التقليد إذا لم يكن المرء عالما.

(1)

راجع الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: 396.

(2)

الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 196.

ص: 47

ليس كل ما في المذهب يجوز أن ينسب لإمام المذهب

مما ينبغي أن يتنبه إليه أن كل مذهب يضم أقوال إمام المذهب واجتهاداته كما يضم جميع الأقوال والاجتهادات التي ذهب إليها علماء المذهب، ولا يجوز أن تنسب كل هذه الأقوال إلى مؤسس المذهب.

إن بعض الباحثين وبعض الفقهاء في كل مذهب نسب كثيرا من أقوال أصحاب الأئمة وتلامذتهم وأتباعهم إلى الأئمة، وهذا ليس عدلا ولا صوابا، فمذهب العالم ما قاله وذهب إليه، ومن قول عالما ما لم يقله، ونسب إليه أحكاماً لم تصدر عنه، فقد ظلم وجار.

نعم، قد يقال: المذهب الشافعي في هذه المسألة كذا، ولا يريد القائل أن الشافعي قد قال ذلك وأفتى به، وإنما يريد أن هذا الحكم هو المعتمد في الفتوى عند الشافعية، وهذه مسألة اصطلاحية، ولا مشاحَّة في الاصطلاح.

إن العمدة في المذهب قد يكون قولا للإمام نصَّ عليه، وقد لا يكون نصَّ عليه، وإنما نسب إليه قياسا على قوله، أو أخذ من إشارته أو إيمائه، وقد يكون قولا لصاحب أو تلميذ من أصحاب إمام المذهب أو تلامذته، أو قاله أحد علماء مذهبه أو جمع منهم، وقد يكون ما قاله غيره من أصحابه أو تلامذته أو علماء مذهبه مخالفا لما نص عليه، وقد لا يؤثر عن الإمام في ذلك قول أو حكم.

ويدل لعدم جواز نسبة كل ما في المذهب من أقوال للأئمة أمور:

1 -

أن أهل العلم قرروا أنه لا يجوز أن ينسب لساكت قول لم يقله، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:"من نسب إلى ساكت قولاً فقد كذب عليه"

(1)

.

كما قرروا أن مذهب الإنسان ما قاله، واستمرَّ على القول به إلى أن لقي

(1)

الحاوي الكبير للماوردي: 1/ 26.

ص: 48

ربَّه، وفي ذلك يقول الشعراني:"مذهب الإمام حقيقة هو ما قاله، ولم يرجع عنه إلى أن مات، لا ما فهمه أصحابه من كلامه، فقد لا يرضى الإمام ذلك الأمر الذي فهموه من كلامه، ولا يرضى به لو عرضوه عليه، فعلم أن من عزا إلى الإمام كل ما فهم من كلامه فهو جاهل بحقيقة المذاهب"

(1)

.

ويقول ابن عابدين: "لا يقال: قال أبو حنيفة كذا، إلا فيما روي عنه صريحاً"

(2)

.

2 -

يضم كل مذهب أقوالاً كثيرة متعارضة متناقضة لمجتهدي المذهب، فكيف يمكن أن تنسب إلى إمام المذهب كل تلك الأقوال مع تعارضها واختلافها.

3 -

لم يكن أصحاب الإمام ومجتهدو مذهبه يتابعون الإمام في كل ما ذهب إليه في مسائل الفروع، فإنهم كانوا أصحاب نظر اجتهادي مستقل في كثير من الأحيان، فلا يجوز أن تنسب أقوالهم إلى إمام مذهبهم مع اختلاف الاجتهاد.

4 -

كثر الخطأ في نقل أقوال الأئمة، والقياس على أقوالهم، والتخريج على قواعدهم، وعدَّ كثير من الفقهاء كل ذلك مذهباً لإمام المذهب، وحشى كثير من المتأخرين المذهب بأقوال لا تنطبق على أصول إمام المذهب، ولا قواعده ومسائله، خصوصاً المسائل التي بنوا أحكامها على فرض الوقوع، وكثير منها من قبيل المستحيل.

وقد صحح بعض العلماء نسبة الأقوال الصادرة من علماء المذهب إلى إمام المذهب على سبيل التجوز، فإذا قالوا: هذا مذهب أبي حنيفة أو مذهب مالك، فإنه المعنى المراد أنه قول أهل مذهبه

(3)

، أو المفتي به في مذهبه.

والقائلون بما لم يقل به إمامهم صح نسبة قولهم إليه لأنهم ساروا على

(1)

الميزان للشعراني: 1/ 67.

(2)

شرح عقود رسم المفتي لابن عابدين: 1/ 25.

(3)

شرح عقود رسم المفتي: 1/ 25.

ص: 49

نهجه، واتبعوا سبيله في الاجتهاد، وقد يخالفونه لأنه بلغهم حديث لم يبلغه، وكل الأئمة أمروا أصحابهم أن يتبعوا الحديث الصحيح، وأن يعدوه مذهباً لهم. وعدَّ بعض أهل العلم أقوال علماء المذهب مذهباً للإمام. وإن خالفوا قول إمام المذهب؛ "لأن كثيراً من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه، قد تغيرت بتغير الزمان، بسبب فساد أهل الزمان أو عموم الضرورة"

(1)

. "وما تغير من الأحكام لتغير الزمان، إما لضرورة، وإما للعرف ولقرائن الأحوال كل ذلك غير خارج عن المذهب، لأن صاحب المذهب لو كان في هذا الزمان لقال بها، ولو حدث هذا التغير في زمانه لم ينص على خلافها، وهذا الذي جرأ المجتهدين في المذهب الحنفي وأهل النظر الصحيح من المتأخرين على مخالفة المنصوص عليه من صاحب المذهب في كتب صاحب الرواية"

(2)

.

‌المبحث الثاني: تصحيح الأئمة لمذاهبهم

لا شك أن الأئمة أثناء مسيرتهم العلمية كانوا دائمي التصحيح والتنقيح لمذاهبهم، فالأئمة بشر، يصيبون ويخطئون، وكلما امتد بهم العمر قويت ملكتهم العلمية، وحازوا علماً لم يطلعوا عليه من قبل، وهم كانوا أورع وأتقى من أن يقيموا على خطأ تبين لهم صوابه.

ذكر أبو شامة أن البويطي سمع الشافعي يقول: "لقد ألفت هذه الكتب، ولم آل فيها جهداً، ولا بدَّ أن يوجد فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}

(3)

، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه"

(4)

.

(1)

شرح عقود رسم المفتي: 1/ 44.

(2)

المصدر السابق: 1/ 45.

(3)

سورة النساء: 82.

(4)

المؤمل في الرد إلى الأمر الأول: 3/ 33.

ص: 50

ونقل أبو شامة عن مالك قوله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه"

(1)

.

وعقب أبو شامة على هذين القولين لهذين الإمامين بقوله: "وذلك الظن بجميع الأئمة"

(2)

.

وقد وجدنا من الأئمة من دلنا على مساره في تصحيحه لمذهبه وتنقيحه إياه، وعرفنا بالذي صار إليه في آخر أمره، ووجدنا من الأئمة من ترك لنا ثروة علمية فيها الروايات والأقوال في المسائل الاجتهادية، وقلما نجده بين اختياره فيما تعددت فيه عنه الأقوال.

فمن الصنف الأول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فإنه دون مذهبه بنفسه، وبين لنا قواعده وأصوله التي بنى عليها مذهبه، ولم يكتف بذلك، بل أعاد تصحيح مذهبه وتنقيحه، فمذهبه الجديد الذي دونه في مصر، يمثل تصحيحاً وتنقيحاً لمذهبه القديم.

يقول الطوفي رحمه الله تعالى: "بعض الأئمة كالشافعي نصوا على الصحيح من مذهبهم، إذ العمل من مذهب الشافعي على القول الجديد، وهو الذي قاله بمصر، وصنف فيه الكتب كالأم ونحوه، ويقال: إنه لم يبق من مذهبه شيء لم ينص على الصحيح منه إلا سبع عشرة مسألة، تعارضت فيها الأدلة، واخترم قبل أن يحقق النظر فيها"

(3)

.

وقد تواترت الأقوال عن أئمة الشافعية في وجوب المصير إلى أقوال الشافعي في مذهبه الجديد، وعدم جواز عدّ القديم مذهباً للشافعي، يقول الجويني: "لا تحسب الأقوال القديمة من مذهب الشافعي، فإنه رجع عنها جديدًا،

(1)

المصدر السابق.

(2)

المصدر السابق.

(3)

شرح مختصر الروضة: 3/ 626.

ص: 51

والمرجوع عنه لا يكون مذهباً للراجع"

(1)

.

ويقول الخطيب في المذهب القديم: "هو ما قاله الشافعي بمصر تصنيفاً أو إفتاء، ورواته، البويطي، والمزني، والربيع المرادي، وحرملة، ويونس ابن عبد الأعلى، وعبد الله بن الزبير المكي وغير هؤلاء.

والثلاثة الأول هم الذين تصدوا لذلك وقاموا به، والباقون نقلت عنهم أشياء محصورة على تفاوت بينهم"

(2)

.

وقال النووي: "كل مسألة فيها قولان للشافعي رحمه الله: قديم وجديد، فالجديد هو الصحيح، وعليه العمل، لأن القديم مرجوع عنه"

(3)

.

وقال الخطيب الشربيني: "رجع الشافعي عن القديم، وقال: لا أجعل في حلّ من رواه عني، وقال الإمام: "لا يحلّ عدَّ القديم من المذهب، وقال الماودي في أثناء كتاب الصداق غيَّر الشافعي جميع كتبه القديمة في الجديد إلا الصداق، فإنه ضرب على مواضع منه، وزاد مواضع، وإن كان في المسألة قولان؛ قديم وجديد، فالجديد هو المعمول به، إلا في مسائل يسيرة، وإن كان في الجديد قولان فالعمل بآخرهما"

(4)

.

وقد وجه ابن القيم اللوم للمفتين من علماء المذاهب الذين يفتون بالأقوال القديمة من أقوال أئمتهم، وفي ذلك يقول: "أتباع الأئمة يفتون كثيراً بأقوال أئمتهم القديمة، التي رجعوا عنها وهذا موجود في سائر الطوائف.

فالحنفية يفتون بلزوم المنذورات التي مخرجها مخرج اليمين كالحج والصوم والصدقة، وقد حكوا هم عن أبي حنيفة أنه رجع قبل موته بثلاثة أيام إلى التكفير.

(1)

البرهان للجويني: 2/ 1366.

(2)

المصدر السابق.

(3)

المجموع: 1/ 66.

(4)

مغني المحتاج: 1/ 13.

ص: 52

والحنابلة يفتي كثير منهم بوقوع طلاق السكران، وقد صرح الإمام أحمد بالرجوع عنه إلى عدم الوقوع.

والشافعية يفتون بالقول القديم في مسألة التثويب، وامتداد وقت المغرب ومسألة التباعد عن النجاسة في الماء الكثير، وعدم استحباب قراءة السورة في الركعتين الأخيرتين، وغير ذلك من المسائل، وهي أكثر من عشرين مسألة، ومن المعلوم أن القول الذي صرح بالرجوع عنه لم يبق مذهباً له"

(1)

.

إلا أن إفتاء علماء المذهب بقديم قول الإمام قد لا يكون من قبيل عدهم تلك المسائل مذهباً للإمام، بل هو من قبيل أن هذا هو الذي أداهم إليه اجتهادهم.

"وقد نبه الفقهاء على هذا المعنى، منهم النووي حيث يقول: إن أصحابنا أفتوا بهذه المسائل من القديم، مع أن الشافعي رجع عنه، فلم يبق له مذهباً"

(2)

.

ونقل النووي عن إمام الحرمين أنه قال في باب الآنية من كتابه نهاية المطلب: "معتقدي أن الأقوال القديمة ليست من مذهب الشافعي، حيث كانت، لأنه جزم في الجديد بخلافها، والمرجوع عنه ليس مذهباً للراجع، فإذا علمت حال القديم، ووجدنا أصحابنا أفتوا بهذه المسائل على القديم، حملنا ذلك على أنه أداهم اجتهادهم إلى القديم لظهور دليله، وهم مجتهدون، فأفتوا به، ولا يلزم من ذلك نسبته إلى الشافعي، ولم يقل أحد من المتقدمين في هذه المسائل أنها مذهب الشافعي، أو أنه استثناها، قال أبو عمرو: فيكون اختيار أحدهم للقديم فيها من قبيل اختياره مذهب غير الشافعي، إذا أداه اجتهاده إليه، فإنه إن كان ذا اجتهاد اتبع اجتهاده، وإن كان اجتهاده مقيداً مشوباً بتقليد نقل ذلك الشوب من التقليد عن ذلك الإمام، وإذا أفتى بيّن ذلك في فتواه فيقول مذهب الشافعي كذا، ولكني أقول بمذهب أبي حنيفة"

(3)

.

(1)

إعلام الموقعين: 4/ 302.

(2)

المجموع: 1/ 67.

(3)

المجموع: 1/ 67. وراجع مغني المحتاج: 1/ 14.

ص: 53

‌المبحث الثالث: السبب في صعوبة معرفة الصحيح من المذهب

سهّل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بتصحيحه مذهبه على من بعده معرفة الصحيح من مذهبه، وذلك برجوع الباحث إلى مذهبه الجديد، بل إن كتب الإمام الشافعي التي تمثل مذهبه القديم لم تحفظ، ولم يبق منها إلا صفحات متناثرة في كتب أهل العلم، ولذلك لم نجد له في أيامنا كتاباً مطبوعاً من كتبه التي تمثل قديم مذهبه.

أما غيره من الأئمة فإن ما حفظ عنه أصحابه وتلامذته من أقواله ومروياته يمثل مذهبه، ما رجع عنه، وما لم يرجع عنه، وقد يشير الواحد من الأئمة إلى ما صار إليه اجتهاده من الأقوال التي رويت عنه كأن يقول في أحد القولين، هذا أحبُّ إلي، أو يقول: هذا أولى، وبالحق أشبه.

وقد ينبه على هذا تنبيهاً خفياً، كأن يذكر قولين، ويفرع على أحدهما، ولا يفرع على الآخر، فإن تفريعه على أحدهما يدل على قوته عنده، وأن المفرع عليه أقوى عنده من القول الذي لم يفرع عليه

(1)

.

يقول المرداوي: "كلام الإمام قد يكون صريحاً أو تنبيهاً، كقولنا: أومأ إليه، أو أشار إليه، أو دل كلامه عليه، أو توقف فيه ونحو ذلك"

(2)

.

وقد ذكر الطوفي أن "الإمام أحمد رحمه الله تعالى كان يقول كثيراً: كنت أقول كذا، ثم تركته، أو جبنت عنه، كقوله في المتيمم يجد الماء في الصلاة: كنت أقول: يمضي في صلاته، ثم تدبرت، فإذا أكثر الأحاديث على أنه يخرج.

وقوله: كنت أقول: إنّ من قال بخلق القرآن لا يكفر، ثمَّ نظرت، فإذا

(1)

المحصول للرازي: 5/ 392. البحر المحيط للزركشي: 6/ 120.

(2)

الإنصاف: 12/ 241.

ص: 54

القرآن من علم الله، ومن زعم أنَّ علم الله مخلوق، فهو كافر"

(1)

.

والمسائل التي حدد فيها الإمام صحيح مذهبه قليلة جدًّا بجانب ما لم ينص عليه من الأقوال والروايات من المسائل.

ولذا فإن معرفة المتقدم والمتأخر من مذاهب الأئمة غير الشافعي فيها صعوبة، وقد تبلغ هذه الصعوبة درجة الاستحالة أحياناً، يقول الطوفي مبيناً صعوبة تصحيح مذهب الإمام أحمد بسبب تعدد الروايات وكثرتها في مذهبه: "حوى كتاب (زاد المسافر) لأبي بكر، و (الجامع الكبير للخلال) علماً جماً من علم الإمام أحمد رضي الله عنه من غير أن يُعلم منه في آخر حياته الإخبار بصحيح مذهبه في تلك الفروع، غير أن الخلال يقول في بعض المسائل: هذا قولٌ قديمٌ لأحمد رجع عنه، لكن ذلك يسيرٌ بالنسبة إلى ما لم يُعْلمْ حاله منها.

ونحن لا يصحُّ لنا أن نجْزمَ بمذهب إمام حَتَّى نعلم أنه آخرُ ما دوَّنه من تصانيفه ومات عنه، أو أنه نصَّ عليه ساعة موته، ولا سبيل لنا إلى ذلك في مذهب أحمد، والتصحيحُ الذي فيه، إنما هو من اجتهاد أصحابه بَعْدَهُ، كابن حامد، والقاضي وأصحابه، ومن المتأخرين الشيخ أبو محمد المقدسي رحمة الله عليهم أجمعين، لكن هؤلاء بالغين ما بلغوا، لا يحصل الوثوقُ من تصحيحهم لمذهب أحمد، كما يَحْصُلُ من تصحيحه هو لمذهبه قطعاً، فمن فرضناه جاء بعد هؤلاء، وبلغ من العلم درجَتهم أو قاربهم، جاز له أن يتصرَّفَ في الأقوال المنقولة عن صاحب المذهب كتصرُّفهم، ويُصَحِّح منها ما أدَّى اجتهادُه إليه، وافقهم أو خالفهم، وعمل بذلك وأفتى، وفي عصرنا مِن هذا القبيل شيخُنا الإمامُ العالمُ العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني"

(2)

.

(1)

شرح مختصر الروضة: 3/ 624.

(2)

شرح مختصر الروضة: 3/ 627.

ص: 55

‌المبحث الرابع جهود علماء المذهب في تأصيل المذهب وتصحيحه

بذل علماء كل مذهب جهوداً كبيرة في تأصيل مذهب إمامهم وتقعيده وتصحيحه وسنعرض لهذه الجهود بشيء من التفصيل

‌المطلب الأول: جهودهم في فقه أقوال الإمام وتحديد مذهبه

درس أصحاب كل مذهب الثروة العلمية التي تركها إمام المذهب، واستخلصوا من أقواله ومروياته مذهبه في المسائل المختلفة.

وكلام الإمام في مسألة ما قد يكون صريحاً واضحاً لا تختلف العقول في فهمه، كأن ينص في مسألة على التحريم أو الوجوب أو الإباحة، فلا يختلف أصحابه وعلماء مذهبه في أن مذهبه في تلك المسألة هو ما نص عليه.

وقد يعبر تعبيراً تختلف العقول في تحديد مراده من كلامه، فإن بيَّن الإمام مراده من التعبيرات التي تختلف فيها الأنظار، فإنه يجب فقه كلامه على النحو الذي دلَّ عليه.

وقد بين الإمام مالك رحمه الله تعالى مراده من بعض ألفاظه التي عبر بها في كتابه الموطأ، فأغنانا بذلك عن الاجتهاد والاختلاف في تحديد مراده من تلك الألفاظ.

فقال مالك: "أما أكثر ما في الكتاب "فرأيي" فلعمري ما هو برأيي، ولكنه سماع من غير واحد من أهل العلم والفضل والأئمة المهتدى بهم الذين أخذت عنهم، وهم الذين كانوا يتقون الله تعالى، فكثر عليَّ، فقلت: "رأيي"، وذلك رأيي إذ كان رأيهم رأي الصحابة الذين أدركوهم عليه، وأدركتهم أنا على ذلك.

فهذا وراثة توارثناها قرنا عن قرن إلى زماننا، وما كان "رأيا" فهو رأي جماعة ممن تقدم من الأئمة، وما كان فيه "الأمر المجتمع عليه"، فهو ما

ص: 56

اجتمع عليه منْ قول أهل الفقه والعلم لم يختلفوا فيه، وما قلت:"الأمر عندنا" فهو ما عمل به الناس، وجرت به الأحكام، وعرفه الجاهل، والعالم، وكذلك ما قُلتُ فيه:"ببلدنا"، وما قلت فيه:"بعض أهل العلم"، فهو شيء أستحسنه من قول العلماء. وأمّا ما لم أسمع منهم، فاجتهدت ونظرت على مذهب من لقيته، حتى وقع ذلك موقع الحق أو قريباً منه، حتى لا يخرج عن مذهب أهل المدينة وآرائهم، وإن لم أسمع ذلك بعينه فما نسبت الرأي إليَّ إلا بعد الاجتهاد مع السنة، وما مضى عليه عمل أهل العلم المقتدى بهم، والأمر المعمول عندنا به -منذ لدن- رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدين مع من لقيت، فذلك رأيهم ما خرجت إلى غيره"

(1)

.

ولكن الكثير الغالب عدم تحديد الإمام لمراده من تعبيراته التي تختلف العقول في فهمها، وهنا يختلف أصحابه وأتباع مذهبه في فقه كلامه، وتحديد مراده.

ولأضرب في هذا مثالاً بما ورد عن الإمام أحمد مما اختلف أصحابه وفقهاء مذهبه في فهم مراده منه.

فقد اختلفوا في قوله: "أكره، أو لا يعجبني، أو لا أحبه، أو لا أستحسنه، أو يفعل السائل كذا احتياطاً" فقال بعضهم: هذه التعبيرات تدل على التحريم، وقال آخرون تدل على التنزيه.

لماذا قال الإمام: "أحب كذا، أو يعجبني كذا، أو هذا أعجب إلي" فهو للندب على الصحيح من المذهب، وعليه جماهير علماء المذهب، وقال بعض علماء الحنابلة هذه الألفاظ تفيد الوجوب. وإذا قال في مسألة:"أجبن عنه". قالوا: هذا يعني الجواز، وقيل: الكراهة.

وإذا قال: "أخشى، أو أخاف أن يكون، أو لا يكون" ظاهر في المنع.

وقيل هو كقوله: يجوز، أو لا يجوز. وقيل: بالوقف"

(2)

.

(1)

الديباج المذهب، لابن فرحون:25.

(2)

الإنصاف للمرداوي: 12/ 248 - 249. وقد أطال المرداوي في ذكر الصيغ الواردة عن الإمام أحمد، وبيان مراده منها، فارجع إليه إن شئت.

ص: 57

‌المطلب الثاني: جهودهم في تصحيح المذهب وتنقيحه

بذل العلماء الأعلام جهداً كبيراً في تصحيح المذاهب التي ينتسبون إليها وتنقيحها، وهذا ليس قصراً على مذاهب الأئمة الذين لم ينقل عن أئمتهم تصحيح مذاهبهم، فإن علماء المذهب الشافعي بذلوا جهوداً هائلة في تنقيح المذهب وتصحيحه، وجهود بقية العلماء في المذاهب الأخرى أعظم وأكثر.

والسرّ في ذلك أن العلماء في تحقيقهم المذهب وتصحيحه لا يقفون عند حدّ معرفة قول إمام المذهب، فإن معرفة الصحيح من مذهب الإمام واحد من مهمات متعددة لا بدَّ منها في تحقيق المذهب، إن كل مذهب من المذاهب يزخر بالعلماء المجتهدين الذين ينظرون في المسائل وأدلتها، وقد أشرنا من قبل كيف أن أصحاب الأئمة كانوا يفتون في المسائل بنظر مستقل، ولا يتقيدون بما بلغهم من فتاوى إمام مذهبهم، وقد كانت فتاويهم تذكر في كتب المذهب مع فتاوى إمامهم جنباً إلى جنب، فما ذكر الحنفية أقوال أبي حنيفة إلا وذكروا معها فتاوى أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن وغيرهم، وما ذكر الشافعية فتاوى الشافعي إلا وذكروا معها فتاوى البويطي والربيع المرادي والمزني، وهكذا الحال عند المالكية والحنابلة.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل نبغ من بعد ذلك الرعيل علماء اجتهدوا في تصحيح المذهب فيما فيه قولان أو روايتان، فكان لكل عالم اختياره وترجيحه، ثم إن العلماء اجتهدوا في كل عصر في المسائل المستجدة التي لم يعرف فيه قول عن سابقي علماء المذهب، وقد تأهل للفتوى في كل عصر عدد كبير من العلماء في كل مذهب، كانوا على علم بمقاصد التشريع، كما كانوا على دراية بطرائق الاستدلال.

وحتى عندما جمد كثير من فقهاء المذاهب في العصور المتأخرة على أقوال سابقي علمائهم، بقي فيهم من يرجح قولا على قول، ورأياً على رأي، وبقي فيهم من ينبه على أخطاء من أخطأ في ذكر المعتمد للفتوى، وكانت

ص: 58

لعلماء المذاهب في هذا المجال جهود واسعة.

وقد ازدادت مهمة محققي المذاهب صعوبة وتعقيدا مع كثرة التأليف والاجتهادات في كل مذهب، فقد كثرت الأخطاء في تحقيق المذهب، والخطأ من طبيعة البشر، وألف في المذاهب من ليس بأهل للتأليف والفتوى، فتضاعفت الأخطاء، وقد نبه إلى هذا الخلل الذي وقع في المذاهب الفقهية المحققون في كل مذهب، ومن هؤلاء أبو شامة الشافعي المذهب، وفي ذلك يقول:"يختلف المصنفون من أصحابنا كثيراً فيما ينقلونه من نصوص الشافعي، وفيما يصححونه منها، وصارت لهم طرق مختلفة خراسانية وعراقية، فترى هؤلاء ينقلون عن إمامهم خلف ما ينقله هؤلاء، والمرجع في هذه كله إلى إمام واحد، وكتبه مدونه مروية موجودة، أفلا كانوا يرجعون إليها، وينقون تصانيفهم من كثرة اختلافهم عليها"

(1)

.

ويقول النووي رحمه الله تعالى: "أكثر العلماء من أصحابنا الشافعيين وغيرهم من العلماء من التصنيف في الفروع من المبسوطات والمختصرات، وأودعوا فيها من الأحكام والقواعد والأدلة وغيرها من النفائس الجليلات، ما هو معلوم مشهور عند أهل العنايات، وكانت مصنفات أصحابنا رحمهم الله في نهاية من الكثرة فصارت منتشرات، مع ما هي عليه من الاختلاف في الاختيارات، فصار لا يحقق المذهب من أجل ذلك إلا أفراد من الموفقين الغواصين المطلعين أصحاب الهمم العاليات"

(2)

.

وقال النووي في المجموع: "اعلم أن كتب المذهب فيها اختلاف شديد بين الأصحاب، بحيث لا يحصل للمطالع وثوق بكون ما قاله مصنف منهم هو المذهب، حتى يطالع معظم كتب المذهب المشهورة"

(3)

.

(1)

مختصر كتاب المأمل للرد إلى الأمر الأول: ص 28. مجموعة الرسائل المنيرية: الجزء الثالث.

(2)

روضة الطالبين: 1/ 4.

(3)

المجموع: 1/ 4.

ص: 59

وقال في موضع آخر: "لا يجوز لمفت على مذهب الشافعي إذا اعتمد النقل أن يكتفي بمصنف ومصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين وأكثر المتأخرين، لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والترجيح، لأن هذا المفتي المذكور إنما ينقل مذهب الشافعي ولا يحصل له وثوق بأن ما في المصنفين المذكورين ونحوهما هو مذهب الشافعي أو الراجح منه، لما فيها من الاختلاف، وهذا مما لا يتشكك فيه من له أدنى أنس بالمذهب، بل قد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيء وهو شاذ بالنسبة إلى الراجح في المذهب، ومخالف لما عليه الجمهور، وربما خالف نص الشافعي أو نصوصاً له"

(1)

.

وقد تعرض ابن عابدين للخلل الذي وقع فيه المصنفون المتأخرون من الحنفية في حكاية المذهب فقال: "لا ثقة بما يفتي به أكثر أهل زماننا بمجرد مراجعة كتاب من الكتب المتأخرة، خصوصاً غير المحررة، كشرح النقاية للقهستاني، والدر المختار، والأشباه والنظائر، ونحوها، فإنها لشدة الاختصار والإيجاز كادت تلحق بالألغاز، مع ما اشتملت عليه من السقط في النقل في مواضع كثيرة، وترجيح ما هو خلاف الراجح، بل ترجيح ما هو مذهب الغير مما لم يقل به أحد من أهل المذهب"

(2)

.

ثم ذكر ابن عابدين أن بعض متأخري فقهاء الحنفية قد يقع في خطأ، فيتتابع الفقهاء في نقل ما أخطأ به من غير تبين ولا تحقيق، وفي ذلك يقول:"وقد يتفق نقل قول في نحو عشرين كتاباً من كتب المتأخرين، ويكون القول خطأ أخطأ به أول واضع له، فيأتي من بعده وينقله عنه، وهكذا ينقل بعضهم عن بعض".

وقد مثل لهذه الأخطاء بأمثلة، سأكتفي بذكر أولها، وهي مسألة الاستئجار على تلاوة القرآن المجردة، "فقد وقع لصاحب السراج الوهاج والجوهرة شرح القدوري أنه قال بأن المفتي به صحة الاستئجار، وقد انقلب

(1)

المجموع: 1/ 47.

(2)

شرح رسم عقود المفتي، مجموعة رسائل ابن عابدين: 1/ 13.

ص: 60

عليه الأمر، فإن المفتى به صحة الاستئجار على تعليم القرآن، لا على تلاوته، ثم إن أكثر المصنفين الذين جاؤوا بعده تابعوه على ذلك ونقلوه، وهو خطأ صريح، بل كثير منهم قالوا: إن الفتوى على صحة الاستئجار على الطاعات، ويطلقون العبارة، ويقولون إنه مذهب المتأخرين، وبعضهم يفرع على ذلك صحة الاستئجار على الحج.

وهذا كله خطأ أصرح من الخطأ الأول، فقد اتفقت النقول عن أئمتنا الثلاثة: أبى حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن الاستئجار على الطاعات باطل، لكن جاء من بعدهم من المجتهدين الذين هم أهل التخريج والترجيح، فأفتوا بصحته على تعليم القرآن للضرورة، فإنه كان للمعلمين عطايا من بيت المال وانقطعت، فلو لم يصح الاستئجار وأخذ الأجرة لضاع القرآن، وفيه ضياع الدين لاحتياج المعلمين إلى الاكتساب، وأفتى من بعدهم أيضاً من أمثالهم بصحته على الأذان والإمامة، لأنهما من شعائر الدين، فصححوا الاستئجار عليهما للضرورة أيضاً فهذا ما أفتى به المتأخرون عن أبى حنيفة وأصحابه، لعلمهم بأن أبا حنيفة وأصحابه لو كانوا في عصرهم لقالوا بذلك، ورجعوا عن قولهم الأول.

وقد أطبقت المتون والشروح والفتاوى على نقلهم بطلان الاستئجار على الطاعات إلا فيما ذكر، وعللوا ذلك بالضرورة، وهي خوف ضياع الدين، وصرحوا بذلك التعليل، فكيف يصح أن يقال إن مذهب المتأخرين صحة الاستئجار على التلاوة المجردة مع عدم الضرورة المذكورة، فإنه لو مضى الدهر ولم يستأجر أحد أحدا على ذلك لم يحصل به ضرر، بل الضرر صار في الاستئجار عليه، حيث صار القرآن مكسباً وحرفة يتجر بها، وصار القارئ منهم لا يقرأ شيئاً لوجه الله تعالى خالصاً، بل لا يقرأ إلا للأجرة، وهو الرياء المحض الذي هو إرادة العمل لغير الله تعالى، فمن أين يحصل له الثواب الذي طلب المستأجر أن يهديه لميته"

(1)

.

(1)

شرح عقود رسم المفتي: 1/ 13 - 14.

ص: 61

ومن الخلل الذي وقع فيه متأخرو الحنفية أنهم خلطوا ما أفتى به المتأخرون في كتب الفتاوى والنوازل والواقعات بمسائل ظاهر الرواية من غير تمييز بينها

(1)

.

الطرق التي سلكها علماء كل مذهب في تحقيق المذهب

إحدى المعالم البارزة في الجهود التي بذلها علماء كل مذهب هو توجههم إلى تحقيق مذهب إمامهم، وقد بينا واحداً من الطرق التي تصحح المذاهب بها، وهو معرفة المتقدم والمتأخر من أقوال الإمام في المسألة الواحدة.

وسنذكر في هذا المبحث الخطوات التي اتبعها علماء كل مذهب نحو معرفة الصحيح من مذهب إمامهم:

‌1 - التأكد من صحة نسبة الأقوال والروايات لإمام المذهب.

إذا وجد عن الإمام في المسألة الواحدة أكثر من قول أو أكثر من رواية، فالواجب على العالم الفقيه أن يبحث عن صحة الأقوال والروايات، فإن كثيراً من الأقوال والروايات لا تصح نسبتها إلى الأئمة، وقد قيل: وما آفة الأخبار إلا رواتها.

فإذا وجد الباحث أنه لا تصح نسبة جميع الأقوال أو الروايات في المسألة إلى الإمام فهي روايات باطلة، والإمام في هذه الحال ليس له قول في المسألة، وإن وجد أن بعضها صحيح وبعضها باطل حكمنا بنسبة الصحيح إليه منها دون غيره، يقول الطوفي: "القولان المذكوران إمّا أن يكونا فاسدين أو أحدهما، أو صحيحين، فإن كانا فاسِديْن، أو أحدهما؛ فإمَّا أن يَعلم بالفساد أو لا، فإن علم بفسادهما، فالقولُ بهما حرام، إذ لا قول له في المسألة أصلاً إذ لا يسمع مِن قوله وقول غيره إلا الصحيحُ، دونَ الفاسد،

(1)

شرح عقود رسم المفتي: 1/ 17.

ص: 62

وكذلك إن كان الفاسدُ أحدَهما، وعلم به، "فلا قولين"، بل هو قولٌ واحد، وإن لم يعلم الفاسِدَ مِن قوليه، سواء كان الفاسِد أحدهما أو كلاهما "فليس عالمًا بِحُكم المسألةِ، فلا قولَ له فيها، فيلزمه التوقفُ أو التخيير"، وكل واحد من التوقف أو التخيير "قولٌ واحد لا قولين"

(1)

.

‌2 - التوفيق بين القولين.

إذا كان القولان صحيحين عن الإمام وأمكن الجمع بينهما، بأن يحمل عام كلامه على خاصه، ومطلقه على مقيده، فلا تعارض بين قوليه في مثل هذه الحال، وكل واحد من القولين هو مذهبه

(2)

.

‌3 - ترجيح القول المتأخر.

إذا لم يمكن الجمع بين القولين، وعلم المتأخر منهما فإنه المذهب، لأن المتأخر ينسخ المتقدم، وقد مضى القول في ذلك.

‌4 - الترجيح بموافقة أصول المذهب.

إذا كان القولان أو الروايتان عن الإمام صحيحتين، ولم يوجد عن الإمام ما يدل على اختياره، ولم يعلم المتقدم والمتأخر من القولين أو الروايتين، فإن كثيراً من العلماء يجعل مذهب الإمام هو القول الذي وافق أصوله.

يقول الزركشي: "يرجح أحد القولين على الآخر بأمور منها: أن تكون أصول مذهبه موافقة لأحد القولين دون الآخر، فيكون هو المذهب، قاله الماوردي"

(3)

.

(1)

شرح مختصر الروضة للطوفي: 3/ 622.

(2)

الإنصاف، للمرداوي: 12: 242.

(3)

البحر المحيط: 6/ 124.

ص: 63

‌5 - توجيه المحققين إلى الراجح من المذهب.

عندما قل المجتهدون في المذاهب احتاج المحققون في كل مذهب إلى بيان الراجح والقوي في المذهب الذي عليه الفتوى، ولم يجيزوا لفقهاء المذهب الفتوى بغيره.

قال العلامة قاسم فيما حكاه عنه ابن عابدين: "لم يفقد المجتهدون حتى نظروا في المختلف فيه ورجحوا وصححوا، فعلينا اتباع الراجح والعمل به، كما لو أفتوا به في حياتهم"

(1)

.

ومن قواعد الترجيح ترجيح ما في الكتب المعتمدة على غيرها.

ففي المذهب الحنفي إذا تعارض ما في المدونات الفقهية، فإنهم يوجهون المفتي إلى الإفتاء من الكتب المعتمدة في المذهب، ففي حاشية ابن عابدين:"إذا اختلف التصحيح والفتوى فالعمل بما في المتون أولى"

(2)

. فيقدمون ما فيها على ما في الفتاوى.

وحذر علماء الحنفية من الفتوى من الكتب الغريبة، والكتب المختصرة كالنهر والكنز والدر المختار أو من الكتب التي لم يطلع على حال مؤلفيها كشرح الكنز لملا مسكين

(3)

.

ولا شك أن ما في كتب ظاهر الرواية هو العمدة في المذهب الحنفي، وهي الكتب الستة لمحمد، أو الكتب التي جَمَعتْها واختصرتها ككتاب الكافي للحاكم الشهيد وشرحه للسرخسي.

ففي حاشية ابن عابدين: "أن ما خرج عن ظاهر الرواية فهو مرجوع عنه، والمرجوع عنه لم يبق قولاً للمجتهد"

(4)

.

(1)

شرح عقود رسم المفتي: 1/ 29.

(2)

حاشية ابن عابدين: 1/ 72. شرح عقود رسم المفتي: 1/ 36.

(3)

حاشية ابن عابدين: 1/ 70.

(4)

شرح عقود رسم المفتي: 1/ 35.

ص: 64

وإذا اتفق أئمة المذهب على قول، فلا يجوز لمن بعدهم العدول عما أجمعوا عليه

(1)

.

وقدم علماء المذهب قول أبي حنيفة عند الاختلاف على قول غيره من أئمة المذهب وعلمائه، ثم قول أبي يوسف، ثم قول محمد، ثم زفر والحسن ابن زياد

(2)

.

وفي حال اتفاق الإمام وصحابيه على قول يكون هذا القول في غاية القوة، وقد اختلف علماء الحنفية فيما إذا اتفق صاحبا أبي حنيفة على قول مخالفين إمام المذهب، فهل يرجح قوله أو قولهما؟ مسألة فيها نزاع

(3)

.

وكثير من فقهاء الحنفية يجعل الفتوى على قول أبى حنيفة في العبادات، وعلى قول أبى يوسف في القضاء، وعلى قول محمد في ذوي الأرحام، أي توريثهم

(4)

.

وعلماء الشافعية يلزمون من ليس أهلا للترجيح أن يرجح ما صححه الأكثر والأعلم والأورع، فإن تعارض الأعلم والأورع قدم الأعلم، فإن لم يجد ترجيحاً عن أحد اعتبر صفات الناقلين للقولين والقائلين للوجهين، فما رواه البويطي والربيع المرادي والمزني عن الشافعي مقدم عند أصحابنا على ما رواه الربيع الجيزي وحرملة

(5)

.

وقد حدثنا الشيخ علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي مصحح المذهب الحنبلي ومنقحه عن الطريقة التي سلكها في التعرف على المذهب فقال: "إن كان المذهب ظاهراً أو مشهوراً أو قد اختاره جمهور الأصحاب وجعلوه

(1)

شرح عقود رسم المفتي: 1/ 26.

(2)

المصدر السابق.

(3)

المصدر السابق.

(4)

المصدر السابق: 1/ 35.

(5)

المجموع: 1/ 68.

ص: 65

منصوراً. فهذا لا إشكال فيه. وإن كان بعض الأصحاب يدعي أن المذهب خلافه.

وإن كان الترجيح مختلفاً بين الأصحاب في مسائل متجاذبة المأخذ، فالاعتماد في معرفة المذهب من ذلك على ما قاله المصنف، والمجد، والشارح، وصاحب الفروع، والقواعد الفقهية، والوجيز، والرعايتين، والنظم، والخلاصة، والشيخ تقي الدين

(1)

، وابن عبدوس في تذكرته. فإنهم هذبوا كلام المتقدمين، ومهدوا قواعد المذهب بيقين.

فإن اختلفوا فالمذهب: ما قدمه صاحب "الفروع" فيه، في معظم مسائله.

فإن أطلق الخلاف، أو كان من غير المعظم الذي قدمه، فالمذهب: ما اتفق عليه الشيخان -أعني المصنف والمجد- أو وافق أحدهما الآخر في أحد اختياريه.

وهذا ليس على إطلاقه، وإنما هو في الغالب. فإن اختلفا فالمذهب مع من وافقه صاحب القواعد الفقهية، أو الشيخ تقي الدين وإلا فالمصنف، لا سيما إن كان في الكافى، ثم المجد.

وقد قال العلامة ابن رجب في طبقاته في ترجمة ابن المنى: وأهل زماننا ومن قبلهم إنما يرجحون في الفقه من جهة الشيوخ والكتب إلى الشيخين: الموفق والمجد" انتهى.

فإن لم يكن لهما ولا لأحدهما في ذلك تصحيح، فصاحب القواعد الفقهية، ثم صاحب الوجيز، ثم صاحب الرعايتين. فإن اختلفا فالكبرى، ثم الناظم، ثم صاحب الخلاصة، ثم تذكرة ابن عبدوس، ثم من بعدهم، أذكر من قدم، أو صحيح، أو اختار، إذا ظفرت به. وهذا قليل جداً.

وهذا الذي قلنا من حيث الجملة، وفي الغالب، وإلا فهذا لا يطرد ألبتة.

(1)

يريد بالمصنف مصنف المقنع وهو ابن قدامة. ويريد بالمجد: مجد الدين ابن تيمية جد شيخ الإسلام ابن تيمية.

ص: 66

بل قد يكون المذهب ما قاله أحدهم في مسألة، ويكون المذهب ما قاله الآخر في أخرى، وكذا غيرهم باعتبار النصوص والأدلة والموافق له من الأصحاب.

هذا ما يظهر لي من كلامهم، ويظهر لمن تتبع كلامهم وعرفه، وسننبه على بعض ذلك في أماكنه.

وقد قيل: إن المذهب -فيما إذا اختلف الترجيح- ما قاله الشيخان، ثم المصنف، ثم المجد، ثم الوجيز، ثم الرعايتين.

وقال بعضهم: إذا اختلفا في المحرر والمقنع فالمذهب ما قاله في الكافي

(1)

. وبما قدمناه يظهر لك مدى المعاناة التي يتجشمها علماء كل مذهب في معرفة الراجح من المذهب، ولو اهتموا بالترجيح بقوة الدليل لكان أسهل عليهم من هذا العناء الطويل الذي قد لا يصلون فيه إلى مرداهم.

‌6 - التوقف عند عدم القدرة على الترجيح:

إذا وجدنا عن أحد الأئمة في مسألة ما أكثر من قول، ولم نجد ما يدل على أن أحد هذه الأقوال مذهبه، ولم نعرف المتقدم من المتأخر منها، فلا يجوز بأن نجزم بأن واحدا منها مذهبه.

وإذا صرح الإمام في مسألة ما بأن فيها قولين، ولم يذكره أي هذين القولين مذهبه، فإن أطلق القولين، بأن قال: في هذه المسألة قولان، ولم يقل في فيها قولان، فيحمل قوله على أن لأهل العلم في هذه المسألة قولين، لا أن له هو فيها قولين

(2)

.

أما إذا صرح بنسبة القولين إليه، ولم يذكر أيهما مذهبه، فالصحيح أنه ليس له في هذه المسألة مذهب، وفي هذا يقول إمام الحرمين فيما نقله عنه

(1)

الإنصاف: 1/ 16 - 18.

(2)

المحصول للرازي: 5/ 393.

ص: 67

الزركشي: "وعندي أنه حيث نص على قولين في موضع واحد، فليس له فيها مذهب، وإنما ذكر القولين لتردده فيهما، وعدم اختياره لأحدهما"

(1)

.

وأحسن ما يعتذر عن الإمام في مثل هذه الحال أنه تعارض عنده الدليلان، أي دليلا القولين في المسألة، فقال بمقتضاهما، أي أطلق القول لذلك على شريطة الترجيح

(2)

.

‌المطلب الثالث: التخير من الأقوال والوجوه بالتشهي والهوى

رأينا كيف كثرت الاجتهادات في كل مذهب وتعددت، وكيف أن المجتهدين في كل مذهب كانوا يفتون بما ترجح دليله عندهم، أما غيرهم فعليهم الفتوى بالراجح من المذهب.

وقد كثر في كل مذهب من يتخير من أقوال إمام المذهب وأقوال أصحابه وعلماء مذهبه بما يحب ويشتهي من غير مرجح، ولا عمل بالقول الراجح.

وقد سنن المحققون في كل مذهب حملة كبيرة على هذا الصنف من المنتسبين إلى المذاهب، ووسموهم باتباع الهوى والعمل بالدين بما يشتهون.

يقول ابن القيم: "إذا اعتدل عند المفتي قولان، ولم يترجح له أحدهما على الآخر. . . فالأظهر أنه يتوقف، ولا يفتيه بشيء، حتى يتبين له الراجح منهما، لأن أحدهما خطأ، فليس له أن يفتيه بما لا يعلم أنه صواب، وليس له أن يخيره بين الخطأ والصواب، وهذا كما إذا تعارض عند الطبيب في أمر المريض أمران خطأ وصواب، ولم يتبين له أحدهما، لم يكن له أن يقدم على أحدهما، ولا يخيره، وكما لو استشاره في أمر، فتعارض عنده الخطأ والصواب من غير ترجيح لم يكن له أن يشير بأحدهما ولا يخيره،

(1)

البحر المحيط للزركشي: 6/ 120.

(2)

مختصر الروضة: 3/ 623. وراجع شرح عقود رسم المفتي: مجموعة رسائل ابن عابدين: 1/ 22.

ص: 68

وكما لو تعارض عنده طريقان مهلكة وموصلة، ولم يتبين له طريق الصواب لم يكن له الإقدام ولا التخيير، فمسائل الحلال والحرام أولى بالتوقف، والله أعلم"

(1)

.

ويقول النووي رحمه الله تعالى: "ليس للمفتي، ولا للعامل المنتسب إلى مذهب الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة القولين أو الوجهين أن يعمل بما شاء منهما، بغير نظر، بل عليه في القولين العمل بآخرهما إن علمه، وإلا فبالذي رجحه الشافعي"

(2)

.

وقال ابن عابدين: "لا يجوز للمفتي أو العامل أن يفتي أو يعمل بما شاء من القولين أو الوجهين من غير نظر"

(3)

.

وعللوا ذلك أن الحكم بأحد القولين أو الوجهين من غير نظر اتباع للهوى، وهو حرام

(4)

.

وحكى ابن عابدين عن العلامة قاسم قوله: "إن الحكم بما هو مرجوح خلاف الإجماع، وأن المرجوح في مقابلة الراجح بمنزلة العلم، والترجيح بغير مرجح في المتقابلات ممنوع"

(5)

.

وقد أدى إفتاء المفتي بما شاء من الأقوال من غير نظر إلى القول الراجح إلى التلاعب بدين الله، وفي ذلك يقول الشاطبي:

"صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال، اتباعاً لغرضه وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق، ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلاً عن زماننا، كما وجد فيه تتبع

(1)

إعلام الموقعين: 4/ 302.

(2)

المجموع: 1/ 68.

(3)

شرح عقود رسم المفتي: 1/ 10.

(4)

المصدر السابق.

(5)

المصدر السابق: 1/ 48.

ص: 69

رُخص المذاهب اتباعاً للغرض والشهوة"

(1)

.

وضرب الشاطبي مثلاً بما حكاه عياض في المدارك قال موسى بن معاوية: "كنت عند البهلول ابن راشد إذ أتاه ابن فلان، فقال له بهلول: ما أقدمك؟ قال: نازلة، رجل حبسه السلطان فأخفيته، وحلفت بالطلاق ثلاثاً ما أخفيته، قال له البهلول: مالك يقول: إنه يحنث في زوجته، فقال السائل: وأنا قد سمعته يقوله، وإنما أردت غير هذا، فقال: ما عندي غير ما تسمع.

قال: فتردد إليه ثلاثاً كل ذلك يقول له البهلول قوله الأول، فلما كان في الثالثة أو الرابعة قال: يا ابن فلان ما أنصفتم الناس، إذا أتوكم في نوازلهم قلتم: قال مالك، قال مالك، فإن نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرُّخص، الحسن يقول: لا حِنْثَ عليه في يمينه، فقال السائل: الله أكبر، قلدّها الحسن، أو كما قال"

(2)

.

وذكر الشاطبي أن أحمد بن عبد البر حكى أن قاضياً من قضاة قُرْطبة كان كثير الاتباع ليحيى بن يحيى، لا يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء، فوقعت قضية تفرد فيها يحيى، وخالف جميع أهل الشورى، فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم، وردفته قضية أخرى كتب بها إلى يحيى، فصَرَفَ يحيى رسوله، وقال له: لا أشير عليه بشيء إذ توقف على القضاء لفلان بما أشرتُ عليه.

فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه، وركب من فوره إلى يحيى، وقال له: لم أظن أن الأمر وقع منك هذا الموقع، وسوف أقضى له غداً إن شاء الله، فقال له يحيى: وتفعل ذلك صدقا؟ قال: نعم.

قال له: فالآن هيجت غيظي، فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفْت مستخيراً الله متخيراً في الأقوال، فأما إذ صرت تتبع الهوى، وتقضي برضا

(1)

الموافقات: 4/ 85.

(2)

المصدر السابق.

ص: 70

مخلوق ضعيف، فلا خير فيما تجيء به، ولا في إن رضيته منك، فاستعف من ذلك فإنه أستر لك، وإلا رفعت في عزلك، فرفع يستعفي فعزل.

وقصة محمد بن يحيى بن لبابة أخي الشيخ ابن لبابة مشهورة، ذكرها عياض، وكانت مما غَضَّ من منصبه، وذلك أنه عزل عن قضاء ألبيرة لرفع أهلها عليه، ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه، وسجل بسخطته للقاضي حبيب بن زياد، وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته، وأن لا يفتي أحداً، فأقام على ذلك وقتاً.

ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر

(1)

من أحباس المرضَى بقرطبة بعدوة النهر، فشكا إلى القاضي ابن بقي أمره وضرورته إليه لمقابلته منزهه، وتأذيه برؤيتهم أوان تطلعه من علاليه، فقال له ابن بقي: لا حيلة عندي فيه، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس، فقال له: فتكلم مع الفقهاء فيه، وعرفهم رغبتي، وما أجزله من أضعاف القيمة فيه، فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة، فتكلم ابن بقي معهم، فلم يجعلوا إليه سبيلاً، فغضب الناصر عليهم، وأمر الوزراء بالتوجُه فيهم إلى القصر وتوبيخهم، فجرت لكنهم وبين الوزراء مكالمة، ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده.

وبلغ ابن لبابة هذا الخبر، فرفع إلى الناصر يغض من أصحابه الفقهاء، ويقول: إنهم حجَّروا عليه واسعاً، ولو كان حاضر لأفتاه بجواز المعاوضة، وتقلدها وناظر أصحابه فيها، فوقع الأمر بنفس الناصر، وأمر لإعادة محمد ابن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة، فاجتمع القاضي والفقهاء، وجاء ابن لبابة آخرهم، وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لأجلها ورغبة المعاوضة فيها، فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه، وابن لبابة ساكت، فقال له القاضي: ما تقول أنت يا أبا أبا عبد الله؟

(1)

المجشر، كمنبر: حوض لا يسقى فيه، وبالفتح اسم مكان من الجشر -بالسكون- وهو أن يخرجوا بخيلهم فيرعوها أمام بيوتهم، والمراد به مرتفق المرض كالمستشفى.

ص: 71

قال: أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء، وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلاً، وهم علماء أعلام يهتدي بهم أكثر الأمة، وإذا كان بأمير المؤمنين في الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغي أن يردّ عنه، وله في السُّنة فسحة، وأنا أقول فيه يقول أهل العراق، وأتقلد ذلك رأياه.

فقال له الفقهاء: سبحان الله، تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه، واعتقدناه بعدهم، وأفتينا به لا نحيد عنه بوجه، وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأثمة آبائه؟

فقال لهم محمد بن يحيى: ناشدتكم الله العظيم، ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها يقول غير مالك في خاصة أنفسكم، وأرخصتم لأنفسكم، قالوا: بلى، قال: أمير المؤمنين أولى بذلك، فخذوا به مآخذكم، وتعلقوا يقول من يوافقه من العلماء، فكلهم قدوة فسكتوا.

فقال للقاضي: أنهِ إلى أمير المؤمنين فُتياي.

فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يأخذ له بفتيا محمد بن يحيى بن لبابة، وينفذ ذلك، ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاك ثمينة عجيبة، وكانت عظيمة القدر جداً تزيد أضعافاً على المجشر

(1)

.

إن هذا المنهج الذي ذكر له الشاطبي هذه الأمثلة مرفوض لا يقبل بحال، لأن مردّ الاختيار بين الأقوال إلى الهوى، وقد نهى رب العزة عن اتباع الهوى {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}

(2)

ومتى رد المرء أموره إلى الهوى فإنه يكون قد اتخذ الهوى إلهاً معبوداً {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}

(3)

.

(1)

المصدر السابق: 4/ 86.

(2)

سورة ص: 26.

(3)

سورة الجاثية: 23.

ص: 72

إلا أن الذي يلفت النظر في المسألة أن الفقهاء أتباع المذهب الواحد قلما يخلو واحد منهم من الأخذ بالقول المرجوح، وبقول غير إمام مذهبه في ملمة ألمت به في خاصة نفسه، وهذا يقودنا إلى أن التخير بين الأقوال والأخذ برخص المذاهب سببه في بعض الأحيان شعور أتباع المذهب بما يسببه الأخذ بالمذهب أو بالراجح فيه من حرج وعنت.

لقد تبين من خلال التطبيق أن في المعتمد من المذهب ما تضيق الحياة به، ولذا فإن الناس يتهربون من اتباع مذهبهم في تلك المسألة، ولكن علماء المذهب يأخذون بزمام الأمر، ويلزمون الناس باتباع المذهب، وقد استشرت هذه المشكلة، وكانت أحد أسباب الخروج عن الشريعة الإسلامية والأخذ بالقوانين الغربية.

إن في كل مذهب حق كثير وخير كثير، ولكن ليس كل ما فيه حق، ولا يحيط كل واحد من المذاهب بالأحكام الشريعة، فالكمال من خاصة الشريعة وحدها.

لقد كان الواجب على العلماء أن يستفيدوا من فقه جميع الأئمة وأصحابهم وأتباعهم، وما توصلوا إليه من علم، على أن تبقى دراسة الكتاب والسنة هي الأصل الذي تدور عليه الدراسة والفقه، وفى دائرتهما ينمو الفقه ويمتد، وفي ضوئهما تصوب الأخطاء، ويصحح المسار، ويتبين للعلماء أحكام ما يجد من النوازل والكائنات.

والقاعدة الذهبية في هذا ما دل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}

(1)

(1)

سورة النساء: 59.

ص: 73

‌المطلب الرابع: نماذج من جهود مصححي المذهب

نبغ في كل مذهب جملة من أهل العلم والتحقيق كان لهم دور كبير في تحقيق المذهب وتصحيحه، ومن الأعلام في هذا الباب الإمام النووي رحمه الله تعالى، وقد شرح المهذب لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، وهو من الكتب المعتمدة في مذهب الشافعية في كتابه المجموع، وقد حدثنا النووي في مقدمة المجموع عن الجهد الذي قام به في تصحيح المذهب فقال:

"واعلم أن كتب المذهب فيها اختلاف شديد بين الأصحاب، بحيث لا يحصل للمطالع وثوق بكون ما قاله مصنف منهم هو المذهب، حتى يطالع معظم كتب المذهب المشهورة، فلهذا لا أترك قولاً ولا وجهاً ولا نقلاً ولو كان ضعيفاً أو واهياً إلا ذكرته إذا وجدته إن شاء الله تعالى، مع بيان رجحان ما كان راجحاً، وتضعيف ما كان ضعيفاً، وتزييف ما كان زائفاً، والمبالغة في تغليط قائله، ولو كان من الأكابر، وإنما أقصد بذلك التحذير من الاغترار به.

وأحرص على تتبع كتب الأصحاب من المتقدمين والمتأخرين إلى زماني من المبسوطات والمختصرات، وكذلك نصوص الإمام الشافعي صاحب المذهب رضي الله عنه، فأنقلها من نفس كتبه المتيسرة عندي، كالأم والمختصر والبويطي، وما نقله المفتون المعتمدون من الأصحاب، وكذلك أتتبع فتاوى الأصحاب، ومتفرقات كلامهم في الأصول والطبقات، وشروحهم للحديث وغيرها، وحيث أنقل حكماً أو قولاً أو وجهاً أو طريقاً أو لفظة لغة أو اسم رجل أو حاله أو ضبط لفظة أو غير ذلك وهو من المشهور اقتصر على ذكره من غير تعيين قائليه لكثرتهم، إلا أن أضطر إلى بيان قائليه لغرض مهم، فأذكر جماعة منهم، ثم أقول: وغيرهم، وحيث كان ما أنقله غريباً أضيفه إلى قائله في الغالب، وقد أذهل عنه في بعض المواطن؛ وحيث أقول: الذي عليه الجمهور كذا، أو الذي عليه المعظم، أو قال الجمهور أو المعظم أو الأكثرون كذا، ثم أنقل عن جماعة خلاف ذلك فهو كما أذكره إن شاء الله تعالى.

ص: 74

ولا يهولنك كثرة من أذكره في بعض المواضع خلاف الجمهور، أو خلاف المشهور أو الأكثرين ونحو ذلك فإني إنما أترك تسمية الأكثرين لعظم كثرتهم، كراهة لزيادة التطويل"

(1)

.

وذكر النووي أيضاً أنه بين في كتابه هذا: "ما ذكره الشيرازي وقد اتفق الأصحاب عليه، وما وافقه عليه الجمهور، وما انفرد به أو خالفه فيه المعظم. وهذا النوع قليل جداً، وأبين فيه ما أنكر على المصنف من الأحاديث والأسماء واللغات، والمسائل المشكلات مع جوابه إن كان من المرضيات، وكذلك أبين فيه جملاً مما أنكر على الإمام أبى إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني في مختصره، وعلى الإمام أبي حامد الغزالي في الوسيط، وعلى المصنف في التنبيه، مع الجواب عنه إن أمكن، فإن الحاجة إليها كالحاجة إلى المهذب، والتزم فيه بيان الراجح من القولين، والوجهين والطريقين، والأقوال والأوجه والطرق مما لم يذكره المصنف أو ذكره، ووافقوه عليه أو خالفوه"

(2)

.

ولم يكتف المؤلف بما سبق ذكره في تصحيح المذهب، بل عمد إلى الأدلة التي استدل بها صاحب المهذب فبين:"صحيحها وضعيفها، ومرفوعها وموقوفها، ومتصلها ومرسلها، ومنقطعها ومعضلها وموضوعها، ومشهورها وغريبها، وشاذها ومنكرها، ومقلوبها ومعللها ومدرجها، وغير ذلك من أقسامها".

ولم يقف عند هذا الحدّ، بل تجاوزه إلى عزو الأحاديث إلى مصادرها وفي هذا يقول: "وإذا كان الحديث في صحيحي البخاري ومسلم أو في أحدهما اقتصرت على إضافته إليهما، ولا أضيفه معهما إلى غيرهما إلا نادراً لغرض في بعض المواطن، لأن ما كان فيهما أو في أحدهما غني عن التقوية بالإضافة إلى ما سواهما، وأما ما ليس في واحد منهما فأضيفه إلى ما تيسر من كتب السنن وغيرهما، أو إلى بعضها؛ فإذا كان في سنن أبي داود

(1)

المجموع: 1/ 4، 5.

(2)

المجموع: 1/ 4.

ص: 75

والترمذي والنسائى التي هي تمام أصول الإسلام الخمسة أو في بعضها اقتصرت أيضاً على إضافته إليها، وما خرج عنها أضيفه إلى ما تيسر إن شاء الله تعالى مبيناً صحته أو ضعفه، ومتى كان الحديث ضعيفاً بينت ضعفه، ونبهت على سبب ضعفه إن لم يطل الكلام بوصفه، وإذا كان الحديث الضعيف هو الذي احتج به المصنف أو هو الذي اعتمده أصحابنا صرحت بضعفه، ثم أذكر دليلاً للمذهب من الحديث إن وجدته، وإلا فمن القياس وغيره".

ولولا الإطالة لذكرت جهود محققي المذاهب الأخرى في تصحيح مذاهبهم، ومنهجهم الذي اتبعوه في ذلك، وقد أطال المرداوي محقق المذهب الحنبلي في بيان جهوده ومنهجه في تحقيق المذهب في مقدمة كتابه الإنصاف، وفي خاتمة كتابه، كما بين ابن عابدين مثل ذلك في تحقيقه المذهب الحنفي في كتابه القيم الموسوم بحاشية رد المختار على الدر المختار الشهير بحاشية ابن عابدين.

وفي فقه المالكية يمكنك الرجوع إلى المنهج الذي اتبعه القرافي في تحقيق المذهب في مقدمة كتابه الذخيرة.

‌المطلب الخامس: اجتهاد علماء المذهب

النوع الثالث من الجهود التي بذلها علماء كل مذهب هو اجتهادهم في معرفة الحق في المسائل التي تعرض عليهم، وبعض تلك المسائل القول فيها قديم، اختلف فيها أهل العلم من قبلهم، وقد يكون لإمامهم فيها قول أو أكثر من قول، فتراهم يجتهدون فيها، ويقررون فيها ما اقتضاه نظرهم في ضوء النصوص من الكتاب والسنة، ووفق القواعد والضوابط التي قعدت في علم الأصول، وهم في ذلك قد يوافقون قول إمامهم، وقد يخالفونه.

يقول الشاطبي في هذا اللون من الاجتهاد: "إلى هذا النوع يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين كابن القاسم وأشهب في مذهب مالك، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة،

ص: 76

والمزني والبويطي في مذهب الشافعي، فإنهم على ما حكى عنهم يأخذون أصول إمامهم وما بنى عليه في فهم ألفاظ الشريعة ويفرعون المسائل، ويصدرون الفتاوى على مقتضى ذلك، وقد قبل الناس أنظارهم وفتاويهم، وعملوا على مقتضاها، خالفت مذهب إمامهم أو وافقته.

وإنما كان ذلك كذلك لأنهم فهموا مقاصد الشرع في وضع الأحكام، ولولا ذلك لم يحلَّ لهم الإقدام على الاجتهاد والفتوى، ولا حلَّ لمن في زمانهم أو من بعدهم من العلماء أن يقرهم على ذلك، ولا يسكت عن الإنكار عليهم على الخصوص، فلما لم يكن شيء من ذلك دل على أن ما أقدموا عليه من ذلك كانوا خلقاء بالإقدام عليه فيه.

فالاجتهاد منهم وممن كان مثلهم وبلغ في فهم مقاصد الشريعة مبالغهم صحيح لا إشكال فيه، هذا على فرض أنهم لم يبلغوا في كلام العرب مبلغ المجتهدين، فأما إذا بلغوا تلك الرتبة فلا إشكال أيضاً في صحة اجتهادهم على الإطلاق، والله أعلم"

(1)

.

‌المنهج الذي ينبغي لفقهاء كل مذهب اتباعه

وهذا النهج من الاجتهاد في طلب الحق هو المنهج الذي دلّ أئمة المذاهب أتباعهم عليه، فالأئمة أقاموا مذاهبم في ضوء النصوص من الكتاب والسنة، وقد نهوا من بعدهم عن متابعتهم فيما ذهبوا إليه من غير النظر في مأخذهم وأدلتهم، وحرموا على أتباعهم متابعتهم إذا ظهر لهم من النصوص ما يخالف أقوالهم، وطالبوا أتباعهم بترك أقوالهم إذا كانت النصوص على خلاف ما ذهبوا إليه.

وسار على هذا المنهج العلماء الأعلام في كل مذهب.

يقول الإمام أبو حنيفة فيما رواه عنه صاحبه أبو يوسف: "لا يحلُّ لأحد

(1)

الموافقات: 3/ 106.

ص: 77

أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه"

(1)

، قال الفلاني:"ومعنى قوله: من أين قلناه: أي ما لم يعلم دليل قولنا وحجته، وفي هذا إشارة إلى أنه لا يبيح لغيره تقليده فيما يقول بغير دليل"

(2)

.

وقال الربيع بن سليمان: "سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنته، ودعوا ما قلت"

(3)

.

وقال الشافعي: "كل مسألة تكلمت فيها بخلاف السنة فأنا راجع عنها في حياتي وبعد مماتي"

(4)

.

وقال الإمام مالك: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافقهما فاتركوه"

(5)

.

وقال الإمام أحمد: "من رد الحديث فهو على شفا هلكه"

(6)

.

وكثير من أتباع الأئمة في عصرهم تركوا مذهب إمامهم في المسائل التى بلغهم فيها عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يبلغ أئمتهم، هذا الإمام أبو يوسف صاحب أبى حنيفة يسأل الإمام مالك عن صدقة الخضروات، فقال مالك: هذه مباقيل أهل المدينة، لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبى بكر ولا عمر رضي الله عنهما، يعني وهي تنبت الخضروات، فقال أبو يوسف: قد رجعت يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي "يعني أبا حنيفة" ما رأيت، لرجع كما رجعت

(7)

.

(1)

إيقاظ همم أولي الأبصار: ص 52.

(2)

المصدر السابق.

(3)

كتاب المؤمل للرد للأمر الأول لأبي شامة. مجموعة الرسائل المنيرية: 3/ 27.

(4)

المصدر السابق: 3/ 31.

(5)

معنى قول المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي: 3/ 105.

(6)

مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي: ص 182.

(7)

صحة أصول أهل المدينة: ص 25.

وسيأتي ذكر جملة من أقوال الأئمة وأقوال أتباعهم في هذا الموضوع في الباب الثالث من هذا الكتاب.

ص: 78

‌كيف ينسب العلماء إلى مذهب إمام من الأئمة إذا خالفوه فيما ذهب إليه

قد يقال: إن انتساب العلماء إلى مذهب إمام من الأئمة يقضي بالتزام مذهبه فيما ذهب إليه، فإن خالفوه فإن مقتضى المخالفة عدم جواز صحة الانتساب إلى ذلك الإمام.

وقد أجاب على هذا الإشكال كثير من أهل العلم، منهم ابن بدران، وفي ذلك يقول:"لا يذهب بك الوهم مما قدمنا إلى أنَّ الذين اختاروا مذهب أحمد وقدموه على غيره من الأئمة، وهم من كبار أصحابه، أنهم اختاروا تقليده على غيره في الفروع، فإن مثل هؤلاء يأبى ذلك مسلكهم فى كتبهم ومصنفاتهم، بل المراد باختيار مذهبه إنما هو السلوك على طريقة أصوله في استنباط الأحكام، وإن شئت قل السلوك في طريق الاجتهاد مسلكه دون مسلك غيره، وأمَّا التقليد فى الفروع، فإنَّه يترفع عنه كل من له ذكاء وفطنة وقدرة على تأليف الدليل ومعرفته، وما التقليد إلا للضعفاء الجامدين الذين لا يفرقون بين الغث والسمين"

(1)

.

وما ذكره ابن بدران فيما نقلناه عنه ليس صحيحاً على إطلاقه فإن من مجتهدي المذهب من خالف إمامه في أصوله التي بنى استدلاله عليها.

يقول ابن عابدين: "المسائل التي قال بها أبو يوسف ونحوه من أصحاب الإمام كثير منها مبني على قواعد لهم خالفوا فيها قواعد الإمام، لأنهم لم يلتزموا قواعده كلها، كما يعرفه من له معرفة بكتب الأصول"

(2)

.

بل إن كثيراً من الأصول الثانوية المنسوبة إلى كل إمام من الأئمة لم يُنَصَّ

(1)

المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: 40.

(2)

شرح عقود رسم المفتي: 1/ 25.

ص: 79

على أغلبها من قبل أئمة المذاهب، ولكنها مستخرجة ومستنبطة من كلام الأئمة، ومن هذه الأصول عند الحنفية: العام قطعي الدلالة كالخاص، ومذهب الصحابي على خلاف العموم مخصص له، والخاص مبين، ولا يلحقه البيان، والزيادة على النص نسخ، "فأمثال هذه القواعد لا تصح بها رواية عن أبي حنيفة، ولا عن صاحبيه، وإنما أخذها البزدوي وأمثاله بالاستقراء، وليست المحافظة عليها، والجواب عن كل ما يرد عليها، مما يخالفها من فقه متقدميهم، بأولى من المحافظة على أضدادها، والمحافظة عما يرد على تلك الأضداد، وعلى نمطها ألف القرافي قواعده في المذهب المالكي، وعياض، والمقري، وأمثالهم.

وهكذا في مذهب الشافعية والحنابلة ألف أصحابهما على هذا النمط بيان الأصول التي عليها مبنى جلّ المسائل، أخذوها من صنيع الإمام وأصحابه في استنباطهم"

(1)

.

‌المطلب السادس: القياس على قول الإمام

من ألوان الاجتهاد المذهبي التي سلكها بعض العلماء في كل مذهب القياس على قول الإمام، فإذا وجد عن الإمام قول في مسألة، ثم عرضت مسألة ليس للإمام قول فيها، فهل يجوز أن نقيس ما لم ينص عليه على المنصوص عليه لشبه المسألة الثانية بالأولى؟ وهل نعدُّ في هذه الحال الحكم في المسألة المقيسة مذهباً للإمام؟

اختلف العلماء في هذه المسألة فقد سئل ابن عرفة المالكي: "هل يقال في أقوال الأصحاب إنها من مذهب الإمام؟! فأجاب: "إن كان المستخرج لها عارفا بقواعد إمامه، وأحسن مراعاتها، صح نسبتها للإمام، وجعلها من

(1)

الفكر السامي: 1/ 351.

ص: 80

مذهبه، وإلا نسبت لقائلها"

(1)

.

ورجح ابن قدامة في روضة الناظر والطوفي في مختصر الروضة جواز ذلك، أي جواز نقل حكم المنصوص عليه إلى المسكوت عنه، وجواز نقل حكم المسألتين المشتبهتين المنصوص على حكمهما إلى الأخرى، ولكنهما اشترطا أن يكون ذلك بعد الجد والبحث إذا كان القائس من أهل النظر والبحث ممن تدرب في النظر وعرف مدارك الأحكام ومأخذها، لأن خفاء الفرق بين المسألتين في هذه الحال ممتنع في العادة

(2)

.

وممن أجاز ذلك القاضي من الشافعية، ونص كلامه:"يجوز له أن يقيس على نصوص غيره، فينقل من مذهبه، كما يقاس على نص الشارع"

(3)

.

وذكر الطوفي أن النقل والتخريج وقع في مذهب الحنابلة ومذهب الشافعية

(4)

.

وقال الشيخ عبد الحليم والد شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقله عنه ابن بدران: اختلف أصحابنا في إضافة المذهب إليه من جهة القياس على قوله، فذهب الخلال وأبو بكر عبد العزيز إلى أنه لا يجوز ذلك، ونصره الحلواني، وذهب الأثرم والخرقي وابن حامد إلى جواز ذلك.

وقال الشيخ مجد الدين ابن تيمية: "إذا نص الإمام على مسألة، وكانت الأخرى تشبهها شبها يجوز أن يخفى على مجتهد، لم يجز أن تجعل الأخرى مذهبه بذلك، هذا هو قول أبي الخطاب، فأما ما لا يخفى على بعض المجتهدين، فلا يفرق الإمام بينهما، وهذا في ظاهره متناقض، فيحمل على

(1)

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 1/ 19.

(2)

شرح مختصر الروضة: 3/ 641.

(3)

المنخول للغزالي: ص 481.

(4)

التخريج أن يقرر الإمام قاعدة كلية، كقاعدة: الأمور بمقاصدها، فيبني الفقيه كثيرا من المسائل الفروعية على تلك القاعدة، والنقل: أن ينقل النص عن الإمام، ثم يخرج عليه فروعا، فيجعل كلام الإمام أصلا، وما يخرجه فرعا.

ص: 81

مسألتين يتردد فيهما هل هما مما يخفى الشبه بينهما على بعض المجتهدين أو لا يخفى".

وقد ذكر المجد ابن تيمية في المسألة بعد هذه: أنه لو قال: الشفعة لجار الدار، ولا شفعة في الدكان، فلا ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى، فأما إذا لم يصرح في الأخرى بحكم، فالظاهر حملها على نظيرها، وهذا يقتضي القياس على قوله إذا لم يصرح بالمعرفة، وإنما تكون هذه فيما يخفى على بعض المجتهدين، وإذا لم يصرح في الأخرى بحكم، فالظاهر حملها على نظيرتها.

وقال ابن حمدان: ما قيس على كلامه فهو مذهبه، وقيل: لا، وقيل: إن جاز تخصيص العلة، وإلا فهو مذهبه، وقال أيضا: إن نص عليها أو أومأ إليها، أو علل الأصل بها، فهو مذهبه، وإلا فلا، إلا أن تشهد أقواله أو أفعاله أو أحواله للعلة المستنبطة بالصحة والتعيين.

قال ابن حمدان: فعلى قوله: إن ما قيس على كلامه مذهبه. وقال أيضا: إن أفتى في مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين في وقتين جاز نقل الحكم وتخريجه من كل واحدة إلى الأخرى. وقيل: لا يجوز كما لو فرق هو بينهما، أو قرب الزمن، واختار أيضا إنْ علم التاريخ ولم يجعل أول قوليه في مسألة واحدة مذهبا له جاز نقل الثانية إلى الأولى في الأقيس ولا عكس، إلا أن يجعل أول قوليه في مسألة واحدة مذهباً له مع معرفة التاريخ، وإن جهل التاريخ جاز نقل أقربهما من كتاب أو سنة أو إجماع أو أثر أو قواعد الإمام ونحو ذلك إلى الأخرى في الأقيس، ولا عكس إلا أن يجعل أول قوليه في مسألة واحدة مذهباً له مع معرفة التاريخ أولى لجواز كونها الأخيرة دون الراجحة

(1)

.

وبين شيخ الإسلام ابن تيمية: أن "النقل نوعان: أحدهما: أن ينقل ما

(1)

المدخل، لابن بدران: ص 54.

ص: 82

سمع أو رأى، والثاني: ما ينقل باجتهاد واستنباط.

وقول القائل: مذهب فلان كذا، أو مذهب أهل السنة كذا، قد يكون نسب إليه لاعتقاده أن هذا مقتضى أصوله، وإن لم يكن فلان قال ذلك، ومثل هذا يدخله الخطأ كثيرا، ألا ترى أن كثيرا من المصنفين يقولون: مذهب الشافعي أو غيره كذا، ويكون منصوصه بخلافه، وعذرهم في ذلك أنهم رأوا أن أصوله تقتضي ذلك القول، فنسبوه إلى مذهبه من جهة الاستنباط، لا من جهة النص"

(1)

.

تحقيق القول في المسألة:

نقلت في الفقرة السابقة أقوال العلماء واختلافهم في القياس على قول إمام المذهب، وجعل الحكم في المسألة المقيسة مذهباً للإمام، ومن خلال النظر في أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وما ورد عنهم فيها، تبين في التفصيل التالي:

1 -

إذا نص الإمام على حكم في مسألة، وبين علة الحكم ما هي، ثمَّ وجد أصحابه وعلماء مذهبه تلك العلة في مسائل أخر، فمذهبه في تلك المسائل كمذهبه في المسألة المنصوص عليها، لأنَّ الحكم يتبع علته، فيوجد حيث وجدت

(2)

.

وقد مثل الشيخ محمد الأمن الشنقيطي لهذا بإيجاب المالكية الزكاة في التين، مع أنَّ مالكاً لم يذكر في التين زكاة، وإنما ألحقوا التين بالثمار التي يجب فيها الزكاة، لأنَّ علة الزكاة في الثمار عند مالك هي:"الاقتيات والادخار".

فلما كان الاقتيات والادخار موجوداً في التين جعل بعض أصحاب مالك الزكاة فيه كالزبيب بمقتضى علته المذكورة، ولذا قال ابن عبد البر: أظن مالكاً

(1)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 11/ 137.

(2)

شرح مختصر الروضة: 3/ 638 المدخل لابن بدران: ص 188. الإنصاف: 12/ 244.

ص: 83

ما كان يعلم أن التين ييبس ويقتات ويدخر، ولو كان يعلم ذلك لجعله كالزبيب، ولما عدّه مع الفواكة التي لا تيبس، ولا تدخر كالرمان والفرسك

(1)

.

2 -

ومن القياس الصحيح الذي يصح أن يجعل الحكم فيه منسوباً إلى الإمام جواب الإمام بأصل يندرج تحته مسائل، خرج جوابه على بعضها، فإنه يجوز أن ينسب إليه بقية المسائل بطريق القياس.

أما أن يقاس على مسائل لا شبه لها في أصوله، ولا يوجد عنه أصل منصوص عليه يبنى عليه. فغير جائز

(2)

.

3 -

إذا علم أن دين المسألة المنصوصة وغير المنصوصة فرقاً لم يجز القياس، يقول الزركشي:

"ولا يجوز التخريج حيث أمكن الفرق، كما قال ابن كج لا يجوز على الصحيح، ثم لا يجوز أن ينسب للشافعي ما يتخرّج على قوله فيجعل قولاً له على الأصح، بناء على أن لازم المذهب ليس بمذهب، ولاحتمال أن يكون بينهما فرق فلا يضاف إليه مع قياس الاحتمال"

(3)

.

ومما يدلُّ على عدم الجواز أن الفرق بين المسألتين قد يكون خفياً، فما يدرينا أن الإمام لو عرضت عليه المسألتان لا يجد فرقاً بينهما، وقد رأينا من أهل العلم والاجتهاد من تعرض عليه مسألتان مشتبهتان فلا يجد فرقاً بينهما، وتعرضان على آخر، فيجد بينهما فرقاً.

ومن الأمثلة على ذلك: "ما نص عليه الإمام أحمد أن الرجل إذا شهد الجنازة، فرأى فيها منكراً لا يقدر على إزالته أنه لا يرجع، ونص على أنه إذا دعي إلى وليمة عُرس، فرأى فيها منكراً لا يقدر على إزالته أنه يرجع، وقد

(1)

مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر: ص 313.

(2)

الإنصاف للمرداوي: 12/ 244.

(3)

البحر المحيط للزركشي: 6/ 127. وراجع: شرح مختصر الروضة: 3/ 639. والمدخل لابن بدران: ص 188.

ص: 84

سأل ابن القيم شيخه ابن تيمية عن الفرق بينهما، فاستنتج فرقاً لطيفاً، فقال: لأن الحق في الجنازة للميت، فلا يترك حقه لما فعله الحي من المنكر، والحق في الوليمة لصاحب البيت، فإذا أتى فيها بالمنكر فقد أسقط حقه من الإجابة"

(1)

.

4 -

فإن لم ينص الإمام على العلة، ولم يعرف الفرق، فالذي يترجح لديَّ أنه لا يجوز القياس، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قولاً جعله العلماء قاعدة، قال "لا ينسب لساكت قول"

(2)

.

5 -

وإذا نصَّ إمام المذهب على مسألتين بحكمين مختلفين لم يجز أن ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى، ويخرجه قولا له فيها، فيصير له فيها قولان، بل هذا أولى بالمنع، لأنه إذا لم يجز نقل حكم المنصوص عليه إلى المسكوت عنه الذي لم ينص عليه بنفي ولا إثبات، فأولى أن لا ينقله إلى منصوص عليه بنقيض الحكم، لأنا في الأول نكون قولناه ما لم يقله مع أنه لو قال في المسألة المسكوت عنها لجاز أن يقول كما قوّلناه فيها، وفي الثانية قولناه نقيض ما قال، فلا يتصور موافقته لنا فيها الآن بحال

(3)

.

وقد ذكر المرداوي أن صحيح مذهب الحنابلة أن هذا النوع من التخريج لا يعد مذهباً للإمام، وإنما يكون القول المخرج وجهاً لمن خرجه

(4)

.

6 -

رام بعض الفقهاء أن يقيس على مفهوم قول الإمام، وفعله، وتقريره، وخالفهم في هذا غيرهم، والحق أن ما لم ينص عليه الإمام لا يجوز أن يقاس عليه بحال.

(1)

إعلام الموقعين: 4/ 267.

(2)

الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 142.

(3)

شرح مختصر الروضة: 3/ 639 المدخل لابن بدران: ص 188.

(4)

الإنصاف: 2/ 245.

ص: 85

‌المبحث الخامس المصطلحات التي تحكي المذهب والاختلاف فيه وتبين قوة الاختلاف وضعفه

هناك مصطلحات يطلقها الفقهاء في كل مذهب، ولا بد لطالب العلم من التعرف على هذه المصطلحات، حتى يفقه عن فقهاء المذهب مرادهم، وحتى لا يقع في الخطأ لعدم معرفته بمصطلحات المذهب التي يعبرون بها عن مذاهبهم، وليس مرادنا في هذا المبحث أن نعرض لكل المصطلحات في المذاهب المختلفة، وإنما مرادنا ذكر المصطلحات التي يستعملها الفقهاء لذكر المذهب أو التي تبين الراجح منه والمشهور أو التي تحكي اجتهادات فقهاء المذهب، وتبين القوي والضعيف من ذلك كله.

وهذه المصطلحات متقاربة في المذاهب كلها، والسبب في ذلك أنهم لم ينقلوها عن معانيها المرادة بها لغة إلى معنى اصطلاحي خاص بل قصدوا منها معانيها اللغوية.

وسنعرض لأهم هذه المصطلحات، فمن ذلك:

‌1 - النص:

يرد في كتب المذاهب قولهم: نص عليه، أو المنصوص عليه، ومرادهم من ذلك أن إمام المذهب نص على هذا القول بعبارة صريحة واضحة، ومعنى النص أو المنصوص عليه الصريح في معناه

(1)

.

‌2 - الأقوال والروايات:

يريدون بالأقوال والروايات ما صدر عن إمام المذهب من اجتهادات، وقد يكون للإمام في المسألة قول واحد، أو قولان، أو أكثر من ذلك.

وأقوال الإمام تؤخذ من مروياته وفتاويه وأماليه وتأليفه.

(1)

مغني المحتاج: 1/ 12 الإنصاف للمرداوي: 1/ 9.

ص: 86

ومما ينبغي أن ينبه إليه أن فقهاء الشافعية يستعملون الأقوال بينما يستعمل فقهاء المذاهب الأخرى: الروايات، والسر في ذلك أن الشافعي دون غالب فقهه بنفسه، بينما أئمة المذاهب الآخرون روي عنهم فقههم بطريق النقل

(1)

.

‌3 - الوجوه:

الوجوه: هي الآراء التي استنبطها أصحاب الشافعي المنتسبون إليه من الأصول العامة للمذهب بتخريجها على ضوء القواعد التي رسمها لهم الإمام الشافعي، وبعبارة أخرى هي: ما أدى إليه اجتهادهم على ضوء قواعد المذهب، ولا يخرج عن نطاق المذهب

(2)

.

ويقول النووي: "الأوجه لأصحاب الشافعي المنتسبين إلى مذهبه، يخرجونها على أصوله، ويستنبطونها من قواعده، ويجتهدون في بعضها، وإن لم يأخذوه من أصله"

(3)

.

وليس هذا التعريف للوجوه قصراً على مذهب الشافعي، بل عام في المذاهب كلها، وفي ذلك يقول محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي:"الوجه في اصطلاح الفقهاء: الحكم المنقول في المسألة لبعض أصحاب الإمام المجتهدين فيه، ممن رآه فمن بعدهم، جارياً على قواعد الإمام، فيقال: وجه في مذهب أحمد، والإمام الشافعي، أو نحوهما، وربما كان مخالفاً لقواعد الإمام إذا عضده الدليل"

(4)

.

وخلاصة القول أن الأقوال والروايات هي لإمام المذهب، والأوجه لأصحاب الإمام

(5)

.

(1)

راجع في هذا: المجموع: 1/ 65 المطلع على أبواب المقنع: ص 46.

(2)

مقدمة كتاب الوسيط: 1/ 238.

(3)

المجموع: 1/ 65. وانظر مغني المحتاج: 1/ 12.

(4)

المطلع على أبواب المقنع: ص 460.

(5)

المجموع: 1/ 65.

ص: 87

‌4 - الطرق:

" الطرق -كما يقول النووي- اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب، فيقول بعضهم مثلاً في المسألة قولان، أو وجهان، ويقول الآخر: لا يجوز قولا واحداً، أو وجهاً واحداً، أو يقول أحدهما: في المسألة تفصيل، ويقول الآخر فيها خلاف مطلق.

وقد يستعملون الوجهين في موضع الطريقين وعكسه"

(1)

.

‌5 - المذهب:

يريد فقهاء المذهب بالمذهب القول الراجح المفتى به عندهم، وقد يكون قول الإمام أو قول أصحابه

(2)

.

‌6 - التخريج:

بحثنا هذا الموضوع في المبحث السابق، وهو القياس على قول الإمام، والمراد بالتخريج: بناء فرع على أصل بجامع مشترك، وقد يكون التخريج من القواعد الكلية للإمام، أو الشرع، أو العقل.

يقول الطوفي: التخريج يكونُ من القواعد الكلية للإمام، أو الشرع، أو العقل، لأن حاصله أنه بناءُ فرع على أصل بجامع مشترك، كتخريجنا على قاعدة تفريق الصفقة فروعاً كثيرة، وعلى قاعدة تكليف ما لا يُطاق أيضاً فروعاً كثيرة في أصول الفقه وفروعه، كما ذكرنا في غير هذا الكتاب

(3)

.

الفرق بين التخريج وبن النقل والتخريج:

كثيراً ما يقع في كلام الفقهاء: في هذه المسألة قولان بالنقل والتخريج،

(1)

المجموع: 1/ 66. وانظر مغني المحتاج: 1/ 12.

(2)

المجموع: 1/ 65.

(3)

مختصر الروضة: 3/ 644.

ص: 88

ويقولون أيضاً: يتخرَّج أن لكون كذا، وتتخرج هذه المسألة على مسألة كذا، أو في هذه المسألة تخريج، فيقال: ما الفرق بين التخريج، وبين النقل والتخريج؟

والجواب: أن النقل والتخريج يكون من نصِّ الإمام بأن ينقل عن محل إلى غيره بالجامع المشترك (بين محلين) والتخريج يكونُ من قواعده الكلية.

مثاله: قولنا: لا يصح التيمم لفرض قبل وقته، ولا لنفل في وقت المنع منه، ويبطلُ التيممُ بخروج الوقت، ولا يصلي به حتى يحدث، ويتخرج خلاف ذلك كله بناءً على أن التيمم يرفعُ الحدثَ؛ وهو قاعدة (من قواعد) التيمم، وإن كان مرجوعاً عنه عندنا، وقولنا: إذا وجد المتيممُ الماء في الصلاة خرج فتطهر وابتدأها، ويتخرجُ أن يتطهر ويبني بناء على من سبقهُ الحدثُ في الصلاة هل يستأنف أو يبني.

وقولنا: من أتلف لذمي خمراً أو خنزيراً، لم يضمنه، ويتخرجُ أن يضمن الذمي خمر الذمي بناءً على أنها مال لهم

(1)

.

ويقول الشربيني معرفاً النقل والتخريج: "التخريج أن يجيب الشافعي بحكمين مختلفين في صورتين متشابهتين، ولم يظهر ما يصلح للفرق بينهما، فينقل الأصحاب جوابه في كل صورة إلى الأخرى، فيحصل في كل صورة منهما قولان: منصوص ومخرج، المنصوص في هذه المخرج في تلك، والمنصوص في تلك هو المخرج في هذه، فيقال: فيهما قولان بالنقل والتخريج.

والغالب في مثل هذا عدم إطباق الأصحاب على التخريج، بل منهم من يخرج، ومنهم من يبدي فرقاً بين الصورتين"

(2)

.

(1)

مختصر الروضة: 3/ 644.

(2)

مغني المحتاج: 1/ 12. وراجع المطلع: ص 461.

ص: 89

وعلى ذلك فإن التخريج أعم من النقل والتخريج، لأن التخريج يكون من القواعد الكلية.

وأما النقلُ والتخريج، فهو مختصُّ بنصوص الإمام

(1)

.

‌7 - الصحيح والضعيف والأصح والأظهر والأقوى ونحو ذلك:

يستعمل الفقهاء في كل مذهب ألفاظاً كثيرة تحكي الخلاف في المذهب، وتبين الصحيح والضعيف فيه، أو ما هو أصح وأظهر.

وهذه الألفاظ علامات تدل المفتي على ما يفتي به، ولذا فإن علماء الحنفية يسمونها برسم المفتي.

وقد وضعت هذه الألفاظ لأهل التقليد من أتباع المذهب بعد أنَّ قل المجتهدون، وكثر المقلدون، واحتاجوا في فتاويهم أن يفتوا بالقول الصحيح أو الراجح الذي عليه الفتوى في كل مذهب من المذاهب

(2)

.

ومن هذه الألفاظ قولهم في حكاية الاختلاف: فيه قولان، أو روايتان، أو وجهان، ويريدون بمثل ذلك حكاية الخلاف فحسب، وليس مرادهم الترجيح بهذه الألفاظ

(3)

.

وإذا أرادوا بيان صحيح القول أو الرواية أو الوجه أو ضعيفها أطلقوا لفظ الصحيح والضعيف.

وإذا كان في المذهب روايتان أو قولان أو وجهان صحيحان أحدهما أصح من الآخر، قالوا في بيان أقواهما: الأصح والأظهر

(4)

.

فالأصح والأظهر صيغتا تفضيل، تدل كل واحدة منهما على الصحة

(1)

مختصر الروضة: 3/ 644.

(2)

راجع: حاشية ابن عابدين: 1/ 69.

(3)

الإنصاف للمرداوي: 1/ 4.

(4)

مقدمة وسيط الغزالي: 1/ 234.

ص: 90

والظهور، مع رجحان صحة أحدهما أو ظهوره

(1)

.

وإذا أطلق علماء مذهب من المذاهب في مسألة ما قولهم: (المذهب أو على المذهب) فيريدون به الراجح في حكاية المذهب

(2)

، وإذا قالوا الأشهر فهو القول أو الوجه الذي يزيد شهرة على القول الآخر لشهرة ناقله، أو مكانته عن المنقول عنه، أو اتفاق الكل على أنه منقول منه.

ويريدون بالمشهور القول أو الوجه الذي اشتهر بحيث يكون مقابله رأياً غريباً.

ومن العلامات للفتوى عند الحنفية قولهم: "وعليه الفتوى، وبه يفتي، وبه نأخذ، وعليه الاعتماد، وعليه العمل، وهو الصحيح، وهو الأصح، وهو الأظهر، وهو المختار في زماننا، وفتوى مشايخنا، وهو الأشبه، وهو الأوجه"

(3)

.

ومنها عند الحنابلة: الصحيح، والأصح، والظاهرة والأظهر، والمشهور، والأشهر، والأقوى، والأقيس

(4)

.

والغزالي ومتقدمو فقهاء الشافعية يستخدمون الألفاظ الدالة على الصحيح والأصح والراجح من المذهب في معانيها اللغوية

(5)

، أما النووي فإن له بعض الاصطلاحات الخاصة، ذكرها في مقدمة كتاب الروضة.

فقد بين في مقدمة ذلك الكتاب أنه إذا قال في مسألة على قول أو وجه، فالصحيح في تلك المسألة خلاف ذلك القول أو الوجه.

(1)

المرجع السابق: 1/ 239.

(2)

مغني المحتاج: 1/ 12. مقدمة وسيط الغزالي: 1/ 240.

(3)

شرح عقود رسم المفتي لابن عابدين، مجموعة رسائل ابن عابدين: 1/ 38، الدر المختار، حاشية ابن عابدين: 1/ 27.

(4)

الإنصاف للمرداوي: 12/ 266.

(5)

مقدمة وسيط الغزالي: 1/ 239.

ص: 91

وإذا قال (على الصحيح أو الأصح) فهو الوجه المختار عنده، والوجه كما علمنا الآراء التي استنبطها علماء الشافعية من الأصول العامة للمذهب.

وإذا قال: (على الأظهر أو المشهور) فإنه يريد بذلك القول الراجح من تولي الشافعي أو أقواله.

فإذا أراد بيان أقوى الطريقين أو الطرق قال: (على المذهب) كما بين النووي أن قوله (على الصحيح أو المشهور) يدل على ضعف الخلاف، فإذا قوي الخلاف قال:(على الأصح أو الأظهر)

(1)

.

والغزالي في مدوناته الفقهية يطلق: (الأظهر والأصح) على الراجح من المذهب قولاً أو وجهاً

(2)

.

وفقهاء المالكية يريدون بالراجح عند إطلاقهم له ما قوي دليله المعتمد عندهم في المشهور: ما أكثر قائله، وقيل: ما قوي دليله

(3)

.

والمشهور عند المالكية يقابله الغريب، والصحيح يقابله الضعيف، والأظهر فيه إشعار أن مقابله فيه ظهور، لأنه اسم تفضيل، والأصح يشعر بصحة مقابله، ذكره الشيخ العدوي على الخرشي

(4)

.

(1)

الروضة: 1/ 6.

(2)

مقدمة كتاب الوسيط: 1/ 234.

(3)

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 1/ 20.

(4)

مقدمة محقق كتاب مسائل لا يعذر فيها بالجهل على مذهب مالك للشيخ إبراهيم المختار الجبرتي الزيلعي. ص 14.

وسيأتي في الفصل الثاني من هذا الباب ذكر المزيد من المصطلحات الخاصة بكل مذهب.

ص: 92

‌الفصل الثاني الأئمة الأربعة ومذاهبهم

‌المبحث الأول الإمام أبو حنيفة

‌المطلب الأول: نسبه وعصره

هو النعمان بن ثابت بن زوطي الكوفي، كان خزَّازا يبيع الخز، وكان جده زوطي من أهل كابل مملوكا لبني تيم الله بن ثعلبة، فأعتق، وولد أبوه ثابت على الإسلام، وقيل: هو من الأحرار، وما وقع عليه رقٌّ قط، وذهب ثابت إلى علي بن أبي طالب وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته.

ولد أبو حنيفة سنة ثمانين، ومات ببغداد سنة خمسين ومائة، ودفن بمقابر الخيزران، وقبره معروف ببغداد

(1)

.

قال فيه الذهبي: "الإمام، فقيه الملّة، عالم العراق،. . . ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة، ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، ولم يثبت له حرف عن واحد منهم"

(2)

.

قال فيه ابن كثير: "الإمام أبو حنيفة النعمان. .. فقيه العراق، وأحد أئمة الإسلام، والسادة الأعلام، وأحد الأركان العلماء، وأحد الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب المتبوعة، وهو أقدمهم وفاة؛ لأنه أدرك عصر الصحابة"

(3)

.

(1)

الإكمال في أسماء الرجال، للخطيب التبريزي - مطبوع في ذيل مشكاة المصابيح - المشكاة: 3/ 790.

(2)

سير أعلام النبلاء، للذهبى: 6/ 390.

(3)

البداية والنهاية: 10/ 107.

ص: 93

وأبو حنيفة من أتباع التابعين، ولا شك أنه أدرك زمن بعض الصحابة، منهم أنس بن مالك بالبصرة، وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي في المدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة، ولم يلق أحدا منهم، ويزعم أصحابه أنه لقي جماعة من الصحابة، وروى عنهم، ولم يثبت ذلك عند أهل النقل، كما في ابن خلكان. وقال الذهبي في (الكاشف) تبعا للخطيب في تاريخ بغداد: إنه رأى أنس بن مالك، ونحوه للسيوطي

(1)

، والذي جزم به الخطيب التبريزي في الإكمال: أنه لم يلق أحدا من الصحابة الأربعة الذين كانوا في أيامه، ولم يأخذ عنهم

(2)

.

‌المطلب الثاني: شيوخه وتلامذته

روى أبو حنيفة عن جماعة من التابعين منهم: الحكم، وحماد بن أبي سليمان، وسلمة بن كهيل، وعامر الشعبي، وعكرمة، وعطاء، وقتادة، والزهري، ونافع مولى ابن عمر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو إسحاق السبيعي

(3)

.

وأشهر تلامذة أبى حنيفة الذين نشروا مذهبه أبو يوسف: يعقوب بن إبراهيم ابن سعد الأنصاري، الشهير بالقاضي أبي يوسف "113 - 182 هـ"، مولده ووفاته بالكوفة، تفقه على أبي حنيفة، ورحل إلى المدينة، واجتمع بالإمام مالك، وأخذ عنه العلم، ورجع عن كثير من أقواله بعد اطلاعه على علم أهل الحجاز. تولى القضاء في الدولة العباسية، وكان له أثر كبير في نشر المذهب الحنفي، ألف كثيراً من الكتب، ولم يبق منها إلا كتاب (الرد على سير الأوزاعي)، وكتاب (الخراج) الذي كتبه بتكليف من هارون الرشيد.

(1)

الفكر السامي: 1/ 339.

(2)

الإكمال، للخطيب التبريزي: 3/ 790.

(3)

البداية والنهاية: 10/ 107، والإكمال. انظر مشكاة المصابيح: 3/ 790.

ص: 94

ومن تلامذته: محمد بن الحسن الشيباني، ولد بواسط عام 132 هـ، وتوفي بالري عام 189 هـ، أدرك أبا حنيفة، وتتلمذ عليه فترة قصيرة، ودرس على أبي يوسف، ورحل إلى المدينة، ومكث بها مدة، وتفقه على الإمام مالك، وأخذ عنه الحديث، وهو الذي دوَّن فقه المذهب الحنفي ونشره.

ومن تلامذته أيضا: زفر بن الهذيل (110 - 158 هـ)، والحسن بن زياد اللؤلؤي (133 - 204 هـ).

وروى عنه جماعة غير من سبق ذكرهم، منهم ابنه حماد، وإبراهيم بن طهمان، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وأسد بن عمر القاضي، والحسن ابن زياد اللؤلؤي، وحمزة الزيات، وداود الطائي، وعبد الرزاق، وأبو نعيم، وهشيم، ووكيع

(1)

.

‌المطلب الثالث: فقهه وثناء العلماء عليه

قال ابن المبارك: "ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة"

(2)

.

وقال يحيى بن سعيد القطان: "لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة"

(3)

.

وقال ابن المبارك: "ما رأيت أورع من أبي حنيفة"

(4)

.

وقال الشافعي: "قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجة"

(5)

.

(1)

المصادر السابقة.

(2)

خلاصة تذهيب الكمال، للخزرجي:345.

(3)

خلاصة تذهيب الكمال: 345، والبداية والنهاية: 10/ 107.

(4)

خلاصة تذهيب الكمال: 345.

(5)

الإكمال للخطيب - انظر المشكاة: 3/ 791.

ص: 95

وقال الشافعي: "من أراد أن يتبحر في الفقه، فهو عيال على أبي حنيفة"

(1)

.

وقال سفيان الثوري: "كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه"

(2)

.

وقال فيه الذهبي: "عني بطلب الآثار، وارتحل في ذلك، وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه، فإليه المنتهى، والناس عليه عيال في ذلك"

(3)

.

‌المطلب الرابع: ورعه وزهده

أراده حكام بني أمية أن يتولى القضاء بالكوفة، فرفض ذلك، فضربه والي الكوفة ابن هبيرة مائة جلدة في عشرة أيام، كل يوم عشرة، فلما رأى إصراره على الرفض خلى سبيله، وعندما تولت الدولة العباسية مقاليد الحكم نقله أبو جعفر من الكوفة إلى بغداد، وأمره أن يتولى القضاء فأبى، فحلف عيه ليفعلن، وحلف أبو حنيفة لا يفعل، وتكررت الأيمان بينهما، فحبسه المنصور، ومات في الحبس

(4)

.

وطلب منه حكام بني أمية أن يكون حاكما على بيت المال فأبى، فضرب في ذلك عشرين سوطا

(5)

.

قال عبد الله بن المبارك فيه: "أتذكرون رجلا عرضت عليه الدنيا بحذافيرها، ففرَّ منها! "

(6)

.

وقال شريك بن عبد الله النخعي: "كان أبو حنيفة طويل الصمت، دائم

(1)

المصدر السابق.

(2)

البداية والنهاية: 10/ 107.

(3)

سير أعلام النبلاء للذهبي: 6/ 392.

(4)

الإكمال في أسماء الرجال - انظر المشكاة: 3/ 791.

(5)

إحياء علوم الدين: 1/ 28.

(6)

إحياء علوم الدين: 1/ 28.

ص: 96

الفكر، قليل المحادثة للناس"

(1)

، "وكان كثير الصلاة، يقوم الليل، ويكثر من قراءة القرآن"

(2)

.

‌المطلب الخامس: قواعد مذهبه

الإمام أبو حنفية وارث علم مدرسة الكوفة، انتهت إليه زعامتها، وكان فيها إماما. وإذا رجعنا إلى كتاب (الآثار) لمحمد بن الحسن، وجامع عبد الرزاق، ومصنف أبن أبى شيبة، ولخصنا منها أقوال إبراهيم النخعي، فإننا نجد أقوال أبى حنيفة لا تخرج عن أقوال إبراهيم إلا في مواضع يسيرة لم يتكلم عليها إبراهيم، واستنبطها أبو حنيفة

(3)

، أما قواعد مذهبه فهي:

‌1 - اعتماده على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة:

نُقِلَتْ عن الإمام أبى حنيفة أقوال تدلُّ على الأصول التي بنى عليها مذهبه، فمن ذلك أنه قال: آخذ بكتاب الله إذا وجدت فيه الحكم، وإلا فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول صلى الله عليه وسلم أخذت يقول أصحابه، آخذ يقول من شئت منهم، وأدع قول من شئت، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فأمّا إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، وابن سيرين، وعطاء، وسعيد بن المسيب، فإني أجتهد كما اجتهدوا

(4)

.

وقيل لأبي حنيفة: إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لكتاب الله، فقيل: إذا كان خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الصحابة

(5)

.

(1)

الإكمال. انظر المشكاة: 3/ 791، إحياء علوم الدين: 1/ 28.

(2)

المصدران السابقان.

(3)

انظر الفكر السامي: 1/ 354.

(4)

تاريخ بغداد: 13/ 368، والانتقاء، لابن عبد البر:143.

(5)

إيقاظ الهمم: 5.

ص: 97

خبر الواحد عند أبي حنيفة:

اشترط الإمام أبو حنيفة للأخذ بخبر الواحد شروطاً:

الأوّل: أن لا يخالفه راويه، فإن خالفه فالعمل بما رأى، لا بما روى، لأنّه لا يخالف مرويه إلا وقد اطلع على قادح استند فيه لدليل.

الثاني: أن لا يكون مما تعم به البلوى، فإن عموم البلوى يوجب اشتهاره أو توافره، فإذا رُوي آحاد فهو علة قادحة عنده.

الثالث: أن لا يخالف القياس، وأن يكون راويه فقيها، فإن خالف القياس، ولم يكن راويه فقيها، فالحديث المعارض للقياس لا يقبل إذا عُرفت العلة بنص راجح على الخبر، ووجدت العلة قطعا في الفرع، ويتوقف الإمام أبو حنيفة إذا وجدت العلة ظنا في الفرع، ويقبل الحديث المخالف للقياس إذا لم توجد في الفرع

(1)

.

فإذا توفرت هذه الشروط في خبر الواحد فإنه يأخذ به، ولو كان ضعيف السند، ويقدمه على القياس، ولا يلتفت لسنده الخاص، ولا لكونه على وفق عمل أهل المدينة أو خلافهم، وعلى هذا يحمل كلام ابن القيم في الأعلام:"وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة "أن ضعيف الحديث أولى عنده من القياس"، وعلى ذلك بنى مذهبه، كما قدَّم حديث القهقهة على القياس والرأي، وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس، ومنع قطع السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم، والحديث فيه ضعف، وجعل أكثر الحيض عشرة أيام، والحديث فيه ضعف، وشرط في إقامة الجمعة المصر، والحديث فيه كذلك"

(2)

.

فإذا لم تتوفر تلك الشروط في الحديث اعتبر الحديث شاذا، وذهب إلى القياس، وترك الحديث، ولو صحيحا، أو عمل به أهل المدينة أجمع.

(1)

الفكر السامي.

(2)

إعلام الموقعين: 1/ 81.

ص: 98

وقد فعل ذلك في حديث المصُرَّاة، والحديث في الصحيحين:(لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد حلبها: إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعا من تمر)، فأبو حنيفة يرى أن رد التمر بدل اللبن مخالف للقياس فيما يضمن به المتلف من مثله أو قيمته.

‌2 - توسع الإمام أبي حنيفة في القياس:

من قواعد الإمام أبى حنيفة الأخذ بالقياس والتوسع فيه في غير الحدود، والكفارات، والتقديرات الشرعية، والمراد بالقياس هو تخريج المناط، أما تحقيق المناط وتنقيحه، فهما مبذولان للمجتهد وغيره.

والسبب في توسع الإمام أبى حنيفة في القياس أنه أقل من غيره من الأئمة في رواية الحديث؛ لتقدم عهده على عهد بقية الأئمة، ولتشدده في رواية الحديث بسبب فشو الكذب في العراق وكثرة الفتن.

‌3 - التوسع في الاستحسان:

من مذهب الإمام أبى حنيفة التوسع في الاستحسان، وقد ثبت عنه أنه قال: أستحسن وأدع القياس، وكذا ثبت عن صاحبه محمد بن الحسن، وذلك أنه إذا وجد أثرا يخالف القياس يترك القياس، ويعمل بالأثر، أو يرجع إلى أصول عامّة، وهو ما يعرف عند الأقدمين بالرأي

(1)

.

‌4 - الحيل:

من أصول مذهب أبى حنيفة الحيل، ويسمونه المخارج من المضايق، وهو التحيل على إسقاط حكم شرعي، أو قلبه إلى حكم آخر، وقد عاب سائر العلماء على أبى حنيفة أخذه بالحيل، وردَّ مذهبه في هذا بعض من يقول بالرأي، ورد عليه البخاري كثيرا، وعقد للحيل كتابا في جامعه الصحيح.

(1)

الفكر السامي: 1/ 359.

ص: 99

‌المطلب السادس: انتشار مذهب أبي حنيفة

انتشر مذهب أبي حنيفة انتشار واسعاً، يقول ابن خلدون:

"وأما أبو حنيفة فقلده اليوم أهل العراق ومسلمة الهند والصين وبلاد المعجم كلها"

(1)

.

وقد كان لاتصال أبي يوسف بالخلفاء العباسيين، وشدّة نفوذه عندهم، وتنصيبه على ولاية القضاء -الفضل في الانتشار السريع الذي لاقاه المذهب.

وقد مكَّن العثمانيون للمذهب في مختلف الأقطار التي حكموها، ولا يزال إلى اليوم هو المذهب السائد في العراق، وسوريا، ولبنان، والباكستان، والهند، وأفغانستان، وتركيا، وألبانيا، والبلقان، والقوقاز، والصين.

‌المطلب السابع: تدوين مذهب أبي حنيفة ودواوين مذهب الحنفية

كثيرٌ من طلحة العلم والمنتسبون إلى المذاهب المختلفة يظنون أن كل كتاب ألفه عالم في مذهب من المذاهب يمثل المذهب، فترى الباحث يزعم أن مذهب الشافعية أو الحنفية في المسألة التي يبحثها هو كذا، ويكون هذا الذي ذكره قولاً أو وجهاً ضعيفاً في المذهب، وليس هو المعتمد عند أهل ذلك المذهب، وسبب خطئه أنه رجع إلى غير الكتب المعتمدة في ذلك المذهب، أو رجع إلى كتاب من الكتب التي تحكي أقوال علماء المذهب، ولم يلتفت إلى أن القول الذي نقله قول في المذهب، ولكنه قول غير مرضي عند علماء المذهب.

وقد ذكرنا من قبل أن الإمام أبا حنيفة شاركه في وضع المذهب أربعين رجلاً من أصحابه، إلا أن هذا الديوان الذي سجّل فيه ما اتفق عليه أبو حنيفة وأصحابه لم يصل إلينا.

(1)

مقدمة ابن خلدون: 488.

ص: 100

وقد نقل إلينا أصحاب الإمام أبي حنيفة فقهه، وقام بتدوين ذلك الفقه مدون كتب المذهب محمد بن الحسن الشيباني، فالمدونات الأولى كلها من وضعه وتأليفه، سواء مما رواه بنفسه عن أبي حنيفة أو مما رواه عن أبي يوسف، وقد كان أحيانًا يضع المؤلف، ثمَّ يقوم بعرضه على أبي يوسف.

ونلحظ أن كتب المذهب الأولى التي وضعها محمد بن الحسن لم تجعل المذهب قصرا على قول أبي حنيفة، بل أشركت معه عددًا من أصحابه، وضعت أقوالهم بجانب قوله، فالمذهب في تلك الفترة مجموع تلك الأقوال.

وقد قسَّم علماء الحنفية المسائل الفقهية التي رويت عن أبي حنيفة وأصحابه إلى قسمين: القسم الأول أطلقوا عليه مسائل الأصول، والقسم الثاني: أطلقوا عليه مسائل النوادر.

فمسائل الأصول، وتسمى عندهم أيضاً بظاهر الرواية، هي المسائل التي رويت عن أصحاب المذهب، وهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، وقد يلحق بهم زفر والحسن بن زياد وغيرهما ممن أخذ عن الإمام، لكنَّ الغالب الشائع في ظاهر الرواية أن يكون قول الثلاثة أو قول بعضهم.

وكتب ظاهر الرواية المسماه بالأصول ستة كتب ألفها جميعًا محمد بن الحسن، وهي: المبسوط، والزيادات، والجامع الصغير، والسير الصغير، والجامع الكبير، والسير الكبير.

وسميت بظاهر الرواية؛ لأنها رويت عن محمد برواية الثقات، فهي ثابتة عنه إمّا متواترة، أو مشهورة عنه

(1)

.

وإذا أطلق علماء الحنفية الأصل فإنهم يريدون به كتاب المبسوط لمحمد، سمي بذلك لأنه أول مؤلفاته من كتب ظاهر الرواية الست، ثم صنف بعده

(1)

حاشية ابن عابدين: 1/ 69، وشرح المنظومة المسماة: بعقود رسم المفتي. المنظومة والشرح لابن عابدين: 1/ 16، مجموع رسائل ابن عابدين.

ص: 101

الجامع الصغير، ثم الكبير، ثم الزيادات، وآخرها تصنيفا السير الكبير، وفى ذلك يقول ابن عابدين

(1)

.

واشتهر المبسوط بالأصل وذا. . . لسبقه الستة تصنيفًا كذا

الجامع الصغير بعده فما. . . فيه على الأصل لذا تقدما

وآخر الستة تصنيفًا ورد. . . السير الكبير فهذا المعتمد

وينقل ابن عابدين عن ابن أمير حاج الجلبي في شرحه على (المنية) أن محمدًا قرأ أكثر الكتب على أبي يوسف، إلا ما كان فيه اسم الكبير، فإنه من تصنيف محمد كالمضاربة الكبير، والمزارعة الكبير، والمأذون الكبير، والجامع الكبير، والسير الكبير

(2)

.

وقال ابن عابدين أيضًا: "كل تأليف لمحمد وصف بالصغير فهو من روايته عن أبي يوسف عن الإمام، وما وصف بالكبير فروايته عن الإمام بلا واسطة"

(3)

.

ومسائل النوادر هي المسائل المروية عن أصحاب المذهب في غير كتب ظاهر الرواية وبعض هذه الكتب ألفها محمد بن الحسن كالهارونيات، سميت بذلك لأنه أملاها في دولة هارون الرشيد، والكيسانيات نسبة إلى راويها شعيب بن سليمان الكيساني، والرقيات نسبة إلى مدينة الرقَّة، وهي تمثل المسائل التي عرضت على محمد بن الحسن وهو قاضي مدينة الرقة، جمعت في كتاب سمي بالرقيات.

وبعض هذه الكتب ألفها غير محمد بن الحسن، ككتاب المجرد للحسن ابن زياد، وكتاب الأمالي لأبي يوسف.

ويدخل في مسائل النوادر ما روي برواية مفردة، كرواية ابن سماعة،

(1)

شرح عقود رسم المفتي: 1/ 18 - 19. حاشية ابن عابدين: 1/ 70.

(2)

شرح عقود رسم المفتي: 1/ 19. حاشية ابن عابدين: 1/ 70.

(3)

حاشية ابن عابدين: 1/ 50.

ص: 102

والمعلى بن منصور، وغيرهما في مسائل معينة

(1)

.

الفتاوي والواقعات: هناك قسم ثالث من المؤلفات يضاف إلى القسمين الأولين عند علماء الحنفية يسمى بالفتاوى والواقعات.

وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عنها، ولم يجدوا فيها رواية عن أهل المذهب المتقدمين.

وهؤلاء كثيرون، منهم أصحاب أبي يوسف وأصحاب محمد، وجاء بعدهم كثير نسجوا على منوالهم، وموضع معرفتهم كتب طبقات الحنفية

(2)

.

وقد نظم ابن عابدين هذه الطبقات الثلاث شعرًا فقال

(3)

:

وكتب ظاهر الروايات أتت

ستا وبالأصول أيضًا سميت

صنفها محمد الشيباني

حرر فيها المذهب النعماني

الجامع الصغير والكبير

والسير الكبير والصغير

ثم الزيادات مع المبسوط

تواترت بالسند المضبوط

كذا له مسائل النوادر

إسنادها في الكتب غير ظاهر

وبعدها مسائل النوازل

خرجها الأشياخ بالدلائل

وقد جمع الحاكم الشهيد كتب ظاهر الرواية الستة في كتاب واحد سماه بكتاب الكافي، وكتاب الكافي -كتاب معتمد في نقل المذهب كما يقوله العلامة إبراهيم البيري فيما نقله عنه ابن عابدين

(4)

.

(1)

المصدران السابقان. والأمالي: جمع إملاء، وهو ما يقوله العالم، بما فتح الله عليه من ظهر قلبه، ويكتبه التلامذة، ثم يجمعون ما يكتبونه، فيصير كتابًا، فيسمونه الإملاء والأمالي، وعلماء الشافعية يسمونه التعليقة (راجع شرح عقود رسم المفتي لابن عابدين. مجموعة رسائل ابن عابدين: 1/ 17).

(2)

المصدران السابقان.

(3)

شرح عقود رسم المفتي، مجموعة رسائل ابن عابدين: 1/ 16.

(4)

شرح عقود رسم المفتي: 1/ 20.

ص: 103

وقام بشرح الكافي شمس الأئمة السرخسي المتوفي سنة أربعمائة وتسعين، وهذا الكتاب هو المشهور عند الحنفية بمبسوط السرخسي، وقد نقل ابن عابدين عن العلامة الطرسوسي أنه لا يعمل بما خالف كتاب مبسوط السرخسي، ولا يركن إلا إليه، ولا يعول في الفتوى إلا عليه

(1)

.

وفي الكافي وشرحه يقول ابن عابدين في منظومته

(2)

:

ويجمع الست

(3)

كتاب الكافي

للحاكم الشهيد فهو الكافي

أوّل شروحه الذي كالشمس

مبسوط شمس الأمة السرخسي

معتمد النقول ليس يعمل

بخلفه وليس عنه يعدل

وأنشد بعضهم في مدح المبسوط:

عليك بمبسوط السرخسي إنه

هو البحر والدر الفريد مسائله

ولا تعتمد إلا عليه فإنه

يجاب بإعطاء الرغائب سائله

ومن الكتب المعتمدة في المذهب مختصر الطحاوي، المتوفي سنة 321 هـ وقد جاء في مقدمة كتابه قوله:

"جمعت في كتابي هذا أصناف الفقه التي لا يسع جهلها، ولا التخلف عن علمها، ونبت الجوابات عنها من قول أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومن قول أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، ومن قول محمد بن الحسن الشيباني"

(4)

، وقد يختار الطحاوي رأيا مخالفا لأئمة المذهب ويرجحه.

وألف الكرخي عبد الله بن الحسين المتوفى سنة 340 هـ، كتابا مختصرا

(1)

المصدر السابق.

(2)

المصدر السابق.

(3)

يريد بها كتب الأصول الستة.

(4)

مختصر الطحاوي: ص 15.

ص: 104

سمي بمختصر الكرخي، وكتابه أحد الكتب المعتمدة عند المتقدمين في نقل المذهب.

والمتون المعتمدة عند متأخري الحنفية أربعة، هي: الوقاية، ومختصر الفدوري، والكنز، ومنهم من يضيف إليها كتابين آخرين هما: المختار، ومجمع البحرين.

أما كتاب الوقاية، فهو المسمى بـ (وقاية الرواية في مسائل الهداية) للإمام تاج الشريعة محمود بن صدر الشريعة أحمد بن عبيد الله جمال الدين العبادي المحبوبي البخاري المتوفى منة 673، أخذ العلم عن أبيه صدر الشريعة الأكبر أحمد، عن أبيه كان عالمًا فاضلاً، وتحريرًا كاملاً، محققًا مدققًا ألف كتاب الوقاية انتخبه من "الهداية" صنفه لأجل ابن ابنه صدر الشريعة عبيد الله ابن مسعود بن تاج الشريعة

(1)

. وقد شرح كتاب الوقاية عبيد الله صدر الشريعة بن مسعود بن محمود تاج الشريعة من تصانيف جده تاج الشريعة، ثم اختصره وسماه (النقاية)، وألف في الأصول متنًا سماه (التنقيح) ثم صنف شرحًا سماه "التوضيح"، مات سنة سبع وأربعين وسبعمائة

(2)

.

وأما "مختصر القدوري: فهو لأبي الحسين أحمد بن محمد بن جعفر القدوري (بالضم) قال السمعاني في "كتاب الأنساب": كان من أهل بغداد، فقيهًا صدوقًا، انتهت إليه رياسة أصحاب مذهب أبي حنيفة، وارتفع جاهه مات في رجب سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ببغداد

(3)

.

ومن القدوري أكثر المتون استعمالاً وانتشارًا عند الحنفية، وإذا أطلق الكتاب عندهم انصرف إلى هذا المختصر، وقد التزم القدوري في مختصره بذكر الراجح من مختلف ظاهر الرواية.

(1)

النافع الكبير، شرح الجامع الصغير، لأبي الحسنات الكفوي: ص 23.

(2)

المصدر السابق.

(3)

المصدر السابق: ص 24.

ص: 105

وأما (كنز الدقائق): فهو لأبي البركات حافظ الدين عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، نسبة إلى مدينة "نسف" من بلاد "السغد" في بلاد "ما وراء النهر"، كان إمامًا فاضلًا، عديم النظير في زمانه، فقيد المثيل في الأصول والفروع

(1)

.

وأما (المختار للفتوى) فهو لأبي الفضل مجد الدين عبد الله بن محمود بن مودود بن محمود الموصلي، كان شيخًا فقيهًا عارفًا بالمذهب، من أفراد الدهر في الفروع والأصول، حافظًا لمسائل مشاهير الفتاوى، ولد بالموصل سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وحصل عند أبيه أبي الثناء محمود مباني العلوم، ورحل إلى دمشق، فأخذ عن جمال الدين الحصيري، ثم رجع إلى بلاده، وتولى القضاء بالكوفة، ثم عزل ورجع إلى بغداد، ورتب الدرس بمشهد أبي حنيفة، ولم يزل يدرس إلى أن مات سنة ثلاث وثمانين وستمائة، صنف (المختار للفتوى) في عنفوان شبابه، ثم شرحه وسماه "الاختيار لتعليل المختار"

(2)

.

وأما (مجمع البحرين): فهو لمظفر الدين أحمد بن علي بن ثعلب الساعاتي البعلبكي أصلاً والبغدادي منشأ، وأبوه هو الذي عمل الساعات المشهورة ببغداد، واشتهر بعلم النحو والهيئة وعمل الساعات، وابنه هذا نشأ ببغداد، وبلغ رتبة الكمال، وصار إمام العصر في العلوم الشرعية، كان ثقة حافظًا متقنًا، أقر له شيوخ زمانه بأنه فارس جواد في ميدانه، أخذ العلم عن تاج الدين علي، عن ظهير الدين صاحب (الفتاوى الظهيرية)، عن قاضيخان.

وكانت وفاته سنة أربع وتسعين وستمائة

(3)

.

وقد ألف إبراهيم جلبي المتوفى سنة (956 هـ) مؤلفًا سماه ملتقى

(1)

المصدر السابق:

(2)

المصدر السابق: 25.

(3)

المصدر السابق: ص 25.

ص: 106

الأبحر، جمع فيه بين مسائل متون (القدوري، والمختار، والكنز، والوقاية) وأضاف إليه ما يحتاج إليه من مسائل مجمع البحرين، ونبذه من الهداية وقد وضع ابن عابدين حاشية قيمة على كتاب (رد المحتار على الدر المختار) اشتهرت باسم حاشية ابن عابدين.

أما كتب (الواقعات) عند الحنفية فهي مسائل استنبطها المتأخرون من أصحاب محمد وأصحاب أصحابه فمن بعدهم، وأول كتاب جمع فيه كتاب الله الفقيه أبو الليث السمرقندي المعروف بإمام الهدى، وجمع فيه فتاوى المتأخرين المجتهدين من مشايخه، وشيوخ مشايخه: كمحمد بن مقاتل الرازي، ومحمد بن سلمة، ونصير بن يحيى، وذكر فيها اختياراته أيضًا. ثم جمع المشايخ فيه كتبًا: كمجموع النوازل والواقعات، للناطفي والصدر الشهيد، ثم جمع من بعدهم من المشايخ هذه الطبقات في فتاواهم غير ممتازة، كما في "جامع قاضيخان"، "وكتاب الخلاصة" وغيرها من الفتاوى

(1)

.

الكتب التي عنيت بأدلة الأحكام وكتب الفقه المقارن.

كثير من المؤلفات الفقهية الحنفية عنيت بتحقيق المذهب وبيان القول الصحيح أو الراجح فيه، من غير التفات إلى أدلة الأحكام، بل إن بعض المؤلفات تعمد إلى كتب الفقه التي تذكر الأحكام بأدلتها فتختصرها بحذف تلك الأدلة. إلا أن بعض المدونات اعتنت بذكر الأدلة، وبيان طرق الاستدلال، ووجه دلالة الأدلة على الأحكام، ومن هذه المؤلفات (بدائع الصنائع) للكاساني، و (فتح القدير) لابن الهمام، و (اللباب في الجمع بين السنة والكتاب) لعلي بن زكريا الأنصاري الخزرجي.

واتجه آخرون في مدوناتهم إلى تناول أدلة الأحكام من الكتاب والسنة فيما عرف بعد ذلك بآيات الأحكام، وأحاديث الأحكام، مثل (أحكام القرآن)

(1)

النافع الكبير: ص 18.

ص: 107

للجصاص، و (أحاديث الأحكام) لأحمد بن محمود الغزنوي.

واتجهت بعض جهود علماء الحنفية، إلى تحقيق أدلة الفقه الحنفي وبيان مدى صحتها، ومن أشهر هذه المؤلفات كتاب (نصب الراية) للحافظ الزيلعي، خرج به أحاديث كتاب الهداية.

ولكثير من علماء الحنفية جهود مشكورة بذلت لخدمة السنة النبوية مثل (شرح كتاب معاني الآثار)، وكتاب (مشكل الآثار) وهما للطحاوي، و (عمدة القاري شرح صحيح البخاري) للعيني.

واتجهت بعض كتب الحنفية إلى عرض أقوال أئمة المذاهب وفقهاء الأمصار بجانب فقه الحنفية، ومنها كتاب (اللباب في الجمع بين السنة والكتاب)، وللإمام محمد بن الحسن الشيباني كتاب (الموطأ) ذكر فيه روايته لهذا المؤلف عن الإمام مالك بن أنس، وذكر فيه مذهب الحنفية سواءً أكان موافقا لما نقله عن مالك أو مخالفا.

وألف القاضي أبو يوسف كتاب: (اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى) وللطحاوي كتاب: (اختلاف الفقهاء)، وعرض الدبوسي لاختلاف الفقهاء في كتابه (تأسيس النظر).

‌المطلب الثامن: بعض مصطلحات الفقه الحنفي

إذا ورد لفظ (الأئمة الأربعة)، في كتب الفقه الحنفي فيريدون بهم أئمة المذاهب الذين لهم أتباع وهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد.

لهاذا قالوا: (أئمتنا الثلاثة) أرادوا بهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد.

وإذا أطلقوا (الشيخين) أرادوا بهما أبا حنيفة وأبا يوسف.

ويريدون (بالطرفين) أبا حنيفة ومحمد.

و (بالصاحبين) أبا يوسف ومحمدا.

ص: 108

ويريدون (بالصدر الأول) عند إطلاقهم إياه أهل القرون الثلاثة من الصحابة والتابعين وأتباعهم.

و (السلف) عندهم فقهاء الحنفية إلى محمد بن الحسن.

ومرادهم (بالخلف) من بعد محمد إلى شمس الأئمة الحلواني المتوفى 456 هـ، والمتأخرون من بعد شمس الأئمة إلى حافظ الدين البخاري المتوفى سنة 693 هـ.

وإذا أطلقوا (الأستاذ) أرادوا به عبد الله بن محمد بن يعقوب السُّبذموني المتوفى سنة 340 هـ.

و (برهان الإسلام) رضي الدين السرخسي المتوفى سنة 544 هـ.

ويطلقون (برهان الأئمة) على عبد العزيز بن عمر بن مازه، وقد يطلقون عليه المصدر الكبير.

و (تاج الشريعة) عندهم محمود بن أحمد بن عبد الله بن إبراهيم المتوفى سنة 673 هـ.

وإذا أطلق (صدر الشريعة) عندهم عنوا به عبد الله بن مسعود بن تاج الشريعة المتوفى سنة 747 هـ، ويسمى بصدر الشريعة الأصغر أو الثاني.

أما (صدر الشريعة الأكبر) أو (الأول) فهو أحمد بن جمال بن عبد الله المحبوبي والد تاج الشريعة.

و (شمس الأئمة) هو السرخسي المتوفى سنة 483 هـ عند الإطلاق، وإذا أطلقوه على غيره ذكروه مقيدا به، فيقولون: شمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة محمد بن عبد الستار الكردي.

و (صدر الإسلام) عندهم طاهر ابن صاحب الذخيرة برهان الدين محمود ابن المصدر السعيد.

و (فخر الإسلام) هو على بن محمد بن البزدوي.

ص: 109

‌المبحث الثاني الإمام مالك بن أنس

‌المطلب الأول: نسبه وعصره

هو أبو عبد الله: مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، من بني حمير بن سبأ الأكبر، ثمَّ من بني يشجب بن قحطان

(1)

.

ولد سنة خمس وتسعين من الهجرة، ومات بالمدينة سنة تسع وسبعين ومائة، وله أربع وثمانون سنة، وقال الواقدي: مات وله تسعون سنة

(2)

.

قال فيه الخطيب التبريزي: "هو شيخ العلماء، وأستاذ الأئمة"

(3)

كان بيت الإمام مالك بيت علم، فجده الأعلى أبو عامر صحابي جليل، شهد المشاهد كلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بدرا، وقيل: إنه تابعي مخضرم، وجده الأسفل مالك من كبار علماء التابعين، وهو أحد الأربعة الذين حملوا عثمان إلى قبره ليلا، وعم الإمام وهو أبو سهيل: نافع بن مالك بن أبي عامر من جلة علماء التابعين وسادتهم، روى عنه في (الموطأ)، وربما روى مالك عن أبيه عن جده في غير (الموطأ)

(4)

.

تبحر الإمام مالك في رواية الحديث وضبطه، والتفقه في الكتاب والسنة، وتلقى علم سلفه من الصحابة والتابعين، فكان إماما في الحديث، إماما في الفقه.

(1)

جامع الأصول: 1/ 180.

(2)

المصدر السابق، وإن شئت التوسع في الاطلاع على ترجمة الإمام مالك، فعليك بسير أعلام النبلاء: 8/ 48.

(3)

الإكمال في أسماء الرجال - انظر المشكاة: 3/ 787.

(4)

الفكر السامي: 1/ 376.

ص: 110

‌المطلب الثاني: شيوخه وتلاميذه

الإمام مالك من علماء أتباع التابعين أخذ العلم عن محمد بن شهاب الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ونافع مولى عبد الله بن عمر، ومحمد بن المنكدر، وهشام بن عروة بن الزبير، وإسماعيل ابن أبي حكيم، وزيد بن أسلم، وسعيد ابن أبي سعيد المقبري، ومخرمة بن سليمان، وربيعة ابن أبي عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن القاسم، وخلق كثير غيرهم

(1)

.

وأخذ العلم عنه خلق كثير لا يحصون كثرة منهم: الشافعي، ومحمد ابن إبراهيم بن دينار، وأبو هشام المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، وأبو عبد الله عبد العزيز ابن أبي حازم، وعثمان بن عيسى بن كنانة، ومعن بن عيسى القزاز، وعبد الله بن موسى القعنبي، وعبد الله بن وهب، وأصبغ بن الفرج، وغير هؤلاء ممن لا يحصى عدده

(2)

، وهؤلاء مشايخ البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، وأحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم من أئمة الحديث

(3)

.

والناظر في سيرة الإمام مالك يجد عجبا، فقد رحل إليه طلبة العلم من أقطار المعمورة، وتتلمذ عليه علماء الإسلام، حتى أقرانه ومشايخه كانوا يأخذون عنه بعد أن سطع نجمه، أمثال سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، والأوزاعي. يقول الإمام مالك:"قل من كتبت عنه العلم، ما مات حتى يجيئني ويستفتيني"

(4)

.

وقد ذهب عدد كبير من العلماء إلى أن الإمام مالك هو الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون

(1)

جامع الأصول: 1/ 180.

(2)

جامع الأصول: 1/ 181.

(3)

جامع الأصول: 1/ 181.

(4)

جامع الأصول: 1/ 181.

ص: 111

أحدا أعلم من عالم المدينة). رواه الترمذي، وقال: حديث حسن

(1)

.

‌المطلب الثالث: ثناء العلماء عليه

قال الشافعي: "مالك حجّة الله تعالى على خلقه"

(2)

.

وقال أيضا: "إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمنَّ عليَّ من مالك"

(3)

.

ومن كلام ابن مهْديّ فيه: "ما رأيت أحدا أتمَّ عقلا، ولا أشدّ تقوى من مالك"

(4)

.

وقال يحيى بن سعيد القطان: "ما في القوم أصح حديثا من مالك"

(5)

.

وقال البخاري: "أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر"

(6)

.

وقال أبو داود: "أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر، ثم مالك عن الزهري عن سالم عن أبيه، ثم مالك عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة"

(7)

.

وقد أجمع أشياخه وأقرانه فمن بعدهم على أنّه إمام في الحديث موثوق بصدق روايته، طبقت مناقبه وفضائله الآفاق.

(1)

انظر البداية والنهاية: 1/ 174 وقد ذكر الذهبي طرق هذا الحديث وروايته في سير أعلام النبلاء: 8/ 55.

(2)

خلاصة تذهيب الكمال: 3/ 3.

(3)

جامع الأصول: 1/ 182، إحياء علوم الدين: 1/ 27.

(4)

خلاصة تذهيب الكمال: 303.

(5)

جامع الأصول: 1/ 182.

(6)

خلاصة تذهيب الكمال: 313، البداية والنهاية: 10/ 174.

(7)

الفكر السامي: 1/ 377.

ص: 112

‌المطلب الرابع: فقهه وصلابته في دينه

كان الإمام مالك من أشدّ الناس تركا لشذوذ العلم، وأشدهم انتقادا للرجال، وأقلهم تكلفا، وأتقنهم حفظًا، عارفا بتفسير الغريب من الحديث، وقد فتح بموطئه الباب للمؤلفين من علماء الإسلام، وعلمهم كيفية التأليف والتصنيف وحسن التبويب، فاستحسن طريقه كل من أتى يعده، فسلكوه، فهو إمام كل مؤلف، وقدوة كل مصنف.

وكان الإمام مالك مبالغا في تعظيم العلم والدين، حتى كان إذا أراد أن يُحدِّثَ توضأ، وجلس على صدر فراشه، وسرح لحيته، واستعمل الطيب، وتمكن من الجلوس على وقار وهيبة، ثمَّ حدّث، فقيل له في ذلك، فقال:"أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

وكان صلبا في دينه، لم تغرّه الدنيا، ولم يرهبه السلطان، رُوي عن الإمام مالك أنّه قال:"دخلت على هارون الرشيد، فقال لي: يا أبا عبد الله ينبغي أن تختلف إلينا، حتى يسمع صبياننا منك "الموطأ"، قال: أعزَّ الله أمير المؤمنين، إن هذا العلم منكم خرج، فإن أعززتموه عزَّ، وإن ذللتموه ذلَّ، والعلمُ يُؤْتى ولا يأتي، فقال: صدقت، أخرجوا إلى المسجد، حتى تسمعوا مع الناس"

(2)

.

وقد أراده الرشيد على الخروج معه إلى العراق فأبي، وأراده أن يحمل الناس على كتابه (الموطأ)، فأبي، وبين له أن (الموطأ) لم يجمع علم الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك أن علمه تفرق في الأمصار بتفرق الصحابة

(3)

.

وقد امتحن الإمام وجلد في عهد الدولة العباسية بسبب فتواه بعدم وقوع

(1)

الإكمال في أسماء الرجال، انظر مشكاة المصابيح: 3/ 788، البداية والنهاية: 10/ 174.

(2)

المصدر السابق: 3/ 789.

(3)

المصدر السابق، وانظر إحياء علوم الدين: 1/ 27.

ص: 113

طلاق المكره، وقد كانوا يُكرهون الناس على الحلف بالطلاق عند البيعة

(1)

، فرأى الحكام أن الفتوى تنقض البيعه، وتهون الثورة.

وقيل: إن امتحانه كان بسبب رفضه ولاية القضاء، مما يدل على أنّه لا يتعاون مع ولاة الأمر.

‌المطلب الخامس: قواعد مذهب الإمام مالك

ورث الإمام مالك -رحمه الله تعالى- علم أهل الحجاز عامة والمدينة خاصة، يقول ابن تيمية رحمه الله: "لا ريب عند أحد أن مالكا رضي الله عنه أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه، كان له من المكانة عند أهل الإسلام -الخاص منهم والعام- ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام

(2)

".

وقال أيضًا: "يقال: إن مالكا أخذ جلَّ (الموطأ) عن ربيعة، وربيعة عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن المسيب عن عمر، وعمر محدّث"

(3)

.

وقال ابن المديني: "كان مالك يذهب إلى قول سليمان بن يسار، وسليمان ابن يسار يذهب إلى قول عمر بن الخطاب

(4)

".

والإمام مالك لم يدوِّن أصول مذهبه وقواعده في الاستنباط ومناهجه في الاجتهاد، وإن كان قد صرح ببعضها، وأشار إلى بعض آخر.

وجماع أصول مذهب مالك، بناء على ما صرح به، أو أشار إليه، أو استنبطه فقهاء مذهبه من الفروع المنقولة عنه، والآراء المدونة في موطئه هي: الكتاب، السنة، الإجماع، إجماع أهل المدينة، القياس، قول الصحابي،

(1)

راجع جامع الأصول: 1/ 181، الفكر السامي: 1/ 377.

(2)

صحة عمل أهل المدينة: 33.

(3)

صحة عمل المدينة: 29.

(4)

الديباج المذهب، لابن فرحون، وانظر الفكر السامي: 1/ 384.

ص: 114

المصلحة المرسلة، العرف والعادات، سدّ الذرائع، الاستحسان، الاستصحاب

(1)

.

وقد كان الإمام مالك يردد قول عمر بن عبد العزيز ويفقه الناس به: "سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننا، الأخذ بها اتباع لكتاب الله تعالى، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد بعد هؤلاء تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها، فمن اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا".

فالدين يؤخذ من كتاب الله وسنة رسول الله، وما قال به الخلفاء الراشدون، وما رواه الصحابة وأهل العلم والتقى من علماء المدينة، ومنهج مالك واضح لمن درس كتاب (الموطأ) وقد سبق أن ذكرنا تفسير الإمام مالك للمصطلحات التي حواها موطؤه.

‌المطلب السادس: تحقيق القول في عمل أهل المدينة

احتدم الجدل بين الإمام مالك رحمه الله وأتباع مذهبه، وبين كثير من العلماء والأئمة في عمل أهل المدينة، فذهب الإمام مالك -رحمه الله تعالى- إلى أنه "إذا أجمع أهل المدينة على شيء صار إجماعًا مقطوعًا عليه، وإن خالفهم فيه غيرهم"

(2)

، وهم يذهبون في هذا إلى تقديم عمل أهل المدينة المجمع عليه على القياس وأخبار الآحاد الصحيحة

(3)

، ومن طالع كتاب الإمام الليث بن سعد رحمه الله علم أن العلماء لم يتقولوا على الإمام مالك، وأن مذهبه اعتبار عملهم حجة ودليلاً.

(1)

الإمام مالك، لأبي زهرة: 258، والمدارك، للقاضي عياض: 578، والديباج المذهب، لابن فرحون:66.

(2)

المسودة، لآل تيمية:331.

(3)

الفكر السامي: 1/ 388.

ص: 115

والعلماء الأعلام يعرفون لأهل المدينة فضلهم وتقدمهم على غيرهم، ففي القرون الثلاثة التي أثنى عليها الرسول صلى الله عليه وسلم كان مذهب أهل المدينة أصح مذاهب أهل المدائن، فكانوا يتأسون بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سائر الأمصار، وكان غيرهم من أهل الأمصار دونهم في العلم بالسنة النبوية

(1)

.

ومما يدل على فضل أهل المدينة في الأعصار الثلاثة أن المدينة خلت من الباع في تلك الأعصار، فلم يخرج منها بدعة في أصول الدين البتة كما خرج من سائر الأمصار. . .، فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء، وانتشر بعد ذلك في غيرها، والبصرة خرج منها القدر والاعتزال، والنسك الفاسد، وانتشر بعد ذلك في غيرها، والشام كان بها النَّصْبُ والقدر، وأما التجهم فقد ظهر من ناحية خراسان، وهو شر الباع. . ." أما المدينة فكانت سليمة من ظهور البدع، وإن كان بها من هو مضمر لذلك، فكان عندهم مهانا مذموما. . .

(2)

.

وتحقيق القول في هذه المسألة أن من عمل أهل المدينة ما هو حجة باتفاق العلماء، ومنها ما هو حجة باتفاق أكثرهم، ومنها ما هو حجة عند بعضهم، ومنها ما ليس بحجة عند جمهورهم، فهذه أربع مراتب:

‌المرتبة الأولى: ما كان عملهم حجة باتفاق العلماء:

وهو ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلعلماء المدينة في هذا من السبق والتقدم ما ليس لغيرهم، فالأحاديث النبوية المدنية هي أشرف أحاديث أهل الأمصار، ومن تأمل أبواب البخاري وجده أول ما يبدأ في الباب بها ما وجدها، ثم يتبعها بأحاديث أهل الأمصار، وهذه كمالك عن نافع عن ابن عمر، وابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ومالك عن هشام

(1)

صحة عمل أهل المدينة، لابن تيمية:20.

(2)

صحة عمل أهل المدينة: 21 - 23.

ص: 116

ابن عروة عن أبيه عن عائشة، وأبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. . .

(1)

. ومن ذلك نقلهم فعله، كنقلهم: أنه كان صلوات الله وسلامه عليه يخرج هو والناس كل عيد إلى المصلى، فيصلي به العيد، وأنه كان يخطبهم قائما على المنبر، وظهره إلى القبلة، ووجهه إليهم. . . .

ومن ذلك نقلهم تقريره صلوات الله وسلامه عليه، كنقلهم إقراره على تلقيح النخل، وعلى تجارتهم التي كانوا يتاجرونها، وكإقرارهم على صنائعهم المختلفة من نجارة، وخياطة، وصياغة، وفلاحة، وإقرارهم على إنشاد الأشعار المباحة، وذكر أيام الجاهلية والمسابقة على الأقدام، وإقرارهم على الخيلاء في الحرب، ولبس ما نسجه الكفار من الثياب، وإنفاق ما ضربوه من الدراهم، وربما كان عليه صور ملوكهم، وإقراره على المزاح المباح، وعلى الشبع في الأكل، وعلى النوم في المسجد، وإقرارهم على أكل الزروع التي تداس بالأبقار من غير أمر لهم بغسلها، ومن ذلك نقلهم لِتَركه صلوات الله وسلامه عليه، وهو نوعان:

أحدثنا: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا، ولم يفعله، كقولهم في شهداء أحد: ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم، وقولهم في صلاة العيد، لم يكن أذان ولا إقامة ولا نداء، وقولهم في جمعه بين الصلاتين: ولا يسبح بينهما، ولا على أثر واحدة منهما.

والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله، فحيث لم ينقله واحد منهم ألبتة، ولا حدّث به في مجمع أبدا، علم أنه لم يكن، وهذا كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة، وكتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبلا للمأمومين. . .، وتركه الاغتسال للمبيت بمزدلفة، ولرمي الجمار، ولطواف الزيارة، ولصلاة الاستسقاء والكسوف.

ومن ذلك نقل الأعيان وتعيين الأماكن، كنقلهم الصاع والمدَّ وتعيين موضع

(1)

إعلام الموقعين: 2/ 414.

ص: 117

المنبر، وموقفه للصلاة والقبر والحجرة، ومسجد قباء، وتعيين الروضة، والبقيع، والمصلى، ونحو ذلك، ونقل هذا جار مَجْرى نقل مواضع المناسك، كالصفا والمروة ومنى.

ومن ذلك نقلهم العمل المستمر، كنقلهم الوقوف، والمزارعة، والأذان على المكان المرتفع، والأذان للصبح قبل الفجر، وتثنية الأذان، وإفراد الإقامة، والخطبة بالقرآن وبالسنن دون الخطبة الصناعية بالتسجيع والترجيع، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فهذا النقل، وهذا العمل حجة يجب اتباعها

(1)

.

يقول ابن تيمية في هذا النوع: "هذا مما هو حجة باتفاق العلماء، أما الشافعي وأحمد وأصحابهما، فهذا حجة عندهم بلا نزاع، كما هو حجة عند مالك، وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه

(2)

، يقول ابن عقيل في كتاب (النظريات الكبار) في مسألة استثناء الآصع المعلومة من الصبرة لمن احتج بأنه عمل أهل المدينة أجمعوا على ذلك عملا به، وهم أعرف بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم نقلة مكان قبره، وعين منبره، ومقدار صاعه، فكانت الثقة بهم كالثقة باجتماع المجتهدين، وتواتر الرواية عن المحدثين.

وعندي أن إجماعهم حجة فيما طريقه النقل. . .، فنقلهم مقدم على كل نقل"

(3)

.

‌المرتبة الثانية: وهي ما كان حجة باتفاق أكثرهم:

العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان، فهذا -كما يقول ابن تيمية- حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشافعي، قال في رواية يونس بن عبد الأعلى: إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء، فلا تتوقف في قلبك ريبا أنه الحق، وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنّه الخلفاء الراشدون

(1)

راجع إعلام الموقعين: 2/ 421.

(2)

صحة عمل أهل المدينة: ص 23.

(3)

المسودة: ص 332.

ص: 118

حجة يجب اتباعها. .، وقد ثبت في الحديث الصحيح، حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ. . .)، والمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين حجة، وما يعلم بأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدين مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

.

‌المرتبة الثالثة: ما هو حجة عند بعضهم:

إذا تعارض في المسألة دليلان، كحديثين وقياسين جهل أيهما أرجح، وأحدهما يعمل بعمل أهل المدينة، ففي هذه المسألة نزاع، فمذهب بعض العلماء أن الجانب الذي فيه عمل أهل المدينة يرجح بالجانب الآخر، وهذا مذهب مالك والشافعي، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح به، ولأصحاب أحمد وجهان: أحدهما: وهو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل: أنه لا يرجح. والثاني: وهو قول أبي الخطاب وغيره أنه يرجح به، وقيل: هو المنصوص عن أحمد، ومن كلامه قال: إذا رأى أهل المدينة حديثا وعملوا به فهو الغاية، وكان يفتي على مذهب أهل المدينة، ويقدمه على مذهب أهل العراق.

‌المرتبة الرابعة: وهو ما ليس بحجة عند جمهورهم:

وهذا سبيله الاجتهاد، فإن عملهم الذي سبيله الاجتهاد ليس بحجة على غيرهم، فإنهم ليسوا بمعصومين عن الخطأ، واجتهادهم ليس معصوما، يقول ابن عقيل من الحنابلة:"وإنما لا يكون إجماعهم على عمل حجة في باب الاجتهاد؛ لأن معنا مثل ما معهم من الرأي"

(2)

.

ويقول ابن القيم في هذه المسألة: "وأما العمل الذي طريقه الاجتهاد

(1)

صحة عمل أهل المدينة: 26، وانظر المسودة:332.

(2)

المسودة: 332.

ص: 119

والاستدلال، فهو معترك النزال، ومحل الجدال، قال القاضي عبد الوهاب: وقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أنه ليس بحجهً أصلًا. . . وهذا قول أبي بكر وأبي يعقوب الرازي، والقاضي أبي بكر بن منتاب، والطيالسي، والقاضي أبي الفرج، والشيخ أبي بكر الأبهري، وأنكر هؤلاء أن يكون هذا مذهبا لمالك، أو لأحد من معتمدي أصحابه.

والوجه الثاني: أنه وإن لم يكن حجه، فإنه يرجح له اجتهادهم على اجتهاد غيرهم، وبه قال بعض أصحاب الشافعي.

والثالث: إجماعهم من طريق الاجتهاد حجة، وإن لم يحرم خلافه كإجماعهم من طريق النقل، هذا مذهب قوم من أصحابنا، وهو الذي عليه كلام أحمد بن المعدل، وأبي بكر وغيرهما"

(1)

.

وذكر الشيخ أن في رسالة مالك إلى الليث بن سعد ما يدلُّ عليه، وقد ذكر أبو مصعب في مختصره مثل ذلك، والذي صرح به القاضي أبو الحسين ابن أبي عمر في مسألته التي صنفها على أبي بكر الصيرفي نقضا لكلامه على أصحابنا في إجماع أهل المدينة، وإلى هذا يذهب جل أصحابنا المغاربة أو جميعهم

(2)

.

والذي حققه شيخ الإسلام ابن تيمية أن العمل المتأخر بالمدينة ليس بحجة، ومذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، والذي عليه أئمة الناس، أنه ليس بحجة شرعية، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، وربما جعله بعض أهل المغرب من أصحابه حجة، وليس معه نص ولا دليل، بل هم أهل تقليد، كما يقول ابن تيمية.

وابن تيمية، على سعة علمه، واطلاعه وتحقيقه لمذاهب أهل العلم، لم

(1)

إعلام الموقعين: 2/ 421.

(2)

إعلام الموقعين: 2/ 421.

ص: 120

ير في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، فإن الإمام مالك يذكر في موطئه الأصل المجمع عليه عندهم، فهو يحكي مذاهبهم، وتارة يقول: الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير إلى الإجماع القديم، وتارة لا يذكر.

ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها، وإن خالفت النصوص، لوجب عليه أن يلتزم بذلك حدَّ الإمكان، كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة التي لا تعارض فيها وبالإجماع، وقد قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وإنما جمعت علم أهل بلدي، أو كما قال

(1)

.

ترك أخبار الآحاد لعمل أهل المدينة

يذهب كثير من المالكية إلى أن عمل أهل المدينة مقدَّم على أخبار الآحاد الصحيحة، ووجهة نظرهم أن عملهم بمنزلة روايتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ورواية جماعة عن جماعة أولى بالتقديم من رواية فرد عن فرد، ثم إن أهل المدينة أدرى بالسنة والناسخ والمنسوخ، وقد نقل الإمام مالك إجماع أهل المدينة في موطئه على نَيِّفٍ وأربعين مسألة

(2)

.

وفي الرد على هذا المذهب نقول: لا يرتضى جمهور العلماء أن عمل أهل المدينة بمنزلة الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم دائما، فقد يكون عملهم مبني على اجتهاد علمائهم مما يخالفهم فيه غيرهم.

وقد سبق القول: إن إجماعهم على هذا النحو ليس معصوما، وبذلك لا يجوز معارضة خبر الرسول صلى الله عليه وسلم الثابت بالسند الصحيح بما يسمى بعمل أهل المدينة إذا كان إجماعهم على العمل من هذا النوع.

وأما إذا كان عملهم مبنيًا على النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهل يجوز أن يخالف

(1)

صحة عمل أهل المدينة: 27.

(2)

الفكر السامي: 1/ 388.

ص: 121

هذا الإجماع الأحاديث الصحيحة الثابتة؟ يقول ابن القيم: "من المحال عادة أن يجمعوا على شيء نقلا متصلا من عندهم إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون السنة الصحيحة الثابتة قد خالفته، هذا من أبين الباطل"

(1)

.

‌المطلب السابع تدوين مذهب مالك ودواوين مذهب المالكية

دوَّن الإمام مالك كتابه (الموطأ)، وهو كتاب خلط فيه الحديث بفقه الصحابة والتابعين، وما تبين له وذهب إليه، وقد بينا منهجه الذي سار عليه في تأليفه وفقهه.

وكان الإمام مالك في تدريسه ينهج الطريقه الإلقائية الخالية من المناقشة والجدال مع تلامذته، وكان تلامذته يدونون ما يروي لهم من أحاديث وآثار، وما يقوله من فتاوى في المسائل التي تعرض عليه، وكان لا يجيب إلا على المسائل الواقعة، وينفر من الفقه الافتراضي.

وفقه مالك ليس مقصورا على (الموطأ)، فقد تلقى تلامذته عنه فقهه وحفظوه، ونقلوه إلى مختلف أصقاع العالم الإسلامي.

وأشهر الكتب في الفقه المالكي بعد (الموطأ) كتاب (المدونة) لسحنون، وأصل المدونة هو كتاب الأسدية، نسبة إلى أسد بن الفرات المتوفى سنة 213 هـ.

أدرك أسد بن الفرات الإمام مالك وأخذ عنه الموطأ، ثم ارتحل إلى العراق، فالتقى هناك بتلامذة الإمام أبي حنيفة، وتفقه بهم، وأخذ فقه الحنفية مجردًا، وحمله إلى ابن القاسم، ليقول له ما يراه مالك في تلك المسائل

(2)

.

(1)

إعلام الموقعين: 2/ 423.

(2)

الفكر السامي: 2/ 95. مقدمة ابن خلدون: ص 806.

ص: 122

وعبد الرحمن بن القاسم من الذين صحبوا مالكًا طويلاً ولازموه، فقد صحبه عشرين سنة، وحفظ عنه مسائله، يقال: إنه حفظ عنه ثلاثمائة جلد من مسائله

(1)

.

وقد دون أسد بن الفرات إجابات ابن القاسم في المسائل التي عرضها عليه، وعاد بها إلى القيروان حيث كان يعمل قاضيًا هناك، ونشرها في تلك الديار وسمي مؤلفه بالأسدية

(2)

.

ولم يرتض كثير من فقهاء المالكية المنهج الذي سلكته الأسدية حيث أنزلت آراء مالك على فقه الحنفية، فالإمام مالك رحمه الله كان يرفض الفقه الفرضي التقديري الذي عرف به الحنفية، ومن جهة أخرى فإن الفقه المالكي مثله في ذلك مثل الفقه الشافعي والحنبلي، كان يعتمد النصوص من الكتاب والسنة ويبني عليها الأحكام، ويقرن الأحكام بأدلتها، وهذا ظاهر فيما قام به الإمام مالك في موطئه، بينما كانت مدونات الفقه الحنفي فقها مجردا خلت من ذكر الأدلة عند تدوينها على يد مؤسسي المذهب.

لقد أراد أسد بن الفرات أن يكون للمالكية فقها كفقه الحنفية، وقد أغرم أسد بدراسة الفقه الحنفي، فرحل في حياة مالك إلى العراق، ولازم محمد ابن الحسن صاحب أبي حنيفة، فأراد من فقهاء المالكية أن يجيبوا على مسائل الفقه الحنفي.

عاد أسد بالمدونة إلى تونس، ولاحظ فقهاء المالكية المنهج الذي بنيت عليه المدونة المخالفة لمنهجية الإمام مالك، بل لاحظوا أن بعض الفروع تختلف عما عليه الفتوى عندهم، وكان من هؤلاء عبد السلام بن سعيد التنوخي الملقب بسحنون، فحمل المدونة مرة أخرى وعاد بها إلى ابن القاسم، واقترح عليه إعادة النظر فيها، والتدقيق في ذكر فقه الإمام مالك بحسب المروي عنه،

(1)

الفكر السامي: 1/ 439.

(2)

مقدمة ابن خلدون: ص 806. الفكر السامي: 1/ 439.

ص: 123

وقد ذكر ابن خلدون أن ابن القاسم رجع عن كثير من المسائل التي دونها في (الأسدية)، وأن سحنون كتب ما أملاه عليه ابن القاسم ودونه، وأثبت ما رجع عنه منها، وكتب ابن القاسم مع سحنون إلى أسد مطالبًا إياه بأن يمحو من أسديته ما رجع عنه، وأن يأخذ بكتاب سحنون، فأنف من ذلك، فترك الناس كتابه واتبعوا مدونة سحنون. ويسمى كتابه المدونة، كما يسمى المختلطة، لأن بعض المسائل وضعت في غير الأبواب المناسبة لها

(1)

، وبذلك صفى سحنون المدونة مما شابها، وأعاد إليها صيغة الإمام مالك في فقهه.

وأصبحت (المدونة) هي الكتاب الأول عند فقهاء المالكية بعد (الموطأ)، ولذا فإن علماء المالكية إذا أطلقوا اسم الكتاب انصرف عندهم إلى المدونة، وقد اعتنى بها فقهاء المالكية عناية كبيرة، فكانت مدار بحثهم، وتناولوها بالرواية وبالشرح والاختصار، وهي عمدة عندهم على اختلاف بلادهم، فهي عمدة عند الأندلسيين والمغاربة كما هي عمدة عند العراقيين والمصريين.

ودون عالم الأندلس الكبير عبد الملك بن حبيب السلمي كتاب (الواضحة في الفقه والسنن)، وقد اعتمد فيها على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وخاصة:(الموطأ)، وقد أفرده بالشرح، وتناول غيره من الأحاديث، كما اعتمد أقوال الصحابة والتابعين، وطريقته في واضحته كطريقة مالك في موطئه، وضمت إلى هذا كله فقه مالك وفقه علماء المالكية من تلامذة الإمام فمن بعدهم، وللمؤلف اجتهادات واضحة منثورة في كتابه.

وقد كانت الواضحة مفخرة علماء المالكية ومرجعهم حتى ظهور العتبية.

وألف محمد بن أحمد العتبي الأندلسي كتاب (العتبية) أو (المستخرجة)، وقد اعتمد عليها علماء الأندلس وهجروا الواضحة وغيرها، وقد دون العتبي فيها آراء مالك، وآراء تلامذته الأعلام من بعده، وقد حفظ العتبي في

(1)

مقدمة ابن خلدون: ص 807.

ص: 124

مؤلفه المسمى باسمه مرويات الإمام مالك، إلا أنه لم يمحص هذه الروايات، ولم يقارنها بالمرويات الأخرى، ولذا كثرت فيها الروايات المطروحة والمسائل الغريبة الشاذة.

وقد ميز صحيح روايات العتبية، ابن رشد في كتابه (البيان والتحصيل).

ودون محمد بن إبراهيم الإسكندري المعروف بابن المواز مؤلفا عرف بنسبته إليه، فقد سمي بـ (الموازية) وهو أجلُّ كتاب ألفه المالكيون وأصحه مسائل، وأبسطه كلاما وأوعبه.

وألف القاضي إسماعيل بن إسحاق أحد فقهاء مالكية العراق كتاب (المبسوط)، وكتابه هذا يظهر طريقة فقهاء مالكية العراق في الفقه والتدوين.

وإذا أطلق فقهاء المالكية اسم اللواوين، فإنهم يطلقونها على هذه المؤلفات السبعة التي ذكرناها وهي: المدونة، والواضحة، والعتبية، والموازية، والأسدية، والمبسوطة، والمجموعة.

وإذا أطلقوا الأمهات، فإنهم يريدون بها الأربع الأولى من الدواوين، والحق أن الدواوين ستة؛ لأن الأسدية هي المدونة بعد إعادة ابن القاسم النظر فيها.

وكان مدار اهتمام علماء المذهب على المدونة والواضحة والعتبية، يقول ابن خلدون: "عكف أهل القيروان على المدونة، وأهل الأندلس على الواضحة والعتبية، ثم اختصو ابن أبي زيد المدونة في كتابه المسمى بالمختصر، ولخصه أبو سعيد البرادعي من فقهاء القيروان في كتابه المسمى بالتهذيب، واعتمده المشيخة من أهل إفريقيا وأخذوا به، وتركوا ما سواه.

وكذلك اعتمد أهل الأندلس على العتبية وهجروا الواضحة وما سواها، ولم يزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الأمهات بالشرح والإيضاح والجمع، فكتب أهل أفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا، مثل ابن يونس واللخمي وابن محرز والتونسي وابن بشير وأمثالهم.

ص: 125

وكتب أهل الأندلس على العتبية ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن رشد وأمثاله"

(1)

.

وقد ألف عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمن القيرواني المتوفى سنة 310 هـ كتاب النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات، وهو كتاب جامع في فقه المالكية لما افترق في دواوينهم، أضاف الزيادات التي في تلك الدواوين إلى ما في المدونة، وهو كتاب ضخم يقع في تسعة عشر مجلدًا، يصل عدد صفحات كل مجلد إلى أربعمائة صفحة تقريبًا، وتوجد منه نسخة كاملة في أيا صوفيا بتركيا.

وكتاب بهذا الاتساع وهذا الشمول لا بدَّ أنه استوعب كل مدونات الفقه المالكي إلى عصره

(2)

.

يقول ابن خلدون في هذا الكتاب: "جمع ابن أبي زيد جميع ما في الأمهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النوادر، فاشتمل على جميع أقوال المذهب، وفرع الأمهات كلها في هذا الكتاب، ونقل ابن يونس معظمه في شرحه على المدونة"

(3)

.

ومن الكتب الكبار في المذهب المالكي كتاب (الذخيرة للقرافي)(626 - 684)، فإنه حوى علمًا جمًا في مذهب المالكية، فإن مؤلفه كما يقول في مقدمته جمع له من تصانيف المذهب نحو أربعين تصنيفًا ما بين شرح وكتاب مستقل

(4)

.

وقد جمع فيه بين الكتب الخمسة التي عكف عليها المالكيون شرقًا وغربًا، وهو يريد بالكتب الخمسة: المدونة لسحنون، والجواهر الثمينة في مذهب عالم

(1)

مقدمة ابن خلدون: ص 806. الفكر السامي: 1/ 439.

(2)

دراسات في مصادر الفقه المالكي: ص 68 - 109.

(3)

مقدمة ابن خلدون: ص 808.

(4)

الذخيرة: 1/ 36.

ص: 126

المدينة لجلال الدين ابن نجم بن شاس، والتلقين للقاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي، والتفريع لابن جلاب، والرسالة لابن أبي زيد القيرواني.

ويبدو أن هذه الكتب هي المشهورة عند المالكية في ذلك الوقت.

وقد الف أبو عمر عثمان بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب المتوفى سنة 646 هـ مختصرًا في الفقه المالكي عرف بمختصر ابن الحاجب، وقد علا ذكره وانتشر، وشغل به المالكية عن غيره، وهذا المختصر هو اختصار لكتاب التهذيب للبرادعي، وتهذيب البرادعي هو اختصار لمختصر بن أبي زيد الذي اختصر به المدونة

(1)

.

ثم جاء خليل بن إسحاق الكردي المتوفى سنة 767 هـ فاختصر مختصر ابن الحاجب، وبالغ في اختصاره، واشتغل المالكية بهذا الكتاب حفظًا ومدارسة، ووضعوا عليه الشروح والحواشي، وهجروا غيره، وقد زادت الشروح والحواشي التي وضعت عليه على الستين

(2)

.

وأكثر شروحه تحريرًا شرح الحطاب، وشرح المواق، وهما مطبوعان، ومن الشروح التي وضعت عليه شرح الزرقاني، وشرح الخرشي، والرهوني، وشرحه أحمد بن أحمد الدردير، المتوفى سنة 1193 هـ شرحًا سماه الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب مالك، وعليه حاشية العلامة الشيخ أحمد بن محمد الصاوي

(3)

.

وللدردير شرح آخر سماه بالشرح الكبير، وقد وضع عليه محمد عرفة الدسوقي حاشية، وقد طبع الكتاب والحاشية، وبهامشه تقريرات الشيخ عليش

(4)

.

(1)

مقدمة ابن خلدون: ص 808.

(2)

الفكر السامي: 2/ 398.

(3)

طبعة دار المعارف. مصر: 1392 هـ.

(4)

طبعة دار إحياء الكتب العربية. القاهرة.

ص: 127

‌المطلب الثامن: توجهات الفقه المالكي

تتلمذ على مالك جمع كبير من طلبة العلم من مختلف البلاد، وطال عمر مالك وكثر تلامذته، وكثرت محفوظاتهم عنه، وتفرق تلامذته في حياته وبعد وفاته في البلاد حاملين معهم فقه إمام دار الهجرة رحمه الله.

وعلى الرغم من أن المنهج الذي حملوه عن إمامهم منهج واحد، إلا أنه وقع شيء من التمايز بين تلامذته الذين تفرقت بهم الديار، وكان ذلك نتيجة طرائق الاستدلال التي اعتمدها كل فريق، ونتيجة إلى مدى علم كل فريق بالأحاديث وأقوال الصحابة، ويمكن إعادة هذا التمايز إلى الاختلاف في الأصول التي يعتمد عليها في الاستدلال.

ولا يمكن أن نغفل تأثير البيئة التي يعيش فيها كل فريق في منهجه وطريقة تفكيره، فالعراقيون تأثروا بفقه أهل الرأي على نحو لم يتأثر به المدنيون.

ولا شك أن طريقة تلامذته المدنيين هي التي تمثل طريقة الإمام، ففي المدينة عاش الإمام، وتأصل فقهه، ونما غرسه، وقد حمل فقهه فيها علماء أعلام كابن الماجشون، وابن دينار، وابن أبي حازم، وابن سلمة، وابن نافع وغيرهم.

وطريقة العراقيين من فقهاء المالكية أوجدها تلامذة الإمام وأتباعه في تلك الديار، كابن مهدي، والقعنبي، وإسماعيل القاضي.

وقد تأثرت طريقة العراقيين من فقهاء المالكية بطريقة أهل الفقه التقديري الفرضي من أهل الرأي، ونزعت إلى ما نزعوا إليه من الحوار والجدل، وتلاشى فقهاء المالكية العراقيين من العراق، وانقطعوا بعد منتصف القرن الخامس الهجري.

وحل بمصر علماء أعلام من تلامذة الإمام مالك أمثال ابن القاسم، وأشهب، وابن وهب، وأصبغ، وابن عبد الحكم، وغيرهم، وكانت

ص: 128

مروياتهم عن مالك هي عمدة المذهب المالكي، وطريقة المصريين من فقهاء المالكية قريبة من طريقة المدنيين.

وهناك طريقتان للمالكية غير الطرائق الثلاثة السابقة هي طريقة المغاربة من أهل تونس والقيروان وما جاور هذه البلاد، وطريقة أهل الأندلس، وقد بث تلامذة مالك وتلامذتهم فقه مالك في هذه الديار، وأنتجت تلك الديار كثيرا من علماء المالكية الأعلام أمثال ابن أبي زيد، وابن القابسي، والباجي، واللخمي، وعالم المغرب الفقيه الكبير ابن عبد البر، وابن رشد، والمحدث الفقيه الأصولي المفسر أبو بكر ابن العربي.

‌المطلب التاسع: اصطلاحات المالكية

هذه نبذة من اصطلاحات المالكية لخصتها من كلام الشيخ إبراهيم المختار أحمد عمر الجبرتي الزيلعي في مقدمته لكتاب: (مسائل لا يعذر فيها بالجهل)

(1)

، وصرح أنه جمعها من ديباجة (مواهب الجليل) للحطاب، ومن مقدمة حاشية العدوي على الخرشي، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، والديباج لابن فرحون، ونفح الطيب للمقري، وغير ذلك من كتب المذهب، ليكون الطالب على بصيرة من عبارات علماء مذهبه.

المراد بالفقهاء السبعة عندهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم ابن محمد بن أبي بكر الصديق، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار، واختلف في السابع، فقيل: أبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: سالم بن عبد الله، وقيل: أبو بكر ابن عبد الرحمن، ونظم ذلك بعضهم ذاهبا إلى القول الثالث فقال:

(1)

مسائل لا يعذر فيها بالجهل على مذهب مالك، دار الغرب الإسلامي - بيروت - لبنان، الثانية، 1406 هـ 1986 م.

ص: 129

ألا كل من لم يقتدي بأئمة

فقسمته ضيزى عن الحق خارجه

فخذهم عبيد الله عروة قاسم

سعيد أبو بكر سليمان خارجه

ويطلقون العبادلة، ويريدون بهم أربعة، عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب؛ وعبد الله بن عباس، ونظم ذلك شرف الدين الأرمي قاضي البهنساء فقال:

إن العبادلة الأخيار أربعة

مناهج العلم في الإسلام للناس

ابن الزبير وابن العاص وابن أبي

حفص الخليفة والحبر ابن عباس

ويريدون بالمدنيين من أتباع مالك: ابن كنانة، وابن الماجشون، ومطرف، وابن نافع، وابن مسلمة، ونظرائهم.

ويطلقون المصريين ويريدون بهم: ابن القاسم، وأشهب، وابن وهب، وأصبغ بن الفرج، وابر عبد الحكم، ونظائرهم.

وعندما يطلقون العراقيين فى مدوناتهم يشيرون بهم إلى: القاضي إسماعيل ابن إسحاق، والقاضي أبي الحسين بن القصار، وابن الجلاب، والقاضي عبد الوهاب، والقاضي أبي الفرج، والشيخ أبو بكر الأبهري ونظائرهم.

أما المغاربة فيشيرون بهم إلى: الشيخ ابن أبي زيد، وابن القابسي، وابن اللباد، والباجي، واللخمي، وابن محرز، وابن عبد البر، وابن رشد، وابن العربي، والقاضي سند المخزومي، وابن شبلون، وابن شعبان.

ومن نهج المالكية أنه إذا اختلف المصريون، والمدنيون، قدموا المصريين غالبا، وإذا اختلف المغاربة والعراقيون قدموا المغاربة، وإلى هذا أشار النابغة الشنقيطي في الطليحة فقال:

ورجحوا ما شهر المغاربة. . . والشمس بالمشرق ليست غاربة

قال الأجهوري تقديم المصريين على من سواهم ظاهر؛ لأنهم أعلام المذهب، لأن منهم ابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، وكذا تقديم

ص: 130

المدنيين على المغاربة، إذ منهم الأخوان، ويظهر تقديم المغاربة على العراقيين، إذ منهم الشيخان.

والقرينان في مدونات المالكية: أشهب، وابن نافع، فقرن أشهب مع ابن نافع لعدم بصره كما ذكره العدوي، وكان المتقدمون يطلقون القرينان على الإمام مالك، وابن عيينة، من ذلك قول الإمام الشافعي: مالك وابن عيينة القرينان، لولاهما لذهب علم الحجاز كما ذكره الدهلوي في (مقدمة المسوى شرح أحاديث الموطأ).

والأخوان: مطرف، وابن الماجشون، وسميا بذلك لكثرة ما يتفقان عليه من الأحكام وملازمتها.

والقاضيان: القاضي ابن القصار، والقاضي عبد الوهاب.

والمحمدان: ابن المواز، وابن سحنون، وعند ابن عرفة: ابن المواز، وابن عبد الحكم.

وإذا قيل محمد فهو ابن المواز.

والمحمدون أربعة: وهم الذي اجتمعوا في عصر واحد من أئمة مذهب مالك ما لم يجتمع مثلهم في زمان، اثنان قرويان: ابن عبدوس، وابن سحنون، واثنان مصريان: ابن عبد الحكم، وابن المواز.

والإمام في الفقه عندهم: المازري، ويطلق الشيخ عندهم على ابن أبي زيد.

والصقليان: ابن يونس، وعبد الحق.

والشيخان: أبو محمد عبد الله بن أبي زيد، وأبو الحسن علي القابسي.

والروايات عندهم أقوال مالك، وهذا على قاعدة خليل. وغيره غالبا، والأقوال أقوال الصحابة، ومن بعدهم من المتأخرين، كابن رشد، ونحوه.

والمراد بالاتفاق اتفاق أهل المذهب، وبالإجماع إجماع العلماء، وإذا قالوا

ص: 131

الجمهور عنوا بهم الأئمة الأربعة.

والمذهب يطلق عند المتأخرين من أئمة المذهب على ما به الفتوى، من إطلاق الشيء على جزئه الأهم، كالحج عرفة؛ لأن ذلك هو الأهم عند الفقيه المقلد.

والمراد بمذهبه ما قاله هو وأصحابه على طريقته، ونسب إليه مذهبا، لكونه على قواعده، وأصله الذي بنى عليه مذهبه، وليس المراد ما ذهب إليه وحده دون غيره من أهل المدينة.

والطريقة عبارة عن شيخ، أو شيوخ يروون المذهب كله على ما نقلوه.

والطرق: عبارة عن اختلاف الشيوخ في كيفية نقل المذهب.

وسئل ابن عرفة: هل يجوز أن يقال في طريق من الطرق هذا مذهب مالك؟ فأجاب بأن من له معرفة بقواعد المذهب، ومشهور أقواله، والترجيح، والقياس يجوز له ذلك، بعد بذل وسعه في تذكر قواعد المذهب، ومن لم يكن كذلك لا يجوز له ذلك، إلا أن يعزوه إلى من قبله كالمازري، وابن رشد، وغيرهم.

إذا قيل الأظهر: كان فيه إشعار بأن مقابله فيه ظهور أيضا؛ لأن الأظهر اسم تفضيل يقتضى المشاركة وزيادة.

والمشهور: يقابله الغريب.

والصحيح: يقابله الضعيف.

والأصح: يشعر بصحة مقابله؛ لأنه اسم تفضيل، كالأظهر.

ص: 132

‌المطلب العاشر: انتشار مذهبه

انتشر مذهب الإمام مالك في مصر وبلاد كثيرة، وكان مذهبه المذهب السائد بالأندلس، ولا يزال مذهبه سائدًا في بلاد المغرب، وصعيد مصر، والسودان.

وتلامذته الذين نشروا فقهه كثيرون، منهم عبد الله بن وهب، لازم مالك عشرين سنة؛ ونشر مذهبه في مصر والمغرب، وتوفي سنة 197 هـ، وكان الإمام مالك يجله ويحترمه، وكان أعلم أصحاب مالك بالسنة والأثر.

ومنهم عبد الرحمن بن القاسم الفقيه المصري، وهو الذي روى عنه الفقيه سحنون (المدونة) التي جمعت آراء المذهب المالكي، توفي سنة: 191 هـ.

ومنهم أشهب بن عبد العزيز القيسي، انتهت إليه رياسة الفقه في مصر، وتوفي سنة 224 هـ.

ص: 133

‌المبحث الثالث الإمام الشافعي

‌المطلب الأول: نسبه وعصره

هو الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبد الله بن عبيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي القرشي المطلبي الحجازي المكي، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف

(1)

.

ولد الشافعي بغزة، وقيل بعسقلان، وهما من الأراضي المقدسة التي بارك الله فيها، فإنهما على نحو مرحلتين من بيت المقدس، ثمَّ حمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وتوفي بمصر، وكانت ولادته في سنة 150 هـ، في السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة، ووفاته في سنة 204 هـ.

أسلم جده السائب في يوم بدر، وكان قد شهد بدرا مشركًا، وكان حامل راية بني هاشم، فأسر، وفدى نفسه، وأسلم

(2)

.

‌المطلب الثاني: فقهه وعلمه

قال الشيخ أحمد محمد شاكر في مقدمة الرسالة: "ولو جاز لعالم أن يقلد عالما -لكان أولى الناس عندي أن يقلد: الشافعي، فإني أعتقد- غير غال ولا مسرف -أن هذا الرجل لم يظهر مثله في علماء الإسلام في فقه الكتاب والسنة، ونفوذ النظر فيهما، ودقة الاستنباط، مع قوة العارضة ونور البصيرة، والإبداع في إقامة الحجّة، وإفحام مناظره.

فصيح اللسان، ناصع البيان، في الذورة العليا من البلاغة، تأدب بأدب

(1)

المجموع للنووي: 1/ 7.

(2)

المجموع للنووي: 1/ 8.

ص: 134

البادية، وأخذ العلوم والمعارف عن أهل الحضر، حتى سما عن كل عالم قبله وبعده، نبغ في الحجاز، وكان إلى علمائه مرجع الرواية والسنة، وكانوا أساطين العلم في فقه القرآن، ولم يكن الكثير منهم أهل لسن وجدل، وكادوا يعجزون عن مناظرة أهل الرأي، فجاء هذا الشاب يناظر وينافح، ويعرف كيف يقوم بحجته، وكيف يلزم أهل الرأي وجوب اتباع السنة، وكيف يُثبت لهم الحجة في خبر الواحد، وكيف يفصل للناس طرق فهم الكتاب على ما عرف من بيان العرب وفصاحتهم، وكيف يدلهم على الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، وعلى الجمع بين ما ظاهره التعارض فيهما أو في أحدهما"

(1)

.

ظهرت علامات النبوغ على الشافعي صغيرا، فقد كان الشافعي أول أمره فقيرًا، فلما سلموه إلى المعلم، ما كانوا يجدون أجرة المعلم، فكان المعلم يقصِّر في التعليم، إلا أن المعلم كما علم صبيا شيئا كان الشافعي يتلقف ذلك الكلام، ثمَّ لما قام المعلم عن مكانه أخذ الشافعي يعلم الصبيان تلك الأشياء، فنظر المعلم، فرأى الشافعي يكفيه أمر الصبيان أكثر من الأجرة التي كان يطلب منه، فترك طلب الأجرة، واستمرَّ على هذه الأحوال، حتى تعلم القرآن لتسع سنين

(2)

.

ولما ختم الشافعي القرآن دخل المسجد الحرام، وأخذ يجالس العلماء ويحفظ الحديث

(3)

، وقد حفظ موطأ مالك وهو ابن عشر سنين، وأفتى وهو ابن خمس عشرة، وقيل: ابن ثماني عشرة، وقد أذن له شيخه مسلم بن خالد في الإفتاء في ذلك السن المبكر

(4)

.

(1)

الرسالة، للشافعي، بتحقيق أحمد محمد شاكر: ص 5.

(2)

الإكمال، للخطيب التبريزي، انظر المشكاة: 3/ 792.

(3)

المصدر السابق: 3/ 793.

(4)

البداية والنهاية: 10/ 252.

ص: 135

‌المطلب الثالث: ثناء العلماء عليه

قال عبد الله بن الإمام أحمد: "قلت لأبي: أي رجل كان الإمام الشافعي؟ فإني سمعتك تكثر الدعاء له. فقال لي: كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف، أو عنهما من عوض"

(1)

.

وقال الإمام أحمد أيضًا: "ما أعلم أحدا أعظم منّة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي، وإني لأدعو له في صلاتي: اللهمَّ اغفر لي ولوالدي، ولمحمد بن إدريس الشافعي"

(2)

.

قال ابن كثير: "قد أثنى على الشافعي غير واحد من كبار الأئمة، منهم عبد الرحمن بن مهدي، وسأله أن يكتب له كتابا في الأصول، فكتب له الرسالة، وكان يدعو له في الصلاة دائما، وشيخه مالك بن أنس، وقتيبة ابن سعيد، وقال: هو إمام، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وكان يدعو له أيضا في صلاته، وأبو عبيد، وقال: ما رأيت أفصح، ولا أعقل، ولا أورع من الشافعي، ويحيى بن أكثم القاضي، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن الحسن وغيرهم مما يطول ذكرهم وشرح أقوالهم"

(3)

.

وقال أبو ثور: "ما رأينا مثل الشافعي، ولا هو رأى مثل نفسه"

(4)

.

وقال داود بن علي الظاهري: "للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره، من شرف نسبه، وصحة دينه ومعتقده، وسخاوة نفسه، ومعرفته بصحة الحديث وسقمه، وناسخه ومنسوخه، وحفظه الكتاب والسنة، وسيرة الخلفاء، وحسن التصنيف، وجودة الأصحاب والتلامذة، مثل أحمد بن حنبل في زهده وورعه، وإقامته على السنة"

(5)

.

(1)

الإكمال في أسماء الرجال، انظر مشكاة المصابيح: 3/ 794.

(2)

المصدر السابق.

(3)

البداية والنهاية: 10/ 252.

(4)

البداية والنهاية: 10/ 252.

(5)

البداية والنهاية: 10/ 253.

ص: 136

‌المطلب الرابع: شيوخه وتلامذته

أخذ الشافعي علم أهل الحجاز، فقد أخذ الفقه عن مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن جربج، عن عطاء، عن ابن عباس، وابن الزبير وغيرهما، عن جماعة من الصحابة، منهم: عمر، وعلى، وابن مسعود، وزيد بن ثابت

(1)

، ورحل إلى الإمام مالك ولزمه، وقرأ عليه (الموطأ)، وقال له الإمام مالك:"اتق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن". ورحل إلى العراق، وناظر محمد بن الحسن، واشتهر الشافعي في العراق، وفي الآفاق، وعظم قدره، وارتفعت مرتبته، وعكف عليه للاستفادة الصغار والكبار، والأئمة والأحبار من أهل الحديث والفقه وغيرهم، مثل أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن شريح البقال، والزعفراني وغيرهم

(2)

.

‌المطلب الخامس: أصول مذهبه

كان الشافعي رحمه الله ذا عقل ثاقب، وفكر راجح، وبصيرة نيرة، وقد استطاع أن يستوعب علوم فقهاء الإسلام، فقد أخذ علم أهل الحجاز وفقههم، وحفظ الكتاب والسنن، وخالط أهل الرأي، ونظر في طريقتهم، واستطاع بعد نضوجه العلمي أن يضع منهجا فذا للطريقة التي ينبغي أن يسار عليها في التوصل إلى الأحكام.

وقد كان الشافعي على مذهب مالك في بداية أمره، ولكنه استقل بمذهب عرف به بعد رحلاته في الأمصار الإسلامية، ومقابلته للعلماء، ومناظرته لهم، وقد ألف كتاب (الحجة) في العراق، وهو ما يسمى بمذهب الشافعي القديم، وسمي بذلك؛ لأنه رجع عن بعض أقواله عندما استقر بمصر،

(1)

البداية والنهاية: 10/ 252.

(2)

المصدر السابق: 10/ 252.

ص: 137

وفي مصر ألف كتابه (الأم)، وهو يمثل مذهبه الجديد، وألف كتابه (الرسالة) في العراق، ويعد كتاب (الرسالة) أول كتاب يؤلف في علم "أصول الفقه"، ولذلك فإنه يعدُّ واضع علم أصول الفقه.

والإمام الشافعي ذكر أصول مذهبه ومنهجه في الاستنباط في كتبه، وقد أوجزها في كتابه (الأم) حيث يقول: العلم طبقات شتى:

الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت السنة.

الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.

الثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم له مخالفا من الصحابة في قوله.

الرابعة: اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

الخامسة: القياس على بعض الطبقات

(1)

.

ويقول في كتابه الرسالة: "ليس لأحد أبدا أن يقول في شيء حلَّ ولا حرم إلا من جهة العلم، وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس"

(2)

.

وهو يرى تقدم الكتاب والسنة على بقية الأدلة، قال في (الأم):"لا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان"

(3)

.

وهو يحتج بخبر الواحد ما دام راويه ثقة عدلا، ولا يشترط في خبر الواحد الشهرة فيما تعمُّ به البلوى كما قال الأحناف، ولا أن يوافق عمل أهل المدينة، كما قال مالك، فهو يشترط صحة السند فقط.

(1)

كتاب الأم: 7/ 346.

(2)

الرسالة: ص 39، وقريب منه في ص:58.

(3)

كتاب الأم: 7/ 346.

ص: 138

ولا يطلق العمل بالمرسل كما فعل أبو حنيفة ومالك، بل قيده بشرط أن يؤيده دليل آخر، كان يكون راويه لا يرسل إلا عن ثقة، ولذلك قبِلَ مراسيل سعيد بن المسيب كلها، لتوفر هذا الشرط فيها، وفي هذا يقول في كتابه (الأم):"وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيب"

(1)

.

وهو يأخذ بظاهر الكتاب والسنة، لا يعدل عن هذا الظاهر، إلا إذا دلَّ الدليل على أنَّ المراد بالنصِّ غيره.

ولم يجعل الإمام الشافعي من أصوله الاستحسان، وقد عقد في كتابه (الأم) كتابا بين فيه إبطال القول بالاستحسان

(2)

.

ومما رفضه الشافعي القول بالمصالح المرسلة، وعمل أهل المدينة، والإجماع الذي يراه الشافعي حجّة ليس هو الإجماع الذي اشتهر في كتب الأصوليين، فالإجماع الذي يصح عنده هو الذي يكون (في الفرض الذي لا يسع جهله من الصلوات والزكاة وتحريم الحرام"

(3)

.

أمّا أخبار الآحاد التي لا يُعْلمُ فيها خلاف، فلا يجيز الشافعي أن يقال فيه: هذا إجماع؛ لأن عدم العلم ليس دليلًا، فقد يكون الناس اختلفوا وهو لا يدري، والذي يقوله الشافعي في هذا المقام:"لا نعلمهم اختلفوا فيما لا نعلمهم اختلفوا فيه"

(4)

.

ويقول: "ولا نقول هذا إجماع، فإن الإجماع قضاء على من لم يقل، ممن لا ندري ما يقول لو قال، وادعاء رواية الإجماع، وقد يوجد مخالف فيما ادعى فيه الإجماع"

(5)

.

(1)

كتاب الأم: 7/ 267.

(2)

كتاب الأم: 7/ 244.

(3)

كتاب الأم: 7/ 144.

(4)

المصدر السابق.

(5)

المصدر السابق.

ص: 139

والإمام الشافعي يقدم قول الصحابي على القياس، وإذا قال الصحابي قولا لم يخالفه فيه غيره لم يعدوه، وإذا اختلفوا تخير من أقوالهم، "وقد قال في مذهبه الجديد في كتاب الفرائض في ميراث الجدّ والأخوة: وهذا مذهب تلقيناه عن زيد بن ثابت، وعنه أخذنا أكثر الفرائض، وقال: القياس عندي قتل الراهب لولا ما جاء عن أبي بكر رضي الله عنه، فترك صريح القياس لقول الصديق، وقال في رواية الربيع عنه: والبدعة ما خالف كتابا أو سنة أو أثر بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل ما خالف الصحابي بدعة"

(1)

.

والقياس عند الشافعي يعمل به للضرورة، فهو عنده كأكل الميتة لا يجوز تناولها وهو يجد سعة في غيرها، يقول ابن حجر العسقلاني:"والحاصل أن المصير إلى الرأي يكون عند فقد النص، وإلى هذا يومئ قول الشافعي فيما أخرجه البيهقي بسند صحيح إلى أحمد بن حنبل: سمعت الشافعي يقول: "القياس عند الضرورة"

(2)

.

ويقول الشافعي في كتابه الرسالة: "ونحكم بالإجماع، ثم القياس، وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلة ضرورة؛ لأنه لا يحل القياس والخبر موجود، كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون طهارة إذا وجد الماء، إنما يكون طهارة عند الإعواز"

(3)

.

‌المطلب السادس: انتشار مذهبه وناشروه من تلامذته

دون الشافعي أصول مذهبه وفقهه في حياته، وكان له تلامذة بررة أذاعوه وقاموا عليه ودونوه، يقول ابن خلدون: "وأمّا مقلدة الشافعي فمقلدوه بمصر أكثر مما في سواها، وقد انتشر مذهبه بالعراق وخراسان وما وراء النهر،

(1)

إعلام الموقعين: 1/ 85.

(2)

فتح الباري: 13/ 291، إعلام الموقعين: 1/ 70.

(3)

الرسالة: 599.

ص: 140

وقاسموا الحنفية في الفتوى والتدريس في جميع الأمصار

(1)

. ومذهب الشافعي موجود الآن بالوجه البحري من القطر المصري، وفي فلسطين وعدن وحضرموت، وموجود بقلة في العراق وباكستان والمملكة العربية السعودية، وهو المذهب الغالب أو الرسمي في أندونيسيا

(2)

وتلامذته الذين نشروا مذهبه كثيرون، منهم العراقيون، ومنهم المصريون.

فالعراقيون هم نقلة مذهبه القديم، ومنهم الحسن بن محمد المعروف بالزعفراني المتوفى سنة 260 هـ، وأبو علي الحسين بن علي المعروف بالكرابيسي المتوفى سنة 264 هـ.

أما تلامذته في مصر فهم نقلة مذهبه الجديد وأشهرهم: المزني: وهو إسماعيل بن يحيى المزني، ولد سنة 175 هـ، وتوفي سنة 254 هـ، ويعتبر أمهر أصحاب الشافعي؛ لأنّه لازمه حين حضوره إلى مصر إلى أن توفي، والشافعية يعدُّونه مجتهدا مطلقا، حيث إنه خالف إمامه في بعض آرائه، وألف في المذهب كتبا كانت سببا في نشر المذهب وحفظه، منها مختصره المطبوع على هامش كتاب (الأم)

(3)

.

ومنهم البويطي: وهو أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، من قرية بويط بصعيد مصر، وهو أكبر أصحاب الشافعي، تفقه على الشافعي، وحدث عنه، وكان الشافعي يعتمده في الفتيا، ويحيل عليه، وصنف مختصره المعروف في حياة الشافعي وقرأه عليه، ورشحه الشافعي ليجلس في مجلسه بعد وفاته، سجن في عهد الواثق في محنة القول بخلق القرآن، بسبب رفضه إجابتهم إلى ضلالهم، وتوفي في السجن سنة 231 هـ

(4)

.

(1)

المقدمة: ص 448.

(2)

المدخل، لمحمد مصطفى شلبي: ص 157.

(3)

راجع في ترجمته: وفيات الأعيان: 1/ 271، والأعلام: 1/ 327.

(4)

راجع في ترجمته: تهذيب التهذيب: 11/ 247، ووفيات الأعيان: 2/ 246، وتاريخ بغداد: 14/ 299

ص: 141

ومنهم الربيع بن سليمان المرادي راوي كتاب (الأم)، وكتب نُسْخَة منه في حياة الشافعي.

‌المطلب السابع: تدوين مذهب الشافعي ودواوين مذهب الشافعية

ذكرنا من قبل أن الشافعي دون مذهبه بنفسه، ثم أعاد تدوينه بعد تمحيصه وتدقيقه مرة أخرى بمصر.

يقول العلامة المحقق الشيخ أحمد شاكر في مقدمة تحقيقه لرسالة الشافعي: "ألف الشافعي كتبًا كثيرًا، بعضها كتبه بنفسه وقرأه على الناس أو قرؤوه عليه، وبعضُها أملاه إملاء، وإحصاء هذه الكتب عسير، وقد فقد كثيرٌ منها. فألف في مكة، وألف في بغداد وألف في مصر.

والذي في أيدي العلماء من كتبه الآن ما ألفه في مصر، وهو كتاب (الأم) الذي جمع فيه الربيعُ بعض كتب الشافعي، وسماه بهذا الاسم، بعد أن سمع منه هذه الكتب، وما فاته سماعُه بين ذلك، وما وجده بخط الشافعي ولم يسمعه بينه أيضًا، كما يعلم ذلك أهلُ العلم ممن يقرؤون كتاب (الأم). و (كتابُ اختلاف الحديث) وقد طبع بمطبعة بولاق بحاشية الجزء السابع من الأم. و (كتابُ الرسالة). وهما مما روى الربيع عن الشافعي منفصلين، ولم يدخلهما في كتاب (الأم) "

(1)

.

وقد نقل تلامذة الشافعي مؤلفاته وما رووه عنه، ولم يكتفوا بذلك، بل عملوا على تعميق المذهب وتوسيعه بما وضعوه من مؤلفات، ومن هؤلاء المزني، وابن المنذر، وأبو ثور.

وانتقل فقه الشافعي في مذهبه الجديد إلى بغداد عن طريق ابن القاسم عثمان بن سعيد الأنماطي، وقد تلقى هذا الفقه عن الربيع والمزني، وقام على نشر فقه الشافعي في الآفاق تلميذه الأنماطي أبو العباس أحمد بن سريج،

(1)

الرسالة: ص 9.

ص: 142

ونشره آخرون في أصقاع الأرض، في الشام، وما وراء النهر، ومرو، وخراسان، وقد انقسم أتباع الشافعي إلى طريقتين في الفقه:

الأولى: طريقة أهل العراق، وعلى رأس أهل هذه الطريقة أبو حامد الإسفراييني، ومن أتباعها الماوردي، وأبو الطيب الطبري، والبندنيجي، والمحاملي.

والثانية؛ طريقة الخراسانيين، وعلى رأس أهل هذه الطريقة القفال الصغير المروزي، ومن أعلامها أبو محمد الجويني، والقاضي حسين وغيرهم.

ثم جاءَت طائفة من علماء الشافعية لم تتقيد بالنقل عن طريقة بعينها، بل أخذت تنقل عن هذه وهذه، بغض النظر عن كونها من العراق أو خراسان، أمثال الشاشي وإمام الحرمين والغزالي.

ومن المؤلفات المعتمدة في فقه الشافعية: مختصر المزني (175 - 164 هـ)، وقد نال هذا الكتاب حظوة عند علماء الشافعية، وكان موضع اهتمام طلبة العلم، وامتلأ البلاد بمختصره كما يقول الذهبي، وكانت العروس يوضع في جهازها مختصر المزني

(1)

.

وقد اختصره من سائر كتب الشافعي من القديم والجديد، وأدخل فيه اجتهاداته وأحكامه

(2)

.

وقد كثرت شروحه وتعددت، وقد ذكر هذه الشروح محقق كتاب الحاوي للماوردي

(3)

.

وبين يدي وقت كتابه هذه السطور أحد شروحه، وهو كتاب الحاوي للماوردي: أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي (364 - 450 هـ).

(1)

سير أعلام النبلاء: 12/ 493.

(2)

مقدمة الحاوي، د. محمود مطرجي: 1/ 67.

(3)

المصدر السابق.

ص: 143

وقد شرح به مذهب الشافعي، ذاكرًا فيه أقواله، مع بيان الجديد والقديم منهما، ثم يذكر أقوال الأئمة أبي حنيفة ومالك، وأحمد الموافقة والمخالفة للمذهب، وهو دائم الانتصار لمذهب الشافعي فيما خالفوه فيه.

ثم يتبع ذلك بذكر أقوال الأصحاب، وإن كان لهم وجهان ذكرهما، ويخطئ ما يراه خاطئًا، ويصوب ما يراه صوابًا، ومن الكتب الكبار في مذهب الشافعية (كتاب نهاية المطلب في دراية المذهب) لإمام الحرمين، قال فيه ابن خلكان:"ما صنف في الإسلام مثله".

ونهاية المطلب -كما يقول محقق كتاب الوسيط خلاصة للفقه الشافعي استخلصه إمام الحرمين من كتب الإمام الشافعي ككتاب "الأم" و"الرسالة" وغيرهما، ومن كتب أصحابه كمختصر المزني، والبويطي، وغيرهما، ومن كتب أصحاب الوجوه والترجيحات، بالإضافة إلى ما جاد به قريحة إمام الحرمين من استنباطات وترجيحات، وتفريعات، معتمدًا على كتاب الله وسنة رسوله، والأدلة المعتبرة. وما ذكره من آراء لأئمة المذاهب الآخرين، ومناقشاته القوية البليغة معهم"

(1)

.

وقد قام الغزالي تلميذ الجويني باختصار كتاب شيخه (نهاية المطلب في دراية المذهب) في كتابه (البسيط)، ومع ذلك فإنه جاء في ثمانية مجلدات مما دعاه إلى اختصاره في كتابه (الوسيط)، وفي ذلك يقول الغزالي: "فإني رأيت الهمم في طلب العلوم قاصرة، والآراء في تحصيلها فاترةً، وكان تصنيفي:(البسيط في المذهب) مع حسن ترتيبه وغزارة فوائده، ونقائه عن الحشو والتزويق، واشتماله على محض المهم، وعين التحقيق مستدعيًا همةً عاليةً، ونيةً مجردةً عما عدا العلم خالية، وهي عزيزة الوجودِ مع ما استولى على النفوس من الكسل والفتور، وصار (بحيث) لا يظفُر بها إلا على الندور، فعلمتُ أن النزول إلى حد الهمم حتمٌ، وأنَّ تقديرَ المطلوب على قدْرِ همةِ الطالبِ حزمٌ، فصنفتُ هذا الكتاب وسميته (الوسيط في المذهب) نازلاً

(1)

الوسيط للغزالي: 1/ 243.

ص: 144

عن (البسيط) الذي هو داعية الإملال، مترقيًا عن الإيجاز القاضي بالإخلال، يقع حجمُهُ من كتاب (البسيط) موقع الشطر، ولا يعوزهُ من مسائل (البسيط) أكثرُ من ثلثِ العُشر، ولكني صغرتُ حجم الكتاب بحذفِ الأقوال الضعيفة، والوجوه المزيفة السخيفة، والتفريعات الشاذة النادرة، وتكلفتُ فيه مزيدَ تأنُّق في تحسين الترتيب، وزيادة تحذُّق في التنقيح، والتهذيب"

(1)

.

وقد اختصر الغزالي كتابه الوسيط في كتابه الوجيز، وقد قام بشرح الوجيز عبد الكريم بن محمد الرافعي المتوفى سنة 623 هـ، في كتابه الموسوم بـ (فتح العزيز شرح الوجيز) وقد طبعت أجزاء منه على هامش كتاب المجموع.

وقد قام باختصار فتح العزيز النووي في كتابه: روضة الطالبين وعمدة المحققين بسبب طوله واتساعه، وللغزالي كتاب رابع في غاية الاختصار في الفقه الشافعي هو كتاب الخلاصة.

وفي الغزالي وكتبه الأربعة يقول أبو حفص دمر بن عبد العزيز بن يوسف الطرابلسي شعرًا

(2)

.

هذب المذهب حبر

أحسن الله خلاصه

ببسيط ووسيط

ووجيز وخلاصه

ومن الكتب التي كان للشافعية بها عناية كتاب: (المهذب) لأبي إسحاق الشيرازي، وقد شرحه النووي شرحا موسعا في كتابه (المجموع) لكنه توفي قبل إتمامه له.

والمهذب والوسيط كان عليهما مدار دروس المدرسين، وبحث المحصلين، المحققين، وحفظ الطلاب المعتنين فيما مضى وفي هذه الأعصار في جميع

(1)

تاريخ ابن خلكان: 3/ 354.

(2)

انظر مقدمة الوسيط: 1/ 205.

ص: 145

النواحي والأمصار كما يقول النووي

(1)

.

وقد حرر الرافعي والنووي مذهب الشافعية، وأهم كتب الرافعي (المحرر) وقد أخذه من كتاب (الوجيز) للغزالي.

وقد اختصر النووي كتاب (المحرر) للرافعي في كتاب (المنهاج) ودعاه إلى اختصاره طوله وكبر حجمه.

وجاء من بعد الرافعي والنووي جمع من علماء الشافعية ساروا مسارهم، واعتمدوا على مدوناتهم، وأصبحت مؤلفاتهم العمدة عند الشافعية.

فمحمد الشربيني الخطيب وضع شرحا ضافيا على متن المنهاج للنووي المختصر من محرر الرافعي سماه (مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج).

وشرحه أيضا الجمال الرملي في كتابه (نهاية المحتاج)، وابن حجر المكي في كتابه (تحفة المحتاج شرح المنهاج)، واختصر (منهاج) النووي زكريا الأنصاري في كتابه (المنهج).

وكتابا الرملي وابن حجر المكي اللذان شرحا منهاج النووي عمدة علماء الشافعية في تحقيق المذهب.

‌المطلب الثامن: مصطلحات فقهاء الشافعية

للشافعي رحمه الله مذهبان القديم والجديد، وقد يكون له في القديم أو الجديد أكثر من قول، ولأصحاب الشافعي وعلماء مذهبه اجتهادات كثيرة في مؤلفاتهم ومدوناتهم، ومن طالع كتب الشافعية فإنه يجب أن يتنبه إلى مدلول مصطلحاتهم، التي يستعملونها لتدل على قوة المذهب أو ضعفه.

فاجتهادات الشافعي يطلقون عليها الأقوال، أما اجتهادات أصحابه وعلماء

(1)

المجموع للنووي: 1/ 3.

ص: 146

مذهبه فيطلقون عليها الوجوه، والطرق؛ لاختلاف الأصحاب في حكاية المذهب.

وإذا كان للشافعي في المسألة قولان جديد وقديم، فمذهبه هو الجديد، وقد رجح أصحاب الشافعي مذهبه القديم؛ لاعتبارات في مسائل قليلة، حددها بعضهم بثلاث، وبلغ بها آخرون ثلاثين مسألة ونيف.

وليس معنى إفتاء الأصحاب في هذه المسائل بالمذهب القديم وترجيحهم لها، دليلاً على جواز نسبتها إلى الشافعي، بل هو محمول على أن اجتهادهم داخل المذهب أدى بهم إلى ترجيحها؛ لظهور أدلتها.

وإذا قالوا في مسألة الجديد كذا فإن القديم يكون بخلافه، وإذا قالوا القديم كذا، فإن الجديد بخلافه.

وإذا قالوا في مسألة: نصَّ الشافعي على كذا، فإنهم يعنون أن الشافعي صرح بالحكم في تلك المسألة تصريحا واضحا لا لبس فيه.

وإذا قالوا: الصحيح في المذهب كذا، فإن هذا يقضي بضعف القول الآخر في المسألة.

أمّا إذا كان في المسألة قولان أو وجهان صحيحان، وأحدهما أرجح من الآخر، فإنهم يقولون في الدلالة على الراجح: الأصح.

وإذا كان في المسألة قولان ظاهران، وأحدهما أكثر ظهورا من الآخر، فإنهم يقولون: الأظهر

(1)

.

وهناك اختلافات في بعض هذه المصطلحات بين علماء المذهب، بل قد تختلف في مدونتين مؤلفهما واحد، يقول النووي في مقدمة (روضة الطالبين) مبينا مراده من بعض المصطلحات: "وحيث أقول: على قول أو وجه،

(1)

راجع في هذه المسألة: المجموع للنووي: 1/ 65 - 69، وروضة الطالبين: 1/ 6، وانظر الدراسة القيمة التي قدم بها الدكتور علي قره داغي لكتاب الوسيط للغزالي: 1/ 244 - 239.

ص: 147

فالصحيح خلافه، وحيث أقول: على الصحيح أو الأصح، فهو من الوجهين، وحيث أقول: على الأظهر أو المشهور، فهو من القولين، وحيث أقول: على المذهب، فهو من الطريقين أو الطرق.

وإذا ضعف الخلاف قلت: على الصحيح أو المشهور، وإذا قوي قلت: على الأصح أو الأظهر"

(1)

.

وذكر النووي أن الشيرازي في كتابه المهذب إذا أطلق أبا العباس فهو أحمد ابن عمر بن سريج، وإذا أطلق أبا إسحاق فهو المروزي، ويريد بأبي السعيد عند إطلاقة الاصطخري، وإذا أطلق الربيع فيريد به الربيع بن سليمان المرادي صاحب الشافعي

(2)

.

(1)

روضة الطالبين للنووي: 1/ 6 وإذا شئت الاطلاع على مزيد من مصطلحات الشافعية فارجع إلى مقدمة النووي لمتن المنهاج بشرحه مغني المحتاج: 1/ 12.

(2)

راجع المجموع: 1/ 70.

ص: 148

‌المبحث الرابع الإمام أحمد بن حنبل

‌المطلب الأول: مكانته وفضله وعلمه

هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني، إمام أهل السنة، يقول فيه الشافعي:"خرجت من العراق، فما تركت رجلا أفضل، ولا أعلم، ولا أورع، ولا أتقى من أحمد بن حنبل"

(1)

.

وقال يحيى بن معين فيه: "كان في أحمد خصال ما رأيتها في عالم قط: كان محدثا، وكان حافظا، وكان عالمًا، وكان ورعًا، وكان زاهدا، وكان عاقلاً"

(2)

.

ولد الإمام أحمد في مدينة بغداد في ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائة، وتوفي والده وهو ابن ثلاث سنين، فكفلته أمّه، وتوفي الإمام أحمد يوم الجمعة، الثاني عشر من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، وله من العمر سبع وسبعون سنة

(3)

وقد كان في حداثته يأخذ العلم عن القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ثم ترك ذلك، وأقبل على سماع الحديث، وقد رحل في طلب العلم، وبلغ في ترحاله مكة والمدينة واليمن والكوفة والبصرة والشام

(4)

.

وأخذ العلم من يحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، والشافعي

(1)

الإكمال في أسماء الرجال - انظر مشكاة المصابيح: 3/ 797، والبداية والنهاية: 10/ 335.

(2)

البداية والنهاية: 10/ 336.

(3)

البداية والنهاية: 10/ 326.

(4)

المصدر السابق.

ص: 149

وغيرهم، وقد ذكر الإمام أحمد في المسند وغيره الرواية عن الشافعي، وأخذ عنه جملة من أنساب قريش، وأخذ عنه الفقه، وحين توفي أحمد وجدوا في تركته رسالتي الشافعي: القديمة والجديدة

(1)

.

وقد كان الشافعي يعظمه، ومما قاله له:"يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به أذهب إليه"، يقول ابن كثير بعد نقله لقول الشافعي هذا: "وقول الشافعي له هذه المقالة تعظيم لأحمد، وإجلال له، وأنه عنده بهذه المثابة إذا صح أو ضعف يرجع إليه

(2)

".

وقد تبحر أحمد في علم الحديث، وفاق أقرانه، وأودع الأحاديث التي رواها في كتابه "المسند"، وقد حوى أكثر من ثلاثين ألف حديث، وكان يقول:"جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف حديث"

(3)

، وقال ابنه عبد الله: سمعت أبا زرعة يقول: "كان أحمد ابن حنبل يحفظ ألف ألف حديث"

(4)

. وكان يحفظ علما واسعا، قيل لأبي زرعة: من رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ؟ فقال: أحمد بن حنبل، حُزِمَتْ كتبه في اليوم الذي مات فيه، فبلغت اثني عشر حملا، وكل ذلك كان يحفظه أحمد عن ظهر قلبه

(5)

.

وقال ابن الجوزي: "وقد كان أحمد يذكر الجرح والتعديل من حفظه إذا سئل عنه كما يقرأ الفاتحة"

(6)

.

(1)

البداية والنهاية: 10/ 326.

(2)

البداية والنهاية: 10/ 327.

(3)

راجع المدخل، لابن بدران:37.

(4)

المدخل، لابن بدران.

(5)

المصدر السابق.

(6)

المدخل، لابن بدران:37.

ص: 150

‌المطلب الثاني: الرد على من لم يعدّه من أهل الفقه

لم يعتبر ابن جرير الطبري في الخلافيات مذهب ابن حنبل، وكان يقول: إنما هو رجل حديث، لا رجل فقه، وامتحن لذلك، وقد أهْمَلَ مذهبه كثيرٌ ممن صنفوا في الخلافيات، كالطحاوي والدبوسي والنسفي في منظومته، والعلاء السمرقندي، والفراهي الحنفي، أحد علماء المائة السابعة، وكذلك أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي المالكي في كتابه (الدلائل)، والغزالي في (الوجيز)، وأبو البركات النسفي في (الوافي)، ولم يذكره ابن قتيبة في (المعارف)، وذكره المقدسي في (أحسن التقاسيم) في أصحاب الحديث فقط، مع ذكره داود الظاهري في الفقهاء.

وهذا الذي ذهبوا إليه باطل لأمور:

الأول: وصف الأئمة له بالفقه، وثناؤهم عليه في ذلك، قال الإمام الشافعي رحمه الله عند قدومه إلى مصر من العراق:"ما خلفت في العراق أحدا يشبه الإمام أحمد بن حنبل".

وقال أيضا: "أحمد إمام في ثماني خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة"

(1)

.

وقال أبو زرعة: "ما رأيت مثل أحمد بن حنبل في فنون العلم، وما قام أحد بمثل ما قام به أحمد"

(2)

.

وقال عبد الرزاق: "ما رأيت أفقه ولا أورع من أحمد بن حنبل"

(3)

.

(1)

المنهج الأحمد، لعبد الرحمن بن محمد العلي، وطبقات الحنابلة، للقاضي أبي يعلى الفراء: 1/ 5.

(2)

حلية الأولياء: 9/ 164.

(3)

أحسن المحاسن، لإبراهيم بن أحمد الرقي:221.

ص: 151

وقال أحمد بن سعيد الرازي: "ما رأيت أسود رأس أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أحمد"

(1)

.

وقال الخلال: "كتب أحمد فقه الرأي وحَفِظها، ثمَّ لم يلتفت إليها، وكان إذا تكلم في الفقه تكلم كلام رجل قد انتقد العلوم، فتكلم عن معرفة"

(2)

.

الثاني: وقد بينه الإِمام أبو الوفاء علي بن عقيل قال: "ومن عجيب ما نسمعه عن هؤلاء الجهال أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه، لكنه محدث، وهذا غاية الجهل؛ لأنّه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم، وخرج عنه دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم، وانفرد بما سلموه له من الحفظ، وشاركهم، وربما زاد على كبارهم".

ثمَّ ذكر مسائل دقيقه مما استنبطه الإمام، ثمَّ قال:"ومما وجدنا من فقه أحمد ودقة علمه أنه سئل عن رجل نذر أن يطوف بالبيت على أربع، قال: يطوف طوافين، ولا يطوف على أربع، كأنه نظر إلى المشي على أربع فرآه مثله، وخروجا عن صورة الحيوان إلى التشبه بالبهائم، فصانه وصان البيت عن الشهرة، ولم يبطل حكم القضية في المشي على اليدين، بل أبدلها بالرِّجلين اللتين هما آلة المشي"

(3)

.

(1)

المدخل، لابن بدران:37.

(2)

المدخل، لابن بدران:37.

(3)

المصدر السابق.

ص: 152

‌المطلب الثالث: محنة الإمام أحمد

أحدث المأمون في عصره القول بأن القرآن مخلوق، وليس كلام الله، وأكره الناس على قول ذلك، وفتن من لم يجبه إلى هذا القول، وثبت الإمام أحمد ثبوت الجبال الراسيات، وسجن وعذب وجلد، فلم يغير موقفه، وحفظ الله به الدين، وقد استمرت الفتنة مدة خلافة المأمون والمعتصم والواثق، فلما تولى المتوكل رفع الفتنة وأظهر السنة، وأكرم الإمام أحمد، وابتلي أحمد بالدنيا، فلم يتوجه إليها ولم تغره، وبقي على حاله لم يتغير.

‌المطلب الرابع: أصول مذهبه

بنى الإمام أحمد مذهبه على خمسة أصول:

‌الأصل الأوّل: الاعتماد على النصِّ عدم الالتفات إلى ما خالفه:

فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولا مَنْ خالفه كائناً من كان، ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس، ولا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث عمار بن ياسر، ولا إلى خلافه في استدامة المحرم الطيب الذي تطيّب به قبل إحرامه، لصحة حديث عائشة في ذلك، ولا خلافه في منع المفرد والقارن من الفَسْخ إلى التمتع، لصحة أحاديث الفسخ.

وكذلك لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأبيّ بن كعب في ترك الغسل من الإكسال

(1)

، لصحة حديث عائشة أنها فعلته هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلا، ولم يلتفت إلى قول ابن عباس، وإحدى الروايتين عن علي أن عدة المُتوفّى عنها الحامل أقصى الأجلين، لصحة حديث سُبيعة الأسْلمية، ولم

(1)

هذا المبحث مأخوذ من إعلام الموقعين: 1/ 29، 33، وانظر المدخل، لابن بدران: ص 41.

ص: 153

يلتفت إلى قول معُاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكافر، لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما، ولم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصّرف

(1)

، لصحة الحديث بخلافه، ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحُمر كذلك، وهذا كثير جداً.

ولم يكن يقدِّم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياساً ولا قول صاحب، ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعاً، ويقدمونه على الحديث الصحيح.

وقد كذّب أحمد من ادعى هذا الإجماع، ولم يُسِغْ تقديمه على الحديث الثابت، وكذلك الشافعي أيضاً نصّ في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه خلاف، لا يقال له إجماع، ولفظه:"ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعاً". وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعلّ الناس اختلفوا ما يدريه، ولم ينته إليه، فليقُل لا نعلم الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المرِّيسي والأصم، ولكنه يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك، هذا لفظه.

ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلُّ عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدِّموا عليها توهُّم إجماع، مضمونه عدم العلم بالمخالف، ولو ساغ لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفاً في حكم مسألة أن يقدِّم جهله بالمخالف على النصوص، فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده.

‌الأصل الثاني: ما أفتى به الصحابة:

فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدُها إلى غيرها، ولم يقل: إن ذلك إجماع، بل من ورَعه في العبارة يقول: لا أعلم

(1)

يعني ما كان يتكلم به في شأن تحريم ربا النسيئة، وإباحة ربا الفضل.

ص: 154

شيئا يدفعه، أو نحو هذا، كما قال في رواية أبي طالب: لا أعلم شيئاً يدفع قول ابن عباس وابن عمر وأحد عشر من التابعين: عطاء، ومجاهد، وأهل المدينة على تَسَرِّي العبد، وهكذا قال أنس بن مالك: لا أعلم أحداً رد شهادة العبد، حكاه عنه الإمام أحمد، وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع عن الصحابة لم يقدم عليه عملا ولا رأيا ولا قياسا.

‌الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة أخذ ما كان أقرب إلى الكتاب والسنة:

إذا اختلف الصحابة تخيَّر من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها، ولم يجزم بقول. قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في مسائله: قيل لأبي عبد الله: يكون الرجل في قومه، فيسأل عن الشيء فيه اختلاف؟

قال: يفتي بما وافق الكتاب والسنة، وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه. قيل له: أفيجاب عليه؟ قيل: لا.

‌الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف:

كان يأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالحديث الضعيف عنده الباطل ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم، بحيث لا يسوغ الذهاب إليه، والعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسِيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسِّم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثراً يدفعه، ولا قول صاحب، ولا إجماعاً على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس، وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل، من حيث الجملة، فإنه ما منهم أحد إلا وقد قَدَّم الحديث الضعيف على القياس.

ص: 155

‌الأصل الخامس: القياس:

إذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص، ولا قول صحابي، ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى الأصل الخاص، وهو القياس، فاستعمله للضرورة، وقد قال في كتاب الخلال: سألت الشافعي عن القياس، فقال: إنما يصار إليه عند الضرورة.

فهذه الأصول الخمسة هي أصول فتاويه، وعليها مدارها:

وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين، وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف، كما قال لبعض أصحابه: إيّاك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام، وكان يسَوِّغ استفتاء فقهاء الحديث وأصحاب مالك، ويدلُّ عليهم، ويمنع من استفتاء مَن يُعْرِضُ عن الحديث، ولا يَبْني مذهبه عليه، ولا يُسَوِّغ العمل بفتواه، قال ابن هانئ: سألت أبا عبد الله عن الذي جاء في الحديث: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار)

(1)

.

قال أبو عبد الله: يفتي بما لم يسمع. قال: وسألته عمن أفتي بفُتْيا يعني فيها، قال: فإثمها على من أفتاها.

قلت: على أي وجه يفتي حتى يعلم ما فيها؟ قال: يفتى بالبحث لا يدري أيشْ أصلها.

وقال أبو داود في مسائله: ما أحصِي ما سمعت أحمد: سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم، فيقول: لا أدري، قال: وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عُيْينة في الفتوى، أحسن فُتيْا منه كان أهونَ عليه أن يقول: لا أدري.

(1)

الدارمي عن عبد الله بن أبي جعفر مرسلا.

ص: 156

وهذا الذي اعتبره ابن القيم خمسة هو في الحقيقة أربعة، وهي: الكتاب، والسنة، وقول الصحابي، والقياس.

ثمَّ إن أصول الإمام أحمد لم تقتصر على أربعة، ولا على خمسة، كما هو مبين في أصول فقه الحنابلة

(1)

.

فأصول الاستنباط عند الإمام هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، وقول الصحابي، والقياس، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، وسدّ الذرائع.

‌المطلب الخامس: تدوين مذهب أحمد ودواوين مذهب الحنابلة

كان الإمام أحمد يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي، وما ذلك إلا ليتوفر الالتفات إلى النقل، ويزرع في القلوب التمسك بالأثر، وقد شغل وقته في جمع السنة والأثر وتفسير كتاب الله تعالى، ولم يؤلف كتابا في الفقه، وكان غاية ما كتبه فيه رسالة في الصلاة، كتبها إلى إِمام صلى وراءه، فأساء في صلاته، وهي رسالة قد طبعت ونشرت، وقد كتب أصحابه كلامه وفتاويه وانتشرت في الآفاق.

ثم جاء أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر الخلال، فصرف عنايته إلى جمع علوم أحمد بن حنبل، فطاف في البلاد للاجتماع بأصحاب أحمد، وكتب ما روي عنه بالإسناد، وصنف كتبا في ذلك، منها كتاب (الجامع)، ويقع في أكثر من عشرين مجلدا، وهذا الكتاب هو الأصل لمذهب أحمد، وقد روى بعض (مسائل الإمام أحمد) أبو داود سليمان بن الأشعث صاحب السنن، وطبعته مطبعة المنار بعناية الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.

وصنف أبو القاسم عمر بن أبي علي الحسين الخرقي المتوفى سنة 324 هـ كتابا مختصرا في فقه أحمد سمي بـ (مختصر الخرقي) وقد اشتهر هذا

(1)

راجع شرح الكوكب المنير، المسمى بمختصر التحرير، للفتوحي: 382 - 389، والمسودة في أصول الفقه، لآل تيمية: ص 450 - 455، والفكر السامي: 3/ 19.

ص: 157

الكتاب، وشرحه كثير من فقهاء المذهب، وقد زادت شروحه على ثلاثمائة شرح.

وأفضل هذه الشروح وأشهرها شرحان:

الأول: المغني للشيخ موفق الدين ابن قدامة المقدسي.

الثاني: شرح القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء.

والمغني أكبر حجما من شرح أبي يعلى، ولم يقتصر ابن قدامة في المغني على المسائل التي يوردها الخرقي، بل يذكر المسألة التي ذكرها الخرقي، ويبين غالبا روايات إمام المذهب، بل يذكر أقوال أئمة المذاهب، ويذكر أدلتهم، ويبين الصحيح من الضعيف، كما يذكر أقوال الصحابة والتابعين، وهو مع ذلك يشرح أقوال الخرقي، ويدل على معانيها ومراميها.

والقاضي أبو يعلى متفق في منهجه مع ابن قدامة في ذكره للأدلة من الكتاب والسنة للمسائل التي يعرض لها، ولكنه يقتصر في شرحه على المسائل التي ذكرها الخرقي ولا يزيد عليها.

وشرح القاضي أبي يعلى في مجلدين كبيرين، وطريقته في أنه يذكر المسألة من الخرقي ثم يذكر من خالف فيها، ثم يقول فيها كذا، ويفيض في إقامة الدليل من الكتاب والسنة والقياس على طريقة الجدل، ولكنه لا يذكر في شرحه من مسائل الفقه إلا المسائل التي ذكرها الخرقي.

والشيخ الموفق رحمه الله شيخ المذهب بحق، وقد عرف فقهاء الحنابلة وغيرهم قدره، فمؤلفاته أصبحت العمدة في فقه المذهب الحنبلي، وكما كان رجل علم، فإنه رجل تربية، وقد ألف عدة مؤلفات راعى فيها المستوى العلمي لطلبة العلم.

ألَّف الشيخ الموفق ثلاثة كتب غير المغني هي: (العمدة، والمقنع، والكافي).

راعى الموفق في مؤلفاته أربع طبقات: فصنف (العمدة) للمبتدئين، وقد

ص: 158

اقتصر فيه على المعتمد في المذهب، شرحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

ثمَّ ألَّف الموفق (المقنع) لمن ارتقى عن درجتهم، ولم يصل إلى درجة المتوسطين، فلذلك جعله عَريًّا عن الدليل والتعليل، وجعله وسطا بين التقصير والتطويل، غير أنه يذكر الروايات عن الإِمام أحمد، ليجعل لقارئه مجالا إلى كدِّ ذهنه؛ ليتمرن على التصحيح.

وصنف الشيخ الموفق الكافي للمتوسطين، وذكر فيه كثيراً من الأدلة لتسمو نفس قارئه إلى درجة الاجتهاد في المذاهب حينما يرى الأدلة، وترتفع نفسه إلى مناقشتها، ولم يجعلها قضية مسلمة، ثم ألف المغني لمن ارتقى درجة عن المتوسطين، وهناك يطلع قارئه على الروايات، وعلى خلاف الأئمة، وعلى كثير من أدلتهم، وعلى ما لهم وما عليهم من الأخذ والرد، فمن كان فقيه النفس حينئذ مرن نفسه على الاجتهاد المطلق، إن كان أهلا لذلك وتوفرت فيه شروطه

(1)

.

شروح المقنع: بعد تأليف الموفق للمقنع أصبح مدار اهتمام علماء المذهب وطلابه، فقد تناولوه بالشرح والتدريس، والحفظ والإضافة والتعليق، والسبب في هذا الاهتمام الكبير أن الكتاب حاز المواصفات المثلى في نظر أهل العلم من الحنابلة علما وتصنيفا وترتيبا، استمع إلى ما قاله أحد فقهاء الحنابلة المحققين المدققين وهو علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي المتوفى سنة 885 هـ: "إن المقنع في الفقه تأليف شيخ الإسلام موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي -قدس الله روحه ونور ضريحه- من أعظم الكتب نفعا، وأكثرها جمعا، وأوضحها إشارة، وأسلسها عبارة، وأوسطها حجما، وأغزرها علما، وأحسنها تفصيلا وتفريعاً، وأجمعها تقسيما وتنويعا، وأكملها ترتيبا، وألطفها تبويبا، وقد حوى غالب أمهات مسائل المذهب، فمن حصلها فقد ظفر بالكنز والمطلب، فهو كما قال مصنفه

(1)

المدخل، لابن بدران:221.

ص: 159

فيه: "جامع لأكثر الأحكام" ولقد صدق وبرّ ونصح"

(1)

.

وهذه الشهادة شهادة قيمة، لأنها من عالم خبر هذا الكتاب، وعرف أسراره، ووقف على دقائقه، فإن كتابه الإنصاف وضعه كالشرح للمقنع.

وأوّل من وضع شرحا على (المقنع) ابن أخي الشيخ الموفق الشيخ عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي المتوفى سنة 682 هـ وهذا الشرح كأنما هو من وضع الشيخ الموفق، فإن الشيخ عبد الرحمن قصد إلى كتاب عمه (المغني)، فأعاد ترتيبه على وفق ترتيب (المغني) وبذلك يكون الشرح الكبير للمقنع هو (المغني) بعد إعادة ترتيبه وفق ترتيب (المقنع)، فكأنما المتن والشرح هما من وضع عالم واحد هو الشيخ الموفق.

وقد صرح الشيخ عبد الرحمن في مقدمة الشرح الكبير

(2)

أنه لم يترك من المغني إلا شيئا يسيرا من الأدلة، واستكمل فيه من غيره ما لم يجده فيه من الفروع والوجوه والروايات، ولم يزد عليه في الاستدلال إلا في عزوه الأحاديث التي لم يعزها الشيخ الموفق، يقول الشيخ عبد الرحمن في مقدمة الشرح الكبير:"هذا كتاب جمعته في شرح (كتاب المقنع) تأليف شيخنا الإمام العالم العلامة موفق الدين أبي عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه، اعتمدت في جمعه على كتابه المغني، وذكرت فيه من غيره ما لم أجده فيه من الفروع والوجوه والروايات، ولم أترك من المغني إلا شيئا يسيرا من الأدلة، وعزوت من الأحاديث ما لم يعز ما أمكنني عزوه"

(3)

. وقد طبع الشرح الكبير مع كتاب المغني في كتاب واحد.

(1)

الإنصاف، للمرداوي: 1/ 3.

(2)

اشتهر هذا الكتاب باسم الشرح الكبير، ويذكر الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع في ترجمته لشيخ الموفق أن الشيخ عبد الرحمن سمى هذا الشرح بـ (تسهيل المطلب في شرح المذهب) كما ذكر ذلك تلميذه المرفق ابن عبد القوي في قصيدته الدالية التي نظم بها (المقنع) انظر المبدع: 1/ 10، وذكر ابن بدران أن اسم هذا الشرح هو (الشافعي) المدخل: ص 221.

(3)

المبدع شرح المقنع، (المقدمة): 1/ 4.

ص: 160

ومع كل هذه المميزات التي تجعل الشرح الكبير أفضل من المغني وأجود، إلا أن الشهرة والانتشار والذكر بقيت للمغني، ولله في خلقه شؤون.

ومن شروح (المقنع) المبدعة كتاب (المبدع في شرح المقنع) لبرهان الدين أبي إسحاق: إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح الدمشقي المتوفى سنة 884 هـ.

"وقد سلك المؤلف بهذا الشرح مسلك التحرر، وذكر الأدلة من الكتاب والسنة، مع تخريج موجز للأحاديث، ونقل أقوال العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، والمفتى به من المذهب، ومختلف روايات مسائل الإمام أحمد، وأقوال علماء المذهب الحنبلي"

(1)

.

وقال صاحب المبدع بعد ثنائه على (المقنع): "فتصديت لأن أشرحه شرحا يبين حقائقه، ويوضح دقائقه، ويذلل من اللفظ صعابه، ويكشف عن وجه المعاني نقابه، أنبه فيه على ترجيح ما أطلق، وتصحيح ما أغلق، واجتهدت في الاختصار خوف الملل والإضجار"

(2)

.

وعلى الرغم من الاختصار الذي أشار إليه المؤلف إلا أن الطبعة المحققة الفاخرة التي نشرها المكتب الإسلامي لهذا الكتاب بلغت عشرة مجلدات كبار.

ولم يتعرض أبن مفلح في شرحه لمذاهب المخالفين إلا نادرا، فهو أنفع الشروح للمتوسطين، كما يقول ابن بدران

(3)

.

ويذكر أبن بدران أن من شروح (المقنع)، (الممتع شرح المقنع) لسيف الدين أبي البركات أبن المنجا. قال في خطبته:"أحببت أن أشرح (المقنع) وأبين مراده، وأوضحه، وأذكر دليل كل حكم وأصححه".

(1)

المبدع شرح المقنع، (المقلمة): 1/ 4.

(2)

المبدع: 1/ 18.

(3)

المدخل، لابن بدران: ص 222.

ص: 161

وقد طبع (المقنع) أكثر من طبعة منها طبعة السلفية -بعناية محب الدين الخطيب، وعليه حاشية منقولة من خط العلامة سليمان ابن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويبدو أن هذه الحاشية للشيخ سليمان نفسه.

ومن المؤلفات الموضوعة على (المقنع) كتاب: (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب أحمد) للعلامة المحقق مجدد المذهب الحنبلي علاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي المتوفى سنة 885 هـ.

وصرح في مقدمة مصنفه بعد ثنائه على كتاب (المقنع) أن مقصده من وراء تأليف (الإنصاف) هو "بيان الصحيح من المذهب والمشهور والمعمول عليه والمنصور، وما اعتمده أكثر الأصحاب، وذهبوا إليه، ولم يعرجوا على غيره، ولم يعولوا عليه"

(1)

.

والسبب الذي دعاه لذلك هو إطلاق الموفق في بعض المسائل التي عرضها في (المقنع) الخلاف من غير ترجيح

(2)

.

يقول ابن بدران: "وطريقة المرداوي في (الإنصاف) أنه يذكر في المسألة أقوال الأصحاب، ثمَّ يجعل المختار ما قاله الأكثر منهم، سالكا في ذلك مسلك ابن قاضي عجلون في تصحيحه لمنهاج النووي وغيره من كتب التصحيح، فصار كتابه مغنيا للمقلد عن سائر كتب المذهب.

ثم اقتضب منه كتابه المسمى (التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع)، (مطبوع)، فصحح فيه الروايات المطلقة في (المقنع)، وما أطلق فيه من الوجهين أو الأوجه، وقيد ما أخل به من الشروط، وفسر ما أبهم فيه من حكم أو لفظ، واستثنى من عمومه ما هو مستثنى على المذهب. . . فصار كتابه تصحيحا لغالب كتب المذهب"

(3)

.

(1)

الإنصاف: 1/ 3.

(2)

الإنصاف: 1/ 3.

(3)

المدخل، لابن بدران: ص 222.

ص: 162

ومما يحسن أن ينبه طلبة العلم عليه أن المرداوي في مقدمة كتابه (الإنصاف) وخاتمته ذكر المصطلحات الواردة في كتاب (المقنع) وكتاب (الإنصاف) وطريقة تحقيق المذهب، وهو بذلك يضع خلاصة جيدة لمصطلحات الفقه الحنبلي، التي تبصر طالب العلم، وتعرفه بالمذهب ومصطلحاته، وطرق التعرف على المذهب عند الحنابلة.

ومن الكتب التي خدمت المقنع كتاب (المطلع على أبواب المقنع) لأبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي المتوفى سنة 709 هـ، قصد مؤلفه من تأليفه كما يقول في مقدمة مؤلفه: شرح ألفاظ المقنع المشكلة

(1)

.

فهذا الكتاب ليس شرحا للمقنع، بل هو شرح للغاته، مثله في ذلك مثل كتاب "المغرب" للحنفية، وكتاب "المصباح المنير" للشافعية.

ومما ينبغي التنبيه إليه أن البعلي ترجم للأعلام الذين ورد ذكرهم في كتاب (المقنع)، وهذه خدمة ثانية للمقنع تضاف إلى شرحه غريب المقنع.

والحقيقة أن هذا الكتاب يعتبر شرحا لغريب فقه الحنابلة، إلا أن المؤلف تتبع غريب المقنع بحسب ورودها في الكتاب، وهذا مفيد لمن يطالع الكتاب، فيرجع إلى الغريب الذي يشكل عليه في (المطلع). أما الذي يريد أن يبحث عن لفظة أشكلت عليه لا يعرف موضعها من الكتاب؛ فإن الاستفادة من الكتاب لهذا الصنف من الناس قليلة، والأفضل من ذلك أن يرتب الغريب على الطريقة المعجمية، وقد جمع المكتب الإسلامي بين الحسنيين، فطبع الكتاب كما صنفه مؤلفه من غير تغيير، ثم جعل له معجما مرتبا على الحروف، يشير إلى موضع كل لفظة وردت في الكتاب بالأرقام.

وممن شرح (المقنع) الشيخ سعد الدين مسعود الحارثي المتوفى سنة 711 هـ، والشيخ أبو المحاسن يوسف بن محمد المقدسي المتوفى سنة 719 هـ،

(1)

المطلع: 1/ 1.

ص: 163

وسمى شرحه (كفاية المستقنع لأدلة المقنع)

(1)

.

ووضع العلامة شرف الدين موسى بن أحمد الحجاوي مفتي الحنابلة في عصره في بلاد الشام المتوفى سنة 960 هـ، كتاب (المحرر على المقنع)

(2)

.

وشرحه أيضا عبد الرحمن بن إبراهيم السعدي المتوفى سنة 624 هـ شرحا محققا في ثلاثة مجلدات كبار، كما ذكره ابن رجب في مختصر طبقات الحنابلة

(3)

.

ومن الكتب المفيدة الجامعة في مذهب الحنابلة كتاب (المستوعب) لمجتهد المذهب محمد بن عبد الله بن الحسن السامري المتوفى سنة 616 هـ، جمع فيه كثيرا من كتب الحنابلة المشهورة التي تمثل المذهب، ولذا فإن من حصل هذا الكتاب أغناه عن جميع الكتب المذكورة فيه كما يقول مؤلفه

(4)

.

ومنها كتاب (الهداية) لأبي الخطاب الكلوذاني، وهو في مجلد ضخم حذا فيه حذو المجتهدين في المذهب المصححين لروايات الإمام، وقد وضع عليه مجد الدين ابن تيمية شرحا سماه (منتهى الغاية في شرح الهداية)، ولكنه لم يتم تبييضه

(5)

.

وألف مجد الدين أبن تيمية المتوفى سنة 763 هـ كتاب (المحرر في الفقه) على مذهب الإمام أحمد بن حنبل قال في مقدمته: "هذا كتاب في الفقه على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد الشيباني هذبته مختصرا، ورتبته محرراً، لأكثر مسائل الأصول، خاليا من العلل والدلائل،

(1)

مقدمة المقنع، لمحب الدين الخطيب: 1/ 3.

(2)

مقدمة المبدع: 1/ 3.

(3)

المبدع: 1/ 10.

(4)

المدخل، لابن بدران:218.

(5)

المصدر السابق: ص 219.

ص: 164

واجتهدت في إيجاز لفظه، تيسيرا على طلاب حفظه"

(1)

.

وقد وضع عليه ابن مفلح حاشية أسماها بـ (النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر) للشيخ مجد الدين ابن تيمية.

وقد شرح (المحرر) عبد المؤمن بن عبد الحق بن عبد الله القطيعي الملقب بصفي الدين المتوفى سنة 739 هـ، شرحا سماه:(تحرير المقرر في شرح المحرر)

(2)

.

ومنها كتاب (الفروع) لأبي عبد الله محمد بن مفلح المتوفى سنة 763 هـ، وقد أثنى أهل العلم على هذا الكتاب ومدحوه، وهو لا يقتصر فيه على مذهب أحمد، بل يذكر المجمع عليه، والمتفق مع الإمام أحمد في المسألة، والمخالف له فيها من الأئمة الثلاثة وغيرهم.

وقد قال ابن مفلح في مقدمة كتابه: "هذا كتاب في الفقه على مذهب أحمد بت محمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه، اجتهدت في اختصاره وتحريره، ليكون نافعاً للطالب، وجردته عن دليله وتعليله غالباً، ليسهل حفظه وفهمه على الراغب"

(3)

وشرحه ابن العماد الحموي شرحا سماه: (المقصد المنجح لفروع ابن مفلح)، وشرحه محب الدين أحمد بن نصر بن أحمد بن محمد البغدادي الأصل، ثم المصري، وشرحه عليه أشبه بالحواشي منه بالشروح

(4)

.

والنسخة المطبوعة من الفروع جعل معها في الحاشية كتاب: تصحيح الفروع للمرداوي.

ومنها كتاب (منتهى الإرادات في الجمع بين المقنع مع التنقيح وزيادات) لابن

(1)

المحرر في الفقه، للمجد ابن تيمية: ص 16.

(2)

المدخل، لابن بدران: ص 220.

(3)

الفروع، لمحمد بن مفلح: 1/ 64.

(4)

المدخل، لابن بدران: ص 224.

ص: 165

النجار الشهير بالفتوحي المتوفى سنة 972 هـ، وقد أصبح عمدة المذهب زمنا، وعكف عليه طلاب العلم وهجروا ما عداه، وكان غالب استمداده من كتاب الفروع لابن مفلح.

وقد شرحه الشيخ منصور البهوتي شيخ الحنابلة في عصره المتوفى سنة 1051 هـ، وشرحه موجود مطبوع

(1)

.

ومنها (الاقتناع لطالب الانتفاع) لموسى بن أحمد الحجاوي المتوفى سنة 968 هـ، وقد شرح كتابه هذا الشيخ منصور البهوتي في أربعة مجلدات.

ومنها (دليل الطالب) لمرعي بن يوسف الكرمي المتوفى سنة 1033 هـ، وهو متن مختصر مشهور، يكاد يكون مختصرا لكتاب (منتهي الإرادات في الجمع بين المقنع والتنقيح وزيادات) للفتوحي، وشرحه الشيخ أحمد بن عوض ابن محمد المرداوي في مجلدين، وعليه عدة شروح وحواش، انظرها في مقدمة شرح دليل الطالب المسمى (نيل المآرب) لعبد القادر بن عمر الشيباني (ص 14) بتحقيق أخي الشيخ الدكتور محمد سليمان الأشقر.

ومن الكتب الجليلة في المذهب (غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى) للشيخ مرعي بن يوسف الكرمي، سلك فيه مسالك المجتهدين وقام بشرحه ووضع الحواشي عليه بعض علماء الحنابلة.

ومن المؤلفات التي تذكر في هذا الباب (عمدة الراغب) لمنصور البهوتي، و (مختصر الشرح الكبير)، و (الإنصاف) للشيخ محمد بن عبد الوهاب.

والمتون المشتهرة التي هي العمدة في المذهب الحنبلي ثلاثة كما يقول ابن بدران، أقدمها مختصر الخرقي، وقد بقي هو الكتاب الأول عند الحنابلة، تناولوه بالدراسة والشرح والحفظ حتى ألف الموفق (المقنع)، فطارت شهرته في الآفاق، وبقي كذلك حتى ألف المرداوي (التنقيح المشبع)، ثم جاء بعده ابن النجار الشهير بالفتوحي، فجمع بين المقنع والتنقيح في كتابه (منتهى

(1)

المدخل: ص 225.

ص: 166

الإرادات في الجمع بين المقنع والتنقيح وزيادات)، فعكف الناس عليه، وهجروا ما سواه من كتب الأقدمين كسلا منهم، ونسيانا لمقاصد علماء هذا المذهب

(1)

.

وتبقى مؤلفات ابن قدامة وخاصة (المغني)، والشروح التي وضعت على (المقنع) وخاصة (المبدع)، وشرح القاضي أبي يعلى لمختصر الخرقي، وأمثال هذه المؤلفات التي تعنى بالدليل، ويحاول أصحابها جاهدين أن يتوصلوا إلى مراد الله في الأحكام هي المقصد الأسمى، الذي ينبغي أن يتجه طلبة العلم إلى نيله وتحصيله، والله المستعان.

ولا يفوتني في هذه العجالة أن أنوه إلى الفقه العظيم الذي ورثه لنا ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، فإنهما ينسبان إلى الحنابلة، مع أن فقههما قد خرج إلى المجال الرحب، فقه أئمة الإسلام، ولم يتقيدا بفقه مذهب واحد، إلا أن هذا لا يخرجهما عن إطار الفقه الحنبلي، فالحنابلة الذين نصروا الفقه القائم على الدين رحابهم واسعة، وآفاق فقههم لا تحد إلا بحدود الأدلة من الكتاب والسنة، وقد مثل هذا الفقه بهذه الرحابة والاتساع عدد كبير من فقهاء المذاهب، وكان لفقهاء الحنابلة من هؤلاء نصيب كبير، وقد مثل شيخ الإسلام وتلامذته وخاصة ابن القيم هذا الصنف من العلماء الأفذاد أحسن تمثيل.

‌المطلب السادس: مصطلحات الفقه الحنبلي

إذا أطق الحنابلة لفظ (القاضي) أرادوا به علامة زمانه: محمد بن الحسين ابن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء الملقب بأبي يعلى. والمتأخرون كصاحب الإقناع والمنتهى ومن بعدهما يطلقون لفظ (القاضي) على علاء الدين علي بن سليمان المرداوي صاحب الإنصاف.

(1)

راجع المدخل، لابن بدران: ص 221.

ص: 167

ويلقبون المرداوي بـ (المنقح) لأنه نقح (المقنع) في كتابه (التنقيح المشبع).

وإذا أطلق المتأخرون (الشيخ) أرادوا به الشيخ موفق الدين ابن قدامة، وبعضهم يطلقه مريدا به شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد يطلقون عليه اسم (الإمام).

وإذا قالوا: (الشيخان) أرادوا بهما الموفق ومجد الدين عبد السلام ابن تيمية.

ويطلقون (الشارح) ويريدون به عبد الرحمن ابن أبي عمر ابن أخي الموفق شارح (المقنع).

وإذا شئت أن تطلع على مصطلحات الفقه الحنبلي في الأعلام والمدونات وطرق الدلالة على المذهب فعليك بالكتاب المَيم الجامع في هذا الموضوع الذي دونه الدكتور سالم علي النقي بعنوان (مصطلحات الفقه الحنبلي). ولابن بدران إلمامة بهذا الموضوع في كتابه (المدخل إلى مذهب أحمد)

(1)

.

‌المطلب السابع: انتشار مذهب أحمد

لم يقدر لمذهب أحمد أن ينتشر كما انتشرت المذاهب الأخرى، ولم يخرج من حدود بلاد شيخه "العراق" إلا بعد القرن الرابع، وممن تحدث عن قلة أتباع المذهب في عصورهم الغزالي وابن خلدون، قال الغزالي:"وأمّا أحمد ابن حنبل فأتباعه أقلّ من أتباع هؤلاء، يعني مالكا والشافعي وأبا حنيفة"

(2)

.

ويقول ابن خلدون: "فأمّا مقلدة أحمد بن حنبل فمقلده قليل، وأكثرهم بالشام والعراق من بغداد، ونواحيها، وهم أكثر الناس حفظا للسنة ورواية الحديث"

(3)

.

(1)

ص: 302 - 213.

(2)

إحياء علوم الدين: 1/ 28.

(3)

المقدمة: 448.

ص: 168

وفي هذا العصر كاد أن ينقرض أتباعه في البلاد السورية، يقول ابن بدران الدمشقي المتوفى سنة 1346 هـ:"ولا أرى أحدا يسألني عن مسألة في مذهب الإمام أحمد، لانقراض أهله في بلادنا، وتقلص ظله فيها"

(1)

.

أقول: وفي بلادنا فلسطين بقية من الحنابلة في مدينة نابلس وما جاورها، وقد انتشر المذهب في بلاد نجد بعد أن قام الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في تلك الديار، وأحيا عقيدة السلف الصالح، التي كان الإمام أحمد عليها، وتابع أهلُ نجد مذهب أحمد، ونشر علماء نجد كتبه، ومدت الدولة يدها بسخاء لإحياء كتب الحنابلة، وخاصة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.

وأشهر تلامذته الذين نشروا مذهب الإمام أحمد ابناه: صالح وعبد الله، وأحمد بن محمد بن هانئ، وأبو بكر الأثرم، وعبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني، صحب أحمد أكثر من عشرين سنة، وأحمد بن محمد أبو بكر المروزي، وإبراهيم بن إسحاق الحربي.

‌المطلب الثامن: السبب في قلة أتباع مذهب أحمد

أغلب العلماء الذين اتبعوا أحمد ساروا سيرته في البعد عن الدنيا، ومجافاة السلاطين، وأخذ أنفسهم بالتعبد، والإقلال من التدريس، فقلل هذا من انتشار المذهب، لعدم وصول أتباعه إلى المناصب، والمراكز العلمية التي تجعل الناس يقبلون على المذهب، يقول أبو الوفاء علي بن عقيل أحد فقهاء المذهب الحنبلي: "هذا المذهب: يعني مذهب أحمد، إنما ظلمه أصحابه؛ لأنَّ أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع أحد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات، فكانت الولاية سبباً لتدريسه واشتغاله بالعلم، فأما أصحاب أحمد فإنّه قل فيهم من يعلم بطرف من العلم إلا ويخرجه ذلك إلى التعبد

(1)

المدخل إلى مذهب أحمد: 213.

ص: 169

والتزهد لغلبة الخير على القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم"

(1)

.

ويقول ابن بدران متأسفا على قلة أتباع المذهب، معللا لذلك:"وأصاب هذا المذهب ما أصاب غيره من تشتت كتبه، حتى آلت إلى الاندراس، وأكب الناس على الدنيا، فنظروا إليه فإذا هو منهل سنة وفقه صحيح، لا مورد مال، فهجره كثير ممن كان متبعا له، رجاء طلب قضاء أو وظيفة، فمن ثمَّ تقلص ظله عن البلاد السورية وخصوصا في دمشق"

(2)

.

(1)

المدخل، لابن بدران:40.

(2)

المصدر السابق: 5.

ص: 170

‌الباب الثالث

تقليد الأئمة

تمهيد: موقف المسلم من الأئمة

* الفصل الأول: الموجبون للتقليد.

* الفصل الثاني: المحرمون للتقليد.

* الفصل الثالث: القول المختار.

ص: 171

‌تمهيد

‌موقف المسلم من الأئمة:

الأئمة أصحاب المذاهب الفقهية من خيرة علماء الأمّة، وقد بذلوا قصارى جهدهم في دراسة النصوص من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة وعلماء التابعين وأتباع التابعين، وقد بذلوا قصارى جهدهم في تفقيه المسلمين، وحملهم على اتباع الحق، وتخرَّج بهم جمع كبير من أصحابهم وتلاميذهم، وبقيت مناهجهم في فقه النصوص، وفهمهم لها منارا يستفيد منها طلاب الحق وطلبة العلم، ولا زالت كتبهم التي دونت، أو التي دونها تلامذتهم، ثروة نستفيد منها.

ولكن تبقى مذاهبهم فقها للكتاب والسنة، تُضَمُّ إلى فقه الصحابة وعلماء التابعين وأتباع التابعين من قبلهم

(1)

، ويبقى الكتاب والسنة، قبل ذلك وبعده، نهرا فياضا لا يمكن أن تحده فهوم الفقهاء، ويجب أن تبقى صلة المسلمين، وخاصة العلماء منهم، بالنهر الفياض والنبع الصافي، أقصد بذلك الكتاب والسنة، إلا أنه انتشر بعد الأئمة فهم خاطئ يقول بوجوب تقليد إمام من أئمة المذاهب، وأغرق هذا الاتجاه فيما ذهب إليه عندما حرّم أصحابه أتباع غير الأئمة الأربعة، حتى لو كان المقلد صحابيا أو تابعيا. . .

وسأحاول أن أبين هذه القضية، ومقدما لها بمقدمة أعرف فيها التقليد، ثم أبين حكمه، ثمَّ أعرض وجهة نظر الموجبين له، خاصة أولئك الذين يوجبون تقليد واحد من الأئمة الأربعة، وأبين مجانبة هذا القول للصواب، ثم أبين وجه نظر المحرمين للتقليد، وأخيراً أبين القول المختار في المسألة.

(1)

يقول الشيخ شلتوت في كتابه الإسلام عقيدة وشريعة: ص 8: "اتصلت بالقرآن أفهام العلماء والأئمة فيما لم يكن عن آياته نصا في معنى واحد، ومن هذا الجانب اتسع ميدان الفكر الإنساني، وكثرت الآراء والمذاهب في النظريات والعمليات، لا على أنها دين يلتزم، وإنما هي آراء وأفهام فيما هو من القرآن محتمل للآراء والأفهام".

ص: 173

‌تعريف التقليد:

وتعريفات العلماء للتقليد متقاربة، فقد عرفه بعضهم بأنه أخذ للقول من غير معرفة بدليله، وقال آخرون: التقليد في الشرع الرجوع إلى قول لا حجّة لقائله عليه، فالمقلد يعتبر قول إمامه حجّة مطلقة، سواء أكانت أقواله صوابا موافقة للسنة، أو خطأ قد جاءت الآيات والأحاديث بضدها

(1)

.

والدعوة إلى التقليد دعوة خطيرة؛ لأنها دعوة إلى الجمود الذي يؤدي إلى جعل الناس صما وبكما وعميا لا يفقهون، ودعاة التقليد يريدون أن يحجروا على القرائح أن تجول في مواطن الاستدلال والتنقيب عن الدليل، كما أن هذا المسلك يعطل المواهب البشرية التي منحها الله للإنسان للنظر والاعتبار والتفكير، وغاية هذه الدعوة حصر الشريعة في المذهب الذي يتمذهب به المقلد.

(1)

إعلام الموقعين: 2/ 179، جامع بيان العلم: 2/ 143، وانظر المستصفى للغزالي 2/ 387.

ص: 174

‌الفصل الأول الموجبون للتقليد

‌المبحث الأول: القائلون بهذا القول

أوجب طائفة كبيرة من الفقهاء -الذين جاؤوا بعد عصر الأئمة المجتهدين- التقليد، وقصروا الأخذ بالكتاب والسنة على من بلغ رتبة الاجتهاد، وقد سمّى الغزالي رحمه الله الموجبين للتقليد بالحشوية والتعليمية

(1)

، ولكن هذا الرأي هو الذي عليه أكثر الفقهاء في عصر التقليد.

يقول صاحب مراقي السعود:

من لم يكن مجتهدا فالعمل

منه بمعنى النص مما يحظل

وقد شرح الناظم بيته هذا في كتابه "نشر البنود" فقال:

"يعني أن غير المجتهد يحظل له، أي يمنع أن يعمل بمعنى نص من كتاب أو سنة، وإن صح سندها؛ لاحتمال عوارضه من نسخ وتقييد وتخصيص، وغير ذلك من العوارض التي لا يضبطها إلا المجتهد، فلا يخلصه من الله إلا تقليد مجتهد، قاله القرافي"

(2)

.

وأغرق فريق وأوغل في دعوى إيجاب التقليد عندما أوجبوا تقليد واحد من الأئمة الأربعة دون غيرهم، وحرَّموا تقليد الصحابة وعلماء التابعين ومن بعدهم من الأئمة سوى الأربعة، جاء في جوهرة "التوحيد":"وواجب تقليد حبر منهم"، أي من الأئمة الأربعة، وقال الباجوري في حواشه على (الجوهرة) عند هذه العبارة: "ولا يجوز تقليد غيرهم، ولو كانوا من الصحابة؛ لأن مذاهبهم

(1)

المستصفى: 2/ 387.

(2)

أضواء البيان: 7/ 423.

ص: 175

لم تدون، ولم تضبط، ولكن جوز بعضهم ذلك في غير الإفتاء كما قال:

وجائز تقليد غير الأربعة

في غير الإفتاء وفي هذا سعة

ومن الذين منعوا تقليد غير الأربعة ابن الصلاح"

(1)

.

ومن الذين ذهبوا إلى عدم جواز تقليد الصحابة الأسنوي، وقد تابع في ذلك ابن برهان في كتابه (الأوسط)، وعلل ذلك بعدم تدوين مذاهبهم وعدم ضبطها، فلا يتمكن المقلد من الاكتفاء بها، ويؤديه ذلك إلى الانتقال، ويذكر عن إمام الحرمين في (البرهان) أنه قال: أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذهب أعيان الصحابة رضي الله عنهم، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا فنظروا، وبوبوا الأبواب، وذكروا أوضاع المسائل وجمعوها، وهذبوها، وبينوها

(2)

.

وبعض الذين يوجبون تقليد واحد من الأربعة يروق أن أقوال الأئمة، رضوان الله عليهم، مقدمة على نصوص الكتاب والسنة الواضحة الصريحة، ويحرمون على المقلد أن يأخذ من المذاهب الأخرى، ويتعللون لذلك بعلل سقيمة، كقولهم: علماؤنا السابقون أعلم منا بالنصوص، وربما اطلعوا على شيء لم نطلع عليه، وربما كان هذا منسوخا، أو لا يراد ظاهره.

وقد اشتط بعض المقلدين، حتى إن بعض الحنفية -غفر الله لهم- زعموا أن عيسى بن مريم عندما ينزل في آخر الزمان والمهدي عندما يبعثه الله، يحكمان بمذهب أبي حنيفة

(3)

.

هذا أبو الحسن الكرخي رئيس الحنفية في العراق في عصره يقول: "كل آية تخالف ما عليه أصحابنا، فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ"

(4)

.

(1)

عمدة التحقيق: ص 85.

(2)

التمهيد، للأسنوي: ص 161.

(3)

حاشية ابن عابدين: 1/ 39.

(4)

أصول الكرخي المطبوع مع تأسيس النظر: 84.

ص: 176

ويقول أبو عمرو ابن الصلاح في مقلد المذهب: "نص مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المجتهد المستقل"

(1)

.

وقال الشعراني: "قال بعض المقلدين: لو وجدت حديثا في البخاري ومسلم لم يأخذ به إمامي لا أعمل به، وذلك جهل منه بالشريعة، وأوّل من يتبرأ منه إمام مذهبه، وكان الواجب عليه حمل كلام إمامه على أنه لم يظفر بذلك الحديث أو لم يصح عنده"

(2)

.

وجاوز الشيخ أحمد الصاوي حده وغلا غلوا عظيما حيث يقول: "ولا يجوز تقليد ما عدا الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر؛ لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر"

(3)

.

انظر إلى هذا الغلو المشابه لغلو اليهود والنصاري في أحبارهم ورهبانهم، حيث حرّم تقليد غير الأئمة الأربعة، ولو كان المقلد أبا بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي، أو غيرهم من الصحابة الكرام، وزاد الطين بلّة بوجوب تقليدهم، ولو كان غيرهم معه نص حديث صحيح أو آية قرآنية، ولم يكتف بذلك، بل صرح بأن الخارج عن مذاهب الأربعة ضال مضل، وأنه قريب من الكفر. وبلغ غاية الإسفاف عندما زعم أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، وقد ردد هذا القول في غير موضع من حاشيته، وكيف يكون ظاهرهما من أصول الكفر، وأغلب الآيات والأحاديث ظواهر، وما أخذ الأئمة اجتهاداتهم إلا من هذه الظواهر، إن المسلم لا يملك إذ يقرأ هذه الأقوال الشنيعة إلا أن يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(1)

المجموع للنووي: 1/ 45.

(2)

الميزان: 1/ 10.

(3)

حاشية على الشرح لأحمد الصاوي، انظر كلامه على قوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)} [الكهف: 23].

ص: 177

‌المبحث الثاني: الرد على من أوجب التقليد

‌أولا: لا دليل على الوجوب:

دعوى إيجاب التقليد دعوى مرفوضة، فلا واجب إلا من أوجبه الله ورسوله، ولم يرد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على وجوب التقليد، ثمَّ التقليد مخالف لما كان عليه الحال في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لهم بإحسان، بل مخالف لما كان عليه الأئمة رضوان الله عليهم، فقد كان في المسلمين في تلك الأيام علماء، وفيهم عوام، فكان عوام المسلمين يسألون العلماء عمّا يعرض لهم من مشكلات، وكانوا يسألونهم عن حكم الله في المسألة، ولم يوجبوا على المسلم أن يلتزم قول عالم من العلماء لا يتعداه.

يقول ابن عبد البر: "أمّا التقليد فهو قبول قول الغير من غير حجّة، فمن أين يحصل به علم، وليس مستند إلى قطع، هو في نفسه بدعة محدثة؛ لأنَّا نعلم بالقطع أن الصحابة رضوان الله عليهم، لم يكن في زمانهم وعصرهم مذهب لرجل معين يُدْرك ويقلَّد، وإنما كانوا يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنة، أو إلى ما يتمخض بينهم من النظر عند فقد الدليل، وكذلك تابعوهم أيضا يرجعون إلى الكتاب والسنة، فإن لم يجدوا نظروا إلى ما أجمع عليه الصحابة، فإن لم يجدوا اجتهدوا، واختار بعضهم قول صحابي فرآه الأقوى في دين الله تعالى. ثمَّ كان القرن الثالث، وفيه كان أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، وكانوا على منهاج من مضى، لم يكن في عصرهم، مذهب رجل معين يتدارسونه. . . "

(1)

.

وقال ابن القيم في التقليد: "وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمَّة، لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام، وهم أعلى رتبة، وأجل قدرا، وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك، وأبعد منه قول من قال: يلزم أن

(1)

القول المفيد، للشوكاني: ص 43

ص: 178

يتمذهب بمذهب عالم من العلماء، وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة"

(1)

.

‌ثانيا: الإجماع على عدم وجوب تقليد عالم بعينه:

من الذين استنكروا قول من زعم وجوب تقليد أحد الأئمة الأربعة الحافظ العراقي، والزركشي، وعز الدين بن عبد السلام، والنووي، وكان عز الدين يذكر إجماعين يدلان على عدم وجوب تقليد شخص بعينه:

الأول: إجماع الصحابة على أنّه يجوز للعامي استفتاء أي عالم في مسألة، ولم ينقل عن السلف الحجر في ذلك، ولو كان ممتنعا لما جاز للصحابة إهماله، وعدم إنكاره؛ ولأن كل مسألة لها حكم في نفسها، فكما لم يتعين الأول للاتباع في الأولى إلا بعد سؤاله، فكذلك في الأخرى.

الثاني: إجماع الأمّة أن من أسلم لا يجب عليه اتباع إمام معين، فإذا قلد معينا، وجب أن يبقى ذلك التخيير المجمع عليه حتى يحصل دليل على رفعه، ولا سيما الإجماع لا يرفع إلا بما هو مثله في القوة.

وقال العراقي نقلا عن النووي: "الذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزم الشخص التمذهب بمذهب، بل يستفتي من شاء، لكن من غير تتبع الرخص".

وقال الشعراني في (الدرر المنثورة): "لم يبلغنا عن أحد من السلف أنه أمر أحدا أن يتقيد بمذهب معين، ولو وقع منهم ذلك، لوقعوا في الإثم؛ لتفويتهم العمل بكل حديث لم يأخذ به ذلك المجتهد الذي أمر الخلق باتباعه وحده. والشريعة حقيقة إنما هي مجموع ما بأيدي المجتهدين كلهم لا بيد واحد منهم، ولم يوجب الله على أحد التزام مذهب معين بخصوصه لعدم عصمته. ومن أين جاء الوجوب والأئمة كلهم قد تبرؤوا من الأمر باتباعهم، وقالوا إذا بلغكم الحديث فاعملوا به، واضربوا بكلامنا عرض الحائط".

(1)

إعلام الموقعين: 4/ 333.

ص: 179

قال الحجوي: "وعمل الأئمة شرقا وغربا هو على ما قاله ابن عبد السلام، فلا تجد أهل مذهب إلا قد خرجوا عن مذهب إمامهم، إما إلى قول بعض أصحابه، وإما إلى خارج المذهب، إذ ما من إمام إلا قد انتقد عليه قول أو فعل خفي عليه فيه السنة، أو أخطأ في الاستدلال، فضعف مذهبه"

(1)

.

وبهذا نعلم ما في قول الصاوي من التجني، عندما حرم الخروج عن المذاهب الأربعة، وزعم أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله -معقبا على قول الصاوي: "أما قوله بأنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة، ولو كانت أقوالهم مخالفة للكتاب والسنة وأقوال الصحابة- فهو قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وإجماع الأئمة أنفسهم، وأما قوله: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، فهذا أيضا من أشنع الباطل وأعظمه، وصاحبه من أعظم الناس انتهاكا لحرمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، سبحانك هذا بهتان عظيم.

والتحقيق الذي لا شك فيه، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعامة علماء المسلمين أنه لا يجوز العدول عن ظاهر الكتاب والسنة فى حال من الأحوال بوجه من الوجوه، حتى يقوم دليل صحيح شرعي، صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح، والقول إنّ العمل بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يصدر ألبتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلا، لأنه لجهله بهما يعتقد ظاهرهما كفرا، والواقع في نفس الأمر أن ظاهرهما بعيد عما ظنه بُعد الشمس من اللمس"

(2)

.

(1)

الفكر السامي: 2/ 418.

(2)

أضواء البيان: 7/ 438.

ص: 180

‌ثالثا: إيجاب التقليد أدى إلى هجران الكتاب والسنة:

رأينا كيف منع صاحب (مراقي السعود) غير المجتهدين من العمل بمعنى النص، وجعل التفقه بالكتاب والسنة حكرا على المجتهدين، وقد أدى هذا إلى هجران الكتاب والسنة كليا، والاستغناء عنهما في جميع الأحكام؛ لأن المجتهدين معدومون بعد القرن الرابع كما يزعم المقلدون.

فهاهنا مقدمتان كما يقول الشيخ الشنقيطي:

الأولى: أن العمل بالكتاب والسنة لا يجوز إلا للمجتهدين.

الثانية: أن المجتهدين بعد القرن الرابع معدومون انعداما كليا.

وقد نتج عن هاتين المقدمتين: أن العمل بالكتاب والسنة ممنوع منعا باتًّا على جميع الناس، وليس للمسلمين إلا الاستغناء بالمذاهب المدونة.

لقد أوجب الله على أهل العلم، إذا نزلت بهم نازلة، أن يتجهوا إلى الكتاب والسنة، والمقلدون إذا نزلت بهم نازلة، زعموا أن الواجب عليهم هو الاتجاه إلى قول إمامهم.

‌رابعا: الزعم بأن العمل بالكتاب والسنة وقف على المجتهدين دون غيرهم زعم باطل:

كل من علم شيئا من الكتاب والسنة لا بدَّ له من العمل به والأخذ به، ولا يجوز أن يدعه لقول أحد، والأدلة على ذلك كثيرة منها:

1 -

النصوص من الكتاب والسنة الآمرة بذلك أمراً عاماً مطلقا غير خاص بفريق من الناس دون غيرهم، وتخصيص هذه النصوص بالمجتهدين الجامعين لشروط الاجتهاد المعروفة عند متأخري الأصوليين يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه.

والنصوص في هذا كثيرة، منها قوله تعالى:

ص: 181

{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)}

(1)

.

والمراد بما أنزل إلينا القرآن والسنة المبينة، لا آراء الرجال.

وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)}

(2)

. فدلت الآية على أن من دعي إلى العمل بالقرآن والسنة وصدَّ عن ذلك أنه من جملة المنافقين؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}

(3)

، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول بعد وفاته صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى سنته.

وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}

(4)

. وختام الآية فيه تهديد شديد لمن لم يعمل بالسنة، واكتفى بآراء الرجال.

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ (21)}

(5)

، والآية تلزم المسلم أن يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم قدوته وذلك باتباع سنته.

والنصوص في هذا كثيرة جداً يحتاج إيرادها إلى عدة صفحات.

2 -

أجمع المسلمون أن الكفار الذين واجههم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا مطالبين بتدبر القرآن، والأخذ به والعمل به، مع أنهم لم يحصلوا شروط الاجتهاد

(1)

سورة الأعراف: 3.

(2)

سورة النساء: 61.

(3)

سورة النساء: 59.

(4)

سورة الحشر: 7.

(5)

سورة الأحزاب: 21.

ص: 182

التي اشترطها الأصوليون.

وقد أنكر الله على الكفار عدم تدبرهم للكتاب: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}

(1)

، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}

(2)

، وذم الله من أعرض عن كتابه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}

(3)

.

فلو كان العمل بالكتاب موقوفا على المجتهدين لما ذم الله العرب بإعراضهم عن الكتاب وعدم تدبرهم له.

3 -

شروط الاجتهاد لا تشترط إلا فيما فيه مجال للاجتهاد، والأمور المنصوصة في نص الكتاب وصحيح السنة -لا يجوز الاجتهاد فيها لأحد، ولا يصح الاجتهاد ألبتة في شيء يخالف الكتاب والسنة، وفي ذلك يقول الأصوليون:"لا اجتهاد مع النص".

ويجب أن يُعْلَمَ أن المذاهب التي فيها التقليد تختص بالأمور الاجتهادية، ولا تتناول ما جاء فيه نص صحيح من الوحي، سالم من المعارض.

قال خليل في مختصره في الفقه المالكي: "والمذهب لغة الطريق ومكان الذهاب، ثمَّ صار عند الفقهاء حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية"

(4)

.

فقوله: "من الأحكام الاجتهادية" يدلّ على أن اسم المذهب لم يتناول مواقع النصوص الشرعية السالمة عن المعارض، وبناء على ذلك فإنه لا اجتهاد ولا تقليد في شيء يخالف نصا من كتاب أو سنة أو إجماع.

(1)

سورة النساء: 82.

(2)

سورة محمد: 24.

(3)

سورة السجدة: 22.

(4)

أضواء البيان: 7/ 486.

ص: 183

4 -

الذين يقولون بتوقف العمل بالكتاب والسنة على تحصيل شروط الاجتهاد ليس لهم مستند من الكتاب والسنة، يصرح بأنه لا يصح العمل بالكتاب والسنة إلا لمن حصل شروط الاجتهاد.

ونصوص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين كلها دالة على أن العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يشترط له إلا شرط واحد، وهو العلم بحكم ما يعمل به منهما، ولا يشترط في العمل بالوحي شرط زائد على العمل بحكمه ألبتة.

ومراد متأخري الأصوليين بجميع الشروط التي اشترطوها هو تحقيق المناط؛ لأن العلم بالوحي لما كان هو مناط العمل به، أرادوا أن يحققوا هذا المناط؛ أي يبينوا الطرق التي يتحقق بها حصول العلم الذي هو مناط العمل.

فاشترطوا جميع هذه الشروط

(1)

ظنا منهم أنّه لا يمكن تحقيق حصول العلم بالوحي دونها، وهذا الظن فيه نظر؛ لأن كل إنسان له فهم، إذا أراد العمل بنص من كتاب أو سنة، فلا يمتنع عليه، ولا يستحيل أن يتعلم معناه، ويبحث عنه، هل هو منسوخ أو مخصص أو مقيد، حتى يعلم ذلك فيعمل به.

وسؤال أهل العلم: هل لهذا النص ناسخ أو مخصص أو مقيد مثلا؟ وإخبارهم بذلك ليس من نوع التقليد، بل هو نوع من الاتباع.

إن كثيرا من الفقهاء في العصور المتأخرة أوتوا فطنة وذكاء تؤهلهم لفهم أعوص القضايا، وتراهم نبغوا في علوم كثيرة، فإذا عرض الحديث في علم

(1)

انظر أضواء البيان: 7/ 478.

وجملة الشروط التي اشترطها الأصوليون في المجتهد هي:

1 -

البلوغ 2 - العقل 3 - الإسلام 4 - المعرفة باللغة العربية 5 - العلم بالأصول 6 - العلم بأدلة الأحكام من الكتاب والسنة 7 - العلم بمواقع الإجماع والخلاف 8 - العلم بالناسخ والمنسوخ 9 - العلم بأحوال الصحابة والرواة. وبعضهم يشرط المنطق.

ص: 184

من تلك العلوم تجدهم يخوضون فيها غير وجلين، ويأتون في بحوثهم وحديثهم بالنافع المفيد، مما يدل على أنهم بلغوا الغاية في تلك العلوم.

ولكن أصحاب هذه العقول يصابون بالذعر، إذا عرضت عليهم نصوص الكتاب والسنة، فتراهم يغلقون عقولهم، ويزعمون عدم العلم، كأن نصوص الكتاب والسنة لا تُفْقَهُ ولا تعلم، ولا يمكن أن يخلص أولو الألباب إلى معانى نصوصهما.

وقد تحدث صاحب (عمدة التحقيق) عن هذا الصنف من العلماء فقال: ما قولكم في العالم الذي يعرف دقائق علوم النحو وأصوله، والتصريف والاشتقاق، وخصائص العربية، وأسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز من معان وبيان وبديع، وأصناف المعاني الدقيقة والجلية، ووجوه الاستعارات، وأقسام المجاز، وضروب التشبيه، وأنواع البديع، وعلم الوضع، وفنون الشعر كقرضه ونقده وقوافيه وعروضه، وما يتخلله من الزحاف والعلل والحكمة القديمة وعويصاتها، والمنطق ودقائقه، كتوجيه القضايا واختلاطها، وأشكال القياس وضروبه وردها، وعلوم الجدل وآداب البحث والمناظرة، والكلام ونظريات علمائه، وأصول الفقه وما يتخلله من تقسيم اللفظ إلى خاص وعام، ومشترك وظاهر، وخفي، ومجمل، ومفسر ونص وصريح، وكناية وعبارة وإشارة، إلى آخر ما هنالك من دقائق مسائله، كمسالك العلل، ودفع القياس وأضراب ذلك، وعلم المواريث ومناسخاته، والفقه ومصطلحات الفقهاء، وأقسامه وفصوله، كالقواعد، والضوابط، والفروق، والألغاز، والأشباه والنظائر، والمخارج الشرعية، وترجيح البينات، ومسائل الحيطان، وتقسيم الشرب، وأقسام الأوقاف، والأحكام السلطانية والقضائية، إلى غير ذلك من العلوم والفنون، حتى صار هذا العالم كالبحر الزاخر.

ثم إنه لم يقتصر على ذلك، بل أحرز ملكة عظيمة من فهم دقائق عبارات المتأخرين من علماء القرون الوسطى، ومن يليهم، التي عقدت تعقيداً جعلها أشبه بالألغاز لفرط إيجازها، حتى حالت بين قواعد العلوم الأصلية السمحة،

ص: 185

وبين أذهان طلابها، فأطالت عليهم مسافة طرق التحصيل، فتراهم يفنون أعمارهم في معالجتها لما انطوت عليه من المصطلحات المعميات بأوجز تعبير، فضلا عما درج في طيات الشروح، والحواشي، من التحقيقات، والتدقيقات، والإشكالات، والانتقادات، والقلقلات، والفنقلات، والاختلافات، فلا يقع نظرك على مقولة إلا تراها مفعمة بقولهم قال فلان: كذا، ورد عليه بكذا، وأجيب عنه بكذا، لكن فلاناً زيفه بقوله كذا، وإنَّ الأولى أن يقال: كذا، لكن ناقشه فلان، وكقولهم: فإن قلتَ قلتُ، وهلم جرا.

ولا يخفى على أرباب الاطلاع صعوبة أمثال كتب العضد والسعد والسيد والعصام والخيالي والفناري والكلنبوي.

وإليك نظائر امتحان الأذكياء، ونتائج الأفكار، وشرح الرضي، وحواشي يسين على الفاكهي، وعصام الدين على الجامي في النحو، وحواشي قول أحمد على الفناري في المنطق، وشرح العصام على رسالة الوضع، والمرآة والتلويح وحواشيهما، لا سيما الكلام على المقدمات الأربعة لعبد الحكيم السيالكوتي، وشرحي مختصر المنتهى وجمع الجوامع وحواشيهما، خصوصاً حاشية ابن قاسم العبادي على الأخير، وتحرير ابن الهمام وشرحه، وتقرير ابن أمير حاج، وفصول البدائع في علم الأصول.

وحواشي المقاصد والموقف، وحواشي الخيالي على شرح النسفية، والأمير على شرح عبد السلام في علم الكلام، والأطول والمطول والمختصر، وحواشيهما في المعاني والبيان وأشباهها.

فيا ليت شعري كيف يفهم هذه الكتب، وما اشتملت عليه مباحثها من التعقيد ومناقشات علمائنا سواء كانوا مصريين أو شاميين أو عراقيين أو هنديين أو تركيين، ويقررونها عن ظهر قلب، ويفهمونها تلامذتهم، وربما ناقش أغلبهم مؤلفيها، وأورد على عباراتهم إيرادات وعلق عليها اعتراضات

ص: 186

وتقريرات، تزيد في طين التشويش بلة، وفي عود الصلابة صعوبة على أذهان الطالبين؟ ثم بعد هذا وذلك يدعي أغلبهم -إن لم نقل جميعهم- العجز عن فهم كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والاستنباط منهما، ولو حكماً واحداً، بحجة أنهم عوام غير قادرين على الاستنباط والاستدلال.

على حين أن الكتاب والسنة نيران لكون لغتهما عربية فصيحة خالية من التعقيد والإبهام، وتنزه الرب عن مخاطبة عباده بما لا يُفهم -ولله الحجة البالغة- وحاشا رسوله أن يبلغ أمته عن ربه بما يتعاصى فهمه.

والله سبحانه وتعالى خاطب الجميع في كتابه المنزل بلسان عربي مبين، ولم يخصه بالصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين الأولين؛ لأن جميع المسلمين مكلفون بالخطاب منذ البعثة إلى يوم يبعثون.

مع أنهم يناقضون أنفسهم باستدلالهم على وجوب التقليد بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ (43)} الآية

(1)

.

ونرى الكثير منهم يفسرون كتاب الله تعالى، ويخوضون عباب العلوم المتعلقة بتفسيره، ويشرحون كتب السنة، ويبذل بعضهم قصارى الجهد في تأويل النصوص، ليوقفها على أقوال إمامه وأتباعه.

وكلما ذكَّرهم مذكر يجيبونه بنحو قولهم: نحن عوام، لا قدرة لنا على الاستدلال والاستنباط، ولسنا من أهل الاجتهاد، ولا تسوغ لنا الجرأة على فتح باب أقفل منذ عصور، ولنا أسوة بمن سلف من العلماء الأعلام، الذين أحرزوا قصب السبق في مضمار العلم والتحقيق، وحلبة الورع والتقوى، واجتازونا بمراحل لا يمكننا أن نبلغ شأوها، ولم يَدَّع أحد منهم هذه الدعوى، فليسعنا ما يسعهم.

فيا عجبا، هل تقبل منهم هذه المعذرة عند الله تعالى، وهم على ما هم عليه من قوة الفهم لعبارات الكتب الغامضة، وحل رموزها، وكثرة التوسع

(1)

سورة النحل: 43.

ص: 187

بالأخذ والرد ومناقشة مؤلفيها؟ وهل تعقل دعواهم العجز عن فهم الكتاب والسنة بعد هذا التضلع بالعلوم الآنفة الذكر، وفهم تلك المؤلفات التي تضارع الألغاز

(1)

.

‌خامساً: دعواهم أن غير المجتهدين يمنعون من العمل بالكتاب والسنة قائمة على مطلق احتمال العوارض التي تعرض للنصوص، وهذا مردود من وجهين:

أ- الأصل السلامة من النسخ حتى يثبت ورود الناسخ، والعام ظاهر في العموم، حتى يثبت ورود المخصص، والمطلق ظاهر في الإِطلاق حتى يثبت ورود المقيد.

فلا يجوز ترك ظواهر النصوص من عموم وإطلاق ونحو ذلك، إلا لدليل يجب الرجوع إليه من مخصص أو مقيد، لا لمجرد مطلق الاحتمال.

ب- إذا تعلم غير المجتهد بعض آيات القرآن أو بعض الأحاديث للعمل به، تعلم النص العام أو المطلق، وتعلم معه مخصصه ومقيده، إن كان مخصصا أو مقيدا، وتعلم ناسخه إن كان منسوخا، وتعلم ذلك سهل جدًّا بالرجوع إلى العلماء العارفين، أو كتب التفسير والحديث.

‌سادساً: تناقض الذين يوجبون التقليد في دعواهم:

الذي ينظر في كلام الفقهاء الذين زعموا وجوب التقليد، وادعوا أن باب الاجتهاد قد أغلق يجدهم متناقضين، فنراهم يقررون رأيهم هذا في موضع، ثمَّ ينقضونه ويخالفونه في موضع آخر، وهذا يمثل الحيرة القائمة في نفوسهم بسبب التناقض الحاصل بين قولهم في وجوب التقليد، وسد باب الاجتهاد، وبين النصوص من الكتاب والسنة المخالفة لذلك، وكذلك نصوص كلام الصحابة والتابعين والأئمة، ومن أمثلة هذا التناقض أن ابن عابدين نقل عن

(1)

عمدة التحقيق: 71 - 73.

ص: 188

بعض رسائل ابن نجيم أن الاجتهاد منقطع بعد المائة الرابعة

(1)

، ثمّ تجد ابن عابدين يصرح في موضع آخر من حواشيه على الدر أن الكمال بن الهمام صاحب الفتح من أهل الترجيح، بل من أهل الاجتهاد.

كما أنك تراهم قد صرحوا أن المفتي هو المجتهد، أما من يحفظ أقوال المجتهد، وليس بمجتهد، فهو ليس بمفت، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد على وجه الحكاية قائلين تفريعاً على هذا: إن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي، ثم ترى أن ابن الهمام نفسه قائل هذا القول يقول في موضع آخر من كتابة (فتح القدير):"والتحقيق أن المفتي في الوقائع لا بدَّ له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس"، وقال في موضع ثالث:"والحق أن على المفتي أن ينظر في خصوص الوقائع. . . " الخ.

ثم إنك تراهم يشترطون للقاضي والمفتي شروطا لازمة لقربهما من الاجتهاد، ويرون أن الأولى أن يكونا مجتهدين، فقد جاء في (تنوير الأبصار)، وهو من أشهر متون متأخري الأحناف ما نصه:"وينبغي أن يكون القاضي موثوقاً به، في عفافه وعقله وصلاحه وفهمه وعلمه بالسنة والآثار ووجوه الفقه"، قال المصنف في شرحه (منح الغفار) عند قوله:"الاجتهاد شرط الأولية" على الصحيح، وعند الخصاف شرط لازم وقال العلائي في شرحه (الدر المختار)، معللاً كونه شرط الأولوية ما نصه: "لتعذر الاجتهاد على أنه يجوز خلو الزمن عند الأكثر -إلى أن قال- لكن في أيمان البزازية، المفتي يفتي بالديانة، والقاضي يقضي بالظاهر، دل على أن الجاهل لا يمكنه القضاء بالفتوى أيضاً، فلا يد من كون الحاكم في الدماء والفروج عالماً ديناً كالكبريت الأحمر وأين الكبريت الأحمر

(2)

، وأين

(1)

يرى الباجوري في حاشيته على ابن القاسم الغزي: 1/ 19: أن الاجتهاد انقطع نحو الثلاثمائة.

(2)

الكبريت الأحمر: معدن عزيز الوجود، ومراد صاحب البزازية أن الاجتهاد ضروري للقاضي.

ص: 189

العلم"، ثم قال في التنوير: "ومثله"؛ أي مثل القاضي في جميع ما ذكر من الشروط "المفتي".

وذكر الشراح نقلا عن ابن الهمام: أن المفتي عند علماء الأصول هو المجتهد كما سبق، وقال البيري في (حواشي الأشباه) وهو من المتأخرين ما نصه:"-تتمة- هل يجوز للإنسان العمل بالضعيف من الرواية في حق نفسه؟ نعم إذا كان له رأي، أما إذا كان عامياً فلم أره، لكن يقتضي تقييده بذي الرأي أنه لا يجوز للعامي ذلك، والله أعلم".

وفي خزانة الروايات عن دستور السالكين: "العالم الذي يعرف معنى النصوص والأخبار، وهو من أهل الرواية يجوز له أن يعمل عليها، وإن كان مخالفا لمذهبه". انتهى.

وفي (نهاية النهاية) لابن الشحنة: "إذا صح الحديث، وكان على خلاف المذهب، عمل بالحديث، ويكون ذلك مذهبه، ولا يخرج مقلده عن كونه حنفياً بالعمل به، فقد صحَّ عنه أنه قال: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، وقد حكى ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره" -إلى أن يقول- "قال بعض علمائنا: إذا كانت الواقعة مختلفاً فيها، فالأفضل والمختار للمجتهدين أن يأخذ بالدلائل، وينظر إلى الراجح عنده، والمقلد يأخذ بالتصنيف الأخير إلا أن يختار المشايخ المتأخرون خلافة، فيجب العمل به ولو كان زفر"

(1)

.

‌سابعاً: حجج العقول الدالة على بطلان التقليد:

قال أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله تعالى: "وقد احتج جماعة من الفقهاء، وأهل النظر على من أجاز التقلد بحجج عقلية، فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني، قال: يقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حُجَّة فيما حكمت به؟ فإن قال: نعم، بطل التقليد، لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد، وإن قال: حكمت به بغير حجة، قيل له: فلم أرقت الدماء، وأبحت

(1)

عمدة التحقيق: 78 - 79.

ص: 190

الفروج، وأتلفت الأموال، وقد حرم الله ذلك إلا بحجة؟ قال الله عز وجل:{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ (68)}

(1)

.

أي من حجة بهذا. فإن قال: أنا أعلم أني قد أصبت، وإن لم أعرف الحجة؛ لأني قلدت كبيراً من العلماء، وهو لا يقول إلا بحجة خفيت عليَّ.

قيل له: إذا جاز تقليد معلمك؛ لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك، فتقليد معلم معلمك أولى؛ لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك.

فإن قال: نعم، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه، وكذلك من هو أعلى، حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإن أبى ذلك نقض قوله، وقيل له: كيف تجوّز تقليد من أصغر، وأقل علماً، ولا تجوّز تقليد من هو أكبر وأكثر علماً، وهذا تناقض؟

فإن قال: لأن معلمي، وإن كان أصغر، فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه، فهو أبصر بما أخذ، وأعلم بما ترك.

قيل له: وكذلك من تعلم من معلمك، فقد جمع علم معلمك، وعلم من فوقه إلى علمه، فيلزمك تقليده، وترك معلمك، وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك؛ لأنك جمعت علم معلمك، وعلم من هو فوقه إلى علمك، فإن قلد قوله جعل الأصغر، ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع، والتابع من دونه قياس قوله، والأعلى للأدنى أبداً، وكفى بقول يؤول إلى هذا تناقضاً وفسادا"

(2)

.

(1)

سورة يونس: 68.

(2)

جامع بيان العلم: 2/ 142 - 143.

ص: 191

‌ثامناً: التقليد جهل وليس بعلم:

وفي هذا يقول أبو عمر بن عبد البر

(1)

: "قال أهل العلم والنظر: حد العلم التبيين، وإدراك المعلوم على ما هو يه، فمن بان له الشيء فقد علمه، قالوا: والمقلد لا علم له، ولم يختلفوا في ذلك، ومن ها هنا -والله أعلم- قال البحتري:

عرف العالمون فضلك بالعلم. . . وقال الجهال بالتقليد

وأرى الناس مجمعين على. . . فضلك من بين سيد ومسود

ويقول في موضع آخر: "حدّ العلم عند المتكلمين في هذا المعنى هو ما استيقنته وتبينته، وكل ما استيقن شيئاً وتبينه فقد علمه، وعلى هذا لم يستيقن الشيء، وقال به تقليد فلم يعلمه.

والتقليد عند جماعة العلماء غير الاتباع، لأن الاتباع هو أن تتبع القائل على الاتباع، لأن الاتباع هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه، والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه، ولا وجه القول، ولا معناه، وتأبى من سواه، أو أن يتبين لك خطؤه، فتتبعه مهابة خلافه، وأتت قد قد بان لك فساد قوله، وهذا محرم القول به في دين الله سبحانه، والعلم عند غير أهل اللسان العربى فيما ذكروا يجوز أن يترجم باللسان العربي، ويترجم معرفة، ويترجم فهماً"

(2)

.

‌تاسعاً: المقلدون مخالفون لمنهج أئمتهم:

ومما يدل على بطلان التقليد أن المقلدين مخالفون لمنهج الأئمة، رضوان الله عليهم، فطريقة الأئمة اتباع الحجة والدليل وترك التقليد، وعدم تقليد واحد بعينه، فمن ألزم تقليد الرجال من غير دليل، فليس بمتبع للأئمة.

وقد تواتر النقل عن الأئمة بالنهي عن تقليدهم، أو تقليد أحد من

(1)

جامع بيان العلم: 2/ 142 - 143.

(2)

جامع بيان العلم: 2/ 45.

ص: 192

العلماء، وأمروا الناس باتباع الدليل، إذا بلغهم وترك أقوالهم، وأعلنوا أنهم بشر يخطئون ويصيبون، ولم يحلوا لأحد أن يتابعهم في خطئهم إذا تبدى له ذلك، بل لم يحلوا لأحد الأخذ بمذهبهم ما لم يعلم دليلهم، وهذا يدلنا على أن المقلدين للأئمة على النحو الذي ذكرنا عاصين للأئمة، وسيتبرؤون في يوم القيامة من تقليدهم إياهم، وهذا بعض ما نقل من أقوالهم.

‌1 - أبو حنيفة يرفض التقليد

1 -

حدّث أبو يوسف بن إبراهيم عن أبي حنيفة قال: "لا يحلُّ لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه"

(1)

، قال الفلاني:"ومعنى قوله: من أين قلناه: أي ما لم يعلم دليل قولنا وحجته، وفي هذا إشارة إلى أنه لا يبيح لغيره تقليده فيما يقول بغير دليل"

(2)

.

2 -

ومن أقواله: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"

(3)

.

3 -

وقال: "إذا قلت قولا يخالف كتاب الله، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي"

(4)

.

4 -

سئل أبو حنيفة: إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الله، فقيل له: إذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: اتركوا لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الصحابة رضي الله عنهم

(5)

.

(1)

إيقاظ همم أولى الأبصار: ص 52.

(2)

المصدر السابق بتصرف يسير: 52.

(3)

إعلام الموقعين: 2/ 209، وابن عابدين في حاشيته على "البحر الرائق": 6/ 393.

(4)

إيقاظ همم أولي الأبصار: 50.

(5)

تيسير الاجتهاد للصنعاني - مجموعة الرسائل المنيرية: 1/ 26.

ص: 193

‌2 - أقوال الإمام الشافعي الرافضة للتقليد

ساق الإمام العلامة ابن أبي شامة الشافعي (665 هـ) أقوال الإمام الشافعي في كتابه (المؤمل للرد إلى الأمر الأول) فقال:

"إن الشافعي رحمه الله احتاط لنفسه، وعلم أن البشر لا يخلو من السهو والغفلة وعدم الإِحاطة، فصحَّ عنه من غير وجه أنّه أمر إذا وجد قوله على مخالفة الحديث الصحيح، الذي يصح الاحتجاج به أن يترك قوله، ويؤخذ بالحديث"

(1)

.

1 -

ثمّ ساق بإسناده إلى الربيع بن سليمان قال: "سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنته، ودعوا ما قلت"

(2)

.

2 -

وقال المزني -صاحب الشافعي- في أول مختصره: "اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي، ومن معنى قوله، لأقربه على من أراده مع إعْلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه، ويحتاط فيه لنفسه"

(3)

.

قال ابن أبي شامة: "أي مع إعلامي من أراد علم الشافعي نهي الشافعي عن تقليده، وتقليد غيره"

(4)

.

3 -

وقال الشافعي: "كل مسألة تكلمت فيها بخلاف السنة فأنا راجع عنها في حياتي وبعد مماتي"

(5)

.

4 -

وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول، وروى حديثا، قال له رجل:

(1)

كتاب المؤمل: مجموعة الرسائل المنيرية: 3/ 27.

(2)

المصدر السابق: 3/ 27.

(3)

مختصر المزني بهامش كتاب الأم للشافعي: 1/ 2، وكتاب المؤمل: 3/ 27.

(4)

كتاب المؤمل: 3/ 28.

(5)

كتاب المؤمل: 3/ 31.

ص: 194

تأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال: "ومتى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحا فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب، وأشار بيده إلى رأسه"

(1)

.

5 -

وفي رواية: روى حديثا، فقال له قائل: أتأخذ به؟ فقال: "أتراني مشركا! أو أترى في وسطي زنارا! أو تراني خارجا من كنيسة! نعم آخذ به، آخذ به، وذلك الفرض على كل مسلم"

(2)

.

6 -

وقال حرملة: قال الشافعي: "كل ما قلت، وكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى، ولا تقلدوني"

(3)

.

7 -

وفي كتاب أبي ثور قال: سمعت الشافعي يقول: "كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي، وإن لم تسمعوه مني"

(4)

.

8 -

وقال رضي الله عنه في باب الصيد من (الأم): "كل شيء خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط، ولا يكون معه رأي ولا قياس، فإن الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد معه أمر ولا نهي غير ما أمر هو به"

(5)

.

9 -

وقال الإمام محمد الكوفي رضي الله عنه: "رأيت الشافعي بمكة، وهو يفتي الناس، ورأيت الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه حاضرين، فقال الشافعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وهل ترك لنا عقيل من دار)، فقال إسحاق: روينا عن الحسن وإبراهيم، أنهما لم يكونا يريانه، وكذلك عطاء ومجاهد، فقال الشافعي لإسحاق: لو كان غيرك موضعك لفركت أذنه!! أقول: قال رسول الله، وتقول: قال عطاء ومجاهد والحسن!! وهل لأحد

(1)

كتاب المؤمل.

(2)

كتاب المؤمل.

(3)

كتاب المؤمل.

(4)

كتاب المؤمل: وقد نقل هذه الأقوال وغيرها السبكي في كتابه: معنى قول المطلب إذا صح الحديث فهو مذهبي. فارجع إليه.

(5)

قواعد التحديث: 1/ 54.

ص: 195

مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة بأبي هو وأمي!! " كذا في الميزان للشعراني

(1)

.

‌3 - أقوال الإمام مالك المحذرة من التقليد

1 -

قال الإمام مالك: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافقهما فاتركوه"

(2)

.

2 -

وقال: "ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم"

(3)

.

3 -

وقد أفتى مالك بان من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي فإنَّه يستتاب، فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله! فقد سأل الهيثمُ بن جميل مالك بن أنس، فقال: "يا أبا عبد الله، إنَّ عندنا قوما وضعوا كتبا، يقول أحدهم: حدثنا فلان، عن فلان، عن عمر بن الخطاب بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم، قال مالك:

وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية، كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال مالك: هؤلاء يستتابون"

(4)

.

4 -

أخرج أبو نُعَيم في الحلية عن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت مالك ابن أنس يقول: "شاورني هارون الرشيد في أن يعلق (الموطأ) في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب، فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله".

(1)

قواعد التحديث: 1/ 54.

(2)

معنى قول المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي في: 3/ 105 من مجموعة الرسائل المنيرية.

(3)

جامع بيان العلم: 2/ 91، الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم: 6/ 145.

(4)

إعلام الموقعين: 2/ 184.

ص: 196

وأخرج ابن سعد في الطبقات عن الواقدي قال: سمعت مالك بن أنس يقول: "لما حج المنصور قال لي: إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره.

فقلت يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سيقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سيق إليهم، ودانوا به من اختلاف الناس، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم"

(1)

.

‌4 - أقوال الإمام أحمد بن حنبل الناهية عن التقليد

" كان الإمام أحمد أكثر الأئمة جمعا للسنة وتمسكا بها، حتى كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي"

(2)

، ولذلك قال:

1 -

"لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا"

(3)

.

2 -

وقال "رَأيُ الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي، هو عندي سواء، وإنمّا الحجة في الآثار"

(4)

.

3 -

وقال أيضا: "من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة"

(5)

.

4 -

وقال أبو داود: "قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: "لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم

(1)

عمدة التحقيق: 36.

(2)

المناقب لابن الجوزي: 192.

(3)

إيقاظ الهمم، للفلاني: 113، وأعلام الموقعين، لابن القيم: 2/ 183.

(4)

جامع بيان العلم، لابن عبد البر: 2/ 149.

(5)

المناقب، لابن الجوزي:182.

ص: 197

التابعيَّ بعد الرجلُ فيه مخيّر"

(1)

.

5 -

وقال: "من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال"

(2)

.

بعد أن سقنا هذه النصوص عن الأئمة نتساءَل فنقول: هل الذين يزعمون أنهم على مذهب الأئمة يتبعون الأئمة أم هم مخالفون لهم؟ والجواب واضح: فالذي يتبع شخصا يسمع له ويطيع، وهؤلاء لو كانوا متابعين للأئمة لأخذوا بما أمروهم به من تقديم قول الرسول صلى الله عليه وسلم على قولهم، يقول أبو شامة رحمه الله: "التعصب للإمام على الحقيقة إنما هو امتثال أمره في ذلك، وسلوك طريقته في قبول الأخبار، والبحث عنها، والتفقه فيها

(3)

.

واستدل على الذين يزعمون أنهم مقلدون للشافعي بأنهم خالفوا منهجه، وأغلب المقلدين كذلك، فالشافعي رحمه الله لا يجيز الاحتجاج بالضعيف، بل لا يجيز الاحتجاج بالمرسل إلا بشروط، وهؤلاء الذين يزعمون تقليد الشافعي تراهم يوردون الأحاديث محتجين بها من غير إسناد أصلا.

ولذلك جزم أبو شامة بأنَّ: "الذين يظهرون التعصب لأقوال الشافعي (بل المتعصب لأقوال أي إمام) كيفما كانت، وإن جاءَت سنة بخلافها ليسوا متعصبين في الحقيقة؛ لأنهم لم يمتثلوا ما أمر به إمامهم، بل رأيهم وديدنهم، إذا ورد عليهم الحديث الصحيح الذي هو مذهب إمامهم، والذي لو وقف عليه لقال به أن يحتالوا فى دفعه بما لا ينفعهم، لما نقل لهم عن إمامهم من قول قد أمر بتركه عند وجدان ما يخالفه من السنة، هذا مع كونهم عاصين بذلك لمخالفتهم ظاهر كتاب الله وسنة رسوله، والعجب أن منهم من يستجيز مخالفة نص الشافعي لنص له آخر في مسألة أخرى بخلافه، ثم لا يرون مخالفته لأجل نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أذن لهم الشافعي في هذا"

(4)

.

(1)

إعلام الموقعين: 2/ 183.

(2)

إعلام الموقعين: 2/ 183.

(3)

مختصر كتاب المؤمل، مجموعة الرسائل المنيرية: 3/ 31.

(4)

مختصر كتاب المؤمل، مجموعة الرسائل المنيرية: 3/ 32.

ص: 198

‌عاشراً: المقلدون مخالفون لمنهج تلامذة الأئمة:

ومما يردُّ به على من زعم وجوب التقليد، أن تلامذة الأئمة لم يكونوا كذلك، فمن المعلوم أنه كان لكلّ إمام من الأئمة أصحاب وتلامذة وأتباع، ولكن لم يأخذ هؤلاء أقوال أئمتهم دينا يتبع، يحرمون خلافه، ويستعظمون الخروج عليه، فقد كان العلماء في ذلك العصر أكرم من ذلك، وفوق ذلك، ويدلك على هذا مسلكهم فى كتبهم ومؤلفاتهم، فالمراد من اختيارهم لمذهب ما هو سلوك طريقة أصول صاحب المذهب في استنباط الأحكام، وسلوك طريقته فى اجتهاد الأحكام دون مسلك غيره.

يقول ابن بدران: "لا يذهب بك الوهم مما قدمنا إلى أنَّ الذين اختاروا مذهب أحمد وقدموه على غيره من الأئمة، وهم من كبار أصحابه، أنهم اختاروا تقليده على غيره في الفروع، فإن مثل هؤلاء يأبى ذلك مسلكهم فى كتبهم ومصنفاتهم، بل المراد باختيار مذهبه إنما هو السلوك على طريقة أصوله في استنباط الأحكام، وإن شئت قل السلوك في طريق الاجتهاد مسلكه دون مسلك غيره، وأمَّا التقليد فى الفروع، فإنَّه يترفع عنه كل من له ذكاء وفطنة وقدرة على تأليف الدليل ومعرفته، وما التقليد إلا للضعفاء الجامدين الذين لا يفرقون بين الغث والسمين"

(1)

.

يدلنا على ذلك أن كثيرا من أتباع الأئمة في عصرهم تركوا مذهب إمامهم في المسائل التى بلغهم فيها عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يبلغ أئمتهم، هذا الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة يسأل الإمام مالك عن صدقة الخضروات، فقال مالك: هذه مباقيل أهل المدينة، لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبى بكر ولا عمر رضي الله عنهما، يعني وهي تنبت الخضروات، فقال أبو يوسف: قد رجعت يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي "يعني أبا حنيفة" ما رأيت، لرجع كما رجعت

(2)

.

(1)

المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: 40.

(2)

صحة أصول أهل المدينة: 25.

ص: 199

وسأله عن الأحباس: "الوقف"، فقال مالك: هذا حبس فلان، وهذا حبس فلان؛ أي التي وقفها الصحابة، فقال أبو يوسف: قد رجعت يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت

(1)

.

فأبو يوسف لم يكابر عندما سمع الدليل، وخالف إمامه الذي كان يرى أن في البقول صدقة، ولا يجيز الوقف، بل أعلن أن أبا حنيفة لو رأى هذا وسمعه، لترك رأيه واتبعه.

وهذا محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة يقول في كتابه (الموطأ): "قال محمد: أما أبو حنيفة رحمه الله فكان لا يرى في الاستسقاء صلاة، وأمّا في قولنا: فإن الإمام يصلي ركعتين، ثمَّ يدعو ويحول رداءَه"

(2)

.

وذكر محمد أن أبا حنيفة أجاز بيع الدور والعقار والأرضين قبل أن تقبض، أما قول محمد فلا يجيز البيع في ذلك حتى تقبض

(3)

.

وأجاز محمد اشتراط الرجل الخيار في البيع إلى المدة التي اشترطتها مخالفاً في ذلك الإمام أبى حنيفة الذي لم يجز اشتراطه أكثر من ثلاثة أيام

(4)

.

وقد قارب ما خالف فيه محمد أبا حنيفة في موطئه على عشرين مسألة.

وقد نص ابن عابدين فى الحاشية على أن محمد بن الحسن، وأبا يوسف خالفا شيخهما أبا حنيفة فى نحو ثلث المذهب اتباعا للحديث

(5)

.

وهذا عصام بن يوسف البلخي من أصحاب محمد بن الحسن ومن الملازمين للإمام أبي يوسف "كان يفتي بخلاف قول الإمام أبى حنيفة كثيرا؛ لأنه لم

(1)

المصدر السابق.

(2)

موطأ محمد: 2/ 75.

(3)

المصدر السابق.

(4)

المصدر السابق: 3/ 258.

(5)

حاشية ابن عابدين: 1/ 46، وعزاه اللكنوي في النافع الكبير: ص 93 إلى الغزالي.

ص: 200

يعلم الدليل، وكان يظهر له دليل غيره، فيفتي به"

(1)

.

وقد ذكر النووي أقوال الإمام الشافعي الآمرة بترك قوله إذا عارض الحديث، واتباع الحديث، ثمَّ قال:"وقد عمل بهذا أصحابنا فى مسألة التثويب واشتراط التحلل من الإحرام بعذر المرض وغيرهما مما هو معروف في كتب المذهب، وقد حكى المصنف ذلك عن الأصحاب فيهما، وممن حكي عنه أنه أفتى بالحديث من أصحابنا أبو يعقوب البويطي، وأبو القاسم الداركي، وممن نص عليه أبو الحسن الطبري في كتابه في أصول الفقه، وممن استعمله من أصحابنا المحدِّثين الإمام أبو بكر البيهقي وآخرون"

(2)

.

ويذكر أبو بكر الأثرم أنهم كانوا عند البويطى، فذكر الأثرم حديث عمار في التيمم، وأن المتيمم يضرب التراب مرة واحدة، فقال أخذ البويطي السكين وحته من كتابه، أى حت ما كان مثبتا فى كتابه من أن المتيمم يضرب التراب مرتين، وجعله ضربة واحدة، وقال: هكذا أوصانا صاحبنا (يريد الشافعى): إذا صح عندك الخبر فهو قولي

(3)

.

لا يجوز نسبة الأقوال المخالفة للحديث إلى الأئمة.

كل الأئمة نهوا أتباعهم عن متابعتهم فيما وجد فيه حديث صحيح يخالف قولهم، وأفتوا بأنَّ الحديث الصحيح هو مذهبهم، ومن هنا أوجب العلماء على فقهاء كل مذهب أن يعرفوا المسائل التى خالف فيها إمامهم الأحاديث الصحيحة، كي لا ينسبوا هذه الأقوال إليه، وقد جمع الإمام المحقق ابن دقيق العيد، رحمه الله، المسائل التى خالف كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث الصحيح فيها انفرادا واجتماعا في مؤلف ضخم، قال في أوله: "إن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام، وإنَّه يجب على الفقهاء المقلدين

(1)

البحر الرائق: 6/ 93، ورسم المفتي: 1/ 28.

(2)

المجموع للنووي: 1/ 63.

(3)

مختصر كتاب المؤمل: مجموعة الرسائل المنيرية: 1/ 32.

ص: 201

لهم معرفتها لئلا يعزوها إليهم، فيكذبوا عليهم"

(1)

.

ومراده بذلك أنهم تبرؤوا من كل قول يخالف الحديث، وأشهدوا على أنهم راجعون عن ذلك في حياتهم وبعد مماتهم، فعزو هذه الأقوال إليهم من هذه الناحية لا يجوز، قال النووي:"وكان جماعة من متقدمي أصحابنا، إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشافعى خلافه، عملوا بالحديث، وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعى ما وافق الحديث"

(2)

.

ومن هنا نعلم أن الذين ساروا مقلدين لأئمتهم في كل ما ثبت عنهم من غير معرفة ولا نظر في أدلتهم كانوا مخالفين لأئمتهم، ومثل هؤلاء لم يسيروا على المنهج الذي دلَّ الأئمة أتباعهم عليه، وفي ذلك يقول الفقيه الشافعي أبو شامة:

"الذين يظهرون التعصب لأقوال الشافعي (بل المتعصب لأقوال أي إمام) كيفما كانت، وإن جاءَت سنة بخلافها ليسوا متعصبين في الحقيقة؛ لأنهم لم يمتثلوا ما أمر به إمامهم، بل رأيهم وديدنهم، إذا ورد عليهم الحديث الصحيح الذي هو مذهب إمامهم، والذي لو وقف عليه لقال به أن يحتالوا فى دفعه بما لا ينفعهم، لما نقل لهم عن إمامهم من قول قد أمر بتركه عند وجدان ما يخالفه من السنة، هذا مع كونهم عاصين بذلك لمخالفتهم ظاهر كتاب الله وسنة رسوله، والعجب أن منهم من يستجيز مخالفة نص الشافعي لنص له آخر في مسألة أخرى بخلافه، ثم لا يرون مخالفته لأجل نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أذن لهم الشافعي في هذا"

(3)

.

قال ابن عابدين: "نقل العلامة البيري في أول شرحه على الأشباه عن شرح الهداية لابن الشحنة الكبير والد شارح الوهبانية، وشيخ ابن الهمام، ونصه: "إذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عمل بالحديث، ويكون

(1)

إيقاظ الهمم: 99.

(2)

المجموع: 1/ 64.

(3)

مختصر كتاب المؤمل، مجموعة الرسائل المنبرية: 3/ 32.

ص: 202

مذهبه، ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيًا بالعمل به، فقد صح عن أبي حنيفة أنه قال:"إذا صح الحديث فهو مذهبي" وقد حكى ذلك الإمام ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة، ونقله الشعراني عن الأئمة الأربعة"

(1)

.

‌الحادي عشر: ردود العلماء الأعلام على موجبي التقليد:

كثير من العلماء النابهين بعد الأئمة وأصحابهم ردوا على الذين يوجبون التقليد، وأكثروا في كتبهم من التوجع والتشكي من الحال التي وصل إليها الفقهاء المقلدون، وسأنقل إليك طرفا من أقوالهم تزيد طالب العلم، بيانا واطمئنانا.

‌1 - العلامة أبو شامة:

من هؤلاء العلامة أبو شامة، فإنه وصف عصر الاجتهاد ومنهج العلماء فيه، واعتمادهم على الحجة والدليل من غير تقليد، ثم قال مبينا حال أهل عصر التقليد: "ثمَّ اشتهرت المذاهب الأربعة، وهجر غيرها، فقصرت همم أتباعهم إلا قليلا منهم، فقلدوا بعدما كان التقليد لغير الرسل حراما، بل صارت أقوال أئمتهم عندهم بمنزلة الأصلين، وذلك معنى قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}

(2)

، فعدم المجتهدون، وغلب المقلدون، وكثر المتعصبون. . .، وحجروا على رب العالمين مثل اليهود أن لا يبعث بعد أئمتهم وليا مجتهدا، حتى آل بهم التعصب إلى أن أحدهم إذا ورد عليه شيء من الكتاب والسنة الثابتة على خلافه، يجتهد في دفعه بكل سبيل من التأويل نصرة لمذهبه ولقوله، ولو وصل ذلك إلى إمامه الذى يقلده، لقابله ذلك الإمام بالتعظيم وصار إليه، وتبرأ من رأيه مستعيذا بالله من الشيطان الرجيم"

(3)

.

(1)

شرح عقود رسم المفتي: 1/ 24.

(2)

سورة التوبة: 31.

(3)

مختصر كتاب المؤمل: مجموعة الرسائل المنيرية.

ص: 203

‌2 - الأصولي المحقق الشاطبي:

وقد عدَّ الشاطبي المقلدة من الذين زلوا بسبب الإعراض عن الدليل، قال:"والرابع (أي من الذين زلوا): رأي المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة، بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد فضيلة دون إمامهم، حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل، ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير، وفوقوا إليه سهام النقد، وعدوه من الخارجين عن الجادة، والمفارقين للجماعة، من غير استدلال منهم بدليل، بل بمجرد الاعتياد العامي"

(1)

.

‌3 - سلطان العلماء العز ابن عبد السلام:

يقول عز الدين ابن عبد السلام: "ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه؛ جمودا على تقليد مذهب إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده.

وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس، فإذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطن نفسه عليه تعجب غاية العجب من استرواح إلى دليل، بل لما ألفه من تقليد إمامه، حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره. فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجنيها، وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره، بل يصير إليه مع علمه بضعفه وبعده، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامى وقف على دليل لم أقف عليه، ولم أهتد إليه، ولم يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله، ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله ما

(1)

الاعتصام للشاطبي: 2/ 348.

ص: 204

أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكر، وفقنا الله لاتباع الحق أين ما كان، وعلى لسان من ظهر"

(1)

.

‌4 - الحبر العلامة ابن القيم:

ويقول ابن القيم عن المقلدين الذين جاؤوا بعد القرون الثلاثة الفاضلة: "ثم خلف من بعدهم خلف فرقوا دينهم، وكانوا شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون، وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا، وكل إلى ربهم راجعون، جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التى بها يدينون، ورؤوس أموالهم التى بها يتجرون، وآخرون قنعوا بالتقليد المحض، وقالوا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}

(2)

، والفريقان بمعزل عما ينبغى اتباعه من الصواب، ولسان الحق يتلو عليهم:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}

(3)

.

قال الشافعى رحمه الله: "أجمع المسلمون على أنَّ من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس".

وينقل ابن القيم عن ابن عبد البر أنه قال: "أجمع الناس على أنَّ المقلد ليس معدودا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله".

ثم يقول متشكيا متألما واصفا فتنة التقليد التى أصابت العالم الإسلامي: (تالله إنها فتنة عمَّت فأعْمَتْ، ورمت القلوب فأصمت، ربا عليها الصغير، وهرم فيها الكبير، واتخذ القرآنُ لأجلها مهجورا، وكان ذلك بقضاء الله وقدره فى الكتاب مسطورا، ولما عمت بها البليّة، وعظمت بسببها الرزيَّة، بحيث لا يعرف الناس سواها، ولا يعدون العلم إلا إياها، فطالب الحق من مظانِّه لديهم مفتون، ومؤثره على ما سواه عندهم مغبون، نصبوا لمن خالفهم في طريقتهم

(1)

قواعد الأحكام: 2/ 159.

(2)

سورة الزخرف: 23.

(3)

سورة النساء: 123.

ص: 205

الحبائل، وَبَغَوْا له الغوائل، ورموه عن قوس الجهل والبغي والعناد"

(1)

.

ويقول ابن القيم في موضع آخر: "وإنما أنكرنا ما أنكره الأئمة، ومن تقدمهم من الصحابة والتابعين، وما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصب رجل واحد، وجعل فتاويه بمنزلة نصوص الشارع، بل تقديمها عليه، وتقديم قوله على أقوال من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع علماء أمته، والاكتفاء بتقليده عن تلقي الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله، وأقوال الصحابة، وأن يضم إلى ذلك أنه لا يقول إلا بما فى كتاب الله وسنة رسوله.

وهذا مع تضمنه للشهادة بما لا يعلم الشاهد، والقول على الله بلا علم، والإخبار عمن خالفه، وإن كان أعلم منه أنه غير مصيب للكتاب والسنة ومتبوعي هو المصيب، أو يقول: كلاهما مصيب للكتاب والسنة، وقد تعارضت أقوالهما، فيجعل أدلة الكتاب والسنة متعارضة متناقضة، والله ورسوله يحكم بالشيء وضده فى وقت واحد، ودينه تبع لآراء الرجال، وليس له فى نفس الأمر حكم معين، فهو إمَّا أن يسلك هذا المسلك، أو يخطئ من خالف متبوعه، ولا بدَّ له من واحد من الأمرين، وهذا من بركة التقليد عليه"

(2)

.

‌5 - المحدث الفقيه ابن دقيق العيد:

روى الأرتوري عن شيخه الإمام ابن دقيق العيد: أنه طلب منه ورقة وكتبها في مرض موته، وجعلها تحت فراشه، فلما مات أخرجوها، فإذا هي في تحريم التقليد

(3)

.

(1)

إعلام الموقعين: 1/ 7 - 8.

(2)

إعلام الموقعين: 1/ 259.

(3)

القول المفيد: ص 50.

ص: 206

‌6 - أبو عمر ابن عبد البر.

بعد أن ذكر حال كثير من أهل الحديث في عصره قال مبينا حال المقلدين: "وطائفة هي في الجهل كتلك أو أشدّ، لم يعنوا بحفظ سنة، ولا الوقوف على معانيها، ولا بأصل من القرآن، ولا اعتزوا بكتاب الله عز وجل فحفظوا تنزيله، ولا عرفوا ما للعلماء في تأويله، ولا وقفوا على أحكامه، ولا تفقهوا في حلاله وحرامه، قد اطرحوا علم السنن والآثار، وزهدوا فيهما، وأضربوا عنهما، فلم يعرفوا الإجماع والاختلاف، ولا فرقوا بين التنازع والائتلاف، بل عولوا على حفظ ما دوَّن لهم من الرأي والاستحسان الذي كان عند العلماء آخر العلم والبيان، وكان الأئمة يبكون على ما سلف لهم فيه، ويودون أنَّ حظهم السلامة منه"

(1)

.

وذكر من حالهم أنهم: "يقيسون على ما حفظوا من المسائل، ويفرضون الأحكام فيها، ويستدلون منها، ويتركون طريق الاستدلال من حيث استدل الأئمة وعلماء الأمة، فجعلوا ما يحتاج أن يستدل عليه دليلا على غيره، ولو علموا أصول الدين وطريق الأحكام وحفظوا السنن، لكان ذلك قوة لهم على ما نزل بهم، ولكنهم جهلوا ذلك فعادوه، وعادوا صاحبه"

(2)

.

‌7 - الأصولي أبو زيد الدبوسي الحنفي:

ومن الذين حملوا على التقليد أبو زيد الدبوسي الحنفي، قال رحمه الله:

"خلق الله بنى آدم على الفطرة، وإنما استدرجهم إبليس إلى الضلالة بطرق الحق، ورأس الطريق التقليد، فقلد العالم عالمًا اهتمامًا لرأيه، واتباعًا لفقهه، وظنه دينا. وما دعاه إليه إلا الكسل، فإنه لو اجتهد لوفق لمثله، فرآه الجاهل فقلد عالمًا لما سمعه بغير استدلال على فقهه، فإذا قلد جاهلا فقد ضل، ثم قلد أباه وأهل زمانه فعبدوا الأحجار، وما تبدلت الأديان إلا

(1)

جامع بيان العلم: 1/ 208.

(2)

المصدر السابق.

ص: 207

بتقليد العامة علماء السوء، فإنهم لما قلدوا وأحبوا الرياسة ومباراة علماء الحق ابتدعوا ما حسن لدى العامة، وطعنوا في متبعي السنة، حتى تبدل الدين بأصله.

فالتقليد رأس مال الجاهل، وسببه جهل المرء بقدره، حتى اتبع رجلا مثله بلا حجة، ثم الذي يليه الإلهام، فصاحبه اتبع قلبه وقلده بلا حجَّة، بناء على أنه خلق على نور الفطرة، وجهلًا بهوى نفسه، حتى ادعى رتبة الأنبياء لنفسه، واتخذ إلهه هواه كما اتخذ المقلد آلهة خشبًا، فهذا رفع قدره جهلا، والأول وضع قدره جهلًا فهلكا، وما هلك امرؤ عرف قدره، فمن رام الاحتراز عنهما فليبن أمره على الكتاب والخبر، ثم الاستدلال والنظر، وما التوفيق إلا بالله.

وكان الناس في الصدر الأول -أعني الصحابة والتابعين والصالحين رضوان الله عليهم أجمعين- يبنون أمرهم على الحجة، فكانوا يأخذون بالكتاب، ثم بالسنة، ثم بأقوال مَنْ بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ما يصح بالحجة، فكان الرجل يأخذ بقول عمر رضي الله عنه في مسألة، ثم يخالفه بقول علي رضي الله عنه في مسألة أخرى، وقد ظهر من أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله أنهم وافقوه مرة، وخالفوه أخرى، على حسب ما تتضح لهم الحجة، ولم يكن المذهب في الشريعة عمريا ولا علويًا، بل النسبة كانت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا قرونًا أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير، فكانوا يرون الحجة لا علماءهم ولا نفوسهم.

فلما ذهب التقوى عن عامة القرن الرابع، وكسلوا عن طلب الحجج جعلوا علماءهم حجة، واتبعوهم فصار بعضهم حنفيًا، وبعضهم مالكيًا، وبعضهم شافعيًا، ينصرون الحجة بالرجال، ويعتقدون الصحة بالميلاد على ذلك المذهب، ثم كل قرن بعدهم اتبع عالمه كيفما أصابه، بلا تمييز، حتى تبدلت السنن بالبدع، فضل الحق بين الهوى، ونشأ قوم من الحبية، فزعموا أنهم أحباء الله عجبًا بأنفسهم، وأن الله يتجلى لقلوبهم ويحدثهم، فرأوا لذلك

ص: 208

حديث أنفسهم حجة، اتخذوا أهواءهم آلهة، فلم يبق عليهم سبيل للحجة والعياذ بالله"

(1)

.

وقال في موضع آخر: "قال جمهور العلماء: إن القول بالتقليد باطل، وقال الحشوية: القول بالتقليد حق، ثم قال: أصل التقليد باطل؛ لأن الله تعالى ردَّ على الكفرة احتجاجهم بالآباء بنفس الرؤية والسماع من غير نظر واستدلال؛ ولأن خبر هذا المخبر وفعله يحتمل الصواب والخطأ، والمحتمل لا يكون حجّة"

(2)

.

(1)

عمدة التحقيق: 59 - 60.

(2)

عمدة التحقيق: 56 - 57.

ص: 209

‌الفصل الثاني المحرمون للتقليد

ذهب فريق من العلماء إلى تحريم التقليد تحريما مطلقا، ومن هؤلاء ابن عربي الطائي، فقد قال:"التقليد فى دين الله لا يجوز عندنا، لا تقليد حي ولا ميت، ويتعين على السائل إذا سأل العالم أن يقول له: أريد حكم الله، أو حكم رسوله في هذه المسألة، فإن قال له المسؤول: هذا حكم الله في المسألة، أو حكم رسوله، تعين عليه الأخذ به، فإنَّ المسؤول هنا ناقل حكم الله وحكم رسوله الذي أمرنا بالأخذ به، فإن قال: هذا رأي أو هذا حكم رأيته، أو ما عندي في هذه المسألة حكم منطوق به، ولكن القياس يعطي أن يكون الحكم فيه مثل المسألة الفلانية المنطوق بحكمها، لم يجز للسائل أن يأخذ بقوله، ويبحث عن أهل الذكر، فيسألهم عن صفة ما قلناه"

(1)

.

وقال العلامة الشوكانى في كتابه (إرشاد الفحول) ما نصه: "اختلفوا في المسائل الشرعية الفرعية هل يجوز التقليد فيها أم لا؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز مطلقًا، قال القرافي: مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد، وادعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد"، ثم تابع الشوكاني كلامه فقال:"وبهذا تعلم أن المنع إن لم يكن إجماعًا فهو مذهب الجمهور، ويؤيد هذا ما سيأتي من حكاية الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات، وكذلك ما سيأتي من أن عمل المجتهد برأيه إما هو رخصة له عند عدم الدليل، ولا يجوز لغيره أن يعمل به بالإجماع، فهذان الإجماعان يجتثان التقليد من أصله"

(2)

.

(1)

عمدة التحقيق: 50.

(2)

عمدة التحقيق: 51.

ص: 211

‌الفصل الثالث القول المختار

قول الذين حرموا التقليد يقابل قول الذين أوجبوه، والقولان متعارضان، والحق وسط بينهما، والقول المختار، الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، أن التقليد ثلاثة أقسام: قسم يحرم القول به والمصير إليه، وقسم يجب القول فيه والمصير إليه، وقسم يسوغ المصير إليه من غير إيجاب.

وقد فصل ابن القيم هذه الأقسام، وقسم القسم الأول، وهو الذي يحرم القول به والمصير إليه إلى ثلاثة أنواع:

أحدها: الإعراض عما أنزل الله، وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء.

الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله.

الثالث: التقليد بعد قيام الحجة، وظهور الدليل على خلاف قول المقلد.

والفرق بين النوع الثالث والذي قبله أن الأول قلد قبل تمكنه من الحجّة والبرهان، وهذا قلد بعد ظهور الحجّة، فهو أولى بالذم ومعصية الله ورسوله.

وأهل هذه الأنواع الثلاثة لا يجوز أن يتصدروا للتدريس والفتيا، فهم كالذي يدلُّ الركب، وليس له علم بالطريق، وكالأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب، وهو يطبب الناس.

ثم تحدث عن القسم الثاني الذي يجب المصير إليه والقول به، فذكر أن كل من أمرنا الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم بقبول أقوالهم لا بدَّ من متابعتهم، فقد أمرنا الله بقبول قول الشاهد، وجاءت الشريعة بقبول قول القائف، والخارص، والقاسم، والمقوم، والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد، ومن الذين شرع الله قبول أقوالهم رواة الحديث، الذين يخبرون عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم المفتي

ص: 213

الذي يخبر عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهم المؤذن الذي يخبر عن الوقت، فيقلده الناس في دخول الوقت، ومن ذلك قبول قول المترجم في الرسالة، والأعمى يقلد غيره في القبلة، ونحو ذلك.

وفي تسمية هذا النوع تقليدا نظر، فالشرع أمرنا بقبول قول هؤلاء، فنحن نتابعهم اتباعا لما أنزل إلينا من ربنا، وهذا ليس بتقليد

(1)

.

القسم الثالث: التقليد الذي يسوغ المصير إليه: وهذا النوع كالعامي الذي يقلد عالما يتفق له على علمه فيما ينزل به من أحكام، وهذا معذور في تقليده، وفد أدى ما عليه

(2)

، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولكن مثل هذا لا يجوز له الفتوى في شريعة الله من غير دليل.

‌العامي لا مذهب له

لا يصح للعامي مذهب، ولو تمذهب به، فالعامي لا مذهب له؛ لأن المذهب إنما يكون لمن له نظر واستدلال

(3)

، ويكون بصيرًا بالمذاهب على حسبه، أو لمن قرأ كتابًا في فروع ذلك المذهب، وعرف فتاوى إمامه وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك ألبتة، بل قال: أنا شافعي، أو حنبلي، أو غير ذلك، لم يصر كذلك بمجرد القول، كما لو قال: أنا فقيه، أو نحوي، أو كاتب، لم يصر كذلك بمجرد قوله.

يوضح هذا أن القائل: إنه شافعي، أو مالكي، أو حنفي، يزعم أنه متبع لذلك الإمام، سالك طريقة، وهذا إنما يصح له إذا سلك سبيله في

(1)

إعلام الموقعين: 2/ 246 - 248، 265.

(2)

يلتقى هنا من قال إن العامي لا بدَّ له من تقليد العالم، والذين قالوا بوجوب الاجتهاد في حقه؛ لأن كل واحد من الفريقين قال: الواجب على العامي أن يسأل العالم عن حكم الله، وهذا حسبه، وكل الخلاف بين هذين الفريقين أن هؤلاء يسمونه اجتهادا، وأولئك يسمونه تقليدا، ولكنهم متفقون على أنه يعذر باستفتاء العالم والأخذ بقوله.

(3)

يقول ابن عابدين: "شاع أن العامي لا مذهب له". انظر حاشية ابن عابدين: 1/ 33.

ص: 214

العلم والمعرفة والاستدلال، فأما مع جهله وبعده عن سيرة الإمام وعلمه وطريقه، فكيف يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة، والقول الفارغ من كل معنى؟ والعامي لا يتصور أن يصح له مذهب، ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره، ولا يلزم أحدا قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة، بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره.

وعلى ذلك فالعامي مذهبه مذهب مفتيه، كما نص على ذلك العلماء، وعليه أن يتحرى في استفتائه فلا يستفتي إلا من غلب على ظنه أنه من أهل العلم والورع والتقوى، قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

(1)

.

‌الاتباع لا التقليد

العالم المجتهد الذي أحاط بالشريعة لا يجوز له التقليد، والعامي لا يتصور في حقِّه إلا أن يصير إلى قول من يفتيه، ولكن ما موقف طلبة العلم الذين ارتقوْا عن مرتبة العوام، ولم يبلغوا مرتبة العلماء المجتهدين، لا شك أن هؤلاء في مرتبة وسطى بين الفريقين السابقين، فهم فريق ثالث ليسوا بالمقلدين ولا المجتهدين، وقد أطلق عليهم اسم المتبعين؛ لأنهم يتابعون غيرهم بعد النظر في أدلتهم، قال ابن عبد البر:"قال أبو عبد الله بن خويزمنداد البصري المالكي: التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجّة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع ما ثبت عليه حجّة، وقال في موضع آخر من كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح، وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه، والاتباع في الدين مسوّغ، والتقليد ممنوع"

(2)

.

(1)

سورة النحل: 43.

(2)

جامع بيان العلم: 2/ 143.

ص: 215

‌الخاتمة

‌العلاقة بين المذاهب الفقهية

المذاهب الفقهية متقاربة فيما بينها تقاربا كبيرا، حتى أن الذي يطالع اجتهادات الفقهاء في مختلف مذاهبهم، ما انقرض اتباعه منها، وما لم ينقرضوا يجد كأنها مذهب واحد، والأدلة على عمق التقارب بينها أكثر من أن تحصر منها:

1 -

كل الأئمة الفقهاء أبناء مدرسة واحدة هي مدرسة أهل السنة والجماعة، عقيدتهم واحدة، وقد كانوا يدا واحدة في مواجهة الانحرافات العقائدية من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم.

2 -

الأصول الكبرى ذات الأثر الأهم والأكبر في الفقه لا اختلاف فيها عندهم، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، فكلهم يأخذ بها، ويقيم بناءه الفقهي على أساسها، ولا يعكر على هذا المأخذ اختلافهم في بعض الأصول الثانوية المنتزعة من الأصول الكبرى السابقة.

3 -

الأئمة أخذ بعضهم من بعض، وتتلمذ بعضهم على بعض، فتلامذة أبي حنيفة رحلوا إلى الإمام مالك وأخذوا عنه، فأبو يوسف رحل إلى الإمام مالك، واستفتاه وأخذ عنه، والإمام محمد صاحب أبي حنيفة روى عن الإمام مالك موطأه.

ورحل بعض تلامذة الإمام مالك منهم أسد بن الفرات إلى العراق وأخذ عن شيوخ الحنفية أمثال محمد بن الحسن، وأسد هذا كان هو السبب في تأليف المدونة كما مرَّ معنا عندما تحدثنا عن مؤلفات المالكية.

والإمام الشافعي تتلمذ على الإمام مالك، وفي رحلة الشافعي إلى العراق

ص: 217

حاور مشايخ الحنفية تلامذة الإمام أبي حنيفة، فاستفاد منهم واستفادوا منه، وأخذ الإمام أحمد عن الشافعي رحمه الله.

وإذا استعرضت سيرهم وجدت أن اللاحق منهم كان يثني على السابق ويدعو له، ويأخذ من علمه، ولا يعكر على هذا تخطئة بعضهم لبعض، فإن هذا يحدث في المذهب الواحد.

4 -

انتقل العلماء الأعلام من مذهب إلى مذهب من غير نكير من أهل العلم، إلا إذا كان انتقالهم لغرض دنيوي أو اتباعًا للهوى.

يقول الشعراني: "لم ينكر أكابر العلماء في كل عصر على من انتقل من مذهب إلى مذهب إلا من حيث ما يتبادر إلى الأذهان من توهم الطعن في ذلك الإمام الذي خرج من مذهبه لا غير، بدليل تقريرهم لذلك المنتقل على المذهب الذي انتقل إليه"

(1)

.

ونقل الشعراني عن القرافي قوله: "يجوز الانتقال من جميع المذاهب إلى بعضها بعضًا في كل ما لا ينتقض فيه حكم حاكم"

(2)

.

ونقل أيضًا عن السيوطي أنه سمّى عددًا من الذين انتقلوا من مذهب إلى مذهب من غير نكير عليهم من علماء العصر كانوا الذي فيه، منهم الشيخ عبد العزيز بن عمران الخزاعي كان من أكابر المالكية، فلما قدم الشافعي من بغداد تبعه، وقرأ عليه كتبه، ونشر علمه.

ومنهم إبراهيم بن خالد البغدادي كان حنفيًا فلما قدم الشافعي بغداد ترك مذهبه وتبعه، ومنهم أبو جعفر الطحاوي كان شافعيًا وتفقه على خاله المزني ثم تحول حنفيًا، ومنهم الخطيب البغدادي الحافظ كان حنبليًا، ثمَّ عمل شافعيًا، ومنهم ابن فارس صاحب كتاب المجمل في اللغة كان شافعيًا تبعًا لوالده، ثمَّ انتقل إلى مذهب مالك، وذكر عددًا من أهل العلم ممن تحول

(1)

الميزان الكبرى: 1/ 39.

(2)

المصدر السابق.

ص: 218

عن مذهبه غير من نقلته عنه

(1)

.

5 -

كان هدف الأئمة جميعًا من وراء ما قرروه من أحكام هو الوصول إلى حكم الله في مسائل الفقه المختلف فيها، وقد مرَّ معنا أن مصادرهم الأصلية في ذلك واحدة، ولذلك عندما كانوا يتحاورون ينزعون منزعًا متقاربًا فيما يعتمدون عليه ويأصلونه، فلم يكونوا كما هو الحال عند فرق النصارى أو الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة.

ولذلك فإننا عندما نرجع في المسألة الواحدة إلى اجتهاداتهم نرى أنه يقترب بعضها من بعض في الطريقة والمأخذ، بل وفي النتائج والأحكام، وقد يكون التقارب بين مذهبين أكثر من التقارب في المذهب الواحد أحيانًا.

6 -

هذا التوجه هو مقتضى ما وصى به الأئمة أتباعهم وتلاميذهم فكلهم طالب أتباعه باتباع الحق وإن خالف قوله، ولو قام الأئمة من قبورهم ورأوا ما عليه أتباعهم اليوم من مخالفتهم لما أمروا به لتبرؤوا من ذلك، ونهوا عنه.

7 -

هذا التوجه هو منهج العلماء الأعلام من أصحاب المذاهب الذين عرضوا أقوال علماء المذهب وأقوال فقهاء الأمصار جنبًا إلى جنب، مع ذكر أدلة كل قول، وذكر الراجح، ومن خير من سار هذا المسار ابن قدامة في كتابه المغني، والنووي في المجموع، وابن عبد البر في الاستذكار، وهو منهج الفقهاء الأعلام من أهل الحديث أمثال ابن حجر في كتابه القيم فتح الباري.

8 -

رأينا كثيرًا من الأعلام في كل مذهب من يترك مذهب إمامه في بعض المسائل، ويأخذ بقول غيره إذا تبين له رجحان دليله، وضعف دليل إمامه.

(1)

المصدر السابق.

ص: 219

‌ثمار هذا التوجه:

وهذا التوجه في عدّ المذاهب الفقهية مذهبا واحدا أو كالمذهب الواحد له فوائده وثماره الخيرة، ومن هذه الفوائد والثمار:

1 -

تحقيق الوحدة بين المسلمين، فالمسلمون كما قرر كتابهم ودعا إليه رسولهم أخوة فيما بينهم، والأئمة كما مرَّ معنا كانوا أخوة يدعو بعضهم لبعض، ويحب بعضهم بعضًا، وينصح بعضهم لبعض.

2 -

وهو ينزع فتيل العصبية المذهبية القائمة على تعظيم بعض أهل العلم، والغض من شأن الآخرين، وموالاة إمام والبحث عن عيوب الآخرين، والتعصب لأقوال وفتاوى واجتهادات واحد من الأئمة، ورمي أقوال غيره من الأئمة.

وقد أدى كل هذا إلى البغضاء والاقتتال والخصام بين أبناء الدين الواحد والملة الواحدة من أهل السنة والجماعة.

3 -

هذا النهج يقلل الخلاف ولا يزيده، ففي كل مذهب من الاختلاف بين أصحاب المذهب الواحد شيء كثير، وفي كل مذهب من الأقوال الشاذة والوجوه والاختيارات الضعيفة ما جعل المحققين في كل مذهب يضجون بالشكوى، وينادون بتصحيح المسار، وتقويم الأخطاء.

4 -

هذا النهج يعيد للفقه اتساعه وشموله، فقد رأينا كيف ضاق الحال بأتباع كل مذهب في بعض المسائل مما جعلهم يترخصون باتباع مذهب آخر لما يرونه من حرج في اتباع مذهبهم.

ليس هناك عالم واحد أحاط بالسنة كلها وبالدين كله، ومع أن كل مذهب فيه خير كثير، إلا أن اتباعه قد يجانبهم الصواب في بعض المسائل، فجعل فقه الأئمة فقهًا للكتاب والسنة يوسع الدائرة، ويجعل أنظار المجتهدين والعلماء تجول في تلك الدائرة الكبيرة والواسعة، وبذلك يرتفع كثير من الحرج والمعاناة التي قد يجدها بعض أصحاب كل مذهب في بعض الأحيان.

ص: 220

وهذا النهج يجعلنا أكثر قدرة على مواجهة المستجدات والمعضلات في أمر هذه الحياة التي أصبح التغير والتلون فيها هائلًا سريعًا في هذا العصر.

كما أن متابعة هذا النهج يلقم حجرًا أولئك الذين يزعمون أن الشريعة الإسلامية لا تسع الحياة، ولذلك اتجهوا إلى الأخذ من القوانين الغربية، إن الضيق الذي وجدوه في بعض الأحيان سببه الاقتصار على مذهب دون غيره، ولو جعل فقه الأئمة مجالًا للأخذ والنظر لما وجد هذا الإشكال.

5 -

ومن ثمار هذا المنهج الذي يقوم على إطلاق العقول من عقالها تربية الملكة الفقهية التي تتمرس بأقوال أهل العلم من مختلف المذاهب، وتتعرف إلى مناهج الاجتهاد، وكيف استدل العلماء بالنصوص على الأحكام، وكيف استخلص العلماء الأحكام من الأدلة، وهذا هو النهج الذي تربى الأئمة عليه، فتفتحت عقولهم، ونمت مداركهم، وتعمقت لديهم الملكة العلمية التي تفقه وتستوعب، وتحلل المسائل، وتحكم في ضوء النصوص.

6 -

وأخيرًا فإن هذا النهج يحيي دراسة النصوص من الكتاب والسنة والعمل بها، من غير إهدار لجهود الأئمة، بل يجعل فقه الأئمة جهودًا لفقه النصوص، لا نصوصًا تزاحم النصوص.

وفي ختام هذه الخاتمة أود التنبيه إلى أنني لا أقصد بما أدعو إليه في هذه الخاتمة إلى جعل كل الآراء الفقهية في مختلف المذاهب على حد سواء، فالاختيار من الأقوال والمذاهب محكوم بالدليل، فالقول الأقوى والأصح ما قوي دليله، أما التخير من الأقوال بمجرد الترجيح الشخصي فإنه مرفوض، وقد تحدثنا عن هذا فيما مضى من بحثنا هذا

(1)

، والله أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين.

(1)

وقد أطلت الكلام على هذه المسألة في كتابنا تاريخ الفقه الإسلامي: ص 216، وبينت هناك خطأ الذين ظنوا أن الآراء في المذاهب الفقهية بمثابة النصوص الشرعية يجوز لهم الانتقاء والاختيار منها عن غير نظر في الدليل، ولا معرفة الراجح المفتى به.

ص: 221

‌المراجع

- الأحكام في أصول الأحكام. لابن حزم. نشره زكريا علي. مطبعة العاصمة. القاهرة.

- الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام. لأحمد بن إدريس القرافي. تحقيق عبد الفتاح أبو غدة. مكتبة المطبوعات الإسلامية. حلب سوريا. 1387 هـ. 1967 م.

- إحياء علوم الدين للغزالي. مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني. القاهرة.

- الإسلام عقيدة وشريعة لشلتوت. دار الشروق. القاهرة. التاسعة. 1397 هـ 1977 م.

- الأسماء واللغات، للنووي. دار الكتب العلمية. بيروت.

- الأشباه والنظائر للسيوطي: جلال الدين عبد الرحمن. مكتبة مصطفى البابي الحلبي. القاهرة. 1378 هـ -1959 م.

- أضواء البيان لمحمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي. مطبعة المدنى. القاهرة. الأولى. 1378 هـ 1959 م.

- الاعتصام للشاطبي. المكتبة التجارية الكبرى. القاهرة.

- أعلام الموقعين. دار الكتب الحديثة. القاهرة. 1389 هـ-1969 م.

- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم. دار المعرفة. بيروت.

- الإكمال في أسماء الرجال. للخطيب التبريزي. مطبوع في ذيل مشكاة المصابيح. المكتب الإسلامي، بيروت.

- الأم للشافعي. طبعة كتاب الشعب. 1388 هـ 1968 م.

- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد. للمرداوي. دار إحياء التراث. بيروت. الثانية. 1406 هـ 1983 م.

- البحر المحيط. بدر الدين بهاء الزركشي. تحقيق عبد القادر العاني. ود. عمر سليمان الأشقر. ود. عبد الستار أبو غدة. وزارة الأوقاف الكويتية. الأولى 1409 هـ.

- البداية والنهاية لابن كثير. مكتبة المعارف، بيروت. الثانية. 1394 هـ = 1974 م.

ص: 223

- البرهان في أصول الفقه. لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني. تحقيق الدكتور عبد العظيم الديب. طبع على نفقه الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني. الأولى. 1399 هـ.

- تاريخ ابن خلدون (المقدمة). مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني. بيروت. الطبعة الثانية. 1979 م.

- تاريخ الإسلام للذهبي: أحمد بن عثمان. دار الكتاب العربي. بيروت. الأولى. 1407 هـ 1987 م.

- تاريخ الفقه الإسلامي. للمؤلف. دار النفائس. عمان. الأردن.

- تاريخ بغداد لابن عساكر. مطبعة السعادة. 1931 م.

- التعريفات للجرجاني: علي بن محمد. مكتبة لبنان. بيروت 1985 م.

- جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير. تحقيق عبد القادر الأرناؤوط. نشرته مكتبة الحلواني وآخرون. 1389 هـ 1969 م.

- تذكرة الحفاظ. الذهبي. دار إحياء التراث العربي. بيروت. الرابعة.

- التمهيد للأسنوي. مؤسسة الرسالة. بيروت. الثانية. 1981 م.

- تيسير الاجتهاد للصنعاني. ضمن مجموعة الرسائل المنيرية.

- جامع بيان العلم. لابن عبد البر. المكتبة السلفية. المدينة المنورة. الثانية. 1388 هـ. 1968 م.

- حاشية ابن عابدين، مكتبة مصطفى البابي الحلبي. القاهرة. الثانية. 1386 هـ 1966 م.

- حاشية الدسوقي لمحمد عرفة الدسوقي على الشرح الكبير للدردير. دار إحياء الكتب العربية.

- حاشية الصاوي على الشرح الصغير. دار المعارف. مصر. 1393 هـ.

- الحاوي الكبير. للماوردي: أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب. تحقيق محمود مطرجي. دار الفكر. بيروت. الأولى 1414 هـ 1994 م.

- دراسات في مصادر الفقه المالكي. لميكلوس موراني. ترجمة د. سعيد بحيري وآخرون. دار الغرب الإسلامي. بيروت. الأولى. 1409 هـ 1988 م.

- الذخيرة لشهاب الدين أحمد بن إدريس الشهير بالقرافي. طبعة أصدرتها وزارة الأوقاف الكويتية للجزء الأول. الثانية. 1402 هـ 1982 م.

- الرسالة - للشافعي. دار الفكر - بيروت.

ص: 224

- روضة الطالبين للنووى. المكتب الإسلامي. بيروت. الأولى. 1384 هـ 1964 م.

- زغل العلم. الذهبي. مكتبة الصحوة الإسلامية. الكويت.

- سير أعلام النبلاء. للذهبي: محمد بن أحمد. مؤسسة الرسالة. بيروت. التاسعة. 1413 هـ 1993 م.

- شرح عقود رسم المفتي. لابن عابدين: محمد أمين أفندي. مطبوعة ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين. لا ذكر للناشر. ولا سنة النشر.

- الشرح الكبير لعبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة مطبوع مع المغني. دار الكتاب العربي. بيروت. 1403 هـ 1983 م.

- شرح الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير للفتوحي. الطبعة الأولى.

- شرح مختصر الروضة. لسليمان بن عبد القوي الطوفى. مؤسسة الرسالة. بيروت. الأولى. 1410 هـ 1990 م.

- صحة أصول عمل أهل المدينة. لابن تيمية: تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم. مكتبة المتنبي. القاهرة.

- طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي. المطبعة الحسينية. القاهرة.

- عمدة التحقيق. محمد سعيد الباني. المكتب الإسلامي. بيروت. الأولى. 1981 م.

- علم أصول الفقه. عبد الوهاب خلاف. دار القلم - الكويت. التاسعة. 1970 م.

- فتح الباري بشرح صحيح البخاري. لابن حجر العسقلاني. المكتبة السلفية. القاهرة.

- الفروع. لابن مفلح أبي عبد الله محمد. عالم الكتب. بيروت. الرابعة. 1405 هـ 1985 م.

- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي. المكتبة العلمية. المدينة المنورة. 1397 هـ 1977 م.

- القاموس المحيط. لليفروزآبادي، مؤسسة الرسالة. بيروت. الأولى. 1406 هـ. 1986 م.

- قواعد الأحكام. عز الدين بن عبد السلام. مكتبة الكليات الأزهرية. القاهرة.

- قواعد التحديث. القاسمي. دار إحياء الكتب العربية. القاهرة. 1968 م.

- القول المفيد للشوكاني. دار القلم. الكويت. 1396 هـ 1976 م.

- لسان العرب. لابن منظور. ترتيب يوسف خياط ونديم مرعشلي. دار لسان العرب. بيروت. الأولى.

ص: 225

- المؤمل للرد للأمر الأول. أبو شامه. مجموعة الرسائل المنيرية.

- المبدع في شرح المقنع. ابن مفلح: محمد بن عبد الله. المكتب الإسلامي. بيروت. 1394 هـ 1974 م.

- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. (جمع ابن قاسم) طبعته حكومة المملكة العربية السعودية. الأولى. 1381 هـ.

- المجموع للنووي. المكتبة السلفية. المدينة المنورة.

- المحرر في الفقه. ابن تيمية: مجد الدين عبد السلام بن عبد الله. دار الكتاب العربي. بيروت.

- المحصول في علم أصول الفقه للرازي. محمد بن عمر. مؤسسة الرسالة. بيروت. الثانية. 1412 هـ 1992 م.

- مختصر الطحاوي: محمد بن أحمد. تحقيق أبي الوفاء الأفغاني مطبعة دار الكتاب العربي. القاهرة. (1370 هـ).

- مختصر المزني (حاشية على كتاب الأم). طبعة كتاب الشعب. 1388 هـ 1968 م.

- مختصر كتاب المؤمل في الرد للأمر الأول. مطبوع ضمن مجموعة الرسائل المنيرية.

- المدخل. محمد مصطفى شلبي. مطبعة التأليف. مصر. الثانية.

- المدخل لمذهب أحمد لابن بدران. دار إحياء التراث العربي.

- مذكرة في أصول الفقه. لمحمد الأمين بن المختار الشنقيطي. المكتبة السلفية. المدينة المنورة.

- المستصفى للغزالي. المطبعة الأميرية. بولاق. القاهرة. الأولى. 1324 هـ.

- مسائل لا يعذر فيها بالجهل على مذهب مالك. لإبراهيم الجبرتي. دار الغرب الإسلامي. بيروت. 1406 هـ 1986 م

- المسودة. لآل تيمية. دار الكتاب العربي. بيروت.

- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير. لأحمد بن محمد المقري الفيومي. دار المعارف. مصر.

- المطلع على أبواب المقنع لمحمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي. المكتب الإسلامي. بيروت. 1401 هـ 1981 م.

- معالم السنن للخطابي: حمد بن محمد بن إبراهيم. مطبعة أنصار السنة المحمدية. 1367 هـ. 1948 م.

- المعجم الوسيط. لإبراهيم أنيس وآخرون. دار إحياء التراث العربي. الثانية.

ص: 226

- معنى قول المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي. للسبكي. مطبوع ضمن مجموعة الرسائل المنيرية.

- المغنى لابن قدامة. دار الكتاب العربي. بيروت. 1403 هـ 1983 م.

- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج. لمحمد الخطيب الشربيني. مكتبة مصطفى البابي الحلبي. القاهرة. 1377 هـ 1958 م.

- مفاتيح الفقه الحنبلي. د. سالم على الثقفي. الثانية. 1402 هـ 1982 م.

- مقدمة ابن خلدون. دار إحياء التراث العربي. بيروت.

- المقنع في فقه الإمام أحمد لابن قدامة. مكتبة الرياض الحديثة. الرياض. 1400 هـ 1980 م.

- مناهج الاجتهاد في الإسلام. لمحمد سلام مدكور. نشرته جامعة الكويت.

- الملل والنحل للشهرستاني. دار المعرفة للطباعة بيروت. الثانية. 1395 هـ = 1975 م.

- المنخول من تعليقات الأصول. للغزالي: أبي حامد محمد بن محمد بن محمد. تحقيق محمد حسن هيتو.

- الموافقات. للشاطبي. طبعة صبيح. القاهرة.

- موطأ مالك رواية محمد بن الحسن الشيباني. دار القلم. دمشق. 1412 هـ 1991 م.

- الميزان الكبرى. للشعراني: أبي المواهب عبد الوهاب بن أحمد. دار الفكر.

- النافع الكبير شرح الجامع الصغير. لأبي الحسنات عبد الحي اللكنوي. عالم الكتب. بيروت.

- نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للحافظ الزيلعي. نشره المجلس العلمي بالهند. الأولى. 1357 هـ 1938 م.

- الوسيط. للغزالي: أبي حامد محمد بن محمد بن محمد. تحقيق علي محيي الدين القره داغي. دار الاعتصام. القاهرة.

ص: 227