الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَغَيْرُ مُشَاحٍ صَاحِبَيَّ هَذَيْنِ، وَإِنَّ السَّلَامَةَ لَدَيَّ لَفِي اعْتِزَالِ هَذَا الْأَمْرِ. قَالَ السَّائِحُ: مَا أَظُنُّ صَاحِبَيْكَ يَكْرَهَانِ اعْتِزَالَكَ عَنْهُمَا فَأُشِيرُ إِلَى أَحَدِهِمَا وَأَتْرُكُكَ قَالَ: بَلْ تَخْتَارُ لِأُمَّتِكَ مَنْ بَدَا لَكَ. قَالَ لَهُ السَّائِحُ: مَا أَرَاكَ إِلَّا قَدْ نَزَعْتَ عَنْ قَوْلِكَ، وَصِرْتُمُ الْآنَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَأَعِظُكُمْ، وَأَضْرِبُ لَكُمْ أَمْثَالَ الدُّنْيَا، وَأَمْثَالَكُمْ فِيهَا، وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ وَالْخِيَارُ لِأَنْفُسِكُمْ.
اغْتِنَامُ الْعُمُرِ وَالتَّوَثُّقُ بِالْعَمَلِ فَأَخْبِرُونِي: هَلْ عَرَفْتُمْ مَدَاكُمْ مِنَ الْمُلْكِ، وَغَايَتَكُمْ مِنَ الْعُمُرِ؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي، لَعَلَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا طَرْفَةَ عَيْنٍ قَالَ: فَلِمَ تُخَاطِرُونَ بِهَذِهِ الْغِرَّةِ؟ قَالُوا: رَجَاءَ طُولِ الْمُدَّةِ قَالَ: كَمْ أَتَتْ عَلَيْكُمْ مِنْ سَنَةٍ؟ قَالُوا: أَصْغَرُنَا ابْنُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً
، وَأَكْبَرُنَا ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ: فَاجْعَلُوا أَطْوَلَ مَا تَرْجُونَ مِنَ الْعُمُرِ مِثْلَ سِنِّكُمُ الَّتِي عَمَّرْتُمْ، قَالُوا: لَسْنَا نَطْمَعُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا خَيْرَ فِي الْعُمُرِ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: أَفَلَا تَبْتَغُونَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِكُمْ مَا تَرْجُونَ مِنْ مُلْكٍ لَا يَبْلَى، وَنَعِيمٍ لَا يَتَغَيَّرُ، وَلَذَّةٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَحَيَاةٍ لَا يُكَدِّرُهَا الْمَوْتُ، وَلَا تُنَغِّصُهَا الْأَحْزَانُ، وَلَا الْهُمُومُ، وَلَا الْأَسْقَامُ؟
قَالُوا: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ نُصِيبَ ذَلِكَ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ قَالَ: قَدْ كَانَ مَنْ أَصَابَهُ الْعَذَابُ مِنَ الْقُرُونِ الْأُولَى يَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا تَرْجُونَ، وَيُؤَمِّلُونَ مَا تُؤَمِّلُونَ، وَيُضَيِّعُونَ الْعَمَلَ، حَتَّى نَزَلَتْ بِهِمُ الْعُقُوبَةُ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِمَنْ صَدَّقَ بِمَا أَصَابَ الْقُرُونَ الْأُولَى أَنْ يَطْمَعَ فِي رَجَاءٍ بِغَيْرِ عَمَلٍ، وَيُوشِكُ مَنْ سَلَكَ الْمَفَازَةَ بِغَيْرِ مَاءٍ أَنْ يَهْلِكَ عَطَشًا، أَرَاكُمْ تَتَّكِلُونَ عَلَى الرَّجَاءِ فِي هَلَاكِ أَبْدَانِكُمْ، وَلَا تَتَّكِلُونَ عَلَيْهِ فِي صَلَاحِ مَعَايِشِكُمْ، تُؤَثِّثُونَ لِدَارٍ قَدْ عَرَفْتُمْ مُزَايَلَتَهَا، وَتَتْرُكُونَ التَّأْثِيثَ لِدَارِ مُقَامِكُمْ، ثُمَّ قَدْ رَأَيْتُمْ مَدَائِنَكُمُ الَّتِي ابْتَنَيْتُمُوهَا، وَاعْتَدَتُّمْ فِيهَا الْأَثَاثَ وَالرِّبَاعَ، لَوْ قِيلَ لَكُمْ: إِنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَيْكُمْ مَلِكٌ بِجُيُوشِهِ وَجُنُودِهِ فَيَعُمُّ أَهْلَهَا بِالْقَتْلِ، وَبُنْيَانَهَا بِالْهَدْمِ، هَلْ كُنْتُمْ تَطِيبُونَ نَفْسًا بِالْمُقَامِ فِيهَا، وَالْبُنْيَانِ بِهَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنَّ أَمْرَ هَؤُلَاءِ الْآدَمَيِّينَ لَصَائِرٌ إِلَى هَذَا وَلَكِنِّي أَدُلُّكُمْ عَلَى مَدِينَةٍ آمِنَةٍ سَلِيمَةٍ لَا يُؤْذِيكُمْ فِيهَا جَبَّارٌ، وَلَا يَغْشُمُكُمْ فِيهَا وَالٍ، وَلَا تَعْدِمُكُمْ فِيهَا الثِّمَارُ، قَالُوا: قَدْ عَرَفْنَا الَّذِي أَرَدْتَ، فَكَيْفَ وَقَدِ اشْرَأَبَّتْ أَنْفُسُنَا بِحُبِّ الدُّنْيَا؟ قَالَ: مَعَ الْأَسْفَارِ الْبَعِيدَةِ تَكُونُ الْأَرْبَاحُ الْكَثِيرَةُ، فَيَا عَجَبًا لِلْجَاهِلِ