المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة الموسوعة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا، - المذهب الحنبلي دراسة في تاريخه وسماته - مقدمة

[عبد الله بن عبد المحسن التركي]

الفصل: ‌ ‌مقدمة الموسوعة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا،

‌مقدمة الموسوعة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد من الله على المؤمنين بإكمال الدين، وأتم به النعمة قال سبحانه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة/ 3).

وكمال الدين أن يبلغ تمامه وغاية ما أريد به من إصلاح الناس، وتعبيدهم لربهم الحق، إن في الإعتقاديات وما بأركان الإيمان، أو قي العبادات وما يتصل بأركان الإسلام، أو في العادات وما يتصل بإصلاح الأبدان، أو في المعاملات وما يتممها من الأخلاق والآداب الشرعية، في مختلف مجريات الحياة وتقلبات الأحوال.

وقد أنزل الله تبارك اسمه كتابه العزيز، ليكون الأصل الأصيل والمشرع الرَّوِيّ السلسبيل، لكل حكم من أحكام الدين، فقال جل من قائل:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل/89).

ص: 1

وأوكل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم مهمة تبليغه، وبيان معانيه المجملة، فلا جرم كانت السنة النبوية من الكتاب العزيز، بمنزلة الشرح والتفصيل، مع ما اختصت به من إثبات أحكام مبتدأة ليست منصوصة في الكتاب.

ولما ثبت بما لا يحتمل الشك، من عموم الشرع للأزمنة والبقاع والأحوال إلى يوم الدين، وكانت تصرفات الناس أفراداً وجموعاً، غير منحصرة لاختلافها وتجددها وتغيرها، جعل الله التشريع المنصوص في الكتاب والسنة، على وِزَانٍ يفي بحكم مستجدات الحياة، بحيث أجريت أحكامه مجرى التمثيل والتأصيل لما ليس بمنصوص، ليهتدي أولو العلم إلى حمل كل فرع على مثاله، ورده إلى أصله بضروب من العموم للمعاني، وهو ما اصطلح على تسميته بالقياس؛ بقسميه الخاص القائم على اعتبار علةٍ أو معهنى خاص ثبت في أصلٍ معينٍ، وطَرْدِ حكمه في فروعه؛ والقياس العامّ القائم على اعتبار معنى عام مقْصِدِي دلت عليه جملة من النصوص، واطردت فروع الشرع على رَعْيِه.

وهذه الصفة التي أسس عليها شرعنا الحنيف، صفة الشمول والإستيعاب لأفعال المكلفين واجتهاداً، أمكنت فقهاء الأمة من إيجاد فقه إسلامي شامل لمجريات الحياة وتقلبات أحوالها، وفق طرائق للبحث منضبطة، ومسالك للنظر والإستنباط مرسومة، تميز بين الرأي الشرعي الصادر عن فهم النصوص وإدراك لمعاني ما دلت عليه من الأحكام، وبين الرأي العادي المبني على مجرد التخمين، وهو الذي ورد عن السلف ذمُّ إعماله في الشرع.

ص: 2

وكان من هؤلاء الفقهاء من زكى علمهم، وتوسع نظرهم في الفروع العملية، فرويت عنهم آلاف المسائل مما أفتوا فيه، وتوفر لهم من الأصحاب ما لم يتوفر لغيرهم، فاعتنوا بتلك المسائل، فحفظوها وجمعوها ودونوها، وقرأوها على الطلاب في المجالس.

ثم جاء بعدهم من رتبها وهذبها وحررها وبسطها، وخرج عليها فروعاً كثيرة، واحتج لها من دلائل الكتاب والسنة والإجماع، وفقه الصحابة والتابعين، ومن جهة القياس ومعقول الأصول المقررة.

وهكذا نشأت المذاهب الفقهية المشهورة المعروفة، فاشتغلت بها الأمة، وتفقهت عليها أجيالها وبثت مسائلها في الدروس والطروس، وجرت عليها الأقضية في الأمصار، والفتوى فيما يعوض للناس في شؤون عباداتهم ومعاملاتهم.

وقد استوعبت هذه المذاهب قي مجموعها، عامة فقه السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الذين لم يكتب لفقههم من الإشتهار والتدوين ما كتب لأصحاب هذه المذاهب، كالثوري والأوزاعي وأبي ثور وابن شبرمة والليث بن سعد؛ رحمهم الله جميعاً وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيراً.

وكان الإمام الرباني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، المروزي ثم البغدادي، رحمه الله وأجزل مثوبته، أحدَ أئمة هذه المذاهب؛ برز فقهه في المسائل التي دونها عنه جماعة من أصحابه في بغداد، وجمعها وصنفها كتباً وأبواباً في ديوانه الجامع، أبو بكر أحمد بن هارون الخلال،

ص: 3

ثم غلامُه أبو بكر عبد العزيز في كتابيه الشافي وزاد المسافر، ثم أبو عبد الله الحسن بن حامد في كتابه الجامع.

ثم انتشر هذا المذهب في العديد من الأمصار والأقطار الإسلامية، بعد القرن الخامس، لا سيما في بلاد الشام ومصر، ثم في نجد في أواسط القرن العاشر.

وبرز فيه أعلام طبقت شهرتهم الآفاق، وانتفع الناس بعلمهم على مسترسل الأزمان، كالقاضي أبي يعلى الفراء وأصحابه البغداديين، وأبي محمد عبد الله ابن قدامة المقدسي ثم الدمشقي الصالحي، صاحب المغني الكتاب العجاب الذي شرح فيه الخرقي، وشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، وتلميذه شمس الدين ابن قيم الجوزية، والحافظ ابن رجب الحنبلى البغدادي، وغيرهم كثير. فخدموا هذا المذهب خدمة جليلة في مختلف أدواره من النشأة إلى النمو إلى الإنتشار إلى الإستقرار، في مختلف الوجوه التي خُدم فيها الفقه الإسلامي عموماً.

فمهدوا أصوله وحرروها غاية التحرير، وحققوا ما فيه من اختلاف الروايات والأقوال، وخرَّجوا كثيراً من الفروع على نصوص إمامه أو أصوله، واحتجوا لكل مسألة من النصوص والقياس في المصنفات المذهبية والخلافية، وقعَّدوا قواعده وما يلحق بها من الأشباه والنظائر والفروق، وجردوا مفرداته التى انفرد فيها عن الذاهب الأخرى، وصنفوا في أحاديث الأحكام وفي مسائل الخلاف.

ص: 4

فرحم الله سابقهم ولاحقهم، وأجزل لهم المثوبة بما خلفوا لن بعدهم من علم ينتفع به، وأي علم أنفع للناس من الفقه في الدين؟

ولما مَنَّ الله تعالى على المملكة العربية السعودية، بلم شعثها، وعصمة أمرها على إمام واحد، وراية واحدة راية الكتاب والسنة، ثاب الناس إلى الدين، وازدهرت العلوم الشرعية ونفقت سوقها، لإتصال القول بالعمل.

وكان علماؤها توارثوا هذا المذهب السني الجليل، منذ زمن بعيد، وأحبوه لحبهم إمامه الذي أجمع أهل السنة على إمامته، واستشرف السنة أو كاد، واعتمد في فقهه على فتاوى الصحابة، وقدم الأحاديث الضعيفة المنجبرة على القياس احتياطًا للنصوص ، ومبالغة في التسليم للمنقول المأثور، واعتبر المصالح الثابتة قي الشرع، أصلاً تنتهي إليه الأحكام وتدور عليه، وأعمل سد الذرائع إلى المحرمات لِمَا دل الدليل القطعي على اعتبارها.

لأجل هذه الأسباب عني بالفقه الحنبلي في هذه البلاد المباركة، تعلماً وتعليمًا، وإفتاء وقضاءً، وإخراجاً لكنوزه من دفائق التراث، وتيسيرها بين الناس من الطلاب والعلماء والباحثين، مصححة نصوصها على أصولها الخطية، مع ما يتممها من تفسير الغريب وتراجم الأعلام، وعزو الآيات والأحاديث والآثار، والإحالة على النقول، وصناعة الفهارس، وما سوى ذلك من الأعمال التي درج عليها الناس في تحقيق التراث.

ص: 5

وكان من فضل الله علي أن ضربت بسهم في هذه المهمة الشريفة، وأمسكت بطرف من هذه الفضيلة المنيفة، بما يسر الله تعالى من تحقيقه من الكتب.

وكان هذا الإهتمام مني بمذهب الإمام أحمد رحمه الله، أمرًا اقتضاه الواقع الفقهي لمملكتنا الحبيبة؛ إذ هو المذهب السائد فيها، فى التعليم والإفتاء والقضاء. ولهذا السبب اخترت دراسة أصوله موضوعًا لرسالة الدكتوراه، وتبين لي بجلاء مكانته السامقة في عدة مجالات، وقد أوضحت ذلك بشيء من التفصيل في مقدمة "أصول مذهب الإمام أحمد" ومقدمة تحقيق "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد" لابن بدران، فاتجه العزم لخدمته وإخراج ما تيسر من كتبه. وكان تشجيع ولاة الأمر والأمراء في المملكة وبخاصة الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله عونًا لي بعد الله سبحانه وتعالى، على نشرها وتوزيعها على طلاب العلم، احتذاء للسنة الحسنة التي سنها في ذلك، الإمام المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود طيب الله ثراه.

ولما نفد ما طبع من تلك الكتب، وظهرت شدة الحاجة إليها، بتكاثر طلب طلاب العلم لها، رأيت إسعافهم بطلباتهم، في إخراج جملة منها في مجموع واحد سميته" موسوعة الفقه الحنبلي" ورجوت أن أتبعها ببقيتها، إن فسح الله تعالى في العمر وهيأ الأسباب.

وقد عرضت ذلك على صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام، فاستبشر بذلك -كما هو دأبه أدام الله

ص: 6

عليه سوابغ نعمه- ورحب أن يكون توزيعها على طلاب العلم، على نفقته الخاصة، حسبة لوجه الله وابتغاء لمرضاته، أجزل الله له المثوبة ومتعه بالصحة والعافية.

وكنت قد استدركت في بعض تلك الكتب، أشياء من التصويبات والإضافات، وبعضها أفاد بها بعض الإخوة، فسنح في الرغبة تلافيها ومراجعاتها في طبعة جديدة، غير أني وجدت أن ذلك يحتاج إلى وقت طويل، وحاجة الطلاب حاضوة ملحة، فرأيت أن أَرجئ النظر فيها إلى حينٍ، وعسى أن يجعله الله قريباً.

والله ولي التوفيق.

الدكتور

عبد الله بن عبد المحسن التركي

ص: 7