المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌إلى المدينة: مضت على الرسول الأيام الثلاثة وهو في الغار، وهدأ - الهجرة النبوية - دراسة وتحليل-

[محمد السيد الوكيل]

الفصل: ‌ ‌إلى المدينة: مضت على الرسول الأيام الثلاثة وهو في الغار، وهدأ

‌إلى المدينة:

مضت على الرسول الأيام الثلاثة وهو في الغار، وهدأ الطلب ويئس المشركون، واطمأن الدليل فوافاهما براحلتيهما، وغادر رسول الله الغار مع صاحبه في رعاية الله وحفظه.

وسلك الدليل بهما طريقا لا يعرفها كثير من أهل مكة إمعانا في تضليل المشركين، وضمانا لسلامة المهاجرين، وكان السائرون في هذا الدرب أربعة: رسول الله، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر صحبهما ليقوم بخدمتهما، ثم عبد الله بن أريقط دليلهما.

أخذ الدليل بهما طريق الساحل، وسار أمامهما، وجد الناس في طلبهما رغبة في الحصول على الجائزة الثمينة التي رصدتها قريش لمن يأتي بهما أو بأحدهما حيا أو ميتا.

ورغم إمعان الدليل في التضليل، ورغم الجهد المبذول في التخفي إلا أن سراقة ابن مالك أدرك المهاجرين، وخاف أبو بكر رضي الله عنه مرة أخرى وقال:"هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله"، وأجاب الرسول بكل ثقة واطمئنان:"لا تحزن إن الله معنا".

لقد حاول سراقة أن يفوز بالجائزة، إنها ليست شيئا هينا بل هي مائة ناقة عن كل واحد منهما، يقول سراقة:"كنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة الناقة"1.

وفرح سراقة عندما رأى الرسول وصاحبه، وحدثته نفسه بالثروة العظيمة التي تنتظره، لا شك أنه سيكون من سادة قريش وأثريائهم، ومن سيكون أكثر ثراء منه فيهم إنه سيكون بعد قليل صاحب مائة ناقة إن لم يكن صاحب مائتين.

وهمز سراقة فرسه ليدرك الركب، وجد في السير، وأجهد فرسه ولكن حيل بينه وبين ما يشتهي، فكيف حصل هذا؟ ولنترك سراقة يحدثنا بما حصل له، قال سراقة:

"فلما بدا لي القوم ورأيتهم عثر بي فرسي، فذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار، قال: فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني، وأنه ظاهر"2.

إن سراقة رجل قد أراد الله به الخير فهداه إلى الحق، وأدرك أنه ما دام لم يستطع الوصول إليه وهو أمامه فلا بد أن يكون له شأن، وإلا فما الذي يحول بينه وبينه؟

وأدرك سراقة سر هذه الحيلولة فأمن بالله ورسوله، وأخذ على نفسه أن يرد عن الركب كل ما يطلبه.

لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل في رد سراقة، ولكن الله هو الذي رده، إن الرسول قد اتخذ الأسباب التي يستطيعها، فسلك طريقا غير معروفة، وأخذ الدليل ليهديه، واستخفى عند خروجه وذلك ما يستطيعه، فإذا حدث ما لم يكن في الحسبان فالله عز وجل يتولى دفعه، وقد كانت المعجزة التي شاهدها سراقة فعلم أن الرسول ممنوع لا محالة فآمن به.

1 ابن هشام (2/96) .

2 نفسه ص 96-97.

ص: 180

وقف سراقة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليه الزاد والمتاع وأخبره بما يريد به الأعداء، فلم يقبل الرسول منه زادا ولا متاعا وأمره أن يخفي أمره ولا يخبر أحدا به1.

والتفت الرسول إلى سراقة وقال: " كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ " 2 إنها كلمة لا يقولها في مثل هذا الموقف إلا رجل عظيم تام الثقة بالله عز وجل إن الرسول يطارده قومه، وقد خرج من بينهم مهاجرا إلى بلد آخر مستخفيا، ثم يخبر سراقة بأنه سيلبس سواري كسرى، إنه أمل عظيم في الله - سبحانه - وثقة تامة في نصره المبين.

ويعود سراقة بهذه البشارة الطيبة وبكتاب أمان كتبه له أبو بكر بأمر الرسول، ويعود فوق ذلك بإيمان ملأ قلبه فكان ذلك عنده خيرا من ألف ناقة.

ومر الرسول وصاحبه بخيمتي أم معبد وهي امرأة من خزاعة كانت تجلس في خيمتها تطعم وتسقي من يمر بها فسألاها عن شيء يشترونه، فأجابت لو كان عندي ما أعوزكم القرى.

ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب الخيمة شاة فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد؟ " فقالت: "هي شاة خلفها الجهد عن الغنم". فاستأذن منها، وحلبها فتفاجت فدرت، وملأ الرسول منها إناء يكفي الرهط فسقاها ثم سقى أصحابه ثم شرب أخرهم، ثم حلب في الإناء مرة أخرى حتى ملأه وتركه عندها وغادرها.

وهكذا يضرب الرسول المثل في حب الخير للناس لقد كان يستطيع أن يرحل عن أم معبد دون أن يحلب لها، ويكفي أنه سقاها وسقى أصحابه ولكنه صلى الله عليه وسلم كان حريصا على أن يصل الخير إلى الناس جميعا. ولعلها لا تجد ما تطعم منه زوجها إذا حضر فترك عندها ما تستعين به على ذلك.

وفي الطريق لقي الركب الزبير بن العوام رضي الله عنه قادما من الشام في تجارة له، ومعه بعض المسلمين، فكسا الرسول وأبا بكر ثيابا بيضاء مما جلبه من الشام.

وسار الركب المبارك ميمما شطر المدينة، وعلم الأنصار بمقدمه فخرجوا لاستقباله وقد لبسوا سلاحهم وتلقوه بظهر الحرة المعروفة بحرة الوبرة - الحرة الغربية - فمال بهم صلى الله عليه وسلم ذات اليمين متجها إلى قباء حتى نزل في بني عمرو بن عوف وكان ذلك في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول.

1 صحيح البخاري.

2 الإصابة (2/19) .

ص: 181