الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
قال رحمه الله:
اعلم أولًا أن المصالح التي عليها مدار التشريع السماوي ثلاث:
الأولى منها: دَرْءُ المفاسد، وهي المعروف عند الأصوليين بالضروريات.
والثانية: جلب المصالح، وهو المعروف عند الأصوليين بالحاجيات.
والثالثة: الجري على مكارم الأخلاق وأحسن العادات، وهو المعروف عند الأصوليين بالتحسينيات، والتتميميات، وكل واحدة من هذه المصالح الثلاث قد تكون مرسلة وغير مرسلة.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن الوصف من حيث هو وصف لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات لا رابع لها:
الأولى: أن تكون إناطة الحكم بذلك الوصف تتضمن إحدى المصالح الثلاث المذكورة آنفًا.
الثانية: أن تكون إناطة الحكم بذلك الوصف لا تتضمن مصلحة أصلًا، لا بالذات ولا بالتبع أعني الاستلزام.
الثالثة: أن تكون إناطة الحكم بذلك الوصف لا تتضمن مصلحة بالذات ولكنها تتضمنها بالتبع، أي الاستلزام، فإن كانت إناطة الحكم
به تتضمن إحدى المصالح الثلاثة المذكورة فهو المعروف عند الأصوليين بالوصف المناسب، كإناطة تحريم الخمر بالإسكار، فإنها تتضمن مصلحة حِفْظ العقل، ودرء المفسدة عن العقل من الضروريات، كما هو معلوم.
وإن كانت إناطة الحكم به لا تتضمَّنُ مصلحة أصلًا لا بالذات ولا بالتبع، فهو المعروف في الاصطلاح بالوصف الطَّرْدي، ولا يصح التعليل به إجماعًا.
واعلم أن الوصفَ الطَّرْدي الذي لا مناسبة فيه ولا تتضمن إناطةُ الحكمِ به مصلحة أصلًا ينقسم إلى قسمين:
1 -
أحدهما: أن يكون طرديًّا في جميع أحكام الشرع كالطول والقصر، فإنك لا تجد حكمًا من أحكام الشرع معلَّلًا بالطول أو القِصَر؛ لأن إناطة الحكم بذلك خالية من المصلحة أصلًا.
2 -
الثاني منها: أن يكون الوصف طرديًّا في بعض الأحكام دون بعض كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق، فإن أحكام العتق لا ترى شيئًا منها يناط بخصوص الذكورة أو الأنوثة، فهما طرديان بالنسبة إلى العتق، مع أن الذكورة والأنوثة غير طرديين في أحكام أخرى غير العتق كالميراث، لقوله تعالى:{فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ} [النساء / 176] وكالشهادة لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة / 282] إلى غير ذلك من الأحكام التي تعتبر فيها الذكورة والأنوثة غير العتق.
وإن كانت إناطةُ الحكم به لا تتضمَّنُ مصلحة بالذات ولكنها تستلزمها بالتبع، فذلك الوصف هو الجامع بين الأصل والفرع في نوع القياس المسمى بقياس الشبه، على ما حرره جماعةٌ من الأصوليين، منهم القاضي أبو بكر الباقلاني، والقرافي، وزادوا على ما ذكر كون الشرع قد شهد بتأثير جنس ذلك الوصف القريب في جنس ذلك الحكم القريب، يعنون أنه لا يُكْتَفَى بالجنس البعيد في ذلك.
ومثاله قولهم: الخل مائع لا تُبنى على جنسه القنطرة، ولا يُصاد من جنسه السمك، فلا تصح الطهارة به قياسًا على الدهن. فقولهم: لا تبنى القنطرة على جنسه ولا يصاد من جنسه السمك، ليس مناسبًا في ذاته؛ لأن عدم بناء القنطرة عليه وعدم صيد السمك منه بالنظر إلى ذات تلك الأوصاف، فهي أوصافٌ طردية بالنسبة إلى الطهارة وعدمها، ولكنها مستلزمة للمناسب.
قال القرافي في "شرح التنقيح": "فإن العادة أن القنطرة لا تُبنى على الأشياء القليلة بل على الكثيرة كالأنهار، فالقلة مناسبة لعدم مشروعية المتصف بها من المائعات للطهارة العامة، فإن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود،، أما تكليف الكل بما لا يجده إلا البعض فبعيد عن القواعد، فصار قولهم: لا تُبنى القنطرة على جنسه ولا يصاد من جنسه السمك، ليس بمناسب، وهو مستلزم للمناسب. وقد شهد الشرع بتأثير جنس القلة والتعذر في عدم مشروعية الطهارة، بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة فإنه يسقط الأمر به وينتقل إلى التيمم". بواسطة نقل "نشر البنود".
وإذا علمتَ بما ذكرنا انقسامَ الوصف باعتبار تضمنه المصلحة وعدمها إلى مناسب، وطرديٍّ، وشبهيٍّ، فاعلم أن الوصف المناسب الذي هو المقصود بالكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: واحد منها صادق بصورتين. فيصير مجموع الصور أربعًا.
وإيضاحُ ذلك: أن المصلحة التي تضمَّنها الوصفُ فصار مناسبًا بسبب تضمنه لها تنقسم إلى ثلاث حالات لا رابعة لها.
الأول: أن يدل دليل خاص من الشرع على اعتبار تلك المصلحة وعدم إهدارها، كالإسكار بالنسبة إلى تحريم الخمر، والصغر بالنسبة إلى الولاية على المال.
الثانية: أن يدل دليل خاص على إهدارها وعدم اعتبارها، كما لو ظاهَرَ الملكُ من امرأته، فمصلحة الزجر والردع في تخصيص تكفيره بالصوم؛ لأن الصوم هو الذي يردعه عن العود إلى مثل ذلك، أما الإعتاق والإطعام فهو أسهل شيء على الملوك؛ لأنهم لا يبالون به لِخِفَّته عليهم، ولكن الشرع الكريم ألغى هذه المصلحة وأهدرها، كما قال تعالى:{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة / 3].
واعلم أن الشرع الكريم لا يُلْغي اعتبارَ مصلحةٍ ويحكم بإهدارها إلا لتحصيل مصلحة أخرى أهم في نظر الشرع منها؛ لأن عتق الرقبة وإخراجها من الرِّق أهم في نظر الشرع من التضييق على المَلِكِ بالصوم لينزجر بالتكفير بذلك.
الثالثة: هي أن لا يدل دليل خاص على اعتبار مناسبة ذلك
الوصف ولا على إهدارها.
فإِن دل الدليل الخاص على اعتبار تلك المصلحة، فهو المعروف بالمؤثِّر والملائم.
وإن دل الدليل الخاص على إهدار تلك المصلحة، فهو المعروف عند أكثر أهل الأصول بالغريب.
وإن لم يدل الدليل الخاص على اعتبارها ولا على إهدارها، فهي المصلحة المرسلة. وإنما قيل لها مصلحة لأن المفروض تضمن الوصف المذكور لإحدى المصالح الثلاث، وإنما قيل لها مرسلة لإرسالها أي إطلاقها عن دليل خاص يقيد ذلك الوصف بالاعتبار أو بالإهدار، وتسمى: المرسل، والمصالح المرسلة، والاستصلاح، وسيأتي إن شاء الله كلام أهل العلم فيها.
اعلم أولًا أن بعض العلماء شنَّعَ على مالك بن أنس رحمه الله في الأخذ بالمصالح المرسلة تشنيعًا شديدًا، كأبي المعالي الجويني ومن وافقه، فعابوا مالكًا بأنه يحكم بضرب المتهم ليقر بالسرقة مثلًا، وقالوا: لا شك أن ترك مذنب أهون من إهانة بريء، وزعموا أنه يجيز قتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين، وأنه يُبيح قطع الأعضاء في التعزيرات. وقال بعضهم: العمل بالمصالح المرسلة تشريع جديد لعدم استناد المصالح المرسلة إلى نص خاص من كتاب أو سنة وسنذكر أولًا حجة مالك المتضمنة الجواب عما قيل عنه.
ثم نذكر بعد ذلك ما يحتاج إليه من الكلام على المصالح المرسلة، وموقف أهل المذاهب وأصحابهم منها.
أما دعواهم على مالك أنه يجيز قتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين، وأنه يجيز قطع الأعضاء في التعزيرات؛ فهي دعوى باطلة لم يقلها مالك، ولم يروها عنه أحد من أصحابه، ولا توجد في شيءٍ من كتب مذهبه كما حققه القرافي، ومحمد بن الحسن البنَّاني وغيرهما، وقد درسنا مذهب مالك زمنًا طويلًا، وعرفنا أن تلك الدعوى باطلة.
أما حكمه بضرب المتهم ليقر بالسرقة، فهو صحيح عن مالك كما عقده ابن عاصم في تحفته بقوله:
وإن تكن دعوى على من يتهم
…
فمالك بالسجن والضرب حكم
ومالك لا يجيز ضرب المتهم إلا إذا ثبتت عليه الخيانة قبل ذلك ثبوتًا لا مطعن فيه فثبوت كونه خائنًا رجح عنده طرف الاحتياط للمال ليقر به أما الذي لم تثبت عليه الخيانة سابقًا، فلم يقل بضربه ليقر.
وثبوت الخيانة له أثره في الشرع، فمن قذف من ثبتَ عليها الزنا لا يُحَدُّ بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
…
} [النور / 4] فمفهوم قوله تعالى: {الْمُحْصَنَاتِ} أن الذين يرمون غير المحصنات لا تثبت عليهم تلك الأحكام المذكورة في قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً .. } [النور / 4] الآية. قالوا: وفي بعض الروايات لحديث الإفك: أن عليًّا ضربَ بريرة لتخبر بالحقيقة عن عائشة، وضَرْبُه لها مصلحة مرسلة، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابنُ حجر أن رواية الضَّرْب المذكورة جاءت من رواية أبي أوس وابن إسحاق.
قلتُ: وقد ثبت في "صحيح مسلم" ما لفظه: "فانتهرها بعضُ أصحابه فقال: أصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث، وبريرة مسلمة، وانتهارها من غير ذنب أذىً لها بلا موجب، وأذى المسلم حرام، وكان مستند من انتهرها هو مطلق المصلحة المرسلة، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم، فهو تقرير منه للعمل بالمصلحة المرسلة في الجملة.
واحتجَّ مالكٌ للعمل بالمصالح المرسلة بأن الصحابة كانوا يعملون بها من غير أن يخالف منهم أحد. قال علماء المالكية: ومن أمثلة ذلك: نَقْط المصحف، وشكله، وكتابته، لأجل حفظه في الأوليين من التصحيف، وفي الثالث من الذهاب والنسيان.
قالوا: ومن أمثلة ذلك حَرْق عثمان رضي الله عنه للمصاحف وجمع الناس على مصحف واحد خوف الاختلاف.
قالوا: ومن أمثلته تولية أبي بكر لعمر؛ لأنه لا مستند له فيها إلا المصلحة المرسلة على التحقيق، وقول بعضهم: إنه من القياس، خلاف الظاهر، يعنون قياس العهد على العقد.
قالوا: ومنه تَرْك عمر الخلافة شورى بين ستة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض.
قالوا: ومن أمثلة ذلك هَدْم عثمان وغيره الدور المجاورة للمسجد عند ضيق المسجد لأجل مصلحة توسعته.
قالوا: ومن أمثلة ذلك زيادة عثمان لأحد الأذانين في الجمعة لكثرة الناس.
قالوا: ومنها اشتراء عمر رضي الله عنه دار صفوان بن أمية واتخاذها سجنًا لمعاقبة أهل الجرائم.
وقالوا: السجن من العقوبات الشديدة، ولذا قرن بالعذاب الأليم في قوله تعالى:{إلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)} [يوسف / 25]، وقالوا: لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر سجن، فلما انتشرت الرعية ابتاع بمكة دارًا وجعلها سجنًا يسجن فيها. قالوا: وفيه دليل على جواز اتخاذ السجن، وقد سجن عمر الحُطَيئة على الهجو، كما يدل له قوله:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخ
…
زُغْب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيتَ كاسبهم في قَعر مظلمة
…
فامنن عليك سلام الله يا عمر
وقد سجن عمر رضي الله عنه صبيغًا على سؤاله عن المتشابه، وسجن عثمان رضي الله عنه ضابئ بن حارثة، وكان من لصوص بني تميم، ومات في السجن، وقد حاول قتل عثمان وهو في سجنه كما يدل له قوله:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني
…
تركتُ على عثمان تبكي حلائل
قالوا: وسجن علي رضي الله عنه في الكوفة، وسجن ابن الزبير في مكة.
قالوا: ومن أمثلة ذلك تدوين الدواوين، لأن أول من دونها في الإسلام عمر رضي الله عنه ولم يتقدم فيه ولا في شيء مما ذكر قبله، ولا في نظيره أمر من الشارع، فكتابة عمر أسماء الجُنْد في ديوان يُعرف به الجند، ويُميز به أهل كل ناحية، ويُعرف به من تخلف ممن لم
يتخلف، وموافقة جميع الصحابة على ذلك من غير نكير لمجرد المصلحة المرسلة، مع أنه ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتفقد كعب بن مالك ولم يعلم بتخلُّفِه حتى وصل تبوك، ونحو ذلك من الوقائع التي ذكروا والتي لم يذكروها حجة ظاهرة لمالك فيما شابهها.
واعلم أن العلماء غير مالك اختلفوا في العمل بالمصلحة المرسلة.
قال ابن السبكي في "جمع الجوامع" في مبحث تقسيم المناسب الذي ذكرنا إلى مؤثِّر وملائم وغريب ومرسل ما نصه: "فإن دل الدليل على إلغائه فلا يُعَلَّل به، وإلا فهو المرسل قبله مالك مطلقًا، وكاد إمام الحرمين يوافقه مع مناداته عليه بالنكير، ورده الأكثر مطلقًا، وقوم في العبادات
…
" الخ.
وقال شارحه صاحب "الضياء اللامع": "وما لم يشهد له الشرع باعتبار ولا إهدار، ولكنه على سنن المصالح وتتلقاه العقول بالقبول فهو المرسل، واختلف في العمل به على مذاهب:
أحدها: رَدُّه، وبه قال القاضي أبو بكر، والشافعي في أحد قوليه، وعزاه المصنف -يعني ابن السُّبكي- إلى الأكثر.
الثاني: اعتباره مطلقًا، وبه قال مالك وحكاه القرافيُّ في "شرح المحصول" عن معظم الحنفية، وهو أحد قولي الشافعي، وقد قال الأبياري: ما ذهب إليه الشافعي هو عين مذهب مالك، وقد رام الإمام -يعني إمام الحرمين- التفريق بين المذهبين ولا يجد إلى ذلك سبيلًا أبدًا، ثم يقال له: ما ذكرته من التقييد لقول الشافعي من التقريب
من قواعد الشريعة ما مأخذه وما المراد به، وفي أي جهة يشترط التقارب؟ أفي مجرد المصلحة، أم في وجه آخر أقرب من ذلك؟.
فإن اكتفى بمجرد التقارب في المصلحة لزمه إعمال جميع المصالح، وإن اشترط الاشتراك في الوجه الأخص فهو المؤثر بعينه، وبين الدرجتين رتب في القرب والبعد لا تنضبط بحال. وقد أطال الكلام في المسألة ورد على القاضي والإمام فيما قالاه، وقال: إذا نظر المنصف في أقضية الصحابة رضي الله عنهم يتبين له أنهم كانوا يتعلقون بالمصالح في وجوه الرأي ما لم يدلَّ الدليلُ على إلغاء تلك المصلحة. قال: وهو أمر مقطوع به عن الصحابة، ونحوه للقرافي، وقد عدد كثيرًا من وقائع الصحابة التي اعتمدوا فيها على مطلق المصلحة من غير أصل تُبْنى عليه، وقال: إن مجموع ذلك يفيد القطع" انتهى محل الغرض منه.
وقال في نفس المبحث المذكور: وقال القرافي في "شرح المحصول": "يحكى أن المصالح المرسلة من خصائص مذهب مالك، وليس كذلك، بل اشترك فيها جميع المذاهب، فإنهم يعللون ويفرقون في صور النقوض وغيرها، ولا يطالبون أنفسهم بأصل يشهد لذلك الفارق بالاعتبار، بل يعتمدون على مجرد المصلحة، ثم إن الشافعية يدَّعون أنهم أبعد الناس عنها، وهم قد أخذوا منها بأوفر نصيب حتى تجاوزوا فيها.
هذا إمام الحرمين -قَيِّمُ مَذْهَبهم- ضمَّنَ بعضَ كتبه أمورًا من المصالح لم يوجد لها في الشرع أَصل يشهد لخصوصها، وكذا فعل