الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العبرة الأولى:
هي أن كل مَنْ عَبَد المال والمنصب فلا بدَّ أن يكون شقاؤه وذله وهلاكه على يد هذا المال، وكل من استخدام المال خادماً ذليلاً مَهِيناً لمرضاة الله عز وجل؛ لابدَّ أن يتحوّل المال في حياته إلى سُلَّمٍ؛ يرقى به إلى أعلى درجات العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والقوة بعد الضعف. هذه هي العبرة الأولى، وإنكم لتلاحظون ذلك في معنى ترك أصحاب رسول الله-بل رسول الله ذاته-:(الوطن والأرض والمال وربما الأهل)؛ لحاقاً بما فيه مرضاة الله سبحانه وتعالى، لحاقاً بتنفيذ أمر الله وكأن أحدهم يتجه إلى شطر المدينة المنورة وهو يقول لربه:{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] فماذا كانت النتيجة؟ !
كانت النتيجة أن تحوّل المال الذي استخدموه لمرضاة الله والذي أعرضوا عنه -بكل معنى الكلمة- في سبيل أن يستعيضوا عن المال رضى الله عز وجل؛ كانت النتيجة أن قَدَّم الله لهم من المال سُلَّماً أمام أقدامهم، ارتقوا بهذا السُّلَّم إلى أعلى درجات الغنى، وإلى أعلى درجات القوة، وإلى أعلى درجات الوحدة والترابط ..
مع أن الفراق في بادئ الأمر وظاهره كان صعباً وأليماً على رسول الله .. ، فمكة- فضلاً عن كونها مولداً ومنشأ للرسول وأصحابه- فهي كذلك مهوى للأفئدة بل هي مغناطيس القلوب، ففيها الكعبة البيت الحرام، الذي جرى حبّه منهم مجرى الروح والدم، ولكنَّ شيئاً من ذلك لم يمنعه وأصحابه من مغادرة الوطن، ومفارقة الأهل والسكن، حين ضاقت الأرض على هذه الدعوة والعقيدة، وتنكّر أهلها لهما.
وقد تجلّت هذه العاطفة المزدوجة- عاطفة الحنين الإنسانيّ وعاطفة الحبّ الإيمانيّ - في كلمته التي قالها مخاطبا لمكّة في وداعها: "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحبَّكِ إلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ" فطمأنه ربه بقوله: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ .. } [القصص: 85]. ستعود إليها يا محمد .. ، إن الذي فرض عليك القرآن وأنزله على قلبك هو الذي سيردّك إلى مكة يا حبيب الله، وانظروا إلى اختيار لفظ التطمين لرسول الله .. "لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ" لماذا " لَرَآدُّكَ" بهذا التعبير بالذات؟ !
كأنَّ الله يريد أن يذكِّر رسوله بقوله لأم موسى: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7] فكما رددتُ موسى إلى أمه؛ سأردُّ ك يا محمد منتصراً مكرماً .. {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ
…
}
(1)
.
إذن الفراق في بادئ الأمر وظاهره كان صعباً وأليماً على رسول الله .. ، لكن النتيجة كانت سبباً لنهضة الإسلام وانتشاره وتوطده
…
وهكذا فرُبّ ضارّة نافعة، بل كم من مِحنةٍ محويّة في طيِّها مِنَحٌ ورحماتٌ مطويّة ..
وهذه المحن الأليمة العصيبة التي تعيشها الأمة الإسلامية
اليوم لها ظاهر وباطن، لها مظهر جلي ولها باطن خفي؛
أما الظاهر الجلي: فمأساة تتقطع لها القلوب، محنة ما أظن أن تاريخنا الإسلامي بحلوه ومره سجل مثل هذه الظاهرة الأليمة، هذا هو الظاهر محنةٌ وبلاء
…
أما الباطن: فإنما هو منحةٌ من منح الله عز وجل ليستبين
الصادق من الكاذب، ولكي تتمزق أقنعة النفاق فيعرف المؤمن الصادق من غيره:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2 - 3]
(1)
(تفسير الشعراوي - الخواطر 18/ 11046)