المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المشوق إلى القرآن   التدبر: تجربةٌ تخوضها، ونعيمٌ تتذوقه ومهما أخبروك عنه فلا - المشوق إلى القرآن

[عمرو الشرقاوي]

فهرس الكتاب

المشوق إلى القرآن

التدبر: تجربةٌ تخوضها، ونعيمٌ تتذوقه

ومهما أخبروك عنه فلا بد أن تحياه بنفسك!

عمرو الشرقاوي

ص: 1

• زيت القرآن برَّاقٌ قابل للاشتعال، فإن اشتعل = فالخير لك!

فقط: افرك الحجر، أو اقدح الكبريت.

• للقرآن أسرار .. لا تظهر إلا بطولِ المصاحبة!

{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}

• من لم يكابد حقائق القرآن لهيبًا = يحرِّق باطن الإثم من نفسه، فلا حظَّ له من نوره!

ص: 6

‌مقدِّمة الإصدار الثاني

الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبدهِ الكتاب، هدى وذكرى لأولي الألباب، وأوْدَعه من العجائب العجب العجاب، وجعله حاليًا بالأحرف السبعة وكمالِ الشرعة وفصل الخطاب، والصلاة والسلام على النبيِّ الأواب، مُبَلِّغِ الكتاب، وعلى الآل والأصحاب، صلاةً تدوم إلى يوم الحساب، ويكون لنا بها عند الله زلفى وحسنَ مئاب .. وبعد:

«المشوق إلى القرآن» عنوان كتابي الأول، وباكورة مشروع {وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ}

(1)

!

(1)

صدر من هذا المشروع عدة كتب بحمد الله تعالى، وأسأل الله أن يوفقني لإكمال هذا المشروع، وتقريب القرآن وعلومه للأمة كلها على كافة طبقاتها، وأن يتقبل هذا العمل، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وهذا بيان لما صدر في هذا المشروع:

1 -

المشوق إلى القرآن، طبع عدة طبعات بمركز تفكر للبحوث والدراسات، وهذا هو الإصدار الثاني منه.

2 -

الدليل إلى القرآن، وهو كتاب يسير في علوم القرآن على هيئة سؤال وجواب، وطبع عدة طبعات بالمكتبة العصرية، ومركز تفكر، وقد صدر منه الإصدار الثاني بحمد الله، ولي شرح مرئي عليه بموقع (إنه القرآن).

3 -

العناية بكتاب: النبأ العظيم، للشيخ العلامة د. محمد عبد الله دراز، وقد قدمتُ للكتاب بمقدمات متعددة، وطبع بمركز تفكر للبحوث والدراسات، والكتاب في بيان مصدرية القرآن، ودفع الشبهات عنها.

4 -

العناية بكتاب: دعوة الرسل، للشيخ محمد أحمد العدوي، وهو في قصص الأنبياء، وطبع بمركز تفكر للبحوث والدراسات.

5 -

الصحابة والقرابة في القرآن الكريم .. دراسة تحليلية موضوعية، وهو في التفسير الموضوعي، وطبع بمبرة الآل والأصحاب.

6 -

القرآن الكريم في حياة الآل والأصحاب، وفيه بيان لعلاقة الآل والأصحاب رضوان الله عليهم بالقرآن الكريم، وطبع بمبرة الآل والأصحاب.

وكلها منشورة، والحمد لله، بصيغةٍ مصورة على شبكة (الإنترنت).

ويطبع بإذن الله في هذا المشروع:

7 -

علم التفسير .. مقدمة أساسية، وهو مفاتيح أساسية للتعامل مع كتب التفسير، مع أبرز المسائل المفتاحية والتي تعتبر مدخلًا لهذا العلم، بمركز تراث.

8 -

علوم القرآن .. مقدمة أساسية، وهو مسائل مفتاحية، ومدخل لعلم علوم القرآن، مع شرح لكتاب: مواقع العلوم في مواقع النجوم للإمام البلقيني، بمركز تراث.

ص: 9

وها أنا أرجع إليه مرة أخرى، محبًّا له، ناظرًا فيه، بعد أن نفدت طبعاته السابقة، وإني لأرجو أن يتقبله الله الكريم بقبول حسن، وأن ينفعني به يوم القيامة، وأن يجعله دالًّا على القرآن، ومرغبًا للناس في الإقبال عليه.

لم أُرد أن يبقى الكتاب على حالته الأولى، فأحببت أن يظهرَ بحلةٍ جديدة، ومظهرٍ ينفي عنه بعض ما وقع في إصداره الأول من هنات، وأخطاء، وكثير منها بسببي ومني، والله يغفر الذنب، ويرفع الخطأ والنسيان.

حاولتُ في هذا الإصدار الثاني للكتاب أن أعمل بما وصلني من ملاحظاتٍ كريمة حول إصداره الأول، وكان من عملي:

أولًا: صححتُ الأخطاء التي وقعت في الكتاب قدر الطاقة، وحذفت بعض المكرر.

ص: 10

ثانيًا: عزوتُ ما كنت غفلت عن عزوه في الإصدار السابق من الأحاديث، والآثار، والنقولات، وغيرها.

ثالثًا: عدَّلتُ ما احتاج إلى تعديل في العبارت، وميزت النقول بعلامات تنصيص مما تركته في الطبعات السابقة.

رابعًا: زدتُّ بعض الهدايات واللطائف تحت عنون: «أفياء» ، وكنت قد أودعت بعضها في كتابي الآخر:«الدليل إلى القرآن» .

خامسًا: زدتُّ مقالًا في الكتاب، وهو بعنوان:«يا ليتني أعطيت القرآن عمري» ، وهو وإن لم يخرج عن محتوى المقالات المبثوثة في الكتاب، إلا أني رأيت إثباته لما أراه من فائدة التكرار لشريحة كبيرة من القراء.

سادسًا: لم أستطع التخلي عن النقلِ الكثيرِ الذي نقلته عن الشيخ الحبيب فريد الأنصاري رحمه الله، وكان هذا موضع مؤاخذة وعتاب من بعض الأحباب، وأنا أعلن أني أقبل العتاب في الرجل وكلامه، وأتمثل لهم بقول أبي ذؤيب

(1)

:

وعيرها

(2)

الواشون أني أحبها

وتلك شكاةٌ ظاهر عنك عارها

فإن أعتذر منها فإني مكذب

وإن تعتذر يردد عليها اعتذارها

لم أستطع اطراح ما نقلته عن الرجل، وعز عليَّ ذلك جدًّا، وهممت في مواضع أن أحذف النقل عنه، وكدت، ولم أفعل، والحمد لله أني لم أفعل، فرحمة الله علينا وعليه، وجزاه خير الجزاء وأوفاه، غير أني ميزت كلامه عن كلامي إما بالنص المباشر، وإما بجعله بين علامتي تنصيص.

(1)

ديوان الهذليين: (1/ 21).

(2)

ويروى: «وعيرني» .

ص: 11

سابعًا: (!)

(1)

هذه العلامة المظلومة تدعى علامة «التأثر» وهي مظلومةٌ بين العلامات، لأن الناس قصروا استعمالها على التعجب، وهي من أغنى العلامات، لأنها تتجاوب مع الحالات النفسية غير المحصورة، فتأمل!، وإلا فغضَّ الطرف، وأكمل مطالعتك.

وبعد:

هذا كتابي، حاولت أن أقيم ما فيه من عوج، فلينظر الناظر فيه بعين الرضا، فما هو إلا «مشوق» ، أراد صاحبه أن يبعث في نفسك دافعًا للإقبال على كتاب ربك سبحانه وبحمده، فإن انتفعت به، فالحمد لله، وهذا من توفيقه، وإن «أملَّك» ؛ فدعك منه، وأقبل أنت على كتاب الله محبًّا طالبًا للهدى والنور.

والله الصمد نسأله أن يوفقنا لفهم كتابه، وإحسان تلاوته ومحبته، وأن لا يسلبنا حلاوته والانتفاع به، وأن يجعله ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وأن يجعله شفيعًا لنا، إنه الصمد الكريم، البر الرحيم.

وكتبه

عمرو الشرقاوي

سلخ ذي الحجة من عام (1440) من الهجرة

وأعدت مراجعته في شهر ربيع الأول من عام (1443)

(1)

هالني استخدام هذه العلامة في الكتاب، والحق أنها استخدمت كثيرًا، قرابة (500) مرة! لكنها للتأثر، فأي لوم على من تأثر بكلام الله، أو تأثر بالحديث عن كتاب الله؟!

ص: 12

‌مقدِّمة الإصدار الأول

هذه أوراقٌ متناثرة كتبت في أزمان متباعدة، بعضها وليد بحث، والآخر وليد خاطرة، غايتها تشويق الأنام إلى كلام الملك العلام، كتاب الله المجيد ذي الذكر، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.

هذه رسالة إلى كل محب للكتاب ليزداد حبًّا، وإلى كل مبتعد ليزداد قربًا.

وما غرض هذا الكتاب إلا بعث الشوق في نفس القارئ ليقبل على كتاب الله تعالى، وقد ذكرتُ فيه من كلام أهل العلم، وحال السلف الكرام ما يبعث الهمة، ويقرب المسافة بيننا وبين الكتاب المحفوظ.

‌ونحن في هذا الزمان أحوج ما نكون لهذا القرآن،

إنَّ القرآن شفاءٌ لما في الصدور، شفاءٌ لما في الصدور من شهوات وشبهات، «ففيه من البيِّنات ما يزيل الحق من الباطل، فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك؛ بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه.

وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرة؛ ما يوجب صلاح القلب، فيرغب القلب فيما ينفعه، ويرغب عما يضره،

ص: 13

فيبقى القلب محبًّا للرشاد مبغضًا للغي، بعد أن كان مريدًا للغي مبغضًا للرشاد»

(1)

.

وإنَّ أحق ما توهب له الأعمار كتاب الله!

«وفي مَثَلٍ بليغ حق بليغ: أن نملة انطلقت في طريقها، عاقدةً عزيمتَها على حج بيت الله من أقصى الأرض! فقيل لها:(كيف تدركين الحج وإنما أنت نملة؟ إنَّك ستموتين قطعًا قبل الوصول!) قالت: (إذن أموت على تلك الطريق!).

وإن القرآن لهو بحق مشروع العمر، وبرنامج العبد في سيره إلى الله حتى يلقى الله، وما كان تنجيم القرآن

(2)

، وتصريف آياته على مدى ثلاث وعشرين سنةً؛ إلا خدمةً لهذا المقصد الرباني الحكيم!

إنَّ نور القرآن لا يمتد شعاعه إلى الآخرين؛ إلا باشتعال قلب حامل كلماته، وتوهجه بحقائقه الإيمانية الملتهبة!

فيا شباب الأمة وأشبالها، هذا كتاب الله ينادي، وهذه الأمة تستغيث!

فمن ذا يبادر لحمل الرسالة؟ من ذا يكون في طليعة السفراء الربانيين، الحاملين لرسالات هذا الدين، إلى جموع التائهين والمحتارين هنا وهناك؟

من يفتح صدره لنور القرآن، فيقدح به أشواقَ العلم بالله والمعرفة به؟ عساه ينال شرفَ الخدمة في صفوف الإغاثة القرآنية، والإنقاذ لملايين الغرقى في مستنقعات الشهوات والشبهات؟

من يمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدًا غير مرتعشة؛ فيبايعه على أخذ الكتاب بقوة؟ ويقبض على جمر هذا الإرث الدعوي العظيم: رسالات القرآن؟

(1)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية:(10/ 95)، بتصرف.

(2)

أي: نزوله مفرقًا، فقد كان القرآن ينزل طيلة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 14

من يقول: (أنا لها يا رسول الله!) فيقوم بحقها ويَفِي بعهدها؟ ثم ينخرط في مسلك بلاغات الوحي، سيرًا على أثر الأنبياء والصديقين:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39]. فهل من عَبْدٍ - حَقَّ عَبْدٍ لله - يجعل حياتَه وقفًا على دين الله، يتلقى كلمات الله، ويُبَلِّغُ رسالاتِه! عسى أن يتحقق بولاية الله؛ فيفتح الله له، وعلى يديه! {إِنَّ اللهَ بَالِغٌ أَمْرَهُ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]»

(1)

.

وفي ختام هذه المقدمة، أسأل الله عز وجل أن يتقبل هذا العمل بقبول حسن، وأن ينفع به، وأسأله أن يجزي كل من ساهم في إخراج هذا الكتاب على هذه الصورة خير الجزاء، وأن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور أبصارنا، وأن يرضى عنا، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

كتبه وجلًا، وحرره خجلًا

عمرو صبحي علي الشرقاوي

([email protected])

(@AmrAlsharqawi)

(1)

هذه رسالات القرآن، للشيخ الأستاذ: فريد الأنصاري، (17، 21، 22)، بتصرف.

ص: 15

‌وإنَّه لكتاب عزيز

كان الفضيل بن عياض شاطرًا

(1)

يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنَّه عشق جارية، فبينا هو يرتقي الجدران إليها، إذ سمع تاليًا يتلو:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِيْنَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوْبُهُم لذكر الله وما نزل من الحق}

[الحديد: 16]، فلما سمعها، قال: بلى يا رب، قد آن! فرجع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سابِلة

(2)

، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلًا على الطريق يقطع علينا.

قال: ففكرت، وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافوني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام

(3)

.

هذه قصة توبة بسبب آية من كتاب الله، وبداية لفتح علاقة جديدة مع القرآن امتدت مع الفضيل بن عياض حتى مات، بل وَوَرَّثَها ولدَه قتيل القرآن

(1)

أي: سارقًا.

(2)

أي: قوم يمرون من هذا الطريق.

(3)

شعب الإيمان، للبيهقي:(9/ 429)، سير أعلام النبلاء:(8/ 423).

ص: 19

علي بن الفضيل

(1)

!

* القرآن هو كلام الله الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز.

إنَّ القرآن يستمد مجده، وعلو شأنه ورفعته، من عظمة وجلال من تكلم به، وهو الله سبحانه وتعالى.

ولا يليق بنا أن نبتعد عن مصدر الهدى والمجد كتاب الله ذي الذكر، فلا بد أن نتصالح مع القرآن.

إننا حين نعلن هذا التصالح، ونسير في الطريق إليه، فنحن حقًّا نسير في طريق إعادة التوازن والسكينة إلى الروح التي تسكن الأجساد!، وهذا أول طريق الإصلاح.

* وأول طريق التصالح مع القرآن أن تتحايل على نفسك بالإكثار من تلاوة القرآن، تلاوة لا كالتلاوات السابقة، تلاوة لا تنتظر فيها موعدًا، تلاوة لا تنشغل فيها بغير القرآن، إنَّ القرآن كتاب عزيز لا بد أن تعطيه أنفس ما تملك من أوقات، فأقبل عليه وإياك أن تبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه!

ولا بد أن تتخير أوقات التلاوة، وأجلها وقت اجتماع القلب!

* إنَّ لحزب الليل، وترتيل الكتاب في وقت اجتماع القلب = لقصة أخرى، إنَّ مما نعانيه من هذه المادية الطاغية قلب حقائق الكون، إنَّ الليل ليل،

ص: 20

والنهار نهار، فلتخل أيها السالك بكتاب ربك في ظلمة الليل، ولتقرأ ما تحفظه، ولتثوِّر القرآن، لتكن من الأمة القائمة التي تتلو كتاب ربها آناء الليل، فتسجد لمن هذا الكلام كلامه، فتقترب!.

* وثاني الطرق للتصالح: فهم القرآن، إنَّ الإنسان لن يلتذ بكلام لا يفهم معانيه، ولذا حث الله تعالى على تفهم القرآن، وإدراك حقائقه، ولا شك أن القلوب الحية تجري في مضمار المعاني القرآنية .. والقلوب المكبلة بالخطايا ما زالت تزحف في الخطوط الأولى!

ولكن .. لا تيأس.

مهما استمعتَ إلى القرآن أو قرأتَه فأنتَ آخذ في الاهتداءِ بتنقية المحل، وتبديد ظلمته واستبدال النور به، وتخليته من الران الذي أكسبتَه إياه بنفسك!

حتى إذا نقَّيتَ المحل وطهَّرتَه؛ كان الاهتداء بالقرآن بزيادة نور القلب، فيحصل التلذذ التام بحصول النور التام، ويحصل الاهتداء التام بعد زوال أثر المعصية زوالًا تامًّا!

لكنَّ أكثر الناس لا يعي أنَّه بحاجة إلى مجاهدة طويلة وصبر حتى يزيل أثر الغفلة والذنب من قلبه، ثم يستمتع بالقرآن والصلاة!

والفقيه حقًّا من يعي ذلك، ثم يجاهد نفسه لإصلاح المحل، وتنقيته، مهما طال به الزمان.

فاحرص أن تفقه القرآن، ولو عبر كتاب مختصر من كتب التفسير، لتكون من أولي الألباب.

* ومن طرق التصالح مع القرآن أن تعقد مع من تحب مجالس المدارسة، تلك المجالس التي يجلس فيها المتدارسون لينهلوا من فيض النور الذي يتلى في

ص: 21

المكان، «

وما اجتمع قوم في بيتٍ من بيوتِ الله، يتلون كتابَ الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده

»

(1)

.

وفي هذه المجالس تظهر حقائق القرآن، ومن لم يكابد حقائق القرآن لهيبًا يحرِّق باطن الإثم من نفسه، فلا حظَّ له من نوره!

* إننا نحتاج إلى قوم يستجيبون لنداء الله، ويسلكون مسلك رسول الله، فيدخلوا في ابتلاءات القرآن المجيد؛ تخلقًا بأخلاقه، وتحققًا بمنهاجه، وتلقيًا لرسالاته، ثم بلاغها إلى سواد الأمة عبر مجالس القرآن ومدارساته، تدبرًا وتفكرًا!

فلنبدأ صحبة جديدة مع القرآن عسى أن نكون من أهله الذين هم أهل الله وخاصته.

* مثل!

«إنَّ أهم فصل في تعريف القرآن المجيد هو أنَّه: (كلام الله رب العالمين!).

وما كان لكلام الحي الذي لا يموت أن يبلى أو يموت! ولكن الذي يموت هو شعورنا نحن! والذي يبلى هو إيماننا نحن!

أما الوحي فهو عين الحياة!

وحقيقة (الوحي) هي أول صفة يجب أن نتلقى بها القرآن الكريم، وهي أهم جوهر يجب أن ننظر من خلاله إلى كلماته؛ بما هي كلمات الله رب العالمين!

(1)

رواه مسلم: (2699).

ص: 22

ذلك أن كلام الله لا يتنزل على الرسل إلا وحيًا ..

قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51].

وهذا شيء مهم جدًّا! فكون القرآن (وَحْيًا) هو المعراج الرئيس الذي به يرتقي القارئ له إلى سماء القرآنية!

إنَّه المصطلح المفتاح الذي به يكتشف طبيعة القرآن، ويبصر نوره، ويتلقى حقائقه الإيمانية ورسالاته الربانية، ويشاهد شلالات الجمال والجلال، حية متدفقة من منابع القرآن!

إنَّ كون القرآن (وَحْيًا) ليس معنى تاريخيًّا فحسب؛ بل هو معنى مصاحب لطبيعته أبدًا! بمعنى أن صلة القرآن بالسماء هي صلة أبدية .. !

إنَّ المشكلة هي أنَّنا عندما نقرأ القرآن نربط الوحي فيه بذلك الماضي الذي كان! بينما الوحي نور حاضرٌ، وروح حي، يتدفق الآن في كل آيات القرآن، وينبع من تحت كل كلماته، شلالاتٍ من كوثر ثَجَّاجٍ!

لقد قُبِضَ رسولُ الله فانقطع الوحي التاريخي، أي انقطع فعل التنزيل الذي كان في الزمان والمكان، بواسطة الملاك جبريل عليه السلام، ولكن بقي الوحي القرآني، أو الوحي/ القرآن! والوحي هنا صفة اسمية من أسماء القرآن المجيد، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء: 45] وقال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4].

وإنما سمي القرآن (وَحْيًا) لأنه نزل كذلك، قال تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} {الأنعام: 19].

ص: 23

فالوحي - كما ترى - له دلالتان: الوحي الحَدَثُ، أي النزول الخفي من السماء، وهو سبب النبوة، وهو الذي انقطع.

والوحي الصفة، وهو لا ينقطع أبدًا، وعليه سمي هذا القرآن المجيد (وَحْيًا).

وقد يقول قائل هذه حقائق بَدَهِيَّةٌ فَلِمَ العَنَاءُ؟ أقول: نعم؛ ولكننا ننساها فنضل الطريق إلى القرآن! ..

وإنَّما مشكلة أجيالنا المعاصرة أنها أضاعت بَدَهِيَّاتِهَا! حتى صرنا في حاجة إلى إعادة تقرير معنى (الدين) نفسه!

نعم! إنَّ تَلَقِّي القرآن بوصفه (وَحْيًا) هو المفتاح الأساس لاكتشاف كنوزه الروحية، والتخلق بحقائقه الإيمانية العظمى!

النور .. تلك هي طبيعة الوحي وصِبْغَتُهُ، وصفته الثابتة للقرآن، حقيقة جوهرية لا تنفك عنه .. والنور روحٌ، لكنه روحٌ يسري في كلمات القرآن بخفاء، وإنَّما المؤمنون وحدهم يبصرون جداوله الرقراقة، وهي تتدفق بالجمال والجلال!

ولكن كيف يكون هذا؟

لنعد إلى مثال النجم المذنَّب! .. إنَّ ذلك النَّيْزَكَ الناري الواقع من السماء إلى الأرض، ما يزال يحتفظ بأسرار العالم الخارجي الذي قَدِمَ منه!

إنَّه فِهْرِسْتٌ مكنون، لو تدبرته لوجدته يكتنز خريطةَ الكون كله! ويحتفظ من الأسرار ما عجزت عن إدراكه أحدث مراصد الفلك، وأعقد معادلات الرياضيات، وأحدث نظريات الفيزياء! .. إنَّه لم يفقد حرارته ولا طاقته قط!

وإنما حُجِبَ لهيبُه رحمةً بالناس، وتيسيرًا لهم، وتشجيعًا للسائرين في الظلمات على حمل قنديله الوهاج، والقبض عليه بأصابع غير مرتعشة، بل على احتضانه وضمه إلى القلب، نورًا متوهجًا بين الجوانح!

ص: 24

إنَّ مَثَلَ القرآن ومَثَلَ الناس في هذا الزمان، هو كثلاثة مسافرين تَاهُوا في الصحراء بليل مظلم! صحارى وظلمات لا أول لها ولا آخر .. !

فبينما هم كذلك إذ شاهدوا في السماء نجمًا مُذَنَّبًا لَاهِبًا، لم يزل يخرق ظلمات الأفق بنوره العظيم، حتى ارتطم بالأرض!

فافترقوا ثلاثتهم إزاءه على ثلاثة مواقف:

فأما أحدهما: فلم يُعِرْ لتلك الظاهرة اهتمامًا، بل رآها مجرد حركة من حركات الطبيعة العشوائية!

وأما الآخران: فقد هرعا إلى موقع النَّيْزَكِ فالتقطا أحجاره المتناثرة هنا وهناك .. وكانا في تعاملهما مع تلك الأحجار الكريمة على مذهبين:

فأما أحدهما: فقد أُعْجِبَ بالحجر؛ لِمَا وجد فيه من جمال وألوان ذات بريق، وقال في نفسه:

لعله يستأنس به في وحشة هذه الطريق المظلمة، ثم دسه في جرابه وانتهى الأمر!

وأما الآخر: فقد انبهر كصديقه بجمال الحجر الغريب! وجعل يقلبه في يده، ويقول في نفسه: لا بد أن يكون هذا المعدن النفيس القادم من عالم الغيب يحمل سِرًّا! لا يجوز أن يكون وقوعه على الأرض بهذه الصورة الرهيبة عبثًا! كلاَّ كلاَّ! لا بد أن في الأمر حكمةً ما! ثم جعل يفرك حجرًا منه بحجر، حتى تطاير من بين معادنه الشَّرَر .. ! وانبهر الرجل لذلك؛ فازداد فركًا للحجر، فازداد بذلك تَوَهُّجُ الشَّرَرِ ..

وجعلت حرارة معدنه تشتد شيئًا فشيئًا؛ حتى وجد ألم ذلك بين كفيه! بل جعلت الحرارة الشديدة تسري بكل أطراف جسمه، وجعل الألم يعتصر

ص: 25

قلبَه، ويرفع من وتيرة نبضه .. ! لكنه صبر وصابر، فقد كان قلبه - رغم الإحساس بالألم والمعاناة - يشعر بسعادة غامرة، ولذة روحية لا توصف! .. وما هي إلا لحظات حتى تحول الحجر الكريم بين يديه إلى مشكاة من نور عظيم!

ثم امتد النور منها إلى ذاته، حتى صار كل جسمه سَبِيكَةً من نور، وكأنه ثريا حطت سُرُجَهَا ومصابيحَها على الأرض! وجعل شعاع النور يفيض من قلبه الملتهب فيعلو في الفضاء، ويعلو، ثم يعلو، حتى اتصل بالسماء! ..

كان الرجل يتتبع ببصره المبهور حبل النور المتصاعد من ذاته نحو السماء، حتى إذا اتصل بالأفق الأعلى تراءت له خارطة الطريق في الصحراء! واضحة جلية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك! ووقع في قلبه من الفرح الشديد ما جعله يصرخ وينادي صاحبيه معًا: أخويَّ العزيزين! .. هَلُمَّا إِليَّ! .. إِليَّ! لقد وجدت خارطة الطريق! .. لقد من الله علينا بالفرج! .. أخويَّ العزيزين! .. اُنْظُرَا اُنْظُرَا! .. هذا مسلك الخروج من الظلمات إلى النور! شَاهِدُوا شُعَاعَ النورِ المتدفق من السماء ..

إنه يشير بوضوح إلى قبلة النجاة! .. فالنجاةَ النجاةَ!

أما الذي احتفظ بقطعة من الحجر في جرابه فلم يتردد في اتباع صاحبه والاقتداء بهديه؛ لأنه كان يؤمن بأن لهذا المعدن الكريم سِرًّا!

ولقد أبصر شعاعه ببصيرة صاحبه، لا ببصيرة نفسه!

وأما الأوَّل الذي لم ير في النجم الواقع على الأرض شيئًا ذا بال؛ فإنه رغم نداء صاحبه له لم يبصر شيئًا من أمر الشعاع المتدفق بالهدى! لقد كان محجوبًا باعتقاده الفاسد، فلم تَعْكِسْ مِرْآةُ قلبِه الصَّدِئَةُ نورًا! ولذلك لم يصدق من

ص: 26

نداء صاحب النور شيئًا من كلامه، بل اتهمه بالجنون والهذيان! ومضى وحده يخبط في الصحراء، ضاربًا في تيه الظلمات!

{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ!} [النور: 40].

ثم انطلق الرجلان المهتديان يسيران في طريق النور .. وإنما هما تابع ومتبوع، فالمتبوع داعية يرى بنور الله .. ويسير على بصيرة من ربه؛ بما كابد من نار الحجر وشاهد من نوره! والثاني مؤمن بالنور مصدق بدعوة صاحبه، يسير على خطاه وهديه ..

ولكنه يكابد في سيره عثرات من حين لآخر وهَنَاتٍ؛ وذلك بسبب ما يلقي إليه الشيطان من وساوس ومخاوف!

وليس لديه ما يدفع به كيد الشيطان إلا ما يتلقى عن صاحبه!

وبينما هما كذلك يسيران مطمئنين في طريقهما، إذ سأل الرجلُ التابعُ صاحبَه المتبوع فقال:

أناشدُك الله أن تخبرني كيف اكتشفت سر النور في هذا الحجر الكريم!

لكنَّ صاحب النور وجد أن اللغة عاجزة عن بيان حقيقة النور لصاحبه، فما كان منه إلا أن دس قطعة من الحجر الذي كان بين يديه في كف السائل؛ فصرخ الرجل من شدة حر الحجر الكريم والتهابه! وجعل يقلبه بين يديه ثم ألقاه بسرعة في كف صاحبه! لكن صاحب النور قبض عليه بيد ثابتة مطمئنة! فعجب منه رفيقه وقال: إنما أنت قابض على الجمر!

قال: نعم، هو كذلك! إنَّه القبض على الجمر! لكن لذة الروح بما يشاهد القلب من نور، وبما يجد من سعادة غامرة؛ ترفع عن الجسد الشعور بالألم،

ص: 27

وتمنع حدوث الاحتراق! وإنَّ نار الشوق والإيمان لهي أقوى ألف مرة ومرة من نار الكفر والفسوق والعصيان!

ولو وقعت الأولى على الثانية؛ لجعلتها سلامًا وأمانًا على قلب العبد المؤمن!

{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 68 - 70].

نعم يا رفيقي في طريق النور! إنَّ مكابدة القرآن في زمان الفتن، والصبر على جمره اللاَّهِبِ في ظلمات المحن؛ تلقيًّا، وتزكيةً، وتدارسًا، وسيرًا به إلى الله في خلوات الليل؛ هو وحده الكفيل بإشعال مشكاته، واكتشاف أسرار وحيه، والارتواء من جداول روحه، والتطهر بشلال نوره .. النور المتدفق بالحياة على قلوب المحبين، فيضًا ربانيًّا نازلًا من هناك، من عند الرحمن، الملك الكريم الوهاب!

فتدبر يا صاح هذا المشهد القرآني الجليل! في بيان حقيقة تَلَقِّي محمد صلى الله عليه وسلم للوحي عن الملَك العظيم جبريل عليه السلام، حيث تلقَّى عنه ما تلقَّى من قرآن كريم، وحيًا من الله رب العرش العظيم، وشاهدَ ما شاهدَ خِلالَ ذلك من حقائق إيمانية، ومنازل روحانية، ضاربة في عمق الغيب الأعلى!

{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى* وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى* وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 1 - 18].

ص: 28

ذلك هو القرآن الوحي! إنه حجر كريم، بل إنه نجم عظيم وقع على الأرض! ولم يزل معدنه النفيس يشتعل بين يدي كل من فركه بقلبه، وكابده بروحه، تخلقًا وتحققًا! حتى يرتفع شعاعُه عاليًا، عاليًا في السماء، دالًّا على مصدره وأصله، هناك بموقعه الأعلى في مقام اللوح المحفوظ! ومشيرًا مِنْ عَلُ ببرقه العظيم إلى باب الخروج .. ! فهنيئًا لمن تمسك بحبله، واتصل قلبُه بتياره، وتزود من رقراق أسراره، ثم مشى على الأرض في أمان أنواره!

نعم! ذلك هو القرآن الوحي، الذي يصل قارئَه وَحْيًا بملأ السماء مباشرةً .. من أول كلمة يقرؤها! فإذا به يطل على عالم الشهادة من شرفات عالم الغيب! بصائر قرآنية واضحة ومشاهدات لا يضام في حقائقها شيئًا! بصائر ومشاهدات لا تلبيس فيها ولا تدليس، ولا خرافة ولا تخرصات! وإنما هو نور الفرقان! قال جل جلاله:{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104].

وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

نعم! ذلك هو القرآن الوحي! .. فمن يفرك جمره؟ ومن يقتبس من حر آياته نورَه؟ فعسى أن يترقى في معراجه إلى مقام الروح الأعلى! وعساه يكون بذلك من المبصرين؛ فيشاهد خارطة الطريق .. !

أيها القابضون على الجمر .. !

أيها المراقبون لنيزك السماء .. !

إنه وَحْيٌ .. فَتَعَرَّضُوا لَهُ!

ص: 29

(1)

هذه رسالات القرآن، للأستاذ الشيخ: فريد الأنصاري، (47 - 56)، وهو كتاب نفيس على صغر حجمه.

ص: 30

«وبعد فالقرآنُ نورٌ مشرق

حاملُه مسددٌ موفق

وجاء عن سيدنا محمد

ذي الفضل والفخر الرسولِ المرشدِ

في فضلِ حفَّاظ القران المهرَة

أنَّهم مع الكرام السفرة

لأنَّه في صحفٍ مطهرة

وهي بأيدهم كما قد ذكره

فالحافظُ المتقنُ قد ساوى الملَك

فاستعمل الجدَّ فمن جدَّ مَلَك»

السخاوي

[هداية المرتاب]

ص: 31

‌مقدمات أساسية في تاريخ القرآن العزيز

وإن كتابَ الله أوثقُ شافعٍ .. وأغنى غناء واهبًا متفضلا

وخيرُ جليسٍ لا يملُّ حديثُه .. وتردادُه يزدادُ فيه تجملا

لا يخفى على القارئ الكريم ما لتاريخ القرآن المجيد من أهمية كبرى تتمثل في تثبيت المؤمن على إيمانه، وردِّ الشاكِّ عن شكِّه، ولن أطيل في هذه المقدمة، لأدخل إلى أصل الموضوع، وهو عبارة عن مقدمات وصفية لتاريخ القرآن المجيد، هدفها كسر قشرة عدم التصور لمراحل نقل القرآن المجيد، إلى عصر استقرار القراءات

(1)

.

‌المقدمة الأولى: تعريف القرآن

القرآن هو: «كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، المتعبد بتلاوته، المعجز بأقصر سورة منه» .

(1)

كتبت مقدمة في علوم القرآن، وطبعت باسم:(الدليل إلى القرآن)، وفيه خلاصات لأهم الأسئلة الشائعة حول القرآن وعلومه، والحمد لله رب العالمين، وهذه المسائل مذكورة بأدلتها، وتفاصيلها في كتابي:(شرح مواقع العلوم، للإمام البلقيني).

ص: 33

ومما ينبغي الانتباه إليه في تعريف القرآن، أنَّه قد زيد فيه عبر التاريخ ما زيد، فلم يكن الصدر الأول بحاجة في تعريف القرآن بأنه غير مخلوق - مثلًا -، إذ لم يكن هذا الاعتقاد قد ظهر بعد، فلما ظهر زِيد في التعريف، ولا حرج فيه.

وهناك فروق متعددة بين القرآن وغيره من الكتب، ومنها:

1 -

أن الله تعالى قد تكفل بحفظ القرآن بخلاف غيره من الكتب، قال تعالى في شأن القرآن:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، أما غيره من الكتب فكما قال الله سبحانه وتعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللّهِ} [المائدة: 44].

لذا فإن القرآن المجيد لا يتطرق إليه التحريف اللفظي، أما التحريف المعنوي (تحريف المعاني) فقد وقع.

2 -

تيسير حفظه وتلاوته، بخلاف غيره من الكتب السابقة.

كما قال سبحانه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ 49} [العنكبوت: 49]، قال ابن كثير: «هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق، أمرًا ونهيًا وخبرًا، يحفظه العلماء، يسره الله عليهم حفظًا وتلاوةً وتفسيرًا، كما قال تعالى:{ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17]}

(1)

.

(1)

تفسير ابن كثير: (6/ 286).

ص: 34

‌المقدمة الثانية: القرآن الكريم في العهد المكي

كان أول ما نزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم خمس آيات من أول سورة العلق، ثم فتر الوحي، ونزلت أوائل سورة المدثر، وتتابع نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم فيما عُرف بعدُ بالقرآن المكي، وهو ما نزل قبل الهجرة.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه القرآن في مكة، وكان بعضهم يكتب القرآن.

‌المقدمة الثالثة: القرآن الكريم في العهد المدني

لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأقام المسجد، كانت تلاوة القرآن من الأمور المشهورة المنتشرة، وهناك مظاهر كثيرة للاعتناء النبوي بإيصال القرآن إلى الصحابة، ومن ذلك:

1 -

إسماعهم القرآن في الصلاة، والخطب، بل إنَّ بعضهم أخذوا بعض السور من كثرة ترداد النبي صلى الله عليه وسلم لها في الجمعة كسورة (ق والقرآن المجيد)

(1)

.

2 -

ترتيب الأجر على تلاوة القرآن عامة، وبعض السور خاصة، كالزهراوين

(2)

.

ص: 35

3 -

الأخذ الخاص على النبي صلى الله عليه وسلم، كقراءة ابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهما عليه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو المرجع في الاختلاف، لذا لم يكن ثم خلاف في القرآن، بل لما حصل خلاف في الأحرف، زال بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك آثار مشهورة في هذا الموضوع.

4 -

وظهرت آثار هذه العناية على الصحابة، فكان ابن مسعود، يقول في بني إسرائيل

(1)

، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء:«إنهنَّ من العِتَاق الأُوَل، وهنَّ من تِلادي»

(2)

، أي: من محفوظي القديم.

بل ظهرت طبقة خاصة سمُّوا فيما بعد بالقراء، وهم الذين استحرَّ

(3)

بهم القتل في اليمامة، فجمع الصِّدِّيقُ القرآن.

وفي هذه الفترة ظهرت طبقة كتاب الوحي، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل شيء من القرآن دعا كاتبًا من كتاب الوحي فكتب له.

ومن كتاب الوحي: (عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان) رضي الله عنهم.

وكان الصحابة يكتبون القرآن في الأدوات المتاحة لهم، كاللخاف، والرقاع، والأقتاب، والأكتاف

(4)

.

(1)

اسم من أسماء سورة: الإسراء.

(2)

رواه البخاري: (4994).

(3)

أي: اشتد واحتدم.

(4)

كلها من أدوات الكتابة الشائعة في ذلك العصر.

ص: 36

وخلاصة القول أنَّ تلك الفترة تميزت بالآتي:

1 -

أنَّ القرآن كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

2 -

أنَّه كان مفرقًا في عدد من الأدوات.

3 -

أنَّ الحاجة لم تدع إلى جمعه في مصحف واحد، سيما مع وجود زيادة، ووقوع نسخ، ونحو ذلك.

‌المقدمة الرابعة: القرآن في عهد الصِّدِّيق رضي الله عنه

- روى البخاري قصة جمع القرآن في عهد الصِّدِّيق رضي الله عنه، والسبب الذي دعا إليه: أن القتل استحر بالقراء يوم اليمامة، وخُشي أن يذهب كثير من القرآن

(1)

.

- فأشار عمر على أبي بكر رضي الله عنهما بجمع القرآن، وعرض أبو بكر الفكرة على زيد الذي وافق عليها بعد تردد.

- وقد كان زيد شابًّا، عاقلًا، وكان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الصفات أهلته للمهمة.

- فتتبع زيد القرآن يجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وغيرها، وصدور الرجال، حتى تم الأمر على مرأى من الصحابة ومسمع على أدق وجوه البحث والتحري، وأسلم أصول التثبت العلمي.

- ولم يُستفد مما جمعه الصديق رضي الله عنه استفادة مباشرة في عهده، وعهد عمر رضي الله عنهما، إذ القصد من الجمع حفظ القرآن، والأصل في التلقي المشافهة والأخذ من صدور الرجال.

(1)

رواه البخاري: (4679).

ص: 37

وتمت الاستفادة منه في عهد عثمان رضي الله عنه في جمعه للقرآن.

- ولم يلزم الصديق ولا الفاروق أحدًا بما جمع، بل كان الصحابة يقرؤون كما أقرأهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك عدة آثار تدل على هذا الأصل.

‌المقدمة الخامسة: القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه

- حصل اختلاف مَا حول القرآن في عصر عثمان رضي الله عنه في القرآن، ففزع حذيفة إلى عثمان فأخبره الخبر، ومما يظهر أن الاختلاف كان في المرسوم، وأن هؤلاء الذين دخلوا حديثًا في الإسلام انطلقوا من المرسوم لا من المحفوظ!.

- فأرسل عثمان إلى حفصة بنت عمر رضي الله عنهم لترسل له مصحف أبي بكر لينسخه.

- والظاهر من النصوص أن مصحف عثمان كان موافقًا لمصحف أبي بكر في الترتيب وما إلى ذلك خلافًا لمن زعم غيره، ولذا فإنَّ مصحف أبي بكر رضي الله عنه لم يحرق إذ لا مخالفة بينه وبين مصحف عثمان.

- وانتدب لذلك العمل، زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقيل: كان معهم غيرهم من الصحابة.

وطلب إليهم أن يثبتوا لسان قريش إذا اختلفوا في الرسم.

- وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.

- ولا يعلم على اليقين عدد المصاحف التي نسخها عثمان رضي الله عنه، وإن كان الأكثر ورأي الجمهور على كونها ستة.

ص: 38

تنبيهات:

1 -

عمل عثمان رضي الله عنه لا يتعلق بالمقروء، وإنما يتعلق بالمرسوم، فانتبه إلى هذه الفائدة، فإنها تحل لك مغاليق كثيرة!

2 -

القول بأن عثمان رضي الله عنه أخلى المصاحف من النقط لتحتمل القراءات، قول غير صحيح، لأن النقط لم يكن مشتهرًا في الكتابة عند الصحابة والتابعين، فكيف يقال أنهم تركوه؟!!

‌المقدمة السادسة: مرحلة ما بعد جمع عثمان رضي الله عنه

- أرسل عثمان رضي الله عنه المصاحف إلى الأقطار.

- وبعد ذلك ظهر المختصون بالإقراء كالأئمة الذين أرسلهم عثمان، وكأبي عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وغيرهم ممن تنتهي إليهم أسانيد القراء

(1)

.

- وبعد هذه المرحلة ظهرت مرحلة الاختيار في القراءات، فتسبيع السبعة مع الإمام أبي بكر بن مجاهد، أو جعلهم ثمانية، فعشرة على تفصيل يعلم في مظانه.

- وأصبح علم القراءات من العلوم القائمة بنفسها، ولها متونها، وطرق تحصيلها، والعلوم الأخرى الخادمة لها، والمحتفة بها.

(1)

انظر: مقدمات في علم القراءات: (57).

ص: 39

‌المقدمة السابعة: في قواعد عامة

- أي طعن يوجه للقرآن من جهة عربيته من طاعن متأخر عن أبي جهل، وأبي لهب وأضرابهم، فاعلم أنَّه باطل في ذاته؛ إذ لو كان صحيحًا لما غفل عنه هؤلاء الأعداء، وهم أبصر الناس باللغة، وأحرصهم على الطعن في القرآن.

- لم تسقط كلمة من القرآن، فالخلاف في (تجري من تحتها) و (تجري تحتها) لا يوجب القول بأن القرآن سقط منه شيء؛ لأن من قرأ (تجري تحتها) قرأ قرآنًا كاملًا، ومن قرأ (تجري من تحتها) قرأ قرآنًا كاملًا، فهو من اختلاف التنوع.

- وصل القرآن إلينا، بلغته الأصلية التي كان عليها، فلم يتعرض لما قد تتعرض له الترجمة، من اختلاف، وكونها عرضة للاشتباه في الفهم، ونحو ذلك.

وقد نقل إلينا بالمشافهة، وتداوله عدد كبير من الناس، ودون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع بعده بين دفتين بعد مدة وجيزة جدًّا.

وإنَّ المطلع على المخطوطات الموجودة للمصحف الشريف، والتي هي عتيقة، وترجع إلى العصور الأولى من نزول القرآن، يعلم كم أن الله تعالى قد أحاط القرآن بعناية خاصة، لئلَّا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنه تنزيل من حكيم حميد

(1)

(2)

.

(1)

ألف الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، كتابه (النصُّ القرآني الخالد عبر العصور)، وأراد من خلاله «إقامة الدليل على سلامة النصِّ القرآني بدون اللجوء إلى كلمات» ، وهي مقاربة جديدة، غير مسبوقة، في دراسة المخطوط القرآني، ومن شأنها أن تُظهِر سلامة النصِّ القرآني وعدم تعرضه للتحريف.

(2)

مصادر مهمة لموضوع تاريخ القرآن:

1 -

المحرر في علوم القرآن (فصل جمع القرآن)، د. مساعد الطيار.

2 -

المقدمات الأساسية في علوم القرآن، د. عبد الله الجديع.

3 -

جهود الآل والأصحاب في جمع القرآن، للأستاذ أحمد سالم.

4 -

تاريخ القرآن الكريم، د. التيجاني أحمدي.

5 -

جمع القرآن، د. محمد شرعي أبو زيد.

6 -

مصاحف الصحابة، د. محمد الطاسان.

ص: 40

‌قبل البدء!

تداوى .. طبٌّ مجرب، وطبيبٌ خريت!

سئل شيخ الإسلام رحمه الله وأثابه الجنة:

ما دواء من تحكم فيه الداء، وما الاحتيال فيمن تسلَّط عليه الخبال، وما العمل فيمن غلب عليه الكسل، وما الطريق إلى التوفيق، وما الحيلة فيمن سطت عليه الحيرة؟

إن قصد التوجه إلى الله منعه هواه، وإن رام الادِّكار غلب عليه الافتكار، وإن أراد يشتغل لم يطاوعه الفشل.

غلبَ الهوى فتراه في أوقاتِه

حيران صاحي بل هو السكران

إن رام قربًا للحبيبِ تفرَّقت

أسبابه وتواصلَ الهجران

هجر الأقارب والمعارف علَّه

يجد الغنى وعلى الغناء يعان

ما ازداد إلا حيرة وتوانيًا

أكذا بهم من يستجير يهان

فأجاب:

دواؤه الالتجاء إلى الله تعالى، ودوام التضرع إلى الله سبحانه، والدعاء بأن يتعلم الأدعية المأثورة، ويتوخَّى الدعاء في مظانِّ الإجابة؛ مثل آخر الليل، وأوقات الأذان والإقامة، وفي سجوده، وفي أدبارِ الصلوات.

ص: 45

ويضمُّ إلى ذلك الاستغفار؛ فإنَّه من استغفر الله ثم تاب إليه متَّعه متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى.

وليتخذ وردًا من الأذكار طرفي النهار ووقت النوم، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف، فإنه لا يلبث أن يؤيده الله بروح منه، ويكتب الإيمان في قلبه.

وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس بباطنه وظاهره، فإنَّها عمود الدين.

ولتكن هجيراه: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» ، فإنَّه بها يحمل الأثقال، ويكابد الأهوال، وينال رفيع الأحوال.

ولا يسأم من الدعاء والطلب، فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي.

وليعلم أنَّ النصر مع الصبر، وأنَّ الفرج مع الكرب، وأنَّ مع العسر يسرًا، ولم ينل أحد شيئًا من جسيم الخير - نبي فمن دونه - إلا بالصبر، والحمد لله رب العالمين

(1)

.

«واعلم أنَّ من أكثر من ذكر شيء وإن كان تكلفًا أحبه، فكذلك أول الذكر متكلف إلى أن يثمر الأنس بالمذكور والحب له، ثم يمتنع الصبر عنه آخرًا فيصير الموجب موجبًا والثمر مثمرًا.

وهذا معنى قول بعضهم: (كابدتُّ القرآن عشرين سنة، ثم تنعمتُ به عشرين سنة).

(1)

مجموع الفتاوى: (10/ 137).

ص: 46

ولا يصدر التنعيم إلا من الأنس والحب، ولا يصدر الأنس إلا من المداومة على المكابدة والتكلف مدة طويلة حتى يصير التكلف طبعًا، فكيف يستبعد هذا وقد يتكلف الإنسان تناول طعام يستبشعه أولًا ويكابد أكله ويواظب عليه = فيصير موافقًا لطبعه حتى لا يصبر عنه فالنفس معتادة متحملة لما تتكلف، هي النفس ما عودتَّها تتعود»

(1)

.

«فإذا أردتَّ الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألقِ سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه.

قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفًا على مؤثر مقتض، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجزِ لفظ وأبينه وأدله على المراد فقوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} ، أشار إلى ما تقدم من أول السورة إلى ههنا، وهذا هو المؤثر، وقوله:{لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} فهذا هو المحل القابل، والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 69 - 70]، أي: حي القلب.

وقوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي: وجه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام.

وقوله: {وَهُوَ شَهِيدٌ} أي: شاهد القلب حاضر غير غائب، استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساه، وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له، والنظر فيه وتأمله.

(1)

إحياء علوم الدين: (1/ 302).

ص: 47

فإذا حصل المؤثِّر؛ وهو القرآن، والمحل القابل؛ وهو القلب الحي، ووجد الشرط؛ وهو الإصغاء، وانتفى المانع؛ وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيء آخر= حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر»

(1)

.

(1)

الفوائد، لابن قيم الجوزية:(3)، بتصرف، وانظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية: (18)، وما بعدها.

ص: 48

«إنما الآية مثلُ التمرة كلما مضغتها استخرجتَ حلاوتها»

بشر بن السري

[البرهان في علوم القرآن: (1/ 471)]

ص: 49

‌تعاهدوا القرآن

جاء الحث من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على الاستمساك بالكتاب، وهو مستلزم للتعاهد، قال تعالى:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43].

وجعله الله تعالى شارة المصلحين، فقال سبحانه:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].

وحضَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الاستمساك بالكتاب، تلاوةً، ومدارسةً، وجاء هذا الحض في صور متعددة منها صورة الحث بلفظ التعاهد:

فعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها»

(1)

.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثلُ صاحب القرآن، كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهدَ عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت»

(2)

.

(1)

رواه البخاري: (5033)، ومسلم:(791).

(2)

رواه البخاري: (5031)، ومسلم:(789).

ص: 51

والقيام بالكتاب سبيل للتعاهد، وفي رواية مسلم:«وإذا قامَ صاحبُ القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه»

(1)

.

وصاحبُ القرآن: أي الذي ألفه، والمؤالفة المصاحبة وهو كقوله: أصحاب الجنة

(2)

.

والقرآن كتاب عزيز له أسرار لا تظهر إلا بطول المصاحبة، فكلما ازدادت صحبة المرء مع القرآن = ازداد معرفة بأسراره، وآياته وبيناته.

وإنما ذكر الإبل وخصها = لأنها أشد الحيوان الإنسي نفورًا، وفي تحصيلها بعد استمكان نفورها صعوبة

(3)

.

والقرآن أشد تفصيًا من صدور الرجال من النَّعَم

(4)

، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئسما لأحدهم يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسي. استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم بعقلها»

(5)

.

وسبب الذم ما فيه من الإشعار بعدم الاعتناء بالقرآن، إذ لا يقع النسيان إلا بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهده بتلاوته والقيام به في الصلاة لدام حفظه وتذكره.

فإذا قال الإنسان نسيت الآية الفلانية فكأنَّه شهد على نفسه بالتفريط فيكون متعلق الذم ترك الاستذكار والتعاهد لأنه الذي يورث النسيان

(6)

.

(1)

رواه مسلم: (789).

(2)

انظر، فتح الباري لابن حجر:(8/ 696).

(3)

فتح الباري، ابن حجر:(9/ 79).

(4)

رواه البخاري: (5032)، ومسلم:(790).

(5)

رواه البخاري: (5039)، ومسلم:(790).

(6)

انظر: فتح الباري، ابن حجر:(9/ 81).

ص: 52

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لله أهلين من الناس» ، قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: «أهلُ القرآن هم أهل الله وخاصته»

(1)

.

وفي هذا الحديث بيانٌ لمنزلة حفاظ القرآن والعاملين به والداعين إليه، وهم أولياء الله والمختصون به اختصاص أهل الإنسان به.

فهل تريد أن تكون من أهل الله؟! دونك الكتاب فانهل.

ومن حثه صلى الله عليه وسلم على التعاهد مرغبًا فيه؛ بيان منزلة صاحب القرآن في الآخرة كما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتِّل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها»

(2)

.

ففي هذا الحديث بيان لمنزلة صاحب القرآن الذي كان في الدنيا يلازم القرآن بالتلاوة والعمل، فيقال له عند دخوله الجنة: اقرأ واصعد في درجات الجنة، واقرأ بالترتيل ولا تستعجل بالقراءة كما كنت ترتل في الدنيا من تجويد الحروف ومعرفة الوقوف

(3)

.

وعن أبي أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة، وسورة

(1)

رواه أحمد في مسنده: (3/ 127)؛ وابن ماجه: (215)؛ والنسائي في الكبرى: (8031)، (3206)، وهو صحيح.

(2)

رواه أحمد في مسنده: (2/ 192)، وأبو داود:(1464)، والترمذي:(2914)، وقال:«حسن صحيح» ، والنسائي في الكبرى:(8056).

(3)

انظر، تحفة الأحوذي، للمباركفوري:(8/ 186 - 187).

ص: 53

آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنَّهما فرقَان من طير صواف، تحاجَّان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإنَّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَة»

(1)

.

فالعجب ممن يعلم هذه الفضائل، ثم هو يبحث عن الشفاء في غير الكتاب، يا هذا! هذا كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، فأقبل على كتاب ربك، أقبل عليه قبل أن تتحسر!

وعن جبير بن نفير، قال: سمعت النواس بن سمعان الكلابي، يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول:«يؤتَى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة، وآل عمران» ، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: «كأنهما غمامتان، أو ظلتان سوداوان بينهما شَرْق

(2)

، أو كأنهما حِزْقان من طير صواف، تحاجَّان عن صاحبهما»

(3)

.

فالقرآن يشفع لأصحابه وخاصته، المؤمنين به والملازمين لتلاوته، والعاملين بتعاليمه.

ومن ذلك شحذه صلى الله عليه وسلم للهمم بمعاهدة القرآن واغتباط صاحبه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا حسدَ إلا على اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب، وقام به آناء الليل، ورجل أعطاه الله مالًا، فهو يتصدق به آناء الليل والنهار»

(4)

.

(1)

البَطَلَة: السحرة، والحديث رواه مسلم:(804).

(2)

شرق: هو بفتح الراء وإسكانها، أي ضياء ونور، والأشهر في الرواية واللغة الإسكان.

انظر: شرح صحيح مسلم للنووي: (6/ 79).

(3)

رواه مسلم: (805).

(4)

رواه البخاري: (5025)، ومسلم:(815).

ص: 54

وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسدَ إلا في اثنتين: رجل علَّمَهُ الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالًا فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل»

(1)

.

«ومضمون هذين الحديثين أنَّ صاحب القرآن في غبطة، وهي حُسْنُ الحال، فينبغي أن يكون شديد الاغتباط بما هو فيه، ويستحب تغبيطه بذلك، يقال: غَبَطَه يَغْبِطُهُ غبطًا؛ إذا تمنَّى مثل ما هو فيه من النعمة، وهذا بخلاف الحسد المذموم، وهو تمنِّي زوال نعمة المحسود عنه، سواء حصلت لذلك الحاسد أو لا، وهذا مذموم شرعًا مهلك، وهو أول معاصي إبليس حين حسد آدم ما منحه الله تعالى من الكرامة والاحترام والإعظام.

والحسد الشرعي الممدوح هو تمنِّي حال مثل ذاك الذى هو على حالة سارة، ولهذا قال عليه السلام:(لا حسد إلا في اثنين)، فذكر النعمة القاصرة وهو تلاوة القرآن آناء الليل والنهار، والنعمة المتعدية وهي إنفاق المال بالليل والنهار، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29]»

(2)

.

وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثال لإيضاح المقاصد، دافعًا إلى المداومة على قراءة القرآن، ومن ذلك ما جاء عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة، ريحها طيب

(1)

رواه البخاري (5026).

(2)

فضائل القرآن، ابن كثير:(201).

ص: 55

وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو، ومثلُ المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر»

(1)

.

في هذا الحديث حض على تعاهد القرآن، بتشبيه معقول بمحسوس، فلما كان طيب المطعم وطيب الرائحة في النفس المؤمنة عقليين وكانت الأمور العقلية لا تبرز عن موصوفها إلا بتصويرها بصورة المحسوس المشاهد، شبه صلى الله عليه وسلم بالأترجة الموجود فيها ذلك حسًّا تقريبًا للفهم والإدراك، فطيب المطعم في النفس المؤمنة الإيمان لأنه ثابت في النفس هي به طيبة الباطن كثبوته في الأترجة، والطيب الرائحة فيه يرجع إلى قراءته القرآن لأن القراءة قد يتعدى نفعها إلى الغير فينتفع بها المستمع، كما أن طيب رائحة الأترجة تتعدى وينتفع بها المستروح، أي الشَّام.

والمراد بقوله: (يقرأ القرآن): بصيغة المضارع الدوام والاستمرار على تلاوته؛ لأن المقصود من حفظ القرآن تعاهده بكثرة التلاوة للوقوف على أسرار معانيه، والاتعاظ بكريم مواعظه، والعمل بشريف أوامره ونواهيه

(2)

.

وعن عقبة بن عامر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة، فقال:«أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كَومَاوَينِ في غير إثمٍ، ولا قطع رحم؟» ، فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك، قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم، أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل، خير له

(1)

رواه البخاري: (5059)، ومسلم:(797).

(2)

انظر: إكمال إكمال المُعلِّم للأبي: (3/ 138 - 139)، وفتح الباري، ابن حجر:(8/ 684).

ص: 56

من ناقتين، وثلاثٌ خير له من ثلاث، وأربعٌ خير له من أربع، ومن أعدادِهنَّ من الإبل»

(1)

.

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خَلِفَات عظامٍ سمانٍ؟» قلنا: نعم، قال:«فثلاث آيات يقرأ بهنَّ أحدكم في صلاته، خير له من ثلاث خَلِفَات عظامٍ سمانٍ»

(2)

.

ففي هذين الحديثين حثه صلى الله عليه وسلم على المداومة على قراءة القرآن، بقوله:(كل يوم)، وترغيبه صلى الله عليه وسلم بقوله:(ومن أعدادهن من الإبل) محفزًا على كثرة القراءة، وكذلك القراءة في الصلاة، وهو أسلوب تربوي فريد في توجيه اهتمامهم إلى الكنز الحقيقي وهو القرآن الكريم

(3)

.

فترى - أراك الله الخير - أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على صورٍ من التعاهد، وهي: التعاهد العام في كل وقت، وقراءته في الليل، وخاصة في صلاة الليل، وقراءته في النهار.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهد القرآن العظيم، بعدد من أنواع التعاهد، ومن ذلك:

•‌

‌ معارضة الملك!

والعرضة من العرض، والمقصود بها: مدارسة جبريل عليه السلام القرآن مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة قالت: أخبرني [أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم] «أنَّ جبريل كان

(1)

رواه مسلم: (803).

(2)

رواه مسلم: (802).

(3)

انظر: قراءة القرآن الكريم، د. دخيل بن عبد الله الدخيل:(122).

ص: 57

يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين، وإنَّه عارضه الآن مرتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري؛ فإنه نعم السلف أنا لك»

(1)

.

وعن فاطمة رضي الله عنها قالت: أسر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنَّه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضرَ أجلي، وإنَّك أول أهل بيتي لحاقًا بي»

(2)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن في كل رمضان مرة إلا العام الذي قبض فيه؛ فإنه عرض عليه مرتين بحضرة عبد الله (أي: ابن مسعود) فشهد ما نسخ منه، وما بدل»

(3)

، وعن مجاهد، عن ابن عباس قال:«أي القراءتين ترون كان آخر القراءة؟» قالوا: «قراءة زيد» ، قال:«لا، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن كل سنة على جبريل فلما كانت السنة التي قبض فيها، عرضه عليه عرضتين، فكانت قراءة ابن مسعود آخرهن»

(4)

.

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «عرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضات، فيقولون: إنَّ قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة»

(5)

.

فهذه المعارضة نوع من أنواع التعاهد للكتاب المجيد، وفيها كان النبي صلى الله عليه وسلم يجدد العهد بالكتاب مع أمين الوحي ذي القوة جبريل عليه السلام.

وقد استُفِيدَ منه: أن يكون لحفظ القرآن معارضة سنوية للقراءة على المشايخ

(1)

رواه الإمام أحمد: (6/ 282)، والبخاري:(6285)، ومسلم:(2450)، وابن ماجه:(1621).

(2)

رواه البخاري: (3624).

(3)

اللفظ لابن أبي شيبة: (30919).

(4)

هذا لفظ الإمام أحمد: (1/ 275)، وغيره، بإسناد لا بأس به.

(5)

رواه الروياني: (825، 834)، والبزار:(4564)، والحاكم:(2/ 231).

ص: 58

المتقنين، أو معارضة ثانية بعد ختم القرآن حفظًا، وتزداد عدد مرات المعارضة بحسب حال الطالب، وأفضل أوقاتها في شهر رمضان تأسِّيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

•‌

‌ قراءة الحزب:

(الحاء والزاء والباء) أصل واحد وهو تجميع الشيء، فمن ذلك الحزب الجماعة من الناس، والطائفة من كل شيء حزب، يقال: قرأ حزبه من القرآن، والحزب: الورد، وورد الرجل من القرآن والصلاة حزبه، والحزب:«ما يجعلُه الرجل على نفسه من قراءة وصلاةٍ كالورد»

(2)

.

والأصل في التحزيب ما ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: كنت أصوم الدهر وأقرأ القرآن كل ليلة، قال: فإمَّا ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، وإما أرسل إلي فأتيته، فقال لي:«ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟» فقلت: بلى، يا نبي الله، ولم أرد بذلك إلا الخير، قال:«فإنَّ بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام» قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال «فإن لزوجك عليك حقًّا، ولزورك عليك حقًّا، ولجسدك عليك حقًّا» قال: «فصم صوم داود نبي الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أعبدَ الناس» قال قلت: يا نبي الله، وما صوم داود؟ قال:«كان يصوم يومًا ويفطر يومًا» قال: «واقرأ القرآن في كل شهر» قال قلت: يا نبي الله، إنِّي أطيق أفضل من ذلك، قال:«فاقرأه في كل عشرين» قال قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال:«فاقرأه في كل عشر» قال قلت: يا نبي الله، إنِّي أطيق أفضل من ذلك، قال:«فاقرأه في كل سبع، ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقًّا، ولزورك عليك حقًّا، ولجسدك عليك حقًّا» قال:

(1)

تلقي النبي صلى الله عليه وسلم ألفاظ القرآن الكريم، للمجيدي:(197).

(2)

انظر: مقاييس اللغة، لابن فارس:(2/ 55)، ولسان العرب، لابن منظور:(1/ 308).

ص: 59

فشددت، فشدد علي. قال: وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر» قال: «فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

وعن أوس بن حذيفة، قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف، فنزلوا الأحلاف على المغيرة بن شعبة، وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني مالك في قبة له، فكان يأتينا كل ليلة بعد العشاء فيحدثنا قائمًا على رجليه، حتى يراوح بين رجليه وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش ويقول:«ولا سواء، كنا مستضعفين مستذلين، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم، نُدَال عليهم ويدالون علينا» ، فلما كان ذات ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلت: يا رسول الله لقد أبطأت علينا الليلة قال: «إنه طرأ علي حزبي من القرآن فكرهت أن أخرج حتى أتمه» ، قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: (ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل)

(2)

.

(1)

رواه مسلم: (1159).

(2)

رواه أحمد: (19021)، وأبو داود:(1393)، وابن ماجة:(1345).

ولفظ أحمد: «عن عثمان بن عبد الله بن أوس الثقفي، عن جده أوس بن حذيفة قال: كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلموا من ثقيف من بني مالك، أنزلنا في قبة له، فكان يختلف إلينا بين بيوته وبين المسجد، فإذا صلى العشاء الآخرة انصرف إلينا، فلا يبرح يحدثنا ويشتكي قريشا، ويشتكي أهل مكة ثم يقول: «لا سواء، كنا بمكة مستذلين أو مستضعفين، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب علينا ولنا» ، فمكث عنا ليلة لم يأتنا حتى طال ذلك علينا بعد العشاء. قال: قلنا: ما أمكثك عنا يا رسول الله؟ قال: «طرأ علي حزب من القرآن، فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه» . فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبحنا؟ قال: قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ست سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل من (ق) حتى تختم».

ص: 60

ففي هذين الحديثين أصلٌ لتحزيب القرآن، وتقسيمه حتى يسهل تعاهده، وقد اشتهر هذا التحزيب عند الصحابة رضي الله عنهم.

فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمون القرآن ويحزبونه، قالت عائشة رضي الله عنها:«إني لأقرأ جزئي - أو قالت: حزبي - وإني لمضطجعة على السرير»

(1)

.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، اقرؤه في سبع، ويحافظ الرجل كل يوم وليلة على جزئه»

(2)

.

قال ابن تيمية: «فالصَّحابة إنما كانوا يحزبونه سورًا تامة، لا يحزِّبون السورةَ الواحدة» .

ثم قال: «وفيه أنَّهم حزبوه بالسور وهذا معلوم بالتواتر؛ فإنَّه قد علم أن أول ما جزئ القرآن بالحروف تجزئة ثمانية وعشرين وثلاثين وستين، هذه التي تكون رءوس الأجزاء والأحزاب في أثناء السورة وأثناء القصة ونحو ذلك، كان في زمنِ الحجاج وما بعده وروي أنَّ الحجاج أمر بذلك.

ومن العراق فشا ذلك، ولم يكن أهل المدينة يعرفون ذلك.

وإذا كانت التجزئة بالحروفِ محدثة من عهد الحجاج بالعراق، فمعلومٌ أن الصحابة قبل ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كان لهم تحزيب آخر؛ فإنهم كانوا يقدرون تارة بالآيات فيقولون: خمسون آية، ستون آية. وتارة بالسور، لكن

(1)

رواه عبد الرزاق في مصنفه: (1/ 340)، ورواه ابن أبي شيبة:(7/ 190).

(2)

رواه عبد الرزاق في مصنفه (5948)، من حديث ابن مسعود، والطبراني في الكبير (8707)؛ والبيهقي (2/ 396)، قال ابن حجر في الفتح (9/ 714):«عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح» .

ص: 61

تسبيعه بالآيات لم يروه أحد ولا ذكره أحد فتعين التحزيب بالسور،

والمقصود أن التحزيب بالسورة التامة أولى من التحزيب بالتجزئة»

(1)

.

•‌

‌ قراءة الصلاة:

ومن المواضع التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهد فيها القرآن الكريم الصلاة المفروضة سواء كانت سرية أو جهرية وكذلك النوافل.

(1)

مجموع الفتاوى، ابن تيمية:(13/ 408 - 412).

قال الدكتور عبد العزيز الحربي في كتابه (تحزيب القرآن): (108 - 109)، عن تحزيب الصحابة:«ولله هذا التحزيب ما أحسنه وما أجملهُ وما أجله، فقد جمع بين النظائر على نسقٍ، فلم يفصل بين الأنفال والتوبة، وهما كالسورة الواحدة، وجمع بين السور المفتتحة بالحروف المقطعة المختتمة بالراء، ولا فصل بين العتاق الأول (الإسراء والكهف ومريم وطه والأنبياء)، وجمع بين الطواسين (الشعراء والنمل والقصص)، وذوات (الم) (العنكبوت والروم ولقمان والسجدة)، ولم يفصل بين الحواميم السبع، وجعل المفصل على حدة، ثمَّ هو فوق ذلك مقسَّم في أعداده أحسن تقسيم بطريقة لا كلفة لمعرفتها وترتيبها على الأوتار: ثلاث، وخمس، وسبع .. إلخ» .

وهذا التحزيب هو المعروف عند جماعة ب (فمي بشوق):

1 -

فالفاء = الفاتحة، ويكون السبع الأول من سورة الفاتحة إلى نهاية سورة النساء.

2 -

والميم = المائدة، ويكون السبع الثاني من سورة المائدة إلى نهاية سورة التوبة.

3 -

والياء = يونس، ويكون السبع الثالث من سورة يونس إلى نهاية سورة النحل.

4 -

والباء = بنو إسرائيل، ويكون السبع الرابع من سورة الإسراء (بنو إسرائيل) إلى نهاية سورة الفرقان.

5 -

والشين = الشعراء، ويكون السبع الخامس من سورة الشعراء إلى نهاية سورة يس.

6 -

والواو = والصافات، ويكون السبع السادس من سورة الصافات إلى نهاية سورة الحجرات.

7 -

والقاف = ق، ويكون السبع السابع والأخير من سورة ق إلى نهاية سورة الناس خاتمة القرآن.

انظر: مرقاة المفاتيح، للملا القاري:(4/ 1502).

ص: 62

ومن ذلك ما جاء عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قرأ في المغرب بالطور»

(1)

.

وعن أبي سعيد الخدري قال: «كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة (الم تنزيل السجدة)، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر وفي الأُخرَيين من العصر على النصف من ذلك»

(2)

.

وعن أبي برزة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح وأحدنا يعرف جليسه، ويقرأ فيها ما بين الستين إلى المائة»

(3)

. والأحاديث في هذا كثيرة.

•‌

‌ القيام بالكتاب:

قد أشار الله سبحانه وتعالى إلى أفضل طرق المعاهدة، والتي ينبغي لحافظ القرآن الاعتناء بها، وهي قيام الليل بالمحفوظ من القرآن، قال الله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وإنَّ الليل مظنة الحضور والفهم وصفاء النفس وتفريغ القلب من العلائق والشواغل

(4)

.

(1)

رواه البخاري: (765)، ومسلم:(463).

(2)

رواه مسلم: (452).

(3)

رواه البخاري: (771)، ومسلم:(461).

(4)

يقول الشيخ فريد الأنصاري: «إن لناشئة الليل قناديل أخرى تنبض بنور أخضر، نور يمده زيت الحذر من وعيد الله، وأريج المحبة لجمال الله .. فتبتهج الدوالي حزنًا وفرحًا، وتنشط الخفاف سيرًا إلى الله، قيامًا وسجودًا .. ذلك فصل فريد خارج فصول المدار، ومطلع خفي من غير المطالع الخمسة، له إشراق ربيعي، وأريج من كثبان الجنة، يملأ الحراب مسكًا وريحانًا ..

فارشف يا سالك

! هذه كأس العارفين بالله، تفيض عليك بعلمه، فارشف ولا تك من الجاهلين!».

ص: 63

والنبي صلى الله عليه وسلم هو المخاطب بذلك، وبقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1 - 4].

وكان صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه

(1)

، وكان يطيلُ القراءة في صلاته؛ كما جاء عن حذيفة، قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ

»

(2)

، وعن عوف بن مالك، يقول: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ فاستاك، ثم توضأ، ثم قام يصلي وقمت معه، فبدأ فاستفتح البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف يتعوذ، ثم ركع فمكث راكعًا بقدر قيامه، يقول في ركوعه:«سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة» ثم قرأ آل عمران، ثم سورة، ففعل مثل ذلك»

(3)

، ثم يوجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو القدوة في ذلك، بأنه «وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه»

(4)

، فتبين من هذا الحديث أن من يقوم بالقرآن يكون حاضر الذهن متذكرًا لآياته، متعاهدًا له.

يقول الشيخ عطيه سالم رحمه الله: «وقد سَمعتُ من الشيخ

(5)

-رحمة الله تعالى علينا وعليه- قوله: لا يثبتُ القرآن في الصدر، ولا يسهل حفظه وييسر فهمه إلا

(1)

رواه البخاري: (1130)، ومسلم:(2819).

(2)

رواه مسلم: (772).

(3)

رواه أحمد: (23980)، وأبو داود:(873).

(4)

رواه مسلم: (789).

(5)

يقصد الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي.

ص: 64

القيام به من جوفِ الليل، وقد كان - رحمه الله تعالى - لا يترك ورده من الليل صيفًا أو شتاء»

(1)

.

وقد نهج الصحابة رضي الله عنهم نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاهدة القرآن الكريم بتلاوة المحفوظ في صلاة الليل، كما ثبت «أنَّ أبا موسى كان بين مكة والمدينة، «فصلى العشاء ركعتين، ثم قام فصلى ركعة أوتر بها، فقرأ فيها بمائة آية من النساء» ، ثم قال: ما ألَوت أن أضع قدمي حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم قدميه وأنا أقرأ بما قرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(2)

، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقرأ البقرة في ركعة وكان بطيء القراءة

(3)

.

وقد سار السلف الصالح في معاهدة القرآن بهذا المنهج، حتى عُرِفَ بينهم، كما قال أبو عبد الله بن بشر القطان:«ما رأيت أحسن انتزاعًا لما أراد من آي القرآن من أبي سهل بن زياد وكان جارنا، وكان يديم صلاة الليل والتلاوة، فلكثرة درسِه صار القرآن كأنَّه بين عينيه»

(4)

.

تأمَّل هذا الوصف: «صار القرآن كأنه بين عينيه» ، أيُّ قلب كان يحمل، وأي نور كان يرى به، رحمة الله علينا وعليه.

•‌

‌ التعاهد العام حضرًا وسفرًا:

ومن تعاهد النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم قراءته على الدابة، كما جاء عن عبد الله بن مغفل، قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو على ناقته أو جمله، وهي

(1)

أضواء البيان: (8/ 359).

(2)

رواه أحمد: (19760)، والنسائي:(1728).

(3)

رواه عبد الرزاق في مصنفه: (3300).

(4)

انظر: تاريخ الإسلام: (25/ 436)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي:(15/ 521).

ص: 65

تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح - أو من سورة الفتح - قراءة لينة يقرأ وهو يرجع»

(1)

.

وفيه يظهر حرصه صلى الله عليه وسلم على تعاهد القرآن حتى على ظهر دابته، وفي حال سفره.

هذا هو القرآن، فتعاهده، ولا تغفل عنه، واصبر على نفسك حتى تذوق حلاوة التعاهد، فإن ذقته فلا تكن من المحرومين، وازدد من الهدى والنور، وسل ربك التوفيق وألا يسلبك حلاوة القرآن.

(1)

رواه البخاري: (5047)، فضائل القرآن، ابن كثير:(1/ 223)، استفدت كثيرًا من هذا المبحث من كتاب إقراء القرآن الكريم، د. دخيل الدخيل، ط. معهد الإمام الشاطبي.

ص: 66

‌وأن أتلو القرآن!

يقول الله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)} [النمل: 91 - 92].

وهذه التلاوة هي الوظيفة التي جاء بها صلوات الله وسلامه عليه، تلاوة الكتاب، وتلاوة الكتاب فقط، وتلاوة الكتاب فحسب.

تلك التلاوة التي تبعث في قلبك النور، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.

تلك التلاوة التي تمدك بالحياة، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122].

تلك التلاوة التي تغمرك بالجمال، والذي نفسه بغير جمال .. لا يرى في الوجود شيئًا جميلًا.

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)} [فاطر: 29].

ص: 69

‌تلاوة الكتاب طريق إلى التجارة الرابحة.

والتالون للكتاب تلاوة حقيقية هم الذين يتبعونه في أوامره فيمتثلونها، وفي نواهيه، فيتركونها، وفي أخباره، فيصدقونها ويعتقدونها، ولا يقدِّمون عليه ما خالفه من الأقوال، ويتلون أيضًا ألفاظه، بدراسته، ومعانيه، بتتبعها واستخراجها.

«فحقيقةُ التلاوةِ في هذه المواضعِ هي التلاوةُ المطلقةُ التَّامَّةُ، وهي تلاوةُ اللفظِ والمعنى؛ فتلاوةُ اللفظِ جزءُ مُسمى التلاوةِ المُطلقةِ، وحقيقةُ اللفظِ إنما هي الاتباعُ، يقال: اتلُ أثر فلانِ، وتلوتُ أثرهُ، وقفوتُهُ وقصصتُهُ، بمعنى تَبعتُهُ، ومنه قولُه تعالى:{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس 1: 2]، أي: تَبعَها في طلوع بعد غَيبتها، ويُقال: جاءَ القومُ يتلو بعضهم بعضًا، أي: يتبع، ويُسمَّى تالي الكلام تاليًا، لأنَّهُ يُتبعُ بعضَ الحروف بعضًا، لا يُخرجُها جُملةً واحدةً، بل يُتبعُ بعضها بعضًا مُرتبةً، كُلَّما انقضى حرفٌ أو كلمةٌ أتبعهُ بحرفٍ آخرَ وكلمةٍ أُخرى، وهذه التِّلاوةُ وسيلةٌ وطريقٌ.

والمقصودُ التِّلاوةُ الحقيقيةُ، وهي تلاوَةُ المعنى واتِّباعُهُ؛ تصديقًا بخبرهِ وائتمارًا بأمرهِ، وانتهاءً عن نهيهِ، وائتمامًا به، حيثُما قادكَ انقدتَ معه، فتلاوةُ القُرآنِ تتناولُ تلاوةَ لفظهِ ومعناهُ، وتلاوةُ المعنى أشرفُ من مجرَّد تلاوةِ اللفظِ، وأهلُها هم أهلُ القرآن الذين لهم الثناءُ في الدنيا والآخرة، فإنهم أهلُ تلاوةٍ ومتابعةٍ حقًّا»

(1)

.

والتلاوة التي ننشدها هي التلاوة بمنهج التلقي، يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6].

(1)

مفتاح دار السعادة: (1/ 202).

ص: 70

«كثيرون هم أولئك الناس الذين يتلون القرآن اليوم، أو يستمعون له على الإجمال، على أشكال وأغراض مختلفة. ولكن قليل منهم من (يَتَلَقَّى) القرآن!

وإنما يؤتي القرآنُ ثمارَ الذكر حقيقةً لمن تَلَقَّاهُ! وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتَلَقَّى القرآن من ربه، قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6].

ولا يزال القرآن معروضًا لمن يتلقاه، وليس لمن يتلوه فقط!

(1)

وتلقي القرآن بمعنى: استقبال القلب للوحي، على سبيل الذِّكْرِ.

وهو عام في كل مؤمن أخذ القرآن بمنهج التلقي، فذلك المنهج هو الذي به تنبعث حياة القلوب، لأنها تتلقى آنئذ القرآن (روحًا) من لدن الرحمن، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52 - 53].

و (تلقِّي القرآن) بمعنى استقبال القلب للوحي، على سبيل الذِّكْرِ؛ إنما يكون بحيث يتعامل معه العبد بصورة شهودية، أي كأنما هو يشهد تنزله الآن غضًّا طريًّا! فيتدبره آيةً، آيةً، باعتبار أنها تنزلت عليه لتخاطبه هو في نفسه ووجدانه، فتبعث قلبه حيا في عصره وزمانه! ومن هنا وصف الله تعالى العبد الذي (يتلقى القرآن) بهذا المعنى؛ بأنه (يُلْقِي) له السمع بشهود القلب! قال تعالى: {إِنَّ فِي

(1)

عن أبي وائل، قال: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله، فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف؟ ألفا تجده أم ياء (من ماء غير أسن)، أو «من ماء غير ياسن»؟ قال: فقال عبد الله: وكل القرآن قد أحصيت غير هذا، قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة، فقال عبد الله:«هذًّا كهذِّ الشعر، إن أقوامًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع» ، رواه مسلم:(822).

ص: 71

ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، ذلك هو الذاكر حقًّا، الذي يحصل الذكرى ولا يكون من الغافلين.

أن تتلقى القرآن: معناه إذن؛ أن تصغي إلى الله يخاطبك! فتبصر حقائق الآيات وهي تتنزل على قلبك روحًا. وبهذا تقع اليقظة والتذكر، ثم يقع التَّخَلُّقُ بالقرآن، على نحو ما هو مذكور في وصف رسول الله، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لما سئلت عن خُلقه؛ فقالت:«كان خُلُقُهُ القرآنَ!»

(1)

.

وأنْ تتلقى القرآن: معناه أيضا أن تتنزل الآيات على موطن الحاجة من قلبك ووجدانك! كما يتنزل الدواء على موطن الداء! فآدم عليه السلام لما أكل هو وزوجه من الشجرة المحرمة؛ ظهرت عليهما أمارة الغواية؛ بسقوط لباس الجنة عن جسديهما! فظل آدم عليه السلام كئيبًا حزينًا، قال تعالى:{فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا! وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]. ولم يزل كذلك حتى (تلقَّى) كلمات التوبة من ربه فتاب عليه؛ فكانت له بذلك شفاءً! وذلك قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم} [البقرة: 37].

(1)

رواه البخاري في الأدب المفرد: (308)، وأحمد في المسند:(24601).

ص: 72

فهو عليه السلام كان في حاجة شديدة إلى شيء يفعله أو يقوله؛ ليتوب إلى الله، لكنه لا يدري كيف؟ فأنزل الله عليه - برحمته تعالى - كلمات التوبة؛ ليتوب بها هو وزوجه إلى الله تعالى، وهي - كما يقول المفسرون- قوله تعالى:{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] فبمجرد ما أن تنزلت الآيات على موطن الحاجة من قلبه؛ حتى نطقت بها الجوارح والأشواق؛ فكانت له التوبة خُلُقًا إلى يوم القيامة! وكان آدم عليه السلام بهذا أول التوابين! وذلك أخذه كلمات التوبة على سبيل (التلقي): (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ)[البقرة: 37]!

فعندما تقرأ القرآن إذن؛ استمع وأنصت! فإن الله جل جلاله يخاطبك أنت! وادخل بوجدانك مشاهد القرآن، فإنك في ضيافة الرحمن! هناك حيث ترى من المشاهد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!

فاقرأ إذن كما استطعت وتعلم؛ لكن بحضور قلبي تام؛ كي تتزكى. فقد رأيت أن التلاوة بدء فعله من التعليم والتزكية، كما مر في قوله تعالى:{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ 164} [آل عمران: 164]. فالتلاوة نور في نفسها. إنها - لو أبصرتها حقًّا - صلة مباشرة برب العالمين؛ ذكرًا ومناجاة. إنَّ العبد التالي لكتاب الله متكلم بكلام الله. وهذا وحده معنى عظيم في نفسه، فتدبر! وهو يمهد القلب ويهيئه للخطوات التربوية التالية.

إنَّ القرآن لا يشتغل حقيقةً؛ إلا إذا تحرك به قلب العبد المؤمن! نعم! واشتعل له وجدانُه! وتهيأ كيانُه كلُّه للاشتعال! فالمعاناة الإيمانية النابعة من صدق الإقبال على الله، وشدة الافتقار إليه تعالى؛ هي وحدها الكفيلة بتهيئة النفس وتصفيتها؛ حتى تصلح مرآتها لتعكس أنوار حقائق الإيمان، الكامنة في القرآن، وتستدر أسرار العرفان المكتنزة فيه! إنها هي وحدها تتيح للعبد الصادق تفجير زناد القرآن، وإشعال زيته الوقاد! ذلك أن الله جعل قلب العبد المؤمن هو المحرِّك الذي يُشَغِّلُ قاطرة الإيمان، ولا حركة إلا بِمُحَرِّك! فكيف ينطلق النور؟ وكيف يتوهج القرآن؟ وهذا القلب جامد هامد، لا تهب به رياح الأشواق؟»

(1)

.

فتأثر العبد بالتلاوة؛ «أن يصير بصفة الآية المتلوة، فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت، وعند التوسع ووعد المغفرة

(1)

مجالس القرآن للأنصاري: (66).

ص: 73

يستبشر كأنه يطير من الفرح، وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعًا لجلاله واستشعارًا لعظمته، وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله عز وجل كذكرهم لله عز وجل ولدًا وصاحبة - يغضُّ صوته، ويكسر في باطنه حياء قبح مقالتهم، وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقًا إليها، وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفًا منها»

(1)

.

ولو سألت: لماذا لا تلتذ وتتأثر بالقرآن؟!

وهل التأثر به هو البكاء لصوت القارئ؟!

فالجواب: «أنَّ القرآن هدًى كله، وهو كلُّ الهدى.

ومن صفات ما كان كذلك: أنَّه بذاته مؤثّر في السامع (غير المعاند ولا المستكبر)، ولا يشترط في ذلك طهارة القلب من كل آفة!

ولو كان يشترط للتأثر بالقرآن طهارةُ القلب من كل آفة؛ لما كان القرآن هو الهادي الشافي!

ولكان في القول بذلك قول بالدور السبقي العدمي المستحيل، فحقيقته: القول باشتراط طهارة القلب قبل استماع القرآن؛ واشتراط استماع القرآن قبل طهارة القلب!

فلماذا لا تتأثر إذن بالقرآن، في ورد القراءة والصلاة؟

هذا فرض محال!

مهما استمعتَ إلى القرآن أو قرأتَه فأنتَ آخذ في الاهتداءِ بتنقية المحل، وتبديد ظلمته واستبدال النور به، وتخليته من الران الذي أكسبتَه إياه بنفسك!

(1)

إحياء علوم الدين: (1/ 286).

ص: 74

حتى إذا نقَّيتَ المحل وطهَّرتَه؛ كان الاهتداء بالقرآن بزيادة نور القلب، فيحصل التلذذ التام بحصول النور التام، ويحصل الاهتداء التام بعد زوال أثر المعصية زوالا تامًّا!

ولا بد أن يعقبه غيابك عن شهود ألم الوقوف، وتعداد الدقائق، في الصلاة وفي التلاوة!!

فالاهتداء بالقرآن ليس هو حصول النور فقط، بل تبديد الظلام أيضًا، وهي هداية أسبق وأهم، وأطول وأجهد.

ولأجل ما فيها من عسرة؛ فإن كثيرًا من النَّاس لا يصبر عليها، ربما لأجل السأم، أو الانصياع لداعي الهوى، أو الشهوة، أو غير ذلك.

لكن أكثر النَّاس لا يعي أنَّه بحاجة إلى مجاهدة طويلة وصبر حتى يزيل أثر الغفلة والذنب من قلبه، ثم يستمتع بالقرآن والصلاة!

والفقيه حقًّا من يعي ذلك، ثم يجاهد نفسه لإصلاح المحل، وتنقيته، مهما طال به الزمان.

• قال الإمام الكبير محمد بن المنكدر: «كابدتُّ نفسي أربعين سنة، حتى استقامت» !

(1)

• وقال الرباني ثابت البناني: «كابدتُّ الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة» !

(2)

ونحو ذلك عن الفقهاء حقًّا كثير.

(1)

حلية الأولياء: (3/ 147).

(2)

حلية الأولياء: (2/ 320).

ص: 75

وهذا الجهاد، هو الجهاد الأفرض، والأعظم، وما سواه تابع له!

إذ هو في الحقيقة: أن تمتلك نفسك، فتقودها، ولا تملكك فتسحبك!

ووالله إنَّ ظنَّك في نفسك أن تَثبتَ في ساحة القتال، وأنت لا تملكُها في ركعات وقراءة أعذب كلام وأحلاه، ولا تملكها في كف الأذى عنها، وقد علمتَ أنَّه أذاها وهلاكها؛ لهو من أعظم الجهل وظن السوء والجاهلية بالله وشرعه، والأمانيِّ الكاذبة!

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المجاهدُ من جاهد نفسه في طاعة الله»

(1)

.

قال التقيُّ ابن تيمية شيخ الإسلام رحمه الله: «جهادُ النفس والهوى؛ أصلُ جهاد الكفار، والمنافقين!

فإنه لا يقدر على جهادهم، حتى يجاهدَ نفسَه وهواه أولا، حتى يخرج إليهم»

(2)

!

وقال الشمس ابن القيم قدس الله روحه: «وأفرضُ الجهاد؛ جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا!

فمن جاهد هذه الأربعة في الله؛ هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد؛ فاتَه مِنْ الهدى بحسب ما عطَّل»

(3)

!

وقال أيضًا: «لما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعًا على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله،

(1)

رواه أحمد: (23951)، والترمذي:(1621).

(2)

روضة المحبين: (478).

(3)

الفوائد: (59).

ص: 76

والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»

(1)

؛ كان جهاد النفس مقدمًا على جهاد العدو في الخارج، وأصلًا له!

فإنه ما لم يجاهد نفسَه أولا، لتَفعلَ ما أُمرَت به، وتَتركَ ما نُهيَت عنه، ويحاربَها في الله؛ لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج.

فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلّط عليه، لم يجاهده، ولم يحاربه في الله؟!

بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهدَ نفسَه على الخروج»

(2)

انتهى!

فالمقصود:

أولًا: لا تعجل على نفسك، واعلم أنَّ طريق استقامة النفس طويلة، وشاقة.

ثانيًا: بقدر مكابدتك نفسَك وزجرها عما تحب؛ تملكها، وبقدر ملكك لنفسك؛ تستطيع أن تأطرها على الحقّ أطرًا.

ثالثًا: إذا أردت الانتفاع بالقرآن حقًّا؛ فعليك أن تعمل على جهتين:

1 -

امنع الأذى عن قلبك، وإنما يدخل الأذى إلى القلب رأسًا بلا واسطة من العين والأذن، وشرحه يطول، ودليله في القرآن، فلا تستمع ولا تنظر إلى الكذب ولا الزور، وما أكثر ذلك.

ثم لا تأكل السحت وأقلل من فضول الكلام، بل؛ امنعه!

(1)

رواه بنحو هذا اللفظ، أحمد:(23958)، وروى البخاري:(10) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» .

(2)

زاد المعاد: (3/ 5).

ص: 77

2 -

عرِّض قلبك لهدى الوحي أطول فترة ممكنة، ولا تسأم، ولا تعجل، ولا تقل: هلكت!

رابعًا: التأثُّر والتلذذ بالقرآن ليس هو البكاء مع الصوت الحسن، الذي رأيتُ بعضَ الأعاجم يفعله تأثرًا بحسن أداء القارئ، وهو لا يفهم حرفًا مما قرئ!

بل هذا من جنس طرب النفوس بالموسيقى والألحان.

إنَّما علامة المتلذذ بالقرآن ألا يفقد اللذة من أي قارئ يحسن أحكام التلاوة، وإن زاد تلذذه بحسن الصوت.

نعم، لا بأس بتتبع حسن الصوتِ في المساجد ولو بعُدت، فقط من باب مصانعة النفس والتحايل عليها!

وعدم البأس مشروط بعلم فاعل ذلك أنَّه يصانع نفسه ويحايلها، وأنَّه لا بد أن يرتقي عن هذه المنزلة الدون!

أما المبالغات والتهويلات التي يعيشها بعض الناس، حتى يضيّع نصف الليل في التنقل من وإلى المسجد، ويمر في طريقه على عشرات المساجد التي يقرأ الناس فيها القرآن، ليس التوراة؛ فلا!

أخيرًا:

جهاد النفس والهوى والشيطان؛ لا ينقطع إلا بالموت، بخلاف غيره!

فوطِّن نفسك على استمراره، واعلم أنَّه لا بد من غفلات ورقدات، ولكن لا تطل النوم!

ص: 78

قال ابن تيمية: «جِهَاد النَّفس أعمال تعملها النَّفس المزكاة فتزكو بذلك أيضًا»

(1)

»

(2)

.

إنَّ القرآن مشروع العمر، وبرنامج العبد في السير إلى الله إلى أن يلقى الله، وليس المقصود أن تدرك الهدف كله، لكن يكفيك أن تموت وأنت على الطريق!

(1)

مجموع الفتاوى: (10/ 631).

(2)

من كلام للشيخ أبي حمزة خالد بهاء.

ص: 79

‌من أراد العلم .. فليثور القرآن

مصطلح (تثوير القرآن) من المصطلحات التي أطلقها الإمام الحبر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم = عبد الله بن مسعود، وذلك فيما رواه غير واحد عن عبد الله بإسناد صحيح، قَالَ:«إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن، فإنَّ فيه علم الأولين والآخرين» ، وقد وردَ بألفاظٍ متعددةٍ منها:«من أراد علم الأولين والآخرين فليثوِّر القرآن» ، وفي رواية:«ثَوِّرُوا القرآن؛ فإنَّ فيه علم الأولين والآخرين»

(1)

.

وهذا الأثرُ اللطيف يبين لنا ما كان عليه السلف رضي الله عنهم من حال مع كتاب الله تعالى، وكيف لا وهو حبل الله المتين!

وقد كانوا على علم جم بهذا القرآن العظيم، قال ابن عباس:«لو أردتُّ أن أملي وِقر بعير على الفاتحة لفعلت» !

(2)

.

ومصطلح (تثوير القرآن) يعبر عن ضرب من ضروب تلقي الكتاب، وتلاوته حق التلاوة.

(1)

رواه ابن المبارك في الزهد: (814)، ومن طريقه الفريابي في فضائل القرآن:(78)، وغيرهما، بإسناد صحيح إلى ابن مسعود.

(2)

البرهان في علوم القرآن: (1/ 8)، أي: لو أراد أن يفسر سورة الفاتحة، ويشرح ما احتوت عليه من جليل المعاني بما يملأ ما يمكن للجمل أن يحمله = لفعل رضي الله عنه.

ص: 83

وقد اختلفت عبارات أهل العلم في بيان هذا المصطلح، وإن اتفقت معانيهم، فقال ابن عطية:«وتثوير القرآن: مناقشته ومدارسته والبحث فيه، وهو ما يعرف به»

(1)

.

ونقل القرطبي عن بعض العلماء أن تثوير القرآن: «قراءته ومفاتشة العلماء به»

(2)

.

ونقل ابن عجيبة عن الغزالي أنَّه (التفهُّم)، وهو:«أن يستوضح كل آية ما يليق بها إذ القرآن مشتمل على ذكر صفات الله تعالى، وذكر أفعاله، وذكر أحوال أنبيائه عليهم السلام، وذكر أحوال المكذِّبين، وكيف أُهلكوا، وذكر أوامره وزواجره، وذكر الجنة والنار»

(3)

.

ونقل الزركشي عن بعض العلماء أن التثوير «لا يحصلُ بمجرَّدِ تفسير الظَّاهر»

(4)

.

وبوب عليه أبو الليث السمرقندي: «باب الحث على طلب التفسير»

(5)

.

ولو أضفنا لذلك ما في كلمة الإثارة من التقليب والنظر في الوجوه، ومنه {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} [الروم: 9]، وقوله:{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} [البقرة: 71]، وهو تقليبها بالحرث والزراعة، وأن المرء لن يفقه القرآن حق الفقه حتى يرى للقرآن وجوهًا.

(1)

التفسير: (1/ 3).

(2)

التفسير: (1/ 446).

(3)

البحر المديد: (5/ 23)، الإحياء:(1/ 282).

(4)

البرهان: (2/ 154).

(5)

بحر العلوم: (1/ 11).

ص: 84

= لاجتمع عندنا من معاني المصطلح ما يصلح أن ننسجه بأن نقول: إنَّ تثوير القرآن ضربٌ من ضروب التدبر لكتاب الله الكريم، وينطلق من التالي:

1 -

معرفة معنى الآية.

2 -

إثارة الأسئلة على النفس.

3 -

مفاتشة العلماء، ومناقشتهم في معنى الآية.

4 -

التأمل العميق، الذي يتلوه العمل.

وإليك شيئًا من تفصيل المعاني السابقة.

‌أولًا: معرفة معنى الآية.

وذلك على سبيل الإجمال، فأول ما ينبغي أن يفعله السالك أن يفهم معنى الآية على سبيل الإجمال، لكي لا يشذ فيأتي بما لا تدل الآية عليه بطريق من الطرق المعتبرة في التفسير، وهي:

1 -

التفسير على اللفظ.

2 -

التفسير على المعنى.

3 -

التفسير على الإشارة والقياس.

ولذا فيلزم لمريد التثوير، بعد معرفة المعنى الإجمالي، إن أراد الارتقاء = أن يتعرَّف على أقوال السلف وأهل العلم في تفسير الآية، ثم يثير الأسئلة على نفسه، وهي المرحلة الثانية.

ص: 85

‌ثانيًا: إثارة الأسئلة على نفسه.

وهي من أهم مراحل التثوير، إذ مما ينبغي على القارئ فعله = أن يثير الأسئلة على نفسه ليحصل على فهم أعمق للكتاب المجيد، فإذا قرأ القارئ فاتحةَ الكتابِ بتدبُّرٍ يُثوِّرُ به النصَّ القرآنيَّ = فإنَّ من الممكنِ أن تثورَ في نفسِهِ الأسئلة التالية:

- ما فائدَةُ افتتاحِ أول كتابِ اللهِ سبحانه وتعالى بالحمدِ المطلقِ للهِ في قولِهِ تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 2} [الفاتحة: 2]؟!

- وما الآياتُ التي ورد فيها الحمدُ؟!

- وما مساقاتُ الحمدِ؟!

فالله سبحانه قالَ في مفتتح كتابه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 2} [الفاتحة: 2]، وقالَ في موضعٍ آخرَ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ 1} [الأنعام: 1]، وَفِي موضعٍ ثالثٍ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 1} [فاطر: 1] ..

- ولماذا قدم الله ذكر الرحمة على ذكر ملكه ليوم الدين؟!

- ولم يدعو المرء بلفظ الجمع (اهدنا)؟!

- وما الصِّراط المستقيم، وما صفات أهله؟!

وهكذا .. فإن المقصودَ من ذلكَ أنَّ الإنسانَ حينما يبدأُ يسألُ هذه الأسئلةَ ويُسَجِّلُهَا = سيجدُ أنَّهُ خلالَ قراءَتِهِ للقرآنِ سنةً بعدَ سنةٍ يكونُ علمُه من الاستنباطاتِ والفوائدِ واللطائفِ والعمل الشيءَ الكثيرَ، وبعد ذلك ينتقل للمرحلة الثالثة، وهي: المدارسة، إما مع إخوانه، أو مع أهل العلم.

ص: 86

‌ثالثًا: مفاتشةُ العلماء، والأقران، ومناقشتهم في تفسير الآيات الكريمة.

وقد اهتم السلف بهذا جدًّا، ومما يدل على ذلك أنهم كانوا يعقدون مجالس خاصة لسماع القرآن من الحفاظ العلماء، فإن:«المطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين» كما يقول ابن تيمية

(1)

.

وقال: «وهذا كان سماع سلف الأمة، وأكابر مشايخها وأئمتها، كالصحابة والتابعين ومن بعدهم من المشايخ: كإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، وأمثال هؤلاء.

وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى الأشعري يا أبا موسى: ذكرنا ربنا!، فيقرأ، وهم يسمعون ويبكون.

وكان أصحاب محمد إذا اجتمعوا، أمروا واحدًا منهم أن يقرأ القرآن، والباقي يستمعون.

وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته، وقال: لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود، وقال: مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك، فقال: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرًا

(2)

، أي لحسنته لك تحسينًا .. ولهذا السماع من المواجيد العظيمة، والأذواق الكريمة، ومزيد المعارف والأحوال الجسيمة= مالا يسعه

(1)

مجموع الفتاوى: (23/ 55).

(2)

السنن الكبرى، للبيهقي:(21/ 166).

ص: 87

خطاب، ولا يحويه كتاب، كما أن في تدبر القرآن وتفهمه من مزيد العلم والإيمان مالا يحيط به بيان»

(1)

.

ولم تكن قراءة أبي موسى إلا قراءة عالم لعلماء يتفهمون عن طريق هذا السماع كلام ربهم سبحانه، وينزلونه على أدوائهم فتحدث الأثر المطلوب.

وكانوا يعقدون مجالس للتثوير، والمذاكرة، وعرض الفهوم في الآيات الكريمة، ومنه: ما ورد عن ابن عباس، قال: «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأنَّ بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله، فقال عمر: إنه من قد علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، فما رُئِيتُ

(2)

أنَّه دعاني يومئذ إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} [النصر: 1]؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا، وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: «هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له» ، قال:{إذا جاء نصر الله والفتح} [النصر: 1]«وذلك علامة أجلك» ، {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} [النصر: 3]، فقال عمر:(ما أعلم منها إلا ما تقول)»

(3)

.

وكانوا يعقدون المجالس لمذاكرة الكتاب وتدارسِه، ومنه: قال ابن زيد في قوله: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} [البقرة: 206] إلى قوله: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ 207} [البقرة: 207] قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلى السبحة

(1)

مجموع الفتاوى: (10/ 81).

(2)

فتح الباري: (8/ 608).

(3)

رواه البخاري: (4970).

ص: 88

وفرغ دخل مربدًا له، فأرسل إلى فتيان قد قرءوا القرآن، منهم ابن عباس، وابن أخي عيينة، قال: فيأتون فيقرءون القرآن ويتدارسونه، فإذا كانت القائلة انصرف. قال فمروا بهذه الآية:{وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} [البقرة: 206]، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ 207} [البقرة: 207]، قال ابن زيد: وهؤلاء المجاهدون في سبيل الله. فقال ابن عباس، لبعض من كان إلى جنبه: اقتتل الرجلان. فسمع عمر، ما قال، فقال: وأي شيء قلت؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين. قال: ماذا قلت؟ اقتتل الرجلان؟ قال: فلما رأى ذلك ابن عباس، قال: أرى هاهنا من إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله؛ يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم، قال هذا: وأنا أشتري نفسي فقاتله، فاقتتل الرجلان. فقال عمر: لله بلادك يا ابن عباس»

(1)

.

ومن شأنهم سؤال العلماء بالكتاب أهل الرسوخ عنه، ورد كلام بعضهم لبعض للوصول للمراد بالآية الكريمة، ومنه: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، حدثه قال: «بينما أنا في الحجر جالس، أتاني رجل يسأل عن {العاديات ضبحا} [العاديات: 1] فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله، ثم تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم، ويورون نارهم. فانفتل عني، فذهب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو تحت سقاية زمزم، فسأله عن {العاديات ضبحا} [العاديات: 1] فقال: سألت عنها أحدًا قبلي؟ قال: نعم، سألت عنها ابن عباس، فقال: الخيل حين تغير في سبيل الله، قال: اذهب فادعه لي؛ فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله لكانت أول غزوة في الإسلام لبدر، وما

(1)

الطبري: (3/ 588).

ص: 89

كان معنا إلا فرسان: فرس للزبير، وفرس للمقداد فكيف تكون العاديات ضبحًا؟! إنما العاديات ضبحًا من عرفة إلى مزدلفة إلى منى؛ قال ابن عباس: فنزعت عن قولي، ورجعت إلى الذي قال علي رضي الله عنه»

(1)

.

وهذه المجالس تثمر فائدة كبرى، مع المعرفة بطرائق الاستنباط، وما يترتب على ذلك من عمق في التأمل، وهي المرحلة التالية.

‌رابعًا: التأمل العميق.

وهذا التأمل يتلوه العمل، ومما يعين في هذه المرحلة: أن يعتني بعلوم السورة، وعلوم الآية، ومن العلوم المتعلقة بالسورة:

1 -

اسم السورة، أو أسماؤها إن كان لها أكثر من اسم.

2 -

مكان نزول السورة، وزمان نزولها (المكي والمدني).

3 -

عدد آي السورة، وعدد كلماتها وحروفها.

4 -

فضائلها، إن كان لها فضائل ثابتة.

5 -

مناسبة السورة لما قبلها، ومناسبة فاتحتها لخاتمتها، ومناسبات موضوعاتها بعضها مع بعضٍ.

6 -

موضوعات السورة.

وأما مجمل علوم الآية، فأذكر منها:

1 -

تفسيرها، وذلك ما مضى في القسم الأول.

ص: 90

2 -

فضلها، إن وُجِدَ.

3 -

اسمها، إن وُجِدَ.

4 -

مكان نزولها وزمانه.

5 -

قراءاتها، إن وُجد فيها اختلاف قراءات.

6 -

إعرابها.

7 -

أحكامها التشريعية (من الأحكام الفقهية، والآداب والسلوك).

8 -

أحكامها العقدية.

9 -

ناسخها ومنسوخها (على اصطلاح السلف).

10 -

وقوفها.

11 -

أسباب نزولها.

12 -

إعجازها ووجوه بلاغتها

(1)

.

= والانطلاق من هذه المعلومات إلى إدراك أعمق لهدايات القرآن، ومقاصده.

إنَّ «مَنْ جمع القُرآنَ؛ فقد حَمَلَ أَمرًا عَظِيمًا، وَقَدْ أُدرِجَت النُّبُوَّةُ بين جَنبَيهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يوحى إليه»

(2)

، فينبغي له أن يستعمل الجد في تفهم هذا الكتاب، وحمل رسالاته، وتبليغ هذه الرسالات التي درست في هذه الأزمان.

ومما يعين على تثوير الأسئلة، وحسن الفهم، قراءة القرآن في سكون وهدوء، وفي الحديث «إني لأَعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون

(1)

مستفاد من مقال لشيخنا د. مساعد الطيار.

(2)

تفسير القاسمي = محاسن التأويل: (1/ 83).

ص: 91

بالليل، وأعرِفُ منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار»

(1)

، وأَخصُّ تلك الأوقات، وقت اجتماع القلب في سكون الليل.

ومما يعين على التثوير استعمال الأدب مع الكتاب، إنَّ القرآن كتاب عزيز كريم مجيد، فلا بد من الإقبال بتأدب على هذا الكتاب

(2)

.

ومما يعين على التثوير الاهتمام بالتحزيب

(3)

، وتكرار ختم القرآن، مع الاهتمام بالعمل به، فإن ذلك يثمر خيرًا كثيرًا.

ولا بأس أن يجعل الإنسان لنفسه ختمة للتدبر، وقد استمرت عند بعض السلف مدة أربعين سنة!

والطرق في الوصول لتلقي القرآن، وتدبره، وما يعين عليه، وموانع ذلك = كثيرة جدًّا، فليكتف السالك بكتاب أو كتابين، ثم ليعالج هو بنفسه هذا النعيم في الحياة مع هذا الكتاب.

إنَّ من أعظم ما تعانيه قطاعات من المنتسبين للعلم ضعف الاستدلال القرآني في خطاباتهم، بل قد يكون الاستدلال بكلام الغرب والشرق أقرب إليهم من الاستدلال بكلام الله تعالى.

لا شك أنَّ «من المعلوم أنَّه في تفاصيل آيات القرآن من العلم والإيمان ما يتفاضل الناس فيه تفاضلًا لا ينضبط لنا .. [وأن] القرآن الذي يقرأه الناس بالليل

(1)

رواه البخاري: (4232)، ومسلم:(2499).

(2)

آداب قارئ القرآن وحامله مبثوثة في مصنفات، من أمثلها: آداب حملة القرآن للآجري، والتبيان لأبي زكريا النووي.

(3)

سبق الحديث عنه في مقال: (تعاهدوا القرآن).

ص: 92

والنهار يفاضلون في فهمه تفاضلًا عظيمًا، .. [ولكن] القرآن مورد يرده الخلق كلهم، وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له»

(1)

.

وأختم هذا الكلام بذكر الحديث عن رجل بلغ من علمه بالقرآن أنَّه ظل يفسر سورة نوح سنة!، ومع ذلك يقول في آخر حياته، وهو في السجن بعد أن انفرد مع القرآن:«قد فتح الله عليَّ في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء، كَانَ كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن»

(2)

، ألا رحم الله أبا العباس ابن تيمية!

(1)

درء التعارض: (7/ 427)، بتصرف.

(2)

الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون: (284).

ص: 93

‌أن تجعل القرآن ربيع قلبي

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما قال عبد قط إذا أصابه همٌّ أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك = أن تجعلَ القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي؛ إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحًا» ، قالوا: يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات؟ قال: «أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن»

(1)

.

فتأمل قوله: «أن تجعل القرآن ربيع قلبي» ، فإنَّ «هذا هو المطلوب، والسابق وسائل إليه، فانظر أولًا غاية ذلته وصغاره، ونهاية افتقاره وعجزه، وثانيًا بين عظمة شأنه وجلالة اسمه سبحانه وتعالى بحيث لم يبق فيه بقية، وألطف في المطلوب حيث جعل المطلوب وسيلة إزالة الهم المطلوب أولًا.

فقوله: «ربيع قلبي» جعل القرآن ربيعًا له؛ لأن الإنسان يرتاح قلبه في الربيع من الأزمان، ويميل إليه.

(1)

رواه أحمد: (6/ 246)، ح:(3712).

ص: 97

أقول: كما أنَّ الربيع زمان إظهار آثار رحمة الله تعالي، وإحياء الأرض بعد موتها، كذلك القرآن يظهر منه تباشير لطف الله من الإيمان والمعارف، وتزول به ظلمات الكفر والجهالة والهموم»

(1)

.

القرآن راحة لقلبك، وسكون لنفسك في زمان القلق، السكينة المفقودة!

إنَّ القرآن العظيم له كبير الأثر في تحصيل هذه السكينة، وتلك السكينة «إذا نزلت على القلب اطمأن بها، وسكنت إليها الجوارح، وخشعت، واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش، واللغو والهجر، وكل باطل»

(2)

.

وعن البراء، قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين

(3)

، فتغشَّته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال:«تلك السكينة تنزلت للقرآن»

(4)

.

فالسكينة .. السكينة يا أهل القرآن

إنَّ المرء ليشتاق إلى قارئ هادئ القراءة إذا سمعته حسبت أنَّه يخشى الله!

إنَّ الصوت المرتفع قد يجلب مزيدًا من البكاء، لكنه يبعد كثيرًا من السكينة! {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]!

إنَّ رفع الصوت بصورة مزعجة في القراءة، ليست من سنن الهدي، «قال قيس بن عباد: -وهو من كبار التابعين -: (كانوا يستحبون خفض الصوت: عند الذكر، وعند القتال، وعند الجنائز).

(1)

انظر: شرح المشكاة: (6/ 1910).

(2)

مدارج السالكين: (2/ 473).

(3)

أي: مربوط بحبلين، والشطن: الحبل الذي تربط به الدابة، ويستقى به الماء.

(4)

رواه البخاري: (5011)، ومسلم:(795).

ص: 98

وكذلك سائر الآثار تقتضي أنهم كانت عليهم السكينة، في هذه المواطن، مع امتلاء القلوب بذكر الله، وإجلاله وإكرامه، كما أن حالهم في الصلاة كذلك.

وكان رفع الصوت في هذه المواطن الثلاثة من عادة أهل الكتاب والأعاجم، ثم قد ابتلى بها كثير من هذه الأمة»

(1)

.

بل: ألم يأتك خبر مجالس النور؟!، ففي الحديث: «

وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكِينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده

»

(2)

.

«كلمات ما أحوجنا إليها!

أجزيةٌ غالية وهِبات سنية، لوَاحدة تكفى لأن يصرف الإنسان جهده كله من أجل تحصيلها.

السكينة = نحن في عالم القلق قلوبنا مرتعبة نخاف من المستقبل، نخاف من أنفسنا، نخاف من غيرنا، نخاف من أعدائنا ..

حتى يكاد الإنسان أن يقول قد أحيط بنا، نحتاج إلى سكينة تدرأ هذا القلق، والله مالكها وهذا شرطها = الاجتماع عليه بشرطه.

التتلمذ على آياته وبيناته، فتح الباب إليه، الأخذ من ينابيع ومتفجرِ الحكمة والبصائر القرآنية.

ما أحوجنا إلى رحمة تحفنا (وهذه موعودة) = تدفع ألوان الشقوة التي امتدت أسبابها للكل.

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم: (358).

(2)

رواه مسلم: (2699).

ص: 99

ما أحوجنا إلى صحبة الملأ الأعلى الحديث يقول: .. وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ .. صدقوا الغيب لترتقوا!!.

ما أحوجنا إلى أن يحفنا هؤلاء الملأ الأعلون ففي حفوفهم بنا وحياطتهم إيانا = صيانة من ظلمة الشر، ووقاية من أن تمتد إلينا نزغات الشيطان وظلمات النفس.

ما أحوجنا إلى الرابعة وهي هي سموًا وارتقاءً .. وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ .. وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ..

أكبر من كل هذه الهبات.

لأن الله إذا ذكرك وضع حدًا لشقوتك وبعدك وجفاءك وحدًا لتعاستك وأدرجك ضمن أهله الذين هم أهله وخاصته، اللهم امنحنا من هذه الهبات»

(1)

.

(1)

من كلام للشيخ الفاضل مصطفى البحياوي.

ص: 100

ص: 101

‌مجالس النور

مجالس القرآن هي مجالس النور، والقرآن قد جاء من عند الله، والذي جاء به روح مطهرة، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل.

والذي يصطفيه الله تعالى لمجالس القرآن مصطفى، «لأن القرآن لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، ولا يحمله بحقه إلا المؤمن، ولا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي، إلا القلوب الطاهرة، وإنَّ القلوب النجسة ممنوعة من فهمه، مصروفة عنه»

(1)

.

ومشروع (مجالس القرآن) - كما يقول الأنصاري -: «مسلكٌ تربوي مبَسَّط؛ لسلوك طريق النور؛ قصد التعرف إلى الله! مشروعٌ ليس لنا فيه من الاجتهاد إلا الجمع والترتيب، ومراعاة التنزيل في واقع جديد! نأخذه كما هو من القرآن والسنة النبوية. مشروعٌ لا مِنَّةَ فيه لأحد، إلا لله! ولا فضل فيه لمبدع أو مخترع، وإنما هو كلام الله! ولا انتماء فيه لقائد أو رائد، ولا لتنظيم أو جماعة! بل هو انتساب تعبدي لله! غايته أن نسعى جميعًا - أنا وأنت، ومن شرح اللهُ صدرَه للقرآن - للاستظلال بحقيقة مُسَمَّى:(عبد الله)!

(1)

محاسن التأويل: (9/ 132).

ص: 103

(مجالسُ القرآن) عَرْضٌ متجدد لموائد الروح! فهذا القرآن العظيم أمامك الآن! هذا كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! هذا نور الوحي، وطريق الهدى! فاقرأ وافْقَهْ عن الله! فهذه السور والآيات تخاطبك أنت بالذات! أنت، نَعَم أنت! إنها - إن أنْصَتَّ بصدق - تخاطبك الآن في زمانك هذا، وفي ظروفك هذه! {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 13]! استمع إن كنت من المؤمنين بالله حقًّا، الراغبين في التلقي عنه تعالى صِدْقًا!

فعندما يجتمع الْجُلَسَاءُ متحلقين بمجالس القرآن، ويشرعون في الاشتغال بكتاب الله جل علاه؛ فإنما هم في الحقيقة يَصِلُونَ أرواحَهم بحبل الله النوراني مباشرةً، ويربطون مصابيح قلوبهم بمصدر النور الأكبر! فإذا بهم يستنيرون بصورة تلقائية، وبقوة لا نظير لها! وذلك بما اقتبسوا من نور الله العظيم! وإذا بهم يترقون بِمَعَارِجِ القرآن ومَدارِجِه إلى مشاهدة حقائق الإيمان، مشاهدةً لا يُضَامُونَ فيها شيئًا! وما كان للزجاج البلوري إذا أشرقت عليه أنوار الحقائق القرآنية إلا أن يكون مُشِعًّا! وذلك هو مَثَلُ أهل الخير المصلحين في الأرض، وَرَثَةِ الأنبياء من الربانيين والصِّدِّيقين!».

وفي الحديث

(1)

«إنَّ لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة، فضلًا يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم، حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل، وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض، يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا،

(1)

رواه البخاري: (6408)، ومسلم:(2689).

ص: 104

أي رب قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، قال: فيقولون: رب فيهم فلان عبد خَطَّاء، إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم»

(1)

.

وقد وضع الأنصاري رحمه الله عدة ضوابط لإنجاح مجالس القرآن، وتلخيصها كالتالي:

1 -

تجريد القصدِ لله! حتى يكون مجلسًا تحضره الملائكة بإذن الله؛ وتتنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمة، ويذكره الله فيمن عنده! واعلم أن القرآن الكريم لا يفتح بصائره إلا للمقبلين عليه بإخلاص! فلابد من تجديد

(1)

رواه البخاري: (6408)، ومسلم:(2689).

ولفظ البخاري: «إنَّ لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا: هلمُّوا إلى حاجتكم» ، قال:«فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: «فيسألهم ربهم، وهو أعلم منهم، ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك؟ قال: فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدًا وتحميدًا، وأكثر لك تسبيحًا قال: يقول: فما يسألوني؟ قال: «يسألونك الجنة» قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا، وأشد لها مخافة قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساءُ لا يشقى بهم جليسُهم».

ص: 105

النية كلما هممت بالخروج إلى مكان المجلس، فهو مجلسُ تَعَبُّدٍ وليس مجلسَ تَعَوُّدٍ!

فإذا أخلصت لله وحده بما تسعى إليه من التدارس والتدبر لكتابه؛ فتح لك من أنوار القرآن ما يشرق على قلبك بمعرفة اللهِ جل جلاله، ويضيء وجدانَكَ بمحبته تعالى! وذقتَ حقًّا جمال القرآن العظيم! وشاهدتَ من ملكوته ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر!

2 -

تَحَيُّنُ أوقاتِ الانشراح النفسي للقرآن، والإقبال الوجداني على الذِّكْر، ومَظَانِّ اليقظة الإيمانية.

3 -

مراعاة أدب المجلس، وذلك بالاعتدال في هيأة الجلوس بما يحفظ للعلم وقارَه، وللقرآن جلالَه.

وينبغي أن يكون ذلك بصورة تساعد على حسن الاستماع، وكمال الإنصات! فلا يصح التمدد، ولا الاسترخاء، إلا لمريض أو ذي عذر؛ أو الجلوس بهيأة تخالف الآداب الإسلامية والأذواق العامة.

4 -

عدم عقد أكثر من لقاء واحد، أو لقاءين اثنين على الأكثر في الأسبوع الواحد، من لقاءات مجالس القرآن؛ بناء على منهج التَّخَوُّلِ في الموعظة، أي جعل تزود القلب من الإيمان على فترات منتظمة وغير متتابعة،؛ حتى لا يَكَلَّ ولا يَمَلَّ.

ويتفرع عن هذا الضابط ضابط آخر، هو: عدم طول وقت المجلس الواحد بما يخرجه عن حده.

5 -

احترام قواعد تدارس القرآن العظيم من الترتيل بمنهج التلقي، والتعلم والتعليم بمنهج التدارس، والتزكية بمنهج التدبر.

ص: 106

6 -

مبادرة أحد الجلساء من أهل العلم أو أهل الحلم؛ لتسيير المجلس.

فلا بد لمجلس الخير من شخص ينظم سيره، ويرتب أولوياته؛ تجنبًا للفوضى والارتجال، أو الانزلاق إلى غير أهداف مجالس القرآن العظيم! وقد يكون هذا المسيِّر من أهل العلم، أو من أهل الصلاح والورع عمومًا.

7 -

أن يعمد إلى إشراك الجميع في عملية التدارس والتدبر، فالتدارس مشاركة كما تدل عليه صيغة (التفاعل) من عبارته.

ومن القواعد التربوية المساعدة على إشراك الجميع: الْحِرْصُ على عدم استفحال عدد الجلساء؛ حتى لا يكون جمهورًا غفيرًا! إذْ هنالك وجب أن يُولَدَ مجلسٌ قرآني جديد! فرع عن الأول؛ لأن الجمهور الكثير يصلح للمحاضرةُ، أو الخطبةُ، أو الدَّرْسُ؛ لا (التَّدارُسُ)! فهذا إنما هو خاصٌ بِالْحِلَقِ كما تبين في النصوص السابقة! والحَلَقَةُ لا يتصور انعقادها إلا بأعداد معقولة.

8 -

تجنيب الجلساء الدخولَ في الجَدَلِ العقيم! فما أهلكَ كثيرًا من الناس إلا الجدلُ!

9 -

الإعراض عن اللغو من القول والابتعاد عنه مطلقا، والتنزه عن سَفَاسِفِ الكلام، فلا ينبغي أن يخالط مجلسَ التدارس إلا ما كان من قبيل العلم، والذِّكر، والتدبر، والتفكر، والاعتبار.

وإلا أفسد الشيطان عليك مجلسَك وعبادتَك! فاستعذ بالله منه، واترك لغو الحديث! وتفرغ لذكر الله وحده! وإذا بدر شيء من ذلك من أحد جلسائك فنبهه بأدب وحكمة.

10 -

تحديد أهداف المجلس من التدارس، والتذكير بذلك من حين لآخر. وهو تحصيل التزكية للقلب بكتاب الله تعالى، والتخلق بأخلاق القرآن العظيم، من خلال مسالك التَّدَبُّر والتفكر.

ص: 107

ومن القواعد التربوية المحصِّنةِ للمجلس من آفة تبذير الوقت، أو إغراقه بدراسة الوسائل دون الغايات، أو بالخلافيات والجدل العقيم: الاعتمادُ على توزيعٍ متوازنٍ للوقت بين سائر مواد المجلس، على حسب أهميتها، بدءًا من التلاوة حتى التدارس فالتدبر؛ بصورة تعطي لكل مادةٍ حقَّها دون أن تطغى على غيرها.

ويمكن أن يكون ذلك بصور شتى، فالعبرةُ إنما هي بالنتيجة، وهي: الوصول بالقلوب إلى الدخول الذاتي في جمال القرآن تدارسًا وتدبرًا؛ لتحصيل التزكية، ومن هنا وجب أن يتحلى الْمُسَيِّرُ بالمرونة - وبالدقة أيضًا - ويوازن بين الوسائل والغايات في تنظيم الوقت؛ لتحقيق هذا الهدف النبيل!

11 -

أن يُعْتَمَدَ تفسيرٌ مختَصَرٌ من ذلك كله، مما تلقته الأمة بالقبول وأجمع على صحته السَّلَفُ والخَلَفُ.

12 -

يُقْرَأ القرآنُ أولًا! مما هو مقصود بالتدارس لذلك المجلس، ويمكن أن تُتَداولَ التلاوةُ بين جميع الحضور أو بين أغلبهم، كما يمكن أن يُكْتَفَى بتلاوة أحدهم فقط، حسب ظروف المجتمعين.

13 -

فإذا تمت حصَّة التلاوة والاستماع والإنصات إلى كتاب الله، كما يليق بكلام الله؛ فليشرع في قراءة خلاصة التفسير قراءةً مسموعة هادئة مفصَّلَةً؛ حتى يستوعب أهلُ المجلس مقاصدَ الكلام ومراميه، ثم يُشْرَع بعد ذلك في تدارس الخطاب القرآني من خلال ما تَحَصَّلَ في الذهن من معانٍ إجمالية للآيات.

وللدخول العملي في التدارس يحسن اتباع الخطوات المنهجية الآتية:

14 -

تَنَاوُلُ قَدرٍ قليل من الآيات يُشَكِّلُ معنى يحسُن السكوت عليه، والوقوف عنده.

ص: 108

15 -

يُتَحَقَّقُ من الفهم العام للمعاني التي وردت بها، وأن أهل المجلس على إدراك حسن للمقصود. ويمكن أن تثار الأسئلة حول ما أشكل منها؛ للوصول إلى بيانٍ أشمل وأوضح. ولهذا يمكن مراجعة تفسير الآيات المقصودة بالدراسة أكثر من مرة؛ إن اقتضى الحال.

16 -

فإذا اتضح المعنى؛ وجب - بعد ذلك مباشرة - الدخول في محاولة التعرف على الهُدَى المنهاجي للآية أو الآيات، وهو عَيْنُ الحِكَم المطلوب تعلُّمُها، مما ورد في آيات وظائف النبوة:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129]. وذلك بمحاولة استنباط الحقائق الإيمانية التي تتضمنها، والأحوال الخُلُقِيَّة التي تُرْشِدُ إليها، ومحاولة عدها باللسان، وإحصائها بالوجدان، وتداول ذلك بين سائر الْجُلَسَاءِ؛ حتى ترسخ بالقلب وتتضح صورتها بما يساعد على تَدَبُّرِها.

17 -

وبمعرفة ما تيسَّر من الحِكَم والمقاصد نفتح باب التدبر للآيات، والتفكر في خلق الأنفس والأرض والسماوات. وذلك لغاية التخلق بأخلاق القرآن الكريم، والاتصاف السلوكي بِحِكَمِه العظيمة! والتفكر والتدبر - إذا خلص كلاهما لله - يورثان التخلق بأخلاق القرآن بصورة تلقائية، وبلا كلفة، كما بيناه من قبل بشواهده.

18 -

فإذا تمت مدارسة السورة بأكملها، بهذا المنهج؛ فلا بد - بعد ذلك - من محاولة قطف الثمرات التالية من ثمار المدارسة، وهي:

أ- التعرف على القضايا الأساسية التي تعالجها السورة على الإجمال، وهي حقائقها الإيمانية الكبرى، التي تدور بفلك المحور الرئيس في السورة.

ب- التعرف على المحور الرئيس للسورة على الإجمال.

ص: 109

والضَّابط الكلي، الجامع لضمان سير مجالس القرآن ونجاحها هو: الحفاظ على ميثاق القرآن العظيم، والالتزام به بقوة! إذ بذلك يعرف الجليس الصادق من غيره. وإنما برهانُ صِدْقِ الجليس، وحقيقةُ انتسابه إلى أهل الله من (جلساء الملائكة)، ومصداقية ذلك كله متوقفة على مدى التزامه بميثاق القرآن العظيم، وهو عَهْدَان: عَهْدُ فِعْلٍ وعَهْدُ تَرْكٍ.

فأما (عهد الفعل) فهو يتلخص في ثلاثة التزامات:

- الالتزام الأول: الحفاظ على أوقات الصلوات المفروضة بالمسجد، من الفجر إلى العشاء؛ إلا لضرورة شرعية. مع تأكيد النفس وتوطينها على صلاة الفجر وصلاة العشاء، والاجتهاد في ذلك كله لإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام، على قدر الإمكان.

فالصلاة هي خير أعمال المسلم على الإطلاق كما تواتر معناه بطرق شتى! وهي العبادة الوحيدة الحاكمة على ما سواها من الأعمال والعبادات بإطلاق! إذا استقامت للمؤمن حقيقتُها وانكشف له سِرُّها؛ استقام له كل شيء من دينه ودنياه! كما فصلناه بأدلته بمحله، فتأمل!

- الالتزام الثاني: الحفاظ على تلاوة جزء من القرآن الكريم لكل يوم، على الدوام، في الحَضَرِ والسَّفَر سواء! حتى يكون ختم القرآن لكل فرد من أفراد المجلس عند نهاية كل شهر. وبهذا يضمن العبد السالك إلى الله زادًا إيمانيَّا يوميًّا، ومنهجًا لتذكر حقائق الإيمان التي استفادها من مجالس التدارس القرآني، فالتلاوة المستمرة تذكيرٌ وأيُّ تذكير! لمن ذاق حقيقتَها وشاهد فضيلتَها.

- والالتزام الثالث: الاجتهاد لضم جليس جديد، أو جلساء جُدُد؛ إلى مجالس القرآن، متى سنحت الفرصة، أو إنشاء مجلس جديد على التمام. وتلك

ص: 110

نعمة إيمانية - إن أكرمك الله بها - ولا كأي نعمة! فالحرص على نشر الخير والدعوة إليه؛ سِمَةٌ أساسيةٌ للمؤمن الصادق، مهما لقي في سبيل ذلك ما لقي من الحرج والعنت.

والآية التي هي الشِّعَارُ الجامِعُ لذلك كله من كتاب الله جل ثناؤه، هي ما سبقت الإشارة إليه من قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170]. تَمْسِيكٌ بالكتاب أولا: وهو الأخذ بحقائقه الإيمانية بقوة، وإقامة للصلاة ثانيا: وهو إحسان أدائها والسير إلى الله عبر مواقيتها، ثم انطلاق إلى الإصلاح والدعوة إلى الخير.

{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].

ولا أفضل في تلك من خدمة كتاب الله تعالى عمومًا! ثم لا أفضل في هذه من خدمته بإقامة (مجالس القرآن)، والدعوة إلى بنائها وتكثيرها في الأمة، ونشرها بين الأُسَرِ والأقارب، وبين الأحباب والأصحاب، سواء في صورة (المجالس الأسرية)، أو في صورة (صالونات القرآن).

وأما (عهد الترك) فهو أيضًا يتلخص في ثلاثة التزامات، وهي تتحقق عند المؤمن بمعاهدة الله جل جلاله على ترك الموبقات الثلاث - أعاذنا الله وإياكم منها! - والانقطاع عنها بتاتًا! فلا يصح سيرٌ إلى الله ولا يستقيم؛ ما دام العبد متلبسًا بها أو ببعضها، وما دام لم يتب منها توبة نصوحًا! وعهده فيها هو كما يلي:

- معاهدةُ اللهِ جل جلاله على ترك المال الحرام، وعلى رأسه الربا بكل صوره، وكذلك كل كَسْبٍ حرام، وأكل أموال الناس بالباطل، من رشوة وغيرها.

ص: 111

- معاهدة الله على ترك الزنا، وعدم الاقتراب من طرقه، وأسبابه، ومقدماته، وتجلياته، من مُخَادَنَةٍ، وبَذَاءَةٍ، وعُرْيٍ، وفُحْشٍ في اللباس والكلام والأخلاق .. إلخ. وكذا مجاهدةُ النفس على غَضِّ البصر، وترك النظر الحرام! لأن النظر الحرام يطمس البصيرة، ويذهب بالحياء، ويطفئ نور التقوى في القلب، ويخسف بجمالَ الورع في النفس، ثم يمسخ وجه صاحبه! وهو سبب كثير من الفساد والبلاء، والعياذ بالله! فلا تستهن به!

- معاهدةُ الله تعالى على ترك الخمر، ومقاطعتها من كل الوجوه بتاتًا: شربها، وإنتاجها، وتجارتها، وسائر الخدمات القائمة عليها بإطلاق! ومحاربة ملحقاتها من سائر أنواع المخدرات!

فإذا ثقلت عليك الانطلاقة إلى الله، ولم ينكشف لك نور القرآن، ولم تتبين لك حقائقه الإيمانية بمجالسه، أو لم تستقم لك الصلواتُ الخمس على مواقيتها وجماعاتها، أو لم يتخلص لك خشوعُها وجمالُها؛ فراجع نفسك في هذه الموبقات الثلاث! أو في ملحقاتها! وانظر: ما مدى أدائك لحق الله فيها؟ فإنه لا يستقيم للعبدِ سَيْرٌ إلى مولاه؛ ما لم تزل فيه لَوْثَةٌ من هذه اللوثات الثلاث! فلتتحرر من عبادة الشيطان أوَّلًا! حتى تكون عبدا لله بحق، وتستحق صفة (جليس الملائكة)! فإنما (الجلساء) هم الأتقياء! وآنئذ يقال لهم ولمن معهم:(هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم!)

(1)

.

(1)

مجالس القرآن للأنصاري، الجزء الأول، بتصرف، وهو كتاب حريٌ أن يرجع إليه.

ص: 112

‌والقرآن حجة لك أو عليك!

هل أتاك نبأ تلك الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم، وقصها على أصحابه؟!

تلك الرؤيا فيها خبر مرعبٌ حقًّا، فقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم أن صاحبيه قالا له انطلق، قال: «فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بفهر - أو صخرة - فيشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر، فانطلق إليه ليأخذه، فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه، فضربه، قلت: من هذا؟ قالا:

والذي رأيته يشدخ رأسه، فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة»

(1)

.

لهذه الدرجة، أنعم الله عليه .. آتاه القرآن، لكنَّه ترك كل ذلك، ونام عنه، ولم يعمل به، فكان هذا جزائه، فاللهم سلم .. سلم.

فالقرآن حجة لك في الدنيا والآخرة، فأما الدنيا، فعن عامر بن واثلة، أن نافع بن عبد الحارث، لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي، فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل،

(1)

رواه البخاري: (1386).

ص: 115

وإنَّه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إنَّ نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين»

(1)

.

مولى من الموالي رفعه الله بهذا الكتاب المجيد، فكان حجة له.

وحجة في الآخرة أيضًا، فعن النواس بن سمعان رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجَّان عن صاحبهما»

(2)

.

والقرآن حجة لعبد عرفه، وشهادة له بخروجه من العمى للإبصار، {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد: 19].

وحجة على عبد أعرض عنه، قَالَ تَعَالَى:{وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا {99} مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} [طه: 99 - 100].

والقرآن حجة لك وشاهد بالخيرية إن تعلمته وعلمته، فعن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خيركم من تعلم القرآن وعلمه» ، قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان، حتى كان الحجاج قال:(وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا)

(3)

.

وعن سهل بن سعد، قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة، فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال:«ما لي في النساء من حاجة» ، فقال رجل: زوجنيها، قال:«أعطها ثوبًا» ، قال: لا أجد، قال: «أعطها ولو خاتمًا من

(1)

رواه مسلم: (817).

(2)

رواه مسلم: (1912).

(3)

رواه البخاري: (5027).

ص: 116

حديد»، فاعتل له، فقال:«ما معك من القرآن؟» قال: كذا وكذا، قال:«فقد زوجتكها بما معك من القرآن»

(1)

.

والقرآن حجة لك ونجاة من الهلكة والضلال، وفي الحديث:«وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله»

(2)

.

فالقرآن حجة لك أو عليك، فانظر إلى أيهما تصير.

(1)

رواه البخاري: (5029).

(2)

رواه مسلم: (1218).

ص: 117

‌إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا

فهم المصطلحات التي يتداولها الناس من الأمور المستحسنة، والتفريق بينها، وبيان حدودها = معين على عدم الوقوع في الخطأ.

ومن هذا المنطلق سأحاول أن أعرض للفرق بين ثلاثة مصطلحات يقع بسبب الخلط بينها تجرؤ على كتاب الله، ونوع من القول على الله بلا علم، وهي:(التفسير - التدبر - التأثر).

فأقول:

* التفسير، هو:«بيان معاني القرآن العظيم»

(1)

.

وهذا البيان إما أن يصل إليه المفسر اجتهادًا، وإما أن يصل إليه تقليدًا.

والاجتهاد على قسمين:

1 -

الاجتهاد في بيان المعنى المراد من الآية، وأئمة المجتهدين هم الحجة

(2)

من الصحابة والتابعين وأتباعهم.

(1)

هذا أصح ما قيل في تعريف التفسير، وأكثره تحريرًا واختصارًا، انظر: التفسير اللغوي، ومفهوم التفسير، د. مساعد الطيار.

(2)

من مصطلحات الإمام شيخ المفسرين أبو جعفر الطبري، انظر: جامع البيان: (1/ 7)، (1/ 298).

ص: 121

2 -

أن يجتهد في التخيُّر من أقوال المجتهدين السابقين، أو بناء الأقوال على أقوالهم، وهم على طبقات شتَّى، ومن أجلهم الإمام ابن جرير، وابن عطية، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وكثير غيرهم

(1)

.

وتكاد كلمة العلماء تتفق على أهمية علم التفسير، وأنَّه من أعوص العلوم، ويقصدون بذلك حقيقة كيفية الوصول للمعنى من الآيات، وأنَّه يحتاج إلى آلات قد لا تتيسر للإنسان إلا بجهد جهيد، ومن ذلك قول الإمام ابن عطية في مقدمة تفسيره: «فإني لما رأيتُ العلومَ فنونًا، وحديث المعارف شجونًا، وسلكت فإذا هي أودية، وفي كل للسلف مقامات حسان وأندية، رأيت أن الوجه لمن تشزَّن

(2)

للتحصيل، وعزم على الوصول، أن يأخذ من كل علم طرفًا خيارا، ولن يذوق النوم مع ذلك إلا غرارًا، ولن يرتقي هذا النجد، ويبلغ هذا المجد، حتى ينضي

(3)

مطايا الاجتهاد، ويصل التأويب بالإسئاد

(4)

، ويطعم الصبِر ويكتحل بالسهاد

(5)

، فجريت في هذا المضمار صدر العمر طلقًا، وأدمنت حتى تفسخت أينا

(6)

وتصببت عرقًا، إلى أن انتهج بفضل الله عملي، وحزت من ذلك ما قسم لي، ثم رأيت أن من الواجب على من احتبى، وتخير من العلوم واجتبى، أن يعتمد على علم من علوم الشرع، يستنفد فيه غاية الوسع، يجوب آفاقه، ويتتبع

(1)

يقول الإمام ابن عطية: «وإنما عبر علماء السلف في ذلك -أي التفسير- بعبارات على جهة المثالات، فجعلها المتأخرون أقوالًا» ، المحرر الوجيز:(5/ 175).

(2)

تشزن للأمر: تهيأ له، واستعد.

(3)

أي: يُتعب.

(4)

التأويب: سير النهار كله، والإسآد: مش الليل، والمقصود من الجملة:«مواصلة البحث والاطلاع» .

(5)

السهاد: ذهاب النوم بالليل.

(6)

الأين: التعب.

ص: 122

أعماقه، ويضبط أصوله، ويحكم فصوله، ويلخص ما هو منه، أو يؤول إليه، ويعنى بدفع الاعتراضات عليه، حتى يكون لأهل ذلك العلم كالحصن المشيد، والذخر العتيد، يستندون فيه إلى أقواله، ويحتذون على مثاله.

فلما أردت أن أختار لنفسي، وأنظر في علمٍ أعد أنوارَه لظلم رمسي

(1)

، سبرتها بالتنويع والتقسيم، وعلمت أن شرف العلم على قدر شرف المعلوم فوجدت أمتنها حبالًا، وأرسخها جبالًا، وأجملها آثارًا، وأسطعها أنوارًا، علم كتاب الله جلت قدرته، وتقدست أسماؤه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، الذي استقل بالسنة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، هو العلم الذي جعل للشرع قوامًا، واستعمل سائر المعارف خدامًا منه تأخذ مبادئها، وبه تعتبر نواشئها، فما وافقه منها نصع وما خالفه رفض ودفع، فهو عنصرها النمير، وسراجها الوهاج، وقمرها المنير.

وأيقنت أنَّه أعظم العلوم تقريبًا إلى الله تعالى، وتخليصًا للنيات، ونهيًا عن الباطل، وحضًا على الصالحات، إذ ليس من علوم الدنيا فيختل حامله من منازلها صيدًا، ويمشي في التلطف لها رويدًا.

ورجوت أن الله تعالى يحرم على النار فكرًا عمرته أكثر عمره معانيه، ولسانًا مرن على آياته ومثانيه، ونفسًا ميزت براعة رصفه ومبانيه، وجالت سومها في ميادينه ومغانيه، فثنيت إليه عنان النظر، وأقطعته جانب الفكر، وجعلته فائدة العمر، وما ونيت - علم الله- إلا عن ضرورة بحسب ما يلم في هذه الدار من شغوب، ويمس من لغوب، أو بحسب تعهد نصيب من سائر المعارف.

(1)

أي: تراب قبره.

ص: 123

فلما سلكت سبله بفضل الله ذللًا، وبلغت من اطراد الفهم فيه أملًا، رأيت أن نكته وفوائده تغلب قوة الحفظ وتفدح، وتسنح لمن يروم تقييدها في فكره وتبرح، وأنَّها قد أخذت بحظها من الثقل، فهي تتفصى من الصدر تفصي الإبل من العقل.

قال الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5].

قال المفسرون: أي علم معانيه والعمل بها.

ففزعت إلى تعليق ما يُتَنخَّل لي في المناظرة من علم التفسير وترتيب المعاني، وقصدت فيه أن يكون جامعًا وجيزًا محررًا، لا أذكر من القصص إلا ما لا تنفك الآية إلا به، وأثبت أقوال العلماء في المعاني منسوبة إليهم على ما تلقى السلف الصالح - رضوان الله عليهم - كتاب الله من مقاصده العربية السليمة من إلحاد أهل القول بالرموز، وأهل القول بعلم الباطن، وغيرهم، فمتى وقع لأحد من العلماء الذين قد حازوا حسن الظن بهم لفظ ينحو إلى شيء من أغراض الملحدين نبهت عليه.

وسردت التفسير في هذا التعليق بحسب رتبة ألفاظ الآية من حكم، أو نحو، أو لغة، أو معنى، أو قراءة، وقصدت تتبع الألفاظ حتى لا يقع طفر

(1)

كما في كثير من كتب المفسرين .. وقصدت إيراد جميع القراءات: مستعملها وشاذها، واعتمدت تبيين المعاني وجميع محتملات الألفاظ، كل ذلك بحسب جهدي وما انتهى إليه علمي، وعلى غاية من الإيجاز وحذف فضول القول.

وأنا أسأل الله جلت قدرته، أن يجعل ذلك كله لوجهه، وأن يبارك فيه وينفع به، وأنا وإن كنت من المقصرين فقد ذكرت في هذا الكتاب كثيرًا من علم

(1)

أي: وثب أو قفز.

ص: 124

التفسير، وحملت خواطري فيه على التعب الخطير، وعمرت به زمني، واستفرغت فيه منني

(1)

، إذ كتاب الله تعالى لا يتفسر إلا بتصريف جميع العلوم فيه، وجعلته ثمرة وجودي، ونخبة مجهودي، فليستصوب للمرء اجتهاده، وليعذر في تقصيره وخطئه وحسبنا الله ونعم الوكيل»

(2)

.

وقد آثرت أن أنقله بتمامه، لتعرف مدى الجهد الذي ينبغي أن يبذله طالب علم التفسير، للوصول للمعاني من الآيات.

فخلاصة الأمر: أن التفسير علم عظيم، خطير، جليل، وهو من أعوص علوم الشريعة، لا كما يُظَن، ومتعلقه كلام الله تعالى، وهو شرح له وبيان عن معانيه وأحكامه، قدر الطاقة البشرية.

ومن ثم فإن مسؤوليته عظيمة، والكلام فيه بغير علم كاف وتحقيق تام = من الافتراء على الله، والقول عليه بغير علم، ولذا كان كثير من السلف، أصحاب الفهوم الصحيحة، والألسن الفصيحة، يتورعون عن الكلام فيه بحرف، ويقولون الله أعلم بما قال، وما عندهم من العلم في القرآن أعظم مما عند أكبر كابر في الخلف، والآثار عن شيخي الإسلام ووالدي المسلمين أبي بكر وعمر في الكلام في القرآن بالرأي محفوظة مشهورة.

وكثير من الناس يظن أن التفسير مجرد (تأليف)، ولربما سماه تأملًا، أو خواطر، وغير ذلك، ولا يغني هذا عن التبعة المذكورة

(3)

.

(1)

أي: قوتي.

(2)

المحرر الوجيز: (1/ 33 - 35)، وانظر: مقدمة الزمخشري لكتابه الكشاف.

(3)

من كلام للشيخ عمرو بسيوني.

ص: 125

* أما التدبر فأقرب ما يمكن أن يقال في تعريفه، «تأمل القرآن بقصد الاتعاظ والامتثال»

(1)

.

أو «الوقوف مع الآيات والتأمل فيها، والتفاعل معها؛ للانتفاع والامتثال»

(2)

.

- وهذا التدبر لا بد أن يسبقه فهم للمعنى المراد من الآية، إذ محل التدبر مدلولات الآيات، يقول الإمام الطبري رحمه الله في تقرير هذا المعنى: «وفي حث الله عز وجل عباده على الاعتبار بما في آي القرآن، من المواعظ والتبيان، بقوله جل ذكره، لنبيه صلى الله عليه وسلم:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ 29} [ص: 29]، وقوله:{ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} [الزمر: 28]، وما أشبه ذلك من آي القرآن، التي أمر الله عباده، وحثهم فيها، على الاعتبار بأمثال آي القرآن، والاتعاظ بمواعظه، ما يدل على أن عليهم معرفة تأويل ما لم يحجب عنهم تأويله من آيات.

لأنَّه محال أن يقال لمن لا يفهم ما يقال له ولا يعقل تأويله: اعتبر بما لا فهم لك به، ولا معرفة من القيل والبيان إلا على معنى الأمر بأن يفهمه ويفقهه، ثم يتدبره ويعتبر به. فأما قبل ذلك، فمستحيل أمره بتدبره، وهو بمعناه جاهل، كما محال أن يقال لبعض أصناف الأمم الذين لا يعقلون كلام العرب ولا يفهمونه. لو أنشدت قصيدة شعر من أشعار بعض العرب، ذات أمثال ومواعظ وحكم: اعتبر بما فيها من الأمثال، وادكر بما فيها من المواعظ إلا بمعنى الأمر لها بفهم كلام العرب ومعرفته، ثم الاعتبار بما نبهه عليه ما فيها من

(1)

انظر: تحرير معنى التدبر عند المفسرين، د. فهد الوهبي.

(2)

مفهوم التدبر في ضوء القرآن والسنة وأقوال السلف وأحوالهم، د. محمد الربيعة.

ص: 126

الحكم، فأما وهي جاهلة بمعاني ما فيها من الكلام والمنطق؛ فمحال أمرها بما دلت عليه معاني ما حوته من الأمثال والعبر، بل سواء أمرها بذلك وأمر بعض البهائم به، إلا بعد العلم بمعاني المنطق والبيان الذي فيها.

فكذلك ما في آي كتاب الله، من العبر والحكم والأمثال والمواعظ، لا يجوز أن يقال: اعتبر بها، إلا لمن كان بمعاني بيانه عالمًا، وبكلام العرب عارفًا، وإلا بمعنى الأمر لمن كان بذلك منه جاهلًا، أن يعلم معاني كلام العرب، ثم يتدبره بعد، ويتعظ بحكمه وصنوف عبره.

فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه، قد أمر عباده بتدبره، وحثهم على الاعتبار بأمثاله، كان معلوما أنَّه لم يأمر بذلك من كان بما يدل عليه آيه جاهلًا.

وإذا لم يجز أن يأمرهم بذلك، إلا وهم بما يدلهم عليه عالمون، صح أنهم بتأويل ما لم يحجب عنهم علمه من آيه الذي استأثر الله بعلمه منه دون خلقه الذي قد قدمنا صفته آنفا عارفون»

(1)

.

وعليه، فيمكن التفريق بين التدبر والتفسير من عدة وجوه:

1 -

أنَّ التفسير هو كشف المعنى المراد في الآيات، والتدبر هو ما وراء ذلك من إدراك مغزى الآيات ومقاصدها، واستخراج دلالاتها وهداياتها، والتفاعل معها، واعتقاد ما دلت عليه وامتثاله.

2 -

أنَّ التدبر أمر به عامة الناس للانتفاع بالقرآن والاهتداء به، ولذلك خوطب به ابتداءً الكفار في آيات التدبر، والناس فيه درجات بحسب رسوخ العلم والإيمان وقوة التفاعل والتأثر.

(1)

جامع البيان: (1/ 76).

ص: 127

وأمَّا التفسير فمأمور به بحسب الحاجة إليه لفهم كتاب الله تعالى بحسب الطاقة البشرية، ولذا فإن الناس فيه درجات كما قال ابن عباس:«التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله»

(1)

.

3 -

أنَّ التدبر لا يحتاج إلى شروط إلا فهم المعنى العام مع حسن القصد وصدق الطلب، ولذلك قال الله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، أما التفسير فله شروط ذكرها العلماء، لأنه من القول على الله، ولذا تورع عنه بعض السلف

(2)

.

* ومما ينبغي أن يُعلم أن الناس على درجات متفاوتة في التدبر بحسب آلاتهم وإمكاناتهم، فليس تدبر العالم المتبحر في الشريعة كتدبر العامي، ولكل درجات، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.

على أنَّ كثيرًا من الناس قد يتجرأ على كتاب الله تعالى فيفسره بمعهود قومه، أو بما يهجم على خاطره من المعاني، وقد يسمي ذلك خواطر أو تأملات أو تدبر أو غير ذلك، وهذا من الخطأ ومجانبة للصواب.

ولست أريد هنا بيان كيفية التدبر، والمعين عليه، وموانع ذلك، .. إلى غير ذلك، فقد أُفردَت مصنفات في بيان ذلك

(3)

، ولكني أريد أن أبين أن الله

(1)

جامع البيان: (1/ 70).

(2)

مفهوم التدبر في ضوء القرآن والسنة وأقوال السلف وأحوالهم، د. محمد الربيعة.

(3)

ومنها:

1 -

تدبر القرآن، للأستاذ سلمان السنيدي.

2 -

قواعد التدبر، للشيخ العلامة عبد الرحمن حبنكة الميداني.

3 -

المراحل الثمان، د. عصام العويد.

4 -

مجموع أوراق العمل بالملتقى العلمي الأول للتدبر، والملتقى الثاني.

5 -

تعليم تدبر القرآن الكريم: للدكتور هاشم بن علي الأهدل.

6 -

الخلاصة في تدبر القرآن، للشيخ د. خالد السبت.

7 -

تدبر القرآن الكريم، للشيخ د. عبد اللطيف التويجري.

وغيرها كثير، ويمكن متابعة إصدارات مركز تدبر ففيها خير كبير.

ص: 128

تعالى حين شرع التدبر للناس لم يشرع لهم أن يتجرؤوا على كتابه، بل هذا أمر لهم بتحصيل الآلة المعينة على تدبر القرآن

(1)

.

ولذلك فسأطرح هنا خطوات عملية لمريد التدبر أن يسلكها لينجو إن شاء الله تعالى من الوقوع في المحذور:

أولًا: على مريد التدبر أن يتعرف على المعنى الإجمالي للآيات - على الأقل - ليضبط تدبره

(2)

، «إنَّ التدبر هو مرحلة ما بعد التفسير .. ! أي ما بعد الفهم للآية.

لكن الفهم المطلوب لتحصيل التدبر إنما هو الفهم الكلي العام، أو بعبارة أخرى: الفهم البسيط.

ولا يشترط في ذلك تحقيق أقوال المفسرين والغوص في دقائق كتب التفسير! وإلا صار القرآن موجهًا إلى طائفة محصورة فقط! ومن ثم يمكن لأي شخص أن يتدبر القرآن بعد التحقق من المعنى المشهور للآية، يقرؤها من أي تفسير أو يسمعها»

(3)

.

(1)

ومما ينبغي التنبه له: أنَّه يكثر - في شهر رمضان خاصًّة - تجرؤ كثير من الناس على كتاب الله بالتفسير والبيان، تحت مسميات مختلفة:(تدبر، وخواطر، ولطائف)، وكثير من الدُّعاة يهجم على الآيات، بل قد يفسرها بمعهود قومه، وكل هذا من القول على الله بلا علم!

(2)

ككتاب التفسير الميسر، والمختصر في التفسير.

(3)

هذه رسالات القرآن، للأنصاري:(61).

ص: 129

ثانيًا: كلما ازدادت معرفتك بالآية، وسبب نزولها، وفضلها - إن وجد - فإن تدبرك سيكون أعمق، فلا تقتصر على الكتب التي تحمل المعنى الإجمالي، بل عليك بما هو أوسع من ذلك

(1)

.

ثالثًا: من أعظم طرق التدبر (تثوير القرآن)

(2)

، ومراجعة حل ما ثورته على نفسك من كتب التفسير، أو أحد من أهل العلم بكتاب الله تعالى.

رابعًا: لا تبادر بنشر ما توصلت إليه إلا بعد مراجعة ونظر وتدارس، ولا تستنكف من قبول الحق إن بان فيما توصلت إليه خطأ نبهك غيرك على وجه الصواب فيه.

* أما التأثر فهو ضرب من ضروب التدبر، وهو ما يسميه بعض العلماء (التدبر الوجداني)

(3)

، وهذا التأثر يختلف عن التدبر بالمعنى المتقدم بأنه قد لا يحتاج إلى تأمل عقلي أو إلى معرفة بالدلالات العميقة للآيات.

ولا بد من التنبيه على أن بعض المشركين، وبعض الأعاجم يقع عنده من التأثر بالقرآن مع عدم معرفة المعنى، إذ للقرآن سطوة على النفوس!

وإنما نبهت على ذلك لأنه قد يخلطُ بعضُ النَّاسِ بين التَّدبُّرِ والتَّأثُّرِ من سماع القرآن، فيجعلونَ القشعريرةَ التي تصيب الإنسان والخشوعَ الذي يلحقُه بسبب تأثيرِ القرآنِ عليه هو التَّدبُّرُ، وليسَ الأمرُ كذلك.

فالتَّدبُّرُ عمليَّةٌ عقليَّةٌ تحدثُ في الذِّهنِ، والتَّأثُّرُ انفعالٌ في الجوارحِ والقلبِ، وقد يكونُ بسبب التَّدبُّرِ، وقد يكونُ بسببِ روعةِ القرآنِ ونظمه، وقد يكونُ بسبب

(1)

كمختصرات ابن كثير، والمعين لمجد مكي.

(2)

انظر حول هذا المعنى مقال: (تثوير القرآن).

(3)

رسالات القرآن، فريد الأنصاري:(81).

ص: 130

حالِ الشَّخصِ في تلكَ اللَّحظةِ، واللهُ أعلمُ

(1)

.

* تنبيهات:

1 -

ثم فرق بين التفسير وبين المعلومات الموجودة في كتب التفسير، فليس كل معلومة موجودة في كتب التفسير هي من صلب علم التفسير، إذ كل علم له بالقرآن تعلق، وقد يستطرد المفسر في علم برع فيه، فيتكلم عليه في سياقات كلامه عن الآيات

(2)

، وقد يذكر بعض اللطائف والفوائد وغير ذلك.

وهذه اللطائف والفوائد هي في الحقيقة نوع من التدبر للقرآن المجيد.

2 -

«كُلُّ عالِمٍ أو كلُّ مفسِّرٍ متدبرٌ، وليس كل متدبرٍ مفسِّرًا» ! فتأمل ..

(3)

!

ختامًا: إنَّ بعض ما يسميه الناس تدبرات وخواطر، إنما هي في الحقيقة (أُمنيات) = أي: إنَّه يتمنى أن تكون الآية كما يتمنى هو لا ما هي عليه على الحقيقة!!

فلتحذر من أن تحمل الآيات على ما تريد، فإنه اتباع للهوى، وقانا الله منه.

(1)

مفهوم التفسير، والتأويل:(204).

(2)

انظر مقال: علم التفسير وسؤال المنهجية، للكاتب.

(3)

هذه رسالات القرآن: (70).

ص: 131

‌يا ليتني أعطيتُ القرآن عمري

عبر الأئمة الأعلام عن أسفهم على تضييع أوقاتهم في غير معاني القرآن، قال الثوري:«ليتني كنت اقتصرتُ على القرآن»

(1)

.

وقال ابن تيمية، وكان آية من آيات الله تعالى في التفسير، والتوسع فيه، ولعله يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين، وقد بقي يفسر (سورة نوح) عدة سنين، قال في سجنه الأخير:«قد فتح الله عليَّ في هذا الحصن في هذه المدَّة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء مات كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن»

(2)

.

وقال الفراهي: «ولما كانت هذه المشاغل تمنعني عن التجرد لمطالعة القرآن المجيد، ولا يعجبني غيره من الكتب التي مللت النظر في أباطيلها، غير متون الحديث، وما يعين على فهم القرآن، تركت الخدمة، ورجعت إلى وطني، وأنا بين خمسين وستين من عمري، فيا أسفا على عمر ضيعته في أشغال ضرها أكبر من نفعها! ونسأل الله الخاتمة على الإيمان»

(3)

.

(1)

العلل، لأحمد:(1083).

(2)

الجامع لسيرة شيخ الإسلام: (465)، (669)، (284)، (268).

(3)

مجلة الضياء، نقلًا عن مقدمة مفردات القرآن:(20).

ص: 135

وقال أبو إسحاق الحويني باكيًا: «فترةَ مُنعنا من ارتياد المساجد كانت فترة مباركة أن يعيد الإنسان قراءة القرآن مرة أخرى

لما أتيح لنا أن نخلو بكتاب ربنا وبسنة نبينا انكشف كثير من الغطاء .. كثير من الآيات كان الواحد يقرأها ولا يقف كثيرًا عند معانيها، تسنى لي أن أجلس وأن أفعل هذا .. فيا ليتني أعطيت القرآن عمري».

فينبغي على العاقل أن يبدأ رحلته مع القرآن، وأن يترقى في معايشة القرآن والانتفاع بنوره وهديه.

وكتقريب للأمر، فإن تحصيل صحبة القرآن الواردة في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت»

(1)

، وقوله:«يقال لصاحب القرآن يوم القيامة إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه»

(2)

= لها شرطان:

الأول: شرط علمي.

الثاني: شرط عملي.

وهذا تفصيل لتلك الشروط، وبداية الطريق لتحصيلها:

‌أولًا: الشرط العلمي

وهذا الشرط يحتوي على ثلاثة مستويات:

المستوى الأول: معرفة المهم من علوم القرآن.

ومما يعين على تحصيل هذا الشرط:

(1)

رواه البخاري: (5031)، ومسلم:(789).

(2)

رواه أحمد: (10087)، (11360).

ص: 136

1 -

برنامج (تاج الكرامة)، التابع لمركز:(آيات).

2 -

برنامج (طليعة الكفاية)، التابع لموقع:(إنَّه القرآن).

3 -

كتاب: (الدليل إلى القرآن)، عمرو الشرقاوي، وله شرح على موقع:(إنه القرآن).

4 -

كتاب: (مدخل إلى التعريف بالمصحف الشريف)، د. حازم حيدر، معهد الإمام الشاطبي، وله شرح مرئي عليه.

المستوى الثاني: معرفة المهم من قواعد التجويد.

ومما يعين على تحصيل هذا الشرط:

الأفضل الالتزام بشيخ أو معلمة، في دور القرآن أو خارجها، ولمن لا يقدر على ذلك، فيمكنه أن يسلك التالي:

1 -

برنامج (تاج الكرامة)، التابع لمركز آيات.

2 -

حلقات (أساسيات التجويد)، د. صفوت سالم، أكاديمية زاد.

3 -

كتاب (التجويد المصور)، د. أيمن سويد، مع شرحه له.

كل هذا: مع سماع القرآن من مصاحف متقنة التلاوة مثل: مصحف الشيخ الحصري رحمه الله.

المستوى الثالث: معرفة المهم من الألفاظ والتراكيب.

وأقترح عليه عدة ختمات ينتفع بها في معرفة الألفاظ والتراكيب:

1 -

ختمة غريب القرآن، من كتاب:(السراج في بيان غريب القرآن)، للشيخ محمد الخضيري، كرسي القرآن الكريم وعلومه.

2 -

ختمة محتويات السور والآيات، من كتاب:(محتويات سور القرآن)، للشيخ أحمد محمد الطويل، مدار الوطن.

ص: 137

3 -

ختمة المعنى الإجمالي، من كتاب:(المختصر في التفسير)، إعداد مركز تفسير للدراسات القرآنية.

- أو دورة (الأترجة) كبديل صوتي مناسب.

ولو لم يسعف الوقت، فليقتصر على المفصل من القرآن، وهو: من سورة (الحجرات) إلى سورة (الناس).

ومن متمِّمات هذا الشرط، أن يحفظ الإنسان المفصل من القرآن، ففيه خير عظيم، ويعينه على الاستمتاع بتلاوة الكتاب في الصلاة عن ظهر غيب.

‌ثانيًا: الشرط العملي

ويؤخذ هذا الشرط من تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن، وقد قال تعالى:{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ 91 وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ 92} [النمل: 91 - 92]، وقال سبحانه:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ 19} [الأنعام: 19]، وقال:{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ 45} [الأنبياء: 45].

فتلاوة القرآن، والإنذار به انفعال، وهذا الانفعال لا بد أن يسبق بالامتلاء من الوحي!

والسبيل إلى الامتلاء الذي يسبق الانفعال، يمكننا إجماله في معالم ثلاثة:

ص: 138

‌المَعْلَمُ الأوَّل: المحبة.

لقد كان النبي يحب نزول الوحي عليه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: «ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟» ، قال: فنزلت: {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا} [مريم: 64] الآية

(1)

.

وقد انعكس هذا المعلم على الصحابة، عن أنس، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر:«انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء. فجعلا يبكيان معها»

(2)

.

‌المَعْلَمُ الثاني: التعاهد.

ويشتمل على أمور:

‌1 - التلاوة.

أشار الله سبحانه وتعالى إلى أفضل طرق المعاهدة، والتي ينبغي لحافظ القرآن الاعتناء بها، وهي قيام الليل بالمحفوظ من القرآن، قال الله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء: 79]، وإن الليل مظنة الحضور والفهم وصفاء النفس وتفريغ القلب من العلائق والشواغل.

(1)

رواه البخاري: (7455).

(2)

رواه مسلم: (2454).

ص: 139

والنبي صلى الله عليه وسلم هو المخاطب بذلك، وبقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 1 - 4].

عن حذيفة، قال:«صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوُّذ تعوَّذ، ثم ركع، فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم» ، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال:«سمع الله لمن حمده» ، ثم قام طويلًا قريبًا مما ركع، ثم سجد، فقال:«سبحان ربي الأعلى» ، فكان سجوده قريبًا من قيامه»

(1)

.

عن عبد الله بن مغفل، قال:«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو على ناقته أو جمله، وهي تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح - أو من سورة الفتح - قراءة لينة يقرأ وهو يرجع»

(2)

.

‌2 - الاستماع.

عن عبد الله، قال:«قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي القرآن) قال: فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك؟ وعليك أنزل؟ قال: (إني أشتهي أن أسمعه من غيري)، فقرأتُ النساء حتى إذا بلغت: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [سورة: النساء، آية رقم: 41] رفعتُ رأسي، أو غمزني رجل إلى جنبي، فرفعتُ رأسي فرأيت دموعَه تسيل»

(3)

.

(1)

رواه مسلم (772).

(2)

رواه البخاري: (5047).

(3)

رواه البخاري: (5055)، ومسلم:(800).

ص: 140

عن أنس بن مالك: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالَ لأُبَي: (إنَّ الله أمرني أن أقرأ عليك)، قال: آلله سماني لك؟ قال: (الله سماك لي)، قال: فجعل أُبَي يبكي»

(1)

.

‌3 - التدارس.

عن ابن عباس، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقَاه في كل ليلة من رمضان فيدارسهُ القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة»

(2)

.

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82] شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، أيُّنا لا يظلم نفسه؟ قال:«ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني لا تشرك بالله، إنَّ الشرك لظلمٌ عظيم»

(3)

.

‌المعلم الثالث: التأول.

عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) يتأوَّل القرآن»

(4)

.

(1)

رواه البخاري: (4959)، ومسلم:(799).

ولفظ البخاري: عن أنس رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن» قال أبي: آلله سماني لك؟ قال: «الله سماك لي» فجعل أبي يبكي، قال قتادة: فأنبئت أنَّه قرأ عليه: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} [البينة: 1].

(2)

رواه البخاري: (6).

(3)

رواه البخاري: (3429).

(4)

رواه البخاري: (817)، ومسلم:(484).

ص: 141

قال النووي: «يعمل ما أُمر به»

(1)

.

وسئلت عائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت:«ألست تقرأ القرآن؟» قلت: بلى، قالت:«فإنَّ خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن»

(2)

، وفي لفظ:«كان خلقه القرآن، تقرؤون سورة المؤمنين؟ قالت: اقرأ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ 1} [المؤمنون: 1]، قال: يزيد فقرأت {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ 1} [المؤمنون: 1] إلى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ 5} [المؤمنون: 5]»

(3)

، وفي لفظ:«كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه»

(4)

.

قال ابن رجب: «تعني: أنَّه كان تأدَّب بآدابه، وتخلَّق بأخلاقه، فما مدحه القرآن، كان فيه رضاه، وما ذمه القرآنُ، كان فيه سخطه»

(5)

.

قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، قال ابن القيم: «وهذه من أعظم آيات نبوَّتِهِ ورسالته، لمن مَنَحَهُ اللهُ فهمها .. فهذه كانت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم المقتبسة من مشكاة القرآن، فكان كلامه مطابقًا للقرآن؛ تفصيلًا له وتبيينًا، وعلومُهُ علوم القرآن، وإراداتُهُ وأعمالُهُ ما أوجبَهُ ونَدَبَ إليه القرآنُ، وإعراضُهُ وتَرْكُه لما مَنَعَ منه القرآنُ، ورَغْبَتُهُ فيما رغَّبَ فيه، وزُهْدُه فيما زهَّدَ فيه، وكراهته لما كَرِهَهُ، ومحبته لما أحبَّهُ، وسَعْيُهُ في تنفيذ أوامره، وتبليغِهِ، والجهادِ في إقامته.

(1)

شرح مسلم: (4/ 201).

(2)

رواه مسلم: (746).

(3)

رواه البخاري في الأدب المفرد: (308).

(4)

شعب الإيمان: (3/ 23).

(5)

جامع العلوم والحكم: (413).

ص: 142

فترجَمَتْ أُمُّ المؤمنين - لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وحسن تعبيرها - عن هذا كلِّه بقولها:(كان خُلُقُهُ القرآنُ)، وفَهِمَ السائلُ عنها هذا المعنى، فاكتفى به واشتفى»

(1)

.

(1)

التبيان: (317).

ص: 143

«من أحبَّ القرآنَ فليبشر»

ابن مسعود

[سنن سعيد بن منصور: (1/ 12)]

ص: 145

‌لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله!

سأذكر في هذا الفصل جوانب من حياة السلف رضوان الله عليهم مع القرآن، وفيها تذكرة وعبرة، ورفع همة القارئ ليحاول الوصول إلى هذه الأحوال، فلينظر الناظر في هذه الآثار مع ملاحظة المجاهدة التي جاهدوها، والبلاء الذي أبلوه، وليجتهد كما اجتهدوا، وليكابد كما كابدوا، فلا ينبغي أن ينظر إلى كمال النهاية، بل عليه أن ينظر لحُرقة البداية

(1)

.

كانت للسلف رضوان الله عليهم عناية بالغة بكتاب الله تعالى من جوانب شتى، وهذه العناية أثر من آثار تمسكهم بهدي النبي صلى الله علهم وسلم، وقد برز تعاهدهم للقرآن الكريم في عدة جوانب، ومنها

(2)

:

(1)

قال ابن عطاء الله: «من أراد النهايات .. فعليه بتصحيح البدايات» ، تاج العروس:(156)، وقال:«من أشرقت بدايته .. أشرقت نهايته» ، الحكم:(20).

(2)

من الكتب المهمة في هذا الباب:

1 -

معرفة القراء الكبار، للإمام الذهبي.

2 -

غاية النهاية، للإمام ابن الجزري.

3 -

حال السلف مع القرآن، د. بدر بن ناصر البدر، دار الحضارة، وقد استفدت منه كثيرًا.

4 -

منهج السلف في العناية بالقرآن، د. بدر بن ناصر البدر.

تنبيه: قد لا تتضح بعض معاني مفردات هذه الآثار لبعض القراء الكرام، والمقصود منها واضح، وهو كافٍ - إن شاء الله في حصول الغرض المقصود -، نفعنا الله بها .. آمين.

ص: 147

*‌

‌ محبتهم للقرآن، وإقبالهم عليه:

- إنَّ من يعرف نعمة الله عز وجل عليه بالقرآن يتلوه ويتدبره ويعمل به، ويقدرها حق قدرها ولا يزال موصولًا مرتبطًا بها، يسأل ربه جل وعلا ألا يحرمه إياها وألا يمنعه بركتها وخيرها، بل يتحسر عند انقطاعها ويحزن على ذلك، وذلك دليل صدق المحبة والرغبة، ومن أمثلة ذلك ما رواه أنس، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر:«انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء. فجعلا يبكيان معها»

(1)

.

- وكان أبو الحلال ربيعة بن زرارة العتكي يقوم آخر الليل بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن مع إطالة السجود والانكسار والتذلل بين يدي الله عزو جل، ولما كبر سنه وضع له مقام مرتفع يسجد عليه، وكان يقول في سجوده:«اللهم لا تسلبني القرآن»

(2)

.

- وعن ثابت البناني، ورجل آخر: «أنهما دخلا على مطرِّف وهو مغمى عليه، قال: فسطعت معه ثلاثة أنوار: نور من رأسه، ونور من وسطه، ونور من رجليه، فهالنا ذلك، فأفاق، فقلنا: كيف أنت يا أبا عبد الله؟ قال: صالح.

(1)

رواه مسلم: (2454).

(2)

حلية الأولياء: (3/ 105).

ص: 148

فقيل: لقد رأينا شيئًا هالنا. قال: وما هو؟ قلنا: أنوار سطعت منك. قال: وقد رأيتم ذلك؟ قالوا: نعم. قال: تلك تنزيل السجدة، وهي تسع وعشرون آية، سطع أولها من رأسي، ووسطها من وسطي، وآخرها من قدمي، وقد صورت تشفع لي، فهذه ثوابية تحرسني»

(1)

.

- وعن الزهري: «سألت علي بن الحسين عن القرآن؟ فقال: كتاب الله وكلامه»

(2)

.

- وعن نافع، قال:«لما غسل أبو جعفر القارئ - أحد الأئمة العشرة في حروف القراءات -، نظروا ما بين نحره إلى فؤاده كورقة المصحف، فما شك من حضره أنَّه نور القرآن»

(3)

.

- وقال سحنون: «رأيت ابن القاسم في النوم، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: وجدت عنده ما أحببت. قلت: فأي عمل وجدت؟ قال: تلاوة القرآن. قلت: فالمسائل؟ فأشار يلشِّيها. وسألته عن ابن وهب، فقال: في عليين»

(4)

.

- وقال فروة بن نوفل الأشجعي: «كنت جارًا لخبَّاب، فخرجت يومًا معه إلى المسجد، وهو آخذ بيدي، فقال: يا هناه، تقرب إلى الله بما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه»

(5)

.

(1)

سير أعلام النبلاء: (4/ 194)، ولفظه في الحلية:(2/ 206): «فهذا ثوبها يحرسني» ، وفي رواية:«فهذه تبارك تحرسني» .

(2)

سير أعلام النبلاء: (4/ 396).

(3)

سير أعلام النبلاء: (5/ 288).

(4)

سير أعلام النبلاء: (9/ 122).

(5)

سير أعلام النبلاء: (11/ 284).

ص: 149

*‌

‌ عنايتهم بالقرآن:

كان السلف يعتنون بالقرآن تلاوةً، وحفظًا، وتدبرًا، ومن ذلك:

- فعن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «كان إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه»

(1)

.

- وقال يحي بن معاذ الرازي: «أشتهي من الدنيا شيئين: بيتًا خاليًا، ومصحفًا جيد الخط أقرأ فيه القرآن»

(2)

.

- وقال الضَّحاك بن مزاحم: «ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيَه إلا بذنب يحدثه؛ لأن الله عز وجل يقول: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] وإنَّ نسيان القرآن من أعظم المصائب»

(3)

، وعن أبي العالية قال:«كنَّا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه»

(4)

.

- وعن أبي وائل، قال: أتي عبد الله - ابن مسعود - بمصحف قد زين بالذهب، فقال عبد الله:«إنَّ أحسن ما زُيِّن به المصحف تلاوته بالحق»

(5)

.

*‌

‌ وكانوا يجتهدون في تلاوة القرآن:

- فقد كان الحسن بن أبي الحسن البصري يقول: «تفقَّدوا الحلاوة في ثلاث: الصلاة، والقرآن، والدعاء، فإن وجدتموها فاحفظوا واحمدوا الله على

(1)

رواه البخاري: (4526).

(2)

التذكار في أفضل الأذكار: (ص: 177 - 178).

(3)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 202).

(4)

فتح الباري: (9/ 86).

(5)

مصنف بن أبي شيبة: (30235).

ص: 150

ذلك، وإن لم تجدوها فاعلموا أن أبوابَ الخير عليكم مغلقة»

(1)

.

- وعن ابن شوذب، قال:«كان عروة بن الزبير يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف ويقوم به ليله» قال: «فما تركه إلا ليلة قطع رجله» قال: «ثم عاود حزبه من الليلة المقبلة»

(2)

.

- وعن إبراهيم، قال:«كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال»

(3)

.

- وقال عمرو بن عبد الرحمن بن محيريز: «كان جدِّي يختم في كل جمعة، وربما فرشنا له، فلم ينم عليه»

(4)

.

- وقال سلام بن أبي مطيع: «كان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان، ختم في كل ثلاث، فإذا جاء العشر، ختم كل ليلة»

(5)

.

- وقال ابن وهب: «قيل لأخت مالك: ما كان شغل مالك في بيته؟ قالت: المصحف، التلاوة»

(6)

.

- وقال أحمد بن ثعلبة: «سمعت سلمًا الخواص، قال: قلت لنفسي: يا نفس، اقرئي القرآن كأنك سمعتيه من الله حين تكلم به، فجاءت الحلاوة»

(7)

.

(1)

شعب الإيمان: (6834).

(2)

حلية الأولياء: (2/ 178).

(3)

سير أعلام النبلاء: (4/ 51).

(4)

سير أعلام النبلاء: (4/ 495).

(5)

سير أعلام النبلاء: (5/ 276).

(6)

سير أعلام النبلاء: (8/ 111).

(7)

سير أعلام النبلاء: (8/ 180).

ص: 151

- وعن حسين العنقزي، قال:«لما نزل بابن إدريس الموت، بكت بنته. فقال: لا تبكي يا بنية، فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة»

(1)

.

- وقال الربيع بن سليمان من طريقين عنه، بل أكثر:«كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة» ، ورواها ابن أبي حاتم عنه، فزاد:«كل ذلك في صلاة»

(2)

.

- وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: «سمعت الربيع يقول: كان الشافعي يختم القرآن في كل رمضان ستين ختمة، وفي كل شهر ثلاثين ختمة، وكان يحدِّث وطست تحته

(3)

، فقال يومًا: اللهم إن كان لك فيه رضى، فزد. فبعث إليه إدريس بن يحيى المعافري - يعني: زاهد مصر -: لست من رجال البلاء، فسل الله العافية»

(4)

.

- وعن مسبح بن سعيد قال: «كان محمد بن إسماعيل يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاثِ ليال بختمة»

(5)

.

*‌

‌ وقد كانوا يخافون ويحزنون إذا ضاع حزبهم من القرآن:

- قال أبو داود الجفري: «دخلت على كرز بن وبرة بيته فإذا هو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ قال: إنَّ بابي مغلق، وإنَّ ستري لمسبل، ومنعت حزبي أن أقرأه البارحة، وما هو إلا من ذنبٍ أحدثته»

(6)

.

(1)

سير أعلام النبلاء: (9/ 44).

(2)

سير أعلام النبلاء: (10/ 36).

(3)

لأنه كان مصابًا بالبواسير رضي الله عنه، والطست: وعاء أو إناء.

(4)

سير أعلام النبلاء: (10/ 83).

(5)

سير أعلام النبلاء: (12/ 439).

(6)

سير أعلام النبلاء: (5/ 79).

ص: 152

- وعن أبي سعيد الخدري، قال:«عليك بتقوى الله، فإنَّه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد، فإنَّه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنَّه روحك في أهل السماء، وذكرك في أهل الأرض، وعليك بالصمت إلا في حق، فإنَّك تغلب الشيطان»

(1)

.

- وقال أبو الأحوص: قال لنا أبو إسحاق السبيعي: «يا معشر الشباب، اغتنموا -يعني: قوتكم وشبابكم - قلما مرت بي ليلة إلا وأنا أقرأ فيها ألف آية، وإني لأقرأ البقرة في ركعة، وإني لأصوم: الأشهر الحرم، وثلاثة أيام من كل شهر، والاثنين، والخميس»

(2)

.

*‌

‌ وأما عنايتهم بحفظ القرآن؛ فكثير،

منه:

- ما ثبت عن عبد الله بن مسعود: «والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة»

(3)

.

- وقال قتادة لسعيد بن المسيب: «خذ المصحف فأمسك علي» قال: فقرأ سورة البقرة فما أسقط منها واوًا ولا ألفًا ولا حرفًا فقال: يا أبا النضر أحكمت قال: «نعم» ، قال:«لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة، وإنما قَدِمتُ عليه مرةً واحدة»

(4)

.

- وقال أبو بكر بن عياش: «كان الأعمش يعرض القرآن، فيمسكون عليه المصاحف، فلا يخطئ في حرف»

(5)

.

(1)

سير أعلام النبلاء: (3/ 170).

(2)

سير أعلام النبلاء: (5/ 397).

(3)

البخاري: (5000).

(4)

حلية الأولياء: (2/ 334).

(5)

سير أعلام النبلاء: (6/ 235).

ص: 153

- وقال أبو عبد الله بن بشر القطان: «ما رأيت أحسن انتزاعًا لما أراد من آي القرآن من أبي سهل بن زياد، وكان جارنا، وكان يديم صلاة الليل، والتلاوة، فلكثرةِ درسه صار القرآن كأنه بين عينيه»

(1)

.

- وقال جعفر بن سليمان الضبعي: «كان مالك بن دينار من أحفظ الناس للقرآن وكان يقرأ علينا كل يوم جزءًا من القرآن حتى ختم فإن أسقط حرفًا قال: بذنب مني وما الله بظلامٍ للعبيد»

(2)

.

*‌

‌ ومن وجوه عنايتهم بالقرآن، قيامهم الليل بالقرآن:

- يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لقد رأيت أثرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أرى أحدًا يشبههم، والله إن كانوا ليصبحون شُعثًا غبرًا صفرًا، بين أعينهم مثل ركب المعزى، قد باتوا يتلون كتاب الله، يراوحون بين أقدامهم وجباههم، إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح، فانهملت أعينهم حتى تبل والله ثيابهم، والله لكأنَّ القوم باتوا غافلين»

(3)

.

- وعن الربيع بن أنس رضي الله عنه قال: «كان أبو بكر رضي الله عنه إذا صلى من الليل خفض صوته جدًّا، وكان عمر رضي الله عنه إذا صلى رفع صوته جدًّا، فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا بكر لو رفعت من صوتك شيئًا، وقال أبو بكر رضي الله عنه: يا عمر لو خفضت من صوتك شيئًا فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بأمرهما فأنزل الله {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا 110} [الإسراء: 110] فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهما فقال: يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئًا، وقال لعمر رضي الله عنه: اخفض من صوتك شيئًا»

(4)

.

(1)

سير أعلام النبلاء: (15/ 521).

(2)

حلية الأولياء: (6/ 288).

(3)

حلية الأولياء: (1/ 76).

(4)

الدر المنثور: (5/ 350).

ص: 154

- وعن سفيان، قال: بلغنا أن أم الربيع بن خثيم، كانت تنادي ابنها الربيع فتقول: يا بني يا ربيع ألا تنام فيقول: «يا أُمَّهْ من جن عليه الليل وهو يخاف البيات حق له أن لا ينام»

(1)

.

- ولما حضرت معاذ بن جبل الوفاة قال: «اللهم إن كنت تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار ولا لغرس الشجر، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر»

(2)

.

- وقال عمرو بن عتبة بن فرقد: «سألت الله ثلاثًا فأعطاني اثنتين وأنا أنتظر الثالثة؛ سألته أن يزهدني في الدنيا، فما أبالي ما أقبل منها وما أدبر، وسألته أن يقويني على الصلاة، فرزقني منها، وسألته الشهادة، فأنا أرجوها»

(3)

.

*‌

‌ وكان إذا فاتهم الحزب قضوه:

- يقول عبد الرحمن بن عبد القاري: استأذنت على عمر بالهاجرة، فحبسني طويلًا، ثم أذن لي، وقال:«إنِّي كنت في قضاء وردي»

(4)

.

- وعن خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي، قال: دخلت على عبد الله بن عمرو وهو يقرأ في المصحف، فقلت له، فقال:«هذا جزئي الذي أقرأ به الليلة»

(5)

.

- وعن إبراهيم النخعي، قال:«كان أحدهم إذا بقي عليه من جزئه شيء، فنشط، قرأه بالنهار، أو قرأه من ليلة أخرى» . قال: «وربما زاد أحدهم»

(6)

.

(1)

حلية الأولياء: (2/ 114).

(2)

الزهد لأحمد: (1011).

(3)

حلية الأولياء: (4/ 155).

(4)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 185).

(5)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 185).

(6)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 187).

ص: 155

- وقال عقبة بن عامر: «ما تركت حزب سورة من القرآن من ليلتها منذ قرأت القرآن»

(1)

.

- وقال بكار بن محمد السيريني: «وكان لعبد الله بن عون سبع يقرؤه كل ليلة، فإذا لم يقرأه أتمه بالنهار»

(2)

.

*‌

‌ وكانوا يعتنون بترتيل القرآن، وتحسين الصوت به:

- قال سعيد بن عبد العزيز: حدثني أبو يوسف حاجب معاوية: أنَّ أبا موسى الأشعري قدم على معاوية، فنزل في بعض الدور بدمشق، فخرج معاوية من الليل ليستمع قراءته

(3)

؛ وقال أبو عثمان النهدي: «ما سمعت مزمارًا ولا طنبورًا ولا صنجًا أحسن من صوت أبي موسى الأشعري؛ إن كان ليصلي بنا فنود أنَّه قرأ البقرة من حسن صوته»

(4)

. وفي رواية: «كان أبو موسى يصلي بنا، فلو قلت: إني لم أسمع صوت صنج قط، ولا صوت بربط قط، ولا شيئًا قط أحسن من صوته»

(5)

. وقال العجلي: «ولم يكن في الصحابة أحد أحسن صوتًا منه»

(6)

.

- قال سلمة بن عاصم: «كان عاصم بن أبي النجود ذا أدب، ونسك، وفصاحة، وصوت حسن»

(7)

.

(1)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 186).

(2)

سير أعلام النبلاء: (6/ 370).

(3)

سير أعلام النبلاء: (2/ 382).

(4)

سير أعلام النبلاء: (2/ 392).

(5)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 163).

(6)

سير أعلام النبلاء: (2/ 383).

(7)

سير أعلام النبلاء: (5/ 259).

ص: 156

- يقول الأعمش: «كان يحيى بن وثاب من أحسن الناس قراءة، ربما اشتهيت أن أقبل رأسه من حسن قراءته، وكان إذا قرأ، لا تسمع في المسجد حركة، كأن ليس في المسجد أحد»

(1)

.

- وعن أبي عبد الرحمن الحبلي: «أن عُقبة كان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن. فقال له عمر: اعرض علي. فقرأ، فبكى عمر»

(2)

.

- وعن أنس: «قدمنا البصرة مع أبي موسى، فقام من الليل يتهجد، فلما أصبح، قيل له: أصلح الله الأمير! لو رأيت إلى نسوتك وقرابتك وهم يستمعون لقراءتك! فقال: لو علمت، لزينت كتاب الله بصوتي، ولحبرته تحبيرًا»

(3)

.

- وقال الحافظ عبد الغني المقدسي: «أضافني رجل بأصبهان، فلما تعشَّينا، كان عنده رجل أكل معنا، فلما قمنا إلى الصلاة لم يصل، فقلت: ما له؟ قالوا: هذا رجل شمسي. فضاق صدري، وقلت للرجل: ما أضفتني إلا مع كافر! قال: إنه كاتب، ولنا عنده راحة، ثم قمت بالليل أصلي، وذاك يستمع، فلما سمع القرآن تزفر، ثم أسلم بعد أيام، وقال: لما سمعتك تقرأ، وقع الإسلام في قلبي»

(4)

.

*‌

‌ وكانوا يعتنون بتعلم القرآن وتعليمه:

- عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خيرُكم من تعلَّم القرآنَ وعلمه»

(5)

.

(1)

سير أعلام النبلاء: (4/ 381).

(2)

سير أعلام النبلاء: (2/ 468).

(3)

سير أعلام النبلاء: (2/ 392).

(4)

سير أعلام النبلاء: (21/ 453 - 454).

(5)

رواه البخاري: (5027).

ص: 157

- وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علي» قال: قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل قال: «إني أشتهي أن أسمعه من غيري» قال: فقرأتُ النِّساء حتى إذا بلغت: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء: 41] قال لي: (كفَّ - أو أمسِك -) فرأيت عينيه تذرفان»

(1)

.

- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب:«إنَّ الله أمرني أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} [البينة: 1] قال: وسماني؟ قال: (نعم)، فبكى»

(2)

.

- وعن عبادة بن الصامت، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم عليه مهاجر دفعه إلى رجل منَّا يعلِّمه القرآن»

(3)

.

- وكانوا يجلسون لتعليم الناس القرآن، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه:«بعثني الأشعري إلى عمر، فقال لي: كيف تركت الأشعري؟ قلت: تركته يعلم الناس القرآن. فقال: أما إنَّه كيس! ولا تسمعها إيَّاه»

(4)

.

- وعن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلمه» ، قال:«وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان، حتى كان الحجاج» ، قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا»

(5)

.

(1)

رواه البخاري: (5055).

(2)

رواه البخاري: (3809).

(3)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 206).

(4)

سير أعلام النبلاء: (2/ 390).

(5)

البخاري: (5027).

ص: 158

- وقال إسحاق بن إبراهيم: «سمعت الكسائي يقرأ القرآن على الناس مرتين»

(1)

.

- وقال محمد بن كعب القرظي: «جمع القرآن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو أيوب وأبو الدرداء، فلما كان زمن عمر بن الخطاب كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: إنَّ أهل الشام قد كثروا وربلوا وملئوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فأعني يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم، فدعا عمر أولئك الخمسة فقال لهم: إنَّ إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلِّمهم القرآن ويفقههم في الدين، فأعينوني رحمكم الله بثلاثة منكم، إن أجبتم فاستهموا، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا، فقالوا: ما كنا لنتساهم، هذا شيخ كبير لأبي أيوب وأما هذا فسقيم لأبي بن كعب فخرج معاذ وعبادة وأبو الدرداء، فقال عمر: ابدؤوا بحمص فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يلقن فإذا رأيتم ذلك فوجهوا إليه طائفة من الناس فإذا رضيتم منهم فليقم بها واحد وليخرج واحد إلى دمشق والآخر إلى فلسطين. وقدموا حمص فكانوا بها حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة وخرج أبو الدرداء إلى دمشق ومعاذ إلى فلسطين، وأما معاذ فمات عام طاعون عمواس، وأما عبادة فصار بعد إلى فلسطين فمات بها، وأما أبو الدرداء فلم يزل بدمشق حتى مات»

(2)

.

*‌

‌ وكانوا يبذلون الغالي والنفيس في تعلم القرآن:

- قال أبو الدرداء: «لو أعيتني آية من كتاب الله عز وجل، فلم أجد أحدًا

(1)

سير أعلام النبلاء: (9/ 132).

(2)

ابن سعد، الطبقات الكبرى:(2/ 356).

ص: 159

يفتحها علي إلا رجلًا ببرك الغماد لرحلت إليه»

(1)

.

- وجاء عن الإمام، القدوة، المقرئ، الفقيه، شيخ القراء، الأسدي، الكاهلي مولاهم، الكوفي، أحد الأئمة الأعلام. يحي بن وثاب: «حيث دخل هو وأبوه الكوفة، فطلب من أبيه البقاء بها ليتعلم كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بملازمة حِلَق أهل العلم فيها

؛ فقال يحيى: يا أبت، إني آثرت العلم على المال. فأذن له في المقام، فأقبل على القرآن، وتلا على أصحاب علي، وابن مسعود، حتى صار أقرأَ أهل زمانه»

(2)

.

- وقال أبو بكر شعبة بن عياش الأسدي: «اختلفت إلى عاصم نحوًا من ثلاث سنين، في الحر والشتاء والمطر، حتى ربما استحييت من أهل مسجد بني كاهل»

(3)

.

- وعن خلف، قال:«كنت أحضر بين يدي الكسائي وهو يتلو، وينقطون على قراءته مصاحفهم»

(4)

.

- وجاء عن الإمام الكبير، شيخ الإسلام، عمران بن ملحان التميمي، البصري، من كبار المخضرمين، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد فتح مكة، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم، «أخذ القرآن، وتلقاه عن أبي موسى الأشعري، ثم عرضه على ابن عباس رضي الله عنهما، وهو أسن من ابن عباس»

(5)

.

(1)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 101).

(2)

سير أعلام النبلاء: (4/ 379 - 380).

(3)

سير أعلام النبلاء: (8/ 502).

(4)

سير أعلام النبلاء: (9/ 132).

(5)

سير أعلام النبلاء: (4/ 253 - 254).

ص: 160

*‌

‌ وكانوا يعتنون بتعليم القرآن ويحثون عليه:

- قال عبد الله بن عمرو بن العاص: «عليكم بالقرآن فتعلموه، وعلموه أبناءكم، فإنكم عنه تسألون، وبه تجزون، وكفى به واعظًا لمن عقل»

(1)

.

- وكان أبو العالية يقول لطلابه: «تعلموا القرآن فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه وإياكم وهذه الأهواء؛ فإنها توقع بينكم العداوة والبغضاء وعليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يتفرقوا»

(2)

.

*‌

‌ وكانوا ينصحون طلبته، ويثنون على المجتهدين منهم، ويصبرون على تعليمهم:

- قال مالك بن دينار: «يا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإنَّ القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض»

(3)

.

- وعن أبي حمزة، قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، وإني أقرأ القرآن في ثلاث فقال:«لأن أقرأ البقرة في ليلة فأَدَّبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ كما تقول»

(4)

.

- وعن أبي الزاهرية، أن رجلًا أتى أبا الدرداء بابنه، فقال: يا أبا الدرداء إنَّ ابني هذا قد جمع القرآن. فقال: «اللهم اغفر، إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع»

(5)

.

(1)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 52).

(2)

حلية الأولياء: (2/ 218).

(3)

حلية الأولياء: (2/ 358).

(4)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 157).

(5)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 132).

ص: 161

- وقال عبيد المكتب: قلت لمجاهد: رجل قرأ البقرة وآل عمران، ورجل قرأ البقرة؛ قيامهما واحد، وركوعهما واحد، وسجودهما واحد، وجلوسهما واحد، أيهما أفضل؟ فقال:«الذي قرأ البقرة» . ثم قرأ {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} [الإسراء: 106]»

(1)

.

- وقال علقمة: كنت رجلًا قد أعطاني الله حسن الصوت بالقرآن، وكان ابن مسعود يرسل إلي، فأقرأ عليه، فإذا فرغت من قراءتي، قال: زدنا - فداك أبي وأمي - فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ حسن الصوت زينة القرآن)

(2)

.

- وعن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، أنَّه كان يقرأ القرآن، فيمر بالآية، فيقول للرجل:«خذها، فوالله لهي خير مما على الأرض من شيء»

(3)

.

- وقال يحيى بن آدم: قال لي أبو بكر: «تعلمت من عاصم القرآن، كما يتعلم الصبي من المعلم، فلقي منِّي شدة، فما أحسن غير قراءته، وهذا الذي أحدثك به من القراءات إنما تعلمته من عاصم تعلمًا»

(4)

.

- وقال يحيى بن سليمان الجعفي: حدثنا يحيى بن المبارك قال: «كنَّا نقرأ على حمزة بن حبيب الزيات ونحن شباب، فإذا جاء سليم بن عيسى الحنفي. قال لنا حمزة: تحفَّظوا وتثبتوا قد جاءكم سليم»

(5)

.

- وكان عمرو بن قيس الملائي يقرئ الناس القرآن، فكان يجلس بين يدي

(1)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 158).

(2)

سير أعلام النبلاء: (4/ 58).

(3)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 52).

(4)

سير أعلام النبلاء: (8/ 502).

(5)

معرفة القراء الكبار: (1/ 84).

ص: 162

رجل رجل حتى يفرغ منهم، وكان إذا مشى لا يمشي أمامهم فيقول:«تعالوا نمشي جميعًا»

(1)

.

- وقال عيسى بن مينا (قالون): «كان نافع من أطهر الناس خلقًا ومن أحسن الناس قراءة، وكان زاهدًا جوادًا صلى في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة»

(2)

.

- وقال مسلم بن مشكم: «قال لي أبو الدرداء: اعدد من في مجلسنا. قال: فجاؤوا ألفًا وست مائة ونيفًا، فكانوا يقرؤون، ويتسابقون عشرة عشرة، فإذا صلى الصبح انفتل، وقرأ جزءًا، فيحدقون به، يسمعون ألفاظه، وكان ابن عامر مقدَّمًا فيهم»

(3)

.

- وقال الأخفش: «مر الحسن بأبي عمرو وحلقته متوافرة والناس عكوف فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو عمرو، فقال: لا إله إلا الله، كادت العلماء أن تكون أربابًا، كل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل يؤول»

(4)

.

- وجاء في ترجمة مقرئ دمشق، العلامة، أبو الحسن محمد بن النضر بن مر بن الحر الربعي، الدمشقي، ابن الأخرم، تلميذ هارون الأخفش الدمشقي. كانت له حلقة عظيمة بجامع دمشق يقرؤون عليه من بعد الفجر إلى الظهر

(5)

.

- وروي عن حفص بن سليمان قال: قال لي عاصم: «ما كان من القراءة التي أقرأتك بها، فهي القراءة التي قرأت بها على أبي عبد الرحمن السلمي، عن

(1)

حلية الأولياء: (5/ 102).

(2)

غاية النهاية: (2/ 333).

(3)

سير أعلام النبلاء: (2/ 346).

(4)

غاية النهاية: (1/ 291).

(5)

سير أعلام النبلاء: (15/ 565).

ص: 163

علي رضي الله عنه. وما كان من القراءة التي أقرأت بها أبا بكر بن عياش، فهي القراءة التي كنت أعرضها على زر بن حبيش، عن ابن مسعود رضي الله عنه»

(1)

.

* وكانوا رحمهم الله يرشدون طلابهم إلى الطريقة المثلى لحفظ القرآن الكريم ومراجعته ومعاهدته، وهذا من نتائج تجاربهم وثمار تحصيلهم واجتهادهم:

- ومن ذلك قول أبي العالية رفيع بن مهران الرياحي: «تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات؛ فإنه أحفظ لكم»

(2)

.

- وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: «حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا»

(3)

.

- وعن ابن مسعود، قال:«كان الرجل منَّا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن»

(4)

.

- قال محمد بن علي السلمي: «قمت ليلة سَحَرًا لآخذ النوبة على ابن الأخرم، فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئًا، وقال: لم تدركني النوبة إلى العصر»

(5)

.

- وقال الأعمش: «ما رأيت مثل طلحة، إن كنت قائمًا فقعدت قطع القراءة، وإن كنت محتبيًا فحللت حبوتي قطع القراءة كراهية أن يكون قد

(1)

معرفة القراء الكبار: (1/ 53).

(2)

حلية الأولياء: (2/ 219).

(3)

ابن تيمية، مجموع الفتاوى:(13/ 331).

(4)

تفسير الطبري: (1/ 74). تفسير ابن كثير: (1/ 8).

(5)

سير أعلام النبلاء: (15/ 565).

ص: 164

أملني»

(1)

، وقال:«كان طلحة بن مصرف يجيئني فأقريه فلا يطلبني حتى أخرج، فإن تنحنحت أو سعلت قام»

(2)

.

- وقال سفيان بن سعيد الثوري: «عمرو بن قيس هو الذي أدبني وعلمني قراءة القرآن، وعلمني الفرائض، فكنت أطلبه في سوقه، فإن لم أجده في سوقه وجدته في بيته، إما أن يصلي، وإما يقرأ في المصحف، كأنه يبادر أمورًا تفوته، فإن لم أجده في بيته وجدته في بعض مساجد الكوفة، في زاوية من بعض زوايا المسجد، كأنه سارق قاعدًا يبكي، فإن لم أجده وجدته في المقبرة قاعدًا ينوح على نفسه»

(3)

.

*‌

‌ ومن صور اعتنائهم بالقرآن، إكرام حملته، وتوقيرهم، والقيام بحقهم:

- قال الحسن بن فهم: «ما رأيت أنبل من خلف بن هشام، كان يبدأ بأهل القرآن، ثم يأذن لأصحاب الحديث»

(4)

.

- وقال مجاهد: «كان لعبد الرحمن بن أبي ليلى بيت يجتمع فيه القراء فيه مصاحف، فقلما تفرقوا إلا عن طعام»

(5)

.

- وكان لعون بن عبد الله جارية يقال لها: بشرة، تقرأ بألحان، فقال لها يومًا: اقرئي على إخواني. فكانت تقرأ بصوت وجيع حزين، فرأيتهم يلقون العمائم، ويبكون. فقال لها يومًا: يا بشرة، قد أعطيت بك ألف دينار لحسن

(1)

حلية الأولياء: (5/ 18).

(2)

حلية الأولياء: (5/ 18).

(3)

حلية الأولياء: (5/ 100)، سير أعلام النبلاء:(6/ 250).

(4)

سير أعلام النبلاء: (10/ 579).

(5)

حلية الأولياء: (4/ 351).

ص: 165

صوتك، اذهبي، فأنت حرة لوجه الله

(1)

.

*‌

‌ وكانوا يعتنون بفهم القرآن، وتعلمه، ويحثون عليه، ويجدون في ذلك:

- وقد قال ابن عباس، في قوله:{ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} [البقرة: 269]«يعني المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله»

(2)

.

- وعن إبراهيم التيمي، قال: خلا عمر ذات يوم فجعل يحدث نفسه كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس فقال: «كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؛ وقبلتها واحدة؟» فقال ابن عباس: «يا أمير المؤمنين، إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم نزل، وإنَّه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا» . قال: فزبره عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس. ونظر عمر فيما قال، فعرفه، فأرسل إليه، فقال:«أعد علي ما قلت» . فأعاده عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه

(3)

.

- وقال قتادة: «ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئًا»

(4)

.

- وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لقد عشنا دهرًا طويلًا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالًا يؤتى أحدهم القرآن

(1)

سير أعلام النبلاء: (5/ 105)، حلية الأولياء:(4/ 264).

(2)

تفسير الطبري: (5/ 8).

(3)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 102).

(4)

سير أعلام النبلاء: (5/ 271).

ص: 166

قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه ينثره نثر الدقل»

(1)

.

- وكان ابن عمر يقول: «كان الفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإنَّ آخر هذه الأمة يقرءون القرآن منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به»

(2)

.

- وقال أبو عبد الرحمن السلمي: «كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعرف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها»

(3)

.

- وروي عن خلف بن هشام البزار، قال:«ما أظن القرآن إلا عارية في أيدينا، وذلك إنا روينا أن عمر بن الخطاب حفظ البقرة في بضع عشرة سنة، فلما حفظها نحر جزورا شكرًا لله، وإن الغلام في دهرنا هذا يجلس بين يدي فيقرأ ثلث القرآن لا يسقط منه حرفًا، فما أحسب القرآن إلا عارية في أيدينا»

(4)

.

‌ومن ثناء الناس على علماء التفسير من الصحابة، وتقديرهم لعلمهم:

- يقول طلحة بن عبيد الله: «لقد أعطي ابن عباس فهمًا وعلمًا، ما كنت أرى عمر بن الخطاب يقدم عليه أحدًا»

(5)

، وقال عبد الله بن مسعود:«نعم ترجمان القرآن ابن عباس»

(6)

. وعن مجاهد، قال: «كان ابن عباس رضي الله

(1)

إحياء علوم الدين: (1/ 275).

(2)

تفسير القرطبي: (1/ 40).

(3)

تفسير القرطبي: (1/ 39).

(4)

تفسير القرطبي: (1/ 40).

(5)

الطبقات الكبرى: (2/ 370). سير أعلام النبلاء: (3/ 347).

(6)

الطبقات الكبرى: (2/ 366). تفسير الطبري: (1/ 84).

ص: 167

تعالى عنه يسمى البحر من كثرة علمه»

(1)

، وعن طاووس، قال:«ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس»

(2)

، وعنه أيضًا، قال:«أدركت نحوًا من خمس مائة من الصحابة، إذا ذاكروا ابن عباس، فخالفوه، فلم يزل يقررهم حتى ينتهوا إلى قوله»

(3)

.

- وقال عطاء بن أبي رباح: «ما رأيت مجلسًا أكرم من مجلس ابن عباس، أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشِّعر عنده يصدرهم كلهم من واد واسع»

(4)

.

- وعن أبي صالح باذام مولى أم هانئ، قال:«لقد رأيت من ابن عباس مجلِسًا لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها فخرًا، لقد رأيت الناس اجتمعوا حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر على أن يجيء ولا أن يذهب، قال: فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال: لي: ضع لي وضوءًا، قال: فتوضأ وجلس، وقال: اخرج وقل لهم: من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أراد منه فليدخل. قال: فخرجت فأذنتهم، فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثل ما سألوا عنه أو أكثر، ثم قال: «إخوانكم» ، فخرجوا، ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن تفسير القرآن وتأويله فليدخل، قال: فخرجت فأذنتهم، فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثل ما سألوه عنه أو أكثر، ثم قال: إخوانكم، فخرجوا، ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الحلال

(1)

حلية الأولياء: (1/ 316). الطبقات الكبرى: (2/ 366).

(2)

سير أعلام النبلاء: (3/ 350).

(3)

سير أعلام النبلاء: (3/ 351).

(4)

الإصابة في تمييز الصحابة: (1/ 56).

ص: 168

والحرام والفقه فليدخل، فخرجت فقلت لهم، قال: فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله، ثم قال: إخوانكم، فخرجوا .. »

(1)

.

*‌

‌ وكانوا يعملون بالقرآن:

- كان ابن عمر يقول: «كنَّا صدر هذه الأمة وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معه إلا السورة من القرآن أو شبه ذلك، وكان القرآن ثقيلًا عليهم ورزقوا العمل به، وإن آخر هذه الأمة يخفف عليهم القرآن حتى يقرأه الصبي والأعجمي فلا يعملون به»

(2)

.

- وجاء رجل لأبي بن كعب، فقال أوصني، قال:«اتخذ كتاب الله إمامًا، وارض به قاضيًا وحكَمًا، فإنه الذي استخلف فيكم رسولكم، شفيع مطاع، وشاهدٌ لا يُتَّهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم، وحكم ما بينكم، وخبركم وخبر ما بعدكم»

(3)

.

- وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينفق على مسطح بن أثاثة رضي الله عنه، فلما خاض في حادثة الإفك وبرَّأ الله ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أوقف النفقة عليه ومنعه منها، فلما نزل قوله تعالى:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، أعاد النفقة عليه وقال:«لا جرم والله لا أمنعه معروفًا كنت أوليه قبل اليوم» ، وفي رواية: «أن أبا بكر كان يضعف له بعد ذلك

(1)

حلية الأولياء: (1/ 320).

(2)

أخلاق أهل القرآن، للآجري:(98).

(3)

حلية الأولياء: (1/ 253).

ص: 169

بعدما نزلت هذه الآية ضعفي ما كان يعطيه»

(1)

.

- وعن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولًا كانوا أو شبانًا» ، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس:«فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر» ، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إنَّ الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199]، وإنَّ هذا من الجاهلين، «والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله»

(2)

.

*‌

‌ وكانت لهم أحوال ومواجيد عند قراءة القرآن، والاستماع إليه:

- فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علي» قال: قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل قال: «إني أشتهي أن أسمعه من غيري» قال:

(1)

رواه البخاري: (4757)، ومسلم:(2770)، ولفظه: «قالت: فأنزل الله عز وجل: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة} منكم عشر آيات فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات براءتي، قالت: فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله عز وجل: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى} إلى قوله: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} [النور: 22]، قال حبان بن موسى: قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله، فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: لا أنزعها منه أبدًا))، وانظر: الدر المنثور: (6/ 163).

(2)

روه البخاري: (4642).

ص: 170

فقرأت النساء حتى إذا بلغت: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء: 41] قال لي: «كفَّ - أو أمسِك -» فرأيت عينيه تذرفان»

(1)

.

- وعن أبي صالح، قال: لما قدم أهل اليمن في زمن أبي بكر رحمة الله عليه فسمعوا القرآن فجعلوا يبكون، فقال أبو بكر الصديق:«هكذا كنَّا ثم قست القلوب»

(2)

.

- وقال عروة بن الزبير: «دخلت على أسماء وهي تصلي فسمعتها وهي، تقرأ هذه الآية {فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم} [الطور: 27] فاستعاذت فقمت وهي تستعيذ فلما طال علي أتيت السوق ثم رجعت وهي في بكائها تستعيذ»

(3)

.

- وقال عبد الرحمن بن عجلان: «بتُّ عند الربيع بن خثيم ذات ليلة، فقام يصلي فمر بهذه الآية: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات} [الجاثية: 21] الآية فمكث ليلته حتى أصبح ما جاوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد»

(4)

.

- و عن عبد الله بن رباح، قال:«كان صفوان بن محرز المازني إذا قرأ هذه الآية: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء: 227] بكى حتى أقول: اندق قصيص زوره»

(5)

.

(1)

رواه البخاري: (5055).

(2)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 135).

(3)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(2/ 55).

(4)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(2/ 112).

(5)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(2/ 214).

ص: 171

- وقام الحسن البصري ذات ليلة يصلي، فلم يزل يردد هذه الآية حتى السحر {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، فلما قيل له في ذلك، قال:«أرى فيها معتبرًا، ما أرفع طرفًا ولا أرده إلا وقع على نعمة، وما لا يعلم من نعم الله أكثر»

(1)

.

- وجاء في سيرة محمد بن المنكدر: «بينما هو ذات ليلة قائم يصلي إذ استبكى وكثر بكاؤه حتى فزع أهله، وسألوه ما الذي أبكاه فاستعجم عليهم، وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فأخبروه بأمره، فجاء أبو حازم إليه، فإذا هو يبكي، قال: يا أخي، ما الذي أبكاك؟ قد رعت أهلك، أفمن علة؟ أم ما بك؟ قال: فقال: إنه مرت بي آية في كتاب الله عز وجل، قال: وما هي؟ قال: قول الله تعالى: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} [الزمر: 47] قال: فبكى أبو حازم أيضا معه واشتد بكاؤهما، قال: فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتفرج عنه فزدته، قال: فأخبرهم ما الذي أبكاهما»

(2)

. ولذلك قال عنه مالك بن أنس: «كان محمد بن المنكدر سيد القراء، ولا يكاد أحد يسأله عن حديث إلا كان يبكي»

(3)

.

- وعن ابن عيينة، قال:«كان عمر بن ذر إذا قرأ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ 4} [الفاتحة: 4]، قال: يا لك من يوم! ما أملأ ذكرك لقلوب الصادقين!»

(4)

.

ص: 172

- وقال نعيم بن حماد: «قال رجل لابن المبارك: قرأت البارحة القرآن في ركعة. فقال: لكني أعرف رجلًا لم يزل البارحة يكرر: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ 1} [التكاثر: 1] إلى الصبح، ما قدر أن يتجاوزها - يعني نفسه -»

(1)

.

- وقال أبو سليمان الداراني: «كان علي بن الفضيل لا يستطيع أن يقرأ: {الْقَارِعَةُ 1} [القارعة: 1]، ولا تقرأ عليه»

(2)

.

- وقال إبراهيم بن بشار: «الآية التي مات فيها علي بن الفضيل في الأنعام: {ولو ترى إذ وقفوا على النار، فقالوا يا ليتنا نرد} [الأنعام: 27]، مع هذا الموضع مات، وكنت فيمن صلى عليه رحمه الله»

(3)

.

- وعن مسروق، قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، صلى ليلة حتى أصبح، أو كاد، يقرأ آية يرددها، ويبكي:{أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} [الجاثية: 20]»

(4)

.

- وقال القاسم بن أبي أيوب: «سمعت سعيدًا يردد هذه الآية في الصلاة بضعًا وعشرين مرة: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281]»

(5)

.

- وقال أبو بكر ابن عياش: «دخلت على عاصم، فأغمي عليه، ثم أفاق، ثم قرأ قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 62] الآية، فهمز، فعلمت أن القراءة منه سجية»

(6)

.

(1)

سير أعلام النبلاء: (8/ 397).

(2)

سير أعلام النبلاء: (8/ 445).

(3)

سير أعلام النبلاء: (8/ 446).

(4)

سير أعلام النبلاء: (2/ 445).

(5)

سير أعلام النبلاء: (4/ 324).

(6)

سير أعلام النبلاء: (5/ 260).

ص: 173

- وقال محمد بن عوف الحمصي: «رأيت أحمد بن أبي الحواري عندنا بأنطرسوس، فلما صلى العتمة، قام يصلي، فاستفتح ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 2} [الفاتحة: 2] إلى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 5} [الفاتحة: 5]، فطفت الحائط كله، ثم رجعت، فإذا هو لا يجاوزها، ثم نمت، ومررت في السحر وهو يقرأ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، فلم يزل يرددها إلى الصبح»

(1)

.

- وعن أحمد بن سهل الهروي، قال:«كنت ساكنًا في جوار بكار بن قتيبة، فانصرفت بعد العشاء، فإذا هو يقرأ: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26]. قال: ثم نزلت في السحر، فإذا هو يقرؤها، ويبكي، فعلمت أنَّه كان يتلوها من أول الليل»

(2)

.

- وقال أبو عثمان المغربي: «ليكن تدبرك في الخلق تدبر عبرة، وتدبرك في نفسك تدبر موعظة، وتدبرك في القرآن تدبر حقيقة. قال الله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن} [النساء: 82] جرَّأك به على تلاوته، ولولا ذلك لكَلَّت الألسن عن تلاوته»

(3)

.

*‌

‌ وكانوا يحذرون أهل القرآن من الانشغال عنه:

- فقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال: «يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح لكم الطريق، فاستبقوا الخيرات، لا تكونوا عيالًا على الناس»

(4)

.

(1)

سير أعلام النبلاء: (12/ 88).

(2)

سير أعلام النبلاء: (12/ 600).

(3)

سير أعلام النبلاء: (16/ 321).

(4)

النووي، التبيان في آداب حملة القرآن:(1/ 54).

ص: 174

- وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال:«يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، فإن أخذتم يمينًا وشمالًا، لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا»

(1)

.

- وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «لو أنَّ حملة القرآن أخذوه وما ينبغي له لأحبهم الله، ولكن طلبوا به الدنيا فأبغضهم الله وهانوا على الناس»

(2)

.

- وقال شميط بن عجلان: «يعمد أحدهم فيقرأ القرآن ويطلب العلم، حتى إذا علمه أخذ الدنيا فضمَّها إلى صدره، وحملها على رأسه، فنظر إليه ثلاثة ضعفاء: امرأة ضعيفة، وأعرابي جاهل، وأعجمي، فقالوا: هذا أعلم بالله منَّا، لو لم ير في الدنيا ذخيرة ما فعل هذا، فرغبوا في الدنيا وجمعوها. وكان أبي يقول: فمثله كمثل الذي قال الله عز وجل: {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} [النحل: 25]»

(3)

.

- وقال أبو عبيد: وحكي لي عن سفيان بن عيينة أنَّه قال: «من أعطي القرآن فمد عينيه إلى شيء مما صغر القرآن فقد خالف القرآن، ألم تسمع قوله سبحانه وتعالى:{ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم} [الحجر: 88]، وقوله أيضا:{ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} [طه: 131]. قال: يعني القرآن، وقوله أيضًا:{وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى} [طه: 132]

(4)

.

(1)

البخاري: (7282).

(2)

تفسير القرطبي: (1/ 20).

(3)

حلية الأولياء: (3/ 130).

(4)

فضائل القرآن، لأبي عبيد:(1/ 114).

ص: 175

- وقال سفيان الثوري: «يا معشر القراء ارفعوا رءوسكم لا تزيدوا التخشع على ما في القلب، فقد وضح الطريق، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا تكونوا عيالًا على المسلمين»

(1)

.

- وقال الشعبي: «ما رأيت قوما قط أكثر علمًا، ولا أعظم حلمًا، ولا أكف عن الدنيا من أصحاب عبد الله، ولولا ما سبقهم به الصحابة، ما قدمنا عليهم أحدًا»

(2)

.

- وقال عاصم: قال لي أبو وائل: «أتدري ما أشبه قراء أهل زماننا؟ قلت: ومن يشبههم؟ قال: أشبههم برجل أسمن غنمًا، فلما أراد ذبحها وجدها غثًّا لا تنقى، أو رجل عمد إلى دراهم فلوس فألقاها في زئبق ثم أخرجها فكسرها، فإذا هي نحاس» . وقال أيضًا: «مثل قراء أهل هذا الزمان كمثل غنم ضوائن ذات صوف، فغبط شاة منها فإذا هي لا تنقى، ثم غبط أخرى فإذا هي كذلك، فقال: أف لك سائر اليوم» ، وكان يقول:«إنَّ أحسن ما زين به المصحف تلاوته بالحق»

(3)

.

- وعن إياس بن عامر أن علي بن أبي طالب قال له: إنك إن بقيت فسيقرأ القرآن على ثلاثة أصناف: «صنف لله، وصنف للدنيا، وصنف للجدل، فمن طلب به أدرك»

(4)

.

* وهذه‌

‌ متفرقات من أحوالهم، وكلامهم عن القرآن العظيم

(5)

:

(1)

حلية الأولياء: (6/ 382).

(2)

سير أعلام النبلاء: (4/ 262).

(3)

حلية الأولياء: (4/ 104 - 105).

(4)

أخلاق أهل القرآن: (1/ 85).

(5)

جُمعت من حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جمعها الأخ الكريم: محمود ماهر.

ص: 176

- قال أبو الفيض ذو النون بن إبراهيم المصري: «إنَّ لله عز وجل لصفوة من خلقه، وإن لله عز وجل لخيرة، فقيل له: يا أبا الفيض فما علامتهم؟ قال: إذا خلع العبد الراحة، وأعطى المجهود في الطاعة، وأحب سقوط المنزلة. ثم قال:

منع القران بوعده ووعيده .. مُقَل العيون بليلها أن تهجعا

فهموا عن الملك الكريم كلامه .. فهمًا تذل له الرقاب وتخضعا

وقال له بعض من كان في المجلس حاضرًا: يا أبا الفيض من هؤلاء القوم يرحمك الله؟ فقال: ويحك هؤلاء قوم جعلوا الركب لجباههم وسادًا، والتراب لجنوبهم مهادًا، هؤلاء قوم خالط القرآن لحومهم ودماءهم فعزلهم عن الأزواج، وحركهم بالإدلاج فوضعوه على أفئدتهم فانفرجت، وضموه إلى صدورهم فانشرحت، وتصدعت هممهم به فكدحت، فجعلوه لظلمتهم سراجًا، ولنومهم مهادًا، ولسبيلهم منهاجًا، ولحجتهم إفلاجًا، يفرح الناس ويحزنون، وينام الناس ويسهرون، ويفطر الناس ويصومون، ويأمن الناس ويخافون، فهم خائفون، حذرون، وجلون، مشفقون، مشمرون، يبادرون من الفوت، ويستعدون للموت، لم يتصغر جسيم ذلك عندهم لعظم ما يخافون من العذاب، وخطر ما يوعدون من الثواب، درجوا على شرائع القرآن، وتخلصوا بخالص القربان، واستناروا بنور الرحمن، فما لبثوا أن أنجز لهم القرآن موعوده، وأوفى لهم عهودهم، وأحلهم سعوده، وأجارهم وعيده، فنالوا به الرغائب، وعانقوا به الكواعب، وأمنوا به العواطب، وحذروا به العواقب، لأنهم فارقوا بهجة الدنيا بعين قالية، ونظروا إلى ثواب الآخرة بعين راضية، واشتروا الباقية بالفانية، فنعم ما اتجروا ربحوا الدارين، وجمعوا الخيرين، واستكملوا الفضلين

»

(1)

.

(1)

حلية الأولياء: (1/ 13).

ص: 177

- وعن ثابت البناني، قال:«ذكر أنس بن مالك سبعين رجلًا من الأنصار، كانوا إذا جنهم الليل آووا إلى معلم لهم بالمدينة يبيتون يدرسون القرآن، فإذا أصبحوا فمن كانت عنده قوة أصاب من الحطب واستعذب من الماء، ومن كانت عنده سعة أصابوا الشاة فأصلحوها، فكانت تصبح معلقة بحجر رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

- وعن أبي البختري، قال:«قالوا لعلي: حدثنا عن أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: عن أيهم؟ قالوا: أخبرنا عن عبد الله بن مسعود، قال: «عَلِم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى بذلك علمًا»

(2)

. وسئل علي بن أبي طالب عن ابن مسعود، فقال:«قرأ القرآن ثم وقف عنده، وكفى به»

(3)

.

- وقال ابن مسعود: «إنَّ هذا القرآن مأدبة الله، فمن استطاع أن يتعلم منه شيئًا فليفعل، فإن أصفر البيوت من الخير الذي ليس فيه من كتاب الله شيء، وإن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء كخراب البيت الذي لا عامر له، وإن الشيطان يخرج من البيت الذي تسمع فيه سورة البقرة»

(4)

.

- وكان أبو الدرداء يقول: «إنَّ مما أخشى عليكم زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، والقرآن حق، وعلى القرآن منار كمنار الطريق، ومن لم يكن غنيًّا من الدنيا فلا دنيا له»

(5)

.

(1)

حلية الأولياء: (1/ 123).

(2)

حلية الأولياء: (1/ 129).

(3)

حلية الأولياء: (1/ 129).

(4)

حلية الأولياء: (1/ 130).

(5)

حلية الأولياء: (1/ 219).

ص: 178

- وعن عبد الله بن عبيدة، أن نَفرًا اجتمعوا في حجرة صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا الله وتلوا القرآن وسجدوا فنادتهم صفية:«هذا السجود وتلاوة القرآن فأين البكاء؟»

(1)

.

- وقال مرة الطيب: «كان علقمة من الديانين الذين يقرءون القرآن»

(2)

.

- وعن إبراهيم: أن علقمة، «قرأ على عبد الله - ابن مسعود - وكان حسن الصوت فقال له رجل: رتل فداك أبي وأمي فإنه زين القرآن»

(3)

. وعنه أيضًا: «كان علقمة يختم القرآن كل خميس»

(4)

.

- وعن إبراهيم، قال:«كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال»

(5)

.

- وقال مطرف: «إني لأستلقي من الليل على فراشي فأتدبر القرآن وأعرض عملي على عمل أهل الجنة فإذا أعمالهم شديدة {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون} [الذاريات: 17]، {يبيتون لربهم سجدا وقياما} [الفرقان: 64]، {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما} [الزمر: 9]، فلا أراني فيهم فأعرض نفسي على هذه الآية: {ما سلككم في سقر} [المدثر: 42] فأرى القوم مكذبين وأمر بهذه الآية: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} [التوبة: 102] فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم»

(6)

.

(1)

حلية الأولياء: (2/ 55).

(2)

حلية الأولياء: (2/ 98).

(3)

حلية الأولياء: (2/ 99).

(4)

حلية الأولياء: (2/ 99).

(5)

حلية الأولياء: (2/ 102).

(6)

حلية الأولياء: (2/ 198).

ص: 179

- وقال أبو عمران: «والله لقد صرف إلينا ربنا عز وجل في هذا القرآن ما لو صرفه إلى الجبال لحتَّها وحناها»

(1)

.

- وقال محمد بن واسع: «القرآن بستان العارفين فأينما حلوا منه حلوا في نزهة»

(2)

.

- وعن مالك بن دينار، أنَّه قرأ:{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} [الحشر: 21] ثم قال: «أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه»

(3)

.

- وقال ابن عون: «أحب لكم يا معشر إخواني ثلاثًا: هذا القرآن تتلونه آناء الليل والنهار، ولزوم الجماعة، والكف عن أعراض المسلمين»

(4)

.

- وقال يحيى بن أبي كثير: «تعلم الفقه صلاة، ودراسة القرآن صلاة»

(5)

.

- وقال أبو الجوزاء: «نقل الحجارة أهون عند المنافق من قراءة القرآن»

(6)

.

- وقال محمد بن كعب القرظي: «لأن أقرأ في ليلة حتى أصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا 1} [الزلزلة: 1] والقارعة لا أزيد عليهما، وأتردد فيهما، وأتفكر أحب إلي من أن أهدر القرآن هدرًا، أو قال: أنثره نثرًا»

(7)

.

(1)

حلية الأولياء: (2/ 311).

(2)

حلية الأولياء: (2/ 346).

(3)

حلية الأولياء: (2/ 378).

(4)

حلية الأولياء: (3/ 41).

(5)

حلية الأولياء: (3/ 67).

(6)

حلية الأولياء: (3/ 80).

(7)

حلية الأولياء: (3/ 214).

ص: 180

- وعن منصور القرظي، قال: سمعت أبا حازم يقول: «كنت ترى حامل القرآن في خمسين رجلًا، فتعرفه قد مَصَعَه القرآن

(1)

، وأدركت القراء الذين هم القراء، فأما اليوم فليسوا بقراء ولكنهم خراء»

(2)

.

- وعن عكرمة، قال:«كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل، ويعلمني القرآن والسنن»

(3)

.

- وقال ميمون بن مهران: «لو أن أهل القرآن أصلحوا لصلح الناس»

(4)

.

- وعن عبد الرحمن بن حميد، قال: سمعت أبا إسحاق السبيعي، يقول:«أقرأ أبو عبد الرحمن السلمي القرآن في المسجد أربعين سنة»

(5)

.

- وقال أبو إدريس الخولاني: «إنما القرآن آية مبشرة وآية منذرة، وآية فريضة، أو قصص، أو أخبار، وآية تأمرك، وآية تنهاك»

(6)

.

- وقال عمر بن عبد العزيز: «ما حسدت الحجاج عدو الله على شيء حسدي إياه على حبه القرآن وإعطائه أهله، وقوله حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي، فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل»

(7)

.

- وقال إسماعيل بن عبيد: «لما حضرت أبي الوفاة جمع بنيه وقال: يا بني عليكم بتقوى الله وعليكم بالقرآن فتعاهدوه وعليكم بالصدق حتى لو قتل

(1)

معناه: أخذ بقلبه، وعمل به، وتغلغل فيه.

(2)

حلية الأولياء: (3/ 246).

(3)

حلية الأولياء: (3/ 326).

(4)

حلية الأولياء: (4/ 83).

(5)

حلية الأولياء: (4/ 192).

(6)

حلية الأولياء: (5/ 123).

(7)

حلية الأولياء: (5/ 345).

ص: 181

أحدكم قتيلًا ثم سئل عنه أقر به، والله ما كذبت كذبة منذ قرأت القرآن»

(1)

.

- وكان صالح المري إذا قص قال: «هات جونة المسك والترياق المجرب - يعني القرآن - فلا يزال يقرأ ويدعو ويبكي حتى ينصرف»

(2)

.

- وعن الحسن، قال:«تفقدوا الحلاوة في ثلاث: في الصلاة، وفى القرآن، وفى الذكر، فإن وجدتموها فامضوا وأبشروا، فإن لم تجدوها فاعلم أن بابك مغلق»

(3)

.

- وقال عفان بن مسلم: «قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة ولكن ما رأيت أشد مواظبة على الخير وقراءة القرآن والعمل لله من حماد بن سلمة»

(4)

.

- وعن جعفر، قال:«كان مالك بن دينار من أحفظ الناس للقرآن وكان يقرأ علينا كل يوم جزءًا من القرآن حتى ختم فإن أسقط حرفًا قال: بذنب مني، وما الله بظلام للعبيد»

(5)

.

- وقال سفيان: «وددتُّ أني حين قرأت القرآن وقفت عنده فلم أتجاوزه إلى غيره»

(6)

.

- وقال يوسف بن أسباط: «رأيت سفيان الثوري في المنام فقلت: له أي الأعمال وجدت أفضل؟ قال: القرآن، فقلت: الحديث، فحول وجهه ولوى عنقه»

(7)

.

(1)

حلية الأولياء: (6/ 85).

(2)

حلية الأولياء: (6/ 167).

(3)

حلية الأولياء: (6/ 171).

(4)

حلية الأولياء: (6/ 250).

(5)

حلية الأولياء: (6/ 288).

(6)

حلية الأولياء: (6/ 366).

(7)

حلية الأولياء: (6/ 367).

ص: 182

- وقال سفيان: كان يقال: «يا حملة القرآن لا تتعجلوا منفعة القرآن وإذا مشيتم إلى الطمع فامشوا رويدًا»

(1)

.

- وعن محمد بن يزيد، وأبو بكر الأسلمي قالا: وقف فضيل على رأس سفيان وحوله جماعة، فقال له:{قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} [يونس: 58] قال: فقال له سفيان: «يا أبا علي، والله لا نفرح أبدًا حتى نأخذ دواء القرآن فنضعه على داء القلب»

(2)

.

- وقال محمد بن رافع: سمعت أبا قتيبة، يقول:«ربما قال شعبة في الحديث لأصحاب الحديث: اعلموا يا قوم أنكم كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم من القرآن، قال: وربما ضرب بيديه رأسه وهو يقول: خاك بسر شعبة، يعني: التراب على رأس شعبة»

(3)

.

- وقال محمد بن مسعر: «كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرآن، فإذا فرغ من ورده لف رداءه ثم هجع عليه هجعة خفيفة، ثم يثب كالرجل الذي ضل منه شيء فهو يطلبه، وإنما هو السواك، والطهور، ثم يستقبل المحراب، فكذلك إلى الفجر، وكان يجهد على إخفاء ذلك جدًّا»

(4)

.

- وقال سفيان بن عيينة: «لا تبلغوا ذروة هذا الأمر إلا حتى لا يكون شيء أحب إليكم من الله، ومن أحب القرآن فقد أحب الله، افقهوا ما يقال لكم»

(5)

.

(1)

حلية الأولياء: (6/ 392).

(2)

حلية الأولياء: (7/ 70).

(3)

حلية الأولياء: (7/ 145).

(4)

حلية الأولياء: (7/ 215).

(5)

حلية الأولياء: (7/ 277).

ص: 183

وقال سفيان: «من قرأ القرآن يسأل عما يسأل عنه الأنبياء عليهم السلام إلا تبليغ الرسالة»

(1)

.

- وعن أم سعيد بن علقمة، وكان سعيد من نساك النخع - وكانت أمه طائية - قالت:«كان بيننا وبين داود الطائي، جدار قصير، فكنت أسمع حنينه عامة الليل لا يهدأ، قالت: ولربما سمعته في جوف الليل يقول: اللهم همك عطل علي الهموم، وحال بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك منع مني اللذات والشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب، قالت: ولربما ترنم في السحر بشيء من القرآن، فأرى أن جميع نعيم الدنيا جمع في ترنمه تلك الساعة، قالت: وكان يكون في الدار وحده وكان لا يصبح، تعني: لا يسرج»

(2)

.

- وقال أبو يوسف الفولي سمعت إبراهيم بن أدهم، يقول:«لقيت عابدًا من العباد قيل إنه لا ينام الليل فقلت له: لم لا تنام فقال لي: منعتني عجائب القرآن أن أنام»

(3)

.

- وقال وهيب بن الورد: «نظرنا في هذا الحديث فلم نجد شيئًا أرق لهذه القلوب، ولا أشد استجلابًا للحق من قراءة القرآن لمن تدبره»

(4)

.

- وقام رجل إلى ابن المبارك فقال: يا أبا عبد الرحمن في أي شيء أجعل فضل يومي، في تعلم القرآن، أو في طلب العلم؟ فقال:«هل تقرأ من القرآن ما تقيم به صلاتك؟ قال: نعم، قال: فاجعله في طلب العلم الذي يعرف به القرآن»

(5)

.

(1)

حلية الأولياء: (7/ 281).

(2)

حلية الأولياء: (7/ 356).

(3)

حلية الأولياء: (8/ 30).

(4)

حلية الأولياء: (8/ 142).

(5)

حلية الأولياء: (8/ 165).

ص: 184

- وعن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد» قالوا: يا رسول الله فما جلاؤها قال: «قراءة القرآن»

(1)

.

- وقال عبد الله العمري: سمعت عبد الرحمن، يقول:«أكثر قراءتك القرآن فإنه يقودك إلى الجنة»

(2)

.

- وقال الهيثم بن خارجة: «رأيت أبا بكر بن عياش في النوم قدامه طبق رطب سكر فقلت له: يا أبا بكر ألا تدعونا إليه وقد كنت شهيًا على الطعام، فقال لي: يا هيثم هذا طعام أهل الجنة لا يأكله أهل الدنيا، قال: قلت: وبم نلت؟ قال: تسألني عن هذا وقد مضى علي ست وثمانون سنة أختم في كل ليلة فيها القرآن»

(3)

.

- وقال الربيع بن سليمان، قال الشافعي:«يا ربيع، رضى الناس غاية لا تدرك، فعليك بما يصلحك فالزمه، فإنه لا سبيل إلى رضاهم. واعلم أن من تعلم القرآن جلَّ في عيون الناس، ومن تعلم الحديث قويت حجته، ومن تعلم النحو هيب، ومن تعلم العربية رق طبعه، ومن تعلم الحساب جل رأيه، ومن تعلم الفقه نبل قدره، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه، وملاك ذلك كله التقوى»

(4)

.

- وقال الربيع بن سليمان: «كان الشافعي يختم القرآن ستين ختمة» ، قلت: في صلاة رمضان؟ قال: «نعم»

(5)

.

(1)

حلية الأولياء: (8/ 197).

(2)

حلية الأولياء: (8/ 283).

(3)

حلية الأولياء: (8/ 303).

(4)

حلية الأولياء: (9/ 123).

(5)

حلية الأولياء: (9/ 134).

ص: 185

- وقال أبو سليمان الداراني: «ربما أقمت في الآية الواحدة خمس ليال ولولا أني بعد أدع الفكر فيها ما جزتها أبدًا، وربما جاءت الآية من القرآن تطير العقل فسبحان الذي رده إليهم بعد»

(1)

.

- وقال أحمد ابن أبي الحواري: «إني لأقرأ القرآن فأنظر في آية آية فيحار عقلي فيها وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم ويسيغهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتكلمون كلام الرحمن، أما لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فَرَحًا بما رزقوا ووفقوا»

(2)

.

- وقال يحيى بن معاذ: «واعلموا أنَّ القرآن قد ندبكم إلى وليمة الجنة ودعاكم إليها فأسرع الناس إليها أتركهم لدنياه وأوجدهم لذة لطعم تلك الوليمة أشدهم تجويعًا لنفسه ومخالفة لها»

(3)

.

- وقال أبو بكر العطوي: «كنت عند الجنيد حين مات فختم القرآن ثم ابتدأ من البقرة فقرأ سبعين آية ثم مات رحمه الله»

(4)

.

وختامًا:

- قال سلم الخواص: «كنت أقرأ القرآن ولا أجد له حلاوة فقلت لنفسي: اقرئيه كأنك سمعتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت حلاوة قليلة فقلت لنفسي: اقرئيه كأنك سمعتيه من جبريل عليه السلام حين يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قال: فازدادت الحلاوة ثم قلت لها: اقرئيه كأنك سمعتيه حين تكلم به. قال: فازدادت الحلاوة كلها»

(5)

.

(1)

حلية الأولياء: (9/ 262).

(2)

حلية الأولياء: (10/ 22).

(3)

حلية الأولياء: (10/ 64).

(4)

حلية الأولياء: (10/ 264).

(5)

حلية الأولياء: (8/ 279).

ص: 186

- وعن أبي الحسين محمد بن علي بن حبيش صاحب الجنيد بن محمد: «صحبت أبا العباس بن عطاء عدة سنين متأدبًا بآدابه وكان له كل يوم ختمة، وفي كل شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث ختمات وبقي في ختمه يستنبط مودع القرآن بضع عشرة سنة يستروح إلى معاني مودعها فمات قبل أن يختمها وسمعته يقول في قوله عز وجل: {إنَّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة} [آل عمران: 96]، فقال في البيت مقام إبراهيم، وفي القلب آثار رب إبراهيم، وللبيت أركان، وللقلب أركان، فأركان البيت الصم من الصخور، وأركان القلب معادن النور»

(1)

.

- وقال إبراهيم الخواص: «دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين»

(2)

.

- قال أبو سعيد الخزاز: حضرت أبا يعقوب الزيات وقال لمريد: «تحفظ القرآن؟ فقال: لا، فقال: واغوثاه بالله مريدٌ لا يحفظ القرآن كأترجة لا ريح لها فبم يتنغم؟ فبم يترنم؟ فبم يناجي ربه؟ أما علمت أن عيش العارفين سماع النغم من أنفسهم ومن غيرهم؟»

(3)

.

(1)

حلية الأولياء: (10/ 302).

(2)

حلية الأولياء: (10/ 327).

(3)

حلية الأولياء: (10/ 343).

ص: 187

كثيرٌ مما كتب، ويكتب عن تدبر القرآن = مكرور لا إبداع فيه

الإبداع: أن تخوض التجربة!

ص: 189

‌أفياء

هذه بعض خواطر عرضت لي من بعض الآيات، أغلبُها من باب الملح واللطائف، والقرآن موردٌ يرده الخلق، وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له، نسأل الله أن يفهمنا القرآن، وأن يجعلنا من أهله، وقد قسمت على السور تيسيرًا للاستفادة منها.

‌سورة الفاتحة

(1)

(إياك نعبد)!

قال الإمام الثعلبي (ت: 427): «وإنما لم يقل: نعبدك؛ ليكون أفصح في العبارة وأحسن في الإشارة؛ لأنهم إذا قالوا: {إِيَّاكَ نَعبُدُ} كان نظرهم منه إلى العبادة، لا من العبادة إليه» ، [الكشف والبيان عن تفسير القرآن:(2/ 428)].

(2)

لا تقعد ولا تتخلف، فإنَّ الركب لا زال في أوله، وإياك أن يزين الشيطان لك القعود، فإنه غير ناصح لك.

والله كريم، يفرح بتوبة العبد، ويقبل العمل اليسير.

ص: 191

فأقبل عليه، واطلب منه الإعانه، وقد أُمرنا أن نقول كل صلاة:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 5} [الفاتحة: 5]!

(3)

«والمهتدون هم الذين يعلَمون الحق ويعملُون به، كما قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة 6 - 7] .. فلابدَّ من عِلْم ولابدَّ من عمل، وأن يكون كلاهما موافقًا لما جاء به الرسول، فيجب العلم والعمل والاعتصام بالكتاب والسنة، ولهذا قال مَنْ قال مِنْ السلف: الدين قولٌ وعملٌ وموافقة السنة» ، الرد على الشاذلي في حزبيه وما صنفه في آداب الطريق:(257).

‌سورة البقرة

(1)

بعض ما يسميه الناس تدبرات وخواطر، إنما هي في الحقيقة (أُمنيات) = أي: أنَّه يتمنى أن تكون الآية كما يتمنى هو لا ما هي عليه على الحقيقة!!

وقد ذمَّ الله أهل الكتاب على ذلك، فقال:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]!!.

(2)

لا يحق للمرء أن يتعامل بالأخلاق الكريمة مع أبناء جماعته أو حزبه أو تياره فحسب، فإذا تعامل مع غير هؤلاء قلب لهم ظهر المجن؟!!.

الأخلاق عطية من الله لكي تتعامل بها مع كل أحد، ألا ترى أن الله يقول:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، ويقول:{وَقُلْ لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُم} [الإسراء: 53].

ص: 192

(3)

وكل من كان من أهل القرآن، وله به تعلق ينبغي محبته بقدر تعلقه = لتعلقه بالكتاب!

ألا ترى أن الله ذم يهود على عداوتهم لجبريل، وذكر في تعليل وجوب محبته:{قل من كان عدوا لجبريل = فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة: 97].

(4)

{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].

أولى ما يطلبه المسلم في هذه الأيام = يقظة القلب، وإيصال النور له.

والقلب ينجلي عنه الران بأمور، من أعظمها: ذكر الله، والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن ذكر الله = الإقبالُ على كتابه، تلاوة، وفهمًا، وعملًا وامتثالًا.

هذا أوان الجد، والعيش عيش الآخرة.

(5)

أفضل الطرق للثبات على الطاعة، والازدياد منها = فعل الطاعة، واحتمال مكروهها على الأبدان والأموال، وهذا كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

(6)

فهم حقيقة الدنيا من أبواب التدبر العظيمة، وبابٌ من أبواب سكون القلب، وإدراك حكمة الرب!

والقرآن خير ما يعرفك بالدنيا، وحقيقتها، فتأمل قوله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].

{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِّيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4].

ص: 193

(7)

عن أبي الجوزاء، قال: «قلت لابن عباس: قول الله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرا} [البقرة: 200]، قال: إنَّ الرجل ليأتي عليه اليوم وما يذكر أباه.

قال: إنَّه ليس بذلك، ولكن يقول تغضب لله إذا عُصِي، أشدَّ من غضبك إذا ذكر والدك بسوء، أو أشد»، [رواه ابن أبي حاتم:(2/ 355)].

(8)

قلبُ الحقائق من أهم وسائل الطغاة للتشغيب على الحق!

ألم تر إلى قول النمرود حين قال له الخليل: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]، فقال الطاغية:{قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} ! [البقرة: 258].

‌سورة آل عمران

(1)

{ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تُعَلِّمُونَ الكتاب وبما كنتم تدرسون} [آل عمران: 79].

هما خطوتان، إن لم تتحقق بالأولى، فإياك أن تتلبس بالثانية!

(2)

كل إنفاق في الباطل = ذاهب لا قيمة له، فلينفقوا قدر وسعهم، فإن الله دامغ ما يعملون!

{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117].

ص: 194

(3)

المعاصي من أعظم أبواب تسلط الشيطان على الإنسان، وتزيين المنكر له، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155].

وإذا أحدث الإنسان معصية ولم يحدث لها توبة؛ فإنه قد جعل للشيطان عليه سبيلًا.

فإذا أحدث معصية وأحدث لها توبة تولى عنه الشيطان، وكانت للعبد الغلبة بإذن الله.

(4)

مِنَنٌ في منَّة!

لقد امتن الله على المؤمنين ببعثة سيد المرسلين إليهم، فقال:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]:

- بعثته منَّة، لأن الله أخرج الناس به من الظلمات إلى النور.

- تلاوته للكتاب منَّة، لأنه بلَّغه لهم لفظًا ومعنى.

- تزكيته لهم منَّة، فقد طهَّر الله الأنفس به.

- عموم سنَّته منَّة، إذ ما من خيرٍ إلا وعندنا خبرٌ عنه.

فاللهم صل وسلم على سيدنا رسول الله، واحشرنا اللهم في زمرته، واجمعنا تحت لوائه، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته.

(5)

{الذين قالوا لإخوانهم، وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} ! [آل عمران: 168].

(6)

الأذواق لا تنقل خبراتها أبدًا، لا في عالم المادة ولا في عالم الروح!!

ص: 195

افهم هذه العبارة جيدًا، ثم تأمل قوله تعالى:{كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران: 185].

إنك لا تستطيع أن تصف لأحد مثلًا حلاوة العنب، ولا ينوب أحد عن أحد في ذوقه، فلا بد أن يذوق حتى يعرف، ولا بد له من تجربة خاصة.

كذلك الموت: لكل إنسان تجربته، ولا بد أن يذوق، ولذا عبَّر الله بالذوق، ولم يقل:(كل نفس تموت)، وهو كذلك.

(7)

بعض من قابلت يردد أن رمضان هذا العام هو أسوأ رمضان مر عليه، أو أنَّه لم يجد قلبه بعد!

أو أنَّه لا يشعر بطعم القرآن

إلى غير ذلك

= أبعد أن تركت قلبك لعام كامل تعشش الهوام فيه، ويذهب الشيطان به كل مذهب؛ تريد علاجا له بين ليلة وضحاها، لا بد من مجاهدة وصبر!

{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين} ! [العنكبوت: 69].

{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} !!! [آل عمران: 200].

‌سورة النساء

(1)

«قال بعض المحققين في الفرق بين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1]، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله} [البقرة: 278]، قال:

ص: 196

حيث خاطب الناس كافة حثهم على اتقائه برؤية آلائه، لاشتراكهم كلهم في معرفتها وتصورهم إياها.

وحيث خاطب المؤمنين حثهم على اتقائه بلا واسطة»، تفسير الراغب الأصفهاني:(1/ 54).

(2)

في قول الرب سبحانه: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11] قاعدة عظيمة، وهي: أن الإنسان لا يدري من أين يأتيه النفع، فقد يأتيك ممن لم تظن أنَّه ينفعك!

والمقصود أن يجتهد الإنسان في نفع الناس، فلعلك تقدم معروفًا يبقى لك أجره في الدنيا والآخرة، وإن كثيرًا من الأئمة صاروا أئمة بسبب نصيحة أو تشجيع أو ثناء صادق من أشخاص قد لا نعرف أسمائهم!

(3)

{أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} [النساء: 54]؟!.

كثير من الحسد مرضٌ خفي، فتعوذوا بالله من شرور النفس، وسيئات العمل.

(4)

التعيير في الدنيا أهون من التعيير في الآخرة، والعاقل يرضى أن يعيَّر بالشيء لا تكون تبعته عليه في الآخرة.

قال رجل لابن عمر رضي الله عنهما: «ما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].

قال: يا ابن أخي أعير بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إلي من أن أعير بهذه الآية التي يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ

ص: 197

خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]»، وقال الحسن:«العار خير من النار» ، [رواه البخاري:(4650)].

(5)

بيدك النور، فلم تذهب لغيره؟!

{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطًا مستقيمًا} [النساء: 174 - 175].

‌سورة المائدة

(1)

«قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يرد عليه، فتلا الصوفي هذه الآية: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] وهذا الذي قاله حسن» ، [تفسير ابن كثير:(3/ 69)].

(2)

كثرة الأتباع ليس لها ميزان في الشرع، فقد يأتي النبي وليس معه أحد، ومن قول الكليم، {لا أملك إلا نفسي وأخي}! [المائدة: 25].

والعوام كما يقال: عقولهم في عيونهم.

ص: 198

‌سورة الأنعام

(1)

للقلب بصيرة هي نوره لا يصل إليها المرء إلا بالقرآن، وإلا فالعمى لازم له، قال تعالى:{قد جاءكم بصائر من ربكم، فمن أبصر فلنفسه، ومن عمي فعليها} !!! [الأنعام: 104].

وبقدر الإقبال على الكتاب يكون الأخذ من نوره، والتبصر ببصائره.

وكما أن العين لا تبصر إلا بنور قدامها، فكذلك القلب لا يبصر إلا بنور القرآن!

(2)

من جوانب العظمة في الكتاب المبين، أنَّ معاني القرآن حين تتنزل على واقع تشاهده، ويتجدد أمامك .. تشعر كأن الآية تنزلت الآن، ولهذا الموقف بعينه.

وهذا لأنَّ القرآن لا يبلى على كثرة الرد، ولا يزال غضًا طريًا كما أُنزل!

ومن نعمة الله أن يُرزق الإنسان البصيرة، وقد قال سبحانه الكريم:{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104].

فاللهم نوِّر بصائرنا لنبصر حقائق الكتاب.

ص: 199

‌سورة الأعراف

(1)

يتحمل الأقوام جزءًا من طغيان الطاغية، ويعمهم الهلاك معه!

قال الله سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54]، وقال:{وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].

(1)

من النادر أن تجد مفتوحًا عليه في العلم، متحققًا به، يرفل في ثوب الكبر!

وإنْ = فإنَّ الله سينزعه عنه عاجلًا أو آجلًا.

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ! [الأعراف: 146].

(3)

«كثير من المنتسبين إلى العلم يُبتلى بالكِبْر، كما يُبتلى كثيرٌ من أهل العبادة بالشرك.

ولهذا فإن آفة العلم؛ الكِبْر.

وآفة العبادة؛ الرياء.

وهؤلاء يُحْرَمون حقيقة العلم كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146].

قال أبو قِلابة: (منع قلوبَهم فهم القرآن)»، الرد على الشاذلي في حزبيه وما صنفه في آداب الطريق:(256).

(4)

كل فساد يقع فيه الإنسان فإنما هو لتقصيره في أحد أمرين: القرآن والصلاة!

ص: 200

وذلك أن الصلاح منوط بالتمسك بالكتاب وإقامة الصلاة، {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} [الأعراف: 170].

فالتمام تمام، والنقص نقص!

‌سورة الأنفال

الاستزادة من الإيمان، والدعوة إلى العمل الصالح = واجبُ كل وقت، وهي فرض على الأعيان!

{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا، واذكروا الله كثيرًا} ! [الأنفال: 45].

‌سورة التوبة

(1)

{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43]!

هذا عتاب من الجميل تعالى، لعبد جميل، بخطاب جميل.

فهل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذه المعاتبة؟

هل رأيتم محبة كهذه المحبة؟

كل حرف في هذا العتاب، يوحي بمعان من المحبة تدهش القلوب!

أترون أنَّه أخبره بالعفو لئلا يطير قلبه فرقًا من مخالفة محبوبه!

ص: 201

اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد، وارزقنا اللهم شفاعته، وأوردنا حوضه، واحشرنا تحت لوائه، اللهم واجزه عنا خير الجزاء وأوفاه وأتمه.

يقول الطاهر ابن عاشور (ت: 1393) في تفسير قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43]: «وافتتاح العتاب بالإعلام بالعفو إكرام عظيم، ولطافة شريفة، فأخبره بالعفو قبل أن يباشره بالعتاب.

وفي هذا الافتتاح كناية عن خفة موجب العتاب لأنه بمنزلة أن يقال: ما كان ينبغي، وتسمية الصفح عن ذلك عفوًا ناظر إلى مغزى قول أهل الحقيقة: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

وألقي إليه العتاب بصيغة الاستفهام عن العلة إيماء إلى أنه ما أذن لهم إلا لسبب تأوَّله ورجا منه الصلاح على الجملة بحيث يسأل عن مثله في استعمال السؤال من سائل يطلب العلم، وهذا من صيغ التلطف في الإنكار أو اللوم، بأن يظهر المنكر نفسه كالسائل عن العلة التي خفيت عليه، ثم أعقبه بأن ترك الإذن كان أجدر بتبيين حالهم، وهو غرض آخر لم يتعلق به قصد النبي صلى الله عليه وسلم.

وحذف متعلق (أذنت) لظهوره من السياق، أي لم أذنت لهم في القعود والتخلف.

و (حتى) غاية لفعل أذنت؛ لأنه لما وقع في حيز الاستفهام الإنكاري كان في حكم المنفي فالمعنى: لا مقتضي للإذن لهم إلى أن يتبين الصادق من الكاذب.

وفي زيادة (لك) بعد قوله: (يتبين) زيادة ملاطفة بأن العتاب ما كان إلا عن تفريط في شيء يعود نفعه إليه، والمراد بالذين صدقوا: الصادقون في إيمانهم،

ص: 202

وبالكافرين الكاذبين فيما أظهروه من الإيمان، وهم المنافقون، فالمراد بالذين صدقوا المؤمنون»، [التحرير والتنوير:(10/ 210 - 211)].

(2)

لم يجعل الله سبحانه السبيل على الفقراء الذي لا يجدون إلا جهدهم، وإنما {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 93} [التوبة: 93].

لذلك لا تحتقر عملك، هؤلاء أصحاب رسول الله لم يجدوا شيئًا يجاهدوا به، فطلبوا الجهاد بكل سبيل، فلمَّا لم يجدوا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع!

لكنَّ الله سبحانه عظَّم تلك الأدمع، وغفر لهم بها.

ربَّ دمعة أنجتك من الملامة، فكيف بمقاطعتهم؟!

حتى يأتي أمر الله، ونتمكن منهم، رزقنا الله شهادة في سبيله، ونصرًا لرسوله ودينه.

(3)

لا تيأس وإن تلوثت!

يكفيك أن تعترف بذنبك .. {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102].

قال ابن كثير: «وهذه الآية - وإن كانت نزلت في أناس معينين - إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين المتلوثين» ، [تفسير ابن كثير:(4/ 206)].

(4)

جاء في وصف الخليل سيدنا وجد نبينا إبراهيم عليه السلام أنَّه (أواه)، وفي خلاصة معنى الكلمة أنَّه (الدعَّاء) = كثير الدعاء.

لكن هذه الكلمة تأبى إلا أن يقف الإنسان متأملًا فيها، يقلب نظر قلبه وعينيه باحثًا عن ذلك المعنى الكامن في هذه الكلمة التي ترى فيها إبراهيم ملتجئًا إلى الله، فارًّا إليه، متجردًا من حوله وقوته، عائذًا بربه، لائذًا بحماه.

ص: 203

إذا نابه أمر، أو ألم به ضر، أو أهمه أمر، جعل الله حسبه.

صلوات الله وسلامه عليك أيها الخليل .. جمعنا الله بك، وجعلنا من أتباعك .. وصلى الله وسلم وبارك على حفيدك، وولدك سيد الأولين والآخرين.

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114].

‌سورة يونس

(1)

بعض التجديد الذي يُطرح نتيجة للغفلة عن لقاء الله!

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

[فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ]} [يونس: 15 - 17].

(2)

«ضَمِنَ الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر.

كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 22}

ص: 204

[يونس: 22]، وقوله:{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ 65} [العنكبوت: 65]، فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم.

وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ 65} [العنكبوت: 65]، فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه»، [تفسير القرطبي:(13/ 223)].

(3)

في الصدور شهوات تتشوف .. وفيها شبهات تنبح .. وفي الصدور حجبٌ غليظة .. وفي الصدور طبقات مطمورة من الرين.

وعلاج ذلك كله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]!!.

(4)

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].

من السنن المهجورة في هذا الزمان؛ مجالس السماع القرآني، وقد كانت هذه المجالس تنعقد على عهد الصحابة رضوان الله عليهم!

بل كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرص على تلك المجالس.

وهي على ضربين:

أولًا: ما يكون بمجرد تلاوة الكتاب والاستماع إليه!

ثانيًا: ما يكون بصحبة التدارس للقرآن.

(5)

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس: 88 - 89].

ص: 205

تأمَّل كيف لم يكتف بالدعاء، وإنما أمرهم بالعمل المتمثل في:

- الاستقامة.

- عدم اتباع الذين لا يعلمون، وهؤلاء هم من قال فيهم:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].

‌سورة هود

(1)

قاعدةٌ عظيمة النفع، جليلة الأثر، كبيرة الفائدة:

قال الله جل شأنه عن نبيه هود، قوله لقومه:

{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} !! [هود: 56].

(2)

للقرآن المجيد أثر عظيم في تثبيت القلب أيام المحن، وأوقات نزول البلايا والفتن!

بل إنَّ هذا من مقاصده، كما قال سبحانه:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102]، وقال تعالى:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ! [هود: 120].

ولا يظنن ظان أن العودة إلى القرآن، وتربية النفس على تلقي آياته نوع من الهروب من الواقع!

= بل إنَّ كثيرًا من الضعف والوهن الذي يدب في النفوس سببه الرئيس ضعف الإيمان!

ص: 206

ووصل الحال ببعض الناس إلى التشكيك في القدر، وظن الظنون بالرب تعالى، ولو أنهم أقبلوا على كتاب ربهم لكان شفاءً لنفوسهم، وطهرة لقلوبهم!

ولعلك تتأمل سورة الأحزاب - مثلًا -، واجتماع الكفار على رسول الله وأصحابه، حتى وصفهم الله بألفاظ جليلة تبعث في النفس ما كان عليه الأصحاب من زلزلة ووهن، ثم تأمل في تخذيل المنافقين لأهل الإيمان، ثم تأمل في الذين آمنوا، وبم اتصفوا لينصرهم الله على الأحزاب!

= إنك إن فعلت فستجد خيرًا كثيرًا!

‌سورة يوسف

(1)

وفي قوله سبحانه عن الكريم سليل الكرام: {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن} [يوسف: 100]!.

تنبيه على خلق عظيمٍ جدًّا.

فإنَّ يوسف لم يذكر خروجه من الجب = مع كونه أشد، وأعظم، إذ كان غلامًا صغيرًا وحيدًا في جب مظلم متروك للأهوال والمخاوف.

لم يذكر الجب، وذكر السجن = لئلا يؤذي مشاعر إخوته [وهم الذين رموه في الجب]، وقد عفا عنهم قبل قليل.

اللهم صل على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم!

(2)

لطيف ولو طال الأمد.

توالي المصائب قد تنسي المصاب اللطف المصاحب.

ص: 207

وفي قول الكريم: {إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم} [يوسف: 100]، أُنس وسلوة، ولو بعد حين.

{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19]!.

(3)

الحمد لله الكريم، يسوق اللطف للعبد في مواطن البلاء معونة له على الصبر قبل أن يأتيه الفرج!

{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100].

وعند تأمل اللطف = تهون المصائب!

‌سورة الرعد

(1)

{وفي الأرض قطع متجاورات} [الرعد: 4]، وفي القلوب كذلك!

فعليك بما زكا، ودع عنك السبخ.

(2)

كلٌ يأخذ من القرآن بحسب واديه (قلبه)، كما قال سبحانه:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17].

وصلاح الإنسان بقدر أخذه من أمرين:

1 -

القرآن، تلاوة، وفهمًا، وعملًا.

2 -

الصلاة، إقامة، وإحسانًا.

= فاطلب تجد!

ص: 208

(3)

{ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} [الرعد: 31].

= لكان هذا القرآن الذي بين يديك، فاستمد القوة والحياة منه.

(4)

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35].

تأمل: كيف أنَّه بعد تفصيل المثل لأهل الإيمان قال: {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا} .

أما في حال الذين كفروا، فقال:{وعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} ، فأوجز حالهم ومآلهم!!

‌سورة إبراهيم

(1)

تذكير نفسك بأيام الله، وهي (نعماؤه وبلاؤه عليك) كفيل بتربية نفسك على الصبر والشكر!

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ! [إبراهيم: 5].

(2)

«قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36]، فمفهوم هذا: أن من لم يتبعه ليس منه.

وقال تعالى حكاية عن نوح عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] فأجابه سبحانه: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}

ص: 209

[هود: 46]، فالمتابعة تجعل التابع كأنه جزء من المتبوع وإن كان أجنبيًّا، كسلمان الفارسى رضي الله عنه لقوله صلى الله عليه وسلم:(سلمان منا أهل البيت)، و معلومٌ أن سلمان من أهل فارس، ولكن بالمتابعة صار من أهل البيت.

فكما أن المتابعة تُثبِتُ الاتصال .. كذلك عدمها يُثبِتُ الانفصال.

وقد جمع الله الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.

فمن فتح له باب المتابعة، فذلك دليل على محبة الله تعالى له، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

فإذا طلبت الخير كله فقل: (اللهم إني أسألك المتابعة لرسولك صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال)»، ابن عطاء الله (ت: 709)، في (تاج العروس):(46 - 47).

(3)

وفي القرآن، ذكر الله دعوة الخليل:{رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء} [إبراهيم: 40].

وفي ذكر ولده الأول - إسماعيل -، قال الله في وصفه:{وكان يأمر أهله بالصلاة} [مريم: 55].

وفي ذكره ولده الأخير، أمره الله قائلًا:{وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه: 132]، وقال هو - بأبي هو وأمي -:«وجعلت قرة عيني في الصلاة»

(1)

!

إلى الصلاة.

(1)

رواه أحمد: (12293).

ص: 210

‌سورة الحجر

بمقدار حفظك للكتاب تلاوة وتدبرًا يكون حفظ الله لك!

ألم تر أن الله يقول: {إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون} [الحجر: 9].

وكما يقول مولانا الأنصاري: «الخادم للمحفوظ = محفوظ، فإن أنت حفظت المحفوظ = حُفظتَ» .

‌سورة الإسراء

(1)

مغبون من رضي بالدنيا وعمل لها، ولن يأتيه منها إلا ما قُسم له، يقول ربنا {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18]!!.

وعلى الطرف الآخر:

{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].

(2)

إذا غرَّك التفاضل بين أهل الدنيا، فتذكر تفاضل الناس يوم الدين، وانظر ثم انظر ثم انظر في تباين التفاضل بين أهل الدنيا، لتستدل به على التفاضل هناك!

{انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} [الإسراء: 21].

(3)

قوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا} [الإسراء: 44].

ص: 211

- فالختم بالحلم والمغفرة عقب تسابيح الأشياء غير ظاهر في بادى الرأي!

وذكر في حكمته: «أنَّه لما كانت الأشياء كلها تسبح ولا عصيان في حقها، وأنتم تعصون = ختم به مراعاة للمقدر في الآية وهو العصيان.

- وقيل التقدير: حليمًا عن تفريط المسبحين، غفورًا لذنوبهم.

- وقيل حليمًا عن المخاطبين الذين لا يفقهون التسبيح بإهمالهم النظر في الآيات والعبر ليعرفوا حقه بالتأمل فيما أودع في مخلوقاته مما يوجب تنزيهه»، [معترك الأقران في إعجاز القرآن:(1/ 38)].

‌سورة الكهف

تأمَّل هذه الآية:

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِئَايَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57]، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِئَايَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22].

هذا الإنسان دلَّه الله على سبيل الخلاص، وفكاك رقبته من النار، فأعرض عنها، ونسي ذنوبه المهلكة فلم يتب ولم ينب، فهل تعلم أظلمَ منه؟!

أقبل على آيات الله، ولا تكن من الظالمين، وتب لربك قبل الموعد العظيم.

ص: 212

‌سورة مريم

{وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4].

قال أبو جعفر: «يقول: ولم أشق يا رب بدعائك، لأنك لم تخيب دعائي قبلُ إذ كنت أدعوك في حاجتي إليك، بل كنت تجيب وتقضي حاجتي قبلك» ، [جامع البيان:(15/ 455)].

‌سورة طه

(1)

وتأمَّل في سورة طه!

وانظر كيف أن موسى حين أحس بلذة القرب وروعة الأنس أطال الكلام وأطنب، قال إجابة عن سؤال:{وما تلك بيمينك يا موسى} ؟ [طه: 17].

{هي عصاي أتوكؤ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} !! [طه: 18].

وتأمَّل قول الرب له قبلها، {وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى} [طه: 13].

فبقدر استماعك لوحيه، يكون أنسك به!

ولن تأنس به إلا إن اختارك لهذا المقام.

فقل يا رب!

- حين عاش الكليم لحظة القرب، أطنب في الكلام، {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 17 - 18]!.

ص: 213

وأنت تقترب كل يوم مرات ومرات - أو يفترض أن تكون كذلك - = فالإطناب الإطناب في موضع القرب!

{واسجد واقترب} [العلق: 19].

(2)

قال تعالى: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى)[طه: 70].

«سبحان الله! ما أعجب أمرهم.

قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءَيْن»، [الزمخشري، فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب: (10/ 208)].

(3)

أن يحملك الشوق، فإن لك السبق!

قال الكليم موسى: {هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى} !! [طه: 84].

(4)

مد العين باب عظيم من أبواب الفساد، ولا يقتصر فساده على الدنيا فحسب، بل يمتد للآخرة فيفسدها، ولذا حذر الله نبيه فقال:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].

وفي القناعة راحة ونعيم.

ولا يزال الإنسان يتتبع ما لا يبلغه، فيحمله على جمع المال من حله وحرامه = فيهلك!

ص: 214

‌سورة الأنبياء

(1)

من ظن أنَّه ينفك عن بلاء = فإنه لم يفقه حقيقة الدنيا .. فإنَّ الدنيا بلاء يتلوه بلاء.

قال الحكيم العليم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].

(2)

قد يبتليك بالذنب لتنكسر إليه!

فإياك أن يستولي الذنب على قلبك، فتفر من الله، بل فر إليه، وكلما أذنبت = تب، ولن يمل الله حتى تملوا.

{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}!! [القصص: 16].

‌سورة الحج

(1)

القلوب كالأرض، إذا نزل عليها النور - نور الكتاب - وخشعت له، اهتزت بالحياة ناضرة، ونبتت فيها شجرة الإيمان وترعرعت، وربت لاستقبال كل خير!

كذلك الأرض؛ إذا نزل عليها الماء {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ 5} [الحج: 5].

ص: 215

فيا عباد الله {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 17} [الحديد: 17]، ويحيي القلب بعد قسوته.

(2)

{وبشر المخبتين} [الحج: 34].

لا تخرج من هذه الأيام إلا وقد اتصفت بصفة الإخبات، وهي صفة ذكرها الله في ذكره للحج والنسك.

- ذكر مع وجل.

- صبر على المصاب.

- إقامة للصلاة.

- إنفاق من الرزق.

{فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 34 - 35].

‌سورة المؤمنون

(1)

التدبر بالمشاهدات!

ومن التدبر للقرآن المجيد، الربط بين المشاهدات اليومية، وبين آيات القرآن!

ومن أمثلة ذلك:

ص: 216

عن أبي الأحوص عن عبد الله، قرأ هذه الآية (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [المؤمنون: 104]. الآية، قال:«ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار، وقد قلصت شفتاه وبدت أسنانه» [تفسير عبد الرزاق: (2/ 421)].

(2)

استحضر حين تتعب نداء الله لأهل النار - نجانا الله منها - مذكرًا لهم بحال أهل الإيمان، {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111].

{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} [الفرقان: 75].

{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12].

ألا بالصبر تبلغ ما تريد.

ورأينا في المآل .. ذلك الكنز الدفينا

فاز من قام الليالي .. بصلاة الخاشعينا

‌سورة النور

(1)

من تلاوة القرآن حق تلاوته: اتِّباع أساليب القرآن في بيانه عن الأحكام الشرعية.

وبيان القرآن للأحكام الشرعية بيانٌ ممتعٌ أخَّاذ مهيئٌ للقلب لاستقبال أحكام الرب، ومن ذلك:

- مزج بيان الحكم بالوعظ، والتذكير بالآخرة، وربط الأحكام بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى وما دلَّت عليه.

- رعاية المقاصد الكلِّية، والمعاني التي لا ينبغي أن تُفقَد حال التطبيق.

ص: 217

وتأمَّل - مثلًا - قوله سبحانه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60].

تجد:

أنَّ الله سبحانه مع ذكر الترخيص والإذن للقواعد بالتخفف إلَّا أنَّه ذكر الأفضل لهنَّ، والأولى لحالهنَّ، وأرشدهنَّ لسلوك أفضل الأعمال، وأحسن السُّبُل.

ختم الآية بذكر اسميه: السميع العليم، ترغيبًا وترهيبًا.

فسبحان من هذا كلامه، ونسأله حسن الفهم عنه.

(2)

قال تعالى: {عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61].

«الصديق: فعيل بمعنى فاعل، وهو الصادق في المودة.

وقد جعل في مرتبة القرابة مما هو موقور في النفوس من محبة الصلة مع الأصدقاء.

وسئل بعض الحكماء: أي الرجلين أحب إليك أخوك أم صديقك؟

فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي»، [التحرير والتنوير:(18/ 302)].

ص: 218

‌سورة الفرقان

(1)

القرآن مستودع الأسرار، إذ {أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض} [الفرقان: 6]!!.

(2)

التلاوة المستمرة للقرآن تعطي القلب قوة وثباتًا، وكل آية تتلوها، وتعرف معناها: زيادة في قوة قلبك، ونوره.

قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا 32} [الفرقان: 32].

وإذا كان النزول المفرق للقرآن قوة لقلب النبي صلى الله عليه وسلم، فلأتباعه أولى!

(3)

فهم كلام أهل العلم، وفائدة:

ذكر ابن القيم في قول الله تعالى: {وَالَّذين يَقُولُونَ رَبنَا هَب لنا من أَزوَاجنَا وَذُرِّيَّاتنَا قُرَّة أعين واجعلنا لِلْمُتقين إِمَامًا} [الفرقان: 74]، قول مجاهد:«اجعلنا مؤتمين بالمتقين، مقتدين بهم» .

ثم قال: «وأشكل هذا التفسير على من لم يعرف قدر فهم السلف وعمق علمهم، وقال: يجب أن تكون الآية على هذا القول من باب المقلوب، على تقدير: واجعل المتقين لنا أئمة.

ومعاذ الله أن يكون شيء مقلوبًا على وجهه، وهذا من تمام فهم مجاهد رحمه الله، فإنه لا يكون الرجل إمامًا للمتقين حتى يأتم بالمتقين، فنبه مجاهد على هذا الوجه الذي ينالون به هذا المطلوب = وهو اقتداؤهم بالسلف المتقين من قبلهم فيجعلهم الله أئمة للمتقين من بعدهم.

ص: 219

وهذا من أحسن الفهم في القرآن، وألطفه، ليس من باب القلب في شيء، فمن ائتم بأهل السنة قبله ائتم به من بعده ومن معه»، [رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه:(12 - 13)].

قلت: وهذا الباب يحتاج إلى رسوخٍ، ولذا تجد الغر يبادر بالاعتراض قبل الفهم، والتخطئة قبل التوجيه.

(4)

لقد فتح القرآن قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ففتحوا به القلوب.

{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]، قال ابن عباس:«بالقرآن» !.

‌سورة الشعراء

(1)

ولم يذكر القلب السليم في القرآن، إلا مع ذكر الخليل إبراهيم؛ ففي سورة الشعراء أخبر عليه السلام أنَّه لا ينفع يوم البعث مالٌ ولا بنون {إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 89].

وفي سورة الصافات، وصف الله قلب إبراهيم بالسلامة، {إذ جاء ربه بقلب سليم} [الصافات: 84].

إلى من يريد قلبًا سليمًا، دونك قصة الخليل لتتلمس منها كيف تُحصِّلُ واحدًا!

إلى القرآن.

(2)

يقول أهل النار - أعاذنا الله منها -:

ص: 220

{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ 100 وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101]

«فإن قلت: لم جمع الشافع، ووحد الصديق؟

قلت: لكثرة الشفعاء في العادة، وقلة الصديق.

والصديق - وهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك - فأعز من بيض الأنوق»، [الزمخشري، فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب: (11/ 386)].

‌سورة النمل

رحمة المرء بأهله من تمام رجولته، ألم تر إلى الكليم قال لأهله، {إني آنست نارًا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون} [النمل: 7]!!.

‌سورة القصص

(1)

لقد كان من دعاء الصالحين، أن ينجيهم الله تعالى من مظاهرة المجرمين، ومعاونتهم في شيء من أمورهم، ألا ترى قول الكليم:{رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17].

قال الفقيه الإمام القاضي أبو محمد ابن عطية: «واحتج أهل العلم والفضل بهذه الآية في خدمة أهل الجور، ومعونتهم في شيء من أمرهم، ورأوا أنها تتناول ذلك، نص عليه عطاء بن أبي رباح وغيره» ، [المحرر الوجيز:(4/ 281)].

(2)

لا تظاهر [تعاون وتناصر] المجرمين، وإن خفت!

ص: 221

بل: وإن اضطررت للهجرة.

ألا ترى أن الكليم موسى ذكر من تمام شكره لنعمة ربه عليه أن لن يكون {ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17].

وبعدها: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18].

وبعدها: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 21 وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 21 - 22].

(3)

عن الشعبي قال: «من قتل رجلين فهو جبار، قال: ثم قرأ (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) [القصص: 19]» .

وعن قَتادة: «(إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ) [القصص: 19] إنَّ الجبابرة هكذا، تقتل النفس بغير النفس» .

وعن ابن جُرَيج: «(إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ) [القصص: 19] قال: تلك سيرة الجبابرة أن تقتل النفس بغير النفس» ، [جامع البيان:(18/ 197)].

(4)

لو أتيت من قبل من أسديت إليه معروفًا = فإياك أن تترك فعل المعروف.

فإنَّ الكليم عليه السلام أُتي من قبل الإسرائيلي، وقد أراد دفع الأذى عنه، فظن أن موسى قاتله، فقال:{يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين} ! [القصص: 19].

ومع ذلك ففي أول موقف وضع فيه موسى، وجد الفتاتين، وكان من أمرهما ما كان، {فسقى لهما} [القصص: 24]، فأبدله الله نعمة وسرورًا.

فافعل المعروف، وانتظر عاقبته عند رب العالمين.

ص: 222

(5)

الوظائف الدينية، والمراتب المحصلة عن طريق الشرع لا تتزاحم!

قال الكليم: {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني} [القصص: 34]،

وقال الصالحون عند فقد نظرائهم:

خلت الديار فسدت غير مسوَّد

ومن الشقاء تفردي بالسؤدد

(6)

{وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 51].

لقد وصل الذكر إليك، فماذا أحدث في قلبك وسيرك إلى الله!

وفي قول بعض أهل التفسير: «وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمْ قولا تضمن معاني من تدبرها اهتدى» ، [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز:(4/ 291)].

‌سورة العنكبوت

(1)

من طرق التدبر للقرآن المجيد، الربط بين «أمثال القرآن» وصورها المعاصرة!

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27]، {وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43].

(2)

أسماء القرآن أعلام وأوصاف، وللكتاب عدة أوصاف ذكرها الله فيه!

وبقدر أخذك وقربك من كتاب الله الكريم = يكون أخذُك من هذه الصفات.

فإذا أردت الذكر، والمجد، والعزة فعليك بالقرآن تلقيًا وتبليغًا.

ص: 223

{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ! [العنكبوت: 51].

(3)

ستظل تدفع في الران الذي يعوق سيرك إلى الله، فإياك أن تنقطع عن إزالته!!

{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} [العنكبوت: 69].

‌سورة الروم

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ 6 يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6 - 7]،

أي: أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشئونها وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة.

قال الحسن البصري: «والله لبلغ من أحدهم بدنياه أنَّه يقلب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه، وما يحسن أن يصلي» .

وقال ابن عباس: يعني: «الكفار يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال» ، [تفسير ابن كثير:(6/ 305)].

ص: 224

‌سورة لقمان

يقول الإمام ابن عطية في قول الله تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} [لقمان: 27].

«وهذه الآية بحر نظر، نوَّر الله تعالى قلوبنا بهداه» ! [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: (4/ 354)].

‌سورة السجدة

قاعدة:

«إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: 25].

تأمل: {هو} !

‌سورة فصلت

(1)

الأمن الحقيقي لا يكون إلا يوم القيامة، ولا يكون إلا لأهل الإيمان بحسب مراتبهم.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]، وقال

ص: 225

الحكيم الخبير: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

‌سورة الأحزاب

إذا لم يفتح الله عليك في نوع من الخير فلا تكن معوِّقًا عنه، فإذا فتح الله لك بابًا من العلم -مثلًا -، وفتح لغيرك في غير هذا الباب فلا تكن معوِّقًا عنه، ألم تر أن الله ذم المعوقين عن الجهاد فقال:{قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا، ولا يأتون البأس إلا قليلا} [الأحزاب: 18].

‌سورة سبأ

الوحي هو طريق الاهتداء على الحقيقة!

ألا ترى أن الله حكى قول النبي صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50].

وفي الآية إشارة إلى أهمية دعاء الرب أن يوفق الإنسان للتمسك بالوحي وسلوك طريقه.

ص: 226

‌سورة فاطر

(1)

إذا فتح الله لك أبواب رحمته، فلن تشقى أبدًا، فقط: أدمن قرع الباب!

وإذا منع = فمنعه حكمة.

{ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم} [فاطر: 2].

(2)

لن تخلو حياتك - وإن كنت فيما تحب - من منغص وكبد، فعشها كما هي، لا كما تريد، وتذكر يوم النعيم المقيم لتعمل له: «وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} [فاطر: 34].

(3)

عن إبراهيم التيمي قال: «ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار؛ لأن أهل الجنة قالوا: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} [فاطر: 34].

وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة؛ لأنهم قالوا: {إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين} [الطور: 26]»، [تفسير ابن أبي حاتم:(10/ 3183)].

(4)

كتب الله على آدم وذريته ألا تتم لهم في الدنيا فرحة، لئلَّا يركنوا للدنيا .. فكل فرحة يعقبها حزن، وكل لذة منغصة ولو بوجه، وكل نعيم لا محالة زائل.

ويتذكر أهل الجنة - جعلنا الله من أهلها - ما كانوا فيه، فيقولون {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34]، والفضل كل الفضل للغفور الشكور.

ص: 227

‌سورة يس

(1)

«وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ

} [يس: 20].

فوائد من قصة الرجل في آل ياسين:

- أبسط داعية (أسلوب سهل).

- لم يدع إلي نفسه (اتبعوا المرسلين).

- قتلوه ومع ذلك تمنى لهم الهداية {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 22 أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئا وَلَا يُنْقِذُونِ 23 إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ 24 إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ 25 قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ 26 بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ 27} [يس: 22 - 27].

- دعا من غير تكلف.

- تحدث الله عنه أكثر من المرسلين، وأفاض سبحانه في ذكره، بل قال: «وما أنزلنا على قومه} [يس: 28]، ولم يقل قومهم!!

(2)

{إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} [يس: 55].

لا تنشغل بشغل الدنيا عن شغل الآخرة، فإن فعلت فأنت مغبون، فإن كل نعيم هنا لا محالة زائلُ، أما هناك فلك ما تدعي!

ولو علم أهل الجنة عمن شغلوا ما همهم ما شغلوا به!

ص: 228

‌سورة ص

إذا أردت أن تكون قويًّا في الحق، قويًّا في طاعة الله، ذا بصيرة في الأمور وعواقبها، موفقًا إلى السداد = فكن من أهل الآخرة تذكرًا وتذكيرًا!

{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 45 - 46].

‌سورة الزمر

(1)

{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} ! [الزمر: 9].

في بعض أقوال أهل التفسير، أن القنوت قراءة القارئ في الصلاة.

القرآن والصلاة في ناشئة الليل!

«إنَّ لناشئة الليل قناديل أخرى تنبض بنور أخضر، نور يمده زيت الحذر من وعيد الله، وأريج المحبة لجمال الله .. فتبتهج الدوالي حزنًا وفرحًا، وتنشط الخفاف سيرًا إلى الله، قيامًا وسجودًا .. ذلك فصل فريد خارج فصول المدار، ومطلع خفي من غير المطالع الخمسة، له إشراق ربيعي، وأريج من كثبان الجنة، يملأ الحراب مسكًا وريحانًا.

فارشف يا سالك .. ! هذه كأس العارفين بالله، تفيض عليك بعلمه، فارشف ولا تك من الجاهلين!»، فريد الأنصاري.

(2)

السكينة .. السكينة يا أهل القرآن

ص: 229

إنَّ المرء ليشتاق إلى قارئ هادئ القراءة إذا سمعته حسبت أنَّه يخشى الله!

إنَّ الصوت المرتفع قد يجلب مزيدًا من البكاء، لكنه يبعد كثيرًا من السكينة!

{ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} ! [الزمر: 23].

(3)

يقول الطاهر ابن عاشور (ت: 1393): في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]: «أطنبت آيات الوعيد بأفنانها السابقة إطنابًا يبلغ من نفوس سامعيها أيَّ مبلغٍ من الرعب والخوف، على رغم تظاهرهم بقلة الاهتمام بها.

وقد يبلغ بهم وقعها مبلغ اليأس من سعي ينجيهم من وعيدها، فأعقبها الله ببعث الرجاء في نفوسهم للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها على عادة هذا الكتاب المجيد من مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب!»، [التحرير والتنوير:(24/ 39)].

‌سورة غافر

الطاغية إذا لم يستطع مجابهة الحجة بالحجة = انتقل إلى القتل!

ألا ترى قول فرعون: {ذروني أقتل موسى، وليدع ربه .. } [غافر: 26].

ص: 230

‌سورة فصلت

(1)

لا تسأم!

{فالذين عند ربك = يسبحون له بالليل والنهار، وهم لا يسأمون} !!! [فصلت: 38].

فقم إلى جنة عرضها كعرض السماء والأرض، مغبون من لم يجد فيها موضعا لقدمه!

(2)

للقرآن أسرار .. لا تظهر إلا بطول المصاحبة!

«وإنَّه لكتاب عزيز» [فصلت: 41].

(3)

القرآن .. والعبادة الموسمية

بعض الناس يتعامل مع الكتاب العزيز تعاملًا موسميًا، فلا يقترب منه إلا في مواسم الطاعة خاصة (رمضان).

وهؤلاء لن يُحرموا نور الكتاب - بإذن الله الكريم -، لكنهم لن يحصِّلوا من هذا النور إلا بمقدار القرب من الكتاب.

وصاحب الهمَّة، طالب النور، لا بد أن يزداد قربه من الكتاب يومًا بعد يوم، وهو بهذا آخذ في الاهتداء بنور الكتاب، دافعٌ للران الموجود على القلب.

وتذكروا قول ربنا عن الكتاب: {وإنَّه لكتاب عزيز} [فصلت: 41].

فبقدر قُربك = يكون أَخْذُكَ!

ص: 231

‌سورة الزخرف

لا تكن ولعًا بالخصومة، فإن الله ذم قومًا فقال عنهم:{بل هم قومٌ خصمون} [الزخرف: 58]، فلتكن خصومتك للحق وبالحق!

‌سورة الأحقاف

إذا لم تنتفع بالحق، ولم تعمل به، فلا تكن مسوغًا للباطل، ولا داعيًا إليه، فإن هذا داء قديم حذر الله منه.

وقد يُسبق الإنسان في طريق الحق، فتأبى نفسه أن يكون تابعًا، ولا ينبغي أن يكون ذلك حاجزًا عن اتباع الحق، فقد يسبق المتأخر.

قال الحق: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11].

‌سورة محمد

(1)

سورة محمد صلى الله عليه وسلم

سورة محمد هي سورة القتال!

وبعدها مباشرةٌ سورة الفتح، وفي هذا إشارة للفطن.

وفي هذه السورة ذكر الله صلاح البال، ولم يذكر الله صلاح البال في القرآن صريحًا إلا في هذه السورة، ومن تأملها وجد راحة البال المنشود.

ص: 232

وفي السورة الثلاثيات المفتتح بها الكتاب: (أهل الإيمان - أهل الكفر - أهل النفاق).

وفيها فضح للصنف الأخير، وبيان لطريق من طرق كشفهم.

{الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم} [محمد: 1 - 2].

(2)

من نعم الله على أهل الجنة، صلاح البال!

بل هو من أجزية الشهادة، «سيهديهم ويصلح بالهم، ويدخلهم الجنة عرفها لهم» [محمد: 5 - 6]، وقد قيل إن (عرفها لهم) أي: طيَّبها.

وقد حرر الإمام أبو محمد القاضي ابن عطية، أن صلاح البال يكون في القلب الذي هو موضع الفكر والنظر، المؤدي إلى صلاح الحال.

فاللهم أصلح بالنا، واجعلنا من أهل النعيم.

والحمد لله وحده على كل حال!

(3)

جاءت سورة (الفتح) بعد سورة (محمد)، وهي سورة (القتال)، وجاءت سورة (النصر) بعد سورة (الكافرون).

يأتي النصر بعد البراءة من الكفر وأهله، ومواجهتهم، وقد أمر الله نبيه فقال الله له: ({يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73].

فاستبشروا: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ 1} [محمد: 1].

ص: 233

‌سورة الذاريات

وصف ربنا طبيعة السير إليه، فقال آمرًا:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50].

والفرار يتضمن «مباعدة بخفة مع استرسالٍ تكرارٍ أو دوام» .

ومن شأن الفارِّ أن تصيبه الكبوة بعد الكبوة، لكنها لا تلفته عن مساره، بل يظل سائرًا يستمد من كبوته زادًا لطريقه الممتد حتى يلقى الله الذي لا ملجأ منه إلا إليه.

‌سورة الحديد

(1)

طول العهد في البعد عن الوحي = سبب عظيم من أسباب قسوة القلب!!

وليس للإنسان إلا أن يتصالح مع الوحي، ويعالج نفسه للإقبال على الوحي قرآنًا وسنة لإذابة تلك القسوة، كل هذا مع دعاء للذي يحيي الأرض!

{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 17]، أي: كما أن الله يحيي الأرض بعد موتها فهو الذي يحيي القلب بعد قسوته!!

اللهم ارزقنا حياةً بنور وحيك!

ص: 234

(2)

{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إنَّ ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} [الحديد: 22 - 23].

خلاصة الأمر: لا تحزن على ما فاتك من الدنيا، ولا تفرح بما أوتيت منها، فأنت لا محالة إلى الله صائر.

‌سورة المجادلة

(1)

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]

ما أجمل هذه العبارة {وتشتكي إلى الله} .. اشتكت إلى من إليه الشكوى سبحانه وبحمده.

عرفت المرأة أن الله كاشف الضر، ومجيب المضطر، فلنعرف ونعمل.

(3)

المؤمن لا تلحقه ذِلَّة بمصيبة أصابته، إلا أن تكون مصيبة في الدين - أعاذنا الله منها -

= بل يبقى عزيز النفس دائم العطاء؛ لأنه يستمد العزة من الله!

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ 20 كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20 - 21].

ص: 235

‌سورة الحشر

من رحمةِ الله ونعمته علينا أن نرى أثر القرآن على الصحابة في حوادث الأمة المستجدة.

نرى أهل النفاق وتربصهم بأهل الإيمان.

نرى الأخوَّة بين أهل النفاق وإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب!

نرى كيف يحيي الله تعالى الأمة بين طول رقاد، وكيف تعود الأجيال إلى القضايا الكبرى.

اقرؤوا القرآن، واستبصروا به في قضاياكم، ابحثوا عن صفات المنافقين وإخوان أهل الكتاب، لأنهم خطر لا بد أن يزال من الأمة.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ 11} [الحشر: 11].

‌سورة الملك

إنَّ الله تعالى هو الذي خلق الموت والحياة، وقدر على كل إنسان بما هو كذلك نصيبه من البلاء!

يقول تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} ! [الملك: 1 - 2].

ص: 236

أطل تأملك في ختام هذه الآية، كيف أن الله ختم الآية بهذين الاسمين الجليلين، {العزيز الغفور} ، إنَّك - إن فعلت - تصب خيرًا عظيمًا!

‌سورة الجن

لما استمعت الجن القرآن قال بعضهم لبعض أنصتوا، وقالوا:{إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشد} [الجن: 2]، وفي الأثر:«لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد» .

لم يبق عليك إلا أن تقرأ، وتفهم، لتشاهد العجائب.

عجائب القرآن!

‌سورة المدثر

ليس في طريق الآخرة وقوف!

{لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} [المدثر: 37].

ص: 237

‌سورة الإنسان

(1)

سورة الإنسان، سورة {هل أتى} !

من السور الفريدة، فريدة في خطابها، فهي تخاطب الإنسان من حيث كونه إنسانًا، وهذا المعنى من المعاني المتواطئة!

في هذه السورة بلاغ للجميع.

تبدأ السورة بما قبل الوجود، مرورًا بالنشأة، إلى الطريقين {إما شاكرًا، وإما كفورًا} [الإنسان: 3].

ثم مضت السورة تحذر تحذيرًا مخيفًا جدًّا على وجازته.

مع تفصيل للعيش الرغيد، والنعيم المقيم.

ثم تذكر السورة طريق النعيم، بالاتصال بالكتاب، وبالحديث بأدوات العظمة:{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلًا} ! [الإنسان: 23].

وحينما يُذكر القرآن فلا بد من الصلاة: {ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا} [الإنسان: 26].

كل هذا بين ترغيب وترهيب، ثم تختم السورة ببيان عاقبة الابتلاء الذي خلق الإنسان على أساسه {يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما} [الإنسان: 31].

في هذه السورة من الأسرار ما يُدهش الألباب، ووالله وبالله، هذه السورة نبراس لكيفية دعوة الناس، وطريق هدايتهم واستقامتهم، فالحمد لله الذي أنزل هذا الكتاب إلينا ليكون للعالمين نذيرًا.

(2)

قاعدة:

«لقد خلقنا الإنسان في كبد}!! [البلد: 4].

ص: 238

وقال الله في سورة الإنسان!!!

«إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج = نبتليه} [الإنسان: 2].

جزء عم

جزء (عم/ النبأ) المبدوء بسورة النبأ، والمختوم بسورة الناس.

الجزء المبارك الذي يعلم الإيمان!

الذي يتحدث عن الله وما له من الجلال والجمال.

يتحدث عن الإنسان من حيث حقيقته وطبيعة نفسه، وكيف يكرمها، ومتى يكون مهانًا.

عن الدار الآخرة من الموت وحتى المثوى الأخير!

أمام المرأ فرصة ليتعلم معانيه، فيدرك بذلك كثيرًا من معاني القرآن، بل أمامه فرصة ليحفظه قبل رمضان، فيتنعم به في صلاته إن أراد أن يتزود من النوافل.

‌سورة النازعات

قال الإمام ابن عطية رحمه الله: «وقوله تعالى: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} [النازعات: 24] نهاية في المخرقة = ونحوها باق في ملوك مصر وأتباعهم» ، [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز:(5/ 433)].

مع الظلام الدامس، والضباب الكثيف، ليس لنا إلا أن نقول: اللهم اكشف الغمة أنت رب المستضعفين.

ص: 239

‌سورة الطارق

كثير هو الزيف في عالم الناس، لكنهم سيقفون جميعًا أمام الحق، بالحق، ليظهر الحق!

{يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر} [الطارق: 9 - 10].

‌سورة الفجر

في قوله تعالى: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن} [الفجر: 15 - 16].

قال الإمام النيسابوري في تفسيره: «وإنما قال - تعالى - في جانب البسط: {فأكرمه ونعمه} [الفجر: 15] أي جعله ذا نعمة وثروة، ولم يقل في طرف القبض: (فأهانه وقدر عليه) لأن رحمته سبقت غضبه؛ فلم يرد أن يصرح بإهانة عبده، ولئلَّا يكون الكلام نصًّا في أن القبض دليل الإهانة من الله، فقد يكون سببًا لصلاح معاش العبد ومعاده» ، [غرائب القرآن ورغائب الفرقان:(6/ 497)].

‌سورة العلق

كلما أقبلت على القرآن أكثر = تعرضت لكرم الأكرم.

ألم تر أن الله قال في أول التنزيل: {اقرأ وربك الأكرم} ! [العلق: 3].

ص: 240

‌ملاحق

أحب أن يعلم القارئ الكريم أن هذا المنهج اجتهاد يحتمل التغيير والتبديل، ومن وجد الشيخ الناصح، فليتمسك به، ففيه غنية وكفاية، وليصرف نظره عن هذه البرامج إلا أن يكون من باب المعرفة والاطلاع والاستزادة من العلم.

وأحث طالب علم التفسير على العناية بعلوم الآلة وخاصة علوم العربية، فإنه بحسب تضلعه منها يكون فهمه لكتب التفسير، وانتفاعه بما فيها.

وكم رأيت من (طلاب علم)! يشعر الواحد منهم أنَّه قد امتلك ناصية التفسير، وهو لا يتقن كتابًا من كتب اللغة، فيذهب كل هذا عنه عند أول إشكال وسؤال حقيقي يتعرض له، فيجد فهمه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد جهله يلوح أمام ناظريه، فمنهم موفق يرجع فيتعلم، ومنهم مكابر يتمادى في غيه.

ص: 241

(1) علم التفسير وسؤال المنهجية

الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على نبيه وعبده، وآله وصحبه من بعده، أما بعد:

فإنَّ علم القرآن العظيم: هو أرفع العلوم قدرًا، وأجلها خطرًا، وأعظمها أجرًا، وأشرفها ذكرًا، وإن أحق ما صرفت إلى علمه العناية، وبلغت في معرفته الغاية، ما كان لله في العلم به رضا، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدى، وإنَّ أجمع ذلك لباغيه، كتاب الله الذي لا ريب فيه، وتنزيله الذي لا مرية فيه، الفائز بجزيل الذُّخر وسَنَى الأجر تاليه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.

ما السؤال؟

إنا لنشكو في هذه الأزمان من العشوائية في طلب العلوم على اختلافها، وعلم التفسير من العلوم التي أخذت نصيبها من تلك العشوائية، وقد ظهر مؤخرًا - بحمد الله - توجه للبحث عن المنهجية لتحل بدلًا من العشوائية، ولكن فريقًا

ص: 243

انشغل بالسؤال عن (ماذا)، وأصبح هذا السؤال من معوقات التحصيل أيضًا!!، وفي هذه المقالة لن يكون الاهتمام بسؤال (ماذا أقرأ؟) فحسب، ولكن سأحاول الإجابة عن سؤال (كيف أقرأ؟) كذلك.

إنَّ علم التفسير ليس كغيره من العلوم التي وجدت فيها متون يترقى الطالب فيها من متن يصور مسائل العلم، إلى آخر يصور المسألة مع إقامة الدليل، إلى ثالث يضيف دفع الشبهات عن الدليل، وتحرير المسألة.

ولذلك فلا بد أولًا من سؤال ينبني عليه طبيعة الكتب التي ستقرأ، وطريقة القراءة، وهو ما الهدف من قراءتك لكتب التفسير؟، واختصارًا فإن الناس ينقسمون في قراءة كتب التفسير إلى:

1 -

مريد لمعرفة معنى الآية الإجمالي، مع إدراك شيء من لطائفها، ليفهم كلام ربه سبحانه وتعالى، إذ كيف يلتذ بكلام الله من لا يعرف معانيه؟!!

2 -

طالب علم يريد - إضافة إلى ما سبق - الترقي في هذا العلم كما يترقى في غيره من العلوم.

فأما الأول، فإنه بحاجة إلى أمرين:

1 -

إدراك غريب القرآن، ويكفيه ما يعينه على إدراك معنى الكلمة من أقرب طريق، ككتاب الشيخ العلامة: مخلوف، أو كتاب د. الخضيري (السراج في بيان غريب القرآن).

2 -

إدراك المعنى الإجمالي، وهناك كتب ألفت في هذا المجال، وهي كتب يسيرة سهلة، ككتاب التفسير الميسر، أو المختصر في التفسير، أو تفسير العلامة السعدي، أو المعين على تدبر الكتاب المبين للأستاذ مجد مكي.

ص: 244

فإن أراد أكثر من ذلك فعليه بمختصرات التفسير، كمختصرات ابن كثير

(1)

، مع الاستعانة بالكتب التي تهتم بذكر لطائف الآي، ومن الإصدارات التي تفيد هذه الطبقة، كتب الشيخ فريد الأنصاري، والمبدع الأستاذ إبراهيم السكران، وإصدارات مركز تدبر.

أما الثاني - وهو موضوع المقالة -، فيحتاج أن يسلك طريقًا تعينه على إدراك مراده، وذلك ما سأجتهد في إبرازه في الآتي، فأقول:

أولًا: إنَّ طالب العلم بحاجة إلى معرفة الفرق بين التفسير وبين المعلومات الموجودة في كتب التفسير، فليس كل معلومة موجودة في كتب التفسير هي من صلب علم التفسير، إذ كل علم له بالقرآن تعلق، وقد يستطرد المفسر في علم برع فيه، فيتكلم عليه في سياقات كلامه عن الآيات.

ثانيًا: إذا علمت ذلك، فإن أولى ما تتوجه إليه العناية أن تعتني بالمعاني، فالتفسير في حقيقته، هو إدراك معاني القرآن، وهي - لعمري - ليست بالهينة، وليس الخبر كالمعاينة وقد يعسر على صاحب الوجد أن يصف الصبابة وصفًا يحقق ما في نفسه في نفس قارئه، فاطلب = تجد.

ثالثًا: أول ما تهتم به - رعاك الله - أن تدرك أمرين اثنين:

(1)

من أفضل مختصرات ابن كثير فيما أرى:

1 -

(اليسير)، بإشراف د. صالح بن حميد.

2 -

مختصر العلامة أبو الأشبال (عمدة التفسير).

ومن الكتب المهمة التي تصلح لعامة الناس مع توسعه (التفسير الوسيط)، إعداد مجمع البحوث الإسلامية بمصر، ويمكن لغير المتخصص، ولغير طالب العلم أن يكتفي به، ويمكنه أن يضيف معه:(التفسير المحرر)، إعداد: مؤسسة الدرر السنية.

ص: 245

1 -

إدراك غريب القرآن، ومن أيسر كتبه (السراج للخضيري)، وأجلها (مفردات الراغب).

2 -

إدراك المعنى الإجمالي، فاهتم بالكتب التي تصور المعنى في ذهنك تصويرًا صحيحًا، وابتعد عن الكتب التي كتبت بالأسلوب الإنشائي، فإنها ستشوش عليك ذهنك، ومن الكتب التي أقترحها لك:

- التفسير الميسر، مجمع الملك فهد.

- المختصر في التفسير، مركز تفسير.

ولمن تأهل في علوم اللغة، ولو بدرجة يسيرة:

- تفسير ابن جزي الكلبي، طبعة دار طيبة الخضراء، تحقيق الصالحي.

- تفسير ابن أبي زمنين، طبعة دار الفاروق.

- تفسير الإيجي، طبعة دار غراس.

ومما أختاره وأشجع عليه، أن لا تكتفي في هذه المرحلة بكتاب واحد، بل كن ذا همة، واجمع بين كتابين من كتب التفسير لئَلَّا تتعنى في المرحلة التالية، وهما:(التفسير الميسر)، وتفسير الإمام (ابن جزي الكلبي).

كذلك فابتعد عن بعض الكتب التي راج أنها كتبت للمبتدئ، وإنما غرهم قصرها، وهي في الحقيقة من الكتب التي تحتاج إلى عالم ماهر لما فيها من إلغازٍ واستغلاق، ككتاب الإمامين الجلالين، وكتفسير القاضي البيضاوي.

وفي هذه المرحلة عليك أن تطالع شيئًا في أسباب النزول، مع تكرار قراءة أصلك في التفسير أكثر من مرة، حتى ترى أنك قد استظهرته لتنتقل إلى ما بعده.

ص: 246

واحذر في هذه المرحلة أن تعيقك الإشكالات، أو الاستطراد في غير فهم المعاني.

رابعًا: بعد هذه المرحلة يلزمك لزامًا أن تطلع على كتب علوم القرآن، وأصول التفسير، وطرف من مناهج المفسرين

(1)

.

خامسًا: بعد هذه المرحلة التي تكون قد أدركت فيها:

1 -

المعنى الإجمالي، مع معرفة الغريب.

2 -

وأدركت طرفًا من علوم القرآن وأصول التفسير، ومناهج المفسرين.

3 -

مع دراستك لمبادئ العلوم الشرعية، وبخاصة علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة، إذ هن إخوة لعلات.

فأنت مؤهل للدخول في المرحلة التالية، وأهم ما ينبغي عليك أن تفعله:«أن تعرف الأقاويل في التفسير» .

وهذا يا رعاك الله، دأب أهل التحقيق من المفسرين، وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية فيما حكاه ابن رشيق يقول:«ربَّما طالعت على الآية الواحدة نحو مئة تفسير» ، ثم قال ابن رشيق:«فكتب الشيخ نقول السلف مجردًا عن الاستدلال، على جميع القرآن، وكتب في أوله قطعة كبيرة بالاستدلال، ورأيت له سورًا وآيات يفسرها ويقول في بعضها: كتبته للتذكر، ونحو ذلك»

(2)

.

ومن الكتب المرشحة لهذه المرحلة، كتاب الإمام ابن الجوزي، (زاد المسير، ط. المكتب الإسلامي، أو دار الفكر)، وهو أحد الكتب التي كان يعتمدها الشيخ تقي الدين.

(1)

انظر: الدليل إلى القرآن، عمرو الشرقاوي.

(2)

الجامع لسيرته: (238).

ص: 247

وفي هذه المرحلة، إما أن تعتمد على قراءتك وذهنك، وإما - وهو المختار - أن تلخص الأقوال مع الاعتناء بتحفظها، ونسبتها إلى أصحابها.

وفي هذه المرحلة، اهتم بمطالعة بعض كتب التفسير المناسبة لمرحلتك، ككتاب الإمام الحافظ أبي الفداء ابن كثير، والهداية لمكي بن أبي طالب.

والجامع لهذه الكتب هي الاهتمام بجمع الأقاويل في الآيات

(1)

، مع ما في بعضها من التحرير.

ولا تصلح مذاكرة هذه المرحلة مرة واحدة، ولذلك فأنت لو وضعت زاد المسير كأصل لهذه المرحلة، فاجعل لك مع كل مذاكرة له، أحد كتب التفسير الأخرى المعينة على شيء من التحرير

(2)

.

ويمكنك الاستعانة بكتاب: (أقوال السلف في التفسير)، د. عبد الرحمن المشد، فإنه مفيدٌ، واستظهاره حسنٌ جدًّا في هذه المرحلة.

سادسًا: وبعد تلك الرحلة - أيها الموفق - عليك بكتابين عظيمين جليلين، لإمامين من أئمة هذا الشأن، أحدهما الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وكتابه جامع البيان، الذي قال فيه، «حدثتني به نفسي وأنا صبي، وقال: استخرت الله تعالى في عمل كتاب التفسير وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله فأعانني.

(1)

ومن الكتب التي اهتمت بجمع الأقوال: كتاب التفسير للإمام ابن أبي حاتم، والدر المنثور للحافظ السيوطي.

(2)

يمكن لطالب العلم إذا تمكن من العربية، وأتقن تفسير الإمام ابن جزي الكلبي، أن يكتفي بقراءة تفسير الإمام ابن كثير، وأن يقرأ بعده تفسير الإمام ابن عطية.

ص: 248

وقال بعضهم: رأيت في النَّوم كأني في مجلس أبي جعفر والناس يقرؤون عليه كتاب التفسير، فسمعت هاتفًا بين السماء والأرض يقول: من أراد أن يسمع القرآن كما أنزل فليسمع هذا الكتاب»

(1)

.

وأما ثاني الأئمة فهو المحقق الفقيه القاضي الإمام أبو محمد ابن عطية، وكتابه المحرر الوجيز، الذي قال في مقدمته، وهي كالشهد حلاوة فارجع إليها:«وأنا وإن كنت من المقصرين فقد ذكرت في هذا الكتاب كثيًرا من علم التفسير، وحملت خواطري فيه على التعب الخطير، وعمرت به زمني، واستفرغت فيه منني، إذ كتاب الله تعالى لا يتفسر إلا بتصريف جميع العلوم فيه، وجعلته ثمرة وجودي، ونخبة مجهودي، فليستصوب للمرء اجتهاده، وليعذر في تقصيره وخطئه وحسبنا الله ونعم الوكيل»

(2)

، وكم أتمنى أن تقف على تلك المقدمة، لتشاهد مطالع الأنوار، وما احتوت عليه من أسرار.

فابدأ بكتاب الإمام ابن عطية، فافهمه، وقلِّبه، واجعله سميرك، فهو كتاب مؤسِّس لا يستغني عنه طالب هذا العلم الجليل، وهذا الكتاب يحتاج إلى نظر دقيق، وتأمل أنيق.

وعليك في أثناء قراءتك، بالاعتناء بالتالي:

1 -

معرفة أقوال السلف، مع ضبط ما حدث بعدهم من الأقوال الصحيحة المحتملة.

2 -

القواعد العلمية التي يستخدمها العلماء من أهل التحقيق.

3 -

طريقة الوصول للمعنى.

(1)

معجم الأدباء: (6/ 2453).

(2)

المحرر الوجيز: (1/ 35).

ص: 249

4 -

مناقشة الاختلاف بين المفسرين، مع توجيه أقوال السلف خصوصًا عند ابن عطية.

5 -

التعرف على منهجية المفسر، وهي مهمة جدًّا في إدراك المؤثرات على المفسر، كعقيدته، أو توجه تفسيره.

ومما ينبغي الاهتمام به، الاهتمام بتطبيقات علوم القرآن في كتب المفسرين، وإنما نبهت على هذا؛ لأن كتب التفسير تحتوي على تطبيقات لا توجد في مصنفات علوم القرآن.

* نصائح عامة:

1 -

اقصد البحر وخل القنوات، وأعني بهذا أن تعتني بأصول الكتب لا مختصراتها، فإن كثيرًا من المختصرات من شأنها، أن تبعد عنك الاستفادة من منهجية التعامل مع مشكلات التفسير، وذلك كأن تقرأ مختصرًا لابن كثير (على جودة بعض مختصراته)، فستضيع عندك فائدة تعامل الإمام مع أسانيد التفسير، وهي من الدقائق.

2 -

الإشكالات في كتب التفسير كثيرة، ولذلك فاحرص على تجاوز هذه الإشكالات، وعدم الإغراق فيها، بل كلٌ بحسبه.

3 -

اجعل لك كتابًا يكون أصلًا تضيف إليه فوائد الكتب الأخرى أثناء قراءتك، بحيث تستطيع أن تستظهر الأقوال وتوجيهها من خلاله.

4 -

لا بد من العناية بالتعرف على منهج السلف، ومن سار على منهجهم من خلال التطبيقات العملية التي يقومون بها في تفاسيرهم.

ص: 250

5 -

اعتن بتطبيق أصول التفسير على ما تقرأ من التفسير

(1)

.

6 -

معرفة المنهج العام للمفسر، والربط بين معلومات الكتاب، وهذا مما يعين في فهم ما يستغلق من كلام المفسر، وكذلك الرجوع إلى موارد المفسر الأصلية إن أمكن، فقد يتبين من خلال ذلك خطأ في فهم المفسر لمن نقل عنه، كما أن بعض المفسرين يختصر بعض الأخبار والآثار مما قد ينبهم على من يقرأ كلامه، فإذا عاد إلى أصوله التي نقل منها وضح هذا الإبهام

(2)

.

7 -

عليك بقراءة كتب أهل التحقيق من المفسرين ومنهم: «الطبري - ابن عطية - ابن تيمية - أبو حيان - ابن كثير - الشنقيطي - ابن عاشور» ، ومطالعة الحواشي، ومن أجلها:(فتوح الغيب للطيبي، وحاشية الجمل على الجلالين، وحاشيتي (زادة) و (الشهاب) على البيضاوي).

وأخيرًا، لا تحسبن طريق العلم ميسورًا لأهل التكاسل، بل إنه لن يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وقديمًا قال الإمام ابن معطي:

وبعد فالعلمُ جليل القدر

وفي قليله نفاد العمر

فابدأ بما هو الأهم فالأهم

فالحازم البادئ فيما يستتم

فإن من يتقن بعض الفن

يضطر للباقي ولا يستغني

هذا، ودونك البحر فانهل، وعن دعوة لأخيك لا تغفل، والحمد لله المحمود في كل حال، والصلاة والسلام على نبيه والآل.

(1)

من هجم على كتب التفسير دون دراسة لأصول التفسير، لن يستفيد تمام الاستفادة منها، وسيضيع عليه كثير من الفوائد التي يمكنه تحصيلها لو اهتم بدراسة الأصول.

وإحكام الأصول يعطي تصورًا حسنا للمنهج الحقيقي للمفسر، على الطريقة المنهجية التحليلية لا الطريقة الوصفية، وكثير من تلك الأصول لا ينص عليها الأئمة نصًّا، وإنما تستنبط من طرائقهم وتصرفهم مع الخلاف والوفاق.

(2)

مستفاد من مقال، للشيخ د. مساعد الطيار.

ص: 251

(2) علوم القرآن

سأذكر هنا منهجًا يبني طالب العلم من خلاله نفسه في علم (علوم القرآن المجيد)، وذلك عبر الخطوات التالية:

أولًا: يطالع كتاب: «الدليل إلى القرآن» ، عمرو الشرقاوي، الإصدار الثاني، وله شرح عليه بموقع:(إنه القرآن).

ثانيًا: يطالع تاريخ العلم من بحث: «علوم القرآن تاريخه وتصنيف أنواعه» ، د. مساعد الطيار، ضمن كتابه:(بحوث محكمة)، ط. مركز تفسير، وبحث:«أول من ألف في علوم القرآن» ، د. خالد الواصل، مجلة معهد الإمام الشاطبي.

ثالثًا: يذاكر أحد الكتب التالية، مع مطالعة الآخر:

1 -

القواعد الأساسية في علوم القرآن، عبد الله الجديع، ط. مؤسسة الريان.

2 -

الوجيز في علوم القرآن، علي العبيد، ط. دار التدمرية.

ص: 253

رابعًا: يعتني بكتاب: المحرر في علوم القرآن، د. مساعد الطيار، ط. معهد الإمام الشاطبي.

ويطالع معه: أنواع التصانيف المتعلقة بالقرآن الكريم، د. مساعد الطيار، ط. دار ابن الجوزي.

خامسًا: يعتني بمذاكرة كتاب: مواقع العلوم من مواقع النجوم، للبلقيني (ت: 824)، ط. دار غراس، وله شرح مكتوب، عمرو الشرقاوي، ط. مركز تراث.

سادسًا: يقرأ:

1 -

علوم القرآن بين الإتقان والبرهان، د. حازم حيدر سعيد، ط. دار الزمان.

2 -

علوم القرآن بين الإتقان والزيادة والإحسان، د. اعتماد الدوري، ط. دار الكتب العلمية.

سابعًا: يطالع مناهل العرفان، للزرقاني (ت: 1367)، مع دراسته وتقويمه، د. خالد السبت، ط. ابن عفان.

ثامنًا: يطالع مع المقارنة:

1 -

البرهان في علوم القرآن، للزركشي (ت: 794)، وأفضل طبعاته طبعة دار المعرفة.

2 -

الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (ت: 911)، وأفضل طبعاته طبعة مجمع الملك فهد.

3 -

الزيادة والإحسان في علوم القرآن، لابن عقيلة (ت: 1115)، ط. مركز تفسير.

ص: 254

تاسعًا: يعتني بمطالعة الكتب التالية:

1 -

علوم القرآن في الأحاديث النبوية، د. عمر الدهيشي، ط. كرسي القرآن الكريم.

2 -

علوم القرآن عند الصحابة والتابعين، د. بريك القرني، ط. دار التدمرية.

3 -

إمتاع ذوي العرفان بما اشتملت عليه كتب ابن تيمية من علوم القرآن، د. محمد هشام طاهري، ط. دار الإمام البخاري.

عاشرًا: الاطلاع على الرسائل العلمية المتقنة، وسيأتي ذكر بعضها.

ص: 255

(3) أصول التفسير

أولًا: إنهاء المرحلة الأولى في علوم القرآن.

ثانيًا: معرفة تاريخ العلم من خلال بحث «جهود الأمة في أصول التفسير» ، د. مساعد الطيار، ضمن كتابه:(بحوث محكمة)، ط. مركز تفسير.

ثالثًا: يستمع لمحاضرات (علم التفسير .. مقدمة أساسية)، عمرو الشرقاوي، ولو طالع الكتاب لكان حسنًا.

ثم يعتني بكتاب التحرير في أصول التفسير، د. مساعد الطيار، ط. معهد الإمام الشاطبي، ويستمع إلى شرح (عمرو الشرقاوي) عليه.

رابعًا: يذاكر شرح مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، د. مساعد الطيار، دار ابن الجوزي.

خامسًا: يطالع شروح د. مساعد الطيار على مقدمات التفسير، وما صدر منها:

1 -

شرح مقدمة ابن جزي الكلبي (ت: 741).

ص: 257

2 -

شرح مقدمة الطبري (ت: 310).

3 -

شرح مقدمة ابن عطية (ت: 542).

سادسًا: يعتني عناية بالغة بكتاب الاستدلال على المعاني في التفسير، د. نايف الزهراني، ط. مركز تفسير.

سابعًا: يقرأ الكتب التالية قراءة تأمل:

1 -

قواعد التفسير، د. خالد السبت، ط. دار ابن عفان.

2 -

قواعد الترجيح، د. حسين الحربي، ط. دار القاسم.

3 -

اختلاف السلف في التفسير، د. محمد صالح، ط. مركز تفسير.

ثامنًا: يقرأ:

1 -

أصول التفسير في المؤلفات، إعداد: وحدة أصول التفسير، ط. مركز تفسير.

2 -

أصول التفسير في آراء المتخصصين، إعداد: وحدة أصول التفسير، ط. مركز تفسير.

تاسعًا: يطالع المنجز المكتوب على موقع مركز تفسير، وبخاصة المقالات التي اعتنت بإبراز زوايا جديدة من النظر في أصول التفسير، كمقالات الأستاذ: خليل اليماني، ويعتني بإعمال حاسة النقد.

ص: 258

(4) كتب مرشحة للقراءة والاطلاع

في هذه القائمة أذكر بعض الكتب والرسائل الجامعية التي تعين على نظر أوسع لزوايا من الإبداع العلمي في تخصص التفسير وعلوم القرآن.

1 -

الميسر في علم الرسم، د. غانم قدوري الحمد، ط. معهد الإمام الشاطبي.

2 -

الميسر في علم عد الآي، د. أحمد خالد شكري، ط. معهد الإمام الشاطبي.

3 -

الأساس في علم القراءات، د. علي الجعفري، ط. أروقة.

4 -

المحرر في أسباب النزول، د. خالد المزيني، ط. دار ابن الجوزي.

5 -

المفسرون من الصحابة، د. عبد الرحمن المشد، ط. مركز تفسير.

6 -

المسائل المشتركة بين علوم القرآن وأصول الفقه، د. فهد الوهبي، ط. مركز تفسير.

7 -

النبأ العظيم، العلامة د. محمد دراز، عناية: عمرو الشرقاوي، ط. كتبكم.

ص: 259

8 -

العقائدية وتفسير القرآن، د. ياسر المطرفي، ط. مركز نماء.

11 -

المصاحف المنسوبة للصحابة، د. محمد الطاسان، ط. دار التدمرية.

12 -

التفسير اللغوي، د. مساعد الطيار، ط. ابن الجوزي.

13 -

دلالة السياق القرآني، د. عبد الحكيم القاسم، ط. دار التدمرية.

14 -

استدراكات السلف في التفسير، د. نايف الزهراني، ط. دار أجيال التوحيد.

15 -

ظاهرة التأويل الحديثة، د. خالد السيف، ط. مركز تأصيل.

ص: 260

‌خاتمة

ذلك هو القرآن: النور الذي أنزله الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، الهداية التي تنزل القلب لتحييه، وتزيل عنه الران.

فلنجعل القرآن رفيقًا لنا في جلواتنا وخلواتنا، ولننهل من معينه الصافي، ونوره الذي لا ينفد.

لنتمسك بالقرآن كما تمسك به أهل الإصلاح قبلنا، ولنفتح به قلوب الناس، ليكن جهادنا به، ودعوتنا به، وبصرنا به.

إنَّ الإبصار لا نيابة لأحد فيه عن أحد، ولن يحدثك عن القرآن مثل القرآن، وإنما الناس واصفون، ودالُّون، فإن أردت أن تبصر فهلم بنفسك.

افتح كتاب الله، واجعله أنسك، وقلبه ولا تمل، فإنَّ الله لا يمل حتى تمل!

ابحث عن الدواء الذي طالما أردته في القرآن، واصبر.

القرآن وراء «كل كلمة منه حكمة بالغة، وسر من أسرار السماوات والأرض، وحقيقة من حقائق الحياة والمصير، ومفتاح من مفاتيح نفسك السائرة كرهًا نحو نهايتها.

ص: 261

فتدبر .. إنَّ فيه كل ما تريد.

ألست تريد أن تكون من أهل الله؟

إذن؛ عليك بالقرآن، اجعله صاحبك ورفيقك طول حياتك؛ تكن من (أهل الله).

وأخيرًا؛ فإن في كتاب الله آية عجيبة، تدلك على الطريق: كيف يبدأ، وكيف ينتهي؛ تدبر قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].

تمسيك بالكتاب أولًا: وهو الأخذ ببلاغاته بقوة، وإقامة للصلاة ثانيًا: وهو إحسان أدائها والسير إلى الله عبر مواقيتها، ثم انطلاق إلى الإصلاح والدعوة إلى الخير، {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} ، تلك إذن المدارج الأولى للسالكين»

(1)

.

هنا انتهى ما أردت، وبقيت أنت مع كتاب الله مقبلًا عليه، باحثًا عنه، معيدًا لمركزيته في حياتك، وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى.

والحمد لله رب العالمين

(1)

بلاغ الرسالة القرآنية، الأنصاري:(54).

ص: 262