الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(حكم التشريح)
التمهيد:
التشريح في اللغة: الكشف، ومنه شريح اللحم والقطعة منه شريحة، وكل مقطوع من اللحم ممتد فهو شريحة (1) . وفي المعجم الوسيط 1/478: شرح اللحم شرحاً: قطعه قطعاً طوالاً رقاقاً، والشيء بسطه ووسعه، وشرح اللحم: شرحه والجثة: فصل بعضها عن بعض للفحص العلمي.
لقد مورس التشريح قديماً كما يدل على ذلك كلام الرازي وابن سينا وابن النفيس وابن الهيثم وابن رشد ونقل بعض العلماء نقولاً عن بعض الأطباء ممن مارسوا التشريح وممن نقل ذلك عنهم ابن حجر وابن رجب وابن القيم والقرافي والنووي والغزالي وغيرهم رحمهم الله .
ولما كانت الشريعة الإسلامية لا تجيز العبث والتمثيل بجثث الموتى، فإنه يرد السؤال عن حكمها في هذا النوع من الجراح، وهو سؤال يعد من النوازل الفقهية التي جدت، وطرأت في عصرنا الحاضر.
أغراض التشريح:
1-
التشريح الجنائي ومصلحته ظاهرة لردع المجرمين وإظهار براءة المتهم ولمعرفة سبب الوفاة في حوادث القتل وكذا في حالة القتل والوفاة المجهولة السبب كوجود ميتٍ على شط البحر لمعرفة المدة التي كانت الضحية فيها بالماء وهل كانت على قيد الحياة قبل إلقائها وتحديد العمر والجنس من خلال جمع الأعضاء.
2-
التشريح المرضي: لمعرفة الأمراض وتأثيرها والتعرف على المرض وعلاجه، ومعرفة ما إذا كان هناك وباء فيتقى شره بوسائل الوقاية المناسبة.
3-
التشريح التعليمي لمعرفة الأعضاء ووظائفها ولإخراج الأطباء المهرة.
إذ يحتاج الأطباء أثناء تعلمهم للجراحة الطبية إلى تدريب عملي ويتم ذلك التدريب عن طريق تشريحهم لجثث الموتى، وهو ما يسمى بالجراحة التشريحية، والتي تشتمل على تقطيع أجزاء الجثة، ثم يقوم المشرح بعد ذلك بدراستها، وفحصها، وقد تمتد تلك الدراسة إلى فحص الأنسجة تحت الميكروسكوب، وهو ما يسمى بالتشريح الميكروسكوبي، أو علم الأنسجة ((هستولوجياً)) .
(1) - مختار الصحاح 140.
فإن قيل: وجدت الآن بدائل من الوسائل الحديثة مما يشبه أعضاء الجسم من البلاستيك وغيرها وأيضاً يمكن الاستغناء بتشريح الحيوانات مما يقلل من الحاجة لتشريح الإنسان فالجواب: أن هذه البدائل لا تغني عن التشريح إذ لا بد من أخذ عينات وفحصها تحت المجهر، وكذلك الحال بالنسبة لتشريح الحيوانات مما فيه التشابه مع الإنسان وهي الثدييات (وهي التي تلد وتضع أولادها) فهو لا يعطي صورةً صادقةً لأن دماغ الحيوان يختلف وهيكلها العظمي كذلك والأحشاء الداخلية تختلف في نِسَبها وشكلها العام عن الإنسان.
وقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم التشريح على أقوال:
القول الأول: يجوز تشريح جثث الموتى من الكفار فإن لم يوجد فمن المسلمين إذا أذنوا أو أذن ورثتهم، وبه صدرت الفتوى من الجهات العلمية التالية: مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية واختاره عدد من العلماء والباحثين (1) .
القول الثاني: لا يجوز تشريح جثة الميت لغرض التعلم، وهو لجماعة من العلماء والباحثين ومنهم الشيخ محمد بخيت المطيعي.
الأدلة:
أدلة القول الأول:
1-
القياس وذلك من عدة وجوه:
الوجه الأول: يجوز التشريح كما يجوز شق بطن الحامل الميتة، لاستخراج جنينها الذي رجيت حياته، فقد قال: الشافعي يشق لأنه إتلاف جزءٍ لإبقاء حيٍ كما لو خرج بعضه حياً، بشرط رجاء حياة الولد بأن يكون لستة أشهرٍ فأكثر لقوله تعالى (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) . فإذا كان ذلك حفاظاً على الجنين وهو فرد فيجوز بالأولى إذا تحققت مصلحة عامة.
(1) - ومنهم الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية سابقاً والشيخ يوسف الدجوي فقد أفتوا بجواز التشريح الجنائي وأفتى الشيخ محمد حسنين مخلوف بجواز التشريح الجنائي والتعليمي.
ونوقش هذا القياس بأن المقيس عليه مختلفٌ فيه وذلك لأن مصلحة الجنين مظنونة غير متيقنة. فقد قال أحمد ومالك: لا يشق ذكره في المغني. وذكر احتمالاً بالشق، وفي تصحيح الفروع: إذا ماتت امرأة حامل شق جوفها.
الوجه الثاني: يجوز تشريح جثة الميت لغرض التعليم وغيره كما يجوز تقطيع الجنين لإنقاذ أمه إذا غلب على الظن هلاكها بسببه. قال ابن حزم: إذا ماتت وفي بطنها ولدٌ قطع وأخرج. أما إذا كان حياً فلا يجوز لأن تقطيعه لا يقتضي إنقاذ الأم.
الوجه الثالث: يجوز تشريح جثة الميت كما يجوز شق بطنه لاستخراج المال المغصوب الذي ابتلعه. طلباً لمصلحة الحي المتمثلة في إنقاذه من الموت من أجل مصلحة حاجية وهي رد المال المغصوب إلى صاحبه.
…
وكلتا هاتين المصلحتين موجودتان في حال تعلم الجراحة الطبية، إذ يقصد منها تارة إنقاذ حياة المريض وهي المصلحة الضرورية، كما يقصد منها تارة أخرى إنقاذ المريض من آلام الأمراض والأسقام المضنية وهي المصلحة الحاجية وكذلك الحال في التشريح الجنائي والمرضي بل أولى.
ونوقش أيضاً بأن المقيس عليه مختلفٌ فيه فقد أجاز ابن حزم الشق للمال لأنه لا ضرر على الميت. وقال الحنفية: لا يجوز إذا كان قد ترك مالاً، بل تُدفع قيمة المال من تركته، قال ابن نجيم: لا يشق لأن حرمة الآدمي أعظم من حرمة المال. وأجاز المالكية شق بطن من ابتلع مال غيره قبل وفاته إذا كان له قدر بأن يكون نصاباً (إما نصاب السرقة أو الزكاة قولان) ذكره خليل والخرشي وقيده ابن شبير بأن لا يكون للميت مال، ويؤدي منه ما ابتلعه قبل وفاته، وأما إذا كان قصده حرمان الورثة فيشق عندهم بلا خلاف لأنه عندهم كالغاصب. وعند الحنابلة تفصيل ذكره ابن قدامة فإن كان المال لغيره وبلعه بلا إذنه فوجهان: أحدهما يشق إن كان كثيراً إذا لم يلتزم أحد الورثة بدفع قيمته أو مثله، لأنه لدفع ضرر المالك برده إليه، وعن الميت بإبراء ذمته، وعن الورثة بحفظ التركة لهم، والثاني: لا يشق بل يغرم من تركته لأنه إذا لم يشق من أجل الولد المرجوة حياته فمن أجل المال أولى، وأما إن كان المال الذي ابتلعه ماله فلا يشق لأنه استهلكه في حياته، قال ابن قدامة: ويحتمل إن كان يسيراً تُرك، وإن كثرت قيمته شُق بطنه وأُخرج لأن فيه حفظ المال من الضياع، ونفع الورثة الذين تعلق حقهم بماله.
الوجه الرابع: استدل القائلون بجواز التشريح مطلقاً بقياسه على نبش قبر الميت لأخذ الكفن المغصوب.
ونوقش هذا الدليل: بأن الأصل المقيس عليه فيه مساس بالجسد بخلاف الفرع، وجاز فعل النبش لمكان الحق المغصوب، فكأن الميت متسبباً في أذية نفسه بخلاف الفرع الذي لا علاقة للميت بمصلحته ولم يتسبب فيما يوجبها بأي وجهٍ من الوجوه، ثم إن ينبش قبره لذلك الغرض لا يستغرق إلا زمناً يسيراً ثم يعاد إلى القبر الذي سيواري الجثة بدلاً عن الكفن، بخلاف التشريح الذي يستغرق الساعات، بل والأيام العديدة.
الوجه الخامس: قياساً على أكل المضطر للميت فقد قال النووي في الروضة: يجوز للمضطر قتل الحربي المرتد وأكله قطعاً وكذا الزاني المحصن والمحارب وتارك الصلاة على الأصح منهم. وفي المغني ذكر الجواز لأنه لا حرمة له فهو منزلة السباع. وإن وجد معصوماً أو ميتاً لم يبح أكله وقال الشافعي وبعض الحنفية: يباح وهو أولى لأن حرمة الحي أولى وفي الإنصاف ذكر الجواز وذكر في المعصوم الميت وجهان.
وأجيب بأن مسألة المضطر مختلفٌ فيها كما سبق وقد قال ابن حزم بالتحريم لأن الميت يجب مواراته، وقال الدردير في الشرح الكبير: النص المعول عليه عدم جواز أكله.
الوجه السادس: القياس على إلقاء أحد ركاب السفينة إذا خيف عليهم تقديماً للمصلحة العامة فكذلك هنا.
ولكن هذه المسألة مختلفٌ فيها فقد رجح العز بن عبد السلام في القواعد التحريم وذكرها ابن حجر في الفتح وحكم بحرمة ذلك لأنهم مستوون في العصمة فلا يجوز بقرعةٍ أو غيرها ومصلحة إنقاذ الباقين جزئية لا كلية ونجاتهم بإلقائه ظنية لا قطعية.
ب ـ دليلهم من قواعد الشريعة:
1-
قالوا: " إن من قواعد الشريعة الكلية، ومقاصدها العامة أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواها، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفادياً لأشدهما".
ووجه تطبيق القاعدة:
.. أن المصلحة المترتبة على تشريح جثث الموتى لغرض التعليم تعتبر مصلحة عامة راجعة إلى الجماعة، وذلك لما يترتب عليها من تعلم التداوي الذي يمكن بواسطته دفع ضرر الأسقام والأمراض عن المجتمع وحصول السلامة بإذن الله تعالى لأفراده فهذه مصلحةٌ مرسلة شهدت لها النصوص. ومصلحة الامتناع من التشريح تعتبر مصلحة خاصة متعلقة بالميت وحده، وبناء على ذلك فإنه تعارضت عندنا المصلحتان، ولا شك في أن أقواهما المصلحة العامة المتعلقة بالجماعة والتي تتمثل في التشريح فوجب تقديمها على المصلحة الفردية المرجوحة، تقديماً لمصلحة الأمة لكونها كليةً عامةً وقطعيةً، فالتشريح الطبي جائزٌ لأن فيه مصلحة حفظ النفوس فالمفاسد مغمورة في جانب المصالح.
ومما يدل على الجواز أن الشرع جاء بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبدرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما، وأما إذا تعارضت المصالح فيؤخذ بأرجحها.
ومن القواعد: الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، والحاجة تنزل منزلة الضرورة والضرورات تبيح المحظورات. وقد رمى الرسول صلى الله عليه وسلم الكفار بالمنجنيق وفيهم النساء والصبيان (1) .
2-
إن من قواعد الشرع ((ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)) .
وتعلم الجراحة الطبية وغيرها من فروع الطب هو في سد حاجة الأمة إلى هذه العلوم النافعة، وتحقيق هذا الواجب متوقف على التشريح الذي يمكن بواسطته فهم الأطباء للعلوم النظرية تطبيقياً، فيعتبر مشروعاً وواجباً من هذا الوجه.
وأجيب بأن الحاجة إلى التشريح يمكن سدها بجثث الكفار، فلا يجوز العدول عنها إلى جثث المسلمين، لعظيم حرمة المسلم عند الله تعالى حياً كان أو ميتاً.
شروط الجواز:
1 ـ التحقق من موت الإنسان الذي سيجرى التشريح على جثته.
(1) - (رواه الترمذي في كتاب الأدب (2762) وقال: حديث غريب وقال الشيخ الألباني: موضوع ورواه أيضاً البيهقي في السير.
2 ـ موافقة ذوي الشان أي أهل الميت قبل وفاته أو بعده في حالة تشريح جثث المعروفين، أما غير المعروفين فلا يشترط.
3 ـ ألا يكون ذلك بمقابل مادي.
4 ـ أن تقدر الضرورة بمقدارها.
5 ـ دفن ما تبقى منها لأن الأصل هو الإسراع بدفن الميت.
6 ـوجود ضرورة تتطلب التشريح.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بحرمة التشريح بدليل الكتاب والسنة، والقياس، والنظر المستند على قواعد الشريعة.
أـ دليلهم من الكتاب: قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً (
وجه الدلالة: أن الآية الكريمة دلت على تكريم الله تعالى لبني آدم، وهذا التكريم عام شامل لحال حياتهم، ومماتهم.
…
وتشريح جثث الموتى فيه إهانة لها، نظراً لما تشتمل عليه مهمة التشريح من تقطيع أجزاء الجثة، وبقر البطن، وغير ذلك من الصور المؤذية فهي على هذا الوجه مخالفة لمقصود الباري من تكريمه للآدميين وتفضيله لهم، فلا يجوز فعلها.
ونوقش: بأن إهانة الميت بتشريح جثته قد رخص فيها أصحاب هذا القول بناء على القياس أيضاً، حيث استندوا على ماقرره بعض الفقهاء المتقدمين رحمهم الله من جواز نبش قبر الميت، وأخذ كفنه المسروق أو المغصوب، فقاسوا إهانته بالتشريح على إهانته بنبش كفنه، وكشف عورته بجامع تحصيل مصلحة الحي المحتاج إليها.
وأيضاً فالتشريح لا ينافي الكرامة وإنما الذي ينافيها ما يكون بقصد الحقد والتنكيل والتشفي والانتقام ويكون بلا سبب فأما هنا فالدافع هو الرحمة وإحقاق الحق.
وأدلة المنع يمكن تخصيصها بالمسلم دون الكافر، فلا حرج في إهانته لمكان كفره، كما قال تعالى: (ومن يهن الله فما له من مكرم (قال الخازن رحمه الله في تفسيره: " أي من يذله الله فلا يكرمه أحد" ولا شك في أن الكفار ممن أذلهم الله تعالى.
ب ـ دليلهم من السنة: استدلوا بالأحاديث التالية:
(1)
أحاديث النهي عن المثلة، ومنها ما ثبت في الصحيح من حديث بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال:" اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تمثلوا (1) " وجه الدلالة: أن تشريح جثة الميت في تمثيل ظاهر، فهو داخل في عموم النهي الوارد في هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي ورد فيها نهي النبي صلى الله عليه وسلم الموجب لحرمة التمثيل ومنعه.
ونوقشت أحاديث النهي عن المُثلة بأنه قد ثبت ما يخصصها كما في قصة العرنيين، وآية المحاربين. فإذا جاز التمثيل لمصلحة عامة وهي زجر الظلمة عن الاعتداء على الناس، فكذلك يجوز التمثيل بالكافر طلباً لمصلحة عامة ينتظمها الطب الذي من أجله شرحت جثة الكافر، إضافة إلى أن بعض العلماء يرى أن النهي للتنزيه.
2-
حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسر عظمه حياً (2) "
وجه الدلالة: أن هذا الحديث دل على حرمة كسر عظام المؤمن الميت والتشريح مشتمل على ذلك فلا يجوز فعله.
ونوقش حديث تحريم كسر عظم الميت بأنه خاص بالمؤمن كما هو منصوص عليه في نفس الحديث. وقد قال ابن حزم أن النهي عن كسر عظم الميت لا عن القطع، ويؤيد ذلك ما أورده السيوطي في بيان سبب الحديث حيث ذكر حديث جابر: وفيه أن الحفار أخرج عظماً ساقاً أو عضداً فذهب ليكسرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تكسرها.
3-
حديث أبي هريرة: لأن يجلس أحدكم على جمرةٍ فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خيرٌ له من أن يجلس على قبرٍ (3) .
(1) - رواه مسلم (3/130)
85-
رواه أحمد في مسنده 6/364 وأبو داود 3/543،544 والبيهقي 4/58 وصححه الألباني في الإرواء 3/212،214.
86-
رواه مسلم في كتاب الجنائز (971) .
ونوقشت أحاديث النهي عن الجلوس على القبر بأنها تدل على تأذي الميت بذلك وهذا يتفق مع قول من خصص المسلم بالمنع، وأما الكافر فإن إيذاءه بعد موته مقصود شرعاً، فلا حرج في فعله.
ج ـ دليلهم من القياس:
الوجه الأول: أن الأحاديث دلت على أنه لا يجوز الجلوس على القبر، وأن صاحبه يتأذى بذلك، مع أن الجلوس عليه ليس فيه مساس بجسد صاحبه، فلأن لا يجوز تقطيع أجزائه، وبقر بطنه الذي هو أشد انتهاكاً لحرمته من باب أولى وأحرى.
الوجه الثاني: أن من العلماء من نص على حرمة شق بطن المرأة الحامل الميتة لإنقاذ جنينها الذي رجيت حياته مع أن في ذلك مصلحة ضرورية، فلأن لا يجوز التشريح المشتمل على الشق وزيادة أولى وأحرى.
د ـ دليلهم من القواعد الشرعية: استدلوا بالآتي:
1-
قاعدة ((الضرر لا يزال بالضرر))
2-
قاعدة ((لا ضرر ولا ضرار))
ووجه الاستشهاد بهاتين القاعدتين على حرمة التشريح:
أن القاعدة الأولى دلت على أن مفسدة الضرر ينبغي ألا تزال بمثلها، والتشريح فيه إزالة ضرر بمثله، وذلك لأن التعلم بواسطته موجب لإزالة ضرر الأسقام والأمراض بتعلم طرق مداواتها، ولكن هذه الإزالة يترتب عليها ضرر آخر يتعلق بالميت الذي شرحت جثته، وحينئذٍ يكون من باب إزالة الضرر بمثله، وهو الذي دلت القاعدة على عدم جوازه.
وأما القاعدة الثانية فقد دلت على حرمة الإضرار بالغير، والتشريح فيه إضرار بالميت فلا يجوز فعله.
3-
وعملاً بقاعدتي (سد الذرائع، ودرء المفسدة مقدم جلب المصلحة) .
وذلك نظراً إلى توسع بعضهم فيه، وإلى ما يحدث في غرف التشريح الخاصة بالمستشفيات الجامعية.
وأما إذنه فغير معتبر لأن بدن الإنسان ليس ملكه، وحتى لو قلنا بأنه ملكه فلو رضي الشخص بإسقاط حقه فلا يجوز له ذلك كما يحرم عليه قتل نفسه، قال القرافي: لا يباح شيء من بدنه بالإباحة (1) .
الترجيح:
(1) - ذكره في الفروق ونحوه في الموافقات.
الراجح هو جواز تشريح جثة الكافر، دون المسلم وذلك لما يلي:
أولاً: لأن الأصل عدم جواز التصرف في جثة المسلم إلا في الحدود الشرعية المأذون بها والتشريح ليس منها، فوجب البقاء على الأصل المقتضي للمنع، وهذا الأصل يسلم به القائلون بجواز التشريح وإن كانوا يستثنون التشريح اعتباراً منهم للحاجة الداعية إليه.
ثانياً: أن تشريح جثة المسلم يعطل عن فعل كثير من الفروض المتعلقة بها بعد الوفاة، من تغسيلها وتكفينها، والصلاة عليها، ودفنها.
وهو مخالفة لما ثبتت به السنة من الأمر بالمبادرة بالجنائز والإسراع بها، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أسرعوا بالجنازة
…
" (1) فلا يجوز تعطيل جثة المسلم وتأخير هذا المصالح المطلوب فعلها بعد الوفاة مباشرة لمصلحة لا تتعلق بالميت، ولم يتسبب في موجبها، وإنما هي من مصالح الغير المنفكة عنه.
لهذا كله فإنه يترجح القول بجواز تشريح جثة الكافر دون المسلم، ولكن ينبغي أن يتقيد الأطباء وغيرهم ممن يقوم بمهمة التشريح بالحاجة، فمتى زالت، فإنه لا يجوز التمثيل بالكافر بتشريحه حينئذٍ، لأن ما جاز لعذر زال بزواله. والله تعالى أعلم.
حكم تشريح الرجال لجثث النساء:
لا يجوز النظر إلى العورة ولو كانت لميت ففي حديث علي رضي الله عنه " لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت رواه أبو داود وابن ماجة في كتاب الجنائز".
ويجوز للضرورة نظر المرأة لعورة المرأة والرجل لعورة الرجل كما يدل على ذلك الكشف عن مؤتزر بني قريضة فمن أنبت قُتل.
(1) - رواه البخاري 1/288 ومسلم 2/373.
ويجوز عند الضرورة أيضاً وعدم وجود المرأة نظر ولمس الرجل لعورة المرأة والعكس كما يدل عليه حديث الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة" (1) . قال ابن حجر يجوز معالجة المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي للضرورة وقال ابن بطال: " يختص ذلك بذوات المحارم" ثم بالمتجالات منهن لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه بل يقشعر الجلد، فإن دعت الضرورة لغير المتجالات فليكن بغير مباشرة ولا مس قياساً على المرأة إذا ماتت ولم توجد امرأة تغسلها، فإن الرجل لا يباشر غسلها بالمس بل يغسلها من وراء حائل" وهذا خلافاً للزهري، ولقول الأكثر ولما ذهب إليه الأوزاعي وقد أنكر ابن المنير مقالة ابن بطال وفرق بين الصورتين الفرع والأصل بقوله:" الفرق بين مسألة المداواة وتغسيل الميت أن الغسل عبادة والمداواة ضرورة " والضرورات تبيح المحظورات". وممن اعتبر هذه الضرورة وقدرها بقدرها ابن مفلح في كتاب الآداب الشرعية حيث قال: " فإن مرضت امرأة ولم يوجد من يطبها غير رجل جاز له منها نظر ما تدعوا الحاجة إلى نظره حتى الفرجين وكذا الرجل مع الرجل " وكذلك قال ابن حمدان في صورة العكس وأنه إن لم يوجد من يطبه سوى امرأة فلها نظر ما تدعو الحاجة إلى نظرها منه حتى فرجيه " ومن ثم قال الفقهاء بجواز النظر إلى العورة للمداواة.
مسألة: هل يجوز شراء جثث الكفار لغرض تشريحها؟
…
هذه المسألة مفرعة على القول بجواز تشريح الجثة، خاصة إذا قلنا: إن ذلك يتقيد بجثث الكفار دون المسلمين، وحينئذ يتعين طلبها والبحث عنها بأي وسيلة كانت، وقد شاع في هذه العصور بيع جثث الكفار لغرض تشريحها، والاستفادة منها، ويتساءل بعض المختصين عن حكم شرائها، وهل يصح البيع أم لا؟
(1) - رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير وفي كتاب الطب.
والجواب: أن من شرط صحة البيع شرعاً أن يكون المبيع ملكاً للبائع، أو موكلاً في بيعه، لحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:" لا تبع ما ليس عندك"(1) .
وهذه الجثث ليست ملكاً للبائع، ولا موكلاً في بيعها من مالكها، فيد الملكية منتفية عنها، ومن ثم فإنه لا يصح بيعها شرعاً، لصريح حديث حكيم المذكور.
ولكن يمكن التوصل إلى هذه الجثث بطريقة أخرى، وهي التعاقد مع باذلها على وجه الإجارة ويكون بذلك الثمن في مقابل السعي، والبحث، ومؤونة النقل، ونحو ذلك مما يجري على سنن الإجارة، ويعطي له الثمن في مقابل ذلك، ويجري العقد بين الطرفين على صورة الإجارة الشرعية والله تعالى أعلم.
وقد أصدر المجمع الفقهي في دورته العاشرة في صفر لعام 1408هـ مشروع قرارٍ جاء فيه: إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي المنعقد في دورته التاسعة بمقر رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة ما بين يوم السبت 12/7/1406هـ الموافق 22/3/1986م إلى يوم السبت 19/7/1406هـ الموافق 29/3/1986م بدخول الغاية قد نظر في جلسته السادسة صباح يوم الخميس 17/7/1406هـ الموافق 27/3/1986م في موضع تشريح الموتى ومن يتولى القيام به من الأطباء.
…
وبعد الاستماع إلى الدراستين اللتين أعدهما في هذا الغرض فضيلة الشيخ: محمد الحبيب ابن الخوجة، وسعادة الطبيب الدكتور: محمد علي البار، وتداول الرأي بين الأعضاء بشأن هذه القضية، ومراجعة القرار الصادر بشأن جزء من هذا الموضوع من مجلس هيئة كبار العلماء المنعقد في مدينة الطائف في شهر شعبان 1396هـ تبين لأعضاء مجلس المجمع أن تشريح الموتى يكون لأحد أغراض ثلاثة:
…
إما لغرض التحقق من دعوى جنائية ويقوم الطبيب الشرعي بالتشريح في هذه الحالة بناء على طلب من المحكمة وذلك من أجل تحديد أسباب الموت في حالات التسمم وجنايات القتل ونحوها.
(1) - رواه الترمذي وحسنه 3/525 وابن ماجة 2/737.
.. وإما بقصد التحقق من أمراض وبائية فتتخذ على ضوء التشريح والاختبارات والاحتياطات الكفيلة بالوقاية من تلك الأمراض.
…
وإما لغرض علمي تعلماً وتعليمياً كالذي بالمشارح في كليات الطب.
…
وبناء على ما في الصورة الأولى من التشريح من تحقق مصالح في مجالات الأمن والعدل وذلك بما يوفره التشريح من دلائل قطعية وبراهين علمية ترفع التهم عن الأبرياء وتثبت إدانة المجرمين في كل ما يشكل على القاضي التوصل إليه عند اختلاط الأمر والتباس الأحوال.
…
وبناء على ما في الصورة الثانية من تحقيق وقاية المجتمع من الأمراض الوبائية.
…
وعلى ما في الصورة الثالثة من تمكين الأساتذة والطلاب في الجامعات بكليات الطب من الدراسة الدقيقة لعلمي التشريح والأمراض اللذين لا يمكن فيهما أبداً الاستعاضة عن جثث الموتى بأجساد الحيوانات أو بغيرها من الوسائل التعليمية مثل البلاستيك ونحوه. قرر المجتمع:
1 ـ إن التشريح لجثث الموتى جائز وإنه يعتبر ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها في كثير من الأحوال. ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بالتشريح، ومعلوم أن من القواعد الشرعية تحمل الضرر الأخف قصد جلب مصلحة تفويتها أشد من ذلك الضرر.
وإذا كان الشارع الحكيم قد أوجب على الأمة تعلّم فريق منها الطب وكان ذلك لا يتم إلا بالتشريح فإن هذا يكون مما تقتضيه الضرورة ويباح للأساتذة والطلاب ممارسة هذه الوظيفة على جثث الموتى.
2 ـ أن التشريح ينبغي أن يجري على جثث غير المعصومين فإن تعذّر ذلك أجري على جثث المعصومين سواء أكانت الجثث لمجهولين من الموتى، أو كانت لمن تنازلوا عن جثثهم قبل موتهم وأذنوا بتشريحها، أو كانت تلك الجثث لموتى أذن ورثتهم بتسليمها للمشارح.
3 ـ إن التشريح ينبغي أن يكون بقدر ما تدعو إليه الضرورة فلا يعبث بجثث الموتى. وأنه يتعين على القائمين بالتشريح توقير أجسام الموتى والقيام بدفنها أو دفن ما تبقى منها بعد فراغهم من مهمتهم.
4 ـ إن تشريح جثث النساء لا تتولاه غير الطبيبات إلا في حالة عدم وجود من يقوم به منهن.
والمجمع إذ يبيح التشريح في الصور المذكورة أعلاه يوصي بما يلي:
أولاً: أن تصاغ آداب مهنة الطب في كليات الطب على أسس مبادئ الإسلام وأن ترتبط مواد الدراسة الطبية بما هو موجود في كتاب الله وسنة رسوله بحيث يتخرج الطبيب مدعماً بالعلوم الطبية الحديثة ومسلحاً بالإيمان والفهم الصحيح لما يحل له وما يحرم عليه من ممارساته.
ثانياً: الحرص على فصل الطلاب عن الطالبات في جميع مراحل الدراسة.
ثالثاً: إيجاد العدد الكافي من النساء في عامة فروع التشريح وذلك ليقمن بتشريح جثث النساء.
رابعاً: أن تقام كلية خاصة بأمراض النساء والولادة وذلك لتخريج العدد الكافي من الطبيبات المسلمات المختصات بأمراض النساء والولادة بحيث تنتفي الحاجة لانكشاف عورات النساء المسلمات للرجال.
خامساً: أن يقتصر تمريض المرضى من الرجال على الممرضين الذكور وأن يقتصر تمريض المريضات على الممرضات وذلك بإعداد مدارس التمريض المستقلة للبنين والبنات. وأن يشمل ذلك ما يسمى بالتمريض العالي وكليات العلوم الطبية. (وينبغي على القائمين على المستشفيات في البلاد الإسلامية إيجاد ممرضين ذكور في أقسام الرجال وممرضات إناث في أقسام النساء.
وقد أصدر المجمع قراراً بشأن موضوع (تشريح جثث الموتى) في دورته العاشرة المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408هـ الموافق 17 أكتوبر 1987م إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408هـ الموافق 21 اكتوبر 1987م ومما جاء فيه:
إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي قد نظر في موضوع (تشريح الموتى) وبعد مناقشة وتداول الرأي فيه أصدر القرار الآتي:
بناء على الضرورات التي دعت إلى تشريح جثث الموتى والتي يصير بها التشريح مصلحة تربو على مفسدة انتهاك كرامة الانسان الميت.
قرر مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي ما يأتي:
أولاً: يجوز تشريح جثث الموتى لأحد الأغراض الآتية:
أ- التحقيق في دعوى جنائية لمعرفة أسباب الموت أو الجريمة المرتكبة وذلك عندما يشكل على القاضي معرفة أسباب الوفاة ويتبين أن التشريح هو السبيل لمعرفة هذه الأسباب.
ب_ التحقق من الأمراض التي تستدعي التشريح ليتخذ على ضوئه الاحتياطات الواقية والعلاجات المناسبة لتلك الأمراض.
(ج) تعليم الطب وتعلمه كما هو الحال في كليات الطب.
ثانياً: في التشريح لغرض التعليم تراعى القيود التالية:
أ- إذا كانت الجثة لشخصٍ معلوم يشترط أن يكون قد أذن هو قبل موته بتشريح جثته أو أن يأذن بذلك ورثته بعد موته ولا ينبغي تشريح جثة معصوم الدم إلا عند الضرورة.
ب- يجب أن يقتصر في التشريح على قدر الضرورة كيلا يعبث بجثث الموتى.
(ج) جثث النساء لا يجوز أن يتولى تشريحها غير الطبيبات إلا إذا لم يوجدن.
(د) يجب في جميع الأحوال دفن جميع أجزاء الجثة المشرحة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً والحمد لله رب العالمين.
المراجع:
1-
نقل الأعضاء بين الطب والقرآن د/ مصطفى الذهبي، وذكر به مجموعة بحوث وفتاوى لمجموعة من العلماء، ولهيئة كبار العلماء، والمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي.
2-
علم التشريح عند المسلمين د/ محمد البار.
3-
أحكام الجراحة الطبية د/ محمد المختار.
4-
فقه النوازل د/ بكر أبو زيد.