المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

النصيحة المختصة   لابن الحبَّال البعلّى أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن - النصيحة المختصة

[ابن الحبال]

فهرس الكتاب

النصيحة المختصة

لابن الحبَّال البعلّى

أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن علي بن حاتم

(672 - 744 هـ)

من أصحاب ابن تيمية

تنشر عن المخطوطة الوحيدة بخط ابن المؤلف

تحقيق

الدكتور/ عبد الستار أبو غدة

نشر

دار الأقصى

ص: 1

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولى

1412 هـ - 1991 م

نشر

دار الأقصى

37 ش بهاء الدين بالدراسة

هاتف 929153 - القاهرة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدمة التحقيق

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله، والرضا عن أصحابه، والسلف الصالح المتبعين لهم بإحسان.

وبعد، فإن المؤلفات الكثيرة المتنوعة في علوم الدين لم تغن عن كتابات خاصة يختار فيها الكاتب ثمار تلك العلوم والقطوف الدانية منها، متخففا من المنهج التأليفي أو الاستيعاب لمسائل العلم الذي يود أن يطرقه، بل يمر بتلك المسائل مرور النحلة التي ألهمت أن تأكل من الثمرات وهي تسلك سبل ربها ذللا، فإذا بتلك الكتاب -على وجازتها- تغدو كشراب مختلف الألوان فيه الشفاء من أدواء الاعتقاد أو السلوك لما فيه من نداءات.

ص: 3

خالصة للنهوض من الغفلة التي ترين على القلوب بما تكسب الجوارح من آثام، وما تنساق إليه النفوس من عادات مجافية للشرع وبدع محدثة لا تروج إلا على حساب طمس الحقائق واندثار معالم السنة وهدي النبوة.

وهذه الكتابات الرشيقة الآخذة من كل علم بطرف، تظهر في صور عديدة:

منها: أسلوب تقييد الخواطر فيما يشبه كتابة المذاكرات النافعة للآخرين، كصيد الخاطر لابن الجوزي.

ومنها: طريقة تجميع الفوائد، كبدائع الفوائد لابن القيم.

ومنها: منهج كتب الحسبة وهي كثيرة معروفة .. وبعضها لم يحمل بين طيات اسمه كلمة (الحسبة) مع أنه من أهم كتبها، كمعيد النعم ومبيد النقم للسبكي.

ومنها: كتب الوصايا، والنصائح والعظات.

ومن الوصايا ما يذكر في الكتابات الديوانية كالعهود.

ص: 4

والتقاليد والتفاويض والمراسم قال ابن فضل الله العمري في كتاب ((التعريف بالمصطلح الشريف)) ممهدا لما أورده منها بحسب المراتب وأصحاب المناصب والمهن: "وهذا باب كبير، وللقلم فيه سبح طويل" واستغرق بيانه للنماذج المختلفة من ص 129 - 185.

وهذه النصيحة المختصة التي بين أيدينا هي من هذا القبيل، فقد آلت إليّ مخطوطتها في نسختها الأولى (وربما الوحيدة حسب علمي) لأنها بخط ابن المؤلف ولعله كتبها ليحملها شخص غريب فلا يعرف أمرها ولا تذكر في عداد مؤلفات صاحبها.

وهذا ما تبين بعد البحث والتتبع في فهارس المخطوطات المتاحة ودواوين التراث وعلى رأسها أعمال بروکلمان وسزكين.

لقد حرصت على إخراج هذه (النصيحة) من طيّ الخفاء، لما وجدته فيها من استجماع ما أشرت إليه من صفات تميزت به أمثال هذه الوصايا الوجيزة عن المؤلفات المطولة المبوبة .. وأشفقت أن تضيع بعد ما احتجبت عن

ص: 5

الضوء قرونا كثيرة .. فقمت بتحقيق نصها وتهيئته للنشر بصورة لا تحرمها ما هي عليه من وجازة ورشاقة، ولم أر مسوغا للتعليق المسهب عليها حتى لا تخرج عن طبيعتها التي أرادها عليها كاتبها .. فلم أزد عن توثيق النص، وتخريج الآيات والأحاديث والآثار، وإيضاح بعض ما يعسر فهمه، بالقدر الضروري، سعيا إلى تيسير الانتفاع بها على نطاق واسع.

وفيما يلي نبذة عن المؤلف والمخطوطة

ص: 6

(المؤلف)

ابن الحبال البعلي

لم يمكن العثور إلا على ترجمة موجزة جدا للمؤلف أوردها الحافظ ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة فقال: "إبراهيم بن عبد الرحيم بن علي بن حاتم البعلبكي، أبو إسحاق بن الحبال.

ولد في رمضان سنة 672 هـ، وسمع من التاج عبد الخالق، وأبي الحسين اليونيني، وغيرهما، ومات سنة 744

(1)

".

ولم يترجم له ابن رجب الحنبلي في ذيل طبقات الحنابلة مع أنه غطى تلك الفترة، ولا صاحب شذرات الذهب ولا ابن الوردي في تتمة المختصر.

والبعلي والبعلبكي وجهان في النسبة إلى (بعلبك) لأنها

(1)

الدرر الكامنة لابن حجر 1/ 39 ط/ 2.

ص: 7

علم مركب مزجي.

والشهرة بابن الحبال امتدت إليه من أحد أجداده، وهي إما لبيع الحبال أو صناعتها، ولم يذكروا في ترجمته مزاولة هذه المهنة، ولا أشاروا إلى احتراف أبيه لها. مع أن المؤرخين يهتمون ببيان المهن والصناعات وسبب النسبة إليها أو الاشتهار بها ..

وقد أشار في أثناء كلامه إلى تلقيه وصية بليغة من شيخه ابن تيمية عام 703 هـ يحذره فيها من طلب حظوظ الدنيا، ورضا الناس والركون إلى شكرهم فيما يؤدي لسخط الله تعالى، ثم يقول إنه وجد لهذه الوصية ثمرات عجيبة، ويبدو أن هذا وراء انجماعه عن الناس وبعده عن أسباب الظهور والشهرة .. ولهذا لم نجد في ترجمته المحدودة بيانات عن علاقاته الاجتماعية، بل عن مشايخه إلا النفر القلة المصرح بهم، مع عدم الشك في اشتغاله على علماء عصره في العلوم المختلفة كما جرت العادة في تلك العصور التي حَفِلَت بنوابغ يرحل إليهم من الآفاق، فقد كان في عصره إلى جانب ابن تيمية أمثال ابن الشيرازي، والشهاب

ص: 8

النابلسي، والمجد التونسي، وابن أبي الفتح وأبو بكر بن عبد الدائم، وغيرهم.

وكذلك الحال في تلاميذه فلم يذكر منهم أحد إلا ذلك التلميذ المبهم اسمه وهو الذي وجه إليه هذه النصيحة، ويدل على من وراءه قول المؤلف:"غير أني فهمت من أحوالك الباطنة والظاهرة ما أكد عندي أن أدخل معك في طرف من التفصيل".

فهذا التوصيف يشير إلى تميزه عن بقية تلاميذه .. كما أن من أخص تلاميذه ولده (أحمد) الذي نسخ هذه المخطوطة وقد نسخها في طرابلس الشام، ولعله كان في إحدى رحلاته وحده أو مع والده.

أما أثار المؤلف الأخرى فهي في حيز المجهول إلى أن يتم العثور على ترجمة مفصلة لسيرة حياته، لكن أسلوبه القوي واستحضاره الذكي في هذه النصيحة يدل على خبرة وممارسة للتأليف مما لم يصل إلينا علمه.

***

ص: 9

‌الكتاب

‌موضوع الكتاب:

بالإضافة إلى ما سبق في التقديم عن موضوع هذا الكتاب تجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب يندرج موضوعه تحت علم التربية (التصوف أو السلوك) أو علم الآداب الشرعية أو علم الأخلاق وما وصل إلينا من هذا النوع إما علم لم يوجه إلى شخص معين، وإما کتب خصيصا ليوجه من والد إلى ولده أو من أستاذ إلى تلميذه، أو صاحب إلى صديقه.

ويغلب على النوع العام من ذلك أن يحتوي على أبواب متكاملة ويشتمل على المقولات الممثلة لهذا الفن في حين لا يهدف بعضها إلى مراعاة علم من هذه العلوم، بل يرمي إلى تحريك الهمم ويؤدي دور الحافز إلى مراجعة مقولات تلك العلوم، ويأخذ مظهر الاختصار والطرافة وهذا هو منهج (الوصايا الخاصة) .. ومن تلك الوصايا،

ص: 10

رسالة "أيها الولد" للغزالي، و"لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" لابن الجوزي، والوصايا المتعددة الكثيرة التي كتبها ابن تيمية وبعضها كان إجابة لمن سأله أن يوصيه .. كما ذكر تلميذه ومؤرخ حياته الشمس بن عبد الهادي، وعدة صفحات بعضها كراريس، كوصيته لابن المهاجري

(1)

فضلا عن الوصايا والعظات التي ترد مسرودة في سير علماء السلف، وتكون وجاها أو مراسلة .. وللأوزاعي الكثير من هذه النمط مما أورده أبو نعيم عند ترجمته له في الحلية

(2)

.

هذا وإن كثيرا مما أفرده العلماء من وصايا مختصة قد اندثر، لأنها كانت تأخذ شكل الرسائل الإخوانية فإذا بلغت محلها (وهو الشخص الموصى بها) فإما أن يكتب لها الذيوع لنهوضه بشأنها وتسببه في تداولها، وإما أن توأد

(1)

العقود الدرية من سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية، لابن عبد الهادي 57.

(2)

حلية الأولياء، لأبي نعيم 6/ 136

ص: 11

عنده وتُقبَر بين أوراقه المتداخلة، وتغيب في (الدشت) الذي لا يخلو منه بيت العالم، ولم يكن من المألوف أن يعني کاتب الوصية بالاحتفاظ منها بنسخة قبل إرسالها، بل ربما حصل ذلك بمبادرة من تلاميذه الذين يسارعون إلى تدوينها قبل أن تأخذ طريقها إلى الموصى بها.

وقد ذكروا في سيرة ابن تيمية (وهو كثير الإسهام في باب الوصايا) أنه كان يسأل عن مسألة، فيكتب جوابها للسائل وهو غريب عن البلد - فإن حضر من يبيضه (ويحتفظ بنسخة منه) وإلا أخذ السائل خطه ورحل

(1)

.. وكان هذا آخر العهد بذلك الأثر العلمي الذي قد يفارق صاحبه إلى غير لقاء، إذا لم يتح فيما بعد الاستنساخ عن هذه المخطوطة الوحيدة ليشتهر أمرها ويضوع نشرها بدلا من أن يضيق نفعها أو يضيع أثرها.

(1)

العقود الدرية 65، ثم يقول: فإن وجد من نقله من خطه وإلا لم يشتهر ولم يعرف.

ص: 12

‌المخطوطة

هذه المخطوطة في حيازتي، وهي تقع في (13) صفحة، ومقاسها 20*15 ومسطرتها (15) سطرا، وهي مكتوبة بخط واضح تداخل فيه نوع النسخ بالفارسي، وبعض الكلمات مشکولة.

والنسخة مليئة بالتصحيحات بقلم مماثل إلحاقا لسقط أو تصحيحا عند المقابلة، وليس فيها هوامش، لكن في بعض حواشيها إشارة الاستدراك لما سقط عند النسخ أو وقع فيه سهو.

وقد كتبت عام 759 في طرابلس الشام بيد ابن المؤلف وهو أحمد بن إبراهيم، ويظن أنه من طلبة العلم وإن لم نجد له ترجمة تبين نصيبه منه. أما تاريخ تأليفها فيعرف من بيان جاء في أواخرها حيث قال إنه تلقى نصيحة من ابن تيمية عام 703 ثم قال: "ولقد وجدت

ص: 15

-والله- في مدة العمر لهذه الوصية ثمرات عجيبة"، مما يدل على أن ذلك وقع بعد هذا التاريخ ثم هو يدعو لابن تيمية بالتأييد أي كان ذلك في حياته وقد توفي 728 فيكون قد ألفها عام 727 تقريبا وقد تأخر نسخها ثلاثين عاما بعد نسختها الأولى.

الدكتور عبد الستار عبد الكريم

أبو غده

ص: 16

صورة الصفحة الأولى من المخطوطة الوحيدة

ص: 17

صورة إحدى صفحات المخطوطة، وفيها ذكر شيخ

المؤلف (ابن تيمية)

ص: 18

صورة الصفحة الأخيرة من المخطوطة الوحيدة

ص: 19

بسم الله الرحمن الرحيم

ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد، أيها الأخ العزيز، أعاننا الله وإياك على حفظ قلوبنا وجوارحنا، فإن "الدين النصيحة" كما ثبت في الحديث الصحيح

(1)

، وقد علمت ما أوثره لك من الخير

(1)

حديث "الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"، أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 53

عن تميم الداري وأبو داود وأحمد والبزار والبخاري في تاريخه ورواه في صحيحه معلقا 1/ 22 وهذا الحديث جعله بعض العلماء ربع الإسلام، لأنه أحد أربعة أحاديث يدور عليها الإسلام.

ص: 23

وأرجوه لك من تمام الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأبواب النصائح متعددة، والأمر بلزوم حقائق التقوى كلمة جامعة، غير أنني فهمت من أحوالك الباطنة والظاهرة ما أكد عندي أن أدخل معك في طرف من التفصيل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، ومنه نسأل أن يوفقنا جميعا لاقتفاء منهج الدليل صلى الله عليه وسلم وأن يحمينا من كل ما يوجب الخسارة في الدنيا والآخرة، إنه جواد کريم.

***

ص: 24

أما أولا:

‌فإن من أعز الأشياء قلبَك ووقتَك

، فإذا لم تحفظ قلبك عن الاشتغال بالخطوط الفانية، وتستعمل وقتك فيما يوجب لك الترقي بقوة الله إلى الدرجات العالية، ضاعت فوائدك وفاتت مقاصدك. وفي الحديث النبوي المعروف قوله صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، ودنياك قبل آخرتك

(1)

"، وفي

(1)

يلحظ هنا مخالفة السياق الروايات المعروفة في كتب الحديث ففي معظمها البدء بالحياة فالصحة فالفراغ فالشباب وخامسها: "غناك قبل فقرك"، ولم يرو "دنياك قبل آخرتك" فالظاهر اعتماده على الذاكرة وقد خانته هاهنا. والحديث أخرجه النسائي عن عمرو بن ميمون مرسلا، وأبو نعيم كذلك في الحلية 4/ 148، والحاكم 4/ 306 وفيه البدء بالشباب وصححه ووافقه الذهبي واعترضهما المناوي لضعف جعفر بن برقان وقال أخرجه أحمد في الزهد وحسن العراقي إسناده (فيض القدير 2/ 16).

ص: 25

الحديث الآخر: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ

(1)

».

فخذ نفسك بتحقيق طريق المحاسبة الظاهرة والمراقبة الباطنة تظفر بالكنز الأسنى والمقصد الأعلى.

واعلم أن (المحاسبة) في اصطلاح أكثر الطائفة

(2)

تختص بالأعضاء السبعة الظاهرة، وهي: الأذن والعين،

(1)

وفي روايات الحديث صور أخرى من السياق كالبدء بذكر الحياة والفراغ فالغنى والشباب. (الحلية 4/ 148) والبدء بالشباب فالصحة فالغنى فالفراغ (المستدرك 4/ 306) وقد ساقه الغزالي في الإحياء مثله فاعترضه الزبيدي في شرحه 10/ 253 بأن لفظ الجميع بالبدء بالحياة فالفراغ وعزاه الزبيدي أيضا لابن أبي الدنيا في (قصر الأمل) بسند حسن، ونقل عن العراقي عزوه لابن المبارك في الزهد من رواية عمرو بن ميمون مرسلا (وهو في الزهد ص 3 لكنه ليس مرفوعا بل أثر من قول عمرو، ولا ينافي ذلك رفعه من طريق أخرى).

أخرجه البخاري في صحيحه 8/ 109، والترمذي والنسائي وابن ماجه.

(2)

مراده بالطائفة: الصوفية والزهاد.

ص: 26

واللسان [والأنف]

(1)

والفرج، واليد والرجل - وأن (المراقبة) تختص بالخواطر القلبية الباطنة

(2)

فرابط الثَّغرين، واجتهد على تحقيق هذين المقامين.

***

وهذه «النصيحة المختصة» ، لا تحتمل بسط المقال وتوسيع المجال، فلاحظ نكتًا أوردها عليك، والله خليفتي عليك.

قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه،

(1)

زدتها على النص لاقتضاء العدد وجودها، فالمذكور ستة بعد الحصر بسبعة، و (الأنف) أحد الحواس الظاهرة، فإغفاله سبق قلم ..

(2)

لهذا الاصطلاح ما يعضده، فإن المحاسبة من الحساب وهو عمل يجري في الأمور المحسوسة الظاهرة، فيناسب هذا الاستعمال للنظر في شأن الحواس الظاهرة، أما المراقبة فللأعمال القلبية من العزم والهم والخاطر.

ص: 27

في سياق التمدح: والله ما تغنَّيت ولا تمنَّيت

(1)

. فاحذر كل الحذر من تحكيم الخيال، والتورُّط في لجج الآمال، واعتبر قول من قال: فِكرُك فيما مضى، وفِكرُك فيما يأتي شغل عما يلزمك في الوقت.

وهذه كلمة جامعة، فانقش معناها في قلبك يفتح لك الباب (إن شاء الله) في تحقيق عبودية ربك

(2)

، واحذر من دقائق الشرك فإنه السُّمُ القاتل، ومن المعلوم أن التوحيد أعظم المقامات والشرك -بلا شك- أعظم المهلكات.

وهذا كلام مجمل تفني دون تحقيقه الأعمار، وقد عجز عن تسنُّم ذِروة كماله الصغار ومعظم الكبار.

فالتوحيد لبّ القرآن، ونظام الشريعة، وسر الملة

(1)

تتمته: ولا شربت خمر في جاهلية ولا إسلام. التمني هنا: التكذب أي اختراع الكذب، من مني يمني إذا قدَّر -لأن الكاذب يقدر الحديث في نفسه ثم يقوله .. ويقال للأحاديث التي تتمنى .. الأماني (النهاية).

(2)

مقصود: عبوديتك لربك، فالإضافة هنا على تقدير اللام، وهي من إضافة المصدر إلى مفعوله.

ص: 28

الحنيفية، وخلاصة الدعوة المحمدية. قال الخليل الأول إبراهيم عليه السلام لما وضع في كفة المنجنيق: حسبي الله ونِعْمَ الوكيل

(1)

. ولما ضجَّت الملائكة عليهم الصلاة والسلام وقالوا: ربنا خليك يُلقى في النار، ليس لك خليل غيره، وأتاه جبريل عليه السلام وناداه: يا إبراهيم، ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا

(2)

. فجرًّد التوحيد وحقق التفريد، ولما فعل ذلك وأفرد الواحد، تولاه الواحد سبحانه، وجعل النار عليه بردًا وسلامًا.

وقد عُلِم أن الخلق والاختراع لا يقدر عليه غير الله

(1)

روى البخاري (6/ 48) عن ابن عباس أنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل} . وروى ذلك النسائي والحاكم وابن جرير في التفسير (تفسير ابن كثير، آل عمران/ 173).

(2)

ذكر ذلك ابن الأثير في الكامل 1/ 56 ولم يورده الطبري ولا ابن كثير في البداية (1/ 146) مع إشارته إلى تفصيل خبر إلقائه عليه السلام في النار وما دار عندئذ.

ص: 29

تعالى. وكذلك جميع خصائص الربوبية، كالنفع

(1)

والضر، والعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، وإسباغ العماء، وإجابة الدعاء، والنصر على الأعداء. قال الله تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}

(2)

، وقال تعالى:{أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}

(3)

مع قوله سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ .. }

(4)

الآيات كلها، وهذه الآيات الشريفة من أَجَلِّ آيات التوحيد وأعظمها

(1)

المراد من النفع - وما بعده - ما قضاه الله للعبد من نفع وضر .. إلخ أما التسبب بذلك من العبد للعبد فليس منفيا عنه مطلقا بل المنفي عن غير الله تعالى هو الاستقلال بذلك دون إرادة الله، وعليه جاء الحديث: لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك .. لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك .. » أخرجه الترمذي.

(2)

سورة فاطر/ 2.

(3)

سورة النمل/ 64.

(4)

سورة فاطر/ 62.

ص: 30

دلالة عل اختصاص الرب سبحانه بذلك دون كل أحد من خلقه، لأن في أول كل آية منها قوله:(أمْ مَنْ) وفي آخر كل أية منها قوله: (أإله مع الله)، فافهم واعلم، لازلت مُوَفَّقًا.

***

‌واحذر من الغلو

، فإنه شر من التنقص بالصالحين، وكل منهما ضلال مبين، وذلك لأن التنقص عدوان على البشرية، والغلو عدوان على الإلهية. كما أن التعطيل شر من التمثيل، مع أن كلا منهما كفر، فإن التمثيل يتضمن إثبات وجودٍ ناقص، والتعطيل يستلزم العدم، والوجود كيفما كان: خير من العدم بكل حال

(1)

.

(1)

التعطيل هو: نفي صفات الله تعالى لعدم إدراكها إلا بالمشابهة ففروا منها إلى التعطيل. والتمثيل هو: حمل صفات الله تعالى على الظاهر المعروف للبشر ويسمى أيضا التجسيم والتشبيه. ووراء هذين الاتجاهين المكفرين ثلاث طرائق تتعلق بصفات الله تعالى وهي:

- الإثبات وهو القول بمدلول الصفة والحكم بالمراد من اللفظ على وجه يليق بذاته تعالى دون تشبيه ولا تأويل.

- التفويض وهو التصديق بالصفة وتفويض المراد بها إلى الله، مع التنزيه عن التشبيه أيضا وعدم تكلف التأويل.

- التأويل وهو حمل المراد على ما يليق بذاته تعالى وصفاته دون القطع بأنه مراد الله لعدم الدليل أي حمله على المجاز.

ص: 31

ولأجل درء موادّ الغلو عن قلوب الأمة قال سيدها وسيد الخلق كلهم صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله

(1)

»، ولما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: «أجعلتني الله ندًّا؟ بل ما شاء الله وحده

(2)

»، وقال: «إني والله لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت

(3)

، ولما خُيِّرَ بين أن يكون نبيًّا

(1)

أخرجه البخاري 4/ 204 بلفظ «كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله» .

(2)

أخرجه البيهقي عن ابن عباس (الجامع الكبير 1/ 20).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (العلم/ 13).

ص: 32

ملكًا، أو عبدًا رسولًا، نظر إلى جبريل، کالمستشير له، فقال له: يا محمد، تواضع لربك، فقال: «بل عبدًا رسولًا

(1)

» والنبي الملك سليمان عليه السلام، قال الله تعالى له:{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}

(2)

أي أعطِ من شئت وامنع من شئت فإنا لا نحاسبك، والعبد الرسول هو الذي يضع حيث أُمِرَ، كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم. وشاهد هذا قوله تعالى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}

(3)

، {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}

(4)

، {قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْم

(1)

أخرجه أحمد والبزار، ورجالهما رجال الصحيح كما قال الهيثمي (مجمع الزوائد 9/ 21).

(2)

سورة ص/ 39.

(3)

سورة القصص/ 56.

(4)

سورة آل عمران/ 128.

ص: 33

يُؤْمِنُونَ}

(1)

.

***

فإن قلت: فهو صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وأجل الوسائط، وقد أقامه مولاه سبحانه مقام نفسه في مثل قوله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}

(2)

، وقوله تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}

(3)

فما معنى الواسطة في هذا المقام؟

فأقول لك، مع الاختصار والاقتصار:

اعلم -أيدك الله وإيانا بروح منه- أن هذا الباب يحتاج إلى التفصيل، فإن من أنكر الوسائط بين الله تعالى وبين خلقه مطلقا فقد كفر وجحد حقائق الرسالة، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ

(1)

سورة الأعراف/ 188.

(2)

سورة الفتح/ 10.

(3)

سورة النساء/ 80.

ص: 34

فَانتَهُوا}

(1)

، ومن أثبتها مطلقة في كل شيء فقد ضل ضلالًا بعيدًا وخسر خسرانًا مبينًا.

أما باب معرفة الحلال والحرام والصلاة والصيام وغير ذلك من واجبات الشريعة ومستحباتها ومحرماتها ومکروهاتها ومباحاتها، وما يتعلق بهذا الباب جميعه فلابد فيه من الواسطة، لأن جبريل حَمَلَ وبلَّغ، والرسول المعصوم أنذر وبشَّر، والصدر الأول حفظ وأوصل، وهلم جرًّا .. فهذا الباب أمره معروف مشهور.

وأما باب خصائص الربوبية، كالخلق والرزق وإجابة الدعاء ونحو ذلك فإنه أمر يتولاه الله تعالى بنفسه، ليس بين المخلوقين وبينه سبحانه فيه مَلَك مقرب ولا نبي مرسل، قال الله تعالى:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}

(2)

، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}

(3)

، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ}

(4)

،

(1)

سورة الحشر/ 7.

(2)

سورة الأنعام/ 102.

(3)

سورة فاطر/ 3.

(4)

سورة الذاريات/ 58.

ص: 35

{وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}

(1)

، {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}

(2)

. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِنْ ظَهِير (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}

(3)

.

لما كان قوم يدْعون المسيح وقوم يَدْعُون العُزير، وقوم يدْعُون الملائكة -كما ذكر ذلك طائفة من السلف- أنزل الله تعالى قوله:{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)}

(4)

، أثبت سبحانه أنَّ المدعوِّين صالحون، لأنهم

(1)

سورة هود/ 6.

(2)

سورة النمل/ 64.

(3)

سورة سبأ/ 22 - 23.

(4)

سورة الإسراء/ 56 - 57.

ص: 36

يبتغون إلى ربهم الوسيلة، ويرجون، ويخافون، وبيّن سبحانه أنهم مع ذلك لا يملكون الإجابة لئلا يتوهم المشركون ومن فيهم من أرقائهم

(1)

أو رقائقهم أن النهي يقتصر على الأصنام وغيرها من الأوثان، وأن الصالحين يجوز دعاؤهم بظهر الغيب والاستعانة بهم والاتكال عليهم، فإن هذه الأمور من خصائص الربوبية، وقد نهى الله ورسوله عن الشرك ومتعلقاته في مواضع لا تحصى، بل هذا التجريد التوحيد هو قطب دين الإسلام، فاثبت فيه بلا تردد تسعدْ وترشد إن شاء الله تعالى.

وسأذكر لك كلامًا يقرب الأذهان من فهم هذا الشأن:

اعلم -أيدك الله وإيانا- أن المؤمن إذا قام في جوف الليل، حيث هدأت الأصوات ونامت العيون، إلى مناجاة الله ودعائه، فإنه يعتقد أن مولاه سبحانه يسمع السر والنجوى، ويعلم السر وأخفى، وأنه مدبر له، قادر على جميع مراداته، وهو كذلك تبارك وتعالى. وإذا قام في ليلة

(1)

في الأصل «فيه من دقائقهم» .

ص: 37

أخرى وقال (مثلا) كما يفعل كثير من الناس: يا سيدي الشيخ، أنا في جنبك، أنا في جوارك، شيء لله، أطلب لي من ربك كذا وكذا، ونحو هذا الكلام الذي جرت به عوائد معظم الناس في هذه الأزمنة المتأخرة، فلولا أنه يعتقد أن الشيخ يسمع ويعلم ويقدر، وأن سِرَّه يطلع على ما هو فيه ولو كانت المسافة المحسوسة بينهما بعيدة، وأن هذا أمر مطلوب له عند النفوس ثمرة نافعة، لولا جزمه بذلك ومثله لكان الخطاب منه على وجه العبث الذي لا يستحسنه عاقل، أو التلاعب في العبادة الذي لا يجوز بحال.

وإذا اعتقد في الشيخ ونحوه أنه يظهر الغيب، [و] يسمع ويعلم، ويقدر ويدبر، فما الذي ترك لربه سبحانه في هذا الباب من خصائص ربوبيته وحقائق إلاهيته؟! لقد ضل من اعتقد هذا وخسر حيث جعل عظمة الوحدانية لآحاد البشر. وأكثر النفوس في مثل هذه الأزمنة لا تتفطن لهذه المصيبة العظيمة، وقد قهرها الغلوّ والعوائد الفاسدة، فإلى الله الشكوى، وهو المستعان، وعليه التكلان، ولا

ص: 38

حول ولا قوة إلا بالله.

وقال تعالى في تجريد التوحيد أيضا: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِّعْمَة فَمِنَ اللَّهِ}

(1)

، {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ}

(2)

، {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}

(3)

.

فالخليل الأول إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد تقدم ذكر توحيده وتجريده

(4)

، وأما الخليل الأكمل محمد صلى الله عليه وسلم فإن مقاماته العالية ومواقفه الرفيعة في هذا الباب الأشرف لا تحصى إلا بكلفة. ولنقتصر في هذا الموضع على إيراد مضمون خبر واحد تضمن تحقيق هذا المقام وتكميله، وهو قوله لما تسلل أحد جبابرة الكفار إليه في بعض الغزوات وقت غفلة الصحابة رضي الله عنهم وتفرقهم تحت الأشجار لشدة

(1)

سورة النحل/ 53.

(2)

سورة آل عمران/ 126.

(3)

سورة النمل/ 65.

(4)

انظر ص 29.

ص: 39

الحر، وانفراده وحده نائما تحت شجرة. ولما قام الكافر واخترط السيف من قِرابه وقال له بعد أن فتح الرسول عينيه: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: «الله» فسقط السيف من يده، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ السيف بيده وقال له:«من يمنعك مني» فلم يهتد لطريق التوحيد، بل فزع وجزع ثم قال: يا محمد، كن خير آخذ، فقال له:«أسلم تسلم» قال: لا أفارق ديني ولكن أعاهدك أن لا أخرج عليك أبدًا. فأطلقه.

ولما ذهب إلى قومه قال لهم: جئتكم من عند خير الناس، قدر عليَّ فعفا، ولو قدرت عليه ما عفوت عنه

(1)

.

فأكمل الخلق على الإطلاق محمد ثم إبراهيم، وقد قال تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}

(2)

، وقال تعالى:{دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين}

(3)

،

(1)

أخرجه البخاري، وأحمد في مسنده (كما في تخريج أحاديث والإحياء رقم 2268).

(2)

سورة الحج/ 78.

(3)

سورة الأنعام/ 161.

ص: 40

{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}

(1)

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}

(2)

.

فالسلامة في الإسلام، وهو حقيقة الاستسلام والانقياد بالباطن والظاهر للرب سبحانه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}

(3)

.

***

‌ومن جملة مهمات التوحيد أن لا تقف عند الشكر والذم من الناس

، فإن ذلك يصد عن حقائق التعوذ

(4)

، ويا سعادة من يذوق حلاوة هذه الأمور. قال الله تعالى في

(1)

سورة النحل/ 123.

(2)

سورة الأحزاب/ 21.

(3)

سورة آل عمران/ 85.

(4)

كذا في المخطوطة ولعله محرف عن «التفريد» .

ص: 41

وصف المحبوبين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَنْ يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}

(1)

.

وكنت أخبرتك أن سيدنا شيخ الإسلام تقي الدين أبا العباس أحمد بن تيمية- أيده الله وأحسن إليه- أوصاني مرة في سنة ثلاث وسبعمائة، وصية بليغة حفظت منها قوله: لا تقصد رضا الناس بأقوالك ولا أفعالك: فإن رضا الناس غاية لا تدرك، اليوم إن تُرْضِ الناس يشكروك، وفي غير تسخطهم يذمّوك، انقضى عمرك بين شكرهم وذمهم ولا حقيقة لأحدهما، بل إذا عرض لك أمر فيه طاعة الله أقدم عليه ولو أن في قبالته ألفا يذمونك، فإن الله تعالى يكفيك شرهم، عملا بما ثبت عن

(1)

سورة المائدة/ 54.

ص: 42

عائشة رضي الله عنها وقد روي موقوفا ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أرضى الله بسخط الناس كفاه مؤونة الناس»

(1)

وإذا عرض لك أمر فيه معصية احذر ثم احذر أن تقدم عليه ولو أن في قبالته ألفا يشكرونك، فإن الله تعالى يسلطهم عليك، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم:«من أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذامًّا» وفي لفظ «وَكَلَه الله إليهم ولم يغنوا عنه من الله شيئًا»

(2)

.

ولقد وجدت -والله- في مدة العمر لهذه الوصية ثمرات عجيبة، فالله يجمع قلوبنا على طاعته ومحبته، إنه جواد كريم.

***

(1)

أخرجه الخليلي، كما في تخريج أحاديث الإحياء (رقم 3134).

(2)

أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية (تخريج أحاديث الإحياء رقم 3134).

ص: 43

‌وسأذكر لك أيضا كلمات مختصرات

، أرجو بها جزيل النفع، فإن الحاضر من الطِرْس ضاق عن تكميل ما كان في النفس:

• عليك بالسير إلى الله تعالى بين جناحي الخوف والرجاء، على طريق تحقيق المحبة، مع صحبة الحياء، فإن من لم يصحب الحياء والأدب خرق حدًّا، ونقض عهدًا

• واحرص على [أن]

(1)

توقع جملة العبادة على طريق المحبة والتعظيم، وجميل المراقبة لنظر الرب الكريم، فإنك بمرأى منه، ولا تستغني في لحظة من اللحظات عنه

• واحذر كل الحذر من ضياع الزمان في غير عمل راجح، فإنه يقيه

(2)

عمر المؤمن لا قيمة له.

• والزم السنة الصحيحة في الأقوال والأفعال والأحوال، فإن الاتباع غاية السعادة، وإلى تحقيقه ينتهي

(1)

مزيدة على النص، لتصحيح العبارة.

(2)

كذا في المخطوطة. ولعله محرف عن «بغيره» .

ص: 44

أمد الزيادة، قال الله تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}

(1)

.

• ومع هذا التحرز والتجريد، لا تنس الله تعالى في نفس العمل الصالح حال تلبُّسك به، بل راقب نظره، واشهد اطّلاعه، فإن كثيرا من الواصلين يشتغل بالحال عن المحوِّل، وبالحكمة عن الحكيم، وهذا حجاب كبير، ومن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية، وهذه مجملات مهمة يطول تفصيلها، ويعزّ -والله- تحصيلها.

• واجتهد على ترك الفضول في الكلام والمأكل، والملبس، وجميع الأمور، فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: «يا عبد الله، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»

(2)

، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تحدِّث نفسك بالصباح، وإذا أصبحت فلا تحدث

(1)

سورة النور/ 54.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (رياض الصالحين 57).

ص: 45

نفسك بالمساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك

(1)

.

ولم تتسع الورقة لأكثر من ذلك، فالله يسلك بنا وبك أجمل المسالك، إنه جواد کريم رؤوف رحيم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

***

(1)

رياض الصالحين 57.

ص: 46

‌حول هذا الكتيب

هذا الكتيب من قبيل النصائح الجامعة، فقد قدم فيه مؤلفه (ابن الحبال البعلي) إلى أحد تلامذته كلمات نافعة جامعة تهدف إلى الحفاظ على جوهر الدين ومنهجه القويم، جاءت نتيجة تجارب وخبرات المؤلف وشيوخه (وأحدهم ابن تيمية).

وفن النصائح أو الوصايا يقوم على تقديم الموعظة والحكمة في كتابات رشيقة تأخذ من كل علم بنصيب وتَمُتُّ بالصلة إلى كل من علم التربية أو السلوك، والآداب الشرعية، والأخلاق.

وهذه «النصيحة المختصة» تنشر لأول مرة، وعن مخطوطة فريدة بخط ابن المؤلف، وهي كشراب سائغ مختلف ألوانه فيه الشفاء من أدواء الاعتقاد والسلوك، بما اشتملت عليه من نداءات خالصة للتحذير من الغفلة التي ترين على القلوب، أو الانحراف الذي ينشأ عن اعتياد ما هو مجافٍ للشرع من بدع ومحدثات لا تروج إلا على حساب طمس حقائق السنة وإهمال هدي النبوة ..

دار الأقصي

ص: 48