المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المورد العذب الزلال في كشف شبه أهل الضلال - المورد العذب الزلال في كشف شبه أهل الضلال (مطبوع ضمن الرسائل والمسائل النجية، الجزء الرابع، القسم الأول)

[عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ]

الفصل: ‌المورد العذب الزلال في كشف شبه أهل الضلال

‌المورد العذب الزلال في كشف شبه أهل الضلال

فصل: في الإشارة إلى ما تضمنَتْهُ لا إله إلا الله من نَفْيِ الشرك وإبطاله، وتجريد التوحيد لله تعالى والإشارة إلى بعض ما تُنْتَقَضُ به عُرَى الدين الذي بعث الله به المرسلين

والباعث لذلك: ما بلغني عن رجل كان قبل طُرُوق الفتن يغلو في التكفير، ويُكَفِّر بأشياء لم يُكَفِّر بها أحدٌ من أهل العلم، ثم إنه بعد ذلك قال: من قال: لا إله إلا الله فهو المسلم المعصوم، وإن قال ما قال.

فأقول -وبالله التوفيق-: اعلم أنَّ لا إله إلا الله: كلمةُ الإسلام، ومفتاحُ دار السلام، وقد سمَّاها الله –تعالى- كلمة التقوى، والعروة الوثقى، وهي كلمة الإخلاص التي جعلها إبراهيم الخليل عليه السلام كلمة باقية في عَقِبِهِ.

ومضمونها: نَفْيُ الإلهية عما سوى الله وإخلاص العبادة بجميع أفرادها لله وحده، كما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 1، وقال عن يوسف عليه السلام:{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 2 وقال بعدها: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3. وقال تعالى لخاتم رسله: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} 4 الآية، وقال: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ} 5. وقال: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِد رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 6.

وقد تفاوت الناس في هذه الكلمة بحسب حالهم علما وعملا، فمنهم من يقولها وهو يجهل مدلولها ومقتضاها، فلا يعرف الإله المنفي بأداة النفي، ولا الإلهية المثبتة لله –تعالى-، فهذا لا تنفعه بلا ريب، تجده يأتي بما يناقضها وهو لا يدري.

شروط كلمة التوحيد

واعلم أن لها شروطا ثقالا: (منها) : العلم بمدلولها ومقتضاها وحقوقها ولوازمها ومُكَمِّلاتها. ومن شروطها: الصدق واليقين، وإرادة وجه الله، والكفر بما يُعْبَدُ من

1 سورة الزخرف آية: 26، 27.

2 سورة يوسف آية: 38.

3 سورة يوسف آية: 40.

4 سورة الرعد آية: 36.

5 سورة هود آية: 2.

6 سورة الصافات آية: 4.

ص: 295

دون الله كما قال تعالى: {إِلَاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1 قال ابن جرير: يعلمون حقيقة ما شهدوا به. وقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} 2 وصحت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذكر هذه الشروط كلها، ومن لم يكن كذلك لم تنفعه لا إله إلا الله؛ لأن القول بلا علم هباءٌ.

قال شيخ الإسلام: ومَنْ فَقَدَ الدليلَ: ضَلَّ السبيلُ، وكذلك من يقولها، وهو لا يجهل مضمونها ومقتضاها، لكن يمنعه مِن قَصْد ذلك واتِّبَاع الحق، والعمل به مَوَانِعٌ من آفات النفوس. فتجده ينكر التوحيد تارة، ويبغض أهله، ويُحب الشرك وأهله، كحال الذين قالوا:{قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} 3 قال الله -تعالى-: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 4.

فلو أن مجرد القول ينفع بدون الإخلاص والصدق واليقين القلبي لنفع هؤلاء، فكذلك من يقول ظَانًّا أنه أتى بمضمونها ومقتضاها، ويأتي بما يناقضها من موالاة المشركين، ومظاهرتهم على المسلمين والاستبشار بنصرهم وظهورهم، وغير ذلك من الأمور التي عَدَّهَا العلماء من نواقض الإسلام.

قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} 5 الآية، وقال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 6، ومعنى:{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} 7 أي: إلى توحيده واتباع أمره وترك نهيه، ثم قال:{وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} 8.

بعض أعمال المنافقين وأقوالهم التي عُدَّت كفرا

فذكر أمورا أربعة، كلها تُنَافِي قول لا إله إلا الله. يحقق ذلك نَهْيُ الله تبارك وتعالى عبادَهُ المؤمنين عن موالاة أعدائه في أول سورة الممتحنة وفي غيرها، وقال:{وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} 9.

وتدبر تلك الآيات، وما رتب الله –تعالى- من الوعيد الأكيد والعذاب الشديد

1 سورة الزخرف آية: 86.

2 سورة محمد آية: 19.

3 سورة المنافقون آية: 1.

4 سورة المنافقون آية: 1.

5 سورة الأحزاب آية: 26.

6 سورة القصص آية: 86.

7 سورة القصص آية: 86.

8 سورة القصص آية: 88.

9 سورة الممتحنة آية: 1.

ص: 296

ونفي الإيمان، وحبوط الأعمال على هذه الأمور التي لا يَعُدُّهَا مَنْ وقعتْ منه كبيرَ ذنب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وبالجملة فلو بقي لهؤلاء دين -مع ذلك- لسلموا من العقوبات؛ لأن الإيمان أمن، والإسلام سلامة، كما قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1؛ فإن تدارك الله من شاء منهم بتوبة نصوح فهو فضله سبحانه وإلا فيا خسرهم.

وقد بَيَّنَ الله –تعالى- في كتابه كثيرا من نواقض الإسلام والإيمان؛ فإن سبب نزول قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2 أن أناسا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك يجاهدون عدوه، فقال رجل منهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، وأكذب ألسنة، وأجبن عند اللقاء، فأنزل الله هذه الآية.

والقصة مشهورة في التفسير وكتب الحديث، فانظر كيف أبطلوا إيمانهم وكفروا بربهم، فلم ينفعهم قول لا إله إلا الله، ولا صلاتهم، ولا جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} 3 نزلت -على ما ذكره المفسرون- في الجلاس بن عمرو، قال: إن كان ما يقول محمدٌ حَقًّا فنحن شر من الحمير، ولو يقولها أحد في زماننا هذا لم يعد كافرا ولا عاصيا. ولا ريب أن هؤلاء كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون ويزكون ويجاهدون، ولم يُظَاهِرُوا على المسلمين عدوا.

وكذلك أهل مسجد الضرار كانوا من جملة الأنصار، وفعلوا ما هو في الظاهر قربة، فلما أضمروا خلاف ما أظهروا أنزل الله في شأنهم:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} 4، وهو أبو عامر الفاسق.

قال الله –تعالى-: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ الْحُسْنَى

1 سورة الأنعام آية: 82.

2 سورة التوبة آية: 66.

3 سورة التوبة آية: 74.

4 سورة التوبة آية: 107.

ص: 297

وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 1.

إلى قوله تعالى: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَاّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} 2 أي: بالموت.

أيظن مَن عرف موقع كتاب الله وآياته أنه ينفع مَن أحب المشركين قولٌ يقوله، أو عملٌ يعمله؟ وهو يعلم ما وقع بهؤلاء من عقوبة الله على ما أسروه؟ هذا لا يظنه مَن له مِسْكَة من عقل؛ لأن ما كلف به عوقب به من بعدهم على مثل ما عُوقبوا به بلا ريب، اللهم إلا أن يتدارك الله -تعالى- من شاء بتوبة ماحِية، وإلا فالخطر عظيم.

وكذلك قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} 3 وسبب نزولها، ومن نزلت فيه معروف في كتب التفسير.

دعوة الرسل والأنبياء أقوامهم إلى عبادة الله وحده

ومن زعم أن المراد من لا إله إلا الله: مجرد القول، فقد خالف ما جاءت به الرسل والأنبياء من دين الله، واتبع غير سبيل المؤمنين، قال الله –تعالى- عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه:{إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 4، فأجابوه بقولهم:{لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} 5 الآية. علموا- على كفرهم وضلالهم- أنه لم يُرِدْ منهم مجرد الإقرار، وإنما أراد منهم الاتباع، والعمل، وترك عبادة الأصنام، وأخبر تعالى عن هود عليه السلام أنه قال لقومه:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 6، وذكر تعالى عنهم في جوابهم له:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 7؛ علموا أنه أراد منهم قصر العبادة على الله، وترك عبادة من سوى الله، وهذا هو مضمون لا إله إلا الله ومعناها.

ولما دعا الخليل عليه السلام أباه إلى التوحيد بقوله: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} 8، أجابه بقوله:{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} 9. عرف أنه أراد ترك عبادة ما سوى الله، والرغبة عن ذلك إلى إخلاص العبادة لله وحده، ثم قال الخليل عليه السلام:

{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ

1 سورة التوبة آية: 107.

2 سورة التوبة آية: 110.

3 سورة التوبة آية: 77.

4 سورة نوح آية: 2.

5 سورة نوح آية: 23.

6 سورة الأعراف آية: 65.

7 سورة الأعراف آية: 70.

8 سورة مريم آية: 42.

9 سورة مريم آية: 46.

ص: 298

اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} 1 فذكر مضمون لا إله إلا الله ولازمها.

كما ذكر تعالى مثل ذلك عن أهل الكهف في قولهم: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَاّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} 2؛ وقال تعالى عن صاحب ياسين: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 3.

وتأمل أيضا قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 4. عرفوا- وهم كفار- أن مطلوب النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم: "لا إله إلا الله"، أنه ترك عبادة الأوثان، فيا له من بيان ما أوضحه!

القرآن تحقيق لمعنى كلمة التوحيد

والمقصود أن القرآن من أوله إلى آخره يُحَقِّق معنى لا إله إلا الله بنفي الشرك وتوابعه، ويقرر الإخلاص وشرائعه. لكن لما اشتدت غُرْبَة الدين بهجوم المفسدين وقع الريب والشك بعد اليقين، وانتقض أكثر عرى الإسلام، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية.

ومما انتقض من عُرَاه: الحب في الله، والبغض في الله، والمعاداة والموالاة لله، كما في الحديث الصحيح:"أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله"5. وأنت ترى حال الكثير حبه لهواه وبغضه لهواه، فلا يسكن إلا إلى ما يلائم طبعه، ويوافق هواه، ولو غَرَّه وأغواه، فتأمل: تجد هذا هو الواقع، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

والحاصل أن كل قول وعمل صالح يحبه الله ويرضاه: فهو من مدلول كلمة الإخلاص، فدلالتها على الدين كله إما مطابقة، وإما تضمنا، وإما التزاما، يقرر ذلك أن الله سماها كلمة التقوى، والتقوى: أن يتقي سخط الله وعقابه بترك الشرك والمعاصي وإخلاص العبادة لله واتباع أمره على ما شرعه، وقد فسرها ابن مسعود

1 سورة مريم آية: 48.

2 سورة الكهف آية: 16.

3 سورة يس آية: 20: 24.

4 سورة الصافات آية: 35.

5 أبو داود: السنة (4599) .

ص: 299

رضي الله عنه"أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله".

وقد أخرج الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يَدَع ما لا بأس به حَذَرًا مما به بأس"1.

وقال شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام بن تيمية -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:? {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} 2. قال أبو بكر الصديق: فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة، أي لم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه، لا بالحب ولا بالخوف ولا بالرجاء، ولا بالتوكل عليه، بل لا يحبون إلا الله، ولا يحبون إلا لله. اهـ.

من يقاتل الوهابية ومن يُكَفِّرون

وقال شيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى-: سألني الشريف عما نقاتل عليه وما نُكَفِّر به؟ فقلت في الجواب: إنا لا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان بعد التعريف، إذا عرف ثم أنكر. فنقول: أعداؤنا معنا على أنواع:

الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله، وأن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر والبشر الذي هو دين غالب الناس اليوم، أنه الشرك الذي بعث الله رسوله بالنهي عنه، وقتال أهله ليكون الدين كله لله، ولم يلتفت إلى التوحيد، ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك فيه الشرك، فهذا كافر نقاتله؛ لأنه عرف دين الرسول فلم يتبعه، وعرف دين المشركين فلم يتركه، مع أنه لم يبغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك ولا يزينه.

1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2451)، وابن ماجه: الزهد (4215) .

2سورة الأحقاف آية: 13.

ص: 300

النوع الثاني: من عرف ذلك، ولكن تبين في سب دين الرسول مع ادعائه أنه عامل به وتبين في مدح من عبد يوسف والأشقر وأبي علي والخضر، وفضلهم على من وحد الله وترك الشرك، فهذا أعظم كفرا من الأول، وفيه قوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} 1 الآية. وممن قال الله فيهم: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} 2 الآية.

النوع الثالث: من عرف التوحيد وأحبه واتبعه وعرف الشرك وتركه، لكن يكره من دخل في التوحيد ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضا كافر وفيه قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 3.

النوع الرابع: من سلِم من هذا كله لكن أهل بلده يصرحون بعداوة التوحيد واتباع أهل الشرك ويسعون في قتالهم، وعذره أنّ ترك وطنه يشق عليه فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه، فهذا أيضا كافر؛لأنهم لو أمروه بترك صيام رمضان ولا يمكنه ذلك إلا بفراق وطنه فعل، ولو أمروه أن يتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه مخالفتهم إلا بذلك فعل.

وأما موافقته على الجهاد معهم بماله ونفسه مع أنهم يريدون قطع دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأكبر مما ذكرنا بكثير، فهذا أيضا كافر ممن قال الله فيهم:{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ} 4 الآية، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

1 سورة البقرة آية: 89.

2 سورة التوبة آية: 12.

3 سورة محمد آية: 9.

4 سورة النساء آية: 91.

ص: 301

فصل

في إيذاء أهل الباطل لأهل الحق

وهذا شروع في الجواب المشار إليه سابقا، وقد كنت عزمت أن أتتبع كلامه وأجيب عنه تفصيلا، ثم إنه عرض لي ما يجب أن يكون هو المقصود بالذات مما قدمته حماية لجانب التوحيد والشريعة.

ثم بدا لي أن أقتصر في جواب الرجل لما في الاقتصار من رعاية الصبر والاصطبار؛ لأنا لو أجبناه بكل ما يليق في الجواب لم نسلم من أمثاله ممن ينسج على منواله، كما هو الواقع من أكثر البشر قديما وحديثا مع كل من قام بالحق أو نطق بالصدق. فكل من كان أقوم في دين الله كان أذى الناس إليه أسرع والعداوة له أشد وأفظع. وأفضل خلق الله رسله وقد عالجوا من الناس أشد الأذى، حكمة بالغة. قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} 1 والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جدا. ينبئك عن تفصيل هذا ما ذكره الله تعالى في كتابه عن أنبيائه لما دعوا أممهم إلى التوحيد كيف قيل لهم؟ وما خوطبوا به؟.

وتأمل ما جرى لخيار هذه الأمة كالخلفاء الراشدين وسادات أصحاب سيد المرسلين من أعدائهم كالرافضة والخوارج ونحوهم، وما جرى لأعيان التابعين ومن بعدهم من أعيان الأئمة كالإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح وأحمد بن نصر الخزاعي وأمثال هؤلاء ممن لا يمكن حصرهم، ولو ذكرنا جنس ما جرى لهم من الأذى لطال الجواب. والقصد هو الاقتصار، ومن أراد الوقوف على ذلك فعليه بالسيَر والتاريخ ولله درّ أبي تمام حيث يقول:

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

وقال أبو الطيب:

وشأن صدقك عند الناس كذبهم

وهل يطابَق معوج بمعتدل؟

1 سورة الفرقان آية: 31.

ص: 302

إذا علمت ذلك، فإن هذا الرجل ذكر عن الشيخ عبد الرحمن بن حسين أنه لا يصلي بهم، ولا يقدم من يهوونه، ولا يقطع خصومة، وعدوه من نظر في كتاب أو نطق بصواب. هذا كلامه فيه. عد هذه الأمور من المثالب.

والبصير إذا تأمل رآها من المناقب؛ لأن المسلم لا يجوز أن يحمل إلا على الخير فيما خفي عذره فيه حتى يتبين ما يرفع الاحتمال. وهذه العيوب الخمسة محتملة لأمور:

(الأول) : منها يحتمل أنه فعله تأثما من الصلاة بالناس لعذر خفي يوجب ذلك، فإن الأعذار عن الإمامة كثيرة.

(الثاني) : يحتمل نصحه لهم فيختار لهم من يصلح لذلك المقام، ونظره لهم خير من نظرهم لأنفسهم.

(والثالث) : فيه التثبت في الفتيا بالنظر والتأمل والمراجعة في كتب الأحكام، وهذا مطلوب من كل مفتٍ لا سيما في هذا الوقت.

(والرابع والخامس) : فيه حماية جانب العلم عمن يجهل، ولا يدري أنه يجهل، والمطلوب سد أبواب الاختلاف في أحكام الدين، فإن الله ذمه في كتابه، فإذا حمل مثله على غير ذلك أوقع في اغتياب المسلم، وقد حرمه الله في كتابه، فإن عده المغتاب له نصيحة فقد أحل ما حرمه الله ورسوله، وهو أمر عظيم، وفيه تشيين المسلم بما يحتمل ضد ذلك.

الرد على من طعن في الشيخ عبد الرحمن بن حسين

وأما تحذير هذا الرجل للإمام من أولاد الشيخ كلهم وأنه لا يجوز له أن يصغي إليهم ولا يدين لهم جانبا.

(فالجواب) : نعم هذا رأيه للإمام وهو الذي يحبه له ويرضاه، لكن رأي المسلمين خصوصا من ينسب منهم إلى الدين، والحب في الله والبغض فيه، وكذلك العقلاء، يخالفونه في ذلك. وفي نصيحة المسلمين للإمام الحث على طاعة أولئك

ص: 303

والأخذ منهم، وقبول نصيحتهم ورأيهم كما هو الواقع من الإمام.

فلا يخلو إما أن يكون الصواب مع هذا الرجل، وأما أن يكون مع أعيان المسلمين وأهل الدين الذين لهم لسان صدق ومحبة في الناس {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} 1.

حل جوائز السلطان

وأما قوله: إن ابن ثنيان يلقمهم الحرام.

(فالجواب) : أن يقال: وهل شاهدت ذلك وعرفت أن ما أعطاهم حرام بعينه، أو رأى ذلك من يوثق بخبره؟ هذا أمر لا يقدر هو ولا غيره أن يثبت ذلك لكنه كما قيل:

يقولون أقوالا ولا يعلمونها

وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا

والذي يأخذون منه ومن غيره من الأئمة هو مما أفاء الله على المسلمين المسمى بيت المال أو من الزكاة ونحوها، وهذا لا يقول أحد من العلماء أنه حرام. والذي نص عليه الفقهاء من أهل الحديث وغيرهم أنه يجوز الأخذ لمن يستحقه ما لم يعلم أنه حرام بعينه، ذكره ابن رجب عن الزهري ومكحول، قال: ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام، ما لم يعلم أنه حرام بعينه.

قال: وروي في ذلك آثار كثيرة عن السلف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم أنهم لا يجتنبون الحرام كله.

قال: وروى الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال- في جوائز السلطان-: لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام، وقال ابن مسعود: إنما الهناء لكم والوِزر عليهم.

وذكر في المغني أن الحسن البصري أخذ جائزة عمرو بن هبيرة وردها ابن سيرين، فعتب الحسن عليه ذلك. ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: جوائز السلطان

1 سورة البقرة آية: 220.

ص: 304

أحب إليّ من الصدقة. يعني أن الصدقة أوساخ الناس صين عنها آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصانوا عن جوائز السلطان.

وذكر عنه أيضا أنه احتج بأن جماعة من الصحابة تنْزهوا عن مال السلطان، منهم حذيفة وأبو عبيدة ومعاذ وأبو هريرة وابن عمر، قال: ولم يرَ أبو عبد الله ذلك حراما، فإنه سئل فقيل له: مال السلطان حرام؟ قال: لا. وفي رواية قال: ليس أحد من المسلمين إلا وله في هذه الدراهم حق، فكيف أقول سحت؟ وقد كان الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وكثير من الصحابة يقبلون جوائز معاوية.

قال: ولأن جوائز السلطان لها وجه في الإباحة والتحليل، فإن لها جهات كثيرة من الفيء والصدقة وغيرهما اهـ.

أخذ العلماء أرزاقهم من بيت المال

(قلت) : وما زال العلماء في كل عصر يأخذون أرزاقهم من بيت المال ولم ينكر ذلك أحد من أهل الورع ولا غيرهم، ويرونه حلالا.

أما أولئك الظلمة الذين جاروا على أهل نجد بغيا وعدوانا، فلا ريب أن ما أخذوه كله ظلم؛ لأنهم إنما جاؤوا بالباطل والظلم والعدوان، فلا يسوغ لهم أخذ شيء مما أباح الله لولاة أهل الإسلام أخذه من زكاة وفيء أو غير ذلك، فما أخذه أولئك ظلم بحت. فلينظر في حال هذا الطاعن على أهل العلم وأمثاله، فإن كانوا قد كرهوا ما أخذه هؤلاء المسرفون المعتدون ولم يقبلوا شيئا منه ولم يبق إلا أنهم جهلوا حكم أموال الفيء، فالمصيبة أهون.

وأما إذا كانوا أخذوا من أولئك من تلك الأموال على الوجه الذي ذكرناه، فالمصيبة أعظم، وذلك أنهم حرموا على علماء المسلمين أن يأخذوا ما حل لهم، ويأخذونه من أولئك ويأكلونه حراما صرفا من غير تأويل.

وعلى كل حال؛ فإنهم لما رأوا هؤلاء الأشياخ من أقرب الناس دعوة إلى التوحيد وإرشادا إلى طاعة ربهم واتباع نبيهم، فتوصل شرار أهل نجد بمسبتهم إلى مسبة

ص: 305

الدين لمخالفته أهواءهم، ولا ريب أن هذا تحته كل عيب، ويستدل به العارف على أنه إنما صدر منهم عن شك في حقيقة الإسلام وريب.

الوهابية لا يكفرون إلا بما أجمع العلماء على أنه كفر

ثم إن هذا المعترض قال في سبابه لأهل العلم المشار إليهم سابقا: إنهم نظروا إلى سد باب القبلة ومصر ولم ينظروا إلى أبواب السماء. يشير إلى أنهم وسعوا للمتولي أمرهم في مداهنة تلك الجهات.

(فالجواب) : إنه لا يخلو إما أن يكون هذا الرجل من أشد الناس غباوة وأجهلهم بأحوال الناس، ولا معرفة له بالواقع أصلا، وإما أنه تعمد الكذب والتشيين لأولئك الأئمة وهو يعرف أنه قد كذب عليهم وافترى، فإن من المعلوم من طريقتهم ورأيهم ونصحهم أنهم لا يجوزون المداهنة في الدين، ولا يرضون ذلك من كبير ولا صغير.

ولهذا صار الأعداء يطعنون عليهم بذلك عند مبغضيهم ويقولون: إنهم يكفّرونكم، وحقيقة أمرهم أنهم لا يكفّرون أحدا إلا بعمل صرح القرآن بتكفير فاعله، ولا يقولون على شخص بعينه إنه كافر ولا على جماعة إنهم كفار إلا إذا ارتكبوا أعمالا من المكفّرات وثبت ذلك بطريق من طرق العلم، إما مشاهدة أو سماعا أو تواترا. وقد تقدم عن شيخنا إمام الدعوة الإسلامية أنه قال في جوابه للشريف: إنا لا نكفر إلا بما أجمع العلماء عليه أنه كُفر.

وعلى هذا فيقال لهذا الرجل: إذا كان هذا الذي تنسبه إليهم من مداهنة أهل القبلة ومصر عيبا يعاب به من فعله، فأنت ممن داهنهم وأطاعهم وتابعهم وخدمهم، فهلا عبت على نفسك هذا الذي اعترفت بأنه عيب كبير؟ وما مثلك إلا كما قيل في المثل: رمتني بدائها وانسلت.

فيقال لإمام المسلمين -أعزه الله بالدين-: تأمل ما ذكره الله في كتابه المبين، واتبِعه، فإن هذا هو الواجب على كل أحد، لا سيما من ولاه الله أمر الناس، فإن الله

ص: 306

افترض عليه أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا صلاح لهم بدون ذلك أصلا، علما وعملا. وعليه أن يصلح نفسه بما يرضي الله من إقامة دينه وأن لا يخاف في الله لومة لائم، وأن يحب في الله ويبغض فيه ويوالي لله ويعادي فيه، وأن يميز الناس بتمييز الله، فإن الله ميز أولياءه من أعدائه.

ولا شك أن هذا من فرائض التوحيد، وليكن على حذر من الناس وأهوائهم؛ فإنهم لا يرضون إلا بمتابعة أهوائهم، وقد قال تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} 1.

واعتبِرْ بما جرى من أكثر الناس من أنواع الشرك والظلم والفساد كما قد جرى فيما مضى، كما ذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- حيث يقول:

إسلام شركا ظاهر التبيان

ولقد رأينا من فريق يدعي ال

ووهم به في الحب لا السلطان

جعلوا له شركاء والوهم وسا

زادوا لهم حبا بلا كتمان

والله ما ساووهمو بالله بل

فشو الشرك بالدعاء والاستغاثة بغير الله

وهذا وأمثاله هو الواقع في هذه الأزمنة، يعرفه من تدبر القرآن وفهم أدلة التوحيد، فلقد كثر هذا الشرك بنوعيه من دعوة غير الله والاستغاثة به وتعظيمه والحلف به، حتى إن بعض الجهال يستنكفون من قول القائل: محمد عبد الله ورسوله فينكرون قوله: عبد الله. ولا ريب أن الله تبارك وتعالى شرفه بعبوديته له الخاصة والرسالة.

وأما أهل الإسلام على الحقيقة والإيمان فيخلصون إرادتهم وأعمالهم لله -تعالى- وحده دون من سواه، فلا يدعون ولا يرجون ولا يستغيثون ولا يتوكلون ولا يتقربون بنوع من أنواع العبادة إلا إلى ربهم ومليكهم وخالقهم والقائم عليهم والمتصرف فيهم بمشيئته وإرادته، ويعملون بما شرعه لهم في كتابه، وسنه لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم من شريعته، معتصمون

1 سورة الجاثية آية:18، 19.

ص: 307

بحبل الله متعاونون على طاعة الله.

فاعرف كلا من الفريقين بشواهد الأحوال والأعمال، واستشهد على كل من الفريقين بصريح القرآن وصحيح الأخبار، واستدع بكتب العلماء المحققين العدول الأخيار، فإن البهرج لا يميزه إلا أولو البصائر والاستبصار؛ ومن لم يميز الناس بتمييز الله لهم عظمت مصيبته ودامت حسرته.

امتحان الله الناس في الفتن للتمييز بينهم

فإن الله- وله الحمد- أجرى العادة بمقتضى الحكمة البالغة أن يبتلي عباده بوقوع الفتن ليميز الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق، بما يضمرونه ويظهرونه من ترك طاعته والعمل بمعصيته، ومن هو بخلاف ذلك {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} 1. قال الله تعالى:? {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 2 إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} 3 – إلى آخر السياق-.

وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} 4. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 5.

وقد بلا الله أخبار الناس بما جرى في هذه الأعوام وميز بها من قاتل أهل الإسلام وسبهم، ممن والاهم وأحبهم، والله يعلم أنا لم نرد بهذا تشيين أحد أو عداوته، ولكنا تأثمنا من كتمان العلم، ورغبنا في إرشاد العباد إلى طاعة ربهم ومعبودهم، لما ابتُلينا بأناس من أهل نجد يقولون على الله بلا علم، ويتكلمون في أشياء من غير رواية ولا فهم.

فكان الواجب على من منحه الله علما أن ينشر منه ما تيسر وقت الاحتياج إليه، وخصوصا في هذه الأزمنة لما قل العلم وكثر الجهل وغلبت الأهواء اشتغل الناس فيه بمحبة دنياهم، وإيثارها على طاعة مولاهم والعمل لأخراهم

1 سورة النجم آية: 31.

2 سورة العنكبوت آية: 1: 3.

3 سورة العنكبوت آية: 10.

4 سورة آل عمران آية: 179.

5 سورة التوبة آية: 16.

ص: 308

والله تعالى هو المرجو المسؤول أن يرفع عنا وعن المسلمين العقوبة، وأن يكتب لنا المثوبة بتحري رضاه، وأن يوفقنا للاستقامة على طاعته وتقواه، وأن يحقق لنا وإخواننا ما طلبناه ورجوناه إنه هو البر الرحيم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

دعاء النبي للمؤمنين الذين عجزوا عن الهجرة معه

واعلم أن هذا الرجل وأمثاله لما امتلأت قلوبهم بالعداوة والبغض وظهرت على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم، وأتَوا بكل بلية ورمية- كما تقدم- طمعوا فيما هو أعظم من ذلك، وأكبر ضررا مما هنالك. فأوردوا على الجهال شبهات تحسينا لما قد فعلوه، وتزيينا لسبيلهم الذي سلكوه.

والعارف إذا نظر إليها علم أنهم قد أقروا على أنفسهم وعلى الذين والوهم وآووهم بما قد لا يصرح به غيرهم فيهم ابتداء فمن ذلك قول بعضهم: إن الله تعالى يقول: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1 الآية.

يشير إلى أنه معذور بإقامته مع هؤلاء كما عذر من أقام من المؤمنين بمكة مع المشركين، فيقال له (أولا) : إن هؤلاء الذين سماهم الله مؤمنين لم يظاهروا على المؤمنين مشركا ولا منافقا ولا باغيا ولا ظالما ولا سبوا مؤمنا ولا عادوه.

ومنهم من قيده أهله بمكة ومنعوه من الهجرة كأبي جندل بن سهيل. فإنه خرج يوم الحديبية من مكة يرسف بقيوده، فلو أن أحدا منهم سب المسلمين أو عابهم أو أعان عدوهم انتقض إسلامه بلا ريب، لكن الله تعالى حفظهم من هذه الأمور وعذرهم باستضعافهم وعجزهم، ولهذا ثبت في الصحيح وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو لهم في الفريضة، كما أخرج البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، وربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده: "ربنا ولك الحمد اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش

1 سورة الفتح آية: 25.

ص: 309

ابن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين" 1.

وقوله: والمستضعفين من المؤمنين هو من عطف العام على الخاص بلا ريب، ومن المحال أن يسميهم الله ورسوله مؤمنين، وقد وقع منهم ما ينافي الإيمان قال الله تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} 2، فعلم من هذه الآية أن أولئك المستضعفين من المؤمنين لما كانوا بمكة مع قريش أنهم لم يتخذوهم أولياء من دون المؤمنين ولم يطمعوا منهم بموادة ولا ركون، وحاشاهم من ذلك، فلهذا وصفهم الله بالإيمان وقد أخبر تعالى أن الإيمان ينتفي بموالاة أعدائه كما قال تعالى:{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 3.

الظالمون لأنفسهم بترك الهجرة وحالهم عند الموت

قال بعض المفسرين- في الآية الأولى-: من الممتنع أن تجد قوما من المؤمنين يوادّون من حاد الله ورسوله. ويقال أيضا: إن الله تعالى بيّن حال الذين عذرهم عن الهجرة وميزهم بالوصف ممن لم يعذرهم فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} 4 قال في شرح البخاري: والسؤال للتوبيخ، أي: لِمَ تركتم الجهاد والهجرة والنصرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 5.

وروى البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن الأسود قال: "قطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيني عكرمة فأخبرته، فنهاني أشد النهي وقال: أخبرني ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين يأتي السهم فيصيب أحدهم فيقتله أو يضربه فيقتله، فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} 6 الآيتين.

1 البخاري: تفسير القرآن (4560)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (675)، وأبو داود: الصلاة (1442)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1244) ، وأحمد (2/239 ،2/255 ،2/396 ،2/407 ،2/418 ،2/470 ،2/502 ،2/521)، والدارمي: الصلاة (1595) .

2 سورة المجادلة آية: 22.

3 سورة المائدة آية: 81.

4 سورة النساء آية: 97.

5 سورة النساء آية: 97.

6 سورة النساء آية: 97.

ص: 310

فتأمل كيف ترتب عليهم هذا الوعيد وأوجب لهم النار؟ وقد ورد أنهم كانوا مكرهين على تكثير سواد المشركين فقط، فكيف بمن كثر سوادهم بغير إكراه وأعان وظاهر، وقال وفعل من غير استضعاف ولا إكراه؟ أترى بقي مع هذا شيء من الإيمان والحالة هذه؟.

وعيد من ترك الهجرة إلا المستضعفين

ثم إن الله تعالى بين في هذه الآية من خرج من هذا الوعيد بأوصاف لا تخفى على البليد فقال: {إِلَاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} 1، فذكر أنهم الذين {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} 2، وهم العاجزون عن الهجرة من كل وجه، وهؤلاء هم الذين دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المتقدم، بخلاف من لم يعجز عن الهجرة، بل اختارهم ورغب إليهم وسكن إليهم ووافقهم وتأيد بهم واستنصر مثل عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة الليثي وأمثالهما مما تزين له الباطل، كجبلة بن الأيهم الغساني، وأمثال هؤلاء كثيرون. نسأل الله الثبات على الإسلام والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.

والأمر الثاني: استدلالهم على جواز الإقامة مع المشركين أو تركهم الهجرة؛ لأن الصحابة هاجروا إلى الحبشة وفيها نصارى.

فيقال: (أولا) : لا يجوز عند من له أدنى معرفة أن يستدل على ترك الهجرة بأن الصحابة هاجروا، وكيف يجوز في عقل من له أدنى مسكة من عقل أن يستدل لترك شيء بأن ذلك الشيء الذي تركه قد فعله غيره؟

وقد عرفت أن الله سجل على من ترك الهجرة بالوعيد الشديد وبرئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثنى على من هاجر، ووعدهم على الهجرة بخيري الدنيا والآخرة كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 3.

وقال: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ

1 سورة النساء آية:98: 99.

2 سورة النساء آية: 98.

3 سورة النحل آية: 41.

ص: 311

دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} 1، وأي جهل أعظم من جهل من يسوي بين حسنات المقربين الأبرار، وسيئات العصاة الأشرار؟ {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} 2.

هجرة الصحابة إلى الحبشة وإكرام النجاشي لهم

وهذا سياق قصة مهاجرة الحبشة. قال أبو نعيم في منتقاه من سيرة ابن هشام: قال ابن إسحاق: حدثنا محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: " لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار- النجاشي، أمِنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جَلْدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة.

وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدّما إلى النجاشي هداياه، ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا حتى قدِما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار عند خير جار

ى أن قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب.

وقال له: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي الضعيف، وكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك

1 سورة آل عمران آية: 195.

2 سورة السجدة آية: 18.

ص: 312

به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.

قالت: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا. فعدا علينا قومنا وعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل من الخبائث ما حرم الله علينا. فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك.

قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال جعفر: نعم، فقال له النجاشي: اقرأه علي، فقرأ عليه صدرا من {كهيعص} قالت: فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى لَيخرج من مِشكاة واحدة، انطلقا فلا–والله- لا أسلمهم إليكم ولا أكاد" ثم ساقت القصة.

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رُومان عن عروة عن عائشة قالت: لما مات النجاشي كان يتحدث: أنه لا يزال على قبره نور. انتهى.

(قلت) : وقد أنزل الله في النجاشي وأصحابه آيات في سورة المائدة من قوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} 1 إلى قوله: {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} 23.

وكل من له أدنى معرفة لا يفهم من هذه القصة إلا أنها حجة عظيمة على الهجرة الواجبة من وجوه لا تخفى على البليد، اللهم إلا من ابتلي بسوء الفهم وفساد التصور وكابر العقل والشرع فلا حيلة فيه، يا ربنا نسألك الثبات على الإسلام.

حال المسلم الذي يقيم بين المشركين المعادين للإسلام

وأورد أيضا حديث: "أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين، لا تراءى ناراهما" 4، والحجة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه مسلما، فيفيدان إقامته بين أظهر المشركين لا تخرجه عن الإسلام

1 سورة المائدة آية: 82.

2 سورة المائدة آية: 82.

3 الغاية التي ذكرها سهو فإن الآيات الثلاث التي بعدها فيهم أيضا.

4 الترمذي: السير (1604)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

ص: 313

(فالجواب) : أن براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن جلس بين ظهرانيهم إنما كان عقوبة له على مجرد الإقامة بين أظهرهم. وأما إيواؤهم ونقض العهد لهم ومظاهرتهم ومعاونتهم والاستبشار بنصرهم وموالاة وليهم ومعاداة عدوهم من أهل الإسلام، فكل هذه الأمور زائدة على مجرد الإقامة بين أظهرهم، وكل عمل من هذه الأعمال قد توعّد الله عليه بالعذاب والخلود فيه وسلب الإيمان، وحلول السخط به وغير ذلك مما هو مضمون الآيات المحكمات التي قد تقدمت، وكل ذنب من هذه الذنوب له عقوبة تخصه، كلما ازداد منه زاد الله له في العقوبة.

فإن لم يؤمن بتلك الآيات المحكمات ويعترف بصدور تلك الأعمال منه فما أشبه حاله بحال من قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 1.

واعلم أن هؤلاء المشركين لا يرضون من هذا وأمثاله بمجرد الموالاة والنصرة دون عبادتهم وتسويتهم لهم بالله في التعظيم والإجلال والتودد إليهم. فمن ذلك الانحناء لهم والإشارة باليد إلى أشرف أعضاء السجود وهو الجبهة والأنف.

وكل ذلك من خصائص الإلهية، وذلك أمر لا محيد لهم عنه، كما قال تعالى عن أهل الكهف:{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} 2. ولهذا لم يجدوا من مفارقتهم بُدا، حتى ذهبوا إلى غار في رأس جبل خوفا من ذهاب دينهم فآثروا الله على كل ما سواه.

قال شيخنا -في هذه القصة-: فيه اعتزال أهل الشرك واعتزال معبوداتهم وقوله: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} 3 فيه شدة صلابتهم في دينهم حيث عزموا على ترك الرياسة الكبرى والنعمة العظيمة واستبدلوا بها كهفا في رأس جبل.

(قلت) : ومثل ذلك ما ذكره الله عن سحرة فرعون لما استنارت قلوبهم

1 سورة البقرة آية: 85.

2 سورة الكهف آية: 20.

3 سورة الكهف آية: 10.

ص: 314

بالإيمان قالوا لفرعون لعنه الله: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} 1.

واعلم أن حقيقة حال هؤلاء المشبهة أن الله تعالى أمر بقتال المشركين فقاتلوا معهم، وأمرهم بالبعد عنهم فآووهم وقربوا منهم، وأمر بمعاداتهم فوالوهم، وأمرهم ببغضهم فوادوهم، وأمرهم بأن ينصروا أهل الإسلام فاستنصروا بالكفرة عليهم، ونهوا عن مداهنتهم فداهنوهم.

ونهاهم عن كتمان ما أنزل الله من هذا وغيره فكتموه وشبهوا كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَاّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} 3 الآية. فجمعوا بين الكتمان والرد على من بين ولم يكتم، والتشبيه والجدال بالباطل، فتركوا ما أوجب الله عليهم وارتكبوا ما حرم عليهم. وهذا ظاهر جدا لا يرتاب فيه من له أدنى معرفة بالناس وما وقع منهم، فلا يأمنهم ويقربهم بعد هذه العظائم إلا من سفه نفسه.

شبهة استئجار أبي بكر لعبد الله بن أريقط والرد عليها

ولهم شبهة أخرى، وهي أن أبا بكر استأجر عبد الله بن أريقط في طريق الهجرة إلى المدينة وكان هاديا خِرِّيتا يدلهم على الطريق، فأحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبته؛ فتكون صحبة العسكر وإعانتهم على المسلمين ونصرتهم لا بأس بها.

فيقال: (أولا) : قد ذكرت في الشبهة التي قبل هذه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين" 4 وهذا يناقض ما استدللت به هنا، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من صاحب عمل وهو يفعله، ومثل هذا قوله:"من جامع المشرك أو ساكنه فهو مثله"5.

والآيات المحكمات صريحة في التحذير من موالاتهم ناطقة بالوعيد الشديد على موادتهم ونصرتهم، إذا عرف هذا فالفرق بين الدليل والمدعى أبعد مما بين المشرق والمغرب

1 سورة طه آية: 72.

2 سورة البقرة آية: 174.

3 سورة البقرة آية: 174.

4 الترمذي: السير (1604)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

5 أبو داود: الجهاد (2787) .

ص: 315

وذلك أن ابن أريقط أعان رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبر البر بعد الإسلام، وأفرض الفرائض بعد الإيمان، وسعى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مصالحه التي يتوصل بها إلى رضاء مولاه، ومراغمة أعدائه.

ولا ريب أن هذا لو صدر من ابن أريقط بنية لكان من أفضل الأعمال، فإذا أسلم كتب له ذلك من أفضل حسناته على حديث حكيم:"أسلمت على ما أسلفت من خير"، بخلاف من آوى المشركين ورضي بهم بدلا من المسلمين وأعانهم، واستنصر بهم وفرح بنصرهم وظهورهم، ودعا الناس إلى متابعتهم.

فالفرق بين الفعلين كالفرق بين فعل أبي طالب من النصرة والحياطة والحماية، وفعل أبي جهل وعقبة بن أبي مُعيط والنضر بن الحارث، فلو أسلم أبو طالب لكان فعله من أعظم القربات، وفعل أبي جهل وأمثاله من أعظم الكفر الموصل إلى الدركات في العذاب وحلول المثُلات، فأين من أعان الباطل ووادّ أهله ونصرهم وظاهَرهم ممن أعان المسلمين وسعى في مصالحهم وراغم عدوهم؟

سارت مشرقّة وسرت مغرّبا

شتان بين مشرّق ومغرّب

فابن أُريقط فعل خيرا جره إلى الإسلام كما جر سراقة بن مالك، وقد فعل من النصيحة في حال كفره ما يحمد به باطنا وظاهرا، بخلاف من والى المشركين ونصح لهم فإنه قد وقع في الوعيد والسخط والمقت وفساد الدين، ومفارقة المؤمنين، والله أعلم بما يؤول إليه حال أعيان أولئك الضُلَّال، لكنه يخشى عليهم أن يصيبهم مثل ما قصه الله في شأن بلعام، وكذلك أهل مسجد الضرار، وقد كانوا قبل ذلك في عداد الأنصار. فيا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على الإيمان.

ولا ريب أن عدول هذا المستدل عن الآيات المحكمات وصحيح الأخبار ترك للمحكم واتباع للمتشابه، وقد قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ

ص: 316

مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} 1 الآية.

وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعا " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"2.

وحاصل ما قدمنا من الجواب على ما أورده المشبه هنا يتضمن خمسة أوجه:

(الأول) : أن ابن أريقط أجير ومن شأن الأجير أن يخدم المستأجر؛ لأنه ملك منافعه بعقد الإجارة، والأجير تحت المستأجر.

(الوجه الثاني) : أن ذلك مستأجر في مصلحة دينية هي من أكبر مصالح الدين، فإعانته للمسلم وقت الحاجة إليه لا محذور فيها لكونها مصلحة محض، فكيف يجوز أن يستدل بذلك على ما هو أعظم المفاسد في الدين من موالاة المشركين وإعانتهم على باطلهم والصد عن سبيل الله؟

جمعا فما الضدان يجتمعان

شتان بين الحالتين فمن يرد

(الوجه الثالث) : أن استئجار الكافر للمصلحة نظير استرقاق الكافر، وذلك جائز بخلاف العكس، فإنه لا يجوز؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. وهذا المشبه كأمثاله صاروا لأهل مصر 3 كالمماليك في طاعتهم، ومتابعتهم، وإعانتهم اختيارا منهم لا اضطرارا. (الوجه الرابع) : أن ما فعله ابن أريقط لا يعاب عليه عقلا ولا شرعا بل قد يثاب عليه في حال كفره في الدنيا، وربما صار سببا لإسلامه لقربه من الإسلام بإعانة أهله على طاعة ربهم، بخلاف من أعان على معصية الله والصد عن سبيله، فأين من كان مع أهل الحق ممن كان مع عدوهم؟ وهل سمعت بتفاوت أعظم من هذا التفاوت؟

والله ما اجتمعا ولن يتلاقيا

حتى تشيب مفارق الغربان

1 سورة آل عمران آية: 7.

2 البخاري: تفسير القرآن (4547)، ومسلم: العلم (2665)، والترمذي: تفسير القرآن (2994)، وأبو داود: السنة (4598) ، وأحمد (6/124 ،6/256)، والدارمي: المقدمة (145) .

3 المراد من أهل مصر الجنود الذين قاتلوا جماعة المؤلف وكانوا من شعوب مختلفة وأصل الكلام في الذين ساعدوهم من أهل الحجاز وغيرهم.

ص: 317

(الوجه الخامس) :أن ما فعله ابن أريقط يغيظ كفار قريش، وإغاظة الكفار يحبها الله تعالى، بخلاف من يفعل معهم ما يسرهم ويغيظ عدوهم من المؤمنين، فأين هذا من هذا لو كانوا يعلمون؟

والبصير يعلم أن هذا التشبيه من هؤلاء على العوام صد لهم عن سبيل الله، وأنه من آثار عقوبة تلك الأعمال

اللهم إنا نعوذ بك أن نفتن عن ديننا، وأن نرد على أعقابنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما.

وهذا آخر ما تيسر جمعه، والله أسأل أن يعمم بنفعه.

أملاه وجمعه الفقير إلى الله تعالى عبده عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

وكتبه الفقير إلى الله عبده علي بن عبد الله البواردي.

وذلك في سنة 1261 من هجرته صلى الله عليه وسلم.

وكتبه من قلم كاتبه حرفا بحرف عبده الفقير إليه عبد الله بن إبراهيم الربيعي.

وذلك في 25 صفر سنة 1346 وصلى الله على محمد

وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

آمين.

ص: 318