المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[الْمَوْضِعُ الثَّانِي: فِي تَقَرُّرِ جَمِيع الصداق لِلزَّوْجَةِ] قال المصنف رحمه الله - بغية المقتصد شرح بداية المجتهد - جـ ١٠

[محمد بن حمود الوائلي]

فهرس الكتاب

[الْمَوْضِعُ الثَّانِي: فِي تَقَرُّرِ جَمِيع الصداق لِلزَّوْجَةِ]

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(الْمَوْضِعُ الثَّانِي: فِي النَّظَرِ فِي التَّقَرُّرِ)

يتقرر هذا الصداق؛ لأن الصداق قد يُسمى في العقد وهذا لا إشكال فيه، وهذا ما يعرف بالتفويض، وربما لا يُسمى ولكنه يتحدد، يتقرر؛ أي: ثبوته وإقراره.

قوله: (وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ يَجِبُ كُلُّهُ بِالدُّخُولِ أَوِ الْمَوْتِ

(1)

، وَأَمَّا وُجُوبُهُ كُلُّهُ بِالدُّخُولِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ({وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مجمع الأنهر"، لشيخي زاده (1/ 346)؛ حيث قال:" (وإن سماها)؛ أي: العشرة (أو أكثر) منها الزم المسمى بالدخول)؛ لأن بالدخول يتحقق تسليم المبدل (أو موت أحدهما)؛ أي: الزوج والزوجة فإن الموت كالوطء في حكم المهر والعدة لا غير".

ومذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل"، للمواق (5/ 206)، حيث قال:"ابن يونس: المرأة تملك الصداق بالعقد والتسمية ملكًا غير مستقر، وإنما يستقر بالموت أو بالدخول".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 373، 374)؛ حيث قال: " (ويستقر المهر) على الزوج (بوطء) ولو في الدبر بتغييب حشفة أو قدرها من مقطوعها سواء أوجب بنكاح أو فرض كما في المفوضة (وإن حرم) الوطء (كحائض) لاستيفاء مقابله

(و) يستقر المهر أيضًا (بموت أحدهما) قبل الوطء في النكاح الصحيح لإجماع الصحابة رضي الله عنهم ".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 21)؛ حيث قال: " (ويقرره)؛ أي: المهر (كاملًا موت) أحد الزوجين (ولو بقتل أحدهما الآخر أو) قتل أحدهما (نفسه) لبلوغ النكاح نهايته فقام ذلك مقام الاستيفاء في تقرير المهر؛ ولأنه =

ص: 5701

زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] الْآيَةَ).

مراد المؤلف: أنه يجب بالدخول أو الموت هذا إذا صاحب الدخول المسيس أو الجماع، أما إذا اقتصر على الخلوة فهنا سيأتي الخلاف الذي سيذكره المؤلف وسنبين القول فيه إن شاء الله.

قوله: (وَأَمَّا وُجُوبُهُ بِالْمَوْتِ فَلَا أَعْلَمُ الْآنَ فِيهِ دَلِيلًا مَسْمُوعًا إِلَّا انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ).

هذه المسألة أجمع عليها العلماء، والخلاف فقط بينهم إذا مات ولم يُسمِّ الصداق، وسيأتي قول عبد الله ابن مسعود في ذلك.

قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ مَعَ الدُّخُولِ الْمَسِيسُ

(1)

؟ أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ).

عاد المؤلف ليبين لنا الخلاف فمجرد أن يخلو الرجل بامرأته هذا لا يخلو من حالين:

الحالة الأولى: إما أن يكون خلا بها في زيارة؛ يعني: يزورها ويلتقي بها.

الحالة الثانية: وإما أن يكون خلا بها بمعنى دخوله عليها بالزواج، وهذا مما يعرض له بعض العلماء ويفصلونه ونجده في مذهب المالكية.

= أوجب العدة فأوجب كمال المهر لها كالدخول

(و) يقرر المهر كاملًا (وطؤها)؛ أي: وطء الزوج زوجته (حية في فرج ولو دبرًا) أو بلا خلوة؛ لأنه استوفى المقصود فاستقر عليه عوضه فإن وطئها ميتة فقد تقرر بالموت أو دون فرج فيأتي أن اللمس بشهوة يقرره".

(1)

المسيس: اللمس. وأصل اللمس باليد، ثم استعير للجماع؛ لأنه مستلزم للمس غالبًا.

انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 422)، و"الصحاح" للجوهري (3/ 975).

ص: 5702

قوله: (بَلْ يَجِبُ بِالدُّخُولِ وَالْخَلْوَةِ وَهُوَ الَّذِي يَعْنُونَ بِإِرْخَاءِ السُّتُورِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

وَالشَّافِعِيُّ

(2)

وَدَاوُدُ

(3)

: لَا يَجِبُ بِإِرْخَاءِ السُّتُورِ إِلَّا نِصْفُ الْمَهْرِ مَا لَمْ يَكُنِ الْمَسِيسُ).

قصد المؤلف بالمسيس هو: الجماع، وقال أبو حنيفة وأحمد

(4)

وهو قول الخلفاء الراشدين

(5)

؛ أي: الخلفاء الأربعة، ونقل ذلك عن الصحابة عن زيد بن ثابت

(6)

وعبد الله بن عمر

(7)

، ومن التابعين عن عروة

(8)

،

(1)

يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة" للبراذعي (2/ 373)؛ حيث قال: "قال مالك: ومن دخل بامرأته وأرخى الستر ثم طلق، فقال: لم أمسها وصدقته، فلها نصف الصداق وعليها العدة ولا رجعة له".

(2)

يُنظر: "العزيز شرح الوجيز" للرافعي (8/ 250)؛ حيث قال: "وأما الخلوة بلا وطء، فالقول الجديد أنها لا تؤثر في المهر حتى لو طلقها بعد جريان الخلوة لم يجب إلا نصف المهر". وانظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 395).

(3)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 436)؛ حيث قال:"وقال الشافعي: إذا خلا بها ولم يجامعها ثم طلق فليس لها إلا نصف الصداق ولا عدة عليها، وهو قول أبي ثور وداود".

(4)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 21)، حيث قال:" (و) يقرر المهر كاملًا (خلوة) زوج (بها) وإن لم يطأها".

(5)

أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 288) عن زرارة بن أوفى، قال:"قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه من أغلق بابا، وأرخى سترًا فقد وجب عليه المهر".

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(9/ 206) عن سليمان بن يسار: "أن رجلًا تزوج امرأة، فقال عندها فأرسل مروان إلى زيد، فقال: لها الصداق كاملًا، فقال مروان: إنه ممن لا يتهم، فقال له زيد: لو أنها جاءت بحمل، أو بولد أكنت تقيم عليها الحد".

(7)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(9/ 207) عن ابن عمر قال: "إذا أجيفت الأبواب وأرخيت الستور وجب الصداق".

(8)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 289) عن هشام بن عروة عن أبيه: "سأله عن الرجل ينكح المرأة، فتمكث عنده السنة والأشهر، يصيب منها ما دون الجماع، ثم يطلقها قبل أن يمسها قال: لها الصداق كاملًا، وعليها العدة كاملة".

ص: 5703

وكذلك عطاء

(1)

والزهري

(2)

، ومن العلماء الأوزاعي

(3)

وإسحاق بن رهوايه

(4)

وغير هؤلاء

(5)

رضي الله عنهم جميعًا.

إذن الخلاف هنا بالنسبة للفقهاء انقسموا إلى فريقين:

الفريق الأول: يرون أنه لا يثبت المهر جميعه إلا بالمسيس

(6)

.

الفريق الثاني: يرون أن بمجرد الخلوة وإغلاق الأبواب يوجب المهر كله، وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.

قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ نَفْسِهَا)

(7)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 285) عن عطاء قال: "بلغنا إذا أهديت إليه فغلق عليها وجب الصداق وإن لم يمسها، وإن أصبحت عذراء، وإن كانت حائضًا كذلك السنة".

(2)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 285) عن الزهري قال: "إذا أغلقت الأبواب، وجب الصداق، والعدة، والميراث، وله الرجعة عليها ما لم يبت طلاقها، وإن قال: لم أصبها، وقالت هي أيضًا كذلك، لا يصدقان".

(3)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 436)؛ حيث قال:"وقال الأوزاعي إذا تزوج فدخل عليها عند أهلها فقبلها أو لمسها ثم طلقها قبل أن يجامعها أنه إن أرخى عليها سترًا أو أغلق بابًا فقد وجب الصداق".

(4)

قال إسحاق بوجوب المهر بالخلوة شريطة ألا يوجد مانع يمنع من نكاحها.

يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" للكوسج (4/ 1833)؛ حيث قال: "قلت لأحمد: سئل سفيان عن رجل خلا بامرأته وهي حائض؟ قال: لها المهر كاملًا. قيل: وإن كان محرمًا؟ قال: وإن كان محرمًا. قال أحمد: نعم، إذا أغلق الباب وأرخى الستر. قال إسحاق: لا يكون لها المهر بالخلوة أبدًا على هذا، إلا أن تكون خلوة وهي فارغة".

(5)

وذكر هذا أيضًا عن ابن أبي ليلى. يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 436)؛ حيث قال:"قال ابن أبي ليلى: يجب بالخلوة كمال المهر والعدة، حائضًا كانت أو صائمة أو محرمة على ظاهر الأحاديث عن الصحابة في إغلاق الباب وإرخاء الستور".

(6)

وهم المالكية والشافعية، كما تقدم.

(7)

يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (3/ 114 - 117)؛ حيث قال: " (والخلوة) مبتدأ =

ص: 5704

فعندما ندخل في التفصيل نجد أن الحنفية والحنابلة يختلفون في التفصيل، والخلوة قد يصحبها أمر من أمرين: وهو كله مانع، وهذا المانع قد يكون حسيًّا، وقد يكون شرعيًّا فالمانع الحسي: كأن يكون الرجل عنينًا، وقد يكون المانع شرعيًّا كأن يكون صائمًا، أو أن يكون محرمًا بحج، وقد يكون المانع من المرأة وهذا المانع قد يكون حسيًّا بوجود أحد معهما وقد يكون مانعًا شرعيًّا كالحيض، وكذلك ما يتعلق بالصيام والإحرام، وهذا التفصيل في مذهب الحنفية، أما الحنابلة فلا يرون هذا التفصيل إلا في حالة واحدة: أنه أُثر عن الإمام أحمد في رواية أنه فَرَّق بين صيام رمضان وغيره فيرى لصيام رمضان تأثيرًا، ولا يرى لغيره تأثيرًا

(1)

.

قوله: (إلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ

(2)

= خبره قوله الآتي "كالوطء"(بلا مانع حسي) كمرض لأحدهما يمنع الوطء (وطبعي) كوجود ثالث عاقل ذكره ابن الكمال، وجعله في الأسرار من الحسي، وعليه فليس للطبعي مثال مستقل (وشرعي) كإحرام لفرض أو نفل. (و) من الحسي (رتق) بفتحتين: التلاحم (وقرن) بالسكون: عظم (وعفل) بفتحتين: غدة (وصغر) ولو بزوج (لا يطاق معه الجماع)

(كالوطء) فيما يجيء".

(1)

اختلف المذهب في وجوب الصداق في حالة الخلوة من غير وطء مع وجود مانعٍ، شرعيًّا كان أو حسَيًّا، على قولين.

يُنظر: "الروايتين والوجهين" لأبي يعلى الفراء (2/ 127)؛ حيث قال: "فإن خلا بها وهما على صفة لا يمكن معها الوطأ كالإحرام وصيام الفرض والحيض هل يستقر الصداق؟ على روايتين: قال في رواية أبي داود: إذا دخل على أهله وهما صائمان في غير شهر رمضان فأغلق الباب وأرخى السترة وجب الصداق، قيل له: فشهر رمضان؟ قال: رمضان غير هذا. فظاهر هذا أنه لا يكمل الصداق. ونقل أبو الحارث وابن منصور: إذا خلا بها وهي حائض أو كان صائمًا في رمضان أو محرمًا وجب الصداق". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (7/ 250).

(2)

يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (3/ 116)؛ حيث قال: " (وصوم التطوع والمنذور والكفارات والقضاء غير مانع لصحتها) في الأصح؟ إذ لا كفارة بالإفساد، ومفاده أنه لو أكل ناسيًا فأمسك فخلا بها أن تصح وكذا كل ما أسقط الكفارة نهر (بل المانع صوم رمضان) أداء وصلاة الفرض فقط".

ص: 5705

أَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَائِضًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَجِبُ الْمَهْرُ كلُّهُ بِالدُّخُولِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا).

قول ابن أبي ليلى يلتقي مع رأي الإمام أحمد؛ لأنه أطلق ذلك

(1)

.

قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: مُعَارَضَةُ حُكْمِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ لِظَاهِرِ الكِتَابِ).

وسبب اختلافهم معارضة فعل الصحابة، ونحن لا نوافق المؤلف في ذلك، لكننا عندما ندقق في الأمر نرى أنه يرد هذا الإشكال الذي أورده المؤلف لو كان هناك إجماع على أن المراد بالمسيس

(2)

الجماع، لكن المسألة مختلف في أصلها فلا نقول: بأنهم عارضوا ظاهر الكتاب.

قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ نَصَّ تبارك وتعالى فِي الْمَدْخُولِ بِهَا الْمَنْكُوحَةِ أَنَّهُ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ صَدَاقِهَا شيْءٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21]).

يشير إلى قول الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)} [النساء: 20، 21]، ودلالة الآية بإيجاز: إذا أرد الرجل أن يُطلق امرأته التي تزوجها، ودخل بها وأن يتزوج بها أخرى فلا ينبغي له أن يأخذ ذلك الصداق والمهر الذي دفعه إليها، والله سبحانه وتعالى اعتبر من يفعل ذلك بأنه آثم ومتعدٍّ وكاذب في هذا العهد؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ

ص: 5706

اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا}، فمهما دفعتم إلى هذه المرأة، وإن كان المدفوع إليها كبيرًا فلا ينبغي أن تضعف النفوس في هذا المقام، وأن تطمع فيما قُدم إليها، ثم ذكر الله تعالى العلة فقال:{فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)} افتراءً وإثمًا وكذبًا مبينًا.

ثم إن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبين تلك العلاقة التي أشار إليها الله سبحانه وتعالى في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الروم: 21].

ولا شك أن هذا المهر مما تتقوى به المحبة والألفة والرحمة كما في قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} ، وقد جامع بعضكم بعضًا

(1)

، أو جلس بعضكم ببعض فحصلت العشرة واللقاء

(2)

، كيف تنزل هذه النفس عن ما قدمت عن طيب نفس وقناعة:{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)} .

فالله تعالى أمر بالإمساك بالمعروف، أو تسريح بإحسان كما قال سبحانه وتعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].

ونجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع التي حجها في السنة العاشرة في خطبته البليغة التي أشار فيها إلى قواعد الإسلام، ومما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "استوصوا بالنساء خيرًا فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم

(1)

أخرجه مجاهد في "تفسيره"(ص 271) في قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} قال: "يعني: المجامعة، {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)} قال: يعني: كلمة النكاح التي استحل بها الفرج". وبنحوه أخرجه الطبري في "تفسيره" عن ابن عباس (6/ 541).

(2)

قال الواحدي: "هذا القول اختيار الفراء في الإفضاء، ومذهب أبي حنيفة؛ لأن الخلوة عنده تمنع من الرجوع في شيء من المهر بالطلاق". انظر: "التفسير البسيط"(6/ 404).

ص: 5707

فروجهن بكلمة الله"

(1)

، فكيف ترضى هذه النفس الأبية

(2)

أن تنزل وتطمع فيما قدمته عن رضا وقضاعة؟ فلا ينبغي أن ينسيهما ما حصل بينهما من خلوة هذا فيما يتعلق بمعنى الآية.

وقصد المؤلف: أن الآية فيها إشارة إلى الجماع: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} فالآية حجة للمالكية

(3)

والشافعية

(4)

، وأن مجرد الخلوة بالمرأة وإرخاء الستور لا يوجب المهر كله هذا هو مراده.

قوله: (وَنَصَّ فِي الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ أَنَّ لَهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]).

"المطلقة قبل المسيس" المراد بها: اللمس، فيكون هذا عند الحنفية

(5)

والحنابلة

(6)

، أما المسيس بمعنى الجماع فهو عند المالكية

(7)

(1)

جزء من حديث أخرجه مسلم (1218/ 147) ولفظه: "فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح

". الحديث.

(2)

الأبية: من الإباء، وهو الامتناع والترفع. انظر:"الفائق" للزمخشري (2/ 384)، "مختار الصحاح" للرازي (ص 12).

(3)

قال ابن القصار: "الإفضاء حقيقته مماسة البشرة البشرة بدليل قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} ". انظر: "عيون الأدلة"(1/ 492).

(4)

يُنظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 466)؛ حيث قال: "ويستقر الصداق بالوطء في الفرج لقوله رحمه الله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} وفسر الإفضاء بالجماع".

(5)

يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 162)؛ حيث قال:"المراد بالمس في قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الخلوة إطلاقًا لاسم المسبب على السبب؛ إذ المس مسبب عن الخلوة عادة ويكون كماله بالجماع بحضرة الناس بالإجماع لا بالآية".

(6)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 21)؛ حيث قال: "وأما قوله تعالى {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ] فيحتمل أنه كنى بالمسبب الذي هو الخلوة عن السبب".

(7)

يُنظر: "التبصرة" للخمي (1/ 188)؛ حيث قال: "والملامسة واللمس والمباشرة كناية عن الجماع؛ قال الله عز وجل: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}. وقال تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنّ} ".

ص: 5708

والشافعية

(1)

، يقول الله سبحانه وتعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)} [البقرة: 237].

فمراد المؤلف في قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} بمعنى حصلت المواقعة، أما في هذه الآية:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} على تفسير أن تجامعهن: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فكيف تقولون: أيها الحنفية والحنابلة: بأن مجرد الخلوة وإرخاء الستور إنما يوجب المهر كله وهذه الآية تدل بظاهرها على أنها توجب نصف المهر، فالآية الأولى دلت على أن المهر يجب كله بالمواقعة؛ أي: الجماع، والآية الأخرى دلت بظاهرها على أنه إذ لم يحصل الجماع فلا يجب إلا نصف المهر، فإذا طُلقت المرأة قبل المسيس. هذا هو استدلال المؤلف للمالكية والشافعية.

أما الحنفية والحنابلة يقولون: الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعوا ولم يُنقل خلاف في هذه المسألة إلا عن اثنين نُقل عن عبد الله بن عباس، وجاء النقل عن طريق ليث بن أبي سُليم

(2)

وهو ضعيف فلا تؤخذ روايته

(3)

،

(1)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 541، 542)؛ حيث قال: "والمسيس عبارة عن الوطء لثلاثة معان:

أحدها: أنه مروي في التفسير عن ابن عباس وابن مسعود.

والثاني: أن المسيس كناية لما يستقبح صريحه، وليست الخلوة مستقبحة التصريح فيكني عنها، والوطء مستقبح فكني بالمسيس عنه.

والثالث: أن المسيس لا يتعلق به على المذهبين كمال المهر".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(9/ 208) عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، قال:"إذا طلق قبل أن يدخل فلها نصف الصداق، وإن كان قد خلى بها".

(3)

يُنظر: "المجروحين"، لابن حبان (2/ 231)؛ حيث قال:"ليث بن أبي سليم يروي عن مجاهد وطاوس، كان من العباد ولكن اختلط في آخر عمره حتى كان لا يدري ما يحدث به، تركه يحيى القطان وابن مهدي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين". =

ص: 5709

ونقل عن طريق عبد الله بن مسعود من طريق منقطع

(1)

فلا يصلح أن يكون حجة أيضًا

(2)

.

والصحابة الذين نُقل عنهم ثبوت ذلك إنما هو يؤيد مذهب الحنفية والحنابلة فإن الخلفاء الأربعة قد ثبت عنهم في "مسند أحمد"

(3)

، وكذلك عند ابن أبي شيبة في "مصنفه"

(4)

، و"السنن الكبرى" للبيهقي

(5)

، وفي "سنن سعيد بن منصور":"أنهم قضوا بأن من أغلق بابًا وأرخى سترًا فقد وجب المهر ووجبت العدة"؛ ولأن الإفضاء المذكور نُقل عن أحد أئمة اللغة

= لكن قوى الألباني الحديث بطريق آخر. قال: "قلت: وهذا سند ضعيف، لكن قد جاء من طريق أخرى عن طاوس، أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن منصور: حدثنا هشيم: أنبأ الليث عن طاوس عن ابن عباس أنه كان يقول في رجل أدخلت عليه امرأته ثم طلقها فزعم أنه لم يمسها، قال: "عليه نصف الصداق". قلت: وهذا سند صحيح فبه يتقوى السند الذي قبله". انظر: "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(1019).

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(9/ 208) عن الشعبي، عن ابن مسعود قال:"لها نصف الصداق، وإن جلس بين رجليها". وضعفه الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(1019).

(2)

قال البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 416): "وفيه انقطاع بين الشعبي وبين ابن مسعود".

(3)

ليس في مسنده وإنما جاء في مسائله. قال عبد الله: "حدثني أبي، قال: نا يحيى بن سعيد، قال: نا قتادة، عن الحسن، عن الأحنف، عن عمر وعلي: من أغلق بابًا وأرخى سترًا فلها الصداق وعليها العدة". انظر: "مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله"(ص 328).

(4)

ليس في مسنده إنما أخرجه في "مصنفه"(9/ 206) عن زرارة بن أوفى.

(5)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 417) عن زرارة بن أوفى قال: "قضاء الخلفاء الراشدين المهديين: أنه من أغلق بابًا وأرخى سترًا فقد وجب الصداق والعدة". قال: "هذا مرسل، زرارة لم يدركهم، وقد رويناه عن عمر وعلي رضي الله عنهما موصولًا".

يقصد بالموصول ما رواه في "السنن الكبرى"(7/ 417) عن الأحنف بن قيس: أن عمر وعليًّا رضي الله عنهما قالا: "إذا أغلق بابًا وأرخى سترًا فلها الصداق كاملًا وعليها العدة".

ص: 5710

العربية وهو الفراء

(1)

، وهو من المعروفين بذلك أنه قال: إن الإفضاء يُطلق على الخلوة من الإفضاء بمعنى الخلاء، والفضاء هو المكان الخالي بمعنى: أنه لم يحصل شيء من جماع ونحوه إذن الإفضاء يُطلق على الخلوة، وإذا أُطلق على الخلوة كان ذلك دليلًا للذين يقولون: بأن إرخاء الستور يوجب جميع المهر.

ولا ننسى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ"

(2)

. إذن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتبر أن سنة الخلفاء الراشدين هي امتداد لسنته عليه الصلاة والسلام، والخلفاء الراشدون لا يخالفون سنة رسول الله عليه ولا يعارضون شيئًا في كتاب الله عز وجل بآرائهم، وهم عندما قالوا ذلك القول قالوه عن علم وإدراك، وتلقوا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهموا ذلك من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

والإنسان يبدأ حياته بتحمل مسؤولية نفسه، ثم بعد ذلك حينما يتزوج يتغير حاله؛ لأنه سيصبح مسئولًا عن إقامة البيت فالإنسان مهما كانت أحواله فلا يمكن أن يعيش في هذه الحياة إلا ويحتاج إلى بيت يأوي إليه؛ ليرتاح من تعب الحياة، ومن نصبها، ومشقتها، فيأتي ويسعى في كسب الرزق لينفق عليها، ثم بعد ذلك يأتي الأولاد فهو ويقوم على تربيتهم وعلى تنشئتهم وعلى الإنفاق عليهم.

وربما يسأل سائل فيقول: إن هذا البيت لا توجد فيه سعادة وطمأنينة؟

والجواب: الإنسان قد يصاب بامرأة ذات خلق سيئ فتتعبه، وربما

(1)

قال الفراء: "الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها". انظر: "معاني القرآن"(1/ 259).

(2)

أخرجه أبو داود (4607) وغيره عن العرباض، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(165).

ص: 5711

يناله منها أذى، والخلاف بين الأزواج وارد، وقد حصل ذلك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل البشر وبين زوجاته

(1)

، فهذا هو شأن هذه الحياة لا يمكن أن تصفو هذه الحياة لمخلوق مهما أوتي الإنسان من المال والجاه، فهناك منغصات

(2)

أخرى هناك مرض وما يتعلق بالأولاد وما يتعلق بأمور الدنيا ومشكلاتها، لكن الراحة والطمأنينة في الدار الآخرة كما قال الله تعالى:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر: 33 - 35]، هؤلاء أهل التقوى الذين قال الله تعالى فيهم:{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم: 63]، إذن الراحة الكاملة، والطمأنينة والسعادة في الجنة، أما الدنيا فلا راحة فيها، ولا اطمئنان.

ولذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"

(3)

. فالرجل مسئول في بيته ومسؤول عن أولاده، فإذا صبرت

(1)

من ذلك: ما أخرجه البخاري (5225) عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول:"غارت أمكم" ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت".

وما أخرجه البخاري (5191) في قصة هجر النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته: يرويه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والحديث طويل، وفيه: "وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخبت على امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، قالت: ولم تنكر أن أرأجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل

".

(2)

يقال: نَغَّصَ الله عليه العيشَ تَنْغيصًا؛ أي كدَّره. انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1059).

(3)

أخرجه البخاري (2409)، ومسلم (1829/ 20) عن عبد الله بن عمر.

ص: 5712

واحتسبت فلن يضيع هذا عند الله سبحانه وتعالى وستؤجر عليه والله تعالى يقول: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} [البقرة: 155].

والله سبحانه وتعالى ذكر الصبر في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، وذكر العلماء أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد

(1)

؛ فإذا صبر الإنسان واحتسب فإنه يثاب على ذلك؛ ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها في فيّ امرأتك"

(2)

، هذه النفقة التي يجب عليك أن تقوم بها نحو زوجتك ومع ذلك ستؤجر عليها، فإذا جمعت هذا المال من حلال، وأنفقته في الحلال فإنك ستثاب على ذلك وتجازى عليه خير الجزاء.

قوله: (وَهَذَا نَصٌّ كمَا تَرَى فِي حُكْمِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ؛ أَعْنِي: قَبْلَ الْمَسِيسِ).

يعني: أنه إذا أفضى إليها أو جامعها وجب المهر كله، والثانية تدل على أنه لو طلقها قبل المسيس فليس عليه إلا نصف المهر.

قوله: (وَبَعْدَ الْمَسِيسِ، وَلَا وَسَطَ بَيْنَهُمَا، فَوَجَبَ بِهَذَا إِيجَابًا ظَاهِرًا أَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالْمَسِيسِ).

وهذا ليس على إطلاق لو طلقها قبل المسيس؛ لأنه قد يكون الطلاق بسبب الزوج أو الزوجة والحياة تختلف وسيأتي الكلام عن هذا إن شاء الله.

قوله: (وَالْمَسِيسُ هَاهُنَا الظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ الْجِمَاع، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَصْلِهِ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ الْمَسُّ).

"على أصله في اللغة"؛ أي: المس فهذا هو أصل في اللغة، فعندما

(1)

قال ابن القيم في "الفوائد"(ص 97): "وملاك ذلك الصبر، فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس فلا بقاء للجسد".

(2)

أخرجه البخاري (4409)، ومسلم (1628/ 5) بلفظ:"ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك".

ص: 5713

نختلف في أمر في فهم كتاب الله نرجع إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين التقوا حول هذا.

قوله: (وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي تَأَوَّلَتِ الصَّحَابَةُ).

الصحابة رضي الله عنهم ما تأولوا هذا الأمر، وإنما هذا الذي انتهوا إليه وفهموه.

قوله: (وَلذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعِنِّينِ

(1)

الْمُؤَجَّلِ: إِنَّهُ قَدْ وَجَبَ لَهَا الصَّدَاقُ عَلَيْهِ إِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ لِطُولِ مُقَامِهِ مَعَهَا

(2)

).

العنين المؤجل هذه مسألة أدخلها المؤلف، وكان عمر رضي الله عنه أجَّل العنين عامًا

(3)

، ثم بعد ذلك إذا لم يحصل منه التقاء مع زوجته يطلقها، هذا إذا لم تكن رضيت هي في الأصل لماذا أجَّله عمر رضي الله عنه؟

والجواب: قال العلماء: لتمر به فصول السنة قد يكون ما حصل له من العُنة عارض له قد يكون عنده ضعف مثلًا في الصيف فيأتيه الخريف والشتاء فإذا مرت به هذه الفصول وما حصل منه شيء فالمرأة تتضرر والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا ضرر ولا ضرار"

(4)

؛ لأنها بقيت معه فترة

(1)

العنين: هو الذي لا يقدر على إتيان المرأة. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 47).

(2)

يُنظر: "المدونة"، لابن القاسم (2/ 185)؛ حيث قال:"قلت: أرأيت العنين إذا لم يجامع امرأته في السنة، وفرق بينهما بعد السنة، أيكون لها الصداق كاملًا أم يكون لها نصف الصداق؟ قال: قال لي مالك: لها الصداق كله كاملًا إذا أقام معها سنة؛ لأنه قد تلوم له وقد خلى بها فطال زمانه معها وتغير صبغها وخلق ثيابها، وتغير جهازها عن حاله، فلا أرى له عليها شيئًا، وإن كان فراقه إياها قريبًا من دخوله رأيت عليه نصف الصداق".

(3)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 368) عن سعيد بن المسيب، عن عمر.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(9/ 165) عن الحسن، عن عمر.

وأخرجه أيضًا (9/ 165) عن الشعبي، عن عمر.

وضعف الألباني هذه الطرق في: "إرواء الغليل"(1911).

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 5714

طويلة، والإمام مالك له فهم في الإطالة، ولكن القضية الآن تغيرت الأحوال وأصبح قضية التقاء الخطيب بخطيبته في بعض البلاد ترى أن الواحد يخطب فلانة قبل حتى أن يتقدم ويذهب معها ويجلس في المقاهي، وفي بعض الأماكن يخاطبها وتخاطبه! وقد يحدث من هذا ما لا تُحمد عقباه، وهناك قضية أخرى أن الإنسان بعد أن يتم العقد ربما يأخذها ويحملها معه في سيارته وينفرد بها فهذه تعتبر خلوة وإن لم تكن خلوة فهي تلحق بالخلوة

(1)

؛ لأنه يمكن أن يمسها في هذه الحالة ويقبلها وقد ينظر إلى بعض جسدها، الشاهد أنه انفرد بها، وهذا فيما يتعلق بقضية الخلوة.

قوله: (فَجَعَلَ لَهُ دُونَ الْجِمَاعِ تَأْثِيرًا فِي إِيجَابِ الصَّدَاقِ. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ أَنَّ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سَتْرًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّدَاق، لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فِيمَا حَكَمُوا).

أي: أمر قد قضى فيه الخلفاء الراشدين: أن من أغلق بابًا؛ يعني: أنه انفرد بها أو أرخى سترًا؛ أي: هذه السترة أرخاها فقد وجب المهر ووجبت العدة، لكن لا نقول: عندما نرجح مذهب الحنفية والحنابلة في هذا المقام نُنزل منزلة الخلوة منزلة الجماع مطلقًا في كل الأحكام ليس ذلك؛ لأنه لا تحل المطلقة ثلاثة لزوجها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؛ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"

(2)

. وهناك مسائل كثيرة يُخرِّجها العلماء من هذه القضية.

(1)

يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (5/ 152)؛ حيث قال: " (ولها)؛ أي: لزوجة فسخت لعيب زوجها، أو فسخ لعيبها (بعده)؛ أي: بعد الدخول أو خلوة ونحوهما مما يقرر المهر كلمس لشهوة وتقبيلها بحضرة الناس (المسمى) لأنه نكاح صحيح وجد بأركانه وشروطه، فترتب عليه أحكام الصحة".

(2)

أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433/ 111) عن عائشة.

ص: 5715

قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ، وَهُوَ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْمَسِيسِ؛ أَعْنِي: الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِ الْمَسِيسِ

(1)

، وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ تَدَّعِيَ هِيَ الْمَسِيسَ، وَيُنْكِرَ هُوَ - فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا

(2)

).

ركز المؤلف هنا على مذهب المالكية، فمالك له ثلاثة أقوال:

القول الأول: كما ذكر المؤلف أن القول قولها.

والقول الثاني: أن تكون خلوتها فيها بناء.

القول الثالث: أن يكون ضيفًا زائرًا.

قوله: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَ دُخُولَ بِنَاءٍ صُدِّقَتْ، وَإِنْ كَانَ دُخُولَ زِيَارَةٍ لَمْ تُصَدَّقْ)

(3)

.

لأن الصالح في دخول البناء أن يحصل الجماع؛ لأن في الزيارة الغالب لا يحصل ذلك.

قوله: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ بِكْرًا نَظَرَ إِلَيْهَا النِّسَاءُ

(4)

، فَيَتَحَصَّلُ فِيهَا

(1)

أي: اشتراط الجماع وليس مجرد الخلوة في ثبوت المهر كاملًا. وهو مذهب المالكية والشافعية كما تقدم.

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 301)؛ حيث قال: " (وصدقت في) دعوى الوطء في (خلوة الاهتداء) بيمين إن كانت كبيرة، ولو سفيهة بكرًا أو ثيبًا إذا اتفقا على الخلوة وثبتت، ولو بامرأتين فإن نكلت حلف الزوج ولزمه نصفه إن طلق، وإن نكل غرم الجميع". وانظر: "المقدمات الممهدات" لمحمد بن رشد (1/ 540).

(3)

يُنظر: "المقدمات الممهدات"، لابن رشد الجد (1/ 540)؛ حيث قال:"ومرة قال: إن كان دخوله عليها وخلوته بها في بيته صدقت عليه، وإن كان في بيتها صدق عليها في قول سعيد بن المسيب، وبذلك قال ابن القاسم".

(4)

يُنظر: "المقدمات الممهدات"، لابن رشد الجد (1/ 540)؛ حيث قال:"وقول لمالك من رواية ابن وهب عنه، أنها إن كانت ثيبًا فالقول قولها، وإن كانت بكرًا نظر إليها النساء، فإن رأين بها أثر افتضاض صدقت عليه، وإن لم يرين بها شيئًا من ذلك لم يكن لها إلا نصف الصداق".

ص: 5716

فِي الْمَذْهَبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ

(1)

: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ

(3)

: الْقَوْلُ قَوْلُه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ. وَمَالِكٌ لَيْسَ يَعْتَبِرُ فِي وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ).

المؤلف هنا تحدث في قضية أخرى تتعلق بكتاب الدعاوى والبينة وجاء في الحديث: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه"

(4)

، وفي رواية "على من أنكر"

(5)

، أي: لو أن إنسان ادعى مالًا على الآخر

(1)

وهناك قول رابع. يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (1/ 540)؛ حيث قال: "وفي المسألة قول لعيسى بن دينار: أن القول قول الزوج إذا أنكر المسيس حيث ما أخذ الزوجين الغلق كان ذلك في بيته أو في بيتها، لا تصدق المرأة في دعواها عليه ما لم يكن دخوله عليها وخلوه بها دخول اهتداء وهو البناء".

(2)

يُنظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي" للبغوي (6/ 248)؛ حيث قال: "وإن قالت المرأة: أصبتني؛ فعليك تمام المهر، وأنكر الزوج: فالقول قوله مع يمينه، فلو أقامت المرأة رجلًا وامرأتين، أو شاهدًا واحدًا وحلفت معه على إقراره بالإصابة: يقبل؛ لأن مقصودها إثبات المال، والمال يثبت برجل وامرأتين وبشاهد ويمين".

وانظر: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 167).

(3)

الذي وقفت عليه في "المحلى" لابن حزم (9/ 204) أنه حكى اختلافهم في المسألة، ولم يذكر مذهب الظاهرية فيه، قال:"ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة: هذا إن صدقها، وأما إذا خالفها، فإن كانت بكرًا نظر إليها النساء، وإن كانت ثيبًا، فالقول قول الزوج، ولا يؤجل لها، ولا يفرق بينهما. وقال المالكيون: القول قوله مع يمينه إن ادعى أنه يطؤها، وقال الشافعي: القول قول الزوج مع يمينه، فإن نكل حلفت هي، وفرق بينهما، وإن قال النساء: هي بكر حلفت - مع ذلك - وفرق بينهما، فإن نكلت حلف هو وبقيت معه".

(4)

أخرجه الترمذي (1341) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2661).

(5)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 427) عن ابن أبي مليكة، قال: كنت قاضيًا لابن الزبير على الطائف، فذكر قصة المرأتين، قال: فكتبت إلى ابن عباس، فكتب ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2641).

ص: 5717

لا بد من وجود بينة، وهذه البينة منها الشهود، فإذا لم يأتِ باليمين على من أنكر، والمُدعى عليه إذن أنكر؛ لأنه إذا اعترف بها زال الإشكال، لكن مالك رحمه الله يرى أن للشبهة تأثيرًا في هذا المقام، نعم البينة على المدعي واليمين على المُدعى عليه، لكن أحيانًا تأتي قرينة وشبهة تؤثر على أحد الطرفين، فليس مجرد أنه مدعًى عليه تجب عليه اليمين مطلقًا، بل يحتاج إلى قرينة تقوي ذلك.

قوله: (بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ أَقْوَى شُبْهَةً فِي الْأَكثَرِ، وَلذَلِكَ يَجْعَلُ الْقَوْلَ فِي مَوَاضِعَ كثِيرَةٍ قَوْلَ الْمُدَّعِي إِذَا كَانَ أَقْوَى شُبْهَةً

(1)

، وَهَذَا الْخِلَافُ يَرْجِعُ إِلَى هَلْ إِيجَابُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُعَلَّلٌ؟ أَوْ غَيْرُ مُعَلَّلٍ؟).

كثيرًا ما يذكر المؤلف هذا: معللة وغير معللة؛ يعني: معقولة المعنى وغير معقولة

(2)

.

فمثلًا: النية في الوضوء هل هي عبادة معقولة في المعنى أو غير

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 435)؛ حيث قال: "ومثل هذا من مذهب مالك في الرهن يختلف الراهن والمرتهن فيما عليه من الدين، فالقول عنده قول المرتهن؛ لأن الرهن بيده فيصدق فيما بينه وبين قيمته وهو فيما زاد مدع. وهذا أصله في المتداعيين أن القول قول من له شبهة قوية كاليد وشبهها".

(2)

يُنظر: "الفقيه والمتفقه " للخطيب البغدادي (1/ 548)؛ حيث قال: "التعبد من الله تعالى لعباده على معنيين:

أحدهما: التعبد في الشيء بعينه لا لعلة معقولة، فما كان من هذا النوع لم يجز أن يقاس عليه.

والمعنى الثاني: التعبد لعلل مقرونة به، وهي الأصول التي جعلها الله تعالى أعلامًا للفقهاء، فردوا إليها ما حدث من أمر دينهم، مما ليس فيه نص بالتشبيه والتمثيل عند تساوي العلل من الفروع بالأصول، وليس يجب أن يشارك الفرع الأصل في جميع المعاني، ولو كان ذلك واجبًا لكان الأصل هو الفرع، ولما كان يتهيأ قياس شيء على غيره، وإنما القياس تشبيه الشيء بأقرب الأصول به شبها، ألا ترى أن الله تعالى حكم في الصيد بالمثل في النعم، وحكموا في النعامة بالبدنة، وإنما يتفقان في بعض المعاني، وكذلك الحكم بالقيم والأمثال في الأشياء المتلفة".

ص: 5718

معقولة؟ إن قلنا معقولة؛ لأنه يقصد به النظافة، أو أن الأمر أكثر من ذلك أنها عبادة غير معقولة بمعنى تعبدية.

قوله: (وَكذَلِكَ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي مَكَانِهِ).

نعم كما ذكر المؤلف سيأتي ذلك إن شاء الله مفصلًا في كتاب الدعاوى والبينة، وهناك أحكام كثيرة.

[الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: فِي تشْطِيرِ المهر]

قال المصنف رحمه الله تعالى: (الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: فِي التشْطِيرِ).

التشطير يعني: التنصيف

(1)

، والشطر يطلق على عدة معاني منها:

1 -

يطلق على الجهة.

2 -

يطلق على النصف كما قال الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]؛ أي: جهة أو قِبَل، وقوله صلى الله عليه وسلم:"الطهور شطر الإيمان"

(2)

.

قوله: (وَاتَّفَقُوا اتِّفَاقًا مُجْمَلًا أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ فَرَضَ صَدَاقًا - أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ

(3)

؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] الآية).

(1)

شطر الشيء: نصَّفه

وشاطَرْتُ فلانًا مالي، إذا ناصفته. وشَطَّرْتُ ناقتي تَشْطيرًا: إذا صررْتَ خِلْفين من أخلافها. انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 697).

(2)

أخرجه مسلم (223/ 1).

(3)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 22)؛ حيث قال: "وأجمع المسلمون أن الثيب والبكر في استحقاق نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول سواء".

ص: 5719

مراد المؤلف: أنه إذا حصل عقدٌ صحيح، ثم بعد ذلك طلق الرجل هذه المرأة قبل أن يحصل مسيس، فإن الأصل أن لها نصف المهر، والمهر قد يكون دُفِع لها كاملًا، فهو يرجع إليها في النصف

(1)

، وإن لم تكن قد أخذت منه شيئًا فيعطيها النصف، هذا هو الأصل، وقد توجد أسباب تغير الحال، فقد يطلقها ولا تجب لها شيئًا، إذا كان من جهتها، أو أن يكون أمر يتعلق بردةٍ أو إسلام، وكذلك علة من قبل الزوج، فيطُلقها ويجب عليه أن يعطيها وهكذا والمسألة فيها تفصيل.

قوله: (وَالنَّظَرُ فِي التَّشْطِيرِ فِي أُصُولٍ ثَلَاثَةٍ: فِي مَحَلِّهِ مِنَ الْأَنْكِحَةِ، وَفِي مُوجِبِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ؛ أَعْنِي: الْوَاقِعَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَفِي حُكْمِ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ التَّغْيِيرَاتِ قَبْلَ الطَّلَاقِ).

أي: هل التشطير في جميع أنواع الأنكحة؟ أم في نوع منه لأن النكاح الأصل فيه أن يكون صحيح، وقد يكون النكاع فاسدًا، وقد يكون باطلًا، وما الذي يوجبه من أنواع الطلاق؟ فهناك فسخٌ

(2)

، وهناك طلاق، وقد يكون بسبب الزوج فيجب، وهناك طلاق يكون بسبب المرأة فلا يجب لها شيء، والمسألة فيها تفصيل.

قوله: (أَمَّا مَحَلّهُ مِنَ النِّكَاحِ عِنْدَ مَالِكٍ فَهُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ)

(3)

.

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 23)؛ حيث قال: "وإذا قبضت المرأة صداقها المعين وتصرفت فيه من بيع أو هبة وغير ذلك، وطلقها قبل الدخول وجب عليها مثل نصف المهر الذي عقد النكاح عليه، ولا تنازع بين أهل العلم في ذلك" ..

(2)

فسخ الشيء: نقضه. تقول: فَسَخْتُ البيع والعزمَ والنكاحَ، فانفسخ؛ أي: انتقض.

انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 429).

(3)

يُنظر: "كفاية الطالب الرباني"، لأبي الحسن الشاذلي (2/ 87)؛ حيث قال:" (والمطلقة) التي سمى لها الزوج صداقًا جائزًا (قبل البناء) يجب (لها نصف الصداق) الذي سماه لها إذا كان النكاِح صحيحًا، لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} ".

ص: 5720

المؤلف يركز على مذهب مالك في كتاب (النكاح)؛ يعتمد على كتاب (الاستذكار) لابن عبد البر، فهو يتابعه في كل شيء.

قوله: (وَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْفُرْقَةُ فِيهِ فَسْخًا، وَطَلَّقَ قَبْلَ الْفَسْخِ - فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:

)

(1)

.

الفسخ يأتي من قبل الزوجة؛ لأن الزوجة مثلًا قد لا تطمئن إلى الزوج، وربما تحدث أمور فتطلب المرأة الفسخ، والزوج لا يوافق أن يطلقها، حينئذٍ تلجأ إلى طلب الفسخ.

وفي قصة ابن شماس عندما قَدِم مع بعض الرجال، فنظرت إليه زوجته، فقلَّ في عينها، وهي امرأة صالحة تقية تخشى الله سبحانه وتعالى، وتعرف حقوق الزوج على زوجته، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"عُرِضت عليَّ النار فرأيت أكثرهن النساء"، قيل: يا رسول الله يكفرن؟ قال: "لا، يكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت شيئًا لقالت ما رأيت خير قط"

(2)

، الشاهد: طلبت الفسخ، وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت:"لا أنقم على قيسٍ في خُلقٍ ولا دين، لكنني امرأة أكره الكفر في الإسلام"، هي ليس قصدها الكفر المُخرِج من الملة، ليس ذلك إنما تقصد كفر العشير؛ لأنها رأت أن هذا الزوج صَغُر في عينها وقلَّ، فهي لا تستطيع أن تؤدي حقوقها، وإذا قصرت في حق الزوج فستأثم وتجازى، فقال لها رسول الله:"أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم

(3)

، فهذا هو الفسغ ففي هذه الحالة المرأة هي التي ترد إلى الزوج المهر.

(1)

يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(2/ 242)؛ حيث قال: " (قوله: قولان) حاصله: أنه إذا كره الشروط، وقلنا: إنه يخير كما قال ابن القاسم فإن التزمها ثبت النكاح، وإن كرهها فسخ النكاح، وهل هذا الفسخ بطلاق فيلزمه نصف الصداق أو بغير طلاق فلا يلزمه شيء قولان مفرع عليهما قولان في لزوم نصف الصداق وعدم لزومه. (قوله: والراجح اللزوم عليه) فيه نظر بل الذي يفيده النقل أن الراجح عدم اللزوم".

(2)

أخرجه البخاري (5197)، ومسلم (907/ 17) عن ابن عباس.

(3)

أخرجه البخاري (5273) عن ابن عباس.

ص: 5721

قوله: (وَأَمَّا مُوجِبِ التَّشْطِيرِ: فَهُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي يَكُونُ بِاخْتِيَارٍ مِنَ الزَّوْجِ لَا بِاخْتِيَارٍ مِنْهَا، مِثْلُ الطَّلَاقِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ قِبَلِ قِيَامِهَا بِعَيْبٍ يُوجَدُ فِيهِ).

فقد تكون المرأة رتقى رتقاء بمعنى: مسدودة المنفذ

(1)

، وربما تكون فيها برص

(2)

، وربما تكون فيها جذام

(3)

وعيوب ما كان يعرفها الزوج فظهرت، ففي هذه الحالة لا يثبت لها شيء، أما لو كان الطلاق من قبل الزوج، فهو في هذه الحالة يلزمه النصف

(4)

.

قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الَّذِي يَكُونُ سبَبَهُ قِيَامُهَا عَلَيْهِ بِالصَّدَاقِ أَوِ النَّفَقَةِ مَعَ عُسْرِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيَامِ بِالْعَيْبِ).

قصد المؤلف: إذا كان الزوج فقيرًا لا يستطيع أن ينفق على زوجته وهي التي تقوم برعايته

(5)

، نعم لو حصل ذلك من زوجة قادرة وتملك

(1)

الرَّتَقَة: "مصدر قولك: امرأةٌ رتْقاء، بَيِّنة الرَّتَق: لا يُستطاع جِماعها، أو لا خَرْق لها إلا المَبالُ خاصة". انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص 886).

(2)

البَرص: داءٌ؛ وهو بياضٌ. انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1029).

(3)

الجذام: علة تعفن الأعضاء وتشنجها وتقرحها وتبح الصوت وتمرط الشعر. انظر: "مفاتيح العلوم" للخوارزمي (ص 184).

(4)

تقدَّم.

(5)

مذهب الجمهور على أنه إن امتنع عن الإنفاق عليها فإنها مخيرة بين الفسخ والصبر عليه، خلافًا للحنفية.

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (5/ 671)؛ حيث قال: "م: (ومن أعسر بنفقة امرأته لم يفرق بينهما) ش: أي بينه وبين امرأته، وهو قال الزهري وعطاء بن يسار، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وحماد بن أبي سليمان، والظاهرية. م: (ويقال لها) ش: أي للمرأة. م: (استديني عليه) ش: أي على الزوج".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 518)؛ حيث قال: " (ولها)؛ أي: للزوجة (الفسخ) بطلقة رجعية (إن)(عجز) زوجها (عن نفقة حاضرة) ومثلها الكسوة ولها أن تبقى معه، ومثل الحاضرة المستقبلة إذا أراد سفرًا (لا ماضية) لصيرورتها دينًا في ذمته إن كانا حرين بل (وإن) كانا (عبدين) أو أحدهما (لا إن =

ص: 5722

مالًا، وأنفقت على نفسها وأولادها وعلى زوجها توفق في الدنيا وتسعد في الآخرة، لكن المرأة من حقها أن ينفق عليها الزوج؛ لأن هذه هي مسئوليته، فهو المسؤول بنص الكتاب والسنة، لكن لو عجز الزوج فلها أن تطلب الطلاق لسبب عسره عن الإنفاق.

قوله: (وَأَمَّا الْفُسُوخُ الَّتِي لَيْسَتْ طَلَاقًا فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَيْسَتْ تُوجِبُ التَّشْطِيرَ إِذَا كَانَ فِيهَا الْفَسْخُ مِنْ قِبَلِ الْعَقْدِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الصَّدَاقِ)

(1)

.

= علمت) عند العقد (فقره) فليس لها الفسخ ولو أيسر بعد ثم أعسر (أو) علمت عند العقد (أنه من السؤال الطائفين بالأبواب)(إلا أن يتركه)؛ أي: السؤال فلها الفسخ".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الإقناع" للشربيني (2/ 487 - 488)؛ حيث قال: " (وإن أعسر) الزوج (بنفقتها) المستقبلة لتلف ماله مثلًا، فإن صبرت بها وأنفقت على نفسها من مالها، أو تقترض ويصير ما أنفقته دينًا عليه، فإن لم تصبر، (فلها فسخ النكاج)، لأنها إذا فسخت بالجب أو العنة فبالعجز عن النفقة أولى لأن البدن لا يقوم بدونها بخلاف الوطء".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 237)؛ حيث قال: " (وإن لم تقدر) زوجةُ موسرٍ مَنَعَها ما وجب لها من نفقة وكسوة أو بعضها على الأخذ من ماله فلها رفعه إلى حاكم فيأمره بدفعه لها فإن امتنع (أجبره حاكم) عليه (فإن أبى) الدفع (حبسه أو دفعها)؛ أي: النفقة لزوجته (منه)؛ أي: ماله (يومًا بيوم) حيث أمكن لقيام الحاكم مقامه عند امتناعه مما وجب عليه كسائر الديون فإن لم يجد إلا عرضًا أو عقارًا باعه وأنفق منه. (فإن غيب ماله وصبر على الحبس) فلها الفسخ لتعذر النفقة عليها من جهته كالمعسر".

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 124)؛ حيث قال: "ثم إذا فسخ بخيار البلوغ فلا مهر لها قبل الدخول، وإن كان بعد الدخول فلها المهر كاملًا".

ومذهب المالكية تقدم.

ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (6/ 272)؛ حيث قال: "

انفسخ النكاح، ثم إن كان قبل الدخول فلا شيء لها، أو بعده فلها مهر المثل". ومذهب الحنابلة، يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 680)؛ حيث قال: "(فإن فسخ النكاح) قبل دخول (فلا مهر) لها سواء كان الفسخ من الزوج أو الزوجة؛ لأن الفسخ إن كان منها فالفرقة من جهتها وإن كان منه فإنما فسخ بعيب دلسته بالإخفاء فكأنه منها".

ص: 5723

قد يحصل عيبٌ في العقد فيحصل فسخ ولا توجب، وقد يكون الخلاف في أمرٍ لم يتفقا على الصداق، وقد يكون خللٌ في العقد، بمعنى: لم يوفى الشروط التي يُلتزَم بها، وربما يكون الفسخ بطلبٍ من الزوجة كما ذكرنا.

قوله: (وَبِالْجُمْلَةِ مِنْ قِبَلِ عَدَمِ مُوجِبَاتِ الصِّحَّةِ، وَلَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ اخْتِيَارٌ أَصْلًا، وَأَمَّا الْفُسُوخُ الطَّارِئَةُ عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ مِثْلُ الرِّدَّةِ وَالرَّضَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا فِيهِ اخْتِيَارٌ، أَوْ كَانَ لَهَا دُونَهُ لَمْ يُوجِبِ التَّشْطِيرَ، وَإِنْ كانَ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ مِثْلُ الرِّدَّةِ أَوْجَبَ التَّشْطِيرَ

(1)

، وَالَّذِي

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (5/ 275)؛ حيث قال: "م: (وإذا تزوج الرجل صغيرة وكبيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمتا على الزوج) ش: فيفسخ النكاح

، م:(لأنه يصير جامعًا بين الأم والبنت رضاعًا) ش: أي من حيث الرضاع

، م:(ثم إذا لم يدخل بالكبيرة فلا مهر لها) ش: أي للكبيرة، سواء قصدت الفساد أو لا،

م: (لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول بها، وللصغيرة نصف المهر؛ لأن الفرقة وقعت لا من جهتها) ".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 506)؛ حيث قال: " (وإن) (ادعاه) الزوج، أي: ادعى الرضاع بعد العقد وقبل البناء (فأنكرت) (أخذ بإقراره) فيفسخ نكاحه (ولها النصف)؛ لأنه يتهم على أنه أقر ليفسخ بلا شيء (وإن) (ادعته فأنكر) (لم يندفع) النكاح عنها بالفسخ لاتهامها على قصد فراقه (ولا تقدر على طلب المهر قبله)؛ أي: قبل الدخول؛ أي: لا تمكن من طلب ذلك وإن طلقت قبل الدخول فلا شيء لها لإقرارها بفساد العقد".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 147)؛ حيث قال: " (وإن ادعى) الزوج (رضاعًا) محرمًا (فأنكرت) زوجته ذلك (انفسخ) النكاح وفرق بينهما، وإن كذبته المرأة التي نسب الإرضاع إليها مؤاخذة له بقوله (ولها المسمى) إن كان صحيحًا، وإلا فمهر المثل (إن وطئ) لاستقراره بالدخول (وإلا)؛ أي: وإن لم يطأ (فنصفه) لورود الفرقة منه ولا يقبل قوله عليها، وله تحليفها قبل دخول، وكذا بعده إن كان المسمى أكثر من مهر المثل، وإن نكلت حلف الزوج ولزمه مهر مثل فقط بعد أو وطء لا شيء لها عليه قبله".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (3/ 220)؛ حيث قال: "ولو أقر الزوج =

ص: 5724

يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ كُلَّ طَلَاقٍ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَوَاجبٌ أَنْ يَكُونَ فِيهِ التَّنْصِيف، سَوَاءٌ أَكانَ مِنْ سَبَبِهَا أَوْ سَبَبِهِ

(1)

، وَأَنَّ مَا كانَ فَسْخًا، وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا - فَلَا تَنْصِيفَ فِيهِ)

(2)

.

ملخص القول في هذه المسألة: أنه إذا كانت العيوب من قِبل الزوجة، فلا تستحق شيئًا، وإن كانت العيوب من قبل الزوج أو طلقها دون سببٍ فهو في هذه الحالة يلزمه نصف الصداق.

قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ هَذِهِ السُّنَّةُ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى؟ أَمْ لَيْسَتْ بِمَعْقُولَةٍ؟).

أشار المؤلف هل هي معقولة؟ بمعنى أننا إذا أمعنا النظر ودققنا الفكرة، فإن طُلِقت المرأة قبل الخلوة أو المسيس على الخلاف الذي ذكرنا فتستحق نصف المهر، ما لم يكن الطلاق بسببها، لوجود عيب أو غيره.

= بنسب أو رضاع أو غير ذلك من المفسدات قبل منه في انفساخ النكاح دون سقوط النصف فإن صدقته أو ثبت ببينة سقط ولو وطئ أم زوجته أو ابنتها بشبهة أو زنا انفسخ النكاح ولها نصف الصداق وكل فرقة جاءت من قبلها قبل الدخول كإسلامها وردتها أو إرضاعها من ينفسخ نكاحها برضاعه وارتضاعها وهي صغيرة وفسخها لعيبه وبإعساره بمهر أو نفقة أو غيرهما أو لعتقها تحت عبد وفسخه لعيبها أو لفقد صفة شرطها فيها فإنه يسقط به مهرها ومتعتها إن كانت مفوضة".

(1)

يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (9/ 73)؛ حيث قال:"ومن طلق قبل أن يدخل بها فلها نصف الصداق الذي سمي لها، وكذلك لو دخل بها ولم يطأها؛ طال مقامه معها أو لم يطل، هذا في كل مهر كان بصفة غير معين، كعدد، أو وزن، أو كيل، أو شيءٍ موصوف، أو في مكان بعينه إن وجد صحيحًا، وسواء كان تزوجها بصداق مسمّى في نفس العقد أو تراضيا عليه بعد ذلك أو لم يتراضيا، فقضي لها بمهر مثلها".

(2)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 73)؛ حيث قال: "ومن انفسخ نكاحه بعد صحته بما يوجب فسخه فلها المهر المسمى كله، فإن لم يسم لها صداقًا فلها مهر مثلها دخل بها أو لم يدخل. برهان ذلك: قول الله عز وجل: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}، فالصداق واجب لها بصحة العقد - ودخل بها أو لم يدخل - فإذا انفسخ فحقها في الصداق باق، كما لو مات ولا فرق".

ص: 5725

قوله: (فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ عِوَضَ مَا كَانَ لَهَا لِمَكَانِ الْجَبْرِ عَلَى رَدِّ سِلْعَتِهَا وَأَخْذِ الثَّمَنِ كَالْحَالِ فِي الْمُشْتَرِي).

معقولة المعنى؛ أي: تدركها العقول، والعلة فيها ظاهرة.

وغير المعقولة بمعنى: هي التي يُعبَّر عنها بأنها أمر تعبدي، لا مجال للرأي ولا للقياس فيها، وهذا قد جاء التنصيص عليه في كتاب الله عز وجل.

قوله: (فَلَمَّا فَارَقَ النِّكَاحُ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْبَيْعَ جَعَلَ لَهَا هَذَا عِوَضًا مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ - قَالَ: إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ مِنْ سَبَبِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ، لِأَنَّها، أَسْقَطَتْ مَا كَانَ لَهَا مِنْ جَبْرِهِ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ وَقَبْضِ السِّلْعَةِ).

يعني: إذا كان من سببها كأن يجد فيها عيبٌ دون أن يعلم به سابقًا يقدح في أمر النكاح، أن تكون المرأة رتقى أو بها برصٌ وهذا كله له تأثير.

قوله: (وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا سُنَّةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ، وَاتَّبَعَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ - قَالَ: يَلْزَمُ التَّشْطِيرُ فِي كلِّ طَلَاقٍ كَانَ مِنْ سَبَبِهِ أَوْ سَبَبِهَا، فَأَمَّا حُكْمُ مَا يَعْرِضُ لِلصَّدَاقِ مِنَ التَّغَيُّرَاتِ قَبْلَ الطَّلَاقِ)

(1)

.

أي: بعد أن يتم العقد فيثبت للمرأة الصداق، ويدخل تحت ملكها، وهذا إذا سُمي، وإذا لم يُسم فسيأتي الكلام عنه، وعن تفويض المهر؛ لأن المؤلف سيشير إليه إن شاء الله، وهذه تغيرات تحدث على المهر؛ لأن المهر إذا أصبح في يد المرأة إما أن تَرِد عليه أمورٌ ترفعه زيادة، وإما

(1)

وهم أهل الظاهر.

ص: 5726

أن ينقص عن أصله، وإما أن يتلف، كأن يكون حيوان فيموت، أو سلعة فإنها تذهب على صاحبها، أو وإما أن يجمع بين الأمرين معًا، بأن تحصل الزيادة، أو تكون شاةً تلفت ويصيبها الهزال، ففي هذا جُمِع بين الأمرين: زيادة ونقص، والزيادة على نوعين:

النوع الأول: زيادةٌ متميزة، وهي التي تنفصل عن الأصل الذي هو المهر.

النوع الثاني: زيادةٌ غير متميزة، أي: متصلة.

فالزيادة المتميزة هي التي تنفصل عن أصلها كحيوانٍ يلد، أو أمة تلد، أو شجرةٍ تُثمر، أو دنانير يباع ويشترى فتربح، إلى غير ذلك من الأمور ذات الزيادة المتميزة، أما الغير المتميزة تكون مصاحبةً للشيء كشاةٍ تسمن، أو خادمةً تسمن، إلى غير ذلك من الأمور، فهناك زيادةٌ متصلة، وزيادةٌ منفصلة، والحكم مختلفٌ بينهما.

قوله: (فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِهَا أَوْ مِنَ اللَّهِ).

يعني: إما أن يكون بسبب المرأة، لأن هذا الصداق قد تخرجه عن مِلكِها إما ببيع أو هبة أو بعتقٍ فهي أخرجته من مِلكها فأصبح لا سلطة لها على هذا الصداق، وأحيانًا يكون هناك عقدٌ غير لازم كالشركة وما أشبه كالمضاربة

(1)

، وربما يحصل ذلك بعقدٍ لازمٍ، لكنه لم يخرج عن يدها خروجًا ملكيًّا، كالإجارة مثلًا، دارٌ تؤجرها، حيوان تؤجره، سيارةٌ تؤجرها، فهذه تحدث فيها عقدٌ لازم، لكنها لم تخرج، واستعمال هذا الشيء إنما يترتب عليه نقصٌ؛ لأن الشيء إذا استُعمِل كسيارة أو دابة يترتب عليه نقصٌ هذه من الأمثلة التي ترد على هذه المسألة، هذا إذا كان بسببها، إما إذا كان من قِبل الله كما ذكر المؤلف، كالجوائح التي تصيب

(1)

المُضاربة: أن يدفع رجل إِلى رجل مالًا يتجر به ويكون الربح منهما على ما يتفقان عليه، وتكون الوضيعة على رأس المال. انظر:"غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 199).

ص: 5727

المزارع، والموت الذي يحل بالحيوان، وكذلك بالمولى، إلى غير ذلك من الأمور التي تحصل لمثل هذه الأشياء.

قوله: (فَمَا كَانَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَلَفًا لِلْكُلِّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَقْصًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً، وَإمَّا أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً وَنَقْصًا مَعًا).

"إمَّا أن يكون تلفًا للكل" مثل: أن يكون حيوانًا فيهلك، أو سلعةً فتفنى، أو دابة تنفر ولا يدرى أين ذهبت.

"وإمَّا أن يكون نقصًا" مثل: أن تكون شاة سمينة فيصيبها الهزال

(1)

.

"وإمَّا أن يكون زيادةً" مثل: شاة تسمن، أو تلد هذه الشاة فتزداد، أو هذه الشجرة تُثمِر.

"وإمَّا أن يكون زيادةً ونقصًا معًا"؛ أي: أن يُجمَع بينهما، كأن تلد الشاة فهذه زيادة متميزة، لكن الولادة ستؤثر عليها من حيث الصحة فتمرض، أو يصيبها الهُزال والضعف.

قوله: (وَمَا كانَ مِنْ قِبَلِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهَا فِيهِ بِتَفْوِيتٍ مِثْلِ الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَالْهِبَة).

يعني: أن يكون ليس لها التصرف فيه، بمعنى: أخرجته عن مِلكها، كأن باعت هذه السلعة أو وهبته لأحد

(2)

، أو أعتقت هذا المملوك فخرج عن مِلكها، وأصبح لا تصرف لها فيه، فما الذي سيأخذه الزوج منها.

(1)

الهُزال: نقيضُ السِّمَن. تقول: هُزِلت الدابة، وأُهزِل الرجل، إذا هُزِلتْ دابته. انظر:"العين" للخليل (4/ 14).

(2)

الهبة: "الإعطاء من غير عوض. تقول: وهبت لزيد مالًا أهبه له هبة: أعطيته بلا عوض". انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 673).

ص: 5728

قوله: (أَوْ يَكُونَ تَصَرُّفُهَا فِيهِ فِي مَنَافِعِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا، أَوْ فِيمَا تَتَجَهَّزُ بِهِ إِلَى زَوْجِهَا).

وقد تتصرف فيه بأمر غير لازم، كالوصية كما ذكرنا، وكالمضاربة والشركة، فهذا لم يخرج عن مِلكها، لكنه قُيد في أمر من الأمور فحق الزوج في هذه الحالة لا يصلح، وربما يكون بعقدٍ لازمٍ كالإجارة وغيرها، وهذه المسألة فيها كلامٌ كثير للفقهاء، وربما يكون ما تنفقه لما تتجهز به لزوجها، بأن تشتري به الحلي والملابس، وما يتبع ذلك من الأمور التي تحتاج إليها المرأة.

قوله: (فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُمَا فِي التَّلَفِ وَفِي الزِّيَادَةِ وَفِي النُّقْصَانِ شَرِيكَانِ

(1)

، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي النُّقْصَانِ وَالتَّلَفِ عَلَيْهَا بِالنِّصْفِ

(2)

، وَلَا يَرْجِعُ بِنِصْفِ الزِّيَادَةِ)

(3)

.

أقوال العلماء كثيرةٌ في هذه المسألة، لكنها من حيث الجملة: الزيادة كما ذكرنا على نوعين:

(1)

انظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 318)؛ حيث قال: " (فزيادته)؛ أي: الصداق (كنتاج وغلة) كأجرة وثمرة وصوف (ونقصانه) بموت أو تلف (لهما) راجع للزيادة (وعليهما) راجع للنقصان وهو الراجح".

(2)

يُنظر: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (2/ 70)؛ حيث قال:" (أو) فارق ولو بسببها بعد (زيادة منفصلة) كولد ولبن وكسب (فهي لها) سوأء أحصلت في يدها أم في يده فيرجع في الأصل أو نصفه دونها".

وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 17)؛ حيث قال: " (والزيادة) المنفصلة (لها)؛ أي: الزوجة؛ لأنها نماء ملكها (ولو كانت) الزيادة (ولد أمة)؛ لأن الولد زيادة منفصلة ولا تفريق هنا لبقاء ملك الزوجة في النصف".

(3)

يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 406)، وفيه قال:" (ولها) إذا فارق ولو بسببها (زيادة) قبل الفراق (منفصلة) كثمرة وولد وأجرة ولو في يده فيرجع في الأصل أو نصفه أو بدله دونها لحدوثها في ملكها، والفراق إنما يقطع ملكها من حين وجوده لا قبله".

ص: 5729

النوع الأول: زيادةٌ متميزة، وهي التي تنفصل عن الأصل الذي هو المهر.

النوع الثاني: زيادةٌ غير متميزة؛ أي: متصلة.

فالزيادة المتميزة هي التي تنفصل عن أصلها كحيوانٍ يلد، أو أمة تلد، أو شجرةٌ تُثمر، أو دنانير يباع ويشترى فتربح، إلى غير ذلك من الأمور ذات الزيادة المتميزة، أما الغير المتميزة تكون مصاحبةً للشيء كشاةٍ تسمن، أو مثلًا خادمةً تسمن

إلى غير ذلك من الأمور، فهناك زيادةٌ متصلة، وزيادةٌ منفصلة، والحكم مختلفٌ بينهما، ومن العلماء مَن يرى: أنه يأخذ نصف قيمة الأصل؛ أي: نصف قيمة الصداق الذي قدمه لها، وإن كانت الزيادة متصلة؛ أي: غير متميزة ففي هذه الحالة إن رضيت المرأة أن تدفع له النصف؛ لأنه سيستفيد، أصبحت الآن شاةً قد سَمِنت، وبالنسبة للشاة لا يمكن تنصيفها، لكن يؤخذ نصف القيمة، وقد يكون أمرًا من الأمور التي زادت ففي هذه الحالة إن رضيت أن تعطيه النصف، فيُلزَم بذلك إن رضيت، وإن لم ترض فيُرجَع إلى الأصل فيأخذ نصف قيمة الصداق.

وأصل مذهب الإمامين الشافعي

(1)

وأحمد

(2)

من حيث الجملة:

1 -

ما كان من زيادة فهو للمرأة إلا أن تتبرع به.

(1)

يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 407 - 408)؛ حيث قال: " (و) لها فيما إذا فارقها بعد زيادة متصلة (خيار في متصلة) كسمن وحرفة وليس منها ارتفاع سوق. (فإن شحت) فيها وكان الفراق لا بسببها (فـ) له ولو معسرة (نصف قيمة) للمهر بأن يقوم (بلا زيادة)

(وإن سمحت) بالزيادة وهي رشيدة (لزمه القبول)؛ لأنها لكونها تابعة لا تظهر فيها المنة فليس له طلب القيمة هذا كله إن لم يعد إليه كل الصداق

وإن لم ترض هي كفسخ البيع بالعيب وإن كان بسبب عارض كردتها تخيرت بين أن تسلمه زائدًا وأن تسلم قيمته غير زائد

".

(2)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 17)؛ جيث قال: " (وإن كانت) الزيادة في الصداق (متصلة) كسمن، وتعلم صنعة (وهي)؛ أي: الزوجة (غير محجور عليها خيرت بين دفع نصفه زائدًا)، ويلزمه قبوله؛ لأنها دفعت إليه حقه وزيادة لا تتميز ولا تضره (وبين دفع نصف قيمته يوم العقد إن كان) الصداق (متميزًا) كعبد، وبغير معينين لدخول المتميز في ضمانها بمجرد العقد فتعتبر صفته وقته، وإنما صير إلى نصف القيمة؛ لأن الزيادة لها ولا يلزمها بذلها ولا يمكنها دفع الأصل بدون زيادته".

ص: 5730

2 -

وما كان من نقصٍ فعليها إلا أن يتغاضى الزوج عن ذلك.

هذا هو الأصل في المذهبين، أما مذهب مالك قريبٌ من ذلك، وأبو حنيفة: ففي مذهبه تفصيل، ويخالفه محمد بن الحسن

(1)

.

قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ الصَّدَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوِ الْمَوْتِ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا؟ أَوْ لَا تَمْلِكُهُ؟ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا تَمْلِكُهُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا - قَالَ: هُمَا فِيهِ شَرِيكَانِ مَا لَمْ تَتَعَدَّ فَتُدْخِلَهُ فِي مَنَافِعِهَا)

(2)

.

قد ذكرنا أن المرأة بمجرد العقد الصحيح تملك نصف المهر؛ يعني: فيما لو حصل طلاقٌ قبل الدخول، أما لو دخل بها الزوج فحصل مسيس

(1)

يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 155)؛ حيث قال:"ولو زاد المهر زيادة منفصلة كالولد والثمر والأرش والعقر قبل القبض فكلها تتنصف بالطلاق قبل الدخول وبعد القبض لا تتنصف وعليها نصف قيمة الأصل يوم قبضت، وكذلك لو ارتدت والعياذ باللّه تعالى أو قبلت ابن الزوج، وإن كانت بدل المنافع كالكسب والغلة والموهوب للمهر فهي للمرأة وليست بمهر عند أبي حنيفة وعندهما يتنصف مع الأصل، وكذلك على هذا كسب المبيع قبل القبض ولو آجره الزوج فالأجرة له ولزمه التصدق بها، والزيادة المتصلة قبل القبض تتنصف بالإجماع وبعد القبض تتنصف عند محمد خلافًا لهما والزيادة المنفصلة بعد القبض، إذا هلكت يتنصف الأصل دون الزيادة".

(2)

يُنظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (4/ 220)؛ حيث قال:"وقول ابن القاسم أصح؛ لأن ملك الزوجة للصداق ملك غير مستقر قبل البناء، وإذا وقع البناء صح ملكها ووجب عليها ضمانه ولها غلته، فإذا طلق الزوج قبل البناء صح ملكها للنصف وملكه للنصف، فوجب أن تكون الغلة بينهما، ونحوه لابن يونس".

ومثله قول الحنابلة. انظر: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى الفراء (2/ 119)؛ حيث قال:"وإن قلنا قد ملكته فهو ملك غير مستقر، ومثل ذلك المبيع قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض، الملك قد حصل لكنه غير مستقر؛ لأنه معرض لانتقاض العقد ورجوعه إلى البائع، ولم يدل هذا على أن الملك لم يحصل وأن النساء ليس بملك للمشتري كذلك هاهنا، وأما قول أحمد رحمه الله: يرجع عليه بنصف القيمة في الأم والولد، فظاهر هذا أنه لم يقر ملكها على نصف الأم ونصف الأولاد شائعًا وحكم لها بنصف القيمة على الزوج".

ص: 5731

فالعلماء مُجمعون على أن المهر قد تقرر كله

(1)

، والإمام أحمد انفرد عن الأئمة الأربعة بأن الخلوة يثبت بها المهر كاملًا وهذا رأي الخلفاء الراشدين وجمع من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم

(2)

.

قوله: (وَمَنْ قَالَ: تَمْلِكُهُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا، وَالتَّشْطِيرُ حَقٌّ وَاجِبٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهَا عِنْدَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَ اسْتِقْرَارِ الممِلْكِ - أَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا بِجَمِيعِ مَا ذَهَبَ عِنْدَهَا

(3)

، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا إِذَا صَرَفَتْهُ فِي مَنَافِعِهَا ضَامِنَةٌ لِلنِّصْفِ

(4)

، وَاخْتَلَفُوا إِذَا اشْتَرَتْ بِهِ مَا يُصْلِحُهَا لِلْجِهَازِ مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ هَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَا اشْتَرَتْهُ؟ أَمْ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ الَّذِي هُوَ

(1)

تقدَّم.

(2)

تقدَّم.

(3)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (3/ 318، 319)، وفيه قال:"ملك الزوجة على الصداق مستقر بخلاف الأجرة، ألا ترى أنه لو ماتت الزوجة قبل الدخول بها، لم يرجع الزوج بشيء من صداقها، ولو انهدمت الدار قبل مضي مدتها، رجع المستأجر بما في مقابلتها. والثاني: أن رجوع الزوج بنصف الصداق إذا طلق قبل الدخول إنما هو استحداث ملك تجرد بالطلاق، فلم يكن ذلك مانعًا من استقرار ملك الزوجة على الصداق قبل الطلاق".

(4)

مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (6/ 66)؛ حيث قال: "ولو تزوجها على عبد ودفعه إليها ثم طلقها قبل أن يدخل بها فقضي للزوج بنصفه عليها فلم يقبضه حتى اعور أخذ نصفه وضمنها نصف العور".

ومذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 282)، حيث قال:"فإذا طلق قبل البناء وجب لكل نصفه فإن كان بيد الزوجة ضمنت للزوج نصفه وبالعكس العكس".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (3/ 211)؛ حيث قال:" (فإن نقص) الصداق (في يدها بعد الطلاق ولو بلا عدوان ضمنت) ".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (5/ 198)؛ حيث قال: " (وإن نقص) المهر (في يدها بعد تنصفه؛ ضمنت نقصه) مطلقًا سواء فرطت أو لا، وسواء طلبه ومنعته قبضه (أو لا)، متميزًا كان أو لا؛ لأنه وجب له نصف الصداق؛ فلم يدخل في ضمانه إلا بالقبض، وإذا لم يدخل في ضمانه كان مضمونًا عليها، فتضمن نقصه وتلفه".

ص: 5732

الثَّمَنُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَا اشْتَرَتْهُ

(1)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(2)

وَالشافِعِيُّ

(3)

: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي هُوَ الصَّدَاق، وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ مَشْهُورٍ مُتَعَلِّقٍ بِالسَّمَاعِ).

معنى متعلق بالسماع؛ أي: بالدليل المسموع: كأن يكون نصٌّ في كتاب الله عز وجل، أو من سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، والمسموع هنا إنما هو قول الله سبحانه وتعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237].

قوله: (وَهُوَ: هَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ فِي ابْنَتِهِ

(1)

يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 282)؛ حيث قال: "وتعين ما اشترته من الزوج وهل مطلقًا وعليه الأكثر، أو إن قصدت التخفيف تأويلان (ش)؛ يعني: أن الزوج إذا أصدق زوجته عينًا فاشترت منه بها أو بغيرها ما يصلح أن يكون جهازها وما لا يصلح أن يكون جهازًا لها كماشية أو عبد أو ما أشبه ذلك، ثم إن الزوج طلقها قبل الدخول عليها فإن ذلك الذي اشترته الزوجة يتعين للتشطير، وليس له طلبها بتشطير الأصل ولا لها دفع شطر النقد إلا بتراضيهما على المشهور وهو مذهب "المدونة"".

(2)

يُنظر: "المحيط البرهاني" لابن مازه (8/ 82)؛ حيث قال: "ولو أن امرأة طلقها زوجها قبل الدخول بها، وقد كانت قبضت المهر وتجهزت بذلك، فقضى القاضي للزوج بنصف الجهاز؛ لأنه كان يرى ذلك كما قال بعض الناس، بناءً على أن الزوج لما دفع الصداق إليها، فقد رضي بتصرفها برضا الزوج كتصرف الزوج بنفسه، ولو أن الزوج اشترى ذلك بنفسه، وساق إليها، ثم طلقها قبل الدخول بها كان لها نصف الجهاز، فكذا هاهنا، فإذا قضى قاض لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه بخلاف قول الجمهور، وبخلاف كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى جعل للزوج الطلاق قبل الدخول نصف المفروض، والمفروض هو المسمى في العقد، والجهاز لم يكن مسمى في العقد فلا ينصف، فكان هذا قضاء بخلاف النص فكان باطلًا".

(3)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 433)؛ حيث قال: "فلو كانت قد اشترت بالصداق جهازًا أو غيره، رجع عليها بمثل نصف الصداق، ولم يلزمه أن يأخذ نصف الجهاز".

لم أقف على قول الحنابلة.

ص: 5733

الْبِكْرِ؟ أَعْنِي: إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَللسَّيِّدِ فِي أَمَتِهِ

(1)

؟ فَقَالَ مَالِكٌ

(2)

: ذلك له، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

وَالشَّافِعِيُّ

(4)

: لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ).

(1)

مذهب المالكية الجواز خلافًا للجمهور.

مذهب الحنفية، يُنظر:"التجريد" للقدوري (9/ 4689 - 4690)؛ حيث قال: "فإن قالوا: نصف صداق استقر بالطلاق، فكان للولي العفو عنه كمولى الأمة. قلنا: الوصف غير مسلم في الأصل؛ لأن المهر لم يستقر للأمة لكن لمولاها، والوصف الآخر غير مؤثر؛ لأن الأمة لا فرق بين أن تكون بكرًا، أو ثيبًا. والمعنى في المولى، أنه يملك إسقاط المهر بعض القبض، فيملك قبله، ويملك إسقاطه إذا كانت ثيبًا، فملك إذا كانت بكرًا. ويملك إسقاط الأجرة إذا أجرها فملك إسقاط مهرها إذا زوجها والولي بخلاف ذلك".

ومذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل"، للمواق (5/ 225)؛ حيث قال:" (وجاز عفو في البكر عن نصف الصداق قبل الدخول وبعد الطلاق) من "المدونة": يجوز عفو الأب عن نصف المهر في طلاق البكر قبل البناء

ومثل ذلك يكون لمن يملك الإجبار في النكاح كالأب في ابنته البكر أو الثيب الصغيرة أو السيد في أمته". ومذهب الشافعية، يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (9/ 493)؛ حيث قال: "وتحريره قياسًا: أن من لم يملك العفو عن مهرها إذا كانت ثيبًا لم يملكه إذا كانت بكرًا كالإخوة والأعمام طردًا وكالسيد في أمته عكسًا".

وهو المشهور في مذهب الحنابلة، وفي روأية أن له ذلك. انظر:"الإنصاف" للمرداوي (8/ 272)، حيث قال:"وقيل: سيد الأمة كالأب".

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 327)؛ حيث قال: " (وجاز) (عفو أبي البكر المجبرة) كالثيب الصغيرة دون غيره (عن نصف الصداق قبل الدخول وبعد الطلاق) لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] لا قبل الطلاق فلا يجوز عند مالك".

(3)

يُنظر: "التجريد" للقدوري (9/ 4685 - 4686)؛ حيث قال: "قال أصحابنا: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج؛ فقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} ؛ يعني: النساء يسقطن ما وجب لهن من نصف المهر، أو يعفو الزوج إذا كان سلم المهر إليها لا يرجع بشيء منه

ولا يقال للأب إذا أسقط مال ابنته عفا؛ لأن العفو يكون في مال الإنسان لا في مال غيره

ولأنه لا يقال للولي المسقط لمال وليته أن ما فعله أقرب للتقوى". وانظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (5/ 140).

(4)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 397)؛ حيث قال: " (وليس لولي عفو عن صداق) لموليته (على الجديد) كسائر ديونها والقديم له ذلك بناءً على أنه الذي بيده عقدة النكاح، وحمله الجديد على الزوج لتمكنه من رفعه بالفرقة فيعفو عن حقه =

ص: 5734

هذه مسألة مهمة جدًّا فالولاية الكاملة والأقوى للأب؛ ولذلك له أن يجبر ابنته الصغيرة على النكاح، لكن هل هذه القوة في ولاية الأب تنصرف إلى ما يتعلق بالأمر المالي؟ أي: بالصَّداق؛ لأن الصداق هو خالص حق المرأة، فهل العفو عنه مرتبطٌ بالمرأة نفسها؟ وليس لأحدٍ أبًا كان أو غيره أن يعفو عن شيء منه، أم أن له ذلك؟

والجواب: هذه مسألةٌ اختلف فيها العلماء، وانفرد مالكٌ: بأن للأب أن يعفو، وخالفه الأئمة الثلاثة، وسيأتي التعقيب على الآية التي يستدل بها كلٌّ من الفريقين.

قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ الاحْتِمَالُ الَّذِي فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]).

قوله تعالى: {يَعْفُونَ} المقصود بذلك النساء، والواو هي واو الفعل؛ يعني: حرف علة، وليست واو الجماعة

(1)

؛ أي: النساء هي صاحبة الحق، وقوله تعالى:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، فالذي بيده عقدة النكاح هو الولي كما نصَّ الإمام مالك

(2)

ومعه جماعة على

= ليسلم لها كل المهر إذ لم يبق للولي بعد العقد عقدة. وللقديم شروط: وهي أن يكون الولي أبًا أو جدًّا لمكان شفقتهما. وأن يكون قبل الدخول. وأن تكون بكرًا صغيرة عاقلة. وأن يكون بعد الطلاق. وأن يكون الصداق دينًا في ذمة الزوج لم يقبض".

ومذهب الحنابلة في مشهور المذهب. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 218)؛ حيث قال: "ولا يملك الأب العفو عن نصف مهر ابنته الصغيرة إذا طلقت ولو قبل الدخول ولا الكبيرة ولا غيره من الأولياء". وانظر الرواية الأخرى في: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 272).

(1)

انظر: "اللمحة في شرح الملحة"، لابن الصائغ (2/ 918)؛ حيث قال:"وتعود لام الفعل منه إذا كان آخر الفعل معتلًّا فيبقى على حالته، كقولك: (الهندات يعفون)، و (يرمين)، و (لن يعفون)، و (لم يرمين) ".

(2)

يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (5/ 225، 226)؛ حيث قال: "وهو نص قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}، يريد الزوجات المالكات لأمورهن {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}، يريد الأب في أبنته البكر والسيد في أمته".

ص: 5735

ذلك، والجمهور

(1)

: يَرَوْنَ أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، فلماذا اختلفوا في هذه الآية؟ وهل الآية محتملة ذلك؟

الجواب: الإمام مالكٌ رحمه الله ومن معه، يَرَوْنَ أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي؛ لأنه هو الذي يملك في هذا المقام عقدة النكاح، أما الزوج فقد خرجت يده، ولا سلطة له على المرأة بعد الطلاق، فانتهى أمره في ذلك، وأصبح الولي.

أما جمهور العلماء فقالوا: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج؛ لأنه هو الذي بإمكانه أن يستمر النكاح أو أن يقطعه، ويستدلون بحديثٍ فيه ضعف ورد في "سنن الدارقطني":"ولي العقدة الزوج"

(2)

، قالوا: فهذا نص والقصد بالعقدة هي: "عقدة النكاح"، ثم يقولون: عندما نُلقي نظرةً فاحصة وعميقة على الآية، نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول بعد ذلك:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، والذي يكون العفو أقرب منه للتقوى هو الزوج؛ لأنه في هذه الحالة إذا عفا فيتجاوز عن حقٍّ من حقوقه؛ ولذلك الله سبحانه وتعالى بعد ذلك قال:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ، وأما عفو الولي فلا يعتبر أقرب للتقوى؛ لأنه عفا عن أمرٍ لا يملك العفو فيه، ومذهب الجمهور

(3)

في هذه المسألة

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (5/ 139)؛ حيث قال: "قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}، فذهب أصحابنا إلى أنه الزوج".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (2/ 71)؛ حيث قال: "والذي بيده عقدة النكاح في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو الزوج؛ لتمكنه من رفعها بالفرقة فيعفو عن حقه ليسلم لها كل المهر لا الولي إذ لم يبق بعد العقد عقدة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 19)؛ حيث قال: " (والذي بيده عقدة النكاح) في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (الزوج) لا ولي الصغيرة".

(2)

أخرجه الدارقطني في "سننه"(4/ 423) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولي عقدة النكاح هو الزوج". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1935).

(3)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (7/ 254)؛ حيث قال: "ولأن الذي بيده عقدة النكاح =

ص: 5736

هو أقوى وأقرب للعدل والإنصاف؛ لأن الولي يعفو عن حق غيره، وهذا حق المرأة فهي بحاجةٍ إليه، لكن لو أن الزوج انتقل إلى درجة الكرم والمكارمة في هذا المقام، وتجاوز عن هذا الحق فيكون بذلك حفظٌ لذلك وعدم قطعٍ لما أشار الله سبحانه وتعالى إليه بقوله:{وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، وقوله تعالى:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} .

قوله: (وَذَلِكَ فِي لَفْظَةِ "يَعْفُو" فَإِنَّهَا تُقَالُ فِي كلَامِ الْعَرَبِ مَرَّةً بِمَعْنَى يُسْقِط، وَمَرَّةً بِمَعْنَى يَهَبُ، وَفِي قَوْلِهِ:{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] عَلَى مَنْ يَعُودُ هَذَا الضَّمِيرُ؟ هَلْ عَلَى الْوَلِيِّ؟ أَوْ عَلَى الزَّوْجِ؟ فَمَنْ قَالَ: عَلَى الزَّوْجِ جَعَلَ "يَعْفُوَ" بِمَعْنَى يَهَبُ، وَمَنْ قَالَ: عَلَى الْوَلِيِّ جَعَلَ "يَعْفُوَ" بِمَعْنَى يُسْقِطُ

(1)

، وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: لِكُلِّ وَليِّ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ الْوَاجِبِ لِلْمَرْأَةِ

(2)

، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَانِ الاحْتِمَالَانِ اللَّذَانِ فِي الْآيَةِ عَلَى السَّوَاءِ).

المؤلف يشير إلى أنه يميل للرأي الذي رجَّح؛ أي: عفو الزوج؛ لأن هناك طرفين، والمهر متنصف بينهما، نصفه للزوجة، ونصفه للزوج،

= بعد العقد هو الزوج، فإنه يتمكن من قطعه وفسخه وإمساكه، وليس إلى الولي منه شيء، ولأن الله تعالى قال:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} والعفو الذي هو أقرب إلى التقوى هو عفو الزوج عن حقه، أما عفو الولي عن مال المرأة، فليس هو أقرب إلى التقوى، ولأن المهر مال للزوجة، فلا يملك الولي هبته وإسقاطه، كغيره من أموالها وحقوقها، وكسائر الأولياء، ولا يمتنع العدول عن خطاب الحاضر إلى خطاب الغائب

".

(1)

يُنظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 295)؛ حيث قال: "قوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}؛ يعني: يسقطن. وقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} لا يتصور الإسقاط فيه إلا من الولي؛ فيكون معنى اللفظ الثاني هو معنى اللفظ الأول بعينه، وذلك أنظم للكلام".

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 430)؛ حيث قال: "وقال الليث بن سعد لأبي البكر أن يضع من صداقها عند عقد نكاحها، وإن كان تزوجها بأقل من مهر مثلها وإن كرهت ويجوز ذلك عليها".

ص: 5737

فإن عفت الزوجة فلها ذلك، وإن عفا الزوج فله ذلك، لكن الولي لا دخل له في الأمر، فهذا الذي يُفهَم من الآية، وهذا الذي لاحظه المؤلف ملاحظةً جيدة في هذا المقام.

قوله: (لَكِنَّ مَنْ جَعَلَهُ الزَّوْجَ فَلَمْ يُوجِبْ حُكْمًا زَائِدًا فِي الْآيَةِ؛ أَيْ: شَرْعًا رائِدًا؛ لِأَنَّ جَوَار ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ ضَرُورَةِ الشَّرْعِ. وَمَنْ جَعَلَهُ الْوَلِيَّ؛ إِمَّا الْأَب، وَإِمَّا غَيْرُهُ - فَقَدْ زَادَ شَرْعًا، فَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِدَلِيلٍ يُبَيِّنُ بِهِ أَنَّ الْآيَةَ أَظْهَرُ فِي الْوَلِيِّ مِنْهَا فِي الزَّوْجِ وَذَلِكَ شَيْءٌ يَعْسُرُ).

ليس القصد أنه زاد شرعًا بمعنى: أنه شرَّع في دين الله، كما يفعل القانونيون، وإنما هذا فهم اختلف فيه العلماء، والحقيقة الذي جعلني أرجح أنه الزوج قوله تعالى:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، لأن هذا أوثق بالزوج من الولي؛ لأن الولي ليس من حقه أن يعفو عن حق غيره، والمؤلف رحمه الله مالكي المذهب، ومع ذلك تجد أنه في إشاراته يخالف مذهب مالك، وهذا هو طالب العلم الحقيقي الذي يريد أن يدرس الفقه، وأن يصل إلى الحق من أقرب طرقه وأيسره ينبغي له أن يدع التعصب عنه بعيدًا، وألا يتحيز لأيِّ مذهب، حتى وإن كنت قد درست هذا المذهب دراسة جيدة؛ لأن من الممكن أن يكون هذا المذهب الذي خالفته هو الأقوى، وينبغي دائمًا أن يسير طالب العلم مع الدليل أينما كان وحيثما وجد من كتاب الله عز وجل ومن سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الأئمة الذي ننهل

(1)

من معين

(2)

فقههم، ونأخذ من كنوزهم، هذا هو منهجهم الذي أسسوه ووضعوه لنا: ألَّا نتعصب لآرائهم، وألَّا نأخذ بقول أحد منهم مع وجود نص يخالفه، وكلامهم في ذلك معروف ومشهور.

(1)

يقال: نهل ينهل نهلًا، إذا شرب. والناهل: الذي قد شَرِب حتى رَوِي. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (6/ 160)، "النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير (5/ 138).

(2)

المعين: الجاري الظاهر. انظر: "الزاهر في معاني كلمات الناس"، لابن الأنباري (2/ 9).

ص: 5738

قوله: (وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الصَّغِيرَةَ وَالْمَحْجُورَةَ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَهَبَ مِنْ صَدَاقِهَا النِّصْفَ الواجب لها)

(1)

.

لأن الصغيرة والمحجورة ليس لها أن تتصرف في هذا الأمر؛ فيحتاج إلى موافقة من له الولاية عليها، ولذلك يشترطون في تنازل الزوجة عن نصف الصداق، أن يكون كل واحدٍ منهما رشيدًا مُكلَّفًا، وقد يكون الإنسان مُكلَّف ولكنه غير رشيد

(2)

، فكم من أُناس تجاوزوا سن البلوغ وقطعوا مسافاتٍ كثيرة من العمر، ومع ذلك تراهم يتصرفون تصرف السفهاء، وكم من صغار السن أصحاب العقول الكبيرة ممن وهبهم الله إدراكًا وحصافة وفهمًا، تجد أنهم يتصرفون كتصرف كبار العقلاء، لكن الغالب أن الكبير يدرك ما لا يدركه الصغير؛ إذن فالصغيرة الغير مدركة لا يُعتبر عفوها في هذا المقام.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 161)؛ حيث قال: " (قوله: وصح حطها)؛ أي: حط المرأة من مهرها؛ لأن المهر في حالة البقاء حقها والحط يلاقيه حالة البقاء، أطلقه فشمل حط الكل أو البعض وشمل ما إذا قبل الزوج أو لم يقبل بخلاف الزيادة

وقيد بحطها؛ لأن حط أبيها غير صحيح، فإن كانت صغيرة فهو باطل، وإن كانت كبيرة توقف على إجازتها".

ومذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" لمواق (5/ 225)؛ حيث قال: "وللمرأة إن كانت مالكة أمر نفسها إسقاط لنصف الواجب لها من حقها عند طلاقها، ومثل ذلك يكون لمن يملك الإجبار في النكاح كالأب في ابنته البكر أو الثيب الصغيرة أو السيد في أمته وهو نص قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} يريد الزوجات المالكات لأمورهن".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 513)؛ حيث قال: " (قال الشافعي) رحمه الله فأما أبو البكر وأبو المحجور عليه فلا يجوز عفوهما كما لا تجوز لهما هبة أموالهما".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 145)؛ حيث قال: " (فأيهما)؛ أي: الزوجين (عفا لصاحبه عما وجب له من المهر وهو جائز الإبراء في ماله) بأن كان مكلفًا رشيدًا (برئ منه صاحبه سواء كان المعفو عنه عينًا أو دينًا) لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ".

(2)

الرشد: كمال العقل وسداد الفعل وحسن التصرف. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 74).

ص: 5739

قوله: (وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ تَهَبَ مَصِيرًا؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)} [البقرة: 237]، وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الْمَرْأَةِ إِذَا وَهَبَتْ صَدَاقَهَا لِزَوْجِهَا، ثُمَّ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ - فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ

(1)

. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصفِ الصَّدَاقِ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلِ النِّصْفُ الْوَاجِبُ لِلزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ هُوَ فِي عَيْنِ الصَّدَاقِ؟ أَوْ فِي ذِمَّةِ الْمَرْأَةِ؟ فَمَنْ قَالَ: فِي عَيْنِ الصَّدَاقِ - قَالَ: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الصَّدَاقَ كُلَّهُ

(3)

، وَمَنْ قَالَ: هُوَ فِي ذِمَّةِ الْمَرْأَةِ - قَالَ: يَرْجِع، وَإِنْ وَهَبَتْهُ لَه، كلمَا لَوْ وَهَبَتْ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهَا

(4)

، وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْقَبْضِ وَلَا قَبْضٍ، فَقَالَ:

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 324)؛ حيث قال: " (وإن وهبت) الرشيدة (له)؛ أي: للزوج بعد العقد وقبل البناء (الصداق) المسمى قبل أن تقبضه منه (أو) وهبت له من خالص مالها قبل العقد أو بعده (ما)؛ أي: شيئًا (يصدقها به قبل البناء جبر على دفع أقله) وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم؛ حيث أراد الدخول فإن طلق فلا شيء عليه في الصورتين، ويستمر الصداق ملكًا له في الأولى ويرده لها في الثانية". وانظر: "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 720).

(2)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (6/ 363)؛ حيث قال: " (ولو) (وهبته) له بلفظ الهبة بعد قبضها له والمهر عين (ثم طلق) مثلًا قبل وطء، (فالأظهر أن له نصف بدله) من مثل أو قيمة لا بدل نصفه وذلك لعوده إليه بملك جديد فأشبه ما لو وهب ما اشتراه من بائعه ثم أفلس بالثمن فإن البائع يضارب به".

(3)

يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 720)؛ حيث قال: "فدليلنا قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}؛ فبين أن الزوج يستحق النصف بحيث تستحق المرأة النصف؛ لأنه قرن ذلك بالحال التي تملك فيها العفو، وذلك لا يكون إلا مع بقاء الصداق على ملكها، ولأن كل امرأة لم يحصل لها بالطلاق نصف الصداق من جهة الزوج لم يستحق الزوج عليها نصفًا آخر، أصله إذا لم يسم صداقًا، ولأن الصداق بهبتها إياه قد صار ملكًا له، فلو استحق عليها بكل النصف لكان قد حصل له البدل والمبدل، وذلك خلاف الأصول".

(4)

يُنظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (3/ 219)؛ حيث قال: " (فيمن وهبت =

ص: 5740

إِنْ قَبَضَتْ فَلَهُ النِّصْف، وَإِنْ لَمْ تَقْبِضْ حَتَّى وَهَبَتْ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْحَقَّ فِي الْعَيْنِ مَا لَمْ تَقْبِضْ، فَإِذَا قَبَضَتْ صَارَ فِي الذِّمَّةِ)

(1)

.

يعني: مذهب أبي حنيفة في هذا: إن قبلت الصداق ثم وهبته فلها ذلك، أما قبل أن تقبضه ويتحول إلى ملكها فلا يجوز ذلك؛ لأنه لا يُسمى ملكًا تامًّا في هذا المقام.

قوله: (الْمَوْضِعُ الرَّابعُ: فِي التَّفْوِيضِ).

هذه مسألةٌ مهمة جدًّا، وهي: ما يتعلق بالتفويض، فمن العلماء من قسَّمه إلى قسمين:

= صداقها) لزوجها (ثم طلقت قبل الدخول فإذا أصدقها عينًا ووهبتها له ثم طلقها قبل الدخول رجع) عليها (بنصف البدل) من مثل أو قيمة؛ لأنه تملكها قبل الطلاق عن غير جهته فأشبه لو ملكها من أجنبي، ولأنها صرفتها بتصرفها إلى جهة مصلحتها فأشبه ما لو وهبتها من أجنبي".

ومشهور مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 146)؛ حيث قال: "وإذا أبرأته من صداقها أو وهبته له ثم طلقها قبل الدخول رجع) الزوج (عليها بنصفه)؛ لأن عود نصف الصداق إلى الزوج بالطلاق وهو غير الجهة المستحق بها الصداق أولًا، فهو كما لو أبرأ إنسانًا من دين عليه ثم استحق عليه مثل ما أبرأه منه بوجه آخر فلا يتساقطان بذلك. (وإن أبرأته من نصفه)؛ أي: الصداق (أو وهبته)؛ أي: الصداق (له ثم طلقها) الزوج (قبل الدخول رجع في النصف الباقي)؛ لأنه وجد ما أصدقها بعينه، فأشبه ما لو لم تهبه له".

وهو مذهب الأحناف بشرط أن تقبضه. يُنظر: "درر الحكام" لمنلا خسرو (1/ 344)؛ حيث قال: " (قبضت ألف المهر فوهبته له وطلقت قبل الوطء رجع بنصفه) يعني تزوج امرأة على ألف فقبضته ووهبته له، ثم طلقها قبل الدخول رجع عليها بخمسمائة؛ إذ لم يصل إلى الزوج عين ما استوجبه بالطلاق قبل الدخول؛ لأنه يستحق به نصف المهر، والمقبوض ليس بمهر، بل عوض عنه".

(1)

يُنظر: "التجريد" للقدوري (9/ 4691)؛ حيث قال: "قال أصحابنا: إذا وهبت صداقها لزوجها قبل قبضه ثم طلقها قبل الدخول لم يرجع عليها بشيء. وإن قبضت ثم وهبت: فإن كان المهر ثمنًا رجع عليها، وإن كانت عروضا فوهبتها وهي بحالها لم يرجع عليها بشيء، وإن تغيرت بزيادة أو نقصان رجع عليها".

ص: 5741

القسم الأول: تفويض البضع

(1)

وهو الأصل، وبعض العلماء اقتصر على هذا.

القسم الثاني: تفويض المهر.

فما الفرق بينهما؟

والجواب: تفويض البضع

(2)

هو أن تتزوج المرأة من غير أن تذكر الصَّداق أصلًا، فإذا طلقها الزوج في هذه الحالة هل تستحق شيئًا أم لا؟

والجواب: هناك من العلماء من يرى: أن لها المتعة

(3)

، ولا نُفَصِّل في الكلام عن المتعة؛ لأن المؤلف عقد لها فصلًا مستقلًّا، أما تفويض المهر يشار فيه إلى المهر، لكنه لا يُسمى، ومعنى: تفويض المهر هو أن يفوض كل من الزوجين أحدهما في داره، تحديد ذلك إلى أحدهما، أو إلى أجنبي، كأن يقول الولي مثلًا: زَوَّجتك على ما تراه من المهر، أو على ما شئت، أو على ما حكمت به، أو على ما قرره وحكم به فلان، هذا يُسمى "تفويض المهر"

(4)

، وبعض العلماء

(1)

بَضَع المَرأة بَضْعًا، وباضَعَها مباضَعَة وبضاعًا: جامعها. والاسم: البُضْع. انظر: "المحكم والمحيط الأعظم" لابن سيده (1/ 418).

(2)

ويسمى بنكاح التفويض. يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 472) حيث قال: "تفويض البضع: فهو أن يتزوج الرجل المرأة الثيب من وليها بإذنها، ورضاها، على أن لا مهر لها، فهذا نكاح التفويض؛ لأنها سلمت نفسها بغير مهر".

(3)

يُنظر: "مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني"(ص 232)؛ حيث قال: "سمعت أحمد سُئل عن المتعة؟ قال: أوجبها على من لم يُسَمِّ صداقًا، فإن كان سمَّى صداقًا فلا أوجبها عليه". سمعت أحمد: "سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يكن فرض لها مهرًا، ثم وهب لها غلامًا، ثم طلقها؟ قال: لها المتعة. سمعت أحمد سئل كم المتعة؟ قال: على قدر يساره، قيل: عشرة آلاف؟ قال: على قدر ما يرى الحاكم".

(4)

في مذهب المالكية يسمون تفويض المهر نكاح التحكيم.

يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (5/ 197)؛ حيث قال: " (والتحكيم). ابن عرفة: نكاح التحكيم قالوا: ما عقد على صداق قدر مهره لحكم حاكم ولو كان المحكم عبدًا أو امرأة". =

ص: 5742

كالشافعية

(1)

: لا يراه ويعتبرون تفويض البُضع، ومعنى كلمة تفويض: فوَّض الأمر وتأتي من الفضاء أو الإفضاء

(2)

"أي: أنه شيءٌ فاضٍ مهمل لا أثر له بمعنى: أنه مُهمَل

(3)

؛ ولذلك يستدلون على هذا بقول الشاعر

(4)

:

لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم

وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا

والناس لا يصلحون دون قيادة، ودون حاكم، لأنه لو تُرِك أمر الناس إليهم وحدهم لا سائس يسوسهم

(5)

، ولا قائد يقودهم، فسيتسلط القوي

= ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 379)؛ حيث قال: "تفويض مهر، كقولها للولي: زوجني بما شئت أو شاء فلان".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 25، 26)؛ حيث قال: " (تفويض مهر) بأن يجعل المهر إلى رأي أحد الزوجين أو غيرهما (كـ) قوله زوجتك بنتي أو أختي ونحوها (على ما شاءت) الزوجة (أو) على ما (شاء) الزوج (أو) على ما شاء (فلان وهو أجنبي) من الزوجين أو يقرب لهما أو لأحدهما (ونحوه) كعلى حكمها أو على حكمك أو حكم فلان".

(1)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (6/ 346، 347)، وفيه قال:"التفويض شرعًا: إما تفويض بضع وهو إخلاء النكاح عن المهر، وإما تفويض مهر؛ كزوجني بما شئت أو شاء فلان. والمراد هنا هو الأول".

قال الشبراملسي في "الحاشية": (قوله والمراد هنا الأول) وأما الثاني فقد علم مما مر من أنها إن عينت مهرًا اتبع وإن لم تعين زَوَّجها بمهر المثل".

(2)

الإفضاء: بخلاف التفويض، فالإفضاء هو المباشرة، يقال: أفضى الرجل إلى امرأته؛ أي: باشَرَها. انظر: "شمس العلوم " للحميري (8/ 5208).

وإفضاء الزوجينِ، إِذا اجتمعَا في لحاف واحد جامع أو لم يُجامع. انظر:"تفسير غريب ما في الصحيحين" للأزدي (ص 555).

(3)

قال النسفي: "المفاوضة تفويض كل واحد منهما إلى صاحبه أمر الشركة، والمفاوضة هي المساواة، والمفاوضة هي المخالطة، يقال نعام فوضى؛ أي: مختلط بعضه ببعض، وقوم فوضى؛ أي: مختلطون لا أمير عليهم، ويقال: قوم فوضى؛ أي: متساوون في الامتناع عن طاعة الأمير".

(4)

البيت للأفوه الأودي، كذا في "أمالي القالي"(2/ 224)، و"الصحاح" للجوهري (3/ 1099).

(5)

ساس السلطان والراعي يسوس سياسته، أحسنا النظر إلى رعيتهما، والراكب الدابة أحسن رياضته وأدبه. انظر:"كتاب الأفعال"، لابن القطاع (2/ 162).

ص: 5743

على الضعيف، والكبير على الصغير وهكذا ينتشر الفساد والفوضى بين الناس؛ ولذلك نجد أن الله تعالى وضع هذا الشرع الحكيم ليضبط به عباده في هذه الحياة الدنيا كما قال تعالى:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، فالتفويض إنما هو الإهمال، كأنهم أهملوا هذا المهر وتركوه، هذا هو المراد.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

‌(الموضع الرابع في التفويض

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نِكَاحَ التَّفْوِيضِ جَائِز، وَهُوَ أَنْ يُعْقَدَ النِّكَاحُ دُونَ صَدَاقٍ؛ لِقَوْلِه الله تَعَالَى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236])

(1)

.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 136)؛ حيث قال: "قال رحمه الله: (صح النكاح بلا ذكره)؛ أي: بلا ذكر المهر". وانظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (5/ 130).

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (2/ 449)؛ حيث قال: " (وجاز نكاح التفويض) والأحب نكاح التسمية. ونكاح التفويض: (عقد بلا ذكر)؛ أي: تسمية (مهر ولا) دخول على (إسقاطه)، فإن دخلا على إسقاطه فليس من التفويض بل نكاح فاسد كما تقدم، (ولا صرفه)؛ أي: الصداق (لحكم أحد) ".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (7/ 393)؛ حيث قال: "إذا (قالت) حرة (رشيدة) بكر أو ثيب أو سفيهة

(زوجني بلا مهر) أو على أن لا مهر لي (فزوج ونفى المهر أو سكت) عنه أو زوج بدون مهر المثل أو بغير نقد البلد أو بمهر مؤجل أو قال زوجتكها وعليك لها مائة

(فهو تفويض صحيح) ".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (5/ 217)؛ حيث قال: "والتفويض (ضربان تفويض بضع) وهو الذي ينصرف الإطلاق إليه (بأن يزوج أب ابنته المجبرة) بلا مهر (أو) يزوج الأب (غيرها بإذنها) بلا مهر (أو) يزوج (غير الأب) كأخ يزوج موليته (بإذنها بلا مهر) سواء سكت عن الصداق أو شرط نفيه، فيصح العقد، ويجب به مهر المثل؛ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} ".

ص: 5744

هذه الآية دلت على التنصيص على التفويض بعدما أثبتت الطلاق بعد العقد، ولو لم يكن العقد صحيحًا بدون ذكر المهر لما جاء الطلاق؛ لأن الطلاق يأتي بعد عقدٍ صحيح، فترتَّب حكم الطلاق على حكم العقد، وهناك أدلَّة من السنة كما ذكرنا أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم زوَّج امرأة من غير مهر

(1)

.

قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: إِذَا طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ فَرْضَ الصَّدَاقِ وَاخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ).

فإذا طلبت الزوجة تحديد ذلك، فإن اتفقا عليه فلا مانع، وإن اختلفا يُرجع إلى مهر المِثل، وهذه قاعدةٌ أسسها العلماء واتفقوا عليها: أنه عند الاختلاف يُرجَع إلى مهر المِثل، وما هو مهر المِثل؟

والجواب: المراد به: مهر مثيلاتها، والمثيلة هي: التي تماثلها في السن أو هي من أقربائها، وإذا قلنا: إنها من أهل القرابة فهل هي من جهة العصبة للأب؟ أو من جهة الأم؟ هذه مسائل يفرعها العلماء على هذه المسألة

(2)

.

(1)

أخرجه أبو داود (2117) عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أترضى أن أزوجك فلانة؟ "، قال: نعم، وقال للمرأة:"أترضين أن أزوجك فلانًا؟ "، قالت: نعم، فزوج أحدهما صاحبه فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقًا، ولم يعطها شيئًا وكان ممن شهد الحديبية وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقًا، ولم أعطها شيئًا، وإني أشهدكم أني أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهما فباعته بمائة ألف

الحديث. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(1842).

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري" للقدوري (ص 149)؛ حيث قال: "ومهر مثلها يعتبر بأخواتها وعماتها وبنات عمها، ولا يعتبر بأمها وخالتها إذا لم يكونا من قبيلتها، ويعتبر في مهر المثل: أن تتساوى المرأتان في السن والجمال والعفة والمال والعقل والدين والبلد والعصر".

ومذهب المالكية: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 323)؛ حيث قال: " (ومهر المثل ما)؛ أي: قدر من المال (يرغب به مثله)؛ أي: الزوج (فيها)؛ أي: الزوجة (باعتبار دين)؛ أي: تدين من محافظة على أركان الدين من صلاة وصوم وعفة وصيانة (وجمال) حسي ومعنوي كحسن خلق (وحسب) وهو ما يعد من مفاخر الآباء ككرم ومروءة وعلم وصلاح (ومال وبلد)؛ إذ هو يختلف باختلاف =

ص: 5745

قوله: (الْمَوْضِعُ الثَّانِي: إِذَا مَاتَ الزَّوْج، وَلَمْ يَفْرِضْ، هَلْ لَهَا صَدَاقٌ؟ أَمْ لَا؟).

إذا مات ولم يفرض، وهذه فيها أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله.

قوله: (فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى - وَهِيَ إِذَا قَامَتِ الْمَرْأَةُ تَطْلُبُ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا مَهْرًا - فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَفْرِضُ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ فِي ذَلِكَ خِيَارٌ، فَإِنْ طَلَّقَ بَعْدَ الْحُكْمِ فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَيْسَ لَهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ لَمْ يَكُنْ فِي عُقْدِةِ النِّكَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ

(1)

. وَقَالَ مَالِكٌ

= البلاد (وأخت شقيقة أو لأب) موافقة لها في الأوصاف المتقدمة".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (2/ 69)؛ حيث قال:"ومهر المثل ما يرغب به في مثلها من عصباتها القربى فالقربى، فتقدم أخت لأبوين فلأب فبنت أخ فعمة كذلك، فإن تعذر معرفته فرحم كجدة وخالة ويعتبر ما يختلف به غرض كسن، وعقل فإن اختصت بفضل أو نقص فرض لائق وتعتبر مسامحة من واحدة لنقص نسب يفتر رغبة ومنهن لنحو عشيرة وفي وطء شبهة مهر مثل وقته ولا يتعدد بتعدده إن اتحدت ولم يؤد قبل تعدد وطء بل يعتبر أعلى أحوال".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (3/ 224)؛ حيث قال: "ومهر المثل معتبر بمن يساويها من جميع أقاربها من جهة أبيها وأمها: كأختها وعمتها وبنت أخيها وبنت عمها وأمها وخالتها وغيرهن: القربى فالقربى وتعتبر المساواة في المال والجمال والعقل والأدب والسن والبكارة والثيوبة والبلد وصراحة نسبها وكل ما يختلف لأجله الصداق فإن لم يوجد إلا دونها زيدت بقدر فضيلتها القربى فالقربى، وإن لم يوجد إلا فوقها نقصت بقدر نقصها".

(1)

يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (5/ 142، 143)؛ حيث قال: "م: (ولو طلقها قبل الدخول بها فلها المتعة)

م: (لقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} ش: قد مر الكلام في قوله الآية عن قريب، وجه الاستدلال أن الله تعالى قال:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} ، والفريضة هي المهر؛ أي: لا جناح عليكم في الطلاق في الوقت الذي لم يحصل المساس، وفرض الفريضة، وأمر بالمتعة مطلقًا، وهو على الوجوب".

ص: 5746

وَأَصْحَابُهُ

(1)

: الزَّوْجُ بَيْنَ خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ وَلَا يَفْرِضَ، وَإِمَّا أَنْ يَفْرِضَ مَا تَطْلُبُهُ الْمَرْأَةُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَفْرِضَ صَدَاقَ الْمِثْلِ وَيُلْزِمَهَا).

وهذا هو رأي جمهور العلماء

(2)

، وهو مذهب الإمامين

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 315)؛ حيث قال: " (و) في (تحكيم الرجل)؛ يعني: الزوج (إن فرض) لها (المثل)؛ أي: صداق مثلها (ولا يلزمه) أن يفرض مهر المثل، بل إن شاء طلق ولا شيء عليه

فإن فرض الزوج المثل لزمها ولا يلزمه فرض المثل، وإن فرضه المحكم فلا يلزمه إلا برضاه فالحكم منوط بالزوج (أو إن فرض) المحكم من ولي أو أجنبي (المثل لزمهما) معًا ولا يلتفت لرضا الزوج كما لا يلتفت لرضاها، (و) إن فرض المحكم (أقل) من المثل (لزمه)؛ أي: الزوج (فقط) ولها الخيار (و) إن فرض (أكثر فالعكس) فالعبرة على هذا التأويل بالمحكم كما أن العبرة فيما قبله بالزوج (أو لا بد من رضا الزوج والمحكم) زوجة أو غيرها فإن رضيا بشيء لزمها، ولو أقل من المثل (وهو الأظهر) ".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (5/ 141)؛ حيث قال: "م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن تزوجها، ولم يسم لها مهرًا، أو تزوجها على ألا مهر لها فلها مهر مثلها إن دخل بها، أو مات عنها) ش: هاتان صورتان، الأولى أن يزوجها ولم يسم لها مهرًا؛ يعني: سكت عنه، والثانية على أن يتزوجها على أن لا مهر لها؛ يعني: يشترط أن لا مهر لها، وهي مسألة المفوضة، وهي التي فوضت نفسها بلا مهر فلها مهر مثلها إن دخل بها، أو مات عنها، وفي "الذخيرة": وكذا لو ماتت هي".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 24)؛ حيث قال: " (وإن فرض) الزوج (لها)؛ أي: للمنكوحة تفويضًا في حال صحته (صداق مثلها لزمها) الرضا به؛ لأنها بمنزلة الواهب للثواب، وهو إنما يلزمه قبول الثواب إن كان قدر القيمة، ولا يلزم الزوج أن يفرض المثل بل لا يلزمه أصل الفرض (وإن كان) ما فرضه (أقل) من صداق مثلها ولو أكثر من ربع دينار (فهي مخيرة) بين الرضا به إن كانت رشيدة وعدم الرضا به، وأما غير الرشيدة فلا يجوز لها الرضا بأقل من صداق المثل". وانظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 312).

وفي مذهب الشافعية لا يجب بالعقد مهر المثل، فلا يكون إلا بالوطء. يُنظر:"فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (2/ 68)، وفيه قال:"صح تفويض رشيدة بـ: زوجني بلا مهر فزوج لا بمهر مثل كسيد زوج بلا مهر ووجب بوطء أو موت مهر مثل حال عقد ولها قبل وطء طلب فرض مهر وحبس نفسها له".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 130)؛ حيث قال: " (وكل=

ص: 5747

الشافعي

(1)

وأحمد

(2)

؛ يعني: لها صداق مثلها إذا لم يُفرض.

قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهمْ - أَعْنِي: بَيْنَ مَنْ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ لِلزَّوْجِ إِذَا طَلَّقَ بَعْدَ طَلَبِهَا الْفَرْضَ، وَمَنْ لَا يُوجِبُ -: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]).

ومن هنا جاء الخلاف، فبعض العلماء كالحنابلة حمل ذلك على ما يتعلق بتفويض البُضع، لا تفويض المهر، ففي تفويض المهر يكون لها نصف الصداق.

قوله: (هَلْ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي سُقُوطِ الصَّدَاقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ سَبَبُ الطَّلَاقِ اخْتِلَافَهُمْ فِي فَرْضِ الصَّدَاقِ؟ أَوْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ سبَبُهُ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ؟ وَأَيْضًا فَهَلْ يُفْهَمُ مِنْ رَفْعِ الْجُنَاحِ عَنْ ذَلِكَ سُقُوطُ الْمَهْرِ فِي كلِّ حَالٍ؟ أَوْ لَا يُفْهَمُ ذَلِكَ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ، وَإِنْ كَانَ

= موضع لا تصح فيه التسمية أو خلا العقد عن ذكره حتى في التفويض ويأتي يجب مهر المثل بالعقد)؛ لأن المرأة لا تسلم إلا ببدل ولم يسلم البدل وتعذر رد العوض فوجب بدله كما لو باعه سلعة بخمر فتلفت عند المشتري".

(1)

يُنظر: "منهج الطلاب" لزكريا الأنصاري (ص 119)؛ حيث قال: "صح تفويض رشيدة بزوجني بلا مهر فزوج لا بمهر مثل كسيد زوج بلا مهر ووجب بوطء أو موت مهر مثل حال عقد ولها قبل وطء طلب فرض مهر وحبس نفسها له ولتسليم مفروض وهو ما رضيا به فلو امتنع منه أو تنازعا فيه فرض قاض مهر مثل علمه حالًّا من نقد بلد ولا يصح فرض أجنبي ومفروض صحيح كمسمى".

(2)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 26)؛ حيث قال: " (ويصح إبراؤها)؛ أي: الزوجة (منه)؛ أي: مهر المثل (قبل فرضه) لانعقاد سبب وجوبه وهو النكاح كالعفو عن القصاص بعد الجرح (فإن تراضيا)؛ أي: الزوجان الجائزا التصرف (ولو على) شيء (قليل صح) فرضه، ولها ما تراضيا عليه قليلًا كان أو كثيرًا عالمين كانا أو جاهلين

(وإلا) يتراضيا على شيء (فرضه حاكم بقدره)؛ أي: مهر المثل

(ويلزمهما)؛ أي: الزوجين (فرضه) لمهر المثل (كـ) ما يلزمهما (حكمه) رضيا به أو لا إذا فرضه حكم".

ص: 5748

الْأَظْهَرُ سُقُوطَهُ فِي كُلِّ حَالٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236])

(1)

.

هذا إذا حصل خلافٌ في أصل الصَّداق، لكن لو حصل على المعنى الآخر للتفويض فهذا هو رأي جمهور العلماء كما ذكرنا.

قوله: (وَلَا خِلَافَ أَعْلَمُهُ فِي أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ ابْتِدَاءً أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ).

وهنا يجب عليه المتعة، والمتعة فيها خلاف في هذه الحالة.

قوله: (وَقَدْ كانَ يَجِبُ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ لَهَا الْمُتْعَةَ مَعَ شَطْرِ الصَّدَاقِ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحِ غَيْرِ التَّفْوِيضِ، وَأَوْجَبَ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ - أَنْ يُوجِبَ لَهَا مَعَ الْمُتْعَةِ فِيهِ شَطْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الآيَةَ لَمْ تَتَعَرَّضْ بِمَفْهُومِهَا لإِسْقَاطِ الصَّدَاقِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَتْ لإِبَاحَةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْفَرْضِ، فَإِنْ كَانَ يُوجِبُ نِكَاحُ التَّفْوِيضِ مَهْرَ الْمِثْلِ إِذَا طُلِبَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَنْشَطِرَ إِذَا وَقَعَ الطَّلَاق، كَمَا يَنْشَطِرُ فِي الْمُسَمَّى؛ وَلهَذَا قَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ مَعَ خِيَارِ الزَّوْجِ).

هذا بالنسبة لتفويض البُضع الذي لم يُسم فيه الصداق أصلًا.

(1)

وهو مذهب الحنفية كما تقدم. يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 302، 303)؛ حيث قال: " (وأما) النوع الثاني: وهو ما يسقط به نصف المهر معنى، والكل صورة: فهو كل طلاق تجب فيه المتعة

والطلاق الذي تجب فيه المتعة نوعان: أحدهما أن يكون قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه، ولا فرض بعده أو كانت التسمية فيه فاسدة

(وأما) الذي تستحب فيه المتعة، فهو الطلاق بعد الدخول، والطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية، وهذا عندنا".

ص: 5749

قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا).

يعني: إنسانٌ عَقَد على امرأة، ولم يسمِّ الصداق، ولم يدخل بها، لكن النكاح صحيح؛ لأنه تم بعقدٍ صحيح، وهذا يترتب عليه أمور: الميراث، والعِدَّة، ثم يأتي بعد ذلك المهر، أما الميراث: فلا خلاف فيه بين العلماء؛ لأن هذا جاء التنصيص عليه في كتاب الله عز وجل؛ فالزوج إذا ماتت زوجته فله النصف إن لم يكن لها فرعٌ وارث، والمرأة إن لم يوجد فرعٌ وارث لها الربع، فإن وُجِد فلها الثمن، وإن تعددنا فيشتركْنَ في الثلث، هذا ما يتعلق بأمر الميراث، وليس فيه خلافٌ بين العلماء، وكذلك الحال بالنسبة للعِدة، إنما الخلاف فيما يتعلق بالمهر.

قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ وَالْأَوْزَاعِيَّ

(1)

قَالُوا: لَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ، وَلَهَا الْمُتْعَةُ وَالْمِيرَاثُ

(2)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

: لَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ

(1)

يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 327)؛ حيث قال: "فالذي اتفقا عليه: المفوضة إذا طلقت قبل الدخول بلا فرض بالإجماع، فالمتعة واجبة، وبه قال الأوزاعي".

(2)

يُنظر: "كفاية الطالب الرباني"، لأبي الحسن الشاذلي (2/ 89)؛ حيث قال:" (وإن مات) الزوج (عن) زوجته (التي لم يفرض لها) صداقًا (و) الحال أنه (لم يبن بها فلها الميراث منه) اتفاقًا؛ لأنه بالعقد صح التوارث بينهما (و) لكن (لا صداق لها) عليه على المشهور".

وفي المتعة يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 159)؛ حيث قال: "والمطلقات ثلاثة أقسام: مطلقة قبل الدخول وقبل التسمية فلها المتعة وليس لها شيء من الصداق".

وفي "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 88) قال: "أما لو طلقت قبل البناء وقبل الفرض فإنها تمتع".

(3)

ووجب عندهم أيضًا المتعة كذلك. يُنظر: "درر الحكام " لمنلا خسرو (1/ 342)، وفيه قال: " (و) وجب مهر المثل أيضًا (فيما لم يسم) المهر (أو نفى إذا لم يتراضيا على شيء وإلا)؛ أي: وإن تراضيا على شيء (فذاك) الشيء هو الواجب

(ومتعة) عطف على المهر المثل؛ أي: وجب متعة (لمفوضة) بكسر الواو وهي التي زوجت =

ص: 5750

وَالْمِيرَاث، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ

(1)

وَدَاوُدُ

(2)

، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَان جَمِيعًا

(3)

، إِلَّا أَنَّ الْمَنْصُورَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ

(4)

).

= بلا ذكر مهر أو على أن لا مهر لها (طلقت قبل الوطء)

".

أما مسألة الميراث فخالف فيه أبو حنيفة صاحبيه؛ إذ قال بعدم الميراث.

يُنظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 207)؛ حيث قال: " (وإذا مات الزوجان وقد سمى لها مهرًا فلورثتها أن يأخذوا ذلك من ميراث الزوج، وإن لم يسم لها مهرًا فلا شيء لورثتها عند أبي حنيفة وقالا لورثتها المهر في الوجهين) معناه المسمى في الوجه الأول ومهر المثل في الوجه الثاني".

(1)

يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (5/ 217)؛ حيث قال: " (أو) يزوج (غير الأب) كأخ يزوج موليته (بإذنها بلا مهر) سواء سكت عن الصداق أو شرط نفيه، فيصح العقد، ويجب به مهر المثل؛ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}، ولحديث ابن مسعود: "أنه سئل عن المرأة التي يتزوجها رجل ولم يفرض لها صداقًا، ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث".

(2)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 426)؛ حيث قال:"وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي والشافعي في رواية البويطي لها مهر مثلها والميراث وعليها عدة الوفاة، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور وداود والطبري".

(3)

يُنظر: "نهاية المطلب" للجويخي (13/ 105)؛ حيث قال: "إذا جرى تفويضٌ صحيح، ولم يجر مسيس ولا طلاق، حتى مات أحد الزوجين، ففي ثبوت مهر المثل قولان للشافعي وتردُّدٌ بيِّنٌ".

(4)

القول بعدم ثبوت المهر بموت أحد الزوجين قبل الفرض والوطء هو قول العراقيين.

يُنظر: "نهاية المطلب" للجويني (13/ 106 - 107)؛ حيث قال: "أما العراقيون فقد استدلُّوا، وجَرَوْا على المسلك المرتضى، وقَضَوْا بأن المفوضة لا تستحق بالعقد مهرًا؛ إذن لم يعرفوا قولًا آخر، وقطعوا بأنها تستحق المهر إذا مسها الزوج. قال الجويني: والقول الأول - أي: قول العراقيين - أفقه".

والذي عليه المتأخرون أن لها الصداق. يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 383)؛ حيث قال: " (وإن مات أحدهما)؛ أي: الزوجين (قبلهما)؛ أي: الفرض والوطء (لم يجب مهر مثل في الأظهر) كالطلاق (قلت: الأظهر وجوبه، والله أعلم) لأنه كالوطء في تقرير المسمى، فكذا في إيجاب مهر المثل في التفويض "ولأن بروع بنت واشق نكحت بلا مهر فمات زوجها قبل أن يفرض لها، فقضى لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمهر نسائها وبالميراث"".

ص: 5751

هذا هو المشهور عن الإمام مالك والمعروف، لكن أبا حنيفة وأحمد يريان أن لها المهر.

قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْأَثَرِ؛ أَمَّا الْأَثَرُ فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه).

كما في قصة المرأة التي مات عنها زوجها، دون أن يُذكَر صداق ولم يدخل بها فاستفتوا في ذلك الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فتوقف في ذلك بُرهةً من الزمن، فترددوا عليه، وقالوا: إن لم نجد الجواب عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين نجد؟ فما كان من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بعد أن اجتهد في الأمر وجمع ما يتعلق به إلَّا أنْ بيَّن أن لها المهر وعليها العدة ولها الميراث، وبيَّن أنه إنما عمل ذلك برأيه، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان غير ذلك فمن نفسه، وفي رواية:"فمني ومن الشيطان"

(1)

، فلما قضى في ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قام إلى ذلك أحد الصحابة فقال:(لقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما قضيت به في بروع بنت واشق)

(2)

.

إذن عبد الله بن مسعود قضى في أمرٍ من الأمور، فجاء قضاؤه موافقًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبح الحُجَّة في ذلك في الأصل إنما هو قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن

(3)

وأحمد

(4)

وابن حبان

(5)

وغيرهم، وهو حديث صحيح، وكونه ورد اختلافٌ في اسم الصحابي فإن ذلك لا يضر

(6)

؛ لأن الجهالة بالنسبة للصحابي لا تضره في

(1)

أخرجه النسائي (3358)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1939).

(2)

أخرجه الترمذي (1145)، وصححه الألباني كما سبق.

(3)

أخرجه أبو داود (2114)، وابن ماجه (1891). وسبق ذكر روايتي الترمذي والنسائي.

(4)

أخرجه أحمد (4099).

(5)

أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(9/ 408).

(6)

يُنظر: "نصب الراية" للزيلعي (3/ 202)؛ حيث قال: "ورواه البيهقي في "سننه" =

ص: 5752

هذا المقام، ومن هنا أيضًا يصبح هذا المذهب كما قال المُزني:(لو صح هذا الحديث قلت به)، وهو أيضًا الذي جعل الإمام الشافعي

(1)

يقول القول الآخر، إذن فهو حديث صحيح، فينبغي أن يؤخذ به.

قوله: (بأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: "أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي؛ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي: أَرَى لَهَا صَدَاقَ امْرَأَة مِنْ نِسَائِهَا، وَلَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّة، وَلَهَا الْمِيرَاثُ).

"من نسائها"؛ يعني: مثيلاتها، لها مهر المثل. "ولا وكس" يعني: لا عيب، "لا شطط"؛ أي: لا جور ولا ظلم

(2)

.

"وعليها العِدَّة ولها الميراث": لأنه زوجها بعقدٍ صحيح، وترثه أيضًا.

قوله: (فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سنان الْأَشْجَعِيُّ فقال: أَشْهَد، لَقَضَيْتَ فِيهَا).

هنا يأتي الخلاف، هل هو ابن يسار أو ابن سنان؟ والأرجح: أنه ابن سنان

(3)

، هذا الخلاف لا يؤثر على الحديث، والحديث قد صحَّ وقد

= وقال: قال الشافعي: لم أحفظه من وجه يثبت، فمرة يقال: معقل بن سنان، ومرة يقال معقل بن يسار، ومرة عن بعض أشجع، ولا يسمى، قال البيهقي: وهذا الاختلاف لا يؤثر في الحديث، فإن جميع هذه الروايات إسنادها صحيح، وفي بعضها ما دل على أن جماعة من أشجع شهدوا بذلك، فإن بعض الرواة سمى واحدًا، وبعضهم سمى آخر، وبعضهم سمى اثنين، وبعضهم لم يسم، وبمثله لا يرد الحديث".

(1)

يُنظر: "كفاية النبيه" لابن الرفعة (2/ 11)؛ حيث قال: "ونقل المزني عن الشافعي أنه قال: لو صح الحديث قلت به".

(2)

الوَكْسُ: النقصُ. انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 989).

(3)

قال البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 400): "وقال: فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني لها صداق نسائها، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار، وهذا وهم، والصواب معقل بن سنان كما رواه عبد الرحمن بن مهدي وغيره، والله أعلم".

ص: 5753

ذُكِر في كثيرٍ من كتب السنة، والصحابة رضي الله عنهم قد وهبهم الله سبحانه وتعالى ما لم يهب غيرهم، فعندهم من الإخلاص ما لا يوجد عند غيرهم، ولهم من المزايا ومن الفضائل ما يختصون به عن بقية الناس بعد رسل الله وأنبيائه؛ لأنهم قومٌ اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن يُعرَف لهم فضلهم، وأن يُقدَّروا في كل أعمالهم، والله صلى الله عليه وسلم قد رضي عنهم كما قال الله تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18]، وقال سبحانه وتعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} ؛ أي: الصحابة: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]، فالله سبحانه وتعالى قد زكاهم في مواضع في كتابه العزيز، وزكاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد لهم بالفضل وبالعدل وبالإحسان، وقال:"لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه"

(1)

.

والله سبحانه وتعالى قد وفَّقهم ووهبهم من صفاء الأذهان، ومن قوة الإخلاص واليقين ما لم يكن عند غيرهم، تربوا في مدرسة الرسول ونهلوا من علمه صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة وأخذوا من مشكاة النبوة، واللغة العربية هي سليقتهم، وقد ربطوا قلوبهم بالله سبحانه وتعالى بكل إخلاص، ففرغوا قلوبهم من كل ما يشغلهم عن طاعة الله - سبانه وتعالى -، فآثروا الباقية على الفانية، فلم تشغلهم الحياة الدنيا، ولم ينصرفوا إلى ملذاتها، وإنما وقفوا أنفسهم وأفنوا أعمارهم دفاعًا عن هذا الدين فرضي الله عنهم جميعًا.

"لَقضيتَ فيها"؛ يعني: إنك في قضائك هذا قد وُفِّقت وأصبت سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه عندما شهد له الصحابي يقول: فما فَرِح فرحًا أشد بعد فرحه بالإسلام، واستقرار الإيمان في قلبه بمثل هذا الفرح؛ أن يقضي بأمر يجتهد فيه فيأتي على وفق ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه نعمةٌ من الله، ومن المكارم الجليلة التي ذكرها العلماء في خصائص عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان ينزل القرآن مؤيدًا

(1)

أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2540) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".

ص: 5754

لرأيه، فكم من مسألة قال فيها قولًا فنزل القرآن مؤيدًا لرأيه، كما في الصلاة عند المقام، وكذلك في الحجاب، وفي أسرى بدر

(1)

، وفي غير ذلك من المسائل، فعندما يجتهد المرء في أمرٍ من الأمور، ثم تبين له أن الحق في هذا القول فأفتى به، ثم ثبت له أن ذلك قد وافق ما في كتاب الله وما في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فعليه أن يحمد الله سبحانه وتعالى، وهذا من توفيق الله سبحانه وتعالى للعبد أن يهديه الطريق المستقيم ويوفقه إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران"

(2)

.

قوله: (بقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ. خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ

(3)

).

ورواه ابن ماجه

(4)

وأحمد

(5)

والبيهقي

(6)

وغيرهم.

فهذا القضاء الذي قضى به عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه كان باجتهادٍ منه، وهو لم يُقدِم على الاجتهاد في المسألة إلا بعد إلحاحٍ وإعمال فكر ورويه

(7)

، فلما اجتهد في هذه المسألة وانتهى، فجاء ذلك على وفق سنةً رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قضى في بروع بنت واشق بشهادة هذا الصحابي الذي روى ذلك، وأيَّد هذه الفتوى.

وهذا له شواهد كثيرة: فأبو بكرٍ رضي الله عنه عندما جاءته الجدة تطلب

(1)

أخرجه مسلم (2399) عن ابن عمر قال: قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر".

(2)

أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716/ 15) عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم.

(5)

تقدَّم.

(6)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 401).

(7)

الرَّوِيَّة: النظر والتفكر. انظر: "معجم ديوان الأدب" للفارابي (4/ 58).

ص: 5755

الميراث، فنظر في كتاب الله فلم يجد شيئًا، ثم نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحفظ، إلى أن أخبره أحد الصحابة، وهو المغيرة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس فقضى بذلك

(1)

.

وهذا هو شأن الصحابة رضي الله عنهم: أنهم كانوا في أي أمر من الأمور إذا طُرِحت أمامهم مسألة فيعرض ذلك على كتاب الله، فإن وجد الحل في ذلك وقف عنده، وإن لم يجد رجع إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهي المرجع الثاني بعد كتاب الله، فإذا لم يجد اجتهد برأيه كما أوصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه حين أرسله إلى اليمن

(2)

.

قوله: (وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُعَارِضُ لِهَذَا فَهُوَ أَنَّ الصدَاقَ عِوَضٌ، فَلَمَّا لَمْ يُقْبَضِ الْمُعَوَّضُ لَمْ يَجِبِ الْعِوَض، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذه الْمَسْأَلَةِ: إِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ بِرْوَعَ فَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مَعَ السُّنَّةِ، وَالَّذِي قَالَهُ هُوَ الصَّوَاب، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).

وهذا هو المنهج الذي سار عليه الإمام الشافعي رحمه الله ووضعه أساسًا وقاعدةً في مذهبه، وأشار إليه في كتبه التي دونها بقلمه، وبيَّن أنه لو صحَّ حديثٌ لم يصح عنده فهو مذهبه، فهذا هو شأن العلماء العاملين،

(1)

أخرجه أبو داود (2894) وغيره عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: "جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق، تسأله ميراثها؟ فقال: ما لك في كتاب الله تعالى شيء، وما علمت لك في سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة، حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر

" الحديث. وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم" (497).

(2)

أخرجه أبو داود (3592)، وغيره، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ "، قال: أقضي بكتاب الله، قال:"فإن لم تجد في كتاب الله؟ "، قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو؛ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال:"الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله". وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(881).

ص: 5756

وهكذا غيره من الأئمة، ومن بعدهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فكل من يريد الحق يسعى إلى البحث عنه في كتاب الله وفي سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لأي إنسانٍ كائنٍ من كان مهما بلغ من العلم، ومهما أتاه الله من الفطنة، ومن قوة الأسلوب والعبارة، فليس له أن يخترع رأيًا أو أن يقول بقول يخالف فيه كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

(المَوْضِعُ الخَامِسُ فِي الأَصْدِقَةِ الفَاسِدَةِ).

هنا انتقل المؤلف رحمه الله إلى الأصدقة الفاسدة، ويعني بها المهور الفاسدة، وهي ما يُقدمه الزَّوجُ إلى الزوجة من مهر، وقد يطرأ عليه خلل، والأصل فيما يقدَّم أن يكون صحيحًا كالحال في البيع.

ولكن قد يكون المهر فاسدًا، والفسَاد علَى نَوْعَين:

- إمَّا أن يكون هذا المهر محرَّمًا عينًا، أي: هو في الأصل محرَّم، كما ذكر المؤلف أمثلة لذلك؛ كالخمر، والخنزير، والميتة، ويُلحق بذلك - أيضًا - الثمر التي لم يَبْدُ صلاحُها.

- أو يكون مجهولًا، أي: فيه جَهالة، والجهالة تؤثر في ذلك أيضًا؛ كما تؤثر في البيع كالغرر.

لكن أحكام البيع لا تنطبق تمامًا على أحكام النكاح في هذا الأمر؛ لأنَّ - كما مر معنا - من أمور النكاح فهي مبنية على المقاربة، وأما البيع فمُبادَلة مال بمال.

وأما ما يُدفع في المبيع من المال متقوّمًا مقدورًا على تسليمه، فهي حالة ينبغي أن تكون موجودةً في النِّكاح، أي: في المهر.

لكن الفرق بين النكاح والبيع: أنَّ في الصِّفات أو الخَلل؛ كوجود حُرمة، أو غرر، أو جهالة تؤثر في البيع وتفسده - سَرى على العوض، فيَسري ذلك على المُعوَّض، فيُرد الثمن.

لكن النكاح يختلف؛ لأنه ينعقد دون شرط المهر، وقد مر معنا أن

ص: 5757

ذلك هو القول الصحيح، وبيَّنا ضعف قول من يقول بأن المهر شرط صحةٍ في عقد النكاح، فلننتبه لذلك

(1)

.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

‌(الموضع الخامس في الأصدقة الفاسدة

وَالصَّدَاقُ يَفْسُدُ إِمَّا لِعَيْنِهِ، وَإمَّا لِصِفَةٍ فِيهِ مِنْ جَهْلٍ أَوْ عُذْرٍ).

إمَّا لعينه: بأن يكون فاسدًا من الأصل.

(فَالَّذِي يَفْسُدُ لِعَيْنِهِ، فَمِثْلُ الخَمْرِ وَالخِنْزِيرِ).

لأنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى بيَّن حُرمة الخمر، فقال:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].

(وَالخِنْزِيرِ).

قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، وقال عز وجل:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145]، ويُلحَق بذلك - أيضًا - الميتة، وكل ما هو محرَّمٌ لعينه، فلا يجوز أن يُقدَّم مهرًا في النكاح

(2)

.

(وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَمَلَّكَ)

(3)

.

(1)

سبقت هذه المسائل.

(2)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 22)، وفيه قال:"وأجمع العلماء: أنَّ الخمر والخنزير لا يكونان مهرًا لمسلم، وكذلك الغَرَر والمجهول وسائر ما نُهي عن ملكه ومُلك على غير وَجْهِه وسِنِّه".

(3)

اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز إلا المهر الذي يَصِحُّ امتلاكه، واختلفوا في أقله. وخالف الظاهرية فقالوا بجواز أن يكون مِثل حبة حنطة أو شعير؛ لأن كل ما جاز أن يُملك بالهبة أو بالميراث - جاز أن يكون صداقًا، وأن لم يَصلح ثمنًا في البيع. =

ص: 5758

كذلك أيضًا (ما لَا يجوز أن يُتملك) كأنْ يُقدم حبة قمحٍ مثلًا، أو حبة شعير، أو أَرُزًّا، أو غير ذلك مما لا قيمة له؛ ولذلك يقولون في البيع: يُشترط في المبيع أن يكون مالًا؛ وكذلك النكاح كما قال تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، فنصَّ الله سبحانه وتعالى على المال.

ولعلَّ الكلام يأتي معنا عن قضية مَن تزوج امرأة وجعل مهرها طلَاق ضَرَّتها، أي: زوجته، وهذا أمرٌ لا ينبغي.

(وَالَّذِي يَفْسُدُ مِنْ قِبَلِ العُذْرِ وَالجَهْلِ، فَالأَصْلُ فِيهِ بِالبُيُوعِ).

هنا يريد المؤلف أن يقول: إن هناك أمورًا أخرى قد يكون الخلل

= انظر في مذهب الأحناف: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 136)، وفيه قال:"قال رحمه الله: (وأقله عشرة دراهم)، أي: أقل المهر عشرة دراهم؛ سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة، حتى يجوز وزن عشرة تبرًا، وإن كانت قيمته أقل بخلاف نصاب السرقة".

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 302)، وفيه قال:" (وفسد) النكاح (إن نقص) صداقه (عن ربع دينار شرعي)، (أو) عن (ثلاثة دراهم) فضة (خالصة) من الغش".

وانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج" للهيتمي ("376)، وفيه قال:" (وما صحَّ مبيعًا) يعني: ثمنًا، إذ هو المشبه به الصداق بأن وجدت فيه شروطه السابقة - (صَحَّ صداقًا)، فتلغو تسمية غير متمول، وما لا يقابل بمتمول؛ كنواة، وترك شفعة، وحَد قذف، بل وتسمبة أقل متمول في مُبعضة ومشتركة؛ إذ لا بد فيهما من تسمية ما يُمكن قسمته بين المستحقين بأن يَحصل لكل أقل متمول".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 6): " (ولا يتقدر) الصداق؛ (فكلُّ ما صَحَّ ثمنًا) في بيع (أو أجرة) في إجارة (صح مهرًا، وإن قلَّ)؛ لحديث: "التمس، ولو خاتمًا من حديد"

، (ولو على منفعة زوج أو) منفعة (حُر غيره)، أي: الزوج (معلومة)، أي: المنفعة (مدة معلومة؛ كرعاية غنمها مدة معلومة)، (أو) على (عمل معلوم منه)، أي: الزوج (أو) من (غيره؛ كخياطة ثوبها، ورد قنها)، أي: الزوجة (مِن محل معين)

، (و) كأن يصدقها (تعليمها)

".

وانظر في مذهب الظاهرية: "المحلى بالآثار" لابن حزم (9/ 91)، وفيه قال:"وجائز أن يكون صداقًا كل ما له نِصف قَلَّ أو كثر، ولو أنه حَبَّة بُر، أو حَبَّة شعير، أو غير ذلك".

ص: 5759

فيها لوجود جهالة، أو غَررٍ فيها، أو عدم قدرة على تسليمها؛ كبعير شارد، أو سمكٍ فِي الماء، أو حَمْلٍ في بطن ناقة أو شاة، أو طائر في السماء، فكلها أمورٌ لا يمكن تسلُّمها

(1)

.

إذًا، هذه عيوبٌ مؤثرة.

ومن خلال هذه المقدمة نلحظ أمرًا مهمًّا، وهو أنَّ المؤلف في هذه المسائل التي يفسد فيها كالمهر، إنما ذكر أمورًا محرَّمة وأخرى مجهولة، ولا ننسى أن هذه الشريعة الغرَّاء المُحْكَمة المُتقَنة بيَّنت لنا الحلَال، ودعَتْنا إلى الأخذ به، وأوضحت الحرام وحذَّرتنا من ارتكابه وتناوله، والله سبحانه وتعالى طَيِّبٌ لا يقبل إلا طيبًا

(2)

، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"إنَّ الحلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحرام بَيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مُشتبهات"

(3)

، وفي رواية:"مُشَبَّهات، لا يَعلمهن كثير من الناس؛ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لديته وعِرضه، [أي: حفظ دينه وصان عرضه]، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام"

(4)

.

فالمسلم مطالبٌ بأن يبتعد عن كل محرَّم ولَا يتناوله، سواءً كان هذا

(1)

ستأتي.

(2)

معنى حديث أخرجه مسلم (1015/ 65)، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيُّها الناس، إنَّ الله طَيِّب لا يَقبل إلا طَيِّبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)}، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} "، ثم ذكر الرجل يُطيل السفر أشعث أغبر، يَمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومَطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأَنَّى يُستجاب لذلك؟! ".

(3)

أخرجه قريبًا من هذا اللفظ مسلم (1599/ 107)، عن النعمان بن بشير، قال: سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول - وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه -: "إنَّ الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مُشتبهات لا يَعلمهن كثيرٌ من الناس

"، الحديث.

(4)

أخرجه البخاري (52)، عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلالُ بَيِّنٌ، والحرام بين، وبينهما مُشبهات لا يَعلمها كثير من الناس؛ فمَن اتَّقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومَن وقع في الشبهات؛ كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه

"، الحديث.

ص: 5760

الحرام مالًا مغصوبًا، أو تعدَّى فيه على مال يتيم، أو أخذه عدوانًا وظلمًا، أو أخذه عن طريق الربا أو الغش، أو غير ذلك من الأمور المحرَّمة الكثيرة.

وقد قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] فالحلال: ما أحلَّه الله سبحانه وتعالى، والحرام: ما حرَّمه الله سبحانه وتعالى، وليد لأحدٍ أن يُحِلَّ أمرًا لم تُحله هذه الشريعة، ولا أن يُحرِّم ما لم تحرمه الشريعة، بل أباحته، ومَن يفعل ذلك فقد ارتكب منكرًا، وأخطر من ذلك مَن يعتقده.

ولذلك جاء في قصة عدي بن حاتم في قول الله سبحانه وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"لسنا نعبدُهم"، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"أليسوا يُحلون ما حرَّم الله فتُحلونه، وبُحرمون ما أحلَّ الله فتُحرمونه؟ ". قال: بلى، قال:"فتلك عبادتهم"؛ فهذا مَن يعتقد ذلك

(1)

.

لكن حديثنا عمَّن يقدم مهرًا حرامًا، وهذا لا يجوز للمسلم.

ولا ننسى - أيضًا - أننا في هذا المقام نُذَكَّر بأن يحاول المرء أن يُؤسس بيتًا يأوي إليه، ويسكن فيه بطمأنينة وراحة، وسيتغذى فيه هو وزوجه التي سيُنجَب منها الأولاد بإذن الله سبحانه وتعالى؛ فينبغي أن يتغذى الكل على الحلال، وعلى طاعة الله سبحانه وتعالى؛ حتى تنزل السعادة في هذا البيت؛ فلا يَشقى أهله، بل يعيشون عيشةً كريمة مطمئنة، فيوفَّق المرء في إنجاب أولادٍ صالحين؛ لأن الإنسان إذا اختار المرأة الصالحة طبَّق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

أخرجه الترمذي (3095)، عن عدي بن حاتم، قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صَليب من ذهب. فقال: "يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن"، وسمعته يقرأ في سورة (براءة):{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} "، قال: "أَمَا إنهم لم يكونوا يَعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أَحَلُّوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حَرَّموا عليهم شيئًا حَرَّموه"، وحسنه الألباني في: "غاية المرام" (6).

ص: 5761

"فاظفَرْ بذاتِ الدِّينِ"، أخرجه البخاري في "صحيحه"

(1)

.

ثم أتبع ذلك - أيضًا - بأنَّ ما قُدِّم مِن مهرٍ حلال، وما وُجَّهت إليه المرأة من طرق الخير - به يتحقق الخير والسعادة للزوجين معًا.

فليحرص المسلم في كل أموره أن يكون ما يأكله أو يشربه أو يلبسه حلالًا، وينبغي له أن يتجنب الحرام، ويأتي في مقدمة ذلك: ما يُقَدِّمه المسلم في مثل هذا المقام وهو المهر، ولنتابع المسائل الواردة في ذلك.

(وَفِي ذَلِكَ خَمْسُ مَسَائِلَ مَشْهُورَةٍ).

قال المؤلف: (وَفِي ذَلِكَ خَمْسُ مَسَائِلَ مَشْهُورَةٍ)؛ لأن هناك مسائل أخرى لم يَعرض لها، ولعل منها ما ذكرنا آنفًا؛ كالذي يريد أن يتزوج امرأة فيقول: مهركِ طلاق زوجتي أو إحدى زوجاتي، وهذا قد يحصل من بعض الناس الجهلة، وهذا لا ينبغي

(2)

. فالمؤلف رحمه الله اختار مسائل اعتبرها أمهات الباب؛ فاقتصر عليها، وترك غيرها ليأتى الإنسان اللبيب فيُلحق ما لم يُذكر بما ذُكر.

(1)

أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466/ 53)، عن أبي هريرة.

(2)

مذهب الشافعية على عدم الجواز، انظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 217)، وفيه قال:" (ولا) يجوز (جعله) أي: الزوج (طلاق أخرى، أو جعل بُضع أَمَتِه صداقًا) لمنكوحة فيهما".

وفي مذهب الحنابلة روايتان، انظر:"الكافي "لابن قدامة (3/ 60)، وفيه قال:"وإن تزوجها على طلاق زوجته الأخرى لم يَصِحَّ الصداق. وعنه: يصح؛ لأن لها فيه غرضًا صحيحًا، أشبه عِتق أبيها، فإن فات طلاقها بموتها، فقال أبو الخطاب: قياس المذهب: أنَّ لها مَهر الميتة؛ لأن عوض طلاقها مهرها، فأشبه قيمة العبد، ويحتمل أن يَجب مهر المثل؛ لأن الطلاق لا قيمة له ولا مثل".

ومشهور المذهب على عدم الجواز، انظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 10)، وفيه قال:"و (لا) يصح أن يصدقها (طلاق زوجة له، أو) أن يصدقها (جعله) أي: طلاق ضَرَّتها (إليها إلى مدة) ولو معلومة".

ولم نقف على هذه المسألة في مذهبي الحنفية والمالكية، لكن أصولهما تقتضي عدم الجواز، إذ منعوا ما هو مباح من النكاح على تقديم منافع وخدمات مِن تَعليم الزوجة ونحوه، فما هو دونه من باب أولى.

ص: 5762

(المَسْأَلَةُ الأُولَى: إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ ثَمَرَةً لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا).

نسأل الله العافية، هذا كلام المؤلف وإن لم ينص على أن الزوج المُصدق مسلم، فقصده طبعًا المسلم؛ ولذلك عندما نأتي إلى بعض كتب الفقه نجد أنهم ينصون على ذِكر المسلم، والمؤلف هنا لم يذكر؛ لأنه يتحدث عن المسلمين، فالأمر معروف.

أما غير المسلم فلا يهمه أن يُقدِّم خمرًا أو غيره؛ لأنه إذا فسد في الأصل وهو (العقيدة)، كما قال الله:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]، فما بعدها يفسد تبعًا، وإن كان يُعاقَب على ترك الفروع زيادة.

أما المسلم فهو الذي ينبغي أن يكون ورِعًا مُتَّقيًا لله سبحانه وتعالى، ملتزمًا حدوده، مبتعدًا عن محارمه.

(أَوْ ثَمَرَةً لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا).

كذلك أيضًا: الثمرة التي لم يَبْدُ صلاحُها، أي: لم تنضج بعد، فلا يجوز له أن يقدِّمها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يَبدو صلاحه

(1)

، ولما سئل قال:"أن تحمَرَّ أو تصفَرَّ"

(2)

، يعني: أن تنضج

(3)

، سواءً كانت فاكهة أو حبوبًا؛ كالقمح إذا استوى على سنبله، وهذا أمرٌ معروفٌ عند الجميع.

(1)

أخرجه البخاري (1487)، ومسلم (1536/ 54)، واللفظ له، عن جابر.

(2)

أخرج البخاري (2197)، واللفظ له، ومسلم (1555)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنَّه نَهى عن بيع الثمرة حتى يَبدو صلاحها، وعن النَّخل حتى يزهو"، قيل: وما يزهو؟ قال: "يَحْمارُّ أو يَصفارُّ".

(3)

قال ابن الملقن: "أراد بقوله: (تحمار وتصفار) ظهور أوائلهما، وإنما يقال: تَفعال في اللون غير المتمكن إذا كان يَتلون مرة ومرة ألوانًا، وأنكره بعضُ أهل اللغة، وقال: لا فَرق بين تحمر وتحمار". انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح"(14/ 485).

ص: 5763

(أَوْ بَعِيرًا شَارِدًا).

كذلك البعير الشارد

(1)

: كيف يقدَّم مهرًا وهو مجهول لا يَضمن أن يُرَدَّ أو يَظل مفقودًا؟!

كذلك ما كان في بطن الشاة أو الناقة؛ لأنه لا يَدري أَيُولد حيًّا أم ميتًّا؟ ولا يُدرى نوعه، وكذلك الطير في السماء؛ لأنه قد لا يَرجع، والسمك في الماء

، فهذه كلها فيها ضررٌ وجهالة.

ولكن لننتبه أن المؤلف في هذا المقام ركَّز في مسألته على المحرَّمات لا المجهولات، وأثار في آخر المسألة قضيةً تَرَدَّد فيها، ولم يَظهر مذهبه فيها، وسنتكلم عنها.

(فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ).

وأحمد كذلك

(2)

.

(1)

(شَرَد) البعيرُ: نَفَر، وبابه: دَخَلَ. انظر: "مختار الصحاح" للرازي (ص: 163).

(2)

انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 11)، وفيه قال:"وإن تَزَوَّجها على خمر أو خنزير أو مال مَغصوب صَحَّ النكاح نصًّا، وهو قول عامة الفقهاء؛ لأنه عقدٌ لا يفسد بجهالة العوض، فلا يفسد بتحريمه؛ كالخلع، ولأن فساد العوض لا يزيد على عدمه ولو عدم فالنكاح صحيح، فكذا إذا فسد (ووجب) للزوجة على زوجها (مهر المِثل)؛ لاقتضاء فساد العوض رد عوضه، وقد تَعَذَّر لصحة النكاح فوجب رَدُّ قيمته وهي مهر المثل، وكما لو تلف المبيع بيعًا فاسدًا بيد مشتريه".

وفي مذهب الشافعية: يَجب لها مَهر المثل أيضًا. انظر: "فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (2/ 67)، وفيه قال:"لو" نَكحها بما لا يَملكه؛ "كخمر

"، وَجَبَ مَهر مثل؛ لفساد الصداق بانتفاء كونه مالًا، أو مملوكًا للزوج؛ سواء أكان جاهلًا بذلك أم عالمًا به، "أو "نكحها "به"، أي: بما لا يملكه"، وبغيره بطل فيه، "أي: فيما لا يملكه" "فقط"، أي: دون غيره عملًا بتفريق الصفقة، "وتتخير" هي بين فسخ الصداق وإبقائه، فإن فسخته فمَهر مِثل "يَجب لها"، وإلا "أي: وإن لم تفسخه"، فلها مع المملوك حصة غيره منه، "أي: مِن مَهر مثل، "بحسب قيمتها".

ص: 5764

("العَقْدُ صَحِيحٌ إِذَا وَقَعَ فِيهِ مَهْرُ المِثْلِ"

(1)

).

يعني: العلماء في هذا المقام انقسموا إلى قسمين من حيث الجملة:

- فريق منهم - وهم الأكثر - قالوا: إن العقد صحيح، والمهر غير صحيح، لأنه مُحَرَّم؛ فيُرجع إلى رأي المِثل.

- وفريق يتمثل في الإمام مالك ومَن وافقه، فقد فَرَّق رحمه الله بين حالتين: بين أن يُقدم هذا المهر قبل العقد، وبين أن يُقدم بعده؛ فإن كان قبله فلا يجوز، وإن كان بعده فيجوز، فكأنه لاحظ جانب التيسير.

(وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَان

(2)

، إِحْدَاهُمَا: فَسَادُ العَقْدِ وَفَسْخُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَه، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ

(3)

).

إذًا، الإمام مالك له روايتان:

- الرواية الأولى: أن العقد يفسد مطلقًا؛ وهي أولى أن يوقف عندها في المذهب، وإن كنا نُضَعِّف هذا القول، لكن هو أولى مِن التَّفرِيق؛ إذْ لَا داعي للتَّفريق ولا حُجة له، لكن القول الأول في المذهب هو أنه إذا كان المهر حرامًا فإنه يَسري للعقد، أي: يصل إليه، فيُفسده.

فكأنَّ الإمام مالكًا أو المالكية في ذلك نَزَّلوا النكاح منزلة البيع

(4)

؛ لأن البيع - كما هو معلوم - إذا فسد العِوض وهو المبيع فَسَد المُعوَّض، وهو الثمن، فيُرجع ويُرد؛ وهذه قاعدة معروفة في البيع، نصُّها: (إذا فَسَد

(1)

انظر: "مختصر القدوري"(ص: 147)، وفيه قال:"وإن تزوج المسلم على خمر أو خنزير، فالنكاح جائز، ولها مهر مثلها".

(2)

انظر: "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 714)، وفيه قال:"هل يَفسد النكاح بفساد المهر، فيه روايتان: إحداهما: أنه لا يَفسد، والثانية أنه يَفسد".

(3)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 466)، وفيه قال:"وقال أبو عُبيد: لا يُكتب النكاح في شيء مِن ذلك؛ ذَكره في الخمر والخنزير".

(4)

سبق.

ص: 5765

العوض رُدَّ المُعوَّض الذي هو الثمن)

(1)

.

(وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِنْ دَخَلَ ثَبَتَ، وَلَهَا صَدَاقُ المِثْلِ

(2)

).

إذًا هذه روايةٌ أخرى في المذهب فُرِّق فيها بين الدخول وبعده.

(وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ حُكْمُ النِّكَاحِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ البَيْعِ، أَمْ لَيْسَ كَذَلِكَ؟).

أما الذين قالوا بمنع ذلك - وهم المالكية - فإنهم قاسوا ذلك على نكاح الشِّغار

(3)

.

ونكاح الشِّغار: هو أن يُزوِّج المرء ابنته لآخر على أن يُزَوِّجه ابنته ولا صَدَاق بينهما؛ فهذا نكاحٌ لا يجوز، وسُمِّي نكاح الشغار قياسًا على الكلمة، وذلك لقُبح حاله

(4)

.

(1)

انظر في بيان هذه القاعدة: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود (3/ 7)، وفيه قال:"فمتى فَسد العوض رجع إليه، كما في النكاح، متى فَسد المُسَمّى يَرجع إلى مهر المثل؛ لأنه موجب أصلي لا ينفك عنه النكاح إلا بتسمية غيره".

(2)

هذه الرواية هي مشهور المذهب. انظر: "التاج والإكليل" للمواق (5/ 82)، وفيه قال:" (وما فسد لصداقه) فيها؛ مِن نكاح على آبقٍ، أو شارد، أو جنين في بَطن أمه، أو بزرع لم يَبد صلاحه، أو على دار فلان فسخ النكاح في ذلك كله قبل البناء، وثَبت بعده، ولها صداق المثل، وتَرُدُّ ما قَبضت من آبقٍ، أو شارد وغيره".

وانظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 238).

(3)

انظر: "الشرح الصغير" للشيخ الدردير (2/ 385)، وفيه قال:" (ووجه الشغار) فيفسخ قبل البناء، ويَثبت بعده بصداق المثل. وسيأتي أنه: ما وقع على أن: تُزوجني بنتَك - مثلًا - بكذا على أن أُزوجك بنتي بكذا. (ككل ما) أي: نكاح (فسد لصداقه)، أي: لخلل فيه؛ ككونه لا يُملك شرعًا؛ كخمر وخنزير، أو لكونه لا يُنتفع به. أو غير مَقدور على تسليمه، أو مجهولًا، أو نحو ذلك فيفسخ قبل البناء فقط، وَيثبت بعده بمهر المثل".

(4)

انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص: 47، 48)، وفيه قال: "نكاح الشِّغار بكسر الشين: أي: زَوَّجتُه ابنتي على أن يُزَوِّجني ابنته

، على أن يكون البُضع بالبُضع، سُمِّي به؛ لأن كل واحد منهما يَشغر، أي: يرفع الرِّجل للوطء".

ص: 5766

وأما الذين أجازوا ذلك فإنهم قالوا: لو كان العِوض - وهو المهر - صحيحًا ألا يصح العقد؟ قيل: بلى، قالوا: فكذلك، أنتم ترون أنهم قاسوا العِوض الفاسد على العوض الصحيح، وهذا قياس مع الفارق، لكنهم يريدون أن يُرَتِّبوا علَى ذلك أمورًا؛ قالوا: فكذلك الحال هنا، أليس إذا كان المهر مجهولًا أو مغصُوبًا يصح العقد بالاتفاق؟ قالوا: بلى، وكذا قال المالكية.

إذًا، هناك فرق بين العقد وبين المهر، فلا ينبغي أن يكونا بشيءٍ واحد. ولذلك فرَّقوا بين البيع وبين غيره

(1)

.

(فَمَنْ قَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ البَيْعِ - قَالَ: يَفْسُدُ النِّكَاحُ بِفَسَادِ الصَّدَاقِ

(2)

).

لأنه إذا فسد العوض فإنه يُرد المعوَّض، كما مر معنا، فإذا كان البيع فاسدًا وجب أن يُرَدَّ الثمن إلى صاحبه، وهذا أمرٌ مُسَلَّم.

قالوا - أي: الفريق الآخر الجمهور: لكن ذلك لا ينطبق على النكاح.

قيل: لماذا؟ قالوا: لأنه إذا فَسَد العِوض فيه فلا يَفسد ما يقابل المعوَّض وهو العقد؛ فالعقد هنا صحيح لا يتغير، كما لو لم يكن هناك مهرٌ أصلًا، وهذا أعظم من ألا يكون هناك مهر؛ فالنكاح إذًا يصح خلافًا لمن شَكَّ في هذه المسألة، أو خلافًا للقول الضعيف الذي يرى أن المهر شرط .. فعلى هذا يصح أن يُعقد النكاح دون ذِكر المهر

(3)

.

وعليه، قالوا: كذلك هنا، فنعتبر أن المهر كأن لم يكن، فنُصححه ثم نرجع في هذه الحالة إلى مهر المثل؛ وهو الذي يتقرر في هذه الحالة.

(1)

سبق بيان هذا.

(2)

سبق.

(3)

سبق ذكر هذا.

ص: 5767

(كمَا يَفْسُدُ البَيْعُ بِفَسَادِ الثَّمَنِ).

ونحن نقول: هذا قياسٌ مع الفارق، لأن البيع يفسد بفساد الثمن، لأن الثمن إذا فسد سَرَى على المبيع، وإذا فسد البيع رُد الثَّمن أيضًا. لكن الحال هنا مختلفةٌ تمامًا، فإن العقد هنا لا يفسد، ودعوى الفساد من المالكية غير مُسلَّمة، والقياس على نكاح الشغار صورته مختلفة، وجاء فيه نصّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يقاس عليه هذا الأمر

(1)

.

(وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ صِحَّةُ الصَّدَاقِ، بِدَلِيلِ: أَنَّ ذِكْرَ الصَّدَاقِ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ العَقْدِ).

لقد أحسن المؤلف، وهذا ما ذكرناه بأن ذكر الصداق ليس شرطًا في صحة العقد، ومن قال ذلك فقوله ضعيف

(2)

.

وقصة المفوَّضة معلومة ومَرَّت معنا، حيث بيَّنا فيها أنَّ المفوَّضة - والأشهر المفوِّضة - على نوعين:

- تفويض بُضع، وهذا لا يُذكر فيه الصداق أصلًا.

- وتفويض المَهر، وهو الذي لا يُذكر فيه الصداق، لكنه لا يُحدَّد

(3)

.

فيجوز هنا أن يكون نكاحٌ دون ذِكر الصداق، والرسول صلى الله عليه وسلم قد زوَّج امرأة برجلٍ ولم يَذكر صداقًا

(4)

.

(1)

انظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 223)، وفيه قال:"ولنا: أنه نكاح لو كان عوضه صحيحًا كان صحيحًا، فوجب أن يكون صحيحًا وإن كان عوضه فاسدًا؛ كما لو كان مغصوبًا أو مجهولًا، ولأنه عَقد لا يفسد بجهالة العوض، فلا يفسد بتحريمه؛ كالخلع، ولأن فساد العوض لا يزيد على عدمه، ولو عدم كان العقد صحيحًا، فكذلك إذا فسد، وما حكي عن مالكٍ لا يصح؛ فإن ما كان فاسدًا قبل الدخول، فهو بعده فاسد؛ كنكاح ذوات المحارم، فأمَّا إذا فسد الصداق لجهالته أو عدمه، أو العجز عن تسليمه، فإن النكاح ثابت، لا نعلم فيه خلافًا".

(2)

سبقت هذه المسائل.

(3)

سبق.

(4)

تقدَّم.

ص: 5768

فالأمر قد جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت - أيضًا - أنه زوَّج أخرى بِنَعْلَيْن، وقال:"أَتَرْضَين من نفسكِ ومالكِ بنعلين؟ ". ما قيمة النعلين؛ وقالت: "نَعَمْ"، فأجاز صلى الله عليه وسلم ذلك

(1)

.

(قَالَ: يَمْضِي النِّكَاح، وَيُصَحَّحُ بِصَدَاقِ المِثْلِ

(2)

).

لِمَا تقَرَّر عندنا أن هناك عقدًا ومهرًا؛ ويصح العقد ما لم يحصل فيه أيُّ خلل، وأن الخلل إنما حصل في المهر، فقلنا بفساده .. فعلى هذا يمكن تصحيحه، وذلك بالقاعدة الثابتة التي التقى حولها العلماء بأنه إمَّا أن يُرجع إلى القيمة أو إلى مهر المِثل، وحينئذٍ يُرجع إلى القيمة، وهي مَهر المثل، ويرتفع الإشكال، ويُبعَد المحوَّم، فيكون العقد صحيحًا بحمد الله، وما قُدِّم إنما هو صحيحٌ أيضًا.

(وَالفَرْقُ بَيْنَ الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ ضَعِيفٌ).

أي: أنَّ الفرق بين الدخول وقبله ضعيف، لأن التفرقة تحتاج إلى دليل، وقد حَلَّ هنا ولم يَحل؛ لارتباطه بالعقد، فهو يُفسده قبل الدخول وبعده، فلماذا فرَّقوا بينهما؟ إلا أن يكون تفريقٌ بلا مفرِّق ولا دليل، فينبغي أن يُرَدَّ ذلك القول.

وهذا من إنصاف المؤلف رحمه الله حيث إنه لم يتعصب لمذهبه، بل يرد عليه.

(وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ: أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الصَّدَاقِ المُحَرَّمِ العَيْنِ، وَبَيْنَ المُحَرَّمِ لِصِفَةٍ فِيهِ، قِيَاسًا عَلَى البَيْعِ)

(3)

.

(1)

أخرج الترمذي (1113)، عن عاصم بن عبيد الله، قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه:"أن امرأة من بني فزارة تَزَوَّجت على نَعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرَضِيتِ مِن نفسك ومالكِ بنعلين؟! ". قالت: نَعم، قال: فأجازه"، وضعفه الألباني في:"إرواء الغليل"(1926).

(2)

وهو مذهب الجمهور، كما سبق.

(3)

كتفريقهم بين النكاح الذي الصَّداق فيه محرم، والنكاح الذي فيه جهالة المَهر، وهو ما يُعرف بنكاح التفويض؛ فمنعوه في الأول، وأجازوه في الثاني، كما سبق.

ص: 5769

من الأسس المهمة لكل فقيهٍ يَدرس مذهبًا مِن المذَاهب أن يعرف أصول ذلك المذهب، ونجد أن المذاهب الأربعة تلتقي في أصولها الكبرى، فهي تلتقي عند الأخذ بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإجماع، والقياس - وإن اختلفوا فيما يتعلق بالرأي بسطًا وتقليلًا، لكنهم يختلفون - مثلًا - في المصالح المرسلة، وفي قول الصحابي

(1)

.

إذًا، كل مذهبٍ من المذاهب قد ينفرد بأصلٍ من الأصول، فينبغي على الفقيه والأصولي عند دراسة مذهبٍ من المذاهب أن يعرف أُصوله؛ كي يُطل عليه ويكون عنده مدخل يسير في ضوئه؛ لأن الأصول تُقرِّب فهم المذهب وأصول فقهائه وفروعه، وتجعل الدارس يقف على خفايا وأسرار هذا المذهب، أما لو دخل مذهبًا من غير طريق معروف، ومن غير أبوابه وأصوله ونحو ذلك مما ذكرنا؛ فإنه سيَتِيه في مسائله ولا يستطيع ضبطها.

إذًا، المؤلف هنا لم يَعرف رأي المالكية في المسألة، لكن لأنه عرف أصولهم، فقال: إن أصول المذهب تقتضي التفرقة بين أن يكون المهر محرَّمًا لعينه، وبين أن يكون مجهولًا، أو أن يكون - أيضًا - غير مقدورٍ على تسليمه، أو أن يُعدم - أيضًا - قبل تسليمه. وهذا الذي قاله المؤلف هو الصحيح، وهذه المسألة - فيما - أعلم موضع اتفاق بين الأئمة الأربعة

(2)

.

(1)

سبق تحرير هذه المسائل.

(2)

أي: التفرقة بين المَهر المحرم، والذي يطرأ عليه شيء من جهالة ونحوها.

لكن الجمهور أجازوه؛ باعتبار: أنَّ فساد المهر عندهم لا يُوجب فَساد العقد، أمَّا المالكية قالوا بفساده، كما أنَّهم قاسوه على نكاح الشِّغار، كما سبق.

قال الماوردي: "إذا عقد النكاح بمهر مَجهول أو حرام - كان النكاح جائزًا، ولها مهر مثلها، وهو قول جمهور العلماء.

وقال مالك في أشهر الروايتين عنه: "إنَّ النكاح باطل بالمهر الفاسد، وإن صَحَّ بغير مهر مُسمى؛ استدلالًا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نِكاح الشغار؛ لفساد المهر فيه". قال: "ولأنه عقد نكاح بمهر فاسد، فوجب أن يكون باطلًا؛ كالشغار، ولأنه عَقد معاوضة ببدل فاسد، فوجب أن يكون باطلًا؛ كالبيع". =

ص: 5770

إذًا، هناك فرق بين الجهالة وبين ما هو مُحَرَّمٌ لعينه؛ ففيما يتعلق بالجهالة لم يَقل أحدٌ بأن العقد يَفسد

(1)

، لكن عند المالكية قالوا بفساد العقد

(2)

.

فأصول مذهب مالك - بل وفروعه - تلتقي مع الأئمة الثلاثة الآخرين في أن العقد هنا لا يَفسد، وبذلك يكون هناك فرق في المذهب المالكي بين مسألة أن يكون المهر محرَّمًا لعينه وبين أن يكون مجهولًا؛ فهم في الجهالة يَنضمون إلى بقية الأئمة، فيوافقونه، فيكون الأئمة الأربعة قد التقوْا في هذه المسألة، لكن هذا - أيضًا - يتطلب أنه عند الجهالة يُرجع إلى مَهر المثل، لكن قصدي أن المالكية لا يُبطلون العقد بهذه الصورة، فلننتبه، فهذه أوردها المؤلف دون أن يبيِّنها، وهي مِن القضايا التي ينبغي - أيضا - أن يكون دارس هذا الكتاب أو مَن يُدَرِّسه ملاحظًا لها، كذلك الإيماءات والإشارات التي ينبِّه إليها المؤلف، وهو قد أعطانا إشارة، لكنها إشارةٌ صحيحة، وهو لم يَستمدها من فرعٍ وجَدَه في المذهب، لكنه أخذها من أصول المذهب، فجاءت صحيحة؛ لأنها تلتقي مع أصول المذهب، وهي - أيضًا - فرعٌ من فروعه وَافَقَ فيها المالكية غيرهم.

(وَلَسْتُ أَذْكُرُ الآنَ فِيهِ نَصًّا).

ولكنني بيَّنتُ لكم أن هذا هو مذهب المالكية فيما أعلم.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(المسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَاخْتَلَفُوا إِذَا اقْتَرَنَ بِالمَهْرِ بَيْعٌ؛ مِثْلَ أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ عَبْدًا، وَيَدْفَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَنِ الصَّدَاقِ).

= ودليلنا: أنَّ فساد المهر لا يُوجب فساد العقد، كالمهر المغصوب، ولأن كل نكاح صَحَّ بالمهر الصحيح صَحَّ بالمهر الفاسد، كما لو أصدقها عبدً أ فبان حرًّا". انظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 394).

(1)

سبقت هذه المسألة فيما يُعرف بنكاح التفويض.

(2)

مع أنهم قالوا بصحة نكاح التفويض، كما سبق.

ص: 5771

منذ أن وضعنا أيدينا على كتاب النكاح بالشَّرح نجد أنَّ

المؤلف رحمه الله أحيانًا يسير مع البيع بجواره كفرسي رِهان، فلا تكاد تمر مسألة إلا ويذكر فيها البيع؛ لوجود رابط بينهما، وليس ذلك غريبًا؛ لأن البيع عقدٌ، وكذلك النكاح؛ ولذلك فإن بعض العلماء يُقسِّمون الفقه إلى (عبادات ومعاملات)، ويعتبرون النكاح من المعاملات، وهذا صحيح، ولكنهم عند التفصيل المجزَّأ يجعلون النكاح من أحكام الأسرة قسمًا مستقلًّا، لكن ليس معنى ذلك أن نباعد بينها على أنها ليست عقدًا، ولكنهم يجعلونها قسمًا مستقلًّا؛ لأن أكثر أحكامها تخصُّها، ولا يُوافقها غيرها من الأحكام. إذًا هذا هو السبب.

وأحيانًا يجتمع في العقد صداقٌ وبيعٌ، كأن يقول - مثلًا - ولي المرأة (أبوها):"زوَّجتك ابنتي، وبِعتك عبدي بألف درهمٍ"، هنا جُمع في العقد بين أمرين:(المهر، وثَمن العبد) بيعًا، فالتقَى عقدان في عقدٍ واحد، وقد يُبدلون العبد، فيقال:"أو بِعتك داري بألف درهم"، وربما يقال:"زوَّجتك ابنتي، واشتريت - أيضًا - دارك بخمسمائة درهم".

فالمقصود: هل يصح أن يجتمع مع المهر شيءٌ آخر وهو البيع؛ هذا هو مراد المؤلف، وهذا في حالة عدم تسمية المهر، أما لو قال:"زوَّجتك ابنتي وبعتك داري بألف درهم: خمسمائةٍ عن المهر وخمسمائة عن الدار"، فلا إشكَال هنا، ولا نحتاج إلى أن نبحث، لأن المبلغ قُسِّم وحُدِّد، فعرفنا ما يخص المَهْر وما يخص المبيع، فلا إشكال.

لكن يأتي الإشكال إذا أُبهم، ونحن نجد هنا أن جمهور العلماء يُجيزون ذلك أيضًا.

(وَعَنْ ثَمَنِ العَبْدِ).

أي: يُعطيها ألفًا عن صداقه، وهي - أيضًا - تُعطيه عبدًا، لكن في هذه الحالة لم يُحَدَّد المهر.

ص: 5772

(وَلَا يُسَمَّى الثَّمَنُ مِنَ الصَّدَاقِ).

أمَّا لو سُمِّي الصداق ارتفعت الجهالة، فلا خلاف بين العلماء في هذه المسألة.

وهنا تنبيه: كثير من طلاب العلم تمر بهم مسائل وينسونها في الغالب، وهذه مشكلة يشكو منها الكثير، حيث يدرس الطالب المسائل، فإذا انتقل إلى غيرها نَسيها، لكن التغلب على هذا دائمًا يأتي بالحرص والرغبة في طلب العلم، والإخلاص له، وتفريغ النفس والقلب لتحصيله ومدارسته، فإن نسي شيئًا كعادة البشر - لأن كل إنسان ينسى - فستبقى أشياء.

وقيمة العِلم دائمًا تكون بالصلة به؛ قراءةً، وتعمقًا في دراسته، ومحاولةً لتفهم مسائله، أمَّا إذا مَرَّت المسائل مرور الكرام - فهذه سرعان ما تضيع، لكن المسائل التي تحرص عليها ويُعمل الفكر والذهن فيها - غالبًا ما يبقى منها في الذهن شيء، وليس شرطًا أن تُحفظ، لكنها تبقى متى استُدعيت خرجت بإذن الله.

ونعود لمسألة تحديد أقل المهر التي مَرَّ بنا خلاف العلماء فيها؛ فوجدنا أن الحنفية والحنابلة في جانب، والشافعية والمالكية في جانب، وهذا سيَسْرِي علَى بعض المسائل؛ فلننتبه لذلك.

فالحنفية والحنابلة لا يرون تحديد ذلك، والشافعية والمالكية إنما يُحددونه، ليس الشافعية، إنما هم المالكية والحنفية هم الذين يُحَدِّدون، والشافعية والحنابلة لا يُحَدِّدون.

(فَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَابْنُ القَاسِمِ

(1)

، .............

(1)

انظر: "التبصرة" للخمي (4/ 1911)، وفيه قال:"في النكاح والبيع في عقد واحد، اختلف في ذلك على أربعة أقوال؛ فمَنعه مالك وابن القاسم في "المدونة"

".

والقول بالفسخ هو مَشهور المذهب. انظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 264)، وفيه قال: " (ص): أو باجتماعه مع بيع. (ش): المشهور أنَّ النكاح في=

ص: 5773

وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ

(1)

. وَأَجَازَهُ أَشْهَبُ

(2)

، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ

(3)

).

(وَأَجَازَهُ أَشْهَبُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ)، أي: الذي أجازه أحمد؛ لأنه بالنسبة لقول الإمامين يتعلق الأمر بالصَّداق

(4)

.

(وَفَرَّقَ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ:"إِنْ كانَ البَاقِي بَعْدَ البَيْعِ رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا بِأَمْرٍ لَا يُشَكُّ فِيهِ، جَازَ"

(5)

).

وقد قال ذلك؛ لأن المالكية يشترطون أن يكون لأقل المهر حَدٌّ

(6)

،

= هذه المسألة فاسد لصداقه، يُفسخ قبل البناء، ويَثبت بعده بصداق المثل، وهو ما إذا اجتمع مع البيع، أو القرض، أو الشركة، أو الجعالة، أو الصرف، أو المساقاة، أو القراض في عقد واحد للجهل بما يخص البُضع من ذلك، أو لتنافي الأحكام بينهما؛ فإن النكاح مبني على المسامحة، والبيع وما معه على المشاحة؛ (كدار) مثلًا (دفعها هو أو أبوها) أي: دفع الزوج دارًا لزوجته على أن يَتزوجها ويأخذ منها مائة دينار، فالدار نصفها في مقابلة البضع، والنصف الآخر في مقابلة المائة، فقد اجتمع البيع والنكاح في عقد واحد".

(1)

لم أقف عليه.

(2)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (3/ 505)، وفيه قال:"الثالث: أجازه أشهب وأصبغ".

(3)

انظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (5/ 287)، وفيه قال:"وإذا أوجب في عقدين؛ كبِعتك هذا وزَوَّجتك هذه بألف، فقَبلهما جاز، وانقسم الألف على مهر مثل هذه وقيمة هذه، وإن قَبِل البيع وحده لا يجوز، وإن قَبِل النكاح وحده جاز بحِصة مَهر مثلها من الألف".

(4)

انظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 132)، وفيه قال:، "وإن جمع بين نكاح وبَيع، فقال: زَوَّجتك ابنتي وبِعتك داري هذه بألف صحَّ) كل مِن النكاح والبيع، وتقسيط الألف على مَهر مثلها وقيمة الدار، وتقدم في البيع".

(5)

الصواب: أنَّه عبد الملك. انظر: "التبصرة" للخمي (4/ 1911)، وفيه قال:"وأجازه عبدُ الملك في كتاب محمد، إذا كان الباقي بعد البيع ربع دينار فصاعدًا بأمر لا شَكَّ فيه". وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (3/ 505).

(6)

قال ابن عبد البر: "أمَّا اختلافهم في مقدار مبلغ الصداق الذي لا يجوز عقد النكاح بدونه، فقال مالك في آخر هذا الباب: "لا أرى أن تُنكح المرأة بأقل من ربع دينار، وذلك أدنى ما يجب فيه القطع". قال ابن عبد البر: هذا قول مالك وأصحابه حاشا ابن =

ص: 5774

وحَدَّدوا ذلك اجتهادًا؛ فلم يجدوا، فقَاسُوه على القَدْرِ - أي: النِّصاب الذي تُقطع به يد السارق - "لا قَطْعَ إلَّا في رُبع دينارٍ فصاعدًا"

(1)

، وربع الدينار يُساوي ثلاثة دراهم.

إذًا هذا هو الملحظ الذي أخذ به هذا الإمام المالكي، وإن كان المالكية لا يتفقون حوله.

(وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فَمَرَّةً قَالَ:"ذَلِكَ جَائِزٌ"، وَمَرَّةً قَالَ:"فِيهِ مَهْرُ المِثْلِ"

(2)

. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ النِّكَاحُ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِالبَيْعِ، أَمْ لَيْسَ بِشَبِيهٍ؟ فَمَنْ شَبَّهَهُ فِي ذَلِكَ بِالبَيْعِ مَنَعَهُ

(3)

، وَمَنْ جَوَّزَ فِي النِّكَاحِ مِنَ الجَهْلِ مَا لَا يَجُوزُ فِي البَيْعِ - قَالَ: يَجُوزُ).

= وهب، لا يجوز عندهم أن يكون صداق أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم؛ كيلًا من الوَرِق، أو قيمة ذلك من العروض التي يَجوز ملكها". انظر:"الاستذكار"(5/ 415).

(1)

أخرجه مسلم (2/ 6841)، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُقطع يدُ السارق إلا في رُبع دينار فصاعدًا"، وأخرجه البخاري (6789)، بلفظ:"تُقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا".

(2)

انظر: "التهذيب" للبغوي (5/ 499)، وفيه قال:"إذا جمع بين البيع والنكاح، بأن قال: زَوَّجتك ابنتي هذه، وبعتك هذا العبد بألف، فقال: تَزَوَّجتها واشتريت العبد، أو قال: قَبِلت النِّكاح والبيعَ - فالنكاح صحيحٌ، وفي البيع قولان. أحدهما: باطلٌ، لِما بينه وبين النكاح من اختلاف الأحكام. والثاني: صحيح، لأن العقد على كل واحدٍ على الانفراد جائز، فيجوز الجمعُ؛ كما لو باع عَبْدَيْن. فإن قلنا: البيع باطلٌ، فالمسمى فاسدٌ، ويجب للمرأة مِهر المثل. وإن قلنا: البيع صحيحٌ، فتُوزع الألف على مِهر المثل وقيمة العبد، ويُصور فيما إذا كان مهر المثل وقيمة العبد سواء".

ومشهور المذهب على صحة المهر والبيع. انظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 375)، وفيه قال:" (ولو قال) شخص: (زَوَّجتُك بنتي) فلانة (وبِعتك ثوبَها) هذا مثلًا، وهو ولي مالها، أو أَذِنت له (بهذا العبد - صَحَّ النكاح) جزمًا، وفيه وجه شاذ بعدم الصحة، (وكذا المهر والبيع في الأظهر) ".

(3)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (3/ 505)، وفيه قال:"قال مالك: النِّكاح أشبه شيء بالبيوع، فأيُّ فرق بين أن يجمع بين بيع وإجارة، أو بين بيع ونكاح، وهو شُبهه إلا من جهة الرَّجُلين يجمعان سلعتهما، وإذا كانتا لرجل واحد جاز، والعاقد هنا واحد، وهو الوليُّ".

ص: 5775

معلوم أن في النكاح تخفيفًا، يختلف عن البيع في هذا المقام، فعندما نأتي لأمرٍ لم يُقسَّط، لكنه ذُكِر أنه عن البيع فأقل ما يكون أنه يصلح، فهو عند الشافعية والحنابلة أقل ما يكون، وأقل ما يُسمى مالًا إنَّما يصلح أن يكون مهرًا.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(المسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِيمَنْ نَكَحَ امْرَأَةً، وَاشْتُرِطَ عَلَيْهِ فِي صَدَاقِهَا حِبَاءٌ يُحَابِي بِهِ الأَبَ).

الحِباء بكسر الحاء: العَطاء

(1)

، وبعض العلماء يُقَيِّده للأب وحده، فلا يدخل الجَد، وإنَّما يختص بالأب القريب.

واختلف في ذلك العلماء؛ فمنهم من قال: يجوز أن يُزوِّج الأب ابنته، وبعضهم قال أيضا: الوليُّ يجوز أن يُزوِّج ابنته ويشترط لنفسه حِباءً، أي: عطاءً يختص به دون عِوض، بل يجوز أن يشترط لنفسه أن يُعطى شيئًا، فكأنه حابَى نفسه، أي: طلب لها أمرًا من الأمور

(2)

.

وبعض العلماء قال: لا يجوز

(3)

؛ لأن هذا أمرٌ يَخص الزوجة، فلا يجوز أن يُشترط شيءٌ من ذلك، لأنه ظلمٌ لها، ولو حصل شيءٌ من ذلك فينبغي أن يُرجع إلى مهر المثل، لأنه بالرجوع إلى مهر المثل تحقيقٌ للعدالة، ورفعٌ للظلم، لأن الأب إذا أخذ من مهر ابنته اشتُرط شيءٌ له ولها، فهذا أمرٌ سيضرها وسينقصها، وبهذا تكون قد تضررت، وربما يدفع الزوج الألفين - مثلًا - للزوجة، فإذا اشترط الأب لنفسه ألفًا قام الزوج بدل أن يدفع الضعف دفع نصفه، كذا قالوا.

وعند التأمُّل نَجِد أن التابعي مسروقًا رحمه الله وهو حُجة للقائلين

(1)

المحاباة في البيع معروفة، وهي من الحباء: العطاء. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب" للمطرزي (ص: 102).

(2)

وهم الأحناف والحنابلة كما ستأتي.

(3)

وهم الشافعية كما ستأتي.

ص: 5776

بالجواز - زوَّج ابنته، واشترط لنفسه عشرة آلاف درهم، ولكنه لم يأخذها ليقتات منها، أو يتنعَّم بها، بل لينفقها في الحج وعلى المساكين وسائر أوجه البر، ثم قال للرجل:"جهِّز امرأتك"، وقد صحَّ هذا عنه؛ ولذلك يحتجون به

(1)

.

وهناك فريقٌ آخرُ مِن العلماء قال: لا يجوز ذلك؛ لأن المهر ينبغي أن يكون للمرأة خالصًا، لأنه حقها، ولا يجوز أن يُشركها غيرها فيه؛ لا أبٌ ولا غيره، وبعضهم خصَّ ذلك بالأب

(2)

؛ فقالوا: إنَّ له من الحقوق ما ليس لغيره، واستدلوا بقول الوسول صلى الله عليه وسلم:"أنتَ ومالُكَ لأبيكَ"، أخرجه ابن حبان في "صحيحه"

(3)

؛ فما دام المرء وماله لأبيه فله أن يشترط ما شاء.

وفي الحديث الآخر: "إنَّ أطيبَ ما أكَل الرَّجُلُ مِن كَسْبِه، وإنَّ ولَدَه مِن كَسْبِه"، أخرجه النسائي

(4)

.

وفي قصة شعيب عليه السلام مع موسى عليه السلام: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27]، إذًا، هو آجرَهُ على رعاية الغنَم مدة ثمانية أعوام مقابل أن يزوِّجه ابنته، قالوا: فهنا شعيبٌ أخذ الكل لنفسه، ولم يَرد ذكرٌ للبنت

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(9/ 159)، عن شريك، عن أبي إسحاق:"أن مسروقًا زَوَّج ابنتَه، فاشترط على زوجها عشرة آلاف سوى المهر".

(2)

هم الحنابلة خَصُّوه بالأب، ومنعوا ذلك لغيره من أقارب الزوجة. انظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 12)، وفيه قال:" (كشرط ذلك) أي: الصداق أو بعضه (لغير الأب)؛ كجَدِّها وأخيها، فيبطل الشرط نصًّا، ولها المسمى جميعه؛ لصحة التسمية؛ لأن ما اشترط عوض في تَزويجها فكان صداقًا لها". وانظر: "الهداية" للكلوذاني (ص: 403).

(3)

أخرجه ابنُ حِبَّان عن عائشة (2/ 142)، وصححه الألباني في:"التعليقات الحسان"(411).

(4)

أخرجه النسائي (4451)، عن عائشة، وكذا أخرجه أبو داود (3528)، وصححه الألباني في:"إرواء الغليل"(1626).

(5)

وهذا من أدلة الحنابلة على الجواز. انظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 522).

ص: 5777

وقد أشار المؤلف إلى هذا قائلًا: إن هذا في شَرع مَن قبلنا، وسيأتي معنا كلامه، لنتبين ما فيه.

(عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ:"الشَّرْطُ لَازِمٌ، وَالصَّدَاقُ صَحِيحٌ"

(1)

).

وأحمد أيضًا

(2)

.

(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: المَهْرُ فَاسِدٌ، وَلَهَا صَدَاقُ المِثْلِ

(3)

).

قال الشافعي هذا، لأن فيه ظلمًا وتعدِّيًا على المرأة، بل فيه غرر، لأن هذا الشرط سيؤثر على البنت، فينقص حقها، فينبغي أن نرفع هذا الجهل والغرر، وأن نرجع إلى الأصل: وهو مِهر المثل.

(وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ الشَّرْطُ عِنْدَ النِّكَاحِ فَهُوَ لابْنَتِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ النِّكَاحِ، فَهُوَ لَهُ

(4)

).

(1)

انظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 171)، وفيه قال:"الأولى: ضابطها: أن يُسَمِّي لها قدرًا ومَهر مثلها أكثر منه، ويشترط منفعة لها، أو لأبيها، أو لذي رَحم محرم منها، فإن وَفَّى بما شرط فلها المُسمى؛ لأنه صلح مهرًا، وقد تَمَّ رضاها به، وإلا فمَهر المثل؛ لأنه سَمَّى ما لها فيه نفع، فعند فواته يَنعدم رضاها بالمُسَمَّى، فيكمل مهر مثلها".

(2)

انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 12)، وفيه قال:" (ويصح) أن يتزوج المرأة (على ألف لها، وألف لأبيها، أو) على (أن الكل)، أي: كل الصداق (له)، أي: لأبيها (إن صَحَّ تملكه) من مال ولده".

(3)

انظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 376)، وفيه قال:" (ولو نكح) امرأة (بألف على أنَّ لأبيها) ألفًا (أو أن يُعطيه ألفًا، فالمذهب: فسادُ الصداق) في الصورتين؛ لأنه جعل بعض ما التزمه في مقابلة البُضع لغير الزوجة، (ووجوب مهر المثل) فيهما؛ لفساد المسمى. والطريق الثاني: فساده في الأولى دون الثانية؛ لأنَّ لفظ الإعطاء لا يَقتضي أن يكون المُعطى للأب".

(4)

انظر: "الشرح الصغير" للشيخ الدردير (2/ 456)، وفيه قال: " (ولها) أي: وللزوجة إذا تَشَطَّر ما أهدي لوليها ونحوه (أخذها) أي: الهدية (منه) أي: مِن الولي ونحوه، أي: لها أخذ نصفها، وللزوج أخذ نصفها الآخر، وليس المراد أنها تأخذ الجميع، =

ص: 5778

وقال مالك هذا؛ لأنه جاء في هذا حديث، وقد اختلف العلماء في صحته ومفهومه.

(وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَشْبِيهُ النِّكَاحِ فِي ذَلِكَ بِالبَيْعِ).

لنتأمل، هنا ردَّ المسألة إلى البيع كما نوَّهنا سابقًا.

(فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالوَكيلِ يَبِيعُ السِّلْعَةَ، وَيَشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ حِبَاءً، قَالَ: لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ كمَا لَا يَجُوزُ البَيْعُ، وَمَنْ جَعَلَ النِّكَاحَ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْبَيْعِ، قَالَ: يَجُوزُ

(1)

).

لأنَّ الوكيل هنا حابَى نفسه، ومثله - أيضًا - عامل الصدقة، لا يجوز أن يشترط لنفسه شيئًا، أو أن يستغل مكانه؛ ولذلك أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على ابنُ اللُّتبيَّةِ لمَّا جاء وقال:"هذا لكم، وهذا لي"، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو المُوَجِّه الكريم الذي لا يُريد أن يخدش أحدًا ولا أن يُجرحه - قال:"ما بالُ أحدكم يُرسَل في كذا، فيقول: هذا لي وهذا لكم، هلَّا جلس في بيت أبيه وأمه حتى ينظر أيُهدى إليه أم لا؟ "

(2)

. أي: يجلس في بيت أبيه وأمه، لينظر هل تأتيه هذه الأمور أم لا؟ أما أن تذهب لك سُلطة وهيمنةً ثم تستغل هذه الهيمنة، فلا ينبغي.

كذلك الوكيل ليس له أن يأخذ، وكم من أُناسٍ يستغلون مثل هذه

= ثم يرجع الزوج عليها بنصفه؛ إذ الإهداء لم يكن منها، (بخلاف ما أُهدي له) أي: للولي ونحوه، (بعده) أي: بعد العقد، فليس لها أخذه منه". وانظر:"منح الجليل" لعليش (3/ 480).

(1)

سبق.

(2)

أخرجه البخاري (6979)، واللفظ له، ومسلم (1832)، عن أبي حميد الساعدي، قال:"استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا على صَدقات بني سليم، يُدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسَبَه، قال: هذا مالكم وهذا هدية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَهَلَّا جلست في بيت أبيك وأمك، حتى تأتيك هديتك إن كنتَ صادقًا"، ثم خطبنا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أمَّا بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل ممَّا وَلَّاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أُهديت لي، أفلا جَلَسَ في بيت أبيه وأمه حتَّى تأتيه هديته

""، الحديث.

ص: 5779

الأمور، لا يبيع إلا إذا حصل له شيء، وهذا أمر لا يجوز - لكن الصورة هنا مختلفة تمامًا.

(وَأَمَّا تَفْرِيقُ مَالِكٍ؛ فَلأنَّهُ اتَّهَمَهُ إِذَا كانَ الشَّرْطُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الَّذِي اشْتَرَطَهُ لِنَفْسِهِ نُقْصَانًا مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا).

لأنَّ الزَّوج في هذه الحالة إذا كان راغبًا في الزَّوجة سينزل عند رغبته، لكنه سينقص المهر فتتضور البنت، لكن إذا كان يعد العقد فلا يُلزم، فيكون ذلك عن طيب نفسٍ ورضا.

(وَلَمْ يَتَّهِمْهُ إِذَا كانَ بَعْدَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ وَالاتِّفَاقِ عَلَى الصَّدَاقِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ هُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ

(1)

وَالثَّوْرِيِّ

(2)

وَأَبِي عُبَيْدٍ

(3)

.

أبو عُبيْد: هو القاسم بن سلَّام صاحب كتاب "الأموال"، حيث وافق مالكًا في هذه المسألة.

(وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ

(4)

، وَالنَّسَائِيُّ

(5)

، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ

(6)

، عَنْ عَمْرِو بْنِ

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 259)، أن عمر بن عبد العزيز قال:"أيُّما امرأة نُكحت على صداق، أو حباء، أو عِدَّة إذا كانت عقدة النكاح على ذلك، فهو لها مِن صداقها"، قال:"وما كان بعد ذلك من حباء فهو لِمَن أعطيه، فإن طَلَّقها فلها نصف ما أوجب عليه عقدة النكاح مِن صداق أو حباء".

(2)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 427)، وفيه قال:"وعن الثوري، عن أبي شُبرمة: أنَّ عمر بن عبد العزيز قضى في وَلِيِّ امرأة واشترط على زوجها شيئًا لِتَلبسه، فقضى عمر أنَّه مِن صداقها".

(3)

انظر: "المفهم" لأبي العباس القرطبي (12/ 139)، وفيه قال:"واختلفوا فيما إذا اشترط المنكح حباءً لنفسه غير الصداق، وهو المسمى عند العرب بالحُلوان. فقال قوم: هو للمرأة مطلقًا. وبه قال عطاء، وطاوس، وعكرمة، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، وأبو عبيد".

(4)

أخرجه أبو داود (2129)، وضعفه الألباني في:"ضعيف أبي داود - الأم"(367).

(5)

أخرجه النسائي (3353).

(6)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 257).

ص: 5780

شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَت عَلَى حِبَاءٍ قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، فَهُوَ لَهَا").

يعني: قبل عقد النكاح.

("وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَه، وَأَحَقُّ مَا أُكْرِمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ ابْنَتُهُ وَأُخْتُهُ").

وهذا أجاب عنه الفريق الآخر بقولهم: إن الذي جاء في الحديث إذا لم يحصل شرط في حالة السكوت ولم يُدفع مهر، فليس لوليِّ أمرها أن يأخذ نصفه، لكن قد يُشترط أحيانًا ذلك - وهو حاصل عند بعض الناس حيث لا يزالون يعملون به - فيشترطون على الزوج بالدفع لأمِّها مبلغًا لإرضائها، ولا يزال هذا موجودًا في بعض المجتمعات والقبائل، ويوجد العكس أيضًا، كبعض الآباء الذين يأخذون المهر، ليشتروا به للبنت، أو يُسَلِّمونه لها، ثم هم يقومون بتجهيزها، فالناس مختلفون في هذا الأمر.

وهذا يرجع إلى واحدٍ من أمرين:

- قدرة الإنسان، فالإنسان العاجز معذور.

- ومِن الناس مَن عنده قدرة، لكن يغلب عليه الشُّحُّ، ومنهم مَن يكون قادرًا، ولكنه كريم النفس، طيِّب الفؤاد، يريد دائمًا أن يُريح ابنته، ولا يُرهق الزوج، وهو في نفسٍ مرتاحة مطمئنة، فهذا - أيضًا - غاية ما ينشده كلٌّ من الزوجين، وهي السعادة.

فينبغي التنافس في أفعال الخير وأوجه البر والطاعة والتقريب بين مَن أرادوا العفاف، وإلا فلماذا نترك الشباب يَهِمُون على وجوههم، فيذهبون - مثلًا - إلى الخارج في دول الكفر، وربما يَقطع بعضهم جزءًا كبيرًا من حياته، فيتجاوز الثلاثين عامًا، وهو لا يستطيع أن يتزوج، ولو قُدِّر له إن تَزَوَّج فنجد أن الديون تتراكم عليه، ويظل حياته كلها منهمكًا محرومًا، وربما يفارق هذه الدُّنيا والديون يَراها شبحًا أمام عينيه، والله سبحانه وتعالى يقول في

ص: 5781

أمر الزواج: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، فينبغي أن تُبنى أمور النكاح على التيسير، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أعظمُ النِّساءِ برَكةً أيسرُهنَّ مؤنةً"

(1)

.

"وَأَحَقُّ مَا أُكْرِمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ ابْنتهُ وَأُخْتُهُ".

نفس هذا الحديث فيه إشارة إلى تكريم الأب، لكننا نقول: لا ينبغي أن يكون ذلك مصدرًا ليستفيد منه الإنسان، وله أن يشترط إذا كان ذا حاجة، إلا أنَّ الأَوْلَى ألا يفعل ذلك، لا سيما إذا كان قد أغناه الله سبحانه وتعالى، وأعطاه اليُسر فلا ينبغي له أن يشترط، ولا أن تتطلع عينه إلى مثل هذه الأمور، بل ينبغي أن يكون فوق ذلك، عفيفًا.

(وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ صَحَّفَهُ

(2)

).

أي: قد رواه عن صحيفة، وهذا فيه خلاف

(3)

، ولكن الفريق الآخر

(1)

أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(8/ 304)، وضعفه الألباني في:"إرواء الغليل"(1928).

(2)

سبب اختلافهم في أحاديث عمرو بن شعيب: هو في عود الضمير في "جَدِّه"؛ هل هو جَدُّ عمرو: محمد بن عبد الله بن عمرو، فتكون الرواية مُرسلة، أم هو جَدُّ شعيب: عبد الله بن عمرو، فتُحمل الرواية على الاتصال؟

نقل النوويُّ هذا الخلاف، وذكر أنَّ الأكثر على الاحتجاج به، ومنهم الأوزاعي وأحمد بن حنبل، وعلي بن المدينى، وإسحاق بن راهويه. قال النوويُّ:"قال ابن عدي: روى عنه أئمة الناس وثقاتهم، ولكن أحاديثه عن أبيه عن جَدِّه مع احتمالهم إيَّاه لم يُدخلوها في الصِّحاح. وأنكر بعضهم سماع شُعيب من جَدِّه عبد الله بن عمرو، وقال: إنَّما سمع أباه محمد بن عبد الله بن عمرو، فتكون رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه عن النبي مُرسلة، وهذا إنكار ضعيف، وأثبت الدارقطني وغيره من الأئمة سماع شعيب من عبد الله، وقال أبو بكر النيسابوري: صَحَّ سماعُ شعيب من جَدِّه عبد الله. فالصحيح المختار: صحة الاحتجاج به عن أبيه عن جَدَه، كما قاله الأكثرون، كما سبق". وانظر: "تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 28 - 30).

(3)

صحيفة عمرو بن شعيب: هي مجموعة من الأحاديث، رَوَاها جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم، ولم يتواتر الرواية عن آبائهم وأجدادهم إلا عنهم، ومثلها صحيفة بهز بنُ حكيم، عن أبيه، عن جَدِّه

، قال الحاكم: "وَجَدُّ عمرِو بن شعيب: عبد الله بن عمرو بن العاص السَّهمي

، فهؤلاء جماعتهم صحابِيُّون =

ص: 5782

- أيضًا - لهم أدلة، منها قصة شعيب عليه السلام، فإنه في هذا الأمر اشترط على موسى عليه السلام أن يقوم برعاية غنمه، ولم يَذكر شعيبٌ شيئًا لبنته، ولم يُذكر أن الغنم هذه للبنت، وإنما الظاهر أنها لشعيب.

الأمر الآخر حديث: "أنتَ ومالُكَ لأبيكَ"

(1)

، وحديث:"إنَّ أطيَبَ ما أكَل الرَّجُلُ مِن كَسْبِه، وإنَّ ولَدَه مِن كسْبِه"

(2)

.

فهذه أدلة عامة، ولا شَكَّ أن الأب له أن يتصرف في مال ولده، لكن - أيضًا - ينبغي أن يكون في حدود، حتى وإن أعطت الشريعةُ الأبَ أن يتصرف في مال الابن، فلا ينبغى له أن يَسلبه أمواله ويتركه عالةً يتكفَّف الناس.

وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى سعد بن أبي وقاص بألَّا يترك أولاده عالةً؛ لما ذهب إلى الرسول وأخبره بأنه صاحب مالٍ كثير، وسأله بما يصنع بماله: أَتَصَدَّق بمالي؟ قال: "لا". فقال: أتصدق بثلثيه؟ قال: "لا". قال: الثلث؟ قال: "الثلث، والثلث كثير، إنَّك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس"

(3)

.

أي: فقراء يقرعون باب هذا ويسألون ذاك، ويذلون أمام هذا، ولا شك أن من أفضل ما يُقَدِّمه الإنسان أن يَكفي مَن يعول، مِن أقرب الناس إليه، ثم مَن بعدهم فبعدهم.

(وَلَكِنَّهُ نَصٌّ فِي قَوْلِ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: "إِذَا رَوَتْهُ الثِّقَات، وَجَبَ العَمَلُ بِهِ"

(4)

).

= وأحفادهم ثِقات، والأحاديث على كثرتها مُحتج بها في كتب العلماء". انظر:"المدخل إلى كتاب الإكليل" للحاكم (ص: 40).

(1)

تقدَّم.

(2)

تقدَّم.

(3)

تقدَّم.

(4)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 432)، وفيه قال:"وحديث عمرو بن شعيب مَقبول عند جمهور أهل العلم بالحديث، يَحتجون بهذا، روى عنه الثقات، وإنَّما الواهي من حديثه ما يَرويه الضعفاءُ عنه".

ص: 5783

نعم، هذا الذي قاله المؤلف نصٌّ في قول مالك، لكن العلماء تأوَّلوا هذا كما ذكرنا، لأن في آخر الحديث ما يُؤيد - أيضًا - رأي الذين استثنوا من ذلك الأب، وقالوا: إن هذا في غير حَقِّ الأب، أما الأب فهناك أدلة تدل على أن له من الخصائص والمزايا في التصرف في مال ابنه ما ليس لغيره، حتى وإن كان جَده؛ فهم لا يَضعون الجد في مرحلة الأب القريب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّدَاقِ يُسْتَحَقُّ، وَيُوجَدُ بِهِ عَيْبٌ).

هذه مسألةٌ: لو أن إنسانًا قدَّم مهرًا، وهذا المهر معيَّن، ثم تبين له أن هذا المهر فيه عيبٌ، فهذا العيب لا يخلو من أحد أمرين:

- إما أن يكون عيبًا ظاهرًا بينًا، إذا نظر إليه أيُّ إنسان حكم بأنه معيب.

- وقد يكون هذا العيب يسيرًا.

فهل هناك فرقٌ بين أن يكون العيب يسيرًا، وبين أن يكون كبيرًا، أو أن ذلك يشمل جميع العيوب؟

الحنفية انفردوا من بين الأئمة، فقالوا: إذا كان العيب يسيرًا فإنه مما يُتسامح فيه؛ فلو أصدقها دارًا وكان فيها شيءٌ من العيب، أو أصدقها حيوانًا وتبيّن فيه عيبٌ، كأن يسير بعرجٍ يسير، فإن ذلك - على قولهم - لا يضر، لأنه مغتَفرٌ له

(1)

.

وغيرهم من العلماء قالوا: لا، العيب عيبٌ؛ كبر أم صغر؛ فالعيب إذا وُجد فإنه يُخل، ويُرد المهر في هذه الحالة، ويُرجع إلى القيمة

(2)

.

(1)

يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 176)؛ حيث قال:"فإن كان العيب يسيرًا فلا ترده به وإن كان فاحشًا فلها رده هكذا أطلقه كثير".

(2)

في مذهب المالكية، يُنظر:"الذخيرة"، للقرافي (4/ 360)، حيث قال:"لو هلك بيد المرأة سقط وإن حدث به عيب أخذ نصفه معيبًا، وإن باعه الموهوب بنصف الثمن أو أعتقه أو وهبه عالمًا بأنه صداق فنصف قيمته يوم التصرف وإلا فلا شيء عليه "=

ص: 5784

وبعض أهل العلم يفصِّل القول في ذلك، فيقول: إن كان هذا العيب له قيمة يُرجع إلى القيمة، وإن كان مثليًّا - يعني: له مثيلٌ يشابهه تمامًا؛ كالمكيل، والموزون، والمذروع - فإنه يُرجع إلى المثل هنا، فلو أصدقها مثلًا عشرين صاعًا من قمح، فإنهم يقولون: هذا مكيل، يُرجع إليه، فيؤتى بنوع القمح المثيل، فتُعطى عشرين صاعًا من الخالي من العيوب؛ من السوس وما أشبه

(1)

، وإذا أصدقها نوعًا من القماش مذروعًا، وكان له في هذه الحالة مثيل، فإنه يُرجع إليه، ولو أصدقها عشر أوقيات من السمن أو من العسل، ثم تبيَّن في ذلك خلل، فإنه يُرجع إلى مقابل ذلك موزونًا بما هو صالح.

وهكذا كان العلماء رحمهم الله مجتهدين في التدقيق في هذه المسائل، وفي العناية بها، وفي محاولة أن تكون العقود دائمًا سائرةً في

= وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 368)، حيث قال:"وإذا أصدقها عينًا فتلفت في يده ضمنها ضمان عقد، وفي قول ضمان يد ولو تلف في يده وجب مهر مثل".

وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 681)، حيث قال:" (فلو فعل) ولي غير المكلف والمكلفة أو سيد الأمة أو ولي المكلفة بلا رضاها بأن زوج بمعيب يرد به (لم يصح) النكاح (إن علم العيب)؛ لأنه عقد لهم عقدًا لا يجوز عقده، كما لو باع عقارًا لمن في حجره لغير مصلحة (وألا) يعلم الولي أنه معيب (صح) العقد (وله الفسخ إذا علم) العيب كما لو اشترى له معيبًا".

(1)

كالمالكية، يُنظر:"التاج والإكليل"، لأبي عبد الله المواق (5/ 174) "حيث قال:"من "المدونة": من تزوج على قلال خل بأعيانها فوجدتها خمرًا؛ فهي كمن نكحت على مهر فأصابت به عيبًا فلها رده وترجع به إن كان يوجد مثله، أو بقيمته إن كان لا يوجد مثله".

والحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (5/ 184)، حيث قال:" (و) إن تزوجها على عبد معين، وشرط فيه صفات، فبان (ناقصًا صفة شرطتها، أو) بأن العبد (معيبًا) فإنها (تخير بين إمساك) العبد (وأرش) فقد الصفة (أو رده وأخذ بدله وما) كان موصوفًا (في الذمة) إن نقص بعض الصفات (يجب) لها (بدله) فقط، و (لا) يلزمه لها (أرشه) مع إمساكه".

ص: 5785

طريقٍ صحيح؛ فنجد أنهم يحاولون معالجة المشكلات ما لم تتعارض مع نص؛ فإن تعارضت مع نص طرحوا ذلك القول وأخذوا بذلك النص.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّدَاقِ يُسْتَحَقُّ، وَيُوجَدُ بِهِ عَيْبٌ).

يعني بهذا: الصداق المعين، لكن لو أطلق فإننا نأخذ ما هو أولى، ولذلك بعض الفقهاء ينص على أنه إذا أصدقها شيئًا معيَّنًا، لكن لو قال: عشرة آصُع من نوع القمح الفلاني، فمعلوم أنه يؤخذ من الجيد، لكن عندما يحدد، فيأتي بشيء من القمح أو من الثياب فيُصدقها إياه، فهذا أصبح معيَّنًا.

* قوله: (فَقَالَ الجُمْهُورُ: النِّكَاحُ ثَابِتٌ)

(1)

.

وهذا هو الصحيح، والنكاح ثابتٌ، لأن هذا يلتقي مع أصول هذه الشريعة، فهذا العيب الموجود نستطيع أن نعالجه، لأنه لا تأثير له على العقد، بخلاف البيع، فالبيع يتأثر بوجود عيبٍ في الثمن، فالشيء المبيع إذا كان الثمن فيه معيبًا فإن العيب يؤثر في العَقد، وكذلك لو كان العوض المبيع معيبًا فإنه يؤثر فيه.

فلو أنك اشتريت سلعةً ووجدت فيها عيبًا، فلك أن تردها، ولو أنك

(1)

في مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل"، للخرشي (3/ 255)؛ حيث قال:"والنكاح ثابت كمن تزوجت بمهر فوجدت به عيبًا؛ فمثله إن وجد وإلا فقيمته وفي البيع يفسخ".

وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 337)؛ حيث قال:" (ولو تلفت) على الأول كما أفاده التفريع (في يده) قدر ملك له قبيل التلف نظير ما مر في المبيع قبل قبضه فيلزمه مؤنة نقله وتجهيزه، و (وجب مهر مثل) لبقاء النكاح والبضع كالتلف فيرجع لبدله وهو مهر المثل كما لو رد المبيع والثمن تالف يجب بدله". وانظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (9/ 461).

وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"المبدع في شرح المقنع"، لابن مفلح (6/ 201):"إذا فسد الصداق لجهالته، أو عدمه، أو العجز عن تسليمه، فالنكاح ثابت، بغير خلاف نعلمه".

ص: 5786

بعت سلعًا وأعطيت ثمنًا ووجدت أن في الدراهم زيفًا، فإنك ترد ذلك وتأخذ سلعتك.

والأمر هنا على خلاف ذلك؛ فالعقد هنا صحيح، وما دام العقد صحيحًا فنحن نحاول أن نعالج هذا المهر في حدود الشريعة الإسلامية وأحكامها.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا: هَلْ تَرْجِعُ بِالقِيمَةِ؟ أَوْ بِالمِثْلِ؟ أَوْ بِمَهْرِ المِثْلِ؟).

القيمة هي الأصل، وإذا كان عندنا مثله وتعذر الأصل فإننا نعطيه هذا المثل، أما مهر المثل فإنه يصار إليه عندما يحصل إشكال، فحينئذ يُرجع إلى مهر مثيلاتها.

* قوله: (وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ فَقَالَ مَرَّةً بِالقِيمَةِ، وَقَالَ مَرَّةً بِمَهْرِ المِثْلِ

(1)

).

أعلم أنهم في مذهب الحنابلة يفرِّقون

(2)

، وأعتقد أن الشافعية مذهبهم ليس ببعيدٍ عنهم، لكنني لا أقطع في مذهب الشافعية، يقول تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. لكن الحنابلة في هذا المقام يقولون: يُرجع إلى القيمة.

* قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ المَذْهَبُ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ: تَرْجِعُ بِالقِيمَةِ، وَقِيلَ: تَرْجِعُ بِالمِثْلِ. قَالَ أَبُو الحَسَنِ اللَّخْمِيُّ: وَلَوْ قِيل: تَرْجِعُ

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للرافعي (11/ 449)؛ حيث قال:"أصله: أن المرأة إذا وجدت الصداق عيبًا وردته ترجع بقيمته على أحد القولين". وانظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 400).

(2)

يُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (5/ 183)؛ حيث قال:" (وتخير) زوجة (في عين) جعلت لها صداقًا كدار وعبد (بان جزء منها)؛ أي: العين (مستحقًّا): بين أخذ قيمة العين كلها أو أخذ الجزء غير المستحق، وقيمة الجزء المستحق؛ لأن الشركة عيب، فكان لها الفسخ بها كغيرها من العيوب".

ص: 5787

بِالأَقَلِّ مِنَ القِيمَةِ، أَوْ صَدَاقِ المِثْلِ - لَكَانَ ذَلِكَ وَجْهًا

(1)

، وَشَذَّ سَحْنُونٌ، فَقَالَ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ

(2)

).

وهو لا شك - كما ذكر المؤلف - رأيٌ شاذ ومردود، لأن العقد - كما عرفنا في النكاح - لا يتأثر بفساد المهر، وإنما يُصحَّح هذا الفساد الموجود فيه، والتصحيح ممكن وميسور.

* قوله: (وَمَبْنَى الخِلَافِ: هَلْ يُشْبِهُ النِّكَاحُ فِي ذَلِكَ البَيْعَ؟ أَوْ لَا يُشْبِهُهُ؟ فَمَنْ شَبَّهَهُ قَالَ: يَنْفَسِخ، وَمَنْ لَمْ يُشَبِّهْهُ قَالَ: لَا يَنْفَسِخُ)

(3)

.

أمر الفسخ وعدمه خاصٌّ بمذهب مالك

(4)

، أما غير المالكية فإنهم يصححون العقد

(5)

.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يَنْكِحُ المَرْأَةَ عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ أَلْفٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ، فَالصَّدَاقُ أَلْفَانِ).

هذه مسألة جَمعَت شرطين، ولها أمثلة كثيرة، وليست هذه هي المسألة بأكملها، وإنما ذكر المؤلف أنموذجًا واحدًا.

(1)

يُنظر: "التبصرة"، للَّخمي (4/ 1923)؛ حيث قال:"لو قيل: إن لها الأقل من قيمته، أو صداق المثل؛ لكان وجهًا، فإن كانت القيمة أقل لم يكن لها غيره؛ لأنها رضيت بأقل من صداق المثل".

(2)

يُنظر: "التبصرة"، للَّخمي (4/ 1922)؛ حيث قال:"وقول سحنون في هذا، وفي: إذا تزوجت على عبد فثبت أنه حر؛ أن النكاح فاسد".

(3)

يُنظر: "التاج والإكليل"، لأبي عبد الله المواق (5/ 173)، حيث قال:"قال ابن القاسم: إن تزوجها على عروض أو رقيق لها عدد فاستحق، منها شيء فمحمله من محمل البيوع لأن مالكًا قال: أشبه شيء بالبيوع النكاح. ابن يونس: هذا إذا استحق من ذلك جزء شائع وإلا ففرق بين البيوع والنكاح".

(4)

يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (3/ 255)؛ حيث قال:"النكاح ثابت كمن تزوجت بمهر فوجدت به عيبًا فمثله إن وجد وإلا فقيمته وفي البيع يفسخ".

(5)

سبق ذكر أقوالهم.

ص: 5788

يعني: رَجُل يُريد أن يتزوج امرأة، فيقول لها: أتزرجك بألف دينار أو بألف درهم إن لم يكن لي زوجة، وإن كانت لي زوجة فبألفين.

فاشترط إذا لم يكن هناك امرأة أخرى أن يدفع لها ألفًا، وأضاف شرطًا آخر، وهو أنه إن وُجِدَت عنده امرأة فسيعطيها ألفين.

الشرط الأول - كما ترى - واضح، لأنه سيتحقق، لكن الثاني فيه غَرر أو جهالة، ومن هنا وقع الخلاف بين العلماء، ولكل من العلماء وجهة ينحو نحوها، ويتجه إليها في تعليلاته.

ومثل هذا أن يقول للمرأة يريد أن يتزوجها: أتزوجك بألف درهم على أن تبقي في دارك، وبألفين إن أخرجتك من دارك؛ أي: من وطنك.

ولا شك أن المرأة ربما تتأثر بهذا؛ لأن المرأة إذا عاشت بين أهلها وذويها ووطنها فإنها تحب ذلك، فقد يؤدي ذلك إلى أن تتنازل إلى مهر أقل، ولكن عندما يقول: وإن أخرجتك من دارك؛ أي: الدار التي تسكنين فيها، وليس المراد فقط الدار التي تقيم فيها، وإنما الدار التي هي البلد أو المصر الذي تقيم فيه، فإنها لا تحب فراق وطنها.

ومن الصور المشابهة أن يقول لها مثلًا: أتزوجك على أن أطلق امرأتي، أو: أتزوجك على طلاق امرأتي

هذه مسائل عدة يذكرها العلماء.

أما فيما يتعلق بالمسألة التي لم يذكرها المؤلف: فقد ذكرتها؛ لأني لاحظت أن المؤلف لم يذكرها، وهي تتعلق بأمر قد يحصل من بعض الناس، فيأتي إنسان قد فرح فرحًا شديدًا بهذه المرأة إذا وافقت ووافق أهلها، فيقول: أتزوجك بطلاق فلانة، وهذا لا ينبغي، فهو لم يجعل لها مهرًا

(1)

، وإنما أغراها بطلاق المرأة التي كانت عنده، وهنا لا يوجد مال في هذا العقد، والله تعالى يقول:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]؛ فأشار

(1)

ستأتي هذه المسألة، وهو أن يجعل مهر امرأة طلاق أخرى.

ص: 5789

إلى وجود المال، ثم نجد أن هذا يتعارض مع حكم هذه الشريعة، وما فيها من تنقية النفوس، وما فيها من إثارة نشر المحبة والألفة بين المؤمنين.

ومن هنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها"

(1)

، وفي رواية:"لا تطلب المرأة طلاق ضرتها لتكفئ ما في إنائها"

(2)

.

هذا تحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم: "ولكل واحدة ما كتب الله لها"

(3)

.

وفي الحديث الآخر: "لا يحل لرجل أن ينكح امرأة بطلاق أخرى"

(4)

.

فهذه هي آداب الإسلام، وهذا هو منهجه القويم الذي ربى عليه أبناءه.

إذن؛ لو حصلت هذه المسألة، يقول العلماء: إن التسوية فاسدة، ولا ينبغي أن يُنظَر إليها، وإنما يُرجَع إلى مهر المثل. وهذه مسألة قد تقع بين بعض الناس لذلك ينبغي التنبيه عليها.

أيضًا من الصور الذي يتحدث عنها الفقهاء أن يقول: أتزوجك بألف إن كان أبوك حيًّا، فإن كان أبوك ميتًا فبألفين.

وفي هذه المسألة أيضًا قالوا: لا تصح؛ لأن التسمية غير معروفة.

إذن، المسألتان اللتان فيهما الخلاف هما: هذه القضية، وقضية إخراج المرأة من دارها، فهذه أيضًا اختلف فيها الفقهاء؛ فبعضهم أجاز ذلك مطلقًا، وقالوا: عليه أن يلتزم بما اشترط، فإن كانت له امرأة، فعليه

(1)

أخرجه البخاري (2140)، ومسلم (1408) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم (1413) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: "ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في إنائها".

(3)

أخرجه مسلم (1408) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: "فإنما لها ما كتب الله لها".

(4)

أخرجه أحمد في "مسنده"(6647) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1931).

ص: 5790

أن يدفع الألفين، وإن لم يكن له امرأة يقف عند الشرط الأول، ويعطها الألف.

وهذا هو مذهب أبي حنيفة على تفصيل في ذلك؛ إذ هناك فرق في المسألة بين الإمام وصاحبيه

(1)

، وهو أيضًا مذهب أحمد في رواية

(2)

.

ومذهب الشافعي في ذلك يختلف عن المذهبين

(3)

، وكذلك مذهب مالك

(4)

.

* قوله: (فَقَالَ الجُمْهُورُ بِجَوَازِهِ).

قال الجمهور بجواز ذلك، لكن بالنسبة للمهر المسمى هو الذي اختلفوا فيه؛ فبعضهم قال: ذلك جائز مطلقًا. وهي رواية عن الإمام أحمد

(5)

، وبها قال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية

(6)

.

(1)

يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 173)، حيث قال:"إن كان أضدادها فإن وفي بالشرط أو كانت أعجمية ونحوه فلها الألف، وإلا فمهر المثل لا يزاد على ألفين ولا ينقص عن الألف عند أبي حنيفة، وكذا إن قدم شرط الألفين يصح المذكور عنده؛ فحاصله: أن الشرط الأول صحيح عنده والثاني فاسد وقالا: الشرطان جائزان حتى كان لها الألف إن أقام والألفان إن أخرجها. وقال زفر: الشرطان جميعًا فاسدان".

(2)

يُنظر: "منتهى الإرادات"، لابن النجار (4/ 137)"وعلى ألف إن لم تكن له زوجة أو إن لم يخرجها من دارها أو بلدها، وألفين إن كانت له زوجة أو أخرجها ونحوها صح". وينظر: "دقائق أولي النهى"، للبهوتي (3/ 10).

(3)

يُنظر: "العزيز شرح الوجيز"، للرافعي (8/ 255)؛ حيث قال:"وأما شرط الخيار في الصداق، ففي بطلان النكاح به قولان: أحدهما: وينسب إلى القديم والإملاء أنه يبطل".

(4)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (2/ 306)؛ حيث قال:"عقد (بألف) من الدراهم مثلًا (و) شرط عليه (إن كانت له زوجة فألفان) فيفسخ قيل: للشك في قدر الصداق حال العقد فأثر خللًا في الصداق ويثبت بعده بصداق المثل".

(5)

سبق ذكره.

(6)

يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 173)؛ حيث قال:"قالا الشرطان جائزان حتى كان لها الألف إن أقام والألفان إن أخرجها وقال زفر الشرطان جميعا فاسدان".

ص: 5791

وأبو حنيفة يخالف في ذلك؛ لأن أبا حنيفة يرى الوفاء بالأول لا الثاني؛ لأن الأول لا غرر فيه، والثاني فيه الغرر.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الوَاجِبِ فِي ذَلِكَ).

الحكم لا يخص هذه المسألة وحدها، بل ينسرح على كل مسألة تشبهها، فقضية أتزوجك بألف إن لم يكن لي امرأة، وإن كان لي فبألفين مثلها، وكل مسألة تشبهها تأخذ الحكم نفسه.

* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: الشَّرْطُ جَائِزٌ، وَلَهَا مِنَ الصَّدَاقِ بِحَسَبِ مَا اشْتَرَطَ).

هو يقول: "أتزوجك بألف إن لم يكن لي امرأة". فالأمر واضح. فإن لم يكن له امرأة يعطها الألف، وهذا أمر لا غبار عليه ولا شبهة فيه، وإن لم يكن له زوجة يعطها ألفين.

الذين منعوا ذلك قالوا: هذا حكم جمع شرطين، وفي ذلك جهالة وغرر، فلا يجوز.

والذين أجازوا قالوا: إن الصورة الأولى - وهو الشرط الأول - متحقق على كلا الأمرين، فإن لم يكن له زوجة فسيعطيها الألف، وإن كان له زوجة فسيعطيها ألفًا ويضيف إليها ألفًا آخر.

لكن، هذه الإضافة هل هذه جائزة أو لا؟

بعضهم قال: كما أنه يجوز له أن يزيد في المهر بعد تسميته، فكذلك يجوز هنا.

والواقع أن الأمرين مختلفان، تلك زيادة من نفسه يتبرع بها جاءت عن رضا، لكن هذه قيدها بشرط فهي مسألة جمعت شرطين.

ص: 5792

* قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَهَا مَهْرُ المِثْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ

(1)

، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا المُتْعَةُ

(2)

).

أما الشافعي فرأى أن يخرج من الخلاف فكأنه قال: علينا أن نَطرح هذه المسألة كليًّا، ونرجع إلى الأصل الذي هو محل اتفاق بيننا، وهو الرجوع إلى مهر المثل، فنلغي هذه المسألة ونرجع إلى مهر المثل؛ وذلك لأن الخلل ليس في العقد، وهذا فرق بين النكاح والبيع، فإن الخلل هنا - إن وُجِد - فهو في التسوية؛ أي: في المُسمى أي: في المهر؛ أي: في الصداق، وأما العقد فهو صحيح. ولو كان الكلام في العقد لتغيرت الحال.

إذن؛ الخلاف هنا فيما سُمي، فالشافعي يرى أنها مسألة فيها جهالة، وما دامت الجهالة متحققة فيها، فينبغي أن تترك هذه المسألة، وأن يُنتَقَل إلى مسألة أخرى، وهي أن نرجع إلى مهر المثل.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ، فَلَهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا مَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنَ الأَلْفَيْنِ، أَوْ أَقَلَّ مِنَ الأَلْفِ).

(1)

يُنظر: "العزيز شرح الوجيز"، للرافعي (8/ 255)، حيث قال: "في صحة المسمى قولان:

أحدهما: عن رواية ابن أبي هريرة وغيره أنه يصح، لأن الصداق عقد يستقل بنفسه، والمقصود منه المال، فلا يفسد بشرط الخيار، كالبيع.

وأصحهما: أنه يفسد، ويجب مهر المثل؛ لأن الصداق لا يتمحض عوضًا، بل فيه معنى النحلة، فلا يليق به الخيار".

والذي عليه المذهب أن لها مهر المثل، يُنظر:"مغني المحتاج"(2/ 400)؛ حيث قال: " (وفي البيع والصداق القولان) السابقان أظهرهما صحتهما، ولوزع المسمى على قيمة المبيع ومهر المثل، والثاني بطلانهما، ويجب مهر المثل".

(2)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 46)؛ حيث قال:"قال أبو ثور: إن دخل بها أو مات، أو ماتت، فصداق مثلها، فإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة".

ص: 5793

لماذا قال: إن لم تكن له امرأة فلها مهر مثلها؟

لأن هذا أمر متحدث عنه على الصورتين في الشرطين معًا، ولكن بالنسبة للأولى أراد أن يردها إلى مهر المثل، فيلتقي مع الشافعي في هذه الصورة لكنه قيد ذلك.

وأما من قال: لها المُتعة فليس هو أبو حنيفة، هو الذي ذكره بعد.

* قوله: (وَيَتَخَرَّجُ فِي هَذَا قَوْلٌ: إِنَّ النِّكَاحَ مَفْسُوخٌ لِمَكَانِ الغَرَرِ).

يستخدم المؤلف بعض المصطلحات يجب الوقوف عندها، فقد قال:"ويتخرج" فما التخريج في الفقه؟

أحكام الفقه في الأصل إنما استمدت من كتاب الله عز وجل ومن سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا هو الأصل، وهي مهما ابتعدت فهي ترجع إلى هذين الأصلين أو إلى مقاصده أو إلى أمر يعود إليهما، ومن الأمر الذي يعود إليهما التخريج.

فنحن نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك لنا فقهًا، وهذا الفقه أصوله في كتاب الله عز وجل وفي سُنة رسول صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم له فتاوى وهو أعظم المُفتين، وكذلك أصحابه من بعده أفتوا وكذلك التابعون، ولما جاء الأئمة الأربعة كانت لهم جهود عظيمة في خدمة هذا الفقه، وفي دراسة مسائله، بل إنهم أفنوا أعمارهم، وفرغوا أوقاتهم، وجهودهم في هذا العلم حتى نفع الله بهم البلاد والعباد، وامتد هذا النفع إلى وقتنا هذا ويمتد إلى ما بعده إن شاء الله.

فلا شك أنهم تركوا للأجيال من بعدهم ثروة عظيمة، وكنزًا كبيرًا فجزاهم الله خيرًا ورحمهم جميعًا، ولما جاء التلاميذ عُنُوا بهذه الثروة، وزادوها أيضًا، فزادوا على أقوال أئمتهم، فلما جاء مَن بعدهم أرادوا أن يعرفوا: ما الأصول؟ فقد بدأت الهمم تضعف، وبدأ الناس يركنون إلى أقوال مَن سبقوهم، فرأى هؤلاء الأعلام أن يبحثوا عن علل الأحكام، فتساءلوا: ما العلل؟ وما الأصول التي خَرَّجَ عليها الأئمة الأربعة وأمثالهم

ص: 5794

فقههم؟ هناك مسائل لم يرد فيها نص في الكتاب ولا في السُنَّة وهي مليئة في كُتب الفقه.

إذن؛ هذا ما نسميه بالتخريج على المسائل، هذا التخريج عندما عُني به تلاميذ، تلاميذ الأئمة؛ فأخذوا يبحثون عن علل الأحكام إجابة على سؤال: ما العلة التي لأجلها قيل بهذا الحكم وخُرج؟ فلما عرفوا الأصول وضبطوها أصبحوا يُخرِّجون عليها.

ولذلك ترونهم يقولون: هذه رواية في المذهب، وهذا قول في المذهب، وهذا تخريج في المذهب؛ فالتخريج في المذهب ليس قولًا ولا رواية عن الإمام؛ لكنه تخريج على أصوله؛ أي: قال به أتباع المذهب، بمعنى أنهم استنبطوا هذه المسائل مُعتمدين على أصول هذا المذهب. هذا هو معنى التخريج.

فقوله: "ويتخرج رأي كذا". يقصد به على مذهب مالك.

قوله: (وَيَتَخَرَّجُ فِي هَذَا قَوْلٌ: إِنَّ النِّكَاحَ مَفْسُوخٌ لِمَكَانِ الغَرَرِ).

قال: "إن النكاح مفسوخ لمكان الغرر". نعم، الغرر موجود

(1)

.

* قوله: (وَلَسْتُ أَذْكُرُ الآنَ نَصًّا فِيهَا فِي المَذْهَبِ، فَهَذه مَشْهُورُ مَسَائِلِهِمْ فِي هَذَا البَابِ، وَفُرُوعُهُ كثِيرَةٌ).

المعروف في مذهب مالك - فيما أعلم - أنهم في مثل هذه المسألة يقولون: هذه مسألة لو أن رجلًا قال لامرأة: أتزوجك بألف إن لم يكن عندي امرأة، وبألفين إن كانت لي امرأة. فقالوا: لا يصح في كلا الصورتين لما فيه من الغرر.

(1)

يُنظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (3/ 509)، حيث قال: "يدخل في ذلك كل ما كان فيه غرر كالبعير الشارد والجنين والثمرة التي لم يبد صلاحها على التبقية لا على القطع قاله في التوضيح

المشهور فيه أنه يفسخ قبل البناء ويثبت بعده بصداق المثل والفسخ بطلاق للاختلاف فيه".

ص: 5795

إذن الغرر موجود، وما دام الغرر موجودًا فإنه يؤثر، فقاسوا ذلك على البيع، لأن البيع عندهم يتأثر بالغرر، هذا هو المراد من قول المؤلف، ولم يعرف قول فيما يتعلق بالمذهب

(1)

.

* قوله: (فَهَذِهِ مَشْهُورُ مَسَائِلِهِمْ فِي هَذَا البَابِ، وَفُرُوعُهُ كثِيرَةٌ).

ومنها الأمثلة التي ذكرناها، وهي أيضًا كثيرة جدًّا، ويشبه بعضها بعضًا.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُعْتَبَرُ بِهِ مَهْرُ المِثْلِ إِذَا قُضِيَ بِهِ فِي هَذِهِ المَوَاضِع، وَمَا أَشْبَهَهَا، فَقَالَ مَالِكٌ: يُعْتَبَرُ فِي جَمَالِهَا وَنِصَابِهَا وَمَالِهَا)

(2)

.

وهل لدينا مقياس دقيق وميزان محدد نقف عنده لا يختلف فيه الأئمة؛ الجواب: لا، كما في قوله عليه الصلاة والسلام:"تُنكَح المرأة لأربع: لمالها وجمالها وحسبها ودينها"

(3)

. ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "فاظفر بذات الدين تربت يمينك"

(4)

. لأن صاحبة الدين هي التي يبحث عنها، وُيحرَص عليها، لأن الإنسان إذا رُزِق بذات دين وخُلق، فهذه هي السعادة في هذه الحياة، وهذه هي المرأة الصالحة التي قال: الرسول -

(1)

يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (3/ 266):"من جملة الأنكحة الفاسدة لصداقها فيفسخ قبل الدخول ويثبت بعده بصداق المثل، وهي ما إذا تزوج امرأة بألف درهم مثلًا على أنه إن كانت في عصمته زوجة غيرها فصداقها ألفان للغرر الحاصل في صلب العقد في مبلغ الصداق مع قدرتهما على رفعه".

(2)

يُنظر: "منح الجليل"، للشيخ عليش (3/ 468) "حيث قال:"وقد تأول بعض الناس على مالك - رضي الله تعالى عنه - أنه إنما ينظر إلى أمثالها من النساء في جمالها ومالها وعقلها، ولا ينظر إلى نساء قومها، وليس ذلك بصحيح على ما بيناه من مذهبه فيها من رسم الطلاق من سماع أشهب من كتاب النكاح الثاني".

(3)

أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

هو ختام الحديث السابق.

ص: 5796

عليه الصلاة والسلام -: "نِعمَ الرجل الصالح للمرأة الصالحة"

(1)

. وهي التي يسعى إليها كل مسلم، وكل مَن يسلك غير ذلك فقد سلك طريقًا قد أخطأ فيه، هذا الذي ينبغي أن يُتخَذ، فلا ينبغي أن يكون الهدف أمرًا آخر.

الجمال مطلوب لو وجد الجمال مع الدين، فهذا أمر طيب؛ لأنه يساعد على غض البصر، ولو وجِدَ المال فلا يُنكَر ذلك، لكن شريطة ألا يكون المال مما يترتب عليه ضَعْف الرجل، وكذلك النسب إذا وجِد فما أجمله! لكن لا ينبغي أن يؤدي إلى أن يكون الزوج مُحتقرًا أو ذليلًا في هذا المقام.

فالمسلم دائمًا ينبغي أن يكون مرفوع الهامة، لا يخضع إلا لله عز وجل.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: يُعْتَبَرُ فِي جَمَالِهَا وَنِصَابِهَا وَمَالِهَا).

يريد المؤلف أن يتناول بيان المثل، هل المقياس لذلك كما قال: الإمام مالك هو جمال المرأة ومنصبها وشرفها؟ جمال المرأة واحد، ومنصبها ومكانتها من حيث النسب، وشرف منزلتها بين الناس، هل هذا هو المقياس ولا ينظر إلى قريبة وإلى غير قريبة؟

هذا الذي قال به المالكية

(2)

، فهم يرون أن المرجع في ذلك هذه الصفات الثلاثة، وهذه لا تُقيد بقريب أو بغيره، فما يماثلها بجمالها أو في منصبها أو في شرفها هو الذي يُرجع إليه في هذا المقام.

وخالفه في ذلك بقية العلماء، هذه الشروط الثلاثة نجد أنها مُعتبرة عند الحنابلة، لكنهم يضيفون إليها أمرًا آخرًا؛ ولذلك نجد أنهم يقولون: في هذا المقام أن العبرة بنساء أقاربها

(3)

.

(1)

لم أقف عليه.

(2)

يُنظر: "التاج والإكليل"، لأبي عبد الله المواق (1/ 205) "حيث قال:"ومهر المثل ما يرغب به مثله فيها باعتبار دين وجمال وحسب".

(3)

يُنظر: "الإقناع"، للحجاوي (3/ 224)؛ حيث قال: "ومهر المثل معتبر بمن يساويها =

ص: 5797

ثم أيضًا يختلفون في قضية الأقارب هل المراد العَصبة؟ فيلتقون مع الشافعية في هذا المقام، فالشافعية يقولون: المُعتَبر بذلك عَصَباتها؛ أي: النساء أقاربها اللاتي يأتين عن طريق الأب

(1)

.

وبعضهم كمذهب الحنابلة وأبي حنيفة

(2)

من يقول: المعتبر بذلك هو القريب، لكن الحنابلة لم يلتقوا جملة مع الحنفية، إنما لهم رأي مع الشافعية ورأي آخر مع الحنفية.

فالعلماء إذن قد اختلفوا في هذه المسألة إذ لم يرد نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الذين قالوا: يُعتَبر نساء أقاربها تمسكوا بعموم حديث عبد الله بن مسعود في قصة المرأة التي قضى فيها قال لها: "مهر نسائها لا وكس

(3)

ولا شطط"

(4)

.

= من جميع أقاربها من جهة أبيها وأمها: كأختها وعمتها وبنت أخيها وبنت عمها وأمها وخالتها وغيرهن: القربى فالقربى وتعتبر المساواة في المال والجمال والعقل والأدب والسن والبكارة والثيوبة والبلد وصراحة نسبها وكل ما يختلف لأجله الصداق، فإن لم يوجد إلا دونها زيدت بقدر فضيلتها القربى فالقربى". وينظر:"دقائق أولي النهى"، للبهوتي (3/ 28).

(1)

يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 351)؛ حيث قال:" (مهر المثل ما يرغب به) عادة (في مثلها) نسبًا وصفة، (وركنه الأعظم نسب) ولو في العجم كالعرب كما هو ظاهر كلامه كالأكثرين؛ لأن التفاخر إنما يقع به غالبًا فتختلف الرغبات به مطلقًا خلافًا للقفال والعبادي، (فيراعى) من أقاربها لتقاس هي عليها (أقرب من تنسب) من نساء العصبة (إلى مَن تنسب هذه) التي تطلب معرفة مهرها (إليه) كأخت وعمة وبنت أخ لا جدة وخالة وأم، لقضائه صلى الله عليه وسلم بمهر نساء لبِرْوَع في الخبر المارِّ".

(2)

يُنظر: "المختصر"، للقدوري (ص 149) "حيث قال:"ومهر مثلها يعتبر بأخواتها وعماتها وبنات عمها ولا يعتبر بأمها وخالتها إذا لم يكونا من قبيلتها. ويعتبر في مهر المثل: أن تتساوى المرأتان في السن والجمال والعفة والمال والعقل والدين والبلد والعصر". وينظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (1853).

(3)

الوكس: النَّقص. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (5/ 219).

(4)

أخرجه أبو داود (2116) وفيه: "لها صداقا كصداق نسائها، لا وكس، ولا شطط"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1841).

ص: 5798

وفي رواية: "لها مهر نسائها من نساء قومها"

(1)

فقالوا: إن القوم هم الأقارب، وأخذوا من هذا الأثر أن المُرَاد بالنساء في هذا المقام إنما هُن القريبات.

* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْتَبَرُ بِنِسَاءِ عَصَبَتِهَا فَقَطْ).

وهي رواية للإمام أحمد

(2)

، لكن هناك سؤال: لماذا نجد أن بعض العلماء عُني بالعصبة، وبعضهم قال: مجرد القريب؟

العلماء لهم نظر في هذا؛ وذلك أن النسب يأتي عن طريق الأب لا عن طريق الأم، فالأم قد تكون مولاة، وقد تكون من قبيلة أو من أسرة دون أسرة الأب، فقالوا: إنما المقياس هو الأب؛ أي: العصبة، والعصبة هم من يرجعون إلى الأب.

لكن عند الحنفية، والحنابلة في رواية أخرى: سواء كانت من العصبة كالعمة التي هي أخت الأب، أو كانت من غير العصبة كأمها أو خالتها أو بنت خالتها وهكذا، فالمعتبر هو القرابة مطلقًا، سواء كان من العصبة وغيرها.

والذين تقيدوا بالعصبة قالوا: إن العصبة هم المعتبرون في ذلك، والنسب إنما يأتي عن طريق الأب، وهم أقارب الأب.

(1)

لم أقف عليه مسندًا، وممن ذكره ابن الفراء في كتاب الروايتين والوجهين (2/ 123)، فقال:"ومن ذهب إلى أنه يعتبر نساء العصبات وهو ظاهر كلام أحمد فوجهه: ما روي من حديث ابن مسعود: "أنه قام معقل بن يسار وغيره فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع ابنة واشق بمثل مهر نساء قومها. وقومها رجال قومها وكأنه قال: نساء رجالها، ونساء رجالها عصبتها"".

(2)

يُنظر: "المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين"، للقاضي أبي يعلى (2/ 122)؛ حيث قال:"نقل أبو الحارث: ينظر في ذلك إلى عصبتها إلا أن تكون امرأة جميلة فينظر حينئذ إلى مثلها في الجلالة والجمال".

ص: 5799

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ نِسَاءُ قَرَابَتِهَا مِنَ العَصَبَةِ وَغَيْرِهِمْ).

وهي الرواية الأخرى عن الإمام أحمد.

إذن الأقوال فيها ثلاثة:

قول مالك: نظر فيها إلى الصفات الثلاث الجمال والمنصب والشرف ولم يربط ذلك بالقوم.

الشافعي: قيد ذلك بالعصبة ووافقه أحمد في رواية.

أبو حنيفة: قيد ذلك بالقرابة، لكنه وسع المقام، فقال: لا فرق بين قريباتها من العصبة وغيرها، وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد.

* قوله: (وَمَبْنَى الخِلَافِ: هَلِ المُمَاثَلَةُ فِي المَنْصِبِ فَقَطْ؟ أَوْ فِي المَنْصِبِ وَالمَالِ وَالجَمَالِ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِدِينِهَا، وَجَمَالِهَا، وَحَسَبِهَا". الحَدِيثَ).

مُراد المؤلف رحمه الله: هل يُقتصر على واحدة من هذه؟ لأن الرسول قال: "تُنكح المرأة لأربع لمالها وجمالها وحسبها"

(1)

. وفي رواية: "نسبها ودينها"

(2)

. ثم قال: "فاظفر بذات الدين"، فهذه الثلاثة معتبرة مُجتمعة أو لو وجد منها واحد لكفى؟

هذا فيه خلاف داخل المذاهب.

* قوله: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِدِينِهَا، وَجِمَالِهَا، وَحَسَبِهَا" الحَدِيثَ)

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(502)، عن جعدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة على أربع خلال: على دينها، وعلى جمالها، وعلى مالها، وعلى حسبها ونسبها، فعليك بذات الدين تربت يداك".

(3)

لعله يقصد لفظ الدارمي في "سننه"(3/ 1387): "تنكح النساء لأربع: للدين، والجمال، والمال، والحسب، فعليك بذات الدين تربت يداك".

ص: 5800

هذه رواية، وجاءت الرواية الأخرى المتفق عليها:"تُنكَح المرأة لأربع". في اللفظ الآخر.

* قوله: (المَوْضِعُ السَّادِسُ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي الصَّدَاقِ).

هذه مسألة أكثر المؤلف من الخوض فيها، وخالف في ذلك كثيرًا من الفقهاء؛ فإن الفقهاء عادة ما يجعلون الأساس هو الاختلاف في القدر، ثم بعد ذلك يردون إليه غيره؛ لكنه ذكر الوقت وذكر الجنس وذكر أيضًا أمرًا رابعًا.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

‌الموضع السادس في اختلاف الزوجين في الصداق

(وَاخْتِلَافُهُم لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي القَبْضِ أَوْ فِي القَدْرِ، أَوْ فِي الجِنْسِ، أَوْ فِي الوَقْتِ، أَعْنِي: وَقْتَ الوُجُوبِ).

القبض يعني أن تقول: قبضت، قد يقول الزوج قبضت المهر، ربما هي تُنكر ذلك.

فما الحكم في هذه المسألة؟

المؤلف بدأ بالقبض، لكنه عندما دخل في التفصيل عاد فبدأ بالقدر؛ لأن القدر هو الذي يُعَوِّل عليه العلماء في كتبهم ويدرجون تحته هذه المسائل.

قوله: (أَوْ فِي القَدْرِ).

ما مقداره؟ هل هو ألف، أو ألفان، أو مائة، أو مائتان؟ هناك خلاف قد يقول الزوج أن القدر كذا والمرأة كذا.

قوله: (أَوْ فِي الجِنْسِ).

أو في الجنس أيضًا، ما جنسه؟ هل هو حيوان أو هو مثلًا نبات،

ص: 5801

هل هو مثلًا من أنواع الأقمشة إلى غير ذلك؛ يختلفون فيه، وإن كان أيضًا من هذا النوع فما جنسه أيضًا؟ قد تُحَدد العِلة، لكنه يُختَلف في الجنس.

قوله: (أَوْ فِي الوَقْتِ).

كذلك الوقت أيضًا، متى يُقَدم؟ هل هو يُقدم حالًّا؟ أو مؤجل أو بعضه مُقدم وبعضه مؤخر؟ كل ذلك قد يقع فيه، والخلاف هنا في المُسَمى لا تأثير له على العقد.

* قوله: (فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي القَدْرِ).

رجع إلى القدر؛ لأنه هو المسألة الكبرى والأصل في هذا المقام، فرجع فاعتبرها هي الأولى؛ ولذلك سيطيل نفسه في بحثها ويُدقق فيها ويعالجها معالجة عقلية، بينما سيشير إشارات خفيفة في بقية المسائل التي ذكرها.

قوله: (فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي القَدْرِ).

أولًا: إذا حصل خلاف في القَدرِ ووجدت بينة رَفَعت ذلك الخلاف، كأن يكون شاهد حاضر يسمع ما حصل بينهما، اتفقا على تحديده، فالحاضر يقول: نعم اتفقتم على كذا، وكان ثقة فيؤخذ بقوله.

فالخلاف يحصل في حال عدم وجود بَيِّنة، ولا يُدرى هل الحق مع الزوج أو مع الزوجة، ولكن هناك ضوابط وضعها العلماء، أحيانًا تكون الشبهة في جانب الزوجة، وأحيانًا تكون في جانب الزوج، فإذا وجد أن الأقرب إلى الواقع إنما هو الزوج أُخِذ بقوله، وإن وجد أن الزوجة هي الأقرب للواقع أخذ بقولها.

ويكون قول الزوجة هو المعتبر إذا كان ما تطلبه يُعادل مهر المثل؛ يعني: إذا طلبت قدرًا مُحددًا، ووجدنا أنه يُساوي مهر المثل.

ولو كانت الزوجة تطلب مالًا كثيرًا، والزوج يدَّعي مهر المثل، فالقول هنا إنما قول الزوج.

ص: 5802

إذن، يُعتَبر قول الزوجة في حالتين:

- إذا ادعت مهر المثل، فهي في هذه الحالة لم تتجاوز الحد، وقولها يتفق مع الواقع والمعروف والعُرف.

- وإن طلبت دون ذلك فهذا أيضًا اقتناع وتنازل منها، فقولها معتبر.

وإذا ادعى الزوج مهر المثل أو أكثر منه، لأن الزيادة ستكون عليه فقوله هو المعتبر في هذا المقام.

وهذا بإجمال هو مذهب الحنفية

(1)

والحنابلة

(2)

، وكثيرًا يتقارب الحنفية والحنابلة في مسائل كالصداق، أما الشافعية

(3)

فيرون أنه يُرجع في ذلك إلى التحالف، فيتحالفان، فإن نكل أحدهما أُخذ بقول الحالف؛ لأن هذا أقسم يمينًا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"اليمين على من أنكر"

(4)

. فيؤخذ بقوله، وذاك قد نكل فامتنع عن اليمين، وإن تحالفا معًا فلا ميزة لأحدهما

على الآخر، فيُرجع إلى مهر المثل.

(1)

يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 193)؛ حيث قال:" (قوله: وإن اختلفا في قدر المهر حكم مهر المثل)؛ أي: اختلف الزوجان في قدره بأن ادعى ألفًا وهي ألفين وليس لأحدهما بينة فإنه يجعل مهر المثل حكمًا فإن كان مهر المثل ألفًا أو أقل فالقول قوله مع يمينه بالله ما تزوجتها على ألفين؛ فإن حلف لزمه ما أقر به تسمية وإن نكل لزمه ما ادعت المرأة على أنه مسمى لإقراره أو بذله بالنكول".

(2)

يُنظر: "الإقناع"، للحجاوي (3/ 221: 222)؛ حيث قال: "وإن اختلفا الزوجان أو ورثتهما أو الزوج وولي غير مكلفة في قدر الصداق أو عينه أو صفته أو نجسه أو ما يستقر به: فقول زوج أو وارثه بيمينه، ولو لم يكن مهر مثل وفي تسميته فقوله بيمينه ولها مهر مثل".

(3)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للخطيب الشربيني (4/ 400)؛ حيث قال: "إذا (اختلفا)؛ أي: الزوجان قبل وطء أو بعده مع بقاء الزوجية أو زوالها (في قدر مهر) مسمى وكان ما يدعيه الزوج أقل كقوله: عقد بألف، فقالت: بل بألفين

(تحالفا) قياسًا على البيع؛ لأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، وكيفية اليمين ومن يبدأ به على ما مر في البيع، لكن يبدأ هنا بالزوج لقوة جانبه بعد التحالف ببقاء البضع له".

(4)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 427) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2641)، وهو عند البخاري (4552)، ومسلم (1171) بلفظ:"اليمين على المدعى عليه".

ص: 5803

* قوله: (فَقَالَتِ المَرْأَةُ مَثَلًا: بِمِائَتَيْنِ، وَقَالَ الزَّوْجُ: بِمِائَةٍ؛ فَإِنَّ الفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كثِيرًا. فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ الاخْتِلَافُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَتَى الزَّوْجُ بِمَا يُشْبِه، وَالمَرْأَةُ بِمَا يُشْبِهُ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ)

(1)

.

يعني: إذا كان قبل العقد، ثم حصل الخلاف، فمالك عنده اعتبار الشبهة، من كانت شبهته أقوى، وعنده شبهة تدعم قوله، ولذلك سماه شبهًا فهذا يُقدَم قوله.

* قوله: (وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَنَكَلَ الآخَرُ؛ كَانَ القَوْلُ قَوْلَ الحَالِفِ)

(2)

.

نكل؛ أي: أبى أن يحلف

(3)

، وليس معنى هذا أنه في باب الدعاوى والبينات أنه دائمًا يكون الحق مع الحالف، فكم من أناس يحلفون بالله أيمانًا مُغلظة وهم لا يؤمنون، والله تعالى يقول:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224].

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إنكم تختصمون إليّ، ولعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر"

(4)

.

بعض الناس يعطيه الله قوة في الحجة وبيانًا وفصاحة وقدرة على

(1)

يُنظر: "التاج والإكليل"، لأبي عبد الله المواق (5/ 233) "حيث قال:"مالك مرة: يتحالفان ويتفاسخان. وقال مرة: القول قول من أتى بما يشبه دون الآخر، وهو أصوب؛ لأن ذلك دليل له كالشاهد يحلف معه من قام له دليل".

(2)

يُنظر: "منح الجليل"، للشيخ عليش (3/ 518)، حيث قال:"فإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضي بقول الحالف".

(3)

يُنظر: "العين"، للفراهيدي (5/ 372)؛ حيث قال:"نكل عن اليمين: حاد عنه، والنكول عن اليمين: الامتناع منها".

(4)

أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713) من حديث أم سلمة - رضي الله عنهما -.

ص: 5804

التأثير، وكما قيل عن البعض أنه يستطيع أن يقيم ببيانه أن هذه السارية من ذهب، لا أنها هذا الذي يذكر عنه في الباطل، لكنه قوي الحجة، وهذا نسبوه عن الإمام أبي حنيفة، بعض الناس تكون عارضته قوية وحجته مؤثرة، عنده قدرة على استجماع الأدلة واستحضارها، هذا إن كان سعيه للحق، فهذا أمر محمود، وإن كان يسعى إلى إقامة الباطل مقام الحق، فما أسوأ ذلك! فهو يلبس الحق بالباطل.

يقول عليه الصلاة والسلام: "ولعل أحدكم ألحن" يعني: أقوى "بحجته من الآخر، فأقضي على نحو مما أسمع".

وبهذا يتبين أن القاضي عندما يحكم بقضية فإنما يحكم بها على ضوء ما يظهر له من الأدلة والقرائن، وليس معنى ذلك - كما يظن البعض - أن الإنسان لو طالب غيره بحق، ويعلم أن المطالبة باطلة، لكنه ربما أحضر شهودًا، وهؤلاء الشهود قد يكونون شهود زور، وحكم له بالحق، فإن القاضي لا يُحِل له ذلك، ولذلك يقول الرسول:"إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار".

الآن أصبح الحق في الظاهر له، فإن شاء فليأخذه، وإن شاء فليدعه، لكن خاتمة المطاف:"فإنما أقطع له به قطعة من النار فإن شاء فليأخذها وإن شاء فليدعها".

فهل يرضى مسلم أن يأخذ قطعة من نار يكوى بها يوم القيامة؟ هذا قد يحصل، فكم من أناس يدعون أمورًا ليست لهم، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام:"لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم"

(1)

.

ثم وضع لنا عليه الصلاة والسلام القاعدة الثابتة في ذلك:

(1)

أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711) واللفظ له من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 5805

"ولكن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر". هذه رواية البيهقي، وفي الصحيحين:"واليمين على المُدعى عليه".

إذن هذه مقاييس وأصول وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم وحذَّر المؤمنين منها، ولكن قد يوجد من بين المسلمين من هو ضعيف النفس؛ ولذلك يقول تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].

ليس معنى هذا أن الذي يحلف يكون الحق معه، بعض الناس لا يريد أن يحلف تورعًا، يقول: لماذا أحلف؟ وليأخذ هذا الأمر وليأخذ هذا المال وسأجده عند الله، سأجده في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77].

فإن المتقي لله سبحانه وتعالى هو الذي يخشاه سبحانه وتعالى، وخشية الله وتقواه يمبغي دائمًا أن تظهر في أعمال الإنسان، قد تكون أقوال الإنسان طيبة، لكن ينبغي أن تُرى مطبقة في أعماله، كما كان سلف هذه الأمة، وفي مقدمتهم أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وبذلك هناك كثرة المسائل والخلافات في كتاب الدعاوى والبينات.

ففي مسألتنا يقبل قول الحالف لأننا نحلفه باللّه ولسنا مُطالبين أن نحكم على الأسرار؛ لأننا لا ندرك ما في السرائر فلا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59].

والذي يعلم خائنة الأنفس وما تخفي الصدور، الذي يعلم السر وأخفى إنما هو الله سبحانه وتعالى أما الخلق فلا يعلمون، وأما أنبياء الله ورسله فإنهم يعلمون من الغيب ما يطلعهم الله سبحانه وتعالى عليه، أما هم فلا يملكون شيئًا، ولذلك يقول الله تعالى عن نبيه:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف: 188].

ص: 5806

فإذا كان هذا محمد بن عبد الله صفوة الخليقة لا يعلم من الغيب إلا من علمَه الله، فما بالكم بمن يدعي ذلك من السحرة والكهنة والمشعوذين، هؤلاء الذين خرجوا عن طريق الهداية إلى طريق الغواية.

* قوله: (وَإِنْ نَكَلَا جَمِيعًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا إِذَا حَلَفَا جَمِيعًا، وَمَنْ أَتَى بِمَا يُشْبِهُ مِنْهُمَا، كَانَ القَوْلُ قَوْلَهُ)

(1)

.

أولًا هذا كله مبني على القاعدة المعروفة عند المالكية في البيوع: أنه عند الاختلاف في التقابض يُنظَر: هل كان ذلك - يعني: الاختلاف في الثمن - قبل التقابض أو بعده؟ فإن كان قبل التقابض فيحصل الفسخ وإن كان بعده فلا، هذا هو مذهب مالك في هذه المسألة

(2)

.

لكن ليس معنى هذا عندما يقول المؤلف هذا مذهب مالك أن المالكية قد أطبقوا على ذلك، لا، فمن المالكية مَن خرجوا على مذهبه، ليس خروج إبطال للمذهب أو تعارض أو تنكر، لكنه خروج إذا رأوا أن الحق مع غيره، كغيرهم أيضًا من الفقهاء.

* قوله: (وَإِنْ كَانَ الاخْتِلَافُ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَالقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ

(3)

.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: القَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ

(4)

، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ،

(1)

يُنظر: "التاج والإكليل"، لأبي عبد الله المواق (6/ 470)؛ حيث قال:"قال ابن القاسم: إن حلفَا ترادَّا وإن نكلَا ترادَّا؛ لأنهما استويا في الحال كما لو حلفَا لأنه ليس أحدهما أرجح من الآخر (وصدق من ادعى الأشبه وحلف إن فات) ".

(2)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(3/ 190)؛ حيث قال؛ "يتحالفان ويتفاسخان عند قيام السلعة، وأما مع فواتها فإن المشتري يصدق بيمينه إن ادعى شبهًا أشبه البائع أيضًا أم لا، ويلزم البائع ما قال المشتري فإن انفرد البائع بالشبه كان القول قوله بيمين، ويلزم المشتري ما قال فإن لم يشبه واحد منهما حلفَا وفسخ وردت قيمة السلعة يوم بيعها إن كانت مقومة ورد مثلها إن كانت مثلية، ونكولهما كحلفهما ويقضى للحالف على الناكل".

(3)

يُنظر: "التاج والإكليل"، لأبي عبد الله المواق (5/ 233)؛ حيث قال:"وإن كان قد بنى كان القول قول الزوج".

(4)

يُنظر: "التاج والإكليل"، لأبي عبد الله المواق (5/ 233)؛ حيث قال: "قال اللخمي: إذا=

ص: 5807

وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَجَمَاعَةٌ

(1)

).

ابن أبي ليلى إنما هو من التابعين.

* قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: القَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ إِلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، وَقَوْلُ الزَّوْجِ فِيمَا زَادَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا).

هذا قد سبق بيانه ومن طريقة المؤلف: أنه يقدم ويؤخر ويكرر، فالشافعية عندهم التحالف، الحنفية، والحنابلة قولهم قريب من هذا أنه يُنظر إلى الأقرب إلى المهر المثل أو الواقع.

* قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: (لقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ إِلَى مَهْرِ مِثْلِهَا).

هذه المسألة بُذِلت فيها الجهود العظيمة وأنفق العلماء فيها أوقاتًا ثمينة وأمضوا زمنًا ليس باليسير، أعملوا أفكارهم وسَرَّحوا عقولهم فيها، ومع ذلك نرى كثرة الخلاف لعدم وجود دليل، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يقول:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]؛ فما بالنا بتلكم القوانين!

هذه مسائل يبنيها العلماء على أدلة، وهي لا شك أقوال بُنيت على الحق، وقُصِد بها الوصول إلى الحق، ومع ذلك إذا خَلت المسألة من أدلة صريحة من الكتاب والسُّنة، وقد توجد أدلة ولكنها غير صريحة، نجد هناك خلافًا، فما بالكم إن لم تكن هناك أدلة.

فما هو الشأن فيمن يرجعون إلى أفكار الناس، وإلى حصيلة عقولهم، وإلى قوانين قد أكل عليها الزمان، توضع اليوم وتستبدل غدًا، لأنها من وضع الناس، وعقول الناس محدودة، فمهما أوتي أحدهم من

= اختلفا في قدر المهر فقالت مائة ومال الزوج خمسون وكان ذلك بعد البناء فالقول قول الزوج مع يمينه إذا أتى بما يشبه؛ لأنه حينئذ غارم وقد فات المبيع بالدخول".

(1)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 50)؛ حيث قال:"فقال الشعبي، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو ثور: القول قول الزوج مع يمينه".

ص: 5808

الذكاء ومن الفطنة فإنه لا يستطيع أن يهتدي إلى ما أراده الله سبحانه وتعالى في عمارة وقيام هذا الكون.

ولهذا أنزل الله سبحانه وتعالى هذه الشريعة: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18].

وشريعة الله خالدة، هناك نماذج اختلف فيها العلماء ويتوسع الخلاف وتتعدد الأقوال وتختلف وجهات النظر؛ لأنه لا يوجد في المسألة أدلة تحسم النزاع، لكنها كلها مسائل بحمد الله مُجتَهَد فيها إن أصاب الإنسان الحق فيها فله أجران؛ أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الحق، وإن اجتهد وأخطأ - وهو من أهل الاجتهاد - فإنه يؤجر على الاجتهاد لأنه أراد الخير ولا يريد غيره.

لكن مَن يخرج عن شريعة الله ويتجاوزها، ويأتي بأمور قد وضعها الناس، فإن كان ممن يعتقد أن الحق في هذه القوانين، وأنها أولى من شريعة الله أو أنها مساوية لشريعة الله، فهذا هو الكفر الصريح:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].

أما مَن يعتقد أن الحق في شريعة الله، وأن شرع الله لا يساويه غيره مهما كان، ولكنه ربما يأخذ بهذه القوانين إما لضرورة أو أمر من الأمور؛ فهذا لم يصل لدرجة الكفر، وإنما يكون ظالمًا أو فاسقًا.

والله سبحانه وتعالى قد قسَّم هذا الإثم إلى أنواع ثلاثة: شتان بين إنسان يحكم بالقانون ويرى أنه الحق وأنه أولى من حكم علام الغيوب، وبين إنسان يعلم أن الحق إنما هو في شريعة الله، وأنه مهما جاء الناس بأمور فإنهم لم يصلوا إليها ولم يبلغوها، لكنه وقع في هذا الأمر إما لمتابعة، أو لضرورة، أو لأمر من الأمور، وهو لا يُعذَر في هذا المقام، لكن لو قُدِّر أن هذا حصل، فالحكم على هؤلاء يختلف، والحكم هنا حكم عقدي.

فينبغي للمسلم دائمًا ألا يُطلق كلمة الكفر إلا على مَن يستحق الكفر، ولا ينبغي له أن يَسب إنسانًا بعينه، وإنما إذا لعن فليلعن الكافرين عمومًا.

ص: 5809

* قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِذَا اخْتَلَفَا تَحَالَفَا، وَرُجِعَ إِلَى مَهْرِ المِثْلِ، وَلَمْ تَرَ الفَسْخَ كمَالِكٍ

(1)

، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ

(2)

، وَالثَّوْرِيِّ

(3)

، وَجَمَاعَةٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى صَدَاقِ المِثْلِ دُونَ يَمِينٍ مَا لَمْ يَكُنْ صَدَاقُ المِثْلِ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَتْ، وَأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَى هُوَ).

في هذه المسألة حصل فيها خلاف فما هو أقرب إلى الواقع يُقدَّم رأيه، فإن كانت المرأة تقول ما حُدد لي كذا، وهو يساوي مهر مثيلاتها أو يَنقص عنه، فهو يُقدم في هذا، وإن كان قول الزوج هو الذي يلتقي مع مهر المثل أو يزيد عنه وهذه الزيادة عليه وهي تدعى أمرًا كبيرًا فلا يلتفت إلى قولها.

ومن العلماء من قال بالتحالف، لرفع الإشكال ورفع الخلاف في هذا وعلى القاعدة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"

(4)

. والقاضي أو المفتي في مثل هذه الأمور دائمًا ينظر إلى القرائن، فهو إذا أراد أن يقضي في قضية مثل هذا فإنه يرجع إلى القرائن وإلى الملابسات، وعندما تتعذر الحجة حينئذ يجتهد في هذا المقام، وهذه من المسائل التي يؤجر الإنسان عليها.

(1)

سبق بيانه.

(2)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 400)، وفيه قال:"إذا (اختلفا)؛ أي: الزوجان قبل وطء أو بعده مع بقاء الزوجية أو زوالها (في قدر مهر) مسمى وكان ما يدعيه الزوج أقل كقوله: عقد بألف، فقالت: بل بألفين (أو) في (صفته) الشاملة لجنسه والحلول والتأجيل وقدر الأجل، كأن قالت بألف دينار، فقال: بل بألف درهم أو قالت بألف صحيحة، فقال: بل مكسرة أو بحال فقال بل بمؤجل أو بمؤجل إلى سنة فقال بل إلى سنتين ولا بينة لأحدهما أو تعارضت بينتاهما (تحالفا) قياسًا على البيع".

(3)

يُنظر: "عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب المالكي (ص 332):"يتحالفان قبل الدخول وبعده، ويرجع إلى مهر المثل، ولا يفسخ النكاح، وبه قال الثوري".

(4)

أخرجه الترمذي (2518) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2074).

ص: 5810

* قوله: (وَاخْتِلَافُهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "البَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أنْكَرَ"، هَلْ ذَلِكَ مُعَلَّلٌ؟ أَوْ غَيْرُ مُعَلَّلٍ؟).

في أول الحديث: "لو يُعطى الناس بدعواهم"، لو أن كل إنسان يدعي أمرًا من الأمور لضاعت حقوق الناس، ولو كان الناس كلهم يلتزمون الحق لما وقعت مشكلات وخلافات بين الناس، لكن الناس يتفاوتون، فهناك من الناس من لا يرضى بحق، ولكنه يريد أن يتجاوزه، ويتعدى على الآخرين، وهناك مَن يريد أن يأكل مال أخيه، وهناك مَن يريد أن يتعدى على أموال اليتامى، وهناك من يريد أن يظلم وأن يأخذ حق هذا، ومن يريد أن يعتدي على نفس هذا، وهكذا "لو يُعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم" ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع فصل الخطاب في ذلك: "ولكن البينة على المُدعي واليمين على المدعى عليه".

إذا ادعيت أن لك حقًّا عند فلان فعليك أن تأتي بالبينة، فإذا أتيت بالبينة فستأخذ حقك، وإذا لم تأت بالبينة فليس لك أكثر من أن يحلف هذا الذي ادعيت عليه، فإن كان أخذ حقك وحلف بالله كاذبًا فإنه سينال جزاءه عند الله تعالى مقابل أنه أخذ حقك بغير حق والله تعالى يقول:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. وأيضًا أقسم وهو كاذب وسيجازى على ذلك.

وأما الإنسان الذي أُخذ منه الحق ويُظلَم فلا يضيع وإن ضاع في الدنيا فسيجده مُدخرًا له يوم القيامة عندما توضع الموازين: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: 47]. وكل إنسان يحتاج إلى الحسنة الواحدة في ذلك اليوم عَلَّ كفته ترجح ليكون من أصحاب اليمين.

* قوله: (فَمَنْ قَالَ: مُعَلَّلٌ، قَالَ: يَحْلِفُ أَبَدًا أَقْوَاهُمَا شُبْهَةً، فَإِنِ اسْتَوَيَا، تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا. وَمَنْ قَالَ: غَيْرُ مُعَلَّلٍ، قَالَ: يَحْلِفُ الزَّوْج،

ص: 5811

لِأَنَّهَا تُقِرُّ لَهُ بِالنِّكَاحِ وَجِنْسِ الصَّدَاقِ، وَتَدَّعِي عَلَيْهِ قَدْرًا زَائِدًا، فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ).

هذا هو الأصل، هناك من الناس مَن يهبه الله نفسًا طيبةً كريمةً يتنازل عن حقه فلا يريد مثل هذا الإشكال، بعض الناس يكره أن يذهب ليدخل في مشكلة، فيأتي الزوج فيكون طيب النفس فيوافق على ما ادعت، أو العكس أيضًا من الزوجة.

فهناك من الناس مَن يهبهم الله سبحانه وتعالى عقولًا مدركة واعية راجحة ونفوس مطمئنة؛ فهؤلاء دائمًا يتجنبون المشكلات ويبتعدون عن المزالق، وعن الخوض في الأمور التي ربما تجرهم إلى أمور لا يحبونها، وإن كانوا يرون أن الحق معهم؛ ولذلك فيما يُعرَف بباب الصلح، وأن القاضي عندما يأتي إليه المتخاصمان، وبخاصة في أمور الدنيا، أو في بعض المشكلات، يحاول دائمًا أن يُصلح بينهما، والله تعالى يقول:{وَالصُّلْحُ خَيْر} [النساء: 128].

والكذب محرم، يهدي إلى الفجور، والرجل لا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذَّابًا، لكن من المواضع التي يجوز للإنسان أن يكذب فيها في حالة الصُّلح، فإذا وجدت خلافًا بين اثنين من المؤمنين، وأردت أن تُصلِح بينهما فتقرب النفوس وتردها إلى الأخوة الطيبة، وتزيل الشوائب وترفع الحواجز، وتزيل الفواصل، وتجعل النفوس قريبة، والقلوب أيضًا ملتقية، فلا مانع أن تكذب في هذا المقام؛ لتُصلح بينهم، ففرق بين مَن يكذب ليفسد ومن يكذب ليصلح.

والصلح كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "جائز بين المسلمين إلا صُلحًا أحل حرامًا أو حرَّم حلالًا"

(1)

، فإذا كان هذا الصلح ينتهي إلى تحليل المحرم وتحريم المحلل فهذا هو الذي لا يجوز.

(1)

أخرجه أبو داود (3594) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3862).

ص: 5812

*قوله: (وَقِيلَ أَيْضًا: يَتَحَالَفَانِ أَبَدًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعًى عَلَيْهِ

(1)

، وَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ لَمْ يُرَاعِ الأَشْبَاهَ، وَالخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي المَذْهَبِ

(2)

، وَمَنْ قَالَ: القَوْلُ قَوْلُهَا إِلَى مَهْرِ المِثْلِ، وَالقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى مَهْرِ المِثْلِ؛ رَأَى أَنَّهُمَا لَا يَسْتوِيَانِ أَبَدًا فِي الدَّعْوَى).

لأن التُّهمة هنا منتفية، هو لو ادعى أكثر من مهر المثل فلا تهمة تُلحق به؛ لأن الزيادة إنما هو الذي سيدفعها، وهي لو وقفت عند مهر المثل فهي أيضًا غير متهمة؛ لأنها لم تزد عن مهر المثل.

* قوله: (بَلْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا وَلَا بُدَّ أَقْوَى شُبْهَةً؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلو دَعْوَاهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يُعَادِلُ صَدَاقَ مِثْلِهَا فَمَا دُونَه، فَيَكُونَ القَوْلُ قَوْلَهَا، أَوْ يَكُونَ فِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ، فَيَكُونَ القَوْلُ قَوْلَهُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي التَّفَاسُخِ بَعْدَ التَّحَالُفِ وَالرُّجُوعِ إِلَى صَدَاقِ المِثْلِ؛ هُوَ هَلْ يُشَبَّهُ النِّكَاحُ بِالبَيْعِ فِي ذَلِكَ؟ أَمْ لَيْسَ يُشَبَّهُ؟ فَمَنْ قَالَ: يُشَبَّهُ بِهِ؛ قَالَ بِالتَّفَاسُخِ).

المالكية يرون الخلاف قبل القبض وبعده في البيع، فيلحقونه به

(3)

،

(1)

يُنظر: "بحر المذهب"، للروياني (9/ 474) "حيث قال:"وكل واحد من للزوجين مدعٍ ومدعى عليه؛ فإن الزوج يقول: تزوجتك بألف وما تزوجتك بألفين. والزوجة تقول: تزوجتني بألفين وما تزوجتني بألف. فلم يتراجح أحدهما على صاحبه وتساويا في الدعوى والإنكار فتحالفا".

(2)

يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة"، لابن يونس (9/ 250)؛ حيث قال:"وإن اختلفا في هذا بعد البناء، فالقول قول الزوج مع يمينه. قال ابن القاسم: لأنها أمكنته من نفسها فصارت مدعية، وهو مقر لها بدين، فالقول قوله مع يمينه". وينظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد القيرواني (4/ 480).

(3)

يُنظر: "التاج والإكليل"، لأبي عبد الله المواق (5/ 232)؛ حيث قال:"فيتحالفان ويتفاسخان قبل الدخول ويثبت النكاح بعد الدخول، ولها صداق المثل ما لم يكن قدر ذلك فوق ما ادعته أو دون ما ادعى".

ص: 5813

الشافعية

(1)

ومعهم الحنفية

(2)

والحنابلة

(3)

يرون أنه لا تأثير على العقد في هذا المقام، وإنما الخلاف كله في المُسمى بالمهر.

* قوله: (وَمَنْ قَالَ: لَا يُشَبَّهُ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ العَقْدِ، قَالَ بِصَدَاقِ المِثْلِ بَعْدَ التَّحَالُفِ)

(4)

.

لأن رد العِوض يقتضي رد المعوَّض، يعني: فساد العوض يقتضي رد المعوض، وليس هذا بالنسبة للنكاح، لأن نكاح العقد صحيح.

* قوله: (وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمَا بَعْدَ التَّحَالُفِ أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى شَيْءٍ، وَلَا أَنْ يَرْجِعَ أَحَدُهُمَا إِلَى قَوْلِ الآخَرِ، وَيَرْضَى بِهِ؛ فَهُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ).

دعوى الزنا ليست من الأمور السهلة؛ فإن الله سبحانه وتعالى حَض على صيانة المؤمنين والحفاظ على أعراضهم؛ ولذلك يذكر العلماء رحمهم الله الضروريات الخمس، التي استمدوها من كتاب الله عز وجل وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهي المحافظة على الدين وعلى العقل، وكذلك على النفس وعلى العرض وعلى المال، هذه ضروريات خمس لا بد منها، فإذا ما زنت المرأة أو الرجل فلا بد من وجود أربعة شهود، ويشهدون أيضًا أنهم شاهدوا.

(1)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (7/ 418)؛ حيث قال:" (ثم) بعد التحالف (يفسخ المهر) المسمى؛ أي: يفسخه كلاهما أو أحدهما أو الحاكم وينفذ باطنًا أيضًا من المحق فقط لمصيره بالتحالف مجهولًا، ولا ينفسخ بالتحالف كالبيع (ويجب مهر مثل)، وإن زاد على ما ادعته لأن التحالف يوجب رد البضع وهو متعذر فوجبت قيمته".

(2)

يُنظر: "المختصر"، للقدوري (ص 218)؛ حيث قال:"وإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة وإن لم تكن لهما بينة تحالفَا عند أبي حنيفة ولم يفسخ النكاح ولكن يحكم مهر المثل".

(3)

يُنظر: "المبدع في شرح المقنع"، لابن مفلح (6/ 219)؛ حيث قال:"وإن حلفا وجب مهر المثل".

(4)

سبق بيانه.

ص: 5814

في قصة عمر رضي الله عنه في قصة الذين اتهموا ذلك الصحابي؛ فإنه عندما شهد ثلاثة وتردد الرابع فإن عمر جلدهم واعتبرهم قاذفين

(1)

.

* قوله: (وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا، فَإِنَّمَا يُشْبِهُ اللِّعَانَ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ ضَعِيفٌ مَعَ أَنَّ وُجُودَ هَذَا الحُكْمِ لِلِّعَان مُخْتَلَفٌ فِيهِ).

اللعان معروف، وهو أن يرمي الزوج زوجته بالزنا - نسأل الله العافية - ولا شهود عنده، فهو بين أمرين: إما أن يُثبت ذلك، وإما أن يقام عليه الحد، وإما أن يُلاعن

(2)

؛ ولذلك لما جاء هلال بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له مثل ذلك عن زوجته فقرر الرسول: "البينة أو حد في ظهرك"

(3)

، حتى نزل قول الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)} ثم قال بعد ذلك سبحانه: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} [النور: 6 - 9].

هذا ما يتعلق بالملاعنة، هو رمي الزوجة بالزنا دون وجود شهود، فلم يكن مع الإنسان ما يُثبت ذلك، ومن يرم بريئًا رجلًا أو امرأة بالزنا ولا شهود عنده فإنه يقام عليه حد القذف {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور: 4].

وهذا كله للحفاظ على أعراض المسلمين وصيانتها من أن يُتعدى

(1)

أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 153)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2361).

(2)

يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (4/ 123 - 124)؛ حيث قال:"عرفه ابن عرفة بقوله: حلف الزوج على زنا زوجته أو نفى حملها اللازم له وحلفها على تكذيبه إن أوجب نكولها حدها بحكم قاض".

(3)

أخرجه البخاري (2671) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 5815

عليها، وهذا سيأتي الكلام عليه إن شاء الله مُفصلًا في باب مستقل.

" قوك: (وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي القَبْضِ، فَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: لَمْ أَقْبِضْ، وَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ قَبَضَتْ).

الخلاف بين الجمهور وبين المالكية، فالجمهور رأيهم متحد، وهم الأئمة الثلاثة، وأما المالكية فهم يخالفون، ومن الملاحَظ كثرة انفراد المالكية فيما يتعلق بأحكام الصداق؛ لأنه غالبًا أو دائمًا عمدة المالكية فيما يتعلق في الصداق إنما هو القياس على البيع، والجمهور يخالفونهم في هذه المسألة، وقد وضعوا أساسًا وقاعدة في هذا الأمر.

* قول: (فَقَالَ الجُمْهُورُ: القَوْلُ قَوْلُ المَرْأَةِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(1)

، وَالثَّوْرِيُّ

(2)

، وَأَحْمَدُ

(3)

، وَأَبُو ثَوْرٍ

(4)

).

القول قول المرأة لأنها مُدعى عليها، الزوج يدعي أنه أقبضها وهي تنفي القبض، ويرى الجمهور أن الأصل هو عدم القبض، إذن هي منكرة.

(1)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (7/ 419)، وفيه قال:" (ولو ادعت نكاحًا ومهر مثل) لعدم جريان تسمية صحيحة (فأقر بالنكاح وأنكر المهر) بأن قال: نكحتها ولا مهر لها علي؛ أي: لكونه نفى في العقد (أو سكت) عنه بأن قال نكحتها ولم يزد، أي: ولم يدع تفويضًا ولا إخلاء النكاح عن ذكر المهر (فالأصح تكليفه البيان) لمهر لأن النكاح يقتضيه". وينظر: "بحر المذهب"، للروياني (9/ 479).

(2)

يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء"، للطحاوي (2/ 286)؛ حيث قال:"قال أصحابنا والثوري وعثمان البتي والشافعي: إذا اختلفا في قبض الصداق وقد دخل بها فالقول قول المرأة أنها لم تقبض كما لو لم يدخل بها".

(3)

يُنظر: "الإقناع"، للحجاوي (3/ 222)، حيث قال:"وإن اختلفا في قبض المهر فقولها".

(4)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 51)؛ حيث قال:"القول قول المرأة مع يمينها، هذا قول الشعبي، وسعيد بن جبير، وبه قال ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وشريح، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحكي ذلك عن النعمان".

ص: 5816

* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ: القَوْلُ قَوْلُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالقَوْلُ قَوْلُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ)

(1)

.

وهذا من تفريق المالكية في كثير من أحكام الصداق فيما قبل الدخول وما بعده، فالدخول قبله يؤثر في أصل العقد فيكون تفاسخًا، أما بعده فإنه يختلف الحكم أيضًا في ذلك.

* قوله: (وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ العُرْفَ بِالمَدِينَةِ كَانَ عِنْدَهُمْ أَلَّا يَدْخُلَ الزَّوْجُ حَتَّى يَدْفَعَ الصَّدَاقَ)

(2)

.

مُراد المؤلف هنا - وكما هو معروف في مذهب المالكية - أنهم يرون أن عمل أهل المدينة حجة، وهذا أصل من أصول المالكية

(3)

، لكن المؤلف هنا عرض لمسألة مهمة؛ ولذلك في "بداية المجتهد" قد يأتي بكلمة أو بإشارة يتطلب الحديث عنها وقتًا طويلًا؛ فالمؤلف هنا أشار إلى العُوف وهو مصطلح أصولي، وعند الفقهاء يغلبون عليه العادة

(4)

.

(1)

يُنظر: "التاج والإكليل"، لأبي عبد الله المواق (5/ 236)؛ حيث قال:"إذا اختلفا في قبض معجل الصداق، فإن استقرت عادة صيِّر إليها وإلا فالقول قولها إلا أن تكون مدخولًا بها فالنص أنه تقبل دعواه إلا فيما لم يحل منه".

(2)

يُنظر: "التاج والإكليل"، لأبي عبد الله المواق (5/ 236)؛ حيث قال:"فقال أبو إسحاق: إنما ذلك في بلد عرفه تعجيل النقد عند البناء، فأما بلد لا عرف فيه بذلك فالقول قول الزوجة".

(3)

سبق تحرير هذه المسألة في أبواب أخرى.

(4)

الذي وقفت عليه أنهم تكلموا عن علاقة العرف بالعادة فبعضه اعتبره شيئًا واحدًا، وآخرون اعتبر أن العلاقة بينهم علاقة عموم وخصوص.

يُنظر: "مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد الفقهية"، لصالح الأسمري (ص 93)؛ حيث قال:"العرف في الاصطلاح؛ فاختلفت فيه أقوال الفقهاء، ومنها قول بعضهم: (هو كل قول وفعل وترك اعتاد عليه الناس)، وهذا هو مقتضى صنيع ابن رجب رحمه الله في "القواعد"، وأشار إليه القرافي رحمه الله في "الأحكام". ومن ثم يبين أن هناك فرقًا بين العادة - وسبقت -، وبين العرف؛ إذ بينهما عمومٌ وخصوصٌ مطلق، ووجه خصوص العرف أنه يتعلق بما اعتاده جمهور الناس، ووجه عموم العادة: أنه يتعلق بما اعتاده الإنسان مع نفسه، وما اعتاده الجمهور من الناس، وما كان من حركات طبيعية عند جنس بني آدم".

ص: 5817

المؤلف هنا يشير إلى القاعدة الفقهية المعروف: "العادة مُحكَّمة"؛ فهل العادة معتبرة في أحكام الشريعة الإسلامية؟ بمعنى هل لها تأثير في الأحكام أو لا؟ ولو قلنا إن لها تأثيرًا في الأحكام كما هو مقرر فهل له من شروط لا بد منها؟

لا شك أنه لا قيمة لهذا، ولا للقياس مع وجود نص، لكننا عندما نلقي نظرة واسعة، ونتتبع ما يتعلق بأبواب الفقه، نجد أن العادة قد اعتبرت في أحكام كثيرة، ومن هنا نجد أن الفقهاء - رحمهم الله تعالى - ومثلهم علماء الأصول وضعوا قواعد كبرى أساسية اعتبروها هي قواعد فقه، ومنها:

- "الأمور بمقاصدها": وهذه هي القاعدة الأولى

(1)

.

- والثانية: "اليقين لا يزول بشك"

(2)

.

- والثالثة: "المشقة تجلب التيسير"

(3)

.

- والرابعة: "الضرر يزال"

(4)

.

- والخامسة: "العادة مُحَكَّمة"

(5)

.

(1)

يُنظر: "الأشباه والنظائر"، للسبكي (1/ 54)، حيث قال:"القاعدة الخامسة: "الأمور بمقاصدها" وأرشق وأحسن من هذه العبارة: قول من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"". وينظر: "الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية"، لمحمد آل بورنو (ص 122).

(2)

ينظر هذه القاعدة في: "الأشباه والنظائر"، لابن نجيم (ص 47).

(3)

يُنظر: "المنثور في القواعد الفقهية"، للزركشي (3/ 169)؛ حيث قال:"المشقة تجلب التيسير: ومن ثَم لم يحكم على الماء بالاستعمال ما دام مترددًا على العضو حتى ينفصل ولا عن الثوب المغسول في النجاسة، ولولا ذلك لما تصور رفع حدث ولا إزالة نجس".

(4)

يُنظر: "الأشباه والنظائر"، لابن نجيم (ص 72) حيث يقال:"القاعدة الخامسة: الضرر يزال: أصلها قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار"".

(5)

يُنظر: "الأشباه والنظائر"، للسيوطي (ص 7)؛ حيث قال:"الرابعة: "العادة محكمة"، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن"". وينظر: "شرح القواعد الفقهية"، لأحمد الزرقا (ص 219).

ص: 5818

ما معنى قولهم: "العادة مُحَكَّمة"؟ وهل لهذه القاعدة أساس من الشريعة الإسلامية؟

نعم، جاء في ذلك أثر، وهو:"ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئًا فهو عند الله سيئ"

(1)

. هذا الأثر هناك من رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فعده حديثًا، ومن العلماء المحققين كالعلائي

(2)

وغيره من تتبعه، وقال: إنه لم يثبت إلا موقوفًا عن عبد الله بن مسعود، ومهما يكن من أمر فقد صح ذلك عن عبد الله بن مسعود

(3)

، إذن هذا يعتبر أساس هذه

(1)

أخرجه أحمد في "مسنده"(3600) موقوفًا على ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 178):"رواه أحمد والبزار والطبراني في "الكبير"، ورجاله موثقون".

(2)

يُنظر: "الأشباه والنظائر"، للسيوطي (ص 89)؛ حيث قال:"قال العلائي: ولم أجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود موقوفًا عليه أخرجه أحمد في "مسنده"".

(3)

يُنظر: "نصب الراية"، للزيلعي (4/ 133)، حيث قال:"قال عليه السلام: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن"، قلت: غريب مرفوعًا، ولم أجده إلا موقوفًا على ابن مسعود، وله طرق: أحدها: رواه أحمد في مسنده حدثنا أبو بكر بن عياش ثنا عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود، قال: إن الله نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئًا فهو عند الله سيِّئ، انتهى. ومن طريق أحمد رواه الحاكم في المستدرك في فضائل الصحابة وزاد فيه: وقد رأى الصحابة جميعًا أن يستخلف أبو بكر، انتهى. وقال صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، انتهى. وكذلك رواه البزار في مسنده، والبيهقي في كتاب المدخل، وقالا: لا نعلم رواه من حديث زر عن عبد الله غير أبي بكر بن عياش، وغير أبي بكر يرويه عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله، زاد البيهقي؛ ورواية ابن عياش أشبه، انتهى. طريق آخر: رواه أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود، فذكره، إلا أنه قال عوض سيِّئ، قبيح، ومن طريق أبي داود رواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة ابن مسعود، والبيهقي في كتاب الاعتقاد، وكذلك رواه الطبراني في معجمه، والمسعودي ضعيف، طريق آخر: رواه البيهقي أيضًا في المدخل أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس الأصم ثنا محمد بن إسحاق الصغاني ثنا أبو الجواب ثنا عمار بن زريق عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله، فذكره".

ص: 5819

القاعدة، لكن عند التطبيق، هل فعلًا العادة معتبرة، ومُحَكَّمة؟ الجواب نعم.

* لأنه في كثير من أبواب الفقه بدءًا بالطهارة والصلاة والزكاة فالحج، ثم ما يتعلق بالجهاد والنكاح، كما سبق عند الكلام فيما يتعلق بسن الحيض والبلوغ، والإنزال، نرى الفقهاء يرجعون في كثير من ذلك إلى العادة، وفي خلاف العلماء في الحيض في غالبه وفي أكثره يرجعون إلى عادات النساء، بل إن معظم أكبر الأئمة عندما يُطرح عليه سؤال يتعلق بأحكام المستحاضة في بعضها أو في أحكام الحيض فإنهم يرجعون إلى النساء لسؤالهن.

* وكذلك موجود في تضبيب الإناء، فإننا عرفنا أن العلماء قد اختلفوا في تضبيب الإناء قلة وكثرة، وأن الرجوع في ذلك إنما يكون للعادة، هل القليل أو الكثير محدد بالنص؟ الجواب: لا؛ يرجع ذلك إلى ما اعتاده الناس، لكن من يعتبر الاجتهاد بقولهم:"ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئًا فهو عند الله سيئًا".

* وكما مر في النكاح فيما يتعلق بالإيجاب والقبول، ذكونا أنه قد يوجد فاصل بين الإيجاب والقبول فهل هناك قدر مُعين ومحدد؟ بمعنى إذا مضى هذا الوقت هل مجرد أن يقوم هذا أو أن يشرب الماء أو أن يتناول الطعام أو يتكلم أو لا، هل هذا فاصل أو لا؟ أيضًا قال بعض العلماء: يُرجع في مثل هذا فيما اعتاده الناس.

* كذلك رد السلام، إذا سلم إنسان على إنسان فهل هناك فاصل في الموالاة.

* ومن أهم المسائل التي مرت بنا في ذلك ما يتعلق بالموالاة في الوضوء، وأن من فرائض الوضوء الموالاة، فما هي الموالاة؟ هل هي ما قال: العلماء هي ألا يؤخر عضوًا حتى يجف العضو الآخر

وهناك مسائل كثيرة.

لكن العلماء - رحمهم الله تعالى - عندما أخذوا بقاعدة العادة لم

ص: 5820

يأخذوا بذلك مطلقًا، ولكنهم اشترطوا في ذلك وجود التجربة، بمعنى أن تكرر هذه العادة، بعضها قد لا يشترط فيها التكرر كالاستحاضة، فإن الاستحاضة مرض، ودم الاستحاضة يختلف عن دم الحيض بأنه يُعرف بخلاف دم الاستحاضة، وغالبًا أن المرأة إذا استحيضت فإن هذا المرض يستمر معها، ولكنه قد ينقطع عنها في حالات نادرة وقليلة، فهل نعتبر بذلك مرة واحدة؛ لا بد من التكرار أيضًا.

كذلك الذي يعرف الأثر، هل نأخذ قوله في أول مرة أو لا بد من تجربته في ذلك، كذلك في أحكام الصيد، ومن المسائل الحيوان والطائر المعلم، هل يكفي أن يُعلم مرة؟ قال العلماء: لا، يكفي مرتين؟ قال بعضهم نعم، والأكثر قال ثلاثًا.

وهكذا نجد كثيرًا من الأحكام لو أردنا أن نتتبعها ونقرر تفصيل هذه القاعدة، لوجدنا أن الأمر يطول، هذه عندما قال كلمة العادة أو العرف المؤلف؛ إذن العادة معتبرة.

كذلك أنت مثلًا لو كنت في بلد كأن تكون في المملكة، ثم انتقلت إلى بلد آخر كمصر أو الكويت ونحوها، ثم سألت عن سلعة، فقال لك مثلًا بعشرين، فلا تأتي وأنت بمصر تقول: بعشرين ريالًا؛ لأنه هو في مصر يقصد عشرين جنيهًا، وكذلك في الكويت عشرين دينارًا وهكذا، إذن هذه آداب اصطلح عليها الناس وتعارفوا عليها.

بل نجد أن العادة معتبرة أحيانًا في بعض الحركات التي تحصل في الصلاة، وهكذا قال العلماء بأن قاعدة "العادة محكمة" من أجل القواعد، ومن أهمها، وهي منتشرة في كثير من أبواب الفقه، وبخاصة فيما يتعلق بأبواب الصناعة والتجارة، فإننا نجد أنها كثيرة.

الآن كثير ممن يدرسون دراسات عليا فيذهب لشخص ليطبع له الرسالة، هو يحتاج في طبع الرسالة إلى آلة، وهذه الرسالة التي يطبعها تحتاج إلى ورق وتحتاج إلى حبر وإلى غير ذلك، فمن المسؤول عن ذلك هل هو صاحب الآلة أو أنت؟ "العمادة محكمة"؛ ما اصطلح فيه عند

ص: 5821

الخلاف يرجع فيه إلى العادة فلو طالبك بقيمة الحبر والورق ونحو ذلك فقلت: لا، حينئذ يرجع إلى العادة.

كذلك الذي يخيط الثياب يرجع إلى العادة، فهل الخيط مسؤوليته أو مسؤوليتك أنت، الآن السائد أنك تذهب للخياط، فتشتري منه القماش أو تأتيه بقماش هو يخيط لك هذا الثوب، ويطلب منك أجرة.

هذه قاعدة عظيمة، ولها أهميتها في الفقه الإسلامي، وغيرها من القواعد الأخرى، فهي مهمة جدًّا.

لكن ليس من العادة محكمة أن كل إنسان يقول: اعتدت على هذا فهذا حق؛ لا، القصد بالعادة ألا تتعارض مع نص من نصوص الشريعة، ولا تخالف إجماعًا من إجماع الأمة، ولا قياسًا جليًّا

(1)

كالحال بالنسبة للاستحسان.

فالعلماء قد اختلفوا بالاستحسان، وقيل: بأن الإمام الشافعي لا يرى الاستحسان، والحقيقة أن الإمام الشافعي يرى الاستحسان، لكنه يرفض الاستحسان الذي لا يُبنى على أساس صحيح

(2)

؛ أي: الاستحسان الذي

(1)

لم أقف على نص متقدم فيه هذا البسط. يُنظر: "الجامع لمسائل أصول الفقه وتطبيقاتها"، لعبد الكريم نملة (ص 394)؛ حيث قال: "الشرط الأول: أن يكون العرف عامًّا أو غالبًا.

الشرط الثاني: أن يكون العرف مطردًا أو أكثريًّا.

الشرط الثالث: أن يكون العرف موجودًا عند إنشاء التصرف.

الشرط الرابع: أن يكون العرف ملزمًا، أي: يتحتم العمل بمقتضاه في نظر الناس.

الشرط الخامس: أن يكون العرف غير مخالف لدليل معتمد.

الشرط السادس: أن يكون العرف غير معارض بعرف آخر في نفس البلد.

فإذا توفرت هذه الشروط فإن العرف حجة، دل على ذلك: الاستقراء".

(2)

يُنظر: "التلخيص"، للجويني (3/ 310)؛ حيث قال:"اعلم أن ما صار إليه معظم العلماء: تتبع الأدلة وبناء الأحكام عليها، وإبطال الاستحسان إذا لم يترتب على قاعدة من قواعد الأدلة، وإليه صار مالك والشافعي وغيرهما حتى قال الشافعي: "من استحسن فكأنما يشرع في الدين"".

ص: 5822

يبنى على الهوى؛ ولذلك لمن يقرأ في كتاب الأم يجد أنه رحمه الله قد نص على مسائل كثيرة فهو يقول: أستحسن أجرة العامل، أستحسن في صناعة ذلك.

* قوله: (فَإِنْ كَانَ بَلَدٌ لَيْسَ فِيهِ هَذَا العُرْف، كَانَ القَوْلُ قَوْلَهَا أَبَدًا)

(1)

.

لكن الجمهور تمسكوا بالأصل

(2)

، فاستنبطوا ذلك من حديث:"البينة على المُدعي واليمين على المدَعَى عليه".

* قوله: (وَالقَوْلُ بِأَنَّ القَوْلَ قَوْلُهَا أَبَدًا أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهَا مُدَّعًى عَلَيْهَا).

وهذه من المسائل التي تُسجل للمؤلف؛ لأنه كم من المسائل هو يعارض مذهبه فيها، فهو بهذا يرجح مذهب جمهور العلماء.

لماذا قال هذا أحسن؟ لأن حديث: "البينة على المُدعي واليمين على المدَّعَى عليه" يشمل ذلك.

* قوله: (وَلَكِنْ مَالِكٌ رَاعَى قُوَّةَ الشُّبْهَةِ الَّتِي لَهُ إِذَا دَخَلَ بِهَا الزَوْخ).

قوة الشبهة: أن الغالب لا يدخل بها إلا وقد دخل.

قد يسأل سائل: لماذا فصَّل المالكية ولم يفصل غيره؟

والجواب: إن الحنابلة لا يرون فرقًا بين أن تُقدِّم الصَّدَاق وبين أن تؤخره وبين أن تُقدِّم بعضه وبين أن تؤخر بعضه، يجوز أن تُقدِّم الصداق كله، وله أن يؤخره وله أن يقدم بعضه ويؤخر البعض الآخر، فكل ذلك جائز، وهذا حقيقة هو الذي يلتقي مع روح الشريعة، ولو قدم كله وكانت الحاجة إليه غاية فهو أولى.

(1)

سبق بيانه.

(2)

سبق بيانه.

ص: 5823

* قوله: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ إِذَا طَالَ الدُّخُول، هَلْ يَكُونُ القَوْلُ قَوْلَهُ بِيَمِينٍ؟ أَوْ بِغَيْرِ يَمِينٍ أَحْسَنُ؟

(1)

وَأَمَّا إِذَا اخْتلِفَ فِي جِنْسِ الصَّدَاقِ، فَقَالَ هُوَ مَثَلًا: زُوِّجْتُكِ عَلَى هَذَا العَبْدِ، وَقَالَتْ هِىَ: زُوِّجْتُكَ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ).

قال الزوج مثلًا: زوجتك على هذا العبد، وهي قالت: زوجتك على هذه الأمة أو على الثوب كما قال المؤلف، فالعلماء أيضًا قد اختلفوا في هذه المسألة.

* قوكَ: (فَالمَشْهُورُ فِي المَذْهَبِ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ).

يتحالفان، ثم يُفسَخ العقد، هذا عند المالكية فقط.

* قوله: (إِنْ كَانَ الاخْتِلَافُ قَبْلَ البِنَاءِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ البِنَاءِ ثَبَتَ، وَكَانَ لَهَا صَدَاقُ مِثْلٍ مَا لَمْ يَكُنْ أَكثَرَ مِمَّا ادَّعَتْ، أَوْ أَقَلَّ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ)

(2)

.

يعني: قبل أن يبني بها؛ أي: قبل أن يدخل بها.

* قوله: (وَقَالَ ابْنُ القَصَّارِ: يَتَحَالَفَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ بَعْدَ الدُّخُولِ

(3)

. وَقَالَ أَصْبَغُ: القَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إِنْ كَانَ يُشْبِهُه،

(1)

يُنظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد القيرواني (4/ 479)؛ حيث قال:"ومن "الواضحة" قال ابن الماجشون: إذا ادعت الزوجة بعد البناء أنه بقي لها بقية من مهرها، وقال الزوج: لم يبق لها شيء؛ فإن كان الأمر قد طال فهو مصدق بغير يمين، فإن كان الأمر قريبًا، وجاءت بلطخ حلف وصدق".

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (2/ 333)؛ حيث قال:"حاصل فقه المسألة: أنهما إذا تنازعا في جنس الصداق قبل البناء فسخ مطلقًا حلفَا أو أحدهما أو نكلَا، أشبها أو أحدهما أو لم يشبها وإن تنازعا فيه بعد البناء رد الزوج لصداق المثل ما لم يؤد عن دعواها أو ينقص عن دعواه".

(3)

يُنظر: "التبصرة"، للَّخمي (5/ 1986)؛ حيث قال: "قال ابن القصار؛ إن اختلفا بعد =

ص: 5824

سَوَاءٌ أَشْبَهَ قَوْلَهَا، أَوْ لَمْ يُشْبِهْ

(1)

).

هذا كله عن قول المالكية، وبعده لم يعرض للمذاهب الأخرى، وهو خلاف قاعدته ومنهجه الذي سار عليه، وهو أنه يقتصر على أمهات المسائل، لكنه هنا فرَّع، وبدأ يذكر الأقوال.

* قوله: (فَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ قَوْلُ الزَّوْجِ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهَا مُشْبِهًا، كَانَ القَوْلُ قَوْلَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهَا مُشْبِهًا، تَحَالَفَا، وَكَانَ لَهَا صَدَاقُ المِثْلِ).

مُشبهًا: يعني: أقوى شبهة، الأقوى شبهة يُقدَّم.

* قوله: (وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذه المَسْأَلَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ عِنْدَ اخْتِلَافِهَما فِي القَدْرِ).

ولذلك؛ إن بعض العلماء يدرجها ضمن القبض، قول الشافعي أنهما يتحالفان فإن نكل أحدهما فالقول قول من حلف

(2)

، فلو أخذنا هذه الصورة التي ذكرها المؤلف هو يقول: زُوجتكِ على عبد. وهي تقول زُوجتكَ على أمة فيختلفان.

= الدخول كان القول قول الزوج مع يمينه، ولا يكون عليه إلا ما أقر أنه تزوج به، ووافق إذا اختلفا قبل البناء".

(1)

يُنظر: "التبصرة"، للَّخمي (5/ 1987)؛ حيث قال:"وقال أصبغ في "ثمانية أبي زيد": إن اختلفا بعد البناء في صنفين، فقال تزوجتك بجاريتي، أو عبدي أو داري، أو أرضي، أو جناني. وقالت: بدنانير أو ثياب؛ فالقول قول الزوج، إذا كان ذلك مما يصدقه النساء، وإن ادعى ما لا يشبه، كالخشب والجلود، وقالت: تزوجتني بجاريتك، أو عبدك، أو دارك، أو جنانك، أو ما أشبه ذلك، مما يتزوج به النساء؛ فالقول قولها، إذا كانت قيمة ذلك مثل ما تزوج به فأقل".

(2)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للخطيب الشربيني (4/ 400)؛ حيث قال:"فصل: اختلفا في قدر مهر أو صفته تحالفا، ويتحالف وارثاهما أو وارث واحد والآخر ثم يفسخ المهر، ويجب مهر مثل".

ص: 5825

فعند الحنابلة يُنظر إلى الأقرب للظاهر، أي: ما يلتقي مع الواقع، فإن كان ما يدعيه الزوج، بأن تكون قيمة العبد تساوي مهر المثل أو تزيد عليه، فإنه في هذا يُقبَل قوله مع يمينه، وإن كان ما ادعته هي بأن قيمة الأمة إنما هي مساوية لمهر المثل أو دون ذلك، فإنه يقبل قولها مع يمينها

(1)

.

لكن الحنابلة يضيفون أمرًا مهمًّا في هذا المقام فيقولون: إن كان الواقع والظاهر يشهد للزوج، فإنها تأخذ قيمة العقد ولا يعطيها العقد، حتى لا يدخل في ملكها ما لم يعترف به، أو ما أنكره، وهذا ملحوظ جيد، لكن في الناحية الأخرى لا يقولون ذلك؛ لأنه إذا كان القول قولها فقد دخل في ملكها ما ادعته.

عندما نرجع إلى قيمة المثل في هذا المقام، فالحنابلة يقولون: لا يعطيها العقد؛ لأنه هو ينكر ذلك وهي تدعي، فحتى لا يدخل في ملكها ما أنكره الزوج فإنه يدفع لها القيمة، وهذا إنما هو أسلم وأتم.

وأبو حنيفة ليس قوله ببعيد عن قول أحمد، ولكن ليس فيه تفصيل، وإنما يُرجع إلى القيمة، فيما يلتقي مع مهر المثل

(2)

.

(1)

يُنظر: "المبدع في شرح المقنع"، لابن مفلح (6/ 219)؛ حيث قال: " (وإن قال: تزوجتك على هذا العبد، قالت: بل على هذه الأمة خرج على الروايتين)؛ أي: إذا اختلفا في عينه أو صفته، فإن كان قيمة العبد مهر المثل أو أكثر منه، وقيمة الأمة دون ذلك؛ حلف الزوج، ولها قيمة العبد، وإن كان قيمة الأمة مهر المثل أو أقل، وقيمة العبد دون ذلك؛ فالقول قولها مع يمينها، وهل تجب الأمة أو قيمتها؟ فيه وجهان:

أحدهما: تجب عين الأمة؛ لأنه يقبل قولها في القدر، فكذا في العين.

والثاني: تجب لها قيمتها؛ لأن قولها إنما وافق الظاهر في القدر لا في العين".

(2)

يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 307)؛ حيث قال:"وإن كان الاختلاف في جنس المسمى بأن قال الزوج: تزوجتك على عبد، فقالت: على جارية أو قال الزوج: تزوجتك على كر شعير، فقالت: على كر حنطة أو على ثياب هروية أو قال: على ألف درهم. وقالت: على مائة دينار، أو في نوعه كالتركي مع الرومي، والدنانير المصرية مع الصورية أو في صفته من الجودة والرداءة، فالاختلاف فيه كالاختلاف في العينين إلا الدراهم والدنانير؛ فإن الاختلاف فيهما كالاختلاف في الألف والألفين".

ص: 5826

* قوله: (أَعْنِي: يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَاجَعَانِ إِلَى مَهْرِ المِثْلِ، وَسَبَبُ قَوْلِ الفُقَهَاءِ بِالتَّفَاسُخِ فِي البَيْعِ سَتَعْرِفُ أَصْلَهُ فِي كتَابِ البُيُوعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ).

إن شاء الله سيأتي الكلام عن البيوع، والبيوع من أهم المسائل التي تُدرس في الفقه، الحاجة إليها دائمة، وإن كنا في الحقيقة في المعاملات في العبادة أحوج أكثر، لكننا لا ننسى نحتاج للمعاملات كثيرًا، ففيها مسائل شائكة، وتحتاج إلى بحث، وربما يقع الإنسان في بعض البيوعات المنهي عنها، فهي حقيقة تحتاج إلى عناية وإلى تفصيل.

* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الوَقْتِ، فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِي الكَالِئِ).

بيع الكالئ: يعني الدين بالدين، أي: المؤجل، والحنابلة لا يدخل عندهم لأنهم فصلوا القول فيه، لكن المؤلف يدخل عنده في الكالئ، وسيأتي ذلك أيضًا.

* قوله: (وَالَّذِي يَجِيءُ عَلَى أَصْلِ قَوْلِ مَالِكٍ فِيهِ فِي المَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ القَوْلَ فِي الأَجَلِ قَوْلُ الغَارِمِ، قِيَاسًا عَلَى البَيْعِ، وَفِيهِ خِلَافٌ. ويُتَصَوَّرُ أَيْضًا مَتَى يَجِبُ؟ هَلْ قَبْلَ الدُّخُولِ؟ أَوْ بَعْدَهُ؟ فَمَنْ شَبَّهَ النِّكَاحَ بِالبُيُوعِ قَالَ: لَا يَجِبُ إِلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ قِيَاسًا عَلَى البَيْعِ، إِذْ لَا يَجِبُ الثَّمَنُ عَلَى المُشْتَرِي إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ السِّلْعَةِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الصَّدَاقَ عِبَادَةٌ يُشْتَرَطُ فِي الحِلِّيَّةِ، قَالَ: يَجِبُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَبذَلِكَ اسْتَحَبَّ مَالِكٌ أَنْ يُقَدِّمَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ شَيْئًا مِنَ الصَّدَاقِ).

هذا جائز، وإن كان الأولى أن يقدمه يقدم بعضه، لأن الزوجة في الغالب تحتاج إليه لتتهيأ للزواج وتعد نفسها، ولأنها ستنتقل من مكان إلى مكان ومن بيت إلى بيت ومن أسرة عاشت بينها وهي أمها وأبوها وإخوتها وأخواتها إلى أسرة جديدة فلا بد أن تكون بمظهر مناسب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

ص: 5827

(الرُّكنُ الثَّالِثُ فِي مَعْرِفَةِ مَحَلِّ العَقْدِ وَكُلُّ امْرَأَةٍ فَإِنَّهَا تَحِلُّ فِي الشَّرْعِ بِوَجْهَيْنِ).

الركن الثالث من أهم مسائل الزواج، وتترتب عليه أمور خطيرة، لأنه سيترتب في هذا ما يَحل وما يَحرُم، وأن الذي يُحل الأمور إنما هو الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يُحرمها، فليس لأحد من البشر كائنًا من كان أن يقول بأن هذا حلال وهذا حرام؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116].

ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36].

وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33].

ولذلك مسائل المُحرمات من النساء ينبغي أن يكون الإنسان على بينة منها، وينبغي أن يحتاط فيها، وبخاصة المسائل التي قد يقع فيها بعض الناس، وهو ما يتعلق بالرضاع.

*قوله: (إِمَّا بِنِكَاحٍ، أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ).

هذا لا شك فيه، وقد جاء ذكر ذلك في كتاب الله عز وجل وفي سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} [المؤمنون: 5 - 7].

* قوله: (وَالمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ بِالجُمْلَةِ تَنْقَسِمُ أَوَّلًا إِلَى قِسْمَيْنِ: مَوَانِعَ مُؤَبَّدَةٍ، وَمَوَانِعَ غَيْرِ مُؤَبَّدَةٍ).

مؤبدة: أي: لا تتغير بتغير الزمن ولا الأحوال؛ فالأم دائمًا مُحرمة،

ص: 5828

والبنت والأخت والخالة والعمة، وكذلك بنت الأخ وبنت الأخت، وكذلك مثلهن من الرضاع، وكذلك أيضًا المُحرمات بالمصاهرة الأربعة التي سيأتي الحديث عنها تفصيلًا، هذه موانع مؤبدة.

ولكن قد تكون الموانع غير مؤبدة؛ أي مؤقتة؛ فمثلًا الكافرة المشركة لا يجوز للمسلم أن يتزوجها، فلو أسلمت زال المانع، والمسلمة لا يجوز لها أن تتزوج الكافر المشرك، فلو أسلم فلها حينئذ أن تتزوجه، لا يجوز الجمع بين الأختين، ولا بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها، ولا يجوز لإنسان أن يتزوج امرأة في عصمة زوجة آخر، لكنه إذا طلقها ولم تكن في عدة فإنه يتقدم إليها ويخطبها؛ إذن هذه مسائل دقيقة وجليلة وهذه أمور نظمتها هذه الشريعة.

فالله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز قد بيَّن المُحرمات من النساء، ولم يترك ذلك لغيره كالحال بالنسبة للفرائض؛ فإن الله تعالى في كتابه لم يترك أمر تقسيم الفرائض لغيره، وإنما جاء بها مجملة في كتابه العزيز وزادتها تفصيلًا وبيانًا سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم.

* قوله: (وَالمَوَانِعُ المُؤَبَّدَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى: مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَمُخْتَلَفٍ فِيهَا).

حتى المؤبدة ليست محل اتفاق، غالبه محل اتفاق، لكن في الزنا هناك اختلاف للشافعية فيه

(1)

، فإذا زنى رجل بامرأة فيما يتعلق بتحريم أمها وابنتها وكذلك زواجه بها، هذه فيها خلاف له محله إن شاء الله.

(1)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (7/ 183)؛ حيث قال:"ولو زنى بامرأة لم تثبت مصاهرة".

وفي "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"، للشربيني (2/ 418):"وكذا الموطوءة الحية بشبهة في حقه كأن ظنها زوجته أو أمته يحرم عليه أمهاتها وبناتها وتحرم هي على آبائه كما يثبت في هذا الوطء النسب ويوجب العدة، لا المَزني بها فلا يثبت بزناها حرمة مصاهرة فللزاني نكاح أمِّ مَن زنى بها وبنتها ولابنه وأبيه نكاحها هي وبنتها؛ لأن الله تعالى امتن على عباده بالنسب والصهر فلا يثبت بالزنا كالنسب".

ص: 5829

* قوله: (فَالمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ثَلَاثٌ: نَسَبٌ، وَصِهْرٌ، وَرَضَاعٌ).

لا شك أن هذه دليلها الكتاب والسُنّة والإجماع، الكتاب قول الله سبحانه وتعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)} [النساء: 22، 23].

هذه مُحرمات جاء التنصيص عليها، وهي بحاجة للبيان، فالله سبحانه وتعالى أبهم أكثرها.

ولذلك أُثِرَ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "أبهموا ما أبهمه القرآن"

(1)

.

فنجد أن بعضها جاءت مبهمة، أي: مطلقة، وبعضها جاء تقييدها بكلمات فهل هي مقصودة أو لا؟ بعضها مقصودة كقوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]. فـ {فِي حُجُورِكُمْ} غير مُعتبرة، {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} مُعتبرة، وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله تعالى تفصيلًا وبيانًا.

فقوله: (نسب) النسب: هم قرابة الإنسان عن طريق النسب أصوله وكذلك فروعه وحواشيه، هؤلاء هم أقاربه من حيث النسب، فالأم وإن

(1)

قال الشيخ الألباني في "إرواء الغليل"(1878): "لم أقف على إسناده بهذا اللفظ. وقد علقه ابن كثير بصيغة التمريض بنحوه، فقال في "تفسيره" (2/ 393): وروى عنه أنه قال: إنها مبهمة، فكرهها. وهذا قد وصله البيهقي (7/ 160) من طريق عبد الله بن بكر حدثنا سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: هي مبهمة وكرهه. قلت: وهذا سند صحيح على شرط البخاري".

ص: 5830

عَلَت والأب وإن عَلَا والبنت وإن نزلت، والابن وابن الابن والأخوات هؤلاء ونحوهم هم الأقرباء بالنسب.

وأيضًا أقارب الإنسان من النسب كلهن مُحرمات إلا أربعة: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50].

لكن عندما نأتي إلى المصاهرة نجد أن أقارب الزوج والزوجة كلهن حلال عدا أربع اللاتي ذكرهن الله في كتابه العزيز: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)} [النساء: 22، 23].

وقوله: (وصهر): يعني قرابة الإنسان بالمصاهرة؛ كما جاءت الآية أم الزوجة وبنت الزوجة وهكذا

وهذه تحتاج إلى وقفات وتحقيق؛ لأن الله تعالى حَرَّم الربيبة، فهل معنى هذا بنت الربيبة تَحرُم؛ حرَّم أيضًا أمهات الزوجات وإن عَلون، هذه تحتاج لوقفات.

إذن هذه قضايا يجب الوقوف عندها ودراستها؛ لأنها تحتاج إلى كشف وإلى بيان.

قوله: (ورضاع)؛ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "يَحرُم من الرضَاع ما يَحرم من النسب"

(1)

. متفق عليه.

(1)

أخرجه البخاري (2645)، ومسلم (1447) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 5831

وفي "صحيح مسلم" وغيره: "إن الرضاع تُحرم ما تحرمه الوِلادة"

(1)

؛ فكل ما حُرم عن طريق النَّسب فإنه يَحرم عن طريق الرضاع مطلقًا، وهذا أيضًا يحتاج إلى تفصيل.

* قوله: (وَالمُخْتَلَفُ فِيهَا: الزِّنَا، وَاللِّعَانُ).

وهذا سيأتي الكلام فيه، والمؤلف سيعقد لكل واحدة منهما مسألة كستقلة.

* قوله: (وَالغَيْرُ المُؤَبَّدَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى تِسْعَةٍ، أَحَدُهَا: مَانِعُ العَدَدِ).

يعني: تعدد الزوجات، يُباح للحُرِّ أن يجمع بين أربع.

* قوله: (وَالثَّانِي: مَانِعُ الجَمْعِ).

فلا يجوز للمرء أن يجمع بين أختين ولا بين المرأة وعمتها ولا المرأة وخالتها، وسيأتي الكلام عنه تفصيلًا.

* قوله: (وَالثَّالِثُ: مَانِعُ الرِّقِّ).

الرق أيضًا من الموانع، لكن مانع الرق فيه أيضًا خلاف، لا تقول بأن هذا مُسَلَّم، وأنتم تعلمون قصة بريرة أنها عتقت، وطلبت من عائشة المساعدة، والرسول صلى الله عليه وسلم عَرَض عليها أن تبقى مع زوجها فقالت: أمر أم مشورة، قال:"بل مشورة"، فقالت: لا أرغب فيه

(2)

.

* قوله: (الرَّابِعُ: مَانِعُ الكُفْرِ).

كذلك مانع الكفر، فإنه يجوز للمسلم أن يتزوج كتابية، لكنه يقصد المؤلف في ذلك الشرك.

(1)

أخرجه مسلم (1444)، وأبو داود (2055) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

أخرجه البخاري (5283) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 5832

* قوله: (وَالخَامِسُ: مَانِعُ الإِحْرَامِ).

وهذه مسألة سبق الكلام عليها في الحج، وهناك اختلاف بين العلماء في هذه المسألة، وأن جمهور العلماء ألا يجوز للمُحرِم أن ينكح يعني أن يُتزَوج ولا أن يُزَوِّج غيره، كما في الحديث الصحيح:"لا يَنْكِح المُحرِم ولا يُنكَح"

(1)

.

والخلاف يدور حول قصة ميمونة، هل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال أو تزوجها وهو حرام - أي: مُحرِم -؟

وأن الذي خالف في ذلك ابن عباس

(2)

، وأن صاحب القصة وهي صاحبة البيت وصاحب البيت هو أدرى بما فيه بينت أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال

(3)

، وأن الواسطة بينهما أبا رافع ذكر أن الرسول تزوجها وهو حلال

(4)

.

وأن للعلماء فيما ذهب إليه ابن عباس عدة أجوبة:

منها: أن ابن عباس لم يعلم بذلك إلا بعد أن أحرم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أي: دخل في الإحرام، ولم يعلم أنه قد تزوجها في وقت حله، ومنها أنه صغير وإلى غير ذلك من الأقوال.

* قوله: (وَالسَّادِسُ: مَانِعُ المَرَضِ).

مانع المرض أيضًا هذا فيه خلاف، هل يؤثر أو لا، الإنسان الذي يكون مريضًا هل له أن يتزوج أو لا؟ أكثر العلماء على أنه يجوز

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم (1409) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه.

(2)

كما عند البخاري (4258)، ومسلم (1410) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

كما عند مسلم (1411) من حديث ميمونة رضي الله عنها.

(4)

كما عند الترمذي (841) من حديث أبي رافع رضي الله عنه، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(5/ 283).

(5)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 106): "أباح الله النكاح في كتابه، وندب إليه، والنكاح مندوب إليه، والمريض غير ممنوع منه. وممن روينا إباحة ذلك عنه: =

ص: 5833

* قوله: (وَالسَّابِعُ: مَانِعُ العِدَّةِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي عَدَمِ تَأْبِيدِهِ).

ففي العدة لا يجوز للإنسان أن يتزوج امرأة في عدتها، والرسول صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك.

* قوله: (وَالثَّامِنُ: مَانِعُ التَّطْلِيقِ ثَلَاثًا لِلْمُطَلِّقِ).

كذلك المُطلق ثلاثًا لا تَحل له {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، كما جاء في ذلك التنصيص في كتاب الله عز وجل، لكن الخلاف يرجع لو طلقها ثلاثًا بلفظ واحد هل تُعتبر واحدة أو ثلاثًا؟ سيأتي الكلام عن ذلك إن شاء الله في مسائل الطلاق، وهي من المسائل الشائكة، بعضها شائك يحتاج إلى وقفة وإلى تفكير، وينبغي للمسلم دائمًا أن يتقي الله سبحانه وتعالى في أحكام الطلاق.

* قوله: (وَالتَّاسِعُ: مَانِعُ الزَّوْجِيَةِ).

والتاسع مانع الزوجية، فلا يجوز للإنسان أن يتزوج امرأة في عصمة آخر - نسأل الله العافية -.

* قوله: (فَالمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ بِالجُمْلَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَانِعًا).

الموانع جميعًا المؤبدة وغير المؤبدة والمتفق عليها والمختلف فيها، ثم سيتناولها بشيء من التفصيل.

* قوله: (فَفِي هَذَا البَابِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَصْلًا).

هذه التقسيمات مهمة، ومن المهم أخذ فكرة موجزة عن الإجمال ثم تناول التفاصيل، فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ فإذا أخذت تصورًا مُجملًا عن أي باب من الأبواب يكون بمثابة كشاف يُنير لك الطريق لكي تدخل إلى هذا الباب.

= الزبير بن العوام، وقدامة بن مظعون، وعبد الملك بن مروان، والحسن البصري، والشعبي، والنخعي. وبه قال الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأصحاب الرأي، وهو مذهب الشافعي".

ص: 5834

ولذلك هذه المقدمة الطيبة التي يذكرها المؤلف تعين وتُساعد على فهم بعض المسائل وتقريبها.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

‌الفَصْلُ الأوَّلُ فِي مَانِعِ النَّسَبِ

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ اللَّائِي يَحْرُمْنَ مِنْ قِبَلِ النَّسَبِ السَّبْعُ المَذْكُورَاتُ فِي القُرْآنِ).

بعض العلماء يقول: المُحرمات من النسب - وهن سبع - مذكورات في الآية الكريمة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23].

هؤلاء السبع حُرمن عن طريق النَّسب، وجاء التنصيص عليهن في كتاب الله عز وجل، وهُن موضع إجماع العلماء، ولم يُخالف في ذلك أحد من العلماء، ولم يَشِذَّ أحدٌ أيضًا في تحريم هؤلاء السبع؛ لأن تحريمهن واضح وجَلي في كتاب الله عز وجل.

* قوله: (الأُمَّهَات، وَالبَنَاتُ).

والمُراد بالأم هي أمك التي وَلدتك، لكن ليس القصد من ذلك أن يُقتَصرُ عليها، الأم وإن عَلَت سواء إن جاءتك عن طريق الأم أو عن طريق الأب؛ فيدخل في ذلك أمك التي ولدتك، وأمها، وجدتها، وإن عَلَون، وأم الأب وأمها وإلى آخره، فكلهن يدخلن تحت مُسمى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ؛ ولذلك نجد أن الصحابي الجليل أبا هريرة رضي الله عنه -

ص: 5835

عندما جاء ذكر هاجر أم إسماعيل كان يقول: "تلك أمكم يا بني ماء السماء"

(1)

. هاجر أم إسماعيل، يقول: تلك يا أيها العرب أمكم يا بني ماء السماء.

العلماء فسروا هذه العبارة تفسيرات عدة، هي كلها حقيقة تفسيرات مقبولة وواقعية.

فبعضهم قال: المقصود من ذلك عندما تأتي وتطبقها على حالة العرب، كان العرب يتنقلون في الفلوات يتتبعون مواضع القطر؛ يعني: مواضع نزول الماء فكانوا بماشيتهم ينتقلون من مكان لمكان، هذا هو الغالب على حال العرب فيما مضى، ولا يزال الرعاة موجودين إلى وقتنا الحاضر.

إذن "يا بني ماء السماء"، القصد منها: يا من اشتهرتم بتتبع المياه التي تنزل من السماء. فنُسِبوا إلى ذلك تغليبًا.

وبعضهم قال: "يا بني ماء السماء" لأن هاجر عندما كانت تسعى بين الصفا والمروة عندما نفد ماؤها والطعام الذي كان معها لجأت إلى الله سبحانه وتعالى فأرسل جبريل فضرب بجناحه فخرج ذلكم الماء، قالوا: بأن هذا الماء كما جاء في رواية ابن حاتم وغيره

(2)

إنما هو ماء من السماء، إذن نسبوا إلى ذلك نسبة إلى زمزم.

وبعضهم يقول: إن العرب سُموا بذلك لصفاء أنسابهم ونقائها؛ لأن العرب نسبهم معروف، ولا يتعلق الأمر بالتعصب ولكن يتعلق الأمر بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فنسب الإنسان لا يفيده لو خرج عن الطريق السليم، فلا نفع أبا جهل ولا نفع أيضًا أبا لهب

(1)

أخرجه البخاري (3358)، ومسلم (2371).

(2)

قال ابن حبان في "صحيحه"(13/ 47): "كل مَن كان من ولد هاجر يقال له: ولد ماء السماء؛ لأن إسماعيل من هاجر، وقد ربي بماء زمزم وهو ماء السماء الذي أكرم الله به إسماعيل حيث ولدته أمه هاجر، فأولادها أولاد ماء من السماء".

ص: 5836

عم الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن القصد من ذلك أن أنسابهم كانت صافية نقية معروفة.

الأم إذا أطلقت لا يقتصر بها على الأم التي ولدتك؛ وفيما يتعلق أيضًا بإطلاق الأب على الجد وإن علا أنه جاء أيضًا في الدعاء: "اللهم صلّ على أبينا آدم وأمنا حواء"

(1)

.

الأب يطلق في لغة العرب على الأب الذي جئت من صلبه، ويطلق على الأم التي ولدتك، وعلى أمهاوإن علت، وأم الأب، وعلى الجدوإن علا، وبعضهم يسمي الأب المباشر لك الذي خرجت من صلبه إنما هو الأب حقيقة وما فوق ذلك يسمى مجازًا، وكذلك الحال بالنسبة للأم فالتي ولدتك إنما هي حقيقة، وهناك خلاف بين أهل اللغة والمفسرين والأصوليين، هل في اللغة مجاز أو لا؟ فبعضهم يثبت المجاز مطلقًا وبعضهم ينفيه مطلقًا وبعضهم يقول: إن المجاز موجود، لكن القرآن ليس فيه مجاز

(2)

.

فما الجواب عن قول الله سبحانه وتعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، وقوله:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]؟

فيقولون: هذا ليس مجازًا وإنما إيجاز بالحذف.

وفيما يتعلق ببنت الإنسان ليس المراد ابنته فقط التي جاءت من صلبه وإنما أيضًا بنت ابنه، وبنت ابنته، وإن نزلن، فكلهن يدخلن في بناته، فالبنت وإن نزلت لو كان جدها أو كان جد جدها فإنها في الحقيقة ابنته.

إذن، يحرم على المسلم أمه وإن علت، وهذا من أخطر الأمور، ونحن لو أردنا أن نلمس الحكمة في ذلك لماذا تُحرَّم الأمهات ولماذا تُحرَّم الأم؟ أليست الأم هي محل التقدير والإجلال والاحترام، فهذه الأم لها مكانة، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يقول: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا

(1)

لم أقف عليه.

(2)

سبقت هذه المسألة.

ص: 5837

قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23]، لا ينبغي للمرء أن يقول كلمة "أف" أمام أمه أو أبيه؛ لأنه ذلك يشق عليهما ويوهنهما وربما يحزن قلبيهما، فلا ينبغي للمرء أن يظهر الألم والحزن والأسى واللوعة أمام والديه؛ لأنهما يتألمان بألمه ويفرحان بفرحه؛ ولأن الزواج يكون الزوج فيه له العلو على الزوجة، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. والزواج يكون بين الزوجين ترفع فيه الكُلفة والغطاء، ويكون دافعًا لأن يخفي أحدهما عن الآخر، فالأم أجل وأعظم وفوق ذلك.

ثم لا يمكن أن يحصل ذلك من الإنسان نحو أمه، فهذه الشريعة الخالدة قد حرَّمت كل ما فيه ضرر على الإنسان أو ما كان يؤدي إلى اختلاف المسلمين.

ثم يترتب على زواج الذين ذكرهم الله تعالى قطيعة الرحم، والكلام في الحكمة يطول، لكن الأمر ظاهر جدًّا لا يحتاج أن الإنسان يقف ويبحث عن علة الحكم فهي واضحة جدًّا.

وبشَّعَ الله الأمر في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)} [النساء: 22] هذه زوجة الأب فما بالكم بالأم؟!

* قوله: (وَالأَخَوَاتُ).

كذلك الأخت أيضًا؛ لأن الأخت تشاركك بأنها خرجت معك، إما من بطن واحد أو من صلب واحد، وأنها قد تكون شقيقة؛ فيكون أبوك هو أباها وأمك هي أمها، وربما تكون أختًا لك من الأب أو أختًا لك من الأم.

على هذه الحالات الثلاث لا يجوز له أن يتزوج أخته، حتى الأخت من الرضاع، وأيضًا لا يجوز أن يتزوج أمه وأخته وابنته من الرضاعة، كل هذا محرم، وسيأتي الحديث عن الرضاعة.

إذن الأخت محرمة، لا فرق بين الأخت الشقيقة والأخت لأب

ص: 5838

والأخت لأم فهي تشمل هذين، وهذا من الخطورة بمكان؛ لأنها إما أن تكون خرجت من الصلب الذي خرجت منه أو من الرحم الذي خرجت منه أو منهما معًا.

* قوله: (وَالعَمَّاتُ).

كذلك أيضًا العمة، عمتك هي أخت أبيك، لكنه لا يقتصر على أخت أبيك، فأيضًا أخت أبيك، أو كذلك عمة أبيك وإن علون، وأيضًا عمة أمك، والعمة وإن علت، فلا يجوز للمسلم أن يتزوج عمته؛ إذن هي من المحرمات على التأبيد.

* قوله: (وَالخَالَاتُ).

وكذلك أيضًا الخالة التي هي أخت الأم وما علت، أخت الأم ونحوها، فإنها تعتبر خالة لك أو خالة الأب، والإسلام قد أوصد هذا الباب وأغلقه، فإن هؤلاء إن كانوا أصولًا مهما علون وفروعًا مهما نزلن، فإنه لا يجوز للمسلم أن يتزوج أحدًا من هؤلاء منهن؛ إلا بنات العم وبنات العمات وبنات الخال وبنات الخالات فهذه قد نَص الله على جوازها.

* قوله: (وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ).

بنات الأخ إن علت وإن نزلت أيضًا بنت، بنت الأخ أو بنت ابنته أو ابنه فلا يجوز أيضًا ذلك، هذه من المحرمات المؤبدات، وكذلك بنات الأخت مثلها تمامًا وإن نزلت.

* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الأُمَّ هَاهُنَا اسْمُ كُلِّ أُنْثَى لَهَا عَلَيْكَ مِنْ جِهَةِ الأُمِّ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الأَبِ).

يعني: لها أولاد، إما أن تكون ولدتك، أو ولدت أخاك أو ولدت أو ولدت أمك أو ولدت جدتك، فكل ذلك أيضًا، مهما عَلَت، ولو وبينها مئات السنين لا يختلف ذلك.

ص: 5839

" قول: (وَالبِنْتُ اسْمٌ لِكُلِّ أُنْثَى لَكَ عَلَيْهَا وِلَادَةٌ مِنْ قِبَلِ الابْنِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ البِنْتِ، أَوْ مُبَاشَرَةً).

كان المناسب أن يقول مباشرة: بنتك من الصلب ثم بحد ذلك، لكنه أخو البنت المباشرة؛ لأن هذه ليست محلًّا للنقاش، ولعل المؤلف لاحظ هذا، يعني الابن وبنت الابن وبنت الابنة وإن نزلن كلهن يدخلن في ذلك.

" قول: (وَأَمَّا الأُخْت، فَهِيَ اسْمٌ لِكُلِّ أُنْثَى شَارَكَتْكَ فِي أَحَدِ أَصْلَيْكَ، أَوْ مَجْمُوعَيْهِمَا؛ أَعْنِي: الأَبَ أَوِ الأُمَّ أَوْ كِلَيْهِمَا).

معروف أن كل إنسان له أصلان، فهو يولد من أب ومن أم، وقد تشاركه هذه الأخت فيهما معًا، وربما يكون للأب زوجة أخرى فتكون أختًا لك من الأب، وربما تطلق أم هذا الإنسان أو يموت عنها زوجها فتتزوج آخر فيكونون أخوة لك، فهي لا تخرج عن كونها أختًا.

* قول: (وَالعَمَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ أُنْثَى هِيَ أُخْتٌ لِأَبِيكَ، أَوْ لِكُلِّ ذَكَرٍ لَهُ عَلَيْكَ وِلَادَةٌ).

حتى لو كانت أختًا لجدك، مهما علت فهي عمة سواء كانت عمة أبيك أو أخت أبيك أو عمة أمك فهي عمتك.

* قول: (وَأَمَّا الخَالَة، فَهِيَ اسْمٌ لِأُخْتِ أُمِّكَ، أَوْ أُخْتِ كُلِّ أُنْثَى لَهَا عَلَيْكَ وِلَادَةٌ. وَبَنَاتُ الأَخِ اسْمٌ لِكُلِّ أُنْثَى لِأَخِيكَ عَلَيْهَا وِلَادَةٌ مِنْ قِبَلِ أُمِّهَا، أَوْ مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا، أَوْ مُبَاشَرَةً).

يعني: بنات الأخ التي أنت عمهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه:"يا عمر، أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه؟ "

(1)

. يعني: العم هو بمنزلة الأب، بل هو يسمى أيضًا أبًا والخال يسمى أبًا.

(1)

أخرجه مسلم (983).

ص: 5840

* قوله: (وَبَنَاتُ الأُخْتِ اسْمٌ لِكُلِّ أُنْثَى لِأُخْتِكَ عَلَيْهَا وِلَادَةٌ مُبَاشِرَةٌ، أَوْ مِنْ قِبَلِ أُمِّهَا، أَوْ مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا، فَهَؤُلَاءِ الأَعْيَانُ السَّبْعُ مُحَرَّمَاتٌ، وَلَا خِلَافَ أَعْلَمُهُ فِي هَذه الجُمْلَةِ. وَالأصلُ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ النَّسَبَ الَّذِي يُحَرِّمُ الوَطْءَ بِنِكَاحٍ يُحَرِّمُ الوَطْءَ بِمِلْكِ اليَمِينِ)

(1)

.

كذلك أيضًا ملك اليمين مثله تمامًا، مثل النكاح، والرضاع أيضًا

(2)

.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

‌الفصل الثاني في المُصَاهَرَة

وَأَمَّا المُحَرَّمَاتُ بِالمُصَاهَرَةِ، فَإِنَّهُنَّ أَرْبَعٌ: زَوْجَاتُ الآبَاءِ، وَالأَصْلُ

(1)

يُنظر: "الإقناع"، لأبي الحسن القطان (2/ 131)؛ حيث قال:"واتفقوا أن نكاح الأم وأمهاتها، وداتها ودات آبائها، وجدات أمهاتها وجدات جداتها، وجدات أجدادها وإن علون، وأن نكاح عماتها وخالاتها، وعمات أمهاتها، وعمات جداتها كيف كن، وعمات آبائها، عمات أجدادها وإن علون كيف كانوا، من قبل الآباء والأمهات، وخالات آبائها، وخالات أمهاتها، وخالات أجدادها، وخالات جداتها، وإن علوا وعلون من قِبَل الآباء والأمهات، وهكذا كل عمة وكل خالة لكل رجل وامرأة نالت أمه ولادتها ونالت آباؤه ولادتها، فإن نكاح كل ما ذكرنا مفسوخ أبدًا، وكذلك وطؤهن بملك اليمين". وينظر: "مراتب الإجماع"، لابن حزم (ص 66).

(2)

يُنظر: "الإقناع"، لأبي الحسن القطان (1412)؛ حيث قال:"واتفقوا أن امرأة عاقلة حية غير سكرى إن أرضعت صبيًّا عشر رضعات مفترقات افتراقًا ترك الرضاع فيما بين كل رضعتين منها، فتمت العشر قبل أن يستكمل الصبي حولين قمريين من حين ولادته، يمتصه بفيه من ثديها فهو ابنها، ووطؤها ووطء ما ولدت حرام عليه، وعلى مَن تناسل منه كما قلنا قبلُ فيمن يحرم من قبل أمهات الولادة ولا فرق".

ص: 5841

فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآيَةَ [النساء: 22]).

وهذا من أخطر الأمور وأبشعها وأشنعها، تنفر منه النفوس، وتشمئز منه الأفئدة والقلوب؛ كيف يُتصور أن ينكح إنسان زوجة أبيه؟! الله تعالى يقول:{وَلَا} ، نَهْي:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} ، ثم بين الله سبحانه وتعالى خطورة هذا الأمر، ووصفه بهذه الأوصاف الثلاثة التي كان فيها أشد أيضًا من الزنا؛ {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} فهو فُحش في العمل، {وَمَقْتًا} ، أي: هذا عمل بغيض، فيه دناءة، فيه حقارة، فيه خِسة، فيه ذِلة وانحطاط، {وَسَاءَ سَبِيلًا} ، ساء طريقًا ومنهجًا، من يفعل ذلك من الناس.

ولا ينبغي أن يُظَن أن القصد بالآباء فقط إنما هو الأب الذي أنت من صُلبه، وإنما يدخل في ذلك الأب من أي طريق كان، سواء كان أب الأب؛ أي: جدك من قِبَل أبيك أو أب الأم، وإن عَلَوْا وبَعُدوا، فكل مَن يطلق عليه اسم الأب، فإنه يحرم على الابن أن ينكح زوجته.

* قوله: (وَزَوْجَاتُ الأَبْنَاءِ، وَالأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23]).

كما أن زواج الابن من زوجة الأب فيه بشاعة كذلك أيضًا بالنسبة للأب لا يجوز له أن يتزوج حليلة ابنه؛ أي: زوجته؛ ولذلك يقول تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} ، لكنه سبحانه وتعالى أضاف وصفًا كاشفًا، وهو قوله سبحانه وتعالى:{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} .

أما الذي كان يُعمل في الجاهلية من التَبَني، فذلك أمر قد رده الإسلام وأنكره، فلا بُنوَّة في هذا المقام، وإنما المراد بالأبناء هم الأبناء من الأصلاب.

{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} ، أيضًا لا يقتصر على ابنك الذي من صُلبِك،

ص: 5842

فإنه يدخل في ذلك الابن الذي هو من صُلبك، وكذلك أيضًا ابن الابن وإن نزل، وابن البنت وإن نزل، فكل ما يشمله اسم الابن إنما يدخل في ذلك.

* قوله: (وَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ أَيْضًا، وَالأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}).

أم المرأةُ أيضًا، أُم زوجة الإنسان، لا يجوز له أن يتزوجها؛، ولا يقتصر ذلك أيضًا على الأم المباشرة، فيدخل فيه الأم مهما علت، فما دامت أمًّا لهذه الزوجة، فإنها تدخل في ذلك.

* قوله: (وَبَنَاتُ الزَّوْجَاتِ، وَالأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} .

هذا هو الرابع منها، زوجات الآباء، زوجات الأبناء، أمهات الزوجات، وبنات الزوجات أيضًا، لكن الآية ورد فيها وصف:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} فهنا ورد وصف "في حجوركم"{مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ، القصد الدخول بالأمهات، {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .

الربيبة: هي ابنة الزوجة التي ليست من هذا الرجل، لكنها تعيش في بيته، فهو يربيها ويتولاها فهي بمنزلة ابنته، فلا يجوز له في هذه الحالة أن يتزوجها، وأيضًا ليس له أن يتزوج ابنة الربيبة؛ ولذلك يقول العلماء: ابنة الربيبة ربيبة؛ وابنة حليلة الابن ليست بحليلة؛ لأنها تختلف عنها؛ فهذه وإن نزلت تسمى ربيبة؛ فلننتبه لذلك.

* قوله: (فَهَؤُلَاءِ الأَرْبَعُ اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِنَفْسِ العَقْدِ).

ص: 5843

يجوز لغة أن يقال: "هؤلاء" للرجال وللنساء، ويُقال للنساء: أولاء

(1)

.

يعني: اثنتان منهما محرمتان بمجرد العقد إجماعًا لا خلاف فيه؛ التي هي زوجات الآباء، وزوجات الأبناء؛ وبالنسبة أيضًا للربائب، هناك خلاف بالنسبة للبنت.

* قوله: (وَهُوَ تَحْرِيمُ زَوْجَاتِ الآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ).

هاتان لا خلاف فيهما بين العلماء

(2)

.

* قوله: (وَوَاحِدَةٍ بِالدُّخُولِ وَهِيَ ابْنَةُ الزَّوْجَةِ).

ليس المقصود هنا الدخول بها لأنه ربما يلتبس على بعضكم؛ بل القصد الدخول بأُمها، {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ، وأما هناك فلم يذكر الله سبحانه وتعالى:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} ، فإن الله تعالى أبهم؛ ولذلك يقول عبد الله بن عباس:"أبهموا كما أبهم القرآن، وأطلقوا كما أطلق القرآن، فلا تقيدوا"

(3)

.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْهَا فِي مَوْضِعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: هَلْ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِ الزَّوْجِ؟ وَالثَّانِيَةُ: هَلْ تَحْرُمُ بِالمُبَاشَرَةِ لِلْأُمِّ لِلَذَّة؟ أَوْ بِالوَطْءِ؟).

(1)

يصح أولاء وهؤلاء في التذكير والتأنيث، يُنظر:"شرح الكافية الشافية"، لابن مالك (1/ 351)؛ حيث قال:"وإن كان جمعًا قريبًا فله في التذكير، والتأنيث: "أولاء" - بالمد على لغة أهل الحجاز، وبالقصر على لغة بني تميم، ولك أن تذكر قبل كل مثال منها "ها" التنبيه نحو: هذا، وهذي، وهذان، وهاتان، وهؤلاء". وينظر "أوضح المسالك"، لابن هشام (1/ 139).

(2)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 99)؛ حيث قال:"أجمع أهل العلم على أن عقد النكاح على المرأة يحرمها على ابنه وأبيه".

(3)

سبق تخريجه.

ص: 5844

مسألة: قوله سبحانه وتعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ، هل وصف الحجر مُراد؟ بمعنى أنها لو لم تكن في حجره، فإنها لا تدخل في ذلك

(1)

؟

هذه مسألة فيها خلاف بين العلماء، لكن الخلاف فيها ضعيف، والصحيح: أن هذا وصف كاشف يعرفه الذين درسوا علم النحو، هذا يُسمَّى بالوصف الكاشف، وليس شرطًا؛ أي: ليس مقيدًا للآية؛ لكنه جاء

(1)

مذهب الحنفية والشافعية أنه قيد غير احترازي لا يتعلق به الحكم أو خرج مخرج الغالب، أما المالكية والحنابلة يرون أنه خرج مخرج الغالب، وخالف في ذلك الظاهرية واعتبروه قيدًا احترازيًا مرادًا بالحكم.

في مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 100)، حيث قال:"وذكر الحجر في الآية خرج مخرج العادة أو ذكر للتشنيع عليهم لا لتعلق الحكم به نحو أضعافًا مضاعفة في قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ".

وفي مذهب الشافعية، ينظر:"الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"، للشربيني (2/ 418) "حيث قال:" (والربيبة إذا دخل بالأم) بعقد صحيح أو فاسد لإطلاق قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وذكر الحجور خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له". وانظر: "بحر المذهب"، للروياني (9/ 205).

وفي مذهب المالكية يُنظر: "حاشية العدوي"(2/ 57)؛ حيث قال: "وقوله: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] خرج مخرج الغالب لا مفهوم له إجماعًا فالربيبة تحرم على من دخل بأمها، وإن لم تكن في حجره".

وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"دقائق أولي النهى"، للبهوتي (2/ 653)؛ حيث قال:"وأما قوله تعالى: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] فقد خرج مخرج الغالب لا الشرط فلا يصح التمسك بمفهومه".

في مذهب الظاهرية، يُنظر:"المحلى بالآثار"، لابن حزم (9/ 140)؛ حيث قال:"وأما مَن تزوج امرأة ولها ابنة أو ملكها ولها ابنة، فإن كانت الابنة في حجره ودخل بالأم مع ذلك وطئ أو لم يطأ، لكن خلا بها بالتلذذ: لم تحل له ابنتها أبدًا، فإن دخل بالأم ولم تكن الابنة في حجره، أو كانت الابنة في حجره ولم يدخل بالأم، فزواج الابنة له حلال".

قال ابن المنذر في "الإشراف"(5/ 96): "وقد أجمع كل من ذكرناه ومَن لم نذكره من علماء الأمصار على خلاف هذا القول".

ص: 5845

بالنسبة للغالب، فخرج مخرج الغالب، فالغالب في الربائب أنهن يكن في بيوت الأزواج؛ ولذلك نص الله سبحانه وتعالى على ذلك.

الأمر الآخر بالنسبة للأم، هل المطلوب {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} مجرد الدخول أو لا بد من الوطء؛ هذه مسألة يختلف فيها العلماء، والأئمة الأربعة انقسموا فيها إلى قسمين:

- فريق يرى أن مجرد الدخول كافٍ؛ لو حصل لمس أو نظرة فإن ذلك يكفي

(1)

.

وفريق قال: لا بد من الوطء؛ فإن لم يحصل وطء، فلا

(2)

.

* قوله: (وَأَمَّا أُمُّ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلْ تَحْرُمُ بِالوَطْءِ؟ أَوْ بِالعَقْدِ عَلَى البِنْتِ فَقَطْ؛ وَاخْتُلِفَ أَيْضًا مِنْ هَذَا البَابِ فِي مَسْأَلَةٍ رَابِعَةٍ، وَهِيَ هَلْ يُوجِبُ الزِّنَا فِي هَذَا التَّحْرِيمِ مَا يُوجِبُهُ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ أَوِ النِّكَاحُ بِشُبْهَةٍ؟ فَهُنَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ).

(1)

في مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 100)؛ حيث قال:"وفي الكشاف واللمس ونحوه يقوم مقام الدخول عند أبي حنيفة".

وفي مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية العدوي"(2/ 58)؛ حيث قال: "وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله: هو التمتع من اللمس والقبلة، وجملة القول: أن الجماع هو الأصل، وحمل عليه اللمس؛ لأنه استمتاع مثله يحل بحله، ويحرم بحرمه، ويدخل في عمومه، فإن لم يقع شيء من ذلك فالربيبة حلال إذا لم يدخل بأمها ولا تلذذ منها بمقدمات الوطء".

وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب"، للروياني (9/ 205)؛ حيث قال:"قال الشافعي: إن الدخول الذي تحرم به الربيبة يكون بالمباشرة وله فيه قولان: أحدهما: أن الوطء في الفرج، والثاني: أنها القبلة والملامسة بشهوة وإن لم يطأ".

(2)

وهم الشافعية كما سبق.

والحنابلة، يُنظر:"الإقناع"، للحجاوي (3/ 181)؛ حيث قال:"الربائب ولو كن في غير حجره وهن بنات نسائه اللاتي دخل بهن دون اللاتي لم يدخل بهن فإن متن قبل الدخول أو أبانهن بعد الخلوة وقبل الوطء لم تحرم البنات فلا يحرم الربيبة إلا الوطء".

ص: 5846

هنا أمور ثلاثة ينص عليها الفقهاء، وهو أن الوطء لا يخلو من واحد من ثلاثة أمور: إما أن يكون بنكاح صحيح، وإما أن يكون بوطء شبهة، وإما بوطء محرم وهو الزنا.

والنكاح الصحيح معروف، يثبت به كل ما يتعلق بالحُرمة والمحرمية؛ فيحرم على الإنسان في هذا النكاح هؤلاء اللاتي ذُكرن، وكذلك يصبح هذا مَحْرَمًا لهن؛ فيجمع صفتين: حُرمة ومحرمية؛ لكن الوطء بالشبهة يثبت به أيضًا التحريم، لكنه لا يكون محرمًا؛ فما الحال بالنسبة للزنا؟ هذا سيأتي أيضًا التعليق عليه عند الحديث عن قضية الوطء بالزنا.

* قوله: (المسْأَلةُ الأُولَى: وَهِيَ هَلْ مِنْ شَرْطِ تَحْرِيمِ بِنْتِ الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِ الزَّوْجِ؛ أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ؟ فَإِنَّ الجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ التَّحْرِيمِ).

الجمهور هنا يعني عامة فقهاء الأمصار، يدخل فيهم الأئمة الأربعة وغيرهم؛ ولذلك حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك؛ ولذلك ابن المنذر ماذا نطق

(1)

؟ أُثِر عن عمر رضي الله عنه وعن علي رضي الله عنه أنهما قالا: "أن تكون في الحجر"

(2)

، وهو قول داود كما أشار المؤلف

(3)

؛ لكن ابن المنذر حكى

(1)

يُنظر: "الإقناع"، لابن المنذر (1/ 305)؛ حيث قال:"وأجمع أهل العلم عَلَى تحريم من ذكر الله في هذه الآية، فإذا نكح المرأة ثم طلقها أو ماتت فأمها حرام عليه دخل بالمرأة أو لم يدخل بها، ولا يحرم عليه نكاح ابنتها إذا فارق الأم أو لم يكن دخل بها، وابنة الربيبة وابنة ابنتها حرام عليه إذا كان دخل بالجدة".

(2)

أما أثر عمر. فقد أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 279)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1880).

وأما أثر علي: فقد أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 278)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 912)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1880).

(3)

يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة"، للقاضي عبد الوهاب (ص 815)؛ حيث قال:"وليس من تحريم الربيبة أن تكون في حجر المتزوج بأمها؛ خلافًا لداود".

ص: 5847

إجماع فقهاء الأمصار على خلاف ذلك، وأنه في الحقيقة لا أثر لهذا الوصف، وأنه لا يُعتبر قيدًا ولا شرطًا، وإنما هي حكاية عن أمر غالب، فإن الغالب في الربائب أن يكن في بيوت الأزواج، والأزواج يتعاهدهن أيضًا بالتربية؛ ولذلك هي تكون في الحجر.

* قوله: (وَقَالَ دَاوُدُ: ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ. وَمَبْنَى الخِلَافِ هَلْ قَوْله تَعَالَى).

ومما يؤيد قول جمهور العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة في الحديث: "لا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن"

(1)

؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا ذكر بنات الزوجات، وذكر أيضًا أخت الزوجة، فقال:"لا تعرضن عليَّ"؛ أي: أن أنكح (أتزوج) بنت هذه الزوجة أو أختها، وهذا قد عُرض على الرسول صلى الله عليه وسلم وأنكر، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يُفَرق بين التي في الحِجر وفي غيرها، والرسول الكريم إنما جاء لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ؛ وتعلمون أيضًا أن القاعدة الأصولية تقول:"إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز"

(2)

، فلو كان ذلك شرطًا ومطلوبًا لَبينه الرسول صلى الله عليه وسلم فذلك أمر كثير الوقوع، كثير الحدوث، ومع ذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر فقال:"لا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن"، يعني لا تطلبن منِّي الزواج ببناتكن أيها الزوجات أو أخواتكن؛ لأن بنت الزوجة ربيبة.

والأخت نهى الله سبحانه وتعالى أن يُجْمَع بينها وبين أختها في عقد واحد، لكن أن يُطلق الإنسان هذه، وتنتهي العدة، ويتزوج، فإن هذا أمر جائز قد أباحه الله تعالى فإن التحريم هنا ليس مؤبدًا، وإنما هو تحريم مؤقت.

* قوله: (وَمَبْنَى الخِلَافِ هَلْ قَوْله تَعَالَى: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] وَصْفٌ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الحُرْمَةِ؟ أَوْ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ).

(1)

أخرجه البخاري (5101)، ومسلم (1449).

(2)

يُنظر: "العدة في أصول الفقه"، للقاضي أبي يعلى (3/ 724) "حيث قال:"لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة".

ص: 5848

نحن لا ننكر بأنه وصف، لكنه وصف كاشف

(1)

يوضح الحالة يبينها، يكشف لنا الحالة التي تكون عليها الربيبة ما هي! أنها في حجو زوج أمها، فهي تعيش معه وتتربى، وأنتم تعلمون ما في هذا الإسلام من اليُسر والسماحة، ولذلك انظروا كيف عاملها الإسلام.

* قوله: (وَإِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ المَوْجُودِ الأَكثَرَ؟).

ولذلك لا يثبت حكم لأمر غالب؛ يعني: كونها تكون في الغالب في حجر الزوج، هذا لا يترتب عليه إنشاء حكم من الأحكام؛ لأن الأحكام إنما تُقر وتقرر إذا جاءت في كتاب الله عز وجل، وفي سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم كيف وقد جاء في السُّنة المُطهرة ما يُبعد ذلك وينفيه؟ وأما قول عمر وعلي رضي الله عنهما الذي نُسب إليهما، فهذا اجتهاد منهما، وربما يكونان بقيا عليه، أو تراجعا عنه، والله أعلم في ذلك؛ لكن ما حكاه ابن المنذر هو إجماع العلماء على خلاف ذلك.

* قوله: (وَلَيْسَ هُوَ شَرْطًا فِي الرَّبَائِبِ، إِذْ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الَّتِي فِي حِجْرِهِ أَوِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي حِجْرِهِ، قَالَ: تَحْرُمُ الرَّبِيبَةُ بِإِطْلَاقٍ. وَمَنْ جَعَلَهُ شَرْطًا غَيْرَ مَعْقُولِ المَعْنَى قَالَ: لَا تَحْرُمُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِهِ).

لا نقول غير معقول المعنى، بل هو معقول المعنى، وإنما هذا يكشف لنا صفة حادثة، أمر يتكرر في البيوت، فهذه البنت تنشأ - في الغالب - مع أمها؛ ولذلك بعض النساء تتزوج برجل فيكون معها ولد أو بنت، نجد أن أهلها يشترطون أو هي تشترط أن تتزوج على أن تبقى بنتها معها، والناس يختلفون، بعضهم يتحمل ذلك ويطلب الأجر والمثوبة

(1)

قال الأمير الصنعاني في "إجابة السائل شرح بغية الآمل"(ص 252): "الوصف الكاشف نحو: الجسم الطويل العريض العميق يحتاج إلى فراغ يشغله فإنه لا مفهوم لهذه الصفات، ومثل الأصوليون ذلك بقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} التقييد بالوصف وهو الكون في الحجر لكونه الأغلب في الربيبة".

ص: 5849

من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه إذا تربت هذه البنت أو هذا الطفل في بيته فأكرمها، وعاملها معاملة الأب لابنه أو لبنته، فإنه بلا شك يُثاب على ذلك؛ وإذا كان يُؤجر على الخادمة وأن الله سبحانه وتعالى يجعل ذلك سببًا من أسباب دخوله الجنة فما بالك أن يُربي مثل هذه الطفلة؟!

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا هَلْ تَحْرُمُ).

هذا القيد ليس مرادًا، والصحيح هو القول المشهور الذي حكى ابن المنذر الإجماع عليه، بمعنى أنه انعقد الإجماع بعد ذلك عليه؛ فلا ينبغي حقيقة أن يُختلف في هذا الأمر.

* قوله: (البِنْتُ بِمُبَاشَرَةِ الأُمِّ فَقَطْ؟ أَوْ بِالوَطْءِ؛ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُرْمَتَهَا بِالوَطْءِ).

جاء في حديث عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مسألة قريبة من هذه: "من تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها، فلا بأس أن يتزوج بنتها، ولا يحل له أن يتزوج أمها"، هذا صريح في هذه المسألة، لكن هذا الأثر رواه البيهقي، وكذلك عبد الرزاق في "مُصنفه"، ورواه غير هؤلاء

(1)

، لكن اختلف فيه أيضًا من حيث درجته؛ لكنه صريح في هذه المسألة.

(1)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 259)، وعبد الرزاق "مصنفه" (6/ 275) عن الثوري في رجل تزوج امرأة وابنتها في عقدة واحدة:"يفرق بينه وبينهما، ولا صداق لهما إذا لم يكن دخل بواحدة منهما، وتزوج ابنتها إن شاء بعد ذلك، فإن نكح الأم فلم يدخل بها نكح البنت إن شاء، وإن نكح الابنة ولم يدخل بها لم ينكح الأم".

وأخرج عبد الرزاق نحوه مرفوعًا في "مصنفه"(6/ 278) عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل نكح امرأة ولم يدخل بها فإنه ينكح ابنتها إن شاء".

وأخرجه الترمذي في "جامعه"(1117) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أيما رجل نكح امرأة فدخل بها، فلا يحل له نكاح ابنتها، وإن لم يكن دخل بها، فلينكح ابنتها، وأيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل بها فلا يحل له نكاح أمها". =

ص: 5850

قال: "فإنهم اتفقوا على أن حرمتها بالوطء؛ واختلفوا فيما دون الوطء من اللمس

" مراد المؤلف هنا بالنسبة للأم، هل الدخول بها كافٍ أو أنه لا يحصل تحريم الدخول بابنتها؟

القاعدة المعروفة: "أن العقد على البنات يحرم الأمهات"

(1)

، مجرد العقد، وهذا تكريم للأم وبيان لمكانتها، مجرد العقد على البنت يحرم الأم؛ "العقد على البنات يُحَرِّم الأمهات، والدخول بالأمهات يُحَرِّم البنات"

(2)

.

إذن الصورة مختلفة، لكنه ما هو هذا الدخول؟ هل المراد بالدخول أن يدخل بها، مجرد أن يخلو بها، وربما يحصل لمس أو نحو ذلك، أو تدقيق نظر، أو أن المراد بالدخول هنا إنما هو الوطء؟ ونحن نجد أن القرآن الكريم أحيانًا يُكني عن هذه الأمور، {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]، {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، إلى غير ذلك من الآيات.

فإن أسلوب القرآن في مثل هذه الأمور لا يُصَرِّحُ بها، ولذلك نجد أنه مما ثبت حُكمًا في كتاب الله عز وجل ونُسِخ تلاوةً ما يتعلق بالزانِيَيْن المحصَنَيْن، فإنه كان مما كان يتلى في سورة الأحزاب:(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتَّة نكالًا من الله)، ثم إن ذلك نُسخ تلاوة وبقي

= قال الترمذي: "هذا حديث لا يصح من قبل إسناده، وإنما رواه ابن لهيعة، والمثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب، والمثنى بن الصباح، وابن لهيعة يضعفان في الحديث. والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم قالوا: إذا تزوج الرجل امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها، حل له أن ينكح ابنتها، وإذا تزوج الرجل الابنة فطلقها قبل أن يدخل بها لم يحل له نكاح أمها لقول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق".

(1)

يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2083)؛ حيث قال:"العقد على البنات يحرم الأمهات بخلاف العكس".

(2)

يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (3/ 21)؛ حيث قال:"الدخول بالأمهات يحرم البنات".

ص: 5851

حُكْمًا

(1)

"فقد بين ذلك عمر رضي الله عنه على المنبر، بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم ولم يُنكِر عليه مُنكِر

(2)

، فدل ذلك على أنه أمر متفق عليه.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَ الوَطْءِ مِنَ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ إِلَى الفَرْجِ لِشَهْوَةٍ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، هَلْ ذَلِكَ يُحَرِّمُ؟ أَمْ لَا؟).

جاء في حديث: "لا ينظر الله إلى رجلٍ نظر إلى فرج امرأةٍ وبنتها"

(3)

، المقصود هنا إنما هو النظرة المحرمة، والله سبحانه وتعالى قد حرم النظر إلى النساء اللاتي لا يجوز النظر إليهن.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تُتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وعليك الثانية"

(4)

؛ لأن الإنسان ربما يقع نظره على امرأة أجنبية، فهو لا يأثم لأن هذا أمر خارج عن إرادته، لكن أن يُدقق النظر فيها، ويُتبع النظرة النظرة، ثم بعد ذلك يضعف قلبه، ويبدأ أيضا تأخذه الأهواء يمينًا وشمالًا والشهوة، فهذا قد وقع في المحرم فحذره الرسول صلى الله عليه وسلم "لا تُتبِع النظرة النظرة"؛ لأن النظرة سهام مسمومة من سهام الشيطان.

(1)

يُنظر: "الانتصار للقرآن"، للباقلاني (1/ 401)؛ حيث قال:"قولهم: إن هذا تصريح منه بنقصان القرآن وسقوط آية الرجم؛ فإنه أيضًا جهل من المتحقق به وذهاب عن الواجب، لأن هذه الرواية بأن تكون عليهم وحجة على فساد قولهم أولى من أن تكون دلالة لهم؛ وذلك أنه لما كانت هذه الآية مما أنزله الله تعالى من القرآن لم يذهب حفظها عن عمر بن الخطاب وغيره، وإن كانت منسوخة التلاوة وباقية الحكم، وقد زال فرض حفظ التلاوة مع النسخ لها". وينظر: "أحكام القرآن"، للجصاص (1/ 72)؛ حيث قال:"والنسخ قد يكون في التلاوة مع بقاء الحكم ويكون في الحكم مع بقاء التلاوة دون غيره".

(2)

أخرجه البخاري (6829)، ومسلم (1691).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3/ 480)، والدارقطني في "سننه"(4/ 402)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 275) موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه، وضعفه الدارقطني والبيهقي.

(4)

أخرجه أبو داود (2149) وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود"(1865).

ص: 5852

فالإنسان ربما في أول نظرة لا يلقِي بالًا، لكنه لو كرر لا ينسى أن الشيطان يدفعه، ويُزين له هذه المرأة حتى وإن لم تكن جميلة، وما عنده في بيته أجمل منها، لكن الشيطان يُحبِّبُ للمسلم الحوام، يريد أن يقع في المُنكر حتى لا يبقى هو وحده عاصيًا لله سبحانه وتعالى وإنما يريد أن تكون معه أُمَّة وجيش وأتباع يتبعونه.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ

(1)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالأَوْراعِيُّ

(2)

، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ

(3)

: إِنَّ اللَّمْسَ لِشَهْوَةٍ يُحَرِّمُ الأُمَّ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ).

هذا مذهب مالك

(4)

، والشافعي في قول، وأبي حنيفة

(5)

.

* قوله: (وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافعِيِّ).

لكنه ليس القول المشهور للشافعي، القول المعتمد في المذهب هو خلاف هذا.

(1)

يُنظر: "الجامع لأحكام القرآن"، للقرطبي (5/ 113):"واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث على أنه إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها".

(2)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 97)؛ حيث قال:"وقال الأوزاعي: إذا دخل بأمها فعراها، ولمسها بيده، وأغلق بابًا، وأرخى سترًا، فلا يحل به نكاح ابنتها".

(3)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 491)؛ حيث قال:"واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث أن اللمس لشهوة يحرم الأم والابنة فيحرمها على الأب والابن".

(4)

يُنظر: "كفاية الطالب الرباني"، لابن أبي زيد القيرواني (2/ 58)؛ حيث قال:"قال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله هو التمتع من اللمس والقبلة، وجملة القول: أن الجماع هو الأصل، وحمل عليه اللمس؛ لأنه استمتاع مثله يحل بحله، ويحرم بحرمه، ويدخل في عمومه".

(5)

يُنظر: "الدر المختار"، للحصكفي (3/ 31)؛ حيث قال:"وفي الكشاف واللمس ونحوه كالدخول عند أبي حنيفة".

ص: 5853

* قوله: (وَقَالَ دَاوُدُ

(1)

وَالمُزَنِيُّ

(2)

).

المُزَنِي من أصحاب الإمام الشافعي.

* قوله: (لَا يُحَرِّمُهَا إِلَّا الوَطْءُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ المُخْتَارُ عِنْدَهُ).

وهو مذهب أحمد

(3)

أيضًا.

* قوله: (وَالنَّظَرُ عِنْدَ مَالِكٍ كاللَّمْسِ).

إذن مذهب الإمام أحمد، والمعتمد - يعني: القول الصحيح الذي أخذ به الأصحاب في مذهب الإمام الشافعي - هو هذا القول الأخير، وهو أنه لا بد من الوطء بالنسبة للأم، وأما مجرد الدخول فلا تأثير له في هذا المقام.

* قول: (وَالنَّظَرُ عِنْدَ مَالِكٍ كَاللَّمْسِ إِذَا كَانَ نَظَرَ تَلَذُّذٍ إِلَى أَيِّ عُضْوٍ كَانَ، وَفِيهِ عَنْهُ خِلَافٌ

(4)

. وَوَافَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النَّظَرِ إِلَى الفَرْجِ فَقَطْ

(5)

. وَحَمَلَ الثَّوْرِيُّ النَّظَرَ مَحْمَلَ اللَّمْسِ وَلَمْ يَشْتَرِطِ اللَّذَّةَ

(6)

).

(1)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 491)؛ حيث قال:"وهو أحد قولي الشافعي وهو الأكثر عنه وله قول آخر أنه لا يحرمها إلا الوطء وبه قال داود، واختاره المزني من قولي الشافعي".

(2)

سبق ذكره.

(3)

يُنظر: "الإقناع"، للحجاوي (1813)؛ حيث قال:"قبل الوطء لم تحرم البنات فلا يحرم الريبة إلا الوطء".

(4)

يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة"، للقاضي عبد الوهاب (ص 815)؛ حيث قال:"وإنما قلنا: إن القبلة واللمس للذة يقومان مقام الوطء في التحريم خلافًا للشافعي، لأنه استمتاع بمباشرة كالوطء، فأما النظر للذة ففيه اختلاف".

(5)

يُنظر: "التجريد"، للقدوري (9/ 4465)؛ حيث قال:"والنظر إلى الفرج لا يستباح إلا بملك أو ضرورة ولذلك تعلق به التحريم".

(6)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 492)، حيث قال:"قال الثوري إذا نظر إلى فرجها متعمدًا ولم يذكر الشهوة".

ص: 5854

لماذا أبو حنيفة قيد ذلك بالفرج؟

لحديث: "لا ينظر الله إلى رجلٍ نظر إلى امرأة فرجها"

(1)

، يعني: النظر المُحرَّم.

* قوله: (وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، فَلَمْ يُوجِبْ فِي النَّظَرِ شَيْئًا، وَأَوْجَبَ فِي اللَّمْسِ).

وهو أيضًا مذهب الإمام أحمد.

وقصده باللمس هنا الوطء؛ هذا هو المراد، ففي مذهب الشافعي وأحمد: لا بد من الوطء، وأما دون الوطء فلا، فقد مر قبل قليل:"من تزوج امرأةً فطلقها قبل أن دخل بها" قالوا والمراد بالدخول هنا إنما هو الوطء "فلا بأس أن يتزوج ابنتها، ولا يحل له أن يتزوج أمها".

* قوله: (وَمَبْنَى الخِلَافِ هَلِ المَفْهُومُ مِنَ اشْتِرَاطِ الدُّخُولِ فِي * قَوْله تَعَالَى: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} الوَطءُ؟).

{مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ، قالوا: والمراد بالدخول إنما هو الوطء، فهذا هو المعروف، وليس المراد به الخلوة.

* قوله: (أَوِ التَّلَذُّذُ بِمَا دُونَ الوَطْءِ؟ فَإِنْ كَانَ التَّلَذُّذُ فَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ النَّظَرُ؟ أَمْ لَا؟).

المؤلف أجملها، والخلاف هنا في المراد بالدخول.

فالحنابلة قولًا واحدًا؛ والشافعية في قولهم المعتمد المعروف، الذي يعتبر المذهب: يشترطون أن يكون الدخول بمعنى الوطء؛ وغيرهم لا يشترط الوطء.

الوطء مجمع عليه، لكن لو حصل غير الوطء فهو كافٍ، إذن، المسألة فيها خلاف بينهم.

(1)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، إلا إذا قصد أثر ابن مسعود السابق ذكره.

ص: 5855

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَأَمَّا الأُمُّ فَذَهَبَ الجُمْهُورُ مِنْ كَافَّةِ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ إِلَى أَنَّهَا تَحْرُمُ بِالعَقْدِ عَلَى البِنْتِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ

(1)

).

العقد على البنات يُحَرِّم الأمهات، فمجرد أن يعقد الزوج على البنت، لا يحل أن يتزوج أمها، أو أم أمها وإن علت، أو أم أبيها.

* قوله: (وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الأُمَّ لَا تَحْرُمُ إِلَّا بِالدُّخُولِ عَلَى البِنْتِ، كالحَالِ فِي البِنْتِ؛ أَعْنِي: أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ إِلَّا بِالدُّخُولِ عَلَى الأُمِّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلَيٍّ

(2)

، وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما

(3)

- مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ).

هو مروي عن علي؛ أما عن ابن عباس فلا؛ لأن المروي عن ابن عباس: "أبهموا كما أبهم القرآن"، فكلامه يدل على خلاف هذا؛ وجماهير العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة، وغيرهم من العلماء كلهم متفقون على أن

(1)

في مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 247)، حيث قال:"العقد على البنت يحرم الأم".

وفي مذهب المالكية يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (3/ 208)، حيث قال:"وأما ما لا يتوقف فيه التحريم على التلذذ بل يحصل فيه التحريم بالعقد كتحريم الأم بالعقد على البنت فإنه يحصل بعقد الصغير، ولو لم يقو على الوطء".

وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب"، للروياني (9/ 196)؛ حيث قال:"أم الزوجة هي حرام عليه بالعقد على البنت سواء دخل بالبنت أم لا أقام معها أو فارقها قد صارت أمها حرامًا عليه أبدًا".

وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع"، للحجاوي (3/ 181)، حيث قال:"ويحرم بالمصاهرة أربع: ثلاث بمجرد العقد وهن أمهات نسائه".

(2)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 95)؛ حيث قال:"وفيه قول ثان: وهو أن أريد بالابنة والأم الدخول جميعًا، روي هذا القول عن علي بن أبي طالب، وبه قال مجاهد".

(3)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 95)؛ حيث قال:"وقد اختلف عن ابن عباس فقال مرة: هي مبهمة، وروي عنه موافقة ما روي عن علي".

ص: 5856

العقد على البنات يُحرم الأمهات؛ مجرد العقد تَحْرُم به، إذا عُقد على البنت فإن الأم تَحْرُم؛ وهذا قد أطلقه الله سبحانه وتعالى فقال:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} .

قال: "وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلَيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ".

قال: من طُرقٍ ضعيفة، فلم يصح أصلًا.

* قوله: (وَمَبْنَى الخِلَافِ: هَلِ الشَّرْطُ فِي قَوْله تَعَالَى: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُمُ الرَّبَائِبُ فَقَطْ؟ أَوْ إِلَى الرَّبَائِبِ وَالأُمَّهَاتِ المَذْكورَاتِ قَبْلَ الرَّبَائِب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}؟ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} يَعُودُ عَلَى الأُمَّهَاتِ وَالبَنَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُمُ البَنَاتُ. وَمِنَ الحُجَّةِ لِلْجُمْهُورِ مَا رَوَى المُثَنَّى بْنُ الصَّبَاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ).

حديث (المُثنَّى بن الصباح) رواه الترمذي، وهو حديث ضعيف؛ لأنه من طريق ابن لهيعة، وهو حُجة للجمهور، وورد أيضًا من عدة طُرق.

* قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً، فَدَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ أُمُّهَا"

(1)

).

هنا أيضًا جاءت رواية أخرى التي ذكرتها لكم قبل قليل: "من تزوج امرأةً فطلقها قبل أن دخل بها" يعني: طلق الأم "فلا بأس أن يتزوج ابنتها، ولا يحل له أن يتزوج أمها".

* قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَاخْتَلَفُوا فِي الزِّنَا هَلْ يُوجِبُ مِنَ التَّحْرِيمِ فِي هَؤُلَاءِ مَا يُوجِبُ الوَطْءُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ بِشُبْهَةٍ).

الله سبحانه وتعالى قد حذر من الزنا وبيَّن بشاعته، وبين أيضًا أنه ساء سبيلًا

(1)

أخرجه الترمذي (1117)، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1879).

ص: 5857

كما قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32].

والله سبحانه وتعالى يقول: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} [النور: 3].

والرسول صلى الله عليه وسلم بين خطورة الزنا، وحذر منه، وأقام الحد على من ارتكبه، أقام حد الرجم - كما هو معلوم - في بعض الوقائع التي حصلت، وجلد غير المحصنين، فالزنا لا شك أنه من أبشع الأمور، وهو أيضًا من الكبائر التي جاء التحذير منها في هذه الشريعة الإسلامية الخالدة، لكن لو وقع ذلك هل ينشُر الحُرمة أو لا ينشُر؟

أولًا: الوطء لا يخلو من واحد من أمور ثلاثة:

- إما أن يكون في نكاح صحيح.

- أو في ملك يمين.

فإن وقع في نكاح صحيح أو في ملك يمين، فإنه ينشر الحرمة بلا خلاف، يصبح الإنسان يحرم عليه أن يتزوج من حرمن عليه، من حصلت بينه وبينهن مصاهرة، ممن نص الله سبحانه وتعالى على تحريمهن، ويصبح أيضًا هو محرمًا لهن، هذا فيما يتعلق بالنكاح، لا إشكال.

- لكن هناك ما يُعرف بالقسم الثاني وهو وطء الشبهة، ما هو وطء الشبهة؟ نحن نعلم أن الشريعة الإسلامية دائمًا وضعت حدودًا، وأن هذه الشريعة الإسلامية جاءت مما فيه خير الناس، وكل أمر فيه لَبْس أو شبهة، فإننا نجد أن الشريعة الإسلامية لا تُعاقب مُرتكبه كما تعاقب من ليس له شبهة في ارتكاب الأمور؛ ولذلك جاء في الأحاديث:"تُدرأ الحدود بالشبهات"

(1)

.

(1)

أخرجه البيهقي في "خلافياته" عن علي كما في "تذكرة المحتاج"، لابن الملقن (ص 84).

قال الزيلعي في نصب الراية (3/ 333): "قلت: غريب بهذا اللفظ، وذكر أنه في=

ص: 5858

وجاء: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم إلى ذلك سبيلًا"

(1)

.

يعني الدفاع عن المسلم، ودَرْء العقوبة عنه، والحفاظ على عرضه ينبغي أن يحصل من كل مسلم، وبخاصة إذا كان المسلم له شُبهة، أما من يرتكب الحرام، ويُجاهِر فيه، ويعصي الله فلا يدخل في ذلك.

ووطء الشبهة له صور كثيرة، يدخل فيه ما يُعرف بالنكاح الفاسد

(2)

.

تذكرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بِوَلِيٍّ وشاهدي عدل"

(3)

، وأن جمهور العلماء يشترطون ذلك

(4)

، وأنه لا يجوز للمرأة أن تتولى عقد

= "الخلافيات" للبيهقي عن علي، وفي "مسند أبي حنيفة" عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا هشيم عن منصور عن الحارث عن إبراهيم، قال: قال عمر بن الخطاب: "لأن أعطل الحدود بالشبهات، أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات". انتهى".

وقال ابن الملقن في البدر المنير (8/ 613): "وروي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ادرؤوا الحدود بالشبهات، ولا ينبغي للإمام أن يعطل الحدود". وفي إسناده ضعف، فيه المختار بن نافع، قال البخاري: منكر الحديث".

وأخرجه أبو حنيفة في "مسنده" رواية الحصكفي عن ابن عباس.

والحديث ضعيف. يُنظر: "المقاصد الحسنة"، للسخاوي (ص 74)(46).

(1)

أخرجه الترمذي (1424)، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(2197).

(2)

يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (3/ 209)؛ حيث قال:"وطء الشبهة إنما هو الوطء غلطًا فيمن تحل مستقبلًا؛ ولذا كان وطء أخت الزوجة غلطًا محرمًا بناتها على زوج أختها الواطئ لها؛ لأنها تحل مستقبلًا فوطؤها وطء شبهة، وأما وطء بنت الزوجة غلطًا فليس بوطء شبهة؛ لأنها لا تحل مستقبلًا فهو من محل التردد".

(3)

أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(4075) من حديث عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أبو داود (2085) وغيره من حديث أبي موسى رضي الله عنه بلفظ:"لا نكاح إلا بولي"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1837).

(4)

في مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل"، للخرشي (3/ 172)؛ حيث قال:"النكاح له أركان خمسة منها: الولي؛ فلا يصح نكاح بدونه".

وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب"، للروياني (9/ 33)؛ حيث قال: "قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: فدل كتاب الله عز وجل وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام على أن حقًّا على الأولياء أن يزوجوا الحرائر البوالغ إذا أردن النكاح ودعون إلى =

ص: 5859

نكاحها فتزوج نفسها، وإنما لا بد من ولي يتولى ذلك، ولا بد من وجود شاهدين عملًا بهذا الحديث، فلو لم يحصل ذلك أصبح النكاح فاسدًا خلافًا للحنفية

(1)

.

هذا نوع من أنواع النكاح الفاسد. هذا واحد.

الأمر الآخر: أن يكون الشراء فاسدًا، يأتي إنسان فيشتري مولاه، ثم يكون الشراء غير صحيح فيطؤها، هذا الذي تزوج هذه المرأة على الصورة الأولى بنكاح فاسد، حصل منه وطء لها، فهنا شبهة.

وكذلك في الشراء، يعني: اشترى من يملك يمينها فوطئها، والشراء أيضًا فاسد، لأنه لم تتوفر فيه أركان البيع الصحيح، وربما وطئ امرأةً يظنها زوجةً له، فتبينت خلاف زوجته؛ دخل مكانًا مُظلمًا أو نحو ذلك، لا يعلم فيه إلا زوجته، ثم تبين أنه غيرها فوطئها، إذن هذه شُبهة أيضًا.

هذه صور من صور الشُّبَه، أو يكون له شريك في مملوكة؛ فيطؤها ظنًّا منه أن شراكته لها تبيح له ذلك.

هذا هو ما يُعرف بوطء الشبهة، فوطء الشبهة يوجب الحرمة، بمعنى أن الحرمة تنتقل كالحال بالنسبة لوطء النكاح

(2)

، هذا فيما يتعلق بالحُرمة، لكن كونه مَحرمًا لها، قال العلماء: لا، ليس له أن ينظر إليها، يعني: من

= رضا قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] قال: وهذه أبين آية في كتاب الله تعالى دلالة على أن ليس للمرأة أن تتزوج بغير ولي".

وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (5/ 58)؛ حيث قال:"الشرط (الثالث) من شروط النكاح (الولي) نصًّا (إلا على النبي صلى الله عليه وسلم) لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] ".

(1)

يُنظر: "المختصر"، للقدوري (ص 146)؛ حيث قال:"وينعقد نكاح المرأة الحرة البالغة العاقلة برضاها وإن لم يعقد عليها ولي عند أبي حنيفة بكر كانت أو ثيبًا، وقال أبو يوسف ومحمد: لا ينعقد إلا بولي".

(2)

يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (3/ 231)، حيث قال:"لأن وطء الشبهة ينشر الحرمة".

ص: 5860

حرم عليه نكاحهن بسبب هذا الوطء؛ وأيضًا لا يحصل هنا توارُث، إلى غير ذلك من الأمور المترتبة على ذلك؛ ولا يلزمه أيضًا نفقة.

إذن وطء الشبهة يُدرأ به الحد

(1)

، وتثبت به الحُرمة، ولا يكون مَحرمًا.

- بقي النوع الثالث: وهو الوطء المحرم، وهو وطء الزنا الذي حرمه الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، وحرمه الرسول صلى الله عليه وسلم واعتبره أيضًا من السبع الموبقات

(2)

.

لكن لو زنى رجل بامرأة، فهنا يقع الخلاف بين العلماء فيما يتعلق بانتشار الحُرمة.

أولًا: هم اتفقوا على أنه لا يكون محرمًا، ولا توارث بينهما، ولا يثبت النسب، لأنهم قالوا: إذا كان وطء الشبهة، يعني إنسان وطئ امرأة بشبهة، له حُجة يتمسك بها، لا يثبت في هذا الوطء نسب، وكذلك لا يثبت فيه توارُث، ولا يكون محرمًا؛ فما بالك بوطء الزنا الذي حرمه الله؟!

لكن يبقى بعد ذلك: هل تنتشر الحُرمة أو لا؟

لو أن رجلًا زنى بامرأة هل يجوز له أن يتزوج ابنتها؟ أو أن يتزوج أمها؟ وهل يجوز لأبيه أو لابنه أن يتزوجها؟

هذا هو الذي يدور الخلاف حوله؛ وهو الذي سيذكره المؤلف في هذا المقام؛ والعلماء قد انقسموا في ذلك إلى قسمين؛ ولكل حُجة يتمسك بها، وإن لم تكن الحُجج صريحة، لكن هناك نظرة شاملة إلى هذه الشريعة الإسلامية الخالدة.

(1)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (7/ 291) "حيث قال:"وكل مَن نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن يدرأ الحد في الشبهة".

(2)

حديث السبع الموبقات لم يذكر فيه الزنا.

ص: 5861

هناك حديث يقول: "لا يُحرِّم الحرام الحلال"

(1)

، لكل هل هذا على إطلاقه؟ وهل يدخل في ذلك أيضًا الزنا؟

لا يُحرِّم الحرام الحلال: لا يجوز لأحد أن يحرم ما أحل الله له، ولا أن يُحل ما حرم الله عليه، ولذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزل قول الله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 131] أشكل ذلك على عدي بن حاتم، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم أحيانًا تكون إجاباته عن طريق السؤال، حتى يستقر الحكم في ذهن وقلب السامع، فقال له:"أَلَيْسُوا يُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّه، فَتَسْتَحِلُّونَه، وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّه، فَتُحَرِّمُونَهُ؟! " قال: بَلَى؛ قَالَ: "فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ"

(2)

.

فمن يُحل ما حرم الله، أو يُحرم ما أحل الله، معتقدًا حِليَّة هذا الأمر فيُحرمه، أو حُرمة هذا الأمر فيُحله، فإنه بذلك يخرجه عن الإسلام؛ لكن من يكون جاهلًا أو معذورًا فالحكم في شأنه يختلف.

كذلك أيضًا مَن يُفضل غير شريعة الإسلام؛ أي: القانون على هذه الشريعة، فهو كافر بلا خلاف، ومن يُسوي بين القوانين التي من صُنع البشر، ومن زبد أفكارهم وبين هذه الشريعة الإسلامية الخالدة يكون كافرًا؛ أما من يحكم بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن الحق في الشريعة، بأن يكون مُكرهًا، أو لسبب من الأسباب؛ فهذا يدخل في الأوصاف الباقية التي وردت في سورة المائدة {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].

وهذه من أخطر الأمور، أن يكفر الإنسان بغير دليل.

وفي "العقيدة الطحاوية" قال شارحها: "ولا نُكفِّر أحدًا من أهل

(1)

أخرجه ابن ماجه (2015) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(385).

(2)

أخرجه الترمذي (3095)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 198)، وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي"(3095).

ص: 5862

القبلة بذنب ما لم يستَحِلّه"

(1)

.

فلننتبه لمثل هذه الأمور؛ الذي يُحل ويُحرم إنما هو الله سبحانه وتعالى وليس للمسلم أن يحكم على أحد بالكفر دون أن يكون عندك دليل بيِّن قاطع، أما أن يحكم الإنسان برأيه، فإذا وجد معصيةً من مسلم سارع وكفَّر؛ أو وجد تقصيرًا أو معصية من وليٍّ من أولياء المسلمين، أو حاكم من حكام، هذا أمر لا يجوز، ولا لأحد أن يُكفر أحدًا من المسلمين؛ وفرق بين العاصي والكافر، شتان بينهما.

ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "صلوا خلف من قال لا إله إلا الله، وعلى من قال لا إله إلا الله"

(2)

.

وقال: "الصلاة واجبة عليكم خلف كل إمام، برًّا كان أو فاجرًا"

(3)

.

وأمر عليه الصلاة والسلام بطاعة ولي الأمر حتى وإن ضرب ظهرك، وإن أخذ مالك

(4)

.

ولا يأخذنا الحماس أو الاندفاع، أو مثلًا محبتنا للدين، وحرصنا على أن يكون الناس جميعًا على استقامة وعلى هدى؛ فالمعاصي حصلت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، أليس ماعِزًا قد زنى، وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يُطهره، وأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أخذ يفتح له الأبواب، ويلقنه الحُجج:"لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، لعلك غَمَزْتَ، لعلك لمست؟ " فيقول: لا، .. إلى

(1)

يُنظر: "شرح الطحاوية" ط الأوقاف السعودية لابن أبي العز الحنفي (ص 296)؛ حيث قال: "قوله: (ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) ".

(2)

أخرجه الدارقطني في "سننه"(2/ 402) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(527).

(3)

أخرجه أبو داود (594) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وضعفه الألبانى في "إرواء الغليل"(527).

(4)

أخرجه مسلم (1847) من حديث حذيفة رضي الله عنه.

ص: 5863

أن قال: "كما يُدخل الرشا في البئر، والمرود في المُكْحُلة"

إلى أن قال: "أَنِكْتَهَا؟ " لَا يَكْنِي، صرح له بكل شيء، قال: نعم.

فأدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرجل جاء يريد التطهير؛ فأقام عليه الحد؛ ولما أنكر عليه بعض المنكرين لما فَرَّ، أو حاول أن يَفر، أُلقي عليه الكلمة، فأنكر الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أنه "قَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ على أهل المدينة لكفتهم"

(1)

.

وكذلك قصة الغامدية

(2)

، وكيف جاءت.

فالنفس ضعيفة قد يحصل منها، لكن من يتوب إلى الله سبحانه وتعالى فإن الله سبحانه وتعالى يقبل التوبة.

ومن أخطر الأمور أن يتسرع طالب العلم، أو الذي لا يزال في بداية طلب العلم، فيحكم على الآخرين بأنهم متساهلون، يجب النظر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة كيف كان يُعامل العُصاة؟

رجل يتكلم في الصلاة، فيسكته الصحابة، وبعد ذلك يواصل كلامه، ثم يضربون بأيديهم على أفخاذهم يريدون أن يصمتونه، قال: لكنني سَكَت، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي، ما رأيت معلمًا أحسن منه فما كهرني ولا ضربني ولا شتمني؛ ثم قال:"إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"

(3)

.

وفي قصة الشاب الذي جاء في عُنفوان شبابه، وهو يقول للرسول صلى الله عليه وسلم بمحضر الصحابة: ائذن لي بالزنا! فيقوم أحد الصحابة ليؤدبه، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم "دعه"، عالج الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الداء والمرض الذي نفذ إلى قلبه، قال له:"أترضى ذلك لأمك؟ " قال: لا؛ قال: "أترضاه

(1)

أخرجه البخاري (6824)، ومسلم (1693) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه مسلم (1695) من حديث بريدة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.

ص: 5864

لابنتك؟ " قال: لا، قال: "والناس لا يرضونه لأمهاتهم ولا لبناتهم"، واستمر معه الرسول، قال: فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما كرهت شيئًا أكثر مما كرهت الزنا

(1)

.

هذه طريقة التأديب، وطريقة الدعوة؛ ولذلك الله تعالى يقول لنبيه:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199].

ويقول: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

ويقول تعالى في مخاطبة أهل الجاهلية، وفي مجادلتهم:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46].

لا شك أن الدعوة لها أساليب، ولها طرق رشيدة؛ ولا شك أن الأُسوة في ذلك أولًا إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والدستور الذي نرجع إليه هو قُطب هذه الشريعة الذي تدور عليه، كتاب الله عز وجل القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ الذي لما سمعه الجن توقفوا، فاستمعوا إليه:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف: 29] إلى آخر الآية.

فالقرآن يأخذ بألباب القلوب، ويستولي على النفوس وينفذ إليها لو أن المرء أصغى إليه؛ ولذلك الله تعالى يقول:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24].

ولأن هذا القرآن العظيم يغزو النفوس، وينفذ من القلوب ويستقر بها، كان المشركون يحذر بعضهم بعضًا من الاستماع إليه، ولذلك يقول أحدهم عندما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو:{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فصلت: 1 - 4] إلى آخر الآيات، قال: "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة،

(1)

أخرجه أحمد في "مسنده"(22265) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(370).

ص: 5865

وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليس من كلام البشر"

(1)

.

وهو بلا شك ليس من كلام البشر، فهو كلام الله سبحانه وتعالى الذي سبحانه وتعالى به من اللوح المحفوظ؛ تكلم الله به بصوت، فالله تعالى يتكلم بصوت يسمعه من بَعُد، كما يسمعه من قَرُب، فهذا هو كلام الله، وهذا المسجل في هذا القرآن العظيم إنما تكلم الله به سبحانه وتعالى خلافًا لمن أنكر ذلك وألحد فيه.

* قوله: (أَعْنِي: الَّذِي يُدْرَأُ فِيهِ الحَدُّ؟).

يقصد الذي بشبهة فسره بالنكاح الذي يُدرأ به الحد؛ والشُّبهة أحيانًا يُدرأ بها الحد، ومن المعلوم أن من أقوى الصحابة في تنفيذ الحدود، وفي إقامة العدل وفي الصرامة، وفي الشدة عمر رضي الله عنه، ومع ذلك أوقف حد السرقة عام الرمادة

(2)

لشدة حاجة الناس وللمجاعة، فهنا نجد أن عمر رضي الله عنه وهذا ما يُعرف بالمصالح المرسلة

(3)

.

* قوله: (فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الزِّنَا بِالمَرْأَةِ لَا يُحَرِّمُ نِكَاحَ أُمِّهَا، وَلَا ابْنَتِهَا)

(4)

.

(1)

أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 550)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(1/ 288)، قال العراقي في "تخريج أحاديث إحياء علوم الدين" (2/ 687):"ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" بغير إسناد ورواه البيهقي في "الشعب" من حديث ابن عباس بسند جيد".

(2)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(10/ 242)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 521) من طريق يحيى بن أبي كثير قال: قال عمر رضي الله عنه: "لا يقطع في عذق ولا عام السنة". وهذا إسناد منقطع؛ فيحيى بن أبي كثير لم يسمع من عمر رضي الله عنه.

(3)

يُنظر: "التقرير والتحبير على التحرير"، لابن أمير حاج (3/ 286)؛ حيث قال:" (والمصالح المرسلة) وهي التي لا يشهد لها أصل بالاعتبار في الشرع ولا بالإلغاء وإن كانت على سنن المصالح وتلقتها العقول بالقبول". وينظر: "معالم أصول الفقه"، للجيزاني (ص 236).

(4)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 183)، حيث قال:"ولو زنى بامرأة لم تثبت مصاهرة". وانظر: "بحر المذهب"، للروياني (9/ 211).

ص: 5866

لأن هؤلاء يستدلون بحديث: "لا يحرم الحرام الحلال"

(1)

، هذا حديث أخرجه ابن ماجه، والبيهقي، لكنه حديث فيه ضعف.

الزنا وطء حرام، فلا يحرم به الحلال، هكذا يقولون؛ معنى هذا أنه يجوز للزاني أن يتزوج من زنى بها، وأن يتزوج ابنتها، وأن يتزوج أمها، هذا هو تفسير ذلك على هذا القول.

*قوله: (وَلَا نِكَاحَ أَبِي الزَّانِي لَهَا وَلَا ابْنِهِ

(2)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

، وَالثَّوْرِيُّ

(4)

، وَالأَوْزَاعِيُّ

(5)

: يُحَرِّمُ الزِّنَا مَا يُحَرِّمُ النِّكَاح، وَأَمَّا مَالِكٌ

(6)

فَفِي "المُوَطَّإِ" عَنْهُ مِثْل قَوْلُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ).

وأحمد أيضًا

(7)

.

العلماء انقسموا إلى قسمين:

فالشافعي يرى أن الوطء بالزنا لا يحرم، ففي الحديث: "لا يحرم

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق بيانه.

(3)

يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 105)؛ حيث قال:" (قوله والزنا واللمس والنظر بشهوة يوجب حرمة المصاهرة) ".

(4)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 104)؛ حيث قال:"اختلف أهل العلم في الرجل يفجر بأم امرأته. فقالت طائفة: تحرم عليه امرأته، روي هذا القول عن عمران بن حصين. وبه قال الحسن، والشعبي، وعطاء، والثوري، وإسحاق، وأصحاب الرأي".

(5)

يُنظر: "اختلاف العلماء"، للمروزي (ص 325)؛ حيث قال:"وقال سفيان: إذا جامع الرجل امرأته وابنة امرأته فسدت عليه البنت والأم وكذلك قال الأوزاعي.".

(6)

يُنظر:"الموطأ"، لمالك ت عبد الباقي (2/ 533)؛ حيث قال:"فأما الزنا فإنه لا يحرم شيئًا من ذلك؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} فإنما حرم ما كان تزويجًا، ولم يذكر تحريم الزنا، فكل تزويج كان على وجه الحلال يصيب صاحبه امرأته، فهو بمنزلة التزويج الحلال، فهذا الذي سمعت، والذي عليه أمر الناس عندنا".

(7)

يُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (5/ 94)؛ حيث قال:"فلو زنى بامرأة حرمت على أبيه وابنه، وحرمت عليه أمها وابنتها كوطء الحلال والشبهة".

ص: 5867

الحرام الحلال"، ولأنه لا يثبت به نسب ولا نفقة، وكذلك أيضًا لا تثبت به المحرمية، لا يكون محرمًا لها؛ لا يمكن أن يُنتسب إلى الزاني؛ وكذلك لا توارث بينهما.

* قوله: (وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ القَاسِمِ

(1)

مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُحَرِّمُ. وَقَالَ سَحْنُون: أَصْحَابُ مَالِكٍ يُخَالِفُونَ

(2)

).

لكن مالكًا له رواية يتفق فيها مع الشافعي، وأُخرى

(3)

يتفق فيها مع الإمامين أبي حنيفة وأحمد.

والجمهور - وهم الحنفية والحنابلة وهي الرواية الأخرى أيضًا للإمام مالك، وبها قال بعض الشافعية

(4)

- يرى أن الزنا ينشر الحرمة، وأنه يحرم به فيما يتعلق بالوطء ما يحرم بالنكاح الصحيح وبوطء الشبهة.

* قوله: (ابْنَ القَاسِمِ فِيهَا، وَيَذْهَبُونَ إِلَى مَا فِي "المُوَطَّإِ"، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ اللَّيْثِ أَنَّ الوَطْءَ بِشُبْهَةٍ لَا يُحَرِّم، وَهُوَ شَاذٌّ

(5)

).

وهو كما ذكر المؤلف قول شاذ، أما العلماء كافة فيرون أن الوطء

(1)

يُنظر: "حاشية العدوي"(2/ 61)؛ حيث قال: " (قوله: فأكثر الشيوخ رجح ما في "الموطأ")، وهو المعتمد؛ لأن كل أصحاب مالك عليه خلا ابن القاسم (قوله: وأفتى بالتحريم إلى أن مات) ".

(2)

يُنظر: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (2/ 19)؛ حيث قال:"قال سحنون: وأصحاب مالك كلهم عليه لم يختلفوا فيه إلا ابن القاسم فإنه روى في "المدونة": أن مَن زنى بأم امرأته فإنه يفارقها".

(3)

يُنظر: "حاشية العدوي"(2/ 61):"

ظاهر قوله في "المدونة" خلافه ونصها وإن زنى بأم زوجته أو بنتها فليفارقها".

(4)

الذي وقفت عليه أنهم أطبقوا على أنه لا يثبت حرمة بالزنا.

(5)

يُنظر: "التبصرة"، للَّخمي (5/ 2075، 2076)، وفيه قال:"وعن الشيخ أبي عمران أنه قال: لا نعلم خلافًا فيمن وطء بوجه شبهة أنها تحرم، إلا بما روى يحيى عن سحنون فيمن مد يده إلى زوجته في الليل، فوقعت يده على ابنته، فوطئها غلطًا: أنها لا تحرم زوجته عليه، وروى نحو ذلك يزيد بن بشر عن الليث".

ص: 5868

بالشبهة إنما هو يُحرِّم

(1)

؛ لكنه لا يكون الواطئ بشبهة محرمًا.

*قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ الاشْتِرَاكُ فِي اسْمِ النِّكَاح، أَعْنِي: فِي دَلَالَتِهِ عَلَى المَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَاللُّغَوِيِّ، فَمَنْ رَاعَى الدَّلَالَةَ اللّغَوِيَّةَ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} .

وفي قصة هلال بن أُمية - وفي بعض الروايات أنه عُويمر العجلاني لكن المشهور أنه هلال - لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم - بعد أن حصلت الملاعنة، يعني الرجل رمى زوجته بالزنا -:"البينة أو حد في ظهرك". بقي الرجل متأثرًا واتجه إلى الله سبحانه وتعالى حتى نزلت الآيات التي في اللعان؛ فلاعن من زوجته.

لكن بعد ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "انظروا إليه فإن وجدتموه أكحل العينين فهو لشريك بن سحماء" الزوج الذي زنى بالمرأة؛ فجاء شبيهًا به، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن"

(2)

.

تقرر الحكم، وحصلت الملاعنة، ومع ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لولا ما مضى من كتاب الله - سبحلنه وتعالي - " أي: ما جاء في الملاعنة وما تم، "لكان لي ولها شأن" لأن الشبه واضح في هذا المقام.

فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: فإن كان وصفه كذا، فهو لشريك بن سحماء، فجاء كما قيل، أصبحت المرأة هي المتهمة، لكن الرجل حلف، وهي أيضًا حلفت، وهناك مسؤولية عظيمة، وكل سيُسأل بين يدي الله من هؤلاء وغيرهم، كل مَن ظَلم سيجد ذلك مدونًا أمامه.

وفي قول اللّه تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]، هذا حُجة للحنفية والحنابلة ومن معهم؛ قالوا: فإن النكاح

(1)

سبق.

(2)

أخرجه البخاري (4747) من حديث ابن عباس - رضي الله عنمهما -.

ص: 5869

يُطلق على الوطء؛ فالنكاح هنا يطلق أيضًا على الزنا؛ لأنه يطلق على الوطء والوطء زنا؛ فقالوا: هذه الآية حُجة لنا؛ لأن في تفسير الآية بعضهم فسرها بأنه الزنا، وبعضهم قال: إن ذلك كان في الجاهلية، وهذا يعني أنه لا يجوز للابن أن يتزوج امرأة زنى بها أبوه - والعياذ بالله -، فهذا التفسير حُجة للجمهور.

ثم إن الماء إنما هو ماء هذا الرجل، لكنه يختلف عن الحلال بأن ذاك نكاح طيب أباحه الله سبحانه وتعالى لكنه وضع هو هذه النطفة في هذه المرأة كما يضعها الرجل في امرأته؛ لكن الفرق بينهما، كما قال الرسول:"أرأيت لو وضعتها في الحلال، ألك أجر؟ " قال: بلى؛ قال: "فكذلك إذا وضعتها في الحرام فعليك وِزر"

(1)

، فمن يضع هذه النطفة في الحلال إنما له أجر عظيم من الله سبحانه وتعالى، ومن يضعها في الحرام فعليه وزر عظيم أيضًا.

*قوله: (قَالَ: يُحَرِّمُ الزِّنَا).

يعني بالدلالة اللغوية: أن النكاح يُطلق على الوطء؛ والله تعالى يقول: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ، يعني لا تطؤوا ما وطأ آباؤكم، وهذه قد وطئها الأب، فلا يجوز للابن أن يطأها؛ إذن هي محرمة، فتحرُم على ابنه وعلى أبيه، وتحرُم أيضًا على الزاني ابنتها وأمها كالحال في الزوجة.

هذا هو تفسير مذهب الحنفية والحنابلة، فلو أن إنسانًا زنى بامرأة، فلا يجوز له أن يتزوج ابنتها ولا أمها؛ ولا يجوز أيضًا لأبيه ولا لابنه (لابن الزاني، أو أب الزاني)، أن يتزوج هذه المرأة التي زنى بها، لأنه وضع فيها النطفة؛ وهذا حقيقة هو القول الذي أرى رُجحانه، وهو قول الأكثر.

* قوله: (وَمَنْ رَاعَى الدَّلَالَةَ الشَّرْعِيَّةَ قَالَ: لَا يُحَرِّمُ الزِّنَا. وَمَنْ عَلَّلَ هَذَا الحُكْمَ بِالحُرْمَةِ الَّتِي بَيْنَ الأُمِّ وَالبِنْتِ، وَبَيْنَ الأَبِ وَالابْنِ؛

(1)

أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر رضي الله عنه بلفظ: "أرأتيم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر".

ص: 5870

قَالَ: يُحَرِّمُ الزِّنَا أَيْضًا، وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالنَّسَبِ قَالَ: لَا يُحَرِّمُ؛ لإِجْمَاعِ الأَكْثَرِ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ لَا يَلْحَقُ بِالزِّنَا).

قصده: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر"

(1)

، فإنه لا يلحق الولد بالزاني، هذا معروف؛ يعني: لا يلحقه نسب؛ وكذلك ليس للزاني أن ينظر، ولا يكون مَحرمًا، ولا توارث، هذه كلها أمور يختلف فيها عن النكاح الصحيح الذي هو النسب، هذا لا خلاف فيه.

لكن الوطء حصل، فهل هذا الوطء ينشر الحرمة أو لا؟ الظاهر أنه ينشرها، والله أعلم.

* قوله: (وَاتَّفَقُوا فِيمَا حَكَى ابْنُ المُنْذِرِ عَلَى أَنَّ الوَطْءَ بِمِلْكِ اليَمِينِ يُحَرَّمُ مِنْهُ مَا يُحَرِّمُ الوَطْءُ بِالنِّكَاحِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْثِيرِ المُبَاشَرَةِ فِي مِلْكِ اليَمِينِ، كمَا اخْتَلَفُوا فِي النِّكَاحِ).

يعني في اللمس وغيره وقد مر.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

‌(الفَصلُ الثَّالِثُ فِي مَانعِ

(2)

الرَّضَاعِ)

بدأ المؤلف أول ما بدأ بـ (النسب) لأهميته، وغالب الفقهاء يُتبعون ذلك بـ (الرضاع)؛ لأن حُرمة الرضاع تنتشر كما تنتشر حُرمة النسب، كما

(1)

أخرجه البخاري (2053)، ومسلم (1457) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

"المانع": ما يلزم من وجوده عدم الحكم ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته.

انظر: "روضة الناظر" لابن قدامة (1/ 181).

ص: 5871

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الرَّضَاعَةُ تُحرِّمُ مَا تُحرِّم الولادَةُ"

(1)

. وكما في الحديث المتفق عليه قال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "يحْرُمُ من الرَّضاعِ ما يحرُمُ من النَّسب"

(2)

.

فهذا شبية به تمامًا، ولكن القرآن العزيز لم يذكر إلا اثنتين من المحرَّمات بالرضاع وهو قوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، فهي إشارة من القرآن العزيز، ولأن الرضاعة تنتشر، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن هذا المُجمل، فكان الأمر واضحًا بحمد الله؛ فلا خلاف فيه إلا في مسائلَ يسيرة، والخلاف فيها أقرب ما يكون إلى الشذوذ.

* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَ بِالجُمْلَةِ يَحْرُمُ مِنْهُ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، أَعْنِي: أَنَّ المُرْضِعَةَ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الأُمِّ، فَتَحْرُمُ عَلَى المُرْضَعِ هِيَ وَكلُّ مَنْ يَحْرُمُ عَلَى الابْنِ مِنْ قِبَلِ أُمِّ النَّسَبِ)

(3)

.

(1)

جزء من حديث أخرجه البخاري (2646)، واللفظ له، ومسلم (1444)، عن عمرة بنت عبد الرحمن، أن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها، وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، هذا رجل يستأذن في بيتك، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أراه فلانًا" لعم حفصة من الرضاعة، فقالت عائشة: لو كان فلان حيًّا - لعمها من الرضاعة - دخل عليَّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَعم، إنَّ الرَّضاعة تحرم ما يحرم من الولادة".

(2)

أخرجه البخاري (2645)، واللفظ له، ومسلم (1447) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: "لا تحلّ لي، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، هي بنت أخي من الرضاعة".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (3/ 118) حيث قال: ("وإذا أرضعت المرأة صبيّة حرمت على زوجها وآبائه وأبنائه)، فتكون المرضعة أمّ الرضيع وأولادها إخوته وأخواته من تقدّم ومن تأخر، فلا يجوز أن يتزوج شيئًا من ولدها وولد ولدها وإن سفلوا، وآباؤها أجداده وأمهاتها جداته من قبل الأم. وإخوتها وأخواتها أخواله وخالاته". وانظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 2).

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 504) حيث قال: "فأمك من الرضاع مَن أرضعتك أو أرضعت مَن له عليك ولادة وأمهاتها، وأختك من رضعت معك على امرأة، وكل بنت ولدتها مرضعتك أو فحلها المنسوب له ذلك

ص: 5872

* الرَّضاع له طريقان: طريق المرأة التي أرضعت، والفحل الذي هو صاحب اللبن - الرجل -. فنحن من حيثُ الجملة نبيِّن أن صاحب اللبن هو زوج هذه المرأة التي أرضعت فيكون أبًا، للموضع، والجدُّ يكون جدًّا له، والإخوة يكونون إخوة له، والأبناء: - أي: أبناء هذا الرجل الذي أرضع - يكونون إخوة له، والأعمام أعمام له، والخالات خالات له، والجدات جدات له، وهكذا. كالحال بالنسبة للنسب تمامًا، لكن هناك فوارق كالميراث؛ فلا توارث بالنسبة للعلاقة الرَّضاعية.

*وأم الرضاع للإنسان الذي أرضعته، له أن يجلس معها أيضًا كما تجلس مع ابنها الذي من صلبها، وأن يسافر بها.

ويحرم عليه أي: - المرضَع - ما يتعلق بهذه الأمِّ التي أرضعته، كل أمهاتها وإن علوْن وبناتِها، وهكذا كل ما يحرم من النسب. وكذلك ما

= اللبن، وبنتك كل من أرضعته زوجتك بلبنك أو أرضعتها بنتك من نسب أو رضاع، وأخوات الفحل عماتك وأخوات المرضع خالاتك، وبنات الأخ من أرضعته زوجة أخيك بلبنه، وبنات الأخت من أرضعته أختك ومثل النسب الصهر".

مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 149) حيث قال: " (السبب الثاني الرضاع ويحرم به ما يحرم بالنسب) للآية ولخبر "الصحيحين": "يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة" (فمرضعتك ومرضعة أبيك من الرضاع ومرضعاتها)، أي: ومرضعات مرضعتك ومرضعة أبيك من الرضاع (ومرضعات من ولدك) بواسطة أو بغيرها (أمهات) من الرضاع، وكذا كل من ولدت مرضعتك أو ذا لبنها كما صرح به الأصل".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 213) حيث قال: " (و) صار (هو)، أي: الطفل (ولدهما) فيما ذكر (و) صار (أولاده)، أي: الطفل (وإن سفلوا أولاد ولدهما) وهو الطفل. (و) صار (أولاد كل منهما)، أي: المرضعة والواطئ المذكور (من الآخر أو) من (غيره) كأن تزوجت المرضعة بغيره فصار لها منه أولاد وتزوج الواطيء بغيرها وصار له منها أولاد (فالذكور منهم يصيرون إخوته، والبنات أخواته. (و) يصير (آباؤهما)، أي: أبا المرضعة والواطئ المذكور (أجداده)، أي: الطفل (و) أمهاتهما (جداته. و) صار (أخواتهما وإخوانهما)، أي: إخوة المرضعة وأخواتها وإخوة الواطئ وأخواته (أعمامه وأخواله وخالاته)؛ لأن ذلك كله فرع ثبوت الأمومة والأبوة". وانظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 113).

ص: 5873

يتعلق بالفحل، أي: هذا الذي ثاب

(1)

اللبن من وطئه، وهو الرجل: وهو زوج هذه المرأة، وسيأتي الخلاف فيه أيضًا.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، القَوَاعِدُ مِنْهَا تِسْعٌ؛ إِحْدَاهَا: فِي مِقْدَارِ المُحَرِّمِ مِنَ اللَّبَنِ).

ما هو القدر المُحرِّم من اللبن؟ فهل كل رضاعٍ يُحرِّم؟ أم أن هناك قدرًا معينًا؟ ثم هل هذا القدر أيضًا متفق عليه أم فيه خلاف؟ وهل الرضعة تُحرِّم أم لا؟ وهل الرضعتان تحرمان؟ أم هل لا بد من ثلاث رضعات، أم خمس، أم سبع، أم عشر؟ هناك أقوالٌ عدةٌ للعلماء، وهذا فيما يتعلق بعدد الرضعات.

*قوله: (الثَّانِيَةُ: فِي سِنِّ الرَّضَاعِ).

فهل هناك سنٌ معينٌ يكون الرضاع فيه محرِّمًا؟ أم هل هو سنُّ الفطام؛ بحيث لو فُطم الطفلُ لمدة سنة أو أقل أو أكثر فإن هذا هو السن الذي يُعتبر فيهِ التحريم؟ أم أن ذلك محددٌ بعامين كقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، أم أن ذلك يسري على الكبير كما في قصة سالم؟ وسيأتي الكلام عنها.

* قوله: (وَالثَّالِثَةُ: فِي حِلِّ المُرْضَعِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ لِلرَّضَاعِ المُحَرِّمِ وَقْتًا خَاصًّا).

فهل هناك أيضًا وقت خاصّ يكون فيه الرضاع، أم أن ذلك مطلقًا؟

* قوله: (وَالرَّابِعَةُ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ وُصُولُهُ بِرَضَاعِ وَالتِقَامِ الثَّدْيِ؟ أَوْ لَا يُعْتَبَرُ؟).

أي: هل يُشترط أن يكون عن طريق الرضاع؛ بأن يلتقم الصبي الرضيع الثدي فيمتصه؟ أم أنه يكفي عن ذلك أن يصل اللبن إلى جوفه،

(1)

"ثاب الشيء"، أي: رجع. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 243).

ص: 5874

سواءٌ كان عن طريق الحلق، أم عن طريق الأنف، أم الحقنة؟ أم هل هناك خلافٌ بين الحلق وبين غيره؟ كلُّ ذلك تكلم عنه العلماء.

* قوله: (وَالخَامِسَةُ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ المُخَالَطَةُ؟ أَمْ لَا يُعْتَبَرُ؟).

أي: هل هناك فرق بين اللبن المحض، أي: الخالص الذي لم يخالطه غيره؟ أم أن المخالطة أيضًا كالذي يخالطه دواءٌ أو شرابٌ أو طعامٌ أو ماء فهل يتأثر أم لا؟ أم أن اللبن يحتفظ بقوته وقدرته على التأثير، فلا يتأثر بمخالطٍ يخالطه؟

*قوله: (وَالسَّادِسَةُ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الوُصُولُ مِنَ الحَلْقِ؟ أَوْ لَا يُعْتَبَرُ؟).

هذه المسألة كأنها مكررة للرابعة؛ إذ هي شبيهة بها، ولذلك ترونها قريبةٌ منها جدًّا، والمعنى: أنه لو وصل عن طريق الحلق كالذي يعرفونه بالسعوط

(1)

، فلو رضعَ الغلام فأُدخل عن طريق أنفه، ثم وصل إلى معدته فهل هذا يعتبر رضاعًا تثبت به الحُرمة والمحرمية أم لا؟

* قوله: (وَالسَّابِعَةُ: هَلْ يُنَزَّلُ صَاحِبُ اللَّبَنِ - أَعْنِي: الزَّوْجَ - مِنَ المُرْضَعِ مَنْزِلَةَ أَبٍ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ لَبَنَ الفَحْلِ؟ أَمْ لَيْسَ يُنَزَّلُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ أَبٍ؟).

"الفحل" إنما هو الرجل؛ فهو الذي وطئ هذه المرأة فحملت، ثم بعد ذلك ولدت هذا الغلام، فحصل الرضاع. فهل المحرمية أيضًا خاصَّة بالمرضعة؟ أم أنها تشمل الأب أيضًا صاحب اللبن الذي ثاب منه؟ لأنه كان بسبب وطئه حصل ذلك، فالوطء إنما هو من مجموع ماءَي الرجل والمرأة، كما قال تعالى:{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} [الطارق: 7]. لكن اللبن هل للرجل تأثيرٌ فيه أم لا؟ لا شك - كما سيأتي - أن جماهير

(1)

"السَّعوط": كلُّ شَيء صببته فِي الأنف من دواء أو غيره. انظر: "جمهرة اللغة"، لابن دريد (2/ 834).

ص: 5875

العلماء يرون أن المحرمية تثبت أيضًا للفحل، وهناك خلاف يسير في هذه المسألة سيُذكر.

* قوله: (وَالثَامِنَةُ: الشهَادَةُ عَلَى الرَّضَاعِ).

كذلك الشهادة: فهل تكفيه شهادة امرأةٍ واحدة؟ أم لا بدَّ من وجود امرأتين؟ أم لأنَّ النساء لسْنَ كالرجال فلا بد من أربع؟ ولو اقتُصر على شهادة امرأة فهل لها شروطٌ وأوصافٌ معينة؟

* قوله: (وَالتَّاسِعَةُ: صِفَةُ المُرْضِعَةِ).

فهل يُشترط فيها أن تكون امرأة؟ وهل يشترط أن تكون حية؟ وهل يلزم أن تكون حاملًا؟ أم لا يُشترط ذلك، المهم أن تكون امرأة؟ وهذه المرضعة هل يُشترط أن تكون أيضًا آدمية: بمعنى لو رضع اثنان من حيوان هل تثبت الأخوَّة؟ الجواب: لا.

وكذلك لو وُجد في ثدي رجلٍ لبن فرضع منه هل تثبت المحرمية؟ هذا أشار إليه المؤلف وأنكره، لكن هناك من تكلم فيه، ونتركه لموضعه. هذه إشارات أحببنا أن نعلق عليها إجمالًا، وبعد ذلك نأتى إلى هذه المسائل - إن شاء الله - تفصيلًا.

ومسائل الرضاع مهمة، لا نظن أنها سهلة، وأنها من الأمور التي ينبغي أن يمر عليها الإنسان مرور الكرام، فإن هذا مما ينتشر بين الناس، وكثيرًا ما يُفاجأ الناس في أحوال - كما سيأتي - في قصة عقبة بن حارث؛ فإنه تزوج امرأة وبقيت معه فترة، ثم تأتيه جارية سوداء فتقول: أرضعتكما. فهذه من أشد الأمور على النفوس، ويذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرض عليه ذلك، فيرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم:"كيف وقد قيل؟ كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ "

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري (5104) عن عقبة بن الحارث، قال: تزوجت امرأة، فجاءتنا امرأة سوداء، فقالت: أرضعتكما، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: تزوَّجت فلانة بنت فلان، =

ص: 5876

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(المَسْأَلَةُ الأُولَى: أَمَّا مِقْدَارُ المُحَرِّمِ مِنَ اللَّبَنِ فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا فِيهِ بِعَدَمِ التَّحْدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ

(1)

).

انقسم العلماء في هذه المسألة إلى قسمين من حيث الجملة:

ففريق ذهب إلى عدم التحديد: وهذا رأيٌ لجماعةٍ من العلماء منهم الإمام مالك، وهي رواية للإمام أحمد

(2)

، فالإمام أحمد له ثلاث روايات في هذه المسألة.

ومن العلماء من اشترط التحديد في ذلك، لكنهم اختلفوا:

فمنهم من قال: يكفي في ذلك ثلاث رضعات.

ومنهم من قال: خمسُ رضعاتٍ.

ومنهم من قال: عشر رضعاتٍ.

ومنهم من قال: سبع رضعاتٍ.

ومنهم من لم يحدَّ في ذلك حدًّا وقيَّد ذلك بالصغر

(3)

.

= فجاءتنا امرأة سوداء، فقالت لي: إني قد أرضعتكما، وهي كاذبة، فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه، قلت: إنها كاذبة، قال:"كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما، دعها عنك".

(1)

يُنظر: "الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 54) حيث قال: " (وكل ما وصل) ولو مع الشك .. (إلى جوف الرضيع في) داخل (الحولين من اللبن) ولو خلط بغير طالب عليه

(فإنه يحرم) مثل ما حرمه النسب (وإن) كان الواصل إلى جوف الرضيع (مصة واحدة) على قول أكثر أهل العلم". وانظر: "حاشية الدسوقي" (2/ 502).

(2)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 171) حيث قال: "وعن أحمد رواية ثانية أن قليل الرضاع وكثيره يحرم. وروي ذلك عن علي، وابن عباس،

، ومالك، والأوزاعي، والثوري".

(3)

سيأتي.

ص: 5877

* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ

(1)

، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ

(2)

، وَهَؤُلَاءِ يُحَرِّمُ عِنْدَهُمْ أَيُّ قَدْرٍ كَانَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ

(3)

، وَالثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ

(4)

).

لا شك أن هذا القول قال به جمعٌ كثيرٌ من العلماء ومن الأئمة وغيرهم.

وهناك من العلماء من قال: لا تحديد لقدر الرضاع، بل أقل ما يُطلق عليه رضاع فإنه تثبت به الحُرمة؛ فلو التقم الطفل الثدي فرضع رضعةً واحدة، ما دام قد وصل إلى جوفه، أي: إلى معدته فإنه تحصل به الحُرمة. وهؤلاء يستدلُّون بالكتاب والسنة.

* قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَة بِتَحْدِيدِ القَدْرِ المُحَرِّمِ، وَهَؤُلَاءِ انْقَسَمُوا إِلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَلَا المَصَّتَانِ، وَتُحَرِّمُ الثَّلَاثُ رَضَعَاتٍ فَمَا فَوْقَهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ)

(5)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 469)، عن عليّ، وابن مسعود، قالَا في الرضاع:"يحرم قليله وكثيره". فحدثت معمرًا، فقال:"صدق".

(2)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 550) حيث قال: "فقالت طائفة: يحرم قليل ذلك وكثيره، روي هذا القول عن عليّ، وابن مسعود، وبه قال ابن عمر، وابن عباس".

(3)

يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (3/ 117) حيث قال: "وحكم الرضاع يثبت بقليله وكثيره؛ لقوله سبحانه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] مطلقًا، وقال عليه الصلاة والسلام: "يَحرُم من الرَّضاع ما يَحرُم من النَّسب" من غير فصل. وقال عليه الصلاة والسلام: "الرَّضاع ما يُنبت اللَّحمَ وينشز العظم"، وإنه يحصل بالقليل؛ لأنَّ اللبن متى وصل إلى جوف الصبي أنبت اللحم وأنشز العظم". وانظر: "مجمع الأنهر" لشيخي زاده (1/ 375)، و"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 185).

(4)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 551) حيث قال: "وبه قال مالك، والأوزاعي، وسفيان الثوري".

(5)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 552) حيث قال: "وممن قال بأن الرضعة والرضعتان لا تحرمان، وإنما تحرم ثلاث رضعات: أبو عبيد، وأبو ثور".

ص: 5878

هو أبو عُبيْد القاسم بن سلَّام، وأبو ثور وجماعة، وهي الرواية الأخرى للإمام أحمد

(1)

.

* قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَة: المُحَرِّمُ خَمْسُ رَضَعَاتٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

).

وهي أظهر الروايات عن الإمام أحمد

(3)

، وهو أيضًا قول عائشة وجمعٌ من الصحابة

(4)

.

*قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَة: عَشْرُ رَضَعَاتٍ)

(5)

.

وهذا نُسب أيضًا إلى عائشة وإلى أم سلمة أيضًا رضي الله عنهما.

إذًاا لأقوال متعددة؛ فهناك من يرى أن قليل الرضاع وكثيره يُحرِّم، حتى حُكي عن الليث بن سعد أنه قال: "قليل الرضاع وكثيره أجمع العلماء

(1)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 172) حيث قال: "والرواية الثالثة لا يثبت التحريم إلا بثلاث رضعات".

(2)

يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 417) حيث قال: " (فصل: ولا أثر لدون خمس رضعات) روى مسلم عن "عائشة رضي الله عنهما كان فيما أنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن"، أي: يتلى عليكم حكمهن أو يقرؤهن من لم يبلغه النسخ لقربه". "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 176).

(3)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 215) حيث قال: " (الشرط الثاني أن يرتضع) الطفل (خمس رضعات) فأكثر لحديث عائشة قالت: "أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخ من ذلك خمس رضعات وصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن فتُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك" رواه مسلم. والآية فسَّرتها السُّنة وبينت الرضاعة المحرمة". وانظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 171).

(4)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 171) حيث قال: "وروي هذا عن عائشة، وابن مسعود، وابن الزبير". قول عائشة أخرجه مسلم (452/ 24).

(5)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 554) حيث قال: "وفيه قول خامس: وهي رواية أخرى رويت عن عائشة أنها أمرت أم كلثوم أختها أن ترضع سالم بن عبد اللّه عشر رضعات ليدخل عليها". وانظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 172).

ص: 5879

على أنه يُحرِّم، إذا كان مما يُفطر به الصائم"

(1)

. وقد علَّق عليه الحافظ بن عبد البر رحمهم الله جميعًا - فقال: "وهذا وهمٌ منه؛ لأنه لم يقف على أقوال العلماء؛ فهو قد حكى ما بلغه"

(2)

. ولكن الحقيقة ليس المسألة مُجمع عليها بل فيها خلافٌ مشهور معروف؛ بل إنه بعد التحقيق سنرجِّح قول القائلين بخمس رضعات.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذه المَسْأَلَةِ مُعَارَضَةُ عُمُومِ الكِتَابِ لِلْأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ فِي التَّحْدِيدِ).

إذا نظرنا إلى المسألة أوَّلًا نرى: أن الفريق الأول الذين لم يحدُّوا في ذلك حدًّا استدلوا بالكتاب والسنة:

أما (الكتاب) فقول الله سبحانه وتعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، فالله سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآيةِ صنفين من المرضعات: الأمهاتُ والأخوات، والله سبحانه وتعالى سمَّى هذه أمًّا، وسمَّى تلك أختًا، فأثبت سبحانه وتعالى الحُرمة بالرضاع، وقالوا: لم يذكر الله سبحانه وتعالى بذلك عددًا ولا قدرًا، فدل ذلك على أن ما يُسمى رضاع فإنه تحصل به الحُرمة.

وأما السُّنة فقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الرضاعة تُحرِّم ما تُحرّم الولادة"

(3)

. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُحرِّم من الرضاع ما يُحرِّم من النسب"

(4)

. وجاء في حديثٍ آخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُحرِّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام"

(5)

. وكذلك أيضًا جاء في حديث عبد الله بن مسعود قوله صلى الله عليه وسلم:

(1)

يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 268) حيث قال: "الليث بن سعد: أجمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يُحرِّم في المهد ما يفطر الصائم".

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 249) حيث قال: "قال أبو عمر: لم يقف الليث على خلاف في ذلك".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

أخرجه الترمذي (1152)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2150).

ص: 5880

"لا يُحرِّم إلا ما أنشز

(1)

العظم وأنبت اللحم"

(2)

. وفي الحديث - المتفق عليه - قوله أيضًا صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة"

(3)

.

إذًا قالوا: كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قد أطلقت ما يتعلق بالرضاع، فنقف عند ظاهر الكتاب، والسنة، فنرى أن كل رضاعٍ يصل فيه اللبن إلى المعدة؛ فإنه تحصل به الحُرمة، هكذا قال أصحاب هذَا القول.

*قوله: (وَمُعَارَضَةُ الأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ بَعْضُهَا بَعْضًا).

فالذين قالوا بأنه لا تُحرِّم الواحدة والاثنتان، وإنما تُحرِّم الثلاث، وهم: أبو عُبيْد القاسم بن سلَّام، وأبو ثور وجماعة، وهي الرواية الأخرى للإمام أحمد

(4)

استدلوا بعدة أدلة منها:

ما ثبت في الحديث الذي رواه (مسلم): أن الرسول صلى الله عليه وسلم سُئل: "هل تُحرِّم الرضعة الواحدة؟ قال: لا"

(5)

. أي: لا تُحرِّم؛ لأنه إذا ورد الجواب أو الخبر في السؤال؛ فإنه لا يُعاد - في الغالب - في الجواب، فلما سُئل: هل تُحرِّم الرضعة الواحدة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا". أي: لا تُحرِّم الرضعة الواحدة.

وفي "صحيح مسلم" أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُحرِّم المصَّة ولا المصتان"

(6)

، أي: لا تُحرّم الرضعة ولا الرضعتان

(7)

، وقوله: "ولا تُحرِّم

(1)

أنبت اللحم وأنشز العظم، أي: ما حصل به النماء والزيادة بالتربية، ونشز العظم نشوزًا، أي: علا وارتفع وتحرك. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 49).

(2)

أخرجه أحمد في "مسنده"(4114)، وقال الأرناوؤط:"صحيح بشواهده".

(3)

أخرجه البخاري (2647)، واللفظ له، ومسلم (1455) عن عائشة. قوله: الرضاعة من المجاعة، أي: من التي ترضع لجوعه لصغره فهو الذي يحرم لا الذي استغنى عن ذلك بالطعام. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 165)، و"غريب الحديث" للقاسم بن سلام (2/ 149).

(4)

سبق الكلام عليها.

(5)

أخرجه مسلم (451/ 19).

(6)

أخرجه مسلم (1450/ 17).

(7)

"المصة": المرة من المص وهو من حد علم. انظر: "طلبة الطلبة"(ص 49).

ص: 5881

الإملاجة

(1)

ولا الإملاجتان"

(2)

. كذلك أي: الرضعة والرضعتان.

قالوا: فإذا كان قد ثبت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديثَ صحيحةٍ أن الرضعة الواحدة لا تُحرِّم، وأن الاثنتين لا تُحرِّمان، فدلَّ ذلك على أدى التحريم فيما فوق الاثنتين، وما فوق الاثنتين إنما هما الثلاث، فدلَّ ذلك على أن الثلاثة تُحرِّم، وأقل الجمع ثلاث، إذًا ما يُحرِّم إنما هي ثلاث رضعات.

وأما الذين قالوا: خمس رضعات، وهو قول الشافعي، وهي أظهر الروايات عن الإمام أحمد، وهو أيضا قول عائشة وجمعٌ من الصحابة.

فإنهم استدلُّوا بعدَّة أدلة منها:

حديث عائشة رضي الله عنهما في قصة سالم، وسالم هو مولًى لأبي حذيفة، وكان قد تبناه حذيفة وكان ذلك في أوَّل الأمر، ثم نُهي عن ذلك، وشبَّ هذا الغلام عن الطوْق

(3)

وأصبح رجلًا سويًّا، شقَّ ذلك على سهلة زوجة أبي حذيفة، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بأن الغلام قد كبر، وأنه يدخل المنزل وهما في بيتٍ واحد، وربما نظر إليها وهي فُضلة ليس عليها إلا ثوبٌ واحد، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم:"أرضِعي سَالمًا تَحْرُمِي عليه"

(4)

. وفي بعض الروايات قال: "أرضعيه خَمْسَ رَضعَاتٍ"

(5)

.

(1)

"الملج": تناول الثدي بأدنى الفم. يقال: ملج الصبي أمه، أي: رضعها.

و"الإملاجة": المرة. انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 342)، و"النهاية" لا بن الأثير (4/ 353).

(2)

أخرجه مسلم (451/ 22).

(3)

شب عن الطوق: يضرب مثلًا للرجل يعمل شيئًا، وهو لا يحسن به أن يعمل مثله.

انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (2/ 925).

(4)

أخرجه أحمد في "المسند"(25913) عن عائشة، قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن سالمًا كان يدعى لأبي حذيفة، وإن الله عز وجل قد أنزل كتابه {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} فكان يدخل عليّ وأنا فضل، ونحن في منزل ضيق، فقال:"أرضعي سالمًا تحرمي عليه". وقال الأرناؤوط: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".

(5)

أخرجه أحمد في "المسند"(25650) عن عائشة، وفيه"

فجاءت سهلة فقالت: =

ص: 5882

وجاء في بعضِ الرِّوايات أنها قالت: "يا رسول الله إنَّه كبير، فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قد علمتُ ذلك""

(1)

.

انظروا إلى أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى شفقته، وحكمته، وتعجبتْ أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم أرضعيه، فأرادت أن تبيِّن للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه رجلٌ وأنه كبير، فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم من قولها، ثم قال:"قد علمت ذلك"، أي: أنا أعرف هذا الرجل وأنه كبير، وفي بعض الروايات أنها قالت:"إنه ذو لِحيةٍ"

(2)

.

الشاهد أنه جاء فيه: "أرضعي سالمًا خمسَ رضعات". وفي رواية في "الصحيحين": "أرضعيه تحرمي عليه"

(3)

، وفي رواية صحيحة في غير "الصحيحين" قال صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه خمسًا تَحْرُمي عليه"

(4)

، وفي رواية أيضًا قال:"أرضعيه عشرًا"

(5)

، وهي حُجة للذين قالوا بعشر رضعات.

وكذلك حديث عائشة - الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلمٌ وغيره - قالت: "كان فيما أُنزل" أو في رواية: "فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرِّمن، ثم نُسخن بخمس، فتُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يُتلى من القرآن"

(6)

، وفي رواية:"كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرِّمن، ثم نُسخْنَ بخمس، حتى تُوفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يُقرأ"

(7)

، أي: كانت عشر رضعات مذكوراتٍ في القران، فنسخْنَ إلى

= يا رسول الله كنا نرى سالمًا ولدًا يأوي معي، ومع أبي حذيفة ويراني فضلًا، وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت، فقال:"أرضعيه خمس رضعات"، فكان بمنزلة ولده من الرضاعة"، وقال الأرناؤوط: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".

(1)

أخرجه مسلم (1453/ 26).

(2)

أخرجه مسلم (1453/ 30).

(3)

ليست في "الصحيحين"، وإنما أخرجها مسلم (1453/ 28).

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

أخرجه أحمد في "المسند"(26315)، وقال الأرناوؤط:"حديث صحيح دون قوله: "فأرضعيه عشر رضعات".

(6)

لم أقف عليها. ولعلها تفسير للرواية التي بعدها.

(7)

أخرجه مسلم (1452/ 24).

ص: 5883

خمس، وظلَّت هذه التلاوة في كتاب الله عز وجل إلى أن تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك حصل الإجماع.

وقد يسأل سائل هنا ويقول: كيف يُتوفَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم والرضعات موجودات؟ كيف يتمُّ النسخ بعد موته؟

(1)

، ولذلك لا نرى المؤلِّف ذكرها. فأجاب العلماء عن هذه المسألة: بأنَّ النسخ إلى خمسٍ قد حصل؛ لأن حديث عائشة صريح، "ثم نُسخْنَ إلى خمس"، قال العلماء: لأن النسخ إلى خمسٍ قد جاء متأخِّرًا في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض القوم لم يبلغهم النسخ فكانوا يتلون ذلك، فلما بلغهم ذلك أجمعوا على ترك التلاوة. هذا هو جواب العلماء عن ذلك، وبذلك يتبين المراد من الحديث

(2)

.

إذًا ممَّا مضى يتبيَّن أنَّ فريقًا من العلماء قالوا:

لا تحديد في ذلك؛ فإنه تُحرِّم المصَّةُ الواحدة، والإملاجة الواحدة، والرضعة الواحدة؛ لأنَّ الله أطلقه في كتابه العزيز، وكذلك جاء في بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إطلاق ذلك.

والذين قالوا بالثلاث قالوا: جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبين أن المصةَ والمصتين لا تُحرِّمان، فالرسول صلى الله عليه وسلم سُئل عن الرضعة الواحدة (أتُحرِّم؟ قال: لا)

(3)

، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تُحرِّم المصة ولا المصتان،

(1)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (11/ 364) حيث قال: "والاعتراض الثالث: إن قالوا هذا إثبات نسخ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنها قالت فتوفي رسول الله وهن ممن يقرأ في القرآن، وبهذا لا يجوز وعنه جوابان: أحدهما: أنها روت بعد الرسول نسخًا كان في زمان الرسول، وقولها: كان مما يقرأ، أي: ممَّا يعمل به. والثاني: أنه كان يقرأ بعد رسول لإثبات حكمه لا لإثبات تلاوته، فلما ثبت حكمه تركت تلاوته".

(2)

يُنظر: "شرح النووي على مسلم"(10/ 29) حيث قال: "ومعناه أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدًّا حتى إنه صلى الله عليه وسلم تُوفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ولجعلها قرآنًا متلوًّا؛ لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى".

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 5884

ولا الإملاجة ولا الإملاجتان، ولا الوضعة ولا الرضعتان"

(1)

. إذًا بقي أن نأتي إلى ما بعد ذلك فنقول: بالثلاث.

والذين قالوا: خمس رضعات قالوا: لقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنها لا تُحرِّم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان، والاحتجاج بأن الثلاثة إنما يثبت بها الحُرمة عن طريق مفهوم المخالفة، وهو ما يُعرف بدليل الخطاب

(2)

، والاحتجاج بهذا ضعيف، وهو مردودٌ عند عددٍ من العلماء؛ فكيف نترك نصًّا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونأخذ بمفهوم المخالفة؟ الجواب: أن حديث: "لا تُحرِّم المصة ولا المصتين، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان"

(3)

ليس نصًّا في أن ما فوق الاثنتين يُحرِّم وهو الثلاث، وإنما فيه بيانٌ أن المصَّةَ والمصّتينِ لا تُحرِّمان فقط.

ننتقل بعدُ إلى أحاديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي حددت ذلك، وهي حديث عائشة:"كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات يُحرِّمن، ثم نُسخنَ بخمس، وتُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يُتلى"

(4)

. إذًا حكمهن باقٍ، والذين حاولوا أن يضعِّفوا هذا القول قالوا: إن هذا لم يأتِ عن طريق الخبر، وإنما جاء عن طريق أنه قرآنٌ يُتلى، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر، لكننا نقول: قد صحّ ذلك في حديثٍ صحيح، بل جاء أيضًا في حديث سالم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"أرضعي سالمًا تحرمي عليه"

(5)

.

بقيت قضية هنا ينبغي أن ننبِّه إليها، وهي كيف تُرضع رجلًا كبيرًا؟

(1)

أخرجه مسلم (1451/ 20) عن أم الفضل، حدثت، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تحرم الرضعة أو الرضعتان، أو المصَّة أو المصتان".

(2)

يُنظر: "الإحكام" للآمدي (3/ 69) حيث قال: "مفهوم المخالفة فهو ما يكون مدلول اللفظ في محلِّ السكوت مخالفًا لمدلوله في محل النطق، ويسمى دليل الخطاب أيضًا".

(3)

أخرجه النسائي في "الكبرى"(5/ 198) وغيره، وصححه الألباني في التعليقات الحسان (4212).

(4)

لم أقف على هذه الرواية.

(5)

تقدَّم تخريجه.

ص: 5885

أولًا: لنعلم أن التَّبني

(1)

كان موجودًا، وهذا كان معروفًا في الجاهلية، وأن ذلك امتدَّ إلى أوَّل الإسلام، حتى نزلَ المنع من ذلك، وأسلوب القرآن إنما يأتي دائمًا للأخذ بمجامع القلوب، إنما يأتي ليُهيِّئ النفوس ويوطأها

(2)

للأحكام كما رأينا ذلك في تحريم الخمر، وفي تحريم الربا، وفي بعض الأحكام؛ فالله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب، يقول:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)} [الأحزاب: 4، 5] انظروا إلى هذا التدرج، وهذه التوطئة، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} ، لا يوجد في أيِّ إنسانٍ، وما ذُكر فيما مضى أن فلانًا له قلبان، هذا كله حقيقة مما ذُكر ولا أصل له.

فالرجل إنما يوجد فيه قلبٌ واحد، ولا يوجد لرجلٍ واحد قلبان في جوفه، ثم بعد ذلك أتبع الله ذلك بأمرٍ آخر، {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} ، كوْن أحدكم يقول لزوجته: أنتِ عليَّ كظهر أمي

(3)

هذا لا يجعل ذلك حكمًا مستقرًّا، فلا يجعلها كالأمِّ، كما قال الله سبحانه وتعالى:{مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2]، ثم جاء بعد ذلك سبحانه وتعالى ليقرر الحكم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة، وكان يُعرف في أول الأمر ويُدعى: زيد بن محمد، فقال بعد ذلك سبحانه وتعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}

(1)

تبنيت فلانًا: اتخذته ابنًا. انظر: "مختار الصحاح" للرازي (ص 41).

(2)

"التوطئة": التمهيد والتذليل. انظر: "النهاية" لابن الأثير (5/ 201).

(3)

"الظهار": قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وهي كلمة كانوا يقولونها، يريدون بها الفراق. وإنما اختصوا الظهر لمكان الركوب، وإلا فسائر أعضائها في التحريم كالظهر. انظر:"الزاهر" للأزهري (ص 218)"مقاييس اللغة" لابن فارس (3/ 471).

ص: 5886

[الأحزاب:5]، فانتهى بعد ذلك التبني، وبيَّن الله سبحانه وتعالى أن التبنِّي لا تثبت به حُرمة، ولا تثبت به بُنوَّة، وأن هذا مما اختلقه الناس وقالوه بأفواههم، كما قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} ، أي: ما تفوَّهْتم ونطقتم به وقلتموه، أما الله سبحانه وتعالى فلم يشرع ذلك حكمًا، وإنما ذلك مما فعله الناس وعملوا به، فأبطله الله سبحانه وتعالى، وقال في الآية الأخرى في سورة الأحزاب:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، لكن الله سبحانه وتعالى قد بيَّن أن التبني لا يجوز، وما ورد في الوعيد الشديد في حق من تسمى بغير اسم أبيه معلومٌ، أو من نسب نفسه إلى غير أبيه

(1)

، وإننا لنجد في هذا الزمان بعض الناس من المساكين الذي ربما يخجل ويتمعَّر

(2)

وجهه أن ينتسب إلى أبيه؛ لأن أباه ليس من أكابر الناس، وليس من عِلية القوم، وليس من أصحاب الوظائف العالية، وليس من أصحاب المناصب العُليا، والأموال الطائلة، وإنما هذا خطأٌ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"ابغوني في فقرائكم"

(3)

. ويقول أيضًا صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ أشعثَ أغبر لو تمنَّى على الله لأبرَّه"

(4)

؛ فكم رأينا من هذا الصنف من الناس الذين لو قوَّمت ما على أجسادهم من الثياب لربَّما وجدتها لا تصل إلى عشرين درهمًا، لكنه يمشي إلى المساجد، ويتردد عليها، وينفر من

(1)

منها ما أخرجه البخاري (4326)، واللفظ له ومسلم (63/ 115) عن سعد وأبي بكرة قالا: سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من ادَّعى إلى غير أبيه، وهو يعلم فالجنة عليه حرام". وأخرج مسلم (1370) "وفيه

ومَن ادَّعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعلِيه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا، ولا عدلًا".

(2)

تمعر وجه الرجل: إذا تغيَّر من غيظ أو وجع .. انظر: "جمهرة اللغة"، لابن دريد (2/ 773).

(3)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإنما أخرجه أبو داود (2594) وغيره، بلفظ:"ابغوني الضعفاء، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(779).

(4)

أخرجه الترمذي (3854)، ولفظه: عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤْبَه له لو أقسم على الله لأبره"، وحسنه الألباني في "المشكاة"(6248).

ص: 5887

مجالس النميمة

(1)

، ولا يتهافت

(2)

على الدنيا، وإنما يفِرُّ منها كما يفرُّ الإنسان من الأسد، دائمًا إن قابلك بادرك بالسلام، وإن سلَّمتَ عليه ردَّ عليك التحية ورأيت النور في مُحيَّاه

(3)

، والابتسامة بين وجنتيه، تجد أن هذا النوع من الناس ينطبق عليهم قول الله سبحانه وتعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)} [النور: 36]. هؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} ، إلي آخر الآيات إلي أن قال {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)} [الفرقان: 63، 76] نِعْمَ المقام ونعم الاستقرار إنها جنة عدن.

إذًا من العيب والخجل أن يخجل الإنسان أن يقول: هذا أبي، لأنه يشتغل عاملًا، أو نجارًا، أو جزارًا، أو مستخدَمًا، أو غير ذلك، فالأرزاق إنما وزَّعها الله سبحانه وتعالى، {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]. إن المقياس الحقيقي بالتقوى:

ولستُ أري السَّعادةَ جمْعَ مالٍ

ولكنَّ التَّقيَّ هُو السعيدُ

وتقوى اللَّهِ خَيرُ الزَّادِ ذُخرًا

وعندَ اللهِ للأتْقَى مَزيدُ

(4)

(1)

النميمة يقال منه: نميت مشددة تنمية مخففة فأنا أنميه، وإن كان إنما يبلغ الحديث.

انظر: "غريب الحديث" للقاسم بن سلام (1/ 339).

(2)

"التهافت": التساقط والتتابع. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص 163).

(3)

"المحيا": الوجه. انظر: "العين" للخليل (3/ 318).

(4)

من الوافر للحطيئة، وهو في ديوانه (ص 47).

ص: 5888

إنَّ السعادةَ والفوزَ والنجاةَ والفلاحَ بالتقوى، فقد تجد إنسانًا قليلًا في جسمه وفي مظهره، لكنَّه من خير الناس، إن قال صدق، وإن وعد وفَّى، وإن نطق لا ينطق إلا بالحق.

إذًا لا نعتبر المقاييس في الدنيا، ولذلك نجد أن عمر رضي الله عنه الذي كان ينزل القرآن موافقًا ومؤيِّدًا لرأيه، يبذل ذوبَ قلبِه، ويوصي عليَّ بن أبي طالب، فيبث أناسًا في مواسم الحج ليبحثوا عن "أويس القرني" الذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن لاقيته أو ظفرت به فاسأله أن يدعوَ اللَّهَ لك"

(1)

. وهذا تابعي وعمر صحابي، ومن المشهود لهم بالجنة؛ لأن أُويسًا إنما كان بارًّا بوالدته، انقطع عن الدنيا ووقف نفسه لخدمة هذه الوالدة.

ولنعلم أهمية الوالدين، وبهذه المناسبة تذكرت أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءته أمُّه التي أرضعته، قام صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه بيديه الكريمتين وفرشه لها وأقعدها عليه

(2)

، فهل أدَّينا هذه الحقوق؟ هل سألنا عن أمهاتنا من الرضاعة؟ وعن أخواتنا؟ وعن عماتنا وخالاتنا؟ أم أننا قطعنا هذه الصلة؟ إننا في زمن عمل، وفي دار عمل، وسننتقل بعد ذلك إلى دارٍ ليس فيها إلا الجزاء، فينبغي أن نتزود من هذه الدار التي نعيش فيها، ولنستفد ممَّا نقرأ، ومما نستمع، فهذه ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.

(1)

أخرجه مسلم (2542/ 225) عن أسير بن جابر، قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن، سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد، ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل

الحديث".

(2)

يُنظر: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض (1/ 128) حيث قال: وقال أبو الطفيل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام إذ أقبلت امرأة حتى دَنت منه فبسط لها رداءه فجلست عليه فقلت من هذه قالوا أمه التي أرضعته.

ص: 5889

* قوله: (فَأَمَّا عُمُومُ الكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} الآيَةَ [النساء: 23]، وَهَذَا يَقْتَضِي مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الإِرْضَاعِ.

وَالأَحَادِيثُ المُتَعَارِضَةُ فِي ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى حَدِيثَيْنِ فِي المَعْنَى، أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَلَا المَصَّتَانِ، أَوِ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ" (

(1)

.

المصَّةُ هي الرضعة، أي: أن يلتقم الصغيرُ الثَّديَ فيمصُّه، فهذه تسمى رضعة، وهي الإملاجة.

* قوله: (خَرَّجَهُ مُسْلِم مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ أُمِّ الفَضْلِ، وَمِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ).

بعضهم حكى عن هذا الحديث: أنَّه اضطربت الرواية فيه، وحاول أن يضعِّفه؛ فمرةً عن طريق أمِّ الفضل، ومرة عن الزبير، ومرة عن طريق ابن الزبير، وهذا كلُّه لا يؤثر في الحديث؛ فالحديث صحيحٌ وفي "صحيح مسلم"

(2)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

يُنظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 637 - 638) حيث قال: وعلله بعضهم بالاضطراب عن عائشة في أحاديث الرضاع، وأن ابن الزبير قال في حديثها هذا مرة عنها، ومرة عن أبيه، ومرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لما اضطرب رجعنا إلى عموم ظاهر القرآن ومفهوم الاعتبار وتنزيل النبي صلى الله عليه وسلم له منزلة تحريم النسب، وليس لذلك عدد إلا مجرد الوجود فكذلك الرضاع، وقياسًا على تحريم الوطء بالصهر وغير ذلك، ولا أعتبار فيه بعدد.

وأما من ناحية السند، فانظر:"علل الدارقطني"(4/ 225) حيث سئل عن حديث عبد اللّه بن الزبير، عن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تحرم المصة ولا المصتان" فقال: تفرد به محمد بن دينار الطاحي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن الزبير، عن الزبير. ووهم فيه. وغيره من أصحاب هشام يرويه، عن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم. لا يذكرون فيه الزبير. ورواه ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو الصحيح، لأنه زاد، وهو المحفوظ عن عائشة.

ص: 5890

* قوله: (وَفِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُحَرِّمُ الإِمْلَاجَةُ وَلَا الإِمْلَاجَتَانِ"

(1)

. وَالحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ سَهْلَةَ فِي سَالِمٍ أَنَّهُ "قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ"

(2)

. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي هَذَا المَعْنَى أَيْضًا قَالَتْ: "كَانَ فِيمَا نَزَلَ مِنَ القُرْآن: (عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، ثُمَّ نُسِخْنَ خَمْسَ مَعْلُومَاتٍ)، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ"

(3)

، فَمَنْ رَجَّحَ ظَاهِرَ القُرْآنِ عَلَى هَذِهِ الأَحَادِيثِ قَالَ:"تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ"، وَمَنْ جَعَلَ الأَحَادِيثَ مُفَسِّرَةً لِلآيَةِ، وَجَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الآيَةِ، وَرَجَّحَ مَفْهُومَ دَلِيلِ الخِطَابِ

(4)

فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَا تُحَرِّمُ المَصَّة، وَلَا المَصَّتَانِ"

(5)

عَلَى مَفْهُومِ دَلِيلِ الخِطَابِ فِي حَدِيثِ سَالِمٍ قَالَ: الثَّلاثَةُ فَمَا فَوْقَهَا هِيَ الَّتِي تُحَرِّمُ).

مفهومُ المخالفة في: لا تُحرِّم المصَّة ولا المصتان، فالحديث له منطوق ومفهوم؛ فمنطوقه أن المصَّة والمصتان لا تُحرِّمان، وله مفهوم أن ما دونهما لا يُحرِّم، وأن ما زاد عن الاثنتين يُحرِّم، هذا هو مفهومه.

فالمفهوم الذي يريد أن يتكلم عنه المؤلِّف أن الحديث له منطوق، وهو مفهوم الموافقة

(6)

؛ لأن المفهوم مفهومان: مفهوم موافقة، وأحيانًا يكون مفهومًا أو لا، وأحيانًا يكون مساويًا، وأحيانًا يكون دون ذلك.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تعريفه.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

يُنظر: "الإحكام" للآمدي (3/ 66) قال: "مفهوم الموافقة فما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت موافقًا لمدلوله في محل النطق، ويسمى أيضًا فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، والمراد به معنى الخطاب، ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}، أي: في معناه". وانظر: "المسودة" للآل تيمية (ص 222) وما بعدها.

ص: 5891

ونفس النصّ يكون له مفهوم مخالفة، أو دليل خطاب؛ لأنه ما يُفهم من الخطاب، وأحيانًا يدلُّ عليه الشرط، أو الصفة، أو العدد، أو غير ذلك

(1)

. فما يتعلق بهذا الأمر مفهوم الحديث أن ما زاد عن المصتين، يعني: المفهوم المخالف ما زاد عن المصتين يُحرِّم، وحديث عائشة:"خمسُ رضعات يُحرِّمن "

(2)

. ومفهومه: أن ما دون الخمس لا يُحرِّم، فيقول المؤلف: من قدَّم مفهوم حديث: "لا تُحرِّم المصة ولا المصتان"

(3)

، وما في معناه على المفهوم المخالف لحديث: خمس رضعات، قال: بأن الثلاثة تُحرِّم، هذا هو معنى كلام المؤلف.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ دَلِيلَ الخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: "لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَلَا المَصَّتَان"

(4)

يَقْتَضِي أَنَّ مَا فَوْقَهَا يُحَرِّم، وَدَلِيلُ الخِطَابِ فِي قَوْلِهِ:"أَرَضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ"

(5)

يَقْتَضِي أَنَّ مَا دُونَهَا لَا يُحَرِّمُ).

بقيت مسألة، فبعض طلاب العلم، ربَّما درسوا القواعد الفقهية، وهذه تمرُّ في الفقه أيضًا، لكنها في القواعد ئأخذ حيِّزًا منفردًا، فتظهر العناية بها أكثر، وهي قاعدة:"اليقين لا يزول بالشك"

(6)

. فالآية أطلقت،

(1)

يُنظر: "الفروق" للقرافي (2/ 36 - 37) قال: "مفهوم المخالفة يقتضي أن الحكم المنطوق غير ثابت للمسكوت عنه

فهو ينقسم إلى عشرة أقسام كلها مستقيمة مع النقيض فقط؛ مفهوم العلة

ومفهوم الصفة

ومفهوم الشرط

ومفهوم الما نع

ومفهوم الزمان

ومفهوم المكان

ومفهوم الغاية

ومفهوم الحصر .. ومفهوم الاستثناء

ومفهوم اللقب تعليق الحكم على أسماء الذوات

وهو أضعفها".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

يُنظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص 47 - 48) حيث قال: القاعدة الثالثة: "اليقين لا يزول بالشك".

ودليلها ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا فأُشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا".

ص: 5892

وأيضًا الأحاديث: "يحرُم من الرضاعة ما يحرُم من النسب"

(1)

. وما في معنى هذه أطلقت، وجاء في أحاديث الرضعة الواحدة لا تُحرِّم، وأن المصة والمصتان لا تُحرِّمان، وجاء في أحاديث أخرى أن الخمسة تُحرِّم، إذًا جاء فقد التنصيص على أن الخمسة تحرِّم، وأنها كانت عشوًا فنُسخْنَ إلى خمس، فهذه ورد فيها نصٌّ صريح، وهنا عندما يتردد الإنسان هل هذه المرأة عند مَن لم يقل بأن أيّ رضاعٍ يحرم؟ عند من يقول مثلًا بالخمس فلو أرضعت أربعًا، شكت هل أرضعت أربعًا أم خمسًا؟!! وعند من يقول بالثلاث هل أرضعت ثلاثًا أم أربعًا؟!! فإنه في هذه الحالة يُبنى على اليقين، فاليقين لا يزول بالشكِّ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن الرجل يُخيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة قال:"لا ينصرفُ حتَّى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا"

(2)

. فأنت لو قُدِّر أنك أردت أن تذهب إلى صلاة الظهر، وكنت متيقِّنًا أنك قد توضأت للصلاة، لكن دبَّ الشكٌّ إلى نفسك، هل نقضتَ وضوءك أم لا؟ وأنتَ متيقِّن من أنك قد توضأت، ولكنك شاكٌّ هل نقضتَ الوضوء أم لا؟ بقيت على اليقين؛ فاليقين لا يزول بالشك: وهو أنك على طهارة، هذه مثلها تمامًا؛ فلو شككت في الرضاع فإنه حينئذٍ لا يعتبر، وإنما الذي يعتبر هو الثابت؛ لأن هذه قضية تحريم، ومعنى هذا أن الإنسان سيدخل فيها على هذه المرأة، وسيخلو بها، وسيسافر بها، إذًا سيكون بذلك مَحْرمًا محارمها. فترتَّب على ذلك أحكام، وإن لم تترتب كل الأحكام، فينبغي أن نلاحظ ذلك.

* قوله: (وَالنَّظَرُ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ دَلِيلَيِ الخِطَابِ).

ليست المسألة كما ذكر المؤلِّف، وإنما هو في مفهوم دليل الخطاب

(3)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361).

(3)

تقدَّم تعريفه.

ص: 5893

والذين أطقوا ذلك قالوا: كتاب الله عز وجل أطلق، فقال:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"إنما يحرُم من الرضاعة ما يحرُم من النسب"

(1)

، وقال:"إن الرَّضاعة تُحرِّم ما تحرم الولادة"

(2)

، وبقية الأحاديث؛ فقالوا: والأحاديث أطلقت فنُطلق ما أطلقه الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونعمِّم ما عمَّمه الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا عامٌّ في الرضاع فلماذا نقيِّده؟

واستدلَّ الآخرون بالأحاديث الأخرى التي بيَّنت أن المصَّة والمصتين لا تُحرِّمان، إذًا ما زاد عن المصتين يُحرِّم، فأخذوا بمفهوم المخالفة.

أما الفريق الثالث: فإنهم أخذوا بالنص وهو: "كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات"

(3)

، وفي حديث سالم في بعض الروايات:"أرضعي سالمًا خَمْسَ رضعات تُحرَّمي عليه"

(4)

. فنتبيَّن من هذا أن المسألة إنما هي بالنص، لكن الذين أخذوا بالثلاث استدلُّوا بالنصِّ وبمفهوم النصِّ؛ فاستدلُّوا بالأحاديث الواردة:"لا تُحرِّم المصَّةُ ولا المصتان"

(5)

. وقوله: "لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان"

(6)

. على أنه لا يُحرِّم الاثنتين والواحدة، فأخذوا بهذه الأحاديث، ثم قالوا: مفهومها المخالف يدلُّ على أن الثلاث إنما هي تُحرِّم، فلم يأخذوا بمنطوق الحديث، انتبهوا: أولئك أخذوا بعموم الأدلة: القول الأول، والفريق الآخر أخذوا بمفهوم الحديث: وهو مفهوم مخالف؛ ولا حُجَّة فيه عند الحنفية

(7)

، وبقية العلماء يختلفون في أنواعه، وأما الفريق الثالث وهم الذين قالوا: خمس رضعات.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

تقدَّم تخريجه.

(7)

تقدَّم بيان مذهب الحنفية لمفهوم المخالفة.

ص: 5894

ومن هنا نقول: تلخيصًا لما سبق: إن الرضاع الذي يُحرِّم له شروط:

الشرط الأول: هو الذي يكون من امرأة؛ فلو كان من شاة أو بقرة؛ فإنه لا يحرم، فلا تثبت به الأخوَّة، ولا تثبت به الحُرمة

(1)

.

إذًا الرضاع الذي يُحرِّم هو الذي يكون من امرأة: سواء كانت هذه المرأة كبيرة أو صغيرة، ثيِّبًا أو بكرًا، لا تزال تحت زوجٍ أو مطلقة، وصلت إلى سنِّ اليأس، وإلى أيِّ صفة من الصفات وسيأتي الكلام عن الميتة لو امتصَّ الصغير لبنها مثلًا.

الشرط الثاني: أن تكون خمس رضعات.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 238) حيث قال: " (قوله: هو مص الرضيع من ثدي الآدمية في وقت مخصوص)، أي: وصول اللبن من ثدي المرأة إلى جوف الصغير من فمه أو أنفه في مدة الرضاع الآتية فشمل ما إذا حلبت لبنها في قارورة فإن الحرمة تثبت بإيجار هذا اللبن صبيًّا، وإن لم يوجد المص وإنما ذكره؛ لأنه سبب للوصول فأطلق السبب وأراد المسبب فلا فرق بين المص، والصب، والسعوط، والوجور كما في الخانية وخرج بالآدمية الرجل، والبهيمة".

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 502) حيث قال: " (قوله: لبن امرأة)، أي: لا لبن ذكر فلا يحرم، ولو كثر والظاهر أن لبن الخنثى المشكل ينشر الحرمة كما في عبق عن تت وقوله: امرأة، أي: آدمية، وأمَّا لبن الجنية فلا ينشر الحرمة بين مرتضعيها".

وينظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (2/ 503):" (وبهيمة) ارتضع عليها صبي وصبية فلا يحرم".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 172) حيث قال: " (إنما يثبت) الرضاع المحرم (بلبن امرأة) لا رجل؛ لأن لبنه لا يصلح للغذاء، .. ولا خنثى ما لم يبن أنثى، ولا بهيمة فيما لو ارتضع منها ذكر وأنثى؛ لأنه لا يصلح لغذاء الولد صلاحية لبن الآدمية، ولأن الأخوة لا تثبت بدون الأمومة أو الأبوة".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 444) حيث قال: " (ولا ينشر الحرمة غير لبن المرأة فلو ارتضع طفلان من بهيمة) لم ينشر الحرمة ولم يصيرَا أخوين؛ لأن تحريم الإخوة فرع على تحريم الأمومة ولا يثبت تحريم الأمومة بهذا الرضاع فالأخوة أولى، ولأنه لم يخلق لغذاء المولود الآدمي لأشبه العظام".

ص: 5895

الشرط الثالث: أن يكون في مدَّة الحُرمة: في مدة الحولين، وبعضهم قيَّد ذلك في زمن الفطام، وسيأتي الكلام عنه إن شاء الله.

الشرط الرابع: أن يُقدَّر ذلك؛ بأن يكون في خمس رضعات، بأن يلتقم الصبي الثدي، ثم بعد ذلك يُطلقه، هذه رضعة. لكن ربما يتركه الصغير ليتنفس، وربما يتركه ليرتاح؛ لأنه لا يستطيع أن يواصل امتصاص اللبن؛ فإذا تركه من ذات نفسه هذه واحدة، فإذا عاد إليه مرةً أخرى كانت أخرى، وهكذا. كوْنه يتوقف للتنفس أو لغير ذلك فهذا لا يؤثِّر، فيرجع ويُتمُّ الرضعة.

الشرط الخامس: وأن يكون من مجاعة، أي: محتاج إليه، فما تأتي الأمُّ أو المرأة فتمسك الطفل، لتحلب في فمه وهو غير جائع.

هذه أوصافٌ ينبغي أن تتوفر في الرضاعة، لنعلمها أولًا، وسيأتي الكلام فيه - إن شاء الله - مفصَّلًا.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَ يُحَرِّمُ فِي الحَوْلَيْنِ

(1)

. وَاخْتَلَفُوا فِي رَضَاعِ الكَبِيرِ

).

هل يُحرِّم الرّضَاع في الحولين أم يُحَرِّم في زمان الفِطام

(2)

؟ لأن الطفل أو الطفلة قد تُفطَم قبل ذلك، وبعض الناس يَفطِم طفلَه لعشرة أشهر، وبعضهم ربما لسنة، وربما قد تكون المرأة ليس بها حليب أصلًا، فربما يُسقى مثلًا من حليب شاة، والآن أصبح الحليب المجفف المعلَّب طعام هذا الرضيع.

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 15) حيث قال: والجميع مجمعون على أن لا رضاع بعد الحولين.

(2)

"فطام الصبي": فصاله عن أمه، تقول: فطمت المرضع الرضيع فطمًا، أي: فصلته عن الرضاع. انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 2002)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 477).

ص: 5896

لكن الكلام هل هو في سِن الفِطام أم في زمن الحولين أم هو مُطلقٌ؟

أكثر العلماء على أن التحريم إنما هو في مدة الحولين

(1)

.

وبعضهم قال: في سِن الفِطام، فإذا ما فُطِم الطفل حينئذ انتهى الأمر، فلو فُطِم بعد سنة أو سنة وشهرين ثم جاءت امرأة فأرضعته فإن ذلك لا يؤثِّر عند من يقول بالفِطام.

وعند من يقول: في الحولين يرى له تأثيرًا ما دام أن الفطام قد تمَّ إلى الحولين، وأكثر العلماء على أنَّ مدة الرضاع التامة الكاملة هي

(1)

وهو مذهب الشافعية والحنابلة وأبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة.

مذهب الشافعية يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 175) حيث قال: " (وشرطه)، أي: الرضاع المحرم، أي: ما لا بدَّ منه فيه فلا ينافي عده فيما مرَّ ركنا (رضيع حي) حياة مستقرة فلا أثر لوصوله لجوف من حركته حركة مذبوح وميت اتفاقًا لانتفاء التغذي (لم يبلغ) في ابتداء الخامسة (سنتين) بالأهلة ما لم ينكسر أول شهر فيتمم ثلاثين من الشهر الخامس والعشرين، فإن بلغها لم يحرم ويحسبان من تمام انفصاله لا من أثنائه، وإن رضع وطال زمن الانفصال فلا تحريم".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 445) حيث قال: (ولا تثبت الحرمة بالرضاع إلا بشروط أحدها: أن يرتضع في العامين ولو كان قد فطم قبله)، أي: قبل ذلك الرضاع لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وحديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل قاعد فسألها عنه فقالت: هو أخي من الرضاعة فقال: "انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة"" متفق عليه.

وعن ابن عباس مرفوعًا: "لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين"، وانظر:"المغني" لابن قدامة (8/ 177).

مذهب أبي يوسف ومحمد يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (614) حيث قال: "وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: حولان لا يحرم بعد ذلك فطم أو لم يفطم. وسيأتي مذهب أبي حنفية".

ورواية في مذهب المالكية يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 504) حيث قال: "مقابله لمطرف وابن الماجشون وأصبغ في الواضحة أنه يحرم إلى تمام الحولين".

ومعتمد مذهب المالكية على أن الحرمة تكون في الحولين وزيادة شهرين أو ثلاثة كما سيأتي.

ص: 5897

حولان

(1)

؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].

وفي قراءة: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} إذًا معنى هذا أنَّ الرضاعة الكاملة بنص الآية هي حولان.

وبعض العلماء قال: لا مانع أن يُزاد على ذلك شهر أو شهران

(2)

.

وبعضهم قال: هي ثلاثون شهرًا

(3)

.

وبعضهم قال: ثلاث سنوات

(4)

.

وبعضهم قال: سبع سنوات

(5)

.

وبعضهم قال: حتى الكبير يُرضَّع

(6)

.

وهناك أقوال عدة، لكن المشهور من هذه الأقوال هو: مدة الفطام، أو كذلك في زمن الحولين، وأبو حنيفة له روايات متعددة في هذا منها:

(1)

يُنظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (2/ 432) قال: "قال جمهور الفقهاء والمفسرين: الحولان غاية لإرضاع كل مولود".

(2)

وهو مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 178) حيث قال: "ثم ذكر شرط التحريم بقوله (ص) إن حصل في الحولين أو بزيادة الشهرين (ش) يعني: أن شرط نشر الحرمة بالرضاع أن يحصل الوصول للجوف في الحولين من ولادته أو بزيادة ما قرب منهما مما له حكمه كالشهر والشهرين، وقيل: الثلاثة الأشهر وهذا ما دام مقصورًا على الرضاع أو يأكل معه ما يضر به الاقتصار عليه".

وانظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(2/ 503 - 504).

(3)

وهو مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 6) حيث قال: "قال أبو حنيفة: ثلاثون شهرًا ولا يحرم بعد ذلك سواء فطم أو لم يفطم".

(4)

وهو قول زفر يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 6) حيث قال: وقال زفر: ثلاثة أحوال.

(5)

لم أقف عليه.

(6)

يُنظر: "المغنى" لابن قدامة (8/ 177)، وفيه قال:"وكانت عائشة ترى رضاعة الكبير تحرم. ويروى هذا عن عطاء والليث، وداود".

ص: 5898

ثلاثون شهرًا، وهناك خلاف بينه وبين أصحابه في المسألة، وبعضهم يقول: ثلاث سنين، وبعضهم يقول: سبع سنين.

فالأقوال في ذلك متعددة، والآية نص في المسألة:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} .

والذين يقولون: ثلاثون شهرًا يستدلُّون بالآية: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع أن في الآية الأخرى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، ويستدلُّون بهذا بأن المراد على أن الحمل ليس الحمل المراد المعروف، ولكن هذا غير صحيح فالمراد بالآية هو الحمل ومن يولد دون ذلك

(1)

، ونعلم قصة المرأة التي ولدت في ستة أشهر وما جاء فيها

(2)

.

* قوله: (فَقَالَ مَالِك

(3)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(4)

، وَالشَّافِعِيُّ

(5)

وَكافَّةُ الفُقَهَاءِ: "لَا يُحَرّمُ رَضَاعُ الكَبِيرِ"، وَذَهَبَ دَاوُدُ

(6)

وَأَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ

(1)

(وحمله وفصاله) المعنى: مدى حمل المرأة إلى منتهى الوقت الذي يفصل فيه الولد عن رضاعها ثلاثون شهرًا. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (12/ 136).

وقال أبو الفتح المطرزي في "المغرب"(ص 128). (الحمل) بالفتح مصدر حمل الشيء. وقيل في قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} : أريد الحمل على اليد دون البطن وليس بشيء.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 349) ولفظه: رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر، فأراد عمر أن يرجمها فجاءت أختها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقالت: إن عمر يرجم أختي، فأنشدك الله إن كنت تعلم أن لها عذرًا لما أخبرتني به. فقال علي:"إن لها عذرًا"، فكبرت تكبيرة سمعها عمر من عنده، فانطلقت إلى عمر فقالت: إن عليًّا زعم أن لأختي عذرًا، فأرسل عمر إلى عليِّ: ما عذرها؟ قال: إن الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ، وقال:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} فالحمل ستة أشهر، والفصل أربعة وعشرون شهرًا. قال: فخلى عمر سبيلها قال: ثم إنها ولدت بعد ذلك لستة أشهر.

(3)

تقدَّم قوله.

(4)

تقدَّم قوله.

(5)

تقدَّم قوله.

(6)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 177) حيث قال: "ويروى هذا عن عطاء والليث، وداود".

ص: 5899

يُحَرِّمُ

(1)

، وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ

(2)

. وَمَذْهَبُ الجُمْهُورِ هُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ

(3)

، وَابْنِ عُمَرَ

(4)

، وَأَبِي هُرَيْرَةَ

(5)

، وَابْنِ عَبَّاسٍ

(6)

وَسَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام

(7)

.

يبدو أن المؤلِّف سيقسم المسألة إلى مسألتين.

فالمؤلف هنا كأنه قصر الخلاف بين الجمهور، وبيَّن مَن يذهب إلى أن الكبير يُحرِّم، وهناك كلام طويل للعلماء ونقاش فيما يتعلق بالكبير:

فهناك مَن يرى أن رضاع الكبير قد نُسِخ وأن ذلك في أول الأمر

(8)

.

(1)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 202) حيث قال: "ورضاع الكبير محرم - ولو أنه شيخ يحرم - كما يحرم رضاع الصغير ولا فرق".

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 254) حيث قال: "وهو مذهب عائشة من بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ".

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 463) عن أبي عطية الوادعي قال: "جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: إنها كانت معي امرأتي، فحصر لبنها في ثديها، فجعلت أمصُّه ثم أمجُّه، فأتيت أبا موسى فسألته، فقال: حرمت عليك. قال: فقام وقمنا معه، حتى انتهى إلى أبي موسى، فقال: ما أفتيت هذا، فأخبره بالذي أفتاه. فقال ابن مسعود، وأخذ بيد الرجل: "أرضيعًا ترى هذا إنما الرضاع ما أنبت اللحم والدم". فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحبر بين أظهركم".

(4)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 465). عن ابن عمر، أنه قال:"لا رضاع إلا لمَن أرضع في الصغر، ولا رضاعة لكبير".

(5)

أخرجه النسائي في "الكبرى"(5/ 201). عن أبي هريرة، قال:"لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء".

(6)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 465). عن ابن عباس يقول: "لا رضاع بعد الفطام".

(7)

أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(8/ 561) عن أم سلمة: أنها سئلت: ما يحرم من الرضاع؟ فقالت: ما كان في الثدي قبل الفطام.

(8)

مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 182) حيث قال: ولنا أن إرضاع الكبير منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام".

ص: 5900

ومنهم مَن يرى أنه خاص بسالم

(1)

.

ومنهم مَن يرى بأن ذلك عام

(2)

.

ومنهم مَن يرى أن ذلك للحاجة

(3)

.

إذًا الأقوال أربعة؛ فمنهم من يرى أنه خاصٌّ بسالم، وقد نُقل ذلك عن أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وفيهم من أقوالهن عدا أقوالهم قول عائشة، وهناك من يرى أنه عام وهذا قول عائشة رضي الله عنها ومعها جماعة كابن عباس، ومنهم مَن يقول: إنه قد نُسخ وهذا هو جواب الجمهور عن ذلك.

= مذهب المالكية، يُنظر:"التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" لخليل (5/ 109) حيث قال: "والجمهور حملوا الحديث على الخصوص. الباجي: وقد انعقد الإجماع على أن رضاع الكبير لا يحرم".

مذهب الشافعية، يُنظر:"فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (2/ 136) حيث قال: "وما ورد مما يخالفه في قصة سالم فمخصوص به ويقال منسوخ".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 445)، وفيه قال:" (فلو ارتضع) الطفل (بعدهما)، أي: الحولين (بلحظة ولو قبل فطامه أو ارتضع الخامسة كلها بعدهما)، أي: الحولين (بلحظة لم يثبت) التحريم؛ لأن شرطه وهو كونه في الحولين لم يوجد، وأما حديث عائشة أن سهلة بنت سهيل بن عمرو جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: إن سالمًا مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا وقد بلغ ما يبلغ الرجال وعلم مما يعلم الرجال فقال صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه تحرمي عليه" فهو خاصٌّ به دون سائر الناس جمعًا بين الأدلة".

(1)

وهو مذهب الجمهور كما سبق، ويُنظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 255) حيث قال: هذا يدل على أنه حديث ترك قديمًا ولم يعمل به ولا تلقاه الجمهور بالقبول على عمومه بل تلقوه بالخصوص. وانظر: "فتح الباري"، لابن حجر:(9/ 149).

(2)

وهو قول عائشة وقد تقدم.

(3)

وهو قول ابن تيمية وابن القيم، يُنظر:"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (34/ 60) حيث قال: "فيجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم. وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها. وهذا قول متوجه".

ويُنظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 527) حيث قال: وإنما هو رخصة للحاجة لمن لا يستغني عن دخوله على المرأة، ويشق احتجابها عنه

وهذا أولى من النسخ، ودعوى التخصيص بشخص بعينه، وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين. وقواعد الشرع تشهد له والله الموفق".

ص: 5901

قالوا: ذلك في أول الأمر ثم نُسِخ، ولذلك أُشكل على سهلة بنت سُهيل زوجة أبي حذيفة في قصة سالم الذي كان قد تبنَّاه حذيفة فبعد ذلك شكَتْ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأَذِن لها في إرضاعه.

ولكن مَن يرى أن الأمر قد نُسِخ، يحتاج إلى دليل؛ لأنه ربَّما يعكس الفريق الآخر علينا القضية فيقول: وأين دليلكم؟ فقد يكون رضاع الكبير هو الناسخ للآخر، فإذا قلتَ بالنسخ؛ فلا بد من معرفة المتقدّم من المتأخر، وكون ذلك في أول الأمر يحتاج إلى دليل ولمعرفة التاريخ أيضًا، أما مجرّد الدعوى فلا تكفي.

ومن يقول: بأن ذلك عامٌّ: استدلَّ بظاهر قصة سالم، ولذلك كانت عائشة ترى عموم ذلك وكانت ترغِّب كلَّ من يدخل عليها وكانت تطلب من بناتها وأخواتها وكذلك من بنات إخوتها أن يرضِعْنَ مَن تحب أن يدخل عليها.

فعائشة أيضًا روت هذا الحديث وكذلك طبقته، وكان نساء الرسول صلى الله عليه وسلم فيما عدا عائشة كُنَّ يخشين بأن ذلك خاصّ بسالم رضي الله عنهم جميعًا.

وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى رأي في هذه المسألة؛ فإنه ذهب إلى أن رضاع الكبير لا يُعتبَر إلا في حالة واحدة وهي عند الحاجة كقصة سالم، ويرى أن ذلك جمع بين الأدلة

(1)

.

ويرى أن الرَّضاع إنما يثبت في حقِّ الصغير، أمَّا في حقِّ الكبير فلا يثبت.

فهو لا يرى بأن قصة سالم عامة، لكنَّه يرى أنه إذا رُؤيت حاجة كهذه الحالة التي هي قصة سالم؛ فلا مانع من إرضاعه للحاجة، فالقاعدة

(1)

تقدَّم قوله.

ص: 5902

الفقهية تقول: "الحاجة تُنزَل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة"

(1)

.

"والضرورات تبيح المحظورات"

(2)

. "والضرر يُزال"

(3)

.

إذًا الحاجة معتبرة فربما تكون المعاملات في بلد من البلدان ربوية، وأنت مضطر إلى ذلك فهذه حاجة، إذًا أنت احتجت إلى ذلك، فقد تتعامل مع إنسان بعض ماله فيه ربا فهنا أيضًا حاجة.

فهذا القول يرى أن الرَّضاع يُختَص به الصغير، لكن إن وُجدت حاجة كالحال بالنسبة لسهلة فهذه الحالة تكون سارية.

والذين منعوا ذلك وهم الجمهور قالوا: هي قضية عين

(4)

، أي: قضية خاصة بسالم فلا يُقاس عليه.

إن قضية الخصوصية تحتاج إلى دليل؛ فالله تعالى في بعض الأمور قال: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] فالله سبحانه تعالى خصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بأن قال له: خالصة لك من دون المؤمنين، والرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 88) حيث قال: "القاعدة الخامسة: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة. من الأولى: مشروعية الإجارة، والجعالة، والحوالة، ونحوها، جوزت على خلاف القياس لما في الأولى من ورود العقد على منافع معدومة، وفي الثانية من الجهالة، وفي الثالثة من بيع الدين بالدين لعموم الحاجة إلى ذلك، والحاجة إذا عمت كانت كالضرورة".

(2)

يُنظر: "المنثور في القواعد الفقهية" لابن بهادر الزركشي (2/ 317) حيث قال: "الضرورات تبيح المحظورات: ومن ثم أبيحت الميتة عند المخمصة، وإساغة اللقمة بالخمر لمن غص، ولم يجد غيرها، وأبيحت كلمة الكفر للمكره، وكذلك إتلاف المال، وكذلك أخذ مال الممتنع من الدين بغير إذنه إذا كان من جنسه ولو كان بكسر بابه".

(3)

يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 83 - 84) حيث قال: [القاعدة الرابعة: الضرر يزال].

أصلها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" أخرجه مالك في الموطأ

اعلم أن هذه القاعدة ينبني عليها كثير من أبواب الفقه من ذلك: الرد بالعيب، وجميع أنواع الخيار: من اختلاف الوصف المشروط، والتعزير، وإفلاس المشتري، وغير ذلك.

(4)

سيأتي تعريفه.

ص: 5903

في قصة السبعين الذين يدخلون الجنة من غير حساب ولا عقاب، ثم سُئل عنهم فقال:"هم الذين لا يتطيَّرُونَ ولا يكْتُوونَ وعلى ربِّهِم يتوكلون"، قام عُكَّاشةُ بن مِحصَن قال: ادع الله أن أكون منهم فقال: "أنت منهم"، ثم قال رجل آخر مثل ذلك فقال صلى الله عليه وسلم:"سبقك بها عكاشة"

(1)

.

إذًا كان هذا الأمر خاصّ بسالم فبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حكم من الأحكام، بل من الأحكام الهامَّة التي يحتاج إليها الناس؛ لأن هذا أمر يتعلق بإباحة وحرمة فكان هذا خاصّ بسالم لرفع الحرج عنه.

إذًا لقد عرفنا أن الذين قالوا ذلك حدّوا ذلك بالقولين، واستدلّوا بمنطوق الآية التي قال الله سبحانه وتعالى فيها:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ، وكذلك بالحديث الذي رواه الدارقطني، وإن كان به ضعف:"لا يُحرِّم إلا ما كان في الحولين"

(2)

.

والذين قالوا: ما دون الفِطام استدلُّوا بما جاء في حديثٍ أخرجه الترمذي وحسَّنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُحرِّم إلَّا ما فتقَ الأمعاء وكان قبل الفِطام"

(3)

.

وأما الذين قالوا غير ذلك: فلهم توجيهات كثيرة جدًّا وتعليلات.

بقي ما يتعلق بالكبير؛ وهذا هو الذي أطال العلماء الكلام فيه وهو

(1)

أخرجه البخاري (5705)، عن ابن عباس، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرضت عليَّ الأمم"،

فقال: "هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون"، فقال عكاشة بن محصن: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: "نعم" فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ قال: "سبقك بها عكاشة".

ومسلم (220/ 374) بلفظ: فقال: "هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون"، .. الحديث".

(2)

أخرجه الدارقطني في "السنن"(5/ 307) ولفظه: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين"، وصححه ابن القيم في "زاد المعاد" 5/ 493، لكن ذكر الدارقطني أن المحفوظ وقفه، وصحح الموقوف البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 761).

(3)

أخرجه الترمذي (1152) وغيره، وصححه الألباني في "الإرواء"(2150).

ص: 5904

الذي اختلفوا فيه، فإن جماهير العلماء كلهم يذهبون إلى أن رضاع الكبير لا يُحرِّم، بل إنه حصل خلاف في فهم ذلك بين زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم فعائشة رضي الله عنها وهي راوية حديث سهلة وَهي المُدركة للقصَّة كانت تطبق ذلك رضي الله عنها وكانت تنافح عن ذلك وتدافع عنه، وكانت تجادل في ذلك الأمر، وحصل نقاش بينها وبين أمِّ سَلَمة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت لها:"أما لك أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم "

(1)

، فما كان من أمِّ سلمة إلا أن سكتت، ففسر العلماء ذلك بأحد أمرين:

1 -

إمَّا أنها اقتنعت ورضيت بكلام عائشة وسلمت لها الأمر.

2 -

أو أنها انقطعت، ولكن تعلمون عندما يُحاج في أمر ويُقال له: إن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هذا هو فعله كما قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].

وهذه قصة معاوية رضي الله عنه مع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عندما كان يُقبِّل معاوية جميع أركان الكعبة، وكان يُقبِّل الركن الشمالي فنبَّهه أحد الصحابة إلى ذلك الأمر، فقال معاوية:"ليس في البيت شيء مهجور". فردَّ عليه عبد الله بن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فما كان من معاوية رضي الله عنه إلا أن سَلَّم وقال: "صدقت"

(2)

. وهكذا يقول الله تعالى: {إِنَّمَا

(1)

أخرجه مسلم (1453/ 29) عن زينب بنت أم سلمة، قالت: قالت أم سلمة، لعائشة، إنه يدخل عليك الغلام الأيفع، الذي ما أحب أن يدخل عليّ، قال: فقالت عائشة: أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟ قالت: إن أمرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله، إن سالمًا يدخل عليَّ وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه حتى يدخل عليك".

(2)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(10/ 270) عن أبي الطفيل، أنه رأى معاوية يطوف بالكعبة، عن يساره عبد الله بن عباس، وأنا أتلوهما في ظهورهما أسمع كلامهما، فطفق معاوية يستلم ركني الحجر، فيقول له ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يستلم هذين الركنين، فيقول معاوية: ذرني منك يا ابن عباس؛ فإنه ليس شيء منها مهجورًا.

ص: 5905

كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 51].

هذا واجب كل مسلم إذا تبيَّن له قول الله أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يُسلَّم في هذا الأمر.

هذه قضية اختلف فيها العلماء ولا نريد حقيقة في مثل هذا المقام أن نستطرد هذا الخلاف وأن نتتبَّع الأقوال وتطول المناقشات، ولكن يهمّنا هنا أن نعرف أصل المسألة وما فيها من أقوال العلماء، وقد نبَّهت إلى هذا، فإن من العلماء من عَمَّم ذلك ورأى أن هذا الحكم عامٌّ لا يقتصر على سالم، ومنهم من رأى أن هذا خاصٌّ بسالم.

وعلمنا ما يتعلق بالتبني وأن ذلك موجود قبل الإسلام، وأنه وجد أيضًا في أوَّل الإسلام حتى نزل قول الله تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5].

إذًا {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} فيه نهي صريح على نفي التبني، ومن هنا أُشكل على سهلة رضي الله عنها بنت سُهيل زوجة أبي حذيفة رضي الله عنه، وكانت ترى أثر ذلك في وجه أبي حذيفة.

فهذا سالم - كما هو معلوم - نشأ طفلًا بين أيديهم صغيرًا ثم أصبح يافعًا إلى أن أصبح رجلًا سويًّا، ولذلك لمَّا جاءتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت له قصة سالم مولى أبي حذيفة قال لها:"أرضعيه". فقالت: يا رسول الله: إنه كبير!!؟ فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تبسَّم وقال: "قد علمت ذلك"

(1)

.

وقد ذكر في بعض الروايات أنه "ذو لحية"

(2)

؛ فقد أكَّد عليها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "أرضعيه تحرمي عليه".

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 5906

إذًا هذا نصٌّ صريحٌ فيما يتعلق بأمر سالم مولى أبي حذيفة، فهل هذه قضية عين كما يقول الأصوليون

(1)

لا تتجاوز سالم إلى غيره، وهناك قضايا خُصَّ بها أناس منها قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}

(2)

[البقرة: 207].

لكن هناك قضايا جاء التنصيص وأُطلقت، فعائشة رضي الله عنها وهي راوية القصة هي التي روت لنا هذا الخبر وهي التي عاصرته، وكانت ترويه وهو حديث متفق عليه

(3)

، وتطبقه تطبيقًا عمليًّا، فهي كانت توصِّي بنات أخواتها وبنات أخوتها أن يُرضِعوا مَن تحب أن يدخل عليها

(4)

، وينظر إليها فكانت توصي بذلك، فعائشة هي التي روت ذلك، وهي صاحبة القصة كما يقول بعض العلماء، وكانت تقف عند ذلك.

ومن العلماء من قال: بأن ذلك خاصٌّ بسالم وهذا قول أمّ سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم

(5)

، ونُسب إلى عروة بن الزبير وبعض التابعين

(6)

.

(1)

ستأتي.

(2)

أخرج الطبري في "تفسيره"(4/ 248) عن عكرمة: في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} ، قال: نزلت في صهيب بن سنان، وأبي ذر الغفاري جندب بن السكن أخذ أهل أبي ذرٍّ أبا ذر، فانفلت منهم، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع مهاجرًا عرضوا له، وكانوا بمر الظهران، فانفلت أيضًا حتى قدم على النبي عليه الصلاة والسلام. وأما صهيب فأخذه أهله، فافتدى منهم بماله، ثم خرج مهاجرًا فأدركه قنقذ بن عمير بن جدعان، فخرج له مما بقي من ماله، وخلى سبيله.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرجه أبو داود (2061) وفيه: فبذلك كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها، وإن كان كبيرًا خمس رضعات، ثم يدخل عليها وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحدًا من الناس. وقال الألباني في صحيح أبي داود - "الأم"(1799) إسناده صحيح على شرط البخاري.

(5)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر - دار الفلاح (8/ 561) حيث قال: وليس يخلو الأمر في قصة سالم

أو خاصًّا لسالم، كما قالت أم سلمة، وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

(6)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 255) حيث قال: فذهب الليث إلى أن رضاعة =

ص: 5907

وذهب جماهير العلماء الذين حدّدوا ذلك بالحولين ومنهم الأئمة الأربعة إلى أن ذلك إمَّا منسوخ أو خاص، ودعوى النسخ قالوا عنها: أن ذلك حصل في أوائل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكَّة إلى المدينة.

إذ بقي بمكة بعد البعثة ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وإلى نبذ عبادة الأوثان، وإلى تطهير العقيدة مما علق بها من شركيات، وعانى ولقي من الأذى ما لقيه من قومه إلى أن هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فتلقاه الأنصار وناصروه.

فيقول العلماء: كان هذا في أوَّل الهجرة، وفيما يتعلق بتحديد الرضاع أو سن الرضاع إنما كان متأخِّرًا، فقالوا: إذًا هناك نسخ، فالمتأخِّر ناسخ للمتقدم، لكنه دائمًا إنما يُلجأ إلى النسخ عند تعذُّر الجمع، والجمع ممكن كما قال به بعض العلماء، وكذلك إنما يُرْجَع إلى النسخ إذا لم يكن هناك راجح ومرجوح وهذا ممكن في هذا المقام.

ومن العلماء مَن قال: بأنه عام وهذا قول عائشة رضي الله عنها ومن تبعها.

ومنهم من قال: بأنَّه خاصٌّ، وهذا قول بعض أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا ظنًا منهم، ولم يكن مقطوعًا به، وإنما كُنَّ يظنن ذلك، والظنُّ قد يصل أو يقرب من اليقين كما قال تعالى:{وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة: 118] فهنا تيقَّنوا.

وربما يأتي الظنُّ دون اليقين فيكون مرتبة بين اليقين وبين الشكِّ، وهذا أمر معروفٌ ومُبيّن، وهناك مَن رأى بأنه منسوخ وقد تكلَّمنا عن ذلك، ومدار الخلاف إنما هو حول حديث عائشة رضي الله عنها.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(2)

، وَالشَّافِعِيُّ

(3)

، وَكَافَّةُ الفُقَهَاءِ).

= الكبير تحرم كما تحرم رضاعة الصغير وهو قول عطاء

وقال بقول الليث قوم منهم ابن علية. ولم أقف على من نسبه لعروة إلا أنه راوي الحديث عن عائشة.

(1)

تقدَّم.

(2)

تقدَّم.

(3)

تقدَّم.

ص: 5908

وأحمد

(1)

وغيرُهم.

* قوله: (لَا يُحَرِّمُ رَضَاعُ الكَبِيرِ. وَذَهَبَ دَاوُدُ

(2)

، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ

(3)

إِلَى أَنَّهُ يُحَرِّم، وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ

(4)

).

وأيضًا أُثِر عن بعض فقهاء المدينة من التابعين

(5)

.

* قوله: (وَمَذْهَبُ الجُمْهُورِ هُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ

(6)

، وَابْنِ عُمَرَ

(7)

، وَأَبِي هُرَيْرَة

(8)

، وَابْنِ عَبَّاسٍ

(9)

وَسَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.

وغير هؤلاء من الصحابة، وأكثر العلماء - كما ذكرنا - من الصحابة والتابعين والفقهاء أن التحريم إنما يكون في الحولين.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ الآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي ذَلِك حَدِيثَانِ، أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ سالِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ).

وفيه: "أرضِعيه تَحرُمي عليه"

(10)

، وفي بعض الروايات:"أرضعي سالمًا تُحرَمِي عليه"

(11)

، وفي غير رواية في "الصحيحين":"أرضعيه خمسًا تحرمي عليه"

(12)

، وفي رواية:"أرضعيه عشرًا"

(13)

.

(1)

تقدَّم.

(2)

تقدَّم.

(3)

تقدَّم.

(4)

تقدَّم.

(5)

تقدَّم.

(6)

تقدَّم.

(7)

تقدَّم.

(8)

تقدَّم.

(9)

تقدَّم.

(10)

تقدَّم تخريجه.

(11)

تقدَّم تخريجه.

(12)

تقدَّم تخريجه.

(13)

تقدَّم تخريجه.

ص: 5909

* قوله: (وَالثَّانِي: حَدِيثُ عَائِشَةَ، خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، قَالَتْ:"دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي رَجُلٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ"، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ؛ فَإِنَّ الرَّضَاعَةَ مِنَ المَجَاعَةِ"

(1)

).

هذا الحديثُ يشتمل على عدَّة أحكام وحِكَم، فالرسول صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة، وعائشة إنما هي زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وابنة أبي بكر، ولها مكانة عظيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي قلب كل مؤمن، وليس هذا خاصًّا بها، بل ينبغي أن يكون ذلك عامًّا لكلِّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالًا ونساء، وينبغي تكريم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والترضي عنهم، والدعاء لهم وأنهم قد خدموا هذا الدين، وقد أفنوا أعمارهم في الدفاع عن كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الله سبحانه وتعالى قد رضي عنهم بقوله:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ماتَ وهو راضٍ عنهم، وبيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلهم وما اختصَّ به سبحانه وتعالى لهم من المكانة العظيمة، وأنه لو أنفق أحدنا مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه

(2)

.

ولقد تكلَّم ابن القيم رحمه الله عن هذا وبيَّنها بيانًا شافيًا عندما تعرض لقضية: "السلف أسلم والخلف أعلم"

(3)

. فإنه رحمه الله قد بيَّن بطلان هذه

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري (3673) ومسلم (2540) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبُّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ، ذهبًا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه".

(3)

يُنظر: "الصواعق المرسلة" لابن القيم (3/ 1133 - 1134) حيث قال: فلما أفهموا النفاة والمعطلة أن هذه طريقة السلف قال: مَن قال منهم طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم؛ لأنه اعتقد أن طريقة الخلف متضمنة لطلب معاني نصوص الإثبات ولنفي حقائقها وظواهرها الذي هو باطل عنده فكانت متضمنة للعلم والتنزيه، =

ص: 5910

المقالة، وأن السَّلف كما أنهم أسلم وأنَّهم رضي الله عنهم كذلك أعلم؛ لأنهم أخذوا هذا العلم من مشكاةِ النبوة، وتلقَّوْه من فِيهِ صلى الله عليه وسلم شافيًا نقيًّا لم تشوبه شائبة، ولم يخالطه أيّ كدر وأيّ إشكال.

إذًا الرسول صلى الله عليه وسلم يغار

(1)

، وكل مؤمن يغار، وهذه صفة قد وضعها الله سبحانه وتعالى في كلِّ مؤمن، والذي لا يغار على أهلِه فهو ديُّوث

(2)

، ولذلك نجد أن هذا الحديث أشار إلى غَيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا حصل لأبي حذيفة؛ فإنه في بعض الروايات ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحصل من غيرة أبي حذيفة فامرأته يدخل عليها سالم فَضْلى ليس عليها إلا ثوب واحد.

فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أرضعيه تُحرمي عليه"

(3)

، ويزول ما في نفس أبي حذيفة، فالمسلم يغار، وهذا واجب على كلِّ مسلم.

لكن لا ينبغي أن تبلغ بنا الغَيرة إلى درجة الشكِّ والظُّنون السيئة، فينبغي دائمًا أن نحسن جميعًا الظنَّ بإخواننا المؤمنين، سواء كان هذا المؤمن أخًا، أو كان صديقًا، أو كان بعيدًا ما دام يجمعك به أخوة الإسلام، ومن باب أولى أن يكون قريبًا لك وبخاصَّة إذا كانت لك زوجة

= وكان فيها علم بمعقول وتأويل لمنقول ومذهب السلف عنده عدم النظر في النصوص وفهم المراد منها دون النظر إلى التعارض والاحتمالات وهذا عنده أسلم

فلو تبيَّن لهذا البائس وأمثاله أن طريقة السلف إنما هي إثبات ما دلَّت عليه النصوص من الصفات وفهمها وتدبرها وتعقل معانيها وتنزيه الربّ عن تشبيهه فيها بخلقه كما ينزهونه عن العيوب والنقائص

علم أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم وأهدى إلى الطريق الأقوم وأنها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر وفهم ذلك ومعرفته.

(1)

منها ما أخرجه البخاري (4324) ومسلم (2180) عن أمِّها أم سلمة رضي الله عنها، دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وعندي مخنث، فسمعته يقول لعبد الله بن أبي أمية: يا عبد الله، أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غدًا، فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يدخلن هؤلاء عليكنَّ".

(2)

"الديوث": هو الذي لا يغار على أهله. وقيل: هو سرياني معرب. انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 147).

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 5911

تطلع عليها وتطلع منك على ما لم يطلع عليه غيركما بالنسبة لكلِّ واحد من الآخر.

فالرسول صلى الله عليه وسلم قد تأثَّر وظهر الغضب على وجهه، والرسول صلى الله عليه وسلم يغضب عندما يرى أيَّ أمر يتأثر منه.

ولذلك ممَّا ذكروا في خُطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه كان إذا صعد المنبر احمرَّت عيناه، وعلا صوته، وأظهر غضبه كأنَّه منذر جيشِه، يقول:"صبَّحكم ومسَّاكم"

(1)

، وهذا هو الشأن، وكلُّ خطيب ينبغي أن يتفاعل معه الناس، وينبغي أن يعالج مشكلات المجتمع بالقسطاس

(2)

المستقيم، فدائمًا ينبغي أن يتعرَّف على مشكلات المجتمع، وما يحدث فيه من أمور فإنَّك تأخذها وتعالجها علاجًا مستقيمًا لا انحراف فيه، فتضع الدواء في هذا المقام لترفع عن ذلك الدَّاء، إذًا تزيل الداء بإقامة الدواء مكانه، ولا شكَّ أن علاج ذلك في كتاب الله عز وجل وفي سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فتغير وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وغضب، وهذا هو شأن المؤمنين عمومًا أن يجد إنسان رجلًا غريبًا عند زوجته لا شكَّ أنه سيتأثر، لكن لا ينبغي أن يدفعنا الغضبُ ويستولي على نفوسنا الشيطان فربَّما يقع الإنسان في أمر قد يندم عليه كالطلاق، أو السب وغير ذلك من أمور، والله سبحانه وتعالى يقول:{فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك نفسه عند الغضب، ولذلك عندما جاءه رجل فقال:"يا رسول الله، أوصني"، قال:"لا تغضب"

(3)

. "لا" نافية للجنس، و"تغضب" فعل مضارع مكون من فعل وفاعل، إذًا هي جملة فعلية؛ لأنك إذا غضبت إنما نفذ الشيطان إلى نفسك فاستغلَّ في نفوذه هذا

(1)

أخرجه مسلم (867) عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول:"صبحكم ومساكم"، ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين

الحديث".

(2)

"القسطاس": أقوم الموازين. انظر: "العين" للخليل (5/ 71).

(3)

أخرجه البحاري (6116).

ص: 5912

الضعف الذي دبَّ إلى نفسك، وربما أوقعك في المهالك والأخطاء، ولذلك لا يقضِ القاضي حين يقضي وهو غضبان

(1)

.

فالرسول قال له: "لا تغضب"؛ لأن الإنسان إذا لم يغضب استطاع أن يسيطر على نفسه، ولذلك حذَّر الوسول صلى الله عليه وسلم من التسرُّع من هفوات اللسان فقال صلى الله عليه وسلم:"أَمْسِكْ عليك لسانَك"

(2)

، وقال أيضًا:"مَن يضمن لي ما بين فكيه وما بين فخذيه أضمن له الجنة"

(3)

، أي: أكفُل له الجنة.

هكذا صلى الله عليه وسلم تأثَّر في هذا المقام وأمسكَ نفسه وهو غاضب، فأدركت عائشة رضي الله عنها ذلك، وانظروا إلى المرأة اللبيبة

(4)

، الفطنة

(5)

أدركَتْ لمَ غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولِمَ تأثر ولِمَ تغير وجهه؟ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك أن لهذا الضيف كرامة وأنه ينبغي أن يُنزَّل المنزلة اللائقة به، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أمسكَ، لكن الأثر ظهر على جبينه صلى الله عليه وسلم، وفي تقاسيمِ وجهه، فعرفت ذلك عائشة حقّ المعرفة فبيَّنت للرسول صلى الله عليه وسلم ما يرفع اللَّبس وما يُزيل الإشكال، وما يدفع الإيهام، وما يطرح الشبهة، قالت:"إنه أخي من الرضاعة".

فقال الوسول صلى الله عليه وسلم: "ائذن لإخوانكن من الرضاعة". ذكر الحكم ثم بيّن العلة: "إنَّما الرَّضاعةُ من المجاعة"

(6)

، فهذا حُجّة للَّذين يقولون: بأنَّ الرضاعة ينبغي أن تكون في نطاق العامين أو في قدر الفِطام؛ لأنَّ هذا

(1)

أخرجه البخاري (7158)، ومسلم (1717) عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان".

(2)

أخرجه الترمذي (2406) وغيره ولفظه عن عن عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: "املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابْكِ على خطيئتك". وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(890).

(3)

أخرجه البخاري (6474) ولفظه: عن سهل بن سعد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَن يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة".

(4)

"اللبيب": العاقل. انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 216).

(5)

(فطن) الذكاء والعلم بالشيء. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/ 510).

(6)

تقدَّم تخريجه.

ص: 5913

الغذاء وهو اللبن الذي ينزل في جوفِ هذا الصَّغير فيستقرّ في معدته وتمتصه هذه المعدة فيسري في دمهِ فينقله إلى جميع أجزاء البدن فيتكون منه هذا الجسم وهو جزء من جسم هذه المرضعة؛ إذًا لا شكَّ أنه تأثَّر بذلك، فإنما الرضاعة من المجاعة.

وهي جملة اسمية دخلت عليها إنما، وإنما أداة "حصر"، وهذه من أقوى المؤكِّدات التي يؤكَّد بها في علم البلاغة

(1)

.

إذًا أكَّد الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنَّ الرضاعة من المجاعة"، فهل معنى هذا أنها لا تنتشر في الكبير؟!

إذًا أول الحديث: "ائذن لإخوانكن إنما الرضاعة من المجاعة" هذا الشطر من الحديث يصلح أن يُحتَجَّ به.

فهنا أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا حُجَّة للذين يقولون أنَّ الرضاعة تسري للكبير، ثم إن الشطر الأخير من الحديث أقوى حجة للذين يقولون: بأنه في حدود العامين أو في وقت الفطام.

والذين قالوا: بأنه يمتدُّ إلى الكبير استدلّوا أيضًا بما حصل من عائشة رضي الله عنها فإنها كانت تطلب من بنات أخواتها وإخوانها أن يرضعن من ترغب دخولهن عليها، هذه كلّها من الحُجَج التي يتمسَّك بها هؤلاء.

* قوله: (فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى تَرْجِيحِ هَذَا الحَدِيثِ قَالَ: لَا يُحَرِّمُ اللَّبَنُ الَّذِي لَا يَقُومُ لِلْمُرْضَعِ مَقَامَ الغِذَاءِ).

لكنَّ الذين قالوا: يسري للكبير قالوا: لا إطلاق لهذا الحديث: "إنما

(1)

يُنظر: "الإيضاح في علوم البلاغة"، للقزويني (3/ 24): ومنها [من طرق القصر والحصر]: إنما: كقولك في قصر الموصوف على الصفة أفرادًا: إنما زيد كاتب. وقلبًا: إنما زيد قائم. وفي قصر الصفة على الموصوف بالاعتبارين: إنما قائم زيد.

وللقصرِ طُرُقٌ كثيرة، منها: القصرُ بالنَّفي والاستثناء، والقصر بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديم ما حَقُّه التآخير، وغيرُ ذلك.

ص: 5914

الرضاعة من المجاعة"؛ لأن المجاعة لا تختصُّ بالصغير، بل هو يجوع وكثيرًا ما يجوع الإنسان، بل إن الإنسان إذا جاع وأشرف على الموت وخُشي عليه الهلاك؛ فإنه يجب عليه أن يأكل من الميتة كما قال تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].

فالإنسان يأكلُ من المخمصة

(1)

، ويدفع الغصة

(2)

التي ربَّما تودي بحياته فيشرب محرَّمًا ليدفع الغصة؛ لأن مهجة

(3)

المسلم غالية في الإسلام، فلا يريد الإسلام من المسلم أن يضيِّع هذه المهجة؛ لأن المسلم إنما خُلق لغاية، ولحكمة أشار الله سبحانه وتعالى إليها بقوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} [الذاريات: 56، 57] فهذا دليل قطعي على أن الغاية من خلق الجن والإنس إنما هي عبادة الله سبحانه وتعالى، وأن الله إنما خلق هذا الخلق ليقوموا بعمارة هذا الكون، فينشروا العدل، والفضيلة بين الناس جميعًا مسلمهم وغير مسلمهم، وهذا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه هي الأسس التي قامت عليها الشريعة الإسلامية، فإن من أركانها القوية الثابتة التي لا تتزعزع إقامة العدل كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58].

إذًا قد تبيَّنا من هذا أن الآخرين قالوا: وإن المجاعة لا تنحصر فغالبًا الذي يحتاج إلى اللبن إنما هو الصغير، لكن الجاعة قد تحصل للكبير أيضًا.

ولا شكَّ إنه عندما تتعدد الأدلة ويختلف العلماء في مفهومها تتعدد الأقوال وتتنوع، والمسلم في هذا المقام وبخاصة طالب العلم الذي

(1)

"المخمصة": خلاء البطن من الطعام بسبب الجوع والمجاعة. انظر: "العين" للخليل (4/ 191)، و"النهاية" لابن الأثير (2/ 80).

(2)

"الغصة": ما اعترض في الحلق فأشرق. انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 142).

(3)

"المهجة": دم القلب خاصة. انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 342).

ص: 5915

وفَّقه الله سبحانه وتعالى فأعطاه قسطًا من العلم وأرشده إلى هذا الطريق السويِّ لينشغل بالعلم وليثاب على ذلك إذا أخلص في الحياة الدنيا وينال السعادة في الآخرة دائمًا، ويجب عندما تحصل مثل هذه المسألة فإنه في ذلك يُرجح ما يظهر له قوَّة رجحانه، فإن لم يتبيَّن فإنه يأخذ بما هو أحوط، فهناك مَن يحرم ومن لا يحرم، وإذا ترددت في أمر فلا تقطع به، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وضع لك قاعدة ثابتة بقوله:"دعْ ما يُريبك إلى ما لا يريبك"

(1)

.

* قوله: (إِلَّا أَنَّ حَدِيتَ سَالِمٍ نَازِلَة فِي عَيْنٍ).

أي: وقعت لشخص بعينه

(2)

.

وهو سالم؛ إذ كان حليفًا لأبي حذيفة تبنَّاه وأصبح يعيش في بيته وفي بيت زوجته.

وحال المسلمون فيما مضى ليست كحالتنا اليوم، ربما يشكو بعضنا من القلة وبأنَّ الدنيا لم تنفتح له كما انفتحت لغيره، وأنه لا يجد متطلبات كل هذه الحاجات، فهناك ضروريات وهناك حاجيات وهناك كماليات، فالضروريات مطلوبة لكل إنسان، والحاجيات لا شكَّ أنها مطلوبة، لكنها لا تصل إلى درجة الضروريات.

أما الكماليات فليست شرطًا أن تأكل في كلِّ يوم الفاكهة واللحم

(1)

جزء من حديث أخرجه الترمذي (2518) عن الحسن بن عليّ: قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة" وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(12).

(2)

"وقائع الأعيان": جمع واقعة، وهي المسألة الحادثة المستفسر عن حكمها، وهي تخصّ شخصًا بعينه أو جماعة بعينها. انظر:"موسوعة القواعد الفقهية" لمحمد صدقي آل بورنو (12/ 225).

وينظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 259) حيث قال: هو أن خطاب رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا اختصَّ بشخص في حكاية حال، فحكم الصيغة اختصاص الحكم بالمخاطب.

ص: 5916

وغير ذلك، بل إن من الأسباب الآن التي أدَّت إلى انتشار الأمراض كثرة الأكل وتنوعها وتعددها، وكان الناس فيما مضى ربما يحول عليهم الحول فلا يأكلون اللحم إلا مرة، فلا يخشون من العلل التي أصبح يذكرها الأطباء وينشرونها بين الناس.

إذًا لم تكن الحالة التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كحالتنا اليوم أو قريبة منها، فشتَّان بينهما؛ إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ عليه الشهر والشهران وليس في بيته إلا الأسودان - التمر والماء -، كما ذكرت عائشة رضي الله عنها

(1)

، وكان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يربط على بطنه الحجارة فيشدّها على بطنه من شدَّة الجوع

(2)

، ووجد ذلك في بعض أصحابه رضي الله عنهم

(3)

.

ويأتيه الضَّيفُ صلى الله عليه وسلم فلا يجد ما يقريه

(4)

به فيرسله إلى أحد الأنصار فيقدّم له

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (2567)، ومسلم (2972) عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت لعروة: ابن أختي "إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار"، فقلت يا خالة: ما كان يعيشكم؟ قالت: "الأسودان: التمر والماء،

الحديث".

(2)

أخرجه أحمد في "مسنده"(14220) عن جابر، قال:"لما حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الخندق، أصابهم جهد شديد، حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرًا من الجوع". وقال الأرناؤوط: "إسناده صحيح على شرط مسلم".

(3)

أخرجه البخاري (6452) عن مجاهد أن أبا هريرة، كان يقول: الله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع

الحديث".

(4)

"القرى": الإحسان إلى الضيف، قراه يقريه. انظر:"العين" للخليل (5/ 204).

(5)

أخرجه مسلم (2054) عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق، ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا، والذي بعثك بالحق، ما عندي إلا ماء، فقال:"مَن يضيف هذا الليلة رحمه الله؟ "، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا، يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء، فإذا دخل ضيفنا فأطفئ السراج، وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل، فقومي إلى السراج حتى تطفئيه، =

ص: 5917

هذه حاجات عندما يتذكرها الإنسان ينضح

(1)

قلبه أسًى

(2)

ولوعةً

(3)

، ويتألم أن يرى نفسه في هذه المجتمعات التي تنتشر فيها الخيرات وتتعدد وتتنوع ومع ذلك نجد بعض المؤمنين والمسلمين يتأوه (آه، آه أنا أحوالي كذا وكذا وليس عندي كل ما أتمناه)، بل إننا لو طوفنا في شرق الأرض ومغاربها لوجدنا أن كثيرًا من إخواننا المسلمين يعانون من الذُّلِّ ومن التقتيل والتشريد، كلُّ ذلك بسبب دينهم قال تعالى:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} [البروج: 8].

هذه قضايا لو دخل الإنسان فيها لتعرج

(4)

عن درسه، لكنها أحيانًا خواطر تمرُّ بالإنسان ليتذكَّر هو أولًا وليتذكر أخوته معه، فكلُّنا نعرف كثيرًا من هذه الأدلة، لكننا نغفل وما أكثر ما نغفل، ولذلك كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يوصينا بقوله:"تذكَّروا هاذم اللذات"

(5)

، وهو الموت؛ لأنك إذا تذكرت هاذم اللذات صغُرَت في عينك الدنيا، فلا يكون أمامك صغير إلا عظم ولا عظيم إلا صغر، فتعظم أمامك أمور الدنيا وتشتاق إليها:

فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنهَا

مَنَازِلُكَ الأولَى وَفِيهَا المُخَيّمُ

وأيضًا تصغر عندك العظائم

(6)

في أمر الدنيا؛ لأنك تعلم أن ما عند اللّه خير وأبقى، فهذه دروس ينبغي أن نستفيد منها، فأيّ علم من

= قال: فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة".

(1)

نضح الرجل عن نفسه، إذا دفع عنها بحجة. انظر:"الصحاح" للجوهري (1/ 411).

(2)

"الأسى": الحزن على الشيء. انظر: "العين" للخليل (7/ 332).

(3)

"اللوعة": حرقة يجدها الرجل من الحزن والوجد. انظر: "العين" للخليل (2/ 250).

(4)

"التعريج على الشيء": الإقامة عليه. يقال: عرج فلان على المنزل، إذا حبس مطيته عليه وأقام. انظر:"الصحاح" للجوهري (1/ 328).

(5)

أخرجه الترمذي (2307) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا ذكر هاذم اللذات"، يعني: الموت. وصححه الألباني في "الإرواء"(682).

(6)

"العظيمة": النازلة الشديدة والمُلمة إذا أعضلت، جمعه العظائم. انظر:"تاج العروس" للزبيدي (33/ 111).

ص: 5918

العلوم ينبغي أن يكون منفذًا وموعظة لنا جميعًا؛ فعلم النحو نجد فيه من المواعظ، وعلم التاريخ نجد فيه من الحوادث والقصص والعبر الشيء الكثير الذي لو وقع على حجر لأثَّر فيه، وفي كتاب الله عز وجل من العبر والقصص والأمثال ما يكفي درسًا وموعظة كما قال تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]، وفي الآية الأخرى يقول:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

وفي سورة يوسف يقول أيضًا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} [يوسف: 111]، فكلُّ درس من الدروس التي نأخذها كعلم العقيدة، والحديث، والتفسير، والفقه لا بد أن نستفيد منها، لا يكفي أن نتعلم العلم ونحفظ مسائله، لا بد أن نأخذ منه العبر وأن نأخذ منه الدروس والمواعظ لنطبقها على أنفسنا، ثم نحاول قدر الإمكان أن ننقلها للآخرين، فكما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:"فوالله لأنْ يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمرِ النِّعَم"

(1)

، وفي قصة خيبر عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"لأُعطينَّ الراية غدًا لرجل يحِبُّهُ اللهُ ورسولُه ويحِبُّ اللهَ ورسولَه"

(2)

. فاشتاقَت نفوس الصحابة لذلك واشرأبت

(3)

(1)

"النعم": البهائم، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل، والإبل الحمر: أعز أموال العرب، فأخبر أنها خير من الأموال النفيسة. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 11).

(2)

أخرجه البخاري (3009) ومسلم (2406/ 34) عن سهل بن سعد، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: "لأعطين الراية غدًا رجلًا يفتح على يديه، يحب الله ورسوله، وبحبه الله ورسوله"، فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى، فغدوا كلهم يرجوه، فقال:"أين علي؟ "، فقيل يشتكي عينيه، فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه فقال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدي اللّهُ بك رجلًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم".

(3)

اشرأب الرجل للشيء وإلى الشيء: مدَّ عنقه إليه، وقيل: هو إذا ارتفع وعلا. يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 493).

ص: 5919

أعناقهم وتمنَّى كلُّ واحد منهم أن يكون هو حامل اللواء وأن يُجرِّد سيفه للقتال في سبيل الله.

فالرسول صلى الله عليه وسلم سأل عن عليِّ بنِ أبي طالب فقيل: إنه أرمد، فطلبه فبصق في عينه فشُفِي، ولكل واحد من الصحابة رضي الله عنهم من محاسن ومن فضائل، وأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه فلو وُزِن إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمانه

(1)

، وهو الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "سُدُّوا علِيَّ هذه الخوخة

(2)

إلا خوخة أبي بكر"

(3)

. وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "لو كنتُ متَّخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكرٍ خليلًا"

(4)

. وجاء بعده عمر فقال عنهما صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللَّذين من بعدي أبي بكر، وعمر"

(5)

.

هذه قضايا مهمة نعرض لها؛ ففينا مَن يحتاج إلى المواعظ أكثر مما يحتاج إلى المسائل.

(1)

أخرجه ابن عدي في "الكامل"(5/ 335)، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح". قال الألباني: "منكر". انظر: "السلسلة الضعيفة"(6343).

وصحَّ موقوفًا من قول عمر، أخرجه البيهقي في "الشعب"(1/ 143)، عن هزيل بن شرحبيل، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم". قال العراقي: "إسناده صحيح". انظر: "تخريج أحاديث الإحياء"(ص 64).

(2)

"الخوخة": باب صغير كالنافذة الكبيرة، وتكون بين بيتين ينصب عليها باب. انظر:"النهاية" لابن الأثير (2/ 86).

(3)

أخرجه البخاري (467) عن ابن عباس، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، عاصب رأسه بخرقة، فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "

سدُّوا عني كلَّ خوخة في هذا المسجد، غير خوخة أبي بكر".

(4)

أخرجه البخاري (3904) ومسلم (2382) واللفظ له: عن أبي سعيد، .. وفيه "

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولوكنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام

"" الحديث.

(5)

أخرجه الترمذي (3662) وحسنه الألباني في "المشكاة"(6061).

ص: 5920

* قوله: (وَكَانَ سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرَوْنَ ذَلِكَ رُخْصَةً لِسَالِمٍ).

إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحرصون كلَّ الحرص أن يصيبوا سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانوا بعدَ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حدثت حادثة، أو نزلت نازلة عرضوا الأمر على كتاب الله فإن لم يجدوه عرضوه على سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم كما حدث من أبي بكر وعمر ومن غيرهما.

وهذه قصة الجدة وإن أبا بكر فرح بذلك عندما نُقل له أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس

(1)

.

إذًا رأينا من هذا أنه يرجع في الأمر إلى المصدرين الأساسيين، فإن لم يوجد حينئذ يُنتقل إلى الاجتهاد.

* قوله: (وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ سَالِمٍ، وَعَلَّلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِأَنَّهَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ - قَالَ: يُحَرِّمُ رَضَاعُ الكَبِيرِ).

كذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحرصون كلَّ الحرص أن يصيبوا سُنَّة من سُنن الرسول صلى الله عليه وسلم وما مَرَّ في أحكام الصلاة في الأوقات التي نُهي عن الصلاة فيها، وما حصل من حديث عائشة:"أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك ركعتين لا سفرًا ولا حضرًا، ركعتان قبل الفجر وركعتان بعد العصر"

(2)

. وأن ذلك أُشكِل على جمع من الصحابة منهم عبد الله بن عباس،

(1)

أخرجه أبو داود (2894)، وغيره، عن قبيصة بن ذؤيب، أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق، تسأله ميراثها؟ فقال: ما لك في كتاب الله تعالى شيء، وما علمت لك في سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة، "حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس"،

الحديث". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل" (1680).

(2)

أخرجها البخاري (592) وغيره عن عائشة، قالت:"ركعتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعهما سرًّا ولا علانية: ركعتان قبل صلاة الصبح، وركعتان بعد العصر".

ص: 5921

والمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن أزهر، وأنهم أرسلوا كُريبًا مولى ابن عباس إلى عائشة فأحالته إلى أمِّ المؤمنين أمّ سلمة؛ لأنَّ أمَّ سلمة لديها أمر لم يكن عند عائشة؛ لأنها هي التي سألت الرسول صلى الله عليه وسلم فبيَّن لها الحكم؛ لأنه لمَّا صلَّى بعد العصر سُئِل والتي سألته هي أمُّ سلمة كما جاء في بعض الروايات؛ لأنه نهى عن الركعتين بعد العصر وصلاها! فأرادت أن تعرف السبب، وأرادت أن تعرف هل هذا خاصٌّ بالرسول صلى الله عليه وسلم، فبيّن لها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المهتم بأمر الإسلام والمسلمين بأن جاءه أمر جلل، جاءه وفد من بني عبد القيس بإسلام قوم، قال:"فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر فهما هاتان الركعتان"

(1)

.

فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ينساهما، لكنه انشغل بأمر يهمُّ المسلمين، ولذلك لما فرغ صلى الركعتين بعد العصر.

* قوله: (بِأَنَّهَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ - قَالَ: يُحَرِّمُ رَضَاعُ الكَبِيرِ).

قد أشرنا إشارة خفيفة إلى أن من العلماء المحققين، الذين جاهدوا بسيوفهم وبأقلامهم وبألسنتهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا الرجل وقّفَ نفسه للدفاع عن الدين ونصرةً لدين الله ونصرة المؤمنين، وعاش في زمن أحوج ما يكون ذلك الزمن إلى أمثال ذلك العالم الجليل، الذي كان يُعدُّ قبسًا من نور أنار في دياجير

(2)

الظلام، إنه كان يُمثل أمَّة، فرحمه الله

(1)

أخرجه البخاري (1233) ومسلم (834)، وفيه: "

فقالت أم سلمة رضي الله عنها: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم دخل عليَّ وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار، فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قومي بجنبه فقولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول الله، سمعتك تنهى عن هاتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده، فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، فلما انصرف قال:"يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان"".

(2)

"الدياجير": جمع ديجور وهو الظلام. والياء والواو زائدتان. انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 147).

ص: 5922

تعالى وغفر له وأسكنه فسيح جناته ومن قضايا التتار الذين جاؤوا من أقصى الشرق لا يلوون

(1)

على أمَّة حتى جعلوها رميمًا

(2)

، ولا على بلد إلا حولوه رمادًا، وكانوا يسيرون كما قال ابن الأثير: كالرماد إذا درَّ فسرت إلى الريح

(3)

.

كانوا يسيرون في البلاد تقتيلًا وسلبًا ونهبًا

(4)

حتى وصلوا إلى قصبة الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت (بغداد) فهاجموها والمسلمون منشغلون بالخلافات، والله تعالى يقول:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] فاستطاع هذا الرجل أن يوحّد بين دولتين في ذلك الوقت، بين دولتي الشام ومصر فأصبح يتردد بينهما حتى استطاع أن ينسج منهما دولة واحدة، وأن يؤلف القلوب وأن يرفع المنكرات وأن يحاربها وأن يصفي النفوس، فرجع المسلمون جميعًا إلى دين الله سبحانه وتعالى، وأدركوا أن العزَّة والنصر إنما هو في الرجوع إلى دين الله كما قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]، وقال:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] فعاد التتار مرة أخرى، لكن المسلمين أذاقوهم كأس الموت كما أذاقوهم أول مرة، لأن المسلمين رجعوا إلى الله.

فلو أن المسلمين رجعوا إلى الله سبحانه وتعالى وطبقوا هذه الشريعة الخالدة التي تُطبق في هذه البلاد وترون هذه الخيرات والسعادة؛ لعادت لهم عزتهم، وقوتهم ومجدهم، ومكانتهم، ولهابهم العالم ولساسوه.

ألم يكن الرشيد رحمه الله يرفع طرفه إلى السماء فينظر إلى السحابة

(1)

لا يلوي، أي: لا يلتفت ولا يعطف عليه. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (15/ 264).

(2)

"الرميم": العظام البالية وكذلك الرمة. "مجمل اللغة" لابن فارس (ص 369).

(3)

عبارة ابن الأثير في "الكامل في التاريخ"(10/ 334) قال: لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح.

(4)

"النهب": الغنيمة، والجمع النهاب. والانتهاب: أن يأخذها من شاء. انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 229).

ص: 5923

فيقول لها: "أمطري أين كنت فسيأتيني خراجك"

(1)

. ذلك دليل على اتِّساع الدولة الإسلامية التي امتدت حتى وصلت إلى بلاد الأندلس، فلمَّا انشغل المسلمون بالمعارك والنزاعات ونسوا كتاب الله سبحانه وتعالى وقصروا فيما يجب عليهم، زالت هيمنتهم

(2)

، وضعفت كلمتهم، وفلّ

(3)

أعداء المسلمين قناتهم

(4)

، وكسروا شوكتهم

(5)

، هذه هي حال المسلمين، فلو أنهم عادوا إلى كتاب الله عز وجل وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا ما يتعطش

(6)

إليه المسلمون في كلِّ مكان، لعادوا كما كانوا رسل خير، هداية وقادة أمم.

ألم يكن العرب في الجاهلية رعاة شاة وغنم، وكان أحدهم يضع على يده صنم فيسجد له ثم إذا يجوع فيأكله

(7)

، وربما يفسَّر هذا بضعف العقول ثم جاء الإسلام فصقل

(8)

تلك العقول فنظمها حتى أشرقت بنور الإيمان، واستضاءت بنور الإخلاص فتغيرت الأحوال؟!

فيأتي عمر رضي الله عنه الذي وقع في أمر من تلك الأمور في الجاهلية -

(1)

هذا أشتهر على ألسنة المعاصرين ولم أقف على من نسبه لهارون الرشيد من المتقدمين، لكن الذي وقفت عليه أنه من كلام هشام بن عبد الملك. انظر:"سبل الهدى والرشاد"، للصالحي (3/ 128)، حيث قال:"واتفق ذلك في زمن هشام بن عبد الملك حتى جيء إليه خراج الأرض شرقًا وغربًا، وكان إذا نشأت سحابه يقول: "أمطري حيث شئت فسيصل إليَّ خراجك"".

(2)

هيمن يهيمن هيمنة: إذا كان رقيبًا على الشيء. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (6/ 177).

(3)

فلَّ القوم فانفلوا، والفل: الكسر وجمعه فلول، ويقال: فلك: كسرك بخصومته وعذله. انظر: "الغريبين" للهروي (5/ 1475).

(4)

"القناة": الرمح وواحدة القنى. "معجم ديوان الأدب"، للفارابي (4/ 28).

(5)

يشاك شوكًا، أي: ظهرت شوكته وحدته، فهو شائك السلاح. انظر:"الصحاح" للجوهري (4/ 1595).

(6)

"تعطش": تكلف العطش. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص 598).

(7)

يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 384) حيث قال: وذكر القرطبي أن أهل الجاهلية كانوا يعملون الأصنام من كل شيء حتى إن بعضهم عمل صنمه من عجوة ثم جاع فأكله.

(8)

"الصقل": الجلاء، وبالسين جائز. انظر:"العين" للخليل (5/ 64).

ص: 5924

ويقف عند الحجر الأسود ويقول: "واللهِ إني لأعلم إنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتك"

(1)

.

هذا هو شأن المؤمنين حقًّا؛ إذ يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 2 - 4]. وقال أيضًا: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم: 63].

وشيخ الإسلام رحمه الله قد انصرف عن كل أمر حتى انشغل عن الزواج؛ لأنه وجد أن عصره بحاجة إليه، إذ هو رجل ولا كل الرجال، فلو اجتمع جمع غفير من الرجال لم يستطيعوا أن يقولوا ولا أن يؤدوا بعض ما أدَّاه.

وهو رجل قد رزقه الله سبحانه وتعالى قوَّة الإيمان، وقوة الإخلاص؛ إذ وقَّفَ نفسه لخدمة هذا الدين، يجتمع عدد غفير من العلماء ليناقشوه فينقطع أعماله، ما انقطع يومًا من الأيَّام؛ لأنه أخلصَ لله سبحانه وتعالى؛ لأنه طلب العلم خالصًا لوجه اللّه.

بل يناقش بعض العلماء في مذاهبهم فينقطعون ولا ينقطع، ويطلبون منه أن يؤجّل الأمر، وهو نفسه رحمه الله يقول:"وكنت أعلم أنهم يريدون الإعداد لذلك، لكن المسألة تتكرر"

(2)

.

رحمه الله نظر إلى هذه الأدلة نظرة العالم الفاحص العميق الذي قَلَّب هذه الشريعة الإسلامية فأدرك لُبَّها، وغاص في أعماقها، وتذوَّق من أسرار هذه الشريعة، وشرب من صفائها ولذلك اتَّجه رحمه الله إلى ما يقوله جمهور العلماء أصلًا بأن التحديد ينبغي أن يكون في الصغر، أي: أن

(1)

أخرجه البخاري (1597)، ومسلم (12709).

(2)

لم أقف على هذا القول.

ص: 5925

التحريم إنما هو في الصغر، لكن ليس لنا دليل صريح يدلُّ على أن الكبير لا يمكن أن يُرضَع، إذ لم يأتِ دليلٌ صريحٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصّ سالمًا بذلك.

والرسول صلى الله عليه وسلم مُبلِّغ، وأن ذلك جاء بنص الكتاب العزيز حيث قال تعالى اسمه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، أي: ليبين لهم الذي اختلفوا فيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يبيِّن للناس الحق؛ إذ أرسله الله سبحانه تعالى للناس بشيرًا ونذيرًا، إلى الناس كافة إنسِهم وجنِّهم كبيرِهم وصغيرِهم.

ويقول علماء الأصول: "تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز"

(1)

.

فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يَرد عنه أنه خَصَّ ذلك بسالم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نبَّه على ذلك كما جاء في بعض الأدلة، فقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم.

إذًا يكون التحريم في الصِغَر لكن لو ظهرت ظاهرة، أو وقعت واقعة كالتي أُحرج فيها أبو حذيفة رضي الله عنه وزوجه أيضًا سهلة بنت سُهيل؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم رفع هذا الإشكال وحلَّه فقد رأى أنه يُرضع في هذه الحالة وتجوز.

هذا قولٌ قال به أحد العلماء، وذهب أكابر العلماء من الصحابة ومن التابعين ومن الأئمة الأربعة إلى تحديد ذلك في الحولين، والله أعلم.

(1)

يُنظر: "شرح الكوكب المنير" لابن النجار (3/ 451) حيث قال: "ولا يؤخر"، أي: لا يجوز تأخير البيان "عن وقت الحاجة" وصورته: أن يقول "صلوا غدًا" ثم لا يبين لهم في غد كيف يصلون ونحو ذلك؛ لأنه تكليف بما لا يطاق. وجوزه من أجاز تكليف المحال. وهذا هو الراجح عند العلماء، خلافًا للمعتزلة؛ لأن العلة في عدم وقوع التأخير عن وقت العمل: أن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به ممتنع، فالتكليف بذلك تكليف بما لا يطاق، فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وانظر:"شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص 282)، "العدة في أصول الفقه" لابن الفراء (3/ 724).

ص: 5926

قال المصنف رحمه اللّه تعالى:

(المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَاخْتَلَفُوا إِذَا اسْتَغْنَى المَوْلُودُ بِالغِذَاءِ قَبْلَ الحَوْلَيْنِ، وَفُطِمَ، ثُمَّ أَرْضَعَتْهُ امْرَأَةٌ).

الرضيع قد يستغني عن اللبن وقد لا يستغني، فربما تُرضع الأمُّ طفلها مدة عام، أو أقل من ذلك، أو أكثر، لكن لبنها يجف، وربما أن الطفل يعزف عن ذلك الثدي ولا يريد اللبن، وربما يكون عنده من النشاط والحيوية والقوة ما يمكنه أن يتناول شيئًا من الطعام، ولو كان ذلك الطعام خفيفًا فيتغذى به.

إذًا ليس شرطًا أنه يُفطم، لكن ربما يترك ذلك، أو يأتي سببٌ من الأسباب يدعو إلى ذلك فربّما يُفطم، وبعض الأطفال قد يُفطم وهو ابن سنة، أو دون ذلك أو أكثر، فليس شرطًا أن يصل إلى السنتين، لكن السن الذي يحصل به التمام والكمال إنما هما الحولان، وهذا أمر نصَّ اللّه عليه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز حين قال:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، بيَّن الله سبحانه وتعالى أن تمام الرضاعة إنما يحصل بعامين، وفي قراءة:{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ، معنى هذا: أنه قد يُفطم الصبي قبل ذلك.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يُحَرِّمُ ذَلِكَ الرَّضَاعُ")

(1)

.

مراد الإمام مالك ومعه بعض المالكية رحمهم الله جميعًا - أنه لو فُطم الإنسان مثلًا لمدة عام ونصف، لثمانية عشر شهرًا، ثمَّ بعد ذلك رضع هل هذا الرضاع يُعتبر أم لا؟ فالإمام مالك يرى أنه لا يُحرِّم.

(1)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 503) حيث قال: فإن استغنى بالطعام بعد الفطام كان غير محرم، ولو كان الاستغناء في الحولين (قوله: وسواء كان الاستغناء فيهما إلخ) صوابه وسواء رضع فيهما بعد الاستغناء بمدة قريبة أو بعيدة على المشهور؛ لأن القرب والبعد إنما يعتبران بين الاستغناء والعود للرضاع.

ص: 5927

*قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

، وَالشَّافِعِيُّ

(2)

: "تَثْبُتُ الحُرْمَةُ بِهِ").

وقال الإمامان الشافعي وأحمد

(3)

: تثبت الحُرمة في الحولين، أما أبو حنيفة فله تفصيل في ذلك: فهو يوافقهما في الحولين لكنَّه يمد ذلك إلى ثلاثين شهرًا.

فالسَّنة اثنا عشر شهرًا، إذًا السنتان أربعةٌ وعشرون شهرًا، فأبو حنيفة يزيدها نصف عام آخر، أي: ستة أشهر، فيُتمّ ذلك إلى ثلاثين شهرًا، وهو يستدلُّ بالآية في قوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، ويرى أن الفصال هنا ليس المراد به الحمل المعروف، لكن العلماء ردُّوا على ذلك، وقد جاء ما يفسر الآية: وهو أن المراد بذلك إنما هو الفصل، أي: الحمل المعروف، والمراد بالفصال إنما هو الرضاع ومدته سنتان، وأن الحمل قد يكون ستة أشهر، وقد فسر ذلك عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا سيأتي - إن شاء الله - تفصيله في أبوابٍ تتناول ذلك. لكن العلماء ردّوا هذا القول لأبي حنيفة.

فأبو حنيفة من حيث الجملة، له رواية مع جمهور الصحابة، والفقهاء أيضًا وله هذا القول.

(1)

يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 183) حيث قال: والفطام في مدة الرضاع غير معتبر كما أن الرضاع بعد مدته غير معتبر فطم أو لم يفطم، وذكر الخصاف أنه إن فطم قبل مُضي المدة وأستغنى بالطعام لم يكن رضاعًا، وإن لم يستغن ثبتت به الحرمة وهو رواية عن أبي حنيفة وعليه الفتوى.

(2)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 175) حيث قال: (وشرطه)، أي: الرضاع المحرم، أي: ما لا بدَّ منه فيه فلا ينافي عده فيما مر ركنا (رضيع حي) حياة مستقرة فلا أثر لوصوله لجوف من حركته حركة مذبوح وميت اتفاقًا لانتفاء التغذي (لم يبلغ) في ابتداء الخامسة (سنتين) بالأهلة ما لم ينكسر أول شهر فيتمم ثلاثين من الشهر الخامس والعشرين، فإن بلغها لم يحرم ويحسبان من تمام انفصاله لا من أثنائه، وإن رضع وطال زمن الانفصال.

(3)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 445) حيث قال: ولا تثبت الحرمة بالرضاع إلا بشروط أحدها: أن يرتضع في العامين ولو كان قد فطم قبله، أي: قبل ذلك الرضاع لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} .

ص: 5928

أما مالك فيرى أنه لو تجاوز العامين بشهرٍ أو شهرين وربَّما ثلاثة؛ فإن هذا لا يمنع الحُرمة.

أما الإمام الشافعي وأحمد؛ فيقيّدان ذلك بالعامين؛ فلو أن إنسانًا فُطِم لمدة عام أو لعامٍ ونصف، أو أقل أو أكثر ولم يصل إلى الحولين، ثم رضع قبل أن يُتمَّ الحولين، فإن الحُرمة تثبت، أي: نفرض أن رضيعًا رضع من أمِّه سَنةً ونصف، ثم بعد العام والنصف جاءت امرأةٌ فأرضعته الرضعات الشرعية المعروفة، ألقمته الثدي فأخذه فترة حتى تركه، ثم كررت ذلك خمس مرات، فإنه يثبت الرضاع، وتثبت الحُرمة والمحرمية عند الإمامين الشافعي وأحمد في ذلك.

وبعض الحنابلة يرى أنه لو تجاوز ساعة لا تثبت الحُرمة في ذلك

(1)

.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ"

(2)

، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ الرَّضَاعَ الَّذِي يَكُونُ فِي سِنِّ المَجَاعَةِ كيْفَمَا كَانَ الطِّفْل، وَهُوَ سِنُّ الرَّضَاعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ إِذَا كانَ الطِّفْلُ غَيْرَ مَفْطُومٍ، فَإِنْ فُطِمَ فِي بَعض الحَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ رَضَاعًا مِنَ المَجَاعَةِ، فَالاخْتِلَافُ آيِلٌ إِلَى أَنَّ الرَّضَاعَ الَّذِي سَبَبُهُ المَجَاعَةُ وَالافْتِقَارُ إِلَى اللَّبَنِ هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الافْتِقَارُ الطَّبِيعِيُّ لِلْأَطْفَالِ، وَهُوَ الافْتِقَارُ الَّذِي سَبَبُهُ سِنُّ الرَّضَاعِ؟ أَوِ افْتِقَارُ المُرْضَعِ نَفْسِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْتَفِعُ بِالفَطْمِ، وَلَكِنَّهُ مَوْجُود بِالطَّبْعِ؟ وَالقَائِلُونَ بِتَأْثِيرِ الإِرْضَاعِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ سَوَاءٌ مَنِ اشْتَرَطَ مِنْهُمُ الفِطَامَ، أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْه، اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ المُدَّةِ، فَقَالَ: هَذِهِ بِالمُدَّةِ حَوْلَانِ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ

(3)

).

(1)

وهو قول أبي الخطاب، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (8/ 178) قال أبو الخطاب: لو ارتضع بعد الحولين بساعة، لم يحرم.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

ليس قول زفر ورده الشارح وقول زفر قد تقدَّم.

ص: 5929

ليس هو قول زُفر، وإنما هو أيضًا قول الإمامين الشافعي وأحمد، فنحن فصلنا وأوجزنا أن مَن قال بالعامين هما الإمامان (الشافعي وأحمد)، ومنهم من قال بالعامين لكن زاد عليه قليلًا وهو (مالك)، ومنهم من زاد ستة أشهر وهو (أبو حنيفة) في رواية. ومنهم مَن رأى أن إرضاع الكبير أيضًا يُحرِّم؛ واستدلُّوا بقصة سالم، وقد وقفنا عند هذه المسألة كثيرًا، وعلَّقنا عليها.

* قوله: (وَاسْتَحْسَنَ مَالِكٌ التَّحْرِيمَ فِي الزِّيَادَةِ اليَسِيرَةِ عَلَى العَامَيْنِ. وَفِي قَوْلٍ الشَّهْرُ عَنْهُ

(1)

، وَفِي قَوْلٍ عَنْهُ: إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ

(2)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "حَوْلَانِ وَسِتَّةُ شُهُورٍ"

(3)

).

واستدلَّ أبو حنيفة بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، لكن رُدَّ على هذا، وأن المراد بالحمل ليس كما فسَّر أبو حنيفة، وإنما هو الحمل المعتاد، والمراد به: أن مدَّة الرضاع حولين، وقد يولد المولود أيضًا لستة أشهر؛ وقصّة عليِّ بن أبي طالب في ذلك معروفة، في قصة المرأة التي ولدت بعد ستة أشهر.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مَا يُظَنُّ مِنْ مُعَارَضَةِ آيةِ الرَّضَاعِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ المُتَقَدِّمِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، يُوهِمُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى هَذَيْنِ الحَوْلَيْنِ لَيْسَ هُوَ رَضَاعَ مَجَاعَةٍ مِنَ اللَّبَنِ، وَقَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام:"إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ" - يَقْتَضِي عُمُومُهُ أَنَّ مَا دَامَ الطِّفْلُ غِذَاؤهُ اللَّبَنُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّضَاعَ يُحَرِّم".

(1)

يُنظر: "شرح ابن ناجي على متن الرسالة"(2/ 89) حيث قال: وقيل باعتبار شهر فقط رواه ابن الماجشون.

(2)

يُنظر: "شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة"(2/ 89) حيث قال: "وروى أبو الوليد اعتبار ثلاثة أشهر". وانظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" لخليل (5/ 113).

(3)

تقدَّم.

ص: 5930

مُرَادُهُ بحَدِيثِ عَائشَةَ: قَوْله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ"، ومعناه: ما رَضَعه الصبي، فعصمه من الجوع.

ومعنى ذلك: أنَّه لو رضع بعد الحولين، من مجاعةٍ، فَعَصمه من الجوع، أنَّ هذا الرضاع محرِّم.

وهذا المعنى يُعَارضه في الظاهر آية: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ، فمعناها: أنه يكون للرضاع حكم التحريم إذا كان في الحولين، وكان قَدْر ما ترد به المجاعة، وهو ما قدَّرته السُّنَّة، وحدَّته بخمس رضعات، وما كان في غير مدة الحولين فلا يقع به التحريم.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَأَمَّا هَلْ يُحَرِّمُ الوَجُورُ

(1)

، وَاللَّدُودُ

(2)

؟).

ويُلحق بهما السّعوط، ولكن المؤلف ذكر له مسألة صغيرة مستقلة.

و"الوجور": هو أن يُؤخذ اللبن إما أن يُصب في إناء، أو في كأس، أو يوضع في هذا الثدي الذي يرضع به الصغير، يُحلب من ثدي المرأة الأم ثم يُسقى إياه، أي: يُصبُّ في حلقه، هذا يُسمى بالوَجور بفتح الواو.

فهل هذا تقوم به الحُرمة كالحال بالنسبة للرضاع من المرأة؟ الأصل - كما هو معلوم - أن الارتضاع إنما يكون من الثدي؛ بمعنى: أن يلتقم الصغير الثدي فيمتصه. وقد عرفنا أو رجَّحنا أن الرضعات التي تُحرّم هي خمس، وقد مر ذلك بشيءٍ من التفصيل في حديث عائشة رضي الله عنها:"كان فيما نزل من القرآن عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يُحرِّمن، ثم نُسخْن بخمس، فتُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنَّ فيما يُقرأ من القرآن"

(3)

. وقد بينَّا المراد من هذا الحديث.

(1)

"الوجور": الدواء يوجر في وسط الفم. انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 844).

(2)

"اللدود": هو ما يصب من الأدوية في أحد شقي الفم. انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 535).

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 5931

إذًا لو حلبت امرأةٌ من ثديها في إناءٍ أو في كأس، فوُضع في فم هذا الصغير فشربه ثم تكرر ذلك إلى خمس مرات هل يُنزَّل ذلك منزلة الارتضاع من الثدي؛ هذا هو الوَجور.

وأما "اللُّدود": بضمِّ اللام فالمراد به: أن يؤخذ بطرف لسان الصغير فيُمال إلى أحد شقي فمه؛ فيؤخذ باللسان فيُتَّجه به إلى أحد الشقين، ثم يُصبُّ اللبن في الشق الآخر، وليس ذلك خاصًّا باللبن بل يدخل في ذلك الدواء وغيره، وهذا يُسمى باللُّدود.

إذًا الوَجور واللُّدود كلامها يُصبّ عن طريق الفم، والفم - كما تعلمون - إنما هو المكان الأصلي الذي يصل عن طريقه الغذاء إلى الجوف، وربما يأتي أيضًا عن طريق الأنف كالحال بالنسبة (للسعوط) الذي سيتكلم عنه المؤلف. وربما يأتي عن طريق الحقنة، وربما يوجد جرحٌ في البدن أو ثقبٌ فيوصَل إليه أيضًا، فهل هذا داخل أم لا؟

مسألة (الوَجور) اختلف فيها العلماء؛ فالجمهور قالوا: إن الوَجور يُحرِّم كما يُحرِّم الارتضاع من الثدي؛ لأن العلَّة الموجودة في الارتضاع من الثدي موجودةٌ هنا؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن أنه: "لا رضاعَ إلَّا ما أنشز العظم وأنبت اللحم"

(1)

. وهذا اللبن الذي يُصبّ سواءٌ التقمه الصبي من ثدي المرأة أو صُبَّ في حلقه؛ فإنه سيسير في هذا المجرى إلى أن يصل إلى الجوف فيستقر في المعدة، ثم بعد ذلك يحمله الدم إلى بقية أجزاء الجسم.

إذًا بهذا يتغذَّى منه، فالحكمة والعلة موجودة؛ فهم يقولون: لا نرى فرقًا وإن كان الأصل هو الارتضاع، فلا فرق بين مَن يرتضع من الثدي مباشرة، ومن يُصب في حلقه اللبن ما دام قد وصل إلى الجوف وتحقق فيه ما يتحقق بالنسبة للرضاعة المعروفة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن أن الرضاعة من

(1)

تقدَّم تخريجه.

ص: 5932

المجاعة، وأن الرضاع الذي يُحرِّم هو ما أنشز العظم وأنبت اللحم، يعني: ما أحيا العظم وما أنبت اللحم.

* قوله: (وَبِالجُمْلَةِ مَا يَصِلُ إِلَى الحَلْقِ مِنْ غَيْرِ رَضَاعٍ؟).

أي: هل تحصل به الحُرمة وما يتفرع عنها وهي المحرمية أم لا؟ الجواب: فيما يظهر: أن ذلك يحصل به؛ لأن القصد والغاية هي التغذي، والتغذي يحصل؛ لأن هذا اللبن سينزل إلى الجوف، وإلى المعدة فيحصل الغذاء به.

*قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: "يُحَرّمُ الوَجُورُ وَاللَّدُودُ"

(1)

. وَقَالَ عَطَاءٌ

(2)

، وَدَاوُدُ

(3)

: "لَا يُحَرِّمُ").

ليس هذا هو قول مالك وحده؛ إنما هو قول أبي حنيفة

(4)

، والشافعي

(5)

، وأحمد

(6)

، وأكثر الأئمة توسُّعًا في ذلك هو الإمام الشافعي؛

(1)

يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 116) حيث قال: (ويحرم بالوجور) بفتح الواو، وهو ما صب في وسط الفم وتحت اللسان، و (السعوط) بفتح السين، وهو ما صب في المنخر، ظاهر كلامه أن السعوط يحرم، وإن لم يتحقق وصوله للجوف. وانظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 503).

(2)

أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 462)، عن ابن جريج قال: أرسلت إلى عطاء إنسانًا في سعوط اللبن الصغير وكحله به أيحرم؟ قال: "ما سمعنا أنه يحرم".

(3)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 186) حيث قال: وهو قول أبي سليمان، وأصحابنا.

(4)

يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 186) حيث قال: والسعوط والوجور يثبت بهما التحريم بالاتفاق لحصول النشوء بهما. وانظر: "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(3/ 209).

(5)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 175) حيث قال: (ويحرم إيجار) وهو صب اللبن في الحلق قهرًا لحصول التغذي به، ومن ثَمَّ اشترط وصوله للمعدة ولو من جائفة لا مسام، فلو تقيأه قبل وصولها يقينًا لم يحرم (وكذا إسعاط) بأن صب اللبن من الأنف حتى وصل للدماغ (على المذهب) لذلك.

(6)

يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (5/ 601) حيث قال: وسعوط في أنف ووجور في فم كالرضاع في تحريم ولوصول اللبن بذلك إلى جوفه كوصوله بالارتضاع وحصول إنبات اللحم وانتشار العظم به كما يحصل بالرضاع، والأنف سبيل لفطر =

ص: 5933

لأن العلماء تكلموا عن الحقنة؛ فنجد أن (المالكية

(1)

، والحنفية

(2)

، والحنابلة

(3)

) قالوا بأن الحقنة لا تُحرِّم؛ يعني: لو وُضع اللبن في الحقنة ثم بعد ذلك وُضعت في جسم هذا الصغير، فالشافعية انفردوا

(4)

ووافقهم بعض الحنابلة

(5)

في هذه المسألة.

وبعد أن تقدَّم الطب، وظهرت كثيرٌ من الأمور التي ربما كانت تُجهل، نجد أن ذلك يشهد لمذهب الشافعية؛ فكم من أُناسٍ شاهدناهم أو سمعنا عنهم، أو رأيناهم إنما عاشوا أوقاتًا طويلة بسبب هذه الإبر المغذية؛ فتجد أن بعض الناس يعيش أيامًا، وبعضهم شهورًا وربما سنوات، وهذا قد حصل في وقتنا هذا. والعلماء عندما تكلموا في الصيام

= الصائم فكان سبيلًا للتحريم كالرضاع بالفم. وانظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 446).

(1)

يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (2/ 720) حيث قال: (أو) وصوله للجوف بسبب (حقنة) بضم الحاء المهملة: دواء يصب في الدبر، (تغذي)، أي: الحقنة؛ أي: تكون غذاء لا مطلق وصول بها. وانظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 503).

(2)

يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 9) حيث قال: والحقنة لا تحرم بأن حقن الصبي باللبن في الرواية المشهورة. وانظر: "الدر المختار"، وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(3/ 219).

(3)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 445) حيث قال: (فإن وصل) اللبن (إلى فمه ثم مجه)، أي: ألقاه (أو احتقن به أو وصل إلى جوف لا يغذي كالذكر والمثانة لم ينشر الحرمة)؛ لأن هذا ليس برضاع ولم يحصل به التغذي فلم ينشر الحرمة كما لو وصل من جرح.

(4)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 127) حيث قال: (لا حقنة) وهي ما يدخل في الدبر أو القبل من دواء فلا يحرم (في الأظهر) لانتفاء التغذي؛ لأنها لإسهال ما انعقد في المعدة، والثاني: تحرم كما يحصل بها الفطر، ودفع بأن الفطر يتعلق بالوصول إلى جوف وإن لم يكن معدة ولا دماغًا بخلافه هنا، ولهذا لم يحرم التقطير في الأذن أو الجراحة إذا لم يصل إلى المعدة، ولا بد أن يكون من منفذ مفتوح فلا يحرم وصوله إلى جوف أو معدة بصبه في العين بواسطة المسام.

(5)

يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (3/ 221) حيث قال: وقال ابن حامد وابن أبي موسى: ينشر الحرمة؛ لأنه واصل إلى الجوف، أشبه الواصل من الأنف.

ص: 5934

هل هذه الحقنة تُفطِّر الصائم أم لا؟ فبعضهم فسَّر القوله في ذلك؛ فقالوا: فرقٌ بين ما كان مغذيًا وما كان غير مغذي.

إذًا إذا كانت الحقنة مغذية فلماذا لا نلحقها؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع لنا علةً واضحة؛: "إنما الرضاعة من المجاعة"

(1)

، وقال:"الرضاعة ما أنشز اللحم وأنبت العظم"

(2)

. فهل هذه تغذي؟ الجواب: نعم.

إذًا العلة موجودة، فلماذا لا نجعلها تسري على الحقنة؟

كذلك تكلَّم العلماء فيما يتعلق لو أن هذا اللبن حُوِّل جُبنًا، فهل يحصل به أيضًا ما يحصل باللبن؟ (فالشافعية

(3)

، والحنابلة

(4)

) يقولون: نعم يحصل به ذلك، (وأبو حنيفة)

(5)

يعارض في هذه المسألة؛ لأنه يرى أنه قد خرج عن مُسمَّاه؛ فالآن هذا اللبن قد أصبح يُسمَّى جبنًا، فلا يُسمى لبنًا. فتغيُّر الاسم عند أبي حنيفة له تأثير في تغيير المسمى، وعند الشافعية والحنابلة لا أثر لهذا التغير، بل إنما هو يُحرِّم. ولكن الوَجور - كما هو معلوم - ليس متَّفقًا عليه عند الحنابلة، فلهم الرواية المعروفة المشهورة

(6)

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 125) حيث قال: (ولو جبن) أو جعل منه أقط (أو نزع منه زبد) أو عجن به دقيق وأطعم الطفل من ذلك (حرم) لحصول التغذي به.

(4)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 216) حيث قال: (ويحرم ما جبن) من لبن ثاب عن حمل ثم أطعم للطفل؛ لأنه واصل من حلق يحصل به انتشار العظم وإنبات اللحم. فحصل به التحريم كما لو شربه.

(5)

يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 9) حيث قال: ولو جعل اللبن مخيضًا أو رائبًا أو شيرازًا أو جبنًا أو أقطًا أو مصلًا فتناوله الصبي لا يثبت به الحرمة؛ لأن اسم الرضاع لا يقع عليه وكذا لا ينبت اللحم ولا ينشز العظم ولا يكتفي به الصبي في الاغتذاء فلا يحرم. انظر: "حاشية ابن عابدي"(رد المحتار)(3/ 219).

ومذهب المالكية يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 503) حيث قال: والظاهر أن اللبن يحرم إذا جبن أو سمن، واستعمله الرضيع.

(6)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 216) حيث قال: (وسعوط في أنف =

ص: 5935

أنه يُحرِّم كمذهب الجمهور، ولهم رواية أخرى أنه لا يُحرم

(1)

.

*قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هَلِ المُعْتَبَرُ وُصُولُ اللَّبَنِ كيْفَمَا وَصَلَ إِلَى الجَوْفِ؟ أَوْ وُصُولُهُ عَلَى الجِهَةِ المُعْتَادَةِ؟ فَمَنْ رَاعَى وُصُولَهُ عَلَى الجِهَةِ المُعْتَادَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّضَاعِ - قَالَ: لَا يُحَرِّمُ الوَجُورُ وَلَا اللَّدُودُ)

(2)

.

لم يرد في النصوص ما يدلُّ على أنه لا يصل على الطريقة المعتادة، وإنما الذي جاء فيه أنه من المجاعة رضاعًا؛ فالآن لو أن امرأةً وضعت حليبها في هذا الثدي الصغير الان الذي صار يُصنع، ثم امتصَّه الغلام، هو نفسه. وسيأتي بعد قليل الخلاف في لبن الميتة، هل يُحرِّم أم لا؟

الواقع أنه لم يرد في النصوص ما يدلُّ على التفريق؛ لأن هذا الحلق إنما هو مجرى، فهناك المريء وهناك الحلقوم، فيمشي إلى أن يصل إلى المعدة فيستقر فيها، ثم بعد ذلك يتغذَّى منه الجسم.

وهذا اللَّبن يُسمَّى بالغذاء، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، أن ذلك الدم الذي كان في هذه المرأة تحول إلى هذا اللبن الأبيض الذي جعله الله سبحانه وتعالى غذاءً لهذا الطفل.

* قوله: (وَمَنْ رَاعَى وُصُولَ اللَّبَنِ إِلَى الجَوْفِ كَيْفَمَا وَصَلَ، قَالَ: يُحَرِّمُ)

(3)

.

وهذا هو رأي أكثر العلماء، وفي نظرنا أن هذا هو الأقرب لروح

= ووجور في فم كرضاع) في تحريم. ولوصول اللبن بذلك إلى جوفه. كوصوله بالارتضاع وحصول إنبات اللحم وإنشاز العظم به كما يتحصل بالرضاع، والأنف سبيل لفطر الصائم فكان سبيلًا للتحريم كالرضاع بالفم.

(1)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 173) حيث قال: والثانية لا يثبت بهما التحريم. وهو اختيار أبي بكر.

(2)

وهو مذهب عطاء الخراساني وداود الظاهري.

(3)

وهم الجمهور وأكثر العلماء.

ص: 5936

الشريعة ولنصوصها؛ لأن الشريعة وضعت لنا غاية، ووضعت لنا علة، وسببًا، هذا السبب هو ما يُنبت لحمه، وما يُنشز

(1)

عظمه، وأنه يحصل من الجاعة بمعنى أن الطفل يستفيد من هذا اللبن.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: وَأَمَّا هَلْ مِنْ شَرْطِ اللَّبَنِ المُحَرِّمِ إِذَا وَصَلَ إِلَى الحَلْقِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُخَالِطٍ لِغَيْرِهِ؟ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا).

أي: هناك لبن يُعرف باللبن المحض، وهناك اللبن الخليط، أي: المخلوط بغيره. فنحن قد عرفنا أن العلماء قد أجمعوا على أنه إذا ارتضع الطفل من ثدي امرأةٍ، وتحقق بذلك الشروط التي ذكرها العلماء قبل؛ ومنها خمس رضعات، فإن ذلك يُحرِّم. ورأينا الخلاف في الوَجور وكذلك اللّدود، ورأينا أن أكثر العلماء يرون أن ذلك يُحرِّم كالارتضاع من المرأة مباشرة، وهذا هو الصحيح في نظرنا ولا فرق.

أما إذا خُلط هذا اللبن بغيره، فهل هذا الخليط يسلبه الحكم أم لا؟ أم أن هناك تفصيل؛ بمعنى: أنه إذا كثُر المخالِط فغلب على اللبن، وقد درسنا في أحكام الطهارة هنا أن الماء قد قسَّمه العلماء إلى أقسامٍ ثلاثة: طهور وطاهر ومطهِّر، ورأينا من ذلك أن الماء إذا خالطه أحد التغيرات كماء الورد أو الزعفران هل يؤثر فيه أم لا؟ فبعض العلماء قال: يؤثر مطلقًا، وبعضهم فصَّل القول في ذلك فقال: ما لم يسلبه اسمه؛ فإن قيل: ماء ورد أو ماء زعفران ونحو ذلك خرج على الاسم فلا يُصبح مطهِّرًا وهذا هو الصحيح، أما إذا كان قليلًا فلا. وعرفنا أن الماء الطهور لا يغيره إلا ما غيَّر لونه أو ريحه أو طعمه كما مر

(2)

.

فهذا اللبن إذا خالطه ماءٌ، أو نوع من أنواع الطعام فهل يؤثر عليه أم لا؟

(1)

"نشز العظم نشوزًا"، أي: علا وارتفع. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 49).

(2)

تقدَّمت المسألة في باب الطهارة.

ص: 5937

من العلماء من قال: لا تأثير له مطلقًا.

ومنهم من قال: إن بقي هذا اللبن يحمل اسمه فلا تأثير؛ لأن الغذاء سيتحقق وإن خالطه ماءٌ أو طعام، فإن تأثير اللبن سيبقى في المعدة.

وأما إذا خالطه غيره فسلبه الاسم: بمعنى غمره، فذاب اللبن وضاع في هذا المخالِط فإنه لا تأثير له.

* قوله: (فَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ: "إِذَا اسْتُهْلِكَ اللَّبَنُ فِي مَاءٍ أَوْ غَيْرهِ")

(1)

.

بمعنى: أنك لا تسمِّيه لبنًا، وإنما تسميه ماءً أو تسميه مرقًا أو نحو ذلك.

* قوله: (ثُمَّ سُقِيَهُ الطِّفْلُ - لَمْ تَقَعِ الحُرْمَةُ).

وبعض العلماء قال: يؤثر وإن خالطه غيره فسلبه اسمه؛ لأن اللبن له تأثيرٌ قوي.

*قوله: (وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ)

(2)

.

(1)

يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 177) حيث قال: (ص) أو خلط لا غلب (ش) أي: وكذلك يحرم ما وصل إلى الجوف من اللبن ولو خلط بغيره من ماء أو عقاقير كعنزروت أو مر أو طعام إن كان اللبن مساويًا أو غالبًا لا إن غلب بغيره فلا يحرم على الأصحِّ، وهو قول ابن القاسم خلافًا للأخوين وبعبارة أو خلط بغير وينظر:"النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (5/ 74) حيث قال: وما خلط من دواء أو طعام بلبن فأطعم صبيًّا بابن القاسم لا يحرم به حتى يكون اللبن هو الغالب.

(2)

يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (5/ 269 - 270) حيث قال: (وإذا اختلط اللبن بالماء، واللبن هو الغالب) ش: أي والحال أن اللبن هو الغالب على الماء م: (تعلق به التحريم) ش: لأن الحكم للغالب م: (هان غلب الماء لم يتعلق به التحريم، خلافًا للشافعي) ش: فإن عنده على الأصح يتعلق به التحريم إذا كان مقدار خمس رضعات من اللبن وبه قال أحمد، وكذا الخلط بالدواء، أو بلبن بهيمة، أو بكل مائع أو جامد، واعتبر مالك أن يكون اللبن مستهلكًا في جميع ذلك، لعدم تعلق التحريم به.

ص: 5938

والشافعي

(1)

، ورواية لأحمد

(2)

.

* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ حَبِيبٍ، وَمُطَرِّفٌ، وَابْنُ المَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ

(3)

: "تَقَعُ بِهِ الحُرْمَة، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوِ انْفَرَدَ اللَّبَنُ أَوْ كانَ مُخْتَلِطًا لَمْ تَذْهَبْ عَيْنُهُ").

فعند الشافعية مطلقًا، وأكثر العلماء توسُّعًا في هذا المقام إنما هم الشافعية، ومعهم بعض الحنابلة أيضًا.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ يَبْقَى لِلَّبَنِ حُكْمُ الحُرْمَةِ إِذَا اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ؟ أَمْ لَا يَبْقَى بِهِ حُكْمُهَا، كالحَالِ فِي النَّجَاسَةِ إِذَا خَالَطَتِ الحَلَالَ الطَّاهِرَ؟ وَالأَصْلُ المُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ انْطِلَاقُ اسْمِ اللَّبَنِ عَلَيْهِ كالمَاءِ هَلْ يَطْهُرُ إِذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ؟).

(1)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 125) حيث قال: (ولو خلط) اللبن (بمائع) طاهر كماء أو نجس خمر (حرم إن غلب) على المائع بظهور أحد صفاته من طعم أو لون أو ريح؛ إذ المغلوب كالمعدوم، وسواء أشرب الكل أم البعض (فإن غلب) بأن زالت أوصافه الثلاثة حسًّا وتقديرًا (وشرب) الرضيع (الكل) حرم (قيل: أو) شرب (البعض حرم) أيضًا (في الأظهر) لوصول اللبن إلى الجوف.

(2)

يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (3/ 222) حيث قال: اللبن المشوب كالمحض في نشر الحرمة. ذكره الخرقي. وهذا إذا كانت صفات اللبن باقية، فإن صبّ في ماء كثير لم يتغير به، لم يثبت التحريم؛ لأن هذا لا يسمَّى لبنًا مشوبًا، ولا ينشز عظمًا، ولا ينبت لحمًا. وقال أبو بكر: قياس قول أحمد، أن المشوب لا ينشر الحرمة؛ لأنه وجور. وحُكي عن ابن حامد: إن غلب اللبن، حرم، وإن غلب خلطه، لم يحرم؛ لأن الحكم للأغلب، ويزول حكم المغلوب، والأوَّل أصح.

وانظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 216) حيث قال: (أو شيب)، أي: خلط بغيره [وصفاته]، أي: لونه وطعمه وريحه [باقية] فيحرم كالخالص؛ لأن الحكم للأغلب، ولبقاء اسمه ومعناه. فإن غلب ما خالطه به لم يثبت به تحريم؛ لأنه لا ينبت به اللحم ولا ينشر العظم.

(3)

يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (5/ 74) حيث قال: وقال مطرف، وابن الماجشون: يحرم به وإن كان اللبن الغالب.

ص: 5939

كما مرَّ وأشرنا إليه.

* قوله: (المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَأَمَّا هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الوُصولُ إِلَى الحَلْقِ؟ أَوْ لَا يُعْتَبَرُ؟).

جرت عادة العلماء أن يجمعوا بين المسألة الرابعة التي ذكر المؤلف، وبين المسألة السادسة، لكن لماذا فصَل المؤلف بينهما مع صِغر كل من المسألتين؟ الجواب: لأن المسألة الأولى التي ذكر فيها الوَجور واللدود؛ إنما يأتيان عن طريق الفم، والسعوط إنما يأتي عن طريق الأنف؛ فلمَّا كان المدخل مختلفًا - وإن كانت النهاية واحدة والغاية واحدة -، فرَّق المؤلف بينهما؛ فعقد للسعوط مسألةً مستقلة.

والمراد بالسّعوط: ما يُصبُّ في أنف الصغير من اللبن وغير اللبن، ومرادنا هنا اللبن. فهل هذا اللبن الذي يُصبُّ عن طريق الأنف يُحرِّم أم لا؟ (عند الشافعية

(1)

، والحنفية

(2)

، والحنابلة

(3)

) يُحرِّم.

* قوله: (فَإِنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ سَبَبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي السَّعُوطِ

(1)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 126) حيث قال: (وكذا إسعاط) وهو صبُّ اللبن في الأنف ليصل الدماغ يحرم أيضًا (على المذهب) لحصول التغذي بذلك؛ لأن الدماغ جوف له كالمعدة.

(2)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(3/ 209) حيث قال: (قوله وألحق بالمص إلخ) تعريض بالرَّدِّ على صاحب البحر حيث قال التعريف منقوض طردًا؛ إذ قد يوجد المصُّ ولا رضاع إن لم يصل إلى الجوف وعكسًا؛ إذ قد يوجد الرضاع ولا مص كما في الوجور والسعوط. ثم أجاب بأن المراد بالمصِّ الوصول إلى الجوف من المنفذين، وخصه لأنه سبب للوصول فأطلق السبب وأراد المسبب. واعترضه في النهر بأن المص يستلزم الوصول إلى الجوف لما في القاموس: مصصته شربته شربًا رقيقًا، وجعل الوجور والسعوط ملحقين بالمص. وانظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 9).

(3)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 446) حيث قال: (وسعوط في أنفه ووجور في فمه كرضاع) يحصل به ما يحصل بالرضاع من الغذاء، والسعوط أن يصب اللبن في أنفه من إناء أو غيره فيدخل حلقه.

ص: 5940

بِاللَّبَنِ وَالحُقْنَةِ بِهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَوْضِعِ الشَّكِّ، هَلْ يَصِلُ اللَّبَنُ مِنْ هَذه الأَعْضَاءِ؟ أَوْ لَا يَصِلُ؟).

الذين قالوا بأن السعوط يُحرِّم إنما قاسوه على الصيام

(1)

؛ فقالوا: لو أنه دخل إلى جوف الإنسان شَيْءٌ عن طريق الأنف ألَا يُفطِّر؟ قالوا: بلى، والذين منعوا ذلك قالوا: فرق بين الصيام وغيره؛ لأن الصيام لا يُشترط فيه إنشاز العظم وإنبات اللحم، بينما هنا في الرضاع يُشترط ذلك. وأكثر العلماء على أن السعوط يُلحَق بالوَجور؛ لأنه سيمر عن طريق الحلق، ثم بعد ذلك ينزل إلى المعدة فيؤثر.

* قوله: (المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَأَمَّا هَلْ يَصِيرُ الرَّجُلُ الَّذِي لَهُ اللَّبَن، أَعْنِي: زَوْجَ المَرْأَةِ، أَبًا لِلْمُرْضَعِ؟).

هذه من المسائل المهمّة التي ينبغي أن نقف عندها ونُبيّنها، وإن كان الخلاف فيها ليس كبيرًا فإذا نظرنا إلى القائلين بها، نجد أن كثير العلماء والصحابة وعلماء الحديث والأئمة الأربعة كلهم على أن اللَّبن يُحرم الأمّ بالنسبة للرجل؛ لأنَّ لبن الفحل

(2)

يحرم.

ولذلك نجد أن الإمام (أحمد) فسَّرَ ذلك بقوله أن يكون للرجل امرأتان فتُرضِع إحداهما طفلًا صبيًّا وتُرضع الأخرى صبيَّة فلا يجوز للصبيِّ أن يتزوج الصبية إذا كَبِر

(3)

.

ولما سُئل عبد الله بن عباس عن مثل هذه المسألة: رجل له امرأتان

(1)

يُنظر: "المهذب في فقة الإمام الشافعي" للشيرازي (لمم 143) حيث قال: ويثبت بالسعوط؛ لأنه سبيل لفطر الصائم فكان سبيلًا لتحريم الرضاع كالفم.

(2)

"الفحل": الرجل تكون له امرأة ولدت منه ولدًا ولها لبن؛ فكل من أرضعته من الأطفال بهذا اللبن فهو محرم على الزوج وإخوته وأولاده منها، ومن غيرها؛ لأن اللبن للزوج حيث هو سببه. انظر:"النهاية" في "غريب الحديث والأثر"(4/ 227).

(3)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 113) حيث قال: قال أحمد: لبن الفحل أن يكون للرجل أمرأتان، فترضع هذه صبية وهذه صبيًّا لا يزوج هذا من هذا.

ص: 5941

فأرضعت إحداهما جارية والأخرى أرضعت غلامًا، هل يتزوج الصبي الجارية؟ فقال ابن عباس:"لا، اللقاح واحد"

(1)

.

وسيأتي حديث عائشة رضي الله عنها وهناك خلاف مشهور نُسِب إلى عبد اللّه بن الزبير وهي قضية معروفة، وهناك من خالف في هذه المسألة من التابعين.

والخلاف يدورُ حول ما ذكره المؤلف؛ لأن الله تعالى قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "تُحرِم الرضاع ما تُحرِم الولادة"

(2)

، وقال:"يحرُم من الرضاع ما يحرُم من النسب"

(3)

. ومن الذي يُرضِع؟ إنما هي المرأة، فهل هذا يسري إلى هذا الرجل؛ لأن هذا الحمل أصلًا وُجِدَ بسبب وطء هذا الرجل فحملت هذه المرأة، فجاءت بعد ذلك بهذا اللبن.

والخلافُ يدور أيضًا حول ما جاء في قول اللّه تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، والأحاديث التي ذكرت بعضًا منها.

* قوله: (حَتَّى يُحَرِّمَ بَيْنَهُمَا وَمِنْ قِبَلِهِمَا مَا يُحَرِّمُ مِنَ الآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ الَّذِينَ مِنَ النَّسَبِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا لَبَنَ الفَحْلِ؟).

لبن الفحل، أي: إرضاع الرجل.

* قوله: (فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ

(4)

، وَأَبُو حَنِيفَة

(5)

،

(1)

أخرجه الترمذي (1149)، وصحح إسناده الألباني في "صحيح الترمذي".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 952) حيث قال: ولبن الفحل يحرم ويتصور مع افتراق الأمَيْن: كرجل له امرأتان ترضع إحداهما صبيًّا، والأخرى صبية فيحرم أحدهما على الآخر؛ لأنهما أخوان للأب.

(5)

يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (1/ 218) حيث قال: "ولبن الفحل يتعلق به التحريم وهو أن ترضع المرأة صبية فتحرم هذه الصبية على زوجها =

ص: 5942

وَالشَّافِعِيُّ

(1)

، وَأَحْمَدُ

(2)

وَالأَوْزَاعَيُّ، وَالثَّوْرِيُّ

(3)

: "لبَنُ الفَحْلِ يُحَرِّمُ").

وكثير من الصحابة والتابعين والعلماء كافة إلا من قَلَّ، يقولون: بأنه يُحرِّم

(4)

.

(وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: "لَا يُحَرِّمُ لَبَنُ الفَحْلِ. وَبِالأوَّلِ قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عباسٍ

(5)

، وَبِالقَوْلِ الثَّانِي قَالَتْ عَائِشَةُ

(6)

، وَابْنُ الزُّبَيْرِ

(7)

، وَابْنُ عُمَرَ

(8)

).

= وعلى آبائه وأبنائه ويصير الزوج الذي نزل لها منه اللبن أبا للمرضعة". وانظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (5/ 266).

(1)

يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 418) حيث قال: " (فيمن يحرم بالرضاع) وتحريمه يتعلق بالمرضعة والفحل ذي اللبن ثُمَّ تسري الحرمة منهم إلى غيرهم (فتحرم المرضعة على الطفل) الرضيع؛ (لأنها أمه وآباؤها وأمهاتها من النسب والرضاع أجداده وجداته) فإن كان أنثى حرم على الأجداد نكاحها أو ذكرًا حرم عليه نكاح الجدات (والفروع كفروع النسب)، فأولادها من نسب أو رضاع إخوته، وأخواته وإخوتها، وأخواتها من نسب أو رضاع أخواله وخالاته فيحرم التناكح بينه وبينهم، وكذا بينه وبين أولاد الأولاد بخلاف أولاد الإخوة والأخوات؛ لأنهم أولاد أخواله وخالاته".

(2)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 443) حيث قال: "وإنما ثبتت أبوة الواطئ للطفل وفروعها إذا كان يلحقه نسب الحمل؛ لأن اللبن الذي ثاب للمرأة مخلوق من مائه وماء المرأة فنشر التحريم إليهما ونشر الحرمة إلى الرجل وأقاربه وهو الذي يسمَّى لبن الفحل". وانظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 113).

(3)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 563 - 564) حيث قال: "وممن كان يحرم بلبن الفحل: .. وسفيان الثوري، والأوزاعي".

(4)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 114) حيث قال: ويروى ذلك عن ابن الزبير وجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مسمين؛ لأن الرضاع من المرأة لا من الرجل.

(5)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 563) حيث قال: "اختلف أهل العلم في تحريم الرضاع بلبن الفحل: فحرمت ذلك طائفة ونهت عنه، روي هذا القول عن عليّ بن أبي طالب، وبه قال ابن عباس.

(6)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 564) حيث قال: "القاسم بن محمد: كان يدخل على عائشة من أرضعه بنات أبي بكر، ولا يدخل عليها من أرضع نساء بني أبي بكر".

(7)

سيأتي الأثر المتعلق به.

(8)

أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(8/ 564) عن عبد الله بن عمر قال: "لا بأس بلبن الفحل".

ص: 5943

أما بالنسبة لعبد الله بن الزبير فقد ذُكِر عنه ذلك في أثر، في قصة زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنهم فإن زينب ارتضعت من أسماء بنت أبي بكر زوج الزبير بن العوام رضي الله عنهم جميعًا.

فأصبحت أسماء أُمًّا لها من الرضاع، فهي تحكي في هذه القصة أن الزبير بن العوام كان يدخل عليها وكان يأخذ بقرن من رأسها التي تُسمَّى الجديلة

(1)

التي تفرقها من بعض شعر رأسها، فيقول: هَلُمَّ حدثيني، وكانت تقول: ما كنت أراه إلا أبًا، وكنت أرى أولاده إخوة لي، فما كان من عبد الله بن الزبير إلى أن أرسل إلى زينب بنت أبي سلمة يخطب منها ابنتها أمّ كلثوم لأخيه حمزة بن الزبير، وحمزة هذا إنما هو أخوه من الأب وليس شقيقه من امرأته الكلبية التي تنتسب إلى تلك القبيلة، فلمَّا أرسل إليها عبد الله بن الزبير رسوله تعجبت من ذلك؟! فقالت لرسوله: إنها ابنة أخته، هذه زينب أختهم، فرجع الرسول إلى عبد الله بن الزبير فردَّ بقوله: ما أرى إلا أنكِ أردْتِ المنع بذلك، يعني: أردت أن تجعلي ذلك عذرًا للمنع، ثم قال: أما ما أرضعت أسماء فهم إخوتها وما لا فلا، ثم قال: لها أرسلي فاسألي، فأرسلت فسألت بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: وكانوا متوافقين فأقرّوا ذلك، يعني: أن لبن الفحل لا يُحرِّم، قالت: فتزوجته حتى مات عنها

(2)

.

هذا هو الأثر الذي يُستَدلّ به، وهذا القول نُسب إلى عبد اللّه بن

(1)

"الجديلة": سير يُرصَّع فتتخذه المرأة وتعلقها، بمنزلة الوشاح. انظر:"الجيم" للخليل (1/ 127).

(2)

أخرجه الدارقطني (5/ 317) عن أمِّه زينب بنت أبي سلمة، قالت: كانت أسماء بنت أبي بكر أرضعتني، وكان الزبير يدخل عليَّ وأنا أمتشط، فيأخذ بقرن من قرون رأسي، ويقول: أقبلي علي حدثيني، وترى أنه أبي وإنما ولده إخوتي فلما كان قبل الحرة أرسل عبد الله بن الزبير يخطب أبنتي على حمزة بن الزبير، وحمزة ومصعب من الكلابية، قالت: فأرسلت إليه: وهل يصلح له؟ فأرسل إلي: إنما تريدين منع ابنتك أنا أخوك وما ولدت أسماء فهم إخوتك، وأما ولد الزبير لغير أسماء فليسوا لك بإخوة، قالت: فأرسلت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون وأمهات المؤمنين، فقالوا:"إن الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئًا".

ص: 5944

الزبير، ونُسب إلى سعيد بن المسيب، وأيضًا إلى سليمان بن يسار، وإبراهيم النخعي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن

(1)

، فقد قالوا بهذا القول، أما بقية العلماء وهم الجمهور فقالوا: إن لبن الفحل يُحرِّم، وحجتهم في هذا القول يرون أنها قطعية وقد استدلُّوا بحديث عائشة الذي أخرجه البخاري في صحيحه

(2)

، وأخرجه بعض أصحاب السُّنَن

(3)

، وأحمد

(4)

، والبيهقي

(5)

وغير هؤلاء

(6)

في قصة أخي أبي القعيس.

فإن أخا أبي القعيس جاء إلى عائشة رضي الله عنها يستأذن عليها، فقالت: والله لا آذن له، وكان ذلك بعد نزول الحجاب، أي: بعد أن أُمِرَ النساء بالحجاب.

قالت: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ثم قالت: إن أخا أبي القعيس ليس هو من أرضعني، وإنما أرضعتني امرأة أبي القعيس.

فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم لمَّا دخل عليها ذكرت له هذه القصة، فقال:"ائذني له إنه عمّك تربت يمينك"، فكانت عائشة بعد ذلك تعمل بهذا، فهذا عكس ما قاله المؤلِّف، بأن هذا قول عائشة.

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 564) حيث قال: ورخصت طائفة في ذلك. وممن روي عنه أنه رخص فيه: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار

والنخعي.

(2)

أخرجه البخاري (4796) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: استأذن عليَّ أفلح أخو أبي القعيس بعدما أنزل الحجاب، فقلت: لا آذن له حتى أستأذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وما منعك أن تأذني عمك؟ "، قلت: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فقال:"ائذني له فإنه عمك تربت يمينك".

(3)

أخرجه أبو داود (2057)، والنسائي (3316).

(4)

أخرجه أحمد (24102).

(5)

أخرجه البيهقي في "الكبرى"(7/ 744).

(6)

أخرجه ابن حبان في صحيحه (10/ 33).

ص: 5945

وعائشة صارت تفتي بذلك، بل إن عائشة رضي الله عنها بعد ذلك صارت تطلب من بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن مَن تحب أن يدخل عليها

(1)

، وهذا حديث صحيح.

والحديث الآخر كما قال العلماء أجابوا عنه بجوابين:

الأول: إن هذا الحديث الذي في قصة عبد الله بن الزبير وزينب مختلف فيه من حيث الصحة.

والأمر الآخر: عندما دقَّقوا في هذا الحديث قالوا: إنه حُجَّة لنا وليست حُجَّة علينا؛ لأن الزُّبير بن العوام، - وهو من الصحابة - يعتبر قوله فيُضم إلى جمهور العلماء؛ لأنه كان يدخل على زينب وكان يُداعبها وكان يمسك بقرن من قرون رأسها ويقول: هَلُمَّ إليَّ، أي: التفتي إليَّ حدثيني، وكانت هي لا تراه إلا أبًا لها، وكان يتحدث معها، إذًا هذا حجَّة أيضًا.

وخلاصة القول: بأن لبن الفحل يُحرِّم، والقول الراجح ما قال به جماهير العلماء.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الكِتَابِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ المَشْهُورِ، أَعْنِي: آيَةَ الرَّضَاعِ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ هُوَ قَالَتْ: "جَاءَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي القُعَيْسِ يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَ الحِجَاب، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَه، وَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: "إِنَّهُ عَمُّكِ، فَأْذَنِي لَهُ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي المَرْأَة، وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ! فَقَالَ:"إِنَّهُ عَمُّكِ، فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ"، خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ

(2)

، وَمُسْلِمٌ

(3)

، وَمَالِكٌ

(4)

، فَمَنْ رَأَى أَنَّ مَا فِي الحَدِيثِ شَرْعٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه مسلم (1445).

(4)

أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 602).

ص: 5946

تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، وَعَلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الوِلَادَةِ"

(1)

- قَالَ: لَبنُ الفَحْلِ مُحَرِّمٌ).

أي: هذا يُعتَبر عمها من الرضاع.

وحجة الذين منعوا ذلك هو عموم قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} . فالله تعالى نصَّ على الأمهات؛ لأنَّ الإرضاع يتم عن طريق النساء، ولكن هذا اللبن إنما سال بواسطة هذا الرجل، فيَحرُم من الرضاع ما يَحرُم من النَّسب، أو تُحرِّم الرضاعة ما تُحرِّم الولادة، وهذا لا ينفي أن يكون لبن الفحل يُحرِّم، ولكن هذا حديث عمَّن يحصل منها الإرضاع.

* قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ آيَةَ الرَّضَاعِ وَقَوْلَهُ: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الوِلَادَةِ"

(2)

إِنَّمَا وَرَدَ عَلَى جِهَةِ التَّأصِيلِ لِحُكْمِ الرَّضَاعِ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ

(3)

- قَالَ: ذَلِكَ الحَدِيثُ إِنْ عُمِلَ بِمُقْتَضَاه، أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِهَذِهِ الأُصُولِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ المُغَيِّرَةَ لِلْحُكْمِ نَاسِخَةٌ، مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ مَذْهَبُهَا التَّحْرِيمَ بِلَبَنِ الفَحْلِ، وَهِيَ الرَّاوِيَةُ لِلْحَدِيثِ).

دعوى النَّسخ غير مُسلَّمة هنا؛ لأنَّ هذا الحديث وغيره من الأحاديث إنما جاءت بيانًا لكتاب الله عز وجل فالله تعالى يقول: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)} [النور: 54] فالرسول صلى الله عليه وسلم هو المُبلِّغ وهو المُبيِّن ما أُجمِل في كتاب الله عز وجل وهذه السُّنة المُطهرة ما صحَّ منها قد

(1)

تقدِّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم التعريف بها.

ص: 5947

يُخص به كتاب الله عز وجل عمومه

(1)

، ويُقيّد مُطلقه

(2)

، ولهذا أمثلة كثيرة.

فهناك كثيرٌ من الأحكام لم تردْ في كتاب الله عز وجل، وجاءت في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تلقَّاها العلماء بالقبول، ولم يُخالِفْ فيها إلا من شذَّ من أصحاب تلك الفرق والنِّحَل الذين خرجوا عن الطريق السويّ، كأن لا يُجمع بين المرأة وعمّتها، ولا بين المرأة وخالتها

(3)

، فإن هذا قد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذًا الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن لنا ذلك في حديث عائشة في قضية توقفت فيها عائشة رضي الله عنها فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ائذني له"، ثمَّ إنها أوردت على الرسول صلى الله عليه وسلم استفسارًا ليس الرجل الذي أرضعني، وإنما أرضعتني المرأة فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم:"ائذني له إنه عمك تربت يمينك". فأكَّد عليها الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بيان أعظم ولا أجلى ولا أوضح من هذا البيان في هذا الحديث.

* قوله: (وَيَصْعُبُ رَدُّ الأُصُولِ المُنْتَشِرَةِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا التَّأْصِيلُ وَالبَيَانُ عِنْدَ وَقْتِ الحَاجَةِ بِالأَحَادِيثِ النَّادِرَةِ وَبِخَاصَّةٍ الَّتِي تَكُونُ فِي عَيْنٍ، وَلذَلِكَ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: لَا نَتْرُكُ كِتَابَ اللهِ لِحَدِيثِ امْرَأَةٍ)

(4)

.

(1)

يُنظر: "شرح الكوكب المنير" لابن النجار (3/ 359) حيث قال: "يخصص الكتاب ببعضه و"، يخصص أيضًا "بالسنة مطلقًا"، أي: سواء كانت متواترة أو آحادًا."و" تخصص "السنة به"، أي: بالقرآن "وببعضها"، أي: تخصص السنة ببعضها "مطلقًا"، أي: سواء كانت متواترة أو آحادًا.

(2)

يُنظر: "التحبير شرح التحرير" للمرداوي (6/ 2716) حيث قال: فيجوز تقييد الكتاب بالكتاب وبالسنة، والسنة بالسنة وبالكتاب، وتقييدهما بالقياس، والمفهومين، وفعل النبي وتقريره، ومذهب الصحابي، ونحوها على الأصح في الجميع.

(3)

أخرجه البخاري (5109) ومسلم (1408) عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها".

(4)

سيأتي.

ص: 5948

إنها إشارة لطيفة أوردها المؤلِّف، ومَرَّ بنا حديث فاطمة مرور الكرام؛ لأنه ذُكر لنا ما يتعلق بموضوع الخطبة على الخطبة، وسيتكرر ذلك أيضًا.

لكن هذا الذي أشار إليه المؤلف إنما هو إشارة إلى قصة فاطمة رضي الله عنها. وفاطمة بنت قيس هذه - كما هو معلوم - قصتها مع زوجها مشهورة، وهي صحابيةٌ جليلة، وهي أيضًا من فقهاء الصحابة

(1)

.

وقصتها: أن زوجها عمرو أبا حفص - ابن المغيرة - طلقها البتة، أي:(طُلِّقت ثلاثًا)، فأرسل إليها وكيلَه بشعير فسختطه، وقد طلَّقها زوجها وهو غائب، لم يكن موجوًا فأرسل إليها وكيلَه: وبعضهم يرويها: وكيله على أن المتصرف هو الوكيل، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته.

وهناك خلافٌ مشهور في هذه المسألة، فما كان منها إلا أن جمَعَت ثيابها فلما سخطته قال الوكيل:"والله ليس علينا من شيء، أي: لا نفقة لك ولا سكنى". فجمعت ثيابها فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليسَ لك عليه سُكنى ولا نفقة".

ثمَّ إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: "اعتدِّي في بيت أم شريك"، ثم تدارك الأمر صلى الله عليه وسلم فقال:"تلك امرأة يغشاها أصحابي"؛ إذ كان أكابر المهاجرين يأوون إليها، ثم قال لها:"اعتدِّي عند ابن أم مكتوم"، وابن أم مكتوم كان ابن عم لها، "فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده". هذا حديث (متفق عليه)

(2)

.

(1)

ينظر ترجمتها في: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 319).

(2)

ليس متفقًا عليه، بل أخرجه مسلم (1480) فقط. عن فاطمة بنت قيس، أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة، وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال:"ليس لك عليه نفقة"، فأمرها أن تعتدَّ في بيت أمِّ شريك، ثم قال:"تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدِّي عند ابن أمِّ مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني"

الحديث.

ص: 5949

ففي هذا الحديث من الحِكم والفوائد الشيء الكثير، وما يهمنا ما أورده المؤلف في قصَّة عمر، فإن الرجل طلقها البتة فاختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في المطلقة طلاقًا بائنًا هل لها نفقة وسُكنى أم ليس لها نفقة، ولا سُكنى، أم لها السُّكنى فقط؟ هذه أقوال ثلاثة ولا أريد أن أدخل في الحديث عنها، لأن هذا سيأتي في الطلاق

(1)

، وفي عدة أبواب مستقبلة.

لكن هذه فاطمة بنت قيس عُورضت من بعض الصحابة ومن غيرهم في هذا القول، ومن هنا جاء الخلاف في هذا الأمر.

فحُكي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لا نترك كتاب ربنا وسُنَّة نبينا لقول امرأة"

(2)

. هذا الذي ذكره المؤلف وذكره غيره ممَّن نقلوا ذلك عن عمر.

وهذه المقالة ضعَّفها الإمام أحمد وردَّها، وقال: إنما صَحَّ عن عمر أنه قال: "لا نُجيز في ديننا قول امرأة"

(3)

.

وهذه أيضًا للعلماء وقفات متعددة حولها، فإن العلماء قالوا: إن هذه مخالفة للإجماع؛ لأنه - كما هو معلوم - كم من الأحكام الكُثر التي ثبتت عن طريق انفراد امرأة بها، فإن عائشة رضي الله عنها روت كثيرًا من الأحاديث

(1)

سيأتي الكلام عنها.

(2)

أخرجه مسلم (1480/ 46) قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت، أو نسيت، لها السكني والنفقة، قال الله صلى الله عليه وسلم:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قال الحافظ في "الفتح"(9/ 481): "وأما قول بعضهم أن حديث فاطمة أنكره السلف عليها

فالجواب عنه أن الدارقطني قال: قوله في حديث عمر: وسنة نبينا، غير محفوظ، والمحفوظ: لا ندع كتاب ربنا، وكأن الحامل له على ذلك أن أكثر الروايات ليست فيها هذه الزيادة، لكن ذلك لا يرد رواية النفقة، ولعل عمر أراد بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ما دلَّت عليه أحكامه من أتباع كتاب الله، لا أنه أراد سنة مخصوصة في هذا

إلخ".

(3)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 166) حيث قال: فقد أنكر أحمد هذا القول عن عمر، قال ولكنه قال: لا نجيز في ديننا قول امرأة.

ص: 5950

والأحكام وغيرها من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وفُرَيِعة، بل إن فاطمة بنت قيس هي التي روت لنا حديث الدجال

(1)

ذلكم الذي اشتمل على كثير من الأحكام، ومع ذلك تلقاه العلماء بالقبول والتسليم، فهذه هي الراوية.

وأيضًا عندما اعتُرض عليها رضي الله عنها جادلت من عارضها في هذا المقام، وخالفته فقالت: أليس الله يقول: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]؟ وأيّ حدث يحدث لامرأة طُلِقت طلاقًا بائنًا، فهذا بالنسبة للرجعية؛ لأنها إذا عاشت في سكن زوجها وأنفق عليها فقد تغيَّر الأحوال، فربما يكون قد دخل الشيطان بين الزوجين فنفد إليهما فجرى في دمهما مجرى الدم فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم

(2)

، فحينئذ قد يرجع كلّ منهما إلى نفسه فترجع ثورة الغضب وهذا مما تُرغِّب فيه هذه الشريعة، إذًا هي ردت وقالت: أنا طلقت البتة، فبعضهم تكلَّم على لسانها وغيره.

فالشاهد هنا أن قول عمر رضي الله عنه: "لا ندع كتاب ربِّنا وسُنَّة نبيِّنا لقول امرأة". تتمة الكلام: "لا ندري أحفظت أم نسيت"، وفي بعض الروايات:"أصابت أم أخطأت"

(3)

.

فهذا القول ضعَّفه الإمام أحمد، وصُحِّح القول عن عمر وأنه قال:"لا نجيز في ديننا قول امرأة". هذا هو قول عمر والعبارة مختلفة أيضًا وهذه مجملة، والصحيح: أن قول المرأة مقبول وبخاصة الصحابيات، وهذه الصحابية خاصة، بل أخذ العلماء بحديثها، فإن ممَّا تكلَّموا عنه أدن للرجل أن يطلق امرأته وهو غائب عنها ولا يواجهها بالطلاق، وهذا حكم أخذه العلماء وتكلموا عنه

(4)

، فإن هذا الرجل كان مع عليٍّ وسافر إلى اليمن للجهاد، ومع ذلك نجد أن الطلاق قد وقع وأن الرسول صلى الله عليه وسلم و قد أقرَّه

(1)

أخرجه مسلم (2942).

(2)

جزء من حديث أخرجه البخاري (2038)، ومسلم (2174).

(3)

لم أقف عليها.

(4)

ستأتي في كتاب الطلاق.

ص: 5951

ولم ينكره، وأيضًا كثير من العلماء أخذوا به فيما يتعلق بالسُّكنى، وخِطبة الرجل على خِطبة أخيه إذا لم يسكن إليه

(1)

، فكما هو معلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال لها:"اعتدِّي في بيت ابن أمِّ مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده، فإذا انتهيتِ - أو عبارة نحوها - فآذنيني"، يعني: إذا انتهت عدَّتُك فآذنيني.

فلمَّا فرغت من العدة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته وذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان، وأبي جهم خطباها فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لها:"أمَّا أبا جهم فضرَّاب للنساء" صيغة مبالغة كناية عن أنه يُكْثر الضرب، وفي بعض الروايات:"لا يضع عصاه عن عاتقه"

(2)

، كناية عن كثرة ضربه للنساء

(3)

، "وأما معاوية فصعلوك

(4)

لا مال له"، وفي بعض الروايات: "وأما معاوية فتربٌ ليس عنده شيء"

(5)

.

فلننظر إلى أمور الدنيا كيف تتغير وتتبدل، وأن الذي يُعِزّ المرء دائمًا هو الله سبحانه وتعالى، فهو يرفع أقوامًا ويضع آخرين، ويعطي الملك من يشاء وينزعه عن من يشاء، ويرفع أناسًا ويخفض آخرين فهذا هو أمر الله سبحانه وتعالى.

فهذا معاوية كان رجلًا صعلوكًا لا مال له، ثمَّ بعد ذلك يصبح خليفة المسلمين، ويجمع عليه في عام الجماعة سنة أربعين بعد أن تنازله هو والحسن بن علي

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري (2140)، ومسلم (1515) وفيه "

ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها".

(2)

أخرجها مسلم (1480/ 36).

(3)

"لا يرفع عصاه عن عاتقه"، أي: إنه شديد على أهله خشن الجانب في معاشرتهن مستقص عليهن في باب الغيرة. انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص 206).

(4)

"الصعلوك": الفقير. انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1595).

(5)

أخرجه مسلم (1480) وفيه .. "أما معاوية فرجل ترب، لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء

" الحديث.

(6)

يُنظر: "البداية والنهاية" لابن كثير (11/ 134) حيث قال: وإنما كملت الثلاثون =

ص: 5952

إذًا هذا درس من الدروس الذي ينبغي أن يستفيده المسلم في هذه الحياة ليفيده بعد مماته.

ومن الأحكام التي تُستفاد من هذا أنها عندما ذكرت له أن أبا جهم ومعاوية خطباها قال الرسول صلى الله عليه وسلم لها: "ذكر أن أبا جهم ضرَّاب للنساء لا يضع عصاه عن عاتقه، وأن معاوية رجل فقير صعلوك"، فقال لها:"أنكحي أسامة بن زيد"، وفاطمة بنت قيس قرشية، وأسامة إنما هو مولى وأبوه مولى ولكن كما قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فقيمة الإنسان وعزته وكرامته إنما تكون في تقوى الله سبحانه وتعالى لا في كثرة ماله ولا في جاهه ولا في نسبه، ولو كان النسب يفيد لأفاد أقوامًا كبارًا ومن أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم.

فترددتْ في ذلك حتى ورد في بعض الروايات: أنها كانت تشير أسامة أسامة، كالمنكرة لذلك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أطيعي اللهَ ورسوله"

(1)

.

لا شكَّ أنَّ من يطيع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن هذه هي السعادة كما قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وكذلك نجد قول الله سبحانه وتعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)} [النور: 54] فهل عصته فاطمة؟ الجواب: لا، فلما سمعت هذه الكلمة التي

= بخلافة الحسن بن علي، رضي الله عنه، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من أكبر دلائل النبوة، وقد مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنيعه هذا، وهو تركه الدنيا الفانية، ورغبته في الآخرة الباقية، وحقنه دماء هذه الأمة، فنزل عن الخلافة وجعل الملك بيد معاوية، حتى تجتمع الكلمة على أمير واحد.

(1)

أخرجه مسلم (1480) وفيه .. "فقالت بيدها هكذا: أسامة، أسامة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طاعة الله، وطاعة رسوله خير لك"، قالت: فتزوجته، فاغتبطت".

ص: 5953

نبعت من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم استجابت لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكحت أسامة رضي الله عنه فقالت: فاغتبطت به.

فهكذا كلُّ مؤمن ينزل عند حكم الله سبحانه وتعالى، كلُّ مؤمن يتَّبع هدي الله سبحانه وتعالى، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم يناله الخير والطمأنينة والفوز، ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.

إذًا الفوز كل الفوز في طاعة الله، وفي طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذه أقبلت على رجل ما كانت تريده، وأخذته مكرهة عليه، لكن لمَّا كان في ذلك طاعة للّه وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت النتيجة أنها اغتبطت بأسامة وسعدت به وعاشت معه في هذه الحياة الدنيا.

فيا سعادة كل إنسان يستجيب لهدي الله سبحانه وتعالى ولهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.

* قَوْله: (المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الرَّضَاعِ).

بعد أن ذكر لنا المؤلف عدة مسائل، وهي حكم الرضاع، وعدد الرضعات التي تُحرِّم، وسن الرضاع، وقضية وصول اللبن عن طريق الفم أو غيره، إلى غير ذلك من المسائل، وصل إلى قضية الشهادة. كيف يثبت الرضاع؟ هل يكفي في ذلك شهادة امرأة؟ أم لا بد من شهادة امرأتين؟ أم لا بدَّ من شهادة أربع؟ أم شهادة رجلٍ وامرأتين؟ والله سبحانه وتعالى نصَّ في الشهادة على رجلٍ وامرأة، وبيَّن ذلك في كتابه العزيز؛ فقال تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].

فبعض العلماء قال: يكفي شهادة امرأةٍ واحدة، لكنهم قيَّدوا ذلك بأن تكون مرضيَّة عند الناس، موثوقٌ بها، أمينةٌ في دينها وفي عدالتها

(1)

.

وبعضهم قال: يكفي شهادة امرأةٍ واحدة مع يمينها

(2)

.

(1)

رواية عند الحنابلة وستأتي.

(2)

رواية عند الحنابلة وستأتي.

ص: 5954

وبعضهم قال: لا بد من شهادة امرأتين، وبعضهم اشترط مع ذلك فُشُوَّ الأمر: أي: انتشاره

(1)

.

وبعضهم قال: لا بد من شهادة أربع نساء

(2)

.

وبعضهم قال: لا بدَّ من شهادة رجلٍ وامرأتين؛ لأن هذا هو الذي نصَّ الله سبحانه وتعالى عليه في كتابه العزيز، وهذا هو المعروف أو المشهور عن أبي حنيفة

(3)

، وأُثر عن عمر رضي الله عنه

(4)

.

فمذهب الشافعية

(5)

: أربع من النسوة، ومن قال: لا بد من شهادة امرأتين هي رواية عن الإمامين مالك

(6)

وأحمد؛ فأحمد له ثلاث روايات في المسألة.

(1)

وهم المالكية وسيأتي.

"أصل الفشو": الظهور والانتشار. انظر: "تفسير غريب ما في الصحيحين" للحميدي (ص 207).

(2)

وهو مذهب الشافعية وسيأتي.

(3)

يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 14) حيث قال: وأما بيان ما يثبت به الرضاع، أي: يظهر به فالرضاع يظهر بأحد أمرين: أحدهما: الإقرار، والثاني: البينة

وأما البينة: فهي أن يشهد على الرضاع رجلان أو رجل وامرأتان ولا يقبل على الرضاع أقلّ من ذلك ولا شهادة النساء بانفرادهن. وهذا عندنا.

(4)

أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" عن عكرمة بن خالد المخزومي أن عمر بن الخطاب أتي في امرأة شهدت على رجل وامرأته أنها أرضعتهما فقال: لا، حتى يشهد رجلان أو رجل وامرأتان.

(5)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 185) حيث قال: (ويثبت) الرضاع (بشهادة رجلين)، وإن تعمد النظر لثدييها لغير الشهادة وتكرر منهما، لأنه صغير لا يضره إدمانها حيث غلبت طاعاته معاصيه (أو رجل وامرأتين وبأربع نسوة) لاطلاعهن عليه غالبًا كالولادة، ومن ثَمَّ لو كان النزاع في الشرب من ظرف لم يقبلن؛ لأن الرجال يطلعون عليه، نعم يقبلن في أن ما في الظرف لبن فلانة؛ لأن الرجال لا يطلعون على الحلب غالبًا (والإقرار به شرطه)، أي: شرط ثبوته (رجلان) لاطلاع الرجال عليه غالبًا.

(6)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 507) حيث قال: (قوله: إن فشا ذلك منهما)، أي: ولا يشترط فشوه من غيرهما كما يفيده ظاهر كلام ابن عرفة خلافًا لما في عبق =

ص: 5955

الرواية الأولى: يكفي شهادة امرأة واحدة مرضيّة

(1)

.

الثانية: لا بد من شهادة امرأةٍ واحدة مع يمينها

(2)

.

الثالثة: لا بد من شهادة امرأتين

(3)

.

أما من قال: شهادة امرأةٍ واحدةٍ مرضيّة فسيأتي دليل ذلك وهو حديث عقبة بن الحارث. واشترطوا مرضية، أي: تكون مأمونة في هذا المقام.

ومَن قال: مع يمينها فاستدلَّ أحمد على ذلك بما أُثر عن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما في قصة امرأةٍ جاءت إلى زوجين، فقالت: أرضعتهما، فقال عبد الله بن عباس: يُفرَّق بينهما إذا حلفت. ثم قال عبد اللّه بن عباس: فإن كانت كاذبةً فلن يحول عليها الحول حتى يبيض ثديها

(4)

، يعني: يصيبه

= ونصَّ ابن عرفة: وشهادة امرأتين به وإن فشا قولهما به قبل نكاح الرضيعين يثبته وهو مثل لفظ المدونة نعم ذكر الخلاف في معنى الفشو في حق المرأة فقال: وفي كون الفشو المعتبر في شهادة المرأة فشو قولها ذلك قبل شهادتها أو فشو ذلك عند الناس من غير قولها قولان (قوله: في الصورتين) أما في الأولى فباتِّفاق، وأما في الثانية فعلى قول ابن القاسم وهو المشهور ومقابله قول سحنون يثبت الرضاع بشهادة المرأتين مع عدم الفشو إذا كانتا عدلتين.

(1)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 190) حيث قال: (وإذا شهدت امرأة واحدة على الرضاع، حرم النكاح إذا كانت مرضية). وقد روي عن أبي عبد الله، رحمه الله، رواية أخرى: إن كانت مرضية استحلفت، فإن كانت كاذبة، لم يحلَّ الحول حتى تبيض ثدياها.

(2)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 191) حيث قال: وعن أحمد، رواية ثالثة، أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة، وتستحلف مع شهادتها.

(3)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 191) حيث قال: وعن أحمد، رواية أخرى: لا يقبل إلا شهادة امرأتين. وهو قول الحكم؛ لأن الرجال أكمل من النساء؛ ولا يقبل إلا شهادة رجلين، فالنساء أولى.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(7/ 482) عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: "شهادة المرأة الواحدة جائزة في الرضاع إذا كانت مرضية وتستحلف مع شهادتها" قال: وجاء ابن عباس رجل، فقال: زعمت فلانة أنها أرضعتني وامرأتي وهي كاذبة فقال ابن عباس: "انظروا فإن كانت كاذبة فسيصيبها بلاء" قال: "فلم يحلَّ الحول حتى برص ثديها".

ص: 5956

البرص. فهذا حُجة للذين قالوا بأنه لا بدَّ من اليمين. لكن الشاهد هنا عبد اللّه بن عباس قال: "فإن كانت كاذبة لا يحول عليها الحول حتى يبيضَّ ثديها".

فالعلماء وقفوا عند هذا وقالوا: هذا يُعطى حكم المرفوع؛ لأنه لا يمكن أن يقول ذلك عبد الله بن عباس برأيٍ أو قياس؛ لأنه جاء ذلك عن طريق الخبر؛ فكأنه قطع به، فهو حكمٌ توقيفيّ؛ لأنه قال: لا يحول عليها الحول حتى يبيضَّ ثديها. وبهذا نتبين خطورة الأمر من الجانبين، فلا يحلّ لامرأة أن تأتي فتفرِّق بين زوجين وهي كاذبة في هذا الأمر، أو غير متأكدةٍ من ذلك، أو تكون حاجةٌ في نفسها إما أنها حملت ضغينةً على أحد الزوجين، أو على أحدهما فتأتي فتنشر ذلك فتحصل الفُرقة بينهما. وهذا بلا شكَّ ستنال عقوبته في الآخرة؛ لأنها فرَّقت بين زوجين على غير حق، ولا يجوز لامرأةٍ تؤمن باللّه واليوم الآخر تعلم أن زوجين قد اجتمعا على أمرٍ غير جائز، أي: رضعا معًا، فلا يجوز لها أن تكتم ذلك، والله تعالى يقول:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. إذًا: لا يجوز كتم هذا الأمر، ولا يجوز أيضًا الكذب فيه، وإنما يؤدَّى الحق في هذا المقام؛ فينبغي للمسلم أن ينتبه لهذا الأمر.

ولذلك يقول العلماء: الشاهد لا بد أن يحدد، وما يكفي أن يقول فلانٌ أخٌ لفلان، فلا بدَّ أن يحدد الرضاعة، ونصَّ العلماء على ذلك؛ لأن الأمر ليس بسهل، وقد حصل تفريق في بيوتاتٍ في زمن عثمان رضي الله عنه كما ذكر ذلك الإمام الزهري

(1)

والأوزاعي

(2)

، وقد نقلوا في ذلك قصصًا، وحُكي أيضًا عن الإمام مالك في ذلك.

إذًا قضية الرضاع إذا ثبت يُفرَّق بين الزوجين، ويثبت النسب بالنسبة

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(8/ 334) عن الزهري قال: "فرق عثمان بين أهل أبيات بشهادة امرأة".

(2)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 191) حيث قال: "وقال الأوزاعي: فرق عثمان بين أربعة وبين نسائهم، بشهادة امرأة في الرضاع".

ص: 5957

للأولاد إلى الأب، وهم أولاد لهما، ولا إثم عليهما في هذا، لكن لا يجوز أن يبقَ النكاح؛ إذ أنه أصبح أخًا لها.

* قوله: (فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: لَا تُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ)

(1)

.

لماذا قالوا: لا تُقبل إلا شهادة امرأتين؟ لأنهم قالوا: المعروف بأن شهادة الرجال لا يُقبل فيها أقل من رجلين، والرجل أكمل من المرأة. إذًا إذا كانت شهادة الرجال يُشترط فيها توفر اثنين عدلين، فمن باب أولى أن يُشترط ذلك في النساء؛ يعني: أقل ما يُقال في ذلك: أن يُشترط امرأتان؛ لأن الرجال أكمل، وما دام الرجال أكمل فينبغي ألا يقل عدد النساء عن امرأتين. هذه هي حُجَّة الذين قالوا باشتراط امرأتين.

*قولة: (وَقُومًا قَالُوا: لَا تُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعٍ)

(2)

.

وكذلك الذين قالوا شهادة أربع، قالوا: لأن هذا أمر إنما يثبت بشهادة النساء فيما لا يطَّلع عليه إلا النساء. إذًا تثبت به شهادة النساء. فهناك رجلان، والرجل الواحد يساوي امرأتين كما قال الله سبحانه وتعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ، ثم قال:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} . فالرجل يقابل امرأتين، إذًا يكون الأربع، فهؤلاء أخذوا بمفهوم الآية، وليس بمنطوقها.

وقول عند أبي حنيفة: أنه لا بد في الشهادة من وجود رجلٍ وامرأتين؛ إذْ أخذوا بنص الآية. لكن هذا مطلق وليس في الرضاع.

*قوله: (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَعَطَاءٌ

(3)

، وَقَوْمًا قَالُوا: تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ).

(1)

تقدَّم.

(2)

تقدَّم.

(3)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 576) حيث قال: "فقالت طائفة: لا يقبل في ذلك أقل من أربع نسوة، كذلك قال عطاء".

ص: 5958

وهذه رواية عن الإمام أحمد

(1)

، وهي أيضًا قولٌ لبعض المالكية

(2)

.

وهي رواية عن الإمام مالك

(3)

.

* قوله: (وَالَّذِينَ قَالُوا: تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ مِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ فِي ذَلِكَ فُشُوَّ قَوْلِهِمَا بِذَلِكَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَابْنِ القَاسِمِ)

(4)

.

هذا عند المالكية، أي: ينتشر بين الناس ويتداولونه ويتناقلونه في مجالسهم، ثم بعد ذلك تأتي الشهادة؛ فكأنها رفعت الخلاف كما قيل:"قطعت جهيزة قول كل خطيب"

(5)

.

(1)

تقدَّم.

(2)

يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 594) حيث قال: "وإن شهدت واحدة، فإن لم يفش من قولها لم تنتشر الحرمة، وإن فشا، فهل تنتشر أم لا؟ فيه خلاف. ثم حيث قلنا: لا تنتشر الحرمة بالشهادة، فإنه يستحب التنزه، ولو في شهادة المرأة الواحدة وإن لم يفشَ ذلك من قولها".

(3)

يُنظر: "المدونة" لابن القاسم (2/ 300) حيث قال: "قلت: أرأيت امرأة شهدت أنها أرضعت رجلًا وامرأته، أيفرق بينهما بقولها في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا، قال مالك: ويقال للزوج تنزه عنها إن كنت تثق بناحيتها، ولا أرى أن يقيم عليها ولا يفرق القاضي بينهما بشهادتها وإن كانت عدلة".

وفي "الجامع لمسائل المدونة" لابن يونس (9/ 423) قال: "قال مالك: وإذا قالت امرأةٌ عدلٌ: كنت أرضعت فلانًا وزوجته، لم أقضِ بفراقهما".

(4)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 507) حيث قال: " (قوله: إن فشا ذلك منهما)، أي: ولا يشترط فشوه من غيرهما كما يفيده ظاهر كلام ابن عرفة خلافًا لما في عبق ونص ابن عرفة: وشهادة امرأتين به وإن فشا قولهما به قبل نكاح الرضيعين يثبته وهو مثل لفظ المدونة نعم ذكر الخلاف في معنى الفشو في حق المرأة فقال: وفي كون الفشو المعتبر في شهادة المرأة فشو قولها ذلك قبل شهادتها أو فشو ذلك عند الناس من غير قولها قولان (قوله: في الصورتين) أما في الأولى: فباتفاق، وأما في الثانية: فعلى قول ابن القاسم، وهو المشهور ومقابله قول سحنون يثبت الرضاع بشهادة المرأتين مع عدم الفشو إذا كانتا عدلتين.

(5)

مثل: يقال عند الأمر قد فات. وأصله أن قومًا اجتمعوا يخطبون في صلح بين حيين =

ص: 5959

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْه، وَهُوَ قَوْلُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ المَاجِشُونِ

(1)

. وَالَّذِينَ أَجَازُوا أَيْضًا شَهَادَةَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فُشُوَّ قَوْلِهَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ)

(2)

.

هذه رواية لأبي حنيفة، وله رواية أخرى معروفة في المذهب أنه لا بد من شهادة رجليْن أو رجلٍ وامرأتين، آخذًا بنص الآية:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ أَقَلَّ مِنَ اثْنَتَيْنِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ أَمَّا بَيْنَ الأَرْبَعِ وَالاثْنَتَيْنِ، فَاخْتِلَافُهُمْ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ هَلْ عَدِيلُ كُلِّ رَجُلٍ هُوَ امْرَأَتَانِ فِيمَا لَيْسَ يُمْكِنُ فِيهِ شَهَادَةُ الرَّجُلِ؟ أَوْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ امْرَأَتَان؟).

أي: هل شهادة المرأة تعادل رجلًا؟ أم أن شهادة امرأتين تعادل رجلًا واحدًا؟ هذا معنى عديل، وعدل، أي: تساوي، وتعادله.

= قتل أحدهما من الآخرة قتيلًا، ويسألون أن يرضوا بالدية، فبينا هم في ذلك؛ إذ جاءت أمة يقال لها: جهيزة، فقالت: إن القاتل قد ظفر به بعض أولياء المقتول فقتله، فقالوا عند ذلك: قطعت جهيزة قول كل خطيب، أي: استغني الآن عن الخطب في الصلح، أي: قد أخذ الحق. انظر: "الأمثال" للهاشمي (1/ 184)، و"مجمع الأمثال" لأبي الفضل الميداني (2/ 91).

(1)

يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 594) حيث قال: "وقال ابن حبيب: ذهب مطرف وابن الماجشون وابن نافع وابن وهب إلى أنه يستقل بشهادة المرأتين، أو الرجل والمرأة الواحدة إذا قاموا حين علموا بالنكاح، ولم تأت عليهم حال يتهمون فيها. وقاله أصبغ: وعليه جماعة الناس".

(2)

تقدَّم.

ص: 5960

* قوله: (وَسَتَأْتِي هَذه المَسْأَلَةُ فِي كتَابِ الشَّهَادَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى).

سيأتي تفصيلها إن شاء الله وبيانها تفصيلًا وتوضيحًا في أبواب الشهادات، فذاك هو محلها الذي يُفصَّل القول فيه.

* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ المَرْأَةِ الوَاحِدَةِ، فَمُخَالَفَةُ الأَثَرِ الوَارِدِ فِي ذَلِكَ لِلْأَصلِ المُجْمَعِ عَلَيْهِ، أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنَ الرِّجَالِ أَقَلُّ مِنَ اثْنَيْنِ).

الشهادات تختلف؛ فمن الشهادات من لا يُقبل فيها إلا أربع وهي الشهادة على الزنا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه هلال بن أميَّة وقذف امرأته، قال له:"البينة أو حدٌّ في ظهرك"

(1)

.

والمراد بتلك البينة: وجود أربعة شهود، وهذا نصَّ الله سبحانه وتعالى عليه في سورة النور. وبعضها بالنسبة للأموال وغيرها، وهي أكثر الأحكام التي يُقبل فيها شهادة رجليْن.

*قوله: (وَأَنَّ حَالَ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَضْعَفَ مِنْ حَالِ الرِّجَالِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَحْوَالُهُنَّ فِي ذَلِكَ مُسَاوِيَةً لِلرِّجَالِ، وَالإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِشَهَادَةِ وَاحِدَةٍ

(2)

، وَالأَمْرُ الوَارِدُ فِي ذَلِكَ هُوَ حَدِيثُ: عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً،

(1)

أخرجه البخاري (2671) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"البيّنة أو حدٌّ في ظهرك"، فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا، ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل يقول:"البيِّنة وإلا حدٌّ في ظهرك".

(2)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 141) حيث قال: "ولا نعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قضى بالشاهد الواحد".

ص: 5961

فَأَتَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ دَعْهَا عَنْكَ"

(1)

).

انظروا إلى هذا الرجل كيف كان حرصه، والمؤمنون بحمد الله في كل وقت وفي كل زمان يحرصون على ما يتعلق بأمور دينهم، ودائمًا المؤمن التقي النقي الورع يحرص على أن تكون أعماله على وَفق الكتاب والسُّنة، وهؤلاء هم الذين وصفهم الله تعالى بأنهم {الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4].

* قوله: (وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الحَدِيثَ عَلَى النَّدْبِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأصُولِ وَهُوَ أَشْبَه، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ).

قول المؤلف: "وهو أشبه" فهذا غير مُسلَّم؛ لأن الرجل جاء قد قطع المسافات، وفي بعض الروايات:"أنه جاء من مكة، وأنه قد امتطى راحلته، وقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متأثِّرًا، ولا يمكن في قضية مثل هذه أن يوجد زوجان ثم بعد ذلك يُفرَّق بينهما، فليس ذلك أمرًا سهلًا، وقد يكون في ذلك أيضًا بعض الأولاد؛ فليس الأمر بهذه السهولة أن يقال بأنه ندب، فالرجل حرص وحاول أن يقول: لعلها كاذبة، يريد أن يجد منفذًا ومخرجًا من هذا الموقف الشديد الحرج الذي وقع فيه؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: "كيف وقد قيل؟ كيف وقد زعمت أنها أرضعتكما؟ خلِّ سبيلها". أي: اتركها، فالأمر واضح جدًّا. وقد حصل التفريق في زمن عثمان رضي الله عنه، فتناقل ذلك السلف، وهذا قد يحضل، إنما الخطأ أن يَقدُم الإنسان على أمرٍ من هذه الأمور وهو يعلم ذلك. أما لو قُدِّر أن الإنسان وقع في خطإ فتزوَّج فتاةً قد رضعت معه وهو لا يدري فلا إثم عليه في هذا المقام، ولا يغير أمرًا من الأمور، فالنسب بالنسبة للأولاد قائم. فربما يوجد من بعض النفوس الضعيفة مَن يحاول أن يستغلَّ مثل هذه المواقف، وربَّما يؤثر على الأولاد ونحو ذلك، لكن هذا حكم الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا

(1)

تقدَّم تخريجه.

ص: 5962

دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].

* قوله: (المَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: وَأَمَّا صِفَةُ المُرْضِعَةِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُحَرِّمُ لَبَنُ كلِّ امْرَأَةٍ بَالِغٍ وَغَيْرِ بَالغٍ)

(1)

.

هذه مسائل جزئية أدرجها المؤلف ضمن هذه المسألة؛ منها صفة المرضعة. فهل هناك وصفٌ خاصٌّ يوجد في المرأة التي يُحرِّم رضاعها؟ أم أن ذلك مطلق؟

الصحيح أن ذلك مطلق؛ فهذه المرأة سواءٌ كانت صغيرة أم كبيرة، يائسة أم غير يائسة، وسواء كانت حاملًا أم غير حامل، متزوجة أم غير متزوجة، مطلقة أم غير مطلقة، ما دام أن ثديها يُدرّ اللبن، وأنها قد أرضعت فإن ذلك يُحرِّم.

*قوله: (وَاليَائِسَةِ مِنَ المَحِيضِ كانَ لَهَا زَوْجٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ، حَامِلًا كانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ، وَشَذَّ بَعْضُهُمْ فَأَوْجَبَ حُرْمَةً لِلَبَنِ الرَّجُلِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ).

ربما يكون هذا هذا رأي المؤلف، أو ربما لم يطلع، ولكن هذا قال به عالمٌ مشهور؛ فهو نُقل عن (الإمام الكرابيسي)

(2)

، وهو من العلماء المشهورين، من علماء القرن الثالث، وهو من علماء الشافعية الذين اشتهروا بفقههم وبغزارة علمهم، وكان ممَّا يُرجع إليه وتخرَّج عليه عددٌ من التلاميذ. لكن ليس معنى هذا أن قوله صحيح، فهو يذهب إلى أن لبن الرجل يُحرِّم؛ قياسًا على المرأة، فيقول: هو آدمي وهذه آدمية فلا مانع،

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 15) حيث قال: "وأجمع العلماء أن البكر التي لم تنكح، والعجوز التي قد قعدت عن الولد ولا زوج لها، أنها إذا ثاب لكلِّ واحد منهما لبن، فأرضعت به مولودًا أنه ابنها من الرضاعة ولا أب له".

(2)

يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (11/ 406) حيث قال: "وحكي عن الكرابيسي من أصحابنا أنه قال: تثبت الحرمة بلبن الرجل كما تثبت بلبن المرأة وهذا خطأ؛ لأن لبنه لم يجعل غذاء المولود فلا يثبت التحريم كلبن البهيمة".

ص: 5963

والكرابيسي اثنان، والمقصود من ذلك: المتقدم، وهو: أبو علي الحسين بن علي البغدادي

(1)

. وهناك الكرابيسي صاحب القواعد

(2)

المتأخر عن ذلك. لكن هذا قولٌ انفرد به، وهو - كما قال المؤلف - شاذ. لكن قول المؤلف: لا يحصل وربما قد يحصل ذلك. ولذلك ردوا عليه ما قالوا بأنه مُستحيل، وهم أكابر العلماء

(3)

، وقالوا: هذا لا يُحرِّم، بمعنى: لا ينشر الحُرمة؛ لأن المرأة الأصل فيها أنها مكانٌ للولادة، أما الرجل فليس كذلك، إذًا لا حُرمة هنا، فالقياس هنا قياسٌ مع الفارق.

(1)

الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي الفقيه البغدادي. تفقه أولًا على مذهب أهل الرأي ثم تفقه للشافعي، وصحب الشافعي، وحمل عنه العلم، وهو معدود في كبار أصحابه. توفي سنة 248. انظر:"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (2/ 117).

(2)

هو: أسعد بن محمد بن الحسين الكرابيسي، النيسابوري أبو المظفر، جمال الإسلام مصنف "الفروق" في المسائل الفرقية، وله "الموجز" في الفقه، وهو شرح لمختصر أبي حفص عمر، مدرس المستنصرية ببغداد. انظر:"الطبقات السنية في تراجم الحنفية" لتقي الدين الغزي.

(3)

وهم الأئمة الأربعة، مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (1/ 219) حيث قال: وإذا نزل للرجل لبن فأرضع به صبيًّا لم يتعلق التحريم؛ "لأنه ليس بلبن على التحقيق فلا يتعلق به النشوء والنمو وهذا؛ لأن اللبن إنما يتصور ممن يتصور منه الولادة".

مذهب المالكية، يُنظر:"عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 590) حيث قال: "أركانه، وهي ثلاثة:

الأوَّل: المرضعة، وهي المرأة، فلا حكم للبن البهيمة، ولا لبن الرجل. وحكى الشيخ أبو إسحاق رواية كراهية نكاح من أرضعه الذكور. وانظر:"منح الجليل" لعليش (4/ 372).

مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"(3/ 415 - 416) حيث قال: " (فلا تحريم بلبن رجل وخنثى حتى يتضح) كونه امرأة؛ لأنه لم يخلق لغذاء الولد فأشبه سائر المائعات؛ ولأن اللبن أثر الولادة، وهي لا تتصور في الرجل والخنثى نعم يكره لهما نكاح من ارتضعت بلبنهما كما نقله الأصل عن النصِّ في لبن الرجل".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 444) حيث قال: "ولا ينشر الحرمة غير لبن المرأة .. (أو) ارتضع طفلان من لبن (رجل) فكذلك لما ذكرنا (أو) ارتضعا من لبن (خنثى مشكل لم ينشر الحرمة)؛ لأنه لم يثبت كونه امرأة فلا يثبت التحريم مع الشك".

ص: 5964

* قوله: (وَإِنْ وُجِدَ، فَلَيْسَ لَبَنًا إِلَّا بِاشْتِرَاكِ الاسْمِ، وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِي لَبَنِ المَيِّتَةِ).

الحياة تختلف عن الموت؛ فالإنسان يعيش في هذه الحياة الدنيا، ثم بعد ذلك ينتهي أجله فيها، فبعد ذلك ينقطع عمله في هذه الحياة إلا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إذا مات ابنُ آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"

(1)

. أما بقية ذلك فلا ينفعه إلا ما قدَّم من الأعمال الصالحة، وهذه هي التي سيجدها، وهي التي ستوضع في ميزانه، ولا بد أيضًا أن يكون مع ذلك رحمة الله سبحانه وتعالى؛ فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"إلا أن يتغمدني الله برحمته"

(2)

. فما بالك بغيره من الناس!

إذًا هذه المرأة إذا تُوفِّيت، وبقي شيءٌ من اللبن في ثديها فامتصَّه جنينٌ، هل هذا ينشر الحُرمة أم لا؟ إذ هي قد تغيَّر حالها؛ فبعد أن كانت من الأحياء أصبحت في عِداد الأموات. والموت يؤدي إلى نجاسة بدن الإنسان، ولذلك يُغسّل الإنسان، فهل وجود الموت أو النجاسة تؤثر أم لا؟

بعض العلماء وهو - مذهب الحنفية

(3)

، والحنابلة

(4)

- يرى: أن لبن

(1)

أخرجه مسلم (1631) ولفظه: عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة .. " الحديث.

(2)

أخرجه البخاري (6463) واللفظ له، ومسلم (2816/ 71) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن ينجي أحدًا منكم عمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة، .. " الحديث.

(3)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(3/ 218) حيث قال: " (قوله ولو محلوبًا) سواء حلب قبل موتها فشربه الصبي بعد موتها أو حلب بعد موتها (قوله فيصير ناكحها)، أي: ناكح الرضيعة المعلومة من المقام أفاده ح (قوله محرمًا للميتة)؛ لأنها أم امرأته. (قوله وفرق بوجود التغذي لا اللذة)؛ لأن المقصود من اللبن التغذي والموت لا يمنع منه، والمقصود من الوطء اللذة المعتادة، وذلك لا يوجد في الميتة .. ، وإذا انتفت اللذة المعتادة بالوطء لكون الميتة ليست محلًّا له عادة صارت كالبهيمة بل أبلغ؛ لأن الموت منفر طبعًا فيلزم انتفاء قصد الولد الذي هو في الحقيقة علة حرمة المصاهرة".

(4)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 446 - 447) حيث قال: " (ويحرم لبن الميتة إذا =

ص: 5965

الميتة ينشر الحُرمة؛ لأنها آدمية، فلا يختلف الحال، فلو أن هذه المرأة أُخذ من لبنها في إناء، أي: حلبت مثلًا في إناء فبقي في هذا الإناء، فلما ماتت أرضع منه هذا الطفل الرضعات المعروفة فإنه يُحرِّم.

أما الشافعية

(1)

: فيرون أنه لا يُحرِّم، ووجهتهم في ذلك: أنها ليست محلًّا للولادة. وذكرنا قبل قليل أنهم فرَّقوا بين الرجل والمرأة؛ لأن المرأة محلٌّ للولادة، وهنا أيضًا قالوا: بأنها لم تكن مكانًا للولادة؛ لأنه انقطع ذلك الأمر فلا يُحرِّم لبنُها. ولا شكَّ أن وجهة الذين قالوا بالتحريم ظاهرة في هذا المقام فيما يظهر لي واللّه أعلم.

* قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ هَلْ يَتَنَاوَلُهَا العُمُومُ؟ أَوْ لَا يَتَنَاوَلُهَا؟ وَلَا لَبَنَ لِلْمَيِّتَةِ إِنْ وُجِدَ لَهَا إِلَّا بِاشْتِرَاكِ الاسْمِ).

الحقيقة أن لها لبن، وقد يوجد في ثديها.

* قوله: (وَيَكَادُ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةً غَيْرَ وَاقِعَةٍ، فَلَا يَكُونُ لَهَا وُجُودٌ إِلَّا فِي القَوْلِ).

بل هي واقعة، وهذا غريب من المؤلف؛ إذ إنه قال به أكثر العلماء،

= حلب أو ارتضع من ثديها بعد موتها)؛ لأنه ينبت اللحم، قال في الشرح والمبدع ونجاسته لا تؤثر كما لو حلب في إناء نجس، يعني: إن قلنا: ينجس الآدمي بالموت، و (كما لو حلب في حياتها ثم شربه) الطفل (بعد موتها ولو حلف لا يشرب من لبن امرأة فشرب منه وهي ميتة حنث)؛ لأنه شرب من لبنها".

ومذهب المالكية: "حاشية الدسوقي"(2/ 502) حيث قال: " (قوله وإن ميتة)، أي: هذا إذا كانت تلك المرأة حيّة، بل ولو كانت ميتة دبَّ الطفل فرضعها أو حلب منها وعلم أن الذي بثديها لبن ابن ناجي، وكذا إن شكَّ هل هو لبن أو غيره؛ لأنه أحوط. وقوله: ولو ميتة رد بالمبالغة على ما حكاه ابن بشير وغيره من القول الشاذ بعدم تحريم لبن الميتة؛ لأن الحرمة لا تقع بغير المباح ولبن الميتة نجس علي مذهب ابن القاسم فلا يحرم والمعتمد أنه طاهر وأنه يحرم".

(1)

"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 415) حيث قال: "فيشترط كونها امرأة حيَّة بلغت سنَّ الحيض، وإن لم تلد، ولم يحكم ببلوغها سواء أكانت مزوجة أم بكرًا أم غيرهما". وانظر: "روضة الطالبين" للنووي (9/ 3).

ص: 5966

فهذا مذهب الحنفية والحنابلة، يقولون بهذا القول. وكما ترون يعلِّلون بهذا القول، فليس هذا قولًا مرجوحًا ولا شاذًّا، بل أخذ به الحنفية وكذلك الحنابلة. ولذلك قلت: مِن المآخذ التي نأخذها نحن في هذا الكتاب هي تلك، وفيه مزايا، وربما لا توجد في غيره من حيث الترتيب والعناية، ومن كوْنه أُسّس هذا الكتاب على قواعد؛ فهي أمهات مسائل؛ لكن عيب هذا الكتاب أنه ينقصه الجانب الحديثي؛ فأحيانًا يعالج المسألة ويدرسها دراسة عقلية؛ لأنه لم يقف على الدليل.

والأمر الآخر: أنه أحيانًا يُقصِّر في معرفة المذاهب؛ لأنه يُعوِّل على كتاب (الاستذكار) لابن عبد البر، وقد نصَّ على ذلك في كتاب القذف، فقال:"وإنما عوَّلت في نقل المذاهب على كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر؛ فإن ذكرَ ذكرت، وإن سكتَ سكتُّ". ولذلك ترون أنه يذكر الإمام أحمد أحيانًا ويسكت عنه حينًا آخر.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

‌(الفصل الرابع فِي مَانعِ الزِّنَا

وَاخْتَلَفُوا فِي زَوَاجِ الزَّانِيَةِ، فَأَجَازَ هَذَا الجُمْهُورُ

(1)

، وَمَنَعَهَا قَوْمٌ

(2)

، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالزَّانِيَةُ لَا

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار"، للحصكفي (3/ 50)؛ حيث قال:"جاز نكاح من رآها تزني، وله وطؤها بلا استبراء، وأما قوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ} فمنسوخ بآية: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب، للجويني (12/ 219)؛ حيث قال: "نكاح الزانية صحيح، ولكنا نكره ذلك، ولا خفاء بوجه الكراهية".

(2)

وهم المالكية، والحنابلة. =

ص: 5967

يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]، هَلْ حرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ؟ أَوْ مَخْرَجَ التَّحْرِيمِ؟

(1)

، وَهَلِ الإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] إِلَى الزِّنَا؟

(2)

أَوْ إِلَى النِّكَاحِ؟).

هذه مسألة يبدو أن المؤلف لم يبحثها بحثًا دقيقًا، وهي حقيقة بحاجة إلى العناية، وأن نفصل القول فيها، وأن نبينها.

الله سبحانه وتعالى يقول: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} .

فمن العلماء من قال: لا يجوز أن يتزوج الزاني الزانية حتى وإن تابت، للآية الكريمة.

ومن العلماء: من توسع في هذا المقام فقال: يجوز مطلقًا.

ومن العلماء من قال: لا يجوز أن تنكح الزانية إلا بتوفر شرطين:

الشرط الأول: أن تستبرأ بعدة؛ يعني: انقضاء عدتها حتى يطمئن

= مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للدردير (2/ 220)؛ حيث قال:"وكره تزويج امرأة زانية؛ أي: مشهورة بذلك، وإن لم يثبت عليها ذلك".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 83)؛ حيث قال:"وتحرم الزانية إذا علم زناها على الزاني وغيره حتى تتوب وتنقضي عدتها".

(1)

وبه قال الشافعية والحنابلة.

مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع"، للنووي (16/ 220)؛ حيث قال:"إنه صريح في التحريم".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 660)؛ حيث قال:"لفظه لفظ الخبر، والمراد النهي".

(2)

وإليه ذهب المالكية والشافعية:

مذهب المالكية، يُنظر:"الجامع لمسائل المدونة"، لابن يونس (9/ 334)؛ حيث قال:"النكاح هاهنا الزنا؛ أي: لا يزني بها إلا زانٍ أو مشرك".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان"، للعمراني (9/ 254)"إذا زنى الرجل بامرأة لم يثبت بهذا الزنا تحريم المصاهرة".

ص: 5968

على براءة الرحم من وجود حمل، حالها كحال المطلقة تمامًا؛ فإن كانت حاملًا فإنها تنتهي عدتها بوضع الحمل. هذا الشرط التقى فيها المالكية

(1)

والحنابلة

(2)

.

الشرط الثاني: أن تتوب إلى الله سبحانه وتعالى توبة نصوحة وأن تندم. وهذا انفرد به الحنابلة

(3)

.

واستدلوا بعدة أدلة:

- أول هذه الأدلة: قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءَه زرع غيره"

(4)

، يعني: المرأة الحامل لا ينبغي أن يطأها غير زوجها.

- ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا توطأ حامل حتى تضع"

(5)

.

فالحديثان يدلان على أنه ينبغي أن تستبرأ الحامل، ولا فوق بين الزانية وبين غيرها؛ لأن القصد من ذلك هو تبرئة الرحم.

وأما ما يتعلق بالتوبة:

- فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"

(6)

.

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"، للدردير (2/ 218)؛ حيث قال: "وتأبد تحريمها بمقدمته؛ أي: النكاح من قبلة ومباشرة فيها؛ أي: في العدة، وكذا في استبرائها من زنا

فيتأبد تحريمها بمقدمات النكاح؛ أي: المستندة لعقد دون المستندة لشبهته".

(2)

تقدَّم قولهم في ذلك قريبًا.

(3)

تقدَّم قولهم في ذلك قريبًا.

(4)

أخرجه أبو داود (2158) وغيره عن رويفع بن ثابت، وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود"(1874).

(5)

أخرجه أبو داود (2157) وغيره عن أبي سعيد، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1873).

(6)

أخرجه ابن ماجه (4250) وغيره عن ابن مسعود، وحسنه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(615).

ص: 5969

- ويقول صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم"

(1)

.

أما الحنفية

(2)

والشافعية

(3)

: فإنهم لا يرون هذين الشرطين.

يقولون: يجوز أن تنكح الزانية، ولا فرق بين أن يكون من يتزوجها هو الزاني بها أو غيره، لأن عمر رضي الله عنه عندما ضرب رجلًا وامرأة في الزنا حرص على أن يجمع بينهما، فأبى الرجل ذلك

(4)

، ولو لم يكن ذلك جائزًا لما فعله ولو كان هناك شرط لبينه عمر.

وقالوا: هذه المرأة لا تكون فراشًا للرجل الذي زنى بها، ولا يلحق أيضًا النسب به؛ إذن لا قيمة لذلك ولا آثر له.

والذين قالوا لا بد من التوبة قالوا: وما يدرينا أن عمر رضي الله عنه لم يطلب منهما التوبة، ليس في ذلك ما يدل على أن عمر لم يستتبهما أو استتابهما، فنبقى على الأصل وهو أن التوبة مطلوبة.

ثم إن الرجل لو تزوج امرأة زانية وبقيت على هذا الأمر؛ فإنه لا يأمن أن تجر إلى فراشه وإليه أولادًا من غيره والله تعالى يقول: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ؛ فينبغي أن يكون نكاحها بعد أن تتوب إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن "

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم (11/ 2749) عن أبي هريرة.

(2)

تقدَّم قولهم في ذلك قريبًا.

(3)

يُنظر: "البيان"، للعمراني (9/ 254)؛ حيث قال:"لا يحرم على الزاني نكاح المرأة التي زنى بها ولا أمها ولا ابنتها، ولا تحرم الزانية على آباء الزاني ولا على أبنائه".

(4)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(7/ 203) وغيره عن سباع بن ثابت الزهري يقول: "إن وهب بن رباح تزوج امرأة وللمرأة ابنة من غير موهب ولموهب ابن من غير امرأته، فأصاب ابن وهب ابنة المرأة فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب؛ فحد عمر ابن موهب، وأخر المرأة حتى وضعت، ثم حدها وحرص على أن يجمع بينهما، فأبى ابن موهب". وإسناده صحيح.

(5)

جزء من حديث أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57/ 100) عن أبي هريرة.

ص: 5970

فلا بد من شرطين، منهما:

- أن تتوب إلى الله سبحانه وتعالى توبة نصوحة فإذا تابت فإنه يغفر لها؛ لأن الله تعالى يقول في شأن الكافرين: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وهذه قد ارتكبت كبيرة، وقد قال الله سبحانه وتعالى في وصف عباد الرحمن:{وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] ثم قال سبحانه وتعالى في سورة الإسراء: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32] فاحشة: من الفحش، وساء سبيلًا: ساء طريقًا ومنهجًا يسلكه

(1)

.

ومن العلماء من قال: إنه يجوز أن يتزوج الإنسان الزانية شريطة ألا يكون قد زنى بها، وهذا قد أُثر عن ثلاثة من الصحابة عن عبد الله بن مسعود والبراء بن عازب وعائشة رضي الله عنهم؛ فإنهم قالوا:"لا يزالان زانيين ما اجتمعا"

(2)

، أما غير الزاني فله أن يتزوجها.

وقد أجاب بعض العلماء عن ذلك بأن قالوا: لعل قصدهما إذا لم يتوبا، أما إن تابت هذه المرأة فلا تدخل في هذا التحذير. هذا تأويل وكلام هولاء الصحابة رضي الله عنهم.

> قوله: (وَإِنَّمَا صَارَ الجُمْهُورُ لِحَمْلِ الآيَةِ عَلَى الذَّمِّ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ؛ لِمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ: "أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي زَوْجَتِهِ أَنَّهَا لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: "طَلِّقْهَا"، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُحِبُّهَا. فَقَالَ لَهُ: "فَأَمْسِكْهَا"

(3)

).

هذه كناية قد تصرف إلى الزنا حقيقة وقد تصرف إلى غيره.

(1)

قال ابن كثير في "التفسير"(5/ 72): " {فَاحِشَةً}؛ أي: ذنبًا عظيمًا {وَسَاءَ سَبِيلًا}؛ أي: وبئس طريقًا ومسلكًا".

(2)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 105)؛ حيث قال:"وفيه قول ثالث: وهو أنهما لا يزالان زانيين ما اجتمعا، روي هذا القول عن ابن مسعود، وعائشة، والبراء بن عازب".

(3)

أخرجه النسائي (3465) وغيره عن ابن عباس، قال النسائي:"الصواب المرسل".

ص: 5971

والذين يرون التحريم يقولون: هذا إقامة للدليل في غير محله، فنحن لا نتكلم عن امرأة في عصمة رجل، ولكن الكلام على امرأة زنت ولم تتب هل يتزوجها أو لا؟

وأما إذا زنت امرأة وهي في عصمة زوجها فيقام عليها الحد وترجم.

لكن "لا ترد يد لامس" هذه شبهة؛ الرجل يشك في امرأته؛ ولذلك تكلم العلماء قالوا لا يطلقها؛ هذا هو رأي جماهير العلماء أنه لو اتهم رجل امرأته بالزنا ولم يلاعنها فإن هذا لا يقتضي الطلاق.

> قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ أَيْضًا: إِنَّ الزِّنَا يَفْسَخُ النِّكَاحَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الأَصْلِ، وَبِهِ قَالَ الحَسَنُ

(1)

).

وعن جابر وبعض التابعين

(2)

، لكن جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة

(3)

يرودن أنه لا يفسخ، وهذه مسألة اعتبرها المؤلف فرعية وهي عند غيره ليست فرعًا.

(1)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 106)؛ حيث قال:"روي عن جابر بن عبد الله، والحسن البصري، والنخعي أنهم قالوا: يفرق بينهما في البكر إذا زنت وليس لها شيء".

(2)

تقدَّم في التعليق السابق.

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"، للحصكفي (3/ 50)، حيث قال:"لا يجب على الزوج تطليق الفاجرة، ولا عليها تسريح الفاجر، إلا إذا خافا ألا يقيما حدود الله فلا بأس أن يتفرقا".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الإشراف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 701)، حيث قال:"إذا زنت المرأة لم ينفسخ النكاح".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الأم"، للشافعي (5/ 12)؛ حيث قال:"وجدنا الدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في زانية وزان من المسلمين لم نعلمه حرم على واحد منهما أن ينكح غير زانية ولا زان ولا حرم واحدًا منهما على زوجه".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 83)، حيث قال: "أو زنى رجل قبل الدخول بزوجته أو بعده لم ينفسخ النكاح بالزنا

واستحب أحمد للزوج مفارقته امرأته إذا زنت وقال: لا أرى أن يمسك مثل هذه؛ لأنه لا يأمن من أن تفسد فراشه، وتلحق به ولدًا ليس منه".

ص: 5972

* قوله: (وَأَمَّا زَوَاجُ المُلَاعَنَةِ مِنْ زَوْجِهَا المُلَاعِنِ، فَسَنَذْكُرُهَا فِي كتَابِ اللِّعَانِ)

(1)

.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[الفَصْلُ الخَامِسُ فِي مَانِعِ العَدَدِ]

وَاتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ أَرْبَعَةٍ مِنَ النِّسَاءِ مَعًا، وَذَلِكَ لِلْأَحْرَارِ مِنَ الرِّجَالِ

(2)

، وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي العَبيدِ، وَفِيمَا فَوْقَ الأَرْبَعِ، أَمَّا العَبِيدُ فَقَالَ مَالِكٌ فِي المَشْهُورِ عَنْهُ

(3)

: يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ أَرْبَعًا، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ

(4)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(5)

(1)

سيأتي حكم هذه المسألة في اللعان.

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 149)، حيث قال:"وللحر أن يتزوج أربعًا من الحرائر والإماء، وليس له أن يتزوج أكثر من ذلك".

ومذهب المالكية، يُنظر:"عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب (ص 305)؛ حيث قال:"لا يجوز لأحد تزوج خامسة على أربع، وهو عندنا إجماع".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 296)؛ حيث قال:"ويحل للحر أربع فقط".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 658)؛ حيث قال:"وليس لحر جمع أكثر من أربع زوجات".

(3)

يُنظر: "عيون المسائل"، للقاضى عبد الوهاب (ص 305)؛ حيث قال:"يجوز للعبد أن يجمع بين أربع زوجات كالحر".

(4)

يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (9/ 441)؛ حيث قال:"ولا يحل لأحد أن يتزوج أكثر من أربعة نسوة إماء أو حرائر، أو بعضهن حرائر وبعضهن إماء".

(5)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 149)؛ حيث قال: "ولا يتزوج العبد أكثر من اثنتين".

ص: 5973

وَالشَّافِعِيُّ

(1)

: لَا يَجُوزُ لَهُ الجَمْعُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَتَيْنِ فَقَطْ).

المملوك هل يقاس على الحر فيلحق به أو لا أو يقتصر على اثنتين؟

أحمد

(2)

وجمهور العلماء والرواية الأخرى لمالك التي أخذ بها المالكية: على أنه ليس له أن يتجوز أكثر من اثنتين؛ لأن حده على النصف من حد الحر، وطلاقه أيضًا طلقتان

(3)

، والحر له ثلاث

(4)

؛ ولذلك لما سأل عمر رضي الله عنه المسلمين الذين معه وكان فيهم عبد الرحمن بن عوف فقال: يتزوج اثنتين وطلاقه اثنتان

(5)

؛ إذن هذا أمر اشتهر بين المسلمين

(1)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 296)؛ حيث قال:"ويحل للعبد امرأتان فقط، لأن الحكم بن عيينة نقل إجماع الصحابة فيه".

(2)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 659)؛ حيث قال:"ولا لعبد جمع أكثر من اثنتين؛ أي: زوجتين".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 157)؛ حيث قال: "وطلاق الأمة تطليقتان حرًّا كان زوجها أو عبدًا، وطلاق الحرة ثلاث حرًّا كان زوجها أو عبدًا".

ومذهب المالكية، يُنظر:"عيون المسائل"، للقاضى عبد الوهاب (ص 353)؛ حيث قال:"جميع طلاق العبد طلقتان؛ سواء كانت زوجته حرة أو أمة".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 454)؛ حيث قال:"وللعبد؛ أي: من فيه رق وإن قل طلقتان فقط هان كانت الزوجة حرة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 260)؛ حيث قال:"ويملك العبد والمكاتب ونحوه كالمدبر والمعلق عتقه بصفة اثنتين؛ أي: طلقتين".

(4)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 157)؛ حيث قال: "وطلاق الأمة تطليقتان حرًّا كان زوجها أو عبدًا، وطلاق الحرة ثلاث حرًّا كان زوجها أو عبدًا".

ومذهب المالكية، يُنظر:"عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب (ص 354)؛ حيث قال:"طلاق الحر للأمة ثلاث".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 454)؛ حيث قال:"وللحر ثلاث وإن تزوج أمة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 259 - 260)؛ حيث قال:"فيملك الحر ثلاث تطليقات، وإن كان تحته أمة".

(5)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(7/ 274) وغيره عن ابن سيرين: "أن عمر بن =

ص: 5974

وعرف، وفي الحد:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].

> قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هَلِ العُبُودِيَّةُ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِ هَذَا العَدَدِ كَمَا لَهَا تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِ نِصْفِ الحَدِّ الوَاجِبِ عَلَى الحُرِّ فِي الزِّنَا).

قصد المؤلف بالعبودية: الرق بمعنى أن هذا الإنسان مملوك لغيره؛ أي: عبد له

(1)

.

وقد تطلق ويقصد بها العبودية لله سبحانه وتعالى: أن تعبد الله وحده لا شريك له، فالناس كلهم عبيدهم وأحرارهم عبيد لله سبحانه وتعالى، وفي مقدمتهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [لإسراء:1].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسر بأن يوصف بأنه عبدٌ لله وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا تُطْرُونِي"

(2)

يعني: لا ترفعوني عن مكانتي "كمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُه، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولهُ"

(3)

، فمن أجمل ما تصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقول: محمد عبد الله ورسوله.

* قوله: (وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ عِنْدَ مَنْ رَأَى ذَلِكَ؟ وَذَاكَ أَنَّ

= الخطاب سأل الناس: كم يحل للعبد أن ينكح؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: اثنتين، فصمت عمر كأنه رضي بذلك وأحبه، قال بعضهم: قال له عمر: وافقت الذي في نفسي".

وأخرج عبد الرزاق (7/ 221) أيضًا عن عبد الله بن عتبة، عن عمر بن الخطاب قال:"ينكح العبد ثنتين، ويطلق تطليقتين، وتعتد الأمة حيضتين، فإن لم تحض فشهرين - أو قال: فشهر ونصف - ".

(1)

الرق: بالكسر من الملك وهو العبودية. انظر: "مختار الصحاح"، للرازي (ص 127).

(2)

الإطراء: مجاوزة الحد في المدح، والكذب فيه. يُنظر:"النهاية"، لابن الأثير (3/ 123).

(3)

أخرجه البخاري (3445) وغيره عن عمر.

ص: 5975

المُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى تَنْصِيفِ حَدِّهِ فِي الزِّنَا

(1)

، أَعْنِي أَنَّ حَدَّهُ نِصْفُ حَدِّ الحُرِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ).

وكذلك بالنسبة للعدة على أن الأمة تعتد بحيضة واحدة

(2)

.

* قوله: (وَأَمَّا مَا فَوْقَ الأَرْبَعِ، فَإِنَّ الجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الخَامِسَةُ

(3)

، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 195 - 196)؛ حيث قال: "إن كان عبدًا جلده خمسين وكذلك الأمة".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الإشراف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 868)؛ حيث قال:"حدُّ الأمة والعبد على النصف من حدِّ الحر".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (5/ 450)؛ حيث قال:"وحد غير الحر من العبد أو غيره إذا كان مكلفًا خمسون جلدة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 93)؛ حيث قال:"وإن كان الزاني رقيقًا ذكرًا أو أنثى فحده خمسون جلدة".

(2)

اختلف أهل العلم في هذه المسألة:

فمذهب الحنفية يُنظر: "درر الحكام"، لملا خسرو (1/ 401)؛ حيث قال: "وفي حق أمة تحيض

حيضتان

وفي حق أمة لم تحض، أو مات عنها زوجها نصف ما للحرة".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير"، للدردير (2/ 704)؛ حيث قال:"واستأنفت الاستبراء أم الولد فقط دون غيرها إذا مات سيدها أو أعتقها، إن استبرأت أو اعتدت من طلاق أو موت زوج قبل عتقها، أو غاب سيدها غيبة علم أنه لم يقدم منها فأرسل بعتقها، أو مات فلا بد من استئنافها الاستبراء، ولا يكفي الاستبراء أو العدة السابقة على عتقها؛ لأنها فراش للسيد، فالحيضة في حقها كالعدة في الحرة".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الأم"، للشافعي (5/ 232)؛ حيث قال:"لم أعلم مخالفًا ممن حفظت عنه من أهل العلم في أن عدة الأمة نصف عدة الحرة فيما كان له نصف معدود".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للبهوتى (5/ 565)؛ حيث قال:"وتعتد غيرهما؛ أي: الحرة والمبعضة وهي الأمة بقُرْأَين".

(3)

تقدَّم ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة.

ص: 5976

وَرُبَاعَ}، وَلمَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام: أَنَّهُ قَالَ لِغَيْلَانَ لَمَّا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ: "أَمْسِكْ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ"

(1)

، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَجُوزُ تِسْعٌ

(2)

، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ أَجَازَ التِّسْعَ ذَهَبَ مَذْهَبَ الجَمْعِ فِي الآيَةِ المَذْكُورَةِ، أَعْنِي: جَمْعَ الأَعْدَادِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]

(3)

).

جماهير العلماء من الصحابة والتابعين وممن يعتد بقولهم يقولون: يجوز للحر أن يجمع بين أربعة بنص كتاب الله عز وجل، فإن الله تعالى يقول:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} .

وشذ قوم ممن لا يعتد بقولهم فقالوا: له أن يتزوج تسعة واحتجوا بالآية وعلى أن الواو للجمع {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى} يعنى: اثنتين {وَثُلَاثَ} ثلاثة، اثنتين + ثلاث = خمس، {وَرُبَاعَ} يعني: خمسة + أربعة = تسعة، والرسول صلى الله عليه وسلم تزوج تسعة؛ إذن يجوز للإنسان أن يتزوج تسعة.

والصحيح: أن الواو ليست للجمع وإنما هي للتخبير، كما في قوله تعالى في وصف الملائكة:{أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} ؛ فإنه لو أراد بذلك الجمع لكان في الآية {أُولِي أَجْنِحَةٍ} تسعة.

(1)

أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(9/ 465) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(222).

(2)

يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (9/ 166)؛ حيث قال:"وحكي عن القاسم بن إبراهيم ومن نسب إلى مقالته من القاسمية وطائفة من الزائدية أنه يحل له نكاح تسع استدلالًا بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] بواو الجمع، والمثنى مبدل من اثنين، والثلاث مبدل من ثلاث، والرباع مبدل من أربع فصار مجموع الاثنين والثلاث والأربع تسعًا".

(3)

يُنظر: "فتح القدير"، لابن الهمام (3/ 239)، و "الحاوي الكبير"، للماوردي (9/ 166)، و"المغني"، لابن قدامة (7/ 85).

ص: 5977

وليس من أسلوب القرآن أنه يطيل، وإنما المعروف في أسلوب القرآن أنه معجز في بلاغته معجز في أسلوبه معجز في معانيه

(1)

.

وأما ما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم فذلك خاص به صلى الله عليه وسلم

(2)

، وتعديد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن الغرض منه قضاء الوطر، وإنما هناك حكم من بينها أنه أراد في بعض تلك الزوجات أن يحقق قول القائل:"ارحموا عزيز قوم"

(3)

.

فدعوى من يقول: إن التعدد ما زاد عن الأربع؛ هذا غير صحيح.

(1)

قال الماوردي في "الحاوي الكبير"(9/ 166 - 167): "والدليل الثاني: من الآية أن الواو التي فيها ليست واو جمع، وإنما هي واو تخيير بمعنى "أو"، وتقدير الكلام: مثنى أو ثلاث أو رباع، وإنما كان كذلك لأمرين:

أحدهما: أن ذكر التسعة بلفظهما أبلغ في الاختصار وأقرب إلى الإفهام من ذكرها بهذا العدد المشكل الذي لا يفيد تفريقه.

والثاني: قوله بعد ذلك: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . ولو كان المراد تسعًا ولم يرد اثنين على الانفراد لقال: فإن خفتم ألا تعدلوا فثمان ليعدل عن التسع إلى أقرب الأعداد إليهما لا لبعده منهما؛ لأنه قد لا يقدر على العدل في تسع ويقدر على العدل في ثمان".

(2)

قال الجويني في "نهاية المطلب"(12/ 16): "أما في باب النكاح؛ فإنه كان له أن يزيد على أربع، وقيل: كان يباح له أن يجمع بين تسع نسوة من غير زيادة. وقيل: منكوحاته كالسراري في حق أمته".

وقال الرحيباني في "مطالب أولي النهى"(5/ 33): "وأبيح له صلى الله عليه وسلم التزوج بأي عدد شاء" لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] الآية، ولأنه مأمون الجور. ومات عن تسع كما هو مشهور".

(3)

تحقق في قصة زواجه من صفية بنت حيي: فأخرج البخاري (371) ومسلم (1365/ 84) عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر

وفيه قال: فأصبناها عنوة، فجمع السبي، فجاء دحية الكلبي رضي الله عنه فقال: يا نبي الله، أعطني جارية من السبي، قال:"اذهب فخذ جارية"، فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي، سيدة قريظة والنضير، لا تصلح إلا لك، قال:"ادعوه بها" فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خذ جارية من السبي غيرها"، قال: فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها

الحديث.

ص: 5978

وقد ثبت أن غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أمسك أربعًا وفارق سائرهن"

(1)

.

وابن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "فارق الخامسة"

(2)

.

وقد حكى الإجماع على ذلك ابن قدامة صاحب كتاب "المغني"

(3)

، وكذلك الحافظ العلامة ابن حجر في كتابه "فتح الباري"، ونص على تلك الطائفة الذين خرجوا عن الطريق السوي تنكبوه

(4)

.

أما دعوى بعض العلماء بأن هناك من ذهب إلى الزيادة ونسب ذلك إلى العمران من الشافعية ولغيره؛ فهذا كلام غير صحيح

(5)

.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه الشافعي في "المسند"(ص 274 - 275) عن نوفل بن معاوية الديلي قال: أسلمت وتحتي خمس نسوة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "فارق واحدة وأمسك أربعًا". فعمدت إلى أقدمهن عندي عاقر منذ ستين سنة ففارقتها. وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1884).

(3)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (7/ 85)؛ حيث قال:"وليس للحر أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات أجمع أهل العلم على هذا، ولا نعلم أحدًا خالفه منهم، إلا شيئًا يحكى عن القاسم بن إبراهيم، أنه أباح تسعًا".

(4)

يُنظر: "فتح الباري"، لابن حجر (9/ 139)، حيث قال:"قوله: (باب لا يتزوج أكثر من أربع لقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} أما حكم الترجمة فبالإجماع إلا قول مَن لا يعتد بخلافه من رافضي ونحوه".

(5)

وهو الشوكاني ورد عليه المطيعي في "تكملة المجموع"(16/ 244)؛ حيث قال: "وقد أخطأ الشوكاني في عزو ذلك إلى ابن الصباغ والعمراني وبعض الشيعة، والصحيح أن ابن الصباغ والعمراني ردا على القائلين بهذا كالقاسم بن إبراهيم وبعض الشيعة وبعض الظاهرية، وحاشى لبعض أصحابنا من الفحول أن يذهبا إلى حل أكثر من أربع".

ص: 5979

[الفَصلُ السَّادِسُ فِي مَانِعِ الجَمْعِ]

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ بعَقْدِ نِكَاحٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]

(1)

).

وقبلها: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} .

وهذه الآية سردت لنا عددًا من المحرمات: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ثم ختمها بقوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} ؛ يعني: ما سلف في الجاهلية.

ولهذا نجد عقودًا كانت في الجاهلية وربما لم تبن على أمر صحيح لكنه صحح في الإسلام شريطة ألا يكون هناك محرم؛ كأن يكون في العقد

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 145)، حيث قال:"ولا يجمع بين أختين بنكاح ولا بملك يمين وطئًا".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"، للدردير (2/ 253)؛ حيث قال: "ولو جمع بين محرمتي الجمع كأختين

في نكاح فسخ نكاح ثانية منهما".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 295)؛ حيث قال:"ويحرم ابتداء ودوامًا جمع امرأتين بينهما قرابة أو رضاع لو فرضت إحداهما ذكرًا حرم تناكحهما كجمع المرأة وأختها".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 654)، حيث قال:"يحرم لأجل الجمع؛ فيحرم الجمع بين أختين من نسب أو رضاع حرتين كانتا أو أمتين أو حرة وأمة وسواء قبل الدخول أو بعده".

ص: 5980

جمع بين امرأة وبنتها أو أختين من نسب أو رضاع أو بين ابن وامرأة أبيه فهذه لا يجوز أن تقرَّ وينهى العقد.

فقوله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} ؛ يعني: مما تقره هذه الشريعة، أما ما لا تقره فلا يمكن الجمع بين محرمين، ولم يخالف في ذلك أحد فيما يتعلق في الجمع بين الأختين في النكاح، ولا بينهما في الرضاع.

لكننا عندما نلقي نظرة في هذه الآية نجد أنها أطلقت بعد أن ذكر الله تعالى جملة من المحرمات قال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ولفظ الأختين مطلق يشمل في ظاهره الأختين الشقيقتين والأختين من الأب والأختين من الأم، ويدخل الأخوات من الرضاع ولا خلاف بين العلماء في ذلك

(1)

.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ اليَمِينِ، وَالفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِهِ

(2)

، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ

(3)

، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ

(1)

تقدَّم ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة.

(2)

وهو مذهب الجمهور.

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 145)؛ حيث قال: "ولا يجمع بين أختين بنكاح ولا بملك يمين وطئًا".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"، للدردير (2/ 252)؛ حيث قال:"كوطئهما؛ أي: الثنتين بالملك فيحرم، وأما جمعهما في الملك لا الوطء بل للخدمة أو إحداهما لها والثانية للوطء فلا يحرم".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 295)؛ حيث قال:"ومن حرم جمعهما بنكاح حرم جمعهما أيضًا في الوطء بملك أو ملك ونكاح، وإن لم يعلم من كلامه؛ لأنه إذا حرم العقد فلأن يحرم الوطء أولى؛ لأنه أقوى".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 654)؛ حيث قال:"يحرم لأجل الجمع فيحرم الجمع بين أختين من نسب أو رضاع حرتين كانتا أو أمتين أو حرة وأمة وسواء قبل الدخول أو بعده".

(3)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 100)؛ حيث قال:"اختلف فيه عن ابن عباس، فروي عنه أنه قال: حرمتهما آية وأحلتهما آية، ولم أكن أفعله".

ص: 5981

عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] لِعُمُومِ الاسْتِثْنَاءِ فِي آخِرِ الآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الاسْتثْنَاءَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ لِأَقْرَب مَذْكُورٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ لِجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ مِنَ التَّحْرِيمِ إِلَّا مَا وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيهِ، فَيَخْرُجُ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} مِلْكُ اليَمِينِ، وَيُحْتَمَلُ أَلَّا يَعُودَ إِلَّا إِلَى أَقْرَبِ مَذْكورٍ، فَيَبْقَى قَوْلُهُ:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} عَلَى عُمُومِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ عَلَّلْنَا ذَلِكَ بِعِلَّةِ الأُخُوَّةِ، أَوْ بِسَبَبٍ مَوْجُودٍ فِيهِمَا).

لا خلاف بين العلماء في الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها

(1)

في ملك اليمين، للإنسان أن يبيع ويشتري ما شاء، والخلاف إنما هو في الوطء: هل للإنسان أن ينكح يطأ هاتين الأختين معًا؟

جمهور العلماء على أنه ليس له أن يجمع بين أختين في الوطء بملك

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 145)؛ حيث قال: "ولا يجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها ولا ابنة أخيها ولا ابنة أختها ولا يجمع بين امرأتين لو كانت كل واحدة منهما رجلًا لم يجز له أن يتزوج بالأخرى، ولا بأس أن يجمع بين امرأة وابنة زوج كان لها من قبل".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"، للدردير (2/ 253)؛ حيث قال:"لو جمع بين محرمتي الجمع كأختين وكامرأة وعمتها أو خالتها في نكاح فسخ نكاح ثانية منهما".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 307)؛ حيث قال:"ويحرم جمع المرأة وأختها أو عمتها أو خالتها من رضاع أو نسب ولو بواسطة لأبوين أو أب أو أم ابتداء ودوامًا".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 654)؛ حيث قال:"ويحرم الجمع بين امرأة وعمتها أو خالتها وإن عَلَتَا من كل جهة من نسب أو رضاع".

ص: 5982

اليمين؛ فإن وطئ إحداهما ثم بعد ذلك أراد الأخرى فلا

(1)

، يقولون: إن سائر مَن ذكر في هذه الآية إنما نصت الآيه على تحريمهن سواء كن في النكاح أو كن في ملك اليمين.

وأحمد لما سئل عن تحريم وطء الأختين بملك اليمين قال: لا أقول حرامًا ولكن ننهى عن ذلك

(2)

، فأجاب عنه بعض العلماء بأن مراده رحمه الله بأنه لم يقطع بالتحريم تأدبًا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

؛ فإنه قد أثر عن عمر

(4)

وعن عثمان

(5)

وعن علي

(6)

وعن ابن عمر

(7)

وعن ابن عباس

(8)

وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كرهوا ذلك ولم يحرموه.

(1)

تقدَّم ذكر مذاهب الفقهاء في ذلك.

(2)

يُنظر: "مسائل أحمد وإسحاق"، للكوسج (4/ 1550)؛ حيث قال:"قلت: الجمع بين الأختين المملوكتين تقول إنه حرام؟ قال: لا أقول إنه حرام ولكن ينهى عنه".

(3)

يُنظر: "الإنصاف"، للمرداوي (8/ 125)؛ حيث قال:"من قال عن أحمد إنه قال: لا يحرم بل يكره؛ فقد غلط عليه، ومأخذه الغفلة عن دلالات الألفاظ ومراتب الكلام، وأحمد إنما قال: لا أقول إنه حرام ولكن ينهى عنه. وكان يهاب قول الحرام إلا فيما فيه نص".

(4)

أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 538) وغيره عن ابن مسعود: "أن عمر بن الخطاب سئل عن المرأة وابنتها من ملك اليمين توطأ إحداهما بعد الأخرى؛ فقال عمر: ما أحب أن أخبرهما جميعًا ونهى عن ذلك".

(5)

أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 538 - 539) وغيره عن قبيصة بن ذؤيب: "أن رجلًا سأل عثمان بن عفان عن الأختين من ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية، فأما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك، قال: فخرج من عنده فلقي رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك؛ فقال: لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحدًا فعل ذلك لجعلته نكالًا".

(6)

أخرجه سعيد بن منصور في "السنن"(1/ 446) وغيره عن إياس بن عامر، عن علي قال:"يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد".

(7)

الذي روي عنه المنع وليس الكراهة؛ فأخرج سعيد بن منصور في "السنن"(1/ 443) عن ميمون بن مهران: "أن ابن عمر سئل عن رجل له أمتان وهما أختان، فوطئ إحداهما، وأراد أن يطأ الأخرى، فقال: "ليس ذاك له. قيل: فإن قربها؟ قال: لا، حتى تخرج التي وطئ من ملكه".

(8)

أخرجه سعيد بن منصور في "السنن"(1/ 445) عن عكرمة، عن ابن عباس قال: =

ص: 5983

وحكي عن أهل الظاهر أنهم أباحوا الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين

(1)

.

قال الجمهور: كل ما ورد في هذه الآيه فإنه محرم في النكاح وفي الرضاع وفي ملك اليمين؛ فلماذا أخرج الجمع بين الأختين بملك اليمين من بين هذه المحرمات؟

فإن قيل: لأن الآية لا تشمل الإماء.

قيل: فلماذا أخرج الجمع بين الموطوءة بملك اليمين وبين أمها؛ لم يقل أحد أنه يجمع بين هذه في ملك اليمين بالوطء وبين موطوءة الأب، ولا بينها وبين موطوءة الابن؛ إذن لماذا خصت هذه من بينها؟

الأمر الآخر: أنهم قالوا: الآية الأولى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} هذه عامة خصت بهذه الآيه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} .

قالوا: وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فهذه لها سبب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين أرسل سرية إلى أوطاس غنموا غنائم وسبوا وبعض الصحابه رضى الله عنهم تحرجوا من إتيان تلك

= "ذكروا عند ابن عباس قول علي رضي الله عنه: أحلتهما آية وحرمتهما آية. فقال ابن عباس: أحلتهما آية وحرمتهما أخرى، إنما يحرم علي قرابتي منهن، ولا تحرم علي قرابة بعضهن من بعض".

(1)

لم يبيحوا ذلك بل مذهبهم مذهب جمهور الصحابة والفقهاء. يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (9/ 521)، حيث قال: "ولا يحل الجمع في استباحة الوطء بين الأختين من ولادة أو من رضاع كما ذكرنا لا بزواج ولا بملك يمين، ولا إحداهما بزواج والأخرى بملك يمين

فمن اجتمع في ملكه أختان، أو عمة وبنت أخيها، أو خالة وبنت أختها، فهما جميعًا عليه حرام حتى يخرج إحداهما عن ملكه بموت أو بجع أو هبة أو غير ذلك من الوجوه، أو حتى تزوج إحداهما بأي هذه الوجوه كان - حل له وطء الباقية. فإن رجعت إلى ملكه الأخرى رجعت حرامًا كما كانت، وبقيت الأولى حلالًا كما كانت، فإن أخرجها، عن ملكه أو زوجها أو ماتت - حلت له التي كانت حرامًا عليه".

ص: 5984

النساء وهن في عصمة رجال فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}

(1)

.

ونجد أن جمهور العلماء بل كافة العلماء أخذوا بها، وهناك قلة أخذوا بخلافها مع أن ظاهر النصوص يشهد لأولئك القل.

واستدل هذا الفريق بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل يؤمن باللّه أن يجمع ماءه في رحم أختين". لكن هذا الحديث ضعيف

(2)

.

ومما استدلوا به: أنهم قالوا: لا يجوز أن يجمع في ملك اليمين بالوطء بين المرأة وابنتها. هذا أمر مجمع عليه، فلماذا خصت هذه من بين المحرمات، والآية قد جمعت عددًا من المحرمات فما بال هذه تخرج منها؟؛ فقالوا: إن الجمع بين الأختين بملك اليمين لا تدل الآية على تحريمه مع أنكم أجمعتم على ما جاء فيها جميعًا.

ويظهر - والله أعلم - أن رأي الجمهور في هذا، هو الراجح وهو الصحيح، وهو الذي تؤيده الأدلة؛ فكما أنه لا يجوز أن يجمع بين الأختين في نكاح ولا الأختين برضاع كذلك لا يجمع بينهما بملك يمين.

والحكمة التي من أجلها حرم بين الأختين: الغيرة؛ لأن كل امرأة تريد أن تنفرد بهذا الزوج ولا تريد أن يشركه غيرها معها من النساء؛ فإذا ما دخلت امرأة أخرى عليها أخذتها الغيرة، هذه الغيرة كثيرًا ما تتحول إلى العداوة والبغضاء؛ فتنتقل بعد ذلك إلى قطيعة الرحم، والله سبحانه وتعالى قد

(1)

أخرجه مسلم (1456/ 33) وغيره عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس، فلقوا عدوًّا، فقاتلوهم فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل في ذلك: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، أي: فهنَّ لكم حلال إذا انقضت عدتهن".

(2)

لم أقف عليه مسندًا، بل يذكر هكذا بلا إسناد. قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 361):"لا أصل له".

ص: 5985

حرم قطيعة الرحم؛ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)} [محمد: 22].

ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى عندما ذكر الخمر والميسر قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91].

الشيطان دائمًا يتربص بالمرء الدوائر فيتحين أيَّ فرصة لينقض عليه فيوقعه في المهالك، والمرأة ضعيفة وهي ذات نفس ضعيفة فربما وسوس لها الشيطان وإن لم تكن رأت ميلًا؛ فتصبح هذه الأخوة التي هي قائمة بين الأختين تنتهي إلى قطيعة الرحم وإلى العداوة.

> قوله: (وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا بِالمَنْعِ فِي مِلْكِ اليَمِينِ إِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا بِنِكَاحٍ وَالأُخْرَى بِمِلْكِ يَمِينٍ، فَمَنَعَهُ مَالِكٌ

(1)

وَأَبُو حَنِيفَةَ

(2)

، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ

(3)

).

هذه مسأله أخرى: لو أنه وطئ واحدة من الأختين بملك يمين ثم نكح الأخرى: هل يمكن الجمع بينهما؟

الجمهور يمنعون ذلك يقولون: ليس له أن ينكح أختها

(4)

؛ أولًا يتخلص من هذه ببيع أو غيره، ثم بعد ذلك ينكح الأخرى.

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"، للدردير (2/ 252)؛ حيث قال:"كوطئهما؛ أي: الثنتين بالملك فيحرم، وأما جمعهما في الملك لا الوطء بل للخدمة أو إحداهما لها والثانية للوطء فلا يحرم".

(2)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 145)؛ حيث قال: "ولا يجمع بين أختين بنكاح ولا بملك يمين وطئًا".

(3)

المذهب خلاف ما ذكره المؤلف، وسينبه عليه الشارح، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 295)؛ حيث قال:"ومن حرم جمعهما بنكاح حرم جمعهما أيضًا في الوطء بملك أو ملك ونكاح".

(4)

ومذهب الحنابلة المنع أيضًا. يُنظر. "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 656)؛ حيث قال:"وحرم أن يطأها؛ أي: التي ملكها حتى يفارق زوجته وتنقضي عدتها".

ص: 5986

أما الشافعية: فيرون أنه لو وطئ هذه الأمة ثم أراد أن ينكح أختها بعقد جاز له ذلك، لكنهم لا يرون الجمع بينهما بل يقولون: نعم لو وطئ أمة فله أن يعقد عليها فبمجرد العقد يحرم عليه وطء الأمة، وليس كما أطلق المؤلف. هذا هو المعروف من مذهب الشافعية.

* قوله. (وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى تَحْرِيمِ الجَمْعِ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا

(1)

؛ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَه

(2)

، وَتَوَاتُرِهِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام:"لَا يُجْمَعُ بَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا"

(3)

).

ليس كما قال - فيما أعلم -، بل هذا أمر مجمع عليه ولا خلاف فيه.

أولًا: ليس كل خلاف يعتد به، إنما الخلاف الذي يعتد به هو الذي يصدر عن عالم من العلماء الذين يعتد بخلافهم، ويكون مبنيًّا على دليل

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 145)؛ حيث قال: "ولا يجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها ولا ابنة أخيها ولا ابنة أختها".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الإشراف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 702)؛ حيث قال:"لا يجوز الجمع بين المرأة وعمتها ولا خالتها، خلافًا لمن لا يعتد به؛ لثبوت السنة بتحريمه، وانعقاد الإجماع عليه من أهل الأعصار".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 307) قال:"ويحرم جمع المرأة وأختها أو عمتها أو خالتها من رضاع أو نسب ولو بواسطة لأبوين أو أب أو أم ابتداء ودوامًا للاية في الأختين وللخبر الصحي في الباقي".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 654)؛ حيث قال:"ويحرم الجمع بين امرأة وعمتها أو خالتها وإن علتا من كل جهة من نسب أو رضاع".

(2)

أخرجه البخاري (5109)، ومسلم (1408/ 33) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها".

(3)

أخرجه أبو داود (2066) وغيره عن أبي هريرة يقول: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وخالتها، وبين المرأة وعمتها". وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1803).

ص: 5987

من كتاب أو سنة أو من فهم مردُّه إلى كتاب الله عز وجل، أو إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إلى إجماع، أو إلى قول صحابة، أو ما يعود إلى مقاصد هذه الشريعة الغراء، أما خلاف مَن لا يعتد بخلافه فلا ينظر إليه

(1)

.

فالله سبحانه وتعالى ذكر أربعة عشر من المحرمات في سورة النساء بدأ بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} ثم بعد ذلك قال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ، لكنه لم يذكر الجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها، وإنما جاء ذلك مبينًا غاية البيان في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة وغيره:"لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا يجمع بين المرأة وخالتها"

(2)

.

وبعضهم نازع في التواتر، لكن طريق أبي هريرة تواتر، وهو حديث في قوله:"الصحيحين"، وعند أبي داود رواية جاءت مفصلة أكثر:"لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها، لا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى"

(3)

. هذا في غاية البيان والتفصيل والتوضيح.

ونفس العلة التي ذكرناها في تحريم الجمع بين الأختين هي نفسها تنطبق هنا؛ لأن العمة إنما هي بمنزلة الأم وهي أخت الأب والخالة بمنزلة الأم، ولذلك نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى الزوجة الأخرى ضرة:"ولا تطلب المرأة طلاق أختها - وفي رواية: ضرتها - لتكفأ ما في صحفتها"

(4)

.

(1)

قال الجصاص في "الفصول في الأصول"(3/ 296 - 297): "ولا يعتد بخلاف مَن لا يعرف أصول الشريعة، ولم يرتض بطرق المقاييس ووجوه اجتهاد الرأي

ونقول أيضًا: في كل مَن لم يعرف أصول السمع وطرق الاجتهاد والمقاييس الفقهية: إنه لا يعتد بخلافه، وإن كان ذا حظ من المعرفة بالعلوم العقلية".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه أبو داود (2065) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1802).

(4)

أخرجه البخاري (6600) ومسلم (1408/ 38) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، ولتنكح، فإنَّ لها ما قدر لها".

ص: 5988

لا شك أن العمة والخالة محل تقدير وإجلال من ابنة أخيها ومن ابنة أختها؛ فينبغي أن تجلها وأن تحترمها وأن تنزلها المنزلة اللائقة بها كما تحترم أمها، فعندما تصبح شريكة لها في أمر تبدأ الغيرة تثور ويترتب على ذلك العداوة والغضب والشحناء والتنافس، ثم بعد ذلك قد ينتهي ذلك إلى قطيعة الرحم، وهذا مما نهى عنه الإسلام وحذر منه.

هذه الشريعة الإسلامية لا تنهى عن أمر إلا وفيه ضرر على الإنسان: لماذا نهى عن السرقة؟ نهى عنها لما يترتب عليها من الفساد: فيها التعدي، فيها الظلم، فيها أكل أموال الناس بالباطل.

كذلك الزنا: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32].

كذلك القذف: كما أن الإنسان لا يرضى أن يُجرح ويُتكلَّم في عرضه كذلك ينبغي ألا يتكلم في عرض غيره.

* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ العَمَّةَ هَاهُنَا هِيَ كلُّ أُنثَى هِيَ أُخْت لِذَكَرٍ لَهُ عَلَيْكَ وِلَادَة، إِمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ ذَكرٍ آخَرَ

(1)

، وَأَنَّ الخَالَةَ:

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (5/ 21)؛ حيث قال:" (وتدخل فيها) ش: أي: في حرمة الآية م: (العمات المتفرقات) ش: أي: العمة لأب وأم، والعمة لأب دون أم، والعمة لأم دون أب".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير"، للدردير و"حاشية الصاوي" (2/ 403)؛ حيث قال: "وحرم

وأول فصل فقط من كل أصل من جهة الأب أو الأم كالأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وعم الأب أو عمته وإن علا".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 289)؛ حيث قال:"وأشار لضابط العمة بقوله: كل مَن هي أختُ ذكر ولدك بلا واسطة فعمتك حقيقة أو بواسطة كعمة أبيك فعمتك مجازًا، وقد تكون العمة من جهة الأم كأخت أبي الأم".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 651)؛ حيث قال: "والعمة من كل جهة

وإن علتا؛ أي: العمة والخالة كعمة أبيه وعمة أمه

وعمة العم لأب لأنها عمة أبيه، ولا تحرم عمة العم لأم بأن يكون للعم أخي أبيه=

ص: 5989

هِيَ كُلُّ أُنْثَى هِيَ أُخْت لِكُلِّ أُنْثَى لَهَا عَلَيْكَ وِلَادَةٌ، إِمَّا بِنَفْسِهَا، وَإِمَّا بِتَوَسُّطِ أُنْثَى غَيْرِهَا، وَهُنَّ الحُرَّاتُ مِنْ قِبَلِ الأُمِّ

(1)

).

فأخت الأب عمة وعمة الأب عمة وكذلك عمة الجد

وهكذا.

وهكذا الحال بالنسبة للخالة فأخت الأم هي الخالة القربى وخالة الأم خالة

وهكذا. هذا هو مراد المؤلف.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا: هَلْ هَذَا مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الخَاصُّ، أَمْ هُوَ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ؛ وَالَّذِينَ قَالُوا: هُوَ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ اخْتَلَفُوا: أَيُّ عَامٍّ هُوَ المَقْصُودُ بِهِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ -

= لأمه عمة فلا تحرم على ابن أخيه، لأنها أجنبية منه، وكعمة الخالة لأب فتحرم؛ لأنها عمة الأم ولا تحرم عمة الخالة لأم لأنها أجنبية منه، وكخالة العمة لأم فتحرم؛ لأنها خالة أبيه. ولا تحرم خالة العمة لأب لأنها أجنبية".

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (5/ 21)؛ حيث قال:" (والخالات المتفرقات) ش: أي: الخالة لأب وأم، والخالة لأب دون أم، والخالة لأم دون أم والخالة لأم دون أب، وكذا خالات آبائه وأمهاته، وأما خالة الخالة وإن كانت الخالة القربى خالة لأب وأم، أو لأم فخالتها تحرم عليه، وإن كانت القربى خالة لأب فخالتها لا تحرم عليه؛ لأن أم الخالة القربى تكون امرأة الجد أب الأم لا أم أمه، فأختها امرأة أب الأب وأخت امرأة الجد لا تحرم عليه".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير"، للدردير وحاشية الصاوي (2/ 403)؛ حيث قال: "وحرم

وأول فصل فقط من كل أصل من جهة الأب أو الأم

والأخوال والخالات

وخال الأم أو خالتها وإن علت، دون بنيهم فتحل بنت العم أو العمة وبنت الخال أو الخالة".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 289)؛ حيث قال:"وأشار لضابط الخالة بقوله: أو، أي: وكل مَن هي أخت أنثى ولدتك بلا واسطة فخالتك حقيقة، أو بواسطة كخالة أمك فخالتك مجازًا، وقد تكون الخالة من جهة الأب كأخت أم الأب".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 74)؛ حيث قال: "والخالة حقيقة أو مجازًا كعمات آبائهم وخالاتهم؛ أي: خالات الآباء وإن علوا

وخالاتهن وإن علت درجتهن من نسب أو رضاع".

ص: 5990

وَهُمُ الأَكْثَر، وَعَلَيْهِ الجُمْهُورُ مِنْ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ

(1)

: هُوَ خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ الخُصُوصُ فَقَطْ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ).

بمعنى: أنه لا يدخل في ذلك ابنة العم ولا ابنة العمة ولا ابنة الخال ولا ابنة الخالة؛ فهذه مما أباحه الله سبحانه وتعالى.

> قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ

(2)

: هُوَ خَاصٌّ وَالمُرَادُ بِهِ العُمُوم، وَهُوَ الجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ مُحَرَّمَةٌ أَوْ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، فَلَا يَجُوزُ الجَمْعُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ ابْنَتَيْ عَمٍّ أَوْ عَمَّةٍ وَلَا بَيْنَ ابْنَتي خَالٍ أَوْ خَالَةٍ، وَلَا بَيْنَ المَرْأَةِ وَبِنْتِ عَمِّهَا أَوْ بِنْتِ عَمَّتِهَا، أَوْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ خَالتِهَا).

وهذا قول مردود يرده كتاب الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد نص على دْلك في سورة الأحزاب: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} .

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ

(3)

: إِنَّمَا يَحْرُمُ الجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا

(1)

تقدَّم ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة.

(2)

وهو مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 76)، حيث قال:"ويكره للرجل أن يجمع بين بنتي عميه أو بنتي عمتيه أو بنتي خاليه أو بنتي خالتيه أو يجمع بين بنت عمه وبنت عمته أو يجمع بين بنت خاله وبنت خالته".

(3)

وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية.

فمذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 145)، حيث قال:"ولا يجمع بين امرأتين لو كانت كل واحدة منهما رجلًا لم يجز له أن يتزوج بالأخرى".

ومذهب المالكية، يُنظر:"النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (4/ 516)، حيث قال:"وإن كانت خالتها أخت أمها لأمها فذلك جائز، لأنها أجنبية، لو كانت إحداهما رجلًا حلت له الأخرى".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان"، للعمراني (9/ 244)؛ حيث قال:"كل امرأتين لو قلبت كل واحدة منهما ذكرًا، لم يجز له التزوج بالأخرى بالنسب، فوجب ألا يجوز الجمع بينهما في النكاح، كالأختين".

ص: 5991

قَرَابَة مُحَرِّمَةٌ؛ أَعْنِي: لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالآخَرُ أُنْثَى، لَمْ يَجُزْ لَهُمَا أَنْ يَتَنَاكَحَا).

يعني: لو كان أحد هذين القريبين ذكرًا والآخر أنثى لا يجوز للذكر أن يتزوج الأنثى. هذا ما وضعه العلماء، لكن لو اختل ذلك قد يحصل من جانب لو قدر أن أحدهما ذكر والآخر أنثى لا يجوز لهذا أن يتزوج هذه، ويجوز العكس.

* قوله: (وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنِ اشْتَرَطَ فِي هَذَا المَعْنَى أَنْ يُعْتَبَرَ هَذَا مِنَ الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا).

يعني: من الطرفين؛ لا يجوز لهذا أن يتزوج هذا، ولا يجوز لهذا أن يتزوج هذا. هذا هو مراد المؤلف.

* قوله: (أَعْنِي: إِذَا جُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَرًا، وَالآخَرُ أُنْثَى، فَلَمْ يَجُزْ لَهُمَا أَنْ يَتَنَاكحَا؛ فَهَؤُلَاءِ لَا يَحِلُّ الجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا إِنْ جُعِلَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ ذَكَرٌ يَحْرُمُ التَّزْوِيجُ وَلَمْ يَحْرُمْ مِنَ الطَّرَفِ الآخَرِ، فَإِنَّ الجَمْعَ يَجُوز، كَالحَالِ فِي الجَمْعِ بَيْنَ امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَابْنَتِهِ مِنْ غَيْرِهَا

(1)

).

يعني: لو قدر أن رجلًا توفي عن زوجته أو طلقها، وهذا الزوج له بنت من غير هذه الزوجة؛ فيجوز لآخر أن يجمع بين هذه المرأة وبين هذه البنت. هذا هو مراد المؤلف.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 145)؛ حيث قال: "ولا بأس أن يجمع بين امرأة وابنة زوج كان لها من قبل".

ومذهب المالكية، يُنظر:"النوادر والزيادات"، لأبي زيد القيرواني (4/ 515)؛ حيث قال:"قال ربيعة ومالك: لا بأس أن يجمع بين المرأتين بينهما نسب، لو كانت إحداهما رجلًا حلت له الأخرى، وإن كانت لا تحل له الأخرى يجمع بينهما".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان"، للعمراني (9/ 244)؛ حيث قال:"ويجوز الجمع بين امرأة كانت لرجل وبين ابنة زوجها الأول من غيرها".

ص: 5992

* قوله: (فَإِنَّهُ إِنْ وَضَعْنَا البِنْتَ ذَكَرًا، لَمْ يَحِلَّ نِكَاحُ المَرْأَةِ مِنْه، لِأَنَهَا زَوْجُ أَبِيهِ).

هنا لم تتطابق الجهتان كالحال السابقة فحينئذ لا يجوز.

* قوله: (وَإنْ جَعْلَنَا المَرْأَةَ ذَكَرًا، حَلَّ لَهَا نِكَاحُ ابْنَةِ الزَّوْجِ، لِأَنَّهَا تَكُونُ ابْنَةَ الأَجْنَبِيِّ، وَهَذَا القَانُونُ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ

(1)

).

هذا الضبط الذي وضعه العلماء لو قدر أن أحدهما ذكر والآخر أنثى لا يجوز له أن يتزوج، هذه مسألة فرضية أخذ بها مالك وبقية الأئمة رحمهم الله جميعًا

(2)

.

* قوله: (وَأُولَئِكَ يَمْنَعُونَ الجَمْعَ بَيْنَ زَوْجِ الرَّجُلِ وَابْنَتِهِ مِنْ غَيْرِهَا).

والذين يخالفون ذلك كالحسن البصري

(3)

وابن أبي ليلى

(4)

ومكحول

(5)

هم الذين يقولون بالرأي المخالف. وهذا حقيقة قول يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه، والأصل فيه إنما هو الإباحة.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(1)

تقدَّم ذكر مذهبهم في ذلك.

(2)

تقدَّم ذكر مذاهبهم في هذه المسألة.

(3)

يُنظر: "الأوسط"، لابن المنذر (8/ 501)؛ حيث قال:"وقد وروي عن الحسن، وعكرمة أنهما كرها ذلك، فأما الحسن فقد ثبت رجوعه عنه، وأما حديث عكرمة ففي إسناده مقال".

(4)

يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 263)؛ حيث قال:"وقال زفر وابن أبي ليلى: لا يجوز؛ لأن البنت لو كانت رجلًا لكان لا يجوز له أن يتزوج الأخرى، لأنها منكوحة أبيه فلا يجوز الجمع بينهما".

(5)

لم أقف عليه.

ص: 5993

‌(الفَصْلُ السَّابِعُ فِي مَوَانعِ الرِّقِّ

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ الأَمَةَ

(1)

).

لأنها مساوية له.

* قوله: (وَلِلْحُرَّةِ أَنْ تَنْكِحَ العَبْدَ إِذَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ هِيَ وَأَوْلِيَاؤُهَا

(2)

).

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 319)؛ حيث قال:"فلا يكون القن، والمدبر، والمكاتب كفئًا للحرة بحال، ولا يكون مولى العتاقة كفئًا لحرة الأصل، ويكون كفئًا لمثله".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الإشراف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 706)؛ حيث قال: "وللعبد أن يتزوج أمة صمأن كان تحته حرة، وقال عبد الملك لا يجوز

ودليلنا أنها مساوية في الحرمة؛ فلم يكن وجود نكاح غيرها مانعًا من نكاحها كالحرة مع الحرة". ومذهب الشافعية، يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 282)؛ حيث قال: "وله؛ أي: السيد إطلاق الإذن لعبده في النكاح جزمًا وينكح الحرة والأمة ولو من غير بلد العبد".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 663)، حيث قال:"ويباح لأمة نكاح عبد".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"، للحصكفي (853)؛ حيث قال:"والكفاءة هي حق الولي لا حقها؛ فلو نكحت رجلًا ولم تعلم فإذا هو عبد لا خيار لها بل للأولياء".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"، للدردير (2/ 261 - 262)؛ حيث قال:"ولعبد؛ أي: جاز له تزوج ابنة سيده برضاها ورضا السيد، وكذا بنت سيدته بثقل بكسر المثلثة وفتح القاف ضد الخفة؛ أي: بكراهة؛ إذ هو ليس من مكارم الأخلاق".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان"، للعمراني (9/ 194)؛ حيث قال:"وليس للولي أن يزوج المرأة من غير كفء إلا برضاها ورضا سائر الأولياء".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 68)؛ حيث قال: "لا يكون العبد ولا المبعض كفئًا لحرة ولو كانت عتيقة؛ لأنه منقوص بالرق ممنوع من =

ص: 5994

لأنها لو رضيت هي وأهلها فهي قد تنازلت عني حقها، ثم المقياس والميزان إنما هو التقوى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

والرسول صلى الله عليه وسلم شار على فاطمة بنت قيس أن تتزوج بأسامة بن زيد وهي قرشية وهو من الموالي، فتزوجته وكان قد خطبها معاوية بن أبي سفيان وأبو جهم

(1)

.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي نِكَاحِ الحُرِّ الأَمَةَ. فَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ المَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ القَاسِمِ

(2)

. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: عَدَمِ الطَّوْلِ، وَخَوْفِ العَنَتِ، وَهُوَ المَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ

(3)

، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ

(4)

، وَالشَّافِعِيِّ

(5)

).

= التصرف في كسبه غير مالك له، ولأن ملك السيد لرقبته يشبه ملك البهيمة فلا يساوي الحرة لذلك والعتيق كله كفء للحرة".

(1)

أخرجه مسلم (1480/ 47) وغيره عن أبي بكر بن أبى الجهم بن صخير العدوي قال: سمعت فاطمة بنت قيس تقول: إن زوجها طلقها ثلاثًا، فلم يجعل لها رسول اللهُ صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حللت فآذنيني"، فآذنته، فخطبها معاوية، وأبو جهم، وأسامة بن قلد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما معاوية فرجل ترب لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء، ولكن أسامة بن زيد" فقالت بيدها هكذات أسامة! أسامة! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طاعة الله وطاعة رسوله خير لك"، قالت: فتزوجته فاغتبطت.

(2)

يُنظر: "المدونة"، للإمام مالك (2/ 137)؛ حيث قال:"وقال ابن القاسم وابن وهب وعلي قال: لا ينبغي للرجل الحر أن يتزوج الأمة وهو يجد طولًا لحرة، ولا يتزوج أمة إذا لم يجد طولًا لحرة إلا أن يخشى العنت".

(3)

يُنظر: "الإشراف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 705)، حيث قال:"لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا لعدم الطول وخشية العنت، والطول صداق الحرة".

(4)

للحنفية تفصيل غير الذي ذكره المصنف، وسينبه عليه الشارح.

يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 267)؛ حيث قال:"وأما عدم طول الحرة - وهو القدرة على مهر الحرة - وخشية العنت فليس من شرط جواز نكاح الأمة عند أصحابنا، والحاصل: أن من شرائط جواز نكاح الأمة عند أبي حنيفة ألا يكون في نكاح المتزوج حرة ولا في عدة حرة".

(5)

المذهب أنهم أكثر من أربعة شروط. =

ص: 5995

يقصد الأمة المسلمة.

أما القول الثاني فهو مذهب جماهير العلماء: يجوز للحر أن يتزوج الأمة المسلمة بشرطين:

الشرط الأول: هو ألا يجد طَولًا، والطَّول

(1)

في تفسير عدة أقوال أظهرها أنه المهر؛ يعني: ألا يكون موسرًا؛ يعني: من أهل اليسار؛ عنده ما يدفعه لهذه المرأة.

وقيل: إن الطول إنما هي الحرة.

والشرط الثاني: أن يخاف على نفسه الزنا.

فإذا اجتمع هذان الشرطان فالعلماء كلهم متفقون على أن للحر أن يتزوج الأمة بلا خلاف، لكن لو اختل واحد من الشرطين؛ بمعنى: أنَّ عنده الطول ولكنه يخاف العنت، أو ليس عنده طول ولكنَّه لا يخاف العنت؛ فهل له أن يتزوَّج الأمة؛ هذا فيه خلاف بين العلماء؛ فأكثرهم ومنهم مالك والشافعي

(2)

، وأحمد

(3)

يذهبون إلى أنه لا ينكح الأمة إلا بوجود الشرطين.

= يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 315 - 230)؛ حيث قال: "إلا بشروط أربعة بل أكثر:

أحدها: ألا تكون تحته حرة أو أمة تصلح للاستمتاع ولو كتابية

وثانيها: أن يعجز

عن حرة ولو كتابية

وثالثها: أن يخاف ولو خصيًّا زنا بأن يتوقعه لا على الندور بأن تغلب شهوته تقواه

ورابعها: إسلامها

فلا يحل لمسلم نكاح أمة كتابية

وخامسها: ألا تكون موقوفة عليه ولا موصى له بخدمتها ولا مملوكة لمكاتبه أو ولده".

(1)

يقول الكاساني في "بدائع الصنائع"(2/ 268): "الطول المذكور يحتمل أن يراد به القدرة على المهر، ويحتمل أن يراد به القدرة على الوطء".

(2)

تقدَّم ذكر مذاهبهم في هذه المسألة.

(3)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 85)؛ حيث قال: "ولا يحل لحر مسلم ولو كان =

ص: 5996

أما ما ذكره المؤلف عن أبي حنيفة فليس قولًا دقيقًا

(1)

: أبو حنيفة قيد ذلك بألا يكون عنده حرة فقط، لكن لو كانت عنده حرة فليس له ذلك، فكلام المؤلف يفهم منه الإطلاق، يعني: سواء عنده حرة أو ليس عنده حرة.

لكن ما يتعلق بالعنت فلا تأثير له عند أبي حنيفة.

ونقل عن جماعة من العلماء أنهم أجازوا ذلك مع تخلف الشرطين، يعني: حتى وإن كان يجد الطول ولا يخاف على نفسه العنت فله أن ينكح الأمة.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ دَلِيلِ الخِطَابِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ} [النساء: 25] الآيَةَ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ} الآية [النور: 32]. وَذَلِكَ أَنَّ مَفْهُومَ دَلِيلِ الخِطَابِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الآيَةَ، يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ الأَمَةِ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ، أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الطَّوْلِ إِلَى الحُرَّةِ. وَالثَّانِي: خَوْفُ العَنَتِ).

دليل الخطاب هو مفهوم المخالفة

(2)

، معنى ذلك: أن من يستطيع الطول ومن لا يخشى العنت ليس له أن يتزوج الأمة. هذا هو يشير إليه المؤلف.

= خصيًّا أو مجبوبًا إذا كان له شهوة يخاف معها مواقعة المحظور بالمباشرة نكاح أمة مسلمة، إلا أن يخاف الحر عنت العزوبة إما لحاجة متعة وإما لحاجة خدمة لكبر أو سقم ونحوهما نصًّا، ولا يجد طولًا لنكاح حرة ولو كانت كتابية".

(1)

تقدَّم ذكر مذهبه في هذه المسألة.

(2)

يُنظر: "الإحكام"، للآمدي (3/ 69)؛ حيث قال:"مفهوم المخالفة: فهو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفًا لمدلوله في محل النطق، ويسمى دليل الخطاب أيضًا".

ص: 5997

وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فالكلام هنا في الأمة المسلمة هل للحر أن ينكحها؟

الآية صريحة: ففيه شرطان: الأول: إذا لم يتوفر الطول، وفي آخر الآية قال:{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} هذا هو الشرط الثاني، لكن الله تعالى قال:{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ؛ أي: ومع ذلك فالأفضل للإنسان وخير له أن يصبر من أن ينكح الأمة.

* قوله: (وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ إِنْكَاحَهُنَّ مِنْ حُرِّ أَوْ عَبْدٍ، وَاجِدًا كَانَ الحُرُّ أَوْ غَيْرَ وَاجِدٍ، خَائِفًا لِلْعَنَتِ أَوْ غَيْرَ خَائِفٍ، لَكِنَّ دَلِيلَ الخِطَابِ أَقْوَى هَاهُنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مِنَ العُمُومِ؛ لِأَنَّ هَذَا العُمُومَ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ إِلَى صِفَاتِ الزَّوْجِ المُشْتَرَطَةِ فِي نِكَاحِ الإِمَاءِ، وَإِنَّمَا المَقْصُودُ بِهِ الأَمْرُ بِإِنْكَاحِهِنَّ، وَأَلَّا يُجْبَرْنَ عَلَى النِّكَاحِ).

لماذا كان دليل الخطاب أقوى؟ لأنه واضح الدلالة على المدة.

لكن بالنسبة للآية التي استدل بها المؤلف لا تدل من قريب على ما ذهب إليه.

* قوله: (وَهُوَ أَيْضًا مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ عِنْدَ الجُمْهُورِ

(1)

).

لكن تخلف شرط واحد؛ مثلًا ما استطاع الطول لكنه خشي العنت هل يتزوج؟

بعض العلماء قال

(2)

: ينكح كتابية أو يجد ثمن مملوكة خير له من أن يتزوج الأمة عند مَن يشترط هذين الشرطين.

(1)

تقدَّم ذكر مذاهبهم في هذه المسألة.

(2)

وهم الحنابلة. يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 85)، حيث قال:"ولا يجد طولًا لنكاح حرة ولو كانت كتابية بألا يكون معه مال حاضر يكفي لنكاحها ولا يقدر على ثمن أمة ولو كتابية فتحل له الأمة".

ص: 5998

* قوله: (مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِرْهَاقِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ).

الإنسان لو تزوج أمة قد يعير ولده فيتأثر بهذا، وهذا إنما يحصل عند أناس لا يدركون لبَّ هذه الشريعة، ربما يحصل من الصبية ومن الصغار ومن الجهلة، وإلا فكم من عبد كم من مملوك عنده من الخير ومن الصلاح ومن التقوى ومن السداد ما يفوق به الحر.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِي فَرْعَيْنِ مَشْهُورَيْنِ؛ أَعْنِى: الَّذِينَ لَمْ يُجِيزُوا النِّكَاحَ إِلَّا بِالشَّرْطَيْنِ المَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا).

العلماء الذين منعوا ذلك كل قصدهم الحفاظ على الولد.

* قوله: (أَحَدُهُمَا: إِذَا كانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ: هَلْ هِيَ طَوْلٌ، أَوْ لَيْسَتْ بِطَوْلٍ؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ طَوْلٌ

(1)

. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَتْ بِطَوْلٍ

(2)

. وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ القَوْلَانِ

(3)

).

"غيره" يعني: الجمهور الذين أضافوا الشرط الآخر وهو: لمن خشي العنت منكم.

* قوله: (وَالمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ يَجُوزُ لِمَنْ وُجِدَ فِيهِ هَذَانِ الشَّرْطَانِ نِكَاحُ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ: ثَلَاث أَوْ أَرْبَعٌ أَوْ ثِنْتَانِ؟ فَمَنْ قَالَ: إِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، فَلَيْسَ يَخَافُ العَنَتَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَزَبٍ، قَالَ: إِذَا كانَتْ تَحْتَهُ حُرَّة، لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُ الأَمَةِ

(4)

).

(1)

يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 112)؛ حيث قال:"فلذلك جوزنا نكاح الأمة مع طول الحرة".

(2)

كما قال الشارح مذهب الجمهور، وقد تقدم ذكر مذاهبهم.

(3)

يُنظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (3/ 473)؛ حيث قال:"قال في التوضيح: المشهور الإمضاء بناءً على أن الحرة تحته ليست بطول، وعلى القول بأنها طول يفسخ النكاح".

(4)

وهو مذهب الحنفية والشافعية.=

ص: 5999

جمهور العلماء: على أنه يجوز له أن ينكح إلى أربع

(1)

.

* قوله: (وَمَنْ قَالَ: خَوْفُ العَنَتِ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِإِطْلَاقٍ، سَوَاءٌ كانَ عَزَبًا أَوْ مُتَأَهِّلًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا تَكُونُ الزَّوْجَةُ الأُولَى مَانِعَةً مِنَ العَنَتِ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حُرَّةٍ تَمْنَعُهُ مِنَ العَنَتِ، فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً؛ لِأَنَّ حَالَهُ مَعَ هَذِهِ الحُرَّةِ فِي خَوْفِ العَنَتِ كَحَالَةِ قَبْلَهَا، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا خَشِيَ العَنَتَ مِنَ الأَمَةِ الَّتِي يُرِيدُ نِكَاحَهَا

(2)

، وَهَذَا بِعَيْنِهِ السَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ يَنْكِحُ أَمَةً ثَانِيَةً عَلَى الأَمَةِ الأُولَى أَوْ لَا يَنْكِحُهَا؟ وَذَلِكَ أَنَّ مَنِ اعْتَبَرَ خَوْفَ العَنَتِ مَعَ كَونِهِ عَزَبًا إِذْ كانَ الخَوْفُ عَلَى العَزَبِ أَكثَرَ قَالَ: لَا يَنْكِحُ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَنِ اعْتَبَرَهُ مُطْلَقًا، قَالَ: يَنْكِحُ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ

(3)

).

= فمذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 266)؛ حيث قال:"ومنها: ألا يكون تحته حرة هو شرط جواز نكاح الأمة؛ فلا يجوز نكاح الأمة على الحرة".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب"، للجويني (12/ 258)، حيث قال:"لو كان للرجل حرة منكوحة، وهي غائبة عنه، وهو يخاف على نفسه العنت، ولا يتوصل إلى الحرة لعائق ناجز، فليس له أن ينكح أمة؛ فإن الأمة لا سبيل إلى إدخالها على نكاح حرة - إذا كان صاحب الواقعة حرًّا -، فإن أراد التوصل إلى نكاح أمة فليطلق الحرة".

(1)

المسألة فيها تفصيل عند أصحاب المذاهب، ليس كما أطلق الشارح أن مذهب الجمهور الجواز.

(2)

وهو مذهب المالكية، والحنابلة:

فلمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"(2/ 262)؛ حيث قال: "أو تحته حرة لا تكفه؛ أي: جنسها الصادق بالمتعدد فيجوز له تزوج الأمة بالشرطين".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 662)؛ حيث قال:"وكذا له أن يتزوج أمة على حرة لم تعفه الحرة بشرطه بألا يجد طولًا لنكاح حرة؛ لعموم الآية".

(3)

ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى جواز أكثر من أمة، ومنعه الشافعية.=

ص: 6000

حقيقة: الآية تدل على أنه يجوز للحر أن ينكح أربعا، ولم تخصص ذلك بالحرائر:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} .

* قوله: (وَكَذَلِكَ يَقُولُ: إِنَّهُ يَنْكِحُ عَلَى الحُرَّةِ .. وَاعْتِبَار مُطْلَقًا فِيهِ نَظَرٌ).

لو نكح أمة ثم أيسر فهل يكون سببًا للطلاق؟

الجواب: لا

(1)

.

ولو استطاع أن يجد طَول حرة فتزوج الحرة هل يكون ذلك طلاقًا للأمة؟

فيه خلاف بين العلماء: الأكثر على أنه لا يكون طلاقًا

(2)

، وبعضهم قال: لا يجمع بينهما؛ فتطلق

(3)

.

= فمذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 267)؛ حيث قال:"وكذلك الحر يجوز له أن يتزوج أكثر من أمة واحدة عندنا".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الإشراف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 706)، حيث قال:"وللحر أن يتزوج أربعًا من الإماء إذا عدم الطول وخاف العنت".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (9/ 239)؛ حيث قال:"إذا ثبت أن نكاح الحر للأمة معتبر بما أوضحناه من الشروط الثلاثة؛ فليس له إذا استكملت فيه أن ينكح أكثر من أمة واحدة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 662)؛ حيث قال:"وله؛ أي: لمن تزوج أمة بشرطه إن لم تعفه الأمة نكاح أمة أخرى عليها فإن لم يعفاه فله نكاح ثالثة وهكذا إلى أن يصرن أربعًا".

(1)

مذهب الشافعية والحنابلة.

فلمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 320)؛ حيث قال:"ولو نكح حر أمة بشرطه ثم أيسر أو نكح حرة لم تنفسخ الأمة، أي: نكاحها؛ لأنه يغتفر في الدوام لقوته بوقوع العقد صحيحًا ما لا يغتفر في الابتداء".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 662)، حيث قال:"ولا يبطل نكاحها؛ أي: الأمة إذا تزوجها بالشرطين إن أيسر فملك ما يكفيه لنكاح حرة ولو نكح حرة عليها أو زال خوف العنت ونحوه".

(2)

سيذكر المصنف هذه المسألة قريبًا.

(3)

وهو مذهب الحنفية، والشافعية.

ص: 6001

* قوله: (وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَى الحُرَّةِ أَمَةً، فَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، فَهَلْ لَهَا الخِيَارُ فِي البَقَاءِ مَعَه، أَوْ فِي فَسْخِ النِّكاحِ؟).

لو كانت عنده حرة فتزوج عليها أمة وهي لا تعلم، أو تزوج بعدها أمة أخرى وهي تعلم بالأولى ووافقت ولم تعلم بالثانية هل لها أن تطلب الطلاق؟

هناك من يقول: نعم، وهناك من يقول: لا.

* قوله: (اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ

(1)

).

هذا فيه خلاف كثير في المذاهب كلها

(2)

.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَجَدَ طَوْلًا بِحُرَّةٍ: هَلْ يُفَارِقُ الأَمَةَ أَمْ

= فلمذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 112)؛ حيث قال:"والحرة على الأمة لا عكسه؛ أي: حل إدخال الحرة على الأمة، ولا يحل إدخال الأمة على الحرة المتزوجة بنكاح صحيح".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب"، للجويني (12/ 258)؛ حيث قال:"لو كان للرجل حرة منكوحة، وهي غائبة عنه، وهو يخاف على نفسه العنت، ولا يتوصل إلى الحرة لعائق ناجز، فليس له أن ينكح أمة، فإن الأمة لا سبيل إلى إدخالها على نكاح حرة - إذا كان صاحب الواقعة حرًّا -، فإن أراد التوصل إلى نكاح أمة فليطلق الحرة".

(1)

يُنظر: "النوادر والزيادات"(4/ 521)؛ حيث قال: "ومن كتاب ابن المواز قال مالك: وأما نكاح الحرة على الأمة فجائز، فإن لم تعلم الحرة فلها الخيار. ورواه ابن القاسم وابن وهب عنه. وروى عنه أشهب أنه لا خيار لها. وكذلك في "المختصر"".

(2)

تقدم أن مذهب الحنفية المنع من نكاح الأمة على الحرة مطلقًا.

وتقدم مذهب المالكية، والاختلاف فيه.

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (9/ 241)، حيث قال:"والقسم الثاني: أن يتزوج بالحرة ثم يتزوج بعدها بالأمة فنكاح الحرة صحيح، ونكاح الأمة بعدها باطل؛ لأن الأمة لا يجوز أن يتزوجها وتحته حرة".

وتقدم أن مذهب الحنابلة الجواز بشرطه وإلا فلا.

ص: 6002

لَا؟

(1)

وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ إِذَا ارْتَفَعَ عَنْهُ خَوْفُ العَنَتِ أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهَا؛ أَعْنِي: أَصْحَابَ مَالِكٍ

(2)

).

الصحيح: أنه لا يفارقها. وهذا مذهب الجمهور، ومنهم الشافعية والحنابلة

(3)

، ونقل عن المزني من أصحاب الشافعي أنه قال: يفارقها

(4)

، وهو وجه في مذهب أحمد، لكن الظاهر من المذهب كمذهب الشافعية أنه لا يفارقها

(5)

.

* قوله: (وَاتَّفَقُوا مِنْ هَذَا البَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَنْكِحَ المَرْأَةُ

(1)

فمذهب المالكية، يُنظر:"جامع الأمهات"، لابن الحاجب (ص 267)، حيث قال:"وإذا تزوج الحر الحرة على الأمة لم يفسخ نكاح الأمة على الأصح".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين"، للنووي (5/ 448)؛ حيث قال:"الأصح: أنه لا ينفسخ كما قال ابن الصباغ، كالحر إذا وجد الطول بعد نكاح الأمة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 670 - 671)؛ حيث قال:"ثم إن كان الزوج ممن لا يحل له نكاح الإماء بأن كان حرًّا واجد الطول أو غير خائف العنت فرق بينهما؛ لظهور بطلان النكاح لفقد شرطه".

(2)

يُنظر: "الإشراف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 705 - 706)؛ حيث قال: "إذا عدم الطول وخشي العنت فتزوج أمة ثم وجد الطول، لم ينفسخ النكاح

وكل معنى لا يتأبد فإنه إذا منع ابتداء النكاح لم يمنع استدامته أصله العدة والإحرام، ولأنه شرط في جواز نكاح الأمة فلم ينفسخ العقد بارتفاعه، أصله خشية العنت".

(3)

تقدَّم ذكر مذاهبهم في ذلك.

(4)

الإمام المزني قال في الطول، ولم ينقل عنه في العنت شيء.

يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (9/ 242)؛ حيث قال: "وقال المزني: إن أمن العنت لم يبطل نكاح الأمة، وإن وجد الطول أو نكح حرة بطل نكاح الأمة

ولأن زوال علة الحكم موجب لزواله، والعلة في نكاح الأمة عدم الطول، فوجب أن يكون وجوده موجبًا لبطلان نكاحها". وينظر:"الوسيط"، للغزالي (5/ 121).

(5)

يُنظر: "الإنصاف"، للمرداوي (8/ 142)؛ حيث قال: "وإن تزوجها وفيه الشرطان، ثم أيسر، أو نكح حرة، فهل يبطل نكاح الأمة؛ على روايتين

إذا تزوج الأمة وفيه الشرطان ثم أيسر لم يبطل نكاح الأمة على الصحيح من المذهب

والرواية الثانية: يبطل".

ص: 6003

مَنْ مَلَكَتْهُ

(1)

، وَأَنَّهَا إِذَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ

(2)

).

لا يجوز أن تنكح المرأة إنسانًا تملكه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} ؛ فالرجل هو الذي له القوامة على المرأة؛ يعني: القيام على شؤونها؛ فكيف تملك زوجها؟! هذا فيه ذل؛ ولذلك لا يجوز.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 145)؛ حيث قال: "ولا يجوز أن يتزوج المولى أمته ولا المرأة عبدها".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"، للدردير (2/ 259)؛ حيث قال:"وحرم على المالك ذكرًا أو أنثى ملكه؛ أي: التزوج به فلا يتزوج الرجل أمته ولا المرأة عبدها للإجماع على أن الزوجية والملك لا يجتمعان لتنافي الحقوق".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 315)؛ حيث قال:"ولا تنكح المرأة من تملكه أو بعضه ملكا تامًّا لتضاد أحكامهما هنا أيضًا".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 663)؛ حيث قال:"ولا يباح للعبد ولا يصح منه نكاح سيدته ولو ملكت بعضه حكاه ابن المنذر إجماعًا؛ لأن أحكام الملك والنكاح تتناقض".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 158)؛ حيث قال: "وإذا ملك الزوج امرأته أو شقصًا منها أو ملكت المرأة زوجها أو شقصًا منه وقعت الفرقة بينهما".

ومذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"، للإمام مالك (2/ 174)؛ حيث قال: "يفسد النكاح فيما بينهما إذا ملك أحدهما من صاحبه قليلًا أو كثيرًا وسواء إن ملك أحدهما صاحبه بميراث أو شراء أو صدقة أو هبة أو وصية، كل ذلك يفسد ما بينهما من النكاح

ذلك فسخ

ولا يكون طلاقًا".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 284)، حيث قال:"ولا تنكح المرأة مَن تملكه، أو بعضه ملكًا تامًّا لتضاد أحكامهما هنا أيضًا؛ لأنها تطالبه بالسفر للشرق لأنه عبدها وهو يطالبها به للغرب لأنها زوجته، وعند تعذر الجمع يسقط الأضعف".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي"، لابن قدامة (3/ 35)، حيث قال:"إن ملكت المرأة زوجها أو جزءًا منه، أو ملك الرجل زوجته أو جزءًا منها انفسخ النكاح".

ص: 6004

‌(الفَصْلُ الثَّامِنُ فِي مَانِعِ الكُفْرِ

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ الوَثَنِيَّةَ

(1)

؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، وَاخْتَلَفُوا فِي نِكَاحِهَا بِالمِلْكِ

(2)

).

ولقول الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} .

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"، للحصكفى (3/ 45)، حيث قال:"وحرم نكاح الوثنية بالإجماع".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"، للدردير (2/ 267)؛ حيث قال:"وحرم الكافرة، أي: وطؤها بملك أو نكاح".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 322)، حيث قال: "يحرم على مسلم وكذا كتابي

نكاح مَن لا كتاب لها كوثنية، أي: عابدة وثن؛ أي: صنم وقيل: الوثن غير المصور، والصنم المصور، ومجوسية وعابدة نحو شمس وقمر وصورة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الهداية"، للكلوذاني (ص 390)، حيث قال:"ويحرم على المسلم نكاح المجوسية والمرتدة والوثنية، ومن أحد أبويها مجوسي أو وثني أو مرتد إلى أن يسلمن فيحل نكاحهن".

(2)

لم يختلفوا كما قال المصنف، بل هذا اتفاق بينهم.

فمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"، للحصكفى (453)، حيث قال:"ولا وطؤها بملك يمين والمجوسية والوثنية".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"، للدردير (2/ 267)، حيث قال:"وحرم الكافرة، أي: وطؤها بملك".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 322)؛ حيث قال:"كوثنية، أي: عابدة وثن؛ أي: صنم وقيل: الوثن غير المصور، والصنم المصور، ومجوسية وعابدة نحو شمس وقمر وصورة، ووطؤها بملك اليمين".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الروض الندي"، للبعلي (ص 360)؛ حيث قال:"ومن حرم وطؤها بعقد كالمجوسية والوثنية والدرزية ونحوها حرم وطؤها بملك اليمين".

ص: 6005

* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الكِتَابِيَّةَ الحُرَّةَ

(1)

إِلَّا مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ

(2)

).

ما نسبه لابن عمر لم نقف عليه، ولعل هذا وهم من المؤلف عفا الله عنه

(3)

، وإنما الذي عرف: أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم تزوجوا كتابيات، فأمرهم عمر رضي الله عنه بتطليقهن فطلقوهن إلا حذيفة فقال له: أتشهد أنها حرام فرد عليه عمر رضي الله عنه،: هي جمرة، فقال حذيفه: أتشهد أنها حرام، فقال: هي جمرة، قال: إذن قد أحلها الله لي، لكن بعد فترة طلقها حذيفة

(4)

.

ولم يختلف العلماء في نكاح الكتابية، والذين خالفوا هم من الفرق الذبن لا يعتد بقولهم، ويستدلون بالآية:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} ، {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} .

(1)

ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية إلى جواز ذلك، وذهب الحنابلة إلى التحريم.

فمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"، للحصكفي (3/ 45)؛ حيث قال:"وصح نكاح كتابية، وإن كره تنزيهًا مؤمنة بنبي مرسل مقرة بكتاب منزل، وإن اعتقدوا المسيح إلهًا".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"، للدردير (2/ 267)، حيث قال:"إلا الحرة الكتابية فيجوز نكاحها للمسلم بكره عند الإمام مالك وأجازه ابن القاسم بلا كراهة وهو ظاهر الآية".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 322)؛ حيث قال:"وتحل كتابية لمسلم وكتابي وكذا غيرهما".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 664)؛ حيث قال:"إلا الأمة الكتابية فيحرم نكاحها لا وطؤها بملك".

(2)

أخرج البخاري (5285) وغيره عن نافع: "أن ابن عمر كان إذا سئل عن نكاح النصرانية واليهودية، قال: إن الله حرم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئًا أكبر من أن تقول المرأة: ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله".

(3)

غفر الله للشارح فالأثر ثابت وموجود وتقدم تخريجه.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(6/ 78) وغيره عن قتادة: "أن حذيفة نكح يهودية في زمن عمر، فقال عمر: طلقها فإنها جمرة! قال: أحرام هي؟ قال: لا، فلم يطلقها حذيفة لقوله، حتى إذا كان بعد ذلك طلقها".

ص: 6006

فقالوا: هذه الكتابية كافرة وإن كانوا ينتسبون إلى كتاب؛ فإنهم حرفوا وبدلوا؛ إذن هم كفار مشركون لا يجوز أن تنكح نساؤهم. هذا قولهم.

أما جماهير العلماء من الصحابه والتابعين

(1)

قالوا بجواز ذلك؛ لأن سورة المائدة من آخر ما نزل وفيها قول الله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

ويقول الله تعالى فيها: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة: 5].

الشاهد: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ؛ فذهب جماهير العلماء إلى مذهبين

(2)

:

منهم من قال. إن هذه الآية ناسخة للآيتين السابقتين؛ لأنها متأخرة عنهما فهي نسخت ما في عموم قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} .

ومنهم من قال: إن قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} ليس على إطلاقه المراد به عامة المشركين ولا يراد بذلك أهل الكتاب؛ بدليل أن الله سبحانه وتعالى يقول: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} ففرق بينهما، وقال في نفس السورة:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} وقال سبحانه وتعالى في سورة المائدة: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} .

(1)

يُنظر. "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 92)؛ حيث قال:"رخص في نكاحهن أكثر أهل العلم، روي إباحة ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وجابر بن عبد الله، وطلحة. وبه قال عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، وطاوس، وسعيد بن جبير، والزهري، والثوري".

(2)

تقدَّم ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة.

ص: 6007

فقالوا: إن لفظ المشركين عام ويخرج منه أهل الكتاب في هذا الموطن.

ومسألة نكاح الكتابية الخلاف فيها غير معتد به ولا ينظر إليه؛ لأنه من أناس لا ينظر إلى خلافهم.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي إِحْلَالِ الكِتَابِيَّةِ الأَمَةِ بِالنِّكَاحِ).

جمهور العلماء

(1)

يقولون: لا يجوز له ذلك، وأبو حنيفة يرى جواز ذلك

(2)

.

ووجهة أبي حنيفة أنه يقول: أليس له أن يتزوج الحرة الكتابية؛ فلماذا لا يتزوج الأمة الكتابية.

وأجاب الجمهور: بقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فنصت على ما ملكت أيمانكم ثم قيدها الله سبحانه وتعالى بقوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ، هذا رأي الجمهور وهذا دليلهم.

أما أبو حنيفة فدليله قياسي، قاس نكاح الأمة على نكاح الحرة.

* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى إِحْلَالِهَا بِمِلْكِ اليَمِينِ

(3)

).

(1)

مذهب المالكية، يُنظر:"عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب (ص 313)؛ حيث قال:"لا يجوز لمسلم نكاح أمة كتابية أو مشركة، حرًّا كان أو عبدًا".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيثمي (7/ 319)؛ حيث قال:"لا يحل لمسلم نكاح أمة كتابية".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 84)؛ حيث قال:"ولا يحل لمسلم ولو عبدًا نكاح أمة كتابية".

(2)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 149)؛ حيث قال:، "ويجوز تزويج الأمة مسلمة كانت أو كتابية".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 111)؛ حيث قال:"وأشار المصنف إلى أنه يحل وطء الكتابية بملك اليمين".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"، للدردير (2/ 267)؛ حيث =

ص: 6008

له أن يتسرى بملك اليمين، وهذا قد حصل من الصحابة رضي الله عنهم، إلا أنه نقل عن الحسن البصري أنه لا يرى ذلك

(1)

.

لكن جماهير العلماء وفيهم الأئمة الأربعة يقولون: للمسلم أن يتسرى بالأمة، ويستدلون بقول الله سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، وقوله سبحانه وتعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . نص على ما ملكت أيمانكم.

أما الحسن البصري فقال: لا يجوز ذلك؛ لأن الكتابية مشركة فلا فرق بينها وبين المشركة، والله تعالى يقول:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وقال سبحانه وتعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} .

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي نِكَاحِ الوَثَنِيَّاتِ بِمِلْكِ اليَمِينِ: مُعَارَضَةُ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، وَعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، لِعُمُومِ قَوْلِهِ:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، وَهُنَّ المَسْبِيَّات، وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي العُمُومَ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُشْرِكَةً أَوْ كِتَابِيَّةً، وَالجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِهَا. وَبِالجَوَازِ قَالَ طَاوُسٌ

(2)

وَمُجَاهِدٌ

(3)

،

= قال: "وإلا أمتهم؛ أي: الأمة الكتابية فيجوز وطؤها لمالكها المسلم بالملك بخلاف نكاحها فلا يجوز لمسلم".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 319)، حيث قال:"لا يحل لمسلم نكاح أمة كتابية".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الروض المربع"، للبهوتي (ص 523)؛ حيث قال: "ومن حرم وطؤها بعقد كالمعتدة والمحرمة والزانية والمطلقة ثلاثًا حرم وطؤها بملك يمين

إلا أمة كتابية".

(1)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 132)؛ حيث قال: "واختلفوا في وطء إماء أهل الكتاب بملك اليمين

وحكي عن الحسن أنه كره ذلك".

(2)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 132)؛ حيث قال: "واختلفوا في الأمة المجوسية يطؤها مالكها

وأباح ذلك طاوس".

(3)

يُنظر: "السنن الصغير"، للبيهقي (3/ 49)؛ حيث قال: "ولا يحل نكاح أمة كتابية لمسلم

وبه قال مجاهد".

ص: 6009

وَمِنَ الحُجَّةِ لَهُمْ: مَا رُوِيَ مِنْ نِكَاحِ المَسْبِيَّاتِ فِي غَزْوَةِ أَوْطَاسَ، إِذِ اسْتَأْذَنُوهُ فِي العَزْلِ، فَأَذِنَ لَهُمْ

(1)

).

الوثنيات: هم عبدة الأصنام

(2)

.

الإنسان عندما ينظر إلى الأدلة يجد أن هذا المخالف الذي يعتبر قوله أقرب إلى الشذوذ؛ نجد أن ظاهر الأدلة معه، وأن مذهب الجمهور إنما أدلته عامة.

فيوم حنين أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بعثًا إلى أوطاس فأصابوا سبايا وهؤلاء نساء لرجال من المشركين؛ فشق ذلك على بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصعب على المسلمين أن يطأ أحدهم امرأة لها زوج فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ؛ فدل ذلك على جواز وطئهن

(3)

.

(1)

المصنف خلط بين حديثين؛ فغزوة أوْطَاسِ في نكاح السبايا، وأما الإذن في العزل ففي غزوة بني المصطلق. فقد أخرج مسلم (1438/ 125) وغيره عن أبي سعيد قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بالمصطلق، فسبينا كرائم العرب، فطالت علينا العزبة، ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا: نفعل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا لا نسأله، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لا عليكم ألا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون".

وأخرج أيضًا مسلم (1456/ 33) وغيره عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس، فلقوا عدوًّا، فقاتلوهم فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل في ذلك: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}؛ أي: فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن".

(2)

الوثن: كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة، كصورة الآدمي تعمل وتنصب فتعبد. والصنم: الصورة بلا جثة، ومنهم من لم يفرق بينهما، وقد يطلق الوثن على غير الصورة. انظر:"النهاية"، لابن الأثير (5/ 151).

(3)

تقدَّم تخريج هذا الحديث.

ص: 6010

فالآية والحديث يدلان على الوطء؛ ومع ذلك نجد أن مَن يخالف في ذلك يعتبر خلافه شاذًّا.

وابن قدامة

(1)

عرض المسألة ورجح القول الثاني، لكنه ما استطاع أن يأخذ به؛ لأنه يخالف جماهير العلماء واتفق معه ابن القيم رحمهم الله جميعًا

(2)

، لكن رجعوا يعللون؛ قالوا: لعلهن أسلمن، ونحن نقول كما قالوا، والله أعلم.

وظاهر الأدلة مع طاوس، إنما نسبته لمجاهد يحتاج إلى التأكد من ذلك

(3)

.

والذين قووا مذهب طاوس قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم كان موجودًا، وهو مطالب بالبيان؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام يبين للناس ما نُزِّل إليهم، وهذا أمر يحتاج إلى بيان؛ فالآية نزلت فرفعت ما أشكل على الصحابة ولم تتعرض لكونهن أسلمن أو لم يسلمن؛ فقالوا: لو كان الإسلام شرطًا لبين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، لكنه لم يبينه فكان ذلك دليلًا على جوازه.

والعزل: الإنسان يجامع فإذا أراد أن ينزل فلا ينزل في موضع الحرث، وهذا كانوا يفعلونه خشية الحمل لأمر مؤقت؛ فإن ذلك مما

(1)

يُنظر: "المغتب"، لابن قدامة (7/ 134 - 135)؛ حيث قال: "أن من حرم نكاح حرائرهم من المجوسيات، وسائر الكوافر سوى أهل الكتاب، لا يباح وطء الإماء منهن بملك اليمين في قول أكثر أهل العلم

فلم يبلغنا أنهم اجتنبوهن، وهذا ظاهر في إباحتهن، لولا اتفاق أهل العلم على خلافه".

(2)

يُنظر: "أحكام أهل الذمة"، لابن القيم (2/ 798)، حيت قال: "إن قيل: فإذا كان قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} المراد به إحصان العفة لا إحصان الحرية فمن أين حرمتم نكاح الأمة الكتابية.

قيل: الجواب من وجهين:

أحدهما: أن تحريم الأمة الكتابية لم ينعقد عليه الإجماع

فالمسألة إذن مسألة نزاع، والحجة تفصل بين المتنازعين".

(3)

تقدَّم نقل ذلك في موضعه.

ص: 6011

أبيح، ففي الحديث المتفق عليه: "كنا نعزل والقرآن ينزل، لكن هذا

(1)

عند الحاجة.

* قوله: (وَإِنَّمَا صَارَ الجُمْهُورُ لِجَوَازِ نِكَاحِ الكِتَابِيَّاتِ الأَحْرَارِ بِالعَقْدِ؛ لِأَنَّ الأَصْلَ بِنَاءُ الخُصُوصِ عَلَى العُمُومِ؛ أَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]، هُوَ خُصُوصٌ، وَقَوْلَهُ:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [لبقرة: 221] هُوَ عُمُوم، فَاسْتَثْنَى الجُمْهُورُ الخُصُوصَ مِنَ العُمُومِ .. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، جَعَلَ العَامَّ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الفُقَهَاءِ

(2)

).

لا يعتد بالمخالف هنا، لكنهم قالوا: إن آية المائدة إنما هي متأخرة فتكون ناسخة، وبعضهم قال: المراد بالمشركين غير أهل الكتاب كما ذكرنا واستدللنا.

* قوله: (وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي إِحْلَالِ الأَمَةِ الكِتَابِيَّةِ بِالنِّكَاحِ لِمُعَارَضَةِ العُمُومِ فِي ذَلِكَ القِيَاسَ، وَذَلِكَ أَنَّ قِيَاسَهَا عَلَى الحُرَّةِ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ تَزْوِيجِهَا، وَبَاقِي العُمُومِ إِذَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ الحُرَّةُ يُعَارِضُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ العُمُومَ إِذَا خُصِّصَ بَقِيَ البَاقِي عَلَى العُمُومِ، فَمَنْ خَصَّصَ العُمُومَ البَاقِيَ بِالقِيَاسِ، أَوْ لَمْ يَرَ البَاقِيَ مِنَ العُمُومِ المَخْصُوصِ عُمُومًا، قَالَ: يَجُوزُ نِكَاحُ الأَمَةِ الكِتَابِيَّةِ، وَمَنْ رَجَّحَ بَاقِي العُمُومِ بِعَدَمِ التَّخْصِيصِ عَلَى القِيَاسِ قَالَ: لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الأَمَةِ الكِتَابِيَّةِ).

(1)

أخرجه البخاري (5208) ومسلم (1440/ 136) عن جابر قال: "كنا نعزل والقرآن ينزل".

(2)

وهم الحنفية، يُنظر:"فواتح الرحموت"، للكنوي (1/ 345 - 349)، و"التحصيل من المحصول"، للسراج الأرموي (1/ 398).

ص: 6012

الذي أجاز هو أبو حنيفة وخالفه الجمهور

(1)

ودليلهم: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} .

* قوله: (وَهُنَا أَيْضًا سَبَبٌ آخَرُ لاخْتِلَافِهِمْ: وَهُوَ مُعَارَضَةُ دَلِيلِ الخِطَابِ لِلْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء؛ 25] يُوجِبُ أَلَّا يَجُوزَ نِكَاحُ الأَمَةِ الغَيْرِ مُؤْمِنَةٍ بِدَلِيلِ الخِطَابِ).

يعني: المؤلف يضعف استدلال أبي حنيفة بالمفهوم المخالف.

* قوله: (وَقِيَاسُهَا عَلَى الحُرَّةِ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَالقِيَاسُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ يَجُوزُ فِيهِ النِّكَاحُ بِالتَّزْوِبجِ، وَيَجُوزُ فِيهِ النِّكَاحُ بِمِلْكِ اليَمِينِ أَصْلُهُ المُسْلِمَاتُ. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ ثَمَّ لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الأَمَةِ المُسْلِمَةِ بِالتَّزْوِبجِ إِلَّا بِشَرْطٍ فَأَحْرَى أَلَّا يُجَوَّزَ نِكَاحُ الأَمَةِ الكِتَابِيَّةِ بِالتَّزْوِيجِ).

من أدلة الجمهور: إذا كانت الأمة المسلمة لا تُتزوج إلا بالشرطين وهو أن يجد طولًا وأن يخشى العنت؛ فكيف يتزوج الأمة الكتابية والآية صريحة: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} .

* قوله: (وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى إِحْلَالِهَا بِمِلْكِ اليَمِينِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، وَلإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ السَّبْيَ يُحِلُّ المَسْبِيَّةَ الغَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ).

ولقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ؛ فالآيتان صريحتان، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت مبيِّنة.

* قوله: (وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي المُتَزَوِّجَةِ هَلْ يَهْدِمُ السَّبْيُ نِكَاحَهَا؛ وَإِنْ هَدَمَ فَمَتَى يَهْدِمُ؟).

(1)

تقدَّم قريبًا ذكر مذاهبهم في هذه المسألة.

ص: 6013

رأينا أن ذلك لا يؤثر وأن الآية رفعت الإشكال: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .

* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ سُبِيَا مَعًا - أَعْنِي: الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ - لَمْ يُفْسَخْ نِكَاحُهَا، وَإِنْ سُبِيَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الآخَرِ، انْفَسَخَ النِّكَاح، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

).

وأحمد في رواية

(2)

، أما الرواية الأخرى: فيفرق الحنابلة فيها بين سبي الزوج أولًا أو المرأة أولًا؛ فإن سبيت المرأة أولًا فإنه ينفسخ النكاح، وإن سبي الزوج أولًا فإنه لا ينفسخ النكاح

(3)

.

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ السَّبْيُ يَهْدِمُ سُبِيَا مَعًا أَوْ سُبِيَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الآخَرِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(4)

، وَعَنْ مَالِكٍ قَوْلَان

(5)

، أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّبْيَ لَا يَهْدِمُ النِّكَاحَ أَصْلًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَهْدِمُ بِإِطْلَاقٍ مِثْلَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ).

(1)

يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 339)؛ حيث قال:"ولو سبيا معًا لا تقع الفرقة عندنا لعدم اختلاف الدارين".

(2)

يُنظر: "الهداية"، للكلوذاني (ص 210)؛ حيث قال:"إن سبي أحدهما واسترق، فقال شيخنا: ينفسخ النكاح".

(3)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 57)؛ حيث قال: "وإن سبيت المرأة وحدها؛ أي: دون زوجها انفسخ نكاحها وحلت لسابيها

وإن سبي الرجل وحده لم ينفسخ نكاحه؛ لأنه لا نص فيه ولا يقتضيه القياس".

(4)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (9/ 251 - 252)؛ حيث قال:"وإذا سبي زوجان أو أحدهما انفسخ النكاح بينهما".

(5)

يُنظر: "عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب (ص 239)؛ حيث قال: "إذا سبي الزوجان معًا، فأحد قولي مالك: إنهما على نكاحهما

وقال ابن القاسم في الرواية الأخرى عند مالك: إن السبي يهدم النكاح، سبيا جميعًا أو مفترقين. وقال في موضع آخر: إن سبيت قبل الزوج، انفسخ النكاح وحلت لمالكها؛ إذ لا عهد لزوجها".

ص: 6014

وهو المشهور عند المالكية، لكن الشافعية والمالكية

(1)

يذهبون إلى أن الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فيها دلالة على أن السبي إنما هو يفسخ النكاح ويُنهيه؛ لأن الله تعالى قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} فيدخلن في المحرمات {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، والمراد بهن السبايا فإنه بذلك ينفسخ نكاحهن. هكذا يقولون.

والحنفية والحنابلة يقولون

(2)

: إن النكاح كالعتق تمامًا، فكما أن العتق لا يمنع ابتداء النكاح فلا يؤدي إلى انقطاعه.

ثم يقولون: إن الآية عامة وقد خص منها المملوكات المتزوجات في دار الإسلام، كذلك يقاس عليهن الزوج والزوجة إذا أسلما معًا.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ، هَلْ يَهْدِمُ أَوْ لَا يَهْدِمُ: هُوَ تَرَدُّدُ المُسْتَرَقِّينَ الَّذِينَ أَمِنُوا مِنَ القَتْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ الذِّمِّيِّينَ أَهْلِ العَهْدِ؛ وَبَيْنَ الكَافِرَةِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، أَوِ المُسْتَأْجَرَةِ مِنْ كَافِرٍ).

لأنه معلوم أن الذميين لا تسبى نساؤهم، والمقصود بذلك المعاهَد؛ فالمعاهدون لا يدخلون ضمن ذلك.

* قوله: (وَأَمَّا تَفْرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ أَنْ يُسْبَيَا مَعًا، وَبَيْنَ أَنْ يُسْبَى أَحَدُهُمَا؛ فَلِأَنَّ المُؤَثِّرَ عِنْدَهُ فِي الإِحْلَالِ هُوَ اخْتِلَافُ الدَّارِ بِهِمَا لَا الرِّقّ، وَالمُؤَثِّرَ فِي الأَحْلَالِ عِنْدَ غَيْرِهِ هُوَ الرِّقُّ).

والتعليل الآخر: أن الوق لا يمنع ابتداء النكاح فكذلك لا يقطع استدامته، وقاسوا ذلك على المتزوجة في دار الإسلام؛ لأنها خصت من الآية:{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فيلحق بها أيضًا.

(1)

تقدَّم ذكر مذاهبهم في هذه المسألة، والشارح يناقش أدلتهم.

(2)

تقدَّم ذكر مذاهبهم في هذه المسألة، والشارح يناقش أدلتهم.

ص: 6015

* قوله: (وَإِنَّمَا النَّظَرُ هَلْ هُوَ الرِّقُّ مَعَ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ مَعَ عَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ؛ وَالأَشْبَهُ أَلَّا يَكُونَ لِلزَّوْجِيَّةِ هَاهُنَا حُرْمَة؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الرِّقِّ - وَهُوَ الكُفْرُ - سَبَبُ الإِحْلَالِ، وَأَمَّا تَشْبِيهُهَا بِالذِّمِّيَّةِ فَبَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ إِنَّمَا أَعْطَى الجِزْيَةَ بِشَرْطِ أَنْ يُقَرَّ عَلَى دِينِهِ فَضْلًا عَنْ نِكَاحِهِ).

مراد المؤلف أن الزوجية تنقطع بمجرد السبي، وقصة الصحابة فيما يتعلق بالسبايا فإنه أصاب بعضهم حرج وتوقفوا في غشيان النساء حتى نزلت الآية:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}

(1)

.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[(الفَصْلُ التَّاسِعُ فِي مَانعِ الإِحْرَامِ)]

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي نِكَاحِ المُحْرِمِ، فَقَالَ مَالِكٌ

(2)

، وَالشَّافِعِيُّ

(3)

، وَاللَّيْث، وَالأَوْزَاعِيُّ

(4)

، وَأَحْمَدُ

(5)

: لَا يَنْكِحُ المُحْرِم،

(1)

تقدَّم تخريجه قريبًا.

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للدردير و"حاشية الدسوقي"، (2/ 230 - 231)؛ حيث قال:"ومنع صحة النكاح إحرام بحج أو عمرة من أحد الثلاثة الزوج والزوجة ووليها فلا يقبل زوج ولا تأذن زوجة ولا يوجب وليها ولا يوكلون ولا يجيزون ويفسخ أبدًا".

(3)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 257)؛ حيث قال:"وإحرام أحد العاقدين لنفسه أو غيره بولاية أو وكالة أو الزوجة أو الزوج أو الولي الغير العاقد إحرامًا مطلقًا أو بأحد النسكين ولو فاسدًا يمنع صحة النكاح".

(4)

يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء"، للطحاوي (2/ 114)؛ حيث قال: "وقال

الليث والأوزاعي

لا يتزوج".

(5)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 547)؛ حيث قال: "عقد النكاح فيحرم =

ص: 6016

وَلَا يُنْكِح، فَإِنْ فَعَلَ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ

(1)

).

فإذا عقد المُحْرِم نكاحًا لنفسه أو لغيره، أو عقد أحدٌ نكاحًا لمُحْرِم أو على مُحْرمة، فالنِّكاحُ فاسدٌ.

وحاصل الأمر: أنَّ المُحرم إذا تزوَّج لنفسه، أو عقد النكاح لغيره، ككونه وليًّا أو وكيلًا، فإنَّه لا يصح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يَنكِح المُحْرم، ولا يُنْكَح، ولا يخطُب"

(2)

.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ).

قال أبو حنيفة: يجوز لهذا المُحْرم الزواج، كما لو أنَّه اشترى الجاريةَ للوطء، فإنَّه يجوز له ذلك.

ويُجابُ على هذا القياس:

بأنَّه قياسٌ في مُقابلة النَّص، وكلُّ ما كان في مقابلة النَّصِّ، فهو فاسدُ الاعتبار.

وظاهرُ النهي: عدمُ الفرق من تزويج غيره بالولاية الخاصة والعامة؛ كالسلطان والقاضي.

(وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ النَّقْلِ فِي هَذَا البَابِ، فَمِنْهَا: حَدِيثُ

= ولا يصح من محرم فلو تزوج محرم، أو زوج، أو كان وليًّا، أو وكيلًا فيه لم يصح نصًّا تعمده أو لا".

(1)

يُنظر: "مختصر خلافيات البيهقي"(3/ 186)، حيث قال:"وروي عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر".

(2)

أخرجه مسلم (1409).

(3)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 146)؛ حيث قال: "ويجوز للمحرم والمحرمة أن يتزوجا في حال الإحرام".

ص: 6017

ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ"

(1)

، وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتُ النَّقْلِ خَرَّجَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ، وَعَارَضَهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَنْ مَيْمُونَةَ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ"

(2)

).

اختلفوا في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونةَ، والأكثرون على أنَّه تزوجها حلالًا عام عُمْرة القضاء، وظَهَر أمرُ تزويجها وهو مُحْرِم، ثم بنى بها وهو حلال.

* قوله: (قَالَ أَبُو عُمَرَ: رُوِيَتْ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ شَتَّى، مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ

(3)

، وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَهُوَ مَوْلَاهَا

(4)

، وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ

(5)

. وَرَوَى مَالِكٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مَعَ هَذَا أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْكِحُ المُحْرِم، وَلَا يُنْكَح، وَلَا يَخْطُبُ"

(6)

، فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَنْكِحُ المُحْرِم، وَلَا يُنْكِح، وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ؛ بِأَنْ حَمَلَ النَّهْيَ الوَارِدَ فِي ذَلِكَ عَلَى الكَرَاهِيَةِ قَالَ: يَنْكِحُ وَيُنْكِح، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى تَعَارُضِ الفِعْلِ وَالقَوْلِ، وَالوَجْهُ الجَمْع، أَوْ تَغْلِيبُ القَوْلِ).

قالوا: إنَّ حديث ابن عباس هو عبارة عن حكاية فعل، ومثل هذا

(1)

أخرجه البخاري (1837)، ومسلم (1410/ 46).

(2)

أخرجه مسلم (1411/ 48) وغيره.

(3)

أخرجه الترمذي (841) وغيره عن أبي رافع قال: "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول فيما بينهما". وصحح الألباني شطره الأول في "إرواء الغليل"(5/ 283 - 284).

(4)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 348) عن سليمان بن يسار: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع ورجلًا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن يخرج".

(5)

أخرجه مسلم (1411/ 48) وغيره.

(6)

الحديث أخرجه مسلم (1409/ 41) وغيره من طريق مالك.

ص: 6018

لا يُعارض به صريح القول، وأعني بقولي:(صريح القول): النهي الذي جاء في حديث عثمان.

ولكن يمكن أن نأخذ به عند تعذُّر الجمع، وهو ممكن هاهنا على فَرْض أن رواية ابن عباس أرجحُ من رواية غيره، وذلك بأن يُجعل فعلُه صلى الله عليه وسلم مخصصًا له من عموم ذلك القول، كما تقرر ذلك في الأصول إذا فرض تأخر الفعل عن القول.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(الفَصْل العَاشِرُ فِي مَانِعِ المَرَضِ)

والمقصود بالمريض هنا: المريض المرض الذي لا يرجى برؤه الذي يعقبه الموت.

نكاح المريض أتى بها المؤلف هنا بمناسبة النكاح، وغالب الفقهاء يذكرونها في أبواب المواريث؛ لأنهم يرون أن وجودها هناك أنسب وألصق، لأنه يقصد من زواجه من امرأة وامرأتين أو الثلاث في مرض موته حرمان زوجته أو زوجاته.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي نِكَاحِ المَرِيضِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

، وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ

(2)

، وَقَالَ مَالِكٌ فِي المَشْهُورِ عَنْهُ

(3)

: إِنَّهُ لَا يَجُوز،

(1)

يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (4/ 83)؛ حيث قال:"وجاز تزويج المريض بمهر المثل من جميع ماله".

(2)

يُنظر: "نهاية المطلب"، للجويني (10/ 464)؛ حيث قال:"للمريض أن ينكح أربعًا وما دونهن، وله أن يتسرى مَن شاء من جواريه، وله أن يشتريهن بأثمان أمثالهن، ويستولدهن".

(3)

يُنظر: "عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب (ص 308)؛ حيث قال: "اختلف عن=

ص: 6019

وَبَتَخَرَّجُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّفْرِيقَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ).

جمهور العلماء وهم الشافعية والحنفية والحنابلة

(1)

يقولون: ذلك حق من حقوقه فما المانع من أن يتزوج في هذا المرض، ولا نجد مانعًا من ذلك، ويستدلون على ذلك بقصة عبد الرحمن بن أم حكيم؛ فإنه تزوج في مرض موته ثلاث نسوة

(2)

، وفي بعض الروايات: أنه تزوج امرأتين

(3)

، ولم ينكر عليه أحد من العلماء؛ فدل ذلك على جوازه. هذا إلى جانب التعليلات التي ذكرها المؤلف.

والمالكية يقولون: هو متهم في هذا المرض بأنه يريد الإضرار بزوجته أو بزوجاته فيعامل بنقيض قصده، وما دام متهمًا فإنه في هذه الحالة يمنع ويفرق بينهم وإن تزوج وزال عنه المرض، ما دام تزوجها وهو في مرض يُخشى هلاكه فيه.

وهذه المسألة لها علاقة بقضية أصولية، وهي ما يتعلق بالمصالح المرسلة، ولا شك أن أكثر العلماء عملًا بقضية المصالح المرسلة هم المالكية، ويتلوهم في ذلك الحنابلة، أما الحنفية يتحايلون على ذلك فيسمونه استحسانًا، والشافعية لا يرون ذلك، وإن كان في الواقع أخذوا بمسائل، ولكن عدوها من باب القياس

(4)

.

= مالك في نكاح المريض والمريضة المخوف عليهما، فقال: يفسخ وإن صح المريض منهما، فيدل على أن الفرقة واجبة

والأول أظهر وأشهر. والثاني عندي أولى بالمذهب".

(1)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 7)؛ حيث قال:"ويباح النكاح لمن لا شهوة له كالعنين والمريض".

(2)

أخرجه الشافعي في "المسند"(ص 377) وغيره عن عكرمة بن خالد، يقول:"أراد عبد الرحمن بن أم الحكم في شكواه أن يخرج امرأته من ميراثها فأبت، فنكح عليها ثلاث نسوة وأصدقهن ألف دينار كل امرأة منهن، فأجاز ذلك عبد الملك بن مروان وشرك بينهن في الثمن".

(3)

لم أقف عليه.

(4)

قال الشوكاني في "إرشاد الفحول"(2/ 184): "اختلفوا في القول بها على مذاهب:

الأول: منع التمسك بها مطلقًا وإليه ذهب الجمهور.=

ص: 6020

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ النِّكَاحِ بَيْنَ البَيْعِ وَبَيْنَ الهِبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ هِبَةُ المَرِيضِ إِلَّا مِنَ الثُّلُثِ

(1)

، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ

(2)

).

= والثاني: الجواز مطلقًا، وهو المحكي عن مالك

قال ابن دقيق العيد: الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحًا على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل.

الثالث: إن كانت ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع، أو لأصل جزئي جاز بناء الأحكام عليها، وإلا فلا، وحكاه ابن برهان في "الوجيز" عن الشافعي وقال: إنه الحق المختار، قال إمام الحرمين: ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى اعتماد تعليق الأحكام بالمصالح المرسلة، بشرط ملاءمته للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول.

الرابع: إن كانت تلك المصلحة ضرورية، قطعية، كلية، كانت معتبرة، فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر

واختار هذا الغزالي، والبيضاوي". وينظر:"الإحكام"، للآمدي (4/ 160)، و"المسودة"، لآل تيمية (ص 450)، و"البحر المحيط"، للزركشي (8/ 83 وما بعدها).

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (13/ 398)؛ حيث قال:"والهبة من المريض للوارث في هذا نظير الوصية؛ لأنها وصية حكمًا حتى تنفذ من الثلث".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للدردير و"حاشية الدسوقي" (4/ 98)؛ حيث قال:"ممن له تبرع بها وهو من لا حجر عليه فخرج السفيه والصبي ومن أحاط الدين بماله والسكران والمريض والزوجة فيما زاد على الثلث لكن هبتهما ما زاد على الثلث صحيحة موقوفة على الوارث والزوج".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (7/ 552)؛ حيث قال:"هبة المريض في الثلث، فإن احتملها الثلث أمضيت وإلا ردت؛ لأنها في حكم الوصية".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"عمدة الفقه"، لابن قدامة (ص 70)؛ حيث قال: "تبرعات المريض مرض الموت المخوف ومَن هو في الخوف كالمريض

أحدها: إنها لا تجوز لأجنبي بزيادة على الثلث ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (13/ 445)؛ حيث قال:"قال: ومن أعتق في مرضه عبدًا أو باع وحابى أو وهب فذلك كله جائز، وهو معتبر من الثلث".

ومذهب المالكية، يُنظر:"النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (11/ 372)؛ حيث قال:"قال ابن وهب عن مالك: لا يمنع المريض أن يبيع ويبتاع إذا لم يعرف في ذلك محاباة أو ضرر بالورثة".=

ص: 6021

سبب الخلاف: إنما هو أمر إلحاقي قياسي: المريض الذي لا يرجى برؤه ويبدأ يتصرف في الأموال، ففي هذه الحالة يقولون: هو يقصد الإضرار بالورثة، فيعامل بنقيض ذلك؛ إذ هو متهم في هذه الحالة.

* قوله: (وَلاخْتِلَافِهِمْ أَيْضًا سَبَبٌ آخَر، وَهُوَ: هَلْ يُتَّهَمُ عَلَى إِضْرَارِ الوَرَثَةِ بِإِدْخَالِ وَارِثٍ زَائِدٍ أَوْ لَا يُتَّهَمُ؟).

المريض ليس في حاجة إلى الزوجة؛ فلماذا يتزوج؛ إذن هو أوقع نفسه في شبهات أوصلته إلى التهمة؟ ينظر له أنه ظن بها أنه يريد التضييق على الورثة أو على الزوجة بأنه أراد إشراكها معها.

* قوله: (وَقِيَاسُ النِّكَاحِ عَلَى الهِبَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الهِبَةَ تَجُوزُ إِذَا حَمَلَهَا الثُّلُث، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِالنِّكَاحِ هُنَا بِالثُّلُثِ، وَرَدُّ جَوَازِ النِّكَاحِ بِإِدْخَالِ وَارِثٍ قِيَاسٌ مَصْلَحِيٌّ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الفُقَهَاءِ، وَكَوْنُهُ يُوجِبُ مَصَالِحَ لَمْ يَعْتَبِرْهَا الشَّرْعُ إِلَّا فِي جِنْسٍ بَعِيدٍ مِنَ الجِنْسِ الَّذِي يُرَامُ فِيهِ إِتبَاتُ الحُكْمِ بِالمَصْلَحَةِ حَتَّى أَنَّ قَوْمًا رَأَوْا القَوْلَ بِهَذَا القَوْلِ شَرْعٌ زَائِدٌ).

ليس هناك دليل شرعي من كتاب الله عز وجل ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم دليل يدل على أن المريض لا يتزوج؛ فهذا حق من حقوقه فلا يمنع ما دام قادرًا على ذلك، ولا يريد أن يضر بالزوجة.

= ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (8/ 292)؛ حيث قال:"وبيع المريض وشراؤه جائزًا إذا كان بثمن مثله ولم يدخله غبن، ولا يتغابن أهل المصر بمثله، وسواء باع المريض على وارث أو غير وارث أو اشترى المريض من وارث أو غير وارث".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (4/ 162)؛ حيث قال:"وبيع المريض ولو مرض الموت المخوف كبيع الصحيح في الصحة؛ أي: كون البيع صحيحًا".

ص: 6022

فالمسألة في منع جواز المريض راجعة إلى المصالح المرسلة، وهذه المصالح اختلف فيها الجمهور؛ فبعضهم يذهبون إلى عدم اعتبار المصالح المرسلة، وبعضهم يذهب إلى جواز المصالح المرسلة وفي مقدمتهم المالكية

(1)

.

وهذه المصالح أنواع:

- هناك مصالح شهد الشرع بقيامها واعتبارها؛ فهذه ليس فيها خلاف واعتبروها من بابٍ القياس.

- وهناك مصالح نفاها الشرع ولم يعتبرها؛ ولذلك لا يعتد بها.

- ويبقى قسم بين القسمين: وهو المصالح التي لم يرد نفي ولا إثبات لها؛ فهل هي معتبرة في الشريعة أم لا؟

هنا مناط الخلاف بين العلماء

(2)

:

فالشافعية والحنفية: لم ينفوها ولكن أدخلوها من بابٍ الاستحسان؛ فإن هؤلاء يقولون: إن الأخذ بالمصالح يفتح بابٍ في الشريعة؛ فيكون منفذًا لأصحاب الأهواء والآراء؛ فربما يتسلطون على بعض أحكام الشريعة فيسخِّرونها لما يتفق مع مصالحهم وغاياتهم بدعوى أنه كلما تجدد الزمان

(1)

تقدَّم الكلام على المصالح المرسلة وتحقيق مذاهب أهل العلم فيه. وينظر: "التقرير والتحبير"، لابن أمير حاج (3/ 286 وما بعدها).

(2)

قال ابن قدامة في "روضة الناظر"(1/ 478 - 480): "المصلحة: هي جلب المنفعة، أو دفع المضرة، وهي ثلاثة أقسام:

قسم: شهد الشرع باعتبارها. فهذا هو القياس

القسم الثاني: ما شهد ببطلانه

الثالث: ما لم يشهد له بإبطال ولا اعتبار معين؛ وهذا على ثلاثة ضروب:

أحدها: ما يقع في مرتبة الحاجات

الضرب الثاني: ما يقع موقع التحسين والتزيين، ورعاية حسن المناهج في العبادات والمعاملات

الضرب الثالث: ما يقع في رتبة الضروريات".

ص: 6023

تجددت الأحكام وتنوعت؛ فيتخذون ذلك مدخلًا وطريقًا لمآربهم وشهواتهم

(1)

.

وأما الذين قالوا باعتبار المصالح المرسلة: فإنهم وضعوا لها قيودًا وشروطًا

(2)

، والشروط لا تتنافى ولا تتعارض مع نص من نصوص الشريعة الإسلامية، ولا تصطدم مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تكون ملائمة لأحكام وأوصاف هذه الشريعة، وقالوا: يجب أن تكون المصلحة عامة لا خاصة، وعثمان رضي الله عنه ورَّث المرأة التي طلقها زوجها في مرض موته

(3)

من باب المصلحة.

فنقول: المصلحة إذا لم تتعارض مع نص شرعي وإذا بنيت على أصل صحيح يقصد بها تحقيق أهداف الشريعة فلا مانع منها.

أما إن كان المقصود من المصلحة أن تفعل؛ لتتحقق مصلحة لأناس معينين، أو لفرد معين، أو ليتعسف بالشريعة لتصرف بعض أحكامها؛ فلا.

(1)

قال الآمدي في "الإحكام"(4/ 160): "وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به، وهو الحق". وينظر: "البحر المحيط"، للزركشي (8/ 83).

(2)

قال الشاطبي في "الاعتصام"(2/ 627): "هذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة، وتبين لك اعتبار أمور:

أحدها: الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلًا من أصوله ولا دليلًا من دلائله.

والثاني: أن عامة النظر فيها إنما هو فيما غفل معناه وجرى على ذوق المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية

والثالث: أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، ورفع حرج لازم في الدين، وأيضًا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهي إذن من الوسائل لا من المقاصد".

(3)

أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 571) وغيره عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: "أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته البتة وهو مريض، فورثها عثمان بن عفان منه بعد انقضاء عدتها". قال الألباني في "إرواء الغليل"(6/ 159): "سند صحيح على شرط البخاري".

ص: 6024

* قوله: (وَإِعْمَالَ هَذَا القِيَاسِ يُوهِنُ مَا فِي الشَّرْعِ مِنَ التَّوْقِيفِ، وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ كمَا لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ).

لكن الذين أخذوا بالمصلحة ردوا ذلك وقالوا: نحن نقول بالمصالح التي لا تعارض نصًّا.

* قوله: (وَالتَّوَقُّفُ أَيْضًا عَنِ اعْتِبَارِ المَصَالِحِ تَطَرَّقَ لِلنَّاسِ أَنَّ يَتَسَرَّعُوا لِعَدَمِ السُّنَنِ الَّتِي فِي ذَلِكَ الجِنْسِ إِلَى الظُّلْمِ).

كوننا نغفل باب المصالح ونعطلها ربما تفوت مصالح على الناس، كما في زمننا هذا نحتاج إلى المصالح أكثر مما مضى.

* قوله: (فَلْنُفَوِّضْ أَمْثَالَ هَذِهِ المَصَالِحِ إِلَى العُلَمَاءِ بِحِكْمَةِ الشَّرَائِعِ الفُضَلَاءِ الَّذِينَ لَا يُتَّهَمُونَ بِالحُكْمِ بِهَا).

الذين لا يذهبون بها لمصلحة أحد.

* قوله: (وَبِخَاصَّةٍ إِذَا فُهِمْ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنَّ فِي الاشْتِغَالِ بِظَوَاهِرِ الشَّرَائِعِ تَطَرُّقًا إِلَى الظُّلْمِ، وَوَجْهُ عَمَلِ الفَاضِلِ العَالِمِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَوَاهِدِ الحَالِ؛ فَإِنْ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِالنِّكَاحِ خَيْرًا لَا يُمْنَعُ النِّكَاح، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الإِضْرَارَ بِوَرَثَتِهِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ).

ينظر إلى القرائن: إن كان قصده من النكاح خيرًا لعل الله يرزقه ولدًا صالحًا ليعود على الأمة الإسلامية بالنفع والخير وعلى نفس هذا الشخص الذي توفي فما المانع، وإن وجدت التهمة نمنعه من الزواج.

* قوله: (كَمَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّنَائِعِ يَعْرِضُ فِيهَا لِلصُّنَّاعِ الشَّيْءُ وَضِدُّهُ مِمَّا اكتَسَبُوا مِنْ قُوَّةِ مِهْنَتِهِمْ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَدَّ فِي ذَلِكَ حَدٌّ مُؤَقَّت صِنَاعِيٌّ، وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ فِي صِنَاعَةِ الطِّبِّ وَغَيْرِهَا مِنَ الصَّنَائِعِ المُخْتَلِفَةِ).

ص: 6025

كأن المؤلف يريد أن يقول: يصعب أن نضع ضابطًا أو أن نقيم قاعدة نستطيع أن نلم بكل ما يتعلق بالمهن والصناعات، لكننا في ذلك نجتهد في ذلك الأمر، ولا شك أن المردَّ في ذلك إلى العرف والعادة، والعادة عمل بها في أبواب كثيرة كما في أبواب النكاح والحيض والبيوع

وغير ذلك من الأحكام الكثيرة.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(الفَصْل الحَادِيَ عَشَرَ فِي مَانِعِ العِدَّةِ)

(1)

أنواع العدد أربع ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:

النوع الأول: عدة المتوفى عنها زوجها: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، وكانت فيما مضى:{مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]؛ فنسخ ذلك إلى أربعة أشهر وعشرٍ، وذلك من باب التخفيف.

النوع الثاني: عدة الحامل: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]؛ فالحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل.

النوع الثالث: عدة اللائي يحضن من المطلقات: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].

(1)

العِدَّة: مأخوذة من العد والحساب، وسميت بذلك لاشتمالها على العدد من الأقراء أو الأشهر غالبًا، وقيل: تربصها المدة الواجبة عليها، وجمع العدة: عدد، كسدرة، وسدر. انظر:"المصباح المنير"، للفيومي (2/ 396).

ص: 6026

النوع الرابع: عدة الآيسة من الحيض والتي لم تحض: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4].

* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ فِي العِدَّةِ، كَانَتْ عِدَّةَ حَيْضٍ، أَوْ عِدَّةَ حَمْلٍ، أَوْ عِدَّةَ أَشْهُرٍ

(1)

).

ولو حصل النكاح فهو باطل ويفرق بينهما.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا، وَدَخَلَ بِهَا، فَقَالَ مَالِكٌ

(2)

، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ

(3)

: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(4)

،

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (3/ 204)؛ حيث قال:"وأما أحكام العدة فمنها: أنه لا يجوز للأجنبي نكاح المعتدة".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"، للدردير (2/ 217)؛ حيث قال: "وحرم صريح خطبة امرأة معتدة

من غيره بموت أو طلاق".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 210)؛ حيث قال:"لا تصريح من غير ذي العدة لمستبرأة، أو لمعتدة عن وفاة، أو شبهة، أو فراق بطلاق بائن، أو رجعي، أو بفسخ، أو انفساخ فلا يحل إجماعًا؛ لأنها قد ترغب فيه فتكذب على انقضاء العدة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 659)؛ حيث قال: "وتحريم معتدته؛ أي: غيره

وتحرم عليه مستبرأة منه؛ أي: غيره؛ لأنها في معنى المعتدة، ويفضي تزوجها إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب، وسواء كانت العدة أو الاستبراء من وطء مباح أو محرم أو من غير وطء".

(2)

يُنظر: "عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب (ص 386)؛ حيث قال:"من تزوج امرأة في عدة من غيره ودخل بها فرق بينهما وحرمت عليه أبدًا".

(3)

يُنظر: "المعاني البديعة في معرفة اختلاف أهل الشريعة"، للريمي (2/ 214)؛ حيث قال: "إذا تزوج امرأة معتدة وهو لا يعلم ودخل بها فرق بينهما

تحرم عليه مؤبدًا، وبه قالت

والأوزاعي، والليث".

(4)

يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء"، للطحاوي (2/ 299)؛ حيث قال:"قال أصحابنا إذا تزوج امرأة معتدة من غيره ودخل بها ففرق بينهما فإنها إذا انقضت عدتها من الأول فلا بأس على الآخر أن يتزوجها".

ص: 6027

وَالشَّافِعِيُّ

(1)

، وَالثَّوْرِيُّ

(2)

: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا انْقَضَتِ العِدَّةُ بَيْنَهُمَا، فَلَا بَأْسَ فِي تَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا مَرَّةً ثَانِيَةً).

كل العلماء يرون أن النكاح باطل، لكن هل له أن يتزوجها بعد ذلك أو لا؟

المسألة تحتاج إلى تفصيل: لأنه إذا تزوج امرأة في عدتها، فمعنى ذلك أن عدة الزوج الأول لم تنقض، فمن هنا جاء التحريم؛ فيفرق بينهما، فيبقى ما تبقَّى من عدة الأول وعدة الثاني، فهنا جاء الخلاف:

الشافعي وأحمد

(3)

: يقولان تعتد بقية عدة الأول، ثم تعتد ثلاثة قروء عن الزوج الثاني.

وأبو حنيفة يقول: إنه يحصل تداخل بين العدتين، فإذا دخل بها الثاني ثم فرق بينهما تعتد ثلاثة قروء، فالقصد من العدة براءة الرحم.

ويأخذ الحنفية بقاعدة: إذا اجتمع أمران من جنس واحد ولم يختلف مقصودهما دخل أحدهما في الآخر تبعًا

(4)

.

(1)

للشافعي قولان. يُنظر: "البيان"، للعمراني (11/ 101)؛ حيث قال: "وإذا تزوج الرجل امرأة في عدة غيره ووطئها جاهلًا بالتحريم، فقد قلنا: يفرق بينهما، وتتم عدتها من الأول، وتعتد عن الثاني، وهل يحل للثاني نكاحها؟ فيه قولان: قال في القديم: لا يحل له أبدًا

قال في الجديد: لا تحرم عليه".

(2)

يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء"، للطحاوي (2/ 299)؛ حيث قال:"إذا تزوج امرأة معتدة من غيره ودخل بها ففرق بينهما فإنها إذا انقضت عدتها من الأول فلا بأس على الآخر أن يتزوجها وهو قول الثوري".

(3)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (3/ 20)؛ حيث قال: "ومن تزوجت في عدتها فنكاحها باطل ويفرق بينهما

ولم تنقطع عدتها بالعقد حتى يطأها الثاني

فإن وطئها انقطعت ثم إذا فارقها من تزوجها أو فرق الحاكم بينهما بنت على عدتها من الأول لسبق حقه واستأنفتها

وللثاني؛ أي: الذي تزوجته في عدتها ووطئها أن ينكحها بعد انقضاء العدتين".

(4)

قال ابن نجيم في "الأشباه والنظائر"(ص 112): "القاعدة الثامنة: إذا اجتمع أمران من جنس واحد ولم يختلف مقصودهما دخل أحدهما في الآخر غالبًا".

ص: 6028

والمالكية: يرون أنه لو دخل بها في عدتها يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدًا، بينما الجمهور وهم الأئمة الثلاثة وإن اختلفوا في التداخل وعدمه متفقون على أنه يتقدم خاطبًا فله أن يخطبها وإذا رضيت فليتزوجها.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ على قَوْلِ الصَّاحِبِ حُجَّةٌ أَمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؟).

لا شك أن الصحابي لو قال قولًا ولم يخالفه أحد من الصحابة، فإنه يعتبر حجة مسلَّمة، لأنه لم ينازعه أحد، بل بعض العلماء يقول: قال به فلان ولم يخالفه أحد من الصحابة فيكون إجماعًا

(1)

.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا رَوَى عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ).

سعيد بن المسيب: من كبار التابعين وهو إمام جليل عرف بغزارة علمه وبزهده وبتقاه.

والزهري: من التابعين ممن خدم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمة عظيمة، وهو ممن عني بجمع الحديث، وممن اعتمد عليه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عندما كتب إلى الأمصار

(2)

.

(1)

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على مذاهب:

قال الرازي في "المحصول"(6/ 129): "الحق: أن قول الصحابى ليس بحجة، وقال قوم إنه حجة مطلقًا، ومنهم مَن فصَّل وذكروا فيه وجوهًا:

أحدها: أنه حجة إن خالف القياس.

وثانيها: أن قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حجة فقط.

وثالثها: أن قول الخلفاء الأربعة إذا اتفقوا حجة". وينظر: "روضة الناظر"، لابن قدامة (1/ 466).

(2)

أخرج الدارمي في "السنن"(1/ 431) وغيره عن عبد الله بن دينار قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المدينة أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه فإني قد خفت دروس العلم وذهاب أهله".

ص: 6029

* قوله: ("أَنَّ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فَرَّقَ بَيْنَ طُلَيْحَةَ الأَسَدِيَّةِ وَبَيْنَ زَوْجِهَا رَاشِدٍ الثَّقَفِيِّ لَمَّا تَزَوَّجَهَا فِي العِدَّةِ مِنْ زَوْجٍ ثَانٍ، وَقَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا، فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الَّذِي تَزَوَّجَهَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنَ الأَوَّلِ، ثُمَّ كانَ الآخَرُ خَاطِبًا مِنَ الخُطَّابِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنَ الأَوَّلِ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الآخَرِ، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا". قَالَ سَعِيدٌ: وَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا

(1)

).

طليحة بنت عبيد الله أخت طلحة بن عبيد الله الصحابي المعروف أحد المبشرين بالجنة.

ورُشيد أو رَشيد بعضهم يحكيه بالفتح وبعضهم يحكيه بالضم وكل ذلك صائب

(2)

، أما راشد فلم أقف عليه ولا أعرفه؛ فلعل هذا تحريف من المؤلف، ومما يدل على أنه تحريف أن المؤلف نقل عن كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر

(3)

، والذي فيه رشيد وليس راشد.

ورشيد الثقفي كان من أشراف ثقيف ومن أكابرهم، وأسلم بعد فتح الطائف هو وأولاده، وكانت له مكانة عظيمة في خدمة الإسلام، وكان من الشعراء الذين يعدون

(4)

.

* قوله: (وَرُبَّمَا عَضَّدُوا هَذَا القِيَاسَ بِقِيَاسِ شَبَهٍ ضَعِيفٍ مُخْتَلَفٍ فِي أَصْلِهِ).

(1)

أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 536) وغيره، قال الألباني في "إرواء الغليل" (7/ 203):"إسناد صحيح على الخلاف في صحة سماع ابن المسيب من عمر، وهو من طريق سليمان منقطع، لأنه ولد بعد موت عمر ببضع سنين".

(2)

قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات"(1/ 190): "بضم الراء وفتح الشين".

(3)

يُنظر: "الاستذكار"(5/ 472).

(4)

لم أقف على ترجمته.

ص: 6030

كلمة عضدوا يعني: قوَّوا؛ وهذه عبارات كثيرًا ما يستخدمها ابن رشد، وهي من عبارات المنطقيين، والشاعر يقول:

لا تخاصم بواحد أهل بيت

فضعيفان يغلبان قويَّا

(1)

هناك قياس علة: وهذا خلاف أهل الظاهر

(2)

، ولا يعتد بخلافهم؛ لأن كتاب الله عز وجل أشار إليه بقوله:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء في سنته ما يثبت ذلك

(3)

.

أما قياس الشبه

(4)

: فهو ضعيفٌ

(5)

؛ لأن قياس العلة إلحاق فرع

(1)

يُنظر: "الدر الفريد وبيت القصيد"، للمستعصمي (11/ 140).

(2)

"ذهب أهل الظاهر إلى إبطال القياس وعدم القول به، وأطال ابن حزم في "الإحكام" (7/ 53 وما بعدها) في هذه المسألة وتعليل ما ذهب إليه القائلون بالقياس، والحقيقة أنه قاس في بعض المسائل، فدعوى الإبطال بالكلية مردودة".

ومعنى قياس العلة: هو أن يرد الفرع إلى الأصل بالبينة التي علق الحكم عليها في الشرع، وقد يكون ذلك معنى يظهر وجه الحكمة فيه للمجتهد. قاله الشيرازي في "اللمع" (ص 99). وينظر:"التلخيص"(3/ 235).

(3)

مثال ذلك: ما أخرجه النسائي (4369) وغيره عن البراء قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدي أقصر من يده، فقال:"أربع لا يجزن العوراء: البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والكسيرة التي لا تنقي".

(4)

قياس الشبه: هو أن تحمل فرعًا على الأصل بضرب من الشبه، وذلك مثل أن يتردد الفرع بين أصلين يشبه أحدهما في ثلاثة أوصاف ويشبه الآخر في وصفين فيرد إلى أشبه الأصلين به. يُنظر:"اللمع"، للشيرازي (ص 100)، و"روضة الناظر"، لابن قدامة (2/ 241).

(5)

قال الزركشي في "البحر المحيط"(7/ 298 - 300): "وقد اختلفوا فيه على مذاهب: أحدها: أنه حجة، وحكاه القرطبي عن أصحابنا وأصحابهم. وقال شارح "العنوان": إنه قول أكثر الفقهاء. وقال في "القواطع": إنه ظاهر مذهب الشافعي.

المذهب الثاني: أنه ليس بحجة

وبه قال أكثر الحنفية

وصار إليه أبو زيد ومن تبعه، وذهب إليه أيضًا أبو بكر والأستاذ أبو منصور البغدادي

وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي والشيرازي والقاضي أبو الطيب

وأبو بكر الصيرفي والقاضي ابن الباقلاني، لكن هو عند القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق صالح لأن يرجح به.=

ص: 6031

لأصل في حكم لعلة تجمع بينهما، أما هنا فلا علة بينهما هي مجرد المشابهة والشبه لا تستطيع أن تثبت به حكمًا قويًّا، إلا إذا وجدت قرائن تحفُّه وشواهد تقويه.

* قوله: (وَهُوَ أَنَّهُ أَدْخَلَ فِي النَّسَبِ شُبْهَةً، فَأَشْبَهَ المُلَاعِنَ).

كأنه اختلط ماء بماء، لكن اختلاط الماء يزيل العدة الثانية؛ لأنها إذا اعتدت بثلاثة قروء زالت شبهة الحمل فلا اختلاط، ولا شك أن المقصود من براءة الرحم إنما هو خشية اختلاط الأنساب؛ لأن اختلاط الأنساب يؤدي إلى فسادهم، فما أخطرها! لأنه يترتب عليها الفساد والله لا يحب الفساد.

الأمر الآخر: أن الشريعة عنيت بأمور خمسة، ومنها: حفظ الأنساب؛ ولذلك شرع حد القذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]؛ فالذي يقذف المسلم أو المسلمة، ولا يثبت ذلك يقام عليه حد القذف.

* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ

(1)

، وَابْنِ مَسْعُودٍ

(2)

مُخَالَفَةُ عُمَرَ فِي هَذَا).

الخلاف قسمان:

الخلاف الأول: خلاف يقصد منه التنازع والتشاقق والتباعد، وهو

= المذهب الثالث: إن تمسك به الناظر؛ أي: المجتهد، كان حجة في حقه إن حصل غلبة الظن، وإلا فلا، أما المناظر فيقبل منه مطلقًا، واختاره في "المستصفى"".

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(6/ 208) وغيره عن عطاء: "أن علي بن أبي طالب أتي بامرأة نكحت في عدتها وبني بها، ففرق بينهما، وأمرها أن تعتد بما بقي من عدتها الأولى، ثم تعتد من هذا عدة مستقبلة، فإذا انقضت عدتها فهي بالخيار إن شاءت نكحت، وإن شاءت فلا".

(2)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(6/ 208) وغيره عن ابن جريج قال: "أخبرت أن ابن مسعود قال فيها قول علي: تنكحه إن شاءت إذا انقضت عدتها".

ص: 6032

الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 105].

الخلاف الثاني: خلاف أمثال هؤلاء من الصحابة ومن العلماء، فهؤلاء خلافهم ينتهي إلى وفاق، وخير شاهد على ذلك: أن رجع عمر رضي الله عنه إلى قول علي

(1)

.

والصحابة لم يمنعهم الحياء بأن يكون الصغير نبه الكبير أو مثلًا الذي يقصره في العلم قد يفوقه في بعض المسائل؛ لأن هذا قد يحفظ أمورًا ولا يحفظها غيره؛ فلا يمكن للإنسان أن يحيط بالعلم، والله تعالى يقول:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، ويقول سبحانه وتعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]؛ فهذا هو شأن الصحابة رضي الله عنهم، واقتدى بهم علماء الأمة من سلفها حتى جاء عصر الأئمة وأتباعهم وإلى وقتنا هذا، وهذا واجب من كل مسلم أنه إذا تبين له الحق أن يقف عنده ويقول: سمعنا وأطعنا!

* قوله: (وَالأَصْلُ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ إِلَّا أَنْ يَقُومَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ كتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ مِنَ الأُمَّةِ).

حتى إن بعض العلماء علل فقال: ليست هي أخطر من الزانية؛ فالزانية أكثر العلماء يشترط توبتها مع العدة

(2)

، ومن العلماء من يبيح ذلك دون الشرطين؛ فما بالك بامرأة أشد خطرًا تجاوزت حدود الله سبحانه وتعالى والله

(1)

أخرجه البيهقي في "الكبرى"(7/ 726) عن الشعبي قال: "أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بامرأة تزوجت في عدتها فأخذ مهرها فجعله في بيت المال وفرق بينهما وقال: لا يجتمعان وعاقبهما، قال: فقال علي: ليس هكذا، ولكن هذه الجهالة من الناس، ولكن يفرق بينهما ثم تستكمل بقية العدة من الأول ثم تستقبل عدة أخرى، وجعل لها علي رضي الله عنه المهر بما استحل من فرجها قال: فحمد الله عمر رضي الله عنه وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة".

(2)

تقدَّم ذكر مذاهب أهل العلم في ذلك.

ص: 6033

تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]، ويقول تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32] هذه تقع في هذا الذنب العظيم لكنها أقلعت وتابت إلى الله تعالى توبة نصوحًا.

فما وقع بين طليحة ورشيد ما وقع حقيقة إلا كما قال علي رضي الله عنه: "جهلا الحكم"؛ فلا يمكن أن يحصل من مسلم يخاف الله سبحانه وتعالى ويتقيه ويخشاه أن يقدم على أن يتزوج امرأة في عدتها؛ فإما أن يكون جاهلًا في هذا الأمر؛ فينبه على جهله ويبيَّن له خطؤه في ذلك؛ إذن باختصار ليست حالتهما أشد من حالة الزانية.

* قوله: (وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ قَضى بِتَحْرِيمِهَا، وَكَوْن المَهْرِ فِي بَيْتِ المَالِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، أَنْكَرَهُ فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ عُمَر، وَجَعَلَ الصَّدَاقَ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَمْ يَقْضِ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ .. رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ

(1)

، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهَا بِالعَقْدِ، فَهُوَ ضَعِيفٌ).

ولذلك يحكى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يقدم الرأي على بعض النصوص - أخبار الآحاد -، وهذا كلام غير صحيح.

وأبو حنيفة رضي الله عنه ربما لا يأخذ بأقوال الصحابة إذا اختلفوا، ولما سئل عن ذلك قال:"إذا جاء الأمر عن الله فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن رسول الله فعلى العين والرأس، وإذا أجمع الصحابة على أمر أخذنا به، وإذا اختلفوا تخيرنا من أقوالهم، وإذا جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال"

(2)

.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في "السنن"(1/ 219 - 220) وغيره عن مسروق: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجع عن قوله في الصداق، وجعله لها بما استحل من فرجها".

(2)

أخرجه أبو شامة في "المؤمل للرد إلى الأمر الأول"(ص 133) عن أبي عصمة يقول: "سمعت أبا حنيفة يقول: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعينين،=

ص: 6034

ثم إن أبا حنيفة رحمه الله اختلف فيه هل كان تابعيًّا أو لا؟

أصحابه يرون أنه تابعي وغيرهم يرون أنه ليس بتابعي، والحقيقة أنه عاش في عصر بعض التابعين.

* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تُوطَأُ حَامِلٌ مَسْبِيَّةٌ حَتَّى تَضَعَ

(1)

، لِتَوَاتُرِ الأَخْبَارِ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض"

(2)

. والحديث المتواتر

(3)

: هو الذي يرويه جمع غفير من الصحابة.

= وما جاء عن أصحابه اخترنا، وما كان غير ذلك فنحن رجال وهم رجال".

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (5/ 58)؛ حيث قال:"إن تزوج حاملًا من السبي فالنكاح فاسد؛ لأنه ثابت النسب. ش: هذا بإجماع الأئمة الأربعة، وكذا المهاجرة إلينا لو كانت حاملًا. وروى الحسن عن أبي حنيفة: والمهاجرة والمسبية أنه يجوز نكاحهما لكن لا يطؤهما حتى يضعا حملهما، وإن لم تكن حاملًا فلا يجوز النكاح".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 491)؛ حيث قال:"أو رجعت من سبي بأن سباها الحربي وغاب عليها ثم رجعت لسيدها أو غنمت من العدو فإنه يجب على الغانم استبراؤها".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير"(11/ 333)؛ حيث قال: "قال الشافعي: وإن كانت حاملًا فأن تضع حملها. قال الماوردي: وهذا صحيح، متفق عليه أن استبراء كل ذات حمل من حرة وأمة يكون بوضع الحمل".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 435)، حيث قال:"إذا ملك ولو طفلًا أمة ببيع أو هبة أو إرث أو سبي أو وصية أو غنيمة أو غير ذلك بأن أخذها عوضًا في إجارة أو جعالة أو خلع أو صلح لم يحل له وطؤها ولا الاستمتاع بها بقبلة ولا بنظر لشهوة ولا بما دون فرج بكرًا كانت أو ثيبًا صغيرة يوطأ مثلها أو كبيرة ممن تحمل أو ممن لا تحمل حتى يستبرئها".

(2)

أخرجه أبو داود (2157) وغيره عن أبي سعيد الخدري ورفعه أنه قال في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة".

وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(187).

(3)

المتواتر: أن يكون له طرق؛ أي: أسانيد كثيرة بلا حصر عدد معين. يُنظر: "نزهة النظر"، لابن حجر (ص 37).

ص: 6035

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِنْ وَطِئَ هَلْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ الوَلَدُ أَوْ لَا يَعْتِق، وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ

(1)

).

لأنه لا أثر لوطئه لكنه ظلم نفسه لأنه لا يجوز أن يسقي ماءه زرع غيره.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ مَاؤُهُ مُؤَثِّرٌ فِي خِلْقَتِهِ أَوْ غَيْرُ مُؤثِّرٍ؟).

والصحيح: أنه غير مؤثر، وتكلم عن هذه القضية الإمام النووى في "شرح مسلم"

(2)

.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"، للحصكفي (3/ 49)؛ حيث قال: "وإن حرم وطؤها ودواعيه حتى تضع

لو نكحها الزاني حل له وطؤها اتفاقًا والولد له ولزمه النفقة، ولو زوج أمته".

ومذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"، للإمام مالك (2/ 386)؛ حيث قال:"أرأيت إن وطئتها في حال الاستبراء ثم جاءت بولد وقد كان البائع وطئها أيضًا كيف يصنع بهذا الولد؟ قال: قال مالك: أرى أن يدعى إليه القافة إذا ولدته لأكثر من ستة أشهر من يوم وطئها المشتري، فإن كان ولدته لأقل من ستة أشهر من يوم وطئها المشتري فهو من البائع، إذا أقر بالوطء وينكَّل المشتري في حال هذا كله حين وطئ في حال الاستبراء، وإن كان البائع أنكر الوطء فالولد ولد الجارية لا أب له إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر من يوم وطئها المشتري، ويكون للمشتري أن يردها ولا يكون عليه للوطء غرم وعليه العقوبة إلا أن يكون نقصها وطؤه".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (11/ 349)؛ حيث قال: "إذا ولدت بعد أن وطئها المشتري فلا يخلو حال الولد من ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يلحق بالبائع دون المشتري

والقسم الثاني: أن يكون لاحقًا بالمشتري دون البائع

والقسم الثالث: ألا يلحق بالبائع ولا بالمشتري

فأما القسم الرابع: الذي يمكن لحوقه بهما فهو ممكن في الحرة وممتنع في الأمة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 616)؛ حيث قال:"ومن ملك أمة حاملًا من غيره فوطئها قبل وضعها حرم عليه بيع الولد ولم يصح ويعتقه نصًّا؛ لأنه قد شرك فيه؛ لأن الماء يزيد في الولد".

(2)

يُنظر: "شرح مسلم"، للنووي (10/ 15)؛ حيث قال: "وقال القاضي عياض: معناه =

ص: 6036

* قوله: (فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُؤَثِّرٌ، كَانَ لَهُ ابْنًا بِجِهَةٍ مَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "كيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَقَدْ غَذَّاهُ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ"

(1)

، وأَمَّا النَّظَرُ فِي مَانِعِ التَّطْلِيقِ ثَلَاثًا، فَسَيَأْتِي فِي كتَابِ الطَّلَاقِ).

هذا الأثر أخرجة الطبراني في "الكبير" وهو من رواية خارجة بن مصعب عن رجاء بن حيوة، وقصته: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان بخيبر مرت به جارية وهي مُجِحٌّ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لمن هذة الجارية؟ " قالوا: لفلان؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيطؤها؟ " قالوا: نعم. قال: "فكيف يصنع بولدها؟ أيدعيه وليس له بولد؟! أم يستعبده وهو يغدو في سمعه وبصره؟! لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره! ".

ومعنى كلمة مجح: بطنها كبير قاربت الولادة

(2)

.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

‌(الفَصْلُ الثَّانِي عَشَرَ فِي مَانَعِ الزَّوْجِيَّةِ

وَأَمَا مَانِعُ الزَّوْجِيَّةِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ مَانِعَةٌ وَبَيْنَ الذَمِّيِّينَ

(3)

).

= الإشارة إلى أنه قد ينمى هذا الجنين بنطفة هذا السابي فيصير مشاركًا فيه فيمتنع الاستخدام. قال: وهو نظير الحديث الآخر: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه ولد غيره". هذا كلام القاضي، وهذا الذي قاله ضعيف أو باطل".

(1)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(22/ 302) رقم (766).

(2)

المجح: الحامل المقرب التي دنا ولادها. انظر: "النهاية"، لابن الأثير (1/ 240).

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"، للحصكفي (3/ 185)؛ =

ص: 6037

المحصنات: المتزوجات؛ لا يجوز التزوج بهن لقول الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ} بدليل النص والإجماع.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي المَسْبِيَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ

(1)

، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الأَمَةِ إِذَا بِيعَتْ، هَلْ يَكُونُ بَيْعُهَا طَلَاقًا؟ فَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ

(2)

. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ طَلَاقٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

(3)

،

= حيث قال: "كل نكاح صحيح بين المسلمين فهو صحيح بين أهل الكفر".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"، للدردير (2/ 267)؛ حيث قال:"وأنكحتهم؛ أي: أهل الكتاب من اليهود والنصارى فاسدة، ولو استوفت شروط الصحة في الصورة".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الوسيط"، للغزالي (5/ 132)؛ حيث قال:"مقتضى قياس الشرع وعموم خطابه ألا يخالف نكاح الكافر نكاح المسلم ويرعى فيه جميع الشرائط حتى لا يحتاج إلى إفراد نكاحهن بنظر".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 116)؛ حيث قال:"ونقرهم؛ أي: الكفار على فاسد نكاحهم، وإن خالف أنكحة المسلمين إذا اعتقدوه في دينهم نكاحًا".

(1)

تقدَّم ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة.

(2)

مذهب الحنفية يُنظر: "المعتصر من المختصر"، للملطي (2/ 86)؛ حيث قال: "اختلفت الصحابة في بيع الأمة ذات الزوج فقال بعضهم: هو طلاق، وبعضهم: ليس بطلاق لها

والقول الأول أولى".

ومذهب المالكية، يُنظر:"عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب (ص 320)؛ حيث قال:"لا يكون بيع الأمة المزوجة طلاقها ولا عتاقها، وهي زوجة كما كانت، وبه قال الفقهاء أجمع".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب"، للجويني (12/ 189)؛ حيث قال:"إذا زوج الرجل أمته، وصح النكاح على حكم الشرع، ثم إنه باع الأمة، فالبيع نافذ، والزوجية قائمة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 675)؛ حيث قال:"ولمالك زوجين بيعهما وله بيع أحدهما ولا فرقة بذلك؛ أي: بيع السيد؛ لأنه لا أثر له في النكاح".

(3)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 404)؛ حيث قال:"كان ابن عباس، وابن مسعود، وأنس بن مالك يقولون: بيع الأمة طلاقها".

ص: 6038

وَجَابِرٍ

(1)

، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ

(2)

، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ مَفْهُومِ حَدِيثِ بَرِيرَةَ

(3)

؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يَقْتَضِي المَسْبِيَّاتِ وَغَيْرَهُنَّ، وَتَخْيِيرُ بَرِيرَةَ يُوجِبُ أَلَّا يَكُونَ بَيْعُهَا طَلَاقًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْعُهَا طَلَاقًا لَمَا خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ العِتْقِ، وَلَكَانَ نَفْسُ شِرَاءِ عَائِشَةَ لَهَا طَلَاقًا مِنْ زَوْجِهَا، وَالحُجَّةُ لِلْجُمْهُورِ: مَا خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ يَوْمَ حُنَيْنٍ سَرِيَّةً، فَأَصَابُوا حَيًّا مِنَ العَرَبِ يَوْمَ أَوْطَاسٍ، فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ وَأَصَابُوا نِسَاءً لَهُنَّ أَزْوَاجٌ، وَكانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَأَثَّمُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ مِنْ أَجْل أَزْوَاجِهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] "

(4)

).

إذا بيعت الأمة هل بيعها يعتبر طلاقًا لها فيكون مبيحًا للذي اشتراها أن يطأها لأنها مما ملكت يمينه؟ اختلف العلماء في هذه المسألة:

القول الأول: ذهب ابن عباس وجماعة من الصحابة

(5)

وبعض التابعين كسعيد بن المسيب

(6)

: إلى أن بيع الأمة طلاق لها؛ فإذا باعها مَن

(1)

لم أقف عليه.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في "السنن"(2/ 62) وغيره عن الحسن، عن أبي بن كعب، أنه قال:"بيع الأمة طلاقها".

(3)

أخرجه البخاري (2536)، ومسلم (1504/ 10) عن عائشة رضي الله عنها قالت: اشتريت بريرة، فاشترط أهلها ولاءها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أعتقيها؛ فإن الولاء لمن أعطى الورق"، فأعتقتها، فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم، فخيرها من زوجها، فقالت: لو أعطاني كذا وكذا ما ثبت عنده، فاختارت نفسها.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(3/ 536) وغيره، والحديث في مسلم (1456/ 33).

(5)

تقدَّم ذكر مذهبهم في هذه المسألة.

(6)

أخرجه سعيد بن منصور في "السنن"(2/ 62) عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن =

ص: 6039

هي ملك له يكون نكاحه قد انفسخ وتصبح حلالًا للذي اشتراها، ودليل ذلك قول الله سبحانه وتعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ثم استثنى سبحانه فقال: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .

القول الثاني: ذهب جمهور العلماء

(1)

إلى أن بيع الأمة ليس طلاقًا لها، واستدلوا بقصة بريرة، وكانت تحت رجل اسمه مغيث وكان يحبها حبًّا عظيمًا وكانت تبغضه؛ فجاءت إلى عائشة رضي الله عنها وطلبت منها أن تعينها في عتقها فساعدتها عائشة رضي الله عنها فعتقت، وكان زوجها متعلقًا بها حتى قيل بأن الدمع كان يسيل على وجنته، والرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك قال لها:"ألا ترجعين إلى مغيث؟ " قالت: يا رسول الله، أتأمرني؟ قال:"لا، إنما أنا شافع" قالت: لا حاجة لي به

(2)

. فقصة بريرة فيها دليل على أن البيع لا يعتبر طلاقًا؛ لأنه لو كان طلاقًا لما خيَّرها الرسول صلى الله عليه وسلم في الرجوع إلى زوجها الأول، لكن تخييره لها دليل على أنه لا يعتبر طلاقًا. هذا هو دليل الجمهور.

*‌

‌ فائدة من قصة بريرة:

الحب نوعان:

الأول: حب يكون الدافع له حب القلب، ولا يخرج عن الأدب ولا عن الشريعة؛ فالإنسان يحب أباه ويحب ابنه ويحب أخاه وصديقه،

= المسيب، قال:"إذا تزوج العبد بإذن سيده ثم باعه فإنه لا يحال بينه وبينها، وإذا زوج الرجل أمته ثم باعها فإنه كان يرى بيعها طلاقها".

(1)

تقدَّم ذكر مذهبهم في هذه المسألة.

(2)

أخرجه البخاري (5283) عن ابن عباس: أن زوج بريرة كان عبدًا يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس:"يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو راجعته" قالت: يا رسول الله، تأمرني؟ قال:"إنما أنا أشفع" قالت: لا حاجة لي فيه.

ص: 6040

وكل مسلم يحب أخاه المسلم، والله سبحانه وتعالى قال:{وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، والمودة: هي الحب؛ إذن ليس هذا غريبًا.

الحب الثاني: يحبها وهي لا تحبه؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه: "يا عباس، ألا تعجب من حب مغيثٍ بريرةَ، ومن بغض بريرةَ مغيثًا".

القول الثالث: فرق بين أن يكون المشتري رجلًا أو امرأة؛ فقالوا: إن كان المشتري رجلًا فإنه في هذه الحالة يعتبر طلاقًا، وإن كانت امرأة فلا يعتبر طلاقًا؛ لأن المرأة لا يمكنها أن تستمتع ببُضع المرأة.

لكن رُد عليهم: بأنها لا تستمتع ببضع المرأة لكنها ربما تعاوض عليه وتزوجها وتستفيد من مهرها؛ فالإشكال قائم.

القول الرابع

(1)

: أن ذلك ورد في المسبيات كما جاء في حديث أبي سعيد وغيره

(2)

. وهذا هو القول الصحيح، وهو الذي أيضًا انتهى إليه المحققون من العلماء؛ فسبب النزول معروف، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث بعثًا في غزوة أوطاس فظفروا بما ظفروا به وكان من ذلك سبايا من النساء؛ فإنه حصل حرج من بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغشى أحدهم تلكم المشركات؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}

(3)

.

* قوله: (وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ هِيَ أَلْيَقُ بِكِتَابِ الطَّلَاقِ).

لأنها ستبحث هناك تفصيلًا.

* قوله: (فَهَذِهِ هِيَ جُمْلَةُ الأَشْيَاءِ المُصَحِّحَةِ لِلْأَنْكِحَةِ فِي الإِسْلَامِ، وَهِيَ كمَا قُلْنَا رَاجِعَةٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ: صِفَةِ العَاقِدِ وَالمَعْقُودِ عَلَيْهَا، وَصِفَةِ العَقْدِ).

(1)

يُنظر: "الأوسط"، لابن المنذر (11/ 285).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 6041

العاقد يكون مسلمًا؛ فالمشركة لا يجوز للمسلم أن يتزوجها وله أن يتزوج الحرة الكتابية.

والمعقود عليها: المسلمة، لا يجوز لمشرك أن يتزوجها

(1)

.

ويشترط في العقد وجود ولي ووجود شاهدين.

وفي بعض ذلك خلاف لبعض العلماء

(2)

.

(1)

تقدَّم الكلام على هذه المسائل، وذكر مذاهب أهل العلم فيها.

(2)

بعض أهل العلم يذكر الولي في موضع والشاهدين في موضع، فسنذكر كل منهم في موضعه:

فأما اشتراط الولي:

فمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"، للحصكفي (3/ 55 - 56)؛ حيث قال:"الولي شرط صحة نكاح صغير ومجنون ورقيق لا مكلفة فنفذ نكاح حرة مكلفة بلا رضا ولي، والأصل أن كل من تصرف في ماله تصرف في نفسه وما لا فلا".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 220)؛ حيث قال:"النكاح؛ أي: أركانه أربعة الأول: ولي".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (9/ 38)؛ حيث قال:"الولي شرط في نكاحها لا يصح العقد إلا به، وليس لها أن تنفرد بالعقد على نفسها، وإن أذن لها وليها سواء كانت صغيرة أو كبيرة، شريفة أو دنية، بكرًا أو ثيبًا".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 48)؛ حيث قال:"الشرط الثالث الولي فلا يصح نكاح إلا بولي".

وأما اشتراط الشاهدين:

فمذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 145)؛ حيث قال: "ولا يعقد نكاح المسلمين إلا بحضور شاهدين حرين بالغين عاقلين مسلمين، أو رجل وامرأتين، عدولًا كانوا غير عدول أو محدودين في قذف".

ومذهب المالكية، يُنظر:"عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 648)؛ حيث قال:"النكاح يصح عند مالك من غير شهود".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للهيتمي (4/ 234)؛ حيث قال:"ولا يصح النكاح إلا بحضرة شاهدين".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 648)؛ حيث قال:"لا ينعقد النكاح إلا بشهادة ذكرين بالغين عاقلين متكلمين سميعين مسلمين - ولو أن الزوجة ذمية - عدلين ولو ظاهرًا".

ص: 6042

* قوله: (وَصِفَةِ الشُّروطِ فِي العَقْدِ).

منها ما يتعلق بالشهادة وبغيرها، وستأتي شروط سيعرض لها المؤلف.

* قوله: (وَأَمَّا الأَنْكِحَةُ الَّتِي انْعَقَدَتْ قَبْلَ الإِسْلَامِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا الإِسْلَامُ؛ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الإِسْلَامَ إِذَا كَانَ مِنْهُمَا مَعًا - أَعْنِي: مِنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ - وَقَدْ كَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى مَنْ يَصِحُّ ابْتِدَاءًا لعَقْدُ عَلَيْهَا فِي الإِسْلَامِ أَنَّ الإِسْلَامَ يُصَحِّحُ ذَلِكَ

(1)

).

إذا أسلما معًا فلا خلاف بين العلماء في استمرار العقد، لكن شريطة ألا يوجد ما يمنع من استمرار العقد، فلا يقال بأن هذا تزوج خمسًا من النساء وهو مشرك فيبقى على ذلك، فالإسلام لا يقر ذلك لأن هذا لا يجوز في الإسلام، لكن الإسلام يصحح بعض العقود التي لا يترتب عليها تحريم أو تحليل.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: إِذَا انْعَقَدَ النِّكَاحُ عَلَى

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"، للحصكفي (3/ 186)؛ حيث قال:"أسلم المتزوجان بلا سماع شهود أو في عدة كافر معتقدين ذلك أقرا عليه؛ لأنه أمرنا بتركهم وما يعتقدون".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 269)؛ حيث قال:"أو أسلما معًا قبل البناء أو بعده؛ فإنه يقر عليها وهو صادق بالمعية الحقيقية أو الحكمية بأن جاءا إلينا مسلمين؛ أي: لم نطلع عليهما إلا وهما مسلمان، ولو ترتب إسلامهما".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 329)؛ حيث قال:"ولو أسلما معًا قبل وطء أو بعده دام النكاح بينهما إجماعًا على أي كفر كانا ولتساويهما في الإسلام".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 682)؛ حيث قال:"بيان حكمه وما يقرون عليه لو ترافعوا إلينا أو أسلموا وهو صحيح وحكمه كنكاح المسلمين فيه".

ص: 6043

أَكثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ

(1)

، أَوْ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الإِسْلَامِ

(2)

.

وَالمَوْضِعُ الثَّانِي: إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الآخَرِ

(3)

).

حقيقة: المخالفات في الإسلام لا تقتصر على أمرين، بل هي كثيرة لكز، المؤلف أخذ أشهرها، وإلا لو تزوج امرأة في عدتها، أو تزوج امرأة وهي في عصمة رجل آخر

ونحو ذلك؛ فهذه أمور لا يقرها الإسلام.

* قوله: (فَأَمَّا المَسْأَلَةُ الأُولَى: وَهِيَ إِذَا أَسْلَمَ الكَافِرُ وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ أَوْ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أُخْتَانِ؛ فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ

(4)

: يَخْتَارُ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَمِنَ الأُخْتَيْنِ وَاحِدَةً أَيَّتَهُمَا شَاءَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(5)

(1)

سيذكر المصنف كل مذهب على حدة.

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"، للحصكفي (3/ 200)؛ حيث قال: "أسلم الكافر وتحته

أختان أو أم وبنتها بطل نكاحهن إن تزوجهن بعقد واحد، فإن رتب فالآخر باطل".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير وحاشية الصاوي"، للدردير (2/ 424)؛ حيث قال:"واختار إحدى كأختين أو إحدى كأخوات من كل محرمتي الجمع مطلقًا متأخرة أو متقدمة عقد عليهما معًا أو مترتبتين دخل بهما أو بإحداهما أو لم يدخل".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 339)؛ حيث قال:"ولو أسلم وتحته أم وبنتها كتابيتان أو غير كتابيتين ولكن أسلمتا فإن دخل بهما أو شك في عين المدخول بها حرمتا أبدًا وإن قلنا بفساد أنكحتهم لأن وطء كل بشبهة يحرم الأخرى".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (5/ 157)؛ حيث قال: "وإن حرم ابتداء نكاحها أي: الزوجة حال إسلام أو حال ترافع كذات محرم من نسب أو رضاع أو مصاهرة

فرق بينهما؛ لأنه حال يمنع من ابتداء العقد، فمنع استدامته كنكاح ذوات المحارم".

(3)

سيذكر المصنف مذاهب كل فريق في موضعها.

(4)

يُنظر: "الشرح الصغير وحاشية الصاوي"، للدردير (2/ 424)؛ حيث قال:"ولو أسلم كافر وتحته نساء كثيرة أو من يحرم جمعهن اختار أربعًا".

(5)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 337)؛ حيث قال: "إذا أسلم كافر حر وتحته=

ص: 6044

وَأَحْمَدُ

(1)

وَدَاوُدُ

(2)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

وَالثَّوْرِيُّ

(4)

، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى

(5)

: يَخْتَارُ الأَوَائِلَ مِنْهُنَّ فِي العَقْدِ، فَإِنْ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ).

أسلم كافر عنده أكثر من أربع نسوة وأسلمْنَ معه فما الحكم؟

هذه مسألة اختلف فيها العلماء:

فجمهور العلماء: يرون أنه يختار منهن أربعًا أو أقل؛ لا يفرقون بين من كان عقدها الأول ومن كان عقدها الآخر، وبين أن يكنَّ مرتبات أو غير مرتبات، وبين أن يكون قد عقد عليهن في عقد واحد أو في عقود متعددة.

وأبو حنيفة يقول: يختار الأوائل؛ لأن الأوائل لم يحصل جمع ممنوع بينهن كان أخذهن كما لو كان في الإسلام، لكن الخامسة جاءت في وقت منهي عنه؛ ولذلك المتأخرات يُلغى عقدهن.

ولذلك يقول العلماء: لو أن إنسانًا تزوج أختين، لكنه عقد على

= أكثر من أربع من الزوجات الحرائر وأسلمن معه ولو قبل وطء أو أسلمن قبله ثم أسلم هو أو عكسه

اختيار أربع

لا إمساكهن فله بعد اختيارهن فراقهن منهن".

(1)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 686)؛ حيث قال: "إن أسلم كافر وتحته أكثر من أربعة نسوة فأسلمن في عدتهن

لم يكن له إمساكهن كلهن بغير خلاف اختار ولو كان محرمًا أربعًا منهن ولو من ميتات".

(2)

لم أقف عليه.

(3)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"، للحصكفي (3/ 200)؛ حيث قال: "أسلم الكافر وتحته خمس نسوة فصاعدًا

بطل نكاحهن إن تزوجهن بعقد واحد؛، فإن رتب فالآخر باطل".

(4)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 254)؛ حيث قال:"قال سفيان الثوري: إذا أسلم وعنده ثمان نسوة، إن كان نكحهن جميعًا في عقدة، فرق بينه وبينهن، وإن كان نكح واحدة بعد الأخرى، حبس أربعًا منهن الأولى والأولى، وترك سائرهن".

(5)

لم أقف عليه.

ص: 6045

الأولى ثم بعد فترة عقد على الأخرى؛ فعقد الثانية يلغى والأولى يبقى، لأن الأولى لم يصادف العقد عليها جمعًا بين أختين، أما الثانية فجاء الجمع فيزول ذلك العقد، لكن لو وطئ أختين وأُمر بفسخ إحداهن فليس له أن يطأ التي اختارها حتى تنتهي عدة الأخرى؛ لأن العدة تعتبر جزءًا من النكاح فلا يجوز ذلك، وكذلك الحال بالنسبة للخامسة فأكثر.

* قوله: (وَقَالَ ابْنُ المَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ

(1)

: إِذَا أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أُخْتَانِ، فَارَقَهُمَا جَمِيعًا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَ أَيَّتِهمَا شَاءَ، وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ غَيْرُهُ).

وهذا قول ضعيفٌ؛ لأنه قد ثبت ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة فيروز الديلمي، وحديثه صحيح

(2)

، والرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يختار واحدة منهن وأن يفارق الأخرى؛ فهذا ورد فيه نص فلا محل للخلاف فيه ولا اجتهاد مع وجود النص.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ القِيَاسِ لِلْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَثَرَانِ).

لا يمكن أن يقاوَم حديث صحيح صريح بقياس، لكن ربما تكون دلالة النص غير ظاهرة، فمن الممكن أن يُستدل بالقيالس، فالقيالس دائمًا يدعم وهو ما يعرف بالدليل العقلي؛ لأن الأدلة نوعان

(3)

:

(1)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (18/ 144)؛ حيث قال:"وقال عبد الملك بن الماجشون: إذا أسلم، وعنده أختان، فارقهما جميعًا؛ لأنه كأنه عقد عليهما عقدًا واحدًا، ثم استأنف نكاح إحداهما، إن شاء حكاه أحمد بن المعذل عنه، ولم يقله من أصحاب مالك غيره".

(2)

أخرجه الترمذي (1129) وغيره عن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اختر أيتهما شئت". وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(6/ 335).

(3)

قال ابن مفلح في "أصول الفقه"(1/ 306): "الأدلة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإِجماع، والقياس، والأصل الكتاب، والسنة مخبرة عن حكم الله، والإِجماع =

ص: 6046

- أدلة نقلية وهي أدلة الكتاب والسنة.

- وأدلة عقلية وهو ما يعرف بالقياس.

وكما قال العلماء المحققون لا يوجد قياس صحيح يعارض نصًّا صحيحًا؛ لا يمكن أن يتعارضا

(1)

.

* قوله: (أَحَدُهُمَا: مُرْسَلُ مَالِكٍ: "أَنَّ غَيْلَانَ بْنِ سَلَامَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ أَسْلَمْنَ مَعَه، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا"

(2)

).

ليس مرسلًا كما ذكر المؤلف، لكنه جاء مرسلًا ومتصلًا في مسند الإمامين الشافعي

(3)

وأحمد

(4)

وعند الترمذي

(5)

وابن ماجه

(6)

وابن حبان

(7)

والبيهقي في الكبرى

(8)

وغير هؤلاء.

والذين تكلموا في الحديث تكلموا بسبب أن الترمذي سأل محمد بن إسماعيل البخاري - الإمام البخاري - فقال في هذا الحديث: غير محفوظ،

= مستند إِليهما، والقياس مستنبط منهما". وينظر:"الموافقات"، للشاطبي (3/ 165 وما بعدها).

(1)

يُنظر: "مجموع الفتاوى"، لابن تيمية (20/ 504)؛ حيث قال: "القياس الصحيح هو الذي وردت به الشريعة وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين؛ الأول قياس الطرد، والثاني قياس العكس، وهو من العدل الذي بعث الله به رسوله

وليس من شرط القياس الصحيح المعتدل أن يعلم صحته كل أحد؛ فمن رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه ليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر".

(2)

أخرجه الترمذي (1128) وغيره، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1883).

(3)

أخرجه الشافعي في "المسند - ترتيب السندي"(2/ 16).

(4)

أخرجه أحمد (8/ 220).

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

ابن ماجه (1953).

(7)

ابن حبان في "الصحيح"(9/ 463).

(8)

البيهقي في "الكبرى"(7/ 241).

ص: 6047

والمحفوظ هو المرسل، والمرسل ليس عند مالك، وإنما هو "أن رجلًا - وفي بعض الروايات: محمد الثقفي - أسلم وعنده نسوة فطلقهن فقال له عمر رضي الله عنه: لتراجعهن"

(1)

. فقالوا: هذا هو الذي ورد.

لكن نقل أن الإمام ابن كثير حقق هذه المسألة

(2)

، وأنه قال: إن هذه الرواية والرواية الأخرى: "أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة" كلاهما جاءت في رواية عند أحمد فهو جاء بالروايتين معًا، وقال: إن سند هذا الحديث سند قوي.

ويرفع ذلك كله ما جاء في "سنن النسائي"، وتكلم الحافظ ابن حجر في كتابه "التلخيص الحبير"

(3)

عن حديث غيلان الثقفي وأنه أسلم وتحته عشر نسوة وفي بعض الروايات: "أسلمن معه ولما كان زمان عمر رضي الله عنه طلقهن فقال له عمر: راجعهن". وصحح العلماء هذا السند.

فهذا الحديث فيه كلام كثير للعلماء، لكن هو حديث صالح للاحتجاج به، يؤيده وبشهد له أيضًا حديث آخر في قصة الحارث بن قيس أو قيس بن حارث: أنه أسلم وتحته ثمان نسوة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يفارق منهن أربعًا ويمسك أربعًا. وهذا الحديث وإن كان فيه كلام فهو شاهد، ورواه أبو داود والترمذي وعبد الرزاق وغير هؤلاء العلماء

(4)

.

(1)

قال الترمذي في "العلل الكبير ترتيب أبي طالب"(ص 164): "وسألت محمدًا عن حديث معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: "أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة

". فقال: هو حديث غير محفوظ، إنما روى هذا معمر بالعراق، وقد روي عن معمر عن الزهري هذا الحديث مرسلًا. وروى شعيب بن أبي حمزة وغيره عن الزهري قال: حدثت عن محمد بن سويد الثقفي: "أن غيلان بن سلمة أسلم

" قال محمد: وهذا أصح، وإنما روى الزهري، عن سالم، عن أبيه: "أن عمر قال لرجل من ثقيف طلق نساءه فقال: لتراجعن نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم النبي صلى الله عليه وسلم قبر أبي رغال".

(2)

لم أقف على هذا الكلام عن ابن كثير، ولعله يقصد ابن حجر؛ فهو الذي ذكر معنى هذا الكلام في "التلخيص الحبير"(3/ 369).

(3)

يُنظر: "التلخيص الحبير"(3/ 367 - 369).

(4)

سيذكره المصنف ويأتي تخريجه.

ص: 6048

وفي قصة نوفل بن معاوية الذي أسلم وعنده خمس نسوة فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفارق واحدة

(1)

؛ فالحديث هذا جاء في بعض طرقه أن سنده صحيح أو حسن وجاءت له شواهد تقويه وتعضده؛ فيصبح حديثًا صالحًا للاحتجاج به وهو حجة الجمهور.

* قوله: (الحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ قَيْسِ بْنِ الحَارِثِ: "أَنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى الأُخْتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ"

(2)

).

هذا خطأ من المؤلف في الحقيقة، وإنما الذي أسلم على أختين هو فيروز الديلمي، وبعضهم يقول: الضحاك بن فيروز الديلمي.

* قوله: (وَأَمَّا القِيَاسُ المُخَالِفُ لِهَذَا الأَثَرِ: فَتَشْبِيهُ العَقْدِ عَلَى الأَوَاخِرِ قَبْلَ الإِسْلَامِ بِالعَقْدِ عَلَيْهِنَّ بَعْدَ الإِسْلَامِ - أَعْنِي: أَنَّهُ كَمَا أَنَّ العَقْدَ عَلَيْهِنَّ فَاسِدٌ فِي الإِسْلَامِ كَذَلِكَ قَبْلَ الإِسْلَامِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ).

هذا حقيقة قياس مع الفارق؛ لأن الإسلام إنما جاء بتأليف القلوب، ولذلك نجد أن من مصارف الزكاة:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60]، ثم لما زال ذلك أوقف ذلك عمر رضي الله عنه

(3)

؛ فالإسلام بني على التيسير والتخفيف وتحبيب الناس فيه؛

(1)

أخرجه الشافعي في "المسند"(ص 274 - 275) عن عوف بن الحارث، عن نوفل بن معاوية الديلي قال: أسلمت وتحتي خمس نسوة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "فارق واحدة، وأمسك أربعًا". فعمدت إلى أقدمهن عندي عاقر منذ ستين سنة ففارقتها.

وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1884).

(2)

نبه الشارح على خطأ المصنف؛ فإن قيسًا أسلم على ثمان نسوة، وإنما الذي أسلم على أختين هو فيروز الديلمي.

وتقدم حديث قيس، وأما حديث فيروز فأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (7/ 164) وغيره عن الديلمي:"أنه أسلم وعنده أختان، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أيتهما شاء ويطلق الأخرى".

(3)

الأثر أخرجه البيهقي في "الكبرى"(7/ 32) وغيره عن عبيدة قال: "جاء عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس إلى أبي بكر، فقالا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن عندنا=

ص: 6049

ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"

(1)

.

ويقول: "بشروا ولا تنفروا وشروا ولا تعسروا"

(2)

.

والله سبحانه وتعالى يقول عن نبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199].

ويقول: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

ولقد أحسن المؤلف؛ لأن هذا قياس مع الفارق، وشتان بينهما؛ ذاك أمر حصل في جاهلية جهلاء وهذا حصل في ضياء ونور وهدى وتقى وصلاح؛ فذاك في ظلمات الجهل وهذا في نور الإيمان.

إذن؛ نتبين أن مذهب الجمهور هو الراجح في هذه المسألة، وقد جاءت الآثار مؤيدة لذلك، وهو الأقرب لروح الإسلام التي قامت على التيسير والتخفيف.

* قوله: (وَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الآخَرِ - وَهِيَ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ - ثُمَّ أَسْلَمَ الآخَر، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ).

قد تسلم المرأة قبل الرجل وربما يسلم الرجل قبلها، وكل ذلك

= أرضًا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تُقطعناها لعلنا نزرعها ونحرثها

فذكر الحديث في الإقطاع، وإشهاد عمر عليه ومحوه إياه قال: فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام فاذهبا، فاجهدا جهدكما لا أرعى الله عليكما إن رعيتما". قال ابن كثير في "مسند الفاروق" (ص 259):"حديث منقطع الإسناد". وينظر: "أحكام القرآن"، للجصاص (4/ 325).

(1)

أخرجه البخاري (220) وغيره عن أبي هريرة، قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"دعوه وهريقوا على بوله سجلًا من ماء أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين".

(2)

أخرجه مسلم (1732/ 6) وغيره عن أبي موسى، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدًا من أصحابه في بعض أمره، قال:"بشروا ولا تنفروا، وشروا ولا تعسروا".

ص: 6050

حصل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكم من النساء اللاتي هاجرن، وفي مقدمة تلكم النساء ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب فإنها هاجرت مسلمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركت زوجها أبا العاص بقي على الشرك ولم يسلم إلا بعد صلح الحديبية؛ فبقيت الفترة بينهما سنوات طويلة، وستأتي أمثلة عديدة يذكرها المؤلف.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(2)

، وَالشَّافِعِيُّ

(3)

).

وأحمد

(4)

.

* قوله: (إِنَّهُ إِذَا أَسْلَمَتِ المَرْأَةُ قَبْلَه، فَإِنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ فِي عِدَّتِهَا كَانَ أَحَقَّ بِهَا، وَإِنْ أَسْلَمَ هُوَ وَهِيَ، فَنِكَاحُهَا ثَابِتٌ، لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَذَلِكَ:"أَنَّ زَوْجَهُ عَاتِكَةَ ابْنَةَ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ أَسْلَمَتْ قَبْلَه، ثُمَّ أَسْلَمَ هُوَ، فَأَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم علَى نِكَاحِهِ"، قَالُوا:

(1)

يُنظر: "الشرح الصغير"، للدردير و"حاشية الصاوي" (2/ 422)؛ حيث قال:"أسلمت قبله، فأسلم في عدتها أو أسلما معًا فيقرر عليها وإلا بأن أسلمت بعده ببعيد أو أسلمت قبله، وأسلم بعد خروجها من العدة بانت؛ أي: انفصلت منه وفرق بينهما بلا طلاق لفساد أنكحتهم".

(2)

يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 336)، حيث قال: "الزوجين الكافرين إذا أسلم أحدهما في دار الإسلام فإن كانا كتابيين، فأسلم الزوج، فالنكاح بحاله؛ لأن الكتابية محل لنكاح المسلم ابتداءً فكذا بقاءً، وإن أسلمت المرأة لا تقع الفرقة بنفس الإسلام عندنا، ولكن يعرض الإسلام على زوجها، فإن أسلم بقيا على النكاح، وإن أبى الإسلام فرق القاضي بينهما

وإن كانا مشركين أو مجوسيين فأسلم أحدهما أيهما كان يعرض الإسلام على الآخر، ولا تقع الفرقة بنفس الإسلام عندنا، فإن أسلم فهما على النكاح، وإن أبى الإسلام فرق القاضي بينهما".

(3)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 339)؛ حيث قال:"أسلم حر وتحته أمة فقط وأسلمت معه قبل دخول أو بعده أو أسلمت بعده أو قبله في العدة أقر النكاح إن حلت له الأمة عند اجتماع إسلامه وإسلامها".

(4)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 684)؛ حيث قال:"أو أسلم أحد زوجين غير كتابيين قبل دخول انفسخ نكاحهم".

ص: 6051

"وَكَانَ بَيْنَ إِسْلَامِ صَفْوَانَ وَبَيْنَ إِسْلَامِ امْرَأَتِهِ نَحْوٌ مَنْ شَهْرٍ"

(1)

).

هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال:

القول الأول: إذا أسلم أحدهما قبل الآخر فإنهما يبقيان على نكاحهما مهما طال الزمن، وهذا لم يقل به إلا قلة وضعفه بعض العلماء

(2)

.

القول الثاني: إذا أسلم أحد الزوجان كانت فرقة؛ إذ لا يجتمع مسلم مع مشرك

(3)

.

القول الثالث: إذا أسلمت المرأة وأسلم زوجها وهي لا تزال في عدتها فهم على نكاحهما، وإن أسلم بعد العدة فلا، وهو رأي الجمهور

(4)

.

وسبب الخلاف في ذلك: هو ما حصل من إسلام بعض الصحابة رضي الله عنهم: فبعضهم أسلم قبل زوجته، ومن الزوجات من أسلمت

(1)

أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 543) عن ابن شهاب أنه بلغه: "أن نساءً كنَّ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلمن بأرضهن وهن غير مهاجرات، وأزواجهن حين أسلمن كفار، منهن بنت الوليد بن المغيرة، وكانت تحت صفوان بن أمية؛ فأسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها صفوان بن أمية من الإسلام؛ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه وهب بن عمير برداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانًا لصفوان بن أمية، ودعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام

" وفيه: "ثم خرج صفوان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر فشهد حنينًا والطائف وهو كافر وامرأته مسلمة، ولم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين امرأته حتى أسلم صفوان واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح".

(2)

لم أقف على هذا القول، لكن ابن المنذر في "الأوسط" (9/ 299) قال:"أجمع عوام أهل العلم في النصرانيين يسلم الزوج قبل امرأته أنهما على نكاحهما؛ إذ جائز له في هذه الحال أن يبتدئ نكاحهما ولم تكن زوجه".

(3)

يُنظر: "الأوسط"، لابن المنذر (9/ 300)؛ حيث قال:"وفيه قول رابع: روي عن جماعة من أهل العلم أنها تبين منه كما تسلم. واحتج بعض من يقول هذا القول بظاهر قول الله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ".

(4)

تقدَّم ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة.

ص: 6052

قبل زوجها، وهناك من أسلما في وقت واحد، بل جاء في بعض الأحاديث:"أن امرأة أسلمت وتزوجت فجاء زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أسلمت وهي تعلم ذلك فردها الرسول صلى الله عليه وسلم إليه"

(1)

.

والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، هذا صريح في أن المسلم لا يبقي مشركة تحته.

وقال تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ؛ فهنا بينت الحال بين الزوجين معًا لا هنَّ حل للمشركين ولا المشركون يحلون لهنَّ.

لكن عندنا أمثلة كثيرة: كما في قصة صفوان أنه أسلم قبل زوجته بشهر

(2)

، وحكيم بن حزام أسلم قبل زوجته، وأبو سفيان أسلم قبل زوجته، وأم حكيم زوجة عكرمة أسلمت قبل زوجها

(3)

، وزينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم أسلمت أيضًا قبل زوجها أبي العاص

(4)

.

* قوله: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ امْرَأَةً هَاجَرَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَزَوْجُهَا كَافِرٌ مُقِيمٌ بِدَارِ الكُفْرِ إِلَّا فَرَّقَتْ هِجْرَتُهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا إِلَّا أَنْ يَقْدَمَ زَوْجُهَا مُهَاجِرًا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا

(5)

".

(1)

أخرجه أبو داود (2239) غيره عن ابن عباس قال: "أسلمت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت، فجاء زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد كنت أسلمت وعلمت بإسلامي، فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر، وردها إلى زوجها الأول". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1918).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(7/ 171) وغيره عن ابن شهاب في حديث طويل، وفيه:"وأسلم مخرمة بن نوفل، وأبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام بمرِّ الظهران، ثم قدموا على نسائهم مشركات فأسلمن فجلسوا على نكاحهم، وكانت امرأة مخرمة شفا بنة عوف أخت عبد الرحمن بن عوف، وامرأة حكيم زينب بنت العوأم، وامرأة أبي سفيان هند بنة عتبة بن ربيعة. قال ابن شهاب: وكان عند صفوان بن أمية مع عاتكة بنة الوليد آمنة بنة أبي سفيان فأسلمت أيضًا مع عاتكة بعد الفتح، ثم أسلم صفوان بعدما قام عليهما". وإسناده ضعيف فيه رجل مجهول.

(4)

سيذكره الشارح بعد قليل.

(5)

أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 544) وغيره. قال ابن عبد البر في "التمهيد"(12/ 19):=

ص: 6053

هذا هو رأي الجمهور

(1)

، لكن يرد على هذا قصة زينب؛ فإنها مكثت سنواتٍ ورد الرسول صلى الله عليه وسلم إليها زوجها.

وقد جاء حديث عبد الله بن عباس قال: "رد رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على أبي العاص ولم يُحدث في ذلك شيئًا"

(2)

. وجاء في الرواية الأخرى: "ولم يحدث شهادة ولا صداقًا"

(3)

.

لكن جاء في رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رسول صلى الله عليه وسلم ردها إليه بعقد جديد"

(4)

. لكن هذا ضعيف، إنما حديث ابن عباس هو الصحيح، وهو صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها إليه.

فاضطر هؤلاء أن يجيبوا - كابن عبد البر وغيره - بعدة أجوبة؛ قالوا: إدن النهي عن ذلك جاء متأخرًا؛ لأنه كان فيما مضى إذا أسلمت زوجة المشرك أو أسلم الرجل وبقيت زوجته على الكفر ما كان يفرق بينهما حتى نزلت: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} و {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} قالوا: وكان ذلك قبل الحديبية، أما بعد الحديبية فلا.

= "هذا الحديث لا أعلمه يتصل من وجه صحيح، وهو حديث مشهور معلوم عند أهل السير، وابن شهاب إمام أهل السير وعالمهم، وكذلك الشعبي، وشهرة هذا لحديث أقوى من إسناده إن شاء الله".

(1)

تقدَّم ذكر مذاهبهم في هذه المسألة.

(2)

أخرجه أبو دود (2240) وغيره عن ابن عباس قال: "رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول لم يحدث شيئًا". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1921).

(3)

أخرجه أحمد (4/ 195) عن ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع، وكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صداقًا". وحسنه الأرناؤوط.

(4)

أخرجه الترمذي (1142) وغيره عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد".

قال الألباني في "إرواء الغليل"(1922): "منكر".

ص: 6054

فأجابوا عن قصة زينب: بأنها أسلمت قبل الحديبية ولم يكن هناك مانع

(1)

.

وأجابوا جوابًا آخر: قالوا باحتمال أن الرسول صلى الله عليه وسلم ردها بعقد جديد

(2)

، وكما قلنا: الرواية فيه ضعيفة.

وبعضهم قال: باحتمال أن تكون حاملًا وطال حملها؛ لأن الحمل ربما يستقر في بطن المرأة

(3)

.

وبعضهم قال: ربما أنها بقيت لا تحيض مدة طويلة.

وهذه كلها تعليلات تحتاج إلى دليل، وأقوى ما فيها جاء في الآية:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} أنها جاءت متأخرة، ولا شك أن الأحوط في ذلك هو ما أخذ به مذهب جمهور العلماء، لكن ليس معنى ذلك أن الأقوال الأخرى ليست بقوية؛ هي قوية وبخاصة الذين قالوا: بأننا لم نقف على دليل صحيح فرق فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مع تعدد ذلك، ومع كثرة مَن أسلم

(1)

قال في "التمهيد"(12/ 21 - 22): "وقال آخرون: قصة أبي العاص هذه منسوخة بقوله عز وجل: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} الآية إلى قوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} إجماع العلماء على أن أبا العاص بن الربيع كان كافرًا وأن المسلمة لا يحل أن تكون زوجة لكافر

ولم يختلف أهل السير أن هذه الآية المذكورة نزلت في الحديبية حين صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا على أن يرد عليهم مَن جاء بغير إذن وليه؛ فلما هاجرن أبى الله أن يُرْدَدْنَ إلى المشركين إذا امتحنَّ بمحنة الإسلام وعرف أنهم جئن رغبة في الإسلام".

(2)

قال ابن عبد البر في "التمهيد"(12/ 24): "فلا يخلو من أن يكون كانت حاملًا فتمادى حملها ولم تضعه حتى أسلم زوجها فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها في عدتها، وهذا ما لم ينقل في خبر، أو تكون قد خرجت من العدة فيكون أيضًا ذلك منسوخًا بالإجماع

وقد يحتمل قوله: "على النكاح الأول" يريد على مثل النكاح الأول من الصداق".

(3)

قال ابن عبد البر في "التمهيد"(12/ 24): "وإن كان مسلمًا فلا يخلو من أن يكون كانت حاملًا فتمادى حملها ولم تضعه حتى أسلم زوجها؛ فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها في عدتها، وهذا ما لم ينقل في خبر".

ص: 6055

من الرجال قبل النساء ومن النساء قبل الرجال؛ والأمثلة على ذلك كثيرة، وإن كان الذي قال به قلة كالنخعي وغيره.

* قوله: (وَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ إِسْلَامِ المَرْأَةِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

: إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ المَرْأَةِ، وَقَعَتِ الفُرْقَةُ إِذَا عَرَضَ عَلَيْهَا الإِسْلَامَ فَأَبَتْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

: سَوَاءٌ أَسْلَمَ الرَّجُلُ قَبْلَ المَرْأَةِ؛ أَوِ المَرْأَةُ قَبْلَ الرَّجُلِ إِذَا وَقَعَ الإِسْلَامُ المُتَأَخِّرُ فِي العِدَّةِ، ثَبَتَ النِّكَاحُ).

الجمهور حصل بينهم خلاف يسير في هذه المسألة، لكنهم من حيث الجملة متفقون عليها.

فبعضهم قال: إذا أسلمت المرأة قبل الرجل ينتظر قليلًا فإن لم يسلم يفرق بينهما

(3)

.

وبعضهم قال: يفرق بينهما

(4)

.

وبعضهم قال: لا فرق بين أن تتقدم المرأة أو يتقدم الرجل بالنسبة للإسلام وهو رأي الأكثر

(5)

.

(1)

يُنظر: "الشرح الصغير"، للدردير و"حاشية الصاوي" (2/ 422)؛ حيث قال:"ومقابله: أنه إن عرض عليها الإسلام فأبته فرق بينهما ولا يقرر عليها بعد ذلك إن أسلمت، كما لو بعد ما بين إسلامهما هذا حكم ما إذا أسلم قبلها".

(2)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 328)، حيث قال:"أو تخلفت بعده؛ أي: الدخول أو نحوه وأسلمت في العدة دام نكاحه إجماعًا".

(3)

وهذا قول الجمهور، وقد تقدم ذكر مذاهبهم.

(4)

يُنظر: "الأوسط"، لابن المنذر (9/ 300)؛ حيث قال:"وفيه قول رابع روي عن جماعة من أهل العلم: أنها تبين منه كما تسلم".

(5)

هذا على تفصيل فيما بينهم تقدم ذكره.

ص: 6056

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ العُمُومِ لِلْأَثَرِ وَالقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] يَقْتَضِي المُفَارَقَةَ عَلَى الفَوْرِ، وَأَمَّا الأثَرُ المُعَارِضُ لِمُقْتَضَى هَذَا العُمُومِ: فَمَا رُوِيَ: "مِنْ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ أَسْلَمَ قَبْلَ هِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ بِمَرِّ الظَّهْرَان، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ وَهِنْدٌ بِهَا كَافِرَةٌ، فَأَخَذَتْ بِلِحْيَتهِ، وَقَالَتْ: اقْتُلُوا الشَّيْخَ الضَّالَّ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ بَعْدَهُ بِأَيَّامٍ، فَاسْتَقَرَّا عَلَى نِكَاحِهِمَا"

(1)

).

قصة أبي سفيان وقصة صفوان وأم حكيم وحكيم بن حزام وابن أمية شواهد كثيرة جدًّا لم يفرق الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم في هذا الأمر.

* قوله: (وَأَمَّا القِيَاسُ المُعَارِضُ لِلْأَثَرِ، فَلِأَنَّهُ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُسْلِمَ هِيَ قَبْلَه، أَوْ هُوَ قَبْلَهَا، فَإِنْ كَانَتِ العِدَّةُ مُعْتَبَرَةً فِي إِسْلَامِهَا قَبْل، فَقَدْ يَجِبُ أَنْ تُعْتَبَرَ فِي إِسْلَامِهِ أَيْضًا قَبْلُ).

هؤلاء يعللون بأنها في عدة والعدة تعتبر امتدادًا لحالة الزوجية، لكن الحقيقة أنه ليس هناك فرق واضح بين الأمرين.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(1)

أخرجه البيهقي في "الكبرى"(7/ 301) عن الشافعي: أنبأ جماعة من أهل العلم من قريش وأهل المغازي وغيرهم، عن عدد قبلهم:"أن أبا سفيان بن حرب أسلم بمرو ورسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر عليها، فكانت بظهوره وإسلام أهلها دار إسلام، وامرأته هند بنت عتبة كافرة بمكة، ومكة يومئذ دار حرب، ثم قدم عليها يدعوها إلى الإسلام فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال، وأقامت أيامًا قبل أن تسلم، ثم أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم، فثبتا على النكاح".

ص: 6057

‌(البَابُ الثَّالِثُ فِي مُوجِبَاتِ الخِيَارِ فِي النِّكَاحِ

وَمُوجِبَاتُ الخِيَارِ أَرْبَعَةٌ: العُيُوب، وَالإِعْسَارُ بِالصَّدَاقِ أَوْ بِالنَّفَقَةِ وَالكِسْوَةِ).

العلماء وقفوا عند الأمور التي يكون لها تأثير مباشر أو غير مباشر.

فالرجل إذا كان أجبَّ مقطوع الذكر

(1)

أو كانت المرأة مسدودة الفرج إما لوجود عظمة أو لحم نبت لم يمكن أن يلج فيها الذكر

(2)

؛ فهنا لا تتحقق الغاية والهدف، وقد يوجد أمر آخر تنفر منه النفوس وتبتعد عنه الأزواق مثل البرص فالبرص يخاف منه الإنسان إما أن ينتقل إليه أو يخشى أن ينتقل إلى أولاده والوطء يحتاج لذة واللذة تحتاج إلى استعداد.

فالعلماء عنوا بالأمور ذات العلاقة الوثيقة بالوطء؛ فقالوا: تقتضي الفسخ، لكن الفسخ ليس شرطًا؛ يعني: لو تزوجت امرأة رجلًا فبان عنينًا لا يستطيع أن يطأ ورضيت به؛ فالحمد لله، لكن لو طالبت فلها ما طلبت.

* قوله: (وَالثَّالِثُ: الفَقْدُ - أَعْنِي: فَقْدَ الزَّوْجِ -، وَالرَّابِعُ: العِتْقُ لِلْأَمَةِ المُزَوَّجَةِ).

قضية الفقد يبحثها الفقهاء كثيرًا في أبواب الفرائض عند تقسيم التركة، وأيضًا هذا موضعها في النكاح، والفقد ليس كما أطلق المؤلف؛ لأن المفقود أحيانًا يكون انقطاع الزوج انقطاعًا لا أمل معه في رجوعه،

(1)

المجبوب: المقطوع الذكر. انظر: "طلبة الطلبة"، للنسفي (ص 47).

(2)

وهذه تسمى قرناء، والقرناء من النساء التي في فرجها مانع يمنع من سلوك الذكر فيه، إما غدة غليظة أو لحمة مرتتقة أو عظم. انظر:"لسان العرب"، لابن منظور (13/ 335).

ص: 6058

وأحيانًا ينقطع لكنه يعلم مكانه، والأمر مختلف بين الأمرين، ربما يكون أسيرًا في أيدي الكفار، وربما يكون سجينًا.

* قوله: (فَيُعْقَدُ فِي هَذَا البَابِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ:

‌الفَصْلُ الأَوَّلُ فِي خِيَارِ العُيُوبِ

اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي مُوجَبِ الخِيَارِ بِالعُيُوبِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، وَذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: هَلْ يُرَدُّ بِالعُيُوبِ أَوْ لَا يُرَدُّ؟ وَالمَوْضِعُ الثَّانِي: إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ يُرَدُّ فَمِنْ أَيِّهَا يُرَدُّ، وَمَا حُكْمُ ذَلِكَ؟ فَأَمَّا المَوْضِعُ الأَوَّلُ: فَإِنَّ مَالِكًا

(1)

، وَالشَّافِعِيَّ

(2)

وَأَصْحَابَهُمَا قَالُوا: العُيُوبُ تُوجِبُ الخِيَارَ فِي الرَّدِّ أَوِ الإِمْسَاكِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ

(3)

: لَا تُوجِبُ

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"، للدردير (2/ 277)؛ حيث قال: "الخيار لأحد الزوجين بسبب وجود عيب من العيوب

وحاصل ما أشار له المصنف: أن العيوب في الرجل والمرأة ثلاثة عشر: أربعة يشتركان: فيها وهي الجنون والجذام والبرص والعذيطة، وأربعة خاصة: بالرجل الجب والخصاء والاعتراض والعنة، وخمسة خاصة بالمرأة: وهي الرتق والقرن والعفل والإفضاء والبخر".

(2)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 345 - 347)؛ حيث قال: "إذا وجد أحد الزوجين بالآخر جنونًا ولو متقطعًا وإن قل على الأوجه

أو جذامًا أو برصًا وإن قل إن استحكم بقول خبيرين

أو وجدها رتقاء؛ أي: منسدًّا محل جماعها بلحم ومثله ضيق المنفذ

أو قرناء؛ أي: منسدًّا ذلك منها بعظم، أو وجدته وهو بالغ عاقل عنينًا؛ أي: به داء يمنع انتشار ذكره عن قبلها وإن قدر على غيرها

أو مجبوبًا؛ أي: مقطوعًا ذكره

ثبت للكاره منهما الجاهل بالعيب أو العالم به

الخيار في فسخ النكاح إن بقي العيب إلى الفسخ ولم يمت الآخر كما ذهب إليه أكثر العلماء".

(3)

يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (10/ 109)؛ حيث قال: "لا يفسخ النكاح بعد صحته=

ص: 6059

خِيَارَ الرَّدِّ وَالإِمْسَاكِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ).

جمهور العلماء من الصحابة والتابعين

(1)

ومالك والشافعي وأحمد

(2)

: يرون أن العيب الذي يترتب عليه خيار الفسخ عيب من العيوب التي تؤثر على بقاء النكاح؛ بمعنى أن تمنع الوطء، أو أن ينفر الإنسان منه، على اختلاف بينهم في تحديد ذلك؛ فإن هذا يقتضي الفسخ.

وقال علي رضي الله عنه: "لا ترد حرة بعيب"

(3)

؛ لأنها ما دامت حرة وإن وُجد بها عيب فليس ذلك سببًا في ردها، وأخذ بهذا القول النخعي والثوري

(4)

.

ونقل عن عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل أنه قال: "لا ينفسخ

= بجذام حادث، ولا ببرص كذلك، ولا بجنون كذلك، ولا بأن يجد بها شيئًا من هذه العيوب، ولا بأن تجده هي كذلك، ولا بعنانة، ولا بداء فرج، ولا بشيء من العيوب".

(1)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 675)؛ حيث قال:"العيوب المثبتة للخيار ثلاثة، منها قسم يختص بالرجل وثبوت الخيار لأحد الزوجين إذا وجد بالآخر عيبًا في الجملة. روي عن عمر وابنه وابن عباس؛ لأنه يمنع الوطء، فأثبت الخيار كالجب والعنة، ولأن المرأة أحد العوضين في النكاح فجاز ردها بعيب كالصداق، ولأن الرجل أحد الزوجين فثبت له الخيار بالعيّب في الآخر كالمرأة".

(2)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 72 - 73)؛ حيث قال:"قالت طائفة: له الخيار، فإن علم قبل الدخول فارقها ولا شيء عليه، وإن لم يعلم حتى دخل فعليه المهر، وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وبه قال جابر بن زيد، ومالك، والشافعي، وإسحاق في هذه العيوب، وفي العيب في الفرج، وقال أبو ثور، وأبو عبيد في الجذام والجنون والبرص مثله، وقال جابر والأوزاعي في العفلاء كذلك".

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(6/ 243) عن الشعبي، عن علي قال:"يرد من القرن والجذام والجنون والبرص؛ فإن دخل بها فعليه المهر، إن شاء طلقها، وإن شاء لم يطلقها، وإن شاء أمسك، وإن لم يدخل بها فرق بينهما".

(4)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 73)، حيث قال:"وفيه قول ثان: وهو أن الحرة لا ترد من عيب كما ترد الأمة، هذا قول النخعي والثوري".

ص: 6060

النكاح بعيب"

(1)

. وهذا هو الذي أخذ به أبو حنيفة

(2)

انفرادًا عن الأئمة، لكن أبا حنيفة قال: أستثني من ذلك: أن يكون الزوج مجبوبًا أو أن يكون عنينًا، والمرأة يكون بها رتقٌ أو إن وجد بها؛ فأبو حنيفة يلتقي مع جمهور العلماء فيما يتعلق بالعيوب التي تختص بها المرأة أو التي تختص ببعضها، وأما العيوب التي يختص بها الرجل مثل الجذام والبرص والجنون هذه لا تأثير لها عند أبي حنيفة، ويرى أن هذه كلها لا تقتضي الفسخ، وإن وجد ما يرى أنه لا يؤثر فإنها تطلق طلقة واحدة على يد الحاكم.

لأن العيوب لا تقتضي الفسخ؛ فلو كان الزوج أعمى لا يفسخ النكاح، أو كان مريضًا مرض مزمنًا لا يفسخ النكاح، لو كان أعرج لا يفسخ النكاح، لو كان به قرع الذي يصيب الرأس لا يفسخ النكاح، ولو كان به خصي عند أبي حنيفة لا يفسخ النكاح، ووجود الرائحة أيضًا لا تأثير له عند أبي حنيفة، فهناك صور كثيرة لا يفسخ فيها النكاح.

وقضية الفسخ في الخيار موضع اتفاق بين العلماء؛ بأن الذي يتولى ذلك هو الحاكم؛ لأن هذه العيوب مختلف فيها، هل تقتضي الفسخ أو لا؟ فالذي يرفع ذلك الخلاف هو حكم الحاكم.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَانِ، أَحَدُهُمَا: هَلْ قَوْلُ الصَّاحِبِ حُجَّةٌ

(3)

، وَالآخَرُ: قِيَاسُ النِّكَاحِ فِي ذَلِكَ عَلَى البَيْعِ؟).

المقايسة التي سلكها المؤلف في باب النكاح قياس النكاح على

(1)

لم أقف عليه.

(2)

يُنظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (5/ 588 - 590)، حيث قال: "وإذا كان بالزوجة عيب فلا خيار للزوج

وإذا كان بالزوج جنون أو برص أو جذام فلا خيار لها عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لها الخيار دفعًا للضرر عنها، كما في الجب والعنة، بخلاف جانبه، لأنه متمكن من دفع الضرر بالطلاق، ولهما أن الأصل عدم الخيار لما فيه من إبطال حق الزوج، وإنما يثبت الخيار في الجب والعنة؛ لأنهما يخلان بالمقصود المشروع له النكاح، وهذه العيوب غير مخلة به فافترقا".

(3)

تقدَّم الكلام على هذه المسألة، وأنه حجة إذا لم يكن له معارض.

ص: 6061

البيع، والشبه بلا شك قريب جدًّا بين الأمرين؛ لأن ذاك مبادلة مال بمال، وهذا مبادلة عوض بمعوض؛ فالمبادلة موجودة هنا وهناك، لكن الفرق بينهما واضح؛ فالبيع كما هو معلوم إذا وجد عيب بيِّن يرد، أما النكاح فليس كل عيب من العيوب يقتضي ردًّا.

* قوله: (فَأَمَّا قَوْلُ الصَّاحِبِ الوَارِدُ فِي ذَلِكَ: فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ - وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَوْ قَرَنٌ - فَلَهَا صَدَاقُهَا كَامِلًا، وَذَلِكَ غُرْمٌ لِزَوْجِهَا عَلَى وَليِّهَا"

(1)

، وَأَمَّا القِيَاسُ عَلَى البَيْعِ: فَإِنَّ القَائِلِينَ بِمُوجِبِ الخِيَارِ لِلْعَيْبِ فِي النِّكَاحِ، قَالُوا: النِّكَاحُ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِالبَيْعِ. وَقَالَ المُخَالِفُونَ لَهُمْ: لَيْسَ شَبِيهًا بِالبَيْعِ لإجْمَاعِ المُسْلِمِينَ عَلَى أنَّهُ لَا يُرَدّ النِّكَاحُ بِكُلِّ عَيْبٍ، وَيُرَدُّ بِهِ البَيْعُ).

هذه الأربع موضع اتفاق بين الأئمة الثلاثة؛ أيُّ واحد منهم يقتضي فسخ النكاح

(2)

.

وبعضهم يفسر القرن: بنفس الرتق، وبعضهم يقول: الرتق يختلف عن القرن، وهذه التفصيلات موجودة عند الشافعية

(3)

والحنابلة

(4)

أكثر.

(1)

أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 526) وغيره عن سعيد بن المسيب أنه قال: قال عمر بن الخطاب: "أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسها فلها صداقها كاملًا، وذلك لزوجها غرم على وليها". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(6/ 328).

(2)

تقدَّم ذكر مذاهبهم في هذه المسألة قريبًا.

(3)

يُنظر: "البيان"، للعمراني (9/ 496 - 497)؛ حيث قال:"والفرق بينها وبين القرناء والرتقاء: أن تعذر الجماع في الرتقاء والقرناء من جهتها؛ ولهذا لا يتمكن أحد من جماعها".

(4)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 678)؛ حيث قال: "كون فرجها مسدودًا لا يسلكه ذكر فإن كان ذلك بأصل الخلقة فهي رتقاء بالمد فالرتق تلاحم الشفرين خلقة، وإلا يكن ذلك بأصل الخلقة فهي قرناء

وقيل: القرناء من نبت في فرجها لحم زائد فسده".

ص: 6062

أما عن الأثر: فقد أخرجه مالك في "موطئه"

(1)

، وأخرجه الشافعي في "سننه"

(2)

، وسعيد بن منصور في "سننه"

(3)

، وهو أثر ثابت

(4)

.

والكلام الذي ذكر عن عمر رضي الله عنه مجمل، وإلا إن كان قبل العقد فهذا أمر ينتهي ويرد كل شيء، لكن إن حصل العيب بعد العقد فقد يكون بعد الدخول وربما يكون بعد المسيس.

* قوله: (وَأَمَّا المَوْضِعُ الثَّانِي فِي الرَّدِّ بِالعُيُوبِ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ العُيُوب يُرَدُّ بِهَا، وَفِي أَيِّهَا لَا يُرَدُّ، وَفِي حُكْمِ الرَّدِّ، فَاتَّفَقَ مَالِكٌ

(5)

، وَالشَّافِعِيُّ

(6)

عَلَى أَنَّ الرَّدَّ يَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةِ عُيُوبٍ: الجُنُونِ وَالجُذَامِ وَالبَرَصِ وَدَاءِ الفَرْجِ الَّذِي يَمْنَعُ الوَطْءَ: إِمَّا قَرَنٌ أَوْ رَتْقٌ فِي المَرْأَةِ أَوْ عُنَّةٌ فِي الرَّجُلِ أَوْ خِصَاءٌ).

العيوب التي يُردُّ بها عقد النكاح خمسة:

يشترك الرجال والنساء منها في ثلاثة، هي: الجنون، والجذام، والبرص.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

لم أقف عليه.

(3)

"سنن سعيد بن منصور"(1/ 245).

(4)

إن قصد الشرح بثابت، أي: أنه في دواوين الحديث فنعم، وإلا فالأثر منقطع كما قال الألباني في "إرواء الغليل" (6/ 328):"رجاله ثقات رجال الشيخين، لكنه منقطع بين سعيد وعمر".

(5)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 277)؛ حيث قال:"وحاصل ما أشار له المصنف: أن العيوب في الرجل والمرأة ثلاثة عشر أربعة يشتركان فيها وهي الجنون والجذام والبرص والعذيطة، وأربعة خاصة بالرجل الجب والخصاء والاعتراض والعنة، وخمسة خاصة بالمرأة وهي الرتق والقرن والعفل والإفضاء والبخر".

(6)

يُنظر: "البيان"، للعمراني (9/ 290)؛ حيث قال:"والعيوب التي يثبت لأجلها الخيار في النكاح خمسة: ثلاثة يشترك فيها الزوجان، وينفرد كل واحد منهما باثنين. فأما الثلاثة التي يشتركان فيها: فالجنون والجذام والبرص، وينفرد الرجل بالجب والعنة، وتنفرد المرأة بالرتق والقرن".

ص: 6063

ويختص الرجال منها اثنتين هما: الجب والخصاء، وفي مقابلتهما من النساء القرن والرتق.

وإنما اعتبرت هذه العيوب الخمسة في الكفاءة، لأنه لما أوجبت وجودها فسخ النكاح الذي لا يوجبه نقص النسب فأولى أن تكون معتبرة في الكفاءة كالنسب.

* قوله: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي أَرْبَعٍ: فِي السَّوَادِ، وَالقَرَعِ، وَبَخَرِ الفَرْجِ، وَبَخَرِ الفَمِ، فَقِيلَ: تُرَدُّ بِهَا، وَقِيلَ: لَا تُرَدُّ

(1)

).

البخر: الرائحة المتغيِّرة من الفم من نتن وغيره، بخر الفم بخرًا، إذا أنتن وتغيَّر ريحه

(2)

، ولم يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى.

ولمَّا كان البخر في الإنسان يؤدِّي إلى النَّفرة والتأذِّي اعتبره الفقهاء عيبًا، واتفقوا على أنه من العيوب التي يثبت بها الخيار في بيع الإماء.

وأما في النكاح: فقد اختلفوا في ثبوت الخيار والفسخ به.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ

(3)

وَالثَّوْرِيُّ

(4)

: لَا تُرَدُّ المَرْأَةُ فِي النِّكَاحِ إِلَّا بِعَيْبَيْنِ فَقَطْ: القَرَنِ وَالرَّتَقِ).

فليس عندهما تخيير للزوج أو الزوجة بعيب من العيوب، إلا بالقرْن،

(1)

يُنظر: "الشرح الصغير"، للدردير و"حاشية الصاوي" (2/ 472) "حيث قال: "ولا خيار بغيرها، أي: بغير العيوب المتقدمة من سواد وقرع وعمى وعور وعرج وشلل، وقطع عضو، وكثرة أكل، ونحوها مما يعد في العرف عيبًا

ولا بخلف الظن كالقرع من قوم ذوي شعور، والثيوبة مع ظنها بكرًا، والسواد من بيض فلا رد به، ونتن فم لا رد به لأن المراد بالبخر نتن الفرج".

(2)

لسان العرب والمصباح المنير مادة: "بخر".

(3)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"، للحصكفي (3/ 50)؛ حيث قال:"ولا يتخير أحدهما؛ أي: الزوجين بعيب الآخر فاحشًا كجنون وجذام وبرص ورتق وقرن".

(4)

لم أقف عليه.

ص: 6064

وهو: مانع في الفرج يمنع من سلوك الذكر فيه، إما غدة غليظة، أو لحمة مرتتقة، أو عظم، وامرأة قَرْناء بها ذلك.

وكذلك الرَّتق، وهو: انسداد فرج المرأة.

* قوله: (فَأَمَّا أَحْكَامُ الرَّدِّ، فَإِنَّ القَائِلِينَ بِالرَّدِّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا عَلِمَ بِالعَيْبِ قَبْلَ الدُّخُولِ طَلَّقَ، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ).

يعني: أحكام الردِّ بالعيب.

(وَاخْتَلَفُوا إِنْ عَلِمَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالمَسِيسِ، فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

: إِنْ كَانَ وَلَيُّهَا الَّذِي زَوَّجَهَا مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهَا أَنَّهُ عَالِمٌ بِالعَيْبِ مِثْلُ الأَبِ وَالأَخِ، فَهُوَ غَارٌّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ الزَّوْجُ بِالصَّدَاقِ، وَلَيْسَ يَرْجِعُ عَلَى المَوْأَةِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا، رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى المَرْأَةِ بِالصَّدَاقِ كُلِّهِ إِلَّا رُبُعَ دِينَارٍ فَقَطْ).

إذا كان العلم بالعيب بعدَ الدخول، فيذهب الزوج إلى وليِّ المرأة سواء كان أبًا أو أخًا أو ابن، ولا يُخْف على الوليِّ حال هذه المرأة، ولأنَّ الوليَّ صار مدلِّسًا بهذا الكتمان، ولا يكون هناك شيء على الزوجة من الصداق الذي كان قد أعطاه الزوج لها.

أما إن كان هذا الوليُّ بعيدًا، ويخفى عليه حالها؛ كابن العم: فله أن يرجع عليها، ولكن يترك له من صداقها شيئًا قدَّروه بربع دينار؛ حتى لا يخلو البُضْع عن مهر أو صداق، فيكون شبيهًا بما لو وطأها بالزنا.

(1)

يُنظر: "الشرح الصغير"، للدردير و"حاشية الصاوي" (2/ 477 - 478)؛ حيث قال: "وإن ردها الزوج بعده لعيبها رجع به الزوج على ولي لم يخف عليه حالها كأب وأخ وابن لتدليسه بالكتمان، ولا شيء عليها من الصداق الذي أخذته

ورجع عليها فقط في ولي بعيد شأنه أن يخفى عليها حالها كابن عم وحاكم إلا ربع دينار؛ لئلا يخلو البضع عن مهر فيشبه وطؤها الزنا".

ص: 6065

* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(1)

: إِنْ دَخَلَ لَزِمَهُ الصَّدَاقُ كُلُّهُ بِالمَسِيسِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى وَليٍّ).

فليس عند الشافعيِّ تفصيل؛ فإنَّه يقول: له الفسخ بعد الدخول أو مع الدخول، وعليه المهر كاملًا بما مسَّها.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ تَشْبِيهِ النِّكَاحِ بِالبَيْعِ، أَوْ بِالنِّكَاحِ الفَاسِدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ المَسِيسُ - أَعْنِي: اتِّفَاقَهُمْ عَلَى وُجُوبِ المَهْرِ فِي الأَنْكِحَةِ الفَاسِدَةِ بِنَفْسِ المَسِيسِ - لقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْن سَيِّدِهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، وَلَهَا المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا"

(2)

).

وقوله: "وَلَهَا المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا"؛ أي: استمتع من فَرْجِها، وهو يدلُّ على أنَّ المهر إنَّما يجب بالإصابة، وأنَّ الدخول كنايةً عنها.

قال: (فَكَانَ مَوْضِعُ الخِلَافِ: تَرَدُّدُ هَذَا الفَسْخِ بَيْنَ حُكْمِ الرَّدِّ بِالعَيْب فِي البُيُوعِ، وَبَيْنَ حُكْمِ الأَنْكِحَةِ المَفْسُوخَةِ - أَعْنِي: بَعْدَ الدُّخُولِ -).

فمنهم من جعلها كأحكام الردِّ بالعيب في البيوع، ومنهم من جعل حكمها حكم الأنكحة المفسوخة.

* قوله: (وَاتَّفَقَ الَّذِينَ قَالُوا بِفَسْخِ نِكَاحِ العِنِّينِ: أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ حَتَّى يُؤَجَّلَ سَنَةً يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِغَيْرِ عَائِقٍ

(3)

).

(1)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 350)؛ حيث قال:"والفسخ بعده؛ أي: الدخول أو معه الأصح أنه يجب به مهر مثل إن فسخ - بالبناء للمفعول لا الفاعل -؛ لإيهامه بعيب به أو بها مقارن للعقد؛ لأنه إنما بذل المسمى ليستمتع بسليمة ولم توجد".

(2)

أخرجه الترمذي (1102) وغيره عن عائشة، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1840).

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"، للحصكفي (3/ 499)؛ =

ص: 6066

إذا وجدت المرأة زوجَها عنينًا أو مجبوبًا، فله عليها الحقُّ أن يُؤجَّل سنةً من السنوات الهجرية؛ ليستطيع بإذن الله علاج نفسه.

* قوله: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي العِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا قُصِرَ الرَّدُّ عَلَى هَذِهِ العُيُوبِ الأَرْبَعَةِ، فَقِيلَ: لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْعٌ غَيْرُ مُعَلَّلٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى، وَمَحْمَلُ سَائِرِ العُيُوبِ عَلَى أَنَّهَا مِمَّا لَا تَخْفَى. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا يُخَافُ سِرَايَتُهَا إِلَى الأَبْنَاءِ، وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يُرَدُّ بِالسَّوَادِ وَالقَرَعِ، وَعَلَى الأَوَّلِ يُرَدُّ بِكُلِّ عَيْبٍ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ مِمَّا خَفِيَ عَلَى الزَّوْجِ).

خلافُهم هذا في تحديد السبب الذي اقتصرت فيه العيوب على أربعة، فمنهم من قال: لأن هذا جاء به النَّص وهو غير معلَّل، ومنهم من قال: خوفًا من انتقال هذه الأمراض إلى الأولاد.

ثُمَّ استشكل المؤلف استشكالًا وجيهًا، وكأنَّه يردُّ به على كلامهم هذا.

فقال: إذا كان الأمر أنَّه يُخاف أن يصاب بهذا العيب الأولاد، فإنَّ السواد والقرع عيبٌ يُصاب به الأولاد كثيرًا!

= حيث قال: "فلو وجدته عنينًا أو مجبوبًا ولم تخاصم زمانًا لم يبطل حقها، وكذا لو خاصمته ثم تركت مدة فلها المطالبة ولو ضاجعته تلك الأيام خانية، كما لو رفعته إلى قاض فأجله سنة ومضت السنة ولم تخاصم زمانًا".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 281)؛ حيث قال:"وأجل المعترض الحر الثابت لزوجته عليه خيار بأن لم يسبق له فيها وطء سنة قمرية لعلاجه بعد الصحة من مرض غير الاعتراض؛ أي: إذا كان به مرض غيره فإنه يؤجل بعد الصحة منه سنة من يوم الحكم لا من يوم الرفع".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 352)؛ حيث قال:"وإذا ثبتت العنة بوجه مما مر ضرب القاضي له ولو قنًّا كافرًا؛ إذ ما يتعلق بالطبع لا يفترق فيه القن وغيره سنة لقضاء عمر".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (5/ 142)؛ حيث قال:"إن كان عنينًا لا يمكنه وطء ولو لكبر أو مرض لا يرجى زواله أجل سنة؛ لأنه في معنى من خلق كذلك".

ص: 6067

وإذا كان الأمرُ أنَّ هذه العيوب مما يخفى على الزوج رؤيته وقت الخِطبة، فسيقول القائل: إذن نردُّ بكُلِّ عيب خفي على الزوج!

قال المصنف رحمه الله تعالى:

‌(الفَصْلُ الثَّانِي فِي خِيَارِ الإِعْسَارِ بِالصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ

وَاخْتَلَفُوا فِي الإِعْسَارِ بِالصَّدَاقِ).

الإعسار بالصداق يعني: إذا عجز الزوج أن يدفع الصداق الذي التزم به فما الحكم هنا: هل يفسخ النكاح أو لا؟

لا يخلو أن يتبين الإعسار قبل الدخول أو بعده، فإن كان قبل الدخول ورغبت في ذلك انتهى العقد، وإن كان بعد الدخول فيه تفصيل.

* قوله: (فَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: تُخَيَّرُ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا

(1)

، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ

(2)

).

وأحمد

(3)

؛ فالجمهور على أنها تخير إذا عجز عن الصداق.

(1)

هذا هو أصح الأقوال. يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 215)؛ حيث قال:"وفي إعساره بالمهر الواجب أقوال: أظهرها تفسخ إن لم تقبض منه شيئًا قبل وطء للعجز عن تسليم العوض مع بقاء المعوض بحاله، وخيارها حينئذ عقب الرفع إلى الحاكم والإمهال الآتي فوري؛ فيسقط بتأخيره من غير عذر كجهل كما هو ظاهر لا بعده لتلف المعوض به وصيرورة العوض دينًا في الذمة".

(2)

يُنظر: "عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب (ص 333)؛ حيث قال:"إذا أعسر بالصداق قبل الدخول فلزوجته خيار الفسخ إن أحبت، ويضرب له أجل على اجتهاد السلطان فيما يرجى له فيه سعة، فإن وجد وإلا طلق عليه إذا طلبته".

(3)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 164)؛ حيث قال: "وإن أعسر زوج بالمهر=

ص: 6068

* قوله: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي قَدْرِ التَّلَوُّمٍ لَهُ؛ فَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ فِي دْلِكَ حَدٌّ، وَقِيلَ: سَنَة، وَقِيلَ: سَنَتَينِ

(1)

، وَقَالَ أبُو حَنِيفَةَ: هِيَ غَرِيمٌ مِنَ الغُرَمَاءِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَيُؤْخَذُ بِالنَّفَقَةِ، وَلَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا حَتَّى يُعْطِيَهَا المَهْرَ

(2)

. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَغْلِيبُ شَبَهِ النِّكَاحِ فِي ذَلِكَ بِالبَيْعِ، أَوْ تَغْلِيبُ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ لِلْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ الوَطْءِ، تَشْبِيهًا بِالإِيلَاءِ وَالعُنَّةِ).

القصد بالتلوم: الانتظار

(3)

؛ يعني: هل هناك وقت ينتظر فيه يعطى للزوج المعسر أو لا؟

والإيلاء: هو أن يقسم الرجل ألا يطأ امرأته مدة: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [البقرة: 226، 227] يؤلي بمعنى: يحلف بالله ألا يطأ امرأته فإن فاء؛ يعني: رجع ووطئ

(4)

، وإن لم يطأ

الحال قبل الدخول أو بعده؛ فالحرة مكلفة الفسخ؛ لأنه تعذر عليها الوصول إلى العوض، أشبه ما لو أفلس المشتري فلو رضيت بالمقام معه مع عسرته امتنع الفسخ أو تزوجته عالمة بعسرته أمتنع الفسخ لرضاها به".

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 300)؛ حيث قال:"وعمل في التلوم عند الموثقين بسنة وشهر ستة أشهر فأربعة فشهرين فشهر، وهذا ضعيف مقابل لقوله بالنظر وفي وجوب التلوم لمن لا يرجى يساره كمن يرجى؛ لأن الغيب قد يكشف عن العجائب وهو تأويل الأكثر".

(2)

يُنظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (5/ 665)، حيث قال:"م: (وإن امتنعت من تسليم نفسها حتى يعطيها مهرها فلها النفقة؛ لأنه منع بحق، فكان فوت الاحتباس لمعنى من قِبَله فيجعل كالأموات) ش: المراد من المهر هو العاجل، وبه صرح في "شرح الطحاوي" فقال: ولو أنها منعت نفسها لأجل مهرها العاجل، فلها النفقة لأن هذا منع بحق".

(3)

التلوم: الانتظار والتمكث. انظر: "الصحاح"، للجوهري (5/ 2034).

(4)

الإيلاء: اسم ليمين يمنع بها المرء نفسه عن وطء منكوحته، والفيء هو تحنيث نفسه بالوطء في المدة، وعزيمة الطلاق الثبات على البر بترك الوطء حتى تمضي أربعة أشهر فتطلق. يُنظر:"طلبة الطلبة"، للنسفي (ص 61).

ص: 6069

وانتهت المدة المحددة؛ فإنه يرفع الأمر إلى الحاكم؛ فيحصل بذلك الفسخ إلا أن تجد موانع ضرورية، كأن يقول: أنا بحاجة إلى أن آكل أو ألبس ثوبي وأن أتناول شيئًا من الأمور السريعة، وسيأتي الكلام عنه قريبًا إن شاء الله.

* قوله: (وَأَمَّا الإِعْسَارُ بِالنَّفَقَةِ

(1)

: فَقَالَ مَالِكٌ

(2)

وَالشَّافِعِيُّ

(3)

، وَأَحْمَدُ

(4)

، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ

(5)

وَجَمَاعَةٌ

(6)

).

المؤلف كثيرًا ما يسكت عن أحمد وهو يعتمد على كتاب "الاستذكار"، فالمسألة الأولى لم يذكره وهو مع الجمهور، وهنا أشار إلى أحمد؛ لأن ابن عبد البر ذكر الإمام أحمد.

(1)

الجمهور يقولون بالتخيير وليس التفريق مطلقًا كما أطلقه المصنف.

(2)

يُنظر: "عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب (ص 394)؛ حيث قال:"إذا أعسر بنفقة زوجته، فهي بالخيار بين أن تقيم معه ولا نفقة لها في ذمته إلا برضاه، وبين طلب الفراق، فيفرق الحاكم بينهما".

(3)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (8/ 335 - 336)، حيث قال:"إذا أعسر الزوج بها؛ أي: النفقة فإن صبرت زوجته ولم تمتعه تمتعًا مباحًا صارت كسائر المؤن ما عدا المسكن لما مر أنه إمتاع دينًا عليه وإن لم يفرضها قاض؛ لأنها في مقابلة التمكين وإلا تصير ابتداء أو انتهاء بأن صبرت، ثم أرادت الفسخ كما سيعلم من كلامه فلها الفسخ بالطريق الآتي على الأظهر".

(4)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (3/ 235)؛ حيث قال:"ومتى أعسر زوج بنفقة معسر فلم يجد القوت، أو أعسر بكسوته؛ أي: المعسر، أو أعسر ببعضهما؛ أي: بعض نفقة المعسر وكسوته، أو أعسر بمسكنه؛ أي: المعسر خيرت، أو صار الزوج لا يجد النفقة لزوجته إلا يومًا دون يوم خيرت الزوجة؛ للحوق الضرر الغالب بذلك بها".

(5)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 161)؛ حيث قال:"فقالت طائفة: يفرق بينهما، كذلك قال مالك، ويحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور".

(6)

يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء"، للطحاوي (2/ 366)؛ حيث قال:"قال الليث يفرق بينهما".

ص: 6070

* قوله: (يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

(1)

، وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ

(2)

).

هناك فرق بين الإعسار وبين البخل؛ كما في قصة هند لما شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: أبو سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي؛ فقال لها عليه الصلاة والسلام: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"

(3)

.

فهناك فرق بين إنسان يملك المال ولكنه بخيل؛ فهذا يرغم على النفقة.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(4)

، وَالثَّوْرِيُّ

(5)

: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ).

أبو حنيفة رحمه الله يقول: يرفع عنها يده ويتركها تتكسب، ربما تذهب

(1)

أخرجه الشافعي في "مسنده"(ص 266) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، عندي دينار قال:"أنفقه على نفسك". قال: عندي آخر، قال:"أنفقه على ولدك". قال: عندي آخر، قال:"أنفقه على أهلك". قال: عندي آخر، قال:"أنفقه على خادمك". قال: عندي آخر، قال:"أنت أعلم به" قال سعيد: ثم يقول أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث: يقول ولدك: أنفق علي، إلى من تكلني؟ تقول زوجتك: أنفق علي أو طلقني، يقول خادمك: أنفق علي أو بعني. وحسن المرفوع منه الألباني في "إرواء الغليل"(895).

(2)

يُنظر: "الأوسط"، لابن المنذر (9/ 65)؛ حيث قال:"فقالت طائفة: يفرق بينهما. . . وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن".

(3)

أخرجه البخاري (5364) وغيره عن عائشة: أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".

(4)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 173)؛ حيث قال: "ومن أعسر بنفقة امرأته لم يفرق بينهما ويقال لها: استديني عليه".

(5)

يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء"، للطحاوي (2/ 366)؛ حيث قال:"في العاجز عن النفقة؛ قال أصحابنا: لا يفرق بينه وبين امرأته، ولا يجبر على طلاقها، وهو قول الثوري".

ص: 6071

تحتطب لكن بستر وصيانة، وربما تذهب في بعض الأعمال الشريفة، المهم أنها تكسب مالًا لتنفق على نفسها.

أما الآخرون فقالوا: لا هي غير مطالبة بذلك.

أبو حنيفة رحمه الله حريص كل الحرص على أن يظل الزواج ولا يتزعزع، حتى لو حصل نقص فيما يتعلق بالإعسار، هذه هي وجهة أبي حنيفة رحمه الله وهي وجهة لها حظ من النظر.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَشْبِيهُ الضَّرَرِ الوَاقِعِ مِنْ ذَلِكَ بِالضَّرَرِ الوَاقِعِ مِنَ العُنَّةِ، لِأَنَّ الجُمْهُورَ عَلَى القَوْلِ بِالتَّطْلِيقِ عَلَى العِنِّينِ

(1)

، حَتَّى لَقَدْ قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ

(2)

، وَرُبَّمَا قَالُوا: النَّفَقَة فِي مُقَابَلَةِ الاسْتِمْتَاعِ

(3)

بِدَلِيلِ أَنَّ النَّاشِزَ لَا نَفَقَةَ لَهَا عِنْدَ الجُمْهُورِ

(4)

؛ فَإِذَا لَمْ يَجِدِ

(1)

تقدَّم مذاهب أهل العلم من أنه يضرب الحاكم أو القاضي له أجل، ثم تخير الزوجة بين البقاء أو الفراق، على اختلاف بينهم في ذلك.

(2)

لم أقف عليه في كتب ابن المنذر، بل وجدته قال في "الأوسط" (9/ 67):"إنما يجب أن يفرق بين العنين وزوجته بإجماع إن كان موجودًا".

(3)

وهو مذهب الجمهور كما تقدم.

(4)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 172)؛ حيث قال: "وإن نشزت فلا نفقة لها حتى تعود إلى منزله".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير"، للدردير و"حاشية الصاوي (2/ 511)، حيث قال: "واختلف في وجوب نفقة الناشز: والذي ذكره المتيطي ووقع به الحكم - وهو الصحيح - أن الزوج إذا كان قادرًا على ردها ولو بالحكم من الحاكم، ولم يفعل فلها النفقة، وإن غلبت عليه لحمية قومها وكانت ممن لا تنفذ فيهم الأحكام فلا نفقة لها".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (5/ 168)؛ حيث قال:"وتسقط نفقة كل يوم بنشوز؛ أي: خروج عن طاعة الزوج بعد التمكين والعرض على الجديد وقبله على القديم؛ لأنها تجب بالتسليم فتسقط بالمنع، والمراد بالسقوط عدم الوجوب، وإلا فالسقوط حقيقة إنما يكون بعد الوجوب".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 473)، حيث قال:"وإذا نشزت المرأة فلا نفقة لها لأنها في مقابلة التمكين وقد زال".

ص: 6072

النَّفَقَةَ، سَقَطَ الاسْتِمْتَاع، فَوَجَبَ الخِيَار، وَأَمَّا مَنْ لَا يَرَى القِيَاسَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ ثَبَتَتِ العِصْمَةُ بِالإِجْمَاعِ، فَلَا تَنْحَلُّ إِلَّا بِإِجْمَاعٍ، أَوْ بِدَلِيلٍ مِنْ كتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ اسْتِصْحَابِ الحَالِ لِلْقِيَاسِ).

العنين يلحق المرأة ضررًا تريد أن تستمتع بزوجها، هو كذلك يريد هذا الأمر؛ فإذا لم تجد أقل ما يسمى لقمة عيش لتأكلها، فكيف تقيم حياتها مع هذا الأمر، فهذا ضرر؛ بل ربما يكون الطعام في حالة الشدة أكثر.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(الفَصْلُ الثَّالِثُ فِي خِيَارِ الفَقْدِ)

فصل المؤلف قول المالكية على خلاف المنهج الذي رسمه لنفسه في هذا الكتاب؛ فأشار إلى أنه سيقتصر على أمهات المسائل وقواعدها، وأنه لا يدخل في التفصيلات؛ ولذلك نرى أنه عندما تعمق في مذهب المالكية أغفل باقي المذاهب وأشار إليهم بمواقف طفيفة.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي المَفْقُودِ الَّذِي تُجْهَلُ حَيَاتُهُ أَوْ مَوْتُهُ فِي أَرْضِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

: يُضْرَبُ لامْرَأَتِهِ أَجَلٌ أَرْبَعُ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 479)؛ حيث قال:"فيؤجل الحر أربع سنين إن دامت نفقتها من ماله وإلا طلق عليه لعدم النفقة. . . من حين العجز عن خبره بالبحث عنه في الأماكن التي يظن ذهابه إليها من البلدان بأن يرسل الحاكم رسولًا بكتاب لحاكم تلك الأماكن مشتمل على صفة الرجل وحرفته ونسبه ليفتش عنه فيها، ثم بعد الأجل الكائن بعد كشف الحاكم عن أمره ولم يعلم خبره اعتدت عدة كالوفا؛ أي: كعدة الوفاة الحرة بأربعة أشهر وعشر".

ص: 6073

تَرْفَعُ أَمْرَهَا إِلَى الحَاكِمِ، فَإِذَا انْتَهَى الكَشْفُ عَنْ حَيَاتِهِ أَوْ مَوْتِهِ، فَجُهِلَ ذَلِكَ، ضَرَبَ لَهَا الحَاكِمُ الأَجَلَ، فَإِذَا انْتَهَى اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَحَلَّتْ. قَالَ: وَأَمَّا مَالُهُ فَلَا يُورَثُ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّمَانِ مَا يُعْلَمُ أَنَّ المَفْقُودَ لَا يَعِيشُ إِلَى مِثْلِهِ غَالِبًا. فَقِيلَ: سَبْعُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ، وَقِيلَ: تِسْعُونَ، وَقِيلَ: مِائَةٌ فِيمَنْ غَابَ وَهُوَ دُونَ هَذِهِ الأَسْنَانِ، وَرُوِيَ هَذَا القَوْلُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ

(1)

، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ

(2)

. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(3)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(4)

، وَالثَّوْرِيُّ

(5)

: لَا تَحِلُّ امْرَأَةُ المَفْقُودِ حَتَّى يَصِحَّ مَوْتُهُ).

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(7/ 85) وغيره عن ابن المسيب: "أن عمر وعثمان قضيا في المفقود: أن امرأته تتربص أربع سنين وأربعة أشهر وعشرًا بعد ذلك ثم تزوج؛ فإن جاء زوجها الأول خير بين الصداق وبين امرأته".

(2)

يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء"، للطحاوي (2/ 330)؛ حيث قال:"وقال الليث: إذا قدم زوجها بعد الأجل قبل أن تتزوج فليس للإمام عليه طلاق وهي امرأته، وإن تزوجت بعد الأجل ثم جاء زوجها فاختار امرأته فليس عليه طلاق".

(3)

هذا هو المذهب الجديد. يُنظرت "نهاية المطلب"، للجويني (15/ 287)؛ حيث قال:"قال في القديم: تتربص بعد انقطاع الأخبار أربع سنين، ثم تعتد بعدها عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا، ثم تنكح إن شاءت، قال الشافعي: قلدت فيه عمر بن الخطاب. . . وقال الشافعي في الجديد: تصبر حتى يأتيها يقين طلاقه أو وفاته، وعنى باليقين أن يثبت سبب الفراق بطريق من الطرق الشرعية وبينة من البينات، ثم تتوقف إن استبهم الأمر ما عمرت، وبقيت".

(4)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 138)؛ حيث قال: "إذا غاب الرجل ولم يعرف له موضع ولا يعلم أحي هو أم ميت نصب القاضي مَن يحفظ ماله ويقوم عليه ويستوفي حقوقه وينفق على زوجته وأولاده من ماله، ولا يفرق بينه وبين امرأته، فإذا تم له مائة وعشرون سنة من يوم ولد حكمنا بموته واعتدت أمرأته وقسم ماله بين ورثته الموجودين في ذلك الوقت".

(5)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 107)؛ حيث قال:"وفيه قول ثان: وهو أن امرأة المفقود لا تنكح أبدًا حتى يأتيها يقين وفاته. . . وبه قال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري. . . ويعقوب، ومحمد".

ص: 6074

هذه المسألة تتعلق بغيبة الزوج، يعني غياب الزوج عن زوجته ليس الغياب المعتاد المعروف بأن يخرج ويعود، فهذه تنقسم من حيث الجملة إلى قسمين

(1)

:

أولها: أن يغيب الرجل عن زوجته غيبة ولكن يعرف مكانه ويعرف أخباره، كأن ينتقل من بلد إلى بلد آخر ويحصل الاتصال به عن طريق الرسائل؛ فهذا ليس مجال الحديث عنه هنا، فهو لا يدخل في أحكام المفقود، ويجب على زوجته أن تبقى تنتظره وليس لها أن تطلب الفسخ، إلا ألا يترك لها نفقة وألا يوصي غيره بالنفقة عليها؛ ففي هذه الحالة لها أن تطلب الفسخ لكونه لم ينفق عليها، فترد هذه المسألة إلى مسألة العسار بالنفقة.

ثانيها: أن يغيب الزوج غيبة منقطعة، لا يعرف مكانه ولا تصل أخباره؛ فهو أصبح سائحًا في هذه الأرض لا يعرف أهو في عداد الأموات أم في ضمن الأحياء؛ إذن هو أصبح مفقودًا، ومع ذلك قسم بعض العلماء هذا المصنف إلى قسمين

(2)

:

(1)

قال الماوردي في "الحاوي الكبير"(11/ 316): "ولغيبة الرجل عن زوجته حالتان:

إحداهما: أن يكون متصل الأخبار معلوم الحياة فنكاح زوجته محال، وإن طالت غيبته وسواء ترك لها مالًا أم لا، وليس لها أن تتزوج غيره، وهذا متفق عليه.

والحال الثانية: أن يكون منقطع الأخبار مجهول الحياة فحكمه على اختلاف أحواله في سفره واحد، سواء قعد في بلده أو بعده خروجه منه في بر كان سفره أو في بحر، وسواء كسر مركبه أو فقد بين صفي حرب؛ فهو في هذه الأحوال كلها مفقود وماله عليه موقوف يتصرف فيه وكلاؤه ويمنع منه ورثته".

(2)

قال ابن قدامة في "الكافي "(3/ 202): "إذا فقدت المرأة زوجها، وانقطع خبره عنها، لم يخل من حالين:

أحدهما: أن يكون ظاهر غيبته السلامة، كالتاجر وطالب العلم من غير مهلكة، فلا تزول الزوجية ما لم يتيقن موته؛ لأنها كانت ثابتة بيقين، فلا تزول بالشك. وعنه: إذا مضى له تسعون سنة، قسم ماله. . .

الثاني: أن يكون ظاهرها الهلاك، كالذي يفقد من بين أهله، أو في مفازة هلك فيها بعض رفقته، أو بين الصفين، أو ينكسر مركبًا فيهلك بعض رفقته، وأشباه ذلك، فمذهب أحمد أنها تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل، ثم تعتد للوفاة، ثم تتزوج".

ص: 6075

القسم الأول: مفقود ظاهر غيبته السلامة؛ يعني: إنسان سافر فانقطع خبره وظاهر أمره السلامة؛ كأن يسافر لطلب التجارة أو العلم أو السياحة؛ فهذا مفقود لا يعرف مكانه، لكن ظاهر غيبته السلامة فهو سافر في طريق مأمون.

هذا القسم اختلف فيه العلماء:

الحنابلة: يقولون: إن على المرأة أن تنتظر زوجها في هذه الحالة، وليس لها أن تتربص أو تعتد أو أن تتزوج بعد ذلك

(1)

.

والمالكية

(2)

: يخالفون في ذلك؛ فيرون أن هذا يدخل ضمن قسم ما يكون غالب غيبته الهلاك؛ فيقولون: تتربص أربع سنوات؛ لأن غالب مدة الحمل هي أربع سنوات فلا تتجاوز ذلك، ثم بعد ذلك تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ثم بعد ذلك تحل للأزواج، ويستدلون أن ذلك حصل في زمن عمر رضي الله عنه؛ فأمر المرأة أن تفعل ذلك

(3)

.

ويقولون: أليس في مسألة العنين للمرأة أن تطلب فسخ النكاح؟ كذلك إذا أعثر بالنفقة أليس لها حق فسخ النكاح؟ فيقولون: هذا جمع الأمرين معًا؛ فهذا أولى، رجل غاب ولا يعرف مكانه ولا جهته ولا تصل أخباره وقد انقطعت نفقته؛ فهذه المرأة أقل أحوالها أن تعامل معاملة زوجة العنين أو المعسر بالنفقة.

الشافعية والحنفية

(4)

: مذهبهم أن المرأة مهما طالت غيبة زوجها ومهما كان فقده غالبه الهلاك؛ فإنها لا تتزوج ولا تقسم تركته، إلا أن

(1)

يُنظر: "الكافي"، لابن قدامة (3/ 202)؛ حيث قال: "إذا فقدت المرأة زوجها، وانقطع خبره عنها، لم يخل من حالين:

أحدهما: أن يكون ظاهر غيبته السلامة، كالتاجر وطالب العلم من غير مهلكة، فلا تزول الزوجية ما لم يتيقن موته؛ لأنها كانت ثابتة بيقين، فلا تزول بالشك".

(2)

تقدَّم نقل مذهبهم في هذه المسألة.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم نقل مذهبهم في هذه المسألة.

ص: 6076

يصل خبر بوفاته أو بفراقه لها بأن يكون قد طلقها أو آلى منها.

القسم الثاني: ما يكون غالب فقده الهلاك.

ذكر العلماء أمثلة كثيرة لهذا: كمن يسافر في مَهلكة كإلى صحراء ليس فيها ماء ولا زرع، ليس فيها إنس، انقطع في هذه الصحراء، سلك هذا الطريق المخيف ثم بعد ذلك انقطعت أخباره، أو سلك طريقًا موحشًا تتجمع فيه الحيوانات المفترسة فانقطع خبره في هذا المكان، أو ركب البحر مع جماعة فغرقت هذه السفينة فمات معظم من فيها ولا يعرف خبره. أو كمن يخرج للصلاة ولا يعود، أو يفقده أهله ليلًا أو نهارًا ولا يدرى أين ذهب، أو غيرها من الأمثلة الكثيرة؛ فقالوا: هذا غالب حاله الهلاك.

الحنفية والمالكية يلتقون في هذا الأمر، لكن المالكية يستثنون مَن ينقطع خبره بين الصفين فإنه لا ينتظر مدة طويلة

(1)

.

فيرى العلماء أن زوجته تتربص أربع سنوات، ثم بعد ذلك تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ثم بعد ذلك تصبح صالحة لأنْ يتقدم إليها مَن يريد خطبتها.

ودليل ذلك: أثر عمر رضي الله عنه الذي أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"

(2)

وسعيد بن منصور في "سننه"

(3)

وغيرهم، وحكم عليه العلماء أنه جاء بطرق صحيحة: قصته

(4)

: "أن رجلًا فُقد في زمن عمر رضي الله عنه فجاءت

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 482)؛ حيث قال:"واعتدت الزوجة في مفقود المعترك بين المسلمين بعضهم بعضًا بعد انفصال الصفين؛ لأنه الأحوط؛ إذ يحتمل موته آخر القتال، وهو ظاهر، ولكن المعتمد الذي لمالك وابن القاسم أنها تعتد من يوم التقاء الصفين".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

"السنن"(1/ 449).

(4)

أخرجها سعيد بن منصور في "السنن"(1/ 450) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أن رجلًا من الأنصار خرج ليلًا فانتسفته الجن، فطالت غيبته، فأتت امرأته عمر بن الخطاب فقالت: إن زوجها قد غاب عنها فطالت غيبته، فأمرها أن تعتد أربع سنين، ففعلت ثم أتته، فأمرها أن تزوج ففعلت، ثم قدم زوجها الأول، فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأخبره - فغضب عمر، وقال: يعمد أحدكم فيطيل الغيبة عن أهله، =

ص: 6077

امرأته إلى عمر رضي الله عنه تخبره الخبر؛ فقال لها: انطلقي فتربصي أربع سنوات؛ فذهبت وتربصت أربع سنوات ثم أتته فقال لها: انطلقي فاعتدي أربعة أشهر وعشرًا فاعتدت، ثم عادت إليه فدعا ولي الرجل الذي فُقد فأحضر إليه فأمره أن يطلقها فطلقها، ثم أخبرها عمر بأنها تحل للأزواج فتزوجها رجل، وبعد هذه السنوات الطويلة ومرور الزمن جاء زوجها الأول فجاء عمرَ فقال له: أين كنت؟ قال: استعبدتني الشياطين وجعلوني أعمل عندهم قال: فبقيت عندهم حتى اغتزاهم قوم من المسلمين فسألوه: من الذي جاء بك فأخبرتهم بما حصل له فقالوا: من أي أرض أنت؟ فقال: من المدينة؛ فأخذوه حتى أوصلوه؛ فخيره عمر رضي الله عنه بين أن ترد إليه زوجته وبين أن يأخذ الصداق الذي صرف عليها فاختار الصداق، وعلل بأنها حبلى". شق عليه أن يعود إليها وقد حبلت من هذا الرجل.

فالمالكية يرون أن هذا الأثر يجمع جانبي المفقود؛ سواء كان فقد في سفر أو غيره؛ ويكون ظاهر الهلاك أو لم يكن ظاهره الهلاك؛ لأنه مضت مدة طويلة وانقطع خبره.

* قوله: (وَقَوْلُهُمْ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ

(1)

وَابْنِ مَسْعُودٍ

(2)

).

= ثم لا يعلمهم. قال: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين، إني خرجت من منزلي عشاء فاستبتني الجن، فكنت فيهم ما شاء الله، فغزاهم جن من المسلمين، فقالوا لى: ما أنت؟ فأخبرتهم، فقالوا لى: هل لك أن ترجع إلى بلادك؟ فقلت: نعم، فبعثوا بي، فأما الليل فرجال أعرفهم، وأما النهار فإعصار ريح تحملني. قال: فخيره عمر بين امرأته وبين الصداق، فاختار امرأته، ففرق بينهما وردها إليه، فقال عمر: ما كان طعامهم؟ قال: الفول وما لم يكن يذكر اسم الله عليه. قال: فما كان شرابهم؟ قال: الجدف. يعني الذي لا يغطى".

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(7/ 90) عن الحكم بن عتيبة: "أن عليًّا قال في امرأة المفقود: هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يأتيها موت أو طلاق".

(2)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(7/ 90) عن ابن جريج قال: "بلغني أن ابن مسعود وافق عليًّا على أنها تنتظره أبدًا".

ص: 6078

علي نقل عنه هذا وذاك، والرأي الآخر عن علي

(1)

هو ما يتفق فيه مع عمر رضي الله عنه. هذا هو مذهب الشافعي الجديد.

أما مذهبه القديم

(2)

: فيلتقي فيه مع الإمامين مالك وأحمد.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ اسْتِصْحَابِ الحَالِ لِلْقِيَاسِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِصْحَابَ الحَالِ يُوجِبُ أَلَّا تَنْحَلَّ عِصْمَةٌ إِلَّا بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا القِيَاسُ فَهُوَ تَشْبِيهُ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ لَهَا مِنْ غَيْبَتِهِ بِالإِيلَاءِ وَالعُنَّةِ، فَيَكُونُ لَهَا الخِيَارُ كمَا يَكُونُ فِي هَذَيْنِ).

هناك استصحاب حال وهناك قياس: هذه المرأة التي أصبحت في عصمة الزوج؛ هل نستدعي حالها ونقول: تبقى حتى تأتي بينة ليس عليها أي غبار أو إشكال بأن يتأكد من موت الزوج أو طلاقه لها؟ أم أننا نأخذ بالقياس فنلحق هذه المسألة بمسائل هي أولى منها؛ كمسألة العنة أو عسر بالنفقة أو الصداق وغيرها من المسائل الأخرى؟

كأن الشافعية والحنفية يتمسكون بالأصل: أن هذه الزوجة في عصمة هذا الزوج، فلا ينبغي أن يفسخ نكاحها إلا إذا قام دليل قطعي يُثبت وفاة الرجل أو أنه طلقها أو أنه آلى منها ولم يراجعها، أما الغيبة طالت أو قصرت فلا أثر لها عندهم.

والذين أخذوا بالخيار قالوا: أليست المرأة لو ثبت أن زوجها عنين يؤجل سنة لتمر به الفصول ليعطى فرصة؛ لأن من أهم مقاصد النكاح هو الوطء؛ وهذا عجز عنه، وهذه انقطع عنها زوجها سنوات فإلى متى تنتظر؟!

(1)

يُنظر: "الأوسط"، لابن المنذر (8/ 526)؛ حيث قال:"قالت طائفة: تربص أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا ثم تتزوج. . . وممن روي عنه أنه قال: تربص أربع سنين: علي بن أبي طالب".

(2)

تقدَّم ذكر مذهبه القديم والجديد.

ص: 6079

* قوله: (وَالمَفْقُودُونَ عِنْدَ المُحَصِّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَرْبَعَةٌ

(1)

).

المؤلف دخل في فروع المذهب.

* قوله: (مَفْقُودٌ فِي أَرْضِ الإِسْلَامِ، وَقَعَ الخِلَافُ فِيهِ، وَمَفْقُودٌ فِي أَرْضِ الحَرْبِ، وَمَفْقُودٌ فِي حُرُوبِ الإِسْلَامِ - أَعْنِي: فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمَفْقُودٌ فِي حُرُوبِ الكُفَّارِ).

وقد يكون أسر أو قتل أو بقي فيها.

* قوله: (وَالخِلَافُ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْ أَصْحَابِهِ فِي ثَلَاثَةِ الأَصْنَافِ مِنَ المَفْقُودِينَ كثِيرٌ: فَأَمَّا المَفْقُودُ فِي بِلَادِ الحَرْبِ، فَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الأَسِيرِ، لَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُه، وَلَا يُقْسَمُ مَالُهُ حَتَّى يَصِحَّ مَوْتُهُ

(2)

، مَا خَلَا أَشْهَبَ

(3)

؛ فَإِنَّهُ حَكَمَ لَهُ بِحُكْمِ المَفْقُودِ فِي أَرْضِ المُسْلِمِينَ).

الأسير أجمع العلماء على أن زوجته تنتظر مهما طال غيبته حتى يصلها خبر وفاته أو تطليقه، ما عدا أشهب من أصحاب مالك.

* قوله: (وَأَمَّا المَفْقُودُ فِي حُرُوبِ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ: إِنَّ حُكْمَهُ

(1)

قال الصاوي في "الحاشية على الشرح الصغير"(2/ 693): "فأقسام المفقود خمسة: مفقود في بلاد الإسلام في غير زمن الوباء أو فيه، ومفقود في مقاتلة بين أهل الإسلام، ومفقود في أرض الشرك، ومفقود في مقاتلة بين المسلمين والكفار".

(2)

يُنظر: "الشرح الصغير"، للدردير و"حاشية الصاوي" (2/ 699)؛ حيث قال:"واعتدت عدة وفاة في الفقد بين صفي المسلمين والكفار بعد سنة بعد النظر في شأنه بالسؤال والتفتيش حتى يغلب على الظن عدم حياته، ويورث ماله حينئذ".

(3)

يُنظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (5/ 247)؛ حيث قال:"روى أشهب عن مالك فيمن فقد فقد بين الصفين في أرض العدو أو أرض الإسلام فلتتربص امرأته سنة ثم تعتد، والسنة من يوم ينظر في أمره السلطان وتضرب له السنة".

ص: 6080

حُكْمُ المَقْتُولِ دُونَ تَلَوُّمٍ. وَقِيلَ: يُتَلَوَّمُ لَهُ بِحَسَبِ بُعْدِ المَوْضِعِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ المَعْرَكَةُ وَقُرْبِهِ، وَأَقْصَى الأَجَلِ فِي ذَلِكَ سَنَةٌ

(1)

).

بعضهم قال: ينتظر في حروب المسلمين: ينظر أين وقعت هذه الحرب قد تكون المسافة بعيدة فيحتاج إلى زمن ليعود إلى أهله، يعللون بذلك.

وبعضهم يقول: لا يمكن حتى يصل خبر الوفاة.

* قوله: (وَأَمَّا المَفْقُودُ فِي حُرُوبِ الكُفَّارِ، فَفِيهِ فِي المَذْهَبِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الأَسِيرِ

(2)

، وَقِيلَ: حُكْمُهُ حُكْمُ المَقْتُولِ بَعْدَ تَلَوُّمِ سَنَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَوْضِعٍ لَا يَخْفَى أَمْرُه، فَيُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ المَفْقُودِ فِي حُرُوبِ المُسْلِمِينَ وَفِتَنِهِمْ

(3)

. وَالقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ المَفْقُودِ فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ

(4)

. وَالرَّابِعُ: حُكْمُهُ حُكْمُ المَقْتُولِ فِي

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 482)؛ حيث قال:"واعتدت الزوجة في مفقود المعترك بين المسلمين بعضهم بعضًا بعد انفصال الصفين؛ لأنه الأحوط؛ إذ يحتمل موته آخر القتال، وهو ظاهر ولكن المعتمد الذي لمالك وابن القاسم أنها تعتد من يوم التقاء الصفين. . . فتكون زوجته كالمفقود في بلاد الإسلام فيجري فيه ما مر، وهل يتلوم؛ أي: ينتظر مدة تعتد بعدها بعد انفصال الصفين، ويجتهد في قدر تلك المدة أو تعتد بعد الانفصال من غير تلوم أصلًا تفسيران لقول مالك".

(2)

يُنظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، للجندي (5/ 104)؛ حيث قال:"والقول بأنه كالأسير لمالك في العتبية؛ أي: أن زوجته لا تتزوج ولا يقسم ماله حتى يعلم موته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يعيش إلى مثله".

(3)

يُنظر: "القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص 145)؛ حيث قال:"وأما المفقود في القتال مع الكفار. . . قيل: يحكم في زوجته بحكم المقتول يتلوم سنة، ثم تعتد وتتزوج".

(4)

يُنظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، للجندي (5/ 104)؛ حيث قال:"والقول بأنه كالمفقود في ماله زوجته حكاه ابن المواز وعابه؛ أي: لأنهم يأسرون المسلمين ولا يستطاع البحث عنهم كما في بلاد المسلمين".

ص: 6081

زَوْجَتِهِ

(1)

، وَحُكْمُ المَفْقُودِ فِي أَرْضِ المُسْلِمِينَ فِي مَالِهِ - أَعْنِي: يُعَمَّر وَحِينَئذٍ يُورَثُ

(2)

).

يعني: يضرب له أجل المعمَّرين ثم بعد ذلك يورث ماله لورثته.

* قوله: (وَهَذِهِ الأَقَاوِيلُ كُلُّهَا مَبْنَاهَا عَلَى تَجْوِيزِ النَّظَرِ بِحَسَبِ الأَصْلَحِ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِالقِيَاسِ المُرْسَلِ

(3)

، وَبَيْنَ العُلَمَاءِ فِيهِ اخْتِلَافٌ - أَعْنِي: بَيْنَ القَائِلِينَ بِالقِيَاسِ).

القياس المرسل: نوع من أنواع القياس، ليس كقياس العلة، ولكنه قياس مطلق؛ فمن العلماء مَن تشدد في هذا الأمر حماية وحفاظًا على حصن الزواج، وأنه لا ينبغي أن تفصم هذه العرى التي أخذت بأمانة الله واستحلت بكلمة الله، كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته العظيمة في حجة الوداع

(4)

.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(1)

ذكر ضمن القول الثاني كما تقدم.

(2)

يُنظر: "القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص 145)؛ حيث قال:"ويحكم في ماله بحكم المفقود فيعمر إلى ما لا يعيش إلى مثله".

(3)

قال الشيخ محمد بن علي بن حسين في "تهذيب الفروق"(4/ 50): "ولعل مراده بالقياس المرسل المصلحة المرسلة".

(4)

وهو حديث طويل أخرجه مسلم (1218/ 147) وغيره عن جابر وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال:". . . فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرِّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف".

ص: 6082

(الفَصْلُ الرَّابِعُ فِي خِيَارِ العِتْقِ)

وَاتَّفَقُوا عَلَى أن الأَمَةَ إِذَا عُتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ أن لَهَا الخِيَارَ)

(1)

.

هذا آخر أنواع الخيار التي ذكرها المؤلف: المرأة المملوكة إذا كانت تحت زوج فلا يخلو: إما أن يكون عبدًا أو أن يكون حرًّا.

الحالة الأولى: لو كان زوجها حرًّا فلا خيار لها، أو مكنت زوجها من أن يطأها فلا خيار لها، على تفصيل بين العلماء في ذلك.

الحالة الثانية: أن تعتق الأمة وزوجها لا يزال مملوكًا؛ فإذا عتقت تحت عبد فقد جاء في ذلك نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة بريرة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم خيرها

(2)

، فلو لم يكن لها الخيار لما خيرها، وزوجها وقع فيه من الشدة وتعلق قلبه ومع ذلك خيرها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشريعة

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 176 - 177)؛ حيث قال: " (وخيرت أمة) ولو أم ولد (ومكاتبة) ولو حكمًا كمعتقة بعض (عتقت تحت حر أو عبد ولو كان النكاح برضاها) ".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 291)؛ حيث قال:"وجاز لمن كمل عتقها فراق العبد (و) جاز (لمن كمل عتقها) وهي تحت عبد (فراق) زوجها (العبد) ".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 320 - 321)؛ حيث قال:" (ومن عتقت) كلها أو باقيها. . . (تحت رقيق أو) تحت (من فيه رق تخيرت) دون سيدها (في فسخ النكاح) ".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 103)؛ حيث قال:" (وإن كان) زوج الأمة التي عتقت كلها (عبدًا فلها فسخ النكاح بنفسها بلا حاكم) ".

(2)

أخرجه البخاري (2536) ولفظه: "فأعتقتها، فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم فخيرها من زوجها، فقالت: لو أعطاني كذا وكذا ما ثبتُّ عنده، فاختارت نفسها"، ومسلم (1504).

ص: 6083

أعطت المرأة الحرية؛ فهي كانت مقيدة مملوكة فأصبحت حرة، فأصبحت المكافأة بين الزوجين غير متعادلة، فزوجها مملوك وهي حرة فلا تكافؤ بينهما، لكن لو رضيت هي فالحمد لله؛ ولذلك أشار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرها بالبقاء معه وقال لها بعد أن اشتد به الأمر:"لو راجعتيه! " بمعنى رجعتِ إليه.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا عُتِقَتْ تَحْتَ الحُرِّ، هَلْ لَهَا خِيَارٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

وَالشَّافِعِيُّ

(2)

وَأَهْلُ المَدِينَةِ، وَالأَوْزَاعِيُّ

(3)

وَأَحْمَدُ

(4)

وَاللَّيْثُ

(5)

: لَا خِيَارَ لَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(6)

، وَالثَّوْرِيُّ

(7)

: لَهَا الخِيَارُ؛ حُرًّا كانَ أَوْ عَبْدًا).

مذهب أبي حنيفة فيه تفصيل ليس على الإطلاق كما ذكر المؤلف.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ النَّقْلِ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ).

يقصد بالنقل: النصوص إما من كتاب أو سنة، والمراد تعارض النقل فيما يتعلق بالأحاديث، أما الآيات فلا يرد عليها ذلك.

(1)

مذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل"، لعليش (3/ 410)؛ حيث قال:" (فقط)؛ أي: لا الحر، إذ علة خيارها نقص العبد".

(2)

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 351)، حيث قال:"وخرج بقوله: تحت رقيق ما إذا عتقت تحت حر فإنه لا خيار لها".

(3)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (6/ 66)؛ حيث قال:"وأما اختلافهم في الأمة تعتق تحت الحر؛ فقال مالك وأهل المدينة وأصحابهم والأوزاعي والليث والشافعي: إذا أعتقت الأمة تحت الحر فلا خيار لها".

(4)

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 102)، حيث قال:"وإن عتقت الأمة كلها وزوجها حر فلا خيار لها، (أو) عتقت كلها و (بعضه) حر (فلا خيار لها) ".

(5)

تقدَّم.

(6)

تقدَّم.

(7)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (6/ 67)؛ حيث قال:"فقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي: لها الخيار حرًّا كان زوجها أو عبدًا".

ص: 6084

وتعارض النقل في ذلك: أنه جاء في بعض الأحاديث: أن بريرة عتقت كما في حديث ابن عباس: "أنها عتقت وكان زوجها عبدًا"

(1)

، وفي بعض الروايات:"أنه كان حرًّا"

(2)

؛ فرواية: "أنه كان حرًّا" حجة للذين يقولون بأنها إذا عتقت فلها الخيار وإن كان زوجها حرًّا.

* قوله: (وَاحْتِمَالُ العِلَّةِ المُوجِبَةِ لِلْخِيَارِ أن يَكُونَ الجَبْرُ الَّذِي كَانَ فِي إِنْكَاحِهَا بِإِطْلَاقٍ إِذَا كانَتْ أَمَةً، أَوِ الجَبْرُ عَلَى تَزْوِيجِهَا مِنْ عَبْدٍ، فَمَنْ قَالَ: العِلَّةُ الجَبْرُ عَلَى النِّكَاحِ بِإِطْلَاقٍ قَالَ: تُخَيَّرُ تَحْتَ الحُرِّ وَالعَبْدِ، وَمَنْ قَالَ: الجَبْرُ عَلَى تَزْوِيجِ العَبْدِ فَقَطْ، قَالَ: تُخَيَّرُ تَحْتَ العَبْدِ فَقَطْ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ النَّقْلِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أن زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ

(3)

. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أن زَوْجَهَا كانَ حُرًّا

(4)

، وَكِلَا النَّقْلَيْنِ ثَابِتٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الحَدِيثِ).

ابن رشد كما هو معلوم قد وضع لنفسه منهجًا يسير عليه وخط طريقة يسلكها فيما يتعلق بإيراده الأحاديث؛ فقال: "إذا قلت: الحديث المشهور؛ فأعني به المتفق عليه، وإذا قلت: الحديث الثابت؛ فأعني به ما اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم أو ما رواه أحدهما".

والحقيقة: أن كلمة ثابت تنطبق على حديث ابن عباس، ولا تنطبق على حديث عائشة الذي أشار إليه، لأن حديث ابن عباس أخرجه البخاري في "صحيحه" وأصحاب السنن وغيرهم، أما الحديث عائشة فإنه أخرجه

(1)

أخرجه البخاري (5282) ولفظه: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان زوج بريرة عبدًا أسود".

(2)

أخرجه أبو داود (2235) وغيره ولفظه: عن عائشة: "أن زوج بريرة كان حرًا حين أعتقت، وأنها خيرت". وصححه الألباني.

(3)

تقدَّم.

(4)

تقدَّم.

ص: 6085

الخمسة أصحاب السنن

(1)

وأحمد

(2)

والبيهقي

(3)

وغيرهم، لكنه لم يرد في "الصحيحين" ولا في أحدهما؛ فقضية "ثابت" خالف فيها المؤلف منهجه الذي أشار إليه في أوائل الكتاب في كتاب الطهارة، وحديث ابن عباس جاء نصًّا، وهو بلا شك أصح من الحديث الآخر.

والبخاري رحمه الله قد رفع عنا كل حدس وتخمين وأزال كل لبس في القضية؛ لأنه وضع الفصل في هذه المسألة:

نص أثر حديث ابن عباس رضي الله عنهما كما جاء في البخاري: أن زوج بريرة كان عبدًا مملوكًا يقال له: مغيث وكان يطوف وراء بريرة يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس:"ألا تعجب يا عباس من أمر مغيث من شدة حبه لبريرة وشدة بغضها له" ثم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ألا ترجعين إليه؟ " فقالت: يا رسول الله، أتأمرني؟ قال:"لا؛ إنما أنا شافع" قالت: لا حاجة لي فيه.

إذن؛ كما ترون حديث ابن عباس نص على أن اسمه مغيث وكان عبدًا أسود - أيد أيضًا حديث ابن عباس هذا الذي في البخاري

(4)

وعند أصحاب السنن

(5)

.

(1)

أخرجه أبو داود (2235)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(1937).

وأخرجه الترمذي (1155) قال الألباني: "شاذ بلفظ "حرًّا" والمحفوظ "عبدًا"".

وأخرجه النسائي (4246) قال الألباني (4714): "صحيح دون قوله: "وكان زوجها حرًّا" فإنه شاذ".

وأخرجه ابن ماجه (2074) قال الألباني: "صحيح دون قوله: "حر".

(2)

أخرجه أحمد (40/ 180).

(3)

"السنن الكبرى"، للبيهقي (7/ 363).

(4)

أخرجه البخاري (5283) ولفظه: عن ابن عباس: أن زوج بريرة كان عبدًا يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس:"يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو راجعتِه" قالت: يا رسول الله، تأمرني؟ قال:"إنما أنا أشفع" قالت: لا حاجة لي فيه.

(5)

أخرجه أبو داود (2231)، والترمذي (1156)، والنسائي (3451)، وابن ماجه (2075)، وصححه الألباني.

ص: 6086

وما جاء في "صحيح مسلم" من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير عن عائشة ففي روايتهما: "أن زوج بريرة كان عبدًا"

(1)

، بل جاء في رواية عروة أن عائشة قالت:"ولو كان حرًّا لم يكن خيار"

(2)

؛ أي: لم يكن لها خيار، وفي رواية القاسم التنصيص على أنه كان عبدًا؛ يعني: في قوله صلى الله عليه وسلم: "أتبقين عند هذا العبد أو ترجعين؟ "

(3)

ومعناه: أتبقين مع هذا العبد أو تطلبين الخيار، أما الرواية التي ذكرها المؤلف بأنها من طريق عائشة فقد جاءت من طريق الأسود بن يزيد النخعي

(4)

، فإنه قد ذكر أن زوج بريرة كان حرًا.

وقد تكلم العلماء وقالوا: هذا منقطع من كلام الأسود وليس من قول عائشة؛ ولذلك قال البخاري في "صحيحه": "إن هذا من قول الأسود وهو منقطع، وحديث ابن عباس أصح"

(5)

؛ فالبخاري أشار إلى ذلك في "صحيحه" بين أن هذا منقطع وذاك أصح، بل جاء من طريق الأسود عن عائشة أن زوج بريرة كان مملوكًا.

وليس معنى قضية "أسود" التي وردت في الحديث أنه مملوك؛ المملوك قد يكون أبيض وأحمر وأصفر وأسود، المملوك يكون سلبيًّا في

(1)

أخرجه مسلم (1504).

(2)

أخرجه مسلم (1504).

(3)

أخرجه أحمد (42/ 295) ولفظه: "اختاري، فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد، وإن شئت أن تفارقيه". قال الألباني في "الإرواء"(1871): "وهذا إسناد جيد على شرط مسلم، إن كان أسامة بن زيد هو الليثي، وأما إن كان العدوي فهو ضعيف".

(4)

يُنظر: "التلخيص الحبير"، لابن حجر (3/ 364)؛ حيث قال:"وقد اختلف فيه على عائشة، فروى الأسود بن يزيد عنها: "أنه كان حرًّا"، قال إبراهيم بن أبي طالب: خالف الأسود الناس، وقال البخاري: هو من قول الحكم، وقول ابن عباس: "إنه كان عبدًا" أصح".

(5)

يُنظر: "فتح الباري"، لابن حجر (9/ 407)؛ حيث قال:"وقال الإمام أحمد: إنما يصح أنه كان حرًّا عن الأسود وحده، وما جاء عن غيره فليس بذاك، وصح عن ابن عباس وغيره أنه كان عبدًا، ورواه علماء المدينة؛ وإذا روى علماء المدينة شيئًا وعملوا به فهو أصح شيء".

ص: 6087

وقت القتال ولا يلزم أن يكون أسود، فالأسود يكون حرًّا ويكون عبدًّا والأبيض يكون حرًّا ويكون عبدًا والأمر قبل ذلك وبعده:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]؛ فلا أثر للون مهما كان لون الإنسان ومهما كان منظر جسمه ومهما كان جماله ومهما علا به نسبه فلا ينفعه ذلك؛ فإنه لا ينفعه إلا تقوى الله سبحانه وتعالى.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ لَهَا الخِيَارُ فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

وَالشَّافِعِيُّ

(2)

: يَكُونُ لَهَا الخِيَارُ مَا لَمْ يَمَسَّهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

: خِيَارُهَا عَلَى المَجْلِسِ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ

(4)

: إِنَّمَا يَسْقُطُ خِيَارُهَا بِالمَسِيسِ إِذَا عَلِمَتْ أن المَسِيسَ يُسْقِطُ خِيَارَهَا).

هؤلاء قولهم واحد: بأنه لو وطئها زوجها بعد العتق انتهى كل شيء فلا خيار لها؛ يعني إذا مكنته من نفسها فلا خيار لها.

وبعضهم يفصل القول في ذلك فيقول: لها الخيار ما لم تغادر مجلس الحاكم الذي يحكم في الأمر.

(1)

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 292)؛ حيث قال:" (وصدقت) بلا يمين إذا عتقت ولم تبادر بالفراق بل سكتت مدة (إن لم تمكنه) من نفسها في دعواها (أنها ما رضيت) به، وإنما سكوتها للتروي في نفسها وتبقى على خيارها".

(2)

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 321)؛ حيث قال:" (والأظهر أنه)؛ أي: هذا الخيار (على الفور) كخيار العيب؛ فيعتبر هنا بما مر في الشفعة كما سبق آنفًا. والثاني يمتد ثلاثة أيام من وقت علمها بالعتق، لأنها مدة قريبة فتتروى فيها. وقيل: يبقى ما لم يمسها مختارة أو تصرح بإسقاطه".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 178)؛ حيث قال: "ولا يبطل بسكوت ولا يثبت لغلام ويقتصر على مجلس كخيار مخيرة،". قال في الحاشية: " (قوله: كخيار مخيرة)، أي: من قال لها زوجها: اختاري نفسك؛ فإنها تختار ما دامت في المجلس".

(4)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (6/ 65)؛ حيث قال:"وقال الأوزاعي: إذا لم تعلم بأن لها الخيار حتى غشيها زوجها فلها الخيار".

ص: 6088

وبعضهم يقول: لها ثلاثة أيام

(1)

.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: خِيَارُهَا عَلَى المَجْلِسِ).

المجلس هو مجلس الحاكم الذي تقوم منه، أو المجلس الذي كانت تقيم فيه هذا هو مراده، لكن الأظهر أن المراد هو مجلس الحاكم الذي يحكم في هذا الأمر.

* قوله: (وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: إِنَّمَا يَسْقُطُ خِيَارُهَا بِالمَسِيسِ إِذَا عَلِمَتْ أن المَسِيسَ يُسْقِطُ خِيَارَهَا).

لكن الجمهور قالوا: لا فرق بين أن تعلم أو تجهل الأمر ما دامت قد مكَّنته من نفسها وحصل الوطء فإنه لا فراق.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(البَابُ الرَّابعُ فِي حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ)

وَاتَّفَقُوا عَلَى أن مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةَ

(2)

(1)

تقدَّم.

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(5723)؛ حيث قال: " (فتجب للزوجة) بنكاح صحيح، فلو بان فساده أو بطلانه رجع بما أخذته من النفقة بحر (على زوجها)؛ لأنها جزاء الاحتباس".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 509)، حيث قال:" (قوت) فاعل يجب أي يجب على الزوج البالغ لزوجته المطيقة الممكنة ما تأكله (وإدام وكسوة ومسكن بالعادة) في الأربعة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 187)؛ حيث قال: " (على =

ص: 6089

وَالكِسْوَةَ

(1)

، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآيَةَ [البقرة: 233]. وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ"

(2)

، وَلقَوْلِهِ لِهِنْدٍ:"خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ"

(3)

).

المؤلف في هذا البحث عرج تعريجًا يسيرًا على ما يتعلق بحقوق الزوجين.

والله سبحانه وتعالى بين أهمية وقيمة هذا الزواج قال تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237].

والله سبحانه وتعالى جعل ذلك آية من آياته: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]؛ فهذا الحصن ينبغي أن يحافظ عليه وأن يهتم به؛ ولذلك نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قد أوتي جوامع الكلم لم يغفل عما يتعلق بأمور

= موسر) حر كله (لزوجته) ولو أمة كافرة ومريضة (كل يوم) بليلته المتأخرة عنه. . . إلى أن قال (مدا طعام) ".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 460)؛ حيث قال:" (ويلزم ذلك) المذكور وهو الكفاية من الخبز والأدم والكسوة وتوابعها (الزوج لزوجته) إجماعًا".

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 580)؛ حيث قال: " (وتفرض لها الكسوة في كل نصف حول مرة) لتجدد الحاجة حرًّا وبردًا".

مدهب المالكية: سبق.

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 193)؛ حيث قال:" (وكسوة) بضم أوله وكسره معطوف على أدم أو على جملة ما مر أول الباب، أي: وعلى زوج بأقسامه الثلاثة كسوة".

مذهب الحنابلة: سبق.

(2)

أخرجه مسلم (1218).

(3)

أخرجه البخاري (5375)، ومسلم (1714) ولفظه:"خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك".

ص: 6090

النساء، وفيما يتعلق بشأن الزواج؛ ففي حديث جابر بن عبد الله قال صلى الله عليه وسلم:"اتقوا الله في النساء"

(1)

، ثم يقول عليه الصلاة والسلام:"إنهن عوان عندكم"

(2)

عوان عند الرجال؛ لأن الرجل يأخذها فيحبسها في بيته، ثم يقول عليه الصلاة والسلام "أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله"

(3)

. هذه الكلمات هي التي يسمعها كل إنسان عندما يبرم هذا العقد بين الزوجين.

ثم بين عليه الصلاة والسلام ما للزوج عليهن من حقوق فقال: "ألَّا يوطئن أحدًا في فراش أزواجهن ولا يدخلن بيوت الأزواج ما يكرهون" ثم قال: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"

(4)

.

يعني: أن المرأة كما أشار الرسول صلى الله عليه وسلم ضعيفة وأنها خلقت من ضلع أعوج، وأنك إن ذهبت لتقيمه كسرته، وإن تركته تركته على ما فيه من اعوجاج وميل؛ فاستوصوا بالنساء خيرًا

(5)

.

إذن، ما يتعلق بحقوق الزوجة على زوجها وحقوق الزوج على زوجته هي أمور كثيرة جدًّا، لكن المؤلف بدأها بما يتعلق بحقوق الزوجة.

حديث جابر اشتمل على أكثر وأهم أحكام الحج أخرجه مسلم في "صحيحه" وغيره.

(1)

أخرجه أبو داود (1905)، وصححه الألباني.

(2)

أخرجه الترمذي (3087)، وحسنه الألباني.

(3)

أخرجه مسلم (1218).

(4)

أخرجه مسلم (1218) ولفظه: "ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف".

(5)

أخرجه البخاري (5184) ولفظه: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المرأة كالضلع، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج".

وأخرجه مسلم (1468) ولفظه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة؛ فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها، كسرتها وكسرها طلاقها".

ص: 6091

ولعل المؤلف قدم الزوجة لأنها أضعف، ولأنها بحاجة إلى العناية والرعاية لأن الزوج كما هو معلوم طليق في هذه الحياة فله أن يتزوج غيرها وله أمور كثيرة، لكن هذه المرأة أصبحت حبيسة في بيت هذا الزوج.

وهند بنت أبي ربيعة زوجة أبي سفيان وهو - صخر بن أمية - شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة من زوجها أنه رجل شحيح لا يعطيها ما يكفيها وأولادها من النفقة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"

(1)

. فقوله صلى الله عليه وسلم: "ما يكفيك" دليل على وجوب أن يعطي الزوج امرأته ما يكفيها من النفقة، كما أن نفقة الابن واجبة على الأب، وأن ذلك يكون بالمعروف دون منٍّ ولا أذى، وهذا أمر متعين، ومثل النفقة الكسوة.

الله سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة في كتابه يوصي الناس بتقوى الله سبحانه وتعالى بأن يجعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية، وهذه الوقاية التي تحفظهم من العذاب وتنجيهم منه، وتذهب بهم إلى جنات النعيم.

والتقوى إنما هي طاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتحقق هذا الأمر إلا باتباع ما جاء في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بفعل الأوامر وامتثالها واجتناب النواهي والبعد عنها، فمن فعل ذلك فاز ونجا في الدنيا والآخرة.

* قوله: (فَأَمَّا النَّفَقَةُ: فَاتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: فِي وَقْتِ وُجُوبِهَا، وَمِقْدَارِهَا، وَلمَنْ تَجِبُ؟ وَعَلَى مَنْ تجِبُ؟ فَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِهَا: فَإِنَّ مَالِكًا

(2)

قَالَ: لَا تَجِب النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ حَتَّى

(1)

تقدَّم.

(2)

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 508)؛ حيث قال:" (يجب لممكنة) من نفسها (مطيقة للوطء) بلا مانع بعد أن دعت هي أو مجبرها أو وكيلها للدخول ولو لم يكن عند حاكم وبعد مضي زمن يتجهز فيه كل منهما عادة (على البالغ) متعلق بـ "يجب" لا على صغير".

ص: 6092

يَدْخُلَ بِهَا، أَوْ يُدْعَى إِلَى الدُّخُولِ بِهَا، وَهِيَ مِمَّنْ تُوطَأ، وَهُوَ بَالِغٌ).

مراده: أن النفقة إنما تجب إذا مكِّن الزوج من زوجته وحصل الاستمتاع بها وكانت صالحة لذلك، أما أن يحال بينه وبينها فلا.

مالك وأحمد

(1)

هنا قولهما يتقارب جملة ويختلف عند التفصيل.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة

(2)

وَالشَّافِعِيُّ

(3)

: يَلْزَمُ غَيْرَ البَالِغِ النَّفَقَةُ إِذَا كانَتْ هِيَ بَالِغًا).

يعني: يلزم الزوج الذي لم يبلغ أن ينفق على زوجته إذا كانت بلغت.

* قوله: (وَأَمَّا إِذَا كانَ هُوَ بَالِغًا، وَالزَّوْجَةُ صَغِيرَةً، فَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا مِثْلُ قَوْلِ مالكٍ، وَالقَوْلُ الثَّانِي: أن لَهَا النَّفَقَةَ بِإِطْلَاقٍ

(4)

، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ النَّفَقَةُ لِمَكَانِ الاسْتِمْتَاعِ،

(1)

في مذهب الحنابلة إذا دعي إلى الدخول بها وجبت النفقة.

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 471، 472)، وفيه قال:" (وإن بذلت) زوجة أو بذل وليها (تسليم نفسها والزوج غائب لم يفرض لها) النفقة (حتى يراسله حاكم الشرع) لأنها بذلت في حال لا يمكنه التسليم فيه (فيكتب) القاضي (إلى حاكم البلد الذي هو)؛ أي: الزوج (فيه ليستدعيه ويعلمه ذلك)؛ أي: زوجته بذلت لتسليم نفسها، (فإن سار) الزوج (إليها أو وكل من يتسلمها) له ممن يحل له ذلك كمحرمها (فوصل فتسلمها هو)؛ أي: الزوج (أو نائبه وجبت النفقة) حينئذ. . . (فإن لم يفعل) الزوج أي: لم يحضر أو لم يوكل من يتسلمها (فرض الحاكم عليه نفقتها من الوقت الذي كان يمكن الوصول إليها وتسلمها). . . (ووجبت نفقتها)؛ لأنها فعلت ما لها أن تفعله ولو منعت نفسها لمرض لم يكن لها نفقة".

(2)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 572 - 573)؛ حيث قال: "وكل محبوس لمنفعة غيره يلزمه نفقته كمفت وقاض. . . إلى أن قال: (ولو صغيرًا) جدًّا في ماله لا على أبيه إلا إذا كان ضمنها كما مر في المهر (لا يقدر على الوطء) ".

(3)

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 208)؛ حيث قال:"الأظهر (أنها تجب لكبيرة)؛ أي: لمن يمكن وطؤها، وإن لم تبلغ كما هو ظاهر (على صغير) لا يمكن وطؤه إذا عرضت على وليه؛ لأن المانع من جهته".

(4)

هو قول عند الشافعية. =

ص: 6093

أَوْ لِمَكَانِ أَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَى الزَّوْجِ؛ كَالغَائِبِ وَالمَرِيضِ).

مراد المؤلف: أن العلماء قد اختلفوا، وفي كل مسألة يختلفون يكون هناك سبب أو أكثر، فما هو سبب اختلافهم: هل العلة في إيجاب النفقة استمتاع الرجل بالمرأة؛ أي: وطؤها وما يتبع ذلك؟ أو أن القصد هو حبسها في بيته؛ لأنه حبس منافعها فلم يمكنها من أن تعمل لتكسب؟ وليس القصد بالحبس أنه سجن، وإنما القصد إبقاؤها في بيته بمعنى: أنه حبس منافعها.

"كالغائب والمريض"؛ لأن الغائب تجب عليه النفقة عند جمهور العلماء مع أنه لا يستمتع بها، والمريض الذي لا يستطيع أن يطأ زوجته في حالة مرضه تجب عليه نفقتها؛ كأن المؤلف يقول: العلة إنما هي الحبس؛ يعني: هذا مرجح.

والصحيح: أن الأمرين معًا معتبران.

* قوله: (وَأَمَّا مِقْدَارُ النَّفَقَةِ: فَذَهَبَ مَالِكٌ

(1)

إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ

= يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 208)؛ حيث قال:"والثاني لها النفقة؛ لأنها حبست عنده وفوات الاستمتاع بسبب هي فيه معذورة - كالمريضة والرتقاء".

ومذهب الحنفية: التفريق بين الصغيرة التي تطيقالوطء والتي لا تطيق.

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 574)؛ حيث قال: " (أو فقيرًا ولو) كانت (مسلمة أو كافرة أو كبيرة أو صغيرة تطيق الوطء) أو تشتهى للوطء فيما دون الفرج، حتى لو لم تكن كذلك كان المانع منها فلا نفقة كما لو كانا صغيرين".

ومذهب الحنابلة: يشترطون أن تكون مما يوطأ مثلها وهي بنت تسع.

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 470)، حيث قال:" (وهي من يوطأ مثلها) كذا أطلقه المصنف هنا تبعًا للخرقي وأبي الخطاب وابن عقيل والموفق والشيرازي وأناط القاضي ذلك بابنة تسع سنين وتبعه في "المحرر" و"الوجيز" وهو مقتضى نص أحمد".

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 509)؛ حيث قال: "والحاصل: أن قوله: بالعادة المراد بها عادة أمثالها فإن تساويا فالأمر ظاهر وإن كان فقيرًا لا قدرة له إلا على أدنى كفاية من الأربعة؛ فالعبرة بوسعه فقط، وإن كان=

ص: 6094

بِالشَّرْعِ، وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ الزَّوْجِ وَحَالُ الزَّوْجَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الأَمْكِنَةِ وَالأَزْمِنَةِ وَالأَحْوَالِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

).

قبل مقدار النفقة: هل المعتبر في تقدير النفقة هو حال الزوج أو هو حال الزوجة أو حالهما معًا، والمؤلف لم يشر إليها مع أنها مهمة.

الأئمة الأربعة انقسموا في ذلك إلى أقسام ثلاثه: أبو حنيفة ومالك في جانب، والشافعي في جانب، وأحمد في جانب آخر.

فالحنفية

(2)

والمالكية

(3)

: يرون أن المعتبر في ذلك إنما هو حال الزوجة من اليسر والعسر، واستدلوا على ذلك بأدلة:

الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، رزقهن، أي: الزوجات أمهات الأولاد، وكسوتهن بالمعروف فقالوا: إن المعروف هو الكفاية، فالكفاية مطلوبة.

وقالوا: الله سبحانه وتعالى قد جمع بين النفقة والكسوة، والكسوة إنما يرجع

= غنيًّا ذا قدر وهي فقيرة أجيبت لحالة أعلى من حالها ودون حاله، وإن كانت غنية ذات قدر وهو فقير إلا أنه له قدرة على أرفع من حاله، ولا قدرة له على حالها رفعها بالقضاء إلى الحالة التي يقدر عليها".

(1)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 574)؛ حيث قال: "فتستحق النفقة (بقدر حالهما) به يفتى ويخاطب بقدر وسعه والباقي دين إلى الميسرة، ولو موسرًا وهي فقيرة لا يلزمه أن يطعمها مما يأكل بل يندب".

(2)

معتمد مذهب الحنفية: اعتبار حالهما وبه يفتى كما تقدم، وقيل: حال الزوج، وقيل: حال الزوجة.

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 574)؛ حيث قال: "وظاهر الرواية اعتبار حاله فقط، وبه قال جمع كثير من المشايخ، ونص عليه محمد. وفي "التحفة" و"البدائع" أنه الصحيح بحر، لكن المتون والشروح على الأول. وفي "الخانية": وقال بعض الناس يعتبر حال المرأة".

(3)

تقدَّم.

ص: 6095

فيها إلى حال الزوجة لا حال الزوج؛ لأن الكسوة لها فتعتبر حالها؛ ولمَّا ذكرت مع النفقة كانا سيان فينبغي أن يكون المعتبر في الأمرين معًا النفقة والكسوة إنما هو الزوجة.

الدليل الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام لهند: "خذي مما يكفيك وولدك بالمعروف"

(1)

. فالرسول صلى الله عليه وسلم قيد ما تأخذه بكفايتها؛ فربط ذلك بحالها لا بحال الزوج.

فقالوا: دل ذلك على أن المعتبر إنما هو حال الزوجة لا حال الزوج؛ لأن نفقة الزوجة على الزوج واجبة، فينبغي أن يراعي حاجتها ومكانتها الاجتماعية في ذلك.

والشافعي

(2)

: يرى أن المعتبر في ذلك إنما هو حال الزوج؛ لأن الخطاب موجه له بقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] قدر عليه رزقه، أي ضيق عليه رزقه، فالله تعالى جعل ذلك منوطًا بالزوج لا الزوجة، والله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أي: يضيق كما في الآية الأخرى، والله سبحانه وتعالى يقول:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32].

وأحمد

(3)

: يجمع بين الأمرين معًا؛ فيرى أن الحالتين معتبرتان معًا؛ يعني: حال الزوج مع الزوجة؛ لأن القول بذلك فيه جمع بين النصوص، وفيه عمل بمجموعها، فكل واحد يدل على جانب، فإذا ما اعتبرنا حال

(1)

تقدَّم.

(2)

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 187)؛ حيث قال:" (على موسر) حر كله (لزوجته) ولو أمة كافرة ومريضة (كل يوم) بليلته المتأخرة عنه. . . (مدَّا طعام و) على (معسر) ومنه كسوب. . . (مد ومتوسط مد ونصف) ولو لرفيعة".

(3)

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 460)، حيث قال:" (وهي)، أي: النفقة (مقدرة بالكفاية) فيجب لها كفايتها. . . إلى أن قال (وتختلف) النفقة (باختلاف حال الزوجين) يسارًا وإعسارًا".

ص: 6096

الزوجين معًا كنا قد عملنا بجميع النصوص التي استدل بها الفريقان.

واعتبار حالهما: إن كانا موسرين وجب عليه نفقة الموسرين، وإن كانا متوسطين وجب عليه نفقة المتوسطين، وإن كانا مقترين؛ أي: فقيرين فنفقة المعسر، وإن كان الزوج موسرًا وهي مقترة كان وسطًا. . . وهكذا يقاس عليه بقية المسائل، ولا شك أن الجمع بين الآراء هو الأولى في نظري، والله أعلم.

وأجمع العلماء: على وجوب نفقة الزوج على زوجته

(1)

، ووجوب كسوتها

(2)

.

أما مقدار النفقة: فذهب مالك

(3)

وأبو حنيفة

(4)

وأحمد

(5)

على أنها غير مقدرة بمكيل أو موزون، وإنما يرجع ذلك إلى الكفاية، كما جاء في الأدلة؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم لهند:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، ولم يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم قدرًا بل ربط ذلك بالكفاية؛ فما يكفيها هو المعتبر، ودائمًا أيضًا ينظر إلى حالات مثيلاتها.

والناس يختلفون؛ لأن هذه المرأة قد تأتي من أسرة غنية في بيت فيه سعة ورفاهية، وقد تأتي من بيت دون ذلك، أو دون ذلك؛ فهذا يختلف باختلاف الأحوال؛ ولذلك ربطه جمهور العلماء بالكفاية.

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 55)؛ حيث قال:"وأجمع أهل العلم على وجوب النفقات للزوجات على الأزواج إذا كانوا بالغين إلا الناشز الممتنعة".

(2)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 57)، حيث قال:"واتفقوا أن من لزمته نفقة فقد لزمته كسوة المنفق عليه وإسكانه".

(3)

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 509)؛ حيث قال:" (و) اعتبر حال (البلد) التي هما بها (و) حال (السعر) في ذلك الزمان ويجب عليه ما يكفيها من القوت".

(4)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 583)؛ حيث قال: " (ويقدرها بقدر الغلاء والرخص ولا تقدر بدراهم) ودنانير".

(5)

تقدَّم.

ص: 6097

* قوله: (وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ

(1)

؛ فَعَلَى المُوسِرِ: مُدَّانِ، وَعَلَى الأوْسطِ: مُدٌّ وَيصْفٌ، وَعَلَى المُعْسِرِ: مُدٌّ. وَيسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ حَمْلِ النَّفَقَةِ فِي هَذَا البَابِ عَلَى الإِطْعَامِ فِي الكَفَّارَةِ، أَوْ عَلَى الكِسْوَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا أَنَّ الكِسْوَةَ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ، وَأَنَّ الإِطْعَامَ مَحْدُودٌ).

الشافعي: اعتبر أن أقل ما يدفع في الكفارة إنما هو مد، وقال: إن الكفارة ربطها الله سبحانه وتعالى بما ينفق المرء على أولاده لقوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، أما الموسر فيدفع مدين ويحتج بأن أعلى ما ورد في الكفارة إنما هو مدان، ثم بعد ذلك جاء إلى الوسط فقال: مد ونصف، والشافعي

(2)

يقيده بالحَب، والجمهور لا يقيدونه بذلك

(3)

وإن كان الأفضل هو الحب.

ولكن يظهر لي والله أعلم: أن مذهب جمهور العلماء في ذلك أقوى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"،

(1)

تقدَّم.

(2)

يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 189)؛ حيث قال:" (وعليه) "أي: الزوج (تمليكها) يعني: أن يدفع إليها. . . إلى أن قال: (حبًّا) سليمًا إن كان واجبه كالكفارة، ولأنه أكمل في النفع فتتصرف فيه كيف شاءت، (وكذا) عليه بنفسه أو نائبه وإن اعتادت فعل ذلك بنفسها (طحنه) وعجنه (وخبزه في الأصح) للحاجة إليها".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق شرح كنز الدقائق"، لابن نجيم المصري (4/ 190)؛ حيث قال:"فيجب على الزوج ما يكفيها من الطعام والإدام والدهن، لأن الخبز لا يؤكل عادة إلا مأدومًا، وأما الدهن فلا بد منه للنساء".

مذهب المالكية، يُنظر:"الىشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 509)؛ حيث قال:" (و) اعتبر حال (البلد) التي هما بها (و) حال (السعر) في ذلك الزمان ويجب عليه ما يكفيها من القوت".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 462)؛ حيث قال:" (ولا يجب في النفقة الحب) بل الكفاية من الخبز لأنه المتعارف وكنفقة السيد، ولأن الحب يحتاج إلى كلفة ومؤنة".

ص: 6098

ولو كانت النفقة مقدرة لبينها الرسول صلى الله عليه وسلم، وبخاصة أنه سئل عمن يبخل عن زوجته فأذن لها بأن تأخذ بغير علمه ما تقضي به حاجتها؛ فهذا يظهر والله أعلم أنه هذا هو الراجح في هذه المسألة.

والأحوال قد تغيرت: فقد كانوا فيما مضى يتكلمون عن النفقة يسلمها إياها يوميًّا في صباح كل يوم أو في كل شهر، لكن الآن تغيرت الأحوال بحمد الله وتبدلت الأمور، وأنعم الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، وفتح لهم أبواب الرزق ومدهم برغد العيش، ولا يبقى إلا أن نشكر الله تعالى، حتى من يقال: إنه فقير في هذا الزمان يجد ما يقتات فيه ويعيش فيه، ولو قدر هناك من المؤمنين مَن يعينه وينصره ويدفع عنه عيلة الفقر.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِي: هَلْ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةُ خَادِمِ الزَّوْجَةِ؟ وَإِنْ وَجَبَتْ فَكَمْ يَجِبُ؟).

المرأة إذا كانت عاجزة مريضة أو معوقة - كما نقول في هذا الزمان - لا تستطيع أن تقوم بخدمة البيت ورعايته وبخاصة في هذا الزمان تغيرت أحوال البيوت، وربما المرأة الغير مريضة لا تستطيع أن تنهض بهذا البيت، فهل يجب على الزوج أن يأتي بخادمة لزوجته أو لا؟

ولا شك أن العلماء يرون أن الزوجة إذا كانت بحاجة إلى ذلك؛ فإن على الزوج أن يأتي لها بخادمة، ولكن العلماء يقيدونها بأوصاف لا يذكرها المؤلف، فلو قدر بأنها غير امرأة فيأتي بمن يكون محرمًا لها لا أن يؤتى لها بأجنبي؛ فهذا لا يجوز.

* قوله: (وَالجُمْهُورُ عَلَى أن عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةَ لِخَادِمِ الزَّوْجَةِ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَخْدِمُ نَفْسَهَا)

(1)

.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(5893)؛ حيث قال: "ويفرض عليه نفقة خادمها، وإن كانت من الأشراف فرض نفقة خادمين".

مذهب المالكية، ينظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 510)؛ حيث قال: " (و) يجب عليه (إخدام أهله)؛ أي: أهل الإخدام بأن يكون=

ص: 6099

إذا كانت ممن لا تخدم نفسها؛ كأنْ كانت مريضة أو مقعدة أو فيها نقص مما يؤثر عليها

(1)

.

ويقلد المؤلف بالجمهور الأئمة الأربعة، لكن مالكًا سينفرد عنهم في إيجاب خادمة أخرى عند الحاجة، والجمهور يقفون عند واحدة.

* قوله: (وَقِيلَ: بَلْ عَلَى الزَّوْجَةِ خِدْمَةُ البَيْتِ

(2)

. وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ أَوْجَبُوا النَّفَقَةَ عَلَى خَادِمِ الزَّوْجَةِ: عَلَى كَمْ تجِبُ نَفَقَتُهُ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُنْفِقُ عَلَى خَادِمٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: عَلَى خَادِمَيْنِ إِذَا كَانَتِ المَرْأَةُ مِمَّنْ لَا يَخْدِمُهَا إِلَّا خَادِمَانِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ

(3)

، وَأَبُو ثَوْرٍ

(4)

).

= الزوج ذا سعة، وهي ذات قدر ليس شأنها الخدمة، أو هو ذا قدر تزري خدمة زوجته به فإنها أهل للإخدام بهذا المعنى؛ فيجب عليه أن يأتي لها بخادم (وإن بكراء، ولو بأكثر من واحدة) ".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 197)؛ حيث قال:" (وعليه لمن لا يليق بها خدمة نفسها بأن كانت حرة ومثلها يخدم عادة في بيت أبيها) مثلًا".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 463)، حيث قال:" (فإن احتاجت) الزوجة (إلى من يخدمها لكون مثلها لا يخدم نفسها أو لموضعها ولا خادم لها لزمه لها خادم) ".

(1)

أو كانت من الأشراف كما سبق.

(2)

وهو مذهب الحنفية في حالة إعسار الزوج.

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 589)، حيث قال:" (موسرًا) لا معسرًا في الأصح، والقول له في العسار".

وحكي عن داود.

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 58)؛ حيث قال: "وإن كانت الزوجة ممن لا تخدم نفسها أخدمها الزوج، إلا ما يحكى عن داود أنه قال: لا يجب عليه أن يخدمها".

وهو قول أبي ثور.

يُنظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (9/ 228)؛ حيث قال:"وقال أبو ثور: على المرأة أن تخدم زوجها في كل شيء".

(3)

تقدَّم.

(4)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 158)؛ حيث قال: "قال أبو ثور: إذا كانت=

ص: 6100

خادم واحد هذا هو مذهب الشافعية

(1)

وأبو حنيفة

(2)

وأحمد

(3)

، وفي رواية مالك

(4)

، لكن المالكية توسعوا في حالة عدم كفايتها بخادم واحد.

وأيضًا: ينبغي أن يراعى في ذلك حال الزوج وقدرته، فينبغي أن تكون هناك حاجة؛ وإلا فالمرأة مطالبة برعاية أبنائها والمحافظة عليهم، والقيام بشؤون بيتها ورعايته والمحافظة عليه، لكن لو تبرع الزوج حتى ولو كان ذلك ترفُّهًا وجاء بذلك فلا بأس به.

* قوله: (وَلَسْتُ أَعْرِفُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا لإِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الخَادِمِ إِلَّا تَشْبِيهَ الإِخْدَامِ بِالإِسْكَانِ).

الحقيقه أن هناك دليلًا: فجمهور العلماء يستدلون - فيما يتعلق بالمعروف - بقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، وقوله:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. قالوا: ومن تمام المعاشرة الإنفاق والكسوة ووجود خادم عند الحاجة.

نعم؛ الآية ليست نصًّا في ذلك، لكن مفهومها يدل عليه، لأنهم يقولون من تمام المعاشرة وكمالها أن ييسر لها أسباب الراحة.

= امرأة الرجل تحتاج إلى خادمين لا بد لها منهما، ويحتمل الزوج ذلك، فرض عليه الخادمين".

(1)

يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 197)؛ حيث قال:"وحيث وجب فواحدة لا أكثر مطلقًا ما لم تمرض وتحتَجْ فيجب بقدر الحاجة".

(2)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 589)؛ حيث قال: "ويفرض عليه نفقة خادمها، وإن كانت من الأشراف فرض نفقة خادمين".

(3)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 464)؛ حيث قال:" (ولا يلزمه)؛ أي: الزوج (أكثر من نفقة خادم واحد)؛ لأن المستحق خدمتها في نفسها وذلك يحصل بالواحد، وما زاد إنما هو للتجمل أو نحوه وليس بواجب عليه".

(4)

تقدَّم.

ص: 6101

* قوله: (فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أن الإِسْكَانَ عَلَى الزَّوْجِ لِلنَّصِّ الوَارِدِ فِي وُجُوبِهِ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ)

(1)

.

يشير إلى قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6].

وجه الدلالة من الآية: أن الله سبحانه وتعالى أوجب إسكان المطلقة الرجعية؛ لا خلاف في ذلك

(2)

- وهناك خلاف مر في المطلقة طلاقًا بائنًا

(3)

(1)

مذاهب العلماء في وجوب السكنى على الزوج:

مذهب الحنفية يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 599)؛ حيث قال: " (وكذا تجب لها السكنى في بيت خال عن أهله) ".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 509)؛ حيث قال:" (وإدام وكسوة ومسكن بالعادة) في الأربعة؛ فلا يجاب لأنقص منها إن قدر، ولا تجاب هي لأزيد من عادة أمثالها".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 196)؛ حيث قال:" (و) لها أيضًا عليه (مسكن) تأمن فيه لو خرج عنها على نفسها ومالها، وإن قل للحاجة بل الضرورة إليه وكالمعتدة بل أولى (يليق بها) عادة لعدم ملكها إبداله".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 460)؛ حيث قال:" (ومسكنًا وتوابعها)؛ أي: توابع الخبز والأدم والكسوة والمسكن".

(2)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 57)؛ حيث قال:"وأجمع كل مَن يُحفظ عنه من العلماء على أن للمطلقة التي يملك الزوج رجعتها السكنى والنفقة".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 609)؛ حيث قال: " (و) تجب المطلقة الرجعي والبائن، والفرقة بلا معصية كخيار عتق، وبلوغ وتفريق بعدم كفاءة النفقة والسكنى والكسوة) إن طالت المدة".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 515)؛ حيث قال:" (واستمر)؛ أي: المسكن للحامل البائن (إن مات) الزوج قبل وضعها؛ لأنه حق تعلق بذمة المطلق فلا يسقطه الموت سواء كان المسكن له أم لا نقد كراءه أم لا، وللبائن غير الحامل لانقضاء العدة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 211)؛ حيث قال: " (والحائل البائن بخلع) أو فسخ أو انفساخ بمقارن أو عارض على الراجح (أو ثلاث لا نفقة) لها (ولا كسوة) لها قطعًا للخبر المتفق عليه بذلك، ولانتفاء سلطنته عليها، وإنما=

ص: 6102

قالوا: فإذا كان الله سبحانه وتعالى أوجب الإسكان للمرأة المطلقة فلأنْ يجب لامرأته أولى وأحرى؛ فوجوب المسكن متعين، والله تعالى قيدها بوُجد الإنسان، ولا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها، ولا يكلف الإنسان فوق طاقته:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

يعني: ما يقال: يأتي بمسكن يساوي مسكن فلان من الأغنياء مثلًا، بل يأتي لها بمسكن شرعي يحفظها ويصونها، فليس شرطًا أن يبارى مساكن الأغنياء؛ لأن الإنسان يفعل ذلك على قدر استطاعته.

* قوله: (وَأَمَا لِمَنْ تَجِبُ النَّفَقَة، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ لِلْحُرَّةِ الغَيْرِ نَاشِزٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي النَّاشِزِ وَالأمَةِ، فَأَمَّا النَّاشِز، فَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَةٌ

(1)

، وَشَذَّ قَوْمٌ، فَقَالُوا: تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ

(2)

).

= وجبت لها السكنى لأنها لتحصين الماء الذي لا يفترق بوجود الزوجية وانتفائها".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع"، للحجاوي (4/ 139)؛ حيث قال:"فأما البائن بفسخ أو طلاق؛ فإن كانت حاملًا فلها النفقة تأخذها كل يوم قبل الوضع ولها السكنى والكسوة وإن لم تكن حاملًا فلا شيء لها".

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 576)؛ حيث قال: " (خارجة من بيته بغير حق) وهي الناشزة حتى تعود ولو بعد سفره".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 514)؛ حيث قال:" (أو) (منعت) زوجها (الوطء أو الاستمتاع) بدونه فتسقط نفقتها عنه في اليوم الذي منعته فيه من ذلك، والقول قولها في عدم المنع عند التنازع".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 205)؛ حيث قال:" (وتسقط) المؤن كلها (بنشوز) منها بالإجماع؛ أي: خروج عن طاعة زوجها".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 473)؛ حيث قال:" (وإذا نشزت المرأة) فلا نفقة لها؛ لأنها في مقابلة التمكين وقد زال، بخلاف المهر فإنه وجب بالعقد، (أو سافرت) بغير إذنه فلا نفقة لها؛ لأنها ناشز، (أو انتقلت من منزله) بغير إذنه فلا نفقة لها لنشوزها".

(2)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 159 - 160)؛ حيث قال:"ولا أعلم أحدًا خالف هؤلاء إلا الحكم، فإنه قال في امرأة خرجت من بيت زوجها عاصية: لها نفقة".

ص: 6103

الناشز

(1)

: التي تخرج من بيت زوجها دون إذن، أو التي لا تطيع زوجها في المجيء إلى فراشه.

ولا شك أن هذا من أهم مقاصد الزواج؛ فإذا لم يتحقق ذلك تكون ناشزًا؛ يعني خرجت عن طاعة الزوج؛ كالمكان المرتفع إذا ارتفع الشيء يعتبر ناشزًا؛ يعني: شاذًّا.

فهي بهذا العمل قد شذت وخرجت عن طاعة الزوج فلا تستحق النفقة عند العلماء عامة، بل إن ابن المنذر حكى الإجماع على هذه المسألة

(2)

.

ولم يخالف فيها إلا فقيه واحد وهو الحكم؛ فإنه قال: تجب نفقتها وإن كانت ناشزًا وقاس ذلك على المهر، قال: أليس المهر يجب للمرأة وإن كانت ناشزًا؟! فكذلك هنا.

لكننا نقول: هذا قياس مع الفارق؛ فإن ذلك إنما يتعين بوجود العقد، وأما هذه نفقة يأتي مقابلها أمر؛ هذا المقابل لم تقدمه لزوجها فلا يقدم لها النفقة؛ فينبغي أن تقدم خدمة زوجها وما يترتب على ذلك حتى تستحق النفقة التي وجبت لها، أما وقد خرجت عن طاعته وتركته فهي لا تستحق النفقة، وفي ذلك تأديب لها كي تعود إلى بيتها وإلى طاعة زوجها.

* قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: مُعَارَضَةُ العُمُومِ لِلْمَفْهُومِ).

معارضة العموم للمفهوم: مرت أدلة يدل عمومها على إيجاب النفقة: قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".

(1)

نشزت المرأة من زوجها نشوزًا من بابي قعد وضرب: عصت زوجها وامتنعت عليه، ونشز الرجل من امرأته نشوزا بالوجهين تركها وجفاها. انظر:"المصباح المنير"، للفيومي (2/ 605).

(2)

تقدَّم.

ص: 6104

وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"

(1)

. هذه الأدلة عامة تشمل كل امرأة لا تفرق بين حرة وأمة ولا بين مطيعة وناشز. هذا هو عموم الأدلة.

* قوله: (وَذَلِكَ أن عُمُومَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ"، يَقْتَضِي أن النَّاشِزَ وَغَيْرَ النَّاشِزِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَالمَفْهُومُ مِنْ أَنَّ النَّفَقَةَ هِيَ فِي مُقَابَلَةِ الاسْتِمْتَاعِ يُوجِبُ أَنْ لَا نَفَقَةَ لِلنَّاشِزِ).

ولا شك أن المخالف في ذلك قوله شاذ؛ فالمرأة الناشز لا تستحق النفقة؛ ولكي ينفق عليها فينبغي أن تعود إلى طاعة زوجها، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من عصيان المرأة وبيَّن أن المرأة إذا خرجت من بيت زوجها دون إذنه فإن الملائكه تلعنها حتى تعود

(2)

.

وما أكثر النساء الآن اللاتي يخرجن من بيوتهن دون إذن أزواجهن، وربما يمنع الزوج وهي تصر وتخرج؛ فلماذا تعرض المؤمنة نفسها لمثل هذا المقام؟!

* قوله: (وَأَمَّا الأَمَة، فَاخْتَلَفَ فِيهَا أَصْحَابُ مَالِكٍ اخْتِلَافًا كثِيرًا، فَقِيلَ: لَهَا النَّفَقَةُ كالحُرَّةِ

(3)

، وَهُوَ المَشْهُور، وَقِيلَ:

(1)

تقدَّم.

(2)

أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(4/ 340)، وفيه:"ومن حق الزوج على الزوجة ألا تخرج من بيته إلا بإذنه، فإن فعلت ذلك لعنتها الملائكة حتى ترجع أو تتوب".

وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(3515).

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 598)؛ حيث قال: " (ونفقة الأمة المنكوحة) ولو مدبرة أو أم ولد، أما المكاتبة فكالحرة (إنما تجب) على الزوج ولو عبدًا (بالتبوِئَة) ".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 508)، حيث قال؛ "إن كانت الزوجة أمة فنفقتها كذلك على زوجها حرًّا كان أو عبدًا بوأها معه بيتًا أم لا". =

ص: 6105

لَا نَفَقَةَ لَهَا

(1)

).

يعني: الأمة التي يكون زوجها عبدًا تجب نفقتها عليه عند جمهور العلماء ومنهم المالكية في المشهور، وبعضهم يفصل، وهذه التفصيلات كلها في مذهب مالك؛ لأنهم ينظرون إليها من جانبين: استمتاع بها زوجها، وكونها في خدمة سيدها؛ فأيهما الذي ينفق، هل يشتركان في النفقة أو يختص بها الزوج وولي أمرها أو يختص بها السيد؛ لأن العبد لا مال له، هذه كلها قضايا وجزئيات تثار في مذهب مالك

(2)

.

أما الجمهور والحمد لله حسموا الأمر في ذلك وقالوا: تجب نفقتها وكفانا إثارة الخلاف في ذلك، وهذا هو قول الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد؛ لأن الآية أشارت إلى ذلك.

= مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 187)؛ حيث قال:" (على موسر) حر كله (لزوجته) ولو أمة كافرة ومريضة (كل يوم) بليلته المتأخرة. . . إلى أن قال: (مدَّا طعام) ".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 472)؛ حيث قال:" (وإن سلم) الزوجة (الأمة) لزوجها (سيدها ليلًا ونهارًا فكحرة في وجوب النفقة) على زوجها الحر (ولو أبي الزوج) لأن سيدها مكن منها فأشبهت الحرة".

(1)

يُنظر: "المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (4/ 127 - 128)؛ حيث قال:"وروى أشهب عن مالك: لا نفقة لها إلا أن تشترط عليه، وذكر ابن المواز عن مالك: أن الأمة إن بوئت مع زوجها الحر أو العبد فعليه نفقتها وكسوتها، وإن كانت عند أهلها فلا نفقة لها إلا أن تشترط ذلك عليه في عقد النكاح".

(2)

يُنظر: "المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (4/ 128)؛ حيث قال:"إن كانت تبيت عنده بالليل خاصة فعليه نفقتها وكسوتها، ثم قال: لها النفقة بكل حال كانت تبيت عنده أو عند أهلها، وإلى هذا رجع ابن القاسم".

ومذهب أحمد فيه تفصيل كذلك. يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 472)؛ حيث قال:" (وإن كانت) الأمة المزوجة (عنده)؛ أي: الزوج (ليلًا فقط فعليه نفقة الليل من العشاء وتوابعه كالوطاء والغطاء ودهن المصباح ونحوه) كإزار النوم (ونفقة النهار على سيدها) ".

ص: 6106

* قوله: (وَقِيلَ أَيْضًا: إِنْ كانَتْ تَأْتِيهِ، فَلَهَا النَّفَقَة، وَإِنْ كانَ يَأْتِيهَا فَلَا نَفَقَةَ لهَا)

(1)

.

يقصد: إن كانت تأتي إلى بيته ويتحقق له ما يحتاج منها فعليه النفقة، وإن كان هو الذي يذهب فلا نفقة لها، لكن لا نفهم من هذا بأن لا نفقة لها أن تبقى ضياعًا لا ينفق عليها سيدها عند هؤلاء.

* قوله: (وَقِيلَ: لهَا النَّفَقَةُ فِي الوَقْتِ الَّذِي تَأْتِيهِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا، فَعَلَيْهِ النَّفَقَة، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا، فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ

(2)

. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ العُمُومِ لِلْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أن العُمُومَ يَقْتَضِي لهَا وُجُوبَ النَفَقَةِ).

العموم في قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".

وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"؛ فهذا عام لم يفرق بين حرة وأمة، ولو كان هناك فرق لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الناس بأمسِّ الحاجة له، وبخاصة أنه ذكر ذلك في حجة الوداع والناس بحاجة إلى البيان، والرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن أمور وأجاب عنها.

* قوله: (وَالقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا إِلَّا عَلَى سَيِّدِهَا الَّذِي يَسْتَخْدِمُهَا، وَتَكُونُ النَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ كلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَفِعُ بِهَا ضَرْبًا مِنَ الانْتِفَاعِ؛ وَلذَلِكَ قَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ النَّفَقَةُ فِي اليَوْمِ الَّذِي تَأْتِيهِ).

هذه كلها أخذوا بها المالكية وتوسعوا فيها من راب المصلحة، وقد أشرنا سابقًا - وهو معروف عند ممن درسوا الأصول - إلى أن علماء

(1)

يُنظر: "المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (4/ 128)؛ حيث قال:"وروى ابن وهب عن مالك إن كانت هي تأتيه فعليه النفقة، وإن كان هو يأتيها في أهلها فلا نفقة لها".

(2)

تقدَّم.

ص: 6107

المالكية أكثر من توسع في باب المصالح المرسلة؛ ولذلك في مثل هذه القضايا يفرعون كثيرًا من المسائل.

أما جمهور العلماء: فإنهم وقفوا عند النصوص وقالوا بوجوب نفقتها على زوجها؛ لأن هذا زوج، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ؛ فهذا هو المولود له فينبغي أن ينفق على هذه الزوجة، أما إن كان ليس عنده شيء فمعلوم أن سيده يتولى أمره.

* قوله: (وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ؛ يُحْكَمُ عَلَى مَوْلَى الأَمَةِ المُزَوَّجَةِ أن تَأْتِيَ زَوْجَهَا فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ)

(1)

.

ابن حبيب من المالكية.

فنخلص من هذا: إلى وجوب نفقة الأمة على زوجها العبد، ما دام قد تزوجها فهو مسؤول عنها، وهو عندما تزوج كان قد أقدم على أمر يعلم ما يترتب عليه ومن ذلك وجوب النفقة.

* قوله: (وَأَمَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ: فَاتَّفَقُوا أَيْضًا أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الحُرِّ الحَاضِرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي العَبْدِ وَالغَائِبِ: فَأَمَّا العَبْد، فَقَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ عَلَى العَبْدِ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ

(2)

).

هذا حكاه في بعض كتبه ونقله ابن قدامة وغيره.

(1)

يُنظر: "المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (4/ 128)؛ حيث قال:"وقال ابن حبجب عن ابن الماجشون عن مالك: نفقة الأمة وكسوتها على أهلها وعندهم عدتها حتى يشترط ضمها إليه، وعليهم أن يرسلوها إليه في كل أربع ليال، ونفقة تلك الليلة ويومها عليه، وإن ردها في صبيحة تلك الليلة أو تركها عندهم تلك الليلة فنفقة يوم وليلة من كل أربع ليال لازمة له".

(2)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 165)؛ حيث قال:"وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على العبد نفقة زوجته. هذا قول الشافعي، ومالك، والشعبي. وقال أصحاب الرأي: تجب نفقتها عليه أن يكون بوأها بيتًا".

ص: 6108

* قوله: (وَقَالَ أَبُو المُصْعَبِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ).

وهذا قول شاذ؛ لأنه مخالف لإجماع العلماء

(1)

.

* قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: مُعَارَضَةُ العُمُومِ لِكَوْفي العَبْدِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ).

لأنه كما هو معلوم العبد محجور عليه في ماله وإن ملكه سيده، فهل هذه الملابس التي تكون عليه هل تكون ملكًا للسيد الجديد أو للأول هذه كلها فيها مسائل تفصيلية معروفة بين العلماء، لكن فيما يتعلق بالنفقة فهو مسؤول عنها.

* قوله: (وَأَمَّا الغَائِب، فَالجُمْهُورُ عَلَى وُجُوب النَّفَقَةِ عَلَيْهِ

(2)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

: لَا تَجِبُ إِلَّا بِإِيجَابِ السُّلْطَانِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَنِ

(1)

يُنظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"(4/ 68)، وفيه قال:"والذي رأيت هنا قولين: أحدهما: مذهب "المدونة" الوجوب، ففيها: وتلزم العبد نفقة امرأته حرة كانت أو أمة، ولو كانت الأمة تبيت عند أهلها. وأشار المصنف إلى توجيه المشهور بقوله: أي (كالمهر)؛ أي: كما أن المهر الذي هو عوض عن أول الاستمتاع على الزوج فكذلك تكون النفقة عليه التي هي عوض عن دوام الاستمتاع. اللخمي: وقال أبو مصعب: لا نفقة عليه".

(2)

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 520)؛ حيث قال:" (و) لها (طلبه)؛ أي: مطالبته (عند) قصد (سفره بنفقة المستقبل) إلى قدومه ليدفعها لها معجلة (أو يقيم لها كفيلًا) يدفعها لها على حسب ما كان الزوج يدفعها لها".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 204)؛ حيث قال:" (فإن) (غاب) الزوج عن بلدها ابتداء أو بعد تمكينها ثم نشوزها كما يأتي ثم أرادت عرض نفسها لتجب لها مؤنتها رفعت الأمر للحاكم فأظهرت له التسليم".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 469)؛ حيث قال:" (وإن غاب) الزوج (مدة ولم ينفق فعليه نفقة ما مضى سواء تركها)؛ أي: النفقة العذر أو غيره فرضها حاكم أو لم يفرضها) حاكم".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 604)؛ حيث قال: " (وتفرض) النفقة بأنواعها الثلاثة (لزوجة الغائب) مدة سفر".

ص: 6109

القَوْلُ قَوْلُهُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الاتِّفَاقِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ).

وهذا لا خلاف فيه لوجود الأدلة، نعم خالف أبو حنيفة لكن خلافه يعتبر ضعيفًا؛ لأن عموم الأدلة يدل على ذلك.

وأيضًا: عمر رضي الله عنه كان يؤاخذ الأزواج عندما يغيب أحدهم فيطيل

(1)

، وقصة الرجل - يقال: هو من الأنصار - الذي استهوته الجن؛ يعني: أخذته وأخفته حتى ورد في بعحر الروايات: "أنه خرج لصلاة العشاء ولم يعد"

(2)

.

* قوله: (وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَاتِ: العَدْلَ بَيْنَهُنَّ فِي القَسْمِ)

(3)

.

(1)

"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 772) ولفظه: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا". وصححه الألباني في "الإرواء"(2159).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3/ 522) ولفظه: "أن رجلًا استهوته الجن على عهد عمر، فأتت امرأته عمر، فأمرها أن تربص أربع سنين، ثم أمر وليه بعد أربع سنين أن يطلقها، ثم أمرها أن تعتد، فإذا انقضت عدتها تزوجت، فإن جاء زوجها خير بين امرأته والصداق".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 201 - 202)؛ حيث قال: " (يجب) وظاهر الآية أنه فرض نهر (أن يعدل)؛ أي: ألا يجور (فيه)؛ أي: في القسم بالتسوية في البيتوتة (وفي الملبوس والمأكول) والصحبة (لا في المجامعة) كالمحبة بل يستحب".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (339/ 2)؛ حيث قال:" (يجب القسم) على الزوج البالغ العاقل ولو مجبوبًا أو مريضًا (للزوجات) المطيقات ولو إماء أو كتابيات أو مختلفات (في المبيت) لا للسراري ولا في غير المبيت كالوطء والنفقة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 379)؛ حيث قال:" (ومن) له زوجات لا يلزمه أن يبيت عندهن كما يأتي، نعم إن (بات) في الحضر؛ أي: صار ليلًا أو نهارًا؛ فالتعبير بـ "بات" لبيان أن شأن القسم الليل لا لإخراج مكثه عند=

ص: 6110

العدل مطلوب في كل أمر في هذه الدنيا، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].

ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل: 90].

هذه الشريعة الإسلامية قامت على العدل ودعت إليه؛ ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "المقسطون على منابر من نور يوم القيامة"

(1)

؛ فكل مسلم مطالب بأن يعدل مع نفسه ومع غيره، فكما أنه لا يحب أن يُظلم فلا ينبغي له أن يظلم نفسه، وإذا كان العدل مطلوبًا في الحياة - وبخاصة بين المسلمين - فأحرى بكل مؤمن أن يكون عادلًا بمن هم تحت سلطته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"

(2)

؛ فأحرى بالمؤمن أن يكون عادلًا بين زوجاته.

ثم إن الإنسان إذا عدل في هذه الحياة الدنيا سيلقى ربه سبحانه وتعالى وهو عنه راض، وإذا ما حاد ومال عن طريق العدل والصواب وجنف في ذلك فإنه سيلقى عقابًا يوم لا ينفع مال ولا بنون؛ ولذلك جاء في الحديث تحذير من رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامه وشقه مائل"

(3)

علامة على خيانته وانحرافه عن الطريق السوي؛ يأتي يوم القيامة شقه مائل ليراه الناس والله سبحانه وتعالى يعلم بحاله؛ فهذا خير دليل وخير رادع ونذير للذين تغرهم الحياة الدنيا؛ فتجد المظاهر تخدعهم

= إحداهن نهارًا؛ إذ الأقرب لزوم مكثه مثل ذلك الزمن عند الباقيات (عند بعض نسوته). . . (لزمه) فورا فيما يظهر. . . (عند من بقي منهن) تسوية بينهن".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 198)؛ حيث قال:" (ويلزم غير طفل أن يساوي بين زوجاته في القسم إذا كن حرائر كلهن أو) كن (إماء كلهن) لأنه إذا قسم لواحدة أكثر من غيرها كان في ذلك ميل".

(1)

أخرجه مسلم (1827) ولفظه: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن سبحانه وتعالى وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا".

(2)

أخرجه البخاري (5200)، ومسلم (1829).

(3)

أخرجه أبو داود (2133)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(1851).

ص: 6111

فينصرفون إلى بعض الزوجات فينسون ما قاله الله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}

(1)

.

الإنسان إذا ما تزوج امرأة وشابت وكبرت عنده وحملت له الأولاد، ثم بعد ذلك ولدت فأرضعت وتحملته في وقت شبابه، وربما في فقره صبرت على أسراره وآلامه، ثم يأتي بعد ذلك ويتزوج أخرى وربما يميل إلى هذه الزوجة الجديدة؛ فهذا ليس من العدل وليس من الإنصاف.

والإنسان ربما ينعم نفسه في هذه الحياة الدنيا، لكن ليتذكر كل من يميل بأنه سيُسأل عن ذلك يوم القيامة، وأن ذلك السؤال لا يكون في الدنيا؛ فالناس تخفى عنهم أمور كثيرة، لكن الذي سيسألك من لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء! من يسألك هو الذي يعلم السر وأخفى! هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور! فليحذر الذين يسلكون هذا المسلك!

فشريعتنا الإسلامية جاءت بالعدل ودعمت الناس إلى تطبيقه على أنفسهم وعلى غيرهم.

ألا يكفي المؤمن أن يلقى الله تعالى وهو ضمن الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المقسطون على منابر من نور يوم القيامة".

فينبغي للمسلم أن يتقي الله تعالى في نفسه في أبنائه في زوجاته في كل من ولي أمرهم.

* قوله: (لِمَا ثَبَتَ مِنْ قَسْمِهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَزْوَاجِهِ

(2)

، وَلقَوْلِهِ عَلَيْهِ

(1)

تقدَّم.

(2)

أخرجه مسلم (1462) ولفظه: عن أنس قال: "كان للنبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة، فكان إذا قسم بينهن لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسع، فكنَّ يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها".

ص: 6112

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ)

(1)

).

الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه المجيد: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]؛ فقدوتنا وأسوتنا هو محمد بن عبد الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين زوجاته فيعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك؛ فلا تلمني فيما لا أملك"

(2)

.

والعدل بين الزوجات في حديثك، وفي القسم بين الليالي إلا إذا حصل تبرع، أما ميل القلب فهذا لا يملكة إنسان، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والإنسان ربما لا يستطيع أن يلجم عاطفته فربما يميل، فالحب في القلب لا تستطيع أن تمنعه، لكن لا ينبغي أن يظهر ذلك في تصرفاتك بأن تعطي زوجة وتمنع زوجة تزيد زوجة وتنقص زوجة.

* قوله: (وَلِمَا ثَبَتَ: "أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ، أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ"

(3)

).

هذا من عدله أيضًا صلى الله عليه وسلم، ذكرت عائشه أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه، فأي واحدة خرج سهمها فإنه يأخذها معه عليه الصلاة والسلام.

(1)

أخرجه أبو داود (2133) ولفظه: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل". وصححه الألباني.

(2)

أخرجه أبو داود (2134) ولفظه: عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك؛ فلا تلمني فيما تملك ولا أملك! ". وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم"(370).

(3)

أخرجه البخاري (2593) ومسلم (2770)، ولفظه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه".

ص: 6113

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي مُقَامِ الزَّوْجِ عِنْدَ البِكْرِ وَالثَّيِّبِ).

المؤلف أدخل عدة مباحث في مبحث واحد:

فهذه مسألة أخرى: إذا تزوج الإنسان بكرًا وعنده ثيب فكم يمكث عند البكر؛ وإن مكث عندها سبعة أيام فهل يعطي الثيب أم يرجع بعد ذلك في القسمة هذه ليلة وهذه ليلة؛ ولو تزوج ثيبًا على بكر ومكث عندها ثلاثة أيام فبعد الثلاثة أيام يقسم أو يعطي الأخرى كذلك؟ هذا فيه خلاف.

والجمهور لهم رأي وأبو حنيفة له رأي يخالفهم.

* قوله: (هَلْ يُحْتَسَبُ بهِ أَوْ لَا يُحْتَسَبُ إِذَا كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ أُخْرَى؟ فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

، وَالشَّافِعِيُّ

(2)

وَأَصْحَابُهُمَا: يُقِيمُ عِنْدَ البِكْرِ سَبْعًا، وَعِنْدَ الثَّيِّبِ ثَلَاثًا، وَلَا يُحْتَسَبُ إِذَا كَانَ لَهُ امْرَأَة أُخْرَى بِأَيَّامِ الَّتِي تَزَوَّجَ).

القصد: أنه بعد السبع يبدأ في القسم، وبعد الثلاثة كذلك. هذا هو مذهب الجمهور وأحمد

(3)

وأصحابه.

(1)

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 340 - 341)؛ حيث قال:" (وقضي) على الزوج (للبكر) ولو أمة يتزوجها على حرة (بسبع) من الليالي متوالية يخصها بها (وللثيب) كذلك (بثلاث) وهو مخير بعد ذلك في البداءة بأيتهن أحب (ولا قضاء) لضرتها القديمة بمثل ذلك في نظير ما فاتها (ولا تجاب) الثيب (لسبع) ".

(2)

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 386)؛ حيث قال:" (وتختص بكر) وجوبًا بالمعنى السابق في إذنها في النكاح (جديدة عند زفاف) وفي عصمته غيرها يريد المبيت عندها كما أفهمه قوله جديدة (بسبع ولاء بلا قضاء وثيب) بذلك المعنى أيضا عند زفاف كذلك (بثلاث) ولاء بلا قضاء ولو أمة فيهما".

(3)

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 207)؛ حيث قال:"وإذا تزوج بكرًا ولو أمة ومعه غيرها ولو حرائز (أقام عندها سبعًا) ثم دار. (و) إذا تزوج (ثيبًا ولو أمة) أقام عندها (ثلاثًا) ".

ص: 6114

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

: الإِقَامَةُ عِنْدَهُنَّ؛ سَوَاءٌ بِكْرًا كَانْتَ أَوْ ثَيِّبًا، وَيُحْتَسَبُ بِالإِقَامَةِ عِنْدَهَا إِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَة أُخْرَى. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ حَدِيثِ أَنَسٍ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ هُوَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا تَزَوَّجَ البِكْرَ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا"

(2)

، وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ هُوَ:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا، فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ؛ فَقَالَ: "لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ، وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ، وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ وَدُرْتُ"، فَقَالَتْ: ثَلِّثْ

(3)

).

المؤلف وهم - غفر الله لنا وله -؛ إنما الذي في حديث أنس أن: "من السنة إذا تزوج الرجل بكرًا أقام عندها سبعًا ثم قسم، وإذا تزوج ثيبًا أقام عندها ثلاثًا ثم قسم". هذا هو الذي ورد في حديث أنس

(4)

، وله روايات عدة.

* قوله: (وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ هُوَ: "ثَلِّثْ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. . خَرَّجَهُ مَالِكٌ

(5)

، وَالبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ).

ليس متفقًا عليه لم يخرجه البخاري، ولكنه في صحيح مسلم

(6)

،

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 206)؛ حيث قال: " (والبكر والثيب والجديدة والقديمة والمسلمة والكتابية سواء) ".

(2)

أخرجه البخاري (5213) واللفظ له، ومسلم (1461/ 44) عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه ولو شئت أن أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم ولكن قال: السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا".

(3)

أخرجه مسلم (1460) ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج أم سلمة وأصبحت عنده قال لها: "ليس بكِ على أهلك هوان، إن شئت سبعت عندك، وإن شئت ثلثت، ثم درت"، قالت: ثلث.

(4)

تقدَّم نص الرواية وما يوضح الإشكال.

(5)

أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 529).

(6)

تقدَّم.

ص: 6115

وعند أصحاب السنن

(1)

.

* قوله: (وَحَدِيثُ أَنَسٍ حَدِيثٌ بَصْرِيٌّ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(2)

).

غفر الله للمؤلف؛ فإنه خرجه الشيخان

(3)

وأصحاب السنن

(4)

، والبيهقي

(5)

وكثير من أصحاب كتب الأحاديث والسنن والمصنفات.

* قوله: (فَصَارَ أَهْلُ المَدِينَةِ إِلَى مَا خَرَّجَهُ أَهْلُ البَصْرَةِ، وَصَارَ أَهْلُ الكُوفَةِ إِلَى مَا خَرَّجَهُ أَهْلُ المَدِينَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي: هَلْ مُقَامُهُ عِنْدَ البِكْرِ سَبْعًا وَعِنْدَ الثَّيِّبِ ثَلَاثًا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ فَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ

(6)

: هُوَ وَاجِبٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ

(7)

: يُسْتَحَبُّ، وَسَبَبُ الخِلَافِ: حَمْلُ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى النَّدْبِ أَوْ عَلَى الوُجُوبِ).

من العلماء مَن قال بالوجوب، ومنهم من قال بالاستحباب، وهذا كله عند المالكية.

والرسول صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك وهو قدوتنا عليه الصلاة والسلام؛ فينبغي أن يُقتدى به في هذا العمل.

(1)

أخرجه أبو داود (2122)، وصححه الألباني، وابن ماجه (1917) وصححه الألباني.

(2)

أخرجه أبو داود (2124) ولفظه: عن أنس بن مالك قال: إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا ولو قلت: إنه رفعه لصدقت ولكنه قال: السنة كذلك". وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم" (1848).

(3)

تقدَّم.

(4)

أخرجه الترمذي (1139) وصححه الألباني، وأخرجه ابن ماجه (1916) ولفظه:"إن للثيب ثلاثًا وللبكر سبعًا". وحسنه الألباني.

(5)

"السنن الكبرى"، للبيهقي (7/ 492)، وصححه الألباني في "الإرواء"(2025).

(6)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 439)؛ حيث قال:"وقال ابن القاسم عن مالك: مقامه عند البكر سبعًا وعند الثيب ثلاثًا إذا كان له امرأة أخرى واجب".

(7)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 439)؛ حيث قال:"وقال ابن عبد الحكم عن مالك: ذلك مستحب وليس بواجب".

ص: 6116

والذي فيه خلاف بين العلماء فيما يتعلق بنوعية الإقامة: هل ينحبس عن أداء الصلوات في جماعة فيصليها في بيته

(1)

؟

هذه هي المسأله التي تكلم عنها العلماء ولم يتناولها المؤلف، لكن ينبغي ألا يشغل الإنسان عن صلاة الجماعة شاغل إلا عذرًا لا يتمكن معه أو يلحقه ضرر فيما لو أدى صلاة الجماعة.

* قوله: (وَأَمَّا حُقُوقُ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ بِالرَّضَاعِ وَخِدْمَةِ البَيْتِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ).

الحقوق منها ما يتعلق بحسن العشرة؛ كما قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال تعالى:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، ويجب على الزوجة أن تباشر فراش زوجها حين يطلبها ما لم يكن لها عذر شرعي من مرض أو ما يمنع وطأها؛ فإن اعتذرت بعذر غير واقع فهي آثمة.

ومن حقوق الزوج على زوجته: أن تكون مطيعة له ومتحببة إليه، وتبش في وجهه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما ذكر المرأة الصالحة ذكر أوصافها، فبين أنها إذا نظر إليها زوجها سرته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته

(2)

.

والرسول صلى الله عليه وسلم يبين أهمية حقوق الزوج وتأكيدها وخطورتها وعدم التساهل فيها، قال صلى الله عليه وسلم: "أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا،

(1)

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 341)؛ حيث قال:"واختار اللخمي: أنه لا يخرج لصلاة ولا لقضاء حوائجه؛ لأن على المرأة في خروجه وصفا. نقله عنه ابن عرفة، وصحح في "الشامل" مقابله فقال: وله التصرف في قضاء حوائجه على الأصح".

(2)

أخرجه أبو داود (1664) ولفظه: "ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء: المرأة الصالحة؛ إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته". وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم"(293).

ص: 6117

الموطئون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون"

(1)

؛ هذا هو الأصل الذي ينبغي أن تقوم عليه الحقوق الزوجية.

ويقول عليه الصلاة والسلام: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"

(2)

؛ فعلى كل مسلمة أن تدرك هذا الحق، لكن السجود لا يجوز إلا لله؛ لأن السجود عبادة والعبادة لا تصح إلا لله سبحانه وتعالى لما في ذلك من الخضوع والذل والانقياد؛ ولذلك لم يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذا ولد طفل فقد تكلم العلماء عنه:

الحالة الأولى: إن كان له مال فإن الأجرة من مال هذا الطفل، كما لو كان كبيرًا فإنه ينفق عليه من ماله.

الحال الثانية: وإن لم يكن لهذا الطفل مال فإن أجرة الرضاع تجب على من تجب عليه نفقته، كأن يكون والده، وهذا هو الأصل والله تعالى يقول:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، لكن مدة الرضاع التي تجب الإنفاق عليه محددة بحولين كاملين لقوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233].

* قولُهُ: (وَذَلِكَ أن قَوْمًا أَوْجَبُوا عَلَيْهَا الرَّضَاعَ عَلَى الإِطْلَاقِ، وَقَوْمٌ لَمْ يُوجِبُوا ذَلِكَ عَلَيْهَا بِإِطْلَاقٍ، وَقَوْمٌ أَوْجَبُوا ذَلِكَ عَلَى الدَّنِيئَةِ،

(1)

لعل الشارح رحمه الله أدخل حديثين:

فالأول: أخرجه الترمذي (2018) ولفظه: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا". وصححه الألباني.

والثاني: أخرجه الطبراني في "معجمه الصغير"(1/ 362) ولفظه: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحاسنهم أخلاقًا، الموطئون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف". وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2/ 378).

(2)

أخرجه الترمذي (1159)، وصححه الألباني في "الإرواء"(1998).

ص: 6118

وَلَمْ يُوجِبُوا ذَلِكَ عَلَى الشَّرِيفَةِ إِلَّا أن يَكُونَ الطِّفْلُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا ثَدْيَهَا، وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ مَالِكٍ).

هناك ثلاثة أقوال في المسألة:

القولا الأول: الذين أوجبوا عليها الرضاع مالك في رواية

(1)

وأبو ثور

(2)

.

القول الثاني: الذين لم يوجبوا الرضاع هم أكثر العلماء أبو حنيفة

(3)

والشافعي

(4)

وأحمد

(5)

، إلا أن يتعين ثديها للطفل، أي: لا يقبل غيرها، فحينئذ هي ترضعه وتأخذ الأجرة على ذلك إن كان هناك أب ينفق على الطفل

(6)

.

(1)

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 525)؛ حيث قال:" (وعلى الأم المتزوجة) بأبي الرضيع (أو الرجعية رضاع ولدها) من ذي العصمة أو المطلق (بلا أجر) تأخذه من الأب".

(2)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (5/ 170)؛ حيث قال:"واختلفوا في المرأة ذات الزوج تأبى أن ترضع ولدها منه. فقالت طائفة: تجبر على رضاعه ما كانت امرأته، هذا قول مالك، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وأبي ثور".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 618)؛ حيث قال: " (وليس على أمه إرضاعه) قضاء بل ديانة (إلا إذا تعينت) فتجبر".

(4)

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 222)؛ حيث قال:" (ثم بعده)؛ أي: إرضاعه اللِّبأ (إن لم يوجد إلا هي أو أجنبية وجب إرضاعه) على من وجدت إبقاء له ولها طلب الأجرة ممن تلزمه مؤنته (وإن وجدتا لم تجبر الأم) ".

(5)

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 487)؛ حيث قال:" (وإن امتنعت الأم) الحرة (من إرضاع ولدها لم تجبر) ولو كانت في حبال الزوج".

(6)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 618)؛ حيث قال: " (قوله: إلا إذا تعينت) بأن لم يجد الأب من ترضعه أو كان الولد لا يأخذ ثدي غيرها، وهذا هو الأصح وعليه الفتوى

إلى قوله: قال الرملي: وما في "الخانية" نقله الزيلعي عن الخصاف وزاد عليه قوله: وتجعل الأجرة دينا على الأب".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 525)؛ حيث قال:" (إلا ألا يقبل) الولد (غيرها) شريفة أو بائنًا فيلزمها مليًّا كان الأب أو معدمًا، ويجب لها في هذه الحالة الأجرة إن أرضعت". =

ص: 6119

لكن بعض العلماء نص على أنها إذا ولدت فيجب عليها أن تلقم ثديها الطفل ليشرب من اللِّبأ

(1)

- وهو اللبن الذي تدر به أول ما تلد -؛ فإنهم يرون ذلك من الضروريات للطفل

(2)

، ولا شك أن الأم بما وهبها الله سبحانه وتعالى من الحنان والعطف والرحمة والشفقة لن تتخلى عن ابنها في إرضاعه.

القول الثالث: الرواية الأخرى للإمام مالك يفرق فيها بين الشريفة والدنيئة

(3)

(4)

، يعني: بين ذات النسب وغير ذات النسب، وهذا حقيقة

= مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 223) حيث قال:"ومحل الخلاف إذا استمرى الولد لبن الأجنبية، وإلا أجيبت الأم إلى إرضاعه بأجرة المثل قطعًا، كما قاله بعض المتأخرين لما في العدول عنها من الإضرار بالرضيع".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 487 - 488)؛ حيث قال:" (إلا أن يضطر) الصغير (إليها أو يخشى عليه) بألا يوجد مرضعة سواها، أو لا يقبل الصغير الإرضاع من غيرها؛ فيجب عليها إرضاعه، لأنه حال ضرورة وحفظ النفس كما لو لم يكن له أحد غيرها".

(1)

قال الخليل: "اللِّبَأ - مهموز مقصور -: أوّل حَلْب عند وضع المُلَبِّئ". انظر: "العين"(8/ 341).

(2)

نص على ذلك الشافعية والحنابلة.

مذهب الشافعية يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 221 - 222)؛ حيث قال:" (وعليها)؛ أي: الأم من مال فرعه (إرضاع ولدها اللبأ) - بالهمز -: وهو ما ينزل بعد الولادة، ويرجع في مدته لأهل الخبرة؛ كما بحثه الأذرعي، وقيل: تتقدر بثلاثة أيام، وقيل: بسبعة؛ وذلك لأن النفس لا تعيش بدونه غالبًا، ومع ذلك لها طلب الأجرة عليه إن كان لمثله أجرة".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 488)؛ حيث قال:" (ولكن يجب عليها أن تسقيه اللبن) لتضرره بعدمه، بل يقال: لا يعيش إلا به".

(3)

الدَّنِيئة بالمد النَّقِيصة. انظر: "مختار الصحاح"، للرازي (ص 107).

(4)

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 525)؛ حيث قال:" (وعلى الأم المتزوجة) بأبي الرضيع (أو الرجعية رضاع ولدها) من ذي العصمة أو المطلق (بلا أجر) تأخذه من الأب (إلا لعلو قدر) بأن كانت من أشراف الناس الذين شأنهم لا يرضعون أولادهم فلا يلزمها رضاعه؛ فلو أرضعت لكان لها الأجرة في مال الصبي".

ص: 6120

لا دليل عليه من الشريعة، ليس هناك في كتاب الله عز وجل ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، ولكن المالكية اقتبسوا ذلك من العدة والعرف.

وقيمة الإنسان بالتقوى، وليست قيمة الإنسان بنسبه أو مكانته أو بلده، وإنما دائمًا قيمة الإنسان ترتفع بالتقوى وتنخفض بالمعصية؛ فالإنسان يعز ويرتفع ويكرم إذا أطاع الله سبحانه وتعالى وكان أيضًا ممتثلًا لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذهب قيمته ومكانته، وإن كان أعلى الناس نسبًا وأعظمهم شرفًا إذا كان يتقلب في معصية الله سبحانه وتعالى؛ فإن هذا لا ينفعه.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ آيَةُ الرَّضَاعِ مُتَضَمِّنَةٌ حُكْمَ الرَّضَاعِ - أَعْنِي: إِيجَابَهُ - أَوْ مُتَضَمِّنَةٌ أَمْرَهُ فَقَطْ؛ فَمَنْ قَالَ: أَمْرَه، قَالَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الرَّضَاعُ؛ إِذْ لَا دَلِيلَ هُنَا عَلَى الوُجُوبِ، وَمَنْ قَالَ: تَتَضَمَّنُ الأَمْرَ بِالرَّضَاعِ وَإيجَابَهُ؛ وَأَنَّهَا مِنَ الأَخْبَارِ الَّتِي مَفْهُومُهَا مَفْهُومُ الأَمْرِ، قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهَا الإِرْضَاعُ)

(1)

.

سبب الخلاف في كون الرضاع يجب على الأم أو لا يجب: أن الآية {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} سيقت على نسق الخبر فليست أمرًا، لكن بعضهم يقول: وإن وردت خبرًا فإنها تدل على الأمر؛ لأنه على القول أن الآية متضمنه الأمر فقط فالوالدة ترضع طفلها، لكن هل ترضعه ولها الأجرة أو ترضعه وليس لها أجرة؟

(1)

يُنظر: "الجامع لأحكام القرآن"، للقرطبي (3/ 161)؛ حيث قال: "الثانية: {يُرْضِعْنَ} خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، وعلى جهة الندب لبعضهن على ما يأتي. وقيل: هو خبر عن المشروعية كما تقدم.

الثالثة: واختلف الناس في الرضاع هل هو حق للأم أو هو حق عليها، واللفظ محتمل؛ لأنه لو أراد التصريح بكونه عليها لقال: وعلى الوالدات رضاع أولادهن كما قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} ولكن هو عليها في حال الزوجية، وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط، إلا أن تكون شريفة ذات ترفُّه فعرفها ألا ترضع وذلك كالشرط، وعليها إن لم يقبل الولد غيرها واجب، وهو عليها إذا عدم لاختصاصها به".

ص: 6121

فمن قال يتضمن الأمر والإيجاب: فلا أجرة لها.

ومن قال: يتضمن الأمر فقط: فإن الأجرة أمر زائد وخارج عن ذلك؛ فتجب لها

(1)

.

* قوله: (وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّنِيئَةِ وَالشَّرِيفَةِ، فَاعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ العُرْفَ وَالعَادَةَ)

(2)

.

العرف والعادة يرجع إليه في بعض الأمور كما مر في أبواب الحيض والنفاس، وكذلك مسائل في كتاب النكاح.

* قوله: (وَأَمَّا المُطَلَّقَة، فَلَا رَضَاعَ عَلَيْهَا إِلَّا أَلَّا يَقْبَلَ ثَدْيَ غَيْرِهَا، فَعَلَيْهَا الإِرْضَاع، وَعَلَى الزَّوْجِ أَجْرُ الرَّضَاعِ

(3)

. هَذَا إِجْمَاعٌ

(4)

، لِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]).

(1)

تقدَّم.

(2)

وهو مذهب مالك كما تقدم.

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين""رد المحتار"(3/ 619)، حيث قال: " (قوله: كاستئجار منكوحته

إلخ)؛ أي: فيجوز؛ لأن إرضاعه غير واجب عليها كما مر (قوله: وهي أحق)؛ أي: إذا طلبت الأجرة؛ ولذا قيده بقوله بعد العدة".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 525)؛ حيث قال:"ومن قل لبنها (كالبائن) لا يلزمها الإرضاع (إلا ألا يقبل) الولد (غيرها) شريفة أو بائنًا فيلزمها، مليًّا كان الأب أو معدمًا، ويجب لها في هذه الحالة الأجرة إن أرضعت".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 222)؛ حيث قال: "أما غير منكوحة بأن كانت خلية فإن تبرعت مكنت منه قطعًا، وإلا فكما في قوله:(فإن اتفقا) على أن الأم ترضعه (وطلبت أجرة مثل) له

إلى أن قال: (أجيبت) وكانت أحق به لوفور شفقتها".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 487)؛ حيث قال:" (لا) يمنع الأب أم الرضيع (من رضاعه إذا طلبت ذلك وإن طلبت أجرة مثلها ووجد) الأب (من يتبرع) له (برضاعه فهي)؛ أي: الأم (أحق سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة) ".

(4)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 160)، وفيه قال: "واستئجار=

ص: 6122

لأن هذه مطلقة، والنفقة تجب على الأكل فإن أرضعت فإنها في اتفاق العلماء يدفع لها الأجرة دون خلاف.

* قوله: (وَالجُمْهُورُ عَلَى أن الحَضَانَةَ لِلأمِّ إِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْج، وَكَانَ الوَلَدُ صَغِيرًا)

(1)

.

الحقيقة: هذه مسألة اتفق عليها العلماء بأن الحضانة إنما تكون للأم؛ لأن الأم هي الأولى بحضانة الطفل؛ فالأم هي التي ترضعه، وهي التي عندها من الحنو عليه والعطف والشفقة ما ليس عند غيرها، حتى وإن وجد عند الأب فهو لا يستطيع أن يقدم للطفل في هذه السن ما تقدمه الأم في هذا المقام؛ فالمسألة ليس فيها خلاف كما ذكر المؤلف أن هذا قول الجمهور.

والخلاف بين العلماء بعد ذلك فيما لو تزوجت الأم برجل آخر؛ فإنها تسقط حضانتها، وهذا هو رأي جماهير العلماء

(2)

.

= الظئر لإرضاع الصبي جائز لا خلاف فيه؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . وأجمعوا على أن للرجل أن يستأجر (امرأة أخيه) أو ابنته أو خالته لإرضاع ولده".

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 555)؛ حيث قال: " (تثبت للأم) ".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 526)؛ حيث قال: " (وحضانة الذكر) المحقق من ولادته (للبلوغ) فإن بلغ ولو زمنًا أو مجنونًا سقطت عن الأم واستمرت نفقته على الأب

إلى أن قال: (و) حضانة (الأنثى)(كالنفقة)؛ يعني: حتى يدخل بها الزوج، وليس مثل الدخول الدعاء له في المطيقة بالتشبيه فالنفقة في الجملة (للأم).

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 225)؛ حيث قال:" (وأولاهن) عند التنازع في حر (أم) ".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 496)؛ حيث قال:" (فإذا افترق الزوجان ولهما طفل أو معتوه أو مجنون ذكر أو أنثى فأحق الناس بحضانته أمه كما قبل الفراق مع أهليتها وحضورها وقبولها) قال في "المبدع": لا نعلم فيه خلافًا".

(2)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 555)؛ حيث قال: "قال الرملي:=

ص: 6123

وخالف في ذلك الحسن البصري

(1)

وقال: في هذه الحالة تكون لها أيضًا الحضانة، وهم يحتجون بقصة أم سلمة: لما توفي أبو سلمة تألمت على أبي سلمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدها إلى أن تسأل الله سبحانه وتعالى أن يأجرها في مصيبتها وأن يخلفها خيرًا منه فتحقق ذلك بأن تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

؛ فيحتج هؤلاء بأن أم سلمة كفلت ولدها سلمة

هكذا يقولون.

لكن الجمهور ينازعون في هذا الأمر ويقولون: إن قضية الكفالة إذا وجدت منازعة، ولا منازعة هنا، وليس هناك بيت خير من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا لا يفضل عليه غيره.

فلا يوجد إنسان يفضل بيته على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد مؤمن حقًّا يحب نفسه أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يجب علينا جميعًا أن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من حبنا لأنفسنا؛ ولذلك لما قال عمر رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم: والله لإنك أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي قال

= ويشترط في الحاضنة أن تكون حرة بالغة عاقلة أمينة قادرة، وأن تخلو من زوج أجنبي، وكذا في الحاضن الذكر سوى الشرط الأخير".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 529)؛ حيث قال:" (و) شرطها (للأنثى) الحاضنة ولو أمًّا (الخلو عن زوج دخل) بها فإن دخل بها سقطت لاشتغالها بأمر الزوج".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 229)؛ حيث قال:" (وناكحة غير أبي الطفل) وإن رضي زوجها".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 499)؛ حيث قال:" (ولا لامرأة مزوجة لأجنبي من الطفل) ".

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/ 179) ولفظه: عن الحسن قال: "هي أحق بولدها، وإن تزوجت".

(2)

أخرجه مسلم (918) ولفظه: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها"، قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لي خيرًا منه، رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وفي رواية عند أحمد (26/ 263): "وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي". قال شعيب الأرناؤوط: "رجاله ثقات".

ص: 6124

الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يا عمر" ثم قال عمر رضي الله عنه: "والله لإنك أحب إلي من كل شيء"

(1)

؛ فمحبة الرسول يجب أن نقدمها على محبة أنفسنا.

وقوله رضي الله عنه: "إلا من نفسي" القصد من المخلوقين، أما محبة الله فهي مقدمة على كل أحد؛ لأن الله تعالى يقول عن نبيه:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]؛ فمحبة الله تعالى نوع من العبادة لا يجوز أن يشركه أحد فيها.

* قوله: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ"

(2)

).

لا شك أن الأم قد غرس الله سبحانه وتعالى حب أولادها في قلبها؛ فكان عندها من الشفقة والرحمة والعطف والحنان وشدة الولع واللوعة ما يجعلها تتألم لفراق أبنائها، وهذا الحديث الذي أورده المؤلف ليس دليلًا لهذه المسألة، وإنما هذا الحديث جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع وشراء الإماء؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار في هذا الحديث إلى أن مَن كانت عنده أمة وهي بمثابة سلعة ولها ابن أو بنت معها فلا ينبغي له أن يفرق بينهما فيذهب بهذا يمينًا وهذا شمالًا؛ فإما أن يبقيهما عنده أو يبيعهما معًا إلى جهة واحدة؛ حتى لا يفصل بين الأم وبين ولدها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة"

(3)

.

ولا يوجد مسلم يود أن يفرق بينه وبين أحبته يوم القيامة، والأمهات عندهم من الحنان والعطف والشفقة؛ فلا يمكن أن تنسى هذا الولد حتى

(1)

أخرجه البخاري (6632) ولفظه: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الآن يا عمر".

(2)

أخرجه الترمذي (1566)، وحسنه الألباني.

(3)

تقدَّم.

ص: 6125

ولو أساء الولد إلى أبيه أو لأمه، فإن العاطفة تظل متعلقة في نفسه مسيطرة على قلبه يصيبه بغيابه الولع والشوق.

والولع هذا هو شأن الآباء وقد يوجد من الأبناء بما عنده من الشقاوة والقسوة ما لا يدرك ذلك، لكن هذا ليس في جميع الأبناء فكم من الأبناء الصالحين الذين يسعون في هذه الحياة الدنيا إلى إرضاء آبائهم، وبذل كل ما يريد آباؤهم يسبلون عليهم في حالة شدتهم في حالة كبرهم، لأنهم يدركون قيمة ذلك وما أعده الله سبحانه وتعالى من الثواب، ثم أيضًا من بر بوالديه بر به أبناؤه "بَرُّوا آباءكم تبرَّكم أبناؤكم"

(1)

.

وأما الحديث الذي يُستدل به في هذا المقام: هو ما جاء في قصة امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أن ابني هذا - وهي تحمله تشير إليه - كان بطني له وعاء وكان حجري له حِواء وثديى له سقاء ثم قالت: وإن أباه يريد أن ينزعه مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الرحيم بأمته: "أنت أحق به ما لم تنكحي"

(2)

.

هذا هو الدليل الذي يستدل به لهذه المسألة.

* قوله: (وَلأَنَّ الأَمَةَ وَالمَسْبِيَّةَ إِذَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا، فَأَخَصُّ بِذَلِكَ الحُرَّةُ).

المؤلف لما أورد دليلًا لهذه المسألة حديث: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة"

(3)

، وهذا حديث ورد في الأمة" فيقول: إذا كان هذا في الأمة فما بالك بالتفريق بين الأم الحرة

(1)

"المعجم الأوسط"، للطبراني (1/ 299)، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(2039).

(2)

أخرجه أبو داود (2276) ولفظه: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنت أحق به ما لم تنكحي". وحسنه الألباني.

(3)

تقدَّم.

ص: 6126

وولدها، لكننا أوردنا الحديث الذي هو نص في هذه المسألة:"أنت أحق به ما لم تنكحي".

* قول: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا بَلَغَ الوَلَدُ حَدَّ التَّمْيِيزِ).

التمييز يعبر عنه العلماء عادة ببلوغ سبع سنوات

(1)

، وهي التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع"

(2)

، لأنه إذا بلغ سن السابعة أصبح مميزًا يفرق بين ما ينفع وما يضر، ما فيه الخير وما فيه الشر، والآن أصبحت التربية تهتم بهذا الأمر.

* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: يُخَيَّر، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ

(3)

، وَاحْتَجُّوا بِأَثَرٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ).

(1)

كلام الأئمة على سن التمييز:

مذهب الحنفية يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 566)؛ حيث قال: " (قوله: وقدر بسبع) هو قريب من الأول بل عينه لأنه حينئذ يستنجي وحده، ألا ترى إلى ما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مروا صبيانكم إذا بلغوا سبعًا"، والأمر بما لا يكون إلا بعد القدرة على الطهارة زيلعي".

مذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل"، لعليش (1/ 190)؛ حيث قال:"وأمر صبي بها لسبع وضرب لعشر".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (1/ 390)؛ حيث قال:" (ويؤمر) الصبي المذكور (بها) حيث كان مميزًا بأن يصير أهلًا لأنْ يأكل وحده ويشرب ويستنجي كذلك السبع) من السنين؛ أي: بعد استكمالها، وعلم أنه لا بد من التمييز واستكماله السبع".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 225)؛ حيث قال:"وتصح من مميز. (وهو من بلغ سبع سنين) قال في "المطلع": هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب ولا ينضبط بسن، بل يختلف باختلاف الأفهام، وصوبه في "الإنصاف"".

(2)

أخرجه أبو داود (495) ولفظه: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع". وصححه الألباني.

(3)

يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 231)؛ حيث قال: " (والمميز) الذكر والأنثى ومر ضابطه (إن افترق أبواه) من النكاح، وهما أهل للحضانة مقيمان في بلدة واحدة، =

ص: 6127

ومنهم الشافعي وأحمد

(1)

، وخالفهم أبو حنيفة

(2)

، ومالك

(3)

فقالا بعدم التخيير.

أما الأثر الذي يشير إليه والذي أعرفه: فهو أثر عن عمر وعلي رضي الله عنهما: أنهما قضيا بذلك حكم به القاضي شريح

(4)

.

" قول: (وَبَقِيَ قَوْمٌ عَلَى الأَصْلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ هَذَا الحَدِيثُ).

وهو عدم التخيير وأن يبقى في الحضانة.

* قول: (وَالجُمْهُورُ عَلَى أن تَزْوِيجَهَا لِغَيْرِ الأَبِ يَقْطَعُ الحَضَانَةَ

(5)

؛ لِمَا رُوِيَ أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي"

(6)

، وَمَنْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ هَذَا الحَدِيثُ طَرَدَ الأَصْلَ).

= وإن فضل أحدهما صاحبه بدين أو مال أو محبة (كان عند من اختاره منهما) إن ظهر للحاكم أنه عارف بأسباب الاختيار".

(1)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 501)؛ حيث قال:" (وإذا بلغ الغلام سبع سنين عاقلًا واتفق أبواه أن يكون عند أحدهما جاز)؛ لأن الحق في حضانته إليهما لا يعدوهما (وإن تنازعا)؛ أي: الأبوان (فيه)؛ أي: في حضانته (خيره الحاكم بينهما فكان مع من اختار منهما) ".

(2)

يُنظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (493)، حيث قال:"قال رحمه الله (ولا خيار للولد) عندنا، وبه قال مالك، وقال الشافعي: يخير، وعند أحمد إذا بلغ سبع سنين يخير الغلام، وتسلم الجارية إلى الأب من غير تخيير". وانظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 566).

(3)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 526)؛ حيث قال: " (وحضانة الذكر) المحقق من ولادته (للبلوغ)

إلى أن قال: (و) حضانة (الأنثى)(كالنفقة)؛ يعني: حتى يدخل بها الزوج، وليس مثل الدخول الدعاء له في المطيقة بالتشبيه فالنفقة في الجملة اللأم) ".

(4)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 156) ولفظه: "اختصم أب وأم في ابن لهما إلى عمر بن الخطاب؛ فخيره فاختار أمه فانطلقت به".

(5)

تقدَّم.

(6)

تقدَّم.

ص: 6128

طرد الأصل: يعني: أنه بقي على الأصل، لكن هذا حديث حسن وهو حجة.

* قوله: (وَأَمَّا نَقْلُ الحَضَانَةِ مِنَ الأُمِّ إِلَى غَيْرِ الأَبِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ).

المؤلف تكلم عن الغلام ولم يتكلم عن الجارية: والجارية اختلف فيها العلماء إذا بلغت سبع سنين؛ لأنها تختلف عن الولد؛ فالجارية تحتاج إلى ملاحظة أكثر، وإلى عناية وإلى متابعة؛ لأنه يخشى عليها أكثر مما يخشى على الغلام.

فعند أحمد

(1)

: تنتقل كفالتها لوالدها ولا تبقى عند أمها؛ لأن الأب هو الأقدر على حفظها ورعايتها وصيانتها.

والشافعي

(2)

: يرى أن لا فرق بين الغلام والجارية؛ فيرى أنها تخير.

وأبو حنيفة

(3)

ومالك

(4)

: يريان أنها تبقى على الأصل في الحضانة.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(1)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 502)؛ حيث قال:" (والجارية إذا بلغت سبع سنين فأكثر فعند أبوها إلى البلوغ) وجوبًا (وبعده)؛ أي: البلوغ تكون (عنده)؛ أي: الأب (أيضًا إلى الزفاف) بوزن كتاب (وجوبًا ولو تبرعت الأم بحضانتها)؛ لأن الغرض من الحضانة الحفظ، والأب أحفظ لها، وإنما تخطب منه فوجب أن تكون تحت نظره؛ ليؤمن عليها من دخول النساء".

(2)

تقدَّم.

(3)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 566)؛ حيث قال: " (والأم والجدة) لأم أو لأب (أحق بها) بالصغيرة (حتى تحيض)؛ أي: تبلغ في ظاهر الرواية

إلى أن قال: (وغيرهما أحق بها حتى تشتهى) وقدر بتسع وبه يفتى".

(4)

تقدَّم.

ص: 6129

(البَابُ الخَامِسُ فِي الأَنْكِحَةِ المَنْهِيِّ عَنْهَا بِالشَّرْع وَالأَنْكِحَةِ الفَاسِدَةِ وَحُكْمِهَا)

النهي دائمًا يُتلقى عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، والنهي الذي يأتي عن الله إنما هو مسجل مسطور مدون في كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قطب هذه الشريعة الذي تدور عليه، الذي من عمل به وُفق إلى الطريق السوي، ومَن حكم به عدل، ومن خرج عنه وطلب الهدى في غيره أضله الله، فكتاب الله عز وجل الأوامر والنواهي منه.

وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك أنكحة سيعرض لها المؤلف، وهناك أمور يحصل بسببها فساد النكاح سيعرض لها بإيجاز، وسنأخذها إن شاء الله واحدًا واحدًا.

* قوله: (وَالأَنْكِحَةُ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ فِيهَا مُصَرَّحًا أَرْبَعَةٌ: نِكَاحُ الشِّغَارِ، وَنِكَاحُ المُتْعَةِ).

مصرحًا: يعني: ورد النهي فيها صريحًا

(1)

.

يقول أهل اللغة: ونكاح الشغار سمي شغارًا من شغار الكلب، لأنه عرف عن الكلب أنه إذا أراد أن يتبول يرفع إحدى رجليه؛ فشبه من يعمل ذلك العمل بالكلب

(2)

من باب الذلة والحقارة، لأن مَن يتشبه بالكلب إنما يتشبه بأمر حقير؛ ولذلك الشاعر يقول:

(1)

سيأتي عند كلام ابن رشد.

(2)

"نكاح الشغار" سمي شغارًا، لارتفاع المهر بينهما، من شغر الكلب: إذا رفع رجله ليبول ويجوز أن يكون من شغر البلد، إذا خلا، لخلو العقد عن الصداق. انظر: المطلع على ألفاظ المقنع، للبعلي (ص 392).

ص: 6130

ومن جعل الغراب له دليلًا

يمر به على جيف الكلاب

(1)

الإنسان عندما يتبع الغراب إلى أين سيأخذه؛ هو يبحث عن الجياف؛ كذلك من يسلك طريق الردى فإن مصيره ونهايته كنهاية من يتبع هذا الغراب؛ فإن الذي يتبع أهل المعاصي وأهل الردى إنما يوقعونه بمثل من يقتدي بهذا الغراب مع الفارق أيضًا؛ لكن هنا الأمر أخطر وأكبر إذا كان هناك أمور جاء النهي عنها صريحًا في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

والنهي إذا لم يوجد ما يصرفه فإنه يبقى على التحريم

(2)

؛ منها نكاح الشغار.

ونكاح المتعة كان جائزًا في أول الأمر؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أباح ذلك للصحابه لشدة الحاجة إليه ثم حرم

(3)

.

والمتعة معناها: أن الرجل يعقد على المرأة لفترة معينة وهذا لا يجوز في النكاح، فالنكاح ليس له وقت محدد؛ نعم قد يتزوج الرجل المرأة ويطلقان هذا حق له، لكن أن يتزوجها لمدة شهر أو عشرين يومًا أو لفصل الصيف؛ فهذا أمر لا يجوز؛ لأن هذا قد حرمه الله سبحانه وتعالى.

وهناك أمور مباحة في أول الأمر، ثم نجد بعد ذلك أنها حرمت؛ فالخمر لم يرد تحريمها مرة واحدة؛ فإنها مرت بمراحل:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]؛ فامتنع عنها بعض الناس قالوا: ما دام إثمها أكبر من نفعها فلا خير فيها فندعها.

(1)

بيت من الوافر، وهو في: حياة الحيوان، للدميري (2/ 244)، زهر الأكم، لليوسي (1/ 220) من غير نسبة.

(2)

يُنظر: "شرح الكوكب المنير"، لابن النجار (3/ 83)؛ حيث قال:" (فإن تجردت) صيغة النهي عن المعاني المذكورة والقرائن (فـ) هي التحريم) عند الأئمة الأربعة".

(3)

سيأتي عند كلام ابن رشد.

ص: 6131

ثم جاءت الآية الأخرى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]؛ فقالوا: ما يشغلنا عن الصلاة لا خير فيه، وكف بعض الناس.

حتى جاءت الآية التي حسمت الأمر وحرمت الخمر تحريمًا قاطعًا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 90، 91].

ويقول العلماء: إن قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} المصدرة بالاستفهام أشد بلاغًا وقوة من قوله: (انتهوا)؛ ولذلك: قالوا انتهينا انتهينا!

* قوله: (وَالخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ).

يعني: لا يجوز للمسلم أن يخطب على خطبة أخيه.

* قوله: (وَنِكَاحُ المُحَلِّلِ).

هذا يحصل إذا طلق الرجل زوجته ثلاثًا قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، والمحلل: هو الذي يتزوجها بنية أن يحللها للآخر، وهذا أمر محرم ولا يجوز، أما أن يتزوجها دون أن يقصد التحليل، ثم بعد ذلك يطلقها ويحصل المسيس فإنها تجوز للأول، وسنتكلم عن ذلك كله تفصيلًا - إن شاء الله -.

* قوله: (فَأَمَّا نِكَاحُ الشِّغَارِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صِفَتَهُ هُوَ: أَنْ يُنْكِحَ الرَّجُلُ وَليَّتَهُ رَجُلًا آخَرَ عَلَى أَنْ يُنْكِحَهُ الآخَرُ وَليَّتَه، وَلَا صَدَاقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بُضْعَ هَذِهِ بِبُضْعِ الأُخْرَى)

(1)

.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 105)؛ حيث قال: " (قوله: هو أن يزوجه

إلخ) قال في "النهر": وهو أن يشاغر الرجل؛ أي: يزوجه حريمته على أن يزوجه الآخر حريمته ولا مهر إلا هذا". =

ص: 6132

أما الشغار: فقد جاء عنه أحاديث في "الصحيحين" وفي غيرهما: "أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار"

(1)

.

وقال عليه الصلاة والسلام في حديث عند مسلم: "لا شغار في الإسلام"

(2)

، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه

(3)

.

وهذا حديث متفق عليه عن ابن عمر وأبي هريرة، وجاء في بعض الأحاديث تفسيرها: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ولا صداق بينهما" فيقول هذا: زوجتك ابنتي أو زوجتك أختي! ويقول هذا: زوجتك أختي أو زوجتك ابنتي! ولا صداق بينهما.

ويقول عليه الصلاة والسلام: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"

(4)

؛ كل عمل ليس على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحبه

(5)

،

= مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 307)؛ حيث قال:"ثم نقله الفقهاء واستعملوه في رفع المهر من العقد، وإنما سمي القسم الأول وجهًا لأنه شغار من وجه دون وجه؛ فمن حيث إنه سمى لكل منهما صداقًا فليس بشغار لعدم خلو العقد عن الصداق، ومن حيث إنه شرط تزوج إحداهما بالأخرى فهو شغار فكأن التسمية فيهما كلا تسمية؛ فلذا سمي وجه الشغار، وأما تسمية القسم الثاني صريحًا فهو واضح للخلو عن الصداق".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 215)؛ حيث قال:" (زوجتكها)؛ أي: بنتي (على أن تزوجني)، أو تزوج ابني مثلًا (بنتك وبضع كل واحدة) منهما (صداق الأخرى فيقبل) ذلك".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 93)؛ حيث قال:" (وهو أن يزوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ولا مهر بينهما)؛ أي: (سكتا عنه أو شرطا نفيه ولو لم يقل وبضع كل واحدة منهما مهر الأخرى) ".

(1)

أخرجه البخاري (5112)، ومسلم (1415).

(2)

أخرجه مسلم (1415).

(3)

يُنظر: "شرح الكوكب المنير"، لابن النجار (3/ 84)؛ حيث قال:"ورود صيغة النهي "مطلقة عن شيء لعينه) أي لعين ذلك الشيء كالكفر والظلم والكذب ونحوها من المستقبح لذاته: يقتضي فساده شرعًا عند الأئمة الأربعة".

(4)

أخرجه مسلم (1718).

(5)

الحديث بالمعنى وتقدم تخريج نصه.

ص: 6133

والإسلام ليس فيه شغار، لأن فيه ظلمًا لكل من وليتيهما، هذا وفيه تعد على حقوقهما، والله سبحانه وتعالى حرم الظلمِ وجعله بينناج محرمًا، والله سبحانه وتعالى قال:{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]؛ فالله تعالى نهانا عن أن نتعدى حدوده.

وزواج الشغار عمل قبيح؛ لأنه شبه بالكلب لما فيه من القبح والذلة والمهانة، لكن لو جعل فيه مهر ففيه خلاف بين العلماء، فعلة الفساد أن هذا النكاح لا مهر فيه.

فواجب كل مسلم أن يبتعد عما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالًا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أمرنا به صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز بقوله:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]؛ ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما دعانا إليه ورغبنا فيه وحثنا عليه؛ فينبغي أن نسارع وأن نسابق إلى فعله، وما نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس فيه الخير، بل ليس فيه إلا الشر؛ فيجب أن نبتعد عن ذلك وألا نفعله؛ استجابة لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعملًا بقوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"

(1)

.

والله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمنع المسلمين من كثرة السؤال، ونهى عن قيل وقال وكثرة السؤال

(2)

؛ ولذلك كان الصحابه رضي الله عنهم يتمنون إذا جاء

(1)

أخرجه مسلم (1337) ولفظه: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".

(2)

أخرجه البخاري (1477)، ومسلم (593).

ص: 6134

الرجل الأعرابي من البادية؛ ليسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما قدموا له شيئًا ليسأله صلى الله عليه وسلم

(1)

* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ نِكَاحٌ غَيْرُ جَائِزٍ لِثُبُوتِ النَّهْي عَنْه، وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَ، هَلْ يُصَحَّحُ بِمَهْرِ المِثْلِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ

(2)

: لَا يُصَحَّح، وَيُفْسَخُ أَبَدًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ).

وهي رواية عن الإمام أحمد

(3)

.

* قوله: (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(4)

، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنْ سَمَّى لإِحْدَاهُمَا صَدَاقًا أَوْ لَهُمَا مَعًا، فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ بِمَهْرِ المِثْلِ، وَالمَهْرُ الَّذِي سَمَّيَاهُ فَاسِدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(5)

: نِكَاحُ الشِّغَارِ يَصِحُّ بِفَرْضِ صَدَاقِ المِثْلِ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ

(6)

،

(1)

أخرجه مسلم (12) ولفظه: "نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع".

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 307)؛ حيث قال:" (وإن لم يسم) لواحدة منهما (فصريحه وفسخ) النكاح (فيه)؛ أي: في الصريح أبدًا، وفيه بعد البناء صداق المثل هذا إذا كان صريحًا فيهما".

(3)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 93)؛ حيث قال:"ولا تختلف الرواية عن أحمد أن نكاح الشغار فاسد".

(4)

يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 215)؛ حيث قال:"وعلة البطلان التشريك في البضع؛ لأن كلًّا جعل بضع موليته موردًا للنكاح وصداقًا للأخرى فأشبه تزويجها من رجلين؛ (فإن لم يجعل البضع صداقًا) بأن قال: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك ولم يزد فقبل (فالأصح الصحة) للنكاحين بمهر المثل لانتفاء التشريك في البضع".

(5)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 106)؛ حيث قال: " (ووجب مهر المثل في الشغار) هو أن يزوجه ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته أو أخته مثلًا معاوضة بالعقدين وهو منهي عنه لخلوه عن المهر، فأوجبنا فيه مهر المثل فلم يبق شغارًا".

(6)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 466)؛ حيث قال:"وقال أبو حنيفة إذا قال: أزوجك ابنتي على أن تزوجني ابنتك وتكون لكل واحدة بالأخرى فهو الشغار ويصح النكاح بمهر المثل. وهو قول الليث وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وبه قال الطبري".

ص: 6135

وَأَحْمَدُ

(1)

، وَإِسْحَاق، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالطَّبَرِيُّ

(2)

).

قال به أحمد في الرواية الأخرى.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ النَّهْيُ المُعَلَّقُ بِذَلِكَ مُعَلَّلٌ بِعَدَمِ العِوَضِ أَوْ غَيْرُ مُعَلَّلٍ؟).

مراد المؤلف: ما السبب في النهي عن نكاح الشغار: هل هو لخلو العقد من العوض أو لسبب آخر؟

* قوله: (فَإِنْ قُلْنَا: غَيْرُ مُعَلَّلٍ، لَزِمَ الفَسْخُ عَلَى الإِطْلَاقِ. وَإِنْ قُلْنَا: العِلَّةُ عَدَمُ الصَّدَاقِ، صَحَّ بِفَرْضِ صَدَاقِ المِثْلِ، مِثْلَ العَقْدِ عَلَى خَمْرٍ أَوْ عَلَى خِنْزِيرٍ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أن النِّكَاحَ المُنْعَقِدَ عَلَى الخَمْرِ وَالخِنْزِيرِ لَا يُفْسَخُ إِذَا فَاتَ بِالدُّخُولِ، وَيَكُونُ فِيهِ مَهْرُ المِثْلِ)

(3)

.

معلل: أي: معروف العلة.

غير معلل: أي: علِّيته غير معقولة لا ندركها بالعقل.

وقد مرت عدة أمثلة وشواهد على هذا وذاك، والمؤلف يكثر من هذه العبارة معلل أو غير معلل.

(1)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 93)؛ حيث قال:" (فإن سموا) لكل واحدة منهما (مهرًا كأن يقول: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك ومهر كل واحدة مائة أو) قال أحدهما (ومهر ابنتي مائة ومهر ابنتك خمسون أو أقل) منها (أو أكثر صح) العقد عليها (بالمسمى نصًّا) قال في "المجرد" و"الفصول" في المثال المذكور: المنصوص عن أحمد أن النكاح صحيح وقال الخرقي: باطل قالا".

(2)

تقدَّم.

(3)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 22)؛ حيث قال:"وأجمع العلماء أن الخمر والخنزير لا يكونان مهرًا لمسلم، وكذلك الغرر والمجهول وسائر ما نهي عن ملكه وملك على غير وجهه وسنه. وأجمعوا مع ذلك على أن المهر الفاسد إذا فات بالدخول فلا يفسخ لفساد صداقة، ويكون فيه مهر المثل".

ص: 6136

والعلماء اتفقوا: على أن نكاح الشغار لا يجوز لما جاء في النهي عنه.

لكن لو صحح ذلك؛ بأن جعل مهر المثل فيه الخلاف:

فالذين أجازوا ذلك قالوا: لو أن إنسانًا عقد على امرأة فدفع لها صداقها خمرًا أو خنزيرًا أو ميتة أو دمًا فذلك لا يجوز: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]؛ فهذه أمور لا تجوز، ومع ذلك يصحح العقد بأن يلغى هذا المهر ويوضع مهر المثل فيصح العقد بهذا.

فيقولون: ليس ذلك أسوأ من أن يقدم مهرها لحم خنزير أو ميتة أو نحو ذلك.

ومسائل كثيرة يسلك فيها المالكية قياس النكاح على البيوع، لكن البيع يختلف عن النكاح تمامًا، فأكثر ما يتعلق بالنكاح يبقى العقد صحيحًا، ويصحح ما يتعلق به وهو المهر، بخلاف البيع فإن الأمر يختلف فيه عن النكاح، لأنه إذا حصل فساد الثمن بطل المثمن.

* قوله: (وَكأَنَّ مَالِكًا رضي الله عنه رَأَى أَنَّ الصَّدَاقَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ العَقْدِ، فَفَسَادُ العَقْدِ هَاهُنَا مِنْ قِبَلِ فَسَادِ الصَّدَاقِ مَخْصُوصٌ لِتَعَلُّقِ النَّهْيِ بِهِ، أَوْ رَأَى أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ تَعْيِينِ العَقْدِ، وَالنَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ المَنْهِيِّ).

مراد المؤلف: أن النهي ربما وجه إلى أصل العقد، فإذا كان يشمل أصل العقد فمهما صحح ما يتعلق بالمهر يبقى فاسدًا ولا يصح.

وبعض العلماء: يرى أن ذلك يُتدارك.

لكن العلماء الذين منعوا ذلك قالوا: هو أمر بني أصلًا على باطل؛ فهو أصلًا لا يصح؛ فلا ينبغي أن يبقى صحيحًا حتى وإن صحح المهر فيه.

ص: 6137

* قوله: (أَمَّا نِكَاحُ المُتْعَةِ

(1)

، فَإِنَّهُ وَإِنْ تَوَاتَرَتِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَحْرِيمِهِ إِلَّا أَنَّهَا اخْتَلَفَتْ فِي الوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّحْرِيم، فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّهُ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ

(2)

، وَفِي بَعْضِهَا: يَوْمَ الفَتْحِ

(3)

، وَفِي بَعْضِهَا: فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ

(4)

، وَفِي بَعْضِهَا: فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ

(5)

، وَفِي بَعْضِهَا: فِي عُمْرَةِ القَضَاءِ

(6)

، وَفِي بَعْضِهَا: فِي عَامِ أَوْطَاسَ

(7)

).

(1)

نكاح المتعة: هو المؤقت في العقد، وقال في "العباب":"كان الرجل يشارط المرأة شرطًا على شيء إلى أجل معلوم ويعطيها ذلك فيستحل بذلك فرجها ثم يخلي سبيلها من غير تزويج ولا طلاق". انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 562).

(2)

أخرجه البخاري (5523) ومسلم (1407) ولفظه عن علي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية".

(3)

أخرجه مسلم (1406): عن الربيع بن سبرة الجهني، عن أبيه، أنه أخبره؛ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة زمان الفتح - متعة النساء - وأن أباه كان تمتع ببردين أحمرين".

(4)

أخرجه ابن حبان (9/ 456) ولفظه: "لما خرج نزل ثنية الوداع فرأى مصابيح وسمع نساء يبكين فقال: "ما هذا؟ " قالوا: يا رسول الله، نساء كانوا تمتعوا منهن أزواجهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هدم - أو قال: حرم - المتعةَ: النكاحُ والطلاقُ والعدةُ والميراثُ"". وحسنه الألباني في "التعليقات الحسان"(4137).

(5)

أخرجه أبو داود (2072) ولفظه: "كنا عند عمر بن عبد العزيز، فتذاكرنا متعة النساء، فقال له رجل: يقال له ربيع بن سبرة: أشهد على أبي أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عنها في حجة الوداع". قال الألباني: "شاذ والمحفوظ زمن الفتح".

(6)

أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(9/ 455): ولفظه: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضينا عمرتنا قال لنا: "استمتعوا من هذه النساء" قال: والاستمتاع عندنا يومئذ التزويج فعرضنا بذلك النساء أن نضرب بيننا وبينهن أجلًا

قائم يخطب الناس وهو يقول: "أيها الناس إني قد أذنت لكم في الاستمتاع في هذه النساء، ألا وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة؛ فمن كان عنده منهن شيئًا فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا"". وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (4135).

(7)

أخرجه مسلم (1405) ولفظه "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثًا ثم نهى عنها".

ص: 6138

هذه الأشياء الستة التي أوردها المؤلف بعضها صححها العلماء وبعضها ضعفوها.

والمتعة لا شك أن عامة العلماء يذهبون إلى أنها محرمة، وأنها كانت جائزة في أول الأمر ثم بعد ذلك حرمت.

* قوله: (وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ

(1)

وَجَمِيعُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ عَلَى تَحْرِيمِهَا

(2)

، وَاشْتُهِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَحْلِيلُهَا

(3)

، وَتَبعَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَى القَوْلِ بِهَا أَصْحَابُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ اليَمَنِ، وَرَوَوْا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَحْتَجُّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، وَفِي حَرْفٍ عَنْهُ:"إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى". وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "مَا كَانَتِ المُتْعَةُ إِلَّا رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ عز وجل رَحِمَ بِهَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم "

(4)

).

(1)

روي عن علي وعمر وابنه وابن الزبير وغيرهم رضي الله عنهم جميعًا -. يُنظر: "مصنف ابن أبي شيبة" باب في نكاح المتعة وحرمتها (3/ 55).

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 51)؛ حيث قال: " (وبطل نكاح متعة، ومؤقت)، وإن جهلت المدة أو طالت في الأصح".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 238 - 239)؛ حيث قال:" (و) فسخ النكاح (مطلقًا) قبل الدخول وبعده (كالنكاح لأجل) عين الأجل أولًا وهو المسمى بنكاح المتعة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 214) "حيث قال:" (ولا) (توقيته) بمدة معلومة، أو مجهولة فيفسد لصحة النهي عن نكاح المتعة".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 96)؛ حيث قال: " (نكاح المتعة) سمي بذلك لأنه يتزوجها ليتمتع بها إلى أمد (وهو أن يتزوجها إلى مدة) معلومة أو مجهولة (مثل أن يقول) الولي (زوجتك ابنتي شهرًا أو سنة).

(3)

أخرجه الترمذي (1122) ولفظه: عن ابن عباس قال: "إنما كانت المتعة في أول الإسلام: كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شيئه، حتى إذا نزلت الآية: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قال ابن عباس: فكل فرج سوى هذين فهو حرام". قال الألباني: "منكر".

(4)

أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 26) عن ابن عباس قال: "ما كانت =

ص: 6139

نعم؛ كانت رحمة من الله عز وجل وللتخفيف عنهم والنظر إلى حالهم، لكن بعد ذلك حرمت عندما زال ذلك الأمر.

والعلماء اختلفوا في هذا وموضع الخلاف: ما ورد عن عبد الله بن عباس أنه كان يجيزه، وكافة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم يقولون بتحريمها.

وعبد الله بن عباس لما سئل عن ذلك قام خطيبًا في الناس فقال: "إن المتعة كالميتة والدم ولحم الخنزير، وإنها نسخت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "

(1)

والله تعالى يقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} ؛ فإن ابن عباس قاس المتعة على الميتة والدم ولحم الخنزير، وهذه كلها مجمع على تحريمها، وإنما الخلاف في يسير الدم كما مر.

ومحل الخلاف: هل كانت مباحة ثم حرمت، ثم أبيحت ثم حرمت؟ أو أنها كانت في الأول مباحة ثم حرمت؟ ومتى كان تحريمها: هل كان في غزوة خيبر أو كان في عام الفتح أو كان في أوطاس؟

ومما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أباح المتعة في عام الفتح وحرمها في نفس العام، هذا أمر ثبت.

لكن في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر"

(2)

. هنا ورد الجمع بين المتعه وبين لحوم الحمر الأهلية؛ ولذلك ذهب المحققون من العلماء إلى أن في الحديث تقديمًا وتأخيرًا، وأن أصل الحديث:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، وعن المتعة".

= المتعة إلا رحمة رحم الله بها هذه الأمة، ولولا نهي عمر بن الخطاب عنها ما زنى إلا شقي. قال عطاء: كأني أسمعها من ابن عباس: إلا شقي".

(1)

"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 334)، حيث قال:"فقال ابن عباس: ما هذا أردت، وما بهذا أفتيت في المتعة، إن المتعة لا تحل إلا لمضطر، ألا إنما هي كالميتة والدم ولحم الخنزير".

(2)

تقدَّم.

ص: 6140

قالوا: وعلي رضي الله عنه عندما قال ذلك قال ذلك احتجاجًا على عبد الله بن عباس في إجازة ذلك، فذكر له الأمرين معًا فقال له:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر وعن المتعة" فجمعهما في قول واحد؛ لأنه يردُّ على عبد الله بن عباس في إباحته ذلك، أو فيما قيل عنه، وإلا فإن التحريم إنما كان يوم الفتح.

وأُثر عن الإمام الشافعي أنه قال: "ما أحل الله سبحانه وتعالى شيئًا ثم حرمه ثم أحله ثم حرمه إلا المتعة"

(1)

، فالشافعي أخذ بظاهر الأحاديث؛ أي: حديث علي الذي ورد في ذلك، وهو أن المتعة كانت حلالًا ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت عام الفتح، ثم حرمت في هذا العام، وفي بعض الروايات:"أنها أبيحت ثلاثة أيام" ثم بين الرسول صلى الله عليه وسلم تحريمها إلى يوم القيامة.

ومهما يكن من أمر: فإن الأدلة الصحيحة صريحة في تحريم المتعة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة حصل شيء من المتعة أباحها الرسول صلى الله عليه وسلم لشدة الحاجة إلى ذلك، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين تحريمها، وأن ذلك سارٍ إلى يوم القيامة؛ فأصبح واضحًا أن آخر ما قيل عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء في الصحيح بتحريم المتعة، وهذا ما قال به العلماء كافة.

وأما من قال بجواز المتعة: فهذا قول شاذ ولا دليل له من كتاب أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاحتجاج بقول ابن عباس حتى ولو قدر وصح عنه؛ فجميع الصحابة رضي الله عنهم قد خالفوا ابن عباس في ذلك، وممن رد عليه علي بن أبي طالب

(2)

، وبين له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم ذلك، وما قال به بعض أصحابه فهو اتباع لعبد الله بن عباس، مع أنه قد جاء عن

(1)

ذكره الحافظ، فقال:"حكى العبادي في "طبقاته" عن الشّافعي قال: ليس في الإسلام شيء أحل ثم حرم، ثم أحل ثم حرم إلا المتعة". انظر: "التلخيص الحبير"(5/ 2271).

(2)

أخرجه البخاري (5115) واللفظ له، ومسلم (407/ 321)، وفيه:"أن عليًّا رضي الله عنه قال لابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر".

ص: 6141

عبد الله بن عباس: "أنه قام في الناس خطيبًا لما سئل عن المتعة فقال: إن المتعة كالخمر والميتة والخنزير وإن ذلك قد نسخ إلى يوم القيامة"، وأما الذين يتشبثون ببعض الأقوال التي تنسب إلى العلماء من الصحابة أو من غيرهم، ويقفون عندها ويجعلون ذلك ذريعة للإباحة؛ فذلك قول مردود لا يلتفت إليه ولا ينظر إليه؛ لأن الذي يحل ويحرم إنما هو الله سبحانه وتعالى والذي وصل إلينا عن طريقه التحريم والتحليل إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* قول: (وَلَوْلَا نَهْيُ عُمَرَ عَنْهَا مَا اضْطُرَّ إِلَى الزِّنَا إِلَّا شَقِيٌّ، وَهَذَا الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ).

وعمر رضي الله عنه عندما نهى عنها لم يكن نهيه عنها لتشفٍّ ورغبة منه رضي الله عنه، وإنما جاء نهيه بناءً على نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم" فهو قد تلقى وأخذ هذا النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* قول: (وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: "تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأَبِي بَكْرٍ وَنِصْفًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا عُمَرُ النَّاسَ"

(1)

).

هذا الذي حصل إنما هو في متعة الحج، والأدلة في ذلك كثيرة جدًّا، وهي صريحة في تحريمها، ومهما قيل ومهما علل ومهما احتج بأن عمر أنه قال:"متعتان أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعتا الحج والنساء"

(2)

، واعتبروا ذلك حجة للذين يقولون بجوازها، فهذا حقيقة احتجاج في غير محله.

(1)

أخرجه مسلم (1405) ولفظه: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيامَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث".

(2)

أخرجه مسلم (1405) ولفظه: "كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهانا عنهما عمر، فلم نعد لهما".

ص: 6142

* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي النِّكَاحِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ الخِطْبَةُ عَلَى خِظبِةِ غَيْرِهِ

(1)

).

الكلام فيه تفصيل، لأن الإنسان إذا تقدم إلى خطبة فتاة فسكن أهلها إليه بأن أجابت المرأة بالموافقة، أو وكلت الأمر لوليها بأن يجيبه بالموافقة؛ فهذا يعتبر تمت الموافقة، فلا يجوز لمسلم أن يخطب على خطبة أخيه جاء في ذلك عدة أحاديث منها حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه"

(2)

.

وفي حديث أبي هريرة أيضًا وهو متفق عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك"

(3)

. وغيرهما من الأحاديث كثير.

ومن يفعل ذلك متعدٍّ؛ لما في ذلك من الإفساد؛ ولأنه يورث العداوة والبغضاء بين المسلمين، والإسلام ينهى عن أن تقع العداوة أو أن تحل الفرقة بين المؤمنين؛ فالإسلام يدعو إلى جمع الكلمة ولم الشمل وجمع

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 534)؛ حيث قال: "نهى عن الخطبة على خطبة الغير والمراد من ذلك أن يركن قلب المرأة إلى خاطبها الأول".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 217)؛ حيث قال:" (وحرم خطبة امرأة راكنة) إن كانت غير مجبرة وإلا فالعبرة بمجبرها (لغير) خاطب (فاسق) في دينه".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 203 - 204)؛ حيث قال:" (وتحرم) على عالم بالخطبة وبالإجابة وبصراحتها وبحرمة الخطبة على الخطبة (خطبة على خطبة من) جازت خطبته وإن كرهت و (قد صرح) لفظًا (بإجابته) ".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 18)، حيث قال:" (ولا يحل لرجل أن يخطب) امرأة على خطبة مسلم".

(2)

أخرجه البخاري (5142) ولفظه: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب"، ومسلم (1412).

(3)

أخرجه البخاري (5144) ومسلم (1414).

ص: 6143

الصفوف لتكون كلمة المسلمين كلمة واحدة؛ ولهذا رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض"

(1)

؛ فإذا بعت على بيع أخيك أوجدت الشحناء والبغضاء في نفسه؛ فربما يؤدي ذلك إلى الخلاف والخلاف بعد ذلك يؤدي إلى العداوة والبغضاء، والله أعلم ما قد يحصل بعد ذلك من الفساد، والله تعالى لا يحب الفساد؛ لذلك نجد أن الرسول نهى عن عدة أمور: "لا تناجشوا لا تباغضوا

" ثم قال: "وكونوا عباد الله إخوانًا"

(2)

.

وفاطمة بنت قيس عندما طلقها زوجها ثلاثًا وأرسل إليها بشعير فسخطته فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبره الخبر فقال: "ليس لك شيء" وكان وكيلها قد قال: "ليس لك علينا من شيء". الشاهد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: "تلك امرأة يغشاها أصحابي؛ اعتدي في بيت ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده" ثم قال عليه الصلاة والسلام: "فإذا حللت فأذنيني"؛ فلما انتهت عدتها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بأنه قد خطبها معاوية بن أبي سفيان وأبو جهم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه"

(3)

وفي رواية: "رجل ضراب للنساء" ثم قال لها: "انكحي أسامة بن زيد" فكأنها سخطته في أول الأمر وترددت، بل جاء في

(1)

تقدَّم.

(2)

أخرجه البخاري (6066) ولفظه: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا"، ومسلم (2563).

(3)

أخرجه مسلم (1480) ولفظه: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال:"ليس لك عليه نفقة"، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك

فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد" فكرهته، ثم قال:"انكحي أسامة"، فنكحته فجعل الله فيه خيرًا واغتبطت به".

ص: 6144

بعض الروايات أنها تشير بيدها أن أسامة أسامة!

(1)

. فأرشدها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه الخير لها فقال: "أطيعي الله ورسوله" فنكحت أسامة فاغتبطت به؛ أي: سعدت به ووجدت في هذا النكاح الخير وأدركت ما أرشدها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشاهد هنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أشار إليها بأن ترجع إليه فإذا لم يتم الركون فجائز الرجوع في الخطبة.

* قوله: (فَقَدْ تَقَدَّمَ أن فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِالفَسْخِ).

وهذا قول الإمام مالك

(2)

وداود

(3)

.

* قوله: (وَقَوْلٌ بِعَدَمِ الفَسْخِ).

وهذا قول الإمامين الشافعي

(4)

وأحمد

(5)

.

وعلة الذين قالوا بعدم الفسخ: أن الذي خطب على خطبة أخيه إنما ارتكب محظورًا لكن لم يذكر في العقد ولم يكن من ضمن شروطه؛ فإننا

(1)

أخرجه مسلم (1480) ولفظه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما معاوية فرجل ترب لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء، ولكن أسامة بن زيد" فقالت بيدها هكذا: أسامة أسامة! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طاعة الله وطاعة رسوله خير لك" قالت: فتزوجته فاغتبطت.

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 217)؛ حيث قال:" (وفسخ) عقد الثاني وجوبًا بطلاق، وإن لم يطلبه الخاطب الأول، ولو لم يعلم الثاني بخطبة الأول فيما يظهر (إن لم يبن) الثاني بها وإلا مضى".

(3)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 383)؛ حيث قال:"وقال داود: يفسخ نكاحه على كل حال".

(4)

يُنظر: "النجم الوهاج"، للدميري (7/ 41)؛ حيث قال:"وإذا خطب من حرمت عليه الخطبة وتزوج آثم وصح النكاح، لأن المحرم الخطبة لا العقد".

(5)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 19)؛ حيث قال:" (فإن فعل)؛ أي: خطب على خطبته بعد علمه وعقد عليها (صح العقد كالخطبة)؛ أي: كما لو خطبها (في العدة)؛ لأن المحرم لا يقارن العقد فلم يؤثر فيه".

ص: 6145

نصحح هذا النكاح، لكننا نقول بأن مَن يفعل ذلك قد ارتكب ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آثم بهذا الفعل.

والآخرون يقولون: لا؛ هذا قد تعدى وأخل فيؤثر على العقد فيفسد ذلك النكاح، وهو قول مالك وداود الظاهري.

وأمثال هذه القضايا: لو أن إنسانًا اغتصب أرضًا وصلى فيها

(1)

، الصحيح بأن صلاته صحيحة، لكنه يأثم بأنه اغتصب وسرق هذه الدار.

لو سرق ثوبًا وصلى فيه؛ فإنه آثم على سرقته ويستحق العقاب، لكن صلاته صحيحة كما هو مذهب الجمهور، كذلك لو صلى بثوب حرير ونحوه.

* قوله: (وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ تَرِدَ الخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ الغَيْرِ بَعْدَ الرُّكُونِ وَالقُرْبِ مِنَ التَّمَامِ، أَوْ لَا تَرِدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ

(2)

).

(1)

مذاهب الأئمة في الصلاة في الأرض المغصوبة:

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(1/ 381)؛ حيث قال في الأماكن التي تكره فيها الصلاة: "زاد في "الكافي ": ومرابط دواب وإصطبل وطاحون وكنيف وسطوحها ومسيل واد وأرض مغصوبة أو للغير لو مزروعة أو مكروبة وصحراء فلا سترة لمار".

مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل لمختصر خليل"، لأبي القاسم الغرناطي (2/ 189)؛ حيث قال:"قال المازري: يلزم ابن حبيب أن يعيد أبدًا من صلى في دار مغصوبة أو ثوب مغصوب، والمعروف خلافه".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (2/ 65)؛ حيث قال:"بخلاف الأمكنة تصح في كلها ولو كان اليحل مغصوبًا، لأن النهي فيه كالحرير لأمر خارج منفك عن العبادة فلم يفتض فسادها".

أما مذهب الحنابلة فيبطلون الصلاة في الأرض المغصوبة. يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 270)؛ حيث قال:"وكذا لو صلى في بقعة مغصوبة ولو منفعتها أو بعضها".

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 217)؛ حيث قال: " (وحرم خطبة امرأة راكنة) إن كانت غير مجبرة وإلا فالعبرة بمجبرها (لغير) خاطب (فاسق) في دينه من صالح أو مجهول

إلى أن قال: (وفسخ) عقد الثاني وجوبًا بطلاق".

ص: 6146

يعني: إذا وردت خطبة الرجل على خطبة أخيه بعد الموافقة، فهذا الذي فيه الخلاف، أما إذا لم يوافق له فهذا لا خلاف بين العلماء أن للإنسان أن يتقدم ويخطب، لأنه ما نازع أخاه المسلم في ذلك.

* قوله: (وَأَمَّا نِكَاحُ المُحَلِّلِ، أَعْنِي: الَّذِي يَقْصِدُ بِنِكَاحِهِ تَحْلِيلَ المُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا).

الله سبحانه الله يقول في حكم الطلاق: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، والكلام كله يدور حول المرأة التي يطلقها زوجها طلاقًا بائنًا؛ فإنها في هذه الحالة لا تحل له إلا أن يتزوجها رجل آخر زواجًا صحيحًا ويطؤها كما هو المذهب الصحيح، ثم بعد ذلك يطلقها.

والكلام هنا: هل يجوز لرجل أن يتزوج امرأة مطلقة ثلاثًا ليحللها لزوجها الأول لتعود إليه بدعوى أن هذه المرأة لها أولاد ولها ولها

إلى آخره؟

أما أن يتزوج الإنسان امرأة بعد زوج طلقها ثلاثًا بعقد صحيح، ولم يتلفظ، ولم يحصل شرط بأنه إنما تزوجها ليحلها، ولم يعزم ذلك في قلبه، ثم بعد ذلك بدا له أن يطلقها رغب عنها حينئذ ترجع للأول ولا خلاف على ذلك.

لكن الكلام فيمن يتزوج امرأة فيشترط عليه بالعقد، كأن يقول وليها: زوجتكها إلى أن تطأها فبعد الوطء حينئذ تطلقها! هذه صورة من الصور، أو أن يقول: زوجتكها إلى أن تحلها لزوجها الأول.

وهذه القضية حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلاف وأبان الحجة وأوضح الطريق؛ فكان ينبغي أن يوقف عندما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه في حديث عائشة المتفق عليه قالت: جاءت تميمة زوجة رفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي - يعتي: ثلاثة - فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما

ص: 6147

معه مثل هدبة الثوب - هذا تعريض بأن الرجل لا يستطيع أن يقوم بحقها - فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"

(1)

.

عسيلة: تصغير العسل يصغر على عسيل؛ لأن هناك صيغًا معروفة للتصغير: "فُعيل وفُعيلِل وفُعيلِيل"؛ فالثلاثي يصغر على "فعيل"؛ فعسل يصغر على عسيل؛ فيقال: عسيل ثم تلحقه التاء للتأنيث فيقال: عسيلة.

وهذا كناية عن لذة الجماع

(2)

؛ فلا بد أن يطأها الزوج الجديد، وإذا لم يحصل وطء فلا.

ولم يخالف في هذه المسألة إلا سعيد بن المسيب

(3)

، وهو من كبار التابعين وحجته في ذلك قول الله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 231]؛ فليس هناك شرط المسيس، والنكاح يطلق على العقد؛ فلو دخل بها ولم يحصل مسيس ظاهر الآية كذلك، ولم يوافق أحد سعيد بن المسيب في قوله هذا، ولم يتبعه أحد من العلماء بعده.

والعلماء قاطبة اتفقوا على خلاف هذا الرأي، وحجتهم حديث رفاعة الذي مر قبل قليل.

(1)

أخرجه البخاري (6084)، ومسلم (1433) ولفظه: أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إنها كانت تحت رفاعة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه إلا مثل الهدبة، وأخذت بهدبة من جلبابها، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا، فقال:"لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته".

(2)

وهذه استعارة لطيفة؛ فإنه شبه لذة الجماع بحلاوة العسل أو سمى الجماع عسلًا، لأن العرب تسمي كل ما تستحليه عسلًا، وأشار بالتصغير إلى تقليل القدر الذي لا بد منه في حصول الاكتفاء به. قال العلماء: وهو تغييب الحشفة لأنه مظنة اللذة.

انظر: "المصباح المنير"، للفيومي (2/ 410).

(3)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 447)؛ حيث قال:"وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد بن المسيب فإنه قال: جائز أن ترجع إلى الأول إذا طلقها الثاني وإن لم يمسَّها، وأظنه لم يبلغه حديث العسيلة وأخذ بظاهر القرآن".

ص: 6148

ونقل عن الحسن البصرى

(1)

الإمام المعروف وهو من كبار التابعين أنه قال: لا يكفي الدخول والوطء بل لا بد من الإنزال، وهذا قول انفرد به ولم يوافقه عليه أحد؛ لأن القصد من النكاح إنما هو التقاء الختانين؛ ولذلك يثبت الحد إذا جلس بين شعبها الأربع ويفسد به الصيام والحج ويحصل به الإحصان ويثبت الصداق؛ فإذا التقى الختانان تقرر به هذه الأحكام كلها، والقصد بالتقاء الختانين إنما هو تغييب الحشفة؛ فهذا أمر واضح، فرأى جماهير العلماء أن القصد من ذلك هو مجرد أن يحصل الوطء ولا يشترط الإنزال، وأما مجرد الدخول دون الوطء فإن ذلك لا يكفي.

‌المحلِّل والمحلَّل له ملعونان:

الحديث الأول: حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له". وهذا حديث صحيح أخرجه أحمد

(2)

والترمذي

(3)

والنسائي

(4)

، وإنما الذي يحل ويحرم إنما هو الله سبحانه وتعالى، لكنه لما أراد أن يحل هذه المرأة لذلك الرجل سمي محللًا ويلعن المحلل له إذا رضي وتواطأ معه، أما إذا كان لا يعلم ولا يدري ولا قصد له فلا يدخل في ذلك.

(1)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 447)، حيث قال:"وانفرد أيضًا الحسن البصري فقال: لا تحل للأول حتى يطأها الثاني وطأً فيه إنزال، وقال: معنى العسيلة: الإنزال وخالفه سائر الفقهاء وقالوا: التقاء الختانين يحللها لزوجها".

(2)

أخرجه أحمد (7/ 314) ولفظه: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمتوشمة والواصلة والموصولة والمحل والمحلل له وآكل الربا وموكله". وصححه الألباني في "الإرواء"(1897).

(3)

أخرجه الترمذي (1120) ولفظه؛ "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحل والمحلل له". وصححه الألباني.

(4)

أخرجه النسائي (3416) ولفظه: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمتوشمة والواصلة والموصولة وآكل الربا وموكله والمحلل والمحلل له". وصححه الألباني في "الإرواء"(1897).

ص: 6149

الحديث الثاني: والرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"هو المحلل؛ لعن الله المحلِّل والمحلَّل له"

(1)

. وهو حديث حسن.

"ألا" أداة استفتاح.

(أخبركم) يهيئ أصحابه رضي الله عنهم ليستمعوا إلى ماذا يقول؛ ليكونوا أوعى وأدرك لبيان خطورة هذا الأمر وأهميته.

"بالتيس

(2)

المستعار" هو كمن يذهب فيستعير تيسًا من جاره أو زميله لينزو على غنمه؛ فهذا تشبيه لينفر من هذا العمل.

الحديث الثالث: حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله المحلِّل والمحلَّل له"

(3)

، واللعن: هو الطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى.

واللعن إما أن يكون خبر عن الله سبحانه والمخبر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن كان من الله فهو إخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا خبر صدق؛ لأنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق صحيح، وإن كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو دعاء؛ أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو على المحلل بأن يلعنه الله، والدعاء مستجاب؛ لأنه صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو على كلا الأمرين محظور.

والعلماء الذين بحثوا في تحديد الكبيرة، بعضهم قال: هي التي يترتب عليها لعن أو تختم بكلمة نار أو نحو ذلك

(4)

، وقد جاءت أحاديث

(1)

أخرجه ابن ماجه (1936)، وحسنه الألباني.

(2)

التيس: الذكر من المعز إذا أتى عليه حول وقبل الحول هو جدي. انظر: "المصباح المنير"، للفيومي (1/ 79).

(3)

أخرجه أبو داود (2076)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(1811).

(4)

يُنظر: "الكبائر"، للذهبي (ص 8)؛ حيث قال:"والذي يتجه ويقوم عليه الدليل: أن من ارتكب شيئًا من هذه العظائم مما فيه حد في الدنيا كالقتل والزنا والسرقة أو جاء فيه وعيد في الآخرة من عذاب أو غضب أو تهديد أو لعن فاعله على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كبيرة".

ص: 6150

كثيرة فيها اللعن مما يدل على أن مَن يُلعن إنما هو مرتكب كبيرة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لعن الله من لعن والديه"

(1)

.

ويقول عليه الصلاة والسلام: "لعن الله من غير منار الأرض"

(2)

.

ويقول عليه الصلاة والسلام: "لعن الله من ذبح لغير الله"

(3)

.

ويقول عليه الصلاة والسلام: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا

(4)

. والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا، فمن يفعل ذلك فإنما يرتكب كبيرة من الكبائر.

والذبح لغير الله شرك، لأن الذبح نوع من أنواع العبادة، ومن يصرف نوعًا من أنواع العبادة لغير الله فهو مشرك شركًا أكبر، لأن الله تعالى يقول:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)} [الأنعام: 162].

ومن يلعن والديه فإنما هو يرتكب كبيرة، ومن يغير علامات الأرض فإنما هو يرتكب كبيرة؛ فالذي يستحق اللعن هو من يرتكب كبيرة.

* قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: هُوَ نِكَاحٌ مَفْسُوخٌ).

لا يجوز عند الإمامين مالك

(5)

وأحمد

(6)

قولًا واحدًا.

(1)

أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(17)، وصححه الألباني في "صحيح الأدب المفرد"(ص 38).

(2)

أخرجه مسلم (1978).

(3)

أخرجه مسلم (1978).

(4)

أخرجه البخاري (1330)، ومسلم (530).

(5)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 258)؛ حيث قال:" (وإن) نوى التحليل (مع نية إمساكها مع الإعجاب) لانتفاء نية الإمساك على الدوام المقصودة من النكاح، ويفرق بينهما قبل البناء وبعده بطلقة بائنة (ونية المطلق) التحليل (ونيتها)، أي: المرأة التحليل، ولو اتفقا على ذلك (لغو) ".

(6)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 94)؛ حيث قال." (بأن يتزوجها)؛ أي: المطلقة ثلاثًا (بشرط أنه متى أحلها للأول طلقها أو) يتزوجها بشرط أنه متى أحلها للأول =

ص: 6151

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

، وَالشَّافِعِيُّ

(2)

: هُوَ نِكَاحٌ صَحِيحٌ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَعَنَ اللَّهُ المُحَلِّلَ

"، الحَدِيثَ. فَمَنْ فَهِمَ مِنَ اللَّعْنِ التَّأثِيمَ فَقَطْ، قَالَ: النِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَمَنْ فَهِمَ مِنَ التَّأثِيمِ فَسَادَ العَقْلِ تَشْبِيهًا بِالنَّهْيِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ المَنْهِيِّ عَنْهُ قَالَ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ. فَهَذِهِ هِيَ الأَنْكِحَةُ الفَاسِدَةُ بِالنَّهْيِ).

حقيقه قول أبي حنيفة والشافعي ليس كما ذكر المؤلف، بل يحتاج إلى تفصيل:

أبو حنيفة: نقل عنه أنه قال: الشرط باطل والعقد صحيح؛ فيرجع فيلغي الشرط فيتزوجها زواجًا صحيحًا على أنه لا يقصد التحليل فيصحح العقد

(3)

.

وأما الإمام الشافعي رحمه الله: فقد فصل القول في هذه المسألة

= فـ (لا نكاح بينهما)

إلى أن قال: (أو نوى) المحلل (ذلك)"أي: أنه متى أحلها للأول طلقها (ولم يرجع عن نيته عند العقد وهو)؛ أي: النكاح في الصور المذكورة (حرام غير صحيح) ".

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 414 - 415)؛ حيث قال: " (وكره) التزوج للثاني (تحريمًا) لحديث: "لعن المحلل والمحلل له" (بشرط التحليل) كتزوجتك على أن أحللك (وإن حلت للأول) لصحة النكاح وبطلان الشرط فلا يجبر على الطلاق كما حققه الكمال، خلافًا لما زعمه البزازي".

(2)

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 282)؛ حيث قال: " (ولو)(نكح) مريد التحليل (بشرط) وليها وموافقته هو، أو عكسه في صلب العقد (أنه إذا وطئ طلق، أو) أنه إذا وطئ (بانت) منه (أو) أنه إذا وطئ (فلا نكاح) بينهما ونحو ذلك (بطل) النكاح لمنافاة الشرط فيهن لمقتضى العقد

إلى أن قال: (وفي التطليق قول) إنه لا يضر شرطه كما لو نكحها بشرط ألا يتزوج عليها، ورد بأن هذا شرط شيء خارج عن النكاح لا ينافي ذاته الموضوع هو لها ففسد دون العقد بخلاف شرط الطلاق".

(3)

تقدَّم.

ص: 6152

فقال: إن تزوجها بشرط أن يحلها لزوجها الأول أو اشترط عليه أن يتزوجها ليحلها لزوجها الأول - قد يكون الشرط من الزوج نفسه وربما يكون من الولي - وصرح به لفظًا بالعقد فهذا لا يجوز أبدًا وهو نكاح فاسد، وهذا هو نكاح المحلل، وبهذا يلتقي مع الإمامين مالك وأحمد.

وأما إذا نواه وقصده؛ فإن ذلك يصح عند الشافعي

(1)

.

لكننا نرجع بعد ذلك لنناقش المسألة: هناك قاعدة مشهورة من القواعد الكبرى الأمور بمقاصدها

(2)

، وهناك قاعدة تعتبر فرعيه يتكلم عنها العلماء: هل العبرة بمعاني الألفاظ أو بمقاصدها؟ هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟

(3)

.

فالإمام الشافعي هنا يفرق بين اللفظ وبين المعنى، فيرى أنه إن صرح باللفظ فالأمر يحرم ولا يجوز ويكون مع الإمامين مالك وأحمد، وإن نواه بقلبه فإن ذلك لا يؤثر.

والمالكية والحنابلة يناقشون هذا الرأي ويقولون: لا نرى فرقًا بين أن يصرح وأن ينوي، لأن الأمور بمقاصدها، وهذه القاعدة إنما بنيت على حديث متفق عليه: من حديث عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"

(4)

. فإذن؛ الأمور

(1)

يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 282)؛ حيث قال:"وخرج بشرط ذلك إضماره فلا يؤثر وإن تواطأا قبل العقد عليه، نعم يكره إذ كل ما لو صرح به أبطل يكون إضماره مكروهًا نص عليه".

(2)

يُنظر: "الأشباه والنظائر"، للسيوطي (ص 8)؛ حيث قال:"وضم بعض الفضلاء إلى هذه قاعدة خامسة وهي: الأمور بمقاصدها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"".

(3)

يُنظر: "الأشباه والنظائر"، للسيوطي (ص 166) حيث قال في القواعد المختلف فيها:"القاعدة الخامسة: هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟ خلاف: والترجيح مختلف في الفروع".

(4)

أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907) ولفظه: "إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى".

ص: 6153

بمقاصدها، والعقود يقصد بها المعاني وما وضعت الألفاظ إلا للدلالة على المعاني.

إذن، يقول هؤلاء: لا نرى فرقًا بين أن ينطق الولي، أو أن يشترط ذلك لفظًا، أو أن يشترط ذلك المتزوج، أو ألا يشترط.

"وقد جاء رجل إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: إني تزوجت امرأة لأحلها لزوجها ولم يأمرني بذلك ولم يعلم. فقال له عبد الله بن عمر: لا نكاح إلا عن رغبة فإن رضيتها فأمسكها وإن سخطتها ففارقها، وإن كنا لنعده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحًا"

(1)

. والسفاح: الزنا

(2)

.

"وجاء رجل إلى الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: إن عمي طلق زوجته ثلاثًا ويريد رجل أن يحلها له. فقال له عبد الله بن عباس: من يخدعِ الله يخدعْه"

(3)

.

فأي إنسان يظن أنه يخادع الله في هذه الحياة الدنيا فهو خاسر، ربما يخادع الناس الأمر في هذه الحياة، وربما يمكر بهم، وربما تنطلي أفعاله وأقواله على بعض الناس، وربما تمضي فترة من الزمن وهو على هذه الطريقة، لكن الأمر لا يستمر، وإن استمر فإن الأمر يحصل بالنسبة للمخلوقين، أما مَن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ومن يعلم السر وأخفى، ومن يعلم ما تكنُّ صدورهم وما يعلنون من يستطيع أن يخادعه!

(1)

"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 339) ولفظه: "جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنه فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثًا، فتزوجها أخ له عن غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه له تحل للأول قال: لا، إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". وصححه الألباني في "الإرواء"(1898).

(2)

وسافح الرجل المرأة مسافحة وسفاحًا من باب قاتل وهو المزاناة؛ لأن الماء يصب ضائعًا. انظر: "المصباح المنير"، للفيومي (1/ 278).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 266) ولفظه عن ابن عباس قال: "سأله رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثًا؟ قال: إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجًا، قال: كيف ترى في رجل يحلها له؟ قال: من يخادع الله يخدعه".

ص: 6154

ويقول الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142].

ويقول تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)} [البقرة: 9].

فمن يظن أنه يخدعِ الله أو يمكر بالله سبحانه وتعالى فإنما هو يخدع نفسه ويمكر بها: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

وحديث: "إنما الأعمال بالنيات" من ضمن أربعة أحاديث تقوم الشريعة عليها، وقد حصل خلاف في الثلاثة، بعضهم يبقي بعضها وبعضهم يأتي بأخرى، إلا هذا الحديث لم يخالف فيه أحد من العلماء؛ ولذلك نجد أن الإمام الجليل البخاري افتتح به كتابه الصحيح، والنيه إنما هي عمل القلب والقلب محله الإخلاص والله تعالى يقول:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].

ومَن يهبْه الله تعالى الإخلاص فيمتلئ به قلبه يشعَّ هذا النور فيسلك به طريقًا مستنيرًا لا اعوجاج فيه ولا انحراف!

ونفهم من هذا الحديث: أن الأمور بمقاصدها؛ فلا يجوز لمسلم أن يتزوج امرأة ليحلها لزوجها، ومع ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وما أثر عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك.

* قوله: (وَأَمَّا الأَنْكِحَةُ الفَاسِدَةُ بِمَفْهُومِ الشَّرْعِ: فَإِنَّهَا تَفْسُدُ إِمَّا بِإِسْقَاطِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ النِّكَاحِ، أَوْ لِتَغْيِيرِ حُكْمٍ وَاجِبِ بِالشَّرْعِ مِنْ أَحْكَامِهِ مِمَّا هُوَ عَنِ اللَّهِ عز وجل، وَإِمَّا بِزِيَادَةٍ تَعُودُ إِلَى إِبْطَالِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ).

كأن يشترط مثلًا: لا نفقة لك أو لا صداق لك، أو هي تشترط ألا يطأها؛ لأن الرجل إنما يتزوج لأجل الاستمتاع، وهناك مقاصد أخرى منها: الأولاد، وأن يحفظ فرجه، وأن يغض بصره، لكن الاستمتاع من أسماها وأهمها؛ فلو اشترطت عليه ألا يطأها لم تحقق الغاية من الزواج؛

ص: 6155

قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21].

وقال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ} [البقرة: 187].

{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].

* قوله: (وَأَمَّا الزِّيَادَاتُ الَّتِي تَعْرِضُ مِنْ هَذَا المَعْنَى، فَإِنَّهَا لَا تُفْسِدُ النِّكَاحَ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي لُزُومِ الشُّرُوطِ الَّتِي بِهَذه الصِّفَةِ أَوْ لَا لُزُومِهَا، مِثْلَ أن يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَلَّا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، أَوْ لَا يَتَسَرَّى، أَوْ لَا يَنْقُلَهَا مِنْ بَلَدِهَا).

بعض العلماء قسم الشروط إلى أقسام ثلاثة:

القسم الأول: شروط يلزم الوفاء بها، وهي التي ذكرها المؤلف؛ كأن تشترط المرأة على زوجها ألا يتزوج عليها، وألا يتسرى، وألا يخرجها من بيتها، وألا يخرجها من بلدها، وألا يسافر بها، لأن للمرأة منفعة فيها، فمن منفعة المرأة: ألا يتزوج عليها، أو من منفعتها أن تبقى تعيش بين أهلها، ومن منفعتها ألا يسافر بها بعيدًا فتبقى غريبة، فالحنابلة يعتبرون ذلك، وبعض العلماء لا يعتبرها.

القسم الثاني: شروط تفسد ويبقى العقد صحيحًا، مثلًا يشترط الزوج على المرأة أن لا مهر لها، وألا ينفق عليها، وربما يشترط عليها أن تنفق هي عليه، وهذا ربما يحصل في هذا الزمان

(1)

، أو هي تشترط عليه ألا

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 123 - 124)، حيث قال:" (نكحها بألف على ألا يخرجها من البلد أو لا يتزوج عليها أو) نكحها (على ألف إن أقام بها وعلى ألفين إن أخرجها، فإن وفى) بما شرطه في الصورة الأولى (وأقام) بها في الثانية (فلها الألف) لرضاها به".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 306)؛ حيث قال: " (بخلاف) تزوجها بـ (ألف) على ألا يخرجها من بلدها أو لا يتزوج عليها (أو إن أخرجها من بلدها) أو بيت أبيها (أو تزوج) أو تسرى (عليها =

ص: 6156

يطأها، أو أن يعزل، لأنها لا تريد الأولاد مثلًا

(1)

وهكذا من الأمثلة الكثيرة في هذا المقام، فهذا يبطل الشرط ويصح العقد

(2)

.

= فألفان) فصحيح؛ إذ لا شك في قدره حال العقد والشك في الزائد متعلق بالمستقبل (ولا يلزم) الزوج (الشرط)؛ أي: المشروط وهو عدم التزوج والإخراج وإنما يستحب الوفاء به إن وقع (وكره)؛ أي: هذا الشرط لما فيه من التحجير عليه".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 344) "حيث قال:" (وإن خالف) مقتضاه (ولم يخل بمقصوده الأصلي) سواء كان لها (كشرط ألا يتزوج عليها أو) عليها كشرط (أن لا نفقة لها صح النكاح)، لأنه إذا لم يفسد بفساد العوض فلئلا يفسد بفساد الشرط المذكور أولى (وفسد الشرط) لمخالفته للشرع".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 91)؛ حيث قال:"تشترط عليه (ألا ينقلها من دارها أو بلدها أو ألا يسافر بها أو) أن (لا يفرق بينها وبين أبويها أو) ألا يفرق بينها وبين (أولادها أو على أن ترضع ولدها الصغير أو) شرطت أن (لا يتزوج عليها ولا يتسرى أو شرط لها طلاق ضرتها أو) شرط لها (بيع أمته فهذا) النوع (صحيح لازم للزوجة بمعنى ثبوت الخيار لها بعدمه) ".

(1)

مسألة العزل:

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(1753)؛ حيث قال: " (ويعزل عن الحرة) وكذا المكاتبة نهر بحثا (بإذنها) لكن في الخانية أنه يباح في زماننا لفساده".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير"(2/ 266)؛ حيث قال: " (ولزوجها)؛ أي: الأمة (العزل)؛ أي: عدم الإنزال في فرجها (إذا أذنت وسيدها) معًا إذا كانت ممن تحمل ويتوقع حملها، وإلا فالعبرة بإذنها دون السيد كصغيرة وآيس وحامل (كالحرة) لزوجها العزل (إذا أذنت) مجانًا أو بعوض صغيرة أو كبيرة ولا يعتبر".

مذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج"، للدميري (7/ 264)؛ حيث قال:"وفي العزل عن الزوجة أربعة أوجه؛ أصحها: الجواز، لكن يكره كراهة تنزيه، والأولى تركه على الإطلاق، ولا يحرم في السرية بلا خلاف صيانة للملك، وقيل: يحرم في الزوجة مطلقًا، وقيل: يحرم بغير إذن، وقيل: يحرم في الحرة دون غيرها".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 189)، حيث قال:" (ويحرم العزل عن الحرة إلا بإذنها) ".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 11)؛ حيث قال: "لو تزوجها على أن لا مهر لها وجب مهر المثل بنفس العقد عندنا، بدليل أنها لو طلبت الفرض من الزوج يجب عليه الفرض، حتى لو امتنع يجبره القاضي عليه". =

ص: 6157

القسم الثالث: هو الذي يفسد فيه العقد والشروط معًا، وهذا هو النكاح المعقد، وقد مرت أمثلة مثل نكاح الشغار، المحلل والمحلل له، نكاح المتعة، ومثله أيضًا من يتزوج امرأة ويشترط طلاقها.

لكن لو تزوج الإنسان امرأة وفي نيته أن يطلقها، فكثير من العلماء يرون جواز ذلك، لأن الإنسان ربما يتزوج المرأة وفي نيته أن يطلقها

(1)

، لأن الله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب وهو مغير الأحوال، ربما يتزوج المرأة

= مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 303)؛ حيث قال:" (أو) وقع العقد (بإسقاطه)؛ أي: على شرط إسقاطه؛ أي: الصداق فيفسخ قبل وفيه بعده صداق المثل".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 344)؛ حيث قال:" (وإن) (أخل) الشرط بمقصود النكاح الأصلي (كـ) شرط ولي الزوجة على الزوج (ألا يطأ) ها مطلقًا أو في نحو نهار وهي محتملة له أو ألا يستمتع بها (أو) شرط الولي أو الزوج أن (يطلقها) بعد زمن معين أو لا (بطل النكاح) ".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 98)؛ حيث قال:" (أو) شرطا أو أحدهما الخيار (في المهر) بطل الشرط وصح العقد لما يأتي وهل يصح الصداق ولبطل شرط الخيار فيه، أو يصح ويثبت فيه الخيار، أو يبطل الصداق؟ فيه ثلاثة أوجه أطلقها في الشرح (أو) شرطا أو أحدهما (عدم الوطء أو) شرطت".

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 415)؛ حيث قال: " (أما إذا أضمر ذلك لا) يكره (وكان) الرجل (مأجورًا) لقصد الإصلاح، وتأويل اللعن إذا شرط الأجر ذكره البزازي".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 239)؛ حيث قال:"وأما إذا لم يقع ذلك في العقد ولم يعلمها الزوج بذلك وإنما قصده في نفسه وفهمت المرأة أو وليها المفارقة بعد مدة فإنه لا يضر وهي فائدة تنفع المتغرب".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 282)؛ حيث قال:"وخرج بشرط ذلك إضماره فلا يؤثر وإن تواطأ قبل العقد عليه، نعم يكره إذ كل ما لو صرح به أبطل يكون إضماره مكروهًا نص عليه".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 97)؛ حيث قال:" (وإن نوى) الزوج (بقلبه) أنه نكاح متعة من غير تلفظ بشرط (فكالشرط نصًّا خلافًا للموفق) نقل أبو داود فيها: هو شبيه بالمتعة؟: لا حتى يتزوجها على أنها امرأته ما حييت".

ص: 6158

لهدف من الأهداف فتستقر في نفسه ويلقي الله سبحانه وتعالى محبتها في قلبه؛ فيتعلق كل منهما بالآخر لما بينهما من التعامل بالأخلاق الكريمة؛ فيحصل ود فتستقر الأحوال حينئذ ويذهب الشيء الذي كان يدور في نفسه ويضمره في قلبه، لكن لو أعلن ذلك لا يجوز؛ لأنه يعتبر نكاحًا فاسدًا.

وهناك أحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثابة القواعد: مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"

(1)

. وقد جاء في قصة بريرة عندما أراد أهلها أن يشترطوا الولاء لهم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن حق ما الشروط ما استوفيتم به الفروج"

(2)

.

فإذن؛ الشروط ينبغي الوفاء بها؛ فهنا دليل على الوفاء بالشروط.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ

(3)

: إِنِ اشْتُرِطَ ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ يَمِينٌ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ إِلَّا أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يَعْتِقَ مَنْ أَقْسَمَ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُ الشَّرْطُ الأَوَّلُ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(4)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(5)

).

إلا أن يكون أقسم عند مالك، فربط ذلك بالطلاق؛ فإنه لا يخلو إما أن يوفي بالشروط أو يطلق؛ يعني: مالك يقول: لا مانع أن يشترط.

(1)

أخرجه البخاري (2735) ولفظه: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كثاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط"، ومسلم (1504).

(2)

أخرجه البخاري (2721) ولفظه: "أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج"، ومسلم (1418).

(3)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 307)، حيث قال:" (بلا يمين منه) فإن كان بيمين، أي: تعليق على عتق أو طلاق أو على أن أمرها بيدها فيلزمه اليمين إن خالف دون الألف لئلا يجتمع عليه عقوبتان".

(4)

تقدَّم.

(5)

تقدَّم.

ص: 6159

لكن لو قدر أن إنسانًا تزوج امرأة واشتُرط عليه ألا يسافر بها ثم أخذها ليلًا وسافر بها؛ إذا رضيت انتهى الأمر، كذلك لو تزوج عليها ورضيت.

وما أكثرَ الشروطَ التي لا تخل بالعقد! فكم من زوجات اشترطن هذه الشروط وسوفر بهن إلى أبعد البلاد.

* قوله: (وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ

(1)

: لَهَا شَرْطُهَا، وَعَلَيْهِ الوَفَاءُ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ

(2)

: كَانَ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ العُلَمَاءِ يَقْضُونَ بِهَا. وَقَوْلُ الجَمَاعَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ

(3)

، وَقَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ

(4)

).

وأحمد: كلهم يوفون بالشروط.

وهذه الشروط لا تفسد العقد؛ فهناك من يرى الوفاء بها، وهناك من لا يرى ذلك.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ العُمُومِ لِلْخُصُوصِ، فَأَمَّا العُمُوم، فَحَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنهما أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ:"كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كانَ مِائَةَ شَرْطٍ"

(5)

).

(1)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 443)؛ حيث قال:"وقال الأوزاعي وابن شبرمة لها شرطها وعليه أن يفي لها، زاد ابن شبرمة لأنه شرط لها حلالًا".

(2)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 226) ولفظه: عن معمر، عن الزهري قال:"ليس شرطهن بشيء".

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 230) ولفظه: عن علي قال: "رفع إليه رجل تزوج امرأة وشرط لها دارها قال: شرط الله قبل شرطهم، لم يره شيئًا".

(4)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 228) ولفظه: عن عمر قال: "رفعت إليه امرأة تزوجها رجل وشرط لها دارها، فقال عمر: أوف لها بشرطها".

(5)

تقدَّم.

ص: 6160

هذا في قصة بريرة عندما أرادت العتق وأراد أهلها أن يشترطوا أن الولاء لهم؛ فإن كان هذا الشرط الذي يشترطه الإنسان يخالف شرع الله فلا قيمة له ولا أثر ولا اعتداد به، والشرط الذي يلتزم به هو الذي يسير على وفق الكتاب والسنة.

* قوله: (وَأَمَّا الخُصُوصُ: فَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَحَقُّ الشُّرُوطِ أن يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ"

(1)

).

فما دمت وضعت هذا الشرط والتزمت به وأنت أخذت هذه المرأة بأمانة الله واستحللت فرجها بكلمة الله؛ فينبغي أن توفي بالشروط.

* قوله: (وَالحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ خَرَّجَهُمَا البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، إِلَّا أَنَّ المَشْهُورَ عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ القَضَاءُ بِالخُصُوصِ عَلَى العُمُومِ، وَهُوَ لُزُومُ الشُّرُوطِ)

(2)

.

أي: تقديم الخصوص على العموم؛ أي: تخصيص العام؛ فالخاص يخصص العام، هذا هو المعروف خلافًا لابن حزم

(3)

.

* قوله: (وَهُوَ ظَاهِرُ مَا وَقَعَ فِي العُتْبِيَّةِ وَإِنْ كَانَ المَشْهُورُ خِلَافَ ذَلِكَ).

(1)

تقدَّم.

(2)

يُنظر: "البحر المحيط"، للزركشي (4/ 544)؛ حيث قال:"لا يعلم تاريخهما، فعند الشافعي وأصحابه أن الخاص منهما يخص العام، وهو قول الحنابلة، ونقله القاضي عبد الوهاب والباجي عن عامة أصحابهم، وبه قال القاضي عبد الجبار، وبعض الحنفية وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه إلى التوقف إلى ظهور التاريخ".

(3)

يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام"، لابن حزم (983)؛ حيث قال:"وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه وكل ما يقتضيه اسمه دون توقف ولا نظر، لكن إن جاءنا دليل يوجب أن نخرج عن عمومه بعض ما يقتضيه لفظه صرنا إليه حينئذ، وهذا قول جميع أصحاب الظاهر وبعض المالكيين وبعض الشافعيين وبعض الحنفيين، وبهذا نأخذ وهو الذي لا يجوز غيره".

ص: 6161

"العتبية": كتاب معروف في مذهب مالك، ألفه محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبي القرطبي المالكى من أهل الأندلس، هذا من العلماء الأعلام من علماء المالكية، وهذا كتاب جليل القدر، وله كتب عدة في الفقه وفي الحديث، لأنه من العلماء الذين عنوا بذلك، وتوفي سنة خمس وخمسين ومائتين، وجمع في "العتبية" ما سمعه عن الإمام مالك وسماه "العتبية" نسبة إليه؛ لأنه يقال له: محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة؛ فقيل: "العتبية" نسبة إليه، والتلاميذ كانوا يعنون بأقوال العلماء، وبخاصة الأئمة" فإنهم كانوا يجمعونها ويحررونها ويدونونها في كتب مسطورة، وبذلك حفظ الله للأئمة الأربعة فقههم.

* قوله: (وَأَمَّا الشُّرُوطُ المُقَيَّدَةُ بِوَضْعٍ مِنَ الصَّدَاقِ، فَإِنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا المَذْهَبُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، أَعْنِي: فِي لُزُومِهَا، أَوْ عَدَمِ لُزُومِهَا).

يعني: بالزيادة أو النقص؛ لأنه قد يحصل العقد فيأتي الزوج فيقول: خفضوا المهر، وربما يأتى أولياء المرأة فيطالبون بزيادة. وهذا كله في مذهب مالك

(1)

.

وهذا يحصل كثيرًا؛ فهناك من الناس مَن يغلب عليه الطمع، وهناك من الناس من يهمهم سعادة بناتهم.

* قوله: (وَلَيْسَ كِتَابُنَا هَذَا مَوْضُوعًا عَلَى الفُرُوعِ).

مراد المؤلف: أن كتابه هذا قصد به المسائل الأصولية، ولا يعني

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 306)؛ حيث قال:" (أو) عقد (بألف) من الدراهم مثلًا (و) شرط عليه (إن كانت له زوجة فألفان) فيفسخ قبل للشك في قدر الصداق حال العقد فأثر خللًا في الصداق ويثبت بعده بصداق المثل (بخلاف) تزوجها بـ (ألف) على ألا يخرجها من بلدها أو لا يتزوج عليها (أو إن أخرجها من بلدها) أو بيت أبيها (أو تزوج) أو تسرى (عليها فألفان) فصحيح".

ص: 6162

بالمسائل الأصولية التي تعرف بأصول الفقه، وإنما يقصد بها أمهات وأصول المسائل أو الأحكام الكبرى؛ ولذلك سماه بعض العلماء بكتاب "القواعد"؛ أي: اعتبروه من القواعد الفقهية؛ لأنه يختار مسائل كبرى تندرج تحتها عدة فروع في الغالب.

*قوله: (وَأَمَّا حُكْمُ الأَنْكِحَةِ الفَاسِدَةِ إِذَا وَقَعَتْ: فَمِنْهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَى فَسْخِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ).

الذين خالفوا في هذا الفرع إنما هم المالكية: فالمالكية رحمهم الله - وبخاصة الإمام مالك - يفرقون في الكثير، وبخاصة ما يحصل من فساد قبل الدخول وبعده؛ فإن كان قبل الدخول فإنه يرى الفسخ، وإن كان بعده فإنه في الغالب يصحح إن أمكن التصحيح

(1)

.

وبقية العلماء: لا يفرقون في الغالب ما بين قبل الدخول وبعده.

*قوله: (وَهُوَ مَا كَانَ مِنْهَا فَاسِدًا بِإِسْقَاطِ شَرْطٍ مُتَّفَقٍ عَلَى وُجُوب صِحَّةِ النِّكَاحِ بِوُجُود)

(2)

.

يعني: لو أسقط شرطًا من الشروط التي تعتبر أساسًا في النكاح، كما أشرنا إلى هذا وعرضنا للأقسام التي تشترط في النكاح سواء كان من قبل المرأة أو من قبل الزوج.

* قوله: (مِثْلَ أن يَنْكِحَ مُحَرَّمَةَ العَيْنِ).

إذا نكح محرمة العين فيجب الفسخ ولا يجوز له نكاحها، لكنه يسقط عنه الإثم إذا لم يكن عالمًا فإن كانا عالمين؛ فإنه يقام عليهما الحد.

*قوله: (وَمِنْهَا: مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي ضَعْفِ عِلَّةِ الفَسَادِ وَقُوَّتِهَا، وَلمَاذَا يَرْجِعُ مِنَ الإِخْلَالِ بِشُرُوطِ الصِّحَّةِ، وَمَالِكٌ فِي

(1)

تقدَّم.

(2)

تقدَّم.

ص: 6163

هَذَا الجِنْسِ - وَذَلِكَ فِي الأَكثَرِ - يَفْسَخُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيُثْبِتُهُ بَعْدَه، وَالأصْلُ فِيهِ عِنْدَهُ: أَنْ لَا فَسْخَ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَاطُ بِمَنْزِلَةِ مَا يَرَى فِي كثِيرٍ مِنَ البَيْعِ الفَاسِدِ أَنَّهُ يَفُوتُ بِحَوَالَةِ الأَسْوَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ عِنْدَهُ هِيَ الأَنْكِحَةَ المَكْرُوهَةَ، وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الدُّخُولِ وَعَدَمِ الدُّخُولِ، وَالاضْطِرَابُ فِي المَذْهَبِ فِي هَذَا البَابِ كَثِيرٌ، وَكَأَنَّ هَذَا رَاجِعٌ عِنْدَهُ إِلَى قُوَّةِ دَلِيلِ الفَسْخِ وَضَعْفِهِ، فَمَتَى كَانَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ قَوِيًّا، فُسِخَ قَبْلَهُ وَبَعْدَه، وَمَتَى كَانَ ضَعِيفًا، فُسِخَ قَبْلُ وَلَمْ يُفْسَخْ بَعْد، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الدَّلِيلُ القَوِيُّ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ).

أحسن المؤلف حيث سماه في الحقيقه اضطرابًا، وهذا المسلك لم يسلكه غير المالكية، أما بقية المذاهب فإنها لا تفرق بين الدخول وبعده إلا ما يتعلق بعدد الطلاق ونحوه؛ فهذا أمر آخر.

* قوله: (وَمِنْ قَبْل هَذَا أَيْضًا اخْتَلَفَ المَذْهَبُ فِي وُقُوعِ المِيرَاثِ فِي الأَنْكِحَةِ الفَاسِدَةِ إِذَا وَقَعَ المَوْتُ قَبْلَ الفَسْخِ)

(1)

.

يعني: هل ترث المرأة إذا حصل الموت قبل أن ينفذ الفسخ أو لا؟

المسألة فيها خلاف، وستأتي - إن شاء الله - في أحكام المواريث.

* قوله: (وَكَذَلِكَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِ، فَمَرَّةً اعْتُبِرَ فِيهِ الاخْتِلَافُ وَالاتِّفَاق، وَمَرَّةً اعْتُبِرَ فِيهِ الفَسْخُ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ عَدَمُه، وَقَدْ نَرَى أن نَقْطَعَ هَاهُنَا القَوْلَ فِي هَذَا الكِتَابِ، فَإِنَّ مَا ذَكرْنَا مِنْهُ كفَايَةٌ بِحَسَبِ غَرضِنَا المَقْصُودِ).

كل هذا حديث في فروع في مذهب معين، وهو يخالف ما سار عليه من كونه وضع كتابه فقهًا مقارنًا.

(1)

سيأتي تحريره عند كلام ابن رشد.

ص: 6164