الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمّا الحبّ المباح فهو الحب الطبيعي، وهو الخارج عمَا سبق. كحبّ الوالد لولده الكافر، أو الوَلَدِ لوالديه الكافرين، أو الرجل لزوجه الكتابيّة، أو المرْءِ لمن أحسنَ إليه وأعانه من الكفار. فهذا الحُبّ مباح، ما دام لم يؤثر في بُغْضه لكفر الكافرين، وفسق الفاسقين، ومعصية العاصين. أمّا إذا أثّر في بُغْضه، فإنه يعود إلى أحد القسمين السابقين، بما فيهما من تفصيل.
والدليل على أن الحُبّ الطبيعي للكافر قد لا يؤثّر في كمال الإيمان، لكونه مباحاً، بالشرط الآنف ذكره: قولُه تعالى عن نبيّه صلى الله عليه وسلم في وصف حاله مع عمِّه أبي طالب الذي مات على الكفر: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56](1) . فأثبت اللهُ تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم محبَّةَ عمّه الكافر، ولم يَعْتَبْ عليه هذه المحبّة، ولا لامَهُ عليها؛ فدلّ ذلك على عدم مخالفتها لكمال الإيمان، وأنَّى تخالفه وقد وقعت من أكمل الناس إيماناً صلى الله عليه وسلم؟!
[المبحث الخامس مظاهر الغُلُوِّ في الولاء والبراء وبراءتُه منها]
[مظاهر غُلُوِّ الإفراط]
المبحث الخامس مظاهر الغُلُوِّ في (الولاء والبراء) وبراءتُه منها الغُلُوّ في (الولاء والبراء)، له وجهان: غُلُوّ إفراطٍ، وغُلُوّ تفريط.
أو قُلْ: غُلُوٌّ، وجفاء.
أمّا مظاهر غلوّ الإفراط، فترجع إلى مظهرين بارزين: المظهر الأول: التكفيرُ بالأعمال الظاهرة التي تخالف موجبات (الولاء والبراء) ، بسبب عدم فهم مناط التكفير في (الولاء والبراء) .
(1) قال الطبري في تفسيره (18 / 282) : ((إنك يا محمد لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هدايته وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ أن يهديه من خَلْقه، بتوفيقه للإيمان بالله وبرسوله. ولو قيل: معناه: إنك لا تهدي من أحببته؛ لقرابته منك، ولكن الله يهدي من يشاء = كان مذهباً)) .
فقد سبق أن مناط التكفير في (الولاء والبراء) هو عَمَلُ القلب، فحُبّ الكافر لكُفْره، أو تمنِّي نصرة دين الكفار على دين المسلمين، هذا هو الكفر في (الولاء والبراء) . أمّا مجرّد النصرة العمليّة للكفار على المسلمين، فهي وحدها لا يُمكن أن يُكَفَّر بها؛ لاحتمال أن صاحبها مازال يُحبُّ دين الإسلام ويتمنّى نصرته، لكن ضَعْفَ إيمانه جعله يُقدِّمُ أمراً دنيويًّا ومصلحةً عاجلة على الآخرة.
وقد صَرّحَ شيخُ الإسلام ابن تيميّة: أنّ ما وقع من حاطب بن أبي بلتعة ذنبٌ وليس كفراً (2) .
(1) انظر: صحيح البخاري (رقم 3007، 3081، 3983، 4274، 4890، 6259، 6939) وصحيح مسلم (رقم 2494، 2495) .
(2)
انظر: شرح حديث جبريل عليه السلام الإيمان الأوسط - (402 - 403) ، ومجموع الفتاوى (7 / 522 - 523) . بل إن شيخ الإسلام مع تكفيره للتتار، قال عمن يقاتل المسلمين مع التتار (28 / 552) :" وأيضاً لا يقاتل معهم - غير مكره - إلا فاسق، أو مبتدع، أو زنديق. . ". فها هو فصل أصناف المقاتلين معهم، ولم يجعلهم قسماً واحداً، ولم يكفر بمجرد القتال معهم.
فدلَّ هذا الحديث أن النصرة العملية ذنب، لكنها ليست كفراً وحدها؛ لأن ما وقع من حاطب نُصْرةٌ (وليس حُبًّا) ، ومع ذلك لم يكن ذلك منه كفراً؛ لأنه لم يكن عن تَمَنٍّ لنصرة دين الكفار على الإسلام.
ويدل على ذلك أيضاً حديث سهل بن بيضاء، «وهو أنه كان مسلماً بمكة يُخفي إسلامه، ثم إنه خرج مع المشركين ببدر، ووقع في الأسر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينفلتن منهم أحدّ إلا بفداء أو ضربه عنق. فقال ابن مسعود: يا رسول الله، إلا سهل من بيضاء، فإني قد سمعته يذكر الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم بعد سكتة: إلا سهل بن بيضاء» (1) .
المظهر الثاني: التطبيق الخاطئ للبراء من الكفّار.
وذلك كاستباحة دماء الذِّمّيين أو المعاهدين أو أموالهم، أو معاملتهم بغلظةٍ وعُنْف من دون سبب يُسوِّغُ ذلك؛ إلا ادّعاء أن هذا هو مقتضى (الولاء والبراء) . مع أن الرفق واللطف بهم هو المأمور به، بشرط أن لا يَدُلّ على عُلُوّ الكافر على المسلم (كما سبق) .
ولا شك أن تلك الأعمال (من استباحة الدماء والغلظة والعنف) ليست من (الولاء والبراء) في شيء، بل إن (البراءَ) منها براء!
وقد تقدَّمَ بيان سماحة عقيدة (الولاء والبراء) ، وعدم تعارضها مع ما أمرنا به الشارعُ من البر والإحسان بالكفار غير المحاربين، ومن العَدْل مع المحاربين.
وإنّما أُتي غلاةُ هذا المظهر من أحد أمرين، يرجعان كلاهما إلى ضعف فقه المسألة في قلوبهم، وهما:
(1) أخرجه الإمام أحمد (رقم 3632، 3633، 3634) ، والترمذي وحسنه (رقم 1714، 3084) ، والحاكم وصححه (3 / 21-22) . وهو من حديث أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، وهو لم يسمع من أبيه، لكنه كان عالماً بحديثه؛ لذلك جرى المحدثون على قبول حديثه عن أبيه، ما لم يأت بخبر منكر، وهذا ما قرّره ابن رجب في شرح العلل (1 / 298) نقلاً عن علي بن المديني ويعقوب بن شيبة. وهذا ما يفسر تحسين الترمذي لحديثه هذا، مع تعليقه عليه بعدم سماعه من أبيه.