المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة فضيلة الدكتور/ خالد بن علي المشيقح الحمد لله وحده - المنح العلية في بيان السنن اليومية

[عبد الله الفريح]

فهرس الكتاب

‌مقدمة فضيلة الدكتور/ خالد بن علي المشيقح

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فقد قرأت في هذا المؤلف للشيخ: عبدالله بن حمود الفريح [المنح العليَّة في بيان السنن اليومية].

فقد ألفيته مؤلفاً مفيداً عمل على استقصاء السنن اليومية الفعلية والقولية في الليل والنهار المنفردة والتابعة لغيرها مما ثبت بالدليل.

فجزاه الله خيراً، ونفع بمؤلفه آمين، وبالله التوفيق.

كتبه/

د. خالد بن علي المشيقح

ص: 5

‌مقدمة

الطبعة العشرين

الحمد لله الذي امتن على عباده بعظيم العطايا والهبات، وأرشدنا إلى خيري الدنيا والآخرة، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة وهداية للعالمين، دعا لتوحيد الله تعالى، وفرائضه وبين سنته قولًا وعملًا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

إليك - أخي القارئ - الطبعة الجديدة من هذا الكتاب والتي عملت فيها على تصحيحات يسيرة لبعض الأخطاء المطبعية السابقة، مع إضافة سنية قراءة سورة الإخلاص كل ليلة والكلام على ما رواه الترمذي وغيره من حديث أبي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي ذَرٍّ، عَنْ رَسُولِ الله عَنِ اللَّهُ تبارك وتعالى أَنَّهُ قَالَ:«ابْنَ آدَمَ ارْكَعْ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ» ، وإنني أحمد الله تعالى على تعدد طبعات هذا الكتاب، حيث طبع الكتاب في عدة دُوْرٍ في الوطن العربي، وبلغت ترجماته لأكثر من ثلاثين لغة حول العالم، وهذه هي الطبعة العشرون للكتاب الذي أرجو بره وذخره يوم لقاء الله تعالى، كما أنني أرجو ثوابه لكل من شاركني فيه برأي أو توجيه، أو طباعة، أو ترجمة أو فكرة أو تدريس له، أو دلالة عليه، أو نشر شيء منه، والله تعالى أسأل أن يجعله من العلم النافع المورث للعمل الصالح، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه

د. عبد الله بن حمود الفريح

1442/ 7/1 هـ

ص: 7

‌مقدمة

الحمد لله القائل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، والحمد لله الذي أرسل لنا خير رسله، وأنزل علينا أفضل كتبه، وهيَّأ للوحيين حملة من الصحابة، ومن تبعهم من السَّلَف الذين حملوهما، وأوصلوهما بأقوالهم، وما سطَّره التاريخ من أفعالهم، فكانوا خير حامل لخير محمول، فجاءت نماذجهم مُشرقة، ومعبرة عن حُبِّهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم.

ثُمَّ الصَّلاة والسَّلام على خير الورى، من بلَغتْ سنتُه الخليقة والأُلى، وخير من صلَّى وصام ودعا، وخير من بيَّن لأمته طريق الهدى، فتركها على محجة بيضاء نجا بها كل من سمع ووعى، صلَّى الله عليه وعلى آله، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدِّين. ثم أمَّا بعد

أخي القارئ:

أسْطُر وصفحات، فيها سُنَن وعبادات، سُنَن مأثورة، وعبادات مجهولة ومعلومة، وأخرى مهجورة، إنها مِنَحٌ من الله -جلَّ في علاه- لهذه الأمَّة؛ ليستزيدوا من الطاعات، وهي مِنَحٌ؛ لِمَا فيها من مضاعفة الأجور التي لم تكن للأمم السَّابقة، منحها جلَّ وعلا هذه الأمَّة، واستودع فيها ثمرات عظيمات لمن سارع إليها، فهي مِنَحٌ عالية الفضل،

ص: 9

جليلة القدر، عظيمة الثمرة، اقترح عليَّ كتابتها أحدُ الإخوة الفضلاء -جزاه ربي خير الجزاء- وكان دافعاً لي في تسطيرها سببان رئيسان:

أولهما: ما مجَّ سمع كل مسلم، وأحزن قلب كل موحِّد، وأبكى عين كل مُحِب لخليل الله نبينا صلى الله عليه وسلم حينما نيل منه، ورُسم عنه من قِبَل مَنْ سخروا منه، واستهزؤوا برسم كاريكاتيرات ساخرة تُسيء له -فداه أبي وأمي- وإلى يومنا هذا ما زلنا نسمع بمثل هذا من بلد وآخر، ولا عجب من ذلك؛ فقد تبع هؤلاء جميعاً كفار قريش، وغيرهم حينما آذوه وسخروا منه، فنال الصحابة -رضوان الله عليهم- ممن نال وآذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدفاع عن حقِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ على كل الأمَّة حتى يُردَّ حقُّه صلى الله عليه وسلم.

ومِنْ أهم أنواع الدِّفاع عنه: الدِّفاع عن سنته، وإظهار أخلاقه صلى الله عليه وسلم التي شوَّهها الغرب، والتعريف بهديه والحث على تطبيقه بنشر الكتب في ذلك، وأولى النَّاس تطبيقاً لهديه صلى الله عليه وسلم، والمسارعة لسنَّتِه هم أهل دينه، فإنَّ من يردّ عن عِرض النَّبي صلى الله عليه وسلم بقوله ينبغي أن يكون من أحرص الناس على الامتثال لأوامر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهديه، وتطبيق سُنَنِه بفعله أيضاً، فيحيي سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، وفي مجتمعه، وبين أهله وأولاده، وطلابه، وإخوانه.

والسبب الثاني: هو ما يشهده واقعنا اليوم من التفريط في سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم وامتثالها، بِحُجة أنها مما يُثاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها، ولو تتبعت -أخي القارئ- سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم لَمَا وجدت فيها أنَّ الصحابة -في غالب أمرهم- يُفرِّقُون في الأوامر بين الواجبات، والمستحبات من حيث السؤال والتطبيق، بل هم أحرص الناس على الخير، وأشدهم أسفاً لفواته ولو كان نافلة، بينما في واقعنا تجد من يعرف فضائل عديدة، وعظيمة في سُنَن كثيرة عَلِمَها ولم يعمل بها، ولو لمرَّة واحدة، ولربما رأيت من تظهر عليه مظاهر الصَّلاح والاستقامة، وحُبُّ الخير، ويُرى

ص: 10

مفرِّطاً في كثير من السُّنن بل جُلِّها!! فلا تجد سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة عليه في سَمْتِه، وأخلاقه، وتعامله، وعبادته، بل ربما كان هذا شأن بعض مَنْ طَلَبَ العلم وحَرِصَ عليه، ثم تراه متراجعاً في عمله وحرصه على السُّنَّة، مع معرفته بكثير من المسائل العلميَّة، والسُّنَن النبويَّة، ولئن كان السلف يعرِّفون العلم: بالخشية التي تورث زيادةً في الطاعات، والعبادات، والحرص عليها، فما مدى تأثير عِلْمِنا، ومعرفتنا بالخلاف، وأدلة كثير من المسائل، في تطبيق كثير من السُّنَن، والعبادات؟

قال أحدهم لآخر يستكثر من العلم و لا يعمل: «يا هذا إذا أفنيتَ عمرك في جمع السلاح فمتى تقاتل؟!» .

ولقد كان السَّلَف رحمهم الله يذمُّون من يعلم ولا يعمل، وكذا من يجمع العلم بلا عمل، ولمَّا بكَّر أصحاب الحديث مرَّةً على الأوزاعي التفت إليهم، فقال:«كم من حريصٍ، جامعٍ، جاشعٍ ليس بمنتفعٍ، ولا نافعٍ» ، ولمَّا رأى الخطيب البغدادي رحمه الله كثرة من يهتم برواية الحديث، وحفظه، مع قِلَّة العمل، ألَّف رسالة قيِّمة، عنوانها:[اقتضاء العلم العمل].

فما تقدَّم هو حال كثير منَّا، ولا أنكر أنَّ هناك نماذج مشرقة في واقعنا، لكن مظاهر التفريط بالسُّنَّة كثيرة، وتأمل -أخي المبارك- ما سيأتي من بعض النَّماذج للرَّعيل الأول -الذين اقتربوا من سُنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حِسَّاً وعملاً- ومن تبعهم من السَّلَف رحمهم الله جميعاً-، وهي كثيرة في هذا الباب، ولكن ذكرت في التمهيد بعضها؛ لعل فيها ما يستنهض هِمَّتي وهِمَّتك؛ لتطبيق السُّنَّة.

ص: 11

أسأل الله - تعالى- بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلى، أن يجعلني وإياك مِمن يتبعون السُّنَّة، ويتمسكون بها في أقوالهم، وأفعالهم، وجميع أحوالهم، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه، وصلَّى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

كتبه الفقير إلى عفو ربه:

عبد الله بن حمود الفريح

(1)

forih@hotmail.comEmail:

(1)

أقيمت على مادة هذا الكتاب دورات ومسابقات في محاضن تربوية، فمن أراد نماذج أسئلة المادة وإجاباتها فليتواصل مع بريد المؤلف.

ص: 12

‌تمهيد

•‌

‌ معنى السُّنَّة:

السُّنَّة في الأصل، هي: كل ما أُضيف للرسول صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خَلْقِيَّة، أو خُلُقِيَّة، هذا هو معنى السُّنَّة، ففي الأصل هي: الطريقة، ومنه قول النَّبي صلى الله عليه وسلم:«فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»

(1)

، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، فكل ما كان على طريقته صلى الله عليه وسلم فهو من سنَّتِه، فقد يكون المأمور به في سنَّته مستحباً، أو واجباً حسب ما تقتضيه الأدلة.

ثُمَّ شاع عند المتأخرين أنَّ السُّنَّة هي بمعنى: المستحب، والمندوب، وهو الذي جرى عليه عمل أهل الأصول، والفقه، وهذا المعنى هو المراد في هذه الورقات، فالسُّنَّة على هذا المقصود: هي ما أمر بها الشَّارع ليس على وجه الإلزام، وثمرتها: أنه يُثاب فاعلها، ولا يُعاقب تاركها.

•‌

‌ نماذج من حرص السَّلَف على السُّنَّة:

1.

روى مسلم في صحيحه حديث النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنهما قَالَ: حَدَّثَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ حَبِيبَةَ

(1)

رواه أبو داود برقم (4607)، والترمذي برقم (2676)، وصححه الألباني (صحيح الجامع 1/ 499).

ص: 13

تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشرةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ»

(1)

. قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ عَنْبَسَةُ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ أُمِّ حَبِيبَةَ.

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: «مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَنْبَسَةَ» .

وَقال النُّعمانُ بْنُ سَالِمٍ: «مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ» .

2.

حديث عَلِي رضي الله عنه: أَنَّ فَاطِمَةَ اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى فِي يَدِهَا، وَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ تَجِدْهُ، وَلَقِيَتْ عَائِشَةَ، فَأَخْبَرَتْهَا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ إِلَيْهَا، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا، وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا نَقُومُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«عَلَى مَكَانِكُمَا» فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمِهِ عَلَى صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ:«أَلَا أُعَلِّمُكُمَا خَيْراً مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، أَنْ تُكبِّرا اللّهَ أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ، وَتُسبِّحَاهُ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدَاهُ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ»

(2)

.

وفي رواية: قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: «مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ لَهُ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ»

(3)

.

ومعلومٌ أنَّ ليلة صِفِّين ليلة دارت فيها معركة، كان عليٌّ رضي الله عنه قائداً فيها، ومع ذلك لم ينشغل عن هذه السُّنَّة.

3.

كان ابن عمر رضي الله عنهما يُصلِّي على الجنازة، ثُمَّ ينصرف، ولا يتبعها

(1)

رواه مسلم برقم (1727).

(2)

رواه البخاري برقم (3705)، ومسلم برقم (2727).

(3)

رواه البخاري برقم (5362)، ومسلم برقم (2727).

ص: 14

ظانَّاً أنَّ هذا هو كمال السُّنَّة، ولم يعلم بالفضل الوارد في اتباعها حتى تُدفَن، فلمَّا بلغه حديث أبي هريرة رضي الله عنه ندم على فوات السُّنَّة، وتأمَّل ماذا قال؟!

عن عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاصٍ، أَنَّهُ كَانَ قَاعِداً عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، إذْ طَلَعَ خَبَّابٌ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ! أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ؟ إنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ خَرَجَ مَعَ جِنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ مِنَ الأجر مِثْلُ أُحُدٍ؟» فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما خَبَّابَّاً إلَى عَائِشَةَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ مَا قَالَتْ: وَأَخَذَ ابْن عُمَرَ رضي الله عنهما قَبْضَةً مِنْ حَصْبَاءِ الْمَسْجِدِ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ، حَتَّى رَجِعَ إلَيْهِ الرَّسُولُ، فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: صَدَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، فَضربَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما بِالْحَصى الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الأرْضَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ

(1)

.

قال النَّووي رحمه الله: «وفيه ما كان الصحابة عليه من الرغبة في الطاعات حين يبلغهم، والتأسُّف على ما يفوتهم منها، وإن كانوا لا يعلمون عِظَم موقعه»

(2)

.

4.

حديث سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر رضي الله عنه أَنَّ قَرِيباً لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ خَذَفَ، قَالَ فَنَهَاهُ، وَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللّهِ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ وَقَالَ:

(1)

رواه البخاري برقم (1324)، ومسلم برقم (945).

(2)

المنهاج (7/ 15).

ص: 15

«إنَّهَا لَا تَصيدُ صيداً وَلَا تَنْكَأُ عَدُوّاً، وَلكِنَّهَا تَكْسر السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ» ، قَالَ فَعَادَ فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ نَهَى عَنْهُ ثُمَّ تَخْذِفُ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَداً

(1)

.

والخذف هو: رمي الإنسان بحصاة، أو نواة ونحوهما، يجعلها بين أصبعيه السبابتين، أو الإبهام والسبابة.

والنَّماذج في حفاظهم على السُّنَّة وتعظيمها كثيرة، ولا عجب، فقد كانوا أحرص النَّاس على الخير، وهكذا تأثَّر بهم مَنْ بعدهم من السَّلَف والقرون المفضلة، وأصبح التأريخ يُسَطِّر لنا ممن تبع أولئك الرجال في التمسك بالسُّنَّة نماذج تُشجِّع النفس على الحرص على السُّنَّة واقتفائها.

فهذا الإمام أحمد رحمه الله وضع في كتابه المسند فوق أربعين ألف حديث، وعمل بها كلها، فقال:«ما تركت حديثاً إلا عملت به» ، ولمَّا قرأ: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى أبا طيبة الحجَّام ديناراً، قال:«احتجمتُ، وأعطيت الحجَّام ديناراً» ، والدينار: أربعة غرامات وربع من الذَّهب، لكن لأجل تطبيق الحديث بذلها الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-، والنّماذج في هذا الصَّدد كثيرة.

نسأل الله أن يُحيي سُنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم في قلوبنا؛ لتنال من الفضائل، والمِنَحِ، والقُرْبِ من الله عز وجل ما استودعه في سُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، فباتباع السُّنَّة ينال الإنسان شرف المتابعة، ونور القلب وحياته.

قال ابن القيَّم رحمه الله: «قال ابن عطاء: من ألزم نفسه آداب السُّنَّة نوَّر الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب في أوامره، وأفعاله، وأخلاقه»

(2)

.

وقال أيضاً: «ترى صاحب اتِّباع الأمر والسُّنَّة قد كُسي من الرَوح، والنور وما يتبعهما من الحلاوة، والمهابة، والجلالة، والقبول ما قد

(1)

رواه البخاري برقم (5479)، ومسلم برقم (1954).

(2)

مدارج السالكين (2/ 644).

ص: 16

حُرِمه غيره، كما قال الحسن: إن المؤمن من رُزق حلاوةً ومهابة»

(1)

.

•‌

‌ من ثمرات اتِّباع السُّنَّة:

لاتباع السُّنَّة -أخي الحبيب- ثمرات كثيرة، منها:

1) الوصول إلى درجة المحبة، فبالتقرب لله عز وجل بالنوافل تنال محبة الله عز وجل للعبد.

قال ابن القيِّم رحمه الله: «ولا يحبك الله إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهراً وباطناً، وصدَّقته خبراً، وأطعته أمراً، وأجبته دعوةً، وآثرته طوعاً، وفنيت عن حكم غيره بحكمه، وعن محبة غيره من الخلق بمحبته، وعن طاعة غيره بطاعته، وإن لم يكن ذلك فلا تتعنَّ، وارجع من حيث شئت، فالتمس نوراً فلست على شيء»

(2)

.

2) نيل معيَّة الله -تعالى- للعبد، فيوفقه الله -تعالى- للخير، فلا يصدر من جوارحه إلا ما يرضي ربه عز وجل؛ لأنه إذا نال المحبة نال المعيَّة.

3) إجابة الدعاء المتضمِّنة لنيل المحبة، فمن تقرَّب بالنوافل نال المحبة، ومن نال المحبَّة نال إجابة الدعاء.

ويدلّ على هذه الثمرات الثلاث:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الَّله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قال: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصرهُ الَّذِي يُبْصر بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي

(1)

اجتماع الجيوش الإسلامية (1/ 8).

(2)

مدارج السالكين (3/ 37).

ص: 17

يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شيءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»

(1)

.

4) جبر النَّقص الحاصل في الفرائض، فالنوافل تجبر ما يحصل في الفرائض من خَلَل.

ويدلّ عليه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسر، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شيءٌ، قَالَ الرَّبُّ عز وجل: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ»

(2)

.

5) حياة القلب كما تقدّم، فالعبد إذا كان محافظاً على السُّنَّة كان لِمَا هو أهم منها أحفظ، فيصعب عليه أن يفرِّط بالواجبات أو يقصر فيها، وينال بذلك فضيلة أخرى، وهي: تعظيم شعائر الله -تعالى-، فيحيا قلبه بطاعة ربه، ومن تهاون بالسُّنَن عوقب بحرمان الفرائض.

6) البعد والعصمة من الوقوع في البدعة؛ لأنَّ العبد كلما كان متبعاً لِمَا جاء في السُّنَّة كان حريصاً ألَّا يتعبد بشيء إلا وفي السُّنَّة له دليل يُتَّبع، وبهذا ينجو من طريق البدعة.

وللحفاظ على السُّنَّة ثمرات كثيرة، قال ابن تيمية رحمه الله: «فكل من

(1)

رواه البخاري برقم (6502).

(2)

رواه أحمد برقم (9494)، وأبو داود برقم (864)، والترمذي برقم (413)، وصححه الألباني (صحيح الجامع 1/ 405).

ص: 18

اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فالله كافيه، وهاديه، وناصره، ورازقه»

(1)

، وقال تلميذه ابن القيِّم رحمه الله:«فمن صحب الكتاب والسُّنة، وتغرَّب عن نفسه وعن الخلق، وهاجر بقلبه إلى الله فهو الصادق المصيب»

(2)

.

قبل الشروع في المقصود:

أخي القارئ: وقبل الشروع في المقصود، وعرض ما تيسر لي جمعه من السُّنَنِ اليومية، أفيدك بما يلي:

أولاً: جمعتُ في هذه الورقات كل ما تتبعته من السُّنَنِ اليومية، وقد أُغفل بعض السُّنَنِ عمداً للخلاف في ثبوتها؛ لضعف دليل، أو لخلاف في فهم الاستدلال على السُّنَّة، وقد حرصتُ على تقييد ما صحّ به الخبر من السُّنَّة النبويَّة على صاحبها أفضل صلاة وأزكى تحيَّة.

ثانياً: هناك من السُّنَن التي تتبع الأحوال، أو الأماكن، أو الأزمان، تُعدُّ لأشخاص من السُّنَنِ اليومية بخلاف غيرهم، لم أذكرها عمداً؛ لأن غالب النَّاس لا تتكرر عليهم، فمثلاً: من كان في مكة، أو المدينة فإنه يستطيع كل يوم أن يزور المسجد الحرام، أو النَّبوي، ويصلِّي فيه فينال فضيلة مضاعفة الصَّلاة، وكذا هناك بعض السُّنَن لا تكون إلا للأئمَّة، أو المؤذنين، ونحو ذلك من السُّنَن التي تتعلَّق بأمر معيَّن، ربما لا تتأتَّى لكثير من النَّاس، وهناك سُنَن تختلف باختلاف الحال: كالزيارة الأخوية في الله -تعالى-، وعبادة التفكُّر، والشُّكر، وعيادة المريض، والصلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وزيارة المقابر، وصِلة الرَّحم، وطلب العلم، والصدقة،

(1)

القاعدة الجليلة (1/ 160).

(2)

مدارج السالكين (2/ 467).

ص: 19

وسُنَن الاغتسال ونحوها من السنن التي أغفلتها عمداً؛ لعدم الجزم بأنها سُنَن يومية، مع استطاعة العبد الإتيان بها متى شاء من أيامه، ولكن كما سبق حرصتُ على الذي يتكرر في اليوم والليلة.

ثالثاً: اعلم -أيُّها المفضال- أنَّ اتِّباع هديه صلى الله عليه وسلم يشمل اتِّباع أخلاقه، وتعامله، وأدبه مع ربه -تعالى-، ومع سنَّته، ومع النَّاس، فلا تغفل -أيها المبارك- عن هذا المطلب المهم، فالأخلاق عماد مهم يحتاجه واقعنا اليوم كثيراً.

نسأل الله -سبحانه- أن يهدينا لأحسن الأخلاق، ويصرف عنَّا سيئها.

• واعلم أنَّ التقرُّب لله -تعالى- بالفرائض مقدَّم على النوافل وأعظم أجراً، فالله عز وجل يقول:«وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» .

رابعاً: إنني أخاطب بهذه السُّنَن نفسي المقصرة؛ لأنفعها بعرض السُّنَن اليومية أمام عينيَّ، والنظر فيما كنت مقصراً فيه؛ لأحملها على الإصابة من هذه السُّنَن، والمحافظة على هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمَّ نفع إخواني، وحثهم على اقتفاء هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.

فبادر أخي لاغتنام العمر، قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل، بالاستكثار من السنن وصالح العمل؛ لتحمد العاقبة يوم اللقاء، بعظم الجزاء، في دار البقاء؛ لحسن اقتفائك الأثر، باتباع هدي سيد البشر صلى الله عليه وسلم.

وأخيراً

أوصيك أخي في تعاملك مع السُّنَن بوصيتين ذكرهما النَّووي -رحمه الله تعالى-:

الأولى: لا تدع سُنَّة من السُّنَن إلا وقد كان لك منها نصيب، ولو لمرة واحدة.

ص: 20

قال النَّووي رحمه الله: «اعلم أنه ينبغي لمن بلغه شيء من فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرَّة واحدة، ليكون من أهله، ولا ينبغي أن يتركه مطلقاً؛ لحديث: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بَشيءٍ فأْتُوا مِنْهُ ما اسْتَطعْتُمْ

(1)

»

(2)

.

والثانية: إذا أنعم الله عليك بطاعة، وكنت من أهلها المواظبين عليها، وفاتت عليك يوماً، فحاول أن تأتي بها إن كانت مما تُقضى، فإنَّ العبد إذا اعتاد على التفويت وتساهل فيه ضيع العمل.

يقول النَّووي رحمه الله في فائدة قضاء الذِّكر: «ينبغي لمن كان له وظيفة من الذِّكر في وقتٍ من ليلٍ، أو نهار، أو عقب صلاة، أو حالةً من الأحوال ففاتته، أن يتداركها، ويأتي به إذا تمكَّن منها، ولا يهملها فإنه إذا اعتاد الملازمة عليها لم يعرضها للتفويت، وإذا تساهل في قضائها سهل عليه تضييعها في وقتها»

(3)

.

أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن يتبعون هدي النَّبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، ويقتفون أثره ويحشرون في زمرته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

(1)

رواه البخاري برقم (7288).

(2)

الأذكار (1/ 16).

(3)

الأذكار (1/ 23).

ص: 21

‌السُّنَنُ الْمَوْقُوتَةُ

نقصد بالسُّنَن الموقوتة: هي السُّنَن المؤقتة بأوقات معينة في اليوم والليلة، وقسَّمتها إلى سبعة أوقات: ما قبل الفجر، ووقت الفجر، ووقت الضُّحى، ووقت الظهر، ووقت العصر، ووقت المغرب، ووقت العشاء.

ص: 23

‌أولاً: وقت ما قبل الفجر

وهذا هو الوقت الأول باعتبار الاستيقاظ من النَّوم، فإنَّ النصوص دلَّت على عِدَّة أعمال كان يفعلها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل الفجر، ويمكن تقسيم السُّنَن في هذا الوقت إلى قسمين:

‌القسم الأول: الاستيقاظ من النوم وما يعقبه من أعمال كان يفعلها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم

-:

‌1 - يَشُوصُ فاه بالسِّواك، أي: يدلكه بالسِّواك.

عن حُذيفةَ رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ»

(1)

، ولمسلم في رواية:«كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ لِيَتَهَجَّدَ، يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ»

(2)

. والشَّوص: دلك الأسنان عرضًا بالسواك.

‌2 - يقول الذكر الوارد عند الاستيقاظ من النَّوم.

وهو ما جاء في صحيح البخاري من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ: «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا» . وَإِذَا

(1)

رواه البخاري برقم (245)، ومسلم برقم (255).

(2)

رواه مسلم برقم (255).

ص: 24

اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»

(1)

.

‌3 - يمسح النوم عن وجهه.

‌4 - وينظر إلى السماء.

‌5 - ويقرأ الآيات العشر الأخيرة من سورة آل عمران.

وهذه ثلاث سُنَن جاءت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتفق عليه: «أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ خَالَتُهُ فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشر الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي»

(2)

.

وفي رواية لمسلم

(3)

: «فَقَامَ نَبِيُّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ خَرَجَ فَنَظَرَ إِلى السَّمَاءِ، ثُمَّ تَلَا هذِهِ الآيَةَ:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران 190]. يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ: أي يمسح عينيه بيده؛ ليمسح أثر النوم. والشَّنُّ: هي القِرْبَة.

(1)

رواه البخاري برقم (6324)، ومسلم من حديث البراء رضي الله عنه برقم (2711)

(2)

رواه البخاري برقم (183)، ومسلم برقم (763).

(3)

رواه مسلم برقم (256).

ص: 25

وفي رواية مسلم بيانٌ لِمَا يقرأه من أراد تطبيق هذه السُّنَّة، فإنه يبدأ من قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} إلى خاتمة آل عمران.

وفي قراءة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لهذه الآيات قبل الوضوء دليل على جواز قراءة القرآن على غير طهارة من الحدث الأصغر.

‌6 - غسل اليدين ثلاثاً.

لحديث أبِي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الإِنَاء حتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثاً، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»

(1)

.

اختلف أهل العلم في حكم غسل اليدين ثلاثاً بعد الاستيقاظ من نوم الليل، على قولين:

القول الأول: ذهب الحنابلة إلى أنَّه واجب، وهو من مفردات الحنابلة، ورجحه الشيخ ابن باز في شرحه على عمدة الأحكام.

واستدلوا بـ: الحديث السَّابق، فالنَّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن غمسهما قبل غسلهما، والأصل في النَّهي التحريم ولا صارف للنَّهي عن التحريم والنَّبي صلى الله عليه وسلم يقول:«مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ»

(2)

.

والقول الثاني: أنه مستحب، وبه قال جمهور العلماء.

واستدلوا بِ:

أ. عموم قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ

} [المائدة: 6].

(1)

رواه البخاري برقم (162)، ومسلم برقم (278).

(2)

رواه البخاري برقم (7288)، ومسلم برقم (1337).

ص: 26

ووجه الدلالة: أنَّ الله عز وجل أمر بالوضوء من غير غسل الكفين، والآية عامَّة لمن قام من نوم الليل، وغيره.

ب. قول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» ، تعليل يدل على الاستحباب؛ لأن نجاسة اليد مشكوك فيها، والأصل أنها طاهرة فهو اليقين، واليقين لا يزول بالشك.

ويحتاط المسلم فيأخذ بالقول الأول؛ لقوة دليلهم، ولعدم الصارف عن الوجوب، وأمَّا الاستدلال بالآية فهو عام في الوضوء مطلقاً، بخلاف استدلال أصحاب القول الأول، فهو في حالة مخصوصة.

‌7 - الاستنشاق، والاستنثار بالماء ثلاثاً.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّ الشيطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشيمِهِ»

(1)

، وفي رواية البخاري: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا

»

(2)

.

اختلف أهل العلم في حكم الاستنثار ثلاثاً بعد الاستيقاظ من نوم الليل، على قولين:

القول الأول: قالوا بالاستحباب، للعِلَّة الواردة في الحديث:«فَإِنَّ الشيطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشيمِهِ» .

ووجه الدلالة: قالوا: إنَّ بيات الشيطان هنا لا يُحدِث نجاسة حتى يؤمر الإنسان بإزالتها على وجه الإلزام.

والقول الثاني: أنَّ الاستنثار واجب؛ لأنَّ الأصل في الأمر الوجوب، ولا صارف يصرفه عن الوجوب، وما ذكره أصحاب القول الأول

(1)

رواه البخاري برقم (3295)، ومسلم برقم (238).

(2)

رواه البخاري برقم (3295).

ص: 27

ليس صارفاً تقوم به الحجة يصرف الأمر عن الوجوب؛ لأنَّ الحكمة من الأمر بالاستنثار قد تكون مخفيَّة، وليست النجاسة.

ويحتمل أن يُحمل المطلَق على المقيَّد، ففي حديث الباب الأمر بالاستنثار ثلاثاً عند الاستيقاظ من النوم، وجاء في رواية البخاري ما يُقَيِّدُ هذا الأمر بحال الوضوء، فإمَّا أن يُحمل المطلَق على المقيَّد فيكون المقصود بالأمر هو: حال الوضوء، أو يُعمل بالحديثين، فيكون الاستنثاران واجبين -والله أعلم-.

فائدة:

قوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ الشيطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشيمِهِ» . اختُلف في معناه:

قيل: إنَّ بيات الشيطان ليس حقيقة، وإنما المراد به ما يكون في الأنف من أذى يوافق الشيطان.

وقيل: هو على ظاهره، وأنَّ الشيطان يبيت حقيقة؛ وذلك لأنَّ الأنف أحد منافذ الجسم التي يُتوصَّل إلى القلب منها، والمنافذ كلها لها غَلْقٌ، إلا الأنف، والأذنين فيدخل منها الشيطان، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه المتفق عليه: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ نَامَ لَيْلَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشيطَانُ فِي أُذُنَيْهِ» ، أَوْ قَالَ: «فِي أُذُنِهِ «

(1)

.

- وأمَّا الفم فله غَلْقٌ أيضاً، ولذلك حثَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على كظم الفم عند التثاؤب؛ لئلا يدخل الشيطان، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً:«إِذَا تَثَاوَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فِيهِ فَإِنَّ الشيطَانَ يَدْخُلُ»

(2)

.

(1)

رواه البخاري برقم (3270)، ومسلم برقم (774).

(2)

رواه مسلم برقم (2995).

ص: 28

وفي رواية: «فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ»

(1)

، وفي المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَالَ: هَا، ضَحِكَ الشيطَانُ»

(2)

.

وعلى كل حال الواجب على المسلم الإيمان، والتصديق، والامتثال، والطاعة سواء علم حقيقة وحكمة ما أُمر به، أو خفي عليه ذلك، فيكون ذلك من جملة ما خفي عليه من علم الله -جل وعلا- الذي أحاط بعلمه كل شيء سبحانه.

‌8 - الوضوء.

لحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدِّم حينما أراد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاة، قام إلى قِرْبة معلَّقة فتوضأ منها.

وعند الوُضوء، نقف وقفة نبيِّن فيها سُنناً في الوُضوء على وجه الاختصار والعَدِّ، لا على وجه التفصيل، وإنما أذكِّر بها؛ إتماماً للسُّنَن.

فمن‌

‌ سُنَنِ الوضوء:

1. السِّواك.

وذلك قبل البدء بالوضوء، أو قبل المضمضة، وهذا هو الموضع الثاني الذي يُسَنُّ فيه السِّواك -وتقدَّم الموضع الأول- فيُسَنّ لمن أراد الوضوء أن يستاك؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ»

(3)

.

(1)

رواه مسلم برقم (2994).

(2)

رواه البخاري برقم (6226)، ومسلم برقم (2994).

(3)

رواه أحمد برقم (9928)، وابن خزيمة وصححه (1/ 73/ 140)، والحاكم (1/ 245)، والبخاري تعليقًا بصيغة الجزم في باب: سواك الرطب واليابس للصائم.

ص: 29

ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ، فيَبْعَثُهُ الله مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي

»

(1)

.

2. التسمية.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ الله»

(2)

، والحديث ضعيف، ضعَّفه أبو زرعة، وأبو حاتم، وابن القطَّان رحمهم الله والإمام أحمد رحمه الله وقال:«لا يثبت في هذا الباب شيء» .

وله شواهد عن جمع من الصحابة، وكل هذه الشواهد فيها ضعف، وذهب جماعة من العلماء رحمهم الله إلى أن الحديث بمجموع الطرق يرتقي إلى درجة الحسن.

قال ابن حجر رحمه الله: «الظاهر: أنَّ مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلا»

(3)

، وإن احتُج بالحديث فإنه يُحمل على الاستحباب، وهو قول جمهور العلماء رحمهم الله، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه بمجموع طرقه حسَّنه غير واحد من أهل العلم

(4)

.

3. غسل الكفين ثلاثًا.

لحديث عثمان رضي الله عنه في صِفة وضوء النَّبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «دَعَا

(1)

رواه مسلم برقم (746).

(2)

رواه أحمد برقم (11371)، وأبو داود برقم (101)، وابن ماجه برقم (397).

(3)

تلخيص الحبير (1/ 75).

(4)

انظر: تلخيص الحبير لابن حجر (1/ 128)، وانظر: محجة القرب لابن الصلاح (249)، وانظر: السيل الجرار للشوكاني (1/ 76) وغيرهم.

ص: 30

بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ

»، ثم قال:«رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا»

(1)

.

والصارف عن الوجوب: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ

} [المائدة: 6]، حيث لم يذكر غسل الكفين.

4. التَّيامن في غسل اليدين، والقدمين.

لحديث عائشةَ رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ»

(2)

.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَأُوا بِأيَامِنِكُمْ»

(3)

.

قال ابن قدامة رحمه الله: «لا خلاف بين أهل العلم -فيما علمناه- في استحباب البداءة باليمنى»

(4)

.

5. البداءة بالمضمضة، والاستنشاق.

لحديث عثمان رضي الله عنه في صِفة وضوء النَّبي صلى الله عليه وسلم: «

فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ

»

(5)

، فإن أخَّر المضمضة والاستنشاق بعد غسل الوجه جاز.

(1)

رواه البخاري برقم (164)، ومسلم برقم (226).

(2)

رواه البخاري برقم (168)، ومسلم برقم (268).

(3)

رواه أبو داود برقم (4141)، وصححه ابن خزيمة (1/ 90)، وقال النووي:«هذا حديث حسن، وإسناده جيد» المجموع (1/ 382).

(4)

انظر: المغني (1/ 120).

(5)

رواه البخاري برقم (199)، ومسلم برقم (226).

ص: 31

6. المبالغة في المضمضة، والاستنشاق لغير الصائم.

لحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «أَسْبِغ الوُضُوءَ، وخَلِّلْ بَيْنَ الأصَابِعِ، وبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِماً»

(1)

، وأُخِذَت المبالغة في المضمضمة من قوله:«أَسْبِغ الوُضُوءَ» .

قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «المبالغة في المضمضة: أن تحرِّك الماء بقوة، وتجعله يصل كلَّ الفَم، والمبالغة في الاستنشاق: أن يجذبه بنفس قوي

والمبالغة مكروهة للصائم؛ لأنها قد تؤدي إلى ابتلاع الماء، ونزوله من الأنف إلى المعدة»

(2)

.

قوله: «أَسْبِغ الوُضُوءَ» . المراد بالإسباغ: إيصال لكل عضو حقه من الوضوء، وهذا إسباغ واجب.

والإسباغ المستحب: هو الإتيان بما يتم الوضوء بدونه من السُّنَن، والإسباغ أجره عظيم لاسيما حال المكاره، كأن يكون الماء بارداً في الشتاء ليس عنده غيره، أو حاراً في الصيف ليس عنده غيره، فإذا أسبغ الوضوء كان أرفع لدرجاته وأمحى لسيئاته.

ويدلّ عليه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو الله بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللّهِ! قَالَ:«إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ علَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسْاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ»

(3)

.

(1)

رواه أحمد برقم (17846)، وأبو داود برقم (142)، وقال ابن حجر:«هذا حديث صحيح» الإصابة (9/ 15).

(2)

انظر: الممتع (1/ 171).

(3)

رواه مسلم برقم (251).

ص: 32

7. المضمضة، والاستنشاق من كفٍّ واحدة.

لحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في صِفة وضوء النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «

أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفِ وَاحِدَةٍ، فَفَعَلَ ذلِكَ ثَلَاثاً

»

(1)

.

قال ابن القيِّم رحمه الله: «ولم يجئ الفصل بين المضمضة، والاستنشاق في حديث صحيح البتة

، وكان يستنشق بيده اليمنى، ويستنثر باليسرى»

(2)

.

8. في مسح الرأس تُسَنُّ الصِّفة المسنونة.

وهي أن يبدأ في مسحه لرأسه فيضع يديه في مقدَّم رأسه، ثم يذهب بهما إلى قفا رأسه، ثم يرجعهما للمكان الذي بدأ منه، والمرأة أيضاً تفعل هذه السُّنَّة بنفس الطريقة، وما زاد من الشعر عن عنق المرأة فإنه لا يُمسح.

ويدلّ عليه: حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في صِفة وضوء النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه: «بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ» (4).

9. التثليث في غسل الأعضاء.

الغَسْلَة الأولى واجبة، وأمَّا الثانية، والثالثة فهي سُنَّة، ولا يُزاد على ثلاث.

(1)

رواه البخاري برقم (192)، ومسلم برقم (235).

(2)

زاد المعاد (1/ 192).

(4)

رواه البخاري برقم (185)، ومسلم برقم (235)

ص: 33

ويدلّ عليه: ما ثبت عند البخاري رحمه الله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَأَ مَرَّة، مرَّة»

(1)

.

وثبت عند البخاري أيضا من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ، مَرَّتَيْنِ»

(2)

.

وثبت في الصحيحين من حديث عثمان رضي الله عنه: «أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا»

(3)

، ولذا فمن الأفضل التنويع أحياناً، فأحياناً يتوضأ مرَّة، مرَّة، وأحياناً مرَّتين، مرَّتين، وأحياناً ثلاثاً، ثلاثاً، وأحياناً يخالف في العدد، فيغسل مثلاً الوجه ثلاثاً، واليدين مرتين، والقدمين مرَّة، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في رواية أخرى

(4)

، ولكن الأغلب أن يأتي بالكمال ثلاثاً، ثلاثاً، فهو هدي النَّبي صلى الله عليه وسلم.

10. الدعاء الوارد بعد الوضو

ء.

عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَأُ فَيُبْلِغُ -أَوْ فَيُسْبِغُ- الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلهَ أَلاَّ اللّهُ، وَأَنَّ مُحمَّداً عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ، إلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ»

(5)

.

أو ما جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: «من توضأ ففرغ من وضوئه فقال: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إلَيْكَ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِطَابِع

(6)

، ثُمَّ رُفِعَتْ تَحْتَ الْعَرْش

(1)

رواه البخاري برقم (157).

(2)

رواه البخاري برقم (158).

(3)

رواه البخاري برقم (159).

(4)

زاد المعاد (1/ 192).

(5)

رواه مسلم برقم (234).

(6)

الطابع: بفتح الباء وكسرها، لغتان فصيحتان، وهو: الخاتم، ومعنى طَبَعَ: خَتَمَ.

ص: 34

فَلَمْ تُكْسر إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»

(1)

، وصحح إسناده ابن حجر رحمه الله

(2)

، وبيَّن أنه إن لم يصحّ مرفوعاً فهو موقوف، ولن يضره ذلك؛ لأن له حكم الرفع؛ لأنه مما لا مجال فيه للرأي.

وليستحضر المسلم حينما يُقْدِم على الوضوء، بأنه أقدم على عبادة فيها ثلاث فضائل عظيمة، فهي سبب في محبة الله تعالى له، وسبب في مغفرة الذنوب، وسبب في أن يُكسى يوم القيامة حُلَلاً في مواضع وضوئه، فعندها يستشعر ما أقبل عليه؛ لاستشعاره ما تورثه هذه العبادة من فضائل، فقد قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ -أَوِ الْمُؤْمِنُ- فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ -أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ- فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ -أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ- فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ -أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ- حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيّاً مِنَ الذُّنُوبِ»

(3)

، وعنه قال: سَمِعْتُ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَضُوءُ»

(4)

. وتقدم في حديث عمر رضي الله عنه أنها سبب في فتح أبوا بالجنة الثمانية، نسأل الله من فضله الواسع.

(1)

رواه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 147)، والحاكم (1/ 752).

(2)

نتائج الأفكار (1/ 246).

(3)

رواه مسلم برقم (244).

(4)

رواه مسلم برقم (250).

ص: 35

‌القسم الثاني: القيام للّيل، والوتر، وفيه عِدَّة أعمال هي من هدي النَّبي صلى الله عليه وسلم

-:

‌1 - من السُّنَّة أن يصلِّي صلاة الليل في وقتها الأفضل.

فإن قيل: ما أفضل وقت لصلاة الليل؟

فالجواب: معلوم أنَّ وقت صلاة الوتر يبتدئ من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وعليه فصلاة الوتر محلها ما بين صلاة العشاء والفجر.

ويدلّ عليه:

أ. حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ، إِحْدَى عَشرةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ»

(1)

. متفق عليه.

ب. حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ أَوَّلِ الليل وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ، فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ»

(2)

. قال ابن المنذر رحمه الله: «وأجمعوا على أنَّ ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقت للوتر»

(3)

.

- أمَّا عن أفضل وقت لصلاة الليل فهو: ثلث الليل بعد نصفه.

(1)

رواه البخاري برقم (2031)، ومسلم برقم (736).

(2)

رواه البخاري برقم (996)، ومسلم برقم (745).

(3)

الإجماع (ص 45).

ص: 36

والمقصود: أنَّ الإنسان يُقَسِّم الليل نصفين، ويقوم في الثلث من نصف الليل الثاني، وفي آخر الليل ينام -أي أنه يقوم في السدس الرابع، والخامس، وينام في السدس السادس-.

ويدلّ عليه: حديث عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرو رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَبَّ الصيامِ إِلَى اللّهِ صيامُ دَاوُدَ، وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى اللّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ عليه السلام، كَانَ يَنَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً»

(1)

.

- لو أراد الإنسان تطبيق هذه السُّنَّة؛ فكيف يكون حسابه للّيل؟

يحسب الوقت من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ثُمَّ يقسمه إلى سِتَّة أقسام، ثلاثة الأقسام الأولى هذه النصف الأول من الليل، يقوم بعدها -أي يقوم في السدس الرابع، والخامس- لأن هذا يعتبر ثلث، ثُم ينام في السدس الأخير، وهو السدس السادس، ولهذا عائشة رضي الله عنها قالت:«ما أَلْفَاهُ السَّحَرُ -أي النَّبي صلى الله عليه وسلم عِنْدِيْ إِلا نَائِمَاً»

(2)

.

وبهذه الطريقة يقوم المسلم في أفضل وقت للصلاة بالليل، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما السَّابق.

وهل يكون بذلك أدرك وقت النزول الإلهي، وهو الثلث الآخر من الليل؟

الجواب: نعم يكون أدركه في السدس الخامس، وذلك حينما قسَّم الليل سِتَّة أقسام، فإن السُّدس الأول، والثاني يعتبر ثُلُث الليل الأول، والسُّدس الثالث، والرابع يعتبر ثلث الليل الثاني، والسُّدس الخامس، والسادس يعتبر ثُلُث الليل الآخر وهو وقت النزول الإلهي، والذي يقوم

(1)

رواه البخاري برقم (3420)، ومسلم برقم (1159).

(2)

رواه البخاري برقم (1133)، ومسلم برقم (742).

ص: 37

الثلث الذي بعد منتصف الليل سيكون مدركاً للثُّلث الآخر في السُّدس الخامس، والنَّبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أرشدنا إلى هذا الوقت، كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما السَّابق فقال:«وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى اللّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ عليه السلام، كَانَ يَنَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ»

(1)

، وهو الذي أرشدنا إلى فضل الليل الآخر بأنَّ فيه نزولاً يليق بالله -جلَّ وعلا-، فيكون الجمع بين هذين الحديثين بما مضى، فمن لم يستطع انتقل إلى المرتبة الثانية في الأفضلية، فيقوم في الثُّلث الآخر من الليل.

وملخَّص الكلام: أنَّ الأفضلية في وقت قيام الليل على ثلاث مراتب:

المرتبة الأولى: أن ينام نصف الليل الأول، ثُم يقوم ثُلثه، ثم ينام سدسه-كما مضى-

ويدلّ عليه: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي تقدَّم قريباً

(2)

.

المرتبة الثانية: أن يقوم في الثُّلث الآخر من الليل.

ويدلّ عليها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ»

(3)

، وكذلك حديث جابر رضي الله عنه وسيأتي.

فإن خاف ألّا يقوم من آخر الليل انتقل إلى المرتبة الثالثة.

المرتبة الثالثة: أن يصلِّي أول الليل، أو في الجزء الذي يتيسر له

(1)

رواه البخاري برقم (3420)، ومسلم برقم (1159).

(2)

رواه البخاري برقم (3420)، ومسلم برقم (1159).

(3)

رواه البخاري برقم (1145)، ومسلم برقم (758).

ص: 38

من الليل.

ويدلّ عليها: حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ الليْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْل، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفَضَلُ»

(1)

.

وأيضاً يُحمل عليه وصية النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي ذر

(2)

، وأبي الدرداء

(3)

، وأبي هريرة

(4)

رضي الله عنهم، فكل واحد يقول:«أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ» ، وذكر منها:«وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ» .

‌2 - السُّنَّة أن يقوم بإحدى عشرة ركعة.

وهذا الأكمل لحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «مَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ، عَلَى إِحْدَى عَشرةَ رَكْعَةً»

(5)

.

وورد أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم صلَّى ثلاث عشرة ركعة، روى مسلم في صحيحه حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:«كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشرةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذلِكَ بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِسُ فِي شيءٍ إِلاَّ فِي آخِرِهَا»

(6)

، وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:«فَصَلَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ثَلَاثَ عَشرةَ رَكْعَةً، ثُمَّ نَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم»

(7)

.

(1)

رواه مسلم برقم (755).

(2)

رواه النسائي في السنن الكبرى (2712)، وصححه الألباني (الصحيحة 2166).

(3)

رواه أحمد برقم (27481)، وأبو داود برقم (1433)، وصححه الألباني (صحيح أبي داود 5/ 177).

(4)

رواه مسلم برقم (737).

(5)

رواه البخاري برقم (1981)، ومسلم برقم (721).

(6)

رواه البخاري برقم (1147)، ومسلم برقم (738).

(7)

رواه البخاري برقم (698)، ومسلم برقم (763).

ص: 39

واختلف العلماء في الركعتين في روايات (الثلاث عشرة)؛ لأن عائشة أخبرت بأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يزيد على أحدى عشرة ركعة:

فقيل: هما سُنَّة العشاء.

وقيل: المراد بهما سُنَّة الفجر.

وقيل: هما ركعتان خفيفتان كان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يفتتح بهما صلاة الليل، كما جاء في الحديث، ورجَّحه ابن حجر رحمه الله

(1)

.

والأظهر -والله أعلم-: أنَّ هذا من باب تنوِّع الوتر، فالغالب من وتره صلى الله عليه وسلم، أنه كان يوتر بإحدى عشرة ركعة، وكان يوتر أحيانا بثلاث عشرة ركعة، وبهذا نجمع بين الأحاديث الواردة.

‌3 - من السُّنَّة أن يستفتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين.

لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ، افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ»

(2)

.

‌4 - من السُّنَّة أن يأتي بالاستفتاحات الواردة في صلاة الليل،

ومن ذلك:

أ. ما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ -أي النَّبي صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسرافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صراطٍ مُسْتَقِيم»

(3)

.

ب. ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:

(1)

انظر: الفتح (3/ 21).

(2)

رواه مسلم برقم (767).

(3)

رواه مسلم برقم (770).

ص: 40

كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَهَجَّدَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ الْحَقُّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسررْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»

(1)

.

‌5 - من السُّنة أن يطيل قيامه، وركوعه، وسجوده

فتكون جميع أركان الصلاة الفعلية قريبة من السواء.

‌6 - وأن يأتي بالسُّنَن الواردة في قراءته،

ومن ذلك:

أ. أن يقرأ مترسِّلاً، والمقصود: أنه لا يحدر، أو يهذَّ القراءة هذَّاً.

ب. أن يُقَطِّعَ قراءته آية، آية والمقصود: أنه لا يَصِلُ آيتين، أو ثلاث من دون توقف، بل يقف عند كل آية.

ج. إذا مرَّ بآية تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بآية سؤال سأل، وإذا مرَّ بآية تعوُّذ تعوَّذ.

ويدلّ على ما تقدم: حديث حذيفة رضي الله عنه قال: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضى، فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ

(1)

رواه البخاري برقم (7499)، ومسلم برقم (768).

ص: 41

بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ:«سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْواً مِنْ قِيامِهِ، ثُمَّ قَالَ:«سَمعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ» ، ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً، قَرِيباً مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ:«سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى» فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيباً مِنْ قِيَامِهِ

(1)

.

ولِما رواه أحمد رحمه الله في مسنده، من حديث أم سلمة رضي الله عنها:«أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً، آيَةً: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}»

(2)

.

قال ابن القيِّم رحمه الله: «وكان صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته، ويقف عند كل آية

، وكان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية يرددها حتى الصباح»

(3)

، وقال:«وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسر بالقراءة في صلاة الليل تارة، ويجهر بها تارة، ويُطيل القيام، ويخفِّفه تارة، ويوتر آخر الليل وهو الأكثر، وأوله، وأوسطه»

(4)

.

‌7 - من السنة أن يُسَلِّم من كل ركعتين.

لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «قَامَ رَجُلٌ فقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى، مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ»

(5)

.

(1)

رواه مسلم برقم (772).

(2)

رواه أحمد برقم (26583)، وقال الدارقطني (118):«إسناده صحيح وكلهم ثقات» ، وصححه النووي (المجموع 3/ 333).

(3)

زاد المعاد (1/ 337).

(4)

زاد المعاد (1/ 240).

(5)

رواه البخاري برقم (990)، ومسلم برقم (749).

ص: 42

والمقصود بـ: (مَثْنَى، مَثْنَى) أي: يُصلِّي اثنتين، اثنتين، فيُسلِّم من ركعتين، ولا يُصلِّي أربعاً جميعاً.

لحديث عائشة رضي الله عنها الذي تقدَّم، قالت:«كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ، إِحْدَى عَشرةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ»

(1)

.

‌8 - من السُّنَّة قراءة سور معيَّنة في آخر ثلاث ركعات.

يقرأ في الركعة الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وفي الثانية:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وفي الثالثة:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقط.

ويدلّ عليه: حديث أُبَيَّ بنِ كعب رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبَّكَ الأَعْلَى، وَقُلْ يَا أَيُّها الكَافِرُوْن، وَقُلْ هُوَ الله أَحَدْ»

(2)

.

‌9 - من السنة أن يقنت في وتره أحياناً.

قال ابن القيِّم رحمه الله: «فإنَّ القنوت يُطْلَق على القيام، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء، والتسبيح، والخشوع»

(3)

، والمقصود به هنا: الدعاء، وذلك في الركعة الثالثة التي يقرأ فيها سورة الإخلاص، والقنوت في الوتر من السُّنَّة فعله أحياناً، وتركه أحياناً، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والأولى أن يكون الترك أكثر من الفعل.

والتعليل: لأنها جاءت أحاديث كثيرة تصف وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة، وأم سلمة، وابن عباس وحذيفة، وابن مسعود رضي الله عنهم، وليس في

(1)

رواه البخاري برقم (6310)، ومسلم برقم (736).

(2)

رواه أبو داود برقم (1423)، والنَّسائي برقم (1733)، وابن ماجه برقم (1171)، وصححه النووي (الخلاصة 1/ 556)، والألباني (صحيح النسائي 1/ 273).

(3)

زاد المعاد (1/ 276).

ص: 43

شيء منها أنه قنت في الوتر، وعائشة رضي الله عنها من الملازمين للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم تنقل أنه قنت في وتره.

‌مسألة: هل ثبت القنوت في الوتر من قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو فعله؟

القول الأول: أنه ثابت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من قوله، وفعله، واستدلوا:

أولاً: من فعله: بحديث أُبَيَّ بن كعب رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ»

(1)

.

ثانياً: ومن قوله: حديث الحسن بن علي رضي الله عنه قال: علمني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلماتٍ أقولهنَّ في الوتر: «اللهمَّ اهدنيِ فيمنْ هَدَيْتَ، وعَافِنِي فِيمَنْ عافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فيمَا أعْطَيْتَ، وَقِنِي شر ما قضيتَ، فَإِنكَ تَقْضي ولا يُقْضى عليكَ، وإنه لا يذِلُّ من واليْتَ، تباركتَ رَبَّنا وتعاليْتَ»

(2)

.

والقول الثاني: أنه لم يثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قنوت الوتر، لا من قوله، ولا من فعله.

- وأمَّا حديث أُبَيّ بن كعب السابق فهو حديث ضعيف، ضعَّفه الإمام أحمد، وابن خزيمة، وابن المنذر رحمهم الله.

- وأمَّا حديث الحسن بن علي السابق فحديث صحيح، إلا لفظة (قنوت الوتر) في الحديث فهي شاذَّة، رواها أهل السُّنن من طريق: أبي إسحاق، عن بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء عن الحسن به.

- وأمَّا الإمام أحمد فروى الحديث عن: يحي بن سعيد، عن

(1)

رواه أبو داود معلقًا في باب القنوت في الوتر حديث رقم (1427)، والنَّسائي برقم (1700)، وابن ماجه برقم (1182).

(2)

رواه أحمد برقم (1718)، وأبو داود برقم (1425)، والترمذي برقم (464)، والنَّسائي برقم (1746)، وابن ماجه برقم (1178).

ص: 44

شعبة حدثني بريد بن أبي مريم بلفظ: «كان يعلمنا هذا الدعاء اللهم اهدني فيمن هديت

»

(1)

، وقالوا: هذا هو المحفوظ؛ لأنَّ شعبة أوثق من كل من رواه عن بريد، فتُقدَّم روايته على غيره.

قال ابن خزيمة رحمه الله: «وهذا الخبر رواه شُعبة بن الحجاج عن بريد بن أبي مريم في قصة الدعاء، ولم يذكر القنوت ولا الوتر، قال: وشعبة أحفظ

، ولو ثبت الخبر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالقنوت في الوتر، أو قنت في الوتر، لم يجز عندي مخالفة خبر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولست أعلمه ثابتاً»

(2)

.

وقبله قال الإمام أحمد رحمه الله: «لا يصحّ فيه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شيء

»

(3)

.

وهذا القول هو الأظهر -والله أعلم-، إلا أنه ثبت عن الصحابة القنوت في الوتر، وسئل عطاء عن القنوت، فقال:«كان أصحاب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعلونه» ، فقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما كما عند أحمد، وأبي داود، والترمذي، وقال:«حديث حسن» ، وثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما عند ابن أبي شيبة.

‌وهل القنوت يكون قبل الركوع، أو بعده؟

اختلف أهل العلم رحمهم الله في ذلك، وسبب الاختلاف: أنه لم يثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء، وقاسه أهل العلم على قنوت النَّوازل.

فقيل: قبل الركوع.

واستدلوا بـ: ما رواه عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه قال: «صَلَّيْتُ

(1)

رواه أحمد برقم (1727).

(2)

صحيح ابن خزيمة (2/ 152).

(3)

التلخيص لابن حجر (2/ 18).

ص: 45

خَلْفَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ: اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ

»

(1)

.

وقيل: بعد الركوع.

واستدلوا بـ: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ يَقُولُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ

(2)

. وأيضاً حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري، وفيه:«بعد الركوع»

(3)

.

والأظهر-والله أعلم-: أنَّ الأمر في ذلك واسع، فيجوز قبل الركوع، وبعده في الركعة الأخيرة، وقد بوَّب البخاري رحمه الله:[باب القنوت قبل الركوع، وبعده]، لكن القنوت بعد الركوع أكثر في الأحاديث النبوية، كما نصَّ على ذلك جماعة من أهل العلم رحمهم الله فيُغلَّب على ما قبل الركوع.

قال الإمام أحمد رحمه الله: «وبعد الركوع أحب إلي»

(4)

، ويكون هذا من باب تنوع السُّنَّة، فتارة يقنت قبل الركوع، وتارة بعده.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وأمَّا القنوت، فالناس فيه طرفان ووسط: منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع، ومنهم من لا يراه إلا بعده، وأمَّا فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوِّزون كِلَا الأمرين؛ لمجيء السُّنَّة الصحيحة بهما، وإن اختاروا القنوت بعده؛ لأنه أكثر وأقيس، فإن سماع الدعاء مناسب لقول العبد: سمع الله لمن

(1)

رواه البيهقي (2/ 211)، وصحح إسناده الألباني (الإرواء 2/ 171).

(2)

رواه البخاري برقم (804)، ومسلم برقم (675).

(3)

رواه البخاري برقم (956).

(4)

مسائل أحمد (1/ 100).

ص: 46

حمده، فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه كما دلَّت فاتحة الكتاب على ذلك أولها ثناء، وآخرها دعاء»

(4)

.

‌مسألة: وهل يرفع يديه في قنوت الوتر؟.

الصحيح: أنه يرفع يديه، وبه قال جمهور العلماء رحمهم الله؛ لثبوت ذلك عن عمر رضي الله عنه كما عند البيهقي وصحَّحه

(5)

، وقال البيهقي رحمه الله:«إن عدداً من الصحابة رضي الله عنهم رفعوا أيديهم في القنوت»

(6)

.

‌مسألة: بأي شيء يبدأ قنوته في الوتر؟.

قيل: أنه يبدأ بالدعاء الذي علَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحسنَ: «اللهم اهدني فيمن هديت» .

واستدلوا بِـ: حديث الحسن رضي الله عنه السَّابق، وتقدم أنَّ الحديث صحيح بدون ذكر (قنوت الوتر)، وأيضاً لو صحَّت هذه اللفظة، فليس في الحديث استحباب ابتداء قنوت الوتر بدعاء الحسن رضي الله عنه.

والقول الراجح -والله أعلم-: أنه يبدأ بحمد الله تعالى، والثناء عليه، ثم يُصلَّي على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ثُم يدعو؛ لأنّ هذا أقرب للإجابة.

ويدلّ عليه: حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سَمِعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَدْعُو في صَلَاتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «عَجِلَ هَذَا ثُمَّ دَعَاهُ، فقالَ لَهُ ولِغَيْرِهِ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ الله، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ ليُصَلِّ عَلَى النبيِّ، ثُمَّ ليَدْعُ بَعْدُ ما شَاءَ»

(7)

.

قال ابن القيِّم رحمه الله: «المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي

(4)

مجموع الفتاوى (23/ 100).

(5)

رواه البيهقي (2/ 211).

(6)

السنن الكبرى (2/ 211).

(7)

رواه الترمذي برقم (3477)، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» .

ص: 47

بحمد الله، والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته كما في حديث فضالة بن عبيد»

(1)

.

‌مسألة: هل يمسح وجهه بيديه بعد دعاء القنوت؟

الصحيح: أنه لا يُسَنُّ مسح الوجه بعد الانتهاء من الدعاء؛ لعدم الدليل على ذلك.

- وأمَّا قول عمر رضي الله عنه: «كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ في الدُّعَاءِ لَمْ يَحُطَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ»

(2)

، فهو حديث ضعيف؛ لأنّ مداره على: حماد بن عيسى الجهني، وهو ضعيف لا يُحتَج به، وقد ضعَّف الحديث العراقي، والنووي، وابن الجوزي، وقال يحي بن معين، وأبو زرعة:«حديث منكر» ، زاد أبو زرعة:«أخاف ألّا يكون له أصل» -رحم الله الجميع-.

وله شاهد من حديث يزيد بن السائب رواه أبو داود، وأحمد، لكنه ضعيف؛ لأنّ مداره على ابن لهيعة، وهو ضعيف.

ف‌

‌السُّنَّة ترك المسح على الوجه بعد الدعاء

؛ لأنه لم يثبت فيه دليل عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولم يصحّ عن الصحابة رضي الله عنهم لا في قنوت الوتر، ولا في غيره، لا داخل الصلاة، ولا خارجها. سُئِل الإمام مالك رحمه الله عن الرجل يمسح بكفيه وجهَه عند الدعاء، فأنكر ذلك، وقال:«ما علمت»

(3)

.

وقال المروزي رحمه الله: «وأمَّا أحمد بن حنبل فحدثني أبو داود قال: سمعت أحمد، وسئل عن الرجل يمسح وجهه بيديه إذا فرغ من

(1)

الوابل الصيب (ص 110).

(2)

رواه الترمذي برقم (3386).

(3)

انظر: كتاب الوتر للمروزي (ص 236).

ص: 48

الوتر، فقال: لم أسمع فيه بشيء، ورأيت أحمد لا يفعله».

وقال البيهقي رحمه الله: «فأمَّا مسح الوجه باليدين عند الفراغ من الدعاء فلستُ أحفظ عن أحد من السلف في دعاء القنوت، وإن كان يروى عن بعض خارجها، وقد روي فيه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حديث فيه ضعف، وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة، وأمَّا في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح، ولا أثر ثابت ولا قياس، فالأولى ألّا يفعله، ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة»

(1)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وأمَّا مسح وجهه بيديه فليس فيه إلا حديث، أو حديثان لا تقوم بهما الحُجَّة»

(2)

.

‌10 - الدعاء في ثلث الليل الآخر.

من السُّنَن التي تتأكد آخر الليل الدعاء، فإن دعا في قنوته آخر الليل كفاه ذلك، وإن لم يدع فالسنة أن يدعو في هذا الوقت؛ لأنَّه وقت تتأكد فيه إجابة الدعاء، ففيه نزولٌ لله -جلَّ وعلا- يليق بجلاله إلى السماء الدنيا، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»

(3)

.

(1)

السنن (2/ 212).

(2)

الفتاوى (22/ 519).

(3)

رواه البخاري برقم (1145)، ومسلم برقم (758).

ص: 49

‌11 - يُسنُّ إذا سلَّم من وتره أن يقول: (سبحان الملك القدُّوس) ثلاثاً، يرفع صوته بالثالثة.

ويدلّ عليه: حديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: «سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ»

(1)

. وفي حديث عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه: «وَيَرْفَعُ بِسُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ صَوْتَهُ بِالثَّالِثَةِ»

(2)

.

‌12 - يُسَنُّ أن يوقظ أهله؛ لقيام الليل.

فالرجل يُسنُّ له أن يوقظ أهله؛ لصلاة الليل، وكذا المرأة إذا قامت فإنه يُسَنُّ لها أن توقظ زوجها، وسائر أهلِها، وهذا من باب التعاون على الخير.

ويدلّ عليه: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي صَلَاتَهُ مِنَ اللَّيْلِ كُلَّهَا، وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ»

(3)

.

وعن أمَّ سلمةَ رضي الله عنها قالت: «استَيقظ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: «سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجَرِ؟ - يُرِيدُ بِهِ أَزْوَاجَهُ- حَتَّى يُصَلِّينَ، رُبَّ كَاسيةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الْآخِرَةِ»

(4)

.

(1)

رواه النسائي برقم (1702)، وصححه النووي والألباني كما تقدم قريباً.

(2)

رواه أحمد برقم (15354)، والنسائي برقم (1734)، وصححه الألباني (تحقيق مشكاة المصابيح 1/ 398).

(3)

رواه البخاري برقم (512)، ومسلم برقم (512).

(4)

رواه البخاري برقم (6218).

ص: 50

وفي العشر الأواخر من رمضان يزداد هذا الشأن فعند مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا دَخَلَ الْعَشر، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَر»

(1)

.

‌13 - من السُّنَّة أن يفعل القائم للّيل الأرفق بنفسه؛ لئلا يؤثر على خشوعه.

- فإذا أصابه فتور صلَّى جالساً.

لحديث أنس رضي الله عنه قال: «دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ، وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ فَقَالَ: «مَا هذَا؟» قَالُوا: لِزَيْنَبَ تُصَلِّي، فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ، فَقَالَ:«حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسَلَ أَوْ فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ»

(2)

.

- وإذا أصابه نعاس نام؛ ليقوم نشيطاً، فيصلِّي بعد ذلك.

لحديث عائشة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ. فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ؛ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ»

(3)

.

- وكذا إذا أصابه نعاس ونحوه وهو يقرأ القرآن بالليل، فإنَّ السُّنَّة أن ينام؛ ليتقوّى.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ، فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ، فَلْيَضْطَجِعْ»

(4)

.

(1)

رواه مسلم برقم (1174).

(2)

رواه البخاري برقم (1150)، ومسلم برقم (784).

(3)

رواه البخاري برقم (212)، ومسلم برقم (786).

(4)

رواه مسلم برقم (787).

ص: 51

‌14 - السُّنَّة لمن فاته قيام الليل أن يصلِّيه من النهار شفعاً.

فإذا كان من عادته أن يوتر بثلاث فنام عن وتره، أو مرض، فلم يستطع أن يُصلِّيه، فإنه يُصلِّيه من النهار أربعاً، وإذا كان من عادته أن يوتر بخمس فنام عن وتره، أو مرض، فإنه يُصليه من النهار سِت ركعات، وهكذا، وقد كان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ولأنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يوتر بإحدى عشرة ركعة، فإن عائشة رضي الله عنها تقول عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:«وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ صَلَّى من النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشرةَ رَكْعَةً»

(1)

.

* * *

(1)

رواه مسلم برقم (746).

ص: 52

‌ثانياً: وقت الفجر

فيه عِدَّة أعمال هي من هدي النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:

‌الأذان

وفيه عِدَّة سُنَن:

‌1) متابعة المؤذِّن.

يُسَنَّ لمن سمع الأذان أن يقول مثل ما يقول المؤذِّن، إلا في الحيعلتين، فيقول:«لا حول ولا قوة إلا بالله» ؛ لحديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أَنَّهُ سمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ

»

(2)

.

وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ أَحَدُكُمْ: اللّهُ أَكْبَرُ الله أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ الله. ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللّهِ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللّهِ. ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بالله. ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بالله. ثُمَّ قَالَ: الله أَكْبَرُ الله أَكْبَرُ. قَالَ: الله أَكْبَرُ الله أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ: لَا إِلهَ إِلاَّ الله. قَالَ: لَا إِلهَ إِلاَّ الله، مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»

(3)

.

(2)

رواه مسلم برقم (384).

(3)

رواه مسلم برقم (385).

ص: 53

قال ابن القيِّم رحمه الله: «

وهذا مقتضى الحكمة المطابقة لحال المؤذن والسامع، فإن كلمات الأذان ذكر فسُنّ للسامع أن يقولها، وكلمة الحيعلة دعاء إلى الصلاة لمن سمعه، فسُنَّ للسامع أن يستعين على هذه الدعوة بكلمة الإعانة، وهي لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم»

(1)

.

- وعند التثويب لصلاة الفجر، فإن من تابع الأذان يقول مثل ما يقول المؤذن:«الصلاة خير من النوم» .

قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: «فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ» يدلّ على أنه يقول: الصلاة خير من النوم

(2)

.

قال ابن حجر رحمه الله: عن ابن جريج أنه قال: «حدثت أنّ النّاس كانوا ينصتون للمؤذن إنصاتهم للقراءة»

(3)

.

‌2) قول هذا الذِّكر بعد الشهادتين.

يُسَنّ أن يقال بعد ما يقول المؤذن: «أشهد أن محمداً رسول الله» الثانية، ما جاء في حديث سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضيتُ بِالله رَبَّاً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَبِالإِسْلَامِ دِيناً، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ»

(4)

.

‌3) الصلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد الأذان.

لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا

(1)

زاد المعاد (2/ 391).

(2)

فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (2/ 135).

(3)

الفتح، حديث (611)، باب: ما يقول إذا سمع المنادي.

(4)

رواه مسلم برقم (386).

ص: 54

سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشراً، ثُمَّ سَلُوا الله لِي الْوَسيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ الله، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسيلَةَ حَلَّتْ له الشَّفَاعَةُ»

(1)

.

وأفضل أنواع الصلاة: الصلاة الإبراهيمية: «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم

».

‌4) قول الدعاء الوارد بعد الأذان.

لحديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسيلَةَ وَالْفَضيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

(2)

.

والوسيلة: وضَّحها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما السَّابق، حيث قال:«ثُمَّ سَلُوا الله لِي الْوَسيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ الله، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسيلَةَ حَلَّتْ له الشَّفَاعَةُ»

(3)

، والفضيلة: الرتبة العالية التي لا يشاركه فيها أحد.

قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «الدعوة التامَّة: هي الأذان؛ لأنه دعوة، ووصفها بالتامَّة؛ لاشتمالها على تعظيم الله وتوحيده، والشهادة بالرسالة، والدعوة إلى الخير

المقام المحمود يشمل كل مواقف يوم

(1)

رواه مسلم برقم (384).

(2)

رواه البخاري برقم (614).

(3)

رواه مسلم برقم (384).

ص: 55

القيامة، وأخصّ ذلك الشفاعة العظمى»

(1)

.

‌5) الدعاء بعد الأذان.

لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «أَنَّ رَجُلاً قال: يَا رسولَ الله إِنَّ المُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنَا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «قُلْ كَمَا يَقُولُونَ فإِذَا انْتَهَيْتَ فَسَلْ تُعْطَهُ»

(2)

، ولحديث أنس رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«الدُعَاءُ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإقَامَةِ لا يُرَدّ»

(3)

.

‌فائدة: الخروج من المسجد بعد الأذان منهي عنه.

ويدلّ عليه: ما رواه مسلم من حديث أبي الشَّعثاءِ رضي الله عنه قال: «كُنَّا قُعُوداً فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمَسْجِدِ يَمْشي، فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بَصرهُ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

‌سُنَّة الفجر، وفيها عِدَّة سُنَن:

وسُنَّة الفجر هي أول السُّنَن الراتبة التي يعملها العبد في يومه، وفيها عدة سُنَن، وقبل بيانها لابد من بيان بعض ما يخص السُّنَن الرواتب، والسُّنَّة الراتبة هي: السُّنَّة الدائمة التابعة للفرائض.

اختُلف في عدد السُّنَن الرواتب على قولين:

القول الأول: أنَّ عددها عشر ركعات: ركعتان قبل الفجر،

(1)

الشرح الممتع لشيخنا ابن عثيمين (2/ 87 - 88).

(2)

رواه أبو داود برقم (524)، وحسنه ابن حجر (نتائج الأفكار 1/ 367)، والألباني (صحيح الكلم الطيب ص 73).

(3)

رواه النسائي برقم (9895)، وصححه ابن خزيمة (1/ 221/ 425).

(4)

رواه مسلم برقم (655).

ص: 56

وركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وهذه عشر ركعات متفق عليها بين العلماء كما نقل ذلك ابن هبيرة رحمه الله

(1)

.

واستدلوا: بحديث ابن عمر رضي الله عنهما المتفق عليه، قال:«حَفِظْتُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشر رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَكَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا»

(2)

.

والقول الثاني: أنَّ عددها اثنتا عشرة ركعة، وأنَّ قبل صلاة الظهر أربع ركعات لا ركعتين، وهذا القول هو الأظهر-والله أعلم-.

ويدلّ عليه:

أ. حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ»

(3)

. وعند مسلم من حديثها قالت: «كَانَ -أي: النَّبي صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعاً»

(4)

.

ب. حديث أُمِّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشرةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ»

(5)

، وأخرجه الترمذي، وزاد:«أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ»

(6)

.

(1)

انظر: الإفصاح (1/ 151).

(2)

رواه البخاري برقم (1180)، ومسلم برقم (729).

(3)

رواه البخاري (1182).

(4)

رواه البخاري برقم (730).

(5)

رواه مسلم برقم (728).

(6)

رواه الترمذي برقم (415). وقال: «حسن صحيح» .

ص: 57

واختلف أهل العلم في الجمع بين:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتفق، وفيه:«أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم صلَّى قبل الظهر ركعتين»

(1)

، وبين حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري، وفيه:«أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم صلَّى قبل الظهر أربع ركعات»

(2)

.

فقيل: إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم تارة يُصلِّي قبل الظهر أربعاً، وتارة يُصلِّي قبلها ركعتين.

وقيل: إن مع تعارض الحديثين يؤخذ بالزائد، ويُصلِّي الإنسان أربع ركعات قبل الظهر.

وقيل: إن صلَّى في بيته يصلي أربعاً؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، وإن صلَّى في المسجد يُصلِّي ركعتين؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما.

والأظهر -والله أعلم-: أنه يؤخذ بالزائد؛ لاحتمال اطلاع عائشة رضي الله عنها في بيتها على ما لم يطلع عليه ابن عمر رضي الله عنهما؛ ولحديث أم حبيبة رضي الله عنها عند مسلم: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشرةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ (وفي رواية: غَيْرَ فَرِيضَةٍ)، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ» . والأفضل أن تؤدَّى السُّنَن الرواتب في البيت، ويدلّ عليه:

أ. حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ»

(3)

.

ب. عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ

(1)

رواه البخاري برقم (1180)، ومسلم برقم (729).

(2)

رواه البخاري برقم (1182).

(3)

رواه البخاري برقم (7290)، ومسلم برقم (781).

ص: 58

فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُوراً»

(1)

.

ج. عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَضى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصيباً مِنْ صَلَاتِهِ، فَإِنَّ الله جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْراً»

(2)

.

‌آكد السّنن الرواتب.

آكد السُّنَن الرواتب سُنَّة الفجر.

ويدلّ عليه ما يلي:

أ. حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «لَمْ يَكُنْ عَلَى شيءٍ مِنَ النَّوَافِلِ، أَشَدَّ مُعَاهَدَةً مِنْهُ، عَلَى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْح»

(3)

.

ب. حديث عائشة رضي الله عنها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»

(4)

.

ولمسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: في شأن الركعتين عند طلوع الفجر: «لَهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعاً»

(5)

.

ج. جاء في الصحيحين ما يدل على أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع سُنَّة الفجر، ولا الوتر لا حضراً، ولا سَفراً.

قال ابن القيِّم رحمه الله: «ولذلك لم يكن يدعها -أي: سُنَّة الفجر- هي، والوتر سفراً وحضراً، وكان في السَّفر يواظب على سُنَّة الفجر، والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السُّنَن، ولم ينقل عنه في السَّفر أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى سُنَّة راتبة غيرهما»

(6)

.

(1)

رواه البخاري برقم (1187)، ومسلم برقم (777).

(2)

رواه مسلم برقم (778).

(3)

رواه البخاري برقم (1196)، ومسلم برقم (724).

(4)

رواه مسلم برقم (725).

(5)

رواه مسلم برقم (725).

(6)

زاد المعاد (1/ 315).

ص: 59

‌سُنَّة الفجر تختص بِعدَّة أمور:

أولاً: مشروعيتها في السَّفر والحضر كما سبق، أمَّا غيرها من السُّنَن الرواتب فالسُّنَّة تركها في السَّفَر كراتبة الظهر، والمغرب، والعِشَاء.

‌ثانياً: ثوابها بأنها خير من الدنيا،

وما فيها -كما تقدَّم-.

‌‌

‌ثالثاً: يُسَنُّ تخفيفها،

وتقدَّم دليل ذلك.

ويدلّ عليه: حديث عائشة رضي الله عنها أنَّها كانت تقول: «كَانَ رَسُولُ اللّهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَيُخَفِّفُ حَتَّى إني أقول: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟»

(1)

.

ولكن يُشترط: ألّا يكون هذا التخفيف مُخِلّاً بالواجب، أو يُفضي إلى أن ينقر صلاته، فيقع في المنهي عنه.

‌رابعاً: يُسَن أن يقرأ في سُنَّة الفجر، بعد الفاتحة، في الركعة الأولى:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وفي الثانية:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .

أو يقرأ بعد الفاتحة، في الركعة الأولى:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].

وفي الثانية: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، وهذه من السُّنَن التي وردت على وجوه متنوعة، فمرَّة يأتي بهذه، ومرَّة بهذه،

(1)

رواه البخاري برقم (1171)، ومسلم برقم (724).

ص: 60

ويدلّ عليه:

أ. حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}»

(1)

.

ب. حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر، في الأولى منهما: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ

} [البقرة: 136]، وفي الآخرة منهما:{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52]»

(2)

.

وفي رواية عند مسلم أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أنَّ في الركعة الثانية: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ

} [آل عمران: 64]»

(3)

.

‌خامساً: يُسَنّ الاضطجاع على الشِّق الأيمن، بعد سُنَّة الفجر،

ويدلّ عليه:

أ. حديث عائشة رضي الله عنها: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ»

(4)

.

ب. حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً، حَدَّثَنِي وَإِلاّ اضْطَجَعَ»

(5)

.

واختُلف في هذا الاضطجاع:

فقيل: الاضطجاع بعد سُّنَّة الفجر مسنون مطلقا، وبه قال أكثر أهل

(1)

رواه مسلم برقم (726).

(2)

رواه مسلم برقم (727).

(3)

رواه مسلم برقم (727).

(4)

رواه البخاري برقم (1160)، ومسلم برقم (736).

(5)

رواه مسلم برقم (743).

ص: 61

العلم رحمهم الله؛ لحديث عائشة رضي الله عنها السَّابق، وأيضاً ممن كان يفعل ذلك، ويفتي به من الصحابة: أبو موسى الأشعري، ورافع بن خديج، وأنس بن مالك، وأبو هريرة رضي الله عنهم، وبه قال ابن سيرين، وعروة، وبقيَّة الفقهاء السبعة رحمهم الله.

وقيل: سُنَّة لمن يقوم ويطيل القيام بالليل؛ ليستريح بهذا الاضطجاع، واختاره شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله.

وقيل: واجب. وقيل: غير ذلك.

والقول الأول هو: الأظهر -والله أعلم-.

- الأفضل في صلاة الفجر تعجيلها بأن تُصلًّى بِغَلَس -أي بالظلمة- في أول وقتها، وبه قال الجمهور.

ويدلّ عليه:

أ. حديث عائشة رضي الله عنها زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: «لَقَدْ كَانَ نِسَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ الْفَجْرَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ وَمَا يُعْرَفْنَ مِنْ تَغْلِيسِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّلَاةِ»

(1)

.

ب. حديث جابر رضي الله عنه: «أنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كانَ يُصَلِّيْ الصُبْحَ بِغَلَسْ»

(2)

.

- وأمَّا حديث رافع بن خديج رضي الله عنه مرفوعاً: «أَسْفِرُوا

(3)

بِالفَجْرِ، فإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأجْرِ»

(4)

.

(1)

رواه البخاري برقم (578)، ومسلم برقم (645).

(2)

رواه البخاري برقم (560)، ومسلم برقم (646).

(3)

يقال: أسفرت المرأة عن وجهها: إذا كشفته وأظهرته، والمراد في الحديث الانتظار حتى تسفر السماء.

(4)

رواه أحمد برقم (17286)، والترمذي، وصححه برقم (154).

ص: 62

فقيل: المراد بذلك: إطالة القراءة، حتى يخرج منها بعد الإسفار.

وقيل: الحديث منسوخ.

وقيل: المراد تأخيرها حتى يتبيَّن ويتأكد من طلوع الفجر، فلا يشكّ فيه.

‌الذهاب إلى المسجد، وفيه عِدَّة سُنَن:

وبما أنَّ صلاة الفجر هي أول صلاة في اليوم يذهب فيها الرجل للمسجد، فإنَّ للذهاب إلى المساجد أموراً يُسَنُّ أن يأتي بها:

‌1 - يُسَنُّ التبكير بالذهاب إلى المسجد.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ»

(1)

.

والتهجير: هو التبكير للصلاة.

وكان السَّلَف رحمهم الله يحرصون على التبكير للصلاة: عن سعيد بن المسيب قال: «ما أذَّن المؤذِّن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد»

(2)

، وقال أيضاً:«ما سمعت تأذيناً في أهلي منذ ثلاثين سنة»

(3)

.

‌2 - أن يخرج من بيته متطهراً؛ لتكتب خطاه.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ، بِضْعاً وَعِشرينَ دَرَجَةً، وَذلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ، لَا

(1)

رواه البخاري برقم (615)، ومسلم برقم (437).

(2)

رواه ابن أبي شيبة برقم (3522).

(3)

ذكره ابن سعد في الطبقات (5/ 131).

ص: 63

يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَّلَاةُ، لَا يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلَاةَ، فَلَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاَّ رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي الصَّلَاةِ مَا كَانَتِ الصَّلَاةُ هِيَ تَحْبِسُهُ، والْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ»

(1)

.

‌3 - أن يخرج إلى الصلاة بسكينة، ووقار.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَلَا تُسرعُوا فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا ثُوِّبَ لِلصَّلَاةِ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ»

(3)

.

قال النووي رحمه الله: «

السكينة: التأنِّي في الحركات، واجتناب العبث، والوقار: في الهيئة كغض الطرف، وخفض الصوت، وعدم الالتفات»

(4)

.

(1)

رواه مسلم برقم (649).

(2)

رواه البخاري برقم (636)، ومسلم برقم (602).

(3)

رواه مسلم برقم (602).

(4)

شرح مسلم للنووي، حديث (602)، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار، وسكينة، والنهي عن إتيانها سعياً.

ص: 64

‌4 - تقديم الرجل اليمنى عند دخول المسجد، وتقديم اليسرى عند الخروج منه.

لحديث أنس رضي الله عنه أنه قال: «من السُّنَّة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى»

(1)

، ولورود ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال البخاري في صحيحه:[باب التيمن في دخول المسجد وغيره، وكان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى، فإذا خرج بدأ برجله اليسرى]، ولحديث عائشة رضي الله عنها:«كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيَمُّن فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ»

(2)

.

ولأن القاعدة: أنَّ ما كان من باب التكريم استُحِب فيه تقديم اليمين، وما كان بضد التكريم استحب فيه تقديم اليسار، وما عدا ذلك فالأصل فيه تقديم اليمين.

‌5 - أن يقول الذِّكر الوارد عند دخول المسجد، وعند الخروج منه.

لحديث أبي حميد، أو أبي أسيد قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ، فَلْيَقُلِ: اللّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ، فَلْيَقُلِ: اللّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ»

(3)

.

خَرَجَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ

وسر تخصيص طلب الرحمة إذا دخل المسجد؛ لأنه محل تنزل الرحمة فيه ويكون العبد فيه قريبا من ربه فناسب ذكر الرحمة، وإذا خرج اشتغل بابتغاء الرزق الحلال فناسب ذكر الفضل وأيضا من الأوراد التي

(1)

رواه الحاكم (1/ 338)، وصححه على شرط مسلم.

(2)

رواه البخاري برقم (168)، ومسلم برقم (268).

(3)

رواه مسلم برقم (713).

ص: 65

تقال عند دخول المسجد، ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قال:«أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»

قَالَ: فَإِذَا قَالَ: ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ: «حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ).

‌6 - أن يُصلِّي ركعتين تحية للمسجد.

وهذا إذا جاء مبكراً للصلاة، فإنه يُسَنّ له ألّا يجلس حتى يصلِّي ركعتين؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ»

(1)

.

ويكفي عن تحية المسجد السُّنَّة القَبْلِية للصلاة إن كان لها سُنَّة قبلية كالفجر، والظهر، أو سُنَّة الضحى إن دخل المسجد ضحى، أو الوتر إن صلَّاه في المسجد، أو الفرض؛ لأن المقصود من تحية المسجد: ألَّا يجلس حتى يُصلِّي؛ لِمَا في ذلك من عمارة المساجد بالصَّلاة؛ لئلا يرتادها من غير صلاة.

‌7 - يُسَن للرجال المبادرة إلى الصَّف الأول، فهو أفضل الصفوف، وللنِّساء أفضلها آخرها.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشرهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشرهَا أَوَّلُهَا»

(2)

،

(1)

رواه البخاري برقم (1163)، ومسلم برقم (714).

(2)

رواه مسلم برقم (440).

ص: 66

خيرها: أي أكثرها ثواباً وفضلاً، وشرها: أي أقلّها ثواباً وفضلاً.

وهذا الحديث فيما إذا صلَّى الرجال والنَّساء جماعة، وليس بينهما حائل من جدار ونحوه، فتكون خير صفوف النساء آخرها؛ لأنه أسترُ لهنَّ عن أعين الرجال.

- وأمَّا إذا كان بينهما حائل كجدار ونحوه، أو كما يكون في كثير من مساجدنا اليوم بأن يُخصَّص للنساء مُصلَّى مستقل ففي هذه الحالة تكون أفضل صفوف النِّساء أولها وهو اختيار الشيخين ابن باز وابن عثيمين -رحمهما الله-؛ لانتفاء عِلَّة القُرب من الرِّجال؛ لأنَّ الحكم يدور مع عِلَّته وجوداً وعدما، ولعموم فضل الصَّف الأول في أحاديثَ منها:

أ- حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّل، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ -أي العِشَاء- وَالصُّبْحِ، لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً»

(1)

.

ب- وحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه وفيه قال: خَرَجَ عَلَيْنَا -أي رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟» فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ، وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ:«يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ»

(2)

، ويُؤخذ من هذا الحديث أيضاً سُنيَّة التراصّ في الصَّف.

قال النَّووي رحمه الله: «يُستحب الصَّف الأول، ثم الذي يليه،

(1)

رواه البخاري برقم (615)، ومسلم برقم (437).

(2)

رواه مسلم برقم (430).

ص: 67

ثم الذي يليه إلى آخرها; وهذا الحكم مستمر في صفوف الرجال بكل حال، وكذا في صفوف النِّساء المنفردات بجماعتهن عن جماعة الرجال، أمَّا إذا صلَّت النساء مع الرجال جماعة واحدة وليس بينهما حائل، فأفضل صفوف النِّساء آخرها؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشرهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشرهَا أَوَّلُهَا»

(1)

(2)

.

‌8 - يُسَنُّ للمأموم أن يكون قريباً من إمامه.

فالأفضل في حقِّ المأموم من حيث اصطفافه للصَّلاة الصف الأول كما تقدَّم، ثُم يحرص أن يكون قريباً من الإمام، فالأقرب من الجهتين اليمنى أو اليسرى هو الأفضل.

ويدلّ عليه: حديث أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ليَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلَامِ وَالنُّهَى»

(3)

، فقوله: ليَلِنِي: أي ليقترب مني، وفي هذا دليل على أنَّ القرب من الإمام مطلوب في أي جهة كان.

قال ابن مفلح رحمه الله: «ويتوجه احتمال أن بُعْدَ يمينه ليس أفضل من قُرْب يساره»

(4)

.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتبعين للكتاب والسُّنَّة، المبتعدين والنابذين للبدعة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

* * *

(1)

رواه مسلم برقم (440).

(2)

المجموع (4/ 192 - 193)، وانظر مجموع فتاوى ابن باز (25/ 145)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (13/ 36).

(3)

رواه مسلم برقم (432).

(4)

الفروع (1/ 407).

ص: 68

‌سُنَن في الصَّلاة

للصلاة عِدَّة سُنَن، يَحسُن بالمصلِّي أن يحرص عليها، فمن ازداد عملاً ازداد أجراً، وفضلاً وقرباً، وبمثل هذه السُّنَن تكون المفارقة بين شخصين يدخلان الصلاة في وقت واحد، ويخرجان في وقت واحد، لكن ما بينهما في الأجر والثواب فرق شاسع؛ لأن أحدهما يأتي بالسُّنن مع الأركان والواجبات، والآخر اكتفى بالأركان والواجبات.

وللصلاة سُنَن عديدة، نذكر منها ما يلي:

‌أ- السترة، ويُسَنُّ فيها ما يلي:

‌1) يُسَنُّ اتخاذ السترة.

والسترة سُنَّة للإمام والمنفرد، وأمَّا المأموم فسترة الإمام سترة له، ويدل على سنية اتخاذ السترة حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً، وفيه: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شيءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ

»

(1)

، والأحاديث في سنيَّة السترة كثيرة فقد استتر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالسرير، والجدار، والجذع، والخشبة، والحربة، والعَنَزَة، والراحلة، وغير ذلك.

والسترة مشروعة في العمران والفضاء، في الحضر والسَّفَر، سواءً خشي ماراً أولم يخشَ؛ لأن الأحاديث لم تفرِّق بين العمران والفضاء،

(1)

رواه البخاري برقم (509)، ومسلم برقم (505).

ص: 69

ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستتر في حضره وسفره، كما في حديث أبي جحيفة رضي الله عنه

(1)

.

‌2) ويُسنُّ الدنو من السترة.

وإذا دنى من السترة، فإن السُّنَّة أن يكون بين موضع سجوده وبين السُّترة قدر ممر الشَّاة.

لحديث سهل بن سعد السَّاعدي رضي الله عنه قال: «كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ»

(2)

، والمقصود بالمُصلَّى هو: موضع سجوده صلى الله عليه وسلم وجاء عند أحمد، وأبي داود أنَّ بينه وبين السترة ثلاثة أذرع

(3)

، وهذا باعتبار إذا وقف يكون بينهما كذلك.

‌3) يُسَنُّ ردُّ المارّ بين يدي المصلِّي.

لحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شيءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أحد أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْ فِي نَحْرِهِ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شيطَانٌ»

(4)

.

وحديث عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَعْ أَحَداً يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ»

(5)

.

- وأمَّا إذا كان المارّ بين يدي المصلِّي امرأة، أو كلباً أسودَ، أو

(1)

رواه البخاري برقم (501)، ومسلم برقم (503).

(2)

رواه البخاري برقم (496)، ومسلم برقم (508).

(3)

رواه أحمد برقم (6231)، وأبو داود برقم (2024)، وصححه الألباني (صحيح أبي داود 6/ 263) وأصله في البخاري برقم (506).

(4)

رواه مسلم برقم (505).

(5)

رواه مسلم برقم (506).

ص: 70

حماراً فإنه يجب دفعه على الصحيح؛ لأنها تقطع الصلاة كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه عند مسلم

(1)

، بخلاف غيرها فإنه لا يقطع الصلاة.

قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «ويُحتمل أن يقال: يفرق بين المار الذي يقطع الصلاة مروره، والمارّ الذي لا يقطع الصلاة مروره، فالذي يقطع الصلاة يجب ردّه، والذي لا يقطع الصلاة مروره لا يجب ردّه؛ لأن غاية ما يحصل منه أن تنقص الصلاة ولا تبطل، بخلاف الذي يقطع الصلاة مروره، فإنه سوف يبطل صلاتك ويفسدها عليك»

(2)

.

وليس لقرن المرأة مع الكلب الأسود، والحمار علَّة جامعة بينهم على الصحيح وإنما لكل واحدة عِلَّة، ففي المرأة فتنة وانشغال لقلب المصلِّي، ولغيرها النجاسة، وكونه شيطان كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شيطَانٌ»

(3)

.

وقيل غير ذلك -والله أعلم-، ولله تعالى حِكمة تخفى على العبيد، وعلى العبيد الانقياد، والتسليم.

‌4) يُسَنّ التسوك عند كل صلاة.

وهذا هو الموضع الثالث من المواضع التي يتأكَّد معها السِّواك.

ويدلّ عليه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ»

(4)

.

‌ب- أثناء القيام يُسَنُّ ما يلي:

‌1 - رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام.

لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يَرْفَعُ يديه حَذْوَ مَنكِبيهِ إذا

(1)

رواه مسلم برقم (510).

(2)

الممتع (3/ 245).

(3)

رواه مسلم برقم (510).

(4)

رواه البخاري برقم (887).

ص: 71

افتَتحَ الصلاةَ، وإذا كَبَّرَ للرُّكوعِ، وإذا رَفعَ رأْسَهُ منَ الرُّكوعِ رفَعَهما أَيضاً وقال:«سَمعَ اللّهُ لمن حَمِده ربَّنا ولكَ الحمدُ» ، وكان لا يَفعلُ ذلكَ في السُّجودِ

(1)

.

قال ابن هبيرة رحمه الله: «وأجمعوا على أنَّ رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام سُنَّة، وليس بواجب»

(2)

.

وهذا هو الموضع الأول من المواضع التي تُرفع فيها اليدان عند التكبير، وهو محل اتفاق عند العلماء، والبقيَّة محل خلاف عندهم رحمهم الله.

ومواضع رفع اليدين التي وردت فيها النصوص أربعة مواضع:

(عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه)، وهذه الثلاثة ثابتة في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما كما تقدَّم، والموضع الرابع: عند القيام من التشهد الأول، وهذا ثابت عن ابن عمر رضي الله عنهما، أيضاً في صحيح البخاري.

‌2 - يُسَنُّ عند رفع اليدين أن تكون الأصابع ممدودة.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ

مَدًّا»

(3)

.

‌3 - يُسَنُّ أن يكون رفع اليدين إلى الموضع المسنون.

وجاءت النصوص بوجهين عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حدِّ رفع اليدين، فقد

(1)

رواه البخاري برقم (735)، ومسلم برقم (390).

(2)

الإفصاح (1/ 123).

(3)

رواه أحمد برقم (8875)، وأبو داود برقم (753)، والترمذي برقم (240)، وصححه الألباني (صحيح أبي داود 3/ 341).

ص: 72

جاء حذو المنكبين في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما

(1)

، وجاء حذو فروع الأذنين -أي حذو عوالي الأذنين- عند مسلم، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه

(2)

، فيُنوِّع المصلِّي تارة يفعل هذه، وتارة هذه.

‌4 - يُسَنُّ للمصلي بعد تكبيرة الإحرام أن يضع يدَه اليمنى على اليسرى.

وهذا بإجماع أهل العلم، كما نقله ابن هبيرة -رحم الله الجميع-

(3)

وستأتي أدلته.

‌5 - يُسَنُّ أن يقبض بيده اليمنى اليدَ اليسرى.

وفي صِفَة وضع اليد اليمنى على اليسرى وجهان، يُستحب للمُصلِّي أن ينوِّع بينهما:

الصِّفَة الأولى: يضع يده اليمنى على يده اليسرى؛ لحديث وائل بن حجر رضي الله عنه قال: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا كَانَ قَائِمًا فِي الصَّلاةِ، قَبضَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ»

(4)

.

والصِّفَة الثانية: أن يضع اليد اليمنى على الذراع اليسرى؛ لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى، عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسرى فِي الصَّلَاةِ»

(5)

. فهو مرَّة يضعها على اليد، ومرَّة على الذراع؛ لينوِّع في تطبيق السُّنَّة.

(1)

رواه البخاري برقم (735)، ومسلم برقم (390).

(2)

رواه مسلم برقم (391).

(3)

انظر: الإفصاح (1/ 124).

(4)

رواه النسائي برقم (887)، وصححه الألباني

(5)

رواه البخاري برقم (740).

ص: 73

‌6 - يُسَنُّ أن يقول دعاء الاستفتاح.

ولدعاء الاستفتاح عِدَّة صيغ، يُستحب أن يُنوِّع بينها، فمرَّة يأتي بهذه الصيغة، ومرَّة بهذه، وممِّا ورد:

أ. «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلهَ غَيْرُكَ»

(1)

.

وجاء عند مسلم أنَّ عمر رضي الله عنه كان يجهر به؛ ليعلمه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين-

(2)

.

ب. «الْحَمْدُ للّهِ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ» ، وفي فضله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشر مَلَكاً يَبْتَدِرُونَهَا. أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا»

(3)

.

ج. «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشرقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ»

(4)

.

د. «اللّهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، وَالْحَمْدُ للّهِ كَثِيراً، وَسُبْحَانَ اللّهِ بُكْرَةً وَأَصيلاً» ، وفي فضله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«عَجِبْتُ لَهَا، فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ»

(5)

، وهناك أدعية أخرى تقدَّمت في سُنَنِ قيام الليل.

(1)

رواه أحمد برقم (11473)، وأبو داود برقم (776)، والترمذي (243)، والنَّسائي (900). من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، والحديث فيه مقال وله طرق يتقوى بها، وقد حسنه ابن حجر (نتائج الأفكار 1/ 412).

(2)

رواه مسلم برقم (399).

(3)

رواه مسلم (600). من حديث أنس رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري برقم (744)، رواه مسلم برقم (598). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

رواه مسلم برقم (601). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 74

‌7 - الاستعاذة.

والاستعاذة سُنَّة، ويُسَنُّ أن يُنوِّع في صيغ الاستعاذة، فمرَّة يأتي بهذه، ومرَّة هذه ومما ورد:

أ. «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .

وهي الصِّفَة التي اختارها جمهور العلماء رحمهم الله؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].

ب. «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» ؛ لقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36].

‌8 - البسملة.

فمن السُّنَّة أن يُبسمل بعد الاستعاذة، فيقول:«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ؛ لحديث نعيم المجمر رضي الله عنه قال: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ القُرْآن

»، وفيه:«وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، إِنِّي لأَشْبَهُكُمْ صَلاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

والصَّارف عن وجوبها: أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُعلِّمها المسيء في صلاته، وإنما أرشده إلى فاتحة الكتاب، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه

(2)

.

‌9 - التأمين مع الإمام.

وذلك إذا قرأ الإمام الفاتحة في الجهرية فإنَّ من السُّنَّة أن يؤمِّن

(1)

رواه النَّسَائي برقم (906)، وابن خزيمة وصححه (1/ 251)، قال الدارقطني:«هذا حديث صحيح، ورواته كلهم ثقات» السنن (2/ 46).

(2)

رواه البخاري برقم (757)، ومسلم برقم (397).

ص: 75

المأموم إذا أمَّن الإمام؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

(1)

. والتأمين: أن يقول: (آمين)، ومعناها: استجب.

‌10 - قراءة السورة التي بعد الفاتحة.

فقراءتها سُنَّة في الركعتين الأولى، والثانية، وهو قول جمهور العلماء رحمهم الله؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه قال:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَتَيْنِ يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى وَيُقَصر فِي الثَّانِيَةِ»

(2)

.

وقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»

(3)

، يُفْهَم منه جواز الاكتفاء بالفاتحة عما بعدها من القراءة، وأمَّا المأموم في الصلاة الجهرية لا يقرأ السورة التي بعد الفاتحة بل يستمع لإمامه.

قال ابن قدامة رحمه الله: «لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أنه يُسَنَّ قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من كل صلاة»

(4)

.

‌ج- أثناء الركوع يُسَنُّ ما يلي:

1. يُسَنُّ وضع اليدين على الركبتين، كالقابض عليهما ويُفرِّج الأصابع.

لحديث أبي حميد رضي الله عنه قال: «أَنَا كُنْتُ أَحْفَظَكُمْ لِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَأَيْتُهُ إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ

(1)

رواه البخاري برقم (780)، ومسلم برقم (410).

(2)

رواه البخاري برقم (759)، ومسلم برقم (451).

(3)

رواه البخاري برقم (756)، ومسلم برقم (394).

(4)

المغني (1/ 568).

ص: 76

يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصر ظَهْرَهُ

»

(1)

، وفي حديث أبي مسعود رضي الله عنه: «وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعَهُ مِنْ وَرَاءِ رُكْبَتَيْهِ

»

(2)

.

2. يُسنُّ للراكع أن يمد ظهره مستوياً.

لحديث أبي حميد السَّاعدي رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصر ظَهْرَهُ

»

(3)

، و «هَصر ظهرَهُ»: أي ثناه في استواء من غير تقويس.

وكذلك يُسَنُّ أن يكون رأسه على مستوى ظهره، فلا يرفعه ولا يخفضه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم، وفيه قالت في وصف ركوع النَّبي صلى الله عليه وسلم:«وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلكِنْ بَيْنَ ذلِكَ»

(4)

. و «يُشْخِصْ» : بضم الياء وإسكان الشين -أي لم يرفعه-، «وَلَمْ يُصَوِّبْهُ»: بضم الياء، وفتح الصاد -أي لم يخفضه خفضاً بليغاً-.

3. يُسَنّ للمصلِّي عند الركوع أن يجافي مرفقيه عن جنبيه.

أي يباعد يديه عن جنبيه؛ لحديث أبي مسعود رضي الله عنه السابق، وفيه: «ثُمَّ رَكَعَ وَجَافَى يَدَيْهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعَهُ

، وقال: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي»

(5)

.

و (المجافاة): هي المباعدة، لكن هذا مشروط فيما إذا لم يؤذِ مَنْ بجانبه، فإنه لا ينبغي للمصلِّي أن يفعل سُنَّة يؤذي بها غيره من المصلِّين.

(1)

رواه البخاري برقم (828).

(2)

رواه أحمد برقم (17081)، وأبو داود برقم (863)، والنَّسَائي برقم (1038)، بسند حسن، وله شاهد من حديث وائل بن حجر عند ابن خزيمة (594).

(3)

رواه البخاري برقم (828).

(4)

رواه مسلم برقم (498).

(5)

رواه أحمد برقم (17081)، وأبو داود برقم (863)، والنَّسَائي برقم (1038)، انظر: حاشية (2).

(6)

انظر: المجموع (3/ 410)

ص: 77

قال النووي رحمه الله عن المجافاة: «ولا أعلم في استحبابها خلافاً لأحد من العلماء، وقد نقل الترمذي استحبابها في الركوع، والسجود عن أهل العلم مطلقاً» (6).

4. يُسَنُّ أن يأتي بالأذكار الواردة في الركوع.

فيسنُّ للراكع أن يأتي مع (سبحان ربي العظيم) أذكاراً أخرى وردت في الركوع، وممَّا ورد:

أ) «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»

(1)

.

ب) «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ»

(2)

.

ج) «اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصري، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي»

(3)

.

د) «سبحانَ ذِي الجَبَرُوتِ وَالمَلَكوتِ وَالكِبْرِياءِ وَالعَظَمَةِ»

(4)

.

يُسَنُّ أن يأتي بما يستطيع من هذه الأذكار في ركوعه، والسُّنَّة أن يُعظِّمَ الله تعالى في ركوعه؛ لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند مسلم:«وَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عز وجل»

(5)

.

- والأفضل أن يلتزم بما ورد عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من الألفاظ التي تقدَّم ذكرها.

(1)

رواه البخاري برقم (794)، ومسلم برقم (484). من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

رواه مسلم برقم (487). من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

رواه مسلم برقم (771). من حديث علي رضي الله عنه.

(4)

رواه أحمد برقم (23411)، وأبو داود برقم (873)، والنَّسَائي برقم (1050). من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، وصححه الألباني (صحيح أبي داود 4/ 27)

(5)

رواه مسلم برقم (479).

ص: 78

‌د- الرفع من الركوع، وفيه عِدَّة سُنَن:

1. تطويل هذا الركن.

لحديث ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «إِنِّي لَا آلُو

(1)

أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا، قَالَ: فَكَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شيئاً لَا أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَهُ، كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ انْتَصَبَ قَائِماً، حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسي، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ مَكَثَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسي»

(2)

.

2. التنويع في صيغ: «ربنا ولك الحمد»

بين ما يلي:

أ) «اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ»

(3)

.

ب) «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ»

(4)

.

ج) «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ»

(5)

.

د) «رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ»

(6)

.

فمرَّة يأتي بهذه، ومرَّة يأتي بهذه.

3. يُسَنُّ أن يأتي بالأذكار الواردة بعد الرفع من الركوع.

ومن الأذكار التي تُشرع بعد الرفع من الركوع ما يلي:

أ) «رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ

(1)

لا آلو: أي لا أُقصر.

(2)

رواه البخاري برقم (821)، ومسلم برقم (472).

(3)

رواه البخاري برقم (795). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري برقم (796)، ومسلم برقم (404). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

رواه البخاري برقم (799)، ومسلم برقم (411). من حديث عائشة رضي الله عنها.

(6)

رواه البخاري برقم (722). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 79

شيءٍ بَعْدُ، أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»

(1)

. والحديث رواه مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

ب) «الْحَمْدُ للّهِ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ» قال النَّبي صلى الله عليه وسلم عن هذا اللفظ: «لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشر مَلَكاً يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا»

(2)

.

والحديث رواه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه، ورواه البخاري من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه.

ج) «اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ، اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ»

(3)

، وهذه الزيادة جاءت في حديث

عبد الله بن أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه عند مسلم.

وإذا أتى المسلم بهذه الأذكار استطاع أن يطيل هذه الركن.

‌هـ- السجود، وفيه عِدَّة سُنن:

1. يُسَنُّ للساجد أن يجافي عضديه عن جنبه، وبطنه عن فخذيه.

لحديث عبد الله بن بحينة رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ»

(4)

، وحديث ميمونة رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ، لَوْ شَاءَتْ بَهْمَةٌ

(5)

، أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمَرَّتْ»

(6)

،

(1)

رواه مسلم برقم (477).

(2)

رواه مسلم برقم (600)، والبخاري برقم (799).

(3)

رواه مسلم برقم (476).

(4)

رواه البخاري برقم (390)، ومسلم برقم (495).

(5)

والبَهْمَة: واحدة البَهَم، وهي أولاد الغنم من الذكور والإناث.

(6)

رواه مسلم برقم (496).

ص: 80

وفي هذا المبالغة في التفريج بين اليدين، فالسُّنَّة التفريج بين اليدين ما لم يكن في ذلك أذية لمن حوله، كما مضى في المجافاة في الركوع.

ومن السُّنَّة أيضاً إذا سجد المصلِّي أن يفرج بين فخذيه فلا يجمعهما، وأن لا يحمل بطنه على فخذيه، بل يباعد فخذيه عن بطنه؛ لحديث أبي حميد رضي الله عنه في صِفة صلاة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:«وَإِذَا سجد فَرَّجَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ غَيْرَ حَامِلٍ بَطْنَهُ عَلَى شيء مِنْ فَخِذَيْهِ»

(1)

.

قال الشوكاني رحمه الله: «والحديث يدل على مشروعية التفريج بين الفخذين في السجود، ورفع البطن عنهما، ولا خلاف في ذلك»

(2)

.

2. يُسَنّ للسَّاجد أن يستقبل بأطراف أصابع رجليه القِبْلَةَ.

لحديث أبي حميد رضي الله عنه أنه قال: «أنا أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: «فإذا سَجدَ وضعَ يدَيهِ غيرَ مُفتَرِشٍ ولا قابضِهما، واستقبَلَ بأَطرافِ أصابعِ رجلَيهِ القِبلةَ»

(3)

.

- وأمَّا أصابع اليدين أثناء السجود فالسُّنَّة أن تكون مضمومة ويجعل يديه مستقبلة القبلة؛ لِمَا ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما في موطأ الإمام مالك، وأيضاً في مصنَّف ابن أبي شيبة عن حفص بن عاصم رضي الله عنه قال:«من السُّنَّة في الصلاة أن يبسط كفيه ويضم أصابعه، ونوجههما مع جهة القِبْلة»

(4)

.

(1)

رواه أبو داود برقم (735)، وهو سنة بإجماع أهل العلم كما نقل الشوكاني وغيره.

(2)

نيل الأوطار (2/ 257).

(3)

رواه البخاري برقم (828).

(4)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة (1/ 236)، وله شاهد من حديث وائل ابن حجر:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد ضم أصابعه» وحسنه الهيثمي (مجمع الزوائد 2/ 135).

ص: 81

3. يُسَنُّ أن يأتي بالأذكار الواردة في السجود.

فيُسنُّ للساجد أن يأتي مع (سبحان ربي الأعلى) أذكاراً أخرى وردت في السجود، وممَّا ورد:

أ) «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»

(3)

.

ب) «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ»

(4)

.

ج) «اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصرهُ، تَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»

(5)

.

د) «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ وَسرهُ»

(6)

.

هـ) «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»

(7)

.

فيُسَنُّ أن يأتي بما يستطيع من هذه الأذكار في سجوده وينوِّع بينها، ومعلوم أنَّ الواجب في الركوع (سبحان ربي العظيم) مرَّة واحدة وما زاد فهو سُنَّة.

وكذا في السجود الواجب قول: (سبحان ربي الأعلى) مرَّة واحدة، وأمَّا الثانية، والثالثة فسُنَّة.

(3)

رواه البخاري برقم (794)، ومسلم برقم (484). من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

رواه مسلم برقم (487). من حديث عائشة رضي الله عنها.

(5)

رواه مسلم برقم (771). من حديث علي رضي الله عنه.

(6)

رواه مسلم برقم (483). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7)

رواه مسلم برقم (486). من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 82

4. يُسَنُّ الإكثار من الدعاء في السجود.

لأنَّ السجود أقرب موضع للعبد من ربه جلَّ في علاه، فيُسَنُّ أن يُكْثِر من الدعاء فيه؛ لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند مسلم: «وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ

(1)

، أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»

(2)

.

‌و- مِنْ السُّنَن في الجلسة بين السجدتين.

1. من السُّنَّة أن يفرش المصلِّي رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى.

لحديث أبي حميد السَّاعدي رضي الله عنه مرفوعاً، وفيه:«فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسرى وَنَصَبَ الْيُمْنَى»

(3)

.

2. تطويل هذا الركن.

لحديث ثابت البُناني رضي الله عنه، وقد تقدَّم قريباً.

3. يُسنُّ لمن أراد القيام إلى أي ركعة، ثانية، أو رابعة، أن يجلس يسيراً قبل أن يقوم.

وهذه تسمَّى: (جلسة الاستراحة)، وليس لها ذكر معيَّن.

وجاء ثبوتها في ثلاثة أحاديث منها:

حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه: «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ، لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا»

(4)

، ومالك بن الحويرث رضي الله عنه هو الذي نقل قول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:«صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوْنِيْ أُصَلِّيْ»

(5)

.

(1)

«قَمِنٌ» أي: حريٌّ أن يُستجاب له.

(2)

رواه مسلم برقم (479).

(3)

رواه البخاري برقم (828).

(4)

رواه البخاري برقم (823).

(5)

رواه البخاري برقم (631).

ص: 83

وحديث أبي حميد السعدي الذي رواه أحمد وأبوداود وجوّد إسناده الشيخ ابن باز، وفي الحديث وصف أبي حميد لصفة الصلاة -وفيها جلسة الاستراحة- وعنده عشرة من الصحابة رضي الله عنهم فصدقوه، وهذا مما يؤكد سنيتها

(1)

.

قال في الشرح الكبير: وهو حديث صحيح فيتعين العمل به

(2)

.

قوله: «فإذا كان في وتر من صلاته» : أي كان في الركعة الأولى، أو الثالثة. «لم ينهض»: أي للركعة الثانية، أو الرابعة «حتى يستوي قاعداً» .

واختُلِف في سنيَّة: (جلسة الاستراحة)، والصواب: أنها سُنَّة مطلقاً؛ لحديث مالك، وأبي حميد السابقين رضي الله عنهما، وممن رجَّح سنيَّتها مطلقاً: النووي، والشوكاني، وابن باز، والألباني رحمهم الله، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

(3)

.

وقال النووي رحمه الله: «وهذا هو الصواب الذي ثبتت فيه الأحاديث الصحيحة»

(4)

.

‌ز- من السُّنَن في التشهد:

1. يُسَنّ أن يفترش المصلِّي رجله اليسرى في التشهد، وينصب اليمنى.

وهذه الصِّفة يفعلها المصلِّي بعدما يُصلِّي الثانية بركوعها، وسجودها، وقيامها، وقعودها، سواء كان في صلاة رباعية، أو ثلاثية، أو

(1)

رواه أحمد (5/ 424)، وأبو داود (1/ 467).

(2)

الشرح الكبير (3/ 527).

(3)

انظر: فتاوى ومقالات متنوعة (11/ 99)، وفتاوى اللجنة الدائمة (6/ 445 - 446).

(4)

المجموع (3/ 441).

ص: 84

ثنائية، فأي ركعة ثانية في الجلوس في تشهدها تكون على هذه الصِّفة؛ لحديث أبي حميد السَّاعدي رضي الله عنه مرفوعاً، وفيه:«فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسرى وَنَصَبَ الْيُمْنَى»

(1)

، وحديث عائشة رضي الله عنها:«وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكَانَ يَفرشُ رِجْلَهُ الْيُسرى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى»

(2)

.

- وأمَّا التشهد الأخير في الصَّلاة الرباعية، والثلاثية فسيأتي بيان صِفته.

2. السُّنَّة أن ينوِّع في وضع اليدين حال التشهد.

ووضع الكفين حال التشهد له صفتان:

الأولى: أن يضع اليدين على الفخذين.

الصِّفَة الثانية: أن يضع اليدين على الركبتين، وذلك بأن يُلْقِمَ يده اليسرى ركبته اليسرى، وأمَّا اليمنى فيُشير بها -كما سيأتي بيانه-.

- وأمَّا اليسرى فهي مبسوطة دائماً، تارة يضعها على فخذه وتارة يُلقمها ركبته.

لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كَانَ -أي النَّبي صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ، وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ، وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسرى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسرى»

(3)

. وفي رواية: «وَيُلْقِمُ كَفَّهُ الْيُسرى رُكْبَتَهُ»

(4)

.

(1)

رواه البخاري برقم (828).

(2)

رواه مسلم برقم (498).

(3)

رواه مسلم برقم (580).

(4)

رواه مسلم برقم (579).

ص: 85

3. السُّنَّة أن ينوِّع في كيفيَّة وضع الأصابع حال التشهد.

ووضع الأصابع حال التشهد له صِفَتان:

الصِّفَة الأولى: أن يقبض أصابع كفه اليمنى كلها، ويُشير بإصبعه السَّبابة، واليسرى تكون مبسوطة.

لحديث ابن عمر رضي الله عنهما السَّابق: «

قَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ

»

(1)

.

الصِّفة الثانية: أن يعقد ثلاثاً وخمسين، بأن يقبض الخنصر والبنصر، ويُحلِّق الإبهام مع الوسطى، ويُشير بالسبابة، وأمَّا اليسرى فتكون مبسوطة.

لحديث ابن عمر رضي الله عنهما السَّابق في رواية أخرى له: «كَانَ -أي النَّبي صلى الله عليه وسلم إِذَا قَعَدَ فِي التَّشَهِّدِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُسرى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسرى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، وَعَقَدَ ثَلَاثَةً وَخَمْسينَ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ»

(2)

.

4. السُّنَّة أن ينوِّع المصلِّي بين صيغ التشهَّد.

فيفعل هذه الصيغة تارة، وهذه تارة، وممّا ورد:

أ) «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»

(3)

.

ب) «التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ

»

(4)

. ثم يُكمل كما سبق.

(1)

رواه مسلم برقم (580).

(2)

رواه مسلم برقم (580).

(3)

رواه البخاري برقم (1202)، ومسلم برقم (402). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(4)

رواه مسلم برقم (403). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 86

ج) «التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لله، السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ

»

(1)

، ثم يُكمل كما سبق.

فيُسَنُّ أن ينوع فيأتي بهذا تارة، وبهذا تارة، كما هي القاعدة في السُّنَن الواردة على صيغ متنوعة.

5. السُّنَّة أن يجلس المصلِّي في التشهد الأخير مُتَوَرِّكاً في الصلاة الثلاثية، والرباعية.

والمقصود أن يقعد في التشهد الأخير إذا كانت الصلاة رباعية، أو ثلاثية على مقعدته، فيقعد على الورك الأيسر، والتَّورك ورد على أكثر من وجه، فيُستحب التنويع حينئذ، وممّا ورد:

أ) أن يفرش رجله اليسرى، ويخرجها من الجانب الأيمن، وينصب اليمنى، ويجعل مقعدته على الأرض، وهذه الصِّفَة رواها البخاري رحمه الله

(2)

.

ب) أن يفرش القدمين جميعاً، ويُخرجهما من الجانب الأيمن، ويجعل مقعدته على الأرض.

وهذه الصِّفة رواها أبو داود، وابن حبان، والبيهقي

(3)

، وليُعلَم أنَّ التَّورك على الصحيح ليس في كل تشهدٍ أخير، وإنما في التشهد الأخير في الصلاة الثلاثية، والرباعية دون الثنائية.

6. السُّنَّة أن ينوِّع المصلِّي بين صيغ الصَّلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

-.

لورودِ عِدَّة صيغ في الصَّلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وممّا ورد:

(1)

رواه مسلم برقم (403). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري برقم (828). من حديث أبي حميد السَّاعدي رضي الله عنه.

(3)

رواه أبو داود برقم (731)، وابن حبان برقم (1867)، والبيهقي (2/ 128). من حديث أبي حميد السَّاعدي رضي الله عنه، وصحَّحها الألباني -رحم الله الجميع-

ص: 87

أ) «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»

(1)

.

ب) «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»

(2)

.

ج) «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»

(3)

.

7. يُسَنُّ أن يستعيذ المصلِّي من أربع قبل أن يُسلِّم.

وهو قول جمهور العلماء رحمهم الله خلافاً لمن أوجبها؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهِّدِ الآخِرِ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، مِنْ شر الْمَسيحِ الدَّجَّالِ»

(4)

، رواه مسلم وهو في الصحيحين

(5)

، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(1)

رواه البخاري برقم (3370). من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم برقم (405). من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري برقم (3369)، رواه مسلم برقم (407). من حديث أبي حميد السَّاعدي رضي الله عنه.

(4)

رواه مسلم برقم (588).

(5)

رواه البخاري برقم (832)، ومسلم برقم (589).

ص: 88

وهناك أدعية أخرى وردت في السُّنَّة، يُسَنُّ للمصلِّي أن ينوِّع في الإتيان بها قبل السَّلام، وممّا ورد:

1) «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ من المأْثَمِ والمغْرَمِ»

(1)

.

2) «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الجَنَّةَ وَأَعَوْذَ بِكَ مِنَ النَّارِ»

(2)

.

3) «اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»

(3)

.

4) «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»

(4)

.

5) «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ»

(5)

.

6) «اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسيرًا»

(6)

.

ثم يُسلِّم ملتفتاً في سلامه، والتفاته في الصَّلاة سُنَّة، والمبالغة في الالتفات سُنَّة أيضاً؛ وذلك لأنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يلتفت حتى يرى مَنْ وراءه بياضَ خدِّه صلى الله عليه وسلم فعَن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «كُنْتُ أَرَى

(1)

رواه البخاري برقم (832)، ومسلم برقم (589).

(2)

رواه أبو داود برقم (792)، وصحح إسناده الألباني (صحيح أبي داود 3/ 377).

(3)

رواه البخاري برقم (6326)، ومسلم برقم (2705).

(4)

رواه أحمد برقم (22119)، وأبو داود برقم (1522)، والنَّسائي برقم (1304)، وصححه الألباني (صحيح الجامع 2/ 1320).

(5)

رواه البخاري برقم (6370).

(6)

رواه أحمد برقم (24215)، وصححه الألباني (تحقيق مشكاة المصابيح 3/ 1544).

ص: 89

رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، حَتَّى أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ»

(1)

.

‌ح- الأذكار المشروعة بعد السَّلام من الصلاة المفروضة سُنَّة.

قال النووي رحمه الله: «أجمع العلماء على استحباب الذِّكر بعد الصَّلاة»

(2)

.

ويستحب رفع الصوت بهذا الذكر؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصرفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم»

(3)

، وفي لفظ قال ابن عباس رضي الله عنهما:«أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّكْبِيرِ»

(4)

.

والأذكار هي:

1 -

يسْتَغْفِرُ الله تعالى ثَلَاثاً، ثُم يقول:«اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ»

(5)

.

2 -

«لَا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ، لَا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»

(6)

، من حديث ابن الزبير رضي الله عنه، وقال:«كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ» ، والإهلال: هو رفع الصوت.

(1)

رواه مسلم برقم (582).

(2)

الأذكار (ص 66).

(3)

رواه البخاري برقم (841)، ومسلم برقم (583).

(4)

رواه البخاري برقم (842)، ومسلم برقم (583).

(5)

رواه مسلم برقم (591) من حديث ثوبان رضي الله عنه.

(6)

رواه مسلم برقم (596).

ص: 90

3 -

«لَا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»

(1)

.

4 -

ثُم يقول التسبيح الوارد، وله صيغ:

الأولى: سبحان الله (33) مرَّة، والحمد لله (33) مرَّة، والله أكبر (33) مرَّة، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَبَّحَ اللّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللّهَ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللّهَ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»

(2)

.

الثانية: سبحان الله (33) مرَّة، والحمد لله (33) مرَّة، والله أكبر (34) مرَّة.

لحديث كعْب بن عُجْرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ أَوْ فَاعِلُهُنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً»

(3)

.

الثالثة: سبحان الله (25) مرَّة، والحمد لله (25) مرَّة، والله أكبر (25) مرَّة، ولا إله إلا الله (25) مرَّة.

وهذه الصيغة جاءت عند الترمذي، من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه

(4)

.

(1)

رواه البخاري برقم (844)، ومسلم برقم (593). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم برقم (597).

(3)

رواه مسلم برقم (596).

(4)

رواه الترمذي برقم (3413)، وصححه الألباني (تحقيق مشكاة المصابيح 1/ 307).

ص: 91

الرابعة: سبحان الله (10) مرَّة، والحمد الله (10) مرَّة، والله أكبر (10) مرَّة.

وهذه الصيغة جاءت عند الترمذي، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

(1)

.

- وسبقت القاعدة في العبادات الواردة على وجوه متنوعة، تُفعل هذه تارة، وهذه تارة.

والسُّنَّة أن يكون التسبيح بالأصابع؛ لِما رواه أحمد، والترمذي، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«سَبِّحْنَ وَاعْقِدْنَ بِالْأَصَابِعِ، فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ»

(2)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وعَدُّ التسبيح بالأصابع سُنَّة كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «سَبِّحْنَ وَاعْقِدْنَ بِالْأَصَابِعِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ» . أمَّا التسبيح بما يُجعل في نظام من الخرز فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، وإذا أُحسنت فيه النية، فهو حسن غير مكروه»

(3)

.

5 -

قراءة آية الكرسي.

لحديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ آيةَ الكُرْسي دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوْبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُوْلِ الجَنَّةِ إلا المَوْت»

(4)

.

قال ابن القيِّم رحمه الله: «وبلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية -قدَّس الله

(1)

رواه الترمذي برقم (3410)، وصححه الألباني (تحقيق مشكاة المصابيح 2/ 743).

(2)

رواه أحمد برقم (27089)، والترمذي برقم (3486)، وحسنه الألباني (صحيح الجامع 2/ 753).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (22/ 506).

(4)

رواه النَّسائي في السنن الكبرى برقم (9928)، وصححه المنذري في كتابه: الترغيب والترهيب برقم (2373)، وابن عبدالهادي (المحرر 1/ 198)، وابن القيم (زاد المعاد 1/ 303).

ص: 92

روحه- أنه قال: ما تركتها عقيب كل صلاة»

(1)

.

6 -

قراءة المعوذتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .

لحديث عُقْبَةَ بن عامر رضي الله عنه قال: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ»

(2)

.

هذه جملة من سُنَن الصلاة التي يُستحب للمصلِّي أن يأتي بها، وما زلنا في وقت الفجر، وإنما عرضنا لما سبق؛ لحاجتنا لاستحضاره في كل موضع للصلاة - والله أعلم-.

ومما نُهيَ عنه في هذا الباب:

الالتفات، ورفع البصر إلى السماء، والإقعاء المنهي عنه، وافتراش الذراعين في السجود، والعبث بأي شيء، ووضع اليد في الخاصرة، والصلاة وهو يدافع الأخبثين، والصلاة بحضرة طعام، والصلاة وأمامه ما يلهيه عن صلاته، وصلاة كنقر الغراب، وبروك للسجود كبروك البعير، والكلام في الصلاة، ومسابقة الإمام، وكفت الثياب والشعر.

‌ط- من السُّنَّة الجلوس بعد الفجر في المصلَّى حتى تطلع الشمس.

عن جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلاَّهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَناً»

(3)

.

وفي لفظ لمسلم عن سمَاكِ بن حَرْب رضي الله عنه قال: «قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ

(1)

انظر: زاد المعاد (1/ 285).

(2)

رواه أبو داود برقم (1525)، وقال الألباني:«قلت إسناده صحيح، وصححه ابن خزيمة وابن حبان» صحيح أبي داود (5/ 254).

(3)

رواه مسلم برقم (670)، و «حَسَناً» أي: مرتفعة.

ص: 93

سَمُرَةَ: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، كَثِيراً، كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلاَّهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَضْحَكُونَ، وَيَتَبَسَّمُ»

(2)

.

(2)

رواه مسلم برقم (670).

ص: 94

‌أَذْكَار الصَّباح:

ووقت أذكار الصباح يبدأ من: طلوع الفجر، فإذا أذَّن المؤذِّن لصلاة الفجر بدأ وقت أذكار الصباح، ولاشك أنَّ الأذكار حصن حصين للعبد في الدنيا وكنز عظيم له في الآخرة، وسيأتي الكلام على وقت أذكار الصباح والمساء ابتداءً وانتهاءً، في مباحث وقت العصر -بإذن الله تعالى-.

أذكار الصباح، والمساء هي:

1) «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، مَنْ قَالَهَا عَشر مَرَّاتٍ حِينَ يُصْبِحُ كُتِبَ لَهُ بِهَا مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ بِهَا مِائَةُ سيئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ عَدْلَ رَقَبَةٍ، وَحُفِظَ بِهَا يَوْمَئِذٍ حَتَّى يُمْسي، وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسي كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ»

(1)

.

2) «أَمْسينَا وَأَمْسى الْمُلْكُ لِلَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَخَيْرِ مَا فِيهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شرهَا وَشر مَا فِيهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ، وَالْهَرَمِ، وَسُوءِ الْكِبَرِ، وَفِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ الْقَبْرِ» ، وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا: «أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ

أسْأَلُكَ خَيْرِ مَا فِي هَذَا الْيَوم وَخَيْر مَا بعدِه، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شر مَا فِي هَذا اليَوم وَشر مَا بَعْدِه

»

(2)

.

(1)

رواه أحمد برقم (8719). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسَّن إسناده ابن باز -رحمه الله تعالى-.

(2)

رواه مسلم برقم (2723). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 95

3) سيد الاستغفار: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شر مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» . قَالَ صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسي فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»

(1)

.

4) إذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: «اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسينَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ، وَإِذَا أَمْسى فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بِكَ أَمْسينَا وَبِكَ أَصْبَحْنَا وَبِكَ نَحْيَا وَبِكَ نَمُوتُ وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ»

(2)

.

5) «اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ رَبَّ كُلِّ شيءٍ وَمَلِيكَهُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شر نَفْسي وَمِنْ شر الشيطَانِ وَشركِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسي سُوءًا، أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ» ، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا أَمْسيتَ، وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ»

(3)

، أنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال:«يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِكَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسيتُ» فعلَّمه الذِّكر السَّابق، والحديث رواه أيضاً البخاري رحمه الله في الأدب المُفْرَد

(4)

.

(1)

رواه البخاري برقم (6306). من حديث شدَّاد بن أوس رضي الله عنه.

(2)

رواه أبو داود برقم (5068)، والترمذي برقم (3391)، والنَّسَائي السُّنن الكبرى برقم (9836)، وابن ماجه برقم (3868). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصحَّح إسناده ابن باز رحمه الله.

(3)

رواه الإمام أحمد (6597)، وأبو داود (5076)، والترمذي (3529)، والنَّسَائي (7699). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري في الأدب المفرد (1/ 412/ 1202). وصحح إسناده ابن باز رحمه الله.

ص: 96

6) «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضر مَعَ اسْمِهِ شيءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَمْ يَضرهُ شيءٌ»

(1)

.

7) «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَقُولُ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: رَضيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا، إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضيهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

(2)

.

وفي صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ رَضي بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ»

(3)

.

8) لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُصْبِحُ، وَحِينَ يُمْسي:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي»

(4)

.

9) «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شر مَا خَلَقَ»

(5)

.

(1)

رواه الإمام أحمد برقم (446)، والترمذي برقم (10179)، وابن ماجه برقم (3869). من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال ابن باز رحمه الله:«وقال الترمذي: حسن صحيح، وهو كما قال رحمه الله» .

(2)

رواه الإمام أحمد برقم (18967)، والترمذي برقم (3389)، وابن ماجه برقم (3870). من حديث ثوبان رضي الله عنه، وحسَّن إسناده ابن باز رحمه الله.

(3)

رواه مسلم برقم (1884).

(4)

أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (4785)، وأبو داود برقم (5074)، والنَّسَائي -الكبرى- برقم (10401)، وابن ماجه برقم (3871)، وصححه الحاكم. من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(5)

رواه أحمد برقم (7898)، والترمذي برقم (3437). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وحسَّن إسناده ابن باز رحمه الله.

ص: 97

وأخرج مسلم في صحيحه، عن خولة بنت حكيم رضي الله عنها أنها قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شر مَا خَلَقَ؛ لَمْ يَضرهُ شيءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ»

(1)

.

10) كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

إِذَا أَصْبَحَ يَقُولُ: «أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشركِينَ» (6).

وإذا أمسى يقول: «أمسينا على فطرة الإسلام

».

كل ما سبق من أذكار الصباح والمساء في: رسالة للشيخ ابن باز رحمه الله اسمها: [تُحفة الأخيار ببيان جملة نافعة مما ورد في الكتاب والسُّنَّة من الأدعية والأذكار] فصلٌ في أذكار الصباح والمساء.

11) «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسي طَرْفَةَ عَيْنٍ»

(2)

.

12) «مَنْ قالَ إِذَا أصْبَحَ وإِذَا أَمْسى: حَسْبِيَ الله لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرشِ الْعَظِيمِ، سَبْعَ مَرَّاتٍ؛ كَفَاهُ الله مَا أَهَمَّهُ»

(3)

.

(1)

رواه مسلم برقم (2708).

(6)

رواه أحمد برقم (15367، 21144). من حديث عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه، وصحح إسناده ابن باز رحمه الله

(2)

رواه النسائي برقم (10405)، والبزَّار (2/ 282). من حديث أنس رضي الله عنه، وحسنه ابن حجر والألباني (انظر: نتائج الأفكار ص 177، وسلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 449).

(3)

رواه أبو داود برقم (5081). من حديث أَبِي الدَّرداء رضي الله عنه، والراجح وقفه ورجاله ثقات، وله حكم الرفع كما ذكر الألباني (انظر: السلسلة 11/ 449).

ص: 98

‌ثالثاً: وقت الضُّحى

يُسَنُّ في وقت الضحى أن يُصلِّي العبد صلاة (الضحى)، قال أبو هريرة رضي الله عنه:«أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ صيامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ»

(1)

.

واختلف العلماء رحمهم الله في سُنيَّة صلاة الضُّحى على أقوال:

القول الأول: أنَّ صلاة الضحى تُسَنّ غِبَّاً -أي تُفعَل في بعض الأحيان-.

واستدلوا بِ: حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى حَتَّى نَقُولَ لَا يَدَعُهَا، وَيَدَعُهَا حَتَّى نَقُولَ لَا يُصَلِّيهَا»

(2)

، وهو ضعيف؛ لأنَّ في إسناده: عطيَّة بن سعيد العوفي.

قال عنه الدارقطني: «مضطرب الحديث» ، وقال الذهبي:«مجمع على ضعفه»

(3)

.

القول الثاني: أنَّها ليست بمشروعة، بل بدعة.

واستدلوا بِ: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا»

(4)

، وجاء عند البخاري أيضاً عن

(1)

رواه البخاري برقم (1981)، ومسلم برقم (721).

(2)

رواه أحمد برقم (11155)، والترمذي برقم (477).

(3)

العلل للدارقطني (4/ 6)، والمغني في الضعفاء للذهبي (2/ 436).

(4)

رواه البخاري (1177).

ص: 99

مُوَرِّق العُجلي قال: «قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَتُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا إِخَالُهُ»

(1)

. -أي لا أظنه-.

والقول الثالث: أنه يُسَنّ أن يصلِّي الضحى إذا لم يقم من الليل، أمَّا إن قام الليل فإنه لا يُصلِّي الضحى، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(2)

.

والقول الرابع: أنها تُفعل لسبب من الأسباب؛ لأنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فعلها لسبب من الأسباب، كقدومه من سفر، وفتحه مكة، وزيارته لقوم، كما في حديث عتبان رضي الله عنه المتفق عليه

(3)

، وإتيانه مسجد قباء، ونحو ذلك، واختاره ابن القيم رحمه الله.

والأظهر -والله أعلم-: أنَّ صلاة الضحى سُنَّة مطلقاً، وهو قول أكثر أهل العلم رحمهم الله، واختاره شيخنا ابن عثيمين

(4)

.

ويدلّ عليه:

أ. حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ: صيامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ» ، وأيضاً أوصى بها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا الدرداء رضي الله عنه كما عند مسلم

(5)

، وأوصى بها أبا ذر رضي الله عنه كما في سنن النَّسَائي

(6)

.

(1)

رواه البخاري برقم (1175).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (22/ 284).

(3)

رواه البخاري برقم (840)، ومسلم برقم (33).

(4)

انظر: الممتع (4/ 83).

(5)

رواه مسلم برقم (722).

(6)

رواه النسائي في السنن الكبرى برقم (2712)، وصححه الألباني (الصحيحة 2166).

ص: 100

ب. حديث أَبي ذر رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجَزِاءُ، مِنْ ذلِكَ، رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى»

(1)

.

(والسُّلَامى): هي العظام المنفصل بعضها عن بعض.

وجاء في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها بيان أنَّ كل إنسان خلق على ثلاثمائة وستين مفصل، وأنَّ من جاء بهذا العدد من الصدقات فإنه يمشي يومئذٍ وقد زحزح نفسَه عن نار جهنم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ. فَمَنْ كَبَّرَ اللّهَ، وَحَمِدَ اللّهَ، وَهَلَّلَ اللّهَ، وَسبَّحَ اللّهَ، وَاسْتَغْفَرَ اللّهَ، وَعَزَلَ حَجَراً عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْماً عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِمِائَةِ السُّلَامَى، فَإِنَّهُ يَمْشي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ»

(2)

.

-‌

‌ وقتها:

يبدأ: وقت صلاة الضُّحى من: ارتفاع الشمس قدر رمح -أي بعد خروج وقت النَّهي.

وينتهي: قبيل الزَّوال -أي قبل دخول وقت الظهر بعشر دقائق تقريباً-.

ويدلّ عليه: حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه: «صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصر عَنِ الصَّلَاةِ حِيْنَ تَطْلُعَ الشَّمْسُ حتى تَرْتَفِعِ

، ثُمَّ صَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ

(1)

رواه مسلم برقم (720).

(2)

رواه مسلم برقم (1007).

ص: 101

مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ، حتى يَسْتَقِلَّ الظِّلَّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصر عَنِ الصَّلَاةِ، فإنَّه حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ

»

(1)

.

-و‌

‌أفضل وقتها:

في آخر وقتها، وذلك حين تَرْمضُ الفصال.

ويدلّ عليه: حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «صَلَاةُ الأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمضُ الْفِصَالُ»

(2)

.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: «معنى تَرْمضُ: أي يشتد عليها حر الشمس، والفِصَال: هي أولاد الإبل، وهي من الصلوات التي فعلها آخر الوقت أفضل»

(3)

.

وقال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «ومعنى تَرْمضُ: أي تقوم من شِدَّة حرِّ الرمضاء، وهذا يكون قبيل الزوال بنحو عشر دقائق» (5).

-‌

‌ فضلها:

1 -

أنَّها وصية النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة، كـ: أبي هريرة، وأبي الدرداء، وأبي ذر رضي الله عنهم كما سبق، والنَّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أوصى أحداً بشيء فهي وصية لجميع الأمَّة، كما أن أمره لشيء، ونهيه عن شيء، هو موجَّهٌ لجميع الأمَّة، حتى يأتي دليل يدلّ على الخصوصية، ولا دليل هنا فهي وصية لجميع الأمة -والله أعلم-.

2 -

أنها تعدل ثلاثمائة وستين صدقة، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه السَّابق عند مسلم.

(1)

رواه مسلم برقم (832).

(2)

رواه مسلم برقم (748).

(3)

فتاوى إسلامية (1/ 515).

(5)

الممتع (4/ 88)

ص: 102

3 -

أنَّها علامة على أنَّ العبد أوَّاب -أي رجَّاع إلى ربه-، لاسيما إذا صلاها في وقتها الفاضل، وهو آخر الوقت، كما في حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه السَّابق عند مسلم.

4 -

أنها صلاة محضورة، مشهودة، تشهدها الملائكة عليه السلام كما في حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه السَّابق عند مسلم.

قال النَّووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ» -أي تحضرها الملائكة فهي أقرب إلى القبول-، وحصول الرحمة

(1)

.

‌فائدة:

روى أحمد وأبو داود حديث نُعَيْمِ بْنِ هَمَّارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَقُولُ اللهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تُعْجِزْنِي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي أَوَّلِ نَهَارِكَ، أَكْفَكَ آخِرَهُ)

(3)

وأخرجه الترمذي من حديث أبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي ذَرِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللَّهِ تبارك وتعالى أَنَّهُ قَالَ: ابْنَ آدَمَ الكَعْ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفَكَ آخِرَهُ

(4)

، واختلف العلماء في المراد بهذه الأربع ركعات فذهب بعضهم إلى أن المراد ركعتين ركعتين من صلاة الضحى، وذهب بعضهم إلى أن المراد بها صلاة الفجر، سنتها قال ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذه الأربع عندي هي الفجر وسنتها

(5)

، وقال الشوكاني:«قيل:» يحتمل أن يراد بها فرض الصبح وركعتا الفجر؛ لأنها هي التي في أول النهار حقيقة ويكون معناه: كقوله: من صلى الصبح فهو في

(1)

شرح النووي لمسلم، حديث (832)، باب إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه.

(2)

رواه أحمد في مسنده (22469)، وأبو داود في سننه (1289).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه برقم (475) والحديث حسنه الذهبي في السير (9/ 323)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4339).

(4)

زاد المعاد (1/ 348).

(5)

رواه مسلم برقم (719).

ص: 103

ذمة الله. قال العراقي

وعلى تقدير أن يكون النهار من طلوع الفجر فلا مانع من أن يراد بهذه الأربع الركعات بعد طلوع الشمس، لأن ذلك الوقت ما خرج عن كونه أول النهار، وهذا هو الظاهر من الحديث وعمل الناس، فيكون المراد بهذه الأربع ركعات صلاة الضحى

(1)

وحاصل ما تقدم أنه يحتمل أن يكون المراد بهذه الأربع صلاة الصبح وسنتها، ويحتمل أن يراد بها صلاة الضحى وينبغي للعبد أن يحافظ على أربع ركعات من الضحى ركعتين ركعتين من بعد شروق الشمس وارتفاعها مع محافظته على صلاة الفجر وسنتها؛ لينال هذا الكفاية العظيمة من الله تعالى ومعنى قوله:«أَكْفِكَ آخِرَهُ» : ي أنه يكون في حفظ الله تعالى، فيحفظه من شر ما يقع في آخر هذا اليوم مما يضره في دينه ودنياه، والله أعلم

(2)

.

-‌

‌ عدد ركعاتها:

أقلُّ صلاة الضحى: ركعتان؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين: «أوْصَانِيْ خَلِيْلِيْ بِثَلاث -وذكر منها- ورَكعتَيِ الضُّحى»

(3)

.

- وأمَّا أكثر صلاة الضحى فالصحيح: أنه لا حدَّ لأكثرها، خلافاً لمن حدَّها بثمان ركعات، فله أن يزيد على ثمان إلى ما يفتح الله تعالى به عليه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، قالت:«كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعَاً، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللّهُ»

(4)

.

(1)

نيل الأوطار (3/ 79).

(2)

انظر عون المعبود (4/ 118)، وفيض القدير (4/ 615).

(3)

رواه البخاري برقم (1981)، ومسلم برقم (721).

(4)

رواه مسلم برقم (719).

ص: 104

‌رابعاً: وقت الظهر

فيه عِدَّة أمور:

‌الأمر الأول: صلاة سُنَّة الظهر القبلية، والبعدية.

وتقدَّم عند الكلام على السُّنن الرَّواتب، أنه يُشرع قبل الظهر أربع ركعات، وبعدها ركعتين، كما دلَّ على ذلك حديث عائشة، وأم حبيبة، وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين-.

وجاء في سنن أبي داود، والترمذي، والنَّسَائي، وابن ماجه، وفي مسند الإمام أحمد حديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ صَلَّى أَرْبَعَ ركعاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبعاً بَعْدَها، حَرَّمَ الله عَلَيْهِ النَّارَ»

(1)

.

والحديث من رواية مكحول عن عنبسة، والحديث ضعيف؛ لأن فيه انقطاعاً بين مكحول وعنبسة، كما قال أبو زُرعة، والنَّسَائي، والمنذري

(2)

، وأعلَّه ابن القطان، ومن أهل العلم من صححه، والمحفوظ عن أم حبيبة رضي الله عنها اثنتا عشرة ركعة، وهي السُّنَن الرواتب كما عند مسلم، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشرةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ»

(3)

. وقد سبق الحديث عن السُّنَن الرواتب.

(1)

رواه أبو داود برقم (1269)، والترمذي برقم (428)، والنسائي برقم (1813)، وابن ماجه برقم (1160)، وأحمد برقم (27403).

(2)

الترغيب والترهيب (1/ 451).

(3)

رواه مسلم برقم (728).

ص: 105

‌الأمر الثاني: من السُّنَة تطويل الركعة الأولى من صلاة الظهر.

لحديث أبي سعيد الخدريِ رضي الله عنه قال: «لَقَدْ كَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقْضي حَاجَتَهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَأْتِي وَرَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم في الركْعَةِ الأُولَى، مِمَّا يُطَوِّلُهَا»

(1)

.

وعليه فإنَّ من السُّنَّة للإمام أن يطوِّل الركعة الأولى من الظهر، وكذلك من صلَّى منفرداً، وكذلك المرأة في بيتها، وهذه من السُّنن المندثرة، نسأل الله تعالى تطبيق السُّنَّة على الوجه الأكمل، والحرص عليها.

‌الأمر الثالث: القيلولة.

بالاتفاق أنَّ القيلولة هي: النوم والاستراحة نصف النهار.

ولكنَّ الخلاف أين تكون من نصف النهار؟

على قولين:

قيل: قبل الزوال. وقيل: بعد الزوال.

والأظهر -والله أعلم-: أنَّ الأمر فيه واسع، وأن ما قبل وبعد الزوال يدخل في القيلولة.

‌واختُلِف هل من السُّنَّة فعلها؟

على قولين، والأظهر-والله أعلم-: أنها ليست من السُّنَّة، بل هي ممّا كانوا يفعلونها عادة؛ ولحاجتهم الراحة نصف النَّهار، لاسيما إذا علمنا أنهم يبدأون أعمالهم من أول النَّهار، فيحتاجون للقيلولة وسطه، ولذا جاءت النُّصوص التي تبيِّن أنهم كانوا يقيلون، لكن الأمر بالقيلولة الأحاديث فيه ضعيفة، لا يصحّ منها شيء، وإنما القيلولة من الأشياء

(1)

رواه مسلم برقم (454).

ص: 106

المتعارف عليها منذ عهد النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا الحاضر، ومن أراد النَّوم في النهار، فأفضل وقت وأنفعه هو: وقت القيلولة.

قال ابن حجر رحمه الله: «وأخرج ابن ماجه، وابن خزيمة، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: استعينوا على صيام النهار بالسحور، وعلى قيام الليل بالقيلولة» ، وفي سنده زمعة بن صالح وفيه ضعف، وقد تقدَّم شرح حديث سهل رضي الله عنه المذكور في الباب في أواخر كتاب الجمعة، وفيه إشارة إلى أنهم كانت عادتهم ذلك في كل يوم، وورود الأمر بها في الحديث الذي أخرجه الطبراني في الأوسط، من حديث أنس رضي الله عنه رفعه، قال:«قِيلُوا فَإِنَّ الشياطِين لَا تَقِيل» ، وفي سنده (كثير بن مروان) وهو متروك، وأخرج سفيان بن عيينة في جامعه من حديث خوات بن جبير رضي الله عنه موقوفاً، قال:«نَوْم أَوَّل النَّهَار خَرْق، وَأَوْسَطه خَلْق، وَآخِره حُمْق، وسنده صحيح»

(1)

، والخرق: الجهل؛ وذلك لأنَّ البركة في أول النهار، ومن نام فيه فقد أضاع بركته، وهذا من جهله.

‌الأمر الرابع: يُسنُّ عند شِدَّة الحر تأخير صلاة الظهر حتى ينكسر الحر.

ويدلّ عليه:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ

(2)

»

(3)

.

قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «أمَّا ما كان الناس يفعلونه من قبل، حيث يصلُّون بعد زوال الشمس بنحو نصف ساعة أو ساعة، ثم يقولون:

(1)

الفتح، حديث (6279)، باب القائلةِ بعدَ الجمعة (11/ 70).

(2)

فيح جهنم: هو غليانها، وانتشار لهبها، ووهجها.

(3)

رواه البخاري برقم (533، 534)، ومسلم برقم (615).

ص: 107

هذا إبراد، فليس هذا إبراداً! هذا إحرار؛ لأنه معروف أنَّ الحرّ يكون أشد ما يكون بعد الزوال بنحو ساعة، فإذا قدَّرنا مثلاً أنَّ الشمس في أيام الصيف تزول على الساعة الثانية عشرة، وأنَّ العصر على الساعة الرابعة والنِّصف تقريباً، فيكون الإبراد إلى الساعة الرابعة تقريباً»

(1)

.

والإبراد عام لمن يصلِّي في جماعة، ولمن يصلِّي وحده على الصحيح، وعليه يُسنُّ الإبراد للمرأة في بيتها أيضاً؛ لعموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين رحمه الله.

(1)

الممتع (2/ 104).

ص: 108

‌خامساً: وقت العصر

‌هل يُسَنُّ قبل العصر شيءٌ من النوافل؟

تقدَّم الكلام على السُّنَن الرواتب وبيانها، وليس قبل العصر منها شيء، وورد عند أحمد، وأبي داود، والترمذي، من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ الله امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصر أَرْبَعاً»

(1)

.

وهذا الحديث مروي من طرق عن أبي داود الطيالسي، عن محمد بن إبراهيم بن مسلم، عن جدِّه مسلم بن مهران عن ابن عمر به، والحديث مداره على (محمد بن إبراهيم بن مسلم بن مهران بن المثنى) وهو متكلَّم فيه.

قال الذهبي رحمه الله في الميزان: «قال الفلاس: يروي عنه أبو داود الطيالسي مناكير» ، وقال عنه أبو زُرعة رحمه الله:«واهٍ، وليَّنه ابن مهدي»

(2)

.

قال ابن القيِّم رحمه الله: «وقد اختلف في هذا الحديث، فصححه ابن حبان، وعلله غيره، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: سألت أبا الوليد الطيالسي، عن حديث محمد بن مسلم بن المثنى، عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ الله امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصر أَرْبَعاً» ، فقال:«دع ذا» ،

(1)

رواه أحمد برقم (5980)، وأبو داود برقم (1271)، والترمذي برقم (430).

(2)

الميزان (4/ 26).

ص: 109

فقلت: إن أبا داود قد رواه، فقال: قال أبو الوليد: كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: «حفظت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، في اليوم والليلة» ، فلو كان هذا لعَدَّه، قال أبي: كان يقول: «حفظت ثنتي عشرة ركعة»

(1)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأمَّا قبل العصر، فلم يقل أحد أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي قبل العصر، إلا فيه ضعف، بل خطأ»

(2)

.

وعليه فالصواب -والله أعلم-: أنه لا يُسَنُّ سُنَّة مقيَّدة قبل العصر، وإنما يبقى الأمر مطلقاً فمن شاء أن يُصلِّي ركعتين، أو أكثر من ذلك من قبيل التطوع المطلق، كما يصلِّي في غيرها من الأوقات سوى أوقات النَّهي فله ذلك، وأمَّا شيء مقيَّد قبل العصر فلا.

‌أذكار الصباح المساء

متى يبتدئ وقت أذكار الصَّباح، والمساء؟

‌وقت أذكار الصَّباح:

يبدأ من طلوع الفجر الصادق الذي هو وقت صلاة الفجر، فإذا أذَّن المؤذِّن لصلاة الفجر ابتدأ حينئذ وقت أذكار الصَّباح، وهذا قول عامة العلماء رحمهم الله.

وهناك قول آخر: أنَّ ابتداءها يكون من نصف الليل الأخير.

والصَّواب: قول عامَّة أهل العلم وهو طلوع الفجر، وسيأتي ما يدلّ على ذلك في كلام ابن القيِّم رحمه الله.

ووقت أذكار الصباح والمساء، ابتداءً وانتهاءً، مما اختلف فيه أهل العلم رحمهم الله؛ لأنه لم يَرِد نصّ مخصوص في تحديد وقتها، فاختلف أهل العلم: متى ينتهي وقت أذكار الصباح؟

(1)

زاد المعاد (1/ 301).

(2)

الفتاوى (23/ 125).

ص: 110

فقيل: بطلوع الشمس، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في الكَلِم الطيِّب، وتلميذه ابن القيم في الوابل الصيب -رحمهما الله-.

وقيل: بغروب الشمس، واختاره ابن الجزري و الشوكاني -رحمهما الله-

(1)

.

والأظهر -والله أعلم-: القول الأول، وأنه ينتهي وقتها بطلوع الشمس، ولكن لا بأس أن يقولها بعد طلوع الشمس، لاسيما إن كان تركها لعذر؛ ولأنَّ ما بعد طلوع الشمس يُسمَّى صباحاً، ولأنه يُحصِّل بذلك فضيلة الذكر، وبركته، وهذا أفضل من تركها، وغفلته بقيَّة يومه.

‌وقت أذكار المساء:

اختلف أهل العلم رحمهم الله في ابتداء وقت أذكار المساء، وانتهائه:

فقيل: من زوال الشمس إلى غروب الشمس وأول الليل، وبه أفتت اللجنة الدائمة

(2)

.

وقيل: بعد العصر إلى غروب الشمس، واختاره ابن تيمية، وابن القيم، وهو ظاهر كلام النَّووي في كتابه الأذكار

(3)

.

وقيل: بعد غروب الشمس وينتهي بطلوع الفجر على قول بعضهم، كابن الجزري، والشوكاني

(4)

.

وقيل: إلى ثلث الليل.

(1)

انظر: تحفة الذاكرين للشوكاني (1/ 95).

(2)

انظر: «فتاوى اللجنة الدائمة» (24/ 178).

(3)

انظر: الأذكار (87).

(4)

انظر: تحفة الذاكرين (1/ 95).

ص: 111

وقيل: إلى نصف الليل، واختاره صاحب القاموس المحيط، ومنهم من لم يحدِّد وقت انتهاء -رحم الله الجميع-.

والأظهر-والله أعلم-: أنه يبدأ بعد العصر إلى غروب الشمس، ويقال فيه كما قيل في وقت أذكار الصباح، من أنه لا يمنع قولها بعد غروب الشمس، لاسيما إن كان تركها لعذر، ولأنَّ ما بعد غروب الشمس يُسمَّى مساءً، ولأنَّه يحصِّل بذلك فضيلة الذكر، وبركته، وهذا أفضل من تركها، وغفلته بقيَّة يومه.

قال ابن القيِّم رحمه الله: «الفَصْل الأول: في ذِكْر طَرفي النهار، وَهُمَا مَا بَيْن الصبح وطلوع الشمس، وما بين العصر والغروب، قال سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} ، والأصيل قال الجوهري: هو الوقت بعد العصر إلى المغرب

، وقال تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} ، فالإبكار أول النهار، والعَشي آخِره، وقال تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ، وهذا تفسير مَا جاء في الأحاديث، مَنْ قَال كذا وكذا حِين يُصْبِح وحِين يُمْسي؛ أنَّ الْمُرَاد بِه قبل طُلوع الشمس، وقبل غروبها، وأنَّ محلّ هذه الأذكار بعد الصبح، وبعد العصر»

(1)

.

وسُئل شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «ما هو وقت أذكار المساء؟ وما هو الوقت الأفضل لها؟ وهل تقضى عند نسيانها؟» .

الجواب: الحمد لله، المساء واسع من بعد صلاة العصر إلى صلاة العشاء كلها يُسمَّى:(مساء)، وسواء قال الذِّكْر في الأول، أو في

(1)

الوابل الصيب ص (186)، وانظر: نحو كلام ابن القيم كلامَ شيخه ابن تيمية في الكلم الطيب.

ص: 112

الآخر، إلا ما ورد تخصيصه بالليل، مثل: آية الكرسي من قرأها في ليله، فالذي يكون مقيَّداً بالليل يقال بالليل، والذي يكون مقيَّداً بالنهار يقال بالنهار، وأمَّا قضاؤها إذا نسيت فأرجو أن يكون مأجورا عليه

(1)

.

* * *

(1)

فتاوى الشيخ ابن عثيمين لمجلة الدعوة العدد (174)(7/ 2/ 1421 هـ) ص (36)، وانظر: أيضاً شرحه لرياض الصالحين (2/ 1533) باب الذكر عند الصباح والمساء.

ص: 113

‌سادساً: وقت المغرب

فيه عِدَّة أمور:

‌الأمر الأول: من السُّنَّة كَفّ الصِّبيان أول المغرب.

‌الأمر الثاني: من السُّنَّة إغلاق الأبواب أول المغرب، وذكر اسم الله تعالى.

وفي فعل هذين الأدبين حفظ من الشياطين والجِنّ، ففي كفِّ الصبيان أول ساعة من المغرب حفظ لهم من الشياطين التي تنتشر ذلك الوقت، وكذا في إغلاق الباب هذه الساعة وذكر اسم الله تعالى عند إغلاقه، وكم من صبي وبيت تمكَّنت الشياطين منه في هذا الوقت وأهله لا يشعرون، فما أعظم رعاية الإسلام لصبياننا، ولبيوتنا!

ويدلّ عليه: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ -أَوْ أَمْسيتُمْ- فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإنَّ الشيطَانَ يَنْتَشر حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ، فَإنَّ الشيطَانَ لَا يَفْتَحُ بَاباً مُغْلَقاً»

(1)

، وجنح الليل هو: إقباله بعد غروب الشمس.

وفي رواية لمسلم: «لَا تُرْسِلُوا فَوَاشيكُمْ، وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، حَتَّى تَذهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، فَإِنَّ الشياطِينَ تَنْبَعِثُ إِذَا غَابَتِ

(1)

رواه البخاري برقم (3304)، ومسلم برقم (2012).

ص: 114

الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ»

(1)

.

قال النَّووي رحمه الله: «فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ» أي امنعوهم من الخروج ذلك الوقت.

قوله صلى الله عليه وسلم: «فَإنَّ الشيطَانَ يَنْتَشر» أي جنس الشيطان، ومعناه: أنه يُخاف على الصبيان ذلك الوقت من إيذاء الشياطين؛ لكثرتهم حينئذٍ -والله أعلم-.

قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُرْسِلُوا فَوَاشيكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، فَإِنَّ الشياطِينَ تَنْبَعِثُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ» .

قال أهل اللغة: (الفواشي): كل منتشر من المال، كـ: الإبل، والغنم، وسائر البهائم، وغيرها وهي جمع (فاشية)؛ لأنها تفشوا -أي تنتشر في الأرض-.

و (فحمة العشاء): ظلمتها، وسوادها، وفسرها بعضهم هنا: بإقباله، وأول ظلامه، وكذا ذكره صاحب نهاية الغريب، قال: ويقال: للظلمة التي بين صلاتي المغرب والعشاء (الفحمة)، وللتي بين العشاء والفجر (العسعسة)»

(2)

.

وبعدما تذهب مُدَّة من دخول الليل لا بأس بإطلاق الصبيان؛ لأنَّ الوقت الذي تنتشر فيه الشياطين قد ذهب، وقد يُفهم من هذا -والله أعلم- أنَّ الشياطين بعد هذه المُدَّة وجدت مأوى لها.

(1)

رواه مسلم برقم (2013).

(2)

شرح النووي لمسلم، حديث (2012)، باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء

).

ص: 115

والحكمة من انتشار الشياطين في هذا الوقت دون النهار، كما ذكر ابن حجر رحمه الله:«لأنَّ حركتهم في الليل أمكن منها لهم في النهار؛ لأن الظلام أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وكذلك كل سواد»

(1)

.

قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: وفي هذا الحديث الأمر بغلق الأبواب من البيوت في الليل، وتلك سُنَّة مأمور بها، رفقا بالناس؛ لشياطين الإنس والجن، وأمَّا قوله:«فَإِنَّ الشيطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا غَلَقًا، وَلَا يَحُلُّ وِكَاءً» فذلك إعلام منه، وإخبار عن نِعَم الله عز وجل على عباده من الإنس، إذ لم يُعْطَ قوة على فتح باب، ولا حل وِكَاء، ولا كشف إناء، وأنه قد حُرِم هذه الأشياء، وإن كان قد أعطي ما هو أكثر منها من التخلل، والولوج حيث لا يلج الإنس»

(2)

.

وقال الخطيب الشربيني الشافعي رحمه الله: «ويُسَنّ إذا جنّ الليل تغطية الإناء ولو بعرض عود، وإيكاء السقاء، وإغلاق الأبواب مسمياً الله تعالى في الثلاثة، وكفّ الصبيان، والماشية أول ساعة من الليل، وإطفاء المصباح للنوم»

(3)

.

- وكفِّ الصبيان، وإغلاق الأبواب أول المغرب إنما هو من باب الاستحباب

(4)

.

‌الأمر الثالث: صلاة ركعتين قبل المغرب.

لحديث عبد اللّه بن مُغَفَّل المُزني رضي الله عنه عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ» ، -قَالَ فِي الثَّالِثَةِ:«لِمَنْ شَاءَ» ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا

(1)

فتح الباري، حديث (3280)، باب صفةِ إبليسَ وجنودهِ.

(2)

الاستذكار (8/ 363).

(3)

مغني المحتاج (1/ 31).

(4)

انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (26/ 317).

ص: 116

النَّاسُ سُنَّةً

(1)

.

- وأيضاً حديث أنسٍ رضي الله عنه قال: «لَقَدْ رَأَيْتُ كِبَارَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ»

(2)

، عن أنس بن مالِك رضي الله عنه قال:«كُنَّا بِالْمَدِينَةِ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ، فَيَرْكَعُونَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَحْسِبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ صُلِّيَتْ، مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا»

(3)

. ويبتدرون: أي يسارعون، إلى السواري ليجعلوها سترة، وفي هذا بيان محافظتهم على اتخاذ السترة.

قال ابن القيِّم رحمه الله: «وفي الصحيحين عن عبد الله المزني رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب» ، قال في الثالثة:«لمن شاء» ، كراهة أن يتخذها الناس سنة، وهذا هو الصواب أنهما سنتان مندوب إليهما، وليستا بسُّنَّة راتبة كسائر السُّنَن الرواتب»

(4)

.

- وأيضاً يُسَنُّ صلاة ركعتين بين كل أذان، وإقامة.

وسواء كانت هاتان الركعتان راتبة كالفجر، والظهر، فإنه يكفي بصلاته الراتبة عن هاتين الركعتين، أو كأن يكون جالساً في المسجد، ثم أذَّن المؤذِّن لصلاة العصر، أو العشاء فإن من السُّنَّة أن يقوم، ويصلي ركعتين.

ويدلّ عليه: حديث عبد اللّه بن مُغَفَّل الْمُزَنِي رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» قالها ثلاثاً، قال في الثالثة:«لِمَنْ شَاءَ»

(5)

.

(1)

رواه البخاري (7368).

(2)

رواه البخاري برقم (503).

(3)

رواه مسلم برقم (837).

(4)

زاد المعاد (1/ 312).

(5)

رواه البخاري برقم (624)، ومسلم برقم (838).

ص: 117

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: «المشروع لكل مسلم أنَّ يصلِّي ركعتين بين الأذانين، سواء كانت الركعتان راتبة، أو غير راتبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ:«لِمَنْ شَاءَ» . متفق على صحته، وهذا يعم جميع الصَّلوات، والمراد بالأذانين: الأذان والإقامة، فدلّ هذا الحديث وما جاء في معناه على شرعيَّة صلاة الركعتين بين الأذانين، وإذا كانت راتبة كسُنَّة الفجر، والظهر كَفت»

(1)

.

ولاشك أنَّ الركعتين قبل المغرب، أو بين كل أذانين ليست مؤكَّدة كتأكيد السُّنَن الرواتب، وإنما تترك أحياناً، ولذا قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الثالثة:«لِمَنْ شَاءَ» ؛ كراهية أنْ يَتَّخذها الناس سُنَّة.

‌الأمر الرابع: يُكرَه النوم قبل العشاء.

لحديث أبي بَرْزَة الأسْلَميِّ رضي الله عنه: «أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ، قَالَ: وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا»

(2)

.

والعِّلَّة من كراهة النوم وقت المغرب -أي قبل العِشاء-: لأنَّ في نومه سبب في تفويت صلاة العِشاء.

(1)

مجموع فتاواه (11/ 383).

(2)

رواه البخاري برقم (599)، ومسلم برقم (647).

ص: 118

‌سابعاً: وقت العشاء

فيه عِدَّة أمور:

‌الأمر الأول: يُكره الحديث، والمجالسة بعدها.

لحديث أبي بَرْزَةَ الأسْلَميِّ رضي الله عنه السَّابق، وفيه:«وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا» .

ولا يُكره أن يتحدَّث الإنسان بعد العِشاء إن كان في طلب علم، أو عمل في مصالح المسلمين، أو الشغل، أو مسامرة أهل، وضيف، ونحوه.

ويدلّ عليه:

أ) حديث عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْمُرُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَا مَعَهُمَا»

(1)

.

ب) حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: «بِتُّ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا؛ لِأَنْظُرَ كَيْفَ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ، فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ»

(2)

.

وسبب الكراهة -والله أعلم-: أنَّ نومه يتأخر، فيُخَافُ منه تفويت الصبح عن وقتها، أو عن أولها، أو يفوته قيام الليل ممَّن يعتاده، ولذا ذمَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الرجلُ الذي ينام الليل كله حتى يُصْبِح، ولا يقوم لصلاة

(1)

رواه أحمد برقم (178)، والترمذي وحسنه برقم (169)، وصحح إسناده الألباني (الصحيحة 2781).

(2)

رواه البخاري برقم (7452)، ومسلم برقم (763).

ص: 119

الليل، جاء ذلك في الصحيحين، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ نَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ قَالَ: «ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشيطَانُ فِي أُذُنِيْهِ» . أَوْ قال: «فِي أُذُنِهِ»

(1)

.

والمقصود أنَّ سبب كراهة الحديث بعد العشاء لغير حاجة؛ لأنه سبب في تفويت قيام الليل، وربما صلاة الفجر، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى عن السهر، ويضرب الناس على ذلك، ويقول:«أسَمَراً أول الليل ونوماً آخره»

(2)

.

‌الأمر الثاني: الأفضل في صلاة العِشاء أن تؤخَّر، ما لم يكن في ذلك مشقة على المأمومين.

فالأفضل تأخيرها إلى آخر وقت العشاء، وهذا التأخير يشترط فيه مراعاة المأمومين، وأحوالهم.

ويدلّ عليه:

أ- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ، وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى، فَقَالَ:«إِنَّهُ لَوَقْتُهَا، لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي»

(3)

.

ب- حديث جابر رضي الله عنه وفيه: «وَالْعِشَاءَ، أَحْيَاناً يُؤَخِّرُهَا وَأَحْيَاناً يُعَجِّلُ، كَانَ إِذَا رَآهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَأُوا أَخَّرَ»

(4)

.

ج- حديث أَبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ الَّليْلِ، أَوْ نِصْفِه»

(5)

.

(1)

رواه البخاري برقم (1144)، ومسلم برقم (744).

(2)

رواه عبد الرزاق في مصنفه (1/ 561).

(3)

رواه مسلم برقم (638).

(4)

رواه البخاري برقم (565)، ومسلم برقم (646).

(5)

رواه الترمذي برقم (167)، وابن ماجة برقم (691)، وقال الترمذي: حسن، وصححه الألباني (صحيح الجامع 2/ 939).

ص: 120

وعليه فالسُّنَّة في حق المرأة حيث إنها لا ترتبط بجماعة أن تؤخَّر العِشَاء إذا لم يكن في ذلك مشقة عليها، وكذا الرجل إن لم يكن مرتبطاً بجماعة كأن يكون في طريق سفر، ونحوه.

‌الأمر الثالث من السنة قراءة سورة الإخلاص كل ليلة

؛ لحديث أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَيَعْجِرُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأَ تُلتَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ

تلتَ الْقُرْآنِ" (1).

* * *

(1) رواه مسلم برقم (811)، ورواه البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه برقم (5015).

ص: 121

‌سنن النَّوم

وفي النوم عدة سنن:

‌1) إغلاق الأبواب عند النوم.

لحديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الْأَبْوَابَ وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشرابَ»

(1)

.

والعِلَّة من الأمر بإغلاق الأبواب: منع الشياطين من الدخول، كما تقدَّم في حديث جابر رضي الله عنه الآخر:«وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ، فَإنَّ الشيطَانَ لَا يَفْتَحُ بَاباً مُغْلَقاً»

(2)

.

‌2) إطفاء النار قبل النوم.

لحديث جابر رضي الله عنه السَّابق، وفيه:«أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ إِذَا رَقَدْتُمْ» .

وأيضاً حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ»

(3)

.

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: احْتَرَقَ بَيْتٌ عَلَى أَهْلِهِ بِالْمَدِينَةِ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا حُدِّثَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَأْنِهِمْ قَالَ: «إِنَّ

(1)

رواه البخاري برقم (5624)، ومسلم برقم (2012).

(2)

رواه البخاري برقم (5623)، ومسلم برقم (2012).

(3)

رواه مسلم برقم (2015).

ص: 122

هذِهِ النَّارُ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ»

(1)

.

والعِلَّة من الأمر بإطفاء النار قبل النوم: جاءت في حديث جابر رضي الله عنه في رواية البخاري قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ»

(2)

.

و (الفويسقة): هي الفأرة، وهي من الفواسق الخمس، اللاتي يُقْتَلن في الحِلْ والحَرَم، فربما تَجُر فتيل المصباح، ثم تحرق على أهل البيت بيتهم، وعليه يُقاس أي شيء يكون سبباً في جرِّ الحريق لأهل البيت، فيُحترز مثلاً من الأشياء التي ربما تؤثر على وسائل التدفئة؛ لقربها منها، فتكون سبباً في اشتعال الحريق ونحو ذلك؛ لأنَّ العِّلَّة واحدة، والنار عدوٌّ كما أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.

وبناءً عليه: لو أَمِن النائم هذه النار، وأنها لن تؤثر، وليس حولها ما يسبب انتشارها، فلا بأس حينئذ من إبقائها؛ لأنَّ الحكم يدور مع عِلَّته وجوداً، وعدماً.

قال النَّووي رحمه الله: «قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ» ، هذا عام تدخل فيه نار السراج وغيرها، وأمَّا القناديل المعلَّقة في المساجد، وغيرها فإن خِيف حريق بسببها دخلت في الأمر بالإطفاء، وإن أُمِن ذلك كما هو الغالب، فالظاهر أنه لا بأس بها؛ لانتفاء العِلَّة؛ لأنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم علَّل الأمر بالإطفاء في الحديث السابق بأن (الفويسقة) تضرم على أهل البيت بيتهم، فإذا انتفت العِلَّة زال المنع»

(3)

.

(1)

رواه البخاري برقم (6294)، ومسلم برقم (2016).

(2)

رواه البخاري برقم (6295).

(3)

شرح النووي لمسلم، حديث (2015)، باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء

ص: 123

وكذا قال ابن دقيق العيد رحمه الله، وبيَّن أن قول الأكثر بأن الأمر للاستحباب لا للوجوب، كما نقله ابن حجر -رحمهما الله-

(1)

.

‌3) الوضوء قبل النوم.

لحديث البَرَاء بن عازب رضي الله عنه أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاة، ثُمَّ اضْطَجِعُ علَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ

»

(2)

.

قال النَّووي رحمه الله: «فإن كان متوضئاً كفاه ذلك الوضوء؛ لأن المقصود النوم على طهارة مخافة أن يموت في ليلته، وليكون أصدق لرؤياه، وأبعد من تلعب الشيطان به في منامه، وترويعه إياه»

(3)

.

‌4) نفض الفراش قبل الاضطجاع عليه.

فمِن السُّنَّة قبل النوم أن ينفض من أراد النوم فراشه بداخلة إزاره ثلاث مرات، ويسمِّ الله تعالى؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي

»

(4)

.

وفي رواية: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ فِرَاشَهُ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ

»

(5)

.

(1)

انظر الفتح، حديث (6293)، باب لا تُترَكُ النارُ في البيت عندَ النوم.

(2)

رواه البخاري برقم (247)، ومسلم برقم (2710).

(3)

شرح النووي لمسلم، حديث (2710)، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.

(4)

رواه البخاري برقم (6320)، ومسلم برقم (2714).

(5)

رواه البخاري برقم (7393).

ص: 124

وعند مسلم: «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ، فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ، فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ، وَلْيُسَمِّ اللّهَ

»

(1)

، وداخلة الإزار، وكذلك صنفة الثوب، هي: طرفه الداخل الذي يلي الجسد.

فمِمَّا تقدَّم، يتبيَّن أنَّ السنَّة نفض الفراش بداخلة الإزار ثلاثاً، والتسمية عند النَّفض.

وفي الحديث بيان الحكمة من النَّفض، وهي: قول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ» ، فربما خلفه على فراشه ما يؤذيه.

والأفضل أن يكون نفضه بداخلة الثوب، ومن أهل العلم من قال بأي شيء، وأهم شيء أن ينفض الفراش، ومنهم الشيخ ابن جبرين رحمه الله، حيث قال:«وليس شرطًا استعمال داخلة الإزار، بل لو نفض الفراش كله، أو نفضه بعمامة أو نحوها، حصل المقصود»

(2)

.

‌5) النوم على الشِّقِّ الأيمن.

‌6) وضع يده اليمنى تحت الخَّد الأيمن.

ويدلَّ على هاتين السُّنَّتين: حديث البَراء بن عَازِبٍ رضي الله عنه، أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاة، ثُمَّ اضْطَجِعُ علَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ

»

(3)

.

وحديث حذيفة رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ

»

(4)

. وعن البَراء رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ»

(5)

.

(1)

رواه مسلم برقم (2714).

(2)

فتوى له في موقعه (2693).

(3)

رواه البخاري برقم (247)، ومسلم برقم (2710).

(4)

رواه البخاري برقم (6314).

(5)

رواه أحمد برقم (18672).

ص: 125

‌7) قراءة أذكار النوم.

وللنوم أذكار من الكتاب، والسُّنَّة:

‌1) فمِن الكتاب:

‌أ- قراءة آية الكرسي.

يُسَنُّ قراءة آية الكرسي عند النوم؛ ففيها حفظ له من الشيطان حتى يصبح.

ويدلّ عليه: قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الذي يسرق من الزكاة، وهو في كل مرَّة يشكو الحاجة والعيال، فلما كررها الثالثة عزم أبو هريرة رضي الله عنه على رفع أمره للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبَنَّكَ شيطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا فَعَلَ أَسيرُكَ الْبَارِحَةَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ:«مَا هِيَ؟» قُلْتُ: قَالَ لِي إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسي مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبَكَ شيطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شيءٍ عَلَى الْخَيْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ذَاكَ شيطَانٌ»

(1)

.

(1)

رواه البخاري معلقا برقم (2311)، ووصله النسائي في السنن الكبرى برقم (10795).

ص: 126

‌ب- قراءة الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة.

لحديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي لَيْلَةٍ، كَفَتَاهُ»

(1)

، والآيتان من آخر سورة البقرة ليستا من أذكار النَّوم على وجه الخصوص، وإنما ذِكرٌ يُقال في الليل، فمن لم يقرأهما بالليل، وتذكَّر ذلك عند نومه، فليقرأهما حينئذ.

واختُلف في معنى (كَفَتَاهُ):

فقيل: كفتاه من قيام الليل. وقيل: كفتاه من الشيطان.

وقيل: كفتاه من الآفات. ويحتمل الجميع كما قال النَّووي رحمه الله

(2)

.

‌ج- قراءة سورة الإخلاص، والمعوذتين، والنفث بها في الكَفَّين، ثم مسح الجسد بهما ثلاث مرَّات.

ويدلّ عليه: حديث عائشة رضي الله عنها: «كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ فِيهِمَا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ»

(3)

.

ويُستفاد من الحديث السَّابق: أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُطَبِّق هذه السُّنَّة كل ليلة؛ لقول عائشة رضي الله عنها: «كُلَّ لَيْلَةٍ» ، وأنَّ مَنْ أراد تطبيق هذه السُّنَّة فإنه

(1)

رواه البخاري برقم (4008)، ومسلم برقم (807).

(2)

شرح النووي لمسلم، حديث (808)، باب: (فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة

).

(3)

رواه البخاري (5017).

ص: 127

يجمع كفيه، ثم ينفث فيهما بالإخلاص والمعوذتين، ثم يمسح ما استطاع من جسده، مبتدئاً برأسه ووجهه، ويفعل ذلك ثلاث مرَّات.

و (النَّفث) شبيه بـ (النَّفخ)، وهو أخف من (التفل)؛ لأنَّ (التفل) لا يكون إلا معه شيء من الريق، وقيل: إن النفث هو التفل

(1)

.

في الحديث إشكال، وهو: أنَّ ظاهر الحديث يدلّ على أنَّ النَّفث يكون قبل القراءة، فما فائدة (النفث) حينئذٍ؟

من أهل العلم من يرى تقديم (النفث) على القراءة؛ لظاهر الحديث، فإنه بدأ بالنفث، ثم القراءة وهو اختيار الشيخ الألباني رحمه الله، ومنهم من يرى أنَّ النفث يكون بعد القراءة؛ لأنَّ البركة إنما تكون في هذا المنفوث، أو الريق بعدما اختلط بالقرآن.

وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين رحمه الله، وذكر أنَّ (ثُمّ) لا تقتضي الترتيب أحياناً، فقال رحمه الله: «وظاهره: أنه يقرأ مرَّة، ثم يمسح، ثم يقرأ، ثم يمسح، كل واحدة لحالها:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} جميعاً، ثم يمسح، ثم يعيدها جميعاً ثم يمسح، هذا نص

(1)

انظر: لسان العرب، مادة (نفث)، وانظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، مادة (نفث).

ص: 128

الحديث، والذي يظهر -والله أعلم- أن النفث بعد القراءة، و (ثم) أحياناً لا تقتضي الترتيب.

وقد مرَّ علينا قول الشاعر:

إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوه

ثم سَادَ مِنْ بعد ذلك جدُّه

والحكمة من ذلك: أنَّ هذا الريق الذي اختلط بالقراءة هو الذي تكون فيه البركة، والظاهر أنَّ المسح يكون من فوق الثياب

(1)

.

وربما يشهد لذلك رواية البخاري الأخرى: قالت عائشة رضي الله عنها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ»

(2)

.

فظاهر الحديث يدلّ على أنَّ النفث بالسور نفسها لا قبلها، وأفاد هذا الحديث حرص النَّبيّ صلى الله عليه وسلم على هذه السُّنَّة، حيث إنه صلى الله عليه وسلم حتى إذا مرض يفعل ذلك بأمره لعائشة رضي الله عنها، وجاء في الصحيحين ما يدلّ على أنَّ النفث بها ليس فقط عند النَّوم، وإنما أيضاً إذا اشتكى وجعاً، فعن عائشة رضي الله عنها:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ فَلَمَّا اشْتَكَى وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ طَفِقْتُ أَنْفِثُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْفِثُ وَأَمْسَحُ بِيَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ»

(3)

، وفي رواية:«وأَمسَحُ بِيَدِهِ رجاء بركَتها»

(4)

.

(1)

شرح البخاري لشيخنا (6/ 60)، باب فضل المعوذات، الطبعة المصرية، في المكتبة الشاملة.

(2)

رواه البخاري برقم (5748).

(3)

رواه البخاري برقم (4439)، ومسلم برقم (2192).

(4)

رواه البخاري برقم (5016)، ومسلم برقم (2192).

ص: 129

‌د- قراءة سورة الكافرون.

لحديث عرْوَة بن نوْفَل عن أَبِيه رضي الله عنه: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لنوفل: «اقْرَأْ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثُمَّ نَمْ عَلَى خاتِمَتِهَا، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشركِ»

(1)

.

قال ابن حجر رحمه الله: في القراءة عند النوم عِدَّة أحاديث صحيحة: منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قراءة آية الكرسي، وقد تقدَّم في الوَكَالة وغيرها، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه الآيتان من آخر سورة البقرة، وقد تقدَّم في فضائل القرآن، وحديث عروة بن نوفل عن أبيه رضي الله عنه: «اقْرَأْ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثُمَّ نَمْ عَلَى خاتِمَتِهَا، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشركِ

»

(2)

.

‌2) ومن السُّنَّة أدعية كثيرة،

منها:

أ- «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا»

(3)

.

ب- «اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسي وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا، لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا، إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا، وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ»

(4)

.

ج- «اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شيءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شر كُلِّ شيءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصيتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شيءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شيءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شيءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شيءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ

(1)

رواه أحمد برقم (21934)، وأبو داود برقم (5055)، والترمذي برقم (3403)، وحسَّنه الألباني رحمه الله.

(2)

الفتح، حديث (6319)، باب: التعوُّذ والقراءة عند النوم.

(3)

رواه البخاري برقم (6324). من حديث حذيفة رضي الله عنه.

(4)

رواه مسلم برقم (2712). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 130

وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ»

(1)

.

د- «بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ»

(2)

.

هـ- «الْحَمْدُ للّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِي» . رواه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: «الْحَمْدُ للّهِ

»

(3)

.

قال المباركفوري رحمه الله في تحفة الأحوذي: «(وَكَفَانَا) -أي دفع عنا شر المؤذيات-، أو كفى مهماتنا، وقضى حاجاتنا، (وَآوَانَا) -أي رزقنا مساكن-، وهيَّأ لنا المآوي»

(4)

.

و- «اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ»

(5)

. رواه أحمد من حديث البراء رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا نَامَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ وَقَالَ:

»، وصححه الألباني، ورواه أحمد، والترمذي من حديث حذيفة رضي الله عنه

(6)

.

ز- التسبيح ثلاثاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير أربعاً وثلاثين.

ولهذا أثر عظيم على قائله فهو يعطيه قوة في يومه.

ويدلّ عليه: حديث عَلِي رضي الله عنه: أَنَّ فاطمة اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ أثر

(1)

رواه مسلم برقم (2713). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري برقم (6302)، ومسلم برقم (2714). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه مسلم برقم (2715).

(4)

تحفة الأحوذي، حديث (3396)، باب: ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه.

(5)

رواه أحمد برقم (18660)، وصححه الألباني (صحيح الجامع 2/ 869).

(6)

رواه أحمد برقم (23244)، والترمذي برقم (3398)، وصححه الألباني (صحيح الجامع 2/ 869).

ص: 131

الرَّحَى فِي يَدِهَا، وَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ تَجِدْهُ، وَلَقِيَتْ عَائِشَةَ، فَأَخْبَرَتْهَا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ إِلَيْهَا، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا، وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا نَقُومُ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم:«عَلَى مَكَانِكُمَا» فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمِهِ عَلَى صَدْرِي، ثمَّ قَالَ:«أَلَا أُعَلِّمُكُمَا خَيْراً مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، أَنْ تُكَبِّرَا اللّهَ أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ، وتُسَبِّحَاهُ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدَاهُ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ»

(1)

. وفي رواية: قال عليٌّ رضي الله عنه: «مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنَ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ»

(2)

.

وفي هذا دلالة على شِدَّة حرصهم على السُّنَّة، ففي تلك الليلة التي كان فيها علي رضي الله عنه مشغولاً بالمعركة، وبصفته قائد جيشه رضي الله عنه، وفي هذا أشدُّ انشغالاً؛ لكونه مرجعاً لمن معه، إلا أنَّ ذلك لم يشغله عن هذه السُّنَّة العظيمة، فماذا يقول من فرَّط بكثير من السُّنَن مُحتَجّاً بما دون ذلك بكثير، وأعظم منه حرماناً من حُرِم تطبيق السُّنَّة من غير شاغل يشغله، ولكن داؤه قلبه الذي غفل، فحُرم إدراك كثير من الفضائل-رحم الله حالنا-.

ح- «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ»

(3)

.

(1)

رواه البخاري برقم (3705)، ومسلم برقم (2727).

(2)

رواه البخاري برقم (5362)، ومسلم برقم (2727).

(3)

رواه البخاري برقم (247)، ومسلم برقم (2710).

ص: 132

من حديث البراء بن عَازِب رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاة، ثُمَّ اضْطَجِعُ علَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ

»، وفي آخر الحديث قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«وَاجْعَلْهُنَّ مِنْ آخِرِ كَلَامِكَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، مُتَّ وَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ» .

وفي رواية لمسلم: «وَإِنْ أَصْبَحْتَ، أَصْبَحْتَ عَلَى خَيْرِ» .

وفي هذا الحديث بيان سُنَّة أخرى، وهي: أن يجعل هذا الذِّكر آخر شيء يتكلَّم فيه قبل نومه، وفيه جائزة عظيمة فيما لو قُدِّر عليه أنْ مات من ليلته، فإنه يكون ممن مات على الفطرة -أي أنه مات على السُّنَّة على مِلَّة إبراهيم عليه السلام حنيفا-، وإن أصبح فإنه أصبح على خير في رزقه، وعمله، وهي كلمة شاملة تشمل ما سبق وغيره -والله أعلم-.

ومما يجدر التنبيه إليه: ذكرٌ هو سببٌ في فضلٍ عظيم، امتن به العلي العظيم جل جلاله، وهو ما جاء في صحيح البخاري، من حديث شدادِ بن أوْس رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:«سيدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شر مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسي فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»

(1)

.

وعليه فليحرص العبد على إدراك هذا الفضل العظيم بالمحافظة

(1)

رواه البخاري برقم (6306).

ص: 133

على هذا الدعاء الفضيل في يومه وليلته، مع مراعاة شرطه، وهو الإيقان بما يقوله من كلمات؛ ليفوز بجنَّة عرضها الأرض والسموات، فهذا الدعاء من أسباب دخول الجنَّة -نسأل الله تعالى من فضله-.

ص: 134

‌سُنَن فيما يراه النائم.

ما يراه النائم لا يخلو من ثلاث أحوال جاءت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم:

1 -

رؤيا صالحة، وهي بشرى من الله -عزوجل-، ولها آداب ستأتي.

2 -

رؤيا تَحزين، وهي من الشيطان، ولن تضر العبد إذا امتثل آدابها وستأتي.

3 -

أن يرى ما حدَّث به نفسه قبل نومه، فليست بشيء.

وكثيراً ما يرى النائم في منامه أشياء تجعله يقوم إمَّا أن يظل يومه مسروراً، أو يظل مهموماً قلقاً، وفي سُنَّة النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ما يجعل العبد دائماً مطمئناً على أيَّة حال، وأي مرأى رآه، ولكنها الغفلة عن سُنَّة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فتجد كثيراً ممّن يرى ما يكره يقلق، ويبذل قصارى جهده للوصول إلى معبِّرٍ يُعَبِّر له ما رآه -في زمن كثر فيه المعبِّرون على خلاف عصور السلف الفاضلة-، وربما وجدت ذلك الرائي يصل به الحد؛ لأن يسأل عن تفاصيل، وربما ترجَّى من يعبِّر له بأن يطمئنه، مع جزمه بصواب ما قد يُعبَّر له إلى غير ذلك من المحاذير في هذا الأمر -وليس هذا موطن ذكرها، وقد ذكرت شيئاً منها في رسالةٍ أسميتها (يا صاحب الرؤيا تمهل) -، ومن عرف سُنَّة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك لم يصبه ذلك الهلع، والخوف؛ لإيقانه بفضائل هدي خير المرسلين صلى الله عليه وسلم.

فمن السُّنَن في هذا الباب، ما جاء في هذه الأحاديث:

عن أبي سلمة رضي الله عنه قال: إِنْ كُنْتُ لأَرَى الرؤْيَا تُمْرِضُنِي، قَالَ

ص: 135

فَلَقِيتُ أَبَا قَتَادَةَ، فَقَالَ: وَأَنَا كُنْتُ لأَرَى الرُّؤيَا فَتُمْرِضُنِي، حَتَّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللّهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلَا يُحَدِّثْ بِهَا إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ، وَإِنْ رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتْفِلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثاً، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللّهِ مِنْ شر الشيطَانِ وَشرهَا، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَداً فَإِنَّهَا لَنْ تَضرهُ» .

وقال أبو سَلَمة: «وَإِنْ كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ الْجَبَلِ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا»

(1)

.

وفي رواية: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ، وَالْحُلُمُ مِنْ الشيطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شرهَا فَإِنَّهَا لَا تَضرهُ»

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثاً، وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءاً مِنَ النُّبُوَّةِ. وَالرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشرى مِنَ اللّهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشيطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ، فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ، فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ»

(3)

.

وفي حديث جَابِرٍ رضي الله عنه عند مسلم، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:«وَلْيَسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشيطَانِ ثَلَاثاً، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ»

(4)

.

وفي حديث أَبي سعيد الخُدريِّ رضي الله عنه عند البخاري: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّهَا مِنْ اللَّهِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَلَيْهَا»

(5)

.

(1)

رواه البخاري برقم (5747)، ومسلم برقم (2261).

(2)

رواه البخاري برقم (3292)، ومسلم برقم (2261).

(3)

رواه مسلم برقم (2263).

(4)

رواه مسلم برقم (2262).

(5)

رواه البخاري برقم (7045).

ص: 136

- وتحصَّل من الأحاديث السابقة:

1) أنَّ من رأى رؤيا حسنة، فإنه يُسَنُّ له أن يفعل ما يلي:

أولاً: أن يحمد الله عليها؛ لأنها منه -سبحانه-.

ثانياً: أن يخبر بها، ولا يخبر بها إلا من يحب.

2) وأنَّ من رأى رؤيا يكرهها، فإنه يُسَنُّ له أن يفعل ما يلي:

أولاً: يتفل، أو ينفث عن يساره ثلاثاً.

ثانياً: أن يستعيذ بالله تعالى من الشيطان، ومن شر ما رأى ثلاثاً، بأن يقول:«أعوذ بالله من الشيطان ومن شرها» (ثلاث مرات).

ثالثاً: ألا يخبر بها أحداً، فإن فعل ذلك، فإنها لا تضره كما أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وإن زاد على ذلك بأن:

رابعاً: يتحوَّل عن جنبه الذي نام عليه، فإن كان مستلقياً على ظهره فلينم على جنبه، وهكذا.

خامساً: أن يقوم فيصلِّي ركعتين.

وتأمَّل قول أبي قتادة، ومثله أبو سلمة رضي الله عنهما وكيف أنهما يريان الرؤيا تحزنهما بل تمرضهما، ولمَّا طبَّقا هدي النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، قال أبو سلمة رضي الله عنه:«وَإِنْ كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ الْجَبَلِ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا» ، فحرِّي بمن يهتم، ويصيبه القلق حينما يرى ما يَكْرَه، أن يُطبِّق هذا الهدي النَّبوي الذي فيه بشارة:«فَإِنَّهَا لَا تَضره» .

قال النَّووي رحمه الله: «وإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها -بإذن الله تعالى- كما صرحت به الأحاديث، قال القاضي: وأمر بالنفث ثلاثاً؛ طرداً للشيطان الذي حضر رؤياه المكروهة تحقيراً له واستقذاراً،

ص: 137

وخُصَّت به اليسار؛ لأنها محل الأقذار، والمكروهات، ونحوها، واليمين ضدها»

(1)

.

ويُستفاد من الأحاديث السابقة: أنَّ رؤيا المسلم جزء من النبوة، وأنَّ أصدق الناس رؤيا، أصدقهم حديثاً في اليقظة، وهذا من تأثير الصدق، وبركته على المسلم حتى حال النَّوم.

قال ابن حجر رحمه الله: «قال القرطبي: "وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً"، وإنما كان كذلك؛ لأن من كثر صدقه تنور قلبه، وقوي إدراكه، فانتقشت فيه المعاني على وجه الصِّحة، وكذلك من كان غالب حاله الصدق في يقظته استصحب ذلك في نومه فلا يرى إلا صدقاً، وهذا بخلاف الكاذب والمخلِّط، فإنه يفسد قلبه، ويظلم فلا يرى إلا تخليطاً وأضغاثاً، وقد يندر المنام أحياناً فيرى الصادق ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح، ولكن الأغلب والأكثر ما تقدم - والله أعلم-، قال ابن حجر رحمه الله: وهذا يؤيِّد ما تقدَّم أنَّ الرؤيا لا تكون إلا من أجزاء النبوة إن صدرت من مسلم صادق صالح»

(2)

.

من استيقظ بالليل، فإنه يُسنُّ له قول هذا الذكر:

وهو ما جاء في حديث عُبادَة بن الصامت رضي الله عنه عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ»

(3)

.

(1)

شرح النووي لمسلم، حديث (2261)، كتاب الرؤيا.

(2)

الفتح، حديث (7017)، باب: القَيد في المنام.

(3)

رواه البخاري برقم (1154).

ص: 138

قال ابن الأثير رحمه الله: «مَنْ تَعارَّ منَ الليلِ» . أي هبَّ من نومه، واستيقظ

(1)

.

وفي هذا الحديث بشارتان عظيمتان، لمن قال إذا هبَّ من نومه:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» .

الأولى: إن قال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» ، أو دعا فإنَّ دعوته مستجابة.

الثانية: إن قام فتوضأ، وصلَّى فصلاته مقبولة.

فالحمد لله الذي منَّ علينا بهذه الفضائل والمنح، ونسأله التوفيق للعمل والإخلاص فيه.

فائدة:

اختُلف في معنى (تعارَّ) في الحديث السابق:

فقيل: انتبه. وقيل: أنَّ وفزع. وقيل: اليقظة مع صوت.

وقيل: استيقظ. وقيل: غير ذلك.

وتقدَّم قول ابن الأثير، وكذا نقله عنه ابن منظور في لسان العرب -رحمهما الله-، أنَّها بمعنى: استيقظ، وهبَّ من نومه، وكذا فسرها شيخ الإسلام: ابن تيمية رحمه الله حيث قال بعد ذكره لحديث عبادة رضي الله عنه السَّابق: «فقد أخبر أن هذه الكلمات الخمس، إذا افتتح بها المستيقظ من الليل كلامه، كان ذلك سببًا لإجابة دعائه، ولقبول صلاته، إذا توضأ بعد ذلك»

(2)

.

وكذا فسرها الشيخ ابن باز رحمه الله قال بعدما أورد حديث عبادة رضي الله عنه:

(1)

انظر: النهاية في غريب الأثر، لابن الأثير (ص 108) مادة:(تعر)، وانظر: أيضاً لسان العرب لابن منظور، تحت مادة:(تعر) أيضاً.

(2)

مجموع فتاواه (22/ 479).

ص: 139

«ومعنى قوله: (من تعار) -أي استيقظ-»

(1)

.

وهذا من فضل الله تعالى الواسع، فينبغي لمن بلغه هذا الفضل ألّا يفرط فيه.

قال ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطَّال: وعد الله على لسان نبيه أنَّ من استيقظ من نومه لهجاً لسانه بتوحيد ربه، والإذعان له بالمُلْك، والاعتراف بنعمة يحمده عليها، وينزهه عما لا يليق به تسبيحه، والخضوع له بالتكبير، والتسليم له بالعجز عن القدرة إلا بعونه، أنه إذا دعاه أجابه، وإذا صلَّى قُبِلَت صلاته، فينبغي لمن بلغه هذا الحديث أن يغتنم العمل به، ويخلص نيته لربه سبحانه وتعالى»

(2)

.

وبهذه السُّنَّة ننتهي من عرض السُّنَن الموقوتة؛ لأنَّ ما بعدها هي سُنَن: الاستيقاظ من النوم، التي بدأنا بها وأولها السِّواك، وقول:«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» .

* * *

(1)

مجموع الفتاوى، والمقالات المتنوعة الجزء (26) صفحة (43) تحت فصل: فيما يشرع من الذكر، والدعاء عند النوم، واليقظة.

(2)

الفتح، حديث (1154)، باب: فضلِ مَنْ تعارَّ منَ الليلِ فصلَّى.

ص: 140

‌السُّنَن غَيْر المَوْقُوتَة

هي القسم الثاني من السنن اليومية، وهذا النوع من السنن بابه واسع، وهو كثير، ومنه ما يختلف باختلاف الأحوال، والأشخاص، والأماكن، والأوقات.

وسأعرض جاهداً السنن التي تتكرر في اليوم والليلة سائلاً الله تعالى التوفيق والسداد.

? وأول شيء في هذا القسم: سنن الطعام

ص: 141

‌سُنَن الطعام

ولم أضع سُنَن الطعام ضمن السُّنَن الموقوتة؛ لأن الأكل، والشرب قد يكون عارضاً للإنسان في أي وقت، فيحتاج معه تطبيق السُّنن، ولأن أوقات الأكل وإن كانت في غالب واقعنا اليوم موقوتة، إلا أنها في عصر أولئك الأفذاذ عصر الصحابة، وكذا التابعين من بعدهم، وسلف هذه الأمَّة ليست في غالبها موقوتة، فهم لا يجدون كثيراً مما نجد، والقصد أن كثيراً منهم قد لا يجد في يومه ما يأكله فضلاً على أن يكون لديه طعام يأكله بوقت محدد!

فهذا نبي الأمَّة صلى الله عليه وسلم ونبراسها، وخير البشرية، يدخل على عائشة رضي الله عنها ذَاتَ يَوْمٍ ويقول:«يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شيءٌ؟» قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عِنْدَنَا شيءٌ، قَالَ:«فَإِنِّي صَائِمٌ»

(1)

.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إلاَّ مَاءٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى أُخْرَى، فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذلِكَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلاَّ مَاءٌ، فَقَالَ:«مَنْ يُضيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ، رحمه الله» ، حتى ضيفه رجلٌ من الأنصار

(2)

.

وهكذا الصحابة وعلى رأسهم العمران أبو بكر، وعمر-رضي الله عنهم أجمعين-، فعند

(1)

رواه مسلم برقم (1154).

(2)

رواه مسلم برقم (2054).

ص: 142

مسلمٍ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ:«مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟» قَالَا: الْجُوعُ، يَا رَسُولَ اللّهِ، قَالَ:«وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ لأَخْرَجَنِي الَّذَي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا» فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ

، (وفيه): فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسر، وَتَمْرٌ، وَرُطَبٌ، وذَبَحَ لَهُمْ شاة .... ، (وفي آخر الحديث) قاَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَر رضي الله عنهما:«وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ»

(1)

.

وها هو ناقل السُّنَّة أبو هريرة رضي الله عنه كما روى البخاري قال محمد: «كُنَّا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ فَتَمَخَّطَ، فَقَالَ: بَخْ، بَخْ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَمَخَّطُ فِي الْكَتَّانِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشيا عَلَيَّ، فَيَجِيءُ الْجَائِي فَيَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي، وَيُرَى أَنِّي مَجْنُونٌ، وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ، مَا بِي إِلَّا الْجُوعُ»

(2)

.

وليس فقط أبو هريرة رضي الله عنه، بل تأمل حال هؤلاء الذين يسقطون من الجوع في صلاتهم، كما روى الترمذي من حديث فضالة بنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى بالنَّاسِ يَخِرُّ رِجَالٌ مِنْ قَامَتِهِمْ في الصَّلَاةِ مِنَ الْخَصَاصَةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ، حَتَّى تَقُولَ الأعْرَابُ هَؤُلَاءِ مَجَانِينُ، أَوْ مَجَانُونُ فَإِذَا صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم انْصرفَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ:«لَوْ تَعْلَمُونَ مَالَكُمْ عِنْدَ الله لأَحْبَبْتُمْ أَنْ تَزْدَادُوا فاقَةً وَحَاجَةً» ، قالَ فَضَالَةُ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

(3)

.

(1)

رواه مسلم برقم (2038).

(2)

رواه البخاري برقم (7324).

(3)

رواه الترمذي برقم (2368). وقال: «هذا حديثٌ صحيحٌ» ، وصححه الألباني (الصحيحة 2169).

ص: 143

وهذا في زمن خير القرون، وما بعده من قرون التابعين، والسَّلف، مما يدل على أنهم لا يأكلون إلّا إذا وجدوا، وليس لهم أوقات محدَّدة في الأكل؛ لأنهم وإن حددوا ربما لا يجدون، وليس هذا موطن بسط تلك القصص، والأخبار -فلله درهم-، ونسأله أن يمنَّ علينا بشكره، كما منَّ علينا بنعمته.

سُنَن في الطعام:

‌1 - التسمية أول الطعام.

عن عمرَ بن أبي سلمةَ رضي الله عنه يقولَ: «كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ

(1)

.

والأفضل أن يقتصر على (بسم الله)، كما ورد في النصوص.

قال ابن حجر رحمه الله: «المراد بالتسمية على الطعام قول: «بسم الله» ، في ابتداء الأكل، وأصرح ما ورد في صفة التسمية ما أخرجه أبو داود، والترمذي من طريق أم كلثوم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً:«إذَا أكَلَ أحَدُكُم فَلْيَذْكُرِ اسْمَ الله، فإنْ نَسي أنْ يَذْكُرَ اسْمَ الله في أوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ الله أوَّلَهُ وَآخِرَهُ»

(2)

، وله شاهد من حديث أمية بن مخشي عند أبي داود، والنَّسَائي،

(1)

رواه البخاري برقم (5376)، ومسلم برقم (2022).

(2)

رواه أبو داود برقم (3767)، والترمذي برقم (1858)، وصححه الألباني (صحيح الجامع 1/ 282).

ص: 144

وأمَّا قول النَّووي رحمه الله في أدب الأكل من [الأذكار]: صِفَة التسمية من أهم ما ينبغي معرفته، والأفضل أن يقول:«بسم الله الرحمن الرحيم» ، فإِن قال:«بسم الله» كفاه، وحصلت السُّنَّة، فلم أر لما ادَّعاه من الأفضلية دليلاً خاصاً»

(1)

.

واختُلف في حكم التسمية:

فقيل: سُنَّة. وقيل: واجبة؛ لأمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بها.

والأحوط للمسلم: ألَّا يتركها، وإذا نسي التسمية: فإنه يُسنُّ أن يقول إذا تذكَّرها: «بسم الله أوله وآخره» .

لحديث عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذَا أكَلَ أحَدُكُم فَلْيَذْكُرِ اسْمَ الله، فإنْ نَسي أنْ يَذْكُرَ اسْمَ الله في أوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ الله أوَّلَهُ وَآخِرَهُ»

(2)

.

وكذلك دلّ الحديث: على أن الإنسان يأكل بيمينه حتى لا يشابه الشيطان، فالمسلم إذا لم يُسمِّ شاركه الشيطان في طعامه، وإذا أكل أو شرب بشماله شابه الشيطان بذلك؛ لأن الشيطان يأكل، ويشرب بشماله.

ويدلّ عليه:

1.

حديث حذيفة رضي الله عنه قال: «كُنَّا إِذَا حَضرنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَاماً لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا، حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَضَعَ يَدَهُ، وَإنَّا حَضرنَا مَعَهُ، مَرَّةً طَعَاماً، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ، فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهَا، ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشيطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا

(1)

فتح الباري، حديث (5376)، باب: التسميةِ على الطعام، والأكل باليمين.

(2)

رواه أبو داود برقم (3767)، والترمذي برقم (1858)، وصححه الألباني كما تقدم.

ص: 145

يُذْكَرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ، وَإنَّهُ جَاءَ بِهذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهذَا الأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا»

(1)

.

2.

وحديث عبد اللّه بن عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنْ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَأْكُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشِمَالِهِ، وَلَا يَشربَنَّ بِهَا، فإِنَّ الشيطَانَ يَأْكُلُ بِشِمالِهِ وَيَشربُ بِهَا» . قَالَ: وَكَانَ نَافِعٌ يَزِيدُ فِيهَا: «وَلَا يَأْخُذُ بِهَا وَلَا يَعْطِي بِهَا»

(2)

.

والصحيح: أنَّ الشيطان يأكل حقيقة؛ لظاهر النَّص السَّابق.

قال ابن حجر رحمه الله: «قال الطيبي: وتحريره لا تأكلوا بالشمال، فإن فعلتم كنتم من أولياء الشيطان، فإِنَّ الشيطان حمل أولياءه على ذلك. انتهى، وفيه عدول عن الظاهر، والأولى حمل الخبر على ظاهره، وأن الشيطان يأكل حقيقة؛ لأن العقل لا يحيل ذلك، وقد ثبت الخبر به فلا يحتاج إلى تأويله»

(3)

.

والشيطان حريص على دخول البيوت؛ ليبيت فيها، ويشارك أهلها الطعام والشراب، عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما أنَّه سمع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول:«إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشيطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشيطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ»

(4)

.

(1)

رواه مسلم برقم (2017).

(2)

رواه مسلم برقم (2020).

(3)

فتح الباري، حديث (5376)، باب: التسميةِ على الطعام، والأكل باليمين.

(4)

رواه مسلم برقم (2018).

ص: 146

‌2 - الأكل مما يلي

لما سبق من حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» .

قال النَّووي رحمه الله: «والثالثة: الأكل مما يليه؛ لأنَّ أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة، وترك مروءة، فقد يتقذره صاحبه، لاسيما في الأمراق وشبهها»

(1)

.

وقال ابن حجر رحمه الله: «قلت: ويدلّ على وجوب الأكل باليمين، ورود الوعيد في الأكل بالشمال ففي صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنهما: «أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ فَقَالَ: «كُلْ بِيَمِينِكَ» قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ:«لَا اسْتَطَعْتَ» مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ

(2)

»

(3)

.

‌3 - أخذ اللقمة الساقطة، وإماطة ما بها من أذى، وأكلها.

فمن السُّنَّة أنه إذا وقعت اللقمة على سفرة الطعام، أو غيرها أن يأخذها، ويميط ما يعلق بها من أذى، ثم ليأكلها فإن في هذا تطبيق للسُّنَّة، ودحر للشيطان الذي يحرص على مشاركة منْ يأكل، ولو بلقمة ساقطة منه.

ويدلّ عليه:

حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قال: سمعت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الشيطَانَ يَحْضر أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شيءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضرهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذَىً، ثُمَّ لْيَأْكُلْهَا، وَلَا

(1)

شرح النووي لمسلم، حديث (2022)، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما.

(2)

رواه مسلم برقم (2021).

(3)

فتح الباري، حديث (5376)، باب: التسميةِ على الطعام، والأكل باليمين.

ص: 147

يَدَعْهَا لِلشيطَانِ، فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ»

(1)

.

والمتأمل للحديث يجد الشيطان حريصاً على مشاركة الإنسان في كل أموره؛ لينزع البركة من حياته، ويفسد عليه كثيراً من شأنه، ومما يدلّ على حرصه على ملازمة العبد في كل أموره قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الشيطَانَ يَحْضر أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شيءٍ مِنْ شَأْنِهِ» ، وجاءت الأدلة مبينة بعضا من هذه الأمور على وجه الخصوص، منها ما تقدَّم ذكره في الطعام، والمبيت، وسيأتي غير ذلك في السُّنَن القادمة -بإذن الله تعالى-.

‌4 - لعق الأصابع.

ولعقها -أي لحسها بطرف اللسان-، فالسُّنَّة أن يلعقها، أو يُلعِقْها غيره كزوجته مثلاً، بل السُّنَّة ألَّا يمسح ما يعلق بيده بمنديل، ونحوه حتى يلعقها.

ويدلّ عليه: حديث جابر رضي الله عنه السابق.

وفي الصحيحين من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا، أَوْ يُلْعِقَهَا»

(2)

.

وفي حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم: «وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ»

(3)

.

‌5 - سَلْتُ القَصْعَة.

والمقصود مِنْ سَلْتِ القَصْعَة: تنظيف الآكل حافته من الطعام،

(1)

رواه مسلم برقم (2033).

(2)

رواه البخاري برقم (5456)، ومسلم برقم (2033).

(3)

رواه مسلم برقم (2033).

ص: 148

فمثلاً: من يأكل أرزاً، فإن السُّنَّة ألّا يُبْقِي شيئاً في حافته التي يأكل منها، فيمسح ما بقي في حافته، ويأكله، فقد تكون البركة في هذا المتبقي.

ويدلّ عليه: حديث أنس رضي الله عنه قال: «وَأَمَرَنَا -أيّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ»

(1)

رواه مسلم، وفي رواية له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«وَلْيَسْلُتْ أَحَدُكُمُ الصَّحْفَةَ»

(2)

.

قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «أمره بإسلات الصحن أو القصعة، وهو: الإناء الذي فيه الطعام، فإذا انتهيتَ فأسلِتْه، بمعنى: أن تتبع ما علق فيه من طعام بأصابعك، وتلعقها، فهذا أيضاً من السُّنَّة التي غفل عنها كثير من الناس مع الأسف حتى من طلبة العلم أيضاً، إذا فرغوا من الأكل وجدت الجهة التي تليهم ما زال الأكل باقياً فيها، لا يلعقون ما في الصحفة، وهذا خلاف ما أمر به النَّبي صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

‌6 - الأكل بثلاث أصابع.

والسُّنَّة أن يأكل بثلاث أصابع، وهذا فيما يُحمل بثلاث أصابع كالتمر مثلاً.

ويدلّ عليه: حديث كَعْبِ بْنِ مالك رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا»

(4)

.

قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «ينبغي للإنسان أن يأكل بثلاث أصابع: الوسطى، والسبابة، والإبهام؛ لأن ذلك أدلُّ على عدم الشره،

(1)

رواه مسلم برقم (2034).

(2)

رواه مسلم برقم (2035).

(3)

شرح رياض الصالحين (1/ 892).

(4)

رواه مسلم برقم (2032).

ص: 149

وأدلّ على التواضع، ولكن هذا في الطعام الذي يكفي فيه ثلاث أصابع، أمَّا الطعام الذي لا يكفي فيه ثلاث أصابع مثل: الأرز، فلا بأس بأن تأكل بأكثر، لكن الشيء الذي تكفي فيه الأصابع الثلاثة يقتصر عليها، فإن هذا سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

قال النَّووي رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ» معناه -والله أعلم: أنَّ الطعام الذي يحضره الإنسان فيه بركة، ولا يدري أن تلك البركة فيما أكله، أو فيما بقي على أصابعه، أو فيما بقي في أسفل القصعة، أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله؛ لتحصل البركة، وأصل البركة: الزيادة، وثبوت الخير، والإمتاع به، والمراد هنا -والله أعلم-: ما يحصل به التغذية، وتسلم عاقبته من أذى، ويقوى على طاعة الله تعالى وغير ذلك»

(2)

.

‌7 - التنفس خارج الإناء ثلاثاً.

مِنْ السُّنَّةِ شرب الإناءِ على ثلاث دفعات، والتّنفس بعد كل واحدة.

ويدلّ عليه: حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَنَفَّسُ فِي الشرابِ ثَلَاثاً، وَيَقُولُ: «إِنَّهُ أَرْوَى، وَأَبْرَأُ، وَأَمْرَأُ» ، قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه:«فَأَنَا أَتَنَفَّسُ فِي الشرابِ ثَلَاثاً»

(3)

، وفي رواية أبي داود:«أهنأ»

(4)

، بدل قوله:«أَرْوَى» .

(1)

شرح رياض الصالحين (2/ 1069).

(2)

شرح النووي لمسلم، حديث (2033)، باب: (استحباب لعق الأصابع والقصعة

).

(3)

رواه البخاري برقم (5631)، ومسلم برقم (2028).

(4)

رواه أبو داود برقم (3727)، وصححه الألباني (الصحيحة 387).

ص: 150

والمقصود من التنفس في الإناء: التنفس أثناء شربه للإناء، بمعنى: أنه يتنفس خارج الإناء؛ لأنَّ التنفس في الإناء مكروه؛ لحديث أبي قَتادة رضي الله عنه في الصحيحين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا شربَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ»

(1)

.

قال النَّووي رحمه الله: «وقوله صلى الله عليه وسلم: «أروى» من الرِّيّ، أي: أكثر ريّاً، وأمرأ، وأبرأ مهموزان، ومعنى:«أبرأ» ، أي: أبرأ من ألم العطش، وقيل:«أبرأ» ، أي: أسلم من مرض، أو أذى، يحصل بسبب الشرب في نفس واحد، ومعنى:«أمرأ» ، أي: أجمل انسياغاً -والله أعلم-»

(2)

.

‌8 - حمد الله تعالى بعد الطعام.

ويدلّ على هذه السنة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللّه لَيَرْضى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشربَ الشربَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»

(3)

.

وتأمل أن حمدك الله بعد الشرب أو الأكل يرضي الله تعالى من فوق سبع سماوات، فأدم شكره على نعمه، وحمده على فضله؛ لتكون ممن اصطفاهم الله بقوله:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} .

وللحمد صيغ متنوعة، منها:

أ. «الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلَا مُوَدَّعٍ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا»

(4)

.

(1)

رواه البخاري برقم (5630)، ومسلم برقم (267).

(2)

شرح النووي لمسلم، حديث (2028)، باب: (كراهة التنفس في نفس الإناء

).

(3)

رواه مسلم برقم (2743).

(4)

رواه البخاري برقم (5458)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.

ص: 151

ب. «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلَا مَكْفُورٍ»

(1)

.

(غيرَ مَكفِيٍّ): أي: غير محتاج إلى أحد، فهو الذي يطعم عباده ويكفيهم، (ولا مُودَّع): بفتح الدال، وتشديدها، أي: غير متروك، (كَفَانَا): من الكفاية، و (أرْوَانَا): من الرِيّ، (وَلَا مَكْفُورٍ): أي: مجحود فضله ونعمته.

‌9 - الاجتماع على الطعام.

من السُّنَّة الاجتماع على الطعام، وعدم التفرُّق فيه.

ويدلّ عليه: حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما يقول: سِمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الاثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ»

(2)

.

قال ابن حجر رحمه الله: «وعند الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ما يرشد إلى العِلَّة في ذلك، وأوله: «كُلُوا جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، فَإِنَّ طَعَامَ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ»

(3)

الحديث، فيؤخذ منه أنَّ الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما كثر ازدادت البركة»

(4)

.

قال ابن القيم رحمه الله: «وللتسمية في أول الطعام والشراب، وحمد الله في آخره، تأثيرٌ عجيب في نفعه واستمرائه، ودفع مضرته، قال الإمام أحمد: إذا جمع الطعام أربعاً فقد كمل: إذا ذُكر اسم الله في أوله، وحُمد الله في آخره، وكثرت عليه الأيدي، وكان من حِل»

(5)

.

(1)

رواه البخاري برقم (5459)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أيضاً.

(2)

رواه مسلم برقم (2059).

(3)

أخرجه الطبراني (7/ 259/ 7444).

(4)

الفتح، حديث (5392)، باب: طعامُ الواحِد يَكفِي الاثنَينِ.

(5)

زاد المعاد (4/ 232).

ص: 152

‌10 - مدح الطعام إذا أعجبه.

مِنْ السُّنَّة: مدح الطعام إذا أعجبه، ولا شكّ أنه لا يمدحه إلا بما فيه.

ويدلّ عليه: حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ أَهْلَهُ الأُدُمَ، فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا إِلاَّ خَلٌّ، فَدَعَا بِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ بِهِ وَيَقُولُ:«نِعْمَ الأُدُمُ الْخَلُّ. نِعْمَ الأُدُمُ الْخَلُّ»

(1)

، والخَلُّ من أنواع الإدام عندهم وهو حلو ليس حامض، كالخل الذي عندنا اليوم.

وبوَّب النووي رحمه الله في رياض الصالحين على هذا الحديث: [باب: لا يعيب الطعام، واستحباب مدحه].

قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «وهذا أيضاً من هدي النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا أعجبه الطعام أثنى عليه، وكذلك مثلاً لو أثنيت على الخبز، قلت: نعم الخبز خبز بني فلان، أو ما أشبه ذلك، فهذا أيضاً سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

والمتأمل لواقعنا يجد كثيراً ما يقع الناس في خلاف سُنَّة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فهم لم يكتفوا بترك السُّنَّة بل خالفوها أيضاً، وذلك بعيبهم للطعام، وذمهم له في بعض الأحيان، وهذا خلاف هديه صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه قال:«مَا عَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ»

(3)

.

‌11 - الدعاء لصاحب الطعام.

ويدلّ عليه: حديث عبد اللّه بن بُسر رضي الله عنه قال: «نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه مسلم برقم (2052).

(2)

شرح رياض الصالحين (2/ 1057).

(3)

رواه البخاري برقم (3563)، ومسلم برقم (2064).

ص: 153

عَلَى أَبِي، قَالَ: فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَاماً وَوَطْبَةً، فَأَكَلَ مِنْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ، وَيُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ، وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى، ثُمَّ أُتِيَ بِشرابٍ فَشربَهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ، قَالَ فَقَالَ أَبِي، وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ: ادْعُ اللّهَ لَنَا، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ، وَارْحَمْهُمْ»

(1)

.

و (الوَطْبَة): هي الحيس الذي يجمع التمر البرني، والأقط المدقوق، والسمن.

- ولو أخرج مَنْ أكل التمر كما أخرج النَّبي صلى الله عليه وسلم النَّواة فهو أفضل، فإنَّ الحديث دلَّ على أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم يخرج نوى التمر بين السبابة، والوسطى، ويجمعهما.

- ومِن السُّنَّة حتى وإن كان صائماً أن يحضر الوليمة، ويدعو لصاحب الطعام، ولو لم يأكل.

ويدلّ عليه: حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِماً فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَطْعَمْ»

(2)

، ومعنى (فَلْيُصَلِّ): أي فليدع لهم؛ لأنَّ الصلاة لغة: الدعاء.

‌12 - استحباب أن يسقي الشارب مَنْ على يمينه قبل يساره.

والمقصود: أنه إذا شرب فمن السُّنَّة أن يعطي مَنْ على يمينه قبل شماله.

ويدلّ عليه: حديث أَنَسِ بن مالك رضي الله عنه قال: «أَتَانَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه مسلم برقم (2042).

(2)

رواه مسلم برقم (1431).

ص: 154

فِي دَارِنَا، فَاسْتَسْقَى، فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً، ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِي هَذِهِ، قَالَ: فَأَعْطَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَشربَ رَسُولُ اللّهِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ، وَعُمَرُ وِجَاهَهُ، وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ مِنْ شربِهِ، قَالَ عُمَرُ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ، يَا رَسُولَ اللّهِ يُرِيهِ إيَّاهُ، فَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ الأَعْرَابِيَّ، وَتَرَكَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم:«الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ» ، قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه:«فَهْيَ سُنَّةٌ، فَهْيَ سُنَّةٌ، فَهْيَ سُنَّة»

(1)

.

وحديث سَهْلِ بن سعد السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشرابٍ، فَشربَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَشياخٌ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ:«أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟» فَقَالَ الْغُلَامُ: لَا، وَاللّهِ، لَا أُوثِرُ بِنَصيبِي مِنْكَ أَحَداً، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ

(2)

.

قال النَّووي رحمه الله: «في هذه الأحاديث بيان هذه السُّنَّة الواضحة، وهو موافق لما تظاهرت عليه دلائل الشرع من استحباب التَّيامن في كل ما كان من أنواع الإكرام، وفيه: أن الأيمن في الشراب ونحوه يقدَّم، وإن كان صغيراً أو مفضولاً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدَّم الأعرابي، والغلام على أبي بكر رضي الله عنه، وأمَّا تقديم الأفاضل، والكبار فهو عند التساوي في باقي الأوصاف، ولهذا يقدَّم الأعلم، والأقرأ، على الأسن النسيب في الإمامة في الصلاة»

(3)

.

(1)

رواه البخاري برقم (2571)، ومسلم برقم (2029).

(2)

رواه البخاري برقم (2605)، ومسلم برقم (2030).

(3)

شرح النووي لمسلم، حديث (2029)، باب: استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما على يمين المبتدئ.

ص: 155

‌13 - ساقي القوم آخرهم شرباً.

يُسن لمن يسقي جماعة أن يكون آخرهم شرباً.

ويدلّ عليه: حديث أبي قتادة رضي الله عنه الطويل، وفيه: قال: «

فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ وَأَسْقِيهِمْ، حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي، وَغَيْرُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ثُمَّ صَبَّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي:«اشربْ» ، فَقُلْتُ: لَا أَشربُ حَتَّى تَشربَ يَا رَسُولَ اللّهِ، قَالَ:«إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شرباً» ، قَالَ: فَشربْتُ وَشربَ رَسُولُ اللّهِ

»

(1)

.

فائدة:

ومن السُّنَّة لمن شرب لبناً أن يتمضمض بالماء بعد شربه للبن؛ ليزيل ما في فمه من الدسم الذي يكون من اللبن.

ويدلّ عليه: حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شربَ لَبَناً، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَتَمَضْمَضَ، وَقَالَ:«إِنَّ لَهُ دَسَماً»

(2)

.

‌14 - تغطية الإناء، وذكر اسم الله تعالى عند قدوم الليل.

يُسَنُّ تغطية الإناء المكشوف عند قدوم الليل، وإيكاء السقاء - أي: إغلاقه- إن كان له غلقاً، وذكر اسم الله عند ذلك.

ويدلّ عليه: حديث جابر بْنِ عبد اللّه رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «غَطُّوا الإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، فَإنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ، لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ، أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ، إِلاَّ نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذلِكَ الْوَبَاءِ»

(3)

،

(1)

رواه مسلم برقم (681).

(2)

رواه البخاري برقم (211)، ومسلم برقم (358).

(3)

رواه مسلم برقم (2014).

ص: 156

وعند البخاري من حديث جابرٍ رضي الله عنه أيضاً: «وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا

شيئًا»

(1)

.

- وفي الحديث بيان العِلَّة التي من أجلها أُمر المسلم بإغلاق وتخمير - أي: تغطية- كل إناء؛ وذلك أنه في أحدى ليالي كل سَنَة ينزل وباء، والوباء هو: المرض، فلا يترك إناء، ولا سقاء مكشوفاً إلا نزل فيه، فكم من إنسان أصابه المرض بعد شربه لإناء مكشوف أصابه ما نزل من الوباء، ولا يعلم أنه بسبب تفريطه بهذه السُّنَّة! فيا الله ما أعظم شريعتنا فيها الخبر عن نفع العبد، وصحته، في الدنيا والآخرة!.

ويا الله ما أعظم غفلتنا، وتفريطنا في استحضار عظمة ديننا!.

- وفي الحديث دلالة على أهمية الحفاظ على هذه السُّنَّة، حتى أرشد النَّبي صلى الله عليه وسلم، إلى أدنى الأمور لحفظ الإناء، بأن: من لم يجد ما يغطِّي به إناءه أن يعرض على إنائه شيئاً ولو عوداً، وجاء عند البخاري ما يبيِّن أن التغطية للطعام والشراب، وليس خاصاً بالشراب فقط، فعن جابر رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الْأَبْوَابَ وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشرابَ، وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَلَوْ بِعُودٍ تَعْرُضُهُ عَلَيْهِ»

(2)

.

- وفي حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم في رواية أخرى ما يدلّ على أنَّ هناك عِلَّة أخرى من تغطية الأواني، وهي: أنَّ الشيطان حريص على إفساد طعام الإنسان، واستحلاله.

قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «غَطُّوا الإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، وَأَغْلِقُوا الْبَابَ،

(1)

رواه البخاري برقم (5623).

(2)

رواه البخاري برقم (5624).

ص: 157

وَأَطْفِئُوا السراجَ، فَإِنَّ الشيطَانَ لَا يَحُلُّ سِقَاءً، وَلَا يَفْتَحُ بَاباً، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْرُضَ عَلَى إِنَائِهِ عُوداً، وَيَذْكُرَ اسْمَ اللّه»

(1)

.

- وفي الحديث بيان سُنَّة أخرى، وهي: عند إيكاء السقاء، وتغطية الإناء، يُسَنَّ ذكر اسم الله تعالى، كأن يقول:«بسم الله» ، ولا شكّ أنَّ في هذا إبعاد للشياطين أن تستحله.

وهنا وقفة:

تأمل -أخي المبارك-: كيف أنَّ الشيطان حريص على ملازمة العبد، وإفساد أمور دينه، ودنياه، فهو كما تقدَّم:

- يأكل ويشرب، ويبيت، ويبول، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، في الرجل الذي نام ليلةً حتى أصبح، قال:«ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشيطَانُ فِي أُذُنَيْهِ، أَوْ قَالَ: فِي أُذُنِهِ»

(2)

.

- ويضحك: وذلك إذا تثاءب الإنسان ولم يكظم، أو يغطِّ فاه -كما سيأتي-.

- ويبكي: وذلك إذا سجد العبد في سورة فيها سجدة اعتزل الشيطان يبكي، يقول:«أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ؛ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ؛ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ»

(3)

.

- ويهرب وله ضراط: عند الأذان، كما في الصحيحين، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشيطَانُ، وَلَهُ ضراطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ

(1)

رواه مسلم برقم (2012).

(2)

رواه البخاري برقم (3270)، ومسلم برقم (774).

(3)

رواه مسلم برقم (81).

ص: 158

التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضى النِّدَاءَ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ؛ أَدْبَرَ حَتَّى إِذَا قَضى التَّثْوِيبَ؛ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى»

(1)

.

- ويجلس بين الظل والشمس: ولذا نُهي عن ذلك كما في مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، وصححه الألباني.

- ويمشي بنعل واحدة؛ كما عند الطَّحاوي، وصححه الألباني؛ ولذا جاء في الصحيحين النَّهي عن المشي بنعل واحدة.

- وأحب العمل إليه: الإفساد، والتفريق بين الزوجين، كما جاء عند مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سرايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شيئاً، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ»

(2)

.

- ومفتاح عمله (لو): كما في صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم:«وَإِنْ أَصَابَكَ شيءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كان كذا وكذا، وَلكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللّهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ عَمَلَ الشيطَانِ»

(3)

.

- وهو حريص على إفساد صلاة العبد -كما تقدَّم-: وكما في حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه عند مسلم أنه أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنَّ الشيطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي، وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي، يَلْبِسُهَا عَلَيَّ،

(1)

رواه البخاري برقم (608)، ومسلم برقم (389).

(2)

رواه مسلم برقم (2813).

(3)

رواه مسلم برقم (2664).

ص: 159

فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَاكَ شيطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللّهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثاً» ، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللّهُ عَنِّي

(1)

.

- ومن خلال ما سبق فهو يحضر العبد في طعامه، وشرابه، ومبيته، وفراشه، وتثاؤبه، وفي صلاته، وهو يبول، ويضحك، ويفرِّق بين الزوجين، ويفسد على العبد عبادته، وعقيدته أيضاً، ففي الصحيحين، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِي الشيطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ»

(2)

.

وجماع ذلك وأكثر أنه يحضر في كل شيء من شؤون العبد -كما تقدَّم-؛ لقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشيطَانَ يَحْضر أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شيءٍ مِنْ شَأْنِهِ»

(3)

، ولذا على العبد أن يكون حذراً من وسوسته، وإفساده؛ لئلا يفقد كثيراً من أمور الخير، ولئلا تُنزع البركة من كثير من شؤونه، ومن ذلك عند جماعه لأهله، فقد جاء في الصحيحين من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، قَالَ: بِاسْمِ اللّهِ، اللّهُمَّ جَنِّبْنَا الشيطَانَ، وَجَنِّبِ الشيطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُم وَلَدٌ فِي ذَلِك، لَمْ يَضرهُ شيطَانٌ أَبَداً»

(4)

، وكذا في قراءته لآية الكرسي عند نومه إبعاد للشيطان حتى يصبح، كما ثبت عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

(5)

، والله أعلم.

(1)

رواه مسلم برقم (2203).

(2)

رواه البخاري برقم (3276)، ومسلم برقم (134).

(3)

رواه مسلم برقم (2033).

(4)

رواه البخاري برقم (141)، ومسلم برقم (1434).

(5)

رواه البخاري برقم (2311).

ص: 160

و‌

‌مما نُهي عنه في هذا الباب: باب الطعام، والشراب:

الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وأكل كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير، والشرب قائماً لغير حاجة، والتنفس في الإناء، والأكل متكئاً، والأكل بالشمال، والقِران بين التمرتين (وذلك إذا كان الإناء مشتركاً بين جماعة، فإنه يُنهى عن أخذ اثنتين، حتى يستأذن مَنْ معه، ويُقاس على التمر: بقية الأصناف التي على شاكلته)، وعيب الطعام، والشرب من فم السِّقاء، أو القربة لغير حاجة (وذلك إذا كان مشتركاً، وأمَّا إن كان خاصاً به، فلا بأس إن عُلمت نظافتها)، والإكثار من الطعام، والصَّلاة بحضرة الطعام إذا كان يشتهيه.

* * *

ص: 161

‌سُنَنَ في السلام، و اللِّقاء، و المجالسة

‌سنن في السلام:

‌1) من السُّنَّة: إلقاء السلام.

والأدلة على السُّنيَّة كثيرة مستفيضة، ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ» ، قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللّهَ فَشمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ»

(1)

.

ووجه الشاهد: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ» ، وكذلك فعل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وصحابته في أحاديث كثيرة تدل على سنيَّة إلقاء السلام.

- وأمَّا ردُّه فهو: واجب، ويدل عليه: قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86]. والأصل في الأمر الوجوب ما لم يصرفه صارف، ولا صارف له، ونقل الإجماع على وجوب الرد غير واحد من أهل العلم، منهم: ابن حزم، وابن عبد البر، والشيخ تقي الدين وغيرهم -رحم الله الجميع-

(2)

.

وأفضل لفظ بالسَّلام، والردّ، وأكمله، الانتهاء إلى:(وبركاته)

(1)

رواه مسلم برقم (2162).

(2)

انظر: الآداب الشرعية (1/ 356). ط. مؤسسة الرسالة.

ص: 162

فيقول: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، فإن هذه أحسن تحية وأكملها.

قال ابن القيم رحمه الله: «وكان هديه -أي النَّبي صلى الله عليه وسلم انتهاء السَّلام، إلى: (وبركاته)»

(1)

.

وقال ابن عبد البر رحمه الله: «وقال ابن عباس، وابن عمر: انتهى السلام إلى البركة، كما ذكر الله عز وجل عن صالح عباده: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73]، وكانا يكرهان أن يزيد أحد في السَّلام على قوله: وبركاته»

(2)

، وبناءً عليه فلا تثبت زيادة (ومغفرته) في السَّلام.

قال ابن القيم رحمه الله: «وذكره أبو داود من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه، وزاد فيه: ثم أتى آخرٌ فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال:(أربعون) فقال: هكذا تكون الفضائل، ولا يثبت هذا الحديث، فإن له ثلاث علل

»

(3)

، ثم ذكر العلل رحمه الله.

وإفشاء السلام: سُنَّة بل سُنَّة مرغَّب بها بفضل عظيم؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شيءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَينَكُمْ»

(4)

.

‌2) استحباب تكرار السلام ثلاثاً، إن دعت الحاجة لذلك.

كأن يشك في سماع المُسَلَّم عليه حينما سلَّمَ عليه أول مرَّة؛ فيستحب أن يُكرِّر السلام مرتين، وإن لم يسمع فثلاثاً، وكذا إذا دخل على جمع كثير، كأن يدخل على مجلس كبير، فيه جمع كثير، فلو سلَّم

(1)

زاد المعاد (2/ 417).

(2)

التمهيد (5/ 293).

(3)

زاد المعاد (2/ 417).

(4)

رواه مسلم برقم (54).

ص: 163

مرَّة في أول دخوله لم يسمعه إلا من كان أول المجلس، فيحتاج إلى أن يُسلِّم ثلاثاً؛ من أجل أن يستوعب جميع مَنْ في المجلس.

ويدلّ عليه: حديث أنس رضي الله عنه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا؛ حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا»

(1)

.

قال ابن حجر رحمه الله: «وأنَّ السَّلام وحده قد يشرع تكراره إذا كان الجمع كثيراً، ولم يسمع بعضهم وقصد الاستيعاب، وبهذا جزم النووي في معنى حديث أنس رضي الله عنه وكذا لو سلَّم، وظن أنه لم يُسمع، فتُسَنّ الإِعادة، فيعيد مرَّة ثانية، وثالثة، ولا يزيد على الثالثة»

(2)

.

ويؤخذ من حديث أنس رضي الله عنه السَّابق، سنيَّة إعادة الكلمة ثلاثاً إذا دعت الحاجة للتكرار، كأن يتكلم ولا تفهم عنه الكلمة، فيُسنُّ أن يكرِّرها، فإن لم تُفهم كرَّرها الثالثة.

قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «لكنه يتكلم ثلاثاً إذا لم تفهم الكلمة عنه، أمَّا إذا فُهِمت فلا يكرِّر، لكن لو لم تُفْهَم؛ لكون المخاطب ثقيل السمع، أو لكثرة الضجة حوله، أو ما أشبه ذلك؛ فليعد مرتين، فإن لم تكفِ فثلاث»

(3)

.

‌3) من السُّنَّة تعميم السلام على من عرفت، ومن لم تعرف.

لحديث عبد الله بن عَمْرٍو رضي الله عنهما: «أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ

(1)

رواه البخاري برقم (95).

(2)

الفتح، حديث (6244)، باب: التسليم والاستئذان ثلاثاً.

(3)

شرح رياض الصالحين لشيخنا (2/ 1146).

ص: 164

لَمْ تَعْرِفْ»

(1)

.

- وأمَّا إذا كان السلام من حيث إفشائه على الخاصة الذين تعرفهم فقط، فهذا إفشاء مخالف للسُّنَّة، وهو من علامات الساعة؛ كما جاء في مسند الإمام أحمد، وصححه الألباني، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ أَشراطِ السَّاعَةِ إِذَا كَانَتْ التَّحِيَّةُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ»

(2)

، وفي رواية:«إِنَّ مِنْ أَشراطِ السَّاعَةِ: أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا لِلْمَعْرِفَةِ»

(3)

، وفي رواية: بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ تَسْلِيمَ الْخَاصَّةِ

(4)

.

‌4) السُّنَّة أن يكون ابتداء السلام ممن جاءت السُّنَّة بابتدائه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى المَاشي، والمَاشي عَلَى القَاعِدِ، وَالقَلِيلُ عَلَى الكَثِيرِ»

(5)

.

وفي رواية للبخاري: «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ»

(6)

.

ولا يعني مخالفة الأولى بالسَّلام الكراهة، بل لا بأس به، كأن يسلم الكبير على الصغير، أو الماشي على الرَّاكب، ونحو ذلك.

- فإن تكافأ الوصفان بأن كان راكب وراكب آخر، فأيهما يبدأ بالسلام؟

(1)

رواه البخاري برقم (12)، ومسلم برقم (39).

(2)

رواه أحمد برقم (3664)، انظر: الصحيحة للألباني (648).

(3)

رواه أحمد برقم (3848)، انظر: الصحيحة للألباني (648).

(4)

رواه أحمد برقم (3870)، وصححه الألباني (صحيح الأدب المفرد 1/ 402).

(5)

رواه البخاري برقم (6233)، ومسلم برقم (2160).

(6)

رواه البخاري برقم (6234).

ص: 165

أو كأن يكون جماعة، وجماعة أخرى متكافئة في العدد فأيهما يبدأ؟

الحق مشترك حينئذ؛ لتكافئهما، فالخيريَّة لمن يسبق بالسَّلام، فخيرهما الذي يبدأ بالسَّلام؛ لحديث أبي أيُّوب الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هذَا، وَيُعْرِضُ هذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»

(1)

.

‌5) من السُّنَّة السلام على الصِّبيان.

لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «أَنَّهُ كَانَ يَمْشي مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ»

(2)

.

وفي السَّلام على الصبيان: حملٌ للنَّفس على التواضع، وتعويد للصبيان على هذه الشعيرة، وإحياؤها في نفوسهم.

‌6) من السُّنَّة السَّلام عند دخول البيت.

وهذا يدخل في عموم السَّلام، وذلك بعدما يستاك؛ لأنَّ السِّواك سُنَّة عند دخول المنزل، وهذا هو الموضع الرابع من مواضع تأكُّد سنيَّة السواك؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم قالت:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ»

(3)

، فإذا بدأ بيته بالسِّواك دخل وسلَّم على أهل البيت، حتى أن بعض أهل العلم قال: من السُّنَّة أن تسلِّم إذا دخلت أي بيت ولو لم يكن فيه أحد؛ لعموم قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61].

(1)

رواه البخاري برقم (6077)، ومسلم برقم (2560).

(2)

رواه البخاري برقم (6247)، ومسلم برقم (2168).

(3)

رواه مسلم برقم (253).

ص: 166

قال ابن حجر رحمه الله: «ويدخل في عموم إفشاء السَّلام على النفس لمن دخل مكاناً ليس فيه أحد؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ

}

»

(1)

.

والسُّنَّة أن يُسَلِّم على أهل أي بيت يدخله، لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27].

‌فائدة:

تحصَّل مما سبق أنه يُسَنُّ عند دخول المنزل ثلاث سُنَن:

‌الأولى: ذكر اسم الله تعالى لاسيما ليلاً.

لحديث جابر بْنِ عبد اللّه رضي الله عنهما أَنَّه سمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشيطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ. وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشيطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَالْعَشَاءَ»

(2)

.

‌الثانية: السِّواك

؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم، وقد تقدَّم

(3)

.

‌الثالثة: السَّلام على أهل البيت.

‌7) من السُّنَّة خفض الصوت بالسَّلام، إذا دخل على قوم، وفيهم نائمون.

وهكذا كان يفعل النَّبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث المقداد بن

(1)

فتح الباري، حديث (6235)، باب: إِفشاءِ السلام.

(2)

رواه مسلم برقم (2018).

(3)

رواه مسلم برقم (253).

ص: 167

الأسود رضي الله عنه ففيه قال: «

فَكُنَّا نَحْتَلِبُ فَيَشربُ كُلُّ إنْسَانٍ مِنَّا نَصيبَهُ، وَنَرْفَعُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصيبَهُ، قَالَ: فَيَجِيءُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُسَلِّمُ تَسْلِيماً لَا يُوقِظُ نَائِماً، وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ»

(1)

.

‌8) من السُّنَّة تبليغ السَّلام.

تبليغ السَّلام سُنَّة -على خلاف بين أهل العلم كما سيأتي باختصار- كأن يقول لك شخص: «سلِّم لي على فلان» ، فإنَّ من السُّنَّة أن توصِّل هذا السَّلام لصاحبه.

ويدلّ عليه: حديث عائشة رضي الله عنها أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لها: «إِنَّ جِبْرِيلَ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ» قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللّهِ

(2)

.

ففي الحديث إيصال السَّلام لصاحبه؛ كما أوصل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سلام جبريل عليه السلام على عائشة رضي الله عنها، ويؤخذ من الحديث أيضاً سنيَّة بعث السَّلام مع أحد.

اختُلِف في حكم تبليغ السلام:

- إذا أُوكِل لشخص أن يحمل سلاماً ويوصله لآخر، كأن يقول له:«سلِّم لي على فلان» ، هل يجب على الحامل للسَّلام أن يبلِّغ السلام أو لا؟

على قولين:

قيل: يجب؛ لأنه يشبه الأمانة، وإيصال الأمانة واجب، واختاره النَّووي رحمه الله.

وقيل: سُنَّة؛ لأنه يشبه الوديعة، والوديعة لا يُلزَم مَنْ أخذها

(1)

رواه مسلم برقم (2055).

(2)

رواه البخاري برقم (3217)، ومسلم برقم (2447).

ص: 168

بتحملها، إلّا إذا تكفل بها، واختاره ابن حجر رحمه الله.

والأظهر -والله أعلم-: القول الثاني، وأن تبليغ السَّلام سُنَّة في الأصل، إلا أن يستأْمِنه المُسَلِّم، فيقول له:«أمانة معك، أن توصل السَّلام لفلان» ، أو نحوها من العبارات التي تُقيَّد بكونها أمانة، وتحمَّلها المبلِّغ، وقَبِل بتوصيلها.

وبعض العلماء ومنهم ابن حجر -رحم الله الجميع- قالوا: بسُنِّيَّة الرَّد على من حمل السَّلام، أيضاً مع الرد على مَنْ سلَّم، فيكون لحامل السَّلام أيضاً نصيباً من السَّلام، فالأفضل لمن نُقل له سلاماً، أن يقول لحامل السلام: عليك وعليه السَّلام ورحمة الله وبركاته، ونحو ذلك.

واستدلّ ابن حجر رحمه الله بدليلين:

أحدهما: حديث رجل من الصَّحابة عند أحمد، وأبي داود، وحسَّنه الألباني، وفيه: أنَّ رجلاً أوصل سلام أبيه للنَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للرجل:«عَلَيْكَ، وَعَلَى أَبِيكَ السَّلَامُ»

(1)

.

والآخر: حديث أنس رضي الله عنه عند النَّسَائي، وفيه: قول خديجة رضي الله عنها لمَّا بلَّغها عن جبريل سلام الله تعالى عليها، قالت للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:«وعليك، وعلى جبريل السلام»

(2)

.

قال ابن حجر رحمه الله في شرحه لحديث عائشة رضي الله عنها السَّابق: «قال النَّووي: في هذا الحديث مشروعية إرسال السَّلام، ويجب على الرسول تبليغه لأنه أمانة، وتُعُقِّب بأنه بالوديعة أشبه، والتحقيق أنَّ الرسول إن التزمه أشبه الأمانة، وإلا فوديعة، والودائع إذا لم تُقبل لم يلزمه شيء، قال: وفيه إذا أتاه شخص بسلام من شخص، أو في ورقة وجب الرَّد

(1)

رواه أحمد برقم (23104)، وأبو داود برقم (5231).

(2)

رواه النَّسائي في السُّنن الكبرى برقم (8359).

ص: 169

على الفور، ويستحب أن يرد على المبلِّغ، كما أخرج النَّسَائي عن رجل من بني تميم أنه بلَّغ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سلام أبيه، فقال له:«عَلَيْكَ، وَعَلَى أَبِيكَ السَّلَامُ» ، وقد تقدَّم في المناقب أن خديجة رضي الله عنها لمَّا بلَّغها النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام سلام الله تعالى عليها، قالت:«إِنَّ الله هُوَ السَّلامُ، وَمِنْهُ السَّلامُ وَعَلَى جِبْرِيلَ السَّلامُ» ، ولم أرَ في شيء من طرق حديث عائشة رضي الله عنها أنها ردَّت على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أنه غير واجب»

(1)

.

‌9) السَّلام عند دخول المجلس، وعند مفارقته أيضاً.

يُسَنُّ لمن أراد أن يقوم من المجلس، ويفارقه أن يُسلِّم عليهم قبل أن يفارقهم، كما سلَّم حين قَدِم عليهم.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى المَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ، فإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ، فلَيْسَتِ الأولَى بِأَحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ»

(2)

.

‌10) تُسَنُّ المصافحة مع السَّلام عند اللُّقيا.

وعلى هذا عمل الصحابة رضي الله عنهم، دلَّ عليه: حديث قَتادةَ رضي الله عنه قال: «قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَكَانَتْ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ»

(3)

.

‌11) يُسَنُّ التبسّم، وطلاقة الوجه عند اللقاء.

لحديث أَبِي ذَرّ رضي الله عنه قال: قال لي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شيئاً، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»

(4)

، وعند الترمذي من

(1)

الفتح، حديث (6253)، باب: إذا قال: فلانٌ يُقرئك السلام.

(2)

رواه أحمد برقم (9664)، وأبو داود برقم (5208)، والترمذي برقم (2706)، وصححه الألباني (صحيح الجامع 1/ 132).

(3)

رواه البخاري برقم (6263).

(4)

رواه مسلم برقم (2626).

ص: 170

حديث أبي ذَرّ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَبَسُّمُكَ في وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ»

(1)

.

‌12) تُسَنُّ الكلمة الطيبة فهي صدقة.

وسواء كانت عند اللقاء، أو المجالسة، أو في أي حال، فالكلمة الطيبة سُنَّة؛ لأنها صدقة.

ويدلّ عليه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ»

(2)

.

وحديث عَدِيِّ بن حاتِم رضي الله عنها قال: «ذَكَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم النَّارَ فَأعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ: «اتَّقُوا النَّار» ، ثُم أَعْرَضَ وَأَشَاحَ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ:«اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» (6).

وكثيراً ما يجري على ألسنة الناس كلامٌ طيبٌ، لو احتسبوه لأُجروا على ذلك كثيراً، وأخذوا من هذه الصدقات بحظ وافر.

قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «كلمة طيبة مثل أن تقول له: كيف أنت؟ كيف حالك؟ كيف إخوانك؟ كيف أهلك؟ وما أشبه ذلك؛ لأن هذه من الكلمات الطيبة التي تدخل السرور على صاحبك، كل كلمة طيبة فهي صدقة لك عند الله، وأجر، وثواب»

(3)

.

(1)

رواه الترمذي برقم (1956)، وصححه الألباني (الصحيحة 572).

(2)

رواه البخاري برقم (2989)، ومسلم برقم (1009).

(6)

رواه البخاري برقم (6023)، ومسلم برقم (1016)

(3)

انظر: شرح رياض الصالحين لشيخنا (2/ 996) باب: استحباب طيب الكلام، وطلاقة الوجه عند اللقاء.

ص: 171

‌13) استحباب ذكر الله تعالى في المجلس.

والأحاديث في فضائل مجالس الذكر، والحث عليها كثيرة، ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَال: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا، وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا، وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، قَالَ: يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنْ النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فِيهِمْ: فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمْ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ»

(1)

.

(1)

رواه البخاري برقم (6408)، ومسلم برقم (2689).

ص: 172

ولمجالس الذكر فضائل كثيرة -ليس هذا موطن بسطها- فينبغي لمن جلس مجلساً ألَّا يقوم إلا وقد ذكر الله تعالى فيه.

وجاء في السُّنَّة ما يدل على ذمِّ المجالس التي لا يُذكر الله سبحانه فيها، ومن ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لا يَذْكُرونَ الله فِيهِ، إِلاَّ قَامُوا عنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وكَانَ لَهُمْ حَسرةً»

(1)

.

‌14) يُسَنُّ ختم المجلس بـ: (كفارة المجلس).

لحديث أَبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَلَس في مَجْلِسٍ فَكثُرَ فيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أن لَا إلَهَ إلاّ أنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلاّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ في مَجْلِسِهِ ذَلِكَ»

(2)

(3)

.

ومما نُهي عنه في هذا الباب:

ابتداء أهل الكتاب بالسلام، ومصافحة المرأة الأجنبية، والخلوة بها، وألا يؤم الزائر صاحب البيت بالصلاة إلا بإذنه، وإقامة الشخص من مجلسه والجلوس فيه، والتفريق بين اثنين في المجلس بدون إذنهما، وتناجي اثنين دون الثالث، وسماع حديث قوم وهم له كارهون، وتحديث

(1)

رواه أحمد برقم (10680)، وأبو داود برقم (4855)، وصححه الألباني (تخريج الكلم الطيب 1/ 166).

(2)

رواه الترمذي برقم (3433).

(3)

رواه أبو داود برقم (4857). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. والنَّسائي -الكبرى- برقم (1343). من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال ابن حجر رحمه الله في آخر شرح الفتح: «سنده قوي» ، وكذلك صححه في نكته على ابن الصلاح، والحديث بمجموع طرقه يقوى، وصححه الألباني (صحيح الجامع 2/ 1065).

ص: 173

الشخص بكل ما سمعه من الناس؛ لأن في كلام الناس ما هو كذب، وترويع المسلم، والتكبر في المشي، والتجسس على المسلمين، وآفات اللسان كالكذب، وإضحاك القوم كذباً، وكالغيبة، والنميمة، واللعن، والطعن، والفحش، والجدال المذموم، والخصومة، والحلف بغير الله، وكثرة الحلف بالله تعالى لاسيما في البيع والشراء، والتفاخر والطعن في الأنساب، واحتقار الآخرين، والشماتة بالمسلمين وغيرها من آفات اللسان، وكذلك الحسد، وسوء الظن، والغل، وغيرها من الآفات القلبية.

* * *

ص: 174

‌سُنن في اللّباس والزِّينة

‌من السُّنَّة التَّيامن في التَّنعُّل.

من السُّنَّة إذا أراد المسلم أن يلبس نعليه أن يبدأ باليمنى، ومن السُّنَّة إذا أراد أن ينزعهما يبدأ باليسرى.

ويدلّ عليه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ لِيَكُنْ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ»

(1)

.

وجاء عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً، أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيُمْنَى، وَإذَا خَلَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ، وَلْيُنْعِلْهُمَا جَمِيعاً، أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعاً»

(2)

. وفي لفظ آخر لمسلم: «لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعاً، أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعاً»

(3)

.

وفي لفظ: «إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَمْشِ فِي الأُخْرَى حَتَّى يُصْلِحَهَا»

(4)

، و (الشِّسْع): يقال للسير من سيور النعال (شِسْع).

ففي هذين الحديثين، ثلاث سُنَن:

1.

أن يبدأ باليمنى عند لبس النعال.

2.

أن يبدأ باليسرى عند نزع النعال.

(1)

رواه البخاري برقم (5856).

(2)

رواه مسلم برقم (2097).

(3)

رواه مسلم برقم (2097).

(4)

رواه مسلم برقم (2098).

ص: 175

3.

أن يلبس النعلين جميعاً، أو يخلعهما جميعاً، بحيث لا يمشي بنعل واحدة، بل جاء النهي عن المشي بنعل واحدة، كما في الرواية الأخرى:«لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَة» .

- فإن قيل: ما الحكمة في النَّهي عن المشي بنعل واحدة؟

قال النَّووي رحمه الله: «يُكرَه المشي في نعل واحدة، أو خف واحد، أو مداس واحد، لا لعذر، ودليله هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم، قال العلماء: وسببه أن ذلك تشويه، ومثلة، ومخالف للوقار، ولأن المنتعلة تصير أرفع من الأخرى فيعسر مشيه وربما كان سبباً للعثار، وهذه الآداب الثلاثة التي في المسائل الثلاث مجمع على استحبابها وأنها ليست واجبة، وإذا انقطع شسعه، ونحوه فليخلعهما، ولا يمشي في الأخرى وحدها حتى يصلحها، وينعلها كما هو نصّ في الحديث

(1)

.

وجاء أيضاً في بيان الحكمة من النَّهي عن المشي بنعل واحدة غير ما ذكره النَّووي رحمه الله بأنَّ الشيطان يمشي بنعل واحدة، إن صح ما أخرجه الطَّحَاوي في مشكل الآثار: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الشيطَانَ يَمْشي فِي النعْلِ الوَاحِدَة»

(2)

.

وأيضاً من السُّنَّة الصلاة بالنعال؛ لحديث سعيد بن يزيد رضي الله عنه قال: سألتُ أنس بن مالك رضي الله عنه: «أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ»

(3)

.

وجاء في سنن أبي داود حديث شَدَّاد بن أَوْسٍ رضي الله عنه قال: قال

(1)

شرح النووي لمسلم، حديث (2097)، باب: استحباب لبس النعال في اليمنى أولاً، والخلع من اليسرى أولاً، وكراهة المشي في نعل واحدة.

(2)

انظر: السلسلة الصحيحة (1/ 616)، رقم (348). وصححه الألباني.

(3)

رواه البخاري برقم (386)، رواه مسلم برقم (555).

ص: 176

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «خَالِفُوا الْيَهُودَ، فإِنَّهُمْ لا يُصَلُّونَ في نِعَالِهِمْ، وَلَا خِفَافِهِمْ»

(1)

.

ومما ينبغي التنبيه عليه أنَّ السُّنَّة إذا كان تطبيقها يؤدِّي إلى مفسدة، فإن درء هذه المفسدة يُقدَّم، ومن ذلك ما ربما يفعله بعض الحريصين على السُّنَّة فيطبِّق هذه السُّنَّة في مساجدنا اليوم، وربما يحصل له نزاع، واستنكار من بعض العوام الذين يجهلونها -ومثل هذا الصنيع يختلف من شخص لآخر، ومن مجتمع لآخر من حيث درء المفسدة وحصولها- وحينئذ لا تُطبَّق السُّنَّة والحالة هذه؛ لوجود مفْسَدة الاختلاف والنزاع التي تنافي مقصود الجماعة.

وإن أُمنَت المفْسَدة لابد من التنبّه لأمر آخر، ألا وهو: تلويث المساجد بما قد يعْلُق بفرشها من أذى هذه النّعال، فيؤدِّي إلى اتساخها، وحينئذ يتأكَّد عدم تطبيق هذه السُّنَّة؛ لهذه العلَّة أيضاً إن كانت حاصلة، وفي السُّنَّة النبوية كثير من النصوص التي تحث على صيانة المساجد، وتنظيفها، وإماطة ما فيها من أذى، وأنَّ البزاق فيها خطيئة، وكذا سائر الأذى فإنه من مساوئ الأعمال.

على أنه لا يُفهم مما سبق التهاون في هذه السُنَّة، والتزهيد في تطبيقها -معاذ الله-، وما جرْي قلمي في ميدان هذه الصفحات؛ إلا من أجل بيان السُّنَّة، والحث عليها، والتمسك بها، وللمسلم أن يُطبِّق هذه السُّنَّة في كثير من المواطن: كأن يُصلِّي بنعليه في بيته، أو عندما يخرج للنزهة، أو في السَّفَر، أو في مسجد اعتادوا على تطبيق هذه السُّنَّة، ونحو ذلك من المواطن التي يمكن فيها تطبيق هذه السُّنَّة.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يحيا على السُّنَّة ويموت عليها،

(1)

رواه أبو داود برقم (652).

ص: 177

ويُجَنِّبَنا البدع، والفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه للدعاء سميع، وبالإجابة قدير، وهو رحيم كريم، فنسأله من جوده الواسع العظيم، لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.

-‌

‌ مِنْ السُّنَّة لبس البياض من الثياب.

والمقصود: أن يلبس الثياب ذات اللون الأبيض؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُم الْبَيَاضَ فإنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكم، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُم»

(1)

.

والأصل في الأوامر، والنَّواهي أنها خطاب للأمَّة جمعاء رجالاً ونساءً، حتى يأتي دليل يدلّ على خصوصية الرجال أو النِّساء، وفي الحديث السَّابق لا مخصِّصَ لأحدهما عن الآخر، ولكن قد يقال بأن سنيَّة البياض للرجال فقط في مجتمع لم يكن من عادة نسائه لبس البياض؛ لئلا يشابه لباسُ النِّساء لباسَ الرجال، أما إذا انتفت العلة فالأصل أنَّ الخطاب للجميع، فالمرأة مخاطبة بهذه السُّنَّة كالرجل ما لم يترتب على ذلك محذور.

قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «وهو شامل للبس الثياب البيض: القمص، والأُزر، والسراويل، كلها مما ينبغي أن تكون من البياض، فإنه أفضل، ولكن لو أنه لبس من لون آخر فلا بأس، بشرط ألَّا يكون مما يختص لبسه بالنساء»

(2)

.

-‌

‌ من السُّنَّة استعمال الطِّيب.

فاستعمال الطِّيب سُنَّة، ويتأكد في مواطن -سيأتي بيان بعضها-.

(1)

رواه أحمد برقم (2219)، وأبو داود برقم (3878)، و الترمذي برقم (994)، وصححه الألباني (صحيح الجامع 1/ 267).

(2)

شرح رياض الصالحين، لشيخنا (2/ 1087).

ص: 178

ومما يدلّ على سنيَّة التطيّب:

أ. حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «حُبِّبَ إلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»

(1)

.

- وأمَّا لفظ: «حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ» فضعيف.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة منه إلى أصحابه، وهو في حبس الإسكندرية:«وكان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «حُبِّبَ إلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ» ، ثم يقول:«وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ، ولم يقل:«حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ» ، كما يرفعه بعض الناس، بل هكذا رواه الإمام أحمد، والنَّسَائي أنَّ المحبب إليه من الدنيا: النِّسَاء، والطيب، وأمَّا قرة العين، تحصل بحصول المطلوب وذلك في الصلاة»

(2)

.

ب. وعن أنسٍ رضي الله عنه أيضاً قال: «مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلَا دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا شَمِمْتُ رِيحًا قَطُّ، أَوْ عَرْفًا قَطُّ، أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ، أَوْ عَرْفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» (4). والديباج: نوع من أنواع الحرير، والعَرف: هو الريح الطيب.

ج. وعن نافع، قال:«كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا اسْتَجْمَرَ، اسْتَجْمَرَ بِألُوَّةٍ، غَيْرَ مُطَرَّاةٍ، وَبِكَافُورٍ، يَطْرَحُهُ مَعَ الأَلُوَّةِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

قال النَّووي رحمه الله: «الاستجمار هنا: استعمال الطِّيب، والتبخّر به،

(1)

رواه أحمد برقم (12293)، والنَّسَائي برقم (3940). وقال الألباني في صحيح النَّسَائي:«حسن صحيح» .

(2)

مجموع الفتاوى (28/ 31).

(4)

رواه البخاري برقم (3561).

(3)

رواه مسلم برقم (2254).

ص: 179

مأخوذ من: المجمر، وهو: البخور، وأمَّا الألُوَّة، فقال الأصمعي، وأبو عبيد، وسائر أهل اللغة: والغريب هي: العود يتبخر به

، وقوله:(غير مطراة) أي: غير مخلوطة بغيرها من الطيب، ففي هذا الحديث استحباب الطيب للرجال، كما هو مستحب للنِّسَاء لكن يُستحب للرجال من الطيب ما ظهر ريحه، وخفي لونه، وأمَّا المرأة فإذا أرادت الخروج إلى المسجد، أو غيره كرِهَ لها كل طيب له ريح، ويتأكَّد استحبابه للرجال يوم الجمعة، والعيد عند حضور مجامع المسلمين، ومجالس الذكر، والعلم، وعند إرادته معاشرة زوجته، ونحو ذلك -والله أعلم-»

(1)

.

- وكان يَكرَه صلى الله عليه وسلم أن توجد منه ريح كريهة: فقد جاء عند البخاري في حديث طويل عن عائشة رضي الله عنها قالت: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ»

(2)

. أي: الريح غير الطيبة.

-‌

‌ أطيب الطيب: المسك.

لما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخُدْرِيِ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسرائِيلَ، حَشَتْ خَاتَمَهَا مِسْكاً، وَالْمِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ»

(3)

. ورواه أبو داود بلفظ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أطْيَبُ طِيبُكُم المِسْكُ»

(4)

.

فالأفضل للمسلم أن يتطيَّب بأفضل ما يجد، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتطيب عند إحرامه بأطيب ما يجد فعَن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ

(1)

شرح النووي لمسلم، حديث (2254)، باب استعمال المسك وأنه أطيب الطيب وكراهة رد الريحان والطيب.

(2)

رواه البخاري برقم (6972).

(3)

رواه مسلم برقم (2522).

(4)

رواه أبو داود برقم (3158)، وصححه الألباني (صحيح أبي داود 3/ 200).

ص: 180

رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ، يَتَطَيَّبُ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ»

(1)

.

- يُكْرَه ردُّ الطيب.

ويدلّ عليه:

أ. حديث أَنسٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ»

(2)

.

ب. وحديث أَبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدَّهُ فإِنَّهُ طَيِّبُ الرِّيحِ خَفِيفُ المَحْمَلِ»

(3)

.

وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ، فَلَا يَرُدُّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ طَيِّب الرِّيحِ»

(4)

، والريحان: هو كل نبتة لها رائحة طيبة، ويحتمل أن يراد بالريحان في الحديث: جميع أنواع الطيب، ويكون مشتقاً من الرائحة، كما قال المنذري.

قال ابن حجر رحمه الله: «قلت: مخرج الحديث واحد، والذين رووه بلفظ الطيب أكثر عدداً، وأحفظ فروايتهم أولى، وكأن من رواه بلفظ:(ريحان) أراد التعميم حتى لا يخص بالطيب المصنوع

، قال ابن العربي: إنما كان لا يرد الطيب لمحبته فيه، ولحاجته إليه أكثر من غيره؛ لأنه يناجي من لا نناجي»

(5)

.

قال صاحب عون المعبود رحمه الله: «والحديث يدلّ على أن ردّ الطِيب خلاف السُّنَّة؛ لأنه باعتبار ذاته خفيف لا يثقل حامله، وباعتبار عرضه طيب لا يتأذى به من يعرض عليه، فلم يبقَ حامل على الرد، فإن كل ما

(1)

رواه مسلم برقم (1190).

(2)

رواه البخاري برقم (2582).

(3)

رواه أبو داود برقم (4172)، وصححه الألباني (صحيح الجامع 2/ 1092).

(4)

رواه مسلم برقم (2253).

(5)

الفتح، حديث (5929)، باب: من لم يَرُدَّ الطيب.

ص: 181

كان بهذه الصِّفة محبب إلى كل قلب مطلوب لكل نفس»

(1)

.

-‌

‌ ويتأكد استعمال الطيب في مواضع منها:

‌1) يوم الجمعة:

لحديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ، عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَأَنْ يَسْتَنَّ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ»

(2)

، ويَستَن: أي: يستاك، وهذا هو الموضع الخامس من مواضع تأكّد السَّواك.

وعند مسلم بلفظ: «وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ»

(3)

، وفي لفظ له أيضاً:«وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ» . أي: من طيب امرأته، وفي هذين اللفظين زيادة تأكيد على استحباب استعمال الطيب للجمعة، ومن أهل العلم من استحب التطيُّب للعيدين، أيضاً قياساً على الجمعة، وأمَّا من حيث الاستدلال فلا أذكر دليلاً يصحَّ في هذا -والله أعلم-، لكنه من عموم التجمل المرغَّب فيه يوم العيد.

‌2) المرأة حينما تطهر من حيضها:

لحديث عائشة رضي الله عنها أَنَّ امرأةً سألتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المَحِيضِ فأَمَرَها كيفَ تَغتَسِلُ قال: «خُذي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فتَطهَّري بها» ، قالت: كيفَ أَتَطهَّرُ؟ قال: «تَطهَّري بها» . قالت: كيف؟ قال: «سُبحانَ اللّهِ، تَطهَّري» ، فاجْتَبذْتُها إِليَّ فقلتُ: تَتَبَّعي بها أثرَ الدَّمِ

(4)

.

(1)

انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، حديث (4172)، باب: في رد الطيب.

(2)

رواه البخاري برقم (880)، ومسلم برقم (846).

(3)

رواه مسلم برقم (846).

(4)

رواه مسلم برقم (846).

ص: 182

دلَّ الحديث على استحباب تطيب المرأة الحائض، ومثلها النفساء بعد طُهرها، بأن تتبع بالطيب أثر الدم من بدنها، وليس خاصاً بالفرج فقط، كما هو قول جماعة من أهل العلم؛ لدلالة لفظ الحديث على تتبع أثر الدم أينما كان، والأفضل أن تستعمل في ذلك المسك.

فائدة:

يؤخذ من الحديث السابق، وقول النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم:«سُبحانَ اللّهِ، تَطهَّري» مشروعية التسبيح عند التعجب و (سبحان الله) تأتي للتعجب، وتأتي للإنكار، وكان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا تعجب من شيء قال:(سبحان الله).

ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه حينما أجنب، وكَرِه أن يُجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الحال قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«سُبْحَانَ الله إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجَسُ»

(1)

.

وفي الصحيحين لمَّا مرَّ رجلان بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ومعه امرأة قال لهما: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ» فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ

(2)

.

وكذلك التكبير يأتي للتعجب، ففي الصحيحين سأل عمُر رضي الله عنه النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: «لَا» ، قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ

(3)

.

وكذلك ما جاء عند الترمذي، وصححه حينما قالوا:«يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ، كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَكْبَر إِنَّهَا السَّنَن»

(4)

.

(1)

رواه البخاري برقم (314)، ومسلم برقم (332).

(2)

رواه مسلم برقم (371).

(3)

رواه البخاري برقم (6218)، ومسلم برقم (1479).

(4)

رواه الترمذي، وصححه برقم (2180).

ص: 183

فالتكبير، والتسبيح، مشروعان عند التعجب، ومن أهل العلم من كَرِه التكبير عند التعجب، وهو قول مرجوح، وقد بوَّب البخاري في صحيحه:[باب: التكبير، والتسبيح عند التعجب]، ومثله النَّووي في الأذكار -رحمهما الله-.

‌3) قبل الدخول في الإحرام:

لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ»

(1)

، ففيه استحباب التطيّب عند الإحرام للحج، أو العمرة، واستحبابه قبل طواف الإفاضة لمن تحلل التحلل الأول.

‌4) تطييب الميّت:

لحديث أُمِّ عطيَّة رضي الله عنها قالت: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ:«اغْسِلْنَهَا ثُلاثَاً، أَوْ خَمْساً، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُوراً، أَوْ شيئاً مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فآذِنَّنِي» ، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إلَيْنَا حِقْوَهُ، فَقَال:«أَشْعِرْنَهَا إيَّاهُ»

(2)

، والكافور: أخلاط من الطيب.

وألحق بعض أهل العلم -كما تقدَّم من كلام النَّووي- استحباب الطيب للزوجة، وكذا الزوج؛ لأن هذا من حُسْن المعاشرة، وحسن الاستمتاع، وكذلك حضور المجامع -أي التي يجتمع فيها الناس، كمجالس العلم والعيدين، ونحوهما قياساً على الجمعة-، وتقدَّمت المواضع التي ورد فيها الدليل -والله أعلم-.

(1)

رواه البخاري برقم (1539)، ومسلم برقم (1189).

(2)

رواه البخاري برقم (1253)، ومسلم برقم (939).

ص: 184

‌ويُستثنى من استعمال الطِّيب.

المُحْرِم رجلاً كان أو امرأة، فإن المعتمر، أو الحاج بعدما يدخل في نُسكه يَحْرُم عليه استعمال الطيب حتى بعد موته إن مات مُحْرِماً؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الذي وقصته ناقته، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«وَلا تمسُّوْهُ طِيْباً»

(1)

، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمَّا يلبس المحرم من الثياب، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شيئاً مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الْوَرْسُ»

(2)

.

والزعفران، والورس كانا من أنواع الطِّيب التي يستخدمونها.

وتزيد المرأة في موضعين تُنهى عن التطيَّب فيهما:

الأول: إذا كانت حَادَّة على زوج: فإنها تمتنع عن الطِّيب أربعة أشهر، وعشرة أيام.

ويدلّ عليه: حديث أم عَطِيَّة رضي الله عنها قالت: «كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشراً، وَلَا نَكْتَحِلُ، وَلَا نَتَطَيَّبُ، وَلَا نَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً، وَقَدْ رُخِّصَ لِلْمَرْأَةِ فِي طُهْرِهَا، إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا، فِي نُبْذَةٍ مِنْ قُسْطٍ وَأَظْفَارٍ»

(3)

، وقولها:«فِي نُبْذَةٍ مِنْ قُسْطٍ وَأَظْفَارٍ» . النبذة: هي الشيء اليسير، والقُسط: بضم القاف، ويقال بالكاف المضمومة (كُست) وتاء بدل الطاء، والقسط، والأظفار: نوعان معروفان من أنواع البخور.

الثاني: إذا كانت ستمرُّ بمكان فيه رجال أجانب، فإنه يَحْرُم عليها الطِّيب حينئذ.

(1)

رواه البخاري برقم (1267)، ومسلم برقم (1206).

(2)

رواه البخاري برقم (1838)، ومسلم برقم (1177).

(3)

رواه البخاري برقم (313)، ومسلم برقم (938).

ص: 185

ويدلّ عليه: حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَت ثُمَّ مَرَّتْ عَلَى القَوْم لِيَجِدُوا رِيْحَهَا فَهِيَ زَانِيَة»

(1)

.

وحديث زينب امرأة عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنهما قالت: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيباً»

(2)

.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «أيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُوراً، فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ»

(3)

.

-‌

‌ من السُّنَّة التيمُّن عند ترجيل الشَّعَر.

والمقصود بترجيل الشعر هو: مشطه، فإنَّ مِنْ السُّنَّة أن يبدأ بالجهة اليمنى، ثم اليسرى.

ويدلّ عليه: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعجِبهُ التَّيَمُّنُ في تَنَعُّلهِ وتَرَجُّلهِ وطُهورِه وفي شأنهِ كلِّه»

(4)

.

وتقدَّم أنَّ تقديم اليمنى في أعضاء الوضوء من السُّنَّة، وكذا هو في الغُسل فإنَّ من السُّنَّة البدء بالشق الأيمن قبل الأيسر، وكذلك تقدَّم قريباً أنَّ مِنْ السُّنَّة التيمُّن عند التنعّل، والموضع الثالث الذي يعجب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم التيمُّن فيه في هذا الحديث هو: الترجُّل، وهو: تسريح الشعر، ويدخل فيه دهنه -والله أعلم-.

وفي قول عائشة رضي الله عنها: «في شأنِه كُلِّه» -أي أنه يعجبه التيمُّن في

(1)

رواه أحمد برقم (19578)، وأبو داود برقم (4173)، والترمذي برقم (2786)، والنَّسَائي برقم (5127)، وحسَّنه الألباني (صحيح الجامع 1/ 525).

(2)

رواه مسلم برقم (443).

(3)

رواه مسلم برقم (444).

(4)

رواه البخاري برقم (168)، ومسلم برقم (268).

ص: 186

شأنه كله-، وهذا في الأمور التي هي من باب التكريم، كما قرَّر هذه القاعدة غير واحد من أهل العلم.

وجاء في رواية عند البخاري: «يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ»

(1)

-أي ما لم يمنعه مانع-، وهي إشارة إلى شِدَّة المحافظة على التيمن، ولكن يُخَصُّ من ذلك ما كان من باب التكريم، كالثلاثة الواردة في الحديث، وهي: التنعّل، والترجّل، والطهور، وغيرها مما وردت فيها السُّنَّة كدخول المسجد، وحلق الرأس، والأكل، والشرب، وغيرها من الطيِّبات، مما لم يرد بها دليل على وجه الخصوص.

- وأمَّا ما كان من باب الأذى فإنه يبدأ بها باليسار، كالاستنجاء، وخلع النعلين، ودخول الخلاء ونحوه، وهذه قاعدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، والنَّووي رضي الله عنهما.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «اليمنى أحقّ بالتقديم إلى الأماكن الطيبة وأحق بالتأخير عن الأذى ومحل الأذى»

(2)

.

وعليه فالتقديم بينهما على ثلاث أحوال:

الحال الأولى: ما كان من باب التكريم -أي من قبيل الطيبات- فتقدَّم فيه اليمنى رجلاً أو يداً، كالأكل والشرب، واللبس، والوضوء، والغسل، والانتعال، والترجل، وحلق الرأس، ونحوه.

ويدلّ عليه: حديث عائشة رضي الله عنها الذي تقدَّم.

الحال الثانية: ما كان من باب الأذى -أي من قُبيل الخبائث- فتُقدَّم فيه اليسرى رجلاً، أو يداً.

كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، والاستنجاء، وخلع النعلين، والامتخاط، ونحوه.

(1)

رواه البخاري برقم (5380).

(2)

شرح العمدة (1/ 139).

ص: 187

ويدلّ عليه: حديث أبي قتادة رضي الله عنه المتفق عليه، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنَ الْخَلَاءِ بِيَمِينِهِ»

(1)

.

الحال الثالثة: ما تردد فيه بين الأمرين-أي لم يظهر فيه التكريم، ولم يظهر فيه الأذى والإهانة- فالأصل فيه التيمُّن.

ويدلّ عليه: حديث الباب حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» .

قال النَّووي رحمه الله في شرحه لحديث عائشة رضي الله عنها الذي تقدَّم: «هذه قاعدة مستمرة في الشرع، وهي إنما كان من باب التكريم والتشريف، كلبس الثوب، والسراويل، والخف، ودخول المسجد، والسواك، والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، وترجيل الشعر وهو: مشطه، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسلام من الصَّلاة، وغسل أعضاء الطهارة، والخروج من الخلاء، والأكل، والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، وغير ذلك مما هو في معناه يستحب التَّيامن فيه، وأمَّا ما كان بضده كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، والامتخاط، والاستنجاء، وخلع الثوب، والسراويل، والخف، وما أشبه ذلك فيُستحب التَّياسر فيه، وذلك كله بكرامة اليمين، وشرفها -والله أعلم-، وأجمع العلماء على أنَّ تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سُنَّة، لو خالفها فاته الفضل وصحّ وضوؤه»

(2)

.

فائدة:

يُسنُّ لمن أراد حلق شعره أن يبدأ بالجانب الأيمن، ثم الأيسر

(1)

رواه البخاري برقم (154)، ومسلم برقم (267).

(2)

شرح النووي لمسلم حديث رقم (267)، باب: النهي عن الاستنجاء باليمين.

ص: 188

وهذه سُنَّة مندثرة، دلَّ عليها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:«أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى مِنًى، فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى وَنَحَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلاَّقِ: «خُذْ» ، وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ الأَيْسر، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ»

(1)

.

ومما يُنهى عنه في هذا الباب:

التشبَّه من الرجال بالنِّسَاء ومن النِّسَاء بالرجال، والتشبّه بالكفار في اللباس ونحوه، والخيلاء في اللباس، والإسبال، وكشف العورة، ولبس الذهب، والحرير للرِّجال إلا من عذر، وحلق اللحية، وعدم قص الشارب، وإظهار المرأة مفاتنها على وجه غير مشروع، والمرأة تجتنب النَّمص، والوشم وفلج الأسنان وهو: تباعد ما بينها، ووصل الشعر، وتغيير خلق الله تعالى، والصبغ بالسواد.

* * *

(1)

رواه مسلم برقم (1305).

ص: 189

‌سُنَن في العطاس، والتثاؤب

‌سنن العُطاس:

‌1) يُسَنُّ للعاطس أن يقول: «الحمد لله» .

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ»

(1)

.

ويسنُّ له أن ينوِّع فيقول أحياناً: «الحمد لله على كل حال» ، لما رواه أبوداود:«إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُم فَلْيَقُلْ: الْحَمدُ لله عَلَى كلِّ حَال»

(2)

.

ويقول له المشمِّت: «يرحمك الله» ، ويُسَنُّ للعاطس أن يردَّ عليه، فيقول:«يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» ، وكل هذا دلَّ عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه السَّابق.

فائدة:

تشميت العاطس فرض كفاية وبه قال جمهور العلماء، إذا فعله بعض الحاضرين سقط التكليف عن الباقين، ومع ذلك لا ينبغي تركه خروجاً من استدلال من قال: بفرضية العين.

(1)

رواه البخاري برقم (6224).

(2)

رواه أبو داود برقم (5031). وقال ابن القيّم رحمه الله في زاد المعاد (2/ 436) عن هذا الحديث: «إسناده صحيح» .

ص: 190

واستدلوا باستدلال له حظ من النَّظر، وهو: ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «

فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ

». الحديث

(1)

.

‌2) السُّنَّة ألَّا يُشمَّت العاطس إذا لم يحمد الله تعالى.

فإذا لم يحمد اللهَ تعالى العاطس فليس من السُّنَّة أن نشمِّته، بل السُّنَّة ألا يُشمَّت؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال: عَطَسَ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يُشَمِّتْ الْآخَرَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَمَّتَّ هَذَا وَلَمْ تُشَمِّتْنِي، قَالَ:«إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ، وَلَمْ تَحْمَدْ اللَّهَ»

(2)

، وهذا من فعله صلى الله عليه وسلم وجاء من قوله صلى الله عليه وسلم ما رواه مسلم، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللّهَ، فَشَمِّتُوهُ، فَإِنَّ لَمْ يَحْمَدِ اللّهَ، فَلَا تُشَمِّتُوهُ»

(3)

.

ولكن إذا كان المقام مقام تعليم كأن يربي الأبُ ابنَه، أو المعلمُ طلابَه، أو نحو ذلك ممّا هو في مقام التعليم، فإنه يقول له: قل: «الحمد لله» ؛ ليربيه على هذه السُّنَّة فقد يكون جاهلاً لسنّيتها.

وكذا من كان مزكوماً فإنه لا يُشمَّت بعد الثالثة، فإذا عطس ثلاث مرات يُشمَّت، وبعدها لا يُشمَّت.

ويدلّ عليه:

ما رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً، قالَ:«شَمِّتْ أَخاكَ ثَلَاثاً فَمَا زَادَ فَهُوَ زُكَامٌ»

(4)

.

(1)

رواه البخاري برقم (6226).

(2)

رواه البخاري برقم (6225).

(3)

رواه مسلم برقم (2992).

(4)

رواه أبو داود برقم (5034). وقال الألباني رحمه الله: «حسن موقوف، ومرفوع» (صحيح أبي داود 4/ 308).

ص: 191

ويؤيده ما رواه مسلم في صحيحه، من حديث سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ:«يَرْحَمُكَ اللّهُ» ، ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم:«الرَّجُلُ مَزْكُومٌ»

(1)

.

فتحصَّل مما سبق أنَّ العاطس لا يُشمَّت في حالين:

1) إذا لم يحمد الله تعالى.

2) إذا زاد على ثلاث مرات؛ لأنَّه مزكوم.

‌سنن التثاؤب:

‌3) من السُّنَّة كظم الفم عند التثاؤب، أو ردُّه باليد.

ويدلّ عليه:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، إِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الشيطَانِ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا قَالَ هَا ضَحِكَ مِنْهُ الشيطَانُ»

(2)

.

وعند مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا تَثَاوَبَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فِيهِ، فَإِنَّ الشيطَانَ يَدْخُلُ»

(3)

، فيكون كظم التثاؤب إمَّا بالتحكم عن طريق الفم، وذلك بمنع انفتاحه، أو بضغط الأسنان على الشفة، وإمَّا بوضع اليد على الفم، ونحو ذلك.

قال ابن حجر رحمه الله: «(وأمَّا التَّثاؤبُ فإنما هوَ منَ الشيطان)، قال ابن بطال: إضافة التثاؤب إلى الشيطان بمعنى إضافة الرِّضا والإرادة

(1)

رواه مسلم برقم (2993).

(2)

رواه البخاري برقم (2663).

(3)

رواه مسلم برقم (2995).

ص: 192

-أي أنَّ الشيطان يحب أن يرى الإنسان متثائباً-؛ لأنها حالة تتغير فيها صورته، فيضحك منه، لا أنَّ المراد أنَّ الشيطان فعل التثاؤب.

وقال ابن العربي: «قد بينا أنَّ كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان؛ لأنه واسطته، وأنَّ كل فعل حسن نسبه الشرع إلى الملك؛ لأنه واسطته، قال: والتثاؤب من الامتلاء، وينشأ عنه التكاسل وذلك بواسطة الشيطان، والعطاس من تقليل الغذاء، وينشأ عنه النشاط، وذلك بواسطة الملك» .

وقال النَّووي: «أضيف التثاؤب إلى الشيطان؛ لأنه يدعو إلى الشهوات إذ يكون عن ثقل البدن، واسترخائه وامتلائه، والمراد التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك وهو التوسع في المأكل»

(1)

.

- وأيضاً فإن الأفضل للمتثائب ألَّا يرفع صوته بالتثاؤب، كأن يقول:(ها)، أو (آه)، ونحوها من الأصوات التي يصدرها؛ لأنَّ هذا مدعاة لضحك الشيطان عليه.

ويدلّ عليه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «التَّثَاؤُبُ مِنْ الشيطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَالَ "هَا" ضَحِكَ الشيطَانُ»

(2)

.

وجاء بلفظ عند أحمد رحمه الله: «إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّه مَا اسْتَطَاع، وَلا يَقُل: "آه آه"، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا فَتَحَ فَاهُ، فَإِنَّ الشيطَانَ يَضْحَكُ مِنْهُ أَوْ بِه»

(3)

.

(1)

الفتح، حديث (6226)، باب: إذا تَثاءَبَ فلْيَضعْ يدَه على فيه.

(2)

رواه البخاري برقم (3298)، ومسلم برقم (2994).

(3)

رواه أحمد برقم (9530)، وصححه الألباني (الصحيحة 2420).

ص: 193

تنبيه:

اعتاد بعض الناس على التَّعوذ من الشيطان بعد التثاؤب، ولا دليل على ذلك بل هو مخالفة لهدي النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جاء بذكر لم يقله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن.

* * *

ص: 194

‌سُنَن أخرى يوميَّة

‌قول الذكر الوارد عند دخول الخلاء، والخروج منه.

يُسَنُّ لمن دخل الخلاء، أن يقول ما جاء في الصحيحين:

عن أَنَس رضي الله عنه: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ، قَالَ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبثِ وَالْخَبَائِثِ»

(1)

.

و (الخبُث): بضم الباء: ذكران الشياطين، والخبائث إناثهم، فتكون الاستعاذة من ذكران الشياطين وإناثهم.

و (الخبْث): بتسكين الباء: الشر، والخبائث النفوس الشريرة، فتكون الاستعاذة من الشر وأهله، والتسكين أعمّ، وهو أكثر روايات الشيوخ، كما قال القاضي عياض، والخطابي وغيرهما -رحم الله الجميع-.

- ويُسَنُّ لمن خرج من الخلاء أن يقول:

ما جاء في مسند أحمد، وسنن أبي داود، والترمذي، وصححه الألباني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: «غُفْرَانَكَ»

(2)

.

فائدة:

قيل: مناسبة قول: «غفرانك» أنَّ الإنسان لمَّا تخفَّف من أذيَّة

(1)

رواه البخاري برقم (6322)، ومسلم برقم (375).

(2)

رواه أحمد برقم (25220)، وأبوداود برقم (30)، و الترمذي برقم (7)، وصححه الألباني (تحقيق مشكاة المصابيح 1/ 116).

ص: 195

الجسم، تذكَّر أذيَّة الإثم، فدعا الله تعالى أن يخفف عنه أذيَّة الإثم، كما منَّ عليه بتخفيف أذية الجسم ذكره ابن القيم رحمه الله

(1)

.

وقيل: إنَّ مناسبة ذلك هو: استغفاره؛ لانقطاعه عن الذِّكر حال الخلاء، وقيل غير ذلك.

‌تسنُّ كتابة الوصية.

فالوصية سُنَّة لكل مسلم حال المرض، أو الصِّحة؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:«مَا حَقُّ امْرِاءٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شيءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إلاَّ وَوَصيتهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»

(2)

، وذكر الليلتين في الحديث ليس تحديداً، وإنما المراد به ألَّا يمر عليه زمن قصير إلا ووصيته مكتوبة عنده؛ لأنه لا يدري متى يموت، وهذه سُنَّة عامَّة لكل الناس.

- أمَّا الوصية فيما عليه من حقوق الله تعالى كزكاة، أو حج، أو كفَّارة، أو حقوق الآدميين كالدَّيْن، وأداء الأمانات، فهذه واجبة لا سُنَّة؛ لأنه يتعلَّق بها أداء حقوق واجبة، لاسيما إذا لم يعلم بهذه الحقوق أحد، [ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب].

‌السماحة، واللين في البيع والشراء.

وذلك بأن يتحلَّى كل من البائع، والمشتري، بالسماحة، واللين أثناء البيع، ولا يتشدَّد كل منهما مع الآخر في المساومة في السِّعر والجدل فيه، بل يتسامحان، فلا يبخس المشتري حق البائع فيطالب بإنزال السِّعر فوق طاقة البائع، أو يُلحَّ عليه بشيء قد يضره، وكذا البائع لا يُضر بالمشتري، فيغالي بسعره، أو نحو ذلك، مما قد يؤدي

(1)

انظر: إغاثة اللهفان (1/ 58).

(2)

رواه البخاري برقم (2783)، ومسلم برقم (1626). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 196

لاستغلاله، وخلاصة الأمر: أن يكون تعاملهما مبنيَّاً على السَّماحة، واللين.

ويدلّ عليه: حديث جابرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا؛ إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضى»

(1)

.

وكذلك إذا طالب بقضاء حَقِّه، فإنَّ من السُّنَّة أن يُطالب بسهولة ولين؛ لقول النَّبي صلى الله عليه وسلم:«وإذا اقتضى» .

قال ابن حجر رحمه الله: ««وإذا اقتضى» ، أي: طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف، وفي رواية حكاها ابن التَّين «وإذا قضى» أي: أعطى الذي عليه بسهولة، بغير مطل، وللترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ الْبَيْعِ، سَمْحَ الشراءِ، سَمْحَ الْقَضَاءِ»

(2)

، وللنَّسَائي من حديث عثمان رضي الله عنه رفعه:«أَدْخَلَ اللَّهُ عز وجل رَجُلًا كَانَ سَهْلًا مُشْتَرِيًا وَبَائِعًا وَقَاضيا وَمُقْتَضيا الْجَنَّةَ»

(3)

، ولأحمد من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما نحوه، وفيه الحضّ على السَّماحة في المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق، وترك المشاحة والحضّ على ترك التضييق على الناس في المطالبة، وأخذ العفو منهم»

(4)

.

‌صلاة ركعتين بعد كل وضوء.

وهذه من السُّنَن اليوميَّة التي يترتب عليها فضل عظيم، وهو: دخول الجنة، فعَن أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ:

(1)

رواه البخاري برقم (2076).

(2)

رواه الترمذي برقم (1319).

(3)

رواه النسائي برقم (4670).

(4)

الفتح، حديث (2076)، باب: السُّهولةِ والسَّماحةِ في الشراء والبيعِ ومَن طَلبَ حقّاً فلْيَطْلُبهُ في عَفاف.

ص: 197

«يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ» ، قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ، أَوْ نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ

(1)

، و «دَفَّ نَعْلَيْكَ»: يعني: تحريك نعليك.

‌انتظار الصَّلاة.

وانتظار الصلاة من السُّنَن التي يترتَّب عليها فضل عظيم، فهو بانتظاره يأخذ أجر الصلاة، ويدل عليه:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَتْ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ، لَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا الصَّلَاةُ»

(2)

.

وقوله: «ما لم يُحدِثْ» -أي ما لم يأتِ بشيء ينقض الوضوء-، وجاء عند مسلم:«مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ»

(3)

-أي أن هذا الثواب مشروط بألَّا يُلحق بأحد أذية في مجلسه-، ولا ينتقض وضوئه.

وعن أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ لَيْلَةً صَلَاةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، بَعْدَ مَا صَلَّى، فَقَالَ: «صَلَّى النَّاسُ، وَرَقَدُوا، وَلَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا»

(4)

.

قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «هذه الأحاديث في بيان فضل انتظار الصلاة سواء كان ذلك بعد صلاة سابقة، أو تقدَّم الإنسان إلى المسجد

(1)

رواه البخاري برقم (1149)، ومسلم برقم (2458).

(2)

رواه البخاري برقم (659)، ومسلم برقم (649).

(3)

رواه مسلم برقم (649).

(4)

رواه البخاري برقم (661).

ص: 198

ينتظر الصلاة»

(1)

.

وأيضاً حديث أَبِي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو الله بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللّهِ! قَالَ:«إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ علَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسْاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ»

(2)

.

السِّواك:

والسِّواك من السُّنَن المطلقة التي تُفعل في كل وقت، وكان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يحث عليه كثيراً حتى قال:«أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ»

(3)

، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيه:«السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ»

(4)

.

- وتتأكد سنيَّة السواك في مواضع تقدَّم ذكر بعضها لاسيما التي تتكرر في اليوم والليلة، كالقيام من الليل، وعند الوضوء، وعند كل صلاة، وعند دخول المنزل -والله أعلم-.

‌تجديد الوضوء لكل صلاة.

يُسَنُّ للمسلم أن يُجَدد الوضوء لكل صلاة، فلو توضأ لصلاة المغرب مثلاً ثم صلَّى المغرب، فإذا جاءت صلاة العشاء يُسنُّ له أن يتوضأ، ولو كان على طهارة، فالسُّنَّة أن يتوضأ لكل صلاة وضوءً جديداً.

(1)

شرح رياض الصالحين (2/ 1296).

(2)

رواه مسلم برقم (251).

(3)

رواه البخاري برقم (888). من حديث أنس رضي الله عنه.

(4)

رواه أحمد برقم (7)، والنَّسَائي برقم (5). من حديث عائشة رضي الله عنها، وصححه الألباني (الإرواء 1/ 105).

ص: 199

ويدلّ عليه: حديث عند البخاري قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ»

(1)

، وأيضاً من السُّنَّة أن يكون الإنسان على طهارة خلال يومه؛ لحديث ثوبان رضي الله عنه أنَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قال:«وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ»

(2)

.

‌الدُّعاء.

والدعاء من أسباب تحقيق رأس الرسالة ولُبِّها، وهو: التوحيد، وذلك حين يُقْبل العبد على ربه داعياً، متضرعاً منيباً إليه سبحانه، متبرئاً من كل شريك، ومن كل حول وقوة إلى حوله وقوته سبحانه، وبه يذوق العبد حلاوة المناجاة، والتذلل والخضوع، وبه تُجلَب النِّعم، وتُدفع النِّقم؛ لأنها عبادة يكون بها تمام الاعتماد على مَنْ عليه كل الاعتماد سبحانه، وغير ذلك من المنافع التي لا تحصره أسطر يسيرة.

وهو نوعان:

1 -

دعاء عبادة: وهذا النوع يدخل في الذِّكر كما سيأتي.

2 -

دعاء مسألة: وذلك حين يسأل العبدُ ربَه، ويتوجه إليه في قضاء حوائجه.

وتقدَّم في ثنايا السُّنَن السابقة مواضع أحرى بأن يستجاب فيها الدعاء، تتردد على المسلم في كل يوم وليلة، وهي: حال السجود، والثلث الأخير من الليل، وما بين الأذان والإقامة، والمقصود هنا:

(1)

رواه البخاري (214).

(2)

رواه أحمد برقم (22434)، وابن ماجه برقم (277)، والدارمي برقم (655)، وصححه الألباني (صحيح الجامع 1/ 225).

ص: 200

‌بيان ما يُسَنُّ للمسلم فعله إذا أراد أن يدعو، فمِن السُّنَن:

‌أ- أن يدعو وهو على طهارة.

لحديث أبي موسى رضي الله عنه في الصحيحين، وقصته مع عَمِّه أبي عامر رضي الله عنه،

حين بعثه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على جيش أوطاس، وفي الحديث: قُتل أبو عامر رضي الله عنه، وأوصى أبا موسى رضي الله عنه أن يُقرئ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم السلام، ويدعو له، قال أبو موسى:«فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرنا وَخَبَر أَبِي عَامِرٍ، وَقُلْتُ لَهُ: قَالَ: قُلْ لَهُ: يَسْتَغْفِرْ لِي، فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأ مِنْهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «الّلهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ، أَبِي عَامِرٍ» ، حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«اللّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ مِنَ النَّاسِ»

(1)

.

‌ب- استقبال القِبلة.

عن عبد اللّه بن عَبَّاس رضي الله عنهما قال: حَدَّثنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمُشركِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشر رَجُلاً، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللّهِ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ:«اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ» . فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادّاً يَدَيْهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبَّكَ، فَإنَّهُ سينْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ

(2)

.

(1)

رواه البخاري برقم (4323)، ومسلم برقم (2498).

(2)

رواه مسلم برقم (1763).

ص: 201

‌ج- رفع اليدين.

ويدلّ عليه: حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق، وفيه:«فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللّهِ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ» ، والأحاديث لهذه السُّنَّة كثيرة.

‌د- البدء بالثناء على الله عز وجل، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم

-.

لِمَا رواه الترمذي، عن فَضَالَةَ بن عُبَيْد رضي الله عنه قال: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي» ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدْ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَصَلِّ عَلَيَّ، ثُمَّ ادْعُهُ»

(1)

.

وفي رواية له: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ»

(2)

.

‌هـ- دعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى.

فيختار من أسماء الله الحسنى ما يلائم دعاءه ويوافقه؛ فإذا سأل الله - سبحانه- الرزق، قال:«يا رزاق» ، وإذا سأله الرحمة، قال:«يا رحمن يا رحيم» ، وإذا سأله العِزَّة، قال:«يا عزيز» ، وإذا سأله المغفرة، قال «يا غفور» ، وإذا سأله شفاء قال:«يا شافي» .

وهكذا يدعو بما يناسب دعاءه؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].

‌و- تكرار الدعاء، والإلحاح فيه.

ويدلّ عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي تقدَّم حيث قال

(1)

رواه الترمذي برقم (3476).

(2)

رواه الترمذي برقم (3477). وصححه الألباني (صحيح الجامع 1/ 172).

ص: 202

النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي» ، وما زال يهتف بربه تعالى حتى سقط رداؤه عن منكبيه، وأبو بكر يلتزمه ويقول له:«يَا نَبِيَّ اللّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبَّكَ»

(1)

.

وكذلك ما جاء في الصحيحين، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه حينما دعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لدَوْس، فقال:«اللهم اهْدِ دَوْساً وائْتِ بهم، اللهم اهْدِ دَوْساً وائت بهم»

(2)

.

وكذلك ما جاء في صحيح مسلم، في:«الرَّجُلُ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ، يَا رَبِّ»

(3)

، وهذا تكرار فيه إلحاح.

والسُّنَّة أن يدعو ثلاثاً؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيحين، وفيه:«وَكَانَ إِذَا دَعَا، دَعَا ثَلاثًا، وَإِذَا سأَلَ، سَأَلَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَال: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ» ثَلاثَ مَرَّاتٍ

(4)

.

‌ز- إخفاء الدعاء.

لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، وإخفاء الدعاء أقرب للإخلاص، ولذا امتدح الله عز وجل زكريا عليه السلام فقال:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]؛ طلباً للإخلاص على أحد أقوال أئمة التفسير.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، أي: ما كانت إلا همسًا بينهم وبين

(1)

رواه مسلم برقم (1763).

(2)

رواه البخاري برقم (2937)، ومسلم برقم (2524).

(3)

رواه مسلم برقم (1015).

(4)

رواه البخاري برقم (240)، ومسلم برقم (1794).

ص: 203

ربهم عز وجل، وذلك أنَّ الله عز وجل يقول:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}

(1)

، ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله فوائد عديدة لإخفاء الدعاء، يحسن بالمسلم أن يرجع إليها.

ومما يُنهى عنه في هذا الباب:

الاعتداء بالدعاء، والتكلف والسجع فيه، واستعجال الإجابة، والدعاء بإثم، أو قطيعة الرحم، وأكل مال الحرام يمنع الإجابة، والتردد بالدعاء، وقرن الدعاء بالمشيئة.

فائدة: ربما يسأل البعض: ماذا أقول في دعائي؟

فالجواب: ادع بما تريده من أمور الدنيا والآخرة، واحرص في دعائك على جوامع الكَلِم، وهي الأدعية الواردة في الكتاب والسُّنَّة، ففيها سؤال خيري الدنيا والآخرة، وتأمل هذا السؤال حين عُرض على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فأجاب بكلمات عظيمات، تجمع للمسلم الدنيا والآخرة، فما أعظمها من بشارة، وما أجزلها من عطيَّة، فتمسك بهن وتدبرهن.

عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه رضي الله عنهما: «أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ كَيْفَ أَقُولُ حِينَ أَسْأَلُ رَبِّي؟ قَالَ: «قُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي» ، وَيَجْمَعُ أَصَابِعَهُ إِلاَّ الإِبْهَامَ:«فَإِنَّ هؤُلَاءِ تَجْمَعُ لَكَ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ»

(2)

.

وفي رواية له: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي»

(3)

.

(1)

مجموع الفتاوى (15/ 15).

(2)

رواه مسلم برقم (2697).

(3)

رواه مسلم برقم (2697).

ص: 204

فائدة أخرى:

يُسَنُّ للإنسان أن يدعو لأخيه بظهر الغيب، فهي دعوة مستجابة بإذن الله تعالى، وللداعي فضل عظيم، وهو ما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ»

(1)

.

‌من السنن اليومية ذكر الله تعالى.

وباب الذِّكر باب واسع، تقدَّم شيء منه في ثنايا السُّنَن السابقة، والذِّكر مفهومه شامل، وله معنيان:

أ) معنى عام: ويشمل كل أنواع العبادات من صلاة، وصيام، وحج، وقراءة قرآن، وثناء، ودعاء، وتسبيح، وتحميد، وتمجيد، وغير ذلك من أنواع الطاعات؛ لأنها إنما تقام لذكر الله تعالى، وطاعته، وعبادته.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «كل ما تكلَّم به اللسان، وتصوّره القلب مما يقرِّب إلى الله من تعلّم علم، وتعليمه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، فهو من ذكر الله»

(2)

.

ب) معنى خاص: وهو ذكر الله عز وجل بالألفاظ التي وردت عن الله سبحانه وتعالى من تلاوة كتابه، أو الألفاظ التي وردت على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيها تمجيد، وتنزيه، وتقديس، وتوحيد لله سبحانه وتعالى، والمقصود في هذه السُّنَّة هو: المعنى الخاص.

(1)

رواه مسلم برقم (2733).

(2)

مجموع الفتاوى (10/ 661).

ص: 205

وأعظمه: تلاوة كتاب الله تعالى، فالتعبد بتلاوته أسهر عيون السلف، وأقض مضاجعهم {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات: 18].

فجمعوا في ليلهم تلاوة كتاب الله تعالى، وسائر الأذكار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فللّه درُّه من ليل طاب بإحياء أهله له، ويالخسارتنا وتهاوننا، وتفريطنا، بليالينا، وأسحارنا! وعسى أن تسلَم من عصيان إلهنا، إلَّا ما رحم ربنا تعالى.

-‌

‌ كيف كان الصحابة مع القرآن؟

تقدَّم في أول السُّنَن حديث حذيفة وأنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة واحدة البقرة، ثم النِّساء، ثم آل عمران، وعن أبي وائلٍ عن عبدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال:«صليتُ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلةً، فلم يَزَلْ قائماً حتى هَمَمْتُ بأمرِ سَوْء، قلنا: وما هَممتَ؟ قال: هممتُ أن أقعدَ وأذَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

وفي الصحيحين، عن عبد اللّه بن عَمْرٍو رضي الله عنهما قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ» ، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أَجَدُ قُوَّةً. قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي عِشرينَ لَيْلَةً» ، قَالَ قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً. قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ»

(2)

.

ولمَّا كان الصحابة رضي الله عنها أحرص الناس على القرآن، كانوا يتحسرون لفواته؛ فجعل لهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فرصة يعوِّضون بها ما فاتهم من القرآن، روى مسلم في صحيحه حديث عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ، أَوْ عَنْ شيءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ

(1)

رواه البخاري برقم (1135)، ومسلم برقم (773).

(2)

رواه البخاري برقم (5054)، ومسلم برقم (1159).

ص: 206

الْفَجْرِ، وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ»

(1)

، فيا ربِّ ألحقنا بركبهم، واعف عن تقصيرنا، وزللنا.

وعن أوْسِ بنِ حذيفة رضي الله عنه قال: «سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرآنَ؟ قَالُوا ثَلَاثٌ، وَخَمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشرةَ، وَثَلَاثَ عَشرةَ، وَحِزْبُ المُفَصَّلِ وَحْدَهُ»

(2)

، وفي سنده ضعف؛ لضعف ابن يعلى الطائفي.

والمقصود بـ «ثلاث» أي: أول ثلاث سور في أول يوم، ثم الخمس التي تليها في اليوم الثاني، وهكذا حتى يختموا القرآن بأسبوع، هكذا كان الرعيل الأول مع أعظم الذكر وهو: القرآن، وحذا حذوهم من تبعهم من السلف؛ لأنهم تربوا على نهج مدرستهم، فقلَّما تقرأ في ترجمة أحدهم إلا وتجد أنه كان يختم في كذا وكذا، ومعظم هدْيهم التسبيع، أي يختمون كل أسبوع.

وعن حماد بن زيد: عن عطاء بن السائب، أنَّ أبا عبد الرحمن قال:«أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات، لم يجاوزوهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القرآن، والعمل به، وسيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم»

(3)

.

-‌

‌ الذِّكر فيه حياة للقلوب.

كثير منَّا لاسيما في هذه الأزمان، وكثرة الانشغال يشكو صدأ قلبه

(1)

رواه مسلم برقم (747).

(2)

رواه أحمد برقم (16166)، وأبوداود برقم (1393).

(3)

انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 269).

(4)

رواه البخاري برقم (6407)، ومسلم برقم (779)

ص: 207

وغفلته، وحياة القلب تكون بالذِّكر، ففي صحيح البخاري من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» ، وفي لفظ مسلم قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللّهُ فِيهِ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللّهُ فِيهِ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» (4).

قال ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين في فصل (منزلة الذكر): «ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة: الذِّكر، وهي منزلة القوم الكبرى، التي منها يتزودون، وفيها يتجرون، وإليها دائمًا يترددون، والذِّكر منشور الولاية، الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم، الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا

، وهو جلاء القلوب و صقالها ودواؤها إذا غشيها اعتلالها، وكلَّما ازداد الذاكر في ذكره استغراقًا ازداد المذكور محبةً إلى لقائه واشتياقًا

، وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده، ما لم يغلقه العبد بغفلته» أ. هـ

(1)

.

وذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه الوابل الصيب، أكثر من مائة فائدة للذِّكر، يحسن الرجوع إليها، ففيها ما يستنهض الهِمَم للمحافظة على هذه العبادة العظيمة، وعرض فيها نماذج من الذاكرين لاسيما شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(2)

.

-‌

‌ حث الله عز وجل على ذِكْره في مواضع عديدة، منها:

1) حث اللهُ عز وجل عباده؛ لأن يكثروا من الذِّكر، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41 - 42].

(1)

مدارج السالكين (2/ 423).

(2)

انظر: الوابل الصيب (ص 94).

ص: 208

2) ووعد الله تعالى الذاكرين والذاكرات، بالمغفرة، وعظيم الأجر والثواب، فقال تعالى:{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].

3) وحذرنا الله عز وجل من صفات المنافقين، التي منها قلة ذكر الله تعالى والله المستعان، فقال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النِّساء: 142].

4) وحذرنا الله عز وجل من الانشغال بالأموال، والأولاد عن ذكره جل وعلا، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].

5) وتأمَّل معي هذا الفضل العظيم، والشرف الرفيع، قال الله تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ، وقال في الحديث القدسي:«أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ»

(1)

.

6) وامتدح الله تعالى أولوا العقول من المؤمنين بأنهم يذكرونه على كل حال، فقال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران: 190 - 191].

وفي سنته صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القرآن- ما يُفسر لنا من فعله هذه الآية، فكان الذِّكر ملازماً له على كل أوقاته، وأحواله، تقول عائشة رضي الله عنها

(1)

رواه البخاري برقم (7405)، ومسلم برقم (2675). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 209

كما في صحيح مسلم: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الله عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ»

(1)

.

ولك أن تتصوَّر -أخي المسلم- كل أحيانه، وكيف هي كل أو بعض أحياننا، ولا أقول بمماثلتها ولكن بمقاربتها لأحيان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم؟.

فهل نحن في بعض أوقاتنا من الذاكرين؟!

والأعجب من ذلك أنَّ الإمام مسلم روى لنا في صحيحه، كيف يكون ذكره صلى الله عليه وسلم حتى في حال انشغاله فعَن الأَغَرِّ الْمُزَنِي رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللّهَ فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرَّةٍ»

(2)

.

قال النَّووي رحمه الله: «والمراد هنا ما يتغشى القلب، قال القاضي: قيل: المراد الفترات والغفلات عن الذِّكر الذي كان شأنه الدوام عليه، فإذا فتر عنه، أو غفل عَدّ ذلك ذنباً، واستغفر منه، قال: وقيل: هو همّه بسبب أمّته، وما اطلع عليه من أحوالها بعده فيستغفر لهم، وقيل: سببه اشتغاله بالنَّظر في مصالح أمته، وأمورهم، ومحاربة العدو، ومداراته، وتأليف المؤلَّفة، ونحو ذلك، فيشتغل بذلك من عظيم مقامه، فيراه ذنباً بالنسبة إلى عظيم منزلته

، وقد قال المحاشي: خوف الأنبياء، والملائكة خوف إعظام، وإن كانوا آمنين عذاب الله تعالى»

(3)

.

-‌

‌ الذِّكر نوعان: مطلَق، ومقيَّد.

وينبغي أن يحرص العبد على أن يذكر الله تعالى بقلبه، ولسانه فإنَّ هذا أكمل الأحوال، لا بلسانه فقط، فمن النَّاس مَنْ لا يستشعر ما يقوله

(1)

رواه مسلم برقم (373).

(2)

رواه مسلم برقم (2702).

(3)

شرح النووي لمسلم، حديث (2702)، باب: استحباب الاستغفار، والاستكثار منه.

ص: 210

من أذكار؛ لأنه في أذكاره لا يتحرَّك إلا لسانه، ولو تحرَّك القلب، وتدبَّر لزاد الإيمان، ورقَّ القلب.

واعلم أيضاً: أيها الأخ المبارك: أنَّ الذِّكر من حيث موضعه على نوعين: ذكر مقيَّد، وذكر مطلق.

فالمقيَّد هو: ما قُيِّد بمكان، أو وقت، أو حال.

والمطلق هو: ما لم يُعيَّن بشيء من ذلك، وإنما في سائر اليوم.

فأذكار ما بعد الصلوات، أو الذِّكر الذي يكون بعد الأذان، وكذا كل ذكر قاله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في مكان، أو وقت معيَّن، فإنه يُقدَّم على سائر الذِّكر المطلق؛ لأنه بهذا يحصل على اتباع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فيفعل كفعله صلى الله عليه وسلم فلو سلَّم من صلاته المفروضة، فإنَّ الأفضل في حقِّه أن يأتي بأذكار ما بعد الصلاة، ولا يأتي بغيره من الأذكار ولو كان فاضلاً كقراءة القرآن؛ لأنه هكذا فعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، والخير تمام الخير في التأسي به صلى الله عليه وسلم.

-‌

‌ بالذِّكر يكون العبد من السابقين.

الحديث عن الذِّكر و فوائده يطول، ولكن ينبغي للمسلم ألَّا يكون ممن قلَّ ذكره لربه، ويبادر للحفاظ على تلك النوائل العظيمة، والفضائل الجسيمة التي تكون في الذِّكر، ويحاول شيئاً فشيئا تعويد نفسه على هذه العبادة، فيعوِّد نفسه التي لطالما نفهت من الطاعة، فيأخذ من سُنَّة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم نوعاً، ويحافظ عليه مدة حتى إذا استمكن منه وصار هذا الذِّكر من عمله في يومه وليلته، حمل نفسه ورفع توقها، فتاقت لذكر آخر وهكذا، حتى يكون من (المُفَرِّدين)، وهم: الذاكرون الله تعالى كثيراً والذاكرات.

فيكون من الذين سبقوا بقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَسيرُ فِي

ص: 211

طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ (جُمْدَانُ)، فَقَالَ:«سيرُوا، هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللّهَ كَثِيراً، وَالذَّاكِرَاتُ»

(1)

.

المُفرِّدون عرَّفهم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بالذاكرين الله تعالى كثيراً والذاكرات، والمفرِّدون في اللغة من: الانفراد، فكأنهم انفردوا عن غيرهم بذكر الله تعالى فلم يصل إلى ما وصلوا إليه كثير من أقرانهم، كما ذكر بعض أهل العلم، وقبيح أن يكون القلب خالياً من ذكر الله تعالى، واللسان يابساً من ذلك.

وقد قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لرجل جاءه قال له: «إِنَّ شرائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ، قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل»

(2)

.

فيا أخي المبارك ما لا يدرك كله لا يُترك كله، فذكر واحد تمسك به حتى تضم إليه غيره، وهكذا خير لك من أن يمضي عمرك، ولم يزدد عملك من هذه العبادة الجليلة.

- ومما ورد في سُنَّة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من أنواع الذكر كثير، منها ما يلي:

1.

عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَالَ: لَا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ، مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عِدْلَ عَشر رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سيئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشيطَانِ، يَوْمَهُ ذلِكَ، حَتَّى يُمْسي، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ، وَمَنْ قَالَ:

(1)

رواه مسلم برقم (2676).

(2)

رواه أحمد برقم (17680)، والترمذي برقم (3375)، وصححه الألباني (صحيح الجامع 2/ 1273).

ص: 212

سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»

(1)

.

2.

وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: لَا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، عَشر مِرَارٍ، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ»

(2)

.

3.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ، كُلَّ يَوْمٍ، أَلْفَ حَسَنَةٍ؟» فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: «يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ. أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ»

(3)

.

4.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ، مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ عنه خَطَايَاهُ، وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»

(4)

، وفي رواية عند مسلم:«مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسي: سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ، مِائَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلاَّ أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ»

(5)

.

والأحاديث في أنواع الذِّكر وفضلها كثيرة، والذي تقدَّم هو من أشهر وأصحّ ما ورد من الذِّكر مما له فضل، وورد غيره كثير، فعن أبي موسى الأَشْعَرِي رضي الله عنه قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ

(1)

رواه البخاري برقم (3293)، ومسلم برقم (2691).

(2)

رواه البخاري برقم (6404)، ومسلم برقم (2693).

(3)

رواه مسلم برقم (2698).

(4)

رواه البخاري برقم (6405)، ومسلم برقم (2692).

(5)

رواه مسلم برقم (2692).

ص: 213

مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟» فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: «قُلْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «لأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللّهِ، وَالْحَمْدُ للّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللّهُ، وَاللّهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ»

(2)

.

والاستغفار أيضاً هو من أنواع الذِّكر، وتقدَّم حديث الأغرِّ المُزني رضي الله عنه عند مسلم، وقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»

(3)

.

وهذا فعله صلى الله عليه وسلم، وقد حثَّ على الاستغفار من قوله، كما في صحيح مسلم عن الأغرِّ رضي الله عنه أيضاً قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «يا أيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللّهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ»

(4)

.

وعند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»

(5)

، فينبغي للعبد ألَّا يغفل عن الاستغفار.

وأختم سُنَّة الذِّكر -وكذا جميع السُّنَن اليوميَّة- بذكر عظيم جاء في الصحيحين، ختم به البخاري صحيحه، وختم به ابن حجر كتابه بلوغ المرام -رحمهما الله-، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمنِ: سُبْحَانَ اللّه وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللّهِ الْعَظِيمِ»

(6)

.

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

(1)

رواه البخاري برقم (4202)، ومسلم برقم (2704).

(2)

رواه مسلم برقم (2695).

(3)

رواه مسلم برقم (2702).

(4)

رواه مسلم برقم (2702).

(5)

رواه البخاري برقم (6307).

(6)

رواه البخاري برقم (6406)، ومسلم برقم (2694.

ص: 214