الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كِتَابُ الشُّفْعَةِ]
(1)
[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَالنَّظَرُ فِي الشُّفْعَةِ أَوَّلًا في قِسْمَيْنِ).
كتاب الشفعة أو باب الشفعة يعني الكتاب الذي تذكر فيه أحكام الشفعة.
* قولُهُ: (الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فِي تَصْحِيحِ هَذَا الْحُكْمِ، وَفِي أَرْكانِهِ.
(1)
" الشفعة" لغةً: بضم الشين وسكون الفاء اسم مصدر بمعنى التملك، وتأتي أيضًا اسمًا للملك المشفوع. انظر:"المصباح المنير" للفيومي (1/ 317).
وفي اصطلاح الفقهاء:
عرفها الحنفية بأنها: "تمليك البقعة جبرًا على المشتري بما قام عليه ". انظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(6/ 217).
وعرفها المالكية بانها: "استحقاق شريك ولو ذميًّا أخذ مبيع شريكه بثمنه ". انظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"(3/ 473).
وعرفها الشافعية بانها: "حق تملك قهري يثبت للشريك القديم على الحادث فيما ملك بعوض ". انظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 372).
وعرفها الحنابلة بأنها: "استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه ". انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 362).
الْقِسْمُ الثَّانِي: فِي أَحْكَامِهِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ. فَأَمَّا وُجُوبُ الْحُكمِ بِالشُّفْعَةِ: فَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ)
(1)
.
حكى ابن المنذر إجماع العلماء على قيام الشفعة في الأرضين والدور، وفي كل مبيع من دار أو حائط أو أرض
(2)
.
" قول: (لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ، إِلَّا مَا يُتَأَمَّلُ عَلَى مَنْ لَا يَرَى بَيْعَ الشِّقْصِ الْمُشَاعِ).
خالف الأصم في ذلك، ولا يعتد بهذا الخلاف؛ لأن وجهته معارضة بأدلة وعلة أقوى مما استند عليه.
بيان وجهة نظر الأصم: يرى أنَّ الشفعة إنما تنتزع من الشريك بغير إرادته
(3)
.
ومعلومِ أن ذلك مخالف لهدي القرآن في شأن البيع: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} ، وفي السُّنَّة:"إنَّما البيعُ عن تَرَاض"
(4)
، فلا يكره الإنسان على بيع حقه. وإن الضرر الذي يلحق الشريك الذي له حق الشفعة أضر مما يلحق الشريك الذي ينتزع حقه ويباع بسعره؛ لأن من له حق الشفعة ومنع منه قد يدخل عليه شريك آخر يضر به ولا يرعى حقه.
وقد ثبتت صحة الشفعة بالأدلة.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 67) حيث قال: "أجمع العلماء على أنَّ الشفعة في الدور، والأرضين، والحوانيت، والرباع كلها بين الشركاء في المشاع من ذلك كله، وأنها سنة مجتمع عليها يجب التسليم لها".
(2)
يُنظر: "الإشراف"(6/ 152)، و"الأوسط" لابن المنذر (10/ 473) حيث قال:"وأجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم، فيما بيع: من أرض، أو دار، أو حائط".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 229) حيث قال: "ولا نعلم أحدًا خالف هذا إلا الأصم، فإنه قال: لا تثبت الشفعة؛ لأن في ذلك إضرارًا بأرباب الأملاك، فإن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه إذا ابتاعه، لم يبتعه، ويتقاعد الشريك عن الشراء، فيستضر المالك".
(4)
أخرجه ابن ماجه (2185)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1283).
* قولُهُ: (وَأَرْكَانُهَا أَرْبَعَةٌ: الشَّافِعُ، وَالْمَشْفُوعُ عَلَيْهِ، وَالْمَشْفُوعُ فِيهِ، وَصِفَةُ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ).
وضع الشافعية والحنابلة شروطًا أربعة
(1)
تجوز بها الشفعة:
1 -
أن يكون نصيب الشريك -أي: الشقص
(2)
- مشاعًا غير مقسوم، وذلك في الأرضين. وهو مذهب جماهير العلماء، ولم يخالف فيه إلا بعض العلماء كأبي حنيفة وابن أبي ليلى والثوري.
2 -
أن يكون في الأرضين؛ لأن الأرض هي التي تبقى وتدوم، ولذلك إذا حدث ضرر يكون مستمرًّا. أمَّا ما عدا ذلك مما له علاقة بالأرض، فقسموه إلى قسمين:
القسم الأول: ما تثبت فيه الشفعة تبعًا؛ كالبناء، والغراس. فإذا اشتريت حائطًا مشتركًا بين اثنين، فما فيه من أشجار وبناء تثبت فيه الشفعة بلا خلاف بين الأئمة الأربعة.
القسم الثاني: ما لا تثبت فيه الشفعة تبعًا ولا منفردًا؛ مثل الثمار.
وهذا القسم هو موضع الخلاف بين العلماء؛ فالشافعية
(3)
والحنابلة
(4)
يرون أن الثمار لا تثبت فيها الشفعة؛ فلو بيع البستان فإن الثمار لا تتبعه في الشفعة؛ لأنهم قالوا: إنها لا تتبع الأصل، والشفعة بيع لكن على غير المعتاد؛ إذ يؤخذ قهرًا لمصلحة وضرورة.
(1)
هي خمسة عند الحنابلة، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 137) حيث قال: " (ولا تثبت) الشفعة (إلا بشروط خمسة) ".
(2)
" الشقص ": الطائفة من الشيء والقطعة من الأرض. يُنظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 319)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 48).
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 54) حيث قال: " (لا تثبت في منقول) ابتداء، وأن بيع مع أرض للخبر المذكور، ولأنه لا يدوم بخلاف العقار فيتأبد فيه ضرر المشاركة".
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 336) حيث قال: " (ولا) شفعة (فيما ليس بعقار) أي: أرض (كـ) شجر وبناء مفرد وحيوان (وجوهر وسيف ونحوهما) كسفينة وزرع وثمر وكل منقول".
وعند الحنفية
(1)
والمالكية
(2)
قالوا: تثبت فيها الشفعة؛ لأنهم يعتبرونها تبعًا للأصل.
3 -
أن يكون الشقص قابلًا للقسمة.
4 -
أن يكون الشقص الذي انتقل من الشريك بعِوض؛ فينتقل عن طريق البيع أو الصلح، ولا يثبت فيما لا عوض فيه كالهبة والهدية والإرث.
*
قولُهُ: (الرُّكنُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الشَّافِعُ)
الشافع: هو طالب الشفعة.
*
قولُهُ: (الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الشَّافِعُ، ذَهَبَ مَالِكٌ
(3)
وَالشَّافِعِيُّ
(4)
وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ
(5)
إِلَى أَنْ لَا شُفْعَةَ إِلَّا لِلشَّرِيكِ مَا لَمْ يُقَاسِمْ).
وكذلك الإمام أحمد
(6)
.
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 109) حيث قال: "ومن ابتاع أرضًا وعلى نخلها ثمر أخذها الشفيع بثمرها".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 480) حيث قال: " (وكثمرة) باع أحد الشريكين نصيبه منها فللآخر أخذه بالشفعة".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 473) حيث قال: " (الشفعة أخذ شريك) أي: استحقاقه الأخذ
…
وإضافته للشريك خرج به استحقاق أخذ الدائن دينه، والمودع وديعته، والموقوف عليه منابه من ريع الوقف ونحوهم ".
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (5/ 198) حيث قال: " (ولا شفعة إلا لشريك) في العقار المأخوذ ولو ذميًّا ومكاتبًا مع سيده وغير آدمي كمسجد له شقص لم يوقف، فباع شريكه حصته يشفع له ناظره فلا شفعة لغير شريك ".
(5)
يُنظر: "الاستذكار"(7/ 68) حيث قال: "وذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: أهل المدينة لا يرون الشفعة إلا للشريك ".
(6)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 134) حيث قال: "الشفعة
…
(وهي استحقاق الشريك) في ملك الرقبة ولو مكاتبًا (انتزاع حصة شريكه) إذا انتقلت إلى غيره من يد من انتقلت حصة الشريك (إليه إن كان) المنتقل إليه ".
والشفعة تثبت للشريك عند جماهير العلماء إلا أن يقاسم؛ فإذا قسم المال بينهما وعرف كل واحد منهما نصيبه، واستقل به، ورسمت الحدود، فلا شفعة
(1)
؛ كما في الحديث: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بالشفعة فيما لم يقسم"، وفي بعض الروايات:"في كل ما لم يقسم".
* قولُهُ: (وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ
(2)
: الشُّفْعَةُ مُرَتَّبَة، فَأَوْلَى النَّاسِ بِالشُّفْعَةِ).
أهل العراق منهم: ابن أبي ليلي من التابعين، وابن شبرمة والثوري من الفقهاء، وأبو حنيفة.
* قولُهُ: (الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ).
سبق أن جماهير العلماء والأئمة -مالكًا والشافعى وأحمد- يرون الشفعة للشريك الذي لم يقاسم. أمَّا فقهاء العراق، فيرون الشفعة أوسع من ذلك، وكما تثبت للشريك تثبت للجار؛ فهم يقدمون الشريك أولًا، ثم الشريك غير المقاسم، ثم الشريك المقاسم، ثم الجار إذا كان شريكًا في بعض الطريق، ثم الجار الأقرب فالأقرب.
* قولُهُ: (فَأَوْلَى النَّاسِ بِالشُّفْعَةِ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ).
أهل العراق لما وسعوا الشفعة قالوا: إن الشريك المقاسم هو أولى الناس بالشفعة ممن تجوز لهم، وجمهور العلماء كما مر قالوا: إنها لا تثبت إلا للشريك الذي لم يقاسم.
(1)
معنى حديث أخرجه البخاري (2214)، ومسلم (1608)، عن جابر بن عبد الله قال:"قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل مال لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة".
(2)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (4/ 308) حيث قال: "الشفعة واجبة للخليط في نفس المبيع، ثم للخليط في حق المبيع كالشرب والطريق ثم للجار. أفاد هذا اللفظ ثبوت حق الشفعة لكل واحد من هؤلاء وأفاد الترتيب ".
* قولُهُ: (ثُمَّ الشَّرِيكُ الْمُقَاسِمُ إِذَا بَقِيَتْ فِي الطُّرُقِ أَوْ فِي الصَّحْنِ شَرِكَةٌ، ثُمَّ الْجَارُ الْمُلَاصِقُ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: لَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ)
(1)
.
قولُهُ: (أهل المدينة) يشمل أيضًا الإمامين الشافعي وأحمد
(2)
؛ لاتفاقهم في هذه المسألة.
* قولُهُ: (وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: لَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ وَلَا لِلشَّرِيكِ الْمُقَاسِمِ
(3)
. وَعُمْدَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُرْسَلُ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهَ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ بَيْنَهُمْ فَلَا شُفْعَةَ"
(4)
.
يقدم المؤلف هنا مرسل مالك.
* قولُهُ: (وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَيْضًا: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ").
إذا وقعت الحدود، "وصرفت الطرق "، وهذه سقطت في الحديث.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 474) حيث قال: "وقوله: فلا شفعة له؛ أي: للجار المالك للطريق ".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 334) حيث قال: "لا شفعة لكافر على مسلم ويأتي، ولا للجار ولا للموصى له بنفع دار إذا باعها أو بعضها وارث ".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 375، 376) حيث قال: " (ولا شفعة إلا لشريك) في رقبة العقار فلا تثبت للجار لخبر البخاري المار، ولا للشريك في غير رقبة العقار كالشريك في المنفعة فقط ".
(4)
أخرجه مالك في الموطأ (2/ 713).
* قولُهُ: (خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ
(1)
وَالتِّرْمِذِيُّ
(2)
وَأَبُو دَاوُدَ
(3)
).
الحديث بهذا اللفظ متفق عليه
(4)
: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة". وأخرجه -أيضًا- أكثر أصحاب السنن
(5)
وأحمد
(6)
.
* قولُهُ: (وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَقُولُ: حَدِيثُ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الشُّفْعَةِ)
(7)
).
يقصد الحديث الذي أورده المؤلف مرسلًا في موطأ مالك
(8)
.
* قولُهُ: (وَكَانَ ابْنُ مَعِينٍ يَقُولُ: مُرْسَلُ مَالِكٍ أَحَبُّ إِلَيَّ، إِذْ كَانَ مَالِكٌ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مَوْقُوفًا)
(9)
).
يتكرر ذكر ابن شهاب، وقد مر التعريف به.
* قولُهُ: (وَقَدْ جَعَلَ قَوْمٌ هَذَا الِاخْتِلَافَ عَلَى ابْنِ شِهَابٍ فِي
(1)
حديث (1608)، ولفظه عن جابر، قال:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فى كل شركة لم تقسم، ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به ".
(2)
حديث (1370).
(3)
حديث (3514).
(4)
أخرجه البخاري (2257).
(5)
أخرجه "النسائي"(4718)، و"سنن ابن ماجه"(2497).
(6)
"المسند"(14157).
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 68)، حيث قال:"وكان أحمد بن حنبل يقول: حديث معمر عن ابن شهاب في الشفعة، عن أبي سلمة، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ".
(8)
"الموطأ"(2/ 713).
(9)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 68)، حيث قال:"وقال يحيى بن معين: مرسل مالك أحب إلي ".
إِسْنَادهِ تَوْهِينًا لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي غَيْرِ الْموطأ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ)
(1)
.
يريد المؤلف أن يرفع هذا الوهن في المرسل، ويغني عن ذلك حديث جابر المتفق عليه.
* قولُهُ: (وَوَجْهُ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنْ هَذَا الْأَثَرِ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ "أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ"، وَذَلِكَ أَنَّهُ لما كَانَتِ الشُّفْعَةُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ لِلشَّرِيكِ الْمُقَاسِمِ، فَهِيَ أَحْرَى أَنْ لَا يمُونَ وَاجِبَةً لِلْجَارِ).
هذا توضيح من المؤلف؛ لما قال به أهل المدينة من عدم جواز الشفعة للجار، فإن الشفعة لما لم تجز للشريك المقاسم؛ فمن باب أولى لا تجوز للجار.
* قولُهُ: (وَأَيْضًا فَإِنَّ الشَّرِيكَ الْمُقَاسِمَ هُوَ جَارٌ إِذَا قَاسَمَ).
هذا دليل آخر؛ فإن الشريك المقاسم بعد أن قسم الأرض صار جارًا لمن كان له شريكًا.
* قولُهُ: (وَعُمْدَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: حَدِيثُ أبي رَفِاعٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقْبِهِ" وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
(2)
.
" أحق بصقبه "، الصقب يأتي بالصاد والسين (بصقبه) و (بسقبه)، والمعنى واحد، والمراد بالصقب: القُرب
(3)
.
تأول العلماء هذا الحديث وقالوا: أولًا: هذا الحديث ليس فيه دلالة صريحة على الشفعة، والذي يشتمل عليه الحديث بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لحق
(1)
أخرجه ابن ماجه (2497).
(2)
أخرجه البخاري (2258)، ولم أقف عليه عند مسلم.
(3)
يُنظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 377) حيث قال: السقب بالسين والصاد في الأصل: القرب. يقال: سقبت الدار وأسقبت، أي: قربت.
الجار من الاهتمام والتعاون معه على الخير، ولذلك اعتبر خيانة الجار من أشد الخيانات؛ قال صلى الله عليه وسلم:"واللهِ لا يؤمن" -ثلاثًا- قالوا: مَن هو يا رسول الله؟ قال: "الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَار بَوَائِقَهُ "
(1)
؛ فالجار أحق بصقب جاره؛ أي: ببره وإحسانه.
فقال العلماء: ليس الحديث صريحًا في الدلالة على الشفعة؛ كالأحاديث التي استدلوا بها على الشفعة.
* قولُهُ: ("الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقْبِهِ" وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
الحديث غير متفق عليه؛ وإنما أخرجه البخاري ولم يخرجه مسلم؛ وهذا مما وقع فيه المؤلف فقد يذكر أن الحديث متفق عليه، ويتبين أنه ليس كذلك، وقد يذكر أنه في البخاري، ويتبين أنه متفق عليه.
* قولُهُ: (وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ
(2)
وَأَبُو دَاوُدَ
(3)
عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِدَارِ الْجَارِ"، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ
(4)
).
ففسروا الحديث على أنَّ المراد به: شفعة الدار.
* قولُهُ: (وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى لَهُمْ أَيْضًا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الشُّفْعَةُ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا دَفْعُ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ مِنَ الشَّرِكةِ، وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي الْجَارِ وَجَبَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ)
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (6016)، ومسلم (46)، بلفظ عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ".
(2)
أخرجه الترمذي (1368).
(3)
أخرجه أبو داود (3517).
(4)
يُنظر: "سنن الترمذي"(6423) حيث قال: "حديث سمرة حديث حسن صحيح ". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1537).
(5)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(6/ 221) حيث قال: "ثم للجار الملاصق نهاية وغيرها. قال أبو السعود: لأنها لدفع الضرر الدائم، فكلما كان أخص اتصالًا كان أخص الضرر فكان أحق بها إلا إذا سلم ".
يقولون: إنَّ علة الضرر الذي لأجله تثبت الشفعة للشريك، موجودة أيضًا في الجار، فوجب أن يلحق به.
وقد رأينا أنه بثبوت الشفعة ربما يحصل ضرر للشريك الذي ينتزع من ملكه؛ ولكنه لا يقابل الضرر الآخر الذي يحصل للشريك الذي باع شريكه، فالجار أيضًا لا يكون ضرره كالضرر الذي يحصل للشريك المشارك لنفس الملك.
* قولُهُ: (وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَقُولُوا: وُجُودُ الضَّرَرِ فِي الشَّرِكَةِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي الْحِوَارِ).
عقب أهل المدينة على الحديث الآخر وقالوا: إنه من رواية الحسن عن سمرة بن جندب، والحسن لم يسمع منه إلا حديث العقيقة
(1)
.
* قولُهُ: (وَبِالْجُمْلَةِ: فَعُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْأُصُولَ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَخْرُجَ مِلْكُ أَحَدٍ مِنْ يَدِهِ إِلَّا بِرِضَاهُ).
اعتبار الرِّضا هو الأصل؛ والأصول ثابتة كما قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فإنه لا يحق لإنسان أن يكره آخر على البيع مثلًا، فلا يكره إلا في حالة ضرورة، كأن يكن الإنسان في فلاة، واحتاج الماء أو الشراب، فإذا رآه مع غيره فإنه يكرهه على أخذه شريطة أن يكون زائدًا عن حاجته، فإن أَبَى فإنه يؤخذ منه قهرًا، لحفظ النفس من الهلاك، ولا شك أن الإسلام عني بحفظ النفس، وقدم حفظها على ما يتعلق بعظم الكعبة عند الله سبحانه وتعالى، لكنه بعد ذلك يعطيه حق ذلك الطعام أو الشراب.
وفي البيع أمور مستثناة أيضًا، وذلك مثل (التعسف
(2)
في استعمال
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 11، 12) حيث قال: "وقال أبو عيسى الترمذي: قلت للبخاري: قولهم: إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة. قال: قد سمع منه أحاديث كثيرة، وجعل روايته عن سمرة سماعًا وصححها".
(2)
"العسف": السير بغير هداية والأخذ على غير الطريق، وكذلك التعسف والاعتساف. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (9/ 245).
الحق) بأن يكون للإنسان حق، لكنه يستعمله على خلاف روح الشريعة الإسلامية، فحينئذ يؤخذ على يده، ويجبر على تركه.
أمَّا إذا لم تكن ضرورة كما سبق، ولم تكن مخالفة بالتعسف في استعمال الحق، فإنه لا يؤخذ حق الإنسان إلا برضاه، كما قال الله تعالى:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما البيع عن تراضٍ "
(1)
.
* قولُهُ: (وَأَنَّ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا فَلَا يَخْرُجُ مِنْ يَدِهِ إِلَّا بِرِضَاهُ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى التَّخْصِيصِ).
وقد دل الدليل بالنسبة للشفعة، وهي بيع استثني.
* قولُهُ: (وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْآثَارُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَجَّحَ مَا شَهِدَتْ لَهُ الْأُصُولُ).
فللترجيح عن التعارض ينظر إلى درجة الأحاديث. ولا شك أن أدلة الجمهور أحاديث صحيحة، صريحة الدلالة، ليس فيها مطعن، فترجح في هذا المقام.
* قولُهُ: (وَلكِلَا الْقَوْلَيْنِ سَلَفٌ مُتَقَدِّمٌ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ مِنَ التَّابِعِينَ).
أهل العراق من التابعين كابن أبي ليلى.
* قولُهُ: (ولأَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ).
أهل المدينة من الصحابة كعمر وعثمان رضي الله عنهما
(2)
.
وقول الصحابة أيضًا يقدَّم، فنجد أن من أخذ برأي الجمهور كثرٌ من الصحابة، والتابعين كسعيد بن المسيب والزهري وعمر بن عبد العزيز
(1)
سبق تخريجه.
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (10/ 474) حيث قال: "هذا قول أكثر أهل العلم، وقد روينا ذلك عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ".
الخليفة الأموي؛ فجمهور العلماء ليس فقط الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، وإنما من الصحابة والتابعين والمحدثين، كلهم يقولون: إن الشفعة لا تثبت إلا للشريك
(1)
.
* قول: (الرُّكْنُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْفُوعُ فِيهِ)
إذًا انتهينا الآن من الركن الأول وهو الشافع، وأنا أعطيتكم الشروط الأربعة، وأود أن تستقر في أذهانكم لأننا سنمر بمسائل لها علاقة بها.
*
قولُهُ: (الرُّكْنُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْفُوعُ فِيهِ).
المشفوع فيه النصيب، أو الشقص.
*
قولُهُ: (اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ وَاجِبَةٌ فِي الدُّورِ، وَالْعَقَارِ، وَالْأَرَضِينَ كُلِّهَا)
(2)
.
لا خلاف في أن الدور والمنازل والبساتين والأراضي المشتركة تثبت فيها الشفعة، وسبق ذكر شروط الشافعية والحنابلة.
قولُهُ: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ)
(3)
.
المؤلف خرج عن القاعدة التي مضت لمعرفته برأي مالك.
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (10/ 476) حيث قال: "وممن قال بهذا القول: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ويحيى الأنصاري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأبو الزناد. وبه قال مالك بن أنس، والمغيرة بن عبد الرحمن، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق وأبو ثور".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 207) حيث قال: "وأجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط ".
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 208)، حيث قال:"واختلفت الآثار وتنازع علماء الأمصار في إيجابها في غير المشاع ".
*
قوله: (فَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهَا فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ).
وسنعرض موافقة العلماء أو مخالفتهم لها.
*
قولُهُ: (أَحَدُهَا: مَقْصُودٌ، وَهُوَ الْعَقَارُ مِنَ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ، وَالْبَسَاتِينِ).
هذا متفق عليه بين الأئمة الأربعة وغيرهم، ولا خلاف بينهم في هذه الجزئية.
*
قولُهُ: (وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ لَا يُنْقَلُ، وَلَا يُحَوَّلُ).
والجمهور أيضًا متفق مع الإمام مالك في ذلك؛ فالأشجار أو الغراس الموجودة في المزرعة مثلًا، وكذلك المباني والآبار التي تحفر؛ فهي أمور مستقرة تثبت فيها الشفعة.
*
قولُهُ: (وذَلِكَ كَالْبِئْرِ، وَمَحَالِّ النَّخْلِ، مَا دَامَ الْأَصْلُ فِيهَا عَلَى صِفَةٍ تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ عَنْهُ).
وكذلك عند الأئمة كما مر.
*
قولُهُ: (وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الأَصْلُ هُوَ الْأَرْضُ مُشَاعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ غَيْرَ مَقْسُومٍ).
أمَّا لو كان مقسومًا فيخرج من هذه المسألة.
*
قولُهُ: (وَالثَّالِثُ: مَا تَعَلَّقَ بِهَذِهِ كَالثِّمَارِ، وَفِيهَا عَنْهُ خِلَافٌ وَكَذَلِكَ كرَاءُ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ
(1)
، وَكتَابَةُ الْمُكَاتَبِ).
(1)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 641) حيث قال: "فمن أكرى نصيبه منهما فليس للآخر أخذ بالشفعة. وقيل: فيه الشفعة بشرطين: أن يكون مما ينقسم، وأن يسكن الشفيع بنفسه ".
وهذه الأمور التي فيها الخلاف؛ كالثمار والزروع:
فمالك ومعه أبو حنيفة يرون ثبوت الشفعة فيها؛ لأنها تابعة للأصل -أي: الأرض، أو البساتين.
والشافعي وأحمد لا يريان ثبوت الشفعة فيها؛ لأنهم يرون أنها منفصلة وليست تابعة للأصل، وحجتهم قياسها على البيع. فإذا اشترط المشتري الثمرة تثبت الشفعة، أمَّا إذا أطلق قالوا: لا تثبت.
*
قوله: (وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي الشُّفْعَةِ فِي الْحَمَّامِ
(1)
وَالرَّحَا
(2)
)
(3)
" الحمَّام ": هو موضع قضاء الحاجة. والرحى: حجارة الطاحونة.
اختلف عن مالك وغيره في الشفعة فيها. والإمام أحمد كذلك يفرق
(1)
يُنظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي ص: (58، 59). حيث قال: "الحمام عربي، وهو مذكر باتفاق أهل اللغة، نقل الاتفاق عليه جماعة. وممن أشار إليه الأزهري مشتق من الحميم وهو الماء الحار، قال الأزهري: يقال: طاب حميمك وحمياك وحمتك للذي يخرج من الحمام؛ أي: طاب عرقك ". وانظر للفائدة: "لسان العرب" لابن منظور (12/ 154).
تنبيه: ذكر البعلي في "المطلع" أن الحمام معروف، وهو معروف في زمانه، وأما في زماننا فليس بمشتهر، ولا يعنون به مكان قضاء الحاجة، وإنما يسمونه بأسماء أخر؛ ينظر:"المطلع على أبواب المقنع" للبعلي (ص 24) حيث قال: "وقال أبو عبيد: يقال لموضع الغائط الخلاء، والمذهب والمَرْفِقُ، والمرحاض، ويقال له أيضًا: الكنيف، للاستتار فيه، وكل ما ستر من بناء وغير فهو كنيف ".
(2)
ما يُطحن به القمح ونحوه.
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (14/ 312) حيث قال: "والرحى: معروفة التي يطحن بها".
(3)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 635) حيث قال: " (فإن لم يقبل القسمة أو قبلها بفساد، كالحمام والفرن فلا شفعة فيه (وقضي بها) أي: بالشفعة؛ أي: وقع القضاء بها من بعض القضاة
…
وهو قول لمالك في المدونة: والأول رواية ابن القاسم عنه فيها أيضًا، وهو المشهور".
بين الحمام الكبير والصغير
(1)
، فإذا كان الحمام كبيرًا يصلح لقسمته والاستفادة منه، وتوجد أرض تدخل إليه ويخرج منه، فإنه حينئذٍ يقسم.
وكذلك الرحى -عند الإمام أحمد- إذا كانت تتعطل إذا قسمت؛ فلا يجوز. أمَّا إذا كان لها أطراف واسعة؛ بحيث إذا قسمت بقيت مصلحتها؛ فذلك جائز.
وكذلك العرصة
(2)
، وهي فناء الدار؛ إذا كانت كبيرة جازت الشفعة فيها عند بعض العلماء، وإن كانت صغيرة فلا.
*
قولُهُ: (وَأَمَّا مَا عَدَا هَذَا مِنَ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَان فَلَا شُفْعَة فِيهَا عِنْدَهُ
(3)
، وَكَذَلِكَ لَا شُفْعَةَ عِنْدَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَلَا فِي عَرْصَةِ الدَّارِ)
(4)
.
ورد عن الإمام مالك رواية أخرى في جواز الشفعة في كل شيء إلا المكيل والموزون
(5)
.
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 336)، حيث قال: " (ولا) شفعة (فيما) أي: عقار (لا تجب قسمته كحمام صغير. وبئر وطرق) ضيقة (وعراض ضيقة) ورحى صغيرة وعضادة نصا
…
فإن كان البئر تمكن قسمته بئرين يرتقي الماء منهما وجبت الشفعة
…
وكذا الرحى".
(2)
"العَرْصَةُ": كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء، والجمع: العراص والعرصات. انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1544).
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 482) حيث قال: " (قولُهُ: ولا شفعة في حيوان) أي: آدمي وغيره مشترك بين اثنين مثلًا باع أحدهما حصته منه".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 482) حيث قال: " (و) لا شفعة في (عرصة)، وهي ساحة الدار التي بين بيوتها (و) لا في (ممر) أي: طريق ".
(5)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (3/ 65) حيث قال: "ألا ترى أن العروض التي تنقسم بالكيل، والوزن لا شفعة فيها؛ إذ لا مؤنة في قسمتها. ومن رأى أن الشفعة تكون فيما ينقسم وفيما لا ينقسم قال: إن العلة فيما لا ينقسم ضرر الشركة".
*
قولُهُ: (وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي أَكرِيَةِ الدُّورِ، وَفي الْمُسَاقَاةِ، وَفِي الدَّيْنِ).
ذكر المؤلف الاختلاف في أكرية الدور وفي المساقاة في الدين.
*
قولُهُ: (هَلْ يَكُونُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَحَقَّ بِهِ؟ وَكذَلِكَ الَّذِي عَلَيْهِ الْكِتَابَةُ
(1)
، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ)
(2)
.
المقصود بالكتابة: مكاتبة العبد سيده على أقساط في أوقات معينة؛ فإذا ما وفاها يكِون حرًّا، والله سبحانه وتعالى حض على ذلك فقال تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} .
*
قولُهُ: (وَرَوَى: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي الدَّيْنِ"
(3)
، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ
(4)
مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ).
لم يتعرض المؤلف لهذا الحديث، وقد أخرجه ابن حزم في "المحلى"، وأشار إلى بطلانه، وقال بأنه رواه عن عمر بن عبد العزيز رجلٌ لم يسمَّ.
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 314) حيث قال: "اختلف قول مالك أيضًا في الشفعة في الكتابة والدين يباعان هل يكون للمكاتب والذي عليه الدين الشفعة في ذلك أم لا؟ ".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(8/ 88)(14432)، عن عمر بن عبد العزيز مرسلًا، بلفظ: أخبرنا معمر، عن رجلٍ من قريش: أن عمر بن عبد العزيز قضى في مكاتب اشترى ما عليه بعرض، فجعلَ المكاتب أولى بنفسه، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع دينًا على رجل فصاحب الدين أولى إذا أدى مثل الذي أدى صاحبه ".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(8/ 88)(14433)، عن الأسلمي قال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر، عن عمر بن عبد العزيز به مرسلًا.
(4)
يُنظر: "مواهب الجليل"(5/ 314) للحطاب، حيث قال: "اختلف قول مالك أيضًا في الشفعة في الكتابة والدين يباعان
…
فقال مرة لهما الشفعة في ذلك، وأخذ به مطرف وابن الماجشون وابن وهب وأشهب و
…
".
وهو أيضًا منقطع بعد عمر بن عبد العزيز. ونقل أن هذا رأي لعمر بن عبد العزيز
(1)
.
*
قولُهُ: (وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا شُفْعَةَ فِي الدَّيْنِ
(2)
. وَلَمْ يَخْتَلِفَا فِي إِيجَابِهَا فِي الْكِتَابَةِ لِحُرْمَةِ الْعِتْقِ، وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنْ لَا شُفْعَةَ إِلَّا فِي الْعَقَارِ
(3)
فَقَطْ).
يذكر المؤلف -مرة أخرى- أنَّ جمهور العلماء يحصرون الشفعة في العقار؛ هذا من حيث الجملة، لكن هناك من يتوسع كالرواية عن الإمام مالك.
*
قولُهُ: (وَحُكِيَ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ فِي البئر وفي كُلِّ شَيْءٍ مَا عَدَا الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ).
حكي هذا القول عن الإمام مالك وعطاء من التابعين، ونقل أيضًا عن جماعة من التابعين كقتادة وربيعة والثوري والأوزاعي، أنهم قالوا: تجوز الشفعة في كل شيء إلا المنقولات؛ فلا تجوز فيها الشفعة
(4)
.
(1)
هما خبران كما ذكرنا، وينظر:"المحلى" لابن حزم (7/ 488) حيث قال: "ولا حجة للمالكيين في هذين الخبرين ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 88) حيث قال: "واختلف أصحاب مالك في ذلك، فقال ابن القاسم: لا شفعة في الدين ولا يكون المديان أحق به ".
(3)
يقصد بالعقار هنا كما سبق بيانه: الدور والأرضين وكل ما تأخذه الحدود، ويحتمل القسمة من ذلك كله.
(4)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 375) حيث قال: "واختلفوا في الشفعة في العروض والحيوان فقال أكثر أهل العلم: لا شفعة فيه. هذا قول عطاء، والحسن البصري، وبه قال مالك، والثوري، والأوزاعي، وعبد الله بن الحسن، وقتادة، وربيعة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وقال عطاء مرة: الشفعة في كل شيء حتى في الثوب ".
*
قولُهُ: (وَلَمْ يُجِزْ أَبُو حَنِيفَةُ الشُّفْعَةَ فِي الْبِئْرِ وَالْفَحْلِ، وَأَجَازَهَا فِي الْعَرْصَةِ وَالطَّرِيقِ)
(1)
.
للإمام أحمد تفصيل في البئر
(2)
؛ فإذا كانت واسعة تطل على موضعين من الأرض -كما كان في بعض الآبار- فإذا قسمت الأرض، جازت الشفعة فيها كما جازت في العرصة والحمام الكبير والرحى إذا أمكن قسمتها.
فمثلا: يشترك في حفر البئر الجاران في الأرض، ويجعل جدار يفصل بينهما إلى أن ينزل في البئر، ثم تبقى مفتوحة؛ فكل واحد منهما يضع البكر والحبل ويستخرج الماء.
أما إذا كانت البئر غير واسعة، فلا تجوز فيها الشفعة.
*
قولُهُ: (وَوَافَقَ الشَّافِعِيُّ مَالِكًا فِي الْعَرْصَةِ وَفِي الطَّرِيقِ وَفِي الْبِئْرِ
(3)
، وَخَالَفَاهُ جَمِيعًا فِي الثِّمَارِ)
(4)
.
(1)
تبع المصنف هنا ابن عبد البر في "الاستذكار"(7/ 81) حيث قال: "وأما الكوفيون فالقياس على أصولهم ألا شفعة في بئر ولا فحل نخل، وأما العرصة فقياسهم أن فيها الشفعة لأنها من الأرض المحتملة للقسمة" وليس في هذا تصريح كما فعل المصنف، بينما في "التجريد" للقدوري (7/ 3475) حيث قال:"قال أصحابنا: الشفعة واجبة في الحمام والرحى والبئر".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 371، 372) قال: " (وهي) أي: القسمة (نوعان؛ أحدهما: قسمة تراض لا تجوز إلا برضى الشركاء كلهم، وهي ما فيها ضرر ورد عوض من أحدهما) على الآخر (كالدور الصغار والحمام والطاحون الصغيرين والعضائد الملاصقة أي: المتصلة صفًّا واحدًا، وهي) أي: العضائد (الدكاكين اللطاف الضيقة)
…
لو أمكن قسمه بالأجزاء مثل أن تكون البئر واسعة يمكن أن يجعل نصفها لواحد ونصفها للآخر ويجعل بينهما حاجز في أعلاها".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 375) حيث قال: "ولو باع نصيبه من أرض تنقسم وفيها بئر ماء لا تنقسم، ويسقى منها ثبتت الشفعة في الأرض دون البئر".
(4)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 209) حيث قال: "وأجمعوا أنه=
وافق الشافعي وأحمد أيضًا على التفصيل الذي ورد عن أحمد في البئر واسعة أو ضيقة، والرحى، والعرصة. وله رواية أخرى أنه إذا أمكن قسمتها دون ضرر مع وجود الفائدة؛ فذلك جائز.
وقوله: (وخالفاه). الصواب أن الضمير يعود على الإمامين الشافعي وأحمد، لا أبي حنيفة؛ لأنَّ أبا حنيفة يوافقه في ذلك، إلا أن يكون للحنفية رواية أخرى. والله أعلم.
*
قولُهُ: (وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ فِي قَصْرِ الشُّفْعَةِ عَلَى الْعَقَارِ: مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ"
(1)
).
يشير المؤلف إلى الحديث المتقدم: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم
…
" الحديث.
*
قولُهُ: (فَكَأَنَّهُ قَالَ: الشُّفْعَةُ فِيمَا تُمْكِنُ فِيهِ الْقِسْمَةُ مَا دَامَ لَمْ يُقَسَّمْ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال بِدَلِيلِ الْخِطَابِ).
دليل الخطاب أو مفهوم المخالفة
(2)
حجة عند الأئمة مالك والشافعي وأحمد؛ أمَّا الحنفية فيعارضون فيه
(3)
.
= لا شفعة في جزء بيع من ثمر في رؤوس النخل أو الشجر لم تبع معه النخل ولا الشجر، إلا مالكًا فإنه جعل فيه الشفعة".
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
يُنظر: "المستصفى" للغزالي (ص 265) حيث قال: "ومعناه الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عما عداه ".
(3)
يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (3/ 72) حيث قال: "اختلفوا في الخطاب الدال على حكم مرتبط باسم عام مقيد بصفة خاصة كقوله صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة زكاة" هل يدل على نفي الزكاة السائمة أو لا؟ فأثبته الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل والأشعري وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وأبو عبيد وجماعة من أهل العربية، ونفاه أبو حنيفة وأصحابه والقاضي أبو بكر وابن سريج والقفال والشاشي وجماهير المعتزلة.
*
قولُهُ: (وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ).
أدلة الحنفية في جواز الشفعة ما مر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "الجار أحق بصقب جاره"
(1)
، "جار الدار أحق بشفعة داره"
(2)
، وغير ذلك من الآثار.
والحنفية لا يقولون بمفهوم المخالفة فلا يحتج به عليهم.
*
قولُهُ: (وَأَمَّا عُمْدَةُ مَنْ أَجَازَهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ: فَمَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الشَّرِيكُ شَفِيعٌ فِي كلَ شَيْءٍ").
أدخل المؤلف حديثًا في آخر؛ حديث: "الشريك شفيع في كل شيء"، وحديث:"الشفعة في كل شيء"
(3)
.
والحديث كما قال: أخرجه الترمذي
(4)
وغيره
(5)
. وذكر العلماء كلامًا فيه، ثم قالوا: على فرض صحته فهو مقيد بأحاديث الجمهور الصحيحة.
*
قولُهُ: (وَلِأَنَّ مَعْنَى ضَرَرِ الشَّرِكَةِ وَالْجِوَارِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ فِي الْعَقَارِ أَظْهَرَ. وَلَمَّا لَحِظَ هَذَا مَالِكٌ أَجْرَى مَا يَتْبَعُ الْعَقَارَ مَجْرَى الْعَقَارِ).
لكن اختلفوا في التبعية:
اتفق العلماء كلهم على أنَّ ما يتبع العقار من البناء والأشجار فهو تابع له؛ أمَّا الثمار والزروع ففيها الخلاف -كما مر من قبل.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
هما حديث واحد؛ ولكن المصنف أسقط كلمة: "والشفعة"، ولفظه:"الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء".
(4)
أخرجه الترمذي (1371)، وقال الألباني في "الضعيفة" (1009):"منكر".
(5)
أخرجه النسائي في الكبرى (6/ 94)، والطبراني في الكبير (11/ 123).
*
قولُهُ: (وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى مَنْعِ الشُّفْعَةِ فِي الْبِئْرِ بِمَا رُوِيَ: "لَا شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ"
(1)
).
هذا الأثر روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: "لا شفعة في بئر ولا فحل ". وقد مرت شروط الشافعية والحنابلة، ومنها: أن تكون الشفعة في أرضٍ؛ لأنها التي تدوم، وما يدوم يبقى ضرره كذلك.
ومالك حمل هذا الأثر على آبار الصحاري التي تعمل في الأرض الموات، فليس الحديث على إطلاقه عند الإمام مالك.
*
قولُهُ: (وَمَالِكٌ حَمَلَ هَذَا الْأَثَرَ عَلَى آبَارِ الصَّحَارِي
(2)
الَّتِي تَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ الْمَوَاتِ؛ لَا الَّتِي يمُونُ فِي أَرْضٍ مُتَمَلَّكَةٍ).
وقد مر بيان أن من العلماء كالإمام أحمد فصَّل في أمر البئر؛ فإن كانت واسعة لا يحدث ضرر بقسمتها؛ فتجوز فيها الشفعة.
*
قول: (الرُّكْنُ الثَّالِثُ: وَأَمَّا الْمَشْفُوعُ عَلَيْهِ)
المشفوع عليه هو مَن اشترى الشقص أو النصيب، وقد كان مشتركًا بين اثنين فباعه أحدهما، فاشتراه المشفوع عليه.
*
قولُهُ: (فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ الْمِلْكُ بِشِرَاءٍ مِنْ شَرِيكٍ غَيْرِ مُقَاسِمٍ، أَوْ مِنْ جَارٍ عِنْدَ مَنْ يَرَى الشُّفْعَةَ لِلْجَارِ)
(3)
).
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 717)(4)، وذكره الدارقطني في "العلل"(143)(257) موقوفًا ومرفوعًا، وقال:"والموقوف أصحُّ ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 80)، حيث قال:"فذكر ابن عبد الحكم عن مالك قال: الحديث الذي جاء: "لا شفعة في بئر" إنما ذلك في بئر الأعراب ".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (10/ 474) حيث قال: "أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع أو أرض أو دار أو حائط ".
قولُهُ: (بشراء من شريك) ليخرج ما ينتقل بغير عوض كالهبة والوصية والإرث، ويستثني العلماء هبة الثواب؛ يعني التي لا تكون خالصة؛ بل يرجو الواهب مقابلها؛ كما في قصة الثقفي الذي أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وظل يطلب كما أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا- يطلب الزيادة
(1)
.
*
قولُهُ: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ الْمِلْكُ بِغَيْرِ شِرَاءٍ، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ مَالِكٍ).
يعني بغير عوض -كما مر- كالوصية أو الإرث والهبة دون هبة الثواب.
*
قولُهُ: (أَنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا تَجِبُ إِذَا كَانَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ كَالْبَيْعِ، وَالصُّلْحِ، وَالْمَهْرِ، وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ)
(2)
.
المشهور عن مالك ما كان في مقابل العوض؛ كالبيع، أو دية قتل محمد، أو غير ذلك مما يكون بعوض؛ كالمهر، أو الخلع.
*
قولُهُ: (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ)
(3)
، وأحمد
(4)
.
(1)
أخرجه الترمذي (3945) وغيره، ولفظه: عن أبي هريرة: أن أعرابيًّا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة فعوضه منها ست بكرات فتسخطها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:"إن فلانًا أهدى إليَّ ناقة فعوضته منها ست بكرات فظل ساخطًا، لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي ". وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1684).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 475) حيث قال: " (قولُهُ بمعاوضة) أي: سواء كانت مالية كالبيع، وهبة الثواب، والصلح ولو عن إنكار، أو غير مالية كالمهر والخلع ".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 59، 60) حيث قال: " (وإنما تثبت فيما ملك بمعاوضة) محضة وغيرها نصًّا في البيع وقياسًا في غيره بجامع الاشتراك في المعاوضة مع لحوق الضرر
…
فالمملوك بمحضه (كمبيع و) بغيرها نحو (مهر وعوض خلع و) عوض (صلح دم) في قتل محمد
…
".
(4)
المعتمد في مذهب أحمد ثبوت الشفعة كونها بعوض مالي.=
*
قولُهُ: (وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ).
يعني رواية ثانية عن مالك؛ فمالك له رواية أخرى: أن الشفعة في كل شيءٍ إلا الإرث؛ للإجماع على أنه لا شفعة في الإرث
(1)
؛ لأنَّ الملك انتقل من الميت إلى الورثة. وبعض العلماء قال
(2)
: تثبت إن كانت هناك مطالبة سابقة، وإلا فلا شفعة في الإرث.
= يُنظر: "الإقناع في فقه الإمام أحمد" للحجاوي (2/ 362) حيث قال: "وهي استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه إن كان مثله أو دونه وبعوض مالي ". فإن كان عوضًا غير مالي؛ ففيه روايتان.
يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (2/ 233) حيث قال: "والمنتقل بعوض نوعان:
أحدهما: ما عوضه المال كالمبيع، ففيه الشفعة بالإجماع، والخبر ورد فيه.
الثاني: ما عوضه غير المال: كالصداق، وعوض الخلع، والصلح عن دم العمد، وما اشتراه الذمي بخمر أو خنزير، فلا شفعة فيه في ظاهر المذهب؛ لأنه انتقل بغير مال، أشبه الموهوب، ولأنه لا يمكن الأخذ بمثل العوض، أشبه الموروث. وقال ابن حامد: فيه الشفعة".
(1)
مذهب الحنفية، ينظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (9/ 373) للكمال بن همام، حيث قال: "والحق أن هذا القيد للاحتراز عن مثل الدار الموروثة والموهوبة والموصى بها
…
، لكن لا شفعة فيها لعدم تحقق المعارضة المالية في شيء منها".
مذهب المالكية، ينظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 475) حيث قال: "فلا شفعة -أي: للشريك- ممن تجدد ملكه بالميراث ".
مذهب الشافعية، ينظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 59) حيث قال: " (وإنما تثبت فيما ملك بمعاوضة) محضة
…
فخرج مملوك بغير معاوضة كإرث ".
مذهب الحنابلة، ينظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 334) حيث قال: "وأنه لا شفعة في الموروث والموصى به والموهوب بلا عوض ".
(2)
لعل الشيخ رحمه الله انتقل ذهنه من مسألة عدم ثبوت الشفعة فيما انتقل ملكه بإرث إلى مسألة: إذا مات الشفيع بعد طلب الشفعة، فهل يورث عنه أم لا؟
أو يكون مقصوده: إذا طالب الشفيع بالشفعة، ثم مات المشتري، وانتقل الملك إلى وارثه، فهل تبقى الشفعة؟
وهذه المسألة إيرادها هنا لا يخلو من إشكال؛ فإنها متفق عليها بين الأربعة - وليست مجرد قول لبعض العلماء- لأنه حق ثبت على المشتري، فلا يسقط بالموت.=
*
قولُهُ: (أَنَّهَا تجِبُ بِكُلِّ مِلْكٍ انْتَقَلَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَالْهِبَةِ لِغَيْرِ الثَّوَابِ، وَالصَّدَقَةِ
(1)
، مَا عَدَا الْمِيرَاثَ فَإِنَّهُ لَا شُفْعَةَ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ).
جماهير العلماء يقولون: إنه لا شفعة فيما كان حقًّا لإنسان؛ فصَرفَه في أوجه البر، كالهبة لغير ثواب والصدقة.
*
قوله: (وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَالشُّفْعَةُ عِنْدَهُمْ فِي الْمَبِيعِ فَقَطْ
(2)
. وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ: ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَفْهُومَهَا يَقْتَضِي أَنَّهَا فِي الْمَبِيعَاتِ).
يقصر الحنفية الشفعة في المبيع فقط، ولا يتعدون ذلك إلى ما كان صلحًا في جناية، أو مهرًا، أو عوضًا في خلع.
فضيق الحنفية الشفعة هنا بقصرها على البيع، ووسعوا فيمن له حق الشفعة؛ فأجازوها للجار.
= مذهب الحنفية، ينظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (11/ 375) حيث قال: " (وإن مات المشتري لم تبطل) ش: أي: شفعة الشفيع ".
ومذهب المالكية، ينظر:"الذخيرة" للقرافي (7/ 339) حيث قال: "فلو مات المشتري وقد قبض الشقص قبل تسليم الثمن دفع الشفيع الثمن وأخذ".
مذهب الشافعية، ينظر:"روضة الطالبين" للنووي (5/ 88) حيث قال: "ولو مات المشتري وحل عليه، لم يتعجل الأخذ على الشفيع، بل هو على خيرته، إن شاء عجل، وإن شاء أخر إلى انقضاء السنة".
مذهب الحنابلة، ينظر:"الإقناع" للحجاوي (2/ 373) حيث قال: "ولو ارتد المشتري فقتل أو مات فللشفيع الأخذ من بيت المال لانتقال ماله إليه ".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 71) حيث قال: "قد كان مالك في صدر من عمره يرى في الهبة الشفعة وإن كانت لغير ثواب؛ لأنه انتقال ملك، ثم رجع عن ذلك ولم ير الهبة لغير ثواب شفعة. ذكر ذلك عنه ابن عبد الحكم ".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 106) حيث قال: "والشفعة تجب بعقد البيع، وتستقر بالإشهاد وتملك بالأخذ إذا سلمها المشتري أو حكم بها حاكم ".
*
قولُهُ: (بَلْ ذَلِكَ نَصٌّ فِيهَا لَا فِي بَعْضِهَا، فَلَا يَبعْ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ شَرِيكَهُ. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَرَأَتْ أَنَّ كلَّ مَا انْتَقَلَ بِعِوَضٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهَا اعْتَبَرَتِ الضَّرَرَ فَقَطْ).
ما ذكره المؤلف عن تعليل المالكية -وهو كذلك للشافعية والحنابلة- مقبول؛ لأنها في الحقيقة انتقلت بعوض؛ فهي بمثابة البيع.
*
قولُهُ: (وَأَمَّا الْهِبَةُ لِلثَّوَابِ
(1)
: فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
(2)
، وَلَا الشَّافِعِيِّ
(3)
).
(1)
إن كان يقصد للثواب: الأجر من الله، فهذا لا خلاف فيه إلا ما ذكره المصنف رواية عن مالك.
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (ص 106) حيث قال: "وإن كانت الهبة على غير ثواب: فلا شفعة فيه، في قولهم جميعًا".
(2)
هذا إذا كان العوض غير عين، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(6/ 217) حيث قال: "واحترز بقوله: على مشتريه عما ملكه بلا عوض كما بالهبة والإرث والصدقة، أو بعوض غير عين كالمهر والإجارة والخلع والصلح عن دم محمد، ودخل فيه ما وهب بعوض فإنه اشتراء انتهاء".
(3)
الشفعة تثبت في الهبة للثواب -أي: العوض المعلوم، واعتبار التقابض؛ لأنه يشبه البيع. مذهب الحنفية على قولين ما ذكرناه آنفًا وهذا، ينظر:"مختصر القدوري"(ص 12) حيث قال: "وإذا وهب بشرط العوض اعتبر التقابض في العوضين، وإذا تقابضا صح العقد وصار في حكم البيع: يرد بالعيب وخيار الرؤية وتجيب فيه الشفعة".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 482) حيث قال: " (قولُهُ: ولا في هبة) أي: ولا شفعة لشريك في هبة لشقص يملكه شريكه لآخر بلا ثواب (قولُهُ: وإلا فيه) أي: وإلا ففيه الشفعة به؛ أي: بالثواب ".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 315) حيث قال: " (ولو وهب بشرط ثواب معلوم)
…
من ثم (يكون بيعًا على الصحيح) فيجري فيه عقب العقد أحكامه كالخيارين كما مر بما فيه، والشفعة".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 531) حيث قال: " (وإن شرط) الواهب (فيها) أي: الهبة (عوضًا معلومًا صارت) الهبة (بيعًا) فيثبت فيها خيار مجلس، ونحوه. (ويثبت فيها شفعة) إن كان الموهوب شقصًا مشفوعًا".
هبة الثواب لا شفعة فيها عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد أيضًا. ومعلوم أن الهبة نوعان:
- هبة يهبها الإنسان لأخيه لا يريد جزاءً في مقابلها؛ وإنما يقصد بها ثواب الله سبحانه وتعالى.
- هبة يقصد الإنسان مقابلًا لها، كما حصل ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
*
قولُهُ: (أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ عِنْدَهُ فِي الْمَبِيعِ).
ولأحمد رواية أخرى فيها الشفعة.
*
قولُهُ: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلِأَنَّ هِبَةَ الثَّوَابِ عِنْدَهُ بَاطِلَةٌ
(1)
، وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَصْحَابِهِ فِي أَنَّ الشُّفْعَةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ).
يرى الإمام الشافعي بطلان هبة الثواب، أما الإمام مالك وأصحابه -وكذلك الإمام أحمد- يرون وجوب الشفعة في هبة الثواب إذا طلبها صاحبها.
وهذه المسائل تبين دقة الفقهاء، وبذلك كل منهم غاية جهده في البحث والتنقيب، وفي فهم كتاب الله عز وجل، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتخريج عليها، والإلحاق، والبحث عن العلل، والربط بين المسائل؛ فهم بلا شك مجتهدون، يرجى لمن أصاب منهم أن له أجرين، ومن أخطأ له أجر واحد.
وأبو حنيفة يقصر الشفعة في المبيع؛ أما الأئمة الآخرون فيدخلون في الشفعة ما ينتقل بعوض.
(1)
على قولين عند الشافعي دون المذهب في القديم، وقوله في الجديد، ينظر:"الحاوي" للماوردي (7/ 232، 233) حيث قال: "والقول الثاني: إن الهبة بشرط الثواب باطلة، والشفعة فيها ساقطة؛ لأن تقدير العوض فيها يجعلها بيعًا، والبيع بلفظ الهبة باطل
…
وقال في الجديد: إن المكافأة على الهبة غير واجبة، فعلى هذا لا شفعة بها".
وعرفنا أن مالكًا وردت عنه رواية تجعل الشفعة في كل شيء إلا الإرث.
*
قولُهُ: (وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ
(1)
عَلَى أَنَّ الْمَبِيعَ الَّذِي بِالْخِيَارِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ فِيهِ لِلْبَائِعِ أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَجِبُ حَتَّى يَجِبَ الْبَيْعُ)
(2)
.
الخيار في البيع جائز، وهو أنواع، منها: خيار المجلس
(3)
، وخيار الشرط
(4)
، وخيار الغبن
(5)
.
وقد يطلب الخيار من الجانبين من البائع والمشتري، والمقصود من الخيار أن يحصل الإنسان على فرصة يفكر حتى لا يندم، فقد يرى البائع أو المشتري أنه غبن في السلعة، فباعها بأقل من قيمتها، أو اشتراها بما يزيد على قيمتها. فأعطت الشريعة كل واحد منهما حق الخيار.
وقد يكون الخيار من جانب واحد؛ البائع أو المشتري.
والعلماء يفصلون في أمر الشفعة؛ إذا كانت في بيعٍ الخيارُ فيه للبائع:
فالحنابلة
(6)
يرون أن الشفعة لا تثبت في الخيار مطلقًا؛ سواء كان للبائع والمشتري معًا، أو كان لأحدهما.
(1)
سيأتي بيان الاتفاق.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 83) حيث قال: "ولا أعلم خلافًا بين الفقهاء أنه إذا كان الخيار للبائع أن الشفعة لا تجب للشفيع حتى تنقضي أيام الخيار ويصير الشقص إلى المشتري ".
(3)
خيار المجلس: "مكان التبايع وتفرقهما عنه التفرق المسقط للخيار". انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 279).
(4)
خيار الشرط: "أن يشترط أحد المتعاقدين الخيار ثلاثة أيام أو أقل ". انظر: "التعريفات" للجرجاني (ص 102).
(5)
خيار الغبن: "وهو أن يغرَّ البائع المشتري أو بالعكس، أو غرَّه الدلال ". انظر: "موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم" للتهانوي (1/ 766)، و"التعريفات الفقهية" للمجددي البركتي (ص 90).
(6)
وافق الحنابلة قول المالكية، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 162) حيث قال: " (ولا شفعة في بيع فيه خيار مجلس، أو) خيار (شرط قبل انقضائه) أي: الخيار،=
وبعض العلماء يرى أنَّ الشفعة إنما تثبت إذا اشترطها البائع.
*
قولُهُ: (وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَبِيعَ الَّذِي بِالْخِيَارِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ فِيهِ لِلْبَائِعِ
…
).
لأنَّ البائع إذا طلب الخيار فهو لم يعطِ القطع بشأن البيع، أمَّا إذا كان الخيار من قبل المشتري، فيكون كأن البائع باع، ولكنه ينتظر موافقة المشتري.
*
قولُهُ: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
وَالْكُوفِيُّونَ
(2)
: الشُّفْعَةُ وَاجِبَة عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ صَرَمَ الشِّقْصَ عَنْ مِلْكِهِ، وَأَبَانَهُ مِنْهُ).
معنى صرم: أي قطع، كما تصرم النخل؛ أي: تقطعه
(3)
، فعندما يخرج البائع الشقص عن ملكه كأنه أخرجه منه وقطعه.
*
قولُهُ: (وَقِيلَ: إِنَّ الشُّفْعَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ؛ لأنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ)
(4)
.
ووافق الإمام أحمد قول المالكية؛ فيرون أنَّ الشفعة لا تثبت في زمن الخيار؛ لأن الخيار لا يسمى بيعًا؛ فلذلك لا تثبت الشفعة إلا عند تحقق البيع.
= (سواء كان الخيار لهما) أي: المتبايعين (أو لأحدهما) لما في الأخذ من إبطال خياره ".
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 61) حيث قال: " (وإن شرط -الخيار- للمشتري وحده) أو لأجنبي عنه (فالأظهر أنه يؤخذ) بالشفعة".
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 307) حيث قال: " (ولأن خيار المشتري شرع نظرًا له ليتروى فيقف على المصلحة)
…
وقد أورد على هذا لو لم يثبت الملك للمشتري لم يستحق به الشفعة".
(3)
يُنظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 42) حيث قال: "قولُهُ: آذنت بصرم -بضم الصاد- أي: بانقطاع صرمه إذا هجره. وقوله: صرام النخل هو جذاذه ".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 482) حيث قال: " (قولُهُ: ولا في بيع خيار) أي: ولا شفعة في شقص بيع على الخيار
…
فإذا رد المشتري بعد اطلاعه على العيب فله الشفعة عند ابن القاسم بناءً على أن الرد بالعيب ابتداء بيع ولا شفعة له عند أشهب ".
*
قولُهُ: (وَاخْتُلِفَ فِي الشُّفْعَةِ فِي الْمُسَاقَاةِ
(1)
؛ وَهِيَ تَبْدِيلُ أَرْضٍ بِأَرْضٍ).
المساقاة مصطلح عند المالكية.
*
قولُهُ: (فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: الْجَوَازُ، وَالْمَنْعُ، وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْمُنَاقَلَةُ بَيْنَ الْأَشْرَاكِ، أو الْأَجَانِبِ، فَلَمْ يَرَهَا فِي الْأَشْرَاكِ، وَرَآهَا فِي الْأَجَانِبِ)
(2)
.
*
قول: (الرُّكْنُ الرَّابِعُ: فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ)
فطريقة المؤلف أنه يقسم هذا الكتاب إلى أركان.
*
قولُهُ: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الرُّكْنِ بِمَاذَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ؟ وَكَمْ يَأْخُذُ؟ وَمَتَى يَأْخُذُ؟).
فهذا مجال الدراسة في هذا الركن: بماذا يأخذ الشفيع؟ وكم يأخذ؟ ومتى يأخذ؟
*
قولُهُ: (فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ فِي الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ إِن كَانَ حَالًّا. وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ الْبَيْعُ إِلَى أَجَلٍ هَلْ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ إِلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ؟).
المراد: إذا باع أحد الشريكين نصيبه، ثم اشتراه آخر، فجاء
(1)
أي: جعل نفسه مساقيًا عند المشتري للحصة. انظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (6/ 171).
(2)
يُنظر: "البدر التمام شرح بلوغ المرام" للقاضي الحسين بن محمد المغربي (6/ 482) حيث قال: "ولمالك في المساقاة ثلاث روايات في ثبوت الشفعة فيها: جواز الأخذ بالشفعة، والمنع، والثالثة: أن تكون المساقاة من الجنيب، فإن الشريك يشفع عليه ولا يشفع على الشريك الآخر".
الشريك الآخر يطالب بحقه في الشفعة؛ فالمعروف أنه يطلب ذلك من المشتري.
وقد يبيع الشريك نصيبه بمبلغ حالٍّ نقدًا؛ وهذا ليس فيه إشكال، أمَّا إذا باع الشريك نصيبه بمبلغ مؤجل فهنا الإشكال.
فالمالكية والحنابلة
(1)
يرون أنه إذا باعه حالًّا أخذه حالًّا، وإن كان إلى أجلٍ أخذه إلى أجل، وخالفهم الآخرون.
*
قولُهُ: (أَوْ يَأْخُذُ الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ حَالًّا، وَهُوَ مُخَيَّرٌ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: يَأْخُذُهُ بِذَلِكَ الْأَجَلِ إِذَا كَانَ مَلِيًّا، أَوْ يَأْتِي بِضَامِنٍ مَلِيءٍ)
(2)
.
معنى مليء: الإنسان الذي عنده مال، وموثوق به؛ فليس مماطلًا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"مطل الغني ظلم؛ يحل عرضه وعقوبته"
(3)
.
فالإمام مالك وكذلك الإمام أحمد يريان أنه إذا اشتراه مؤجلًا فإنه يدفع الثمن مؤجلًا، والذي ذكره المؤلف هو ما يسمى بتوثيق المبيع، فإنه يحتاج إلى ضمين لحفظ حقه إذا باعه مؤجلًا.
*
قولُهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الشَّفِيعُ مُخَيَّرٌ، فَإِنْ عَجَّلَ تَعَجَّلَتِ
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 159، 161) حيث قال: " (وإن كان الثمن) عن الشقص المشفوع (عرضًا متقومًا موجودًا قوم وأعطى) الشفيع المشتري (قيمته)؛ لأنها بدله
…
". قال: "(وإن كان الثمن) عن الشقص المشفوع (مؤجلًا أخذه) أي: الشقص (الشفيع بالأجل ").
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 478) حيث قال: "ولا يلتفت ليسره يوم حلول الأجل في المستقبل، (أو) لم يوسر؛ ولكن (ضمنه مليء)، أو أتى برهن ثقة".
(3)
كذا هو مركب من حديثين:
الجملة الأولى: أخرجه البخاري (2400)، ومسلم (1564) وتتمته:"فإذا أتبع أحدكم على ملي فليتبع "، والثانية: أخرجه أبو داود (3628)، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1434)، بلفظ:"لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ".
الشُّفْعَةُ، وإلَّا تَتَأَخَّرُ إِلَى وَقْتِ الْأَجَلِ
(1)
، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ
(2)
.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يَأْخُذُهَا إِلَّا بِالنَّقْدِ، لِأَنَّهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِ الْأَوَّلِ، قَالَ: وَمِنَّا مَنْ يَقُولُ: تَبْقَى فِي يَدِ الَّذِي بَاعَهَا، فَإِنْ بَلَغَ الْأَجَلَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ
(3)
، وَالَّذِينَ رَأَوُا الشُّفْعَةَ فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ مِمَّا ليْسَ بِبَيْعٍ، فَالْمَعْلُومُ عَنْهُمْ أَنَّهُ يَأْخُذُ الشُّفْعَةَ بِقِيمَةِ الشِّقْصِ إِنْ كَانَ الْعِوَضُ مِمَّا لَيْسَ يَتَقَدَّرُ، مِثْل أَنْ يَكُونَ مُعْطًى فِي خُلْعٍ).
قولُهُ: (والذين رأوا الشفعة في سائر المعاوضات) هم جمهور العلماء. والذين اقتصروا على البيع هم الحنفية.
والعوض غير البيع؛ قد يكون مهرًا، أو خلعًا، أو صلحًا في دم أو نحوه.
*
قولُهُ: (وَأمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْطًى فِي شَيْءٍ يَتَقَدَّرُ وَلَمْ يَكُنْ دَنَانِيرَ، وَلَا دَرَاهِمَ، وَلَا بِالْجُمْلَةِ مَكِيلًا، وَلَا مَوْزُونًا، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي دَفَعَ الشِّقْصَ فِيهِ).
الشقص: نصيب أحد الشريكين -كما مر.
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 383) حيث قال: " (أو) اشترى (بمؤجل فالأظهر) الجديد، وجزم به جمع (أنه) -أي: الشفيع- لا يأخذ بمؤجل بل هو (مخير بين أن يعجل) الثمن للمشتري (ويأخذ) الشقص (في الحال، أو يصبر إلى المحل) ".
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(6/ 231) حيث قال: " (قولُهُ: بطلت شفعته)؛ لأنَّ حقه قد ثبت، ولذا كان له أن يأخذ بثمن حال، ولولا أن حقه ثابت لما كان له الأخذ في الحال، والسكوت عن الطلب بعد ثبوت حقه يبطلها زيلعي ودرر، وفيه نظر؛ لأن هذا طلب تملك، ولا تبطل الشفعة بتأخيره إلى حلول الأجل ".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 86). قال: "سمعت الثوري، وسئل عن رجل باع من رجل أرضًا فيها شفعة لرجل آخر إلى أجل، فجاء الشفيع فقال: أنا آخذها إلى أجلها قال: لا يأخذها إلا بالنقد لأنها قد دخلت في ضمان الأول ". قال: "ومنا من يقول: يقر في يد الذي ابتاعها، فإذا بلغ الأجل أخذها الشفيع ".
*
قولُهُ: (وِإنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَحْدُودَ الْقَدْرِ بِالشَّرْعِ أَخَذَ ذَلِكَ الْقَدْرِ، مِثْلُ أَنْ يَدْفَعَ الشِّقْصَ فِي مُوضِّحَةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ).
الموضحة: هي من الشجاج، وهي التي توضح العظم
(1)
؛ فسبب هذه الشجة يعد جناية، كان يضرب إنسان آخر فيشجه، أي: يؤذيه حتى يصل الجرح أن يظهر العظم. والموضحة لها تقدير معلوم في الدية.
*
قولُهُ: (أَوْ مُنَقِّلَةٍ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِدِيَةِ الْمُوضِّحَةِ أَوِ الْمُنَقّلَةِ، وَأَمَّا كَمْ يَأْخُذُ؟).
المنقلة: من الشجاج، هي التي كسرت العظم ونقلته
(2)
، فهي أشد من الموضحة، وتدخل عند الجمهور ضمن العوض.
*
قولُهُ: (فَإِنَّ الشَّفِيعَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ).
الشفيع قد يكون واحدًا، وهذا أمره سهل، وقد يكون الشفيع أكثر من واحد، اثنان أو أكثر.
*
قولُهُ: (وَالْمَشْفُوعُ عَلَيْهِ أَيْضًا لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ).
فإن الشركة قد تكون مقسمة؛ هذا الجانب فيه مجموعة، وهذا فيه مجموعة. وهذه المسائل تحتاج إلى إصغاء.
*
قولُهُ: (فَأَمَّا أَنَّ الشَّفِيعَ وَاحِدٌ وَالْمَشْفُوعَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ أَوْ يَدَعَ)
(3)
.
(1)
يُنظر: "شرح غريب ألفاظ المدونة" للجبي (ص 113) حيث قال: "والموضحة: التي أظهرت اللحم وأوضحته بإزالة اللحم عنه "، وسيأتي التعريف مفصلًا في الديات.
(2)
يُنظر: "شرح غريب ألفاظ المدونة" للجبي (ص 114) حيث قال: "المُنَقِّلَة: التي تنقلت عظامها؛ نقلت عنها العظام فهي منقلة"، وسيأتي التعريف مفصلًا في الديات.
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 258) حيث قال: "واتفق الجميع على أن واجب للشفيع الحاضر أن يأخذ جميع المبيع بالشفعة، وأن الحكم له بذلك واجب وإن سلم بعض الشفعاء للمشترى ما وجب له من الشفعة لم يكن لمن لم يسلم شفعة إلا أن يأخذ جميع المبيع ".
ففي هذه الحالة؛ لا يقول الشفيع: أريد البعض وأترك البعض؛ فينتقي. فالواجب أن يأخذ النصيب جميعًا أو يدعه جميعًا.
*
قولُهُ: (وأمَّا إذا كان المشفوع عليه واحدًا والشفعاء أكثر من واحد فإنهم اختلفوا من ذلك).
المشفوع عليه: أي الذي باع نصيبه لواحدٍ، لكن الذين جاؤوا يطالبون أكثر من واحد، وهم شركاؤه.
*
قولُهُ: (فِي مَوْضِعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ بَيْنَهُمْ. وَالثَّانِي: إِذَا اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُ شَرِكتِهِمْ؛ هَلْ يَحْجُبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنِ الشُّفْعَةِ أَمْ لَا؟ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ شُرَكَاءَ فِي الْمَالِ الَّذِي وَرِثُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ سَهْمٍ وَاحِدٍ، وَبَعْضُهُمْ لِأَنَّهُمْ عُصْبَةٌ).
هذا واقع يحصل.
*
قولُهُ: (فأما المسألة الأولى: وهي كيفية توزيع الْمَشْفُوعِ فِيهِ)
(1)
.
كيفية توزيع المشفوع فيه: إذا كان المتقدم للشفعة واحدًا فأمره معروف، إمَّا أن يأخذ الجميع أو يدع الجميع، وليس له أن يختار.
أمَّا إذا كان المتقدم للشفعة أكثر من واحد؛ ففيه خلاف بين العلماء:
- هناك من يرى أنها تقسم على الأنصبة، يعني الأملاك.
- وهناك من يرى أنها على رؤوسهم بالتساوي، دون تمييز لأحد على أحد.
- وهناك من يرى أنها على حسب حصصهم، أي: أملاكهم؛ فمن يملك عشرون بالمائة مثلًا يأخذ ما يقابلها، ومن ملكه خمسة عشر مثلًا يأخذ ما يقابلها.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 75) حيث قال: "قد اختلف السلف والخلف في هذه المسألة على قولين ".
*
قولُهُ: (فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
وَالشَّافِعِيَّ
(2)
).
وأحمد كذلك في رواية
(3)
.
*
قولُهُ: (وَجُمْهُورَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
(4)
يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَشْفُوعَ فِيهِ يَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ، فَمَنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ الثُّلُثَ مَثَلًا أُخِذَ مِنَ الشِّقْصِ بِثُلُثِ الثَّمَنِ، وَمَنْ كَانَ نَصِييُهُ الرُّبْعَ أُخِذَ الرُبْعُ).
ووجهة نظر من قال: يقتسمون المشفوع فيه على قدر حصصهم: أنهم إنما استحقوا ذلك بسبب الملك، فينبغي أيضًا أن يكون التوزيع على قدر أملاكهم لا يزيد ولا ينقص.
*
قولُهُ: (وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ)
(5)
.
وهم أبو حنيفة ومن معه، كابن أبي ليلى والثوري، وهي أيضًا روايه
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4863) حيث قال: " (قولُهُ: وهي على الأنصباء) لا فرق بين كون الشقص المشفوع فيه يقبل القسمة، أو لا".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 75) حيث قال: " (ولو استحق الشفعة جمع) كدار مشتركة بين جمع بنحو شراء أو إرث باع أحدهم نصيبه، واختلف قدر أملاكهم (أخذو) ها (على قدر الحصص) ".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 341) حيث قال: "الشفعة (بين شفعاء على قدر أملاكهم) فيما منه الشقص المبيع؛ لأنها حق يستفاد بسبب الملك فكانت على قدر الأملاك كالغلة".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 75) حيث قال: "قد اختلف السلف والخلف في هذه المسألة على قولين: (أحدهما) أن الشفعة بالحصص
…
وهذا قول مالك وأصحابه وجماعة من السلف منهم شريح القاضي وعطاء وابن سيرين؛ ثلاثة أئمة من ثلاثة أمصار، وهو قول جمهور أهل المدينة.
(القول الثاني): أن الشفعة على الرؤوس وأن صاحب النصف الصغير والكبير فيها سواء، وبه قال الكوفيون ".
(5)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 108) حيث قال: "وإذا جمع الشفعاء فالشفعة بينهم على عدد رؤوسهم، ولا يعتبر اختلاف الأملاك ".
أخرى للإمام أحمد
(1)
.
*
قولُهُ: (هِيَ عَلَى عَدَدِ الرُّؤُوسِ عَلَى السَّوَاءِ).
يعني لا تفاضل بينهم على حسب حصصهم؛ بل يتساوون؛ وحجتهم أنه لو انفرد كل واحد منهم بالشفعة لاستحقها وحده.
*
قولُهُ: (وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الشَّرِيكُ ذُو الْحَظِّ الْأَكْبَرِ، وَذُو الْحَظِّ الْأَصْغَرِ).
يعني صاحب الملك الأكبر، وصاحب الملك الأصغر.
*
قولُهُ: (وَعُمْدَةُ الْمَدَنِيِّينَ).
ويدخل مع المدنيين الشافعية والحنابلة.
*
قولُهُ: (أَنَّ الشُّفْعَةَ حَقٌّ يُسْتَفَادُ وُجُوبُهُ بِالْمِلْكِ الْمُتَقَدِّمِ).
والملك المتقدم هو أنهما اشتركا في ملك هذا الشقص أو هذا النصيب في الأصل، ثم جاء أحدهما فباع نصيبه، فهذا يدلي عليه؛ لأنه شريك له في الملك.
*
قولُهُ: (فَوَجَبَ أَنْ يَتَوَزَّعَ عَلَى مِقْدَارِ الْأَصْلِ).
كما مر بيانه: السبب في التوزيع على مقدار الأصل؛ أن الملك هو سبب الشفعة؛ فينبغي أن يأخذوا على قدر أملاكهم وحصصهم.
*
قولُهُ: (أَصْلُهُ الْأَكْرِيَةُ فِي الْمُسْتَأْجَرَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ).
فالمؤلف قاسه على الأكرية، كما قسناه على الغلة؛ فإنهم لا يتساوون فيها، وإنما يأخذون على قدر أملاكهم، فإنه مع اختلاف أموال الناس لا يقال بتساويهم، وإنما تكون القسمة على قدر حصصهم، وكذلك
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 270) حيث قال: "وعن أحمد رواية ثانية: أنه يقسم بينهم على عدد رؤوسهم".
الأكرية، إذا وجد بيت بين عدد من الأشخاص وما دفعه كل واحد منهم يختلف؛ فإنهم يأخذون الأجرة على قدر أنصبتهم، لا يتساوون في ذلك، وإلا يكون ذلك ظلمًا.
*
قولُهُ: (وَالرِّبْحُ فِي شَرِكَةِ الْأَمْوَالِ).
شركة الأموال يأخذ أصحابها على قدر أموالهم.
*
قولُهُ: (وَأَيْضًا فَإِنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا هِيَ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ، وَالضَّرَرُ دَاخِلٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى غَيْرِ اسْتِوَاءٍ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَى كلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَسَبِ حِصَّتِهِ).
يذكر المؤلف أن المقصود من الشفعة هو رفع الضرر؛ لأن هذا الذي سيدخل عليهم بأخذه للشقص قد يضر بهم؛ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا ضرر ولا ضرار، ومن ضار ضره الله"
(1)
. إذن ما دام الضرر يحصل فالذي يكون نصيبه أكثر يلحقة ضرر أكبر.
*
قولُهُ: (فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُهُمْ لِدَفْعِهِ عَلَى تِلْكَ النِّسْبَةِ.
وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِنَفْسِ الْمِلْكِ فَيَسْتَوْفِي ذَلِكَ أَهْلُ الْحُظُوظِ الْمُخْتَلِفَةِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي نَفْسِ الْمِلْكِ، وَرُبَّمَا شَبَّهُوا ذَلِكَ بِالشُّرَكَاءِ فِي الْعَبْدِ).
قولُهُ: (شبهوا ذلك بالشركاء في العبد) يعني في السرايا، وهذا مثال آخر كما ذكرنا كالميراث.
*
قولُهُ: (يُعْتِقُ بَعْضُهُمْ نَصِيبَهُ أَن يَقُوم عَلَى الْمُعْتَقِينَ عَلَى السَّوِيَّةِ؛ أَعْنِي: حَظَّ مَنْ لَمْ يُعْتِقْ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه (3/ 77) وغيره، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(3/ 410).
دُخُولِ الْأَشْرَاكِ الَّذِينَ هُمْ عُصْبَةٌ فِي الشُّفْعَةِ مَعَ الْأَشْرَاكِ الَّذِينَ شَرِكَتُهُمْ مِنْ قِبَلِ السَّهْمِ الْوَاحِدِ)
(1)
.
وهذه المسألة تحتاج أن يتنبه لها؛ فإن فيها ثلاثة أقوال:
*
قولُهُ: (فَقَالَ مَالِكٌ).
القول الأول: هو قول مالك، ووافقه الشافعى في مذهبه القديم.
*
قولُهُ: (أَهْلُ السَّهْمِ الْوَاحِدِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ إِذَا بَاعَ أَحَدُهُمْ مِنَ الْأَشْرَاكِ مَعَهُمْ فِي الْمَالِ مِنْ قِبَلِ التَّعْصِيبِ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ ذُو الْعُصْبَةِ فِي الشُّفْعَةِ عَلَى أَهْلِ السِّهَامِ الْمُقَدَّرَةِ، وَيَدْخُلُ ذَوُو السِّهَامِ عَلَى ذَوِي التَّعْصِيبِ
(2)
، مِثْلُ أَنْ يَمُوتَ مَيِّتٌ فَيَتْرُكَ عَقَارًا تَرِثُهُ عَنْهُ بِنْتَانِ، وَابْنَا عَمٍّ).
فإذا مات رجل وترك دارًا؛ وورثته: بنتان، وأخوان؛ فإن البنتين ستأخذان الثلثين، والباقي للعمَّيْن تعصيبًا. وربما تأتي بنت من البنتين فتبيع نصيبها؛ فهنا حينئذٍ تأتي الشفعة.
*
قولُهُ: (ثُمَّ تَبِيعُ الْبِنْتُ الْوَاحِدَةُ حَظَّهَا).
فكلهم اشتركوا في الميراث؛ فالبنتان من أهل الفروض، والعمان من أهل التعصيب؛ فإذا باعت إحدى البنتين نصيبها؛ فتحدث الشفعة.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 73) حيث قال: "اختلف أصحاب مالك وسائر الفقهاء في ميراث الشفعة وهل تورث أو لا تورث؟ وفي كيفية الشفعة بين الورثة هل هي للكبير كالولاء؟ وهل تدخل العصبة فيها على ذوي الفروض أو يدخل بعض أهل السهام فيها على بعض؟ ".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 492) حيث قال: "قولُهُ: (وقدم مشاركه في السهم) أي: على غيره من بقية الشركاء، سواء كان ذلك صاحب سهم آخر كأختين شقيقتين، أو لأب، وأخ لأم باعت إحدى الأختين، فالشفعة للأخت الأخرى دون الأخ للأم، أو كان عاصبًا، أو أجنبيًّا. (قولُهُ: أن المشارك في السهم) أي: في الحظ، والنصيب، والمراد به الفرض، وقوله على الشريك الأعم ".
*
قولُهُ: (فَإِنَّ الْبِنْتَ الثَّانِيَةَ عِنْدَ مَالِكٍ هِيَ الَّتِي تَشْفَعُ فِي ذَلِكَ الْحَظِّ الَّذِي بَاعَتْهُ أُخْتُهَا فَقَطْ دُونَ ابْنَيِ الْعَمِّ، وَإِنْ بَاعَ أَحَدُ ابْنَيِ الْعَمِّ نَصِيبَهُ يَشْفَعُ فِيهِ الْبَنَاتُ وَابْنُ الْعَمِّ الثَّانِي، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
(1)
. وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: لَا يَدْخُلُ ذَوُو السِّهَامِ عَلَى الْعَصَبَاتِ، وَلَا الْعَصَبَاتُ عَلَى ذَوِي السّهَامِ وَيَتَشَافَعُ أَهْلُ السَّهْمِ الْوَاحِدِ فِيمَا بَيْنَهُمْ خَاصَّةً
(2)
، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ
(3)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَدْخُلُ ذَوُو السِّهَامِ عَلَى الْعَصَبَاتِ وَالْعَصَبَاتُ عَلَى ذَوِي السِّهَامِ
(4)
).
هذا قول الشافعي والحنابلة
(5)
، وهو المعروف عن الحنفية.
*
قولُهُ: (وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ
(6)
، وَبِهِ قَالَ الْمُغِيرَةُ مِنْ
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 74) حيث قال: "فقال ابن القاسم بما وصفت لك ".
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(6/ 221) حيث قال: "بينهما منزل في دار لقوم باع أحدهما نصيبه منه، فشريكه فيه أحق، ثم الشركاء في الدار لأنهم أقرب ".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 492) حيث قال: "وقوله على الشريك الأعم؛ أي: الغير المشارك في الفرض، سواء كان ذلك الأعم صاحب سهم آخر، أو عاصبًا، أو أجنبيًّا. (قولُهُ: وإن كأخت) أي: خلافًا لأشهب ".
(4)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 389) حيث قال: "ولو مات مالك أرض عن ابنين، ثم مات أحدهما عن ابنين، فباع أحدهما نصيبه ثبتت الشفعة للعم والأخ لاشتراكهما في الملك، والنظر في الشفعة إلى ملك الشريك لا إلى سبب ملكه ".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 351) حيث قال: " (وإن ورث اثنان شقصًا) عن أبيهما أو غيره مع تساو أو تفاضل، (فباع أحدهما نصيبه) الذي ورثه أو بعضه، (فالشفعة) في المبيع (بين) الوارث (الثاني) الذي لم يبع. (و) بين (شريك مورثه) على قدر ملكيهما؛ لأنهما شريكان حال ثبوت الشفعة، فكانت بينهما كما لو ملكاها بسبب واحد"
…
وسبق تبيان الشافعية.
(6)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 219) حيث قال: "هذا أصح من أحد قوليه أن أخاه أحق بنصيبه ".
أَصْحَابِ مَالِكٍ
(1)
).
وهو قول أحمد أيضًا، والمثال على ذلك: إذا مات إنسانٌ عن أخوين؛ ثم مات أحد هذين الأخوين وترك ابنين؛ فقام أحدهما ببيع نصيبه، فتكون الشفعة مشتركة بين الابن وعمه، وذلك بالنظر إلى الأصل، لأنَّ العم كان شريكًا في أصل المال؛ فينبغي كذلك أن يكون شريكًا في الشفعة.
وعند الإمام مالك: لا يكون العم شريكًا ولا يشترط ذلك؛ لأن هذا ميراث.
*
قولُهُ: (وَعُمْدَةُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيُّ: عُمُومُ قَضَائِهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَلَمْ يَفْصِلْ ذَوِي السَّهْم مِنْ عُصْبَةٍ. وَمَنْ خَصَّصَ).
عمدة مذهب الشافعي ومن معه عمومًا هو قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فحجة هؤلاء أنه ينبغي أن يشترك الأصل أو الأعلى درجة مع الأدنى درجة.
وإن كان الابن الذي رأى المالكية أنه ينفرد؛ لأنه يدلي بسبب الملك، وذاك يدلي بسبب الأصل.
فمن قال: الابن الذي هو أخ لمن باع نصيبه ينفرد بالشفعة؛ لأنه يدلي بسبب الملك فهو أقرب.
والشافعية والحنابلة قالوا: العم أيضًا شريك في الأصل؛ لأنه يدلي بالأصل.
*
قولُهُ: (ذَوِي السِّهَامِ مِنَ الْعَصَبَاتِ فَلِأَنَّهُ رَأَى الشَّرِكَةَ مُخْتَلِفَةُ
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 74) حيث قال: "وقال المغيرة المخزومي: يدخل العصبات على ذوي السهام، وذوو السهام على العصبات؛ لأنهم كلهم شركاء".
الْأَسْبَابِ (أَعْنِي: بَيْنَ ذَوِي السِّهَامِ وَبَيْنَ الْعَصَبَاتِ)، فَشَبَّهَ الشَّرِكَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأسْبَابِ بِالشَّرِكَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ قِبَلِ مَحَالِّهَا الَّذِي هُوَ الْمَالُ بِالْقِسْمَةِ بِالْأَمْوَالِ. وَمَنْ أَدْخَلَ ذَوِي السِّهَامِ عَلَى الْعَصَبَةِ، وَلَمْ يُدْخِلِ الْعَصَبَة عَلَى ذَوِي السِّهَامِ، فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ).
نقد المؤلف مذهب مالك هنا بأنه استحسانٌ غير مبني على أصل؛ فضعفه.
أمَّا المبني على أصل هو ما أخذ به الشافعية ومن معهم.
*
قولُهُ: (وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ ذَوِي السِّهَامِ أَقْعَدُ مِنَ الْعَصَبَةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَشْفُوعُ عَلَيْهِمَا اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَشْفَعَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الثَّانِي، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ أَوْ يَدَعَ
(1)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(2)
وَالشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَشْفَعَ عَلَى أَيِّهِمَا أَحَبَّ
(3)
، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ
(4)
).
وهي رواية للإمام أحمد
(5)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 74) حيث قال: "وقال ابن القاسم: إذا وجبت الشفعة لرجلين فسلم أحدهما، فليس للآخر إلا أن يأخذ الجميع أو يدع ".
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(6/ 253) حيث قال: " (قولُهُ: وليس له) أي: للشفيع، وقوله: بيعتا، أي: صفقة واحدة، وهو شفيعهما فيأخذهما جميعًا أو يتركهما لتفريق الصفقة كما تقدم ".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 78) حيث قال: " (فلو باع شقصين من دارين صفقة وشفيعهما واحد، فله أخذ أحدهما فقط ".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 76) حيث قال: "وقال أشهب: له أن يأخذ من أحدهما ويدع الآخر".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 341) حيث قال: " (ومع ترك البعض) من الشركاء حقه من الشفعة (لم يكن للباقي) الذي لم يترك (أن يأخذ) بالشفعة (إلا الكل) أي: كل المبيع (أو يترك) الكل. حكى ابن المنذر الإجماع عليه، ولأن في أخذ البعض إضرارًا بالمشتري ".
*
قولُهُ: (فَأَمَّا إِذَا بَاعَ رَجُلَانِ شِقْصًا مِنْ رَجُلٍ، فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَشْفَعَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الثَّانِي: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَنَعَ ذَلِكَ
(1)
، وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ
(2)
. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الشَّافِعُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ (أَعْنِي: الْأَشْرَاكَ) فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَشْفَعَ وَيسَلِّمَ لَهُ الْبَاقِيَ فِي الْبُيُوعِ: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقُولَ لِلشَّرِيكِ: إِمَّا أَنْ تَشْفَعَ فِي الْجَمِيعِ، أَوْ تَتْرُكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ بِحَسَبِ حَظِّهِ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَعِّضَ الشُّفْعَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي إِنْ لَمْ يَرْضَ بِتَبْعِيضِهَا
(3)
. وَقَالَ أَصْبَغُ -مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ-: إِنْ كانَ تَرَكَ بَعْضَهُمُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ رِفْقًا بِالْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ حِصَّتَهُ فَقَطْ
(4)
.
لكن هذا -كما عرفنا- يخالف مذهب الجمهور، ولا شك أن مذهب الجمهور هو أقرب إلى أصول هذه الشريعة؛ فإما أن يأخذ الشقص كله، أو يتركه كله.
*
قولُهُ: (وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بَعْضُ الشُّفَعَاءِ
(1)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 222) حيث قال صاحب الدر: " (ولو جعل بعض الشفعاء نصيبه لبعض لم يصح وسقط حقه به) لا إعراضه ويقسم بين البقية".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 215) حيث قال: " (ولا اشتريا شقصًا، فللشفيع أخذ نصيبهما)، وهو ظاهر (ونصيب أحدهما) لأنه لم يفرق عليه ملكه ".
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 209) حيث قال: "وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن من اشترى شقصًا من أرض مشتركة، فسلم بعضهم الشفعة وأراد بعضهم أن يأخذ بالشفعة، فلمن أراد أن يأخذ بالشفعة أن يأخذ الجميع أو يدع، وليس له أن يأخذ بقدر حقه ويترك ما بقي ".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 76) حيث قال: "وذكر ابن حبيب عن أصبغ أنه قال: إن كان تركه وتسليمه رفقًا بالمشتري وتجافيًا له كأنه وهبه شفعته، فلا يأخذ الآخر حصته ".
غَائِبًا وَبَعْضُهُمْ حَاضِرًا، فَأَرَادَ الْحَاضِرُ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّتَهُ فَقَطْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ أَوْ يَدَعَ، فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ
(1)
. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْبَيْعِ
(2)
. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً فِي حَالِ الْبَيْعِ، وَأَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً قَبْلَ الْبَيْعِ؟).
جاء المؤلف بهذه تصورًا منه، أمَّا ما هو عند مالك فإنما جاء تطبيقه الموافق لما أراد.
*
قولُهُ: (فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى (وَهِيَ إِذَا لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا فِي حَالِ الْبَيْعِ)، وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ بِأَنْ يَكُونَ يَتَرَاخَى عَنِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ).
هذا جاء به المؤلف تصورًا، والمراد أن الشريك له الحق في الشفعة، لكنه تراخى في المطالبة بها، ثم جاء يطالب.
*
قولُهُ: (بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يُقْطَعُ لَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يَبِيعَ الْحَظَّ الَّذِي كَانَ بِهِ شَرِيكًا. فَرَوَى أَشْهَبُ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ، فَمَرَّةً قَالَ: لَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، وَمَرَّةً قَالَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ
(3)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 490) حيث قال: " (قولُهُ: أو غاب البعض) أي: بعض الشفعاء قبل أخذه، أي: أنه إذا كان بعضهم حاضرًا وبعضهم غائبًا، وأراد الحاضر أن يأخذ حصته فقط بالشفعة ويترك الباقي، فليس له ذلك، وإنما له أن يأخذ جميع الشقص، أو يترك جميعه للمشتري ".
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (10/ 474) حيث قال: "أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع ".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 90) حيث قال: "فذكر أشهب عن مالك أن قولُهُ اختلف في ذلك؛ فمرة قال: تجب له الشفعة، ومرة قال: لا تجب ".
وَاخْتَارَ أَشْهَبُ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لَهُ
(1)
، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ
(2)
وَالْكُوفِيِّينَ
(3)
).
هو قياس قول الشافعي والكوفيين، وأيضًا الإمام أحمد
(4)
؛ فيلتقي هذا القياس مع المنهج الذي صار عليه الجمهور.
*
قولُهُ: (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشُّفْعَةِ إِنَّمَا هو إِزَالَةُ الضَّرَرِ مِنْ جِهَةِ الشَّرِكَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَرِيكٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
(5)
: لَهُ الشُّفْعَةُ إِذَا كانَ قِيَامُهُ فِي أَثَرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي وَجَبَ لَهُ لَمْ يَرْتَفِعْ بِبَيْعِهِ حَظَّهُ. وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَصُورَتُهَا أَنْ يَسْتَحِقَّ إِنْسَانٌ شِقْصًا فِي أَرْضٍ قَدْ بِيعَ مِنْهَا قَبْلَ وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ شِقْصٌ مَا؛ هَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ أَمْ لَا؟).
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 321) حيث قال: "وقال أشهب: وأحب إليَّ أن لا شفعة له بعد بيع نصيبه أو بعضه؛ لأنه إنما باع راغبًا في البيع وإنما الشفعة للضرر فلم تكن له شفعة".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (5/ 318) حيث قال: " (ولو) (باع الشفيع حصته) كلها أو زال ملكه عنها بغير البيع كهبة (جاهلًا بالشفعة) (فالأصح بطلانها) لزوال سببها، وهو الشركة؛ بخلاف بيع البعض ".
(3)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(6/ 241، 242) حيث قال: " (قولُهُ: ويبطلها بيع ما يشفع به) أي: كله لما في الخانية: الشفيع بالجوار إذا باع الدار التي يستحق بها الشفعة إلا شقصًا منها لا تبطل شفعته؛ لأن ما بقي يكفي للشفعة ابتداء فيكفي لبقائها".
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 346) حيث قال: "وإن باع شفيع جميع حصته بعد علمه ببيع شريكه سقطت شفعته، وإن باع بعض حصته عالمًا ففي سقوط الشفعة وجهان ".
(5)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 484) حيث قال: "عن ابن القاسم: إنما تسقط إذا باع عالمًا ببيع شريكه، فإن باع غير عالم ببيعه فلا تسقط شفعته، قال: وهو أظهر الأقوال (قولُهُ: أو سكت) أي: عن القيام بالشفعة (قولُهُ: مع علمه بهدم، أو بناء) أي: ولو كان كل منهما يسيرًا".
فهذه المسألة في أرض بيع منها، ثم استحق إنسان شقصًا فيها، فهل له أن يأخذ بالشفعة أم لا؟
*
قولُهُ: (فَقَالَ قَوْمٌ: لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ بِتَقَدُّمِ شَرِكتِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ كَانَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَجِبُ لَهُ الشُّفْعَةُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ مَالُ الشَّرِكةِ يَوْمَ الِاسْتِحْقَاقِ، قَالُوا: ألَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الْغَلَّةَ مِنَ الْمُشْتَرِي. فَأَمَّا مَالِكٌ
(1)
فَقَالَ: إِنْ طَالَ الزَّمَانُ فَلَا شُفْعَةَ، وَإِنْ لَمْ يَطُلْ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ
(2)
، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ. وَأَمَّا مَتَى يَأْخُذُ؟ وَهل لَهُ الشُّفْعَةُ؟).
هذا بيان المؤلف للعنصر الثاني وهو: متى يأخذ الشفعة؟
*
قولُهُ: (فإنَّ الذي له الشفعة رَجُلَانِ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ).
الكلام هنا عن حاضر ترك البيع، وشهده. وآخر غائب؛ فهل يختلف الحكم؟
*
قولُهُ: (فَأَمَّا الْغَائِبُ: فَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْغَائِبَ عَلَى شُفْعَتِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِبَيْعِ شَرِيكِهِ)
(3)
.
(1)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطأ" للباجي (6/ 219، 220) حيث قال: "وأما ضمان ما تلف من النخل فإن معنى ذلك أنه لا يرجع بثمنه على البائع منه، ولكن لو أراد المستحق أن يغرمه ثمن ذلك، أو قيمته لم يكن له ذلك، وسواء تلف ذلك بفعل المشتري، أو بغير فعله ولو قلع النخل، أو قطعها، أو كانت دارًا فهدمها لم يكن للمستحق إلا أن يأخذها كما هي، ولا يتبع المشتري بشيء مما هدم إلا أن يكون النقض حاضرًا فيأخذه أو يرجع على البائع بثمن ما استحق، ووجه ذلك أنه تصرف في ملكه بما يجوز له؛ فلم يكن عليه ضمان لسلامته من التعدي ".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (6/ 172) حيث قال: "يعني أن الشفيع إذا سافر وكان يظن أنه يرجع قبل مضي المدة المسقطة فعاقه أمر -أي: حصل له أمر عاقه عن الإياب- فإنه باقٍ على شفعته ولو طال الزمان ".
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 209) حيث قال: "ولا تقطع الشفعة غيبة الشفيع وإن طالت، وهذا إجماع إذا لم يعلم بالبيع ".
للغائب حالتان:
الحالة الأولى: ألا يبلغه الخبر؛ فأجمع العلماء على أن الغائب على شفعته ما دام الخبر لم يبلغه. ثم أيضًا ينصرف عن الطلب؛ فلا يطالب ولا يشهد.
الحالة الثانية: إذا بلغه الخبر فإن عليه عند ذلك أن يطالب بالشفعة أو يشهد على مطالبته بها؛ فإن لم يطالب، ولم يقم شاهدًا على مطالبته؛ فبعض العلماء قال: لا يستحق الشفعة، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
*
قولُهُ: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا عَلِمَ وَهُوَ غَائِبٌ
(1)
؛ فَقَالَ قَوْمٌ: تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ
(2)
. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَسْقُطُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
(3)
. وَالْحُجَّةُ لَهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: "الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقْبِهِ"
(4)
.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 209) لابن القطان، حيث قال:"واختلفوا إذا علم به -أي: بالبيع- في مغيبه ".
(2)
وهو مذهب الشافعية، ينظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 79) حيث قال: " (أو غائبًا عن بلد المشتري) بحيث تعد غيبته حائلة بينه وبين مباشرة الطلب
…
(فليوكل) في الطلب (إن قدر)؛ لأنه الممكن (وإلا) يقدر (فليشهد)
…
(على الطلب)، ولو قال: أشهدت فلانًا وفلانًا، فأنكرا، لم يسقط حقه، (فإن ترك المقدور عليه منهما) أي: التوكيل والإشهاد المذكورين (بطل حقه في الأظهر) لتقصيره المشعر بالرضى".
وعند الحنابلة كذلك، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 143) حيث قال: " (وتسقط) الشفعة (إذا) علم الشريك بالبيع وهو غائب، و (سار هو) أي: الشريك الغائب (أو) سار (وكيله إلى البلد الذي فيه المشتري في طلبها) أي: الشفعة ولم يشهد قبل سيره (ولو) سار (بمضي) أي: سير (معتاد)؛ لأن السير يكون لطلب الشفعة ولغيره، وقد قدر أن يبين كون سيره لطلب الشفعة بالإشهاد عليه، فإذا لم يفعل سقطت كتارك الطلب مع حضوره ".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 485) حيث قال: "الأخذ بالشفعة
…
ومثله الغائب فله أن يأخذ بها إذا قدم ولو طالت غيبته، بل يعتبر له سنة وما قاربها بعد قدومه ".
(4)
سبق تخريجه.
هو حديث: "الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها إن كان غائبًا"، في بعض الروايات بإثبات الواو:"وإن كان غائبًا" إذا كان طريقه واحدًا، هذا الحديث رواه الخمسة إلا النسائي، ورواه أيضًا البيهقي وأحمد
(1)
.
هذا الحديث فيه اختلاف على (عبد الملك بن سليمان عن عطاء) فبعض العلماء وثَّقه، وبعضهم تكلَّم فيه، والحديث فيه خلاف بين العلماء؛ ولذلك اختلف في صحته عن طريق الراوي: هل هو صحيح أو لا؟ فبعض العلماء يثبتون، وبعض العلماء يوثق الرجل لكنه يضعفه في هذا الحديث، وبعضهم يرى أنه ضعيف
(2)
.
إذن؟ هذا الحديث نصف المسألة: "الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها إذا كان غائبًا". إذًا بعض الروايات قيدت: "إذا كان طريقه واحدًا ".
أما لو صح هذا الحديث فإنه يرفع كل إشكال، وهو بلا شك حجة للذين قالوا بالانتظار مطلقًا دون قيد؛ قالوا: فإن هذا الحديث لم يقيده بوجوب إشهاد أو عدم إشهاد، وإنما أطلق.
وحديث: "الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقْبِهِ" صحيح أخرجه البخاري وغيره
(3)
.
*
قولُهُ: (أَوْ قَالَ: "بِشُفْعَتِهِ يُنْتَظَرُ بِهَا إِذَا كَانَ غَائِبًا"
(4)
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْغَائِبَ فِي الْأكثَرِ مُعَوَّقٌ عَنِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، فَوَجَبَ عُذْرُهُ).
وهذا على التفصيل الذي مرَّ في بيان حال الغائب.
(1)
أخرجه أبو داود (3518)، والترمذي (1369)، وابن ما جه (2494)، وأحمد (14253)، والبيهقي (6/ 106)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1540).
(2)
انظر: "نصب الراية" للزيلعي (4/ 174، 175)"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي في (4/ 173).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سبق تخريجه.
*
قولُهُ: (وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي: أَنَّ سُكُوتَهُ مَعَ الْعِلْمِ قَرِينَة تَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِإِسْقَاطِهَا).
يعني إذا علم وسكت، وأكثر العلماء يقولون: لو علم وسكت، ثم رأى أن يطالب فله الحق.
*
قولُهُ: (وَأَمَّا الْحَاضِرُ: فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ وُجُوب الشُّفْعَةِ لَهُ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
وَأَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ وَاجِبَة لَهُ عَلَى الْفَوْرِ
(2)
).
الشفعة إما تكون على التراخي أو على الفور متى ما علم أن شريكه باع نصيبه.
جمهور العلماء يقولون: هي على الفور؛ أما إذا كان له عذر في تأخره؛ كأن يأتيه الخبر وهو يتطهر للصلاة؛ فإنه يتم ويصلي، ثم بعد ذلك يذهب يطالب بالشفعة؛ فهناك أسباب لا تعتبر مؤخرة له عن المطالبة بالشفعة كالأمور الضرورية من الأعمال التي لا يستغنى عنها.
أما إذا ترك المطالبة، فإنه في هذه الحالة لا شفعة له عند الجمهور، وله الشفعة عند مالك.
*
قولُهُ: (بِشَرْطِ الْعِلْم وَإِمْكَانِ الطَّلَب، فَإِنْ عَلِمَ وَأَمْكَنَ الطَّلَبُ، وَلَمْ يَطْلُبْ بَطُلَتْ شُفْعَتُهُ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةً
(3)
قَالَ: إِنْ أَشْهَدَ الْأَخْذ لَمْ
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 78) حيث قال: " (والأظهر أن الشفعة) أي: طلبها (على الفور) ".
(2)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (2/ 44) حيث قال: "وإذا علم الشفيع بالبيع ينبغي أن يشهد في مجلس علمه على الطلب، فإن لم يشهد بعد التمكن منه بطلت ".
(3)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (2/ 44، 45) حيث قال: "ثم يشهد على البائع إذا كان المبيع في يده أو على المشتري أو عند العقار، ولا تسقط بالتأخير".
تَبْطُلْ وَإِنْ تَرَاخَى. وَأَمَّا مَالِكٌ: فَلَيْسَتْ عِنْدَهُ عَلَى الفَوْرِ
(1)
، بَلْ وَقْتُ وُجُوبِهَا مُتَّسِع، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ: هَلْ هُوَ مَحْدُودٌ أَمْ لَا؟ فَمَرَّةً قَالَ: هُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَأَنَّهَا لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يُحْدِثَ الْمُبْتَاعُ بِنَاءً، أَوْ تَغْيِيرًا كثِيرًا بِمَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ حَاضِرٌ عَالِمٌ سَاكتٌ)
(2)
.
الإمام مالك قال: تجب الشفعة للشريك على التراخي؛ ولكن اختلفت الرواية عنه في حد هذا التراخي.
أما العلماء الآخرون؛ فقالوا: تجب الشفعة للشريك على الفور. ولا يخالف الفور حال التأخر لأمر ضروري.
قال الإمام مالك: لم يحدث أشياء واضحة؛ مثل أن يأتي إنسان قد اشترى الشقص؛ فيغير ويبدل ويقيم المباني ويضيف إليها أشياء ونحو ذلك؛ فحينئذ تكون الصورة واضحة.
*
قولُهُ: (وَمَرَّةً حَدَّدَ هَذَا الْوَقْتَ، فَرُوِيَ عَنْهُ السَّنَةَ
(3)
، وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَقِيلَ: أَكْثَرُ مِنْ سَنَةٍ، وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ: إِنَّ الْخَمْسَةَ أَعْوَامٍ لَا تَنْقَطِعُ فِيهَا الشُّفْعَةُ
(4)
.
العلماء مجمعون على أن القصد من الشفعة رفع الضرر؛ ومن يخشى من الضرر عليه أن يبادر إلى أخذ حقه في الشفعة.
(1)
سيأتي في الحواشي التالية اختلاف القول عن مالك في حد التراخي في طلب حق الشفعة.
(2)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (3/ 71) حيث قال: " (فإن سكت الشفيع ولم يقم حتى أحدث المشتري فيما اشتراه غرسًا أو بناء أو حتى طالت المدة وخرجت عن الحد الموقت في الشفعة بطل حقه وسقط قيامه ".
(3)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (3/ 70) حيث قال: "وقد اختلف في الحد الذي تنقطع فيه شفعة الحاضر العالم إذا سكت ولم يقم بطلب شفعته؛ فقال أشهب ورواه عن مالك: إن حد ذلك السنة".
(4)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (3/ 70) حيث قال: "والخمس سنين قليل إلا أن يحدث المشتري فيها بيتًا أو غرسًا فتنقطع شفعته في أقل من ذلك ".
*
قولُهُ: (وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "الشُّفْعَةُ كحَلِّ الْعِقَالِ")
(1)
.
هذا الحديث فيه دليل على سرعة المبادرة.
وقد رواه ابن ماجه في (سُننه)، وقد رواه أيضًا البيهقي
(2)
.
بعض العلماء قال: إن هذا الحديث غير صحيح
(3)
، رواه ابن ماجه والبيهقي، وجميع طرقه ضعيفة؛ فلا يصلح حجة لهذه المسألة؛ فإنه متفق على ضعفه.
*
قولُهُ: (وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَمَدَهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ
(4)
. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُسْقِطِ الشُّفْعَةَ بِالسُّكُوتِ وَاعْتَمَدَ عَلَى أَنَّ السُّكُوتَ لَا يُبْطِلُ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ قَرَائِنِ أَحْوَالِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِسْقَاطِهِ، وَكَانَ هَذَا أَشبَه بِأُصُولِ الشَّافِعِيِّ).
الأشبه بأصول الشافعي؛ فإنه رحمه الله هو الذي جاء بالقاعدة المعروفة: "لا ينسب إلى ساكتٍ قول "، فالأشبه بأصول الشافعي أن مستحق الشفعة إذا لم يطالب بها فلا ينسب إليه حكم بعدم أحقيته في الشفعة.
لكن عذل الإمام الشافعي عن هذه القاعدة؛ لوجود حديث: "الشفعة
(1)
قال الفيومي: "قيل معناه أنها سهلة لتمكنه من أخذها شرعًا كسهولة حل العقال، فإذا طلبها حصلت له من غير نزاع ولا خصومة، وقيل معناه: مدة طلبها مثل: مدة حل العقال، فإذا لم يبادر إلى الطلب فأتت، والأول أسبق إلى الفهم. انظر: "المصباح المنير" (1/ 148).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2500)، والبيهقي في الكبرى (6/ 108)، وقال الألباني في "إرواء الغليل" (1542):"ضعيف جدًّا".
(3)
قال ابن الملقن في "البدر المنير"(7/ 12): "هذا الحديث ذكره الرافعى دليلًا للقول الصحيح أن الشفعة على الفور، وهو حديث (ضعيف) ".
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 215، 216) حيث قال: " (ومقابل الأظهر أقوال: أحدها يمتد إلى ثلاثة أيام ".
كحل العقال "، ومع كونه ضعيفًا، فقد يكون رأيًا للشافعي أنه من هذه القاعدة.
*
قولُهُ: (لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلُ قَائِلٍ، وَإِفي اقْتَرَنَتْ بِهِ أَحْوَالٌ تَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ، وَلَكِنَّهُ فِيمَا أَحْسَبُ اعْتَمَدَ الْأَثَرَ).
* قولُهُ: (فيما أحسب) بمعنى: أظن، وليس بمعنى اليقين، وقد اعتمد الشافعية
(1)
والحنابلة
(2)
على الأثر: "كحل العقال" في الشفعة لمن أثبتها، لكنه حديث رواه ابن ماجه والبزار
(3)
والبيهقي
(4)
، وضعفه ابن حجر
(5)
وغيره.
*
قولُهُ: (فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ في أَرْكَانِ الشُّفْعَةِ، وَشُرُوطِهَا الْمُصَحِّحَةِ لَهَا، وَبَقِيَ الْقَوْلُ فِي الْأحْكَامِ).
فتكلم المؤلف عن أركان الشفعة وشروطها، وما أضفناه من تعريفات، وما كان محل اتفاق بين العلماء، وما اختلفوا فيه مما لا تجوز الشفعة فيه، وبيان إذا ما كان مقصورًا على نوع معين أو لا، وبيان إذا ما كانت الشفعة خاصة بما ينتقل بعوض -وهو مذهب الجمهور- أو ليست خاصة بذلك، وبيان إذا ما كانت قاصرة على البيع، أو هي أشمل من ذلك.
ثم يعرض المؤلف للأحكام ذات العلاقة بالشفعة.
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 78) حيث قال: " (والأظهر أن الشفعة) أي: طلبها (على الفور) وإن تأخر التملك لخبر ضعيف فيه، وكأنه اعتضد عندهم بما صيره حسنًا بغيره، ولأنه خيار ثبت بنفسه لدفع الضرر".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (6/ 78) حيث قال: "الشرط (الثالث: طلبها) أي: الشفعة (ساعة يعلم) بالبيع إن لم يكن له عذر، وإلا بطلت نصًّا لحديث: "الشفعة كحل العقال "".
(3)
"مسند البزار"(12/ 30).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
يُنظر: "تلخيص الحبير"(3/ 137) حيث قال: "وإسناده ضعيف جدا".
[الْقِسْمُ الثَّانِي: الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الشُّفْعَةِ]
*
قولُهُ: (وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ كثِيرَةٌ، وَلَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا اشْتَهَرَ فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: فَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي مِيرَاثِ حَقِّ الشُّفْعَةِ).
قولُهُ: (ولكن نذكر منها ما اشتهر في الخلاف بين فقهاء الأمصار) ولذلك لم يذكر مسائل مثل: هل للكافر حق الشفعة؟ وهل هناك شفعة بين الذمي والذمي؟ وهل للقروي أن يشفع أو لا؟
*
قولُهُ: (فَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُورَثُ
(1)
كَمَا أَنَّهُ لَا يُبَاعُ).
الكوفيون -ومنهم أبو حنيفة- وإذا ما أطلق رحمه الله لفظ الكوفيين فإنه يندرج تحتهم، إلا أن يستثنيه.
*
قولُهُ: (وَذَهَبَ مَالِكٌ
(2)
وَالشَّافِعِيُّ
(3)
وَأَهْلُ الْحِجَازِ إِلَى أَنَّهَا مَوْرُوثَة قِيَاسًا عَلَى الْأَمْوَالِ)
(4)
.
(1)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(6/ 241) حيث قال: " (قولُهُ: ويبطلها موت الشفيع إلخ) لأنها مجرد حق التملك، وهو لا يبقى بعد موت صاحب الحق فكيف يورث درر (قولُهُ: ولو مات بعد القضاء لا تبطل) لما تقدم متنًا أنها تملك بالأخذ بالتراضي وبقضاء القاضي ".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 457) حيث قال: "وإذا كانت دار شركة بين زيد وعمرو، فباع زيد حصته وثبتت الشفعة لعمرو، ومات عمرو قبل أخذه بها؛ انتقل الحق في الشفعة لوارثه ".
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (5/ 219) حيث قال: "وإن باع شريك الميت شفع الوارث لا ولي الحمل لعدم تيقن وجوده، فإن وجبت الشفعة للميت وورثها الحمل أخرت لانفصاله ".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 74) حيث قال: "سائر أهل الحجاز فإنهم يرون الشفعة موروثة؛ لأنها حق من حقوق الميت يرثه عنه ورثته ".
سبق بيان أن الأموال تورث
(1)
.
*
قولُهُ: (وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَسْأَلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَمِنْهَا: اخْتِلَافُهُمْ فِي عُهْدَةِ الشَّفِيعِ هَلْ هِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ عَلَى الْبَائِعِ؟).
يعني: سبب اختلافهم في هذا: هل تقاس على الرد بالعيب أو لا؟
و (عهدة الشفيع)، يعني: إذا طرأ عيب أو استحقاق للشفعة أو للمبيع الذي انتقل إلى المشتري، أو وجد عيب فيه بعد أن أخذه الشفيع، فعلى من يرجع؟ هل يرجع على المشتري، والمشتري يرجع على البائع، أو هو يرجع مباشرة إلى البائع؟ هناك نظرتان:
- فمن نظر إلى الحال الواقع قال: يرجع على المشتري؛ لأن الشفعة إنما حصلت بعد تمام البيع وانتقاله إلى المشتري.
- ومن نظر إلى الأصل قال: إنه استحق الشفعة بمجرد البيع فيرجع إلى البائع لا المشتري؛ أي: إلى شريكه.
*
قولُهُ: (فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
وَالشَّافِعِيُّ)
(3)
.
وكذلك الإمام أحمد
(4)
أيضًا.
(1)
وهو مذهب الحنابلة، ينظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 338) حيث قال: "الشفيع في الشقص المشفوع لانتقال ملكه إليه بالطلب (ويورث) عنه كسائر أملاكه ".
(2)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (7/ 231) حيث قال نقلًا عن مقدمات ابن رشد: "عهدة الشفيع على المشتري لا على البائع، سواء أخذها من يد البائع قبل القبض أو من يد المشتري بعده ".
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (7/ 688) حيث قال: "قال الشافعي رحمه الله: وعهدة المشتري على البائع، وعهدة الشفيع على المشتري ".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 277) حيث قال: "مسألة؛ قال: (وعهدة الشفيع على المشتري، وعهدة المشتري على البائع) يعني أن الشفيع إذا أخذ الشقص فظهر مستحقًّا، فرجوعه بالثمن على المشتري، ويرجع المشتري على البائع ".
*
قولُهُ: (هِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى
(1)
: هِيَ عَلَى الْبَائِعِ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ).
أي: وعمدة جمهور الفقهاء؛ وهم مالك والشافعي وأحمد.
*
قولُهُ: (أَنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِلشَّرِيكِ بَعْدَ حُصُولِه مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَصِحَّتِهِ فَوَجَبَ أَنْ تكُونَ عَلَيْهِ الْعُهْدَةُ).
يعني بعد أن استقر الملك بانتقالها إليه؛ فصار هو المالك لها، فجاء الشفيع فأخذها من يده.
*
قولُهُ: (وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الآخَرِ: أَنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِلشَّرِيكِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ، فَطُرُوُّهَا عَلَى الْبَيْعِ فَسْخٌ لَهُ وَعَقْدٌ لَهَا).
فالشفعة وجبت للشريك أو الشفيع بمجرد البيع؛ فهو قبل البيع لا شفعة له، فلما جاء شريكه فباع، وكان له الحق أن يؤذنه؛ صارت له الشفعة، كما جاء في رواية مسلم:"أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم ربعة أو حائط" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باع ولم يستأذنه" وفي رواية: " ولم يؤذنه فهو أحق به "
(2)
أي: أحق بالشفعة.
*
قولُهُ: (وَأَجْمَعُوا
(3)
عَلَى أَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تُبْطِلُ الشُّفْعَةَ).
والإقالة: يعني إنهاء البيع.
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 277) حيث قال: "وقال ابن أبي ليلى، وعثمان البتي: عهدة الشفيع على الباء".
(2)
أخرجه مسلم (1608).
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 210) حيث قال: "وإن استحق الشقص من الشفيع وجب أن يرجع المشتري بالثمن باتفاق علماء الأمصار على ذلك، إلا أن يأخذ بالشفعة، وإن كان المشتري قد أقال البائع؛ لأن شفعته قد انعقدت بانعقاد البيع قبل الإقالة ما قد وجب من حق ".
*
قولُهُ: (مَنْ رَأَى أَنَّهَا بَيْعٌ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا فَسْخٌ (أَعْنِي: الْإِقَالَةَ).
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: عَلَى مَنْ عُهْدَةُ الشَّفِيع فِي الْإِقَالَةِ؟ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
(1)
: عَلَى الْمُشْتَرِي. وَقَالَ أَشْهَبُ
(2)
: هُوَ مُخَيَّرَ).
مذهب الجمهور أنها على المشتري، والاختلاف حاصل في قدر القيمة.
*
قولُهُ: (وَمِنْهَا: اخْتِلَافُهُمْ إِذَا أَحْدَثَ الْمُشْتَرِي بِنَاءً، أَوْ غَرْسًا، أَوْ مَا يُشْبِهُ فِي الشِّقْصِ قَبْلَ قِيَامِ الشَّفِيع).
إذا انتقل النصيب إلى المشتري؛ وأتى الشريك ليشفع في نصيب شريكه -وفقًا للشريعة الغراء، وقد حصل تصرف من المشتري بأن بنى أو غرس، ففي هذا تفصيل للعلماء:
أولًا: بالنسبة للشفيع عند مطالبته بالشفعة له حالتان:
الحالة الأولى: أن يطالب بنقض البناء أو الغرس؛ واختلف العلماء فيما يترتب على هذا النقض فيمن يطالب بالتسوية؛ كإصلاح الأرض:
- بعض العلماء رأى أنه لا يتحمل المشتري شيئًا.
- آخرون قالوا: المشتري يتحمل.
الحالة الثانية: ألا يرغب المشتري في نقض البناء، وعند ذلك للشفيع ثلاث حالات:
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 78) حيث قال: "فقال ابن القاسم: عهدة الشفيع على المشتري ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 78) حيث قال: "وقال أشهب: الشفيع مخير؛ فإن شاء أخذ الشفعة بعهدة البيع الأول، وإن شاء بعهدة الإقالة".
- إمَّا أن يتنازل عن الشفعة، وحينئذ ينتهي الأمر؛ لأنه ترك حقه باختياره.
- ألا يتنازل عن الشفعة، وعند ذلك هناك طريقان:
الطريق الأول: أن يدفع الشفيع للمشتري قيمة البناء والغرس.
الطريق الثاني: إذا لم يدفع له قيمة الغرس، مع مطالبته له بنقض ذلك، فللعلماء أقوال:
القول الأول
(1)
: إذا طالب بالشفعة، وأبقى على البناء والغرس؛ فإنه يطالب بقيمة ذلك.
القول الثاني
(2)
: أنه ينقض البناء أو الغرس؛ فاختلف العلماء؛ فأبو حنيفة يرى أن الشفيع لا يطالب بما يترتب على النقض أو النقل للبناء أو الغرس من ضرر، وقاسه على الغاصب.
أمَّا الأئمة مالك والشافعي وأحمد فقالوا: يطالب بذلك.
*
قولُهُ: (بطلب شُفْعَته: فَقَالَ مَالِكٌ: لَا شُفْعَةَ إِلَا أَنْ يُعْطِيَ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ مَا بَنَى وَمَا غَرَسَ).
(1)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (10/ 191) حيث قال: "وليس له قطع البناء والغراس مجانًا، لكنه يحرس إلا لبقاء بأجرة، أو التمليك بالقيمة أو القلع، وغرامة النقض كالعارية".
ويُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 494) حيث قال: " (قولُهُ: فإن هدم) أي: المشتري لمصلحة، وقوله: (وبنى) أي: بغير أنقاضه، وقوله: فله -أي: للمشتري- قيمته؛ أي: قيمة البناء بمعنى الأنقاض. وقوله: قائمًا أي: مبنية؛ أي: فله قيمة الأنقاض مبنية زيادة على الثمن الذي وقع به الشراء".
ويأتي في الحاشية التالية كلام الشافعية.
وأمَّا الحنابلة فينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 157) حيث قال: "ويدفع قيمة الغراس، أو البناء لربهما (حين تقويمه) أي: الغراس أو البناء".
(2)
انظر الحاشيتين التاليتين.
أجمل المؤلف في هذه المسألة، وعلى هذا القول يوافق الإمام أحمد الإمامَ مالكًا في رواية.
*
قولُهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: هُوَ مُتَعَدٍّ، وَللشَّفِيعِ أَنْ يُعْطِيَهُ قِيمَةَ بِنَائِهِ مَقْلُوعًا، أَوْ يَأْخُذَهُ بِنَقْضِهِ).
ما قاله المؤلف عن الشافعي فيه كلام؛ فإنما هو رأي لبعض الشافعية. أمَّا قولُهُ عن أبي حنيفة فهو صحيح.
*
قولُهُ: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ تَصَرُّفِ الْمَشْفُوعِ عَلَيْهِ - الْعَالِمِ بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ - بَيْنَ شُبْهَةِ تَصَرُّفِ الْغَاصِبِ وَتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَطْرَأُ عَلَيْهِ الِاسْتِحْقَاقُ).
سبب اختلافهم؛ لأن المشتري شبيه بالغاصب؛ لأنه يعلم أن هذه الأرض هي نصيب لأحد شريكين؛ فاشتراه مع علمه بوجود شريك آخر له حق الشفعة، فهذا معنى ما علل به أبو حنيفة.
*
قولُهُ: (وَقَدْ بَنَى فِي الْأَرْضِ وَغَرَسَ).
هل المشتري يلحق بالغاصب في وصفه بالظلم الذي جاء في حديث
(1)
يُنظر: "حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج"(5/ 211) حيث قال: "بل يخير الشفيع بعد الأخذ بين التملك بالقيمة والقلع مع أرش النقص والتبقية بالأجرة ".
وهكذا ينص الشافعية أنه يتملك بالقيمة، ولم يذكروا أنه بقيمته مقلوعًا، بل تضمينهم أرش النقص يرد ذلك. وقد أحسن الشارح بتخطئة المؤلف في ذلك.
(2)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (11/ 335) حيث قال: "م: (قال: وإذا بنى المشتري أو غرس) ش، أي: قال القدوري، أي: إذا بنى في الأرض المشفوعة أو غرس فيها شجرًا م: (ثم قضى للشفيع بالشفعة فهو بالخيار) ش، أي: الشفيع بالخيار م: (إن شاء أخذها بالثمن وقيمة البناء والغرس) ش: أي: مقلوعين ".
الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لعوق ظالم حَقٌّ؟ "
(1)
هذا ليس غاصبًا في الحقيقة، للتردد بين من يثبت أن ما اشتراه مستحقًّا لغيره.
وليس هذا دليل الجمهور، وإنما استدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار"
(2)
.
فإذا أبي الشفيع أن يأخذ ما حصل في الأرض من بناء أو غرس أو نحو ذلك، فإذا قام بنقضه أو نقله؛ فيحتاج ذلك إلى نفقه للعمال ومن يحمل ذلك، وربما تنقص قيمته وتفسد بعض الأشجار فيحدث الضرر، وهذه الشريعة الغراء ترفع الضرر، كما جاء في الحديث الحسن:"لا ضرر ولا ضرار".
*
قولُهُ: (وَذَلِكَ أَنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا. فَمَنْ غَلَّبَ عَلَيْهِ شِبْهَ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ. وَمَنْ غَلَّبَ عَلَيْهِ شِبْهَ التَّعَدِّي قَالَ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِنَقْضِهِ، أَوْ يُعْطِيَهُ قِيمَتَهُ مَنْقُوضًا).
الأولى والأقرب إلى مبادئ الشريعة هو مذهب جمهور العلماء الذين قالوا: بأنه إذا أبي الشفيع أن يشتري ما في الأرض ويدفع قيمة ما أحدث في الأرض، فما عليه إلا أن يترك صاحبها يأخذها ويعوضه عما يترتب عليه من نقص، عملًا بالحديث:"لا ضرر ولا ضرار".
*
قولُهُ: (وَمِنْهَا: اخْتِلَافُهُمْ إِذَا اخْتَلَفَ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ فِي مَبْلَغِ الثَّمَنِ: فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ الشِّقْصَ بِكَذَا، وَقَالَ الشَّفِيعُ: بَلِ اشْتَرَيْتَهُ بِأَقَلَّ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ)
(3)
.
(1)
جزء من حديث أخرجه أبو داود (3073) ولفظه: عن سعيد بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق ". وصححه الألباني في إرواء الغليل (1520).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2341). وصححه الألباني في إرواء الغليل (896).
(3)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (2/ 46) حيث قال: "وإن اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري ".
الأئمة الثلاثة: مالك
(1)
والشافعي
(2)
، وأحمد
(3)
.
*
قولُهُ: (الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الشَّفِيعَ مُدَّع، وَالْمَشْفُوعَ عَلَيْهِ مُدَّعًى عَلَيْهِ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ التَّابِعِينَ فَقَالُوا: الْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ أَقَرَّ لَهُ بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ، وَادَّعَى عَلَيْهِ مِقْدَارًا مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ بِهِ. وَأَمَّا أَصْحَابُ مَالِكٍ فَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ ابْنُ الْقَاسمِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي إِذَا أَتَى بِمَا يُشَبَّهُ بِالْيَمِينِ
(4)
).
يعني: إذا أتى بقرينة تنزل منزلة اليمين، أي: ترجح كفته.
* قولُهُ: (فَإِنْ أَتَى بِما لَا يُشْبِهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: إِذَا أَتَى بِمَا يُشْبِهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي بِلَا يَمِينٍ، وَفِيمَا لَا يُشَبَّهُ بِالْيَمِينِ
(5)
. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي ذَا سُلْطَانٍ يُعْلَمُ الْعَادَة أَنَّهُ يَزِيدُ فِي الثَّمَنِ قُبِلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَقِيلَ: إِذَا أَتَى الْمُشْتَرِي بِمَا لَا يُشْبِهُ رُدَّ الشَّفِيعُ إِلَى الْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ فِيمَا أَحْسَبُ إِذَا أَتَى
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 496) حيث قال: " (وإن اختلفا) أي: الشفيع والمشتري (في) قدر (الثمن) المدفوع للبائع (فالقول للمشتري بيمين فيما يشبه) أن يكون ثمنًا للشقص أشبه الشفيع أم لا، وإنما يحلف إذا كان متهمًا".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (5/ 211) حيث قال: " (ولو) (اختلف المشتري والشفيع في قدر الثمن) ولا بينة، أو أقاما بينتين وتعارضتا (صدق المشتري) بيمينه ".
(3)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 375) حيث قال: "وإن اختلفا في قدره فالقول قول المشتري إلا أن يكون للشفيع بينة".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 70) حيث قال: "وفي (المدونة) قال ابن القاسم: القول قول المشتري مع يمينه إذا اختلفا في ثمن الشقص وكان قد أتى بما يشبه".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 70) حيث قال: "وقال أشهب: القول قول المشتري مع يمينه إذا ادعى ما لا يشبه، فإن ادعى ما يشبه فالقول قولُهُ بلا يمين ".
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا لَا يُشْبِهُ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا أَتَى كُلُّ وَاحِدٍ بِبَيِّنَةٍ، وَتَسَاوَتِ الْعَدَالَةُ: فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
(1)
: "يَسْقُطَانِ مَعًا، وَيُرْجَعُ إِلَى الْأَصْلِ مِنْ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ ". وَقَالَ أَشْهَبُ: "الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا زَادَتْ عِلْمًا")
(2)
.
هذه من أدلة المالكية، والمعروفة بالاستحسان أو المصالح المرسلة أو القياس المرسل، وهم يتوسعون فيها
(3)
، ويفرعون عليها كثيرًا من الأحكام، فهذه التعليلات والفروع التي أوردها المؤلف هي بسبب ذلك، أما رأي الجمهور فقد سبق بأن: القول قول المشتري والحق له حتى يأتي الشفيع ببينة.
* * *
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 70) حيث قال: "فإن أتيا جميعًا بالبينة فإن تكافآ في العدالة سقطتا، وكان القول قول المشتري، فإن لم يتكافآ قضي بأعدلهما".
(2)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لأبي بكر التميمي (20/ 68) حيث قال: "قال سحنون في المجموعة: لا يبطلان في التكافؤ والبينة بينة المبتاع، وليس من التهاتر؛ لأنها أزيد، كاختلاف المتبايعين في الثمن ويقيمان البينة فالبينة بينة البائع؛ لأنها زادت، فكذلك المبتاع والشفيع، وقال أشهب مثله ".
(3)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (4/ 155) حيث قال: "سمعت ابن القاسم يقول ويروي عن مالك أنه قال: تسعة أعشار العلم الاستحسان ".
قال المصنف رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
[كِتَاب القِسْمَةِ]
(1)
:
وَالأَصْلُ فِي هَذَا الكِتَابِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} [النساء:8)].
(1)
القِسمة في اللغة: قال الفيومي: قسمته قسمًا من باب: ضرب فرزته أجزاء فانقسم، والموضع: مقسم مثل: مسجد، والفاعل: قاسم وقسام مبالغة، والاسم: القسم بالكسر، ثم أُطلق على الحصة والنصيب، فيقال: هذا قسمي، والجمع: أقسام مثل: حمل وأحمال، واقتسموا المال بينهم، والاسم: القسمة، وأطلقت على النصيب أيضًا. انظر:"المصباح المنير"(2/ 503).
وأما القسمة في الشرع فعرفها الفقهاء بتعريفات مختلفة:
عرف الحنفية القسمة بأنها: جمع نصيب شائع في معين. انظر: "البحر الرائق "، لابن نجيم (5/ 95).
وعرفها المالكية بأنها: تصيير مشاع من مملوك مالكين معينًا ولو باختصاص تصرف فيه بقرعة أو تراض. انظر: "المختصر الفقهي"، لابن عرفة (7/ 415).
وعرفها الشافعية بأنها: تمييز الحصص بعضها من بعض. انظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 283).
وعرفها الحنابلة بأنها: تمييز بعض الأنصباء عن بعض وإفرازها عنها. انظر: "شرح منتهى الإرادات"(3/ 544).
وسيبدأ المؤلف بدليل مشروعيتها:
أولًا: أدلة الكتاب:
ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)} [القمر: 28]، وهذا في قصة ناقة صالح عليه السلام
(1)
.
والدليل الآخر من الكتاب العزيز قولُهُ تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)} [النساء: 8]، والمراد بذلك أنه عندما يموت الميت، ويُرَاد قسمة تركته، فيحضر تلك التَّركة مَنْ لا يستحق الأخذ منها ميراثًا، وقد بَيَّنهم اللهُ تَعَالى في هذه الآية:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} ، أي: أقارب الميت من غير الوَرَثة، كأنْ يكونوا من ذوي الأرحام الذين لا يستحقون، أو ممن يرثون لكنهم محجوبون
(2)
.
"واليتامى"، أي: الذين مات آباؤهم وهم صغار؛ لأن اليتيم من مات أبوه ولم يبلغ
(3)
، وكذلك أيضًا "والمساكين ": الذين لا مال لهم
(4)
، فعليكم في هذه الحالة أن تعطوهم ما تطمئن به نفوسهم، وترتاح به أفئدتهم، وأن تضيفوا أيضًا إلى ذلك معاملةً حسنةً وقولًا كريمًا {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} .
ثم نبَّه الله سبحانه وتعالى أن الإنسان إذا عمل طيبًا، فإنه سيجد ثمرة ذلك في الدنيا، وسيجد ثواب ذلك في الآخرة، فقال في الآية التي بعدها:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)} ، فمن حضر عنده محتاج وقدم له شيئًا، فليعلم
(1)
قال الزجاج: معنى الآية: أن الماء قسمة بين الناقة وبين ثمود، لها يوم ولهم يوم، وهذا معناه: كل شرب محتضر، يحْضَر القوم الشرب يومًا، وتحضر الناقة يومًا. انظر:"معاني القرآن وإعرابه"(5/ 90).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(6/ 435)، "التفسير الوسيط "، للواحدي (2/ 16).
(3)
انظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (14/ 241).
(4)
انظر: "جمهرة اللغة"، لابن دريد (2/ 856).
أنه مثَابٌ، ألا يخشى من لم يقدم خيرًا أن تنزل تلك الحادثة بأبنائه كأن يموتَ فيترك صغارًا، فيَحْتاجون فيحصل لهم ما حصل لغيرهم؟ فإذا قدمت خيرًا، فإنك سَتَجد ثمرته والله يضاعف لمن يشاء.
والشاهد هنا: أن هذه الآية فيها دلالةٌ صريحةٌ على مشروعية القسمة: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} ، أي: قسمة الميراث، وهذا دليلٌ آخر من كتاب الله عز وجل يدل على مشروعية القسمة.
وأما الدليل من السُّنَّة، فلم يذكر المؤلف شيئًا منها، والأدلة عليها كثيرةٌ جدًّا، وأقرب دَلِيلٍ مرَّ بنا في كتاب الشُّفعة، وهو الحديث المتفق عليه:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشُّفعة فيما لم يُقسم، فإذا وقعت الحدودُ، وصُرِّفت الطرق، فلا شفعة"
(1)
، وهذا نص في القسمة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما إذا قسمت فلا شفعة.
ووجه الدلالة: ثبوت القسمة في هذا الحديث، إن قسمت فلا شفعة، وإنْ لم تقسم فإنها تكون الشفعة، إذًا هذا دليلٌ صحيحٌ صريح في ثبوت الشفعة من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت أيضًا من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قسم خيبر ثمانية عشر سهمًا
(2)
، وثبت أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم يوم بدر
(3)
، كذلك قسمها يوم حنين، وكانت أنواعًا كثيرةً
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (2214)، وهذا لفظه، وأخرجه مسلم (1608)، بلفظ:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم، ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به".
(2)
أخرجه أبو داود (3010) وغيره، عن سهل بن أبي حَثْمةَ، قال:"قَسَمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خيبرَ نصفَين: نصفًا لنوائبه وحاجتِه، ونصفًا بين المسلمين، قسمَها بينهم على ثمانيةَ عشرَ سهْمًا". وصححه الأَلباني في صحيح أبي داود (ص 2).
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الصغير (3963) عن الشافعي، ونسبه البيهقي أيضًا في معرفة السنن والآثار (13/ 179) إلى محمد بن إسحاق.
(4)
أخرجه البخاري (3066)، ومسلم (1253) عن أنس، قال:"اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الجِعْرَانَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ ".
وأما الدليل الثالث وهو الإجماع، فأجمعت الأمة على مشروعيتها
(1)
، فالقسمةُ ثَابتةٌ في كتاب الله عز وجل، وفي سُنَّة رَسُوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على ذلك، والحاجة أيضًا داعية إليها.
والدليل العقلي أيضًا يدل على قيامها، وهُوَ ما يُعْرف بالقياس، هذا بالنِّسبة لمشروعية القسمة، ولا شكَّ بأن القسمةَ لها طُرُقٌ وَمَناهجُ وكيفيةٌ، ولها أركانٌ وشروطٌ، ولها نظامٌ تقسم فيه، أما قسمة المواريث فسيأتي الكلام عنها في كتاب المواريث، وهناك قسمة الأراضي عمومًا، وهناك قسمة المكيل والموزون، وهناك أيضًا عروض التجارة، وغير ذلك من الأنواع، فما هي الطريقة التي تتم فيها القسمة؟ وهل هناك شروط أو لا؟ وهل القسمة تنقسم إلى قسمة تراضٍ وقسمة إجبارٍ
(2)
؟
الجواب: نعم؛ لأنه إذا تراضى شخصان في القسمة، انتهى الأمر، لكن القسمة أحيانًا تكون قسمة إجبارٍ، أيْ: يُجْبَرُ أحد الشريكين على القسمة إذا امتنع لكن بشروطٍ؛ لأنه قد يطالب أحدهما بالقسمة، ولكن عند المطالبة بالقسمة فلا بد أولًا من ثبوت الملكية، ولا بد أن يعرف بأن هذا المقصود أو المطلوب قسمته إنَّما هو ملكٌ للمطالبين بالقسمة.
(1)
قال ابن القطان: "وأجمع أهل العلم من أهل الحديث وأهل الرأي وغيرهم على أن الربح والأرض إذا كانت بين شركاء واحتملت قسمة من غير ضرر يلحق أحدًا منهم فاتفقوا على قسمته: أن قسم ذلك يجب بينهم إذا أقاموا بينة على أصول أملاكهم ". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 206).
(2)
قسمةُ التراضي: هي التي يكون فيها ردُّ عوضٍ أو كَانَتْ فِيما لا يَكُنْ قسمتُهُ إلا بضررٍ كالدُورِ الصغَارِ والحمام والعضائدِ المتلاصِقةِ الَّتِي لا يمكِنُ قسمَةُ كُلِّ وَاحِدَة بانفرادهَا إذَا رضوا بقسمتهَا أعيانًا بالقيمةِ ومَا أشبهَ ذلِك فهذه قسمةٌ جائزة تجري مجرى البيع لا يجُوزُ فِيْهَا إلّا مَا يجوزُ في البيعِ.
أما قسمةُ الإجبارِ: فهي فيمَا يمكنُ قسمتُهُ من غَيْر ردِّ عوضٍ وَلَا ضَرَرٍ يلحَقُ بأحدِهما كالأراضي الواسِعةِ والبساتِينِ والقرايَا والدُورِ الكبارِ والمكَيلاتِ والموزُونات كلها إذَا كَانَتْ جِنسًا واحدًا. انظر: "الهداية على مذهب الإمام أحمد" للكلوذاني (ص 578).
الأمر الآخر: ألَّا يترتب على ذلك ضرر، وفي قضية الضرر خلاف؛ لأن بعض العلماء يرى القسمة وَإنْ ترتَّب عليها ضرر
(1)
، والضرر قد يكون ضرر منفعةٍ بمعنى: تعطل المنفعة، كأن تكون دارًا ولأحدهما ثلثاها، وللآخر الثلث الباقي، فإذا قسمت أخذ الأول الثلثين، وما بقي من ثلث لا يستفيد منه الآخر، إذن زالت المنفعة، فهل زوال المنفعة يمنع القسمة؟
وَأَحيانًا يكون الضرر في القيمة، أي: تبقى المنفعة في الاستفادة، لكن تنقص القيمة، فإذا قسمت إلى قسمين تضرر أحدهما بأن نزلت قيمة هذه، وارتفعت قيمة هذه، أو بقيت إحداهما ممسكةً بقيمتها الأصلية، وانخفضت قيمة الأخرى، وهذا ضررٌ، فما هي الطريقة التي يتم بها التقسيم؟ ربما تكون السهام والقيمة متساوية، وربما تكون السهام متساوية والقيمة مختلفة، وربما تكون القيم متساوية أي: قيمة السهام متساوية والأسهم مختلفة، وربما يحصلُ خلافٌ في السهام، وخلاف أيضًا في القيمة.
ولذلك، نرَى أن بعض الفقهاء لا يفرد القسمة في باب أو كتاب مستقلٍّ، وإنما يُدرجها ضمْنَ كتاب القضاء، فيُدْخِلها فيه لما لها من علاقة وثيقة بذلك، وبخاصة إذا كَانَت الَقسمةُ قسمةَ إجبارٍ، ثم أيضًا هذه القسمة إذا قسمت وإذا كانت تحت ولاية القاضي، فالذي يتولَّى أُجرة القاسم هو بيت المال، وإذا كانت القسمة بطلبٍ من الطرفين فمن الذي يتولاها؟ هل الذي يتولاها الذي طلب أو هي موزعة بينهم؟، وفيما يتعلق عند الخلاف بقول القاسم، هل يصدق مع أنه هو الذي قسَّم أو لا يصدق؟، هذه كلها
(1)
يُنظر: "اختلاف الأئمة العلماء" لابن هبيرة (2/ 405) قال: "اختلفوا فيما إذا طلب أحد الشريكين القسمة، وكان فيها ضرر على الآخر. فقال أبو حنيفة: إن كان الطالب للقسمة منها هو المتضرر بالقسمة لا يقسم وإن كان الطالب ينتفع بها، أجبر الممتنع منهما عليهما. وقال مالك: فحيز الممتنع على القسمة بكل حال. وقال الشافعي: إن كان الطالب للقسمة ينتفع بها أجبر شريكه الممتنع من القسمة. وإن كان عليه فيها ضرر، وإن كان الطالب للقسمة هو المتضرر فعلى قولين. وقال أحمد: لا يقسم ذلك ويباع ويقسم ثمنه بينهما".
مسائل تندرج تحتها، أورد بعضها المؤلف وبعضها لم يوردها وكلامه فيه نوع من الإجمال، فأردت أن أقدم هذه المقدمة وأعطيكم تصورًا عما يدور في كتاب القسمة حتى نكون على معرفةٍ لما يذكر فيها.
* قولُهُ: (وَقَوْلُهُ: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7]، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَيّمَا دَارٍ قُسِّمَتْ فِي الجَاهِلِيَّةِ فَهِيَ عَلَى قَسْمِ الجَاهِلِيَّةِ"
(1)
.
وفي بعض الروايات: "أيما دارٍ وأرض قُسِّمت فهي على قسمة الجاهلية"
(2)
، أي: عفا الله عما سلف، فما كان من أنكحة أو من بيوع أو من غير ذلك فإن الإسلام يتجاوز عنها، إلا أن تكون أمورًا تتعلق بالعقيدة فهذه جاء الإسلام ليصلحها ويزيلها ويرفعها، لكن إذا كانت عقودًا لم تنتهِ بعدُ فإن الإسلام يطرحها كما جاء في خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
(3)
.
* قولُهُ: ("
…
وَأَيّمَا دَارٍ أَدْرَكهَا الإِسْلَامُ وَلَمْ تُقْسَمْ فَهِيَ عَلَى قِسْمِ الإِسْلَامِ ").
لأن كل شيء قد انتهى، قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
(1)
أخرجه بهذا اللفظ ابن عبد البر في "التمهيد"(2/ 51).
(2)
أخرجه مالك في "الموطإ"(2763).
قال ابن عبد البر: هذا الحديث في "الموطإ" عند جميع الرواة لم يختلفوا في أنه بلاغ عن ثور بن زيد، ورواه إبراهيم بن طهمان عن مالك عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس، وإبراهيم بن طهمان ثقة. انظر:"الاستذكار"، لأبي عمر بن عبد البر (7/ 198).
(3)
أخرجه مسلم (1218) عن جابر وفيه: "
…
ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع .... ".
* قولُهُ: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الكِتَابِ فِي القَاسِمِ).
أي: الذي يقسم بينهما.
* قولُهُ: (وَالمَقْسُومِ).
أي: الأعيان التي تُقسم.
* قولُهُ: (وَالمَقْسُومِ عَلَيْهِ).
أي: التي تُقسم عليه كالشركاء أو الورثة.
* قولُهُ: (وَالقِسْمَةِ: وَالنَّظَرُ فِي القِسْمَةِ فِي أَبْوَابٍ: البَابُ الأَوَّلُ في أَنْوَاع القِسْمَةِ).
فالقسمة أنواع؛ لأنها قد تكون رباعًا، ولقصد بها العقار أو غير العقار، وقد تكون عروضًا من عروض التجارة، وربما تكون أيضًا مطعومات
(1)
.
* قولُهُ: (الثَّانِي: فِي تَعْيِينِ مَحِلِّ نَوْعٍ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهَا (أَعْنِي: مَا يَقْبَلُ القِسْمَةَ وَمَا لَا يَقْبَلُهَا).
لأن منها ما لا يقبل القسمة، فلا يمكن أن تأتي بثوب واحد لتقَسِّمَهُ؛ لأن فيه ضررًا على الطرفين، فإذا قُسِّمَ الثوب فلا فائدة منه.
* قولُهُ: (وَصِفَةِ القِسْمَةِ فِيهَا، وَشُرُوطِهَا، أَعْنِي: فِيمَا يَقْبَلُ القِسْمَةَ، الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا).
يشرع المؤلف في بيان تلك الأبواب الثلاثة التي أوردها.
* * *
(1)
يُنظر: "شرح حدود ابن عرفة" للرصاع (ص 373)، قال:"القسمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام مهانات أو مهايات وتراض وقرعة والمقسوم ينقسم إلى مكيل وموزون وإلى عقار وعروض".
[البَابُ الأَوَّلُ فِي أَنْوَاعِ القِسْمَةِ]
* * *
* قولُهُ: (وَالنَّظَرُ فِي القِسْمَةِ يَنْقَسِمُ أَوَّلًا إِلَى قِسْمَيْنِ:
قِسْمَةُ رِقَابِ الأَمْوَالِ. وَالثَّانِي: مَنَافِعُ الرِّقَابِ).
القسم الأول: قسمة الرقاب، والثاني: منافعها؛ لأننا إن كان عندنا حائط فلا نقول عنه رقبة بل نسميه ربعة، مفرد رباع
(1)
، وإذا كان له منافع كأن تكون شجرة ولها ثمرة فهذه الثمرة هي منافع الرِّقاب، وقد تكون الدار رقبة
(2)
، لكن تأجيرها منفعة، إلى غير ذلك.
*
قولُهُ: (القِسْمُ الأَوَّلُ مِنْ هَذَا البَابِ. فَأَمَّا قِسْمَةُ الرِّقَابِ الَّتِي لَا يمَالُ وَلَا تُوزَنُ).
وقد تكلَّم عنها مطلقًا.
*
قولُهُ: (فَتَنْقَسِمُ بِالجُمْلَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: 1 - قِسْمَةُ قُرْعَةٍ بَعْدَ تَقْوِيمٍ، وَتَعْدِيلٍ).
(1)
الرِّبَاعُ: جمعُ رَبْع، وهو الدَّارُ حيث كانت. انظر:"المغرب في ترتيب المعرب" لبرهان الدين الخوَارزمي (ص 181).
وقال القاضي عياض: وربعَة بزيادة تاء، كما قالوا: دار ودارة، ومنزل ومنزلة. انظر:"مشارق الأنوار على صحاح الآثار"(1/ 279).
(2)
رَقَبَه رِقْبَةً ورِقْبانًا، بكسرِهما، ورُقُوبًا، بالضمِّ، ورَقَابةً ورَقُوبًا ورَقْبَةً، بفتحِهِنَّ: انتَظَرَه، كتَرَقَّبَهُ وارْتَقَبَه.
انظر: "القاموس المحيط"، للفيروزآبادي (ص 90).
وَأَرْقَبَهُ الدَّارَ، إذا قال له هي لك رُقْبَى، وهي من المُراقَبةِ؛ لأن كُلًّا منهما يَرْقُبُ مَوْتَ صاحِبِهِ. انظر:"المغرب في ترتيب المعرب "، لبرهان الدين الخوارزمي (ص 195).
ومعنى "تقويم"، أي: بعد بيان قيمَتِها، وبعد معرفة السّهام؛ لأنَّه ربما تكون السهام متعادلة ومتساوية، فلو أن هناك أرضًا أربعة آلاف متر ولو قُسِّمت بين أربعة لكان كلُّ جزء منها أو كل سهم ألفًا، وبالنسبة لموقعها متساوية لا تختلف قيمها، ومع ذلك يُقرَع تطييبًا للنفوس وإراحة للخواطر؛ لأن الإنسان لو أعطي دون رغبة منه فربما تتأثر نفسه، لكن عندما يقرع بينهم فما يقع نصيبه عليه يأخذه فحينئذ ترتاح نفسه، والقرعة معروفة ومعتبرة في شريعتنا وفيمن قبلنا من الشرائع
(1)
، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أقرع كما سيأتي في قصة الذي أعتق عبيده، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرعَ بين نسائِه
(2)
، فالقرعة معتبرة، وهناك قيمة وسهام، لكن المؤلف أجمل كلامه في الموضوع.
*
قولُهُ: (2 - وَقِسْمَةُ مُرَاضَاةٍ بَعْدَ تَقْوِيمٍ وَتَعْدِيلٍ).
وقد تكون قسمة مراضاة لكن بعد تقويمٍ وتعديل، كأن يتَّفقَ اثنان على قسمة أرضٍ بينهم ويتراضيَان دون خلَاف لكن بعد أن يُعدل في الأرض، فلو أن أرضًا تنقسم إلى قسمين متساويين ووجدنا في أحد الشطرين بئرًا تساوي قيمتُه نصفَ قيمة الأرض، وربما يوجد بئر وأشجار، وربما تكون متعادلة القيمة، وهذه لا إشكال فيها، لكن قد تكون إحدى الجهتين فيها معادلة، وربما لا تكون فيها مزايا داخلية لكن الموقع يختلف فقد تكون هذه على شارع عام فيكون سعرها أعلى وهذه أقل، وحينئذ يعدل فتكون هذه أكبر من هذه، وكلام العلماء في قضية القرعة عما الذي يُرمى هل هي بطاقة أو رقعة من قماش أو ورقة أو خاتم؟ وبحمد الله تطوَّر علمُ الهندسة وعلمُ المساحات وتطورت الأجهزة وأصبحت هذه
(1)
من ذلك ما أخرجه الطبري في تفسيره (19/ 625) في قولُهُ تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} ، قال:"فاحتبست السفينة، فعلم القوم أنما احتبست من حدث أحدثوه، فتساهموا، فقرع يونس، فرمى بنفسه، فالتقمه الحوت ".
(2)
أخرجِ البخاري (2593)، ومسلم (2770) عن عائشة قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ
…
".
الأمور ميسورة جدًّا وما أصبحت محلَّ إشكال لكن يبقى ما يتعلق بالقيمة والمساحة، فإن كان هناك تراضٍ فله شأن، فالأمر الأول: قسمة ليس فيها تراضٍ، الثاني: قسمة فيها تراضٍ وتحتاج إلى تعديل.
*
قولُهُ: (3 - وَقِسْمَةُ مُرَاضَاةٍ بِغَيْرِ تَقْوِيمٍ وَلَا تَعْدِيلٍ).
فلو قسم أحدهما الأرض إلى قسمين وقال للآخر: اختر ما تشاء فيختار، فيقسمها، أو يأتيان بشخص بينهما من أهل الخبرة فيقسمها، فيقول أحدهما للآخر مخيَرًا له عن طيب نفس: اختر ما تشاء، وربما يرد عليه ذاك فيقول: بل اختر أنت ما تشاء وهذا نوع من الإيثار، فالقسمة قد تكون بتراض دون تعديل وقد يكون فيها تعديل، وهذا التعديل قد يكون بالسهام وقد يكون بالقيمة، ولا شك أن المعتبر في الأصل إنما هو القيمة، لكن عندما تكون أنصبة السهام متساوية والقيمة ليس فيها إشكال فالعبرة بالمساحة، وعندما تكون السهام متفقة والقيمة مختلفة فالعبرة بالقيمة، وعندما تكون القيمة متفقة والسهام مختلفة كما لو اشترك ثلاثة في أربعة أحدهما له النصف، والثاني له الثلث، والثالث له السدس، فنحن هنا نعتد بصاحب الأقلّ، وصاحب السهم الأقل هو السدس وحينئذ تكون أسهمها من ستة، ويبدأ بعد ذلك بالسهام فتُوضَع علامة للقرعة فإذا جاءت علامة صاحب السدس أخذ نصيبَه، ثُمَّ بعد ذلك تُوضع الأخرى فإن تبيَّن أنها لصاحب النصف أخذ السهم الثاني والثالث والرابع، ثم يأخذ ذاك الخامس والسادس، وهكذا.
* قولُهُ: (وَأَمَّا مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَبِالكَيْلِ وَالوَزْنِ).
ولا شكَّ أنَّ الكيل والوزن معتبر؛ فكما هو معلوم في السلم
(1)
: "مَن
(1)
وهو: أن يعطى مالًا في سلعة إلى أجل معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السلف، وذلك منفعة للمسلف. انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 390).
أسلفَ في شيءٍ فلْيُسلِف في كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلومٍ"
(1)
، ولا شكَّ أنَّ الكيل ميزان دقيق، وكذلك أيضًا الميزان، أمَّا الخرص
(2)
فسيأتي تفصيله فيما يتعلق بالثمار وهذا يختلف باختلاف القسمة هل هي بيع أو إفراز؟ لأننا إذا قلنا: إنها بيع فلا يجوز الخرص، وإن قلنا: إنها إفراز جاز الخرصُ في الثمار؛ لأن البيع إنما يدخله الربا، أما الإفراز فهو نصيبان حق هذا في حوزة وهذا في حوزة.
وبعض العلماء
(3)
يرى أن القسمة إفرازٌ ويذكر عدَّة أسباب لذلك، فيقول: لأن من مظاهرها الإجبارَ والبيع لا يقومِ على الإجبار، إنما البيعُ عن تراضٍ قال تعالى:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وهذه فيها إجبار، أما القسمة ففيها الشفعة والبيع ليس فيه شفعة، وهناك أسباب كثيرة ذكرها العلماء في التفريق بين البيعِ والإفرازِ، فبعضهم قال: هي إفرازٌ، وبعضهم قال: هي بيع
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (2240)، ومسلم (1604).
(2)
"الخَرْصُ "، هو: حَزْرُ ما على النَّخل من الرُّطَب تمرًا. وقد خَرَصْتُ النخل. والاسم الخِرْصُ، بالكسر. انظر:"الصحاح"، للجوهري (3/ 1035).
(3)
والذين ذهبوا إلى أن القسمة إفراز: مذهب الحنابلة. قال البهوتي: "وهذا النوع، -أي: قسمة الإجبار- إفراز حق أحد الشريكين من حق الآخر". انظر: "شرح منتهى الإرادات"(3/ 548، 549).
وهو أحد أقوال في مذهب الشافعية. قال الماوردي: "اختلف قول الشافعي في القسمة على قولين، أحدهما: أنها بيع. والثاني: أنها إفراز حق وتمييز نصيب" انظر: "الحاوي الكبير"(5/ 126).
ومذهب الحنفية: الإفراز هو الظاهر في المكيلات والموزونات لعدم التفاوت. انظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي "، للمرغيناني (4/ 325).
ومذهب المالكية: يشترط تساوي الأعيان والصفات. انظر: "اختلاف الأئمة العلماء"، لابن هبيرة (2/ 454).
(4)
انظر المسألة في: "اختلاف الأئمة العلماء"، لابن هبيرة (2/ 404)، وفيه: "قال أصحاب أبي حنيفة: القسمة تكون بمعنى البيع وتكون بمعنى الإفراز؛ فالموضع الذي تكون فيه بمعنى الإفراز هو فيما لا يتفاوت كالمكيلات والموزونات والمعدودات التي لا تتفاوت كالجوز والبيض فهي في هذه إفراز وتمييز حق حتى يجوز لكلِّ واحد=
*
قولُهُ: (القِسْمُ الثَّانِي: وَأَمَّا الرّقَابُ: فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ).
مثل الأراضي التي لا تنقل وكذلك الدور، لكن الدار قد تبيعها وتشتري بقيمتها مكانًا آخر، أمَّا الأراضي فلا تنقل، وكذلك الأصول الثابتة، وإن كانوا الآن بدأوا في نقل الأصول كالنخل وغيرها.
* قولُهُ: (وَهِيَ الرِّبَاعُ وَالأُصُولُ).
و"الرِّباعُ " جمع رَبْعَة، وهي الأراضي أيًّا كانت سواء كانت أراضٍ أو عقارًا أو حائطًا فكلُّ هذا داخل في قضية الرِّباع
(1)
، والرسول صلى الله عليه وسلم لما قيل له: وتنزل ببيتك بمكة قال: "وَهلْ تركَ لنَا عَقِيل من رِبَاعِ "
(2)
، يعني: من دُور؛ لأنه أخذها في الجاهلية، وكما هو معلوم أنَّ المسلَمَ لا يرثُ الكافرَ ولا يرثُ الكافرُ المسلمَ
(3)
، فهو ورث ذلك وقت الكفر.
* قولُهُ: (وَمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ، وَهَذَانِ قِسْمَانِ: إِمَّا غَيْرُ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ، وَهُوَ الحَيَوَانُ، وَالعُرُوضُ).
كالحيواناتِ وكذلك عروض التجارة وهي كثيرة جدًّا.
= منهم أن يتبع نصيبه مرابحة، والموضع الذي هي فيه بمعنى البيع هو فيما يتفاوت كالثياب والعقار فلا يجوز بيعه مرابحة.
وقال مالك: إن تساوت الأعيان والصفات كانت إفراز، وإن اختلفت الأعيان والصفات كان بيعًا.
وقال الشافعي في أحد قوليه: هي بيع.
وقال أحمد: هي إفراز".
(1)
انظر: "الصحاح"، للجوهري (3/ 1211)، "المغرب في ترتيب المعرب "، لبرهان الدين الخوارزمي (ص 181).
(2)
أخرجه البخاري (1588)، ومسلم (1351) عن أسامة بن زيد أنه قال: يا رسول الله، أين تنزل في دارك بمكة؟ فقال:"وهل ترك عقيل من رباع أو دور".
(3)
أخرج البخاري (6764)، ومسلم (1614) عن أسامة بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ".
* قولُهُ: (وَإِمَّا مَكِيلٌ، أَوْ مَوْزُونٌ).
والمكيل والموزون لا يُصْرف إلى المطعومات فقط فهو أشمل من ذلك فالحديد يوزن وكذلك أيضًا الخشب يدخل في الوزن وكذلك بعضها تُكال.
* قولُهُ: (فَفِي هَذَا البَابِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ؛ الأَوَّلُ: فِي الرِّبَاعِ. وَالثَّانِي: فِي العُرُوضِ. وَالثَّالِثُ: فِي المَكِيلِ وَالمَوْزُونِ).
قسَّم المؤلف هذا الكتاب أقسامًا ثلاثة:
الأول: في الرباع؛ وهي الأراضي كما هو معلوم.
والثاني: في العروض.
والثالث: في المكيل والموزون.
* قولُهُ: (الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي الرِّبَاعِ فَأَمَّا الرِّبَاعُ وَالأُصُولُ: فَيَجُوزُ أَنْ تُقَسَّمَ بِالتَّرَاضِي وَبِالسُّهْمَةِ
(1)
إِذَا عُدِلَتْ بِالقِيمَةِ).
وهذا لا خلاف فيه عند العلماء فإذا رضي الشريكان أو الشركاء بالقسمة فهذا لا اعتراض عليه، لكن بعض العلماء يرى أنَّ أحدهما لو طلب القسمة، وتضرَّر الآخرُ فلا يجوز؛ للضرر الواقع على الآخر، كما لو قسَّم بيتًا أو حمامًا
(2)
، والمقصود بالسهمة هنا هي النصيب، أي: السهم.
(1)
قال الفيومي: السهم النصيب والجمع أسهم وسهام وسهمان بالضم وأسهمت له بالألف أعطيته سهما وساهمته مساهمة بمعنى قارعته مقارعة واستهموا اقترعوا والسهمة وزان غرفة النصيب وتصغيرها سهيمة. "المصباح المنير"(1/ 293).
(2)
قال ابن قدامة: "إذا طلب أحد الشريكين القسمة، فأبى الآخر من غير ضرر، كالحبوب والأدهان، والأراضي، والدور التي يمكن قسمتها بالتعديل من غير رد عوض، ولا ضرر، أجبر الممتنع عليها، وإن كان عليهما ضرر في القسمة، كالجواهر، والثياب التي ينقصها القطع، والرحى الواحدة، والبئر، والحمام الصغير، لم يجبر الممتنع، لقوله: "لا ضرر ولا ضرار"، ولأنه إتلاف مال، وسفه يستحق به الحجر، فلم يجبر عليه، كهدم البناء. وإن كان على أحدهما ضرر دون الآخر، كدار=
* قولُهُ: (اتَّفَقَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقًا مُجْمَلًا، وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي مَحِلِّ ذَلِكَ وَشُرُوطِهِ. وَالقِسْمَة لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ أَوْ فِي مَحَالَّ كثِيرَةٍ: فَإِذَا كَانَتْ فِي مَحِلِّ وَاحِدٍ: فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهَا إِذَا انْقَسَمَتْ إِلَى أَجْزَاءٍ مُتَسَاوِيَةٍ بِالصِّفَةِ، وَلَمْ تَنْقُصْ مَنْفَعَةُ الأَجْزَاءِ بِالِانْقِسَامِ، وَيُجْبَرُ الشُّرَكَاءُ عَلَى ذَلِكَ).
طالما توفَّرت الشروط ولم يحصل ضررٌ لأحدهم.
* قولُهُ: (وَأَمَّا إِذَا انْقَسَمَتْ إِلَى مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ: فَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهَا تَنْقَسِمُ بَيْنَهُمْ إِذَا دَعَا أَحَدُهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَصِرْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَّا مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، مِثْلُ قَدْرِ القَدَمِ)
(1)
.
وهذا من باب التشبيه، فَقَدْرُ القَدَمِ ماذا يفعل به؟ وهذا قياس لما لا ضررَ فيه على الضرر، وهذا هو رأي أكثر العلماء كما سيأتي.
* قولُهُ: (وَبِهِ قَالَ ابْنُ كنَانَةَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَطْ
(2)
، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ
(3)
).
= لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها، يستضر صاحب الثلث بالقسمة دون شركائه، فطلبها المستضر، ففيه وجهان. انظر:"الكافي في فقه الإمام أحمد"(4/ 246، 247).
(1)
انظر: "البيان والتحصيل "، لأبي الوليد ابن رشد (10/ 309)، قال:" وقال مالك: إنه يقسم وإن لم يصر في حظ أحد إلا قدر قدم وما لا منفعة له فيه ".
(2)
انظر: "مناهج التحصيل "، لأبي الحسن الرجراجي (9/ 139)، وفيه:"ويجبر عليها من أباها أم لا؟ على ستة أقوال؛ أحدها: أنها تُقَسَّم بينهم، وإن لم يَصِر في نصيب كل واحد منهم إلا قدر قدم وما لا له منفعة فيه، وهو قول مالك في المدونة، وتلا في ذلك قولُهُ تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}، ولم يتابعه على ذلك أحد من أصحابه إلا ابن كنانة".
(3)
قول أبي حنيفة والشافعي بجواز القسمة ليست في هذه المسألة التي يترتب عليها ذهاب المنفعة، وإنما قولهما بجواز القسمة التي يترتب عليها نقصان المنفعة لا ذهابها.
قال ابن قدامة: "
…
فإن كان أحد الشريكين يستضر بالقسمة دون الآخر؛ كرجلين=
وقولهم: إذا طلب أحد الشريكين القسمة فإنه يُجاب ولا يُنظر إلى الضرر؛ لأنهم يقولون: إن هذا صاحب حقٍّ وقد طالب بحقِّه فله أن يستقلَّ به، وخالف في ذلك الإمام أحمدُ وعددٌ من التابعين، وقالوا: إن هذا لا يجوز
(1)
، واستدلوا بقول الرسول:"لَا ضَرَر ولا ضِرَار"
(2)
.
= بينهما دار، لأحدهما ثلثها، وللآخر ثلثاها، فإذا قسماها استضر صاحب الثلث؛ لكونه لا يحصل له ما يكون دارًا، ولا يستضر الآخر؛ لأنه يبقى له ما يصير دارًا مفردة، فطلب صاحب الثلثين القسمة، لم يجبر الآخر عليها.
ذكره أبو الخطاب. وهو ظاهر كلام أحمد، في رواية حنبل، قال: كل قسمة فيها ضرر، لا أرى قسمتها. وهذا قول ابن أبي ليلى، وأبي ثور. وقال القاضي: يجبر الآخر عليها. وهو قول الشافعي، وأهل العراق؛ لأنه طلب إفرادَ نصيبه الذي لا يستضر بتمييزه، فوجبت إجابته إليه، كما لو كانا لا يستضران بالقسمة". "المغني" (10/ 103).
أما المسألة التي ذكرها المؤلف من جواز القسمة ولو لم يَصِرْ لواحدٍ منهم إلَّا ما لا منفعةَ فيه، مثلُ قَدْرِ القدَمِ، كما قال مالك، فمذهب الأحناف والشافعية على خلافه. قال ابن مازه:"قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كان بين رجلين حائط طلب أحدهما القسمة من القاضي وأبى الآخر، فالقاضي لا يقسمها؛ لأنه لو قسم بعد الهدم كان في الهدم إتلاف المنفعة، ولو قسم قبل الهدم بالمساحة كما تقسم الأرض كان ذلك تسببًا إلى إتلاف المنفعة، وكذلك الحمام لا يقسم بطلب بعض الشركاء؛ لأن هذه القسمة إتلاف منفعة الحمام؛ لأنه لا ينتفع به انتفاع الحمام إلا بجميعه، وإن قسموا ذلك فيما بينهم تركهم القاضي وذلك لأن الحق لهم، فيكون التدبير في ذلك إليهم ". انظر: "المحيط البرهاني في الفقه النعماني"(7/ 343).
قال ابن عابدين: "وشرطُها عدمُ فَوتِ المنفَعةِ بالقِسمةِ، ولذا لا يُقسَمُ نحو حائطٍ وحمَّامٍ ". انظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 254).
وفي مذهب الشافعية، انظر:"تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (10/ 197)، وفيه:"إن طلب الشركاء كلهم قسمته لم يجبهم القاضي إن بطلت منفعته، أي: المقصودة منه ".
(1)
قال البهوتي: " (وإن انفرد أحدهما)، أي: الشريكين، (بالضرر كرب ثلث مع رب ثلثين) وتضرر بها رب الثلث وحده وطلب أحدهما القسمة، فلا إجبار". انظر: "شرح منتهى الإرادات"(3/ 545). وانظر: "المغني"، لابن قدامة (10/ 103).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2341)، والدارقطني (4/ 51)، ورواه مالك في "الموطإ" مرسلًا (2758). وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(250).
* قولُهُ: (وَعُمْدَتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] وَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ: لَا يُقَسَّمُ إِلَّا أَنْ يَصِيرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي حَظِّهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ دَاخِلَةٍ عَلَيْهِ فِي الِانْتِفَاعِ مِنْ قِبَلِ القِسْمَةِ
(1)
).
وهذا أيضًا هو مذهب الإمام أحمد
(2)
.
* قولُهُ: (وَإِنْ كَانَ لَا يُرَاعى فِي ذَلِكَ نُقْصَانُ الثَّمَنِ. وَقَالَ ابْنُ المَاجِشُونِ: يُقْسَمُ إِذَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ المَنْفَعَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الِاشْتِرَاكِ أَوْ كَانَتْ أَقَلَّ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: إِنْ لَمْ يَصِرْ فِي حَظِّ كلِّ وَاحِدٍ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ لَمْ يُقْسَم، وَإِنْ صَارَ فِي حَظِّ بَعْضِهِمْ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَفِي حَظِّ بَعْضِهِمْ مَا لَا يُنْتَفعُ بِهِ، قُسِمَ وَجُبِرُوا عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ دَعَا إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ النَّصِيبِ القَلِيلِ أَوِ الكَثِيرِ، وَقِيلَ يُجْبَرُ إِنْ دَعَا صَاحِبُ النَّصِيبِ القَلِيلِ
(3)
).
(1)
قال ابن القاسم: "
…
وإنما لم يقسم الطريق والجدار إذا كان في ذلك ضرر؛ لأنه لا كبير عرصة لهما، فلا يقسمان إلا بتراض أو على غير ضرر، وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم إلا بضرر ولا يكون فيما يقسم منه منتفع من دار، أو أرض، أو حمام، فإنه لا يقسم، ويباع فيقسم ثمنه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ميه:"لا ضرر ولا ضرار". انظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (4/ 216).
(2)
وافق أبو حنيفة والشافعي أحمدَ إذا ترتب على القسمة ذهاب المنفعة، وخالفاه إذا نقصت المنفعة، كما سبق. انظر:"المغني" لابن قدامة (10/ 103، 104).
(3)
انظر: "البيان والتحصيل "، لأبي الوليد ابن رشد (10/ 309)، وفيه: "قال ابن الماجشون: لا يقسم إلا أن يصير في حظ كلِّ واحد منهم ما ينتفع به في وجه من وجوه المنافع، وإن قلَّ نصيب أحدهم حتى كان لا يصير له بالسهمة إلا ما لا منفعة له فيه في وجه من وجوه المنافع لم يقسم، وقال مطرف: إن لم يصر في حظ واحد منهم ما ينتفع به لم يقسم، وإن صار في حظ واحد منهم ما ينتفع به قسم، دعا إلى ذلك صاحب النصيب القليل الذي لا يصير له في نصيبه ما ينتفع به أو صاحب النصيب الكثير الذي يصير له في حظه ما ينتفع به، وقيل: إنه لا يقسم إلا أن يدعو=
أي: قسموا وجُبِروا على ذلك.
* قولُهُ: (وَلَا يُجْبَرُ إِنْ دَعَا صَاحِبُ النَّصِيبِ الكَثِيرِ، وَقِيلَ بِعَكْسِ هَذَا وَهُوَ ضَعِيفٌ).
فإن دعا صاحب النصيب القليل يُجبر وإلا فلا، وهذا أيضًا عند الحنابلة
(1)
.
* قولُهُ: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِيمَا إِذَا قُسِمَ انْتَقَلَتْ مَنْفَعَتُهُ إِلَى مَنْفَعَةٍ أُخْرَى مِثْلِ الحَمَّامِ).
وجاء المؤلِّف بمثال وهو الحمام، وعامَّة الفقهاء إذا ضربوا المثل في القسمة ضربوا به، فلو قُسِّم الحمام تزول منفعَتُه، وبعضهم يقول: إن كان الحمام كبيرًا وأمكن قسمته، وكان الانتفاع به حاصلًا، وتوجد به ساحة فهذا جائز كما هو معلوم عند الحنابلة
(2)
، لكن إذا قُسِّمَ وزالت منفعته كحمام صغير، وأصبح قسمين صالحين لأنْ يستخدم كلٌّ منهما في شيء آخر كمستودع لحفظ البضائع مثلًا، أو قُسِّمت دارٌ صغيرة فأصبحت لا تصلح للسُّكنى لكنها تصلح لأنْ يكون كلُّ جانب منها حانوتًا مثلًا فتكون فيه الفائدة، فهنا هل تجوز القسمة في هذه الحالة؟ الجمهور يمنعون ذلك.
* قولُهُ: (فَقَالَ مَالِكٌ: يُقْسَمُ إِذَا طَلَبَ ذَلِكَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، وَبِهِ
= إلى ذلك صاحب النصيب القليل، وقيل: إنما يقسم إذا دعا إلى ذلك صاحب النصيب الكثير".
(1)
انظر: "المغني"، لابن قدامة (10/ 104)، وفيه:"وإن طلب القسمة المستضر بها، كصاحب الثلث في المسألة المفروضة، أجبر الآخر عليها. هذا مذهب أبي حنيفة، ومالك؛ لأنه طلب دفع ضرر الشركة عنه بأمر لا ضرر على صاحبه فيه، فأجبر عليه، كما لا ضرر فيه ".
(2)
انظر: "المغني"، لابن قدامة (10/ 106)، وفيه:"وإذا كان بينهما دار، أو خان كبير، فطلب أحدهما قسمة ذلك ولا ضرر في قسمته، أجبر الممتنع على القسمة".
قَالَ أَشْهَبُ
(1)
.
وَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ: لَا يُقْسَمُ
(2)
، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ).
وأبي حنيفة وأحمد، فالأئمة الثلاثة قالوا: لا يقسم؛ لأن الغرض من القسمة هو إبقاء المنفعة التي كانت قائمة قبل ذلك
(3)
.
* قولُهُ: (فَعُمْدَةُ مَنْ مَنَعَ القِسْمَةَ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ"
(4)
).
ولا شكَّ أن هذا الحديث بجميع طرقه صالحٌ للاحتجاج به، فهو
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (11/ 225)، قال:"ولا يُقسم الحمّامُ ولا الفرن ولا الرحى ولا البئرُ ولا العينُ ولا الساقية ولا الدكان ولا الجدار ولا الطريق ولا الشجرة. ومن المجموعة: يُقسم الجدارُ إن لم يكن فيه ضررٌ". قال أشهب: "لا يُقسمُ إلا باجتماعهم ".
(2)
يُنظر: "المدونة"(4/ 307) قال: قال ابن القاسم: "وأنا أرى أيضًا في الحمام: إن كان في قسمته ضرر أن لا يقسم وأن يباع عليهم ".
(3)
المسألة في مذهب الحنفية على تفصيل، قال ابن نجيم: "
…
ولو اقتسما الحمام، أو البئر بأنفسهم جاز ولكل واحد نوع منفعة بأن يتخذ نصيبه من الحمام بيتًا، وإن طلبا جميعًا القسمة من القاضي، هل يقسم؟ فيه روايتان: في رواية لا يقسم؛ لأنها تضمنت تفويت منفعة وليس للقاضي ذلك؛ لأنه يكون سفهًا يمكنه، وفي رواية يقسم؛ لأنهم رضوا بذلك ". انظر:"البحر الرائق"(8/ 172، 172). والذي وقفت عليه عند الشافعية في هذا أنه يصح القسم، بل ويجبر الممتنع عليه.
قال النووي: "وأما ما يبطل نفعه المقصود كحمام وطاحونة صغيرين لإيجاب طالب قسمته في الأصحِّ، فإن أمكن جعله حمامين أجيب ". انظر: "منهاج الطالبين"(ص 343)، وانظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 330).
أما مذهب الحنابلة، فقال البهوتي:" (وتحرم) القسمة (في مشترك لا ينقسم إلا بضرر) على الشركاء أو أحدهم، لحديث؟ "لا ضرر ولا ضرار". (أو برد عوض) منهم أو من أحدهم؛ لأنها معاوضة بغير الرضا (كحمام ودور صغار) بحيث يتعطل الانتفاع بها، إذا قسمت أو يقل ". انظر: "شرح منتهى الإرادات"(3/ 554).
(4)
أخرجه ابن ماجه (2341) وغيره.
حديث حسنٌ
(1)
، واستخرج منه العلماء قاعدةً فقهية عظيمة وهي:"الضرر يُزال "
(2)
.
* قولُهُ: (وَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى القِسْمَةَ قَوْله تَعَالَى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7])
وقلنا: أن الآية مجملة.
* قولُهُ: (وَمِنَ الحُجَّةِ لِمَنْ لَمْ يَرَ القِسْمَةَ حَدِيثُ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ: "لَا تَعْضِيَةَ عَلَى أَهْلِ المِيرَاثِ إِلَّا مَا حَمَلَ القَسْمُ ")
(3)
.
وهذا الحديث مرويٌّ من طريق محمدِ بن أبي بكر بن حزم، وأخرجه البيهقي وغيره
(4)
، ولكنه حديث ضعيف، وقوله:"لا تَعْضِيَةَ"، أي: لا تَفريق، وقوله عن جابر عن أبيه فإنه لا يعرف لجابر رواية عن أبيه، وكونه ضعيفًا فإنه لا يصلح للاحتجاج به
(5)
.
* قولُهُ: (وَالتَّعْضِيَةُ: التَّفْرِقَةُ
(6)
، يَقُولُ: لَا قِسْمَةَ بَيْنَهُم وَأَمَّا إِذَا كانَ الرِّبَاعُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ: فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مِنْ نوْعٍ وَاحِدٍ
(1)
صححه الألباني في "إرواء الغليل"(896).
(2)
أي: تجب إِزَالَته، لِأَن الأَخْبَار فِي كَلَام الفُقَهَاء للْوُجُوب. وانظر هذه القاعدة وشرحها في:"الأشباه والنظائر"، للسبكي (1/ 41)، "التحبير شرح التحرير"، للمرداوي (8/ 3846). و"شرح القواعد الفقهية" للزرقا (ص 179).
(3)
قال ابن عبد البر: "فسره أبو عبيدة وغيره بأن الشيء إذا لم يحتمل القسم لم يقسم ولم يفرق عن حاله ويترك ميراثًا على وجهه أو يباع ويقسم ثمنه ". انظر: "الكافي في فقه أهل المدينة"(2/ 874).
(4)
أخرجه الدارقطني (5/ 392)، والبيهقي في "الكبرى"(10/ 225).
(5)
قال ابن عبد الهادي: "هذا حديثٌ لا يثبتُ، وهو مرسلٌ ". انظر: "تنقيح التحقيق"(5/ 67).
(6)
وهو مأخوذ من الأعضاء، يقول: عضيت اللَّحْم، إِذا فرقته. انظر:" غريب الحديث "، لأبي عبيد (2/ 7).
أَوْ مُخْتَلِفَةَ الأَنْوَاعِ: فَإِذَا كَانَتْ مُتَّفِقَةَ الأنْوَاعِ: فَإِنَّ فُقَهَاءَ الأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفُونَ).
لأن القسمة من أدقِّ الأمور فيترتب عليها فصل حقٍّ عن حق وهذا يحتاج إلى دقة وعناية ولذلك أطالَ العلماء في هذه المسألة وكثر الخلافُ فيها.
(فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَتْ مُتَّفِقَةَ الأَنْوَاعِ قُسِمَتْ بِالتَّقْوِيمِ وَالتَّعْدِيلِ وَالسُّهْمَةِ)
(1)
.
فالتقويمُ هنا يقصد به القيمة، والسَّهمية، أي: تقسيمها إلى أسهامٍ متساوية، والتعديل يتمُّ حتى تتساوى هذه الأنصبة في قيمتها.
(وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ).
وكذلك الإمام أحمد.
(بَلْ يُقْسَمُ كُلُّ عَقَارٍ عَلَى حِدَتِهِ
(2)
. فَعُمْدَةُ مَالِكٍ: أَنَّهُ أَقَلُّ لِلضَّرَرِ
(1)
انظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (4/ 179)، وفيه:"وإذا ورث قوم أراضي وعيونًا كثيرة، فأراد أحدهم قسمة كل عين وأرض، وأراد غيره اجتمع حصته من ذلك، فإن استوت الأرض في الكرم وتقاربت أماكنها، واستوت العيون في سقيها الأرض، جُمعت في القسم، وإن اختلفت الأرض في الكرم، والعيون في الغور، قسمت كل أرض وعيونها على حدة".
(2)
انظر في مذهب الأحناف: "بداية المبتدي "، للمرغيناني (ص 212)، وفيه:"وإِذا كَانَت دور مُشْتَركَة فِي مصر وَاحِد قسم كل دَار على حدتها فِي قَول أبي حنيفَة، وَقَالا: إِن كَانَ الأَصْلَح لَهُم قسْمَة بَعْضهَا فِي بعض قسمهَا وَإِن كَانَت دَار وضيعة أَو دَار وحانوت قسم كل وَاحِد مِنْهُمَا على حِدة".
وانظر في مذهب الشافعي: "المهذب"، للشيرازي (2/ 140)، وفيه: "فإن كان له داران في زقاقين غير نافذين وظهر كل واحدة من الدارين إلى الأخرى فأنفذ إحدى الدارين إلى الأخرى ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز؛ لأنه يجعل الزقاقين نافذين،=
الدَّاخِلِ عَلَى الشُّرَكَاءِ مِنَ القِسْمَةِ. وَعُمْدَةُ الفَرِيقِ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ عَقَارٍ تُعَيِّنُهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ تَتَعَلَّقُ بِهِ الشُّفْعَةُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ إِذَا اخْتَلَفَتِ الأَنْوَاعُ فِي النَّفَاقِ
(1)
، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ مَوَاضِعُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ
(2)
، وَأَمَّا إِذَا كانَتِ الرِّبَاعُ مُخْتَلِفَةً، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا دُورٌ، وَمِنْهَا حَوَائِطُ، وَمِنْهَا أَرْضٌ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ فِي القِسْمَةِ بِالسُّهْمَةِ
(3)
. وَمِنْ شَرْطِ قِسْمَةِ الحَوَائِطِ المُثْمِرَةِ أَنْ لَا تُقْسَمَ مَعَ الثَّمَرَةِ إِذَا بَدَا صَلَاحُهَا بِاتِّفَاقٍ فِي المَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ عَلَى رُؤُوسِ الثَّمَرِ وَذَلِكَ مُزَابَنَةٌ)
(4)
.
= ولأنه يجعل لنفسه الاستطراق من كل واحد من الزقاقين إلى الدار التي ليست فيه ويثبت لأهل كل واحد من الزقاقين الشفعة في دور الزقاق الآخر على قول من يوجب الشفعة بالطريق، والثاني يجوز وهو اختيار شيخنا القاضي رحمه الله؛ لأن له أن يزيل الحاجز بين الدارين ويجعلهما دارًا واحدة ويترك البابين على حالهما فجاز أن ينفذ إحداهما إلى الأخرى".
وانظر في مذهب أحمد: "شرح منتهى الإرادات"(3/ 546)، وفيه:" (كمن بينهما دار لها علو وسفل طلب أحدهما)، أي: الشريكين (جعل السفل لواحد) منهما (و) جعل (العلو لآخر)، وامتنع شريكه فلا إجبار؛ لاختلاف السفل والحلو في الانتفاع والاسم، ولو كان كل منهما لواحد فباع أحدهما فلا شفعة للآخر كدارين متلاصقتين مشتركتين طلب أحدهما جعل كل دار لواحد، وأبى الآخر، ولأنه طلب نقل حقه من عين إلى أخرى بغير رضا شريكه ".
(1)
"النَّفَاقُ" بفتح النون، من باب دخل، مصدر نافقة، أي: رائجة. انظر: "طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية" لنجم الدين النسفي (ص 113).
(2)
قال ابن بزيزة: "والصحيح أنهما إذا تباعدت جدًّا لم تجمع في القسم، وحد البعد ما جاوز ثلاثة أميال ". انظر: "روضة المستبين في شرح كتاب التلقين"(2/ 1201). وانظر: "المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (3/ 98).
(3)
انظر: "المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (3/ 98)، وفيه: ولا يجمع في القسمة الدور مع الحوائط ولا مع الأرضين، ولا الحوائط مع الأرضين، وإنما يقسم كل شيء من ذلك على حدته.
(4)
قال مالك: "لا تقسم الثمار مع الأصل وكذلك الزرع لا يقسم مع الأرض، ولكن=
لماذا قال المالكية بهذا، ولم يقل به الحنابلة؟ الجواب: لأن المالكية يرون أن القسمة بيع وينطبق عليها ما ينطبق على البيع فتدخل الأمور الربوية، وعند الحنابلة هي إفرازُ حقٍّ، أي: إفراز نصيب كلّ واحد منهما، ولا شكَّ أن الإفراز يختلف عن البيع
(1)
.
* قولُهُ: (وَأَمَّا قِسْمَتُهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ: فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِ مَالِكٍ: أَمَّا ابْنُ القَاسِمِ فَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ قَبْلَ الإِبَّارِ
(2)
بِحَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ، وَيَعْتَلُّ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ طَعَام بِطَعَامٍ مُتَفَاضِلًا، وَلذَلِكَ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُجِزْ مَالِكٌ شِرَاءَ الثَّمَرِ الَّذِي لمْ يَطِبْ بِالطَّعَام، لَا نَسِيئَةً وَلَا نَقْدًا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ بَعْدَ الِإبَّارِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إَّلا بِشَرْطِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنَ الثَّمَرِ فِي نَصِيبِهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي القِسْمَةِ، وَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي نَصِيبِهِ فَهُمْ فِيهِ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَالعِلَّةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ المُشْتَرِي الثَّمَرَ بَعْدَ الإِبَّارِ وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الإِبَّارِ).
وهذا معروف حتى في البيع فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار
= تقسم الأرض والشجر وتقر الثمر والزرع حتى يحلّ بيعهما، فإذا حلَّ بيعهما فإن أحبوا أن يبيعوا الثمرة والزرع ثم يقتسموا الثمن على فرائض الله فذلك لهم ". انظر:"المدونة "(4/ 268، 269).
(1)
انظر: المبدع في شرح المقنع (8/ 237)، وفيه:"القسمة إفراز حق أحدهما من الآخر في ظاهر المذهب، وليست بيعًا".
(2)
انظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي، (4/ 183)، وفيه:"ولا يُقسم البقل القائم بالخرص، وليقسم ثمنه، ولا يقسم شيء مما في رؤوس الشجر من الفواكه والثمار بالخرص، وإن اختلفت فيه الحاجة، إلا في النخل والعنب إذا حلَّ بيعهما واختلفت حاجة أهلهما كما ذكرنا؛ لأن أمر الناس إنما مضى على الخرص فيهما خاصة. وسألت مالكًا عمَّا روي عنه من إجازة ذلك في غيرهما من الفواكه ". و"الإِبار" بكسر الهمزة تلقيح النخل. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 154).
حتى يبدو صلاحها
(1)
، فقبل بلوغ الصلاح شأن، وبعد بلوغه شأن آخر.
* قولُهُ: (فَكَأَنَّ أَحَدَهُمَا اشْتَرَى حَظَّ صَاحِبِهِ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَرَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ فِي القِسْمَةِ بِحَظِّهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ لِشَرِيكِهِ وَاشْتَرَطَ الثَّمَرَ، وَصِفَةُ القَسْمِ بِالقُرْعَةِ: أَنْ تُقْسَمَ الفَرِيضَةُ، وَتُحَقَّقَ، وَتُضْرَبَ إِنْ كَانَ فِي سِهَامِهم كسْرٌ إِلَى أَنْ تَصِحَّ السِّهَامُ).
ومرادُه أنه إذا وُجِد في الأنصبة تفاوت فإنها تضرب بالقرعة.
* قولُهُ: (ثُمَّ يُقَوَّمَ كلُّ مَوْضِعٍ مِنْهَا وَكلُّ نَوْعٍ مِنْ كِرَاسَاتِهَا، ثُمَّ يَعْدِلَ عَلَى أَقَلِّ السِّهَامِ بِالقِيمَةِ، فَرُبَّمَا عَدَلَ جُزْءٌ مِنْ مَوْضِعِ ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى قِيَمِ الأَرَضِينَ وَمَوَاضِعِهَا، فَإِذَا قُسِمَتْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَعُدِّلَتْ كتِبَتْ فِي بَطَائِقَ أَسْمَاءِ الأَشْرَاكِ، وَأَسْمَاءِ الجِهَاتِ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ فِي جِهَةٍ أَخَذَ مِنْهَا، وَقِيلَ: يُرْمَى بِالأَسْمَاءِ فِي الجِهَاتِ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ فِي جِهَةٍ أَخَذَ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ أَكثَرَ مِنْ ذَلِكَ السَّهْمِ ضُوعِفَ لَهُ حَتَّى يَتِمَّ حَظُّهُ، فَهَذِهِ هِيَ حَالُ قُرْعَةِ السَّهْمِ فِي الرِّقَابِ)
(2)
.
والقرعةُ وسيلةٌ من الوسائل التي يقصد بها الوصول إلى الغاية، وهي
(1)
أخرجه البخاري (1486)، ومسلم (1534). ولفظه: عن ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها"، وكان إذا سئل عن صلاحها قال:"حتى تذهب عاهته ".
(2)
انظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (12/ 338)، وفيه: قال مطرف وابن الماجشون في تفسير القرعة: إذا أعتق موتُهُ رقيقَه، فساهمهم أو قال: رقيقي حرار. أو أوصى بعتقهم، ولا يحملهم الثلث، فإن لم يدَعْ غيرهم، فإن انقسموا على ثلاثة أجزاء متعدَّاة جزيئتهم كذلك، وكتب ثلاث بطائق، تكتب في بطاقة أسماء جزء من العبيد، وفي الثاني أسماء جزء ثان، وفي الثالثة أسماء الثالث، وتلف كل بطاقة في طين وتحضير ذلك العدول وتعطى لمن يدخلها في كمه من صغير أو كبير، ثم تخرج واحدة فتفق فيعتق من فيها.
أن يرفع الإشكال، وأن تطيب النفوس، وأن تكون هذه القرعة حكمًا للمشتركين.
* قولُهُ: (وَالسُّهْمَةُ إِنَّمَا جَعَلَهَا الفُقَهَاءُ فِي القِسْمَةِ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِ المُتَقَاسِمِينَ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الشَّرْعِ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} [الصافات: 141]، وَقَوْلُهُ:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] وَمِنْ ذَلِكَ الأَثَرُ الثَّابتُ الَّذِي جَاءَ فِيهِ: "أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ عِنْدَ مَؤتِهِ، فَأَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ ثُلُثَ ذَلِكَ الرَّقِيقِ ").
وهذا الحديث في "صحيح مسلم" وفي السنن، عدا النسائي عن عمران بن حصين، "أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولًا شديدًا" هذا هو الحديث
(1)
.
* قولُهُ: (وَأَمَّا القِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي سَوَاءٌ أكَانَتْ بَعْدَ تَعْدِيلٍ وَتَقْويمٍ، أَوْ بِغَيْرِ تَقْوِيمٍ وَتَعْدِيلٍ، فَتَجُوزُ فِي الرِّقَابِ المُتَّفِقَةِ وَالمُخْتَلِفَةِ؛ لِأَنَّه بَيْعٌ مِنَ البُيُوعِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ فِيهَا مَا يَحْرُمُ فِي البُيُوعِ)
(2)
.
لأنها نوع من أنواع البيع.
* قولُهُ: (الفَصْلُ الثَّانِي: فِي العُرُوضِ، وَأَمَّا الحَيَوَانُ وَالعُرُوضُ:
(1)
أخرجه مسلم (1668)، وأبو داود (3958)، والترمذي (1364)، وابن ماجه (2345).
(2)
انظر: "البيان والتحصيل "، لأبي الوليد ابن رشد (11/ 219، 220)، وفيه: كذلك اختلفا أيضًا في القسمة على التراضي بعد التعديل والتقويم، بغير قرعة، هل هي تمييز حق أو بيع من البيوع؟ وأما القسمة على التراضي دون تقويم ولا تعديل، ولا قرعة، فلا اختلاف في أنها بيع من البيوع، فلها حكمه في العيوب والاستحقاق، على ما قد ذكرناه في القسمة بالقرعة على القول بأنها بيع من البيوع.
فَاتَّفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِسْمَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْفَسَادِ الدَّاخِلِ فِي ذَلِكَ)
(1)
.
فلا يمكن أن يقسم واحد منها منفردًا؛ لأنه يترتب على ذلك ضرر وهو زوال المنفعة، والإسلام إنما نهى عن الضرر وجاء بما فيه المصلحة، مصلحة الطرفين أو على الأقلِّ تحقق المصلحة لطرف إن كان الآخر هو الراغب بتلك القسمة.
* قولُهُ: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا تَشَاحَّ
(2)
الشَّرِيكَانِ فِي العَيْنِ الوَاحِدَةِ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَتَرَاضَيَا بِالِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى الشِّيَاعِ).
فلم يتَّفقا على القسمة أو على أمر من الأمور وحصلت بينهم مشاحة، فما الذي يتم؟
* قولُهُ: (وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ بَبِيعَ صَاحِبُهُ مَعَهُ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ: يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَأْخُذَهُ بِالقِيمَةِ الَّتِي أُعْطِي فِيهَا أَخَذَهُ)
(3)
.
(1)
انظر: الإقناع، لابن المنذر (2/ 697)، وفيه:"وأجمع أهل العلم عَلَى أن لؤلؤة لو كانت بين جماعة فأراد بعضهم أخذ حظِّه منها أن تقطع بينهم أو تكسر أنهم ممنوعون من ذَلِكَ؛ لأن فِي قطعها أو كسرها تلفًا لأموالهم وفسادًا لَهُ، وكذلك السفينة، والسيف، والمصحف، والدرع والنجيب من الإبل، والجفنة، والمائدة، والصحفة، والصندوق، والسرير، والباب، والنعل، والقوس وما أشبه ذَلِكَ؛ لأن فِي قسمه ضررًا وتلفًا لأموالهم ونقصًا عليهم ".
(2)
"تشاح" من الشحِّ من حَدِّ دخل، أي: تضايق. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 145).
(3)
انظر: "التلقين في الفقة المالكي "، للقاضي عبد الوهاب (2/ 180)، وفيه: وإذا تشاحَّ الشريكان في عين من هذه الأعيان ولم يتراضيا بالانتفاع به على الشياع وأراد أحدهما بالبيع فإن أجابه الآخر وإلا أُجبر على البيع معه، ثم له أخذ حصته بما دفع به إلا أن يختار الشريك بيع حصته مشاعًا فلا يلزمه الآخر ببيع حصته معه، وإن اختارَا أن يتقاوما رقبة المبيع فمن زاد منها على صاحبه أخذه.
فمن العلماء من يرى أنه في مثل هذه الحالة تقدَّر القيمة وتعرض، فهل يأخذها هذا الشريك؟، وقد مرَّ بنا ما يتعلق بالشفعة، وأنها تتم في الصنف الواحد.
* قولُهُ: (وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ الأُصُولَ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَخْرُجَ مَلِكُ أَحَدٍ مِنْ يَدِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ كتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ إِجْمَاعٍ)
(1)
.
وأقوال العلماء الآخرين والأئمة أيضًا مترددة بين القولين.
* قولُهُ: (وَحُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ فِي تَرْكِ الإِجْبَارِ ضَرَرًا).
وقد بدأ المؤلِّف في التقليل من ذكر المذاهب الأخرى والتوسع في مذهب مالك.
* قولُهُ: (وَهَذَا مِنْ بَابِ القِيَاسِ المُرْسَلِ، وَقَدْ قُلْنَا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ: إِنَّهُ لَيْسَ يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ إِلَّا مَالِكٌ)
(2)
.
والقياس المرسل توسَّع فيه المالكية وسلكوا فيه ما لم يسلكْهُ غيرُهم، وخرَّجُوا عليه كثيرًا من الأحكام.
* قولُهُ: (وَلَكِنَّهُ كَالضَّرُورِيِّ فِي بَعْضِ الأَشْيَاءِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ العُرُوضُ أَكْثَرَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ: فَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى قِسْمَتِهَا عَلَى التَّرَاضِي).
وهذا موضعُ اتفاق بين العلماء
(3)
.
(1)
قال ابن حزم: "ولا يجوز أن يجبر أحد من الشركاء على بيع حصته مع شريكه أو شركائه ولا على تقاومهما الشيء الذي هما فيه شريكان أصلًا كان مما ينقسم أو مما لا ينقسم من الحيوان ". انظر: "المحلى"(6/ 422).
(2)
قال القرافي: "ولعل مراده بالقياس المرسل المصلحة المرسلة، وقد حققت في رسالتي: "انتصار الاعتصام" وجهها، وأن مالكًا لم يختصَّ بالقول بها فانظرها إن شئت ". انظر: "الفروق"(4/ 50).
(3)
انظر: "الإقناع"، لابن المنذر (2/ 698)، وفيه: فأما قسم الرقيق والأنعام، والكراع، والسلاح وما أشبه ذَلِكَ، إذا كانت بين جماعة واحتمل القسم فقسم ذَلِكَ يجب بينهم=
* قولُهُ: (وَاخْتَلَفُوا فِي قِسْمَتِهَا بِالتَّعْدِيلِ وَالسُّهْمَةِ).
والتعديل ما يتطلب تعديلًا في الأنصبة، وهذا عندما تختلف القيمة، لكن عندما تتَّحد السهام (أي: الأنصبة)، وتتساوى القِيم فإنه حينئذٍ تقسم بالمساحة، لكن إذا حصل خلاف فلا شك أن المعتبر في ذلك هي القيمة، فيتمّ التعديل في المساحة حتى تتساوى القيم؛ لأن الأرض عندما تقسم تختلف مواقعها وربما تتساوى فقد تكون في وسط مخطط فلا تختلف، وقد تكون في وسط مخطط وتختلف؛ لأن بعضها قد يقعُ على شارعين وبعضها على شارع واحد، وبعضها يقع على شارع عام، فتجد في بعضها مزايا، فيتطلب الأمًر أن تعدل حتى تتساوى القِيم.
* قولُهُ: (فَأَجَازَهَا مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ فِي الصِّنْفِ الوَاحِدِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَابْنُ المَاجِشُون)
(1)
.
ومذهب الإمام مالك هو مذهب الجمهور، وبعض العلماء يرى أنه إذا ترتب على التعديل زيادة مال للطرف الآخر فإنها تخرج من قسمة الإجبار إلى قسمة التراضي؛ لأنها تكون بيعًا، والبيع يكون على التراضي، فعندما تختلف السهام أو عندما تقسم هذه الأرض يكون نصيب هذا من حيث القيمة أكثر من نصيب الآخر، فهذا يتطلب أن يدفع الذي نصيبه أكثر للآخر مبلغًا فمعنى هذا أنه اشترى منه ذلك؛ لأن كونه دفع هذا المبلغ كأنه اشترى شيئًا من نصيبه وهذا هو البيع الذي لا إجبار فيه، وهذا التعليل ذكره الشافعية والحنابلة.
= إذا سألوا ذَلِكَ وقامت عَلَى أملاكهم بينة استدلالًا بقسم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الغنائم بين أصحابه، والأعبد الستة الذين أعتقهم المريض لما جعل للعتق حظًّا، وللرق حظ مثلي حظ العتق.
(1)
انظر: "المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (3/ 96)، وفيه: وأما قسمتهما بالتعديل والسهمة فمنع من ذلك عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون في سماع يحيى من كتاب القسمة، وقال:"إنها تباع ويقسم الثمن ".
* قولُهُ: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي تَمْيِيزِ الصِّنْفِ الوَاحِدِ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ السُّهْمَةُ مِنَ الَّتِي لَا تَجُوزُ، فَاعْتَبَرَهُ أَشْهَبُ بمَا لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ).
أي: ما لا يجوز السلم فيه بعضه لبعض مما يكون ربويًّا.
* قولُهُ: (وَأَمَّا ابْنُ القَاسِمِ فَاضْطَرَبَ: فَمَرَّةً أَجَازَ القَسْمَ بِالسُّهْمَةِ فِيمَا لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ، فَجَعَلَ القِسْمَةَ أَخَفَّ مِنَ السَّلَمِ. وَمَرَّةَ مَنَعَ القِسْمَةَ فِيمَا مَنَعَ فِيهِ السَّلَمَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ القِسْمَةَ فِي ذَلِكَ أَخَفُّ، وَأَنَّ مَسَائِلَهُ الَّتِي يُظَنُّ مِنْ قِبَلِهَا أَنَّ القِسْمَةَ عِنْدَهُ أَشَدُّ مِنَ السَّلَمِ تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ عَلَى أَصْلِهِ الثَّانِي. وَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبِ إِلَى أَنَّهُ يَجْمَعُ فِي القِسْمَةِ مَا تَقَارَبَ مِنَ الصِّنْفَيْنِ مِثْلَ الخَزِّ، وَالحَرِيرِ، وَالْقُطْنِ، وَالكَتَّانِ، وَأَجَازَ أَشْهَبُ جَمْعَ صِنْفَيْنِ فِي القِسْمَةِ بِالسُّهْمَةِ مَعَ التَّرَاضِي، وَذَلِكَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الغَرَرَ لَا يَجُوزُ بِالتَّرَاضِي)
(1)
.
فإذا اجتمعت أنواعٌ من الثياب كالخزِّ والحرير والصوفِ والقطنِ والكتان، فيجوز أن تعتبر نوعًا واحدًا لتقاربها وتقسم كرأي ابن حبيب، ويجوز أن تعتبر أنواعًا فيقسم كل نوعِ على حدة، وهو مذهب جمهور العلماء الذي أغفله المؤلف هنا
(2)
.
(1)
انظر: "مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها"، للرجراجي (9/ 143)، وفيه: وأما ابن القاسم: فقد اضطرب قولُهُ في "الكتاب"، ولم يجْرِ مذهبه في ذلك على قياس؛ لأنه جعل القسمة في بعض المواضع أخف من البيع؛ فاجاز القسمة بالسهمة فيما يجوز سلم بعضه في بعض، وذلك قولُهُ في البزِّ: أنها تجمع في القسمة، والبزُّ أصناف كثيرة في البيع يجوز سلم بعضها في بعض، وجعلها في بعض المواضع أشد من البيع، فمنع من القسمة بالسهمة فيما هو عنده في البيع صنف واحد لا يجوز أن يسلم بعضه في بعض.
(2)
انظر: في مذهب الأحناف: " الدر المختار، وحاشية ابن عابدين"(رد المحتار)" (6/ 261)، وفيه: "(قولُهُ وقسم عروض اتحد جنسها)؛ لأن القسمة تميز الحقوق=
* قولُهُ: ([الفَصْلُ الثَّالِثُ فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا]. فَأَمَّا المَكِيلُ، وَالمَوْزُونُ: فَلَا تَجُوزُ فِيهِ القُرْعَةُ بِاتِّفَاقٍ).
وذلك لأن الميزان إنما وضع لربط الأشياء وزنًا، والمكيل كذلك وضع لضبطها كيلًا، وما دامت هذه الأشياء تُكال فلا ينبغي أن ينتقل عنها، ولذلك نهي عن بيع الجزاف إلا في مواضعَ معيَّنة، وأيضًا نُهِي عن المزابنة ولم يستثْنَ منها إلا بيع العرايا على رُؤوس النخل تخفيفًا لحاجة الناس وفي قدر معين كما بينت تلك الأحاديث، وهذا ليس عند المالكية فقط بل عند كافَّة العلماء فلا تجوز فيه القرعة؛ لأن هذا ما ينضبط بالكيل والوزن فلا حاجة فيه للقرعة
(1)
.
* قولُهُ: (إِلَّا مَا حَكَى اللَّخْمِيُّ
(2)
، وَالمَكِيلُ أَيْضًا لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ صُبْرَةً وَاحِدَةً أَوْ صُبْرَتَيْنِ فَزَائِدًا).
= وذلك ممكن في الصنف الواحد كالإبل أو البقر أو الغنم أو الثياب أو الدواب أو الحنطة أو الشعير يقسم كل صنف من ذلك على حدة".
وانظر: في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج"(6/ 334)، وفيه:(أو) استوت قيمة (عبيد أو ثياب) أو دواب أو أشجار أو غيرها من سائر العروض (من نوع) وأمكن التسوية، ولو اخثلف العدد (أجبر) الممتنع إن زالت الشركة بالقسمة.
وفي مذهب الحنابلة: "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل"(4/ 412)، وفيه: ومن كان بينهما عين أو بهائم أو ثياب ونحوها من جنس واحد فطلب أحدهما قسمها أعيانًا بالقيمة -أجبر الممتنع إن تساوت القيمة وإلا فلا.
(1)
لأن القرعة لا تستعمل إلا في المبهمات والمشكلات.
قال ابن القطان الفاسي: "والقرعة في المشكلات سنة عند جمهور الفقهاء في المستوين في الحجة؛ ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم وترفع الظنة عمن تولى القسمة بينهم ". "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 207).
(2)
قال اللخمي: "وقال ابن القاسم في امرأة ماتت وخلفت زوخا وأخا وحُليًّا أنه يقسم وزنا، يريد: ثم يتراضيان فيأخذ هذا هذا ويأخذ الآخر هذا، وبالقرعة إذا استوى الوزن والقيمة، فإن اختلفت لم يجز بالقرعة". انظر: "التبصرة"(12/ 5911).
و"الصُّبرة": هي الكومة سواء كانت من تمر أو من قمح أو من شعير أو من ذرة أو من غير ذلك
(1)
، فلو جيء بسيارة كبيرة فأنزلت حمولتها من نوع واحد فهذه هي الصُّبرة، وربما تكون أنواعًا، فهناك صُبرة شعيرٍ، وصُبرة تمرٍ، وصبرة ذُرة وهكذا.
* قولُهُ: (فَإِنْ كَانَ صِنْفًا وَاحِدًا؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ قِسْمَتُهُ عَلَى الِاعْتِدَالِ بِالكَيْلِ أَوِ الوَزْنِ إِذَا دَعَا إِلَى ذَلِكَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ)
(2)
.
لأن القسمة إنما تتمُّ بناءً على دعوة أحد الشريكين.
* قولُهُ: (وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ قِسْمَتِهِ عَلَى التَّرَاضِي).
فهذا أمرٌ مسلَّم فقسمة التراضي ليست محلَّ خلافٍ حتى وإن تنازلَ أحد الشريكين لصاحبه عن بعض ما يخصه فذلك جائز ولا خلاف فيه.
* قولُهُ: (وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ قِسْمَتِهِ عَلَى التَّرَاضِي عَلَى التَّفْضِيلِ البَيِّنِ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الرِّبَوِيِّ، أَوْ مِنْ غَيْرِ الرِّبَوِيِّ)
(3)
.
فلا فرق بين أن يكون من الأمور التي نُهِي عن الربا فيها أو التي لم
(1)
"الصبرة": الكومة المجموعة من الطعام، جمعُها صُبَرٌ مثل غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، سميت صبرة؛ لإفراغ بعضها على بعض، وتقول: اشتريت الشَّيْء صبرَة إِذا اشْتَرَيْته بلَا كيل وَلَا وزن. انظر: "جمهرة اللغة"، لابن دريد (1/ 312)، انظر:"المصباح المنير"، للفيومي (1/ 331).
(2)
قال أبو الوليد ابن رشد: "إن كان صبرة واحدة فلا خلاف في وجوب قسمه على الاعتدال في الكيل والوزن إذا دعا إلى ذلك أحد الشركاء". انظر: "المقدمات الممهدات"(3/ 94).
(3)
انظر: "المقدمات الممهدات"(3/ 94)، وفيه: فأما إن كان صبرة واحدة فلا خلاف في وجوب قسمه على الاعتدال في الكيل والوزن إذا دعا إلى ذلك أحد الشركاء، ولا في جواز قسمته على الاعتدال في الكيل والوزن وعلى التفضيل البين، كان ذلك مما يجوز فيه التفاضل أو من الطعام المدخر الذي لا يجوز فيه التفاضل. ويجوز ذلك كله بالمكيال المعلوم والمجهول، وبالصنجة المعلومة والمجهولة.
يُنهَ عنها، وقد مرَّ أن المالكية يقاربون بين الجنسين، فالجنس الذي يشبه الآخر حتى وإن كان صنفًا آخر يجعلونه بمثابة الصنف الواحد في الربويات.
* قولُهُ: (أَعْنِي: الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ بِالكَيْلِ المَعْلُومِ، وَالمَجْهُولِ).
ويقصد بالكيلِ المعلوم الصَّنجة، وبالكيل المجهول المكيال، وهناك مكاييل محددة معروفة ومصطلح عليها كالحال بالنسبة للموازين، وقد يكون المكيال غير معتبر أي: غير مقرر، فهل هذا يجوز أو لا؟ هو مقياس لكنَّه ليس دقيقًا كدقَّة المكيال المحدد المعروف، كم يساوي هذا الصاع وكم كيلو يساوي؟، وقد يوجد مكيال فيه جهالة فيكون غير منضبط القدر.
* قوله: (وَلَا يَجُوزُ قِسْمَتُهُ جُزَافًا بِغَيْرِ كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ قِسْمَتُهُ تَحَرِّيًا: فَقِيلَ لَا يَجُوزُ فِي المَكِيلِ، وَيَجُوزُ فِي المَوْزُونِ)
(1)
.
" قسمته تحرِّيًا"، أي: ليست القسمة قسمة تدقيق، والعبارة قد يفهم منها أنه يجوز أن يوزن ولا يجوز أن يُكال، بمعنى: أن الميزان معتبر والمكيال غير معتبر، فقصده أنه يجوز في الموزون، ولا يلزم في المكيل، لأنه متسامح فيه.
* قولُهُ: (وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنَ الخِلَافِ مَا يَدْخُلُ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ تَحَرِّيًا).
وكل هذه فروع مختلف فيها في داخل مذهب الإمام مالك، ولا أدري لماذا غيَّر المؤلف أسلوبه مع أنه قال -كما سيأتي- في كتاب
(1)
قال ابن جزي: "القسمة بالتحري فيها ثلاثة أقوال: المنع مطلقًا، والجواز فيما يوزن لا فيما يكال، والجواز فيما يجوز التفاضل فيه بخلاف الربوي فلا يجوز التحري فيه إلا في الخبز واللحم والتمر في رؤوس النخل ". انظر: "القوانين الفقهية"(ص: 188). وانظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 95).
القذف: إنما وضع هذا الكتاب في أمهات المسائل وأصولها وإن أنسأ الله في عمري فسأكتب فروعًا في مذهب مالك، أما الآن فقد بدأ بالشروع في فروع المذهب المالكي وأغفل آراء المذاهب الأخرى.
* قولُهُ: (وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ صُبْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَا صِنْفَيْنِ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ: فَلَا تَجُوزُ قِسْمَتُهَا عَلَى جِهَةِ الجَمْعِ إِلَّا بِالكَيْلِ المَعْلُومِ فِيمَا يُكَالُ، وَبِالوَزْن بِالصَّنْجَةِ المَعْرُوفَةِ فِيمَا يُوزَن).
و"الصَّنجَةُ": هي نوع من الموازين وهي الآن معروفة ومحددة وكثيرة جدًا
(1)
.
* قولُهُ: (لِأَنَّهُ إِذَا كانَ بِمِكْيَالٍ مَجْهُولٍ لَمْ يَدْرِ كمْ يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ الصِّنْفِ الوَاحِدِ إِذَا كانَا مُخْتَلِفَيْنِ مِنَ الكَيْلِ المَعْلُومِ، وَهَذَا كلُّهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ)
(2)
.
فهذه التعليلات والتفصيلات التي في مذهب مالك بُنيت على أنه إذا وُجِد صنفان متشابهان فإنه يمنع فيهما الربا كما نأتي فنقول: القمحُ مع الشعير، فكلٌّ منهما مطعوم وكل منهما غذاء وكل منهما يصنع منه
(1)
انظر: "المصباح المنير"، للفيومي (1/ 291)، وفيه: سَنْجَةُ المِيزَانِ مُعَرَّبٌ وَالجَمْعُ سَنَجَاتٌ مِثْلُ: سَجْدَةٍ وَسَجَدَاتٍ وَسِنَجٌ أَيْضًا مِثْلُ: قَصْعَةٍ وَقِصَعِ قَالَ الأَزْهَرِيُّ: قَالَ الفَرَّاءُ: هِيَ بِالسِّينِ وَلَا تُقَالُ بِالصَّادِ، وَعَكَسَ ابْنُ السِّكِّيتِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فَقَالَا: صَنْجَةُ المِيزَان بِالصَّادِ، وَلَا يُقَالُ بِالسِّينِ.
(2)
انظر: "مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها"، للرجراجي (9/ 147)، وفيه:
وأما إذا كان صنفين كالقمح، والشعير، أو التمر، والزبيب، أو القمح والزبيب: فلا خلاف في جواز قسمته على الاعتدال في الكيل والوزن، ولا غير الاعتدال إذا تبين الفضل لجواز التفاضل بين الجنسين، ولا يجوز ذلك إلا بالمكيال المعلوم أو الصنجة المعلومة.
الدقيق والخبز وغير ذلك، فهناك صفات كثيرة تجتمع قيها، والأئمة الآخرون لا يوافقون المالكية في ذلك
(1)
، ومثل ذلك التمر والزبيب، فلو وجد تقارب بين صنفين يجعلهما المالكية بمثابة صنف واحد وفرعوا على ذلك.
* قولُهُ: (لِأَنَّ أَصْلَ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي الصِّنْفَيْنِ إِذَا تَقَارَبَتْ مَنَافِعُهُمَا، مِثْلُ القَمْحِ وَالشَّعِيرِ).
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا اخْتَلفَتْ هذه الأصنافُ فبِيعُوا كيفَ شِئتُم" كما في حديث عبادة وغيره
(2)
: "الذَّهبُ بالذَّهبُ والفضةُ بالفضة والبُرُّ بالبُرِّ والشعيرُ بالشعيرِ والتَّمرُ بالتَّمرِ والملحُ بالملحِ مثلًا بمثلٍ يدًا بيدٍ، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ")
(3)
، فأنتم ترون في هذا الحديث أنه فرَّق بين البُرِّ الذي هو القمح الحبّ
(4)
، وبين
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"درر الحكام شرح غرر الأحكام" لملا خسرو (2/ 147). قال: " (وصح) البيع (في الطعام) وهو الحنطة ودقيقها؛ لأنه يقع عليهما عرفًا، (والحبوب) وهي غيرهما كالعدس والحمص ونحوهما، (ولو) كان البيع (جزافًا)، أي: بطريق المجازفة (لو) بيع (بغير جنسه) لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم" بخلاف ما إذا بيع بجنسه مجازفة فإنه لا يصح لاحتمال الربا". انظر: "درر الحكام شرح غرر الأحكام"(2/ 147).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"التهذيب في فقه الإمام الشافعي" للبغوي (3/ 346) قال: "وإن كان الجنس مختلفًا بأن باع صبرة من حنطة بصبرة من شعير لا يعلم كيلها -يجوز"، وانظر:"روضة الطالبين وعمدة المفتين"، للنووي (3/ 385).
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل" للحجاوي (2/ 115) قال: "فإن اختلف الجنس جاز بيع بعضه ببعض كيلًا أو وزنًا وجزافًا متفاضلًا؛ كذهب بفضة، وتمر بزبيب، وحنطة بشعير، وأشنان بملح، وجص بنورة، ونحوه ".
(2)
كحديث عمر وأبي بكرة وأبي سعيد الخدري.
(3)
أخرجه مسلم (1587).
(4)
قال الزبيدي: "البُرُّ: بالضّمِّ الحِنْطَةُ، قَالَ المصنِّف فِي البَصائر: وتَسْمِيَتُه بذلك لكونهِ أَوسعَ مَا يُحتاجُ إِليه فِي الغِذاءِ". "تاج العروس"(10/ 156).
الشعير، وهم يرون أنهما بمثابة صنف واحد لتشابههما في كثير من الصفات، كلّ منهما مطعوم وكلٌّ منهما يُتغذَّى به، وكل منهما يُطحَن، وكلٌّ منهما له دقيق يصنعون منه الخبز إلى غير ذلك من أوجه الشبه التي يذكرونها، لكننا نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ميَّز وفرَّق بينهما وجعل كلَّ واحد منهما صنفًا مستقلًّا.
* قولُهُ: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ: فَيَجُوزُ قِسْمَتُهُ عَلَى الِاعْتِدَالِ، وَالتَّفَاضُلِ البَيِّنِ المَعْرُوفِ، بِالمِكْيَالِ المَعْرُوفِ أَوِ الصَّنْجَةِ المَعْرُوفَةِ، أَعْنِي: عَلَى جِهَةِ الجَمْعِ وَإِنْ كَانَا صِنْفَيْنِ، وَهَذَا الجَوَازُ كُلُّهُ فِي المَذْهَبِ عَلَى جِهَةِ الرِّضَا. وَأَمَّا فِي وَاجِبِ الحُكْمِ فَلَا تَنْقَسِمُ كلُّ صُبْرَةٍ إِلَّا عَلَى حِدَةٍ، وَإِذَا قُسِمَتْ كُلُّ صُبْرَةٍ عَلَى حِدَةٍ جَازَتْ قِسْمَتُهَا بِالمِكْيَالِ المَعْلُومِ وَالمَجْهُولِ).
وقد عرفنا مذهب الجمهور وبأن كلَّ نوع يقسم على حدة، ومذهب الجمهور واضح وموجز في هذه المسائل.
* قولُهُ: (فَهَذَا كُلُّهُ هُوَ حُكْمُ القِسْمَةِ الَّتِي تكُونُ فِي الرِّقَابِ).
أي: كلُّ ما أورده المؤلف إنما هو في حكم قسمة الرِّقاب، وسيشرع في بيان الأحكام المتعلّقة بقسمة المنافع.
* قولُهُ: ([القَوْلُ فِي القَسْمِ الثَّانِي وَهُوَ قِسْمَةُ المَنَافِعِ] فَأَمَّا قِسْمَةُ المَنَافِعِ: فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ بِالسُّهْمَةِ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ القَاسِمِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا مَنْ أَبَاهَا)
(1)
.
وقد أغفل المؤلف ذكر الأئمة الآخرين فهذا أيضًا هو مذهب
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (3/ 101) قال:"وأما قسمة المنافع فإنها لا تجوز بالسهمة على مذهب ابن القاسم، ولا يجبر عليها من أباها ولا تكون إلا على المراضاة والمهايأة".
الشافعي
(1)
وأحمد
(2)
.
* قولُهُ: (وَلَا تَكُونُ القُرْعَةُ عَلَى قِسْمَةِ المَنَافِعِ
(3)
. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَةِ المَنَافِعِ
(4)
).
ومالك أيضًا ذهب مذهب أبي حنيفة
(5)
، فتكون قسمة المنافع بالنسبة للإجبار وعدمه على قسمين: فالإمامان الشافعي وأحمد يريان أنهما لا يجبران عليها، وأبو حنيفة ومالك يقولان بالجبر عليها، واستدلُّوا بحديث:"لَا ضَرَر ولا ضِرَار"
(6)
، فلو طلب أحدُ الشريكين قسمة المنافع
(1)
قال البغوي: "إن طلب أحدهما المهايأة، وامتنع الآخر هل يجبر الممتنع؟ فيه وجهان؟ أحدهما: يجبر كما يجبر على قسمة الأعيان. والثاني، وهو الأصح والمنصوص عليه: لا يجبر؛ لأن فيه تعجيل حق أحدهما، وتأخير الآخر؛ بخلاف الأعيان؟ فإنه لا يتأخر بالقسمة فيها حق أحدهما". انظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"(8/ 214).
(2)
قال البهوتي: " (ولا إجبار في قسمة المنافع) بأن ينتفع أحدهما بمكان والآخر بآخر، أو كل واحد منهما ينتفع شهرًا أو نحوه؛ لأنها معاوضة فلا يجبر عليها الممتنع كالبيع، ولأن القسمة بالزمان بأخذ أحدهما قبل الآخر فلا تسوية لتأخر حق الآخر. انظر: "شرح منتهى الإرادات" (3/ 546).
(3)
قال عليش: "الباجي وعبد الوهاب عن المذهب إنما تجوز قسمة المهايأة وهي قسمة المنافع بالمراضاة لا بالإجبار والقرعة، وعلى هذا اقتصر ابن عرفة، وبه قطع عياض ". انظر: "منح الجليل"(7/ 125).
(4)
قال ابن عابدين: "والأصحُّ أَنَّ القاضيَ يُهايِئُ بينهما جبرًا بطلب أحدهما". انظر: "رد المحتار"(6/ 269). وانظر: " المبسوط "، للسرخسي (20/ 170).
(5)
انظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة"، للقاضي عبد الوهاب (ص 1287)، وفيه:"فأما الذي ينقسم أعيانه كالعقار والرباع فما أمكن قسمه منها ولم يعد بالضرر وإتلاف حصة أحد الشركاء قسم بينهم، وما لا يمكن قسمه إلا بلحوق الضرر لجماعتهم وأن يصير لكل واحد ما لا ينتفع له فلا يجوز قسمه؛ لأن ذلك إضرار بنفسه وشركائه، وإن كان تصير لأحد الشركاء ما ينتفع به فطالب بالقسمة وفي القسم إبطال انتفاع الباقي بحصصهم، وقد قيل إن العقار إذا كان مما ينقسم قسم على كل حال إذا دعي بعض الشركاء إلى القسمة".
(6)
سبق تخريجه.
فأبَى الآخر فإنما أضرَّ بصاحبه، وقد جاء في الحديث:"لا ضرَرَ ولا ضِرار".
وأما الشافعية والحنابلة يقولون: المهايأة
(1)
، إنما هي معاوضة، والمعاوضة إنما تكون واجبة قياسًا على البيع، فكما أن الإنسان لا يُجبر على البيع ولا على الشراء، كذلك أيضًا لا يُجبر على المنافع، وهناك قضية أخرى لم يشرْ إليها المؤلِّف تتعلق بهذا، وهي مهمة: لو اصطلحَا واتفقَا على المهايأة ثم طلب أحدهما القسمة فهل تبطل هذه القسمة وتنتقض، وينتقل حينئذٍ إلى القسمة المعروفة التي هي قسمة الإجبار أو لا؟ وقد ذهب أبو حنيفة
(2)
مذهب الشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
في هذه المسألة، فقال بقولهم وإنها تنتقض، وأما مالك فيرى أنها لا تنتقض؛ لأنه يرى أن ذلك أمر لازم قام على الإجبار فينبغي ألا تحصل قسمة حتى تنتهي المدة التي اتفق عليها، وأبو حنيفة لم يوافق مالكًا مع أنه يرى أن المهايأة إنما تقوم على الإجبار، لكنَّه رأى أنه إذا طلب أحدهم القسمة التي هي قسمة فض الاشتراك وهي الأصل، والمهايأة إنما هي طارئة، فالرجوع إلى الأصل أولى فعاد لموافقة الشافعية والحنابلة.
(1)
"المهايأة" مفاعلة من الهيئة، تَهايَأَ القومُ تَهايُؤًا من الهَيئَةِ، جعلوا لكل واحدٍ هَيئةً معلومةً، والمرادُ النَّوبةُ وهايَأْتُه مُهايَأَةً، وقد تبدل للتخفيف، فيقال: هايَيْتُه مُهاياةً. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 645).
(2)
قال السرخسي: "إذا طلب ما هو الأصل وهو قسمة العين لا تستدام المهايأة بينهما". انظر: "المبسوط"(20/ 170).
(3)
قال النووي: "ولو رضيا بالمهايأة، ثم رجع المبتدئ بالانتفاع قبل استيفاء نوبته، مكن، فإن مضت مدة لمثلها أجرة، غرم نصف أجرة المثل، وإن رجع بعد استيفاء نوبته، فإن قلنا: لا إجبار على المهايأة مكن، وغرم نصف الأجرة، وإن قلنا بالإجبار لم يمكن، بل يستوفي الأجرة مدته ". انظر: "روضة الطالبين"(11/ 218).
(4)
قال ابن قدامة: "إذا ثبت هذا، فإنهما إذا اتفقا على المهايأة، جاز؛ لأن الحق لهما فجاز فيه ما تراضيا عليه، كقسمة التراضي، ولا يلزم، بل متى رجع أحدهما عنها، انتقضت المهايأة". انظر: "المغني"(10/ 115).
* قوله: (وَقِسْمَةُ المَنَافِعِ هِيَ عِنْدَ الجَمِيعِ بِالمُهَايَأَةِ وَذَلِكَ إِمَّا بِالأزْمَانِ، وَإِمَّا بِالأعْيَانِ).
و"المهايأة": أن يترك كلُّ واحد منهما العينَ في يد أخيه مدَّة معينة، وهذه على نوعين؛ لأنه قد تكون بالزمان وقد تكون بالمكان، والمؤلف قال: قد تكون بالزمان أو بالأعيان، ويقصد بالأعيان الأماكن.
* قوله: (أَمَّا قِسْمَةُ المَنَافِعِ بِالأَزْمَانِ فَهو أَنْ يَنْتَفِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالعَيْنِ مُدَّةً مُسَاوِيَةً لِمُدَّةِ انْتِفَاعِ صَاحِبِهِ).
وفي هذا تيسيرٌ على الناس؛ لأنه لو وجدت دار بين اثنين وأراد كلٌّ منهما أن يسكنها، وقد لا يجتمعان في وقت واحد فهذا يأتي في وقت ويستخدمها وهذا في وقت آخر ويستخدمها، أو كل منهما عنده بستان يمكث فيه فترة وفي هذه الدار فترة، فهذا أمر مصطلح عليه ومتعارف عليه وفيه خير للطرفين وكل منهما مستفيد.
* قوله: (وَأَمَّا قَسْمُ الأَعْيَانِ: بِأَنْ يُقَسِّمَا الرِّقَابَ عَلَى أَنْ يَنْتَفِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا حَصَلَ لَهُ مُدَّةً مَحْدُوةً).
كما لو كانت دارًا واسعة جدًّا ويضعان فاصلًا بينهما فهذا يسكن في شمالها وهذا في جنوبها أو هذا في شرقها وهذا في غربها وهكذا، فهذا جائز؛ لأنها تصلح للاثنين معًا.
* قوله: (وَالرِّقَابُ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِ الشَّرِكَةِ. وَفِي المَذْهَبِ فِي قِسْمَةِ المَنَافِعِ بِالزَّمَانِ اخْتِلَافٌ فِي تَحْدِيدِ المُدَّةِ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا القِسْمَةُ لِبَعْضِ المَنَافِعِ دُونَ بَعْضٍ لِلِاغْتِلَالِ، أَوِ الِانْتِفَاعِ)
(1)
.
(1)
انظر: "روضة المستبين في شرح كتاب التلقين"، لابن بزيزة (2/ 1198)، وفيه: إن=
و"الاغتلالُ": هو أخذ غلَّتها، كأن يكون حائط فيأخذه إنسان فترة يسكن فيه ويزرع فيه ويأخذ الغلة من الثمار ثم يأتي الآخر يعقبه ويعمل ذلك أيضًا، وهذا أيضًا بلا شك فيه تيسير.
* قوله: (مِثْلَ اسْتِخْدَامِ العَبْدِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَزِرَاعَةِ الأَرْضِ).
فالمملوك كل واحد منهما يستخدمه ويأخذه في مزرعته فترةً معينة ثم ينتقل إلى الآخر أيضًا فترة معينة، وكذلك الحال بالنسبة للدوابِّ يستفيد منها أيضًا.
* قوله: (وَذَلِكَ أَيْضًا فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ، أَوْ لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ).
فهذا عام سواء كان ذلك ممَّا يقبل النقل والتحويل أو ممَّا هو ثابت كالأراضي.
* قوله: (فَأَمَّا فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ: فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ فِي المُدَّةِ الكَثِيرَةِ، وَيَجُوزُ فِي المُدَّةِ اليَسِيرَةِ).
فالمالكية يتحرّون في ذلك ويقولون: ينبغي أن تكون المدَّة يسيرة محددة
(1)
، والجمهور يقولون: لم يرد في ذلك نصٌّ يدلُّ على أن المدة
= وقعت القسمة للانتفاع بالغلة والكراء فهل يشترط في ذلك قرب المدة حذرًا من الغرر باختلاف الأكرية في اللازمة المتطاولة، أو يجوز ذلك في المدة اليسيرة والكثيرة؛ لأن الأعيان باقية على أصل الشركة فيه قولان عندنا.
(1)
قال ابن بزيزة: "فإن وقعت القسمة للانتفاع بالغلة والكراء، فهل يشترط في ذلك قرب المدة حذرًا من الغرر باختلاف الأكرية في اللازمة المتطاولة، أو يجوز ذلك في المدة اليسيرة والكثيرة؛ لأن الأعيان باقية على أصل الشركة فيه قولان عندنا، وأمل القسمة فيما ينقل ويحول ويسرع إليه التغيير من الحيوان، فيشترط فيها قرب مدة الانتفاع والاغتلال، ولا يجوز ذلك مع طول المدة للتغير اللاحق المحقق للغرر والمخاطرة
…
والصحيح: أن المدة تختلف بحسب اختلاف المقسوم، فإته من ما يسرع إليه التغير، ومنه ما لا يسرع إليه فيتنزل تقدير المدة على ذلك". انظر:"روضة المستبين في شرح كتاب التلقين"(2/ 1198، 1199).
محددة، وإنما هذه المهايأة اصطلح عليها العلماء لما فيها من المصلحة للطرفين
(1)
، فكلا من الطرفين يستفيد ويجني الثمرة في ذلك وسواء كان مسكنًا يقيم فيه أو أرضًا يستغلها أو يقيم فيها، أو دابة يستخدمها فترة أو مملوكًا أيضًا يقوم بعمل عنده كبناء أو حرث أو زراعة أو في أمور التجارة أو غير ذلك، فالفائدة قائمة هنا، ولما لم يرد دليل يحدد المدة قالوا: هذا يرجع إلى ما يصطلحان عليه.
* قوله: (وَذَلِكَ فِي الِاغْتِلَالِ، وَالِانْتِفَاعِ. وَأَمَّا فِيمَا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ: فَيَجُوزُ فِي المُدَّةِ البَعِيدَةِ، وَالأَجْلِ البَعِيدِ، وَذَلِكَ فِي الِاغْتِلَالِ وَالِانْتِفَاعِ).
يعني: المالكية يفرِّقون بين الأراضي الثابتة المستقرة والدور فهذه أمور لا تنقل، وهذه تكون مدتها طويلة، لكن الأشياء التي تُنقل مثل الحيوان والمملوك الذي يتنقل وغير ذلك ينبغي أن يقيَّد بمدَّة ليست بطويلة، ولما كان المالكية دائمًا يعنون بالمصالح المرسلة وكذلك ما يعرف بالقياس المرسل الذي نبَّهَ إليه المؤلف قبل ذلك تجد أنهم يكثرون الفروع في هذا الجانب ويبنون مسائل على المصلحة.
أما الجمهور فإنهم قالوا: لا تحديد في ذلك، ولم يَردْ دليلٌ شرعي
(1)
مذهب الأحناف: قال الأوزجندي: "لو تهايأا في نخل أو في شجر على أن يأكل هذا ثمرته سنة ويأكل الآخر سنة أخرى لا يجوز، وكذا الغنام وجميع الحيوانات إذا تهايآ على أن يكون ولدها ولبنها وصوفها سنة لهذا وسنة لآخر لا يجوز". انظر: "فتاوى قاضيخان"(3/ 61).
ومذهب الشافعية، انظر: حاشيتا قليوبي وعميرة (3/ 73)، وفيه:" (ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ) وَيَجبُ مُرَاعَاةُ النَّصَفَةِ فِي القِسْمَةِ فَلَا تَطُولُ زَمَنًا تَعِي فِيهِ الدَّابَّةُ أَوْ يَشُقُّ عَلَى الآخَرِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، وَإِذَا اقْتَسَمَا بحَسَبِ الزَّمَانِ لَمْ يُحْسَبْ زَمَنُ النُّزُولِ لِنَحْوِ اسْتِرَاحَةٍ، أَوْ عَلَفٍ فَلَهُ الرُّكُوبُ مِنْ نَوْبَةِ الَآخَرِ بِقَدْرِهِ". قَالَهُ شَيْخُنَا.
ومذهب الحنابلة، قال البهوتي:" (وإن اقتسماها)، أي: المنافع (بزمان أو مكان صح) ذلك (جائزًا) غير لازم، سواء عينا مدة أو لا كالعارية من الجهتين، ولكل منهما الرجوع متى شاء". انظر: "شرح منتهى الإرادات"(3/ 546).
يحدد ذلك وهي أمور قامت على المصلحة فلا ينبغي أن تقيَّد، وهناك أمور لم ينبِّهْ لها المؤلف: ربما يأتي هذا فيستخذم الدار فترة فلما تأتي فترة الآخر تنهدم أو يأخذ الدابة فترة ثم لما يأتي زمن الآخر تموت، وهكذا بالنسبة للملوك فهذه تكلم عنها الفقهاء في كتبهم وبيَّنوا أنه يرجع إلى صاحبه فيما استفاده
(1)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي المُدَّةِ اليَسِيرَةِ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ فِي الِاغْتِلَالِ: فَقِيلَ اليَوْمُ الوَاحِدُ وَنَحْوُهُ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الدَّابَّةِ وَالعَبْدِ. وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ فَقِيلَ: يَجُوزُ فِي مِثْلِ الخَمْسَةِ الأَيَّامِ، وَقِيلَ: فِي الشَّهْرِ وَأكْثَرَ مِنَ الشَّهْرِ قَلِيلًا)
(2)
.
ومن الأمور التي قد ترد في هذا المقام وجود شيء من الجهالة؛ لأن هذا قد يأخذ الدابَّة فيستخدمها فترة أطول وهذا فترة أقلّ، أو سيارة، فهذا يعمل عليها ساعات طويلة وهذا ساعات أقل، لكن العلماء يتجاوزون عن مثل هذه الأمور.
* قوله: (وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فِي الأَعْيَان: بِأَنْ يَسْتَعْمِلَ هَذَا دَارًا مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ، وَهَذَا دَارًا تِلْكَ المُد بعَيْنِهَا).
وهي التي قلنا: المهايأة بالمكان، كدار لا تستوعب الاثنين معًا فيأخذها هذا فترة يسكن فيها، أو وإن يأخذه يبيع فيه فترة ثُمَّ يأتي ذاك فيأخذ نفس المدة التي اتخذَها الآخر، وأيضًا قد تختلف المواسم فتجد أنه في موسم الحج تتحرك الأسواق ويكون هناك البيع والشراء أكثر فينبغي أن
(1)
قال أبو الوليد ابن رشد: "وأما التهايؤ في الدور والأرضين فتجوز فيها السنين المعلومة والأجل البعيد ككرائها، قاله ابن القاسم في المجموعة. ووجه ذلك أنها مأمونة". انظر: "المقدمات الممهدات"(3/ 102).
(2)
انظر: "المقدمات الممهدات"(3/ 102)، وفيه: واختلف في المدة اليسيرة كاليوم ونحوه، ففي كتاب محمد لا يجوز ذلك في الدابة والعبد وإن كان ذلك يومًا واحدًا. قال محمد:"وقد سهل مالك في اليوم الواحد".
تُراعى مثل هذه الأمور، فلا يأخذها واحد فترة يكون في السوق ركودًا إن كان المكان للبيع أو حتى إن كان يريد أن يؤجّر، وهذه أمور لا بد أن تراعى في هذا المقال، لكن لو أخذها سنة وهذه هي المزايا في المدة الكاملة يبقى التعادل قائمًا بين الاثنين.
* قوله: (فَقِيلَ: يَجُوزُ فِي سُكْنَى الدَّارِ وَزِرَاعَةِ الأَرَضِينَ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الغَلَّةِ وَالكِرَاءِ
(1)
إِلَّا فِي الزَّمَان اليَسِيرِ
(2)
. وَقِيلَ: يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ التَّهَايُؤِ بِالأَزْمَانِ)
(3)
.
فهذا هو الأولى وهو الذي أخذ به أكثر الفقهاء
(4)
، فينبغي أن تحدد
(1)
"الكِراءُ" بالمد الأُجرة، وهو مصدر في الأصل من كارَيتُه من باب قاتَلَ. انظر:"المصباح المنير"، للفيومي (2/ 532).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 499)، قال:" (لا) تجوز المهايأة (في غلة) أي: كراء يتجدد بتجدد تحريك المشترك كعبد أو دابة يأخذ أحدهما كراءه مدة معينة (ولو يومًا) والآخر مثله لعدم انضباط الغلة المتجددة إذ قد تقل وتكثر ومن غير المنضبطة الحمامات والرحا فإن انضبطت كدار معلومة الكراء وكرحا يطحن كل منهما حبه في مدة معينة جاز".
(3)
يُنظر: "روضة المستبين"، لابن بزيزة (2/ 1198) قال:"فإن وقعت القسمة للانتفاع بالغلة والكراء فهل يشترط في ذلك قرب المدة حذرًا من الغرر باختلاف الأكرية في اللازمة المتطاولة، أو يجوز ذلك في المدة اليسيرة والكثيرة؛ لأن الأعيان باقية على أصل الشركة فيه قولان عندنا".
(4)
أكثر الفقهاء على أن ذلك لا يجوز لما فيه من التفاضل والغرر.
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 270) قال: " (ولو) تهايآ (في غلة عبد أو في غلة عبدين أو) تهايأا (في غلة بغل أو بغلين أو) في (ركوب بغل أو بغلين أو) في (ثمرة شجرة أو) في (لبن شاة لا) يصحّ في المسائل الثمان".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 200)، قال:"ولا يجوز المهايأة في شجر الثمر ليكون لهذا عامًا ولهذا عامًا؛ لأن ذلك ربوي مجهول وطريق من أراد ذلك أن يبيح كل منهما لصاحبه مدة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (6/ 554)، قال: " (وإن كان) الزرع (بذرًا أو سنبلًا مشتدًّا بحب فلا) يجوز لهما ذلك (للربا) الحاصل في=
مدة لكن لا تكون المدة طويلةً جدًّا، فهي أمور بُنيت على المصلحة فينبغي أن تُرَاعى فيها خشية أن تهلك هذه السلعة وبخاصة كما ذكر المالكية فيما يتعلق بما ينقل، أما الأمور الثابتة كالدور وغيرها فهذه من المعروف أنها تعيش فترة طويلة وكذلك المزارع.
* قوله: (وَكَذَلِكَ القَوْلُ فِي اسْتِخْدَامِ العَبْدِ وَالدَّوَابِّ يَجْرِي القَوْلُ فِيهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي قِسْمَتِهَا بِالزَّمَانِ
(1)
. فَهَذَا هُوَ القَوْلُ فِي أَنْوَاعِ القِسْمَةِ فِي الرِّقَابِ، وَفِي المَنَافِعِ، وَفِي الشُّرُوطِ المُصَحِّحَةِ وَالمُفْسِدَةِ. وَبَقِيَ مِنْ هَذَا الكِتَابِ القَوْلُ فِي الأَحْكَامِ).
وبقيت أمور واضحة ليست كما مرَّ، وسبب عدم وضوح بعض المسائل تعمق المؤلف في مذهب المالكية ومناقشته لبعض الجزئيات التي تكون واضحة في المذاهب الأخرى، أو أنه لو أوجز وسلك الطريق الذي كان يقوم فيه على الترتيب والتقسيم البديع الذي كان يسير عليه في أكثر المباحث التي مضت لكانت أكثر وضوحًا.
* قوله: (القَوْلُ فِي الأَحْكَامِ وَالقِسْمَةُ مِنَ العُقُودِ اللَّازِمَةِ)
(2)
.
ومراد المؤلِّف هنا قسمة الإجبار، وحتى قسمة التراضي إذا اصطلح عليها فهي أيضًا تصبح غير قابلة للنقض إلا أن يطرأ عليها شيء.
* قوله: (لَا يَجُوزُ لِلْمُتَقَاسِمَيْنِ نَقْضُهَا، وَلَا الرُّجُوعُ فِيهَا إِلَّا بِالطَّوَارِئِ عَلَيْهَا).
فهناك أمور تحدث خارجة عن إرادتهما؛ لأنه قد يوجد عيب في نصيب أحدهما لم يكتشف بعد أن يقتسما هذه السلعة وينفرد كلُّ واحد
= بيعه؛ لأنه بيع حب بحب من جنسه مع الجهل بالتساوي، وهو كالعلم بالتفاضل".
(1)
انظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل المالكي (7/ 4).
(2)
انظر: "المقدمات الممهدات"(3/ 103).
منهما بنصيبه فيدقق النظر فيه يجد فيه عيبًا
(1)
، أو ربما يطرأ على هذا النصيب مطالبة بحق، كأن كانت أرضًا وتقدم شخص بصكٍّ يفيد بأن له جزء من هذه الأرض التي وقعت في نصيب فلان فكيف نعالج هذه؟ قد يخرج بعد توزيع التركة وارث كان غائبًا مدَّةً من الزمان، أو لا يعرف بأنه وارث، كما يحدث وقد يتزوج رجل بأخرى ولا يَعْرِف أولادُه أن لهم أخوة، وقد يأتي دائن كان مسافرًا أو لا يعلم بموت هذا الذي عليه حق فيأتي بعد تقسيم التركة فيطالب بحقِّه، فكيف تعالج مثل هذه الأمور؟ فهناك غبن
(2)
، وهناك عيب يطرأ، وهناك دائن يرد على أصحاب الحقوق، وهناك وارث ما كان يعرف يرد عليه، فهذه هي الأمور التي عبَّر عنها المؤلف بالطوارئ التي تطرأ على العقد بعد القسمة.
* قوله: (وَالطَّوَارِئُ ثَلَاثَةٌ: غَبْنٌ؛ أَوْ وُجُودُ عَيْبٍ، أَوِ اسْتِحْقَاقٌ. فَأَمَّا الغَبْنُ: فَلَا يُوجِبُ الفَسْخَ إِلَّا فِي قِسْمَةِ القُرْعَةِ بِاتِّفَاقٍ فِي المَذْهَبِ)
(3)
.
التي هي قسمة الإجبار ويعبَّر عنها بالقرعة، أما الغبن إذا كان عن تراضٍ فهو غير وارد، وكذلك الكلام في المذاهب الأخرى، فإذا تراضيا على قسمة شيء واصطلحا عليه وكلٌّ رضي بنصيبه، فكيف يدَّعي بأنه مغبون؟
(1)
قال أبو الوليد الباجي: "إن وجد بعد القسمة غبن في قيمة أو ذرع، كان لمن وجدت في حصته المطالبة بها؛ لأنه دخل على قيمة مقدرة أو ذرع مقدر فإن وجد في ذلك نقصًا كان له الرجوع به". انظر: "المنتقى شرح الموطإ"(6/ 50).
(2)
"الغبن": ما يتغابن الناس في مثله من الغبن
…
وهو الخداع، يراد به ما يجري بينهم من الزيادة والنقصان ولا يتحرزون عنه، وما لا يتغابن الناس فيه هو ما يتحرزون عنه من التفاوت في المعاملات. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 64).
(3)
قال الشيخ الدردير: " (وهي)، أي: قسمة القرعة (تمييز حق) في مشاع بين الشركاء لا بيع، فلذا يرد فيها بالغبن ويجبر عليها من أباها". انظر: "الشرح الكبير"(3/ 500). وانظر: "منح الجليل" لعليش (7/ 295).
* قوله: (إِلَّا عَلَى قِيَاسِ مَنْ يَرَى لَهُ تَأْثِيرٌ فِي البَيْعِ، فَيَلْزَمُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي القِسْمَةِ).
فمن يلحق القسمة بالبيع فإنه كذلك؛ لأنه كما هو معلوم ومرَّ بنا خيار الغبن
(1)
.
* قوله: (وَأَمَّا الرَّدُّ بِالعَيْبِ).
والعيب: كأن تكون أرض وقسمت ثم اكتشَفَ أحدُ الشريكين أن في نصيبِه عيبًا، والآخر نصيبه خالص صافٍ ليس فيه عيبٌ، وقد يكون العيبُ في الأرض، وقد يكون في غيرها في عروض التجارة التي قُسِّمت فما الحل هنا؟
* قوله: (فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو على مَذْهَبِ ابْنِ القَاسِمِ أَنْ يَجِدَ العَيْبَ فِي جُلِّ نَصِيبِهِ أَوْ فِي أَقَلِّهِ).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (5/ 273)، قال:" (ولو ظهر غبن فاحش في القسمة تفسخ)، وهذا إذا كانت القسمة بقضاء القاضي فظاهر؛ لأن تصرفه مقيد بالعدل والنظر، وأما إذا كانت بالتراضي فقد قيل: لا يلتفت إلى قول من يدعيه؛ لأنه دعوى الغبن ولا معتبر به في البيع فكذا في القسمة لوجود التراضي، وقيل: تفسخ هو الصحيح ذكره في الكافي".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 337)، قال:" (ولو) (ادعاه)، أي: الغلط أو الحيف (في قسمة تراض) بأن نصبا قاسمًا أو اقتسما بانفسهما ورضيا بعد القسمة (وقلنا: هي)، أي: قسمة التراضي (بيع فالأصح أنه لا أثر للغلط) وعلى هذا (فلا فائدة لهذه الدعوى) وإن تحقق الغبن؛ لأنه رضي بترك الزيادة له فصار كما لو اشترى شيئًا بغبن، والثاني لها أثر فتنقض؛ لأنهما تراضيا لاعتقادهما أنها قسمة عدل فبان خلافه".
ومذهب الحنابلة، ينظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (3/ 550) قال:" (ومتى ظهر فيها)، أي: قسمة الإجبار (غبن فاحش بطلت) لتبين فساد الإفراز، (ولا شفعة في نوعيها)، أي: قسمة التراضي وقسمة الإجبار؛ لأنها لو ثبتت لأحدهما على الآخر لثبتت للآخر عليه فيتنافيان (ويتفاسخان بعيب) ظهر في نصيب أحدهما". وانظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (6/ 550).
والمؤلف لم يتعرض لمذاهب العلماء، فإذا وجد عيبًا في نصيبه فهو عند الشافعية
(1)
، والحنابلة
(2)
مخير بين أمرين: إما أن يطالب بفسخ القسمة، وهذا حق له، وإما أن يطالب بردِّ أرش العيب، أي: الفرق
(3)
، فتعاد بعد ذلك وتقوَّم الأرض ويُعطى كل واحد نصيبه ويردُّ الآخرُ أرش العيب.
* قوله: (فَإِنْ وَجَدَهُ فِي جُلِّ نَصِيبِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ النَّصِيبُ الَّذِي حَصَلَ لِشَرِيكِهِ قَدْ فَاتَ أَوْ لَمْ يَفُتْ: فَإِنْ كَانَ قَدْ فَاتَ رَدَّ الوَاجِدُ لِلْعَيْبِ نَصِيبَهُ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَأَخَذَ مِنْ شَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَةِ نَصِيبِهِ يَوْمَ قَبْضِهِ).
والجمهور لم يفرقوا، فلو وُجد عيب يطالب بفسخ القسمة حتى وإن فات نصيبها فقيمته موجودة ومعروفة.
* قوله: (وَإِنْ كَانَ لَمْ يَفُتِ انْفَسَخَتِ القِسْمَةُ، وَعَادَتِ الشَّركَةُ إِلَى أَصْلِهَا
(4)
.
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (16/ 261)، قال:"ولو وجد أحدهما بعد القسمة عيبًا في سهمه، كان له الخيار في فسخ القسمة به، كما يكون له الخيار في فسخ البيع".
(2)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 419) قال: "وإن خرج في نصيب أحدهما عيب فله فسخ القسمة إن كان جاهلًا به وله الإمساك مع الأرش".
(3)
قال ابن الأنباري: "الأرش هو الذي يأخذه الرجل من البائع، إذا وقف على عيب في الثوب، لم يكن البائع وقفه عليه، سُمي: أرشًا؛ لأنه سبب من أسباب الخصومة والقتال والتنازع". انظر: "الزاهر في معاني كلمات الناس"(2/ 307).
(4)
انظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير= بلغة السالك لأقرب المسالك"(3/ 201)، وفيه: "وإن كان الباقي بعد التلف أو الاستحقاق والسالم من التعييب أقل من النصف ففي التلف والاستحقاق يخير المشتري بين فسخ البيع والرجوع بثمنه والتماسك بذلك الباقي القليل بحصته من الثمن ويرجع بحصة ما تلف أو استحق، وأما في التعييب فيخير بين فسخ البيع وأخذ ثمنه والتماسك بجميع المبيع=
وَإِنْ كَانَ العَيْبُ فِي أَقَلَّ ذَلِكَ: رَدَّ ذَلِكَ الأَقَلَّ عَلَى أَصْلِ الشَّرِكَةِ فَقَطْ، سَوَاءٌ فَاتَ نَصِيبُ صَاحِبِهِ أَوْ لَمْ يَفُتْ).
والأرش الذي ذكرناه هو قول الجمهور
(1)
.
* قوله: (وَرَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الزِّيَادَةِ، وَلَا يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِالعَيْبِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: "وَالَّذِي يُفِيتُ الرَّدَّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ البُيُوعِ"
(2)
. وَقَالَ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ المَاجِشُونِ: "وُجُودُ العَيْبِ يَفْسَخُ القِسْمَةَ الَّتِي بِالقُرْعَةِ وَلَا يَفْسَخُ الَّتِي بِالتَّرَاضِي؛ لِأَنَّ الَّتِي بِالتَّرَاضِي هِيَ بَيْعٌ، وَأَمَّا الَّتِي بِالقُرْعَةِ فَهِيَ تَمْيِيزُ حَقٍّ، وَإِذَا فُسِخَتْ بِالغَبْنِ وَجَبَ أَنْ تُفْسَخَ بِالرَّدِّ بِالعَيْبِ"
(3)
).
فهذه هي مذاهب العلماء في المسألة وقد ذكرنا مذهب الجمهور.
* قوله: (وَحُكْمُ الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ ابْنِ القَاسِمِ حُكْمُ وُجُودِ العَيْبِ: إِنْ كَانَ المُسْتَحَقُّ كَثِيرًا وَحَظُّ الشَّرِيكِ لَمْ يَفُتْ رَجَعَ مَعَهُ شَرِيكًا فِيمَا فِي يَدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَاتَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ مَا فِي يَدَيْهِ).
= سالمًا ومعيبًا بكل الثمن ولا يجوز له أن يتمسك بذلك السالم فقط بحصته من الثمن".
(1)
سبق تحريرها.
(2)
لم أقف على قول أشهب، وقد ذكر أبو الوليد الباجي أنواع الذي يفيت بالرد، فقال:"الذي يفيت الرد بالعيب على ثلاثة أضرب؛ أحدها: أن يفوت المبيع من ملك البائع. والثاني: أن يكون باقيًا في ملكه، ولكن تغير تغيرًا أحاله من جنسه. والثالث: أن يعقد فيه عقدًا يمنع من رده". انظر: "المنتقى شرح الموطإ"(4/ 191).
(3)
يُنظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (11/ 247)، قال:"قال يحيى بن يحيى: أخبرني من أرضى أن ابن الماجشون قال: إن اقتسموا دورًا وأرضًا -يريد بالسهم- ثم استحق بعضُ ما في أيديهم أو وجدوا ببعضه عيبًا فإن القسم يُعادُ بينهم، وإن كان قسموا على المراضاة فإنما هو عيب دخل عليه ينظر فيه بما ينظر في الشراء لأن قسمة التراضي كالبيع".
وهذا هو مذهب الجمهور: إن كان نصيبه في يده رجعت القسمة إن طالب بها وعاد شريكًا، وإن كان قد باع فإنه يرجع إليه بالقيمة، ويلاحظ الفارق بين الأمرين، لكن لو كانت القسمة قسمةَ رضًا ورضي بهذا مع وجود العيب فقد انتهى الأمر.
* قوله: (وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ
(1)
. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "إِذَا اسْتُحِقَّ مَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا بَطَلَتِ القِسْمَةُ فِي قِسْمَةِ القُرْعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ القِسْمَة لَمْ تَقَعْ عَلَى عَدْلٍ"
(2)
، كقَوْلِ ابْنِ المَاجِشُون فِي العَيْبِ
(3)
. وَأَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَى المَالِ حَقٌّ فِيهِ).
وهذه مسألةٌ أخرى: إذا طرأ عليه دينٌ كأن جاء رجل له دين بعد أن قسمت التركة يطالب بحقه فما موقف أهل التركة أصحابها؟ وهما بين أمرين: إما أن يوافقوا على أن يدفعوا الدين من عندهم وتبقى القسمة ماضية كما كانت ولا تتغير، وإما ألا يدفعوا فإنها تنزع الأسهم من أيديهم وتباع ويوفَّى صاحب الحق حقه، وهناك جزئية لم يذكرها المؤلف: قد يوافق بعضهم ولا يوافق البعض الآخر، فالذي يوافق يبقى نصيبه معه، والذي لا يوافق ينتزع نصيبه ويباع، وهذا الذي وافق على أن يدفع ما يخصه يدفعه وتبقى قسمته ثابتة في حقه، وهذه لا شك فيها عدالة.
* قوله: (وَأَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَى المَالِ حَقٌّ فِيهِ مِثْلُ طَوَارِئِ الدَّيْنِ عَلَى التَّرِكَةِ بَعْدَ القِسْمَةِ، أَوْ طُرُوِّ الوَصِيَّةِ أَوْ طُرُوِّ وَارِثٍ، فَإِنَّ أَصْحَابَ مَالِكٍ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ.
(1)
انظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (4/ 205، 211).
(2)
انظر: "البيان والتحصيل"، لأبي الوليد ابن رشد (11/ 219).
(3)
قال ابن الماجشون: "إن اقتسموا دورًا وأرضًا -يريد بالسهم- ثم استحق بعضُ ما في أيديهم أو وجدوا ببعضه عيبًا فإن القسم يُعادُ بينهم". انظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (11/ 247).
فَأَمَّا إِنْ طَرَأَ الدَّيْنُ: قِيلَ فِي المَشْهُورِ فِي المَذْهَب، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ القَاسِمِ).
وقول الجمهور أيضًا
(1)
:
* قوله: (إِنَّ القِسْمَةَ تَنْتَقِضُ إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَ الوَرَثَة عَلَى أَنْ يُعْطُوا الدَّيْنَ مِنْ عِنْدِهِمْ
(2)
، وَسَوَاءٌ أكَانَتْ حُظوظُهُمْ بَاقِيَةً بِأَيْدِيهِمْ أَوْ لَمْ تَكُنْ).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"درر الحكام"، لملا خسرو (2/ 425)، قال:" (ظهر دين في التركة المقسومة تفسخ)، أي: القسمة (إلا إذا قضوه)، أي: الورثة الدين (أو أبرأ الغرماء) ذمم الورثة (أو بقي منها ما يفي به)، أي: بالدين، يعني: إذا قسمت التركة بين الورثة ثم ظهر دين محيط قيل للورثة اقضوه، فإن قضوا صحت القسمة وإلا فسخت؛ لأن الدين مقدم على الإرث".
والشافعية والحنابلة فرقوا بين ما إذا كانت القسمة إفراز حق أو كانت بيعًا.
ومذهب الشافعية، يُنظر:"التنبيه في الفقه الشافعي" للشيرازي (ص 260)، قال:"وإن تقاسم الورثة التركة ثم ظهر دين يحيط بالتركة فإن قلنا القسمة تمييز الحقين لم تبطل القسمة فإن لم يقض الدين بطلت القسمة، وإن قلنا إنها بيع ففي بيع التركة قبل قضاء الدين قولان وفي قسمتها قولان".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الهداية على مذهب الإمام أحمد" للكلوذاني (ص 581)، قال:"فإنْ قَسَّمَ الوارثانِ التركةَ ثُمَّ ظهرَ دينٌ عَلَى المَيِّتِ فَإنْ قلنا القسمةَ إفرازُ حقٍ لَمْ تبطلِ القسمةُ ولزم كُلّ واحدٍ مِنْهُمَا بقدرِ حقهِ منَ الدَّينِ وإنْ قلنا: هِيَ بيعٌ انبنى عَلَى بيع التركةِ قَبْلَ قضاءِ الدينِ هَلْ يصحُ أم لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ".
(2)
يُنظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (11/ 248) قال:"قال ابن القاسم وأشهب في الورثة يقتسمون ثم يطرأ على الميت دينٌ علموا أنه حين القسم أو جهلوه: يقال لهم: اتفقوا على قضاء الدين وأقروا القسمة، فإن أبوا، أو أبى أحدٌ منهم رُد القسمُ وبيع من التركة بقدر الدين وقُسم ما بقي".
ويُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 515) قال: "واختلف إذا طرأ على التركة دين أو وصية بعدد بعد اقتسام الورثة التركة من دنانير أو دراهم أو عروض أو طعام أو حيوان أو عقار على خمسة أقوال، ثم قال: والثاني: أن القسمة تنقض فيكون ما هلك أو نقص أو نما من جميعهم إلا أن يتفق جميعهم من عدم نقضها ويخرجوا الدين والوصية من أموالهم ويفدوها فذلك لهم، وهو المشهور من مذهب ابن القاسم المنصوص له في المدونة" اهـ.
وسواء كانت نقدًا أو غيره أو أنهم تصرفوا فيها ببيع أو أنها ذهبت كأن كانت مملوكين فماتوا، أو حيوان فنفق، أو غير ذلك.
* قوله: (هَلَكَتْ بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ لَمْ تَهْلِكْ).
أي: بمشيئة الله تعالى وقدرته.
* قوله: (وَقَدْ قِيلَ أيضًا: إِنَّ القِسْمَةَ إِنَّمَا تَنْتَقِضُ بِيَدِ مَنْ بَقِيَ فِي يَدِهِ حَظُّهُ، وَلَمْ تَهْلِكْ بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَمَّا مَنْ هَلَكَ حَظُّهُ بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ فَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الوَرَثَةِ بِمَا بَقِيَ بِأَيْدِيهِمْ بَعْدَ أَدَاءِ الدَيْنِ).
وكلُّ هذه مسائل جزئية يدخلها في المسائل الكبرى.
قوله: (وَقِيلَ: بَلْ تَنْتَقِضُ القِسْمَةُ وَلَا بُدَّ، لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: {
…
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]. وَقِيلَ: بَلْ تَنْتَقِضُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ أَعْطَى مِنْهُ مَا يَنْوِي بِهِ مِنَ الدَّيْنِ. وَهَكَذَا الحُكْمُ فِي طُرُوِّ المُوصَى لَهُ عَلَى الوَرَثَةِ. وَأَمَّا طُرُوُّ الوَارِثِ عَلَى الشَّرِكَةِ بَعْدَ القِسْمَةِ، وَقَبْلَ أَنْ يَفُوتَ حَظُّ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: فَلَا تَنْتَقِضُ القِسْمَةُ، وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ حَظَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مَكِيلًا، أَوْ مَوْزُونًا، وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا، أَوْ عُرُوضًا انْتَقَضَتِ القِسْمَةُ. وَهَلْ يَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا تَلَفَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُ؟ فَقِيلَ: يَضْمَنُ، وَقِيلَ: لَا يَضْمَنُ) (1).
وهذا هو الأولى حقيقةً.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
([كِتَابُ الرُّهُونِ])
القَوْلُ فِي أَرْكَان الرهن:
و"الرُّهون" جمع رَهْن، والآية جاء فيها:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، وأيضًا في قراءة:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، وقالوا: رِهان جمع رَهْن، ورُهُن جمع الجمع، وفيها كلام لأهل اللغة معروف
(1)
.
* قوله: (وَالأَصْلُ فِي هَذَا الكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]).
وأول الآية: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} ، وقد جاءت هذه الآية عقب آية الدَّين الطويلة المعروفة التي في أواخر سورة البقرة وهي أطول آية في كتاب الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} ، ثم جاء بعد ذلك:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} ؛ لأن الغالب في السفر ألا يوجد الكاتب، وربما يوجد في هذا الوقت لكن فيما مضى يقل ويندر أن يوجد كاتي في السفر، فقال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ، وفي هذا توجيه من الله سبحانه وتعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ، أي: ما احتاج إلى الرهن {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ما دام أخوك المسلم قد وثق بك وأعطاك الأمان واطمئنت نفسه إليك فعليك أيضًا أن تكون على تلك الأمانة، وذكر الله سبحانه وتعالى
(1)
"الرَّهْنُ" جمع رِهانٌ، مثل: حَبْل وحِبال، ورُهُن جمعُ رِهان، مثل: ثُمُر جمعُ ثِمار. وقيل: رُهُن جمع رَهْن، مثل سُقُف جمع سَقْف. انظر:"تهذيب اللغة"، للأزهري (6/ 148)، و"الصحاح"، للجوهري (5/ 2128).
بتقواه بقوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} ، ثم قال:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، فالذين يأكلون أموال الناس أو الذين يتعدَّون عليهم أو الذين يخونون عند الثقة بهم فإن الله سبحانه وتعالى مطلع على أعمالهم، ولذلك جاء بعدها مباشرة {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} ، أي: ما أظهرتم مما كان في نفوسكم أو أكننتم بها فإن الله سبحانه وتعالى به عليم؛ لأنه ما دام أن ما في السماوات وما في الأرض هو ملك الله سبحانه وتعالى فهو عليم بكل شيء، يعلم ما في السماوات وما في الأرض، فهذه الآية دليل على مشروعية الرهن من الكتاب العزيز.
* قوله: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الكِتَابِ: فِي الأَرْكانِ، وَفِي الشُّرُوطِ، وَفِي الأَحْكَامِ.
وَالأَرْكانُ هِيَ النَّظَرُ فِي الرَّاهِنِ، وَالمَرْهُونِ، وَالمُرْتَهِنِ).
فهناك راهن وهناك مرهون، أي: عين مرهونة، وهي لا تكون إلا في الدين
(1)
، وهناك مرتهن، أي: الذي يأخذ الرهن، والرهن في الاصطلاح الفقهي كما قلنا: هو المال الذي يُؤخذ وثيقة على الدين، ليطمئن صاحب الدين على حقه في حالة تعذر إيفاء من عليه الحق فيباع هذا الرهن ويؤخذ الحق منه
(2)
.
(1)
قال ابن القطان: "اتفقوا على أن الرهن في السفر في القرض الذي هو إلى أجل مسمى أو في البيع الذي يكون ثمنه إلى أجل مسمى إذا قبضه المرتهن بإذن الراهن قبل تمام البيع وبعد تعاقدهما وعاين الشهود قبض المرتهن له، وكان الرهن مما يجوز بيعه وكان ملكًا صحيحًا فإنه رهن صحيح". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 192).
(2)
انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع"، لأبي عبد الله البعلي (ص 296).
مذهب الحنفية: أن الرهن شرعًا (حبس شيء مالي)، أي: جعله محبوسًا؛ لأن الحابس هو المرتهن. انظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(6/ 477).
ومذهب المالكية، انظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2313)، وفيه: " (الرهن بذل)، أي: إعطاء (من له البيع) صحة ولزومًا (ما يباع) من كل طاهر منتفع به مقدور على تسليمه معلوم غير منهي عنه.
مذهب الشافعية: انظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب"(1/ 226)، وفيه:=
* قوله: (وَالشَّيْءِ الَّذِي فِيهِ الرَّهْنُ، وَصِفَةِ عَقْدِ الرَّهْنِ).
والرهن قد يكون في أشياء كثيرة فربما يكون دارًا وربما يكون حائطًا، وربما يكون الرهن على بيع أمر من الأمور فهذا كله يتنوع.
* قوله: (الرُّكْنُ الأَوَّلُ: فَأَمَّا الرَّاهِنُ فَلَا خِلَافَ أَنَّ مِنْ صِفَتِهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ السَّدَادِ)
(1)
.
والمحجور عليه هو الذي يسمى المُفلِس؛ لأنه إذا أفلس الإنسان وكان له غرماء، أي: أناس لهم حقوق عليه فإنه يحجر عليه لمصلحة هؤلاء، فهذا المفلس ليس له أن يرهن شيئًا؛ إذ لا حق له في تصوف ذلك المال الذي أصبح مستحقًا للغرماء، وسيأتي أنَّ الحجر أنواع، فهناك الحجر على غير المكلف كالصغير والمجنون، وهناك حجر على المفلس، وهناك حجر على غير الرشيد، أي: السفيه لقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} ، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في كتاب الحجر.
* قوله: (وَالوَصِيُّ يَرْهَنُ لِمَنْ يَلِي النَّظَرَ عَلَيْهِ).
والمقصود بالوصي وليُّ اليتيم، والله سبحانه وتعالى أوصاه بذلك، فقال:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} ، وانظر إلى وصية الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الذي يشرف ويتولى القيام على اليتيم إن كان غنيًّا فعليه أن يستعفف، وقد جاء في الحديث:"مَن يستعفف يعفه الله، ومَن يستغنِ يغنِه الله سبحانه وتعالى"
(2)
. {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ، ثم قال سبحانه وتعالى: {فَإِذَا
= "شرعًا: جعل عين مال وثيقة بدين يستوفى منها عند تعذر وفائه".
مذهب الحنابلة: "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل"(2/ 150)، وفيه:"وهو توثقة دين بعين يمكن أخذه أو بعضه منها أو من ثمنها إن تعذر الوفاء من غيرها".
(1)
انظر: "الجواهر الثمينة"، لابن شاس (2/ 771).
(2)
جزء من حديث أخرجه البخاري (1469)، ومسلم (1053)، وفيه: أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده=
دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}، وهذا من باب الحيطة حتى لا يقع الخلاف {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} .
* قوله: (إِذَا كَانَ ذَلِكَ سَدَادًا، وَدَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ عِنْدَ مَالِكٍ)
(1)
.
وتكلَّم المؤلف عن مذهب مالك وأنه يجوز رهن مال اليتيم عند الحاجة وأجمل في ذلك وسيذكر أيضًا مذهب الشافعي.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْهَنُ لِمَصْلَحَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَيَرْهَنُ المُكَاتَبُ وَالمَأْذُونُ عِنْدَ مَالِكٍ).
ولم يبيّن المؤلف تلك المصلحة الظاهرة التي يرهن فيها عند الشَّافعيِّ، ومذهب الحنابلة قريب من ذلك
(2)
، وقد وضعوا شرطين في رهن الوصي مال اليتيم:
أولهما: أن يضع ذلك عند ثقة يطمئن إليه حتى لا يطمع فيه.
الشرط الثاني: أن يكون لمصلحة مال اليتيم وهو الذي أشار إليه في مذهب الشافعية
(3)
، ومصلحة اليتيم كأن يكون بحاجة إلى نفقة أو إلى كسوة
= قال: "ما يكن عندي من خير فلن أدخرَه عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر".
(1)
قال الدردير: "
…
ومثل بمن له البيع بقوله (كولي) لمحجور من أب أو غيره برهن مال محجوره لمصلحة ككسوته أو طعامه لا لمصلحة الولي". انظر: "الشرح الكبير" (3/ 232). و"التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (4/ 61).
(2)
قال البهوتي: " (ويحرم) على وليِّ رهن مال يتيم لفاسق (ولا يصح رهن مال يتيم لفاسق)؛ لأنه تعريض به للهلاك؛ لأنه قد يجحد الفاسق أو يفرط فيه فيضيع". انظر: "شرح منتهى الإرادات"(2/ 107) و"المغني"، لابن قدامة (4/ 269).
(3)
قال الروياني: "وأما رهن مالِ من اليتيم، والمجنون، والمحجور بدين مؤجل في قرض أو ابتياع فلا يجوز إلا بشرطين:
أحدهما: أن يكون الإقراض له أصلح من بيع ماله في نفقته، مثل أن يتوقع له عليه عقارًا ونماء ماشية أو ثمار أو زرع، أو دين يحل له، أو يقدم مال غائب أو يكون له سلعة كاسدة يتوقع لها موسم. والثاني: أن يكون المرتهن لذلك ثقة يودع ماله عنده فههنا يجوز". انظر: "بحر المذهب" (5/ 200)، وانظر: "الشرح الكبير" للرافعي (10/ 58).
وأن يكون بيته قد تهدم فيحتاج إلى إصلاح أو أن يكون دكانه في حاجة إلى إصلاح بناء إلى غير ذلك من الأشياء الكثيرة.
وجمهور العلماء من المالكية
(1)
، والحنفية
(2)
، والشافعية
(3)
ذهبوا إلى ذلك، وهي رواية للإمامِ أحمد
(4)
، والصحيحُ من مذهب الإمام أحمد أنه لا يرهن؛ لأنهم يشترطون في الرهن أن يكون دائم القبض والمكاتب ربما يسدد النجوم
(5)
.
(1)
قال الدردير: " (ومكاتب) لأنه أحرز نفسه وماله (ومأذون) له في تجارة وإن لم يأذن لهما سيدهما في الرهن".
انظر: "الشرح الكبير"(3/ 232)، و"التهذيب في اختصار المدونة"(4/ 69).
(2)
قال السرخسي: "المكاتب بمنزلة الحر في الرهن، والارتهان؛ لأنه وثيقة لجانب الاستيفاء، والمكاتب في إيفاء الدين باستيفائه كالحر، فكذلك فيما هو وثيقة به فإن رهن المكاتب عبدًا فيه وفاء قبضه المولى فهو جائز؛ لأن المكاتبة دين يستوفى". انظر: "المبسوط"(21/ 134).
أما المأذون، فقال القدوري:"إذا أذن المولى لعبده في التجارة إذنًا عامًّا جاز تصرفه في سائر التجارات: يشتري ويبيع ويرهن ويسترهن. انظر: "مختصر القدوري" (ص 141).
(3)
مذهب الشافعية على قولين، قال البغوي: "ويجوز للمكاتب أن يرهن ماله بشرط النظر؛ كولي اليتيم
…
والعبد المأذون له في التجارة؛ كالمكاتب إن دفع إليه السيد مالًا يتجر فيه". انظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي" (4/ 22). وانظر: "روضة الطالبين"، للنووي (4/ 64).
قال الهيتمي: " (ويستقل) المكاتب (بكل تصرف لا تبرع فيه ولا خطر) كمعاملة بثمن مثل
…
وإن أخذ رهنًا وكفيلًا على ما ذكراه هنا (فلا) يستقل به؛ لأن أحكام الرق جارية عليه". "تحفة المحتاج" (10/ 414).
(4)
قال ابن قدامة: "
…
وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى: أن القبض في المعين ليس بشرط، وكذلك استدامة القبض في الجميع؛ فعلى هذا يصحّ رهن المكاتب إن قلنا بجواز بيعه، ويكون وما يؤديه رهنًا معه". "عمدة الحازم في الزوائد على مختصر أبي القاسم" (ص 283).
(5)
قال الحجاوي: "
…
فلا يصح من سفيه ومفلس ومكاتب وعبد ولو مأذونًا لهم في تجارة ونحوهم". انظر: "الإقناع" (2/ 151)، و"الإنصاف" للمرداوي (5/ 139).
* قوله: (قَالَ سَحْنُونٌ: فَإِنِ ارْتَهَنَ فِي مَالٍ أَسْلَفَهُ لَمْ يَجُزْ
(1)
، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
. وَاتَّفَقَ مَالِكٌ
(3)
، وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ المُفْلِسَ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ
(4)
).
وكذلك أحمد؛ لأنه لا تصرف له في ماله
(5)
.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ
(6)
. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الَّذِي أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ هَلْ يَجُوزُ رَهْنُهُ؟
(7)
.
(1)
انظر: "المدونة"(4/ 157).
(2)
قال الشافعي: "ويجوز للمكاتب والمأذون له في التجارة أن يرتهنا إذا كان ذلك صلاحًا لمالهما وازديادًا فيه، فأما أن يُسَلِّفَا وَيرْتهِنَا فلا يجوز ذلك لهما". انظر: "الأم"(3/ 153).
(3)
قال خليل: "قال في المدونة: ورهن من أحاط الدين بماله وبيعه وقضاؤه جائز ما لم يفلس، وقد كان مالك يقول: إذا تبين فلسه فليس له ذلك ويدخل الغرماء معه فيه". "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"(6/ 170).
(4)
يُنظر: "التنبيه في الفقه الشافعي"، للشيرازي (ص 100)، قال:"لا يصح الرهن إلا من مطلق التصرف".
قال العمراني: "وإذا حجر الحاكم على المفلس .. تعلقت ديون الغرماء بماله، ومنع من التصرف بماله". انظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي"(6/ 143).
(5)
قال ابن قدامة: "ومتى حجر على المفلس، لم ينفذ تصرفه في شيء من ماله، فإن تصرف ببيع، أو هبة، أو وقف، أو أصدق امرأة مالًا له، أو نحو ذلك، لم يصح". انظر: "المغني"(4/ 330).
(6)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 96)، قال:"قال أبو حنيفة: إذا وجبت الديون على رجل وطلب غرماؤه حبسه والحجر عليه لم أحجر عليه، فإن كان له مال لم يتصرف فيه الحاكم ولكن يحبسه أبدًا حتى يبيعه في دينه، وقال أبو يوسف ومحمد: إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر القاضي عليه ومنعه من البيع والتصرف والإقرار حتى لا يضر بالغرماء". وانظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (3/ 282).
(7)
قال المازري (3/ 1/ 253): "اختلف قول مالك في "المدونة" فيمن أحاط الدين بماله، فخصَّ بعضَ غرمائه بقضاء دينه، ولم يقض الآخرين، أو أرهنه رهنًا بدينه، فمرّة أمضى ذلك. ومرة ردّه". انظر: "شرح التلقين"(3/ 1/ 253).
فإذا كان عليه دين يقابل ما عنده من أموال لكنه بعد لم يحجر عليه، فهل له أن يرهن أو لا؟ بعض العلماء يقوله: إذا كان الحجر عليه لم يطبق فحينئذ له ذلك وربما تُفكُّ عسرته ويأتي ما يزيل ذلك، ومنهم من قال: يأخذ حكم المفلس كما هو مذهب المالكية على خلاف بينهم في ذلك.
* قوله: (أَعْنِي: هَلْ يَلْزَمُ أَمْ لَا يَلْزَمُ؟: فَالمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ، أَعْنِي: قَبْلَ أَنْ يُفْلِسَ)
(1)
.
ولا نفهم من عبارات المؤلف (يلزم، يجب) أن الرهن واجب، فالرهن ليس واجب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ثم أعقبها بقوله سبحانه: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} فالرهن ليس واجبًا لكن الإنسان له أن يطالب به وألا يبيع إلا بوثيقة؛ لأنه يريد أن يطمئن، بمعنى: أنه يتم البيع دون حاجة إلى رهن
(2)
.
* قوله: (وَالخِلَافُ آيِلٌ إِلَى هَلِ المُفْلِسُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟).
والصحيح أنه محجور عليه لكن بعد أن يتم الحجر عندما يطالب الغرماء
(3)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 263)، قال:"والحاصل أنه يجوز للمدين الذي أحاط الدين بماله أن يرهن بعض ما بيده لبعض غرمائه في معاملة حادثة أو قديمة على الإحاطة إذا أصاب وجه الرهن".
(2)
يُنظر: "المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (2/ 277).
(3)
وهذا مذهب الجمهور إلا أبا حنيفة.
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 96)"وإذا وجبت الديون على رجل وطلب غرماؤه حبسه والحجر عليه لم أحجر عليه وإن كان له لم يتصرف فيه الحاكم ولكن يحبسه أبدًا حتى يبيعه في دينه، فإن كان له دراهم ودينه دراهم قضاها القاضي بغير أمره وإن كان دينه دراهم وله دنانير باعها القاضي في دينه. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر".
ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(3/ 264) قال: " (فيكفي=
* قوله: (وكُلُّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ رَاهِنًا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُرْتَهِنًا).
وكذلك كلّ ما جاز بيعه جاز رهنه، كالدار، والعبد المملوك، وأيُّ سلعة من السلع يجوز بيعها، أمَّا ما لا يجوز بيعه فلا يصلح رهنًا كالوقف مثلًا، وكذلك أمُّ الولد، وأولى من ذلك ما لا يجوز بيعه أصلًا كما لو كان محرَّم البيع كالخمر والخنزير وما أشبه ذلك
(1)
.
* قوله: (الرُّكْنُ الثَّانِي وَهُوَ الرَّهْنُ: وَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ).
وبدأ المؤلف يفصل مذهب الشافعية، وهذه الشروط تقريبًا يلتقي فيها الحنابلة معهم، وسنأخدها واحدًا واحدًا.
* قوله: (الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَ الدَّيْنَ).
كأنه يبيعه سلعة من السلع ويرهنه داره، ولا يرهنه دينًا عند زيد،
= طلب بعض الغرماء)، أي: فيكفي في تفليس الحاكم له طلب بعض الغرماء لتفليسه".
وانظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 588).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 122)" (ولا يحجر) عليه (بغير طلب) من الغرماء؛ لأنه لمصلحتهم وهم أصحاب نظر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 160) قال: " (وإن سأل الحاكم غرماء من له مال لا يفي بدينه) الحال للحاكم الحجر عليه (أو) سأل (بعضهم الحاكم الحجر عليه)، أي: المدين الزمه)، أي: الحاكم (إجابتهم)، أي: السائلين وحجر عليه".
(1)
قال المازري: "أما ما يصح بيعه وملكه، فواضح أنه يجوز رهنه، كالعقار والعروض والحيوان، وغير ذلك من ضروب الأموال التي يصح ملكها وبيعها فيجوز رهنها. وأما ما لا يصحّ ملكه ولا بيعه، فواضح أيضًا حكمه في كونه لا يصح رهنه، كالخمر والخنزير، وشبه ذلك مما لا يصح ملكه ولا بيعه. وأما ما يصح ملكه ولا يصح بيعه، كأمّ الولد والمعتق إلى أجل، المدبّر، فإن هذا أيضًا لا يصح رهنه؛ لأن فائدة الرهن الاستيثاق من الحق حتى يستوفي الحق من ثمن العين المرهونة. فإذا كانت العين المرهونة لا يجوز بيعها فلا فائدة في رهنها". انظر: "شرح التلقين"(3/ 2/ 343)، و"الذخيرة"، للقرافي (8/ 92).
ولا يرهنه منفعة
(1)
.
* قوله: (الثَّانِي: أَنْ لَا يَمْتَنِعَ إِثْبَاتُ يَدِ الرَّاهِنِ على المُرْتَهَنِ عَلَيْهِ كَالمُصْحَفِ)
(2)
.
وهذا يرجع إلى بيعه، هل المصحف يُباع أو لا يُباع؟ وهذه المسألة محلُّ خلاف بين العلماء، فجمهور العلماء يجيزون بيع المصحف ويرون أن ذلك جائز، وهم الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، وهي رواية للحنابلة، ورواية أخرى للحنابلة لا يرون فيها جواز بيع المصحف
(6)
،
(1)
قال زكريا الأنصاري: "وشرط في المرهون كونه عينًا يصح بيعها فلا يصح رهن دين ولو ممن هو عليه؛ لأنه غير مقدور على تسليمه ولا رهن منفعة كأن يرهن سكنى داره مدة؛ لأن المنفعة تتلف فلا يحصل بها استيثاق ولا رهن عين لا يصح بيعها كوقف". "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب"(1/ 226).
(2)
ينظر: "فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (1/ 230)، وفيه:"إذا لزم الرهن فاليد في المرهون للمرتهن؛ لأنها الركن الأعظم في التوثق وخرج بزيادتي "غالبًا" ما لو رهن رقيقًا مسلمًا أو مصحفًا من كافر أو سلاحًا من حربي فيوضع عند من له تملكه".
(3)
الحنفية أجازوا شراء المصحف وبيعه بل حتى للكافر، قال شيخي زاده:"ولو شرى كافر عبدًا مسلمًا ومصحفًا صحَّ ويجبر على إخراجهما من ملكه، أي: من ملك الكافر دفعًا للذل من جهة". انظر: "مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر"(2/ 62).
(4)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ"، لأبي الوليد الباجي (5/ 85)، قال:"وجوز بيع المصحف"، وانظر:"المدونة"(3/ 429).
(5)
قال النووي: "اتفق أصحابنا على صحة بيع المصحف وشرائه وإجارته ونسخه بالأجرة، ثم إن عبارة المصنف والدارمي وغيرهما أنه يجوز بيعه، وظاهر هذه العبارة أنه ليس بمكروه، وقد صرح بعدم الكراهة الروياني، والصحيح من المذهب أن بيعه مكروه، وهو نص الشافعي في كتاب اختلاف علي وابن مسعود، وبه قطع البيهقي في كتابه "السنن الكبير"، و "معرفة السنن والآثار"، والصيمري في كتابه "الإيضاح" وصاحب البيان، فقال يكره بيعه، قال: وقيل يكره البيع دون الشراء، هذا تفصيل مذهبنا". انظر: "المجموع شرح المهذب"(9/ 252).
(6)
قال المرداوي: "قوله (وفي جواز بيع المصحف روايتان). وأطلقهما في المذهب، والتلخيص، والبلغة، وتجريد العناية. إحداهما: لا يجوز ولا يصح. وهو المذهب على ما اصطلحناه. قال الإمام أحمد: لا أعلم في بيعه رخصة. وجزم به في الوجيز. =
وحجَّة الذين قالوا بعدم الجواز ما أُثِر عن عبد الله بن عمر أنه قال: "وددت لو أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف"
(1)
، وأما الذين أجازوا ذلك فإنه جاء في الحديث الصحيح:"إنَّ أعظم ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله"
(2)
، وحديث الرقية
(3)
، وهي أحاديث استنبط منها العلماء الدلالة على جواز المصحف، وأيضًا استدلُّوا بدليل معقول، فقالوا: إن الحاجة تستدعي ذلك فليس في كلِّ وقت يحصل الإنسان على المصحف مجانًا فهو يحتاج إليه ويحتاج إلى القراءة، فالقصد هنا أن تكون يده عليه، كذلك من الأمثلة ألا يرهن سلاحًا عند حربي
(4)
.
كذلك المصحف لا يرهنه بيد كافر
(5)
، وكذلك فيمن يجيز رهن المصحف يشترط ألا يُقرَأ فيه؛ لأن هذه منفعة والمنفعة ليس له أن يستفيد منها
(6)
.
= واختاره المصنف، والشارح. وقدمه في المغني، والشرح، والرعاية الكبرى، والنظم، والكافي، وابن رزين فى شرحه ونصره".
الرواية الثانية: يجوز بيعه، ويكره. صححه في "التصحيح"، و"مسبوك الذهب"، و"الخلاصة". وجزم به في "المنور"، و"إدراك الغاية"، و"منتخب الأدمي". انظر:"الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"(4/ 278).
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(8/ 112) عن سعيد بن جبير، قال: سمعت ابن عمر "وددت، أني قد رأيت في الذين يبتاعون المصاحف أيدي تقطع".
(2)
أخرجه البخاري (5737).
(3)
أخرجه البخاري (2276)، ومسلم (2201) عن أبي سعيد قال: وفيه .. فقال: يا رسول الله، والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب فتبسم وقال:"وما أدراك أنها رقية؟ " ثم قال: "خذوا منهم، واضربوا لي بسهم معكم".
(4)
يُنظر: "فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (1/ 230)، وفيه:"إذا لزم الرهن فاليد في المرهون للمرتهن؛ لأنها الركن الأعظم في التوثق وخرج بزيادتي غالبًا ما لو رهن رقيقًا مسلمًا أو مصحفًا من كافر أو سلاحًا من حربي فيوضع عند من له تملكه".
(5)
قال الشافعي: "إن الرهن في المصحف والعبد المسلم من النصراني باطل". انظر: "مختصر المزني"(8/ 196).
(6)
فمثلًا في مذهب الحنفية الذين يقولون بجواز رهنه، قال الحدادي: "وقال زفر: وليس للمرتهن أن ينتفع بالرهن لا باستخدام ولا سكنى ولا لبس إلا بإذن المالك=
* قوله: (وَمَالِكٌ يُجِيزُ رَهْنَ المُصْحَفِ، وَلَا يَقْرَأُ فِيهِ المُرْتَهِنُ
(1)
، وَالخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى البَيْعِ).
فسبب الخلاف مبنيّ على البيع، فمن يقول بأن المصحف يجوز بيعه وهم الحنفية والمالكية والشافعية، وهي الرواية الأخرى للحنابلة يقول: بأنه يجوز رهنه
(2)
.
* قوله: (الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ العَيْنُ قَابِلَةً لِلْبَيْعِ عِنْدَ حُلُولِ الأَجَلِ).
فلا تكون وقفًا؛ لأن الوقف لا يمكن أن يبيعه، فلا يمكن أن يرهنه أم ولد؛ لأن أمّ الولد لا تُباع
(3)
.
* قوله: (وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَرْتَهِنَ مَا لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ فِي وَقْتِ الِارْتِهَانِ كَالزَّرْعِ، وَالثَّمَرِ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، وَلَا يُبَاعُ عِنْدَهُ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ إِلَّا إِذَا بَدَا صَلَاحُهُ)
(4)
.
لأنه لا يجوز أن تُباع الثمرة قبل بدوِّ صلاحها، أما بالنسبة للأصول فإنها تُباع ومضى الحديث فيها.
= وكذا إذا كان مصحفًا ليس له أن يقرأ فيه إلا بإذن الراهن؛ لأن له حق الحبس دون الانتفاع وليس له أن يؤجر ويعير، فإن فعل كان متعديًا ولا يبطل عقد الرهن بالتعدي". انظر:"الجوهرة النيرة على مختصر القدوري"(1/ 233).
(1)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (4/ 63)، وفيه:"ولا بأس برهن المصحف، ولا يقرأ فيه، فإن لم يشترط في أصل السلف أن يقرأ فيه فوسع له رب المصحف أن يقرأ فيه لم يعجبني، كان الرهن من بيع أو قرض".
(2)
سبق تحرير هذه المذاهب.
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 55)، قال: "فلا يصح رهن المنفعة
…
ولا رهن وقف ومكاتب وأم ولد".
(4)
يُنظر: "المدونة"(4/ 156، 157)، قال: "هل يجوز في قول مالك، أن أرتهن مالًا يحل بيعه؟ قال: نعم، مثل الزرع الذي لم يبدُ صلاحه والثمرة التي لم يبدُ صلاحها
…
قلت: ويباع لي هذا الرهن قبل أن يبدو صلاحه؟ قال: لا
…
لأن مالكًا قال في الديون إذا مات الذي عليه الدين: فقد حل الدين. وقال في الزرع والثمار: لا تباع حتى يبدو صلاحها".
* قوله: (وَإِنْ حَلَّ أَجَلُ الدَّيْنِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ).
وكذلك روايتان عند الحنابلة عن أحمد.
* قوله: (فِي رَهْنِ الثَّمَرِ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، وَيُبَاعُ عِنْدَهُ عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ عَلَى شَرْطِ القَطْعِ
(1)
. قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَالأَصَحُّ جَوَازُهُ
(2)
. وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ رَهْنُ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ كالدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ إِذَا طُبِعَ عَلَيْهَا
(3)
.
وهذه مسألة فيها خلافٌ بين العلماء، فعند المالكية يجوز، والمذاهب الأخرى فيها خلاف؛ لأنها أصل الأثمان
(4)
.
(1)
يُنظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 93)، قال:"في رهن الثمرة قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع قولان؛ أحدهما: لا يصح؛ لأنه عقد لا يصح فيما لا يقدر على تسليمه فلم يجز في الثمرة قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع كالبيع، والثاني: أنه يصح؛ لأنه إن كان بدين حال فمقتضاه أن تؤخذ لتباع فيأمن أن تهلك بالعاهة وإن كان بدين مؤجل فتلفت الثمرة لم يسقط دينه وإنما تبطل وثيقته والغرر في بطلان الوثيقة مع بقاء الدين قليل فجاز، بخلاف البيع فإن العادة فيه أن يُترك إلى أوان الجذاذ فلا يأمن أن يهلك بعاهة فيذهب الثمن ولا يحصل المبيع فيعظم الضرر فلم يجز من غير شرط القطع".
(2)
يُنظر: "الوجيز في فقه الإمام الشافعي" للغزالي (ص 328) قال: "ويصحُّ رهنُ الثمار بعد بُدوِّ الصلاح، والأصحُّ: جوازه أيضًا قبل بُدوِّ الصلاح، وإن لم يُشتَرطِ القَطعُ، ولكن عند البيع يُشتَرطِ القطعُ، وقيل: لا يجوز إلا بالتصريح بالإذن في شرط القطع عند البيع".
(3)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (4/ 64)، قال:"ولا ترهن الدنانير والدراهم والفلوس، وما لا يعرف بعينه من طعام أو إدام، وما يكال أو يوزن، إلا أن يطبع على ذلك، ليمنع المرتهن من النفع به، ويرد مثله".
(4)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء"، للطحاوي (4/ 292، 293)، قال:"قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه يَصح رهن الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَسَائِر الموزونات وَغَيرهَا إِذا قبضت وَلَا يشترطون فِيهَا الخَتْم".
وعند المالكية، انظر:"شرح التلقين"، للمازري (3/ 2/ 354)، وفيه: "رهن الدنانير والدراهم والفلوس، فإن ذلك يُمنع منه، إلا أن يُطبع عليها، حتى يحال بين المرتهن=
* قوله: (وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ لَا عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، بَلْ قَدْ يَجُوزُ عِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا).
وهذه مسألة أجمع عليها العلماء وليس كما قال المؤلف: عند مالك والشافعي، بل حكى ابن المنذر إجماع العلماء على ذلك، فلك أن تذهب إلى صديق لك فتستعير منه سلعة وتقول: أريد أن أرهنها لمدة كذا، فإذا أعطاك إياها فذلك جائز، فلا يشترط في الرهن أن يكون ملكًا لك، بل لك أن ترهن ما ليس ملكًا لك، لكن شريطة أن تأخذ موافقة صاحب الحق، حتى لا يكون الأمر من باب التعدي، والمؤلف قال:"قد"، و"قد" تفيد التقرير أو التحقيق، والصحيحُ أنها للتحقيق؛ لأن المسألة مجمع عليها
(1)
.
* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ فِي يَدِ المُرْتَهِنِ مِنْ قِبَلِ الرَّاهِنِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ قَبْضُ المُرْتَهِنِ لَهُ بِغَصْبٍ، ثُمَّ أَقَرَّهُ المَغْصُوبُ مِنْهُ فِي يَدِهِ رَهْنًا).
= وبين التصرف فيها، فتوضع على يديه مطبوعًا عليها، فلا يخفى تصرفه فيها إذا اطُلِع على زوال الطبع".
عند الشافعية، انظر:"المجموع شرح المهذب"(13/ 204)، وفيه:"أما الأحكام فإنه لا يجوز رهن مال غيره بغير إذنه؛ لأنه لا يقدر على تسليمه، فهو كما لو رهنه سمكة في البحر".
ومذهب الحنابلة، قال ابن قدامة: "والقبض فيه من وجهين؛ فإن كان مما ينقل، فقبض المرتهن له أخذه إياه من راهنه منقولًا، وإن كان مما لا ينقل، كالدور والأرضين، فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه، لا حائل دونه، وجملة ذلك أن القبض في الرهن كالقبض في البيع والهبة، فإن كان منقولًا فقبضه نقله أو تناوله
…
". انظر: "المغني" (4/ 249، 250).
(1)
قال ابن المنذر: "وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا استعار من الرجل الشيء، يرهنه على دنانير معلومة، عند رجل سمَّاه له، إلى وقت معلوم، فرهن ذلك على ما أذن له فيه، إن ذلك جائز". انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (6/ 195، 196).
فلا خلاف بين العلماء بأن قبض الرهن يؤخذ في الأصل من يد الرهن، لكن لو قُدِّر أن إنسانًا غصب دارًا ثم بعد ذلك أراد أن يحولها رهنًا، فهل يجوز؟ نعم، جمهور العلماء يجيزون ذلك.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ أَنْ يُنْقَلَ الشَّيْءُ المَغْصُوبُ مِنْ ضَمَانِ الغَصْبِ إِلَى ضَمَانِ الرَّهْنِ، فَيَجْعَلُ المَغْصُوبُ مِنْهُ الشَّيْءَ المَغْصُوبَ رَهْنًا فِي يَدِ الغَاصِبِ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْهُ).
والذين قالوا بالجواز: أبو حنيفة
(1)
، ومالك
(2)
، وأحمد
(3)
، وخالف في ذلك الشافعي، وسيبين المؤلف رحمه الله وجهةَ كلامه.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، بَلْ يَبْقَى عَلَى ضَمَانِ الغَصْبِ إِلَّا أَنْ يَقْبِضَهُ
(4)
. وَاخْتَلَفُوا فِي رَهْنِ المُشَاعِ).
ورهنُ المشاع، كأن يقول: رهنتك دارًا من دوري أو أرضًا من أراضي أو عبدًا من عبيدي أو دابَّة من دوابِّي، من غير أن يعيِّن، فهل يجوز ذلك؟ نعم، اتَّفق العلماء على جوازه.
(1)
يُنظر: "التجريد"، للقدوري (6/ 2764)، قال:"قال أصحابنا: إذا رهن المالك العين المغصوبة من الغاصب، صحَّ الرهن، وزال ضمان الغصب، وتجدد ضمان الرهن".
(2)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 577)، قال:"إذا رهن عنده عينًا كان غصبها قبل قبضها جاز، وسقط ضمان الغصب".
(3)
قال ابن قدامة: "وإن رهنه مالًا له في يد المرتهن؛ عارية أو وديعة أو غصبًا أو نحوه، صحَّ الرهن؛ لأنه مالك له يمكن قبضه، فصحَّ رهنه، كما لو كان في يده. وظاهر كلام أحمد لزوم الرهن بنفس العقد، من غير احتياج إلى أمر زائد، فإنه قال: إذا حصلت الوديعة في يده بعد الرهن، فهو رهن. فلم يعتبر أمرًا زائدًا؛ وذلك لأن اليد ثابتة، والقبض حاصل". انظر "المغني"(4/ 250، 251).
(4)
انظر: "مختصر المزني"(8/ 192).
* قوله: (فَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
).
وأحمد
(4)
، وقالوا: لا يضر؛ لأنه من المعلوم إذا ثبت أن له دورًا، وهذه الدور كلها تصلح منفردة لأنْ تكون رهنًا، فما المانع من ذلك! وخالف في ذلك أبو حنيفة؛ لأنَّه يرى أنه غير متعيّن
(5)
.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي الخِلَافِ: هَلْ تُمْكِنُ حِيَازَةُ المُشَاعِ أَمْ لَا تُمْكِنُ؟
(6)
).
يقولون: نعم؛ لأن القصد هو تسليمه، والجمهور يقولون: إنه وإن رهنه أرضًا فإنه في النهاية يستطيع أن يحدد ذلك المرهون.
* قوله: (الرُّكْنُ الثَّالِثُ، وَهُوَ الشَّيْءُ المَرْهُونُ فِيهِ).
وَأَصْلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ الرَّهْنُ فِي جَمِيعِ الأَثْمَانِ الوَاقِعَةِ فِي جَمِيعِ البُيُوعَاتِ إِلَّا الصَّرْفَ، وَرَأْسَ المَالِ فِي السَّلَمِ المُتَعَلِّقِ بِالذِّمَّةِ
(7)
.
(1)
قال القدوري: "ولا يجوز رهن المشاع". انظر: "مختصر القدوري"(ص 92).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير، وحاشية الدسوقي"(3/ 235)، قال:" (وصح مشاع)، أي: رهنه من عقار وعرض وحيوان كما يصحّ بيعه وهبته ووقفه وسواء كان الباقى للراهن أو لغيره".
(3)
انظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 55)، قال:" (ويصح رهن المشاع) من الشريك وغيره وقبضه بقبض الجميع على الوجه الذي مر في قبض المبيع".
(4)
قال ابن قدامة: "ويصحّ رهن المشاع، ويجعله الحاكم على يد عدل، أو يؤجره لهما، إلا أن يتراضيا على كونه في يد أحدهما". "عمدة الحازم في الزوائد على مختصر أبي القاسم"(ص 283).
(5)
قال الزيلعي: "رهن المشاع لا يجوز عندنا؛ لأن حكم الرهن، وهو الحبس الدائم لا يتصور فيه". انظر: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي"(6/ 65).
(6)
انظر: "روضة المستبين في شرح كتاب التلقين"، لابن بزيزة (2/ 1083).
(7)
قال ابن بزيزة: "ويجوز أخذ الرهن في سائر الأثمان في البيوعات إلا في الصرف وفي رأس مال السلم؛ لأن أخذ الرهن في الصرف، وفي رأس مال السلم يؤدي إلى=
وهذا تقريبًا فيه اتفاق بين العلماء وإن وجد اختلاف في التفصيل، ويجوز في جميع الأثمان إلا الصرف؛ لأنه يشترط فيه التقابض، فهو سيأخذ عينًا يتركها عنده أو يحتاج بعد ذلك أن يتسلمها منه، كذلك الحال بالنسبة للسلم؛ لأن السلم هو أن تشتريَ شيئًا بثمن مقدّم لسلعة مؤجَّلة، فهو عقدٌ على موصوف في الذِّمة، وهنا لم يحصل التقابض فيه ولذلك مُنع في ذلك المقام.
* قوله: (وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّرْفَ مِنْ شَرْطِهِ التَّقَابُضُ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ عُقْدَةُ الرَّهْنِ).
أي: عقد الرَّهْن.
* قوله: (وَكَذَلِكَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ، وَإِنْ كانَ عِنْدَهُ دُونَ الصَّرْفِ فِي هَذَا المَعْنَى).
أي: أنه أخفّ من الصرف
(1)
.
* قوله: (قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ إِلَّا فِي السَّلَمِ خَاصَّةً، أَعْنِي: فِي المسلمِ فِيهِ
(2)
، وَهَؤُلَاءِ ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ لِكَوْنِ
= التأخير، وهو ممتنع إجماعًا". انظر:"روضة المستبين في شرح كتاب التلقين"(2/ 1089).
(1)
مذهب الحنفية الجواز، قال القدوري:"ويصح الرهن برأس مال السلم وثمن الصرف والمسلم فيه". انظر: "مختصر القدوري"(ص 92).
وكذا مذهب الشافعية، قال الروياني:"يجوز أخذ الرهن بالمسلم فيه وكذلك الحميل وهو الضامن". انظر: "بحر المذهب"(5/ 110).
وفي مذهب الحنابلة، انظر:"الهداية على مذهب الإمام أحمد"، للكلوذاني (ص 256)، وفيه:"ولا يجوز أخذ الرهن والكفيل بمال السلم في إحدى الروايتين، والأخرى: يجوز".
(2)
قال ابن حزم: "لا يجوز اشتراط الرهن إلا في البيع إلى أجل مسمى في السفر، أو في السلم إلى أجل مسمى في السفر خاصة". انظر: "المحلى بالآثار"(6/ 362).
آيةِ الرَّهْنِ وَارِدَةً فِي الدَّيْنِ فِي المَبِيعَاتِ، وَهُوَ السَّلَمُ عِنْدَهُمْ).
والآية هي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فقالوا: إنها في السلم مع أن الآية عامّة في الدين.
* قوله: (فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الرَّهْنِ، لِأَنَّهُ قَالَ في أَوَّلِ الآيَةِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]).
وقصدهم أن آية الرهن رُتِّبت على آية الدين فكأن المقصود في ذلك إنما هو السلم، وهذا بعيد جدًّا
(1)
.
* قوله: (فعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ: يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِي السَّلَمِ، وَفِي القَرْضِ، وَفِي قِيَمِ المُتْلَفَاتِ، وَفِي أَرُوشِ الجِنَايَاتِ فِي الأَمْوَالِ، وَفِي جِرَاحِ العَمْدِ الَّذِي لَا قَوَدَ فِيهِ كَالمَأْمُومَةِ
(2)
وَالجَائِفَةِ
(3)
.
وهذه كلها مرت بنا.
(1)
قال ابن حزم: "فهاهنا يجوز اشتراط الرهن حيث أجازه الله تعالى. والدين إلى أجل مسمى لا يعدو أن يكون بيعًا، أو سلمًا، أو قرضًا". انظر: "المحلى"(6/ 362).
(2)
"المأمومة" هي الجراح الَّتِي تبلغ أم الرَّأْس يَعْنِي: الدِّمَاغ. انظر: "غريب الحديث"، للقاسمِ بن سلام (3/ 76).
(3)
"الجَائِفةُ": هِيَ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَى الجَوْفِ. انظر: "غريب الحديث"، لإبراهيم الحربي (1/ 40).
وانظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 1152، 1153)، وفيه:"وأما المسلَّم فيه المتعلق بالذمة إلى الأمل فيجوز أخذ الرهن به، وكذلك القرض والغصب وقيم السلع المتلفات وأروش الجنايات في الأموال، وفي جراح العمد الذي لا قود فيه كالمأمومة والجائفة".
* قوله: (وَأَمَّا قَتْلُ العَمْدِ، وَالجِرَاحُ الَّتِي يُقَادُ مِنْهَا).
أي: التي يُؤخَذ فيها القصاص.
* قوله: (فَيَتَخَرَّجُ).
ومعنى يتخرج: أنها أوجه في المذهب وليست أقوالًا.
* قوله: (فِي جَوَازِ أَخْذِ الرَّهْنِ فِي الدِّيَةِ فِيهَا إِذَا عَفَا الوَلِيُّ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ، وَذَلِكَ عَلَى القَوْلِ بِأَنَّ الوَلِيَّ مُخَيَّرٌ فِي العَمْدِ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالقَوَدِ. وَالقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنْ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِلَّا القَوَدُ فَقَطْ إِذَا أَبَى الجَانِي مِنْ إِعْطَاءِ الدِّيَةِ. وَيَجُوزُ فِي قَتْلِ الخَطَإ أَخْذُ الرَّهْنِ مِمَّنْ يَتَعَيَّنُ مِنَ العَاقِلَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الحلولِ).
أي: بعد أن يتحدَّد العاقلة فحينئذ يؤخذ منهم رهن ليكون وثيقة للاطمئنان
(1)
.
* قوله: (وَيَجُوزُ فِي العَارِيَّةِ الَّتِي تُضْمَنُ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَا يُضْمَنُ)
(2)
.
والعارية المضمونة هي التي جاءت في الحديث
(3)
.
(1)
انظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (4/ 52)، وفيه:"ويجوز الرهن في دم الخطأ إن علم الراهن أن الدية على العاقلة، ولو ظن أن ذلك يلزمه وحده لم يجز، وله رد الرهن، وكذلك الكفالة فيه".
(2)
انظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (4/ 52)، وفيه:"وإن استعرت من رجل دابة على أنها مضمونة عليك لم تضمنها، وإن رهنته بها رهنًا فمصيبتها من ربها والرهن فيها لا يجوز، فإن ضاع الرهن عنده ضمنه؛ إذ لم يأخذه على الأمانة".
(3)
أخرجه أبو داود (3566)، والنسائي في "الكبرى"(5745)، عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه ثلاثين فرسًا قال=
* قوله: (وَيَجُوزُ أَخْذُهُ فِي الإِجَارَاتِ، وَيَجُوزُ فِي الجُعْلِ بَعْدَ العَمَلِ، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ، وَيَجُوزُ الرَّهْنُ فِي المَهْرِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الحُدُودِ وَلَا فِي القِصَاصِ وَلَا فِي الكِتَابَةِ، وَبِالجُمْلَةِ فِيمَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الكَفَالَةُ).
أي: يجوز الرَّهن فيما لا تصحُّ فيه الكفالة
(1)
.
* قوله: (وَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ)
(2)
.
والحنابلة معهم في هذا
(3)
.
* قوله: (المَرْهُونُ فِيهِ لَهُ شَرَائِطُ ثَلَاثٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ دَيْنًا، فَإِنَّهُ لَا يُرْهَنُ فِي عَيْنٍ).
لأن الرهن دائمًا يكون في دين، فالسلعة التي تبيعها نقدًا ليس فيها رهن، لكن يُؤخذ الرهن على دين للتَّوثُّق والاطمئنان أنه في حالة عدم وفاء
= وأحسبه، قال: وثلاثين بعيرًا، فقال: يا رسول الله، أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ قال:"بل عارية مؤداة". وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(630).
(1)
انظر: "روضة المستبين في شرح كتاب التلقين"، لابن بزيزة (2/ 1090)، وفيه:"ولا يجوز أخذ الرهن في الحدود ولا في القصاص، ولا في كتابة".
(2)
يُنظر: "نهاية المطلب" للجويني (6/ 72)، قال:"المرهون به، فلا يكون إلا دينًا؛ فإن الغرض استيفاء الدين من العين، عند فرض العسر. ولو كان المرهون به عينًا، فاستيفاؤها من المرهون محال، وهي متعينة". وانظر: "فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (1/ 228).
(3)
يُنظر: "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى"، للرحيباني (3/ 258)، وفيه:"ويصحُّ أخذ الرهن على (نفع إجارة بذمة؛ كخياطة ثوب وبناء دار)، وحمل معلوم إلى موضع معين؛ لأنه ثابت في الذمة، ويكن وفاؤه من الرهن؛ بأن يستأجر من ثمنه من يعمله. وقوله: ولا يصح أخذ رهن (بنفع عين معينة) مكرر مع ما يأتي قريبًا، وهو قوله: "وإجارة منافع معينة، ولذا كان ساقطًا في أصليه فلينتبه له".
(ولا) يصح أخذ الرهن (بدية على عاقلة، ولا بجعل قبل) مضي (حول) في مسألة الدية (و) قبل تمام (عمل) في مسألة الجعل؛ لأنه غير واجب، ولا يعلم أنه يؤول إليه. (ويصح) أخذ رهن بدية على عاقلة، وبجعل (بعدهما)؛ أي: الحول والعمل؛ لاستقرارهما.
المدين يباع ذلك لا من قبل المرتهن، وإنما يكون من قيل الجهة التي تتولى ذلك فتأخذ حقك فيه.
* قوله: (وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، فَإِنَّهُ لَا يُرْهَنُ قَبْلَ الوُجُوبِ، مِثْلَ أَنْ يَسْتَرْهِنَهُ بِمَا يَسْتَقْرِضُهُ).
كأن يكون بعد إقرار العقد وليست القضية أن الرهن واجب
(1)
.
* قوله: (وَيَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ
(2)
. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ لُزُومُهُ مُتَوَقَّعًا أَنْ يَجِبَ).
كالرهن على المكاتب؛ لأن المكاتب في نهايته هو ملك لسيده، فإن أدَّى ما عليه وإلا عاد الرقُّ عليه مرةً أخرى
(3)
.
* قوله: (وَأَنْ لَا يجِبَ كَالرَّهْنِ فِي الكِتَابَةِ، وَهَذَا المَذْهَبُ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ)
(4)
.
(1)
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 65)، قال:" (ولا) يصحُّ رهن (بما) ليس ثابت، سواء وجد سبب وجوبه كنفقة زوجته في الغد أم لا كرهنه على ما (سيقرضه) أو سيشتريه؛ لأنه وثيقة حق فلا تقدم عليه كالشهادة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 258)، قال: " (ولا) يصحُّ أخذ رهن
…
(ولا بعوض غير ثابت في ذمة؛ كثمن وأجرة معينين
…
) ".
(2)
قال ابن القاسم: "وإذا أخذت من رجل رهنا بدين لك عليه ثم استقرضك دراهم أخرى على ذلك الرهن جاز وكان بالدينين رهنًا". انظر: "الجامع لمسائل المدونة"، لابن يونس (12/ 578).
(3)
يُنظر: "حاشية البجيرمي على شرح المنهج"(2/ 362)، قال:" (وَرَهْنُ مُدَبَّرٍ)، أَيْ: مُعَلَّقٍ عِتْقُهُ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ. (وَمُعَلَّقٍ عِتْقُهُ بِصِفة لَمْ يُعْلَمْ الحُلُولُ) لِلدَّيْنِ (قَبْلَهَا) بِأَنْ عُلِمَ حُلُولَهُ بَعْدَهَا أَوْ مَعَهَا أَوْ احْتُمِلَ الأَمْرَانِ فَقَطْ أَوْ مَعَ سَبْقِهِ أَوْ احْتُمِلَ حُلُولُهُ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا أَوْ مَعَهَا (بَاطِلٌ)؛ لِفَوَاتِ الغَرَضِ مِنْ الرَّهْنِ فِي بَعْضِهَا وَللْغَرَرِ فِي البَاقِي وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا فِي مَسْأَلَةِ المُدَبَّرِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْلَمُ مِنْ الغَرَرِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ فَجْأَة". وانظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"، للبغوي (8/ 420).
(4)
قال المازري: "وقد منع الشافعي الرهن في كتابة المكاتب؛ لأجل أن الدين غير=
وهذا مذهب الشافعية
(1)
، والحنابلة لهم رواية معهم
(2)
.
* * *
[القَوْلُ فِي الشُّرُوطِ]
(وَأَمَّا شُرُوطُ الرَّهْنِ: فَالشُّرُوطُ المَنْطُوقُ بِهَا فِي الشَّرْعِ ضَرْبَانِ: شُرُوطُ صِحَّةٍ، وَشُرُوطُ فَسَادٍ)
(3)
.
أي: التي نطق بها النصُّ كما قال تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، فوصفها بكونها مقبوضة.
وهي ضربان؛ لأن الشروط قد تكون صحيحة من مقتضى العقد ويحتاجها ذلك، وربما تكون شروطًا فاسدة، ومن هذه الشروط الفاسدة:
= ثابت، وللمكاتب أن يعجّز نفسه، ويفسخ الكتابة متى شاء، وهذا يمنع من الرهن؛ لأن الرهن، توثّق بالحق، وما ليس بثابت فلا يتوثق منه".
"ونحن نمنع هذا إذا كان الرهن من أجنبي تحمّل بكتابة المكاتب، ودفع رهنًا بما تحمل به؛ لأنّا لا نجيز الكتابة بحمالة". انظر: "شرح التلقين"(3/ 2/ 364)، و"الشرح الكبير للشيخ الدردير، وحاشية الدسوقي"(3/ 246).
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 55)، قال: "ويشترط في الدين ثلاثة شروط
…
ثالثها: كونه (لازمًا) فلا يصح بما لا يلزم ولا يؤول إلى اللزوم؛ كمال الكتابة؛ لأنه لا فائدة في الوثيقة مع تمكن المديون من إسقاط الدين".
(2)
يُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (3/ 252)، قال:" (أو) كان الرهن (مكاتبًا)؛ فيصحُّ رهنه. لجواز بيعه وإيفاء الدين من ثمنه". وانظر: "الروايتين والوجهين" لأبي يعلى ابن الفراء (1/ 381، 382).
(3)
الشرط الصحيح: "هو ما كان موافقًا لمقتضى العقد، أو مؤكدًا لمقتضاه، أو جاء به الشرع، أو جرى به العرف. والشرط الفاسد: هو ما لم يكن أحد الأنواع الأربعة السابقة في الشرط الصحيح، أي: أنه الذي لا يقتضيه العقد، ولا يلائم المقتضى، ولا ورد به الشرع، ولم يتعارفه الناس، وإنما فيه منفعة زائدة لأحد المتعاقدين". انظر: "الفقه الإسلامي وأدلته"، للزحيلي (4/ 3053، 3054). وانظر: "مختصر التحرير شرح الكوكب المنير"، لابن النجار (1/ 454).
أنه إذا لم يسدِّدْ ما عليه من دين فإنه يأخذ المرهون في مقابله، وهذه من الشروط الفاسدة
(1)
.
* قوله: (فَأَمَّا شُرُوطُ الصِّحَّةِ المَنْطُوقُ بِهَا فِي الرَّهْنِ، أَعْنِي: فِي كَوْنِهِ رَهْنًا فَشَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِالجُمْلَةِ وَمُخْتَلَفٌ فِي الجِهَةِ الَّتِي بِهَا شَرْطٌ، وَهُوَ القَبْضُ. وَالثَّانِي: مُخْتَلَفٌ فِي اشْتِرَاطِهِ؛ فَأَمَّا القَبْضُ: فَاتَّفَقُوا بِالجُمْلَةِ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الرَّهْنِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283])
(2)
.
وهذا محلُّ اتِّفاق بين العلماء، بأنه لا بدَّ من القبض، لكن هل لا بدَّ أن يكون القبض من الراهن نفسه أو أن يكون هناك عدل يسلمه له أو وكيل أو غير ذلك؟ فهذه الأشياء التي يلمح المؤلف إلى الخلاف فيها.
* قوله: (وَاخْتَلَموا هَلْ هُوَ شَرْطُ تَمَامٍ أَوْ شَرْطُ صِحَّةٍ؟).
فهناك من يقول بأنه شرط صحَّة وهم الجمهور، وهناك من يقول بأنه شرط تمام وهم المالكية فانفردوا عن الأئمة الأربعة
(3)
.
* قوله: (وَفَائِدَةُ الفَرْقِ: أَنَّ مَنْ قَالَ: شَرْطُ صِحَّةٍ، قَالَ: مَا لَمْ يَقَعِ القَبْضُ لَمْ يَلْزَمِ الرَّهْنُ الرَّاهِنَ).
(1)
يُنظر: "مناهج التحصيل"، للرجراجي (8/ 297، 298)، وفيه:"مثال ما تكون فيه المعاملة والرهن فاسدين: مثل أن يبيع منه سلعة بثمن إلى أجل أو أقرض على أنه يرهن له رهنًا إلى أجل فإن جاء بحقه، وإلا فالرهن له بدينه".
(2)
قال ابن القطان: "واتفق الجميع أن الرهن لا يكون إلا مقبوضًا". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 192).
(3)
يُنظر: "المغني، لابن قدامة (4/ 247)، قال: "(ولا يصح الرهن إلا أن يكون مقبوضًا من جائز الأمر)، يعني: لا يلزم الرهن إلا بالقبض. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي
…
وقال مالك: يلتزم الرهن بمجرد العقد قبل القبض؛ لأنه عقد يلزم بالقبض، فلزم قبله، كالبيع".
فإذا لم يتمَّ قبضٌ بينهما فحينئذ لا يكون لازمًا، كذلك نفس الكلام عند الجمهور: لو قبضه ثمَّ ردَّه للراهن فيبقى حقُّه.
* قوله: (وَمَنْ قَالَ: شَرْطُ تَمَامٍ قَالَ: يَلْزَمُ العَقْد وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الإِقْبَاضِ إِلَّا أَنْ يَتَرَاخَى المُرْتَهِنُ عَنِ المُطَالَبَةِ حَتَّى يُفْلِسَ الرَّاهِنُ، أَوْ يَمْرَضَ، أَوْ يَمُوتَ. فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ التَّمَامِ
(1)
، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
.
وكذلك الإمام أحمد
(4)
.
* قوله: (وَأَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ
(5)
. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: قِيَاسُ الرَّهْنِ علَى سَائِرِ العُقُودِ اللَّازِمَةِ بِالقَوْلِ. وَعُمْدَةُ الغَيْرِ: قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]).
وقد عرفتم أن الحال في الرهن كالحال في البيع، وقبض كلِّ شيء بحسبه، فالمكيل والموزون يتمُّ قبضه بالكيل والوزن، والمنقول مثل
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(3/ 231)، قال:"لا خلاف في المذهب أن القبض ليس من حقيقة الرهن ولا شرطًا في صحته ولا لزومه، بل ينعقد ويصح ويلزم بمجرد القول، ثم يطلب المرتهن الإقباض".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 92)، قال:"الرهن ينعقد بالإيجاب والقبول ويتم القبض، فإذا قبض المرتهن الرهن محوزًا مفرغًا مميزًا ثم العقد فيه وما لم يقبضه فالراهن بالخيار: إن شاء سلمه وإن شاء رجع عن الرهن، فإذا سلمه إليه وقبضه دخل في ضمانه".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 67)، قال:" (ولا يلزم) الرهن من جهة الراهن (إلا) بإقباضه أو (بقبضه)، أي: المرتهن".
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 108)، قال:" (ولراهن الرجوع) في رهن، أي: فسخه (قبله)، أي: الإقباض (ولو أذن) الراهن (فيه)، أي: القبض؛ لعدم لزوم الرهن إذن، وله التصرف فيه بما شاء".
(5)
يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (6/ 363)، قال:"ولا يجوز الرهن إلا مقبوضًا في نفس العقد لقول الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ".
الأراضي والحيطان والدور ونحوها إنما يتمّ قبضها بتخليتها.
* قوله: (وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَا يَجُوزُ الرهْنُ إِلَّا أَنْ لا يَكُونَ هُنَالِكَ كَاتِبٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283])
(1)
.
وقد جُعل الرهن في عدم وجود الكاتب، فمفهومه إذا وجدتم الكاتب فلا رهان
(2)
.
* قوله: (لَا يُجَوِّزُ أَهْلُ الظَّاهِرِ أَنْ يُوضَعَ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ)
(3)
.
وأهل الظاهر إنما يتمسكون بظواهر النصوص، ولو أننا وقفنا عند الظواهر في كلِّ الأحكام لعطَّلنا شطرًا كبيرًا من أحكام الشريعة الإسلامية، لأن القياس كما هو معلوم بُنِيت عليه كثيرٌ من الأحكام، والقياس يقصد به قياس العلة، وهو إلحاق فرعٍ بأصل فيه حكم لعلَّة تجمع بينهما
(4)
، وأشار الله إلى القياس في القرآن، فقال:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} ، والرسول صلى الله عليه وسلم ضرب أيضًا مثلًا فيه
(5)
، وفعل به الصحابة؛ وممن اشتهر
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 362)، قال:"لا يجوز اشتراط الرهن إلا في البيع إلى أجل مسمى في السفر، أو في السلم إلى أجل مسمى في السفر خاصة، أو في القرض إلى أجل مسمى في السفر خاصة، مع عدم الكاتب في كلا الوجهين".
(2)
قال ابن قدامة: "وهذا خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب عدم وجود الكاتب في السفر، كما أن الغالب عدم وجود الماء في السفر، وليسا شرطين فيه". انظر: "المغني"، لابن قدامة (1/ 173).
(3)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 363)، وفيه:"والحكم على أن الرهن إذا كان على يدي عدل فليس مقبوضا. قال سفيان: وهو قول ابن أبي ليلى، وبه يقول أبو سليمان، وأصحابنا".
(4)
يُنظر: "المعتمد"، لأبي الحسين البصري (2/ 206)، وفيه:"القيَاس: هُوَ إِثْبَات حكم الأَصْل فِي الفَرْع لاشْتِرَاكهمَا فِي عِلّة الحكم، وَلَا بُد فِي ذَلِك من أَمارَة يسْتَدلّ بهَا على عِلّة الأَصْل، وَمن دَلِيل يدلنا على وجوب إِلْحَاق حكم الأَصْل بالفرع الَّذِي وجدت فِيهِ عِلّة الحكم".
(5)
كالحديث الذي أخرجه البخاري (7315) عن ابن عباس، أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال:=
عنهم ذلك عمر
(1)
، وابن مسعود
(2)
، لكن القياس لا يجوز إذا لم يكن له أصل أو خالف نصًّا، ولذلك حكى بعض العلماء أن القياس الصحيح لا يعارض نصا صحيحًا؛ لأن أصل هذه النفوس إنما فطرت على الفطرة وهذا الدين هو فطرة الله التي فطر الناس عليها.
* قوله: (وَعِنْدَ مَالِكٍ: أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الرَّهْنِ اسْتِدَامَةَ القَبْضِ).
هذا ليس عند مالك فقط بل عند عامَّة العلماء
(3)
.
= "نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ "، قالت: نعم، فقال:"اقضوا الله الذي له، فإن الله أحق بالوفاء".
(1)
أخرجه البخاري (2223) أن عمر بن الخطاب بلغه أن فلانًا باع خمرًا، فقال: قاتل الله فلانًا، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها".
قال ابن الملقن: "وفيه استعمال الصحابة القياس في الأمور من غير نكير؛ لأن عمر قاس بيعها عند تحريم عينها على بيع الشحوم عند، تحريمها، وهو قياس من غير شك". "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(10/ 204).
(2)
أخرجه أحمد في "المسند"(15943)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(3/ 556) عن علقمة، قال:"جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: إن رجلًا منا تزوج امرأة، ولم يفرض لها، ولم يجامعها حتى مات، فقال ابن مسعود: ما سئلت عن شيء منذ فارقت النبي صلى الله عليه وسلم أشد علي من هذا، سلوا غيري فترددوا فيها شهرًا، فقال: سأقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان، أرى أن لها مهر نسائها، لا وَكْسَ، ولا شطط، ولها الميراث وعليها عدة المتوفَى عنها زوجها، فقال ناس من أشجع: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضى مثل الذي قضيت في امرأة منا يقال لها بِرْوَعُ ابنةُ واشق" قال: قال: فما رأيت ابن مسعود فرح بشيء ما فرح يومئذ به". وصحح إسناده الأرناؤوط.
(3)
استدامة القبض هو مذهب الأحناف، والمالكية، والحنابلة. مذهب الحنفية ينظر:"التجريد"، للقدوري (6/ 2755)، قال:"استدامة القبض حق للمرتهن".
ومذهب المالكية ينظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف "، للقاضي عبد الوهاب (2/ 576)، قال:"استدامة القبض من شرط صحة الرهن، خلافًا للشافعي".
ومذهب الحنابلة ينظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 109)، قال:" (واستدامة قبض) رهن من مرتهن أو من اتفقا عليه (شرط لـ) بقاء (لزوم) عقد للآية، ولأن الاستدامة إحدى حالتي الرهن فكانت شرطًا كابتداء القبض".
* قوله: (وَأَنَّهُ مَتَى عَادَ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ بِإِذْن المُرْتَهِنِ بِعَارِيَّةٍ، أَوْ وَدِيعَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ خَرَجَ مِنَ اللُّزُومِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ اسْتِدَامَةُ القَبْضِ مِنْ شَرْطِ الصِّحَّةِ)
(1)
.
فجمهور العلماء؛ كأبي حنيفة
(2)
، ومالك
(3)
، وأحمد
(4)
يقولون: إذا خرج الرهن من يد المرتهن راغبًا غير مغصوب فليس من حقِّه أن يطالب به وأن يعيده إليه، وأما الشافعي فيقول: خروجه من يده لا يسقط حقه في ذلك؛ لأنه وثيقة على دين والقصد من ذلك لم ينتهِ بعدُ
(5)
.
* قوله (فَمَالِكٌ عَمَّمَ الشَّرْطَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَأَلْزَمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وُجُودَ القَبْضِ وَاسْتَدَامَتَهُ).
وهذا ليس مذهب مالك فهو رأي الأئمة الثلاثة كما قلنا وهو الأظهر؛ لأنه إذا أخرجه المرتهن من ملكِه ردَّه إلى صاحبه كأنه أسقطه؛ لأن الرهن أصله ليس لازمًا، والأصل في الرهن أنه جائز وليس بلازم.
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (6/ 13)، قال:"فمذهب الشافعي: أن استدامة قبض الرهن ليس بشرط في صحة الرهن. فإن خرج الرهن من يد المرتهن باستحقاق كالإجارة، أو بغير استحقاق كالإعارة أو الغصب لم يبطل الرهن".
(2)
يُنظر: "اللباب في شرح الكتاب"، لعبد الغني الميداني (2/ 65)، قال:" (وإذا أعار المرتهن الرهن للراهن فقبضه) الراهن (خرج) الرهن (من ضمان المرتهن)؛ لأنه باستعارته وقبضه انتقض القبض الموجب للضمان".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير، وحاشية الدسوقي"(3/ 242) قال: " (و) بطل (بعارية) من المرتهن للراهن أو لغيره بإذنه".
(4)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 157)، قال:"فإن أخرجه المرتهن باختياره إلى الراهن زال لزومه وبقي كأنه لم يوجد فيه قبض؛ سواء أخرجه بإجارة، أو إعارة، أو إيداع، أو غير ذلك".
(5)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 68)، قال:" (ولو رهن وديعة عند موح أو مغصوبًا عند غاصب)، أو مستعيرًا عند مستعير أو رهن أصل من فرعه أو ارتهن له (لم يلزم) هذا الرهن (ما لم يمض زمن إمكان قبضه) من وقت الإذن مع النقل أو التخلية نظير ما مر في البيع".
* قوله: (وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إِذَا وُجِدَ القَبْضُ فَقَدْ صَحَّ الرَّهْنُ وَانْعَقَدَ، فَلَا يَحُلُّ ذَلِكَ إِعَارَتَهُ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ كَالحَالِ فِي البَيْعِ).
يعني: لا يسقط ذلك إعارته، أي: خروجه من يد المرتهن لا يُسقط الحق فيه عند الشافعي وعند الجمهور يسقط.
* قوله: (وَقَدْ كَانَ الأَوْلَى بِمَنْ يَشْتَرِطُ القَبْضَ فِي صِحَّةِ العَقْدِ أَنْ يَشْتَرِطَ الِاسْتِدَامَةَ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْه فِي الصِّحَّةِ أَنْ لَا يَشْتَرِطَ الِاسْتِدَامَةَ. وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ فِي السَّفَرِ
(1)
. وَاخْتَلَفُوا فِي الحَضَرِ).
لأن الآية نطقت بما يتعلق بالسفر {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فالآية لها منطوق ومفهوم، فمنطوقها أنها ذكرت السفر، لكن هل يخرج الحضر؟ لا يخرج إلا عن طريق ما يعرف بدليل الخطاب، أي: مفهوم المخالفة، لكن هذا لا يمكن، فلا تتعارض أدلة صحيحة صريحة بعضها متَّفق عليه ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمفهوم، والمفهوم عند بعض العلماء ضعيف
(2)
، وهذه المسألة لم يخالف فيها إلا مجاهد من
(1)
قال ابن القطان: "واتفقوا على أن الرهن في السفر في القرض الذي هو إلي أجل مسمى أو في البيع الذي يكون ثمنه إلى أجل مسمى إذا قبضه المرتهن بإذن الراهن قبل تمام البيع وبعد تعاقدهما وعاين الشهود قبض المرتهن له، وكان الرهن مما يجوز بيعه وكان ملكًا صحيحًا -فإنه رهن صحيح". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 192).
(2)
ممن قال بذلك الحنفية. يُنظر: "فتح القدير"، للكمال ابن الهمام (8/ 171) قال: "
…
إلا بطريق مفهوم المخالفة، وهو ليس بحجة عندنا، فكيف يتم الاستدلال به في مقابلة عموم الحديث المشهور".
وقال الزركشي: "
…
ولعل الفرق أن دلالة المفهوم ضعيفة تسقط بأدنى قرينة، بخلاف اللفظ العام". انظر:"البحر المحيط في أصول الفقه"، (5/ 145).
قال الشوكاني تعليقًا على كلام الزركشي: "قلت: وهذا فرق قوي، لكنه إنما يتم في المفاهيم التي دلالتها ضعيفة، أما المفاهيم التي دلالتها قوية قوة تلحقها بالدلالات اللفظية فلا". "إرشاد الفحول"(2/ 41).
السلف، والمؤلف نسب ذلك إلى أهل الظاهر، أما كافة العلماء فإنهم قالوا: إن الرهن ثابت في الحضر وفي السفر، وهو لا يختلف في الحكم، لكن الله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في السفر؛ لأنه رتبه على الكاتب فقال:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فإن الغالب في السفر ألَّا يوجد كاتب فذكر الله تعالى الرهان، أي: الرهن، فخرج مخرج الغالب، وهذا الغالب هو أنه لا يوجد غالبًا في السفر كاتب، فالرهن مشروعٌ حضرًا وسفرًا.
* قوله: (فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ).
وفي مقدمة الجمهور الأئمة الأربعة وقبلهم الصحابة والتابعون
(1)
.
* قوله: (وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(2)
، وَمُجَاهِدٌ: لَا يَجُوزُ فِي الحَضَرِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَر} [البقرة: 283] الآيَةَ
(3)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 135)، قال:"وكذا السفر ليس بشرط لجواز الرهن، فيجوز الرهن في السفر والحضر جميعًا؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقرض بالمدينة من يهودي طعامًا ورهنه به درعه، وكان ذلك رهنًا في الحضر".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 576)، قال:"يجوز الرهن في السفر والحضر. خلافًا لمجاهد".
ومذهب الشافعية، ينظر:"التهذيب في فقه الإمام الشافعي"، للبغوي (4/ 3)، قال:"والرهنُ جائز لتوثيق الدَّين في السفر والحضر جميعًا".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 104)، قال:"ويجوز حضرًا وسفرًا؛ لأنه روي أن ذلك كان بالمدينة، وذكر السفر في الآية خرج مخرج الغالب، ولهذا لم يشترط عدم الكاتب".
(2)
يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (6/ 362)، قال:"لا يجوز اشتراط الرهن إلا في البيع إلى أجل مسمى في السفر، أو في السلم إلى أجل مسمى في السفر خاصة، أو في القرض إلى أجل مسمى في السفر خاصة، مع عدم الكاتب في كلا الوجهين". وهو قول داود الظاهري. انظر: "تنقيح التحقيق"، لابن عبد الهادي (4/ 116).
(3)
قال ابن المنذر: "ولا نعلم أحدًا خالف ذلك في القديم والحديث، إلا مجاهدًا، فإنه قال: ليس الرهن إلا في السفر. فالرهن جائز في السفر بالكتاب، وفي الحضر بالسنة، وبه قال عامة أهل العلم". انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"(6/ 179).
وَتَمَسَّكَ الجُمْهُورُ بِمَا وَرَدَ مِنْ: "أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَهَنَ فِي الحَضَرِ").
وكان من المناسب أن يذكر المؤلف مثل هذه الأدلة فهي مهمّة جدًّا، وهي أصولٌ بالنسبة لأحكامِ الرهن، ومن هذه الأحاديث حديث عائشةَ رضي الله عنها المتفق عليه، قالت:"اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعامًا ورهنه درعه"
(1)
، وجاء أيضًا الحديث الآخر، وهو حديث أنس الذي أخرجه البخاري
(2)
، وأصحاب السنن إلا النسائي
(3)
، وأحمد
(4)
، والبيهقي
(5)
، وكثير من العلماء
(6)
، يحكي أنس:"ولقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه بشعير ومشيت إليه بخبز شعير وإهالة سنخة"، والإهالة هو الشحم الذي يُذاب
(7)
، والسنخة هي تغير إلى الرداءة
(8)
، ثم ذكر لنا فقال:"وقد سمعته يقول: "ما أصبح لآل محمد صلى الله عليه وسلم إلا صاع ولا أمسى وإنهم لتسعة أبيات"
(9)
، وجاء في بعض الروايات أن هذا الشعير كان مقداره ثلاتين صاعًا، وقيمته دينارًا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك دينارًا
(10)
.
* قوله: (وَالقَوْلُ فِي اسْتِنْبَاطِ مَنْعِ الرَّهْنِ فِي الحَضَرِ مِنَ الآيَةِ هُوَ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الخِطَابِ).
ودليل الخطاب هو الذي يعرف بمفهوم المخالفة؛ لأن هناك
(1)
أخرجه البخاري (2096)، ومسلم (1603).
(2)
أخرجه البخاري (2508).
(3)
الصواب أصحاب السنن إلا أبا داود. فقد أخرجه الترمذي (1215)، والنسائي (4610)، وابن ماجه (2437). وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1393).
(4)
أخرجه أحمد في مسنده (12360). وقال الأرناؤوط: "صحيح على شرط الشيخين".
(5)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 61).
(6)
وأخرجه أبو يعلى الموصلي (7/ 83)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(8/ 359).
(7)
انظر: "العين " للخليل الفراهيدي (4/ 90).
(8)
وذلك لطول المكث. انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 505).
(9)
وهذه رواية البخاري، كما سبق.
(10)
أخرجه ابن حبان (13/ 263 - 264)، عن أنس قال:"رَهَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِرْعًا لَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِدِينَارٍ، فَمَا وَجَدَ مَا يَفْتَكُّهَا بِهِ حَتَّى مَاتَ". وصحح إسناده الأرناؤوط.
مفهومين: مفهوم الموافقة
(1)
، وهو أنواع: مفهوم أولى، ودليله:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}
(2)
، ومفهوم مساوٍ
(3)
، ومفهوم أدنى
(4)
، ثم يأتي مفهوم المخالفة، ومفهوم المخالفة
(5)
يضرب العلماء له مثالًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "في سائمة الغنم الزكاة"
(6)
، ومفهوم المخالف: أن المعلوفة لا زكاة فيها
(7)
.
* قوله: (وَأَمَّا الشَّرْطُ المُحَرَّمُ المَمْنُوعُ بِالنَّصِّ فَهُوَ: أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ رَهْنًا عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَاءَ بِحَقِّهِ عِنْدَ أَجْلِهِ، وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَهُ)
(8)
.
(1)
يُنظر: "مختصر التحرير شرح الكوكب المنير"، لابن النجار (3/ 481)، قال:"ومفهوم الموافقة هو موافقة المسكوت عنه المنطوق في الحكم، ويسمى: فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، فلحن الخطاب ما لاح في أثناء اللفظ ويسمى أيضًا: مفهوم الخطاب".
(2)
المفهوم الأولى: هو ما يفهم من اللفظ بطريق القطع؛ فدل تحريم التأفيف في قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} على تحريم الضرب؛ لأنه أشد. انظر: "مختصر التحرير"، لابن النجار (3/ 482).
(3)
المفهوم المساوي: هو ما كان المسكوت عنه مساويًا للمنطوق في الحكم، كدلالة تحريم أكل مال اليتيم على تحريم إحراقه، وذلك في قوله سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} . انظر: "معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة"، للجيزاني (ص 450).
(4)
لم أقف على من قال بهذا القسم.
(5)
يُنظر: "شرح التلويح على التوضيح" للتفتازاني (1/ 272)، قال: ومفهوم المخالفة هو أن يثبت الحكم في المسكوت عنه على خلاف ما ثبت في المنطوق.
(6)
هذا الحديث أخرجه البخاري (1454) بمعناه، ولفظه: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة
…
". وأخرجه أبو داود (1567) بلفظ: "وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة". وصححه الألباني في "الإرواء" (792).
(7)
المسألة خلافية، قال القاضي عياض: واختلفوا في غير السائمة من العوامل والمعلوفة، فمالك والليث يريان فيها الزكاة، وكافتهم لا يرون فيها زكاة، وداود لا يرى ذلك في غير سائمة الغنم خاصة ويوافقنا في غيرها؛ لأنها في كتاب الصدقة بالذكر وحجتنا عموم الحديث. انظر:"إكمال المعلم شرح صحيح مسلم"(3/ 261).
(8)
يُنظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (10/ 240)، قال:"ومن ارتهن عبدًا على أنه إن لم يوفه حقَّه إلى أجل كذا فالرهن له بحقه، لم يجز، وإن حل الأجل فأخذه فسخ ذلك". وانظر: التهذيب في اختصار المدونة، للبراذعي (4/ 65).
وهذا من أنواع الرهن الفاسد، كأن يرهن عنده شيء فإن جاءه بحقِّه وأوصله إليه وإلا يكون ذلك حقًّا وملكًا له، وهذا لا يجوز.
* قوله: (فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُوجِبُ الفَسْخَ، وَأَنَّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ")
(1)
.
والعلماء مختلفون هل التتمة التى سنوردها جزء من الحديث أو من كلام الراوي "لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه"، وهذا الحديث سيعود المؤلف للاستدلال به، والعلماء قد اختلفوا فيه وصلًا ووقفًا، وقد صحَّ موقوفًا واختلف في صحته مرفوعًا، أي: موصولًا
(2)
.
* * *
(1)
قال ابن المنذر: "روينا عن ابن عمر بن الخطاب أنه قال في الرجل، يرهن الرهن، قول: إن جئتك بحقك إلى كذا وكذا، وإلا فهو لك، قال: ليس ذلك له، وهذا معنى قوله: لا يغلق الرهن، عند مالك، والثوري، وأحمد، وبه قال النخعي، وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: إن المرتهن لا يستحق الرهن، بأن يدَّعِ الراهن قضاء حقه عند محله، وأبطل الشافعي البيع الذي يعقد على أن المرتهن مستحق للرهن عند محل المال إذا لم يقضه الراهن". انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"(6/ 184).
(2)
أخرجه مالك مرسلًا (2698)، وأبو داود في المراسيل (186)، وذكر في المراسيل أن قوله:"إِن هَلَكَ لَمْ يَذْهَبْ حَقُّ هَذَا إِنَّمَا هَلَكَ مِنْ رَبِّ الرَّهْنِ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" من كلام سعيد، كما نقله الزهري.
وروى الحديث مرفوعًا الدارقطني في "سننه"(2920)، والحاكم (2/ 60) عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال
…
الحديث.
قال عبد الحق الإشبيلي: "رُوي مرسلًا عن سعيد، ورُفِع عنه في هذا الإِسناد وفي غيره، ورفعه صحيح". انظر: "الأحكام الصغرى"(2/ 690).
وقال ابن حجر: "رواه الدارقطني، والحاكم، ورجاله ثقات. إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله". انظر: "بلوغ المرام"(ص 253).
[القَوْلُ فِي الجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الكِتَابِ وَهُوَ القَوْلُ فِي الأَحْكَام]
* قوله: (وَهَذَا الجُزْءُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا لِلرَّاهِنِ مِنَ الحُقُوقِ فِي الرَّهْنِ وَمَا عَلَيْهِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ مَا لِلْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ وَمَا عَلَيْهِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ إِمَّا مِنْ نَفْسِ العَقْدِ، وَإِمَّا لِأُمُورٍ طَارِئَةٍ عَلَى الرَّهْنِ وَنَحْنُ نَذْكرُ مِنْ ذَلِكَ مَا اشْتَهَرَ الخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ، وَالِاتِّفَاقُ).
وهذا كلام مجمل بمثابة أبواب سيفصلها المؤلف فيما يأتي.
* قوله: (أَمَّا حَقُّ المُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ: فَهُوَ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الرَّاهِنُ مَا عَلَيْهِ).
لأن هذا وثيقة، والله سبحانه وتعالى قد وجَّه إلى الأخذ بها لتبقى بين يديه ليطمئن عليها.
* قوله: (فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ عِنْدَ الأَجَلِ كانَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى السُّلْطَانِ).
وهذا حقٌّ للإنسان لأن صاحب الحقِّ إما أن يقرض آخر من خالصِ ماله فهذا قرض حسنٌ يريد به الثواب من اللهِ فينبغي أن يتوثق على حقِّه، وإما أن يكون قد باعَه سلعة أو قيمة أجيرة أو غير ذلك، فهو حق له وقد أخذما يثبت به حقّه.
* قوله: (فَيَبِيعَ عَلَيْهِ الرَّهْنَ وَيُنْصِفَهُ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُجِبْهُ الرَّاهِنُ إِلَى البَيْعِ).
وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، فإذا انتهى القدر أو المدة المحددة بينهما ولم يؤدِّ الراهن حقَّ المرتهن فإنه بلا شكَّ يقوم ببيع ما عنده أو
يطلب منه المرتهن ذلك إلا إن تنازل عن ذلك، فهذا أمر راجع له، فإنْ أبى حينئذٍ يُرفَع أمره إلى السلطان، فيبيعه السلطان مباشرة، وأكثر العلماء قالوا: إن السلطان في هذا الموضع هو الذي يتولى ذلك، وبعضهم يقول: لا، كما هو معلوم القاعدة في مذهب الحنفية: أنه يحبس ويضيَّق عليه حتى يبيع، فإن أبى باعَ عليه السلطان
(1)
، أما عند الجمهور فإنه إذا رفع إلى السلطان حينئذٍ يطلب منه البيع فإن أبى باعه
(2)
.
* قوله: (وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ غَائِبًا، وَإِنْ وَكَّلَ الرَّاهِنُ المُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُولِ الأَجَلِ جَازَ).
كما لو كان الرهن بغيرِ يدِ المرتهن، ولكنه وضعه عند عدل من
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 93)، قال:"وللمرتهن أن يطالب الراهن بدينه ويحبسه به".
قال الحدادي: "لأن حقَّه باقٍ بعد الرهن، والحبس جزاء الظلم، فإذا ظهر مطله عند القاضي يحبسه". "الجوهرة النيرة على مختصر القدوري"(1/ 1).
(2)
مذهب المالكية أنه لا يحبس: ينظر "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 251)، قال:" (وباع الحاكم) الرهن (إن امتنع) الراهن من بيعه وهو معسر أو امتنع من الوفاء وهو موسر، ولا يحبس، ولا يضرب، ولا يهدد". أما مذهب الشافعية والحنابلة أن للحاكم أن يحبسه إن رأى ذلك.
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 83)، قال:" (ولو طلب المرتهن بيعه فأبى الراهن ألزمه القاضي قضاء الدين) من محل آخر (أو بيعه ليوفي منه بما يراه من حبس أو غيره فإن أصر) على إبائه (باعه الحاكم) عليه، وقضى الدين من ثمنه دفعا لضرر المرتهن".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 272)، قال:" (ومن أبي وفاء) دين (حال) عليه - (وقد أذن في بيع رهن ولم يرجع) عن إذنه - (بيع)؛ أي: باع الرهن مأذون له في بيعه من مرتهن أو غيره بإذنه، (ووفى) مرتهن دينه من ثمنه؛ لأنه وكيل ربه، (وإلا) يكن أذن في بيعه، أو كان أذن ثم رجع، لم يبع، ورفع الأمر لحاكم، (فأجبر) راهنًا (على بيع) رهن ليوفي ثمنه، (أو) على (وفاء) دين من غير رهن؛ لأنه قد يكون له غرض فيه والمقصود الوفاء، (فإن أبى) راهن بيعًا ووفاء؛ (حبس)؛ أي: حبسه الحاكم حتى يفعل ما أمره، (أو عزر) عند امتناعه".
الناس وقد فوَّضه في ذلك فإن العدل يبيع، وربما أيضًا يولي عليه عدلين، أي: أكثر من واحد وذلك جائز.
* قوله: (وَكَرِهَهُ مَالِكٌ)
(1)
.
ولكنه عند الأئمة الثلاثة جائز دون كراهة؛ لأنه وثقَ به وفوَّضه وهو عندما يبيعه سيبيعه بسعر سوقِه
(2)
.
* قوله: (إِلَّا أَنْ يُرْفَعَ الأَمْرُ إِلَى السُّلْطَانِ).
لأنه مظنة أن يكون الرجل إنما باعه لمصلحته دون أن ينظر لمصلحة الراهن كأن لم يصل به إلى سعره.
* قوله: (وَالرَّهْنُ عِنْدَ الجُمْهُورِ يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةِ الحَقِّ المَرْهُونِ فِيهِ وَبِبَعْضِهِ).
فإذا رُهِن متاعٌ عند إنسان ثُمَّ بعد ذلك أدَّى الراهن بعض الحقِّ، فهل الرهن يتعلَّق بكلِّه أو ببعضه، فإذا أدى بعض الحق أخذ من يد المرتهن
(1)
يُنظر: "المدونة"(4/ 138) قال: "أرأيت إن ارتهنت رهنًا وجعلناه على يدي عدل، أو على يدي المرتهن إلى أجل كذا وكذا، فإن جاء الراهن بحقه إلى ذلك الأجل، وإلا فالذي على يديه الرهن مسلط على بيعه، ويأخذ المرتهن من ذلك حقه؟ قال: قال مالك: لا يباع الرهن وإن اشترط ذلك، كان على يدي المرتهن أو على يدي عدل إلا بأمر السلطان".
(2)
يُنظر في مذهب الحنفية: "النتف في الفتاوى" للسغدي (2/ 612)، قال:"قال أبو حنيفة وصاحباه ومحمد بن صالح والليث بن سعد له أن يبيع؛ لأنه وكيل".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"كفاية النبيه في شرح التنبيه"، لابن الرفعة (9/ 405) قال:"إذا فوضا للعدل البيع عند حلول الحق جاز، وهو وكيل فيه عن الراهن وأمين عن المرتهن".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع"، للحجاوي (2/ 163) قال:"وإذا حل الدين لزم الراهن الإيفاء فإن امتنع من وفائه فإن كان الراهن إذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفَّى الدين: لكن لو باعه العدل اشترط إذن: المرتهن ولا يحتاج إلى تجديد إذن الراهن".
شيئًا؟ وجمهور العلماء يقولون: لا، هو يتعلق بجميع الرهن فليس للراهن أن يأخذ منه أيَّ شيء حتى يعطي المرتهن جميع حقه.
* قوله: (أَعْنِي: أَنَّهُ إِذَا رَهَنَهُ فِي عَدَدٍ مَا فَأَدَّى مِنْهُ بَعْضَهُ، فَإِنَّ الرَّهْنَ بِأَسْرِهِ يَبْقَى بَعْدُ بِيَدِ المُرْتَهِنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَبْقَى مِنَ الرَّهْنِ بِيَدِ المُرْتَهِنِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى مِنَ الحَقِّ).
وقد حكى ابنُ المنذر الإجماع على هذا
(1)
، ولا ندري من هؤلاء الجماعة وما ذكرهم؟
* قوله: (وَحُجَّةُ الجُمْهُورِ: أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِحَقِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، أَصْلُهُ حَبْسُ التَّرِكَةِ عَلَى الوَرَثَةِ حَتَّى يُؤَدُّوا الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى المَيِّتِ).
فليس للورثة أن يتصرفوا فيها حتى يؤدَّى الدين؛ لأنه أول ما يخرج من هذه التركة تجهيز الميت ثم كذلك يوفَّى الدين الذي عليه، ثم بعد ذلك ينظر في موضوع توزيع التركة
(2)
.
* قوله: (وَحُجَّةُ الفَرِيقِ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَهُ مَحْبُوسٌ بِجَمِيعِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَبْعَاضُهُ مَحْبُوسَةً بِأَبْعَاضِهِ، أَصْلُهُ الكَفَالَةُ).
وقد جاء في الحديث: "نَفسُ المؤمنِ معلَّقة بدينِه حتَّى يفكّ ذلك الدين"
(3)
، فالنفس معلقة فيه، والدين من أخطر الأمور التي أصبح الناس
(1)
قال ابن المنذر "وأجمعوا على أن الراهن ممنوع من بيع الرهن، وهبته، وصدقته، وإخراجه من يد من رهنه حتى يبرأ من حق المرتَهن". انظر: "الإجماع"، لابن المنذر (ص 114).
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 270) قال: "لأن الرهن وثيقة بحق، فلا يزول إلا بزوال جميعه، كالضمان والشهادة".
(3)
أخرجه الترمذي (1078). وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1078).
يتساهلون به في هذا الزمان، فالشهيد يُغفَر له كلُّ شيء إلا الدين
(1)
، إلا شهيد البحر فإن الله تعالى يُرضي غريمَه
(2)
، والتعليلات التي ذكرها المؤلف هي التي ذكرها العلماء.
* قوله: (وَمِنْ مَسَائِلِ هَذَا البَابِ المَشْهُورَةِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي نَمَاءِ الرَّهْنِ المُنْفَصِلِ، مِثْلُ الثَّمَرَةِ فِي الشَّجَرِ المَرْهُونِ، وَمِثْلُ الغَلَّةِ، وَمِثْلُ الوَلَدِ هَلْ يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ أَمْ لَا؟).
و"الغلَّة": هي الأجرة التي يحصل عليها العامل نظيرَ شغله
(3)
.
* قوله: (فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ المُنْفَصِلِ لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الرَّهْنِ).
وهذا هو مذهب الشافعي.
* قوله: (أَعْنِي: الَّذِي يَحْدُثُ مِنْهُ فِي يَدِ المُرْتَهِنِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ الشَّافِعِيُّ).
وهو يستدلُّ بحديث: "لَه غُنْمه، وعليه غُرْمه"
(4)
، فهذه هي وجهة
(1)
أخرجه مسلم (1886) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين".
(2)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه ابن ماجه (2778) عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "شهيد البحر مثل شهيدي البر، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله عز وجل وكل ملك الموت بقبض الأرواح، إلا شهيد البحر، فإنه يتولى قبض أرواحهم، ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها، إلا الدين، ولشهيد البحر الذنوب والدين". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1195).
(3)
"الغلة": كل ما يحصل من ريع أرض أو كرائها أو أجرة غلام أو نحو ذلك، وقد أغلت الضيعة فهي مغلة أي ذات غلة. انظر:"المغرب في ترتيب المعرب"، لبرهان الدين الخوارزمي (ص 344).
(4)
سبق تخريجه.
الشافعية
(1)
.
* قوله: (وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالثَّوْرِيُّ)
(3)
.
وأحمدُ أيضًا
(4)
.
* قوله: (وَفَرَّقَ مَالِكٌ فَقَالَ: مَا كَانَ مِنْ نَمَاءِ الرَّهْنِ المُنْفَصِلِ عَلَى خِلْقَتِهِ وَصُورَتِهِ).
وحصره في الولد؛ لأنه هو الذى يدخل في النماء وما عدا ذلك فلا؛ لأن ذلك فرع يتبع الأصلَ فهو حقٌّ ثابت.
* قوله: (فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ كَوَلَدِ الجَارِيَةِ مَعَ الجَارِيَةِ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى خِلْقَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ، كَان مُتَوَلِّدًا عَنْهُ كَثَمَرِ النَّخْلِ، أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدٍ ككِرَاءِ الدَّارِ وَخَرَاجِ الغُلَامِ)
(5)
.
(1)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (4/ 289) قال: " (ولا يسري الرهن إلى زيادته)، أي: المرهون (المنفصلة) (كثمر وولد) ولبن وصوف ومهر وكسب؛ لأن الرهن لا يزيل الملك فلم يسر إليها كالإجارة، وقد يعبر عن المنفصلة بالعينية والمتصلة بالوصفية، بخلاف المتصلة كسمن وكبر شجرة لعدم تمييزها فتتبع الأصل".
(2)
يُنظر: "كنز الدقائق" للنسفي (ص 632)، قال:"ونماء الرّهن كالولد والثّمر واللّبن والصّوف للرّاهن وهو رهنٌ مع الأصل".
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (6/ 187)، قال:"واختلفوا فيمن رهن شجرًا فأثمر، وجارية فحملت وولدت. فقال الثوري، وأصحاب الرأي: ولد الجارية، وثمر الشجر من الرهن".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 338، 339) قال: " (ونماء الرهن، متصلًا كان) النماء (أو منفصلًا وكسبه وغلاته، وصوفه ولبنه، وورق شجره المقصود، ومهره، وأرش الجناية عليه الموجبة للمال) أو للقصاص، أو اختير المال، (وما يسقط من ليفه وسعفه وعراجينه، وزرجون الكرم) (وما قطع من الشجر من حطب، وأنقاض الدارتكون رهنا في يده) أو وكيله أو من اتفقا عليه (كالأصل فتباع معه إذا بيع) ".
(5)
يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 213) قال: "فأما ما لا يتميز منه كسمن=
وهي التي عبَّر عنها قبل قليل بغلَّة الدار.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى أَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ وَغَلَّتَهُ لِلرَّاهِنِ).
وهم الشافعية.
* قوله: (قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ")
(1)
.
وهذا مما يستدلّ به ويصلح أن يكون دليلًا للفريق الآخر، لكن دليلُ الشافعية الظاهر هو الحديث الذي ذكرته
(2)
، وربما يريده، وهذه الرواية اختلفوا فيها رفعًا ووقفًا، وقد أوردها البيهقي وجاء لها عدة روايات
(3)
، وكان الأولى بالمؤلِّف أن يأتِيَ بالحديث الذي أخرجه البخاري
(4)
،
= الحيوان فهو تابع له إجماعًا، وإن كان متناسلًا عنه كالولادة والنتاج فيكون تابعًا له خلافًا للشافعي بخلاف غير ذلك كصوف الغنم ولبنها أو ثمار الأشجار وسائر الغلات فلا تتبعها في الرهن خلافًا لأبي حنيفة". وانظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 245).
(1)
وجه الدلالة: أنه لما لم يكن ذلك للمرتهن ثبت أنه للراهن. انظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (6/ 209).
(2)
وهو حديث: "له غنمه وعليه غرمه".
(3)
أخرجه البيهقي (6/ 64 - 65).
وأخرجه الحاكم (2/ 67)، وقال:"هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لإجماع الثوري وشعبة على توقيفه عن الأعمش وأنا على أصلي أصلته في قبول الزيادة من الثقة".
قال ابن الجوزي: "إِبراهيم بن مجشر بن معدان، أبو إسحاق البغدادي، يروي عن أبي معاوية، قال ابن عدي: له أحاديث مناكير من جهة الأسانيد، رفع حديثًا لا أعلم رفعه غيره، "الرهن محلوب ومركوب". انظر: "الضعفاء والمتروكون" (107). وانظر التفصيل في: "علل الدارقطني" (1903).
(4)
أخرجه البخاري (2512)، بلفظ:"الرهن يركب بنفقته".
وأصحاب السنن، من النسائي
(1)
، وأحمد
(2)
، وغيرهم
(3)
، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"الظَّهر يركَب بنفقته إن كان مرهونًا، ولبن الدر يُشرَب بنفقته إن كان مرهونًا وعلى الذي يَركَب ويَشرَب النفقة"، فهو جاء بهذا اللفظ.
* قوله: (قَالُوا: وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِقَوْلِهِ: "مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ"؛ أَيْ: يَرْكبُهُ الرَّاهِنُ وَيَحْلِبُهُ؛ لِأَنَّهُ كَأنَ يَكُون غَيْرَ مَقْبُوضٍ، وَذَلِكَ مُنَاقِضٌ لِكَوْنِهِ رَهْنًا، فَإِنَّ الرَّهنَ مِنْ شَرْطِهِ القَبْضُ، قَالُوا: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ المُرْتَهِنَ يَحْلِبُهُ وَيَرْكبُهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ المَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ أُجْرَةَ ظَهْرِهِ لِرَبِّهِ، وَنَفَقَتَهُ عَلَيْهِ
(4)
. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "الرَّهْنُ مِمَّنْ رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ"
(5)
. قَالُوا: وَلِأنَّهُ نَمَاءٌ زَائِدٌ عَلَى مَا رَضِيَهُ رَهْنًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ إِلَّا بِشَرْطٍ زَائِدٍ
(6)
، وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ).
ومن معَه.
* قوله: (أَنَّ الفُرُوعَ تَابِعَةٌ لِلأصُولِ فَوَجَبَ لَهَا حُكْمُ الأَصْلِ؛
(1)
أخرجه أبو داود (3526)، والترمذي (1254)، وابن ماجه (2440) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1409).
(2)
أخرجه أحمد (10110) وصحح الأرناؤوط إسناده على شرط الشيخين.
(3)
أخرجه ابن حبان (13/ 261)، والبزار (17/ 84)"البحر الزخار"، وابن الجارود في "المنتقى" حديث (665). وصححه الأرناوؤط.
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 136) قال: " (الرهن مركوب ومحلوب)، أي: أجر ظهره لربه ونفقته عليه ولا يجوز أن يكون ذلك للمرتهن؛ لأنه رِبًا من أجل الدين الذي له، ولا يجوز أن يكون الراهن يلي الركوب والحلاب؛ لأنه كان يصير -حينئذٍ - الرهن عنده غير مقبوض والرهن لا بد أن يكون مقبوضًا ولو ركبه لخرج من الرهن".
(5)
سبق تخريجه.
(6)
يُنظر: "البيان" للعمراني (6/ 63) قال: "و (الغنم): هو النماء، فمن قال: إنه رهن، فقد خالف الخبر، ولأن الرهن عقد لا يزيل الملك عن الرقبة، فلم يسر إلى الولد، كالإجارة، ولأن الرهن حق تعلق بالرقبة ليستوفي من ثمنها، فلم يسر إلى الولد، كالأرش في الجناية".
وَلذَلِكَ حُكْمُ الوَلَدِ تَابمٌ لِحُكْمِ أُمِّهِ فِي التَّدْبِيرِ وَالكِتَابَةِ)
(1)
.
والثمرة إنما تخرج من الشجرة لكن الثمرة عند البيع لا تدخل تبع الأصل إلا إذا اشترطت أن الولد يتبع أُمَّه، فالجمهور يقولون الفرع يتبع أصله ويلحق به إلا أن يستثنى.
* قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ الوَلَدَ حُكْمُهُ حُكْمُ أُمِّهِ فِي البَيْعِ، أَيْ: هُوَ تَابعٌ لَهَا، وَفَرْقٌ بَيْنَ الثَّمَرِة وَالوَلَدِ فِي ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ المُفَرِّقَةِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الثَّمَرَ لَا يَتْبَعُ بَيْعَ الأَصْلِ إِلَّا بِالشَّرْطِ وَوَلَدُ الجَارِيَةِ يَتْبَعُ بِغَيْرِ شَرْطٍ
(2)
. وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنْ لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنَ الرَّهْنِ
(3)
. وَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا كانَ الرَّهْنُ حَيَوَانًا فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْلِبَهُ وَيَرْكَبَهُ بِقَدْرِ مَا يَعْلِفُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ).
وهذه المسألة تحتاج إلى بيانٍ وتفصيل؛ فبالنسبة لهذه الصورة التي ذكرها المؤلِّف وهو ما يتعلق بانتفاع المرتهن بالرهن، فالرهن لا يخلو من حالتين:
الأولى: إما أن يكون رهنًا يحتاج إلى نفقة.
(1)
يُنظر: "اللباب في شرح الكتاب"، للميداني (2/ 62)، قال:" (ونماؤه)، أي: الرهن، كالولد والثمر واللبن والصوف (للراهن)؛ لأنه نماء ملكه (فيكون رهنًا مع الأصل)؛ لأنه تبع له لكونه متولدًا منه، بخلاف ما هو بدل عن المنفعة كالكسب والأجرة، وكذا الهبة والصدقة فإنها غير داخلة في الرهن، وتكون للراهن، والأصل: أن كل ما يتولد من عين الرهن يسري إليه حكم الرهن، وما لا فلا".
(2)
انظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 244)، وفيه:(و) اندرج في رهن أمة (جنين) في بطنها وقت الرهن وأولى بعده. قال الدسوقي: "لأنه كجزء منها فدخل هنا كالبيع". وانظر: "المنتقى شرح الموطإ"، لأبي الوليد الباجي (5/ 242).
(3)
سبق تحرير هذه المسألة.
الثانية: وإما أن يكون رهنًا لا يحتاج إلى نفقة كالدار أو المتاع.
أما ما يحتاج إلى نفقة ومُؤْنةٍ كالحيوان مثلًا فيركب ويحلب، وكذلك الغلام إذا استخدمه عنده في عمل، والذي لا يحتاج إلى مؤنة أو نفقة فبعض العلماء تكلَّم عنه، وقال: لا يجوز للمرتهن أن يستفاد منه بحال إلا بعد موافقة صاحب الرهن، فإن وافق الراهن أيضًا لا يخلو من أمرين: إما أن تكون الاستفادة بعوضٍ أو بغير عوض، فإن كانت بغير عوض فيكون بين أمرين بالنسبة للحق وهو حق المرتهن على الراهن إنما هو قرض فلا يجوز للمرتهن أن ينتفع من الرهن بشيء؛ لأنه يدخل تحت القرض الذي يجرّ نفعًا وهذا هو عين الربا.
أما إن كان من غير قرض كأن يكون مثلًا قيمة سلعة، أو أجرة دار، أو نحو ذلك فيجوز له
(1)
، وأما إن كان بعوض قالوا: يجوز شريطة ألا يحابيه في ذلك؛ لأنه صاحب حق عليه
(2)
، ونأتي الآن إلى محلِّ الخلاف الذي ذكره المؤلف وهو ما يكون مركوبًا أو محلوبًا فهل يجوز للمرتهن أن ينتفع به دون إذن الراهن؟ فالحنابلة في الرواية المشهورة عندهم يجيزون ذلك
(3)
، وجمهور
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير"(3/ 246) قال: " (وجاز) للمرتهن (شرط منفعته)، أي: الرهن لنفسه مجانًا بشرطين أشار للأول بقوله: (إن عينت) مدتها للخروج من الجهالة في الإجارة، وللثاني بقوله: وكان (ببيع)، أي: واقعًا في عقد بيع فقط (لا) في عقد (قرض)؛ لأنه في البيع بيع وإجارة وهو جائز وفي القرض سلف جر نفعًا، وهو لا يجوز فيمنع شرطها والتطوع بها في القرض عينت أم لا كالتطوع بالمعينة في البيع وهذا مفهوم قوله شرط، وكذا يمنع في غير المعينة في البيع بشرط أو لا وهذا مفهوم الشرط".
(2)
يُنظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (6/ 94)، قال:"أما إن أباح له الانتفاع بعد؛ فلا يجوز في بيع ولا قرض؛ لأنه إن كان بغير عوض هدية مديان، كذا نص ابن راشد وغيره على المنع. وإن كان بعوض جرى على الكلام في مبايعة المديان، قاله اللخمي".
(3)
يُنظر: "الإقناع"، للحجاوي (2/ 170)، وفيه:"وإذا كان مركوبًا أو محلوبًا فله أن يركب ويحلب حيوانًا ولو أمة مرضعة بغير إذن راهن بقدر نفقته نصًّا متحريًا للعدل في ذلك".
العلماء كالحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، وهي الرواية الأخرى عند الحنابلة: لا يجوز
(4)
، وسبب الخلاف كله يدور حول فهم الحديث الذي أوردناه قبل قليل الذي أخرجه البخاريُّ وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"الظَّهر يُركَب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يُشرَب بنفقته إن كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة"، فهل المراد بذلك هو الراهن صاحب الحق أو المرتهن؟ يفسِّره الجمهور بالأول، ويفسره الحنابلة بالثاني.
* قوله: (وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ
(5)
، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 146) قال: "وكذا ليس للمرتهن أن ينتفع بالمرهون، حتى لو كان الراهن عبدًا ليس له أن يستخدمه، وإن كان دابة ليس له أن يركبها، وإن كان ثوبًا ليس له أن يلبسه، وإن كان دارًا ليس له أن يسكنها، وإن كان مصحفًا ليس له أن يقرأ فيه؛ لأن عقد الرهن يفيد ملك الحبس لا ملك الانتفاع".
(2)
يُنظر: "مناهج التحصيل" للرجراجي (8/ 276، 277) قال: "
…
وقال جمهور أهل العلم: ليس له أن ينتفع بشيء من الرهن حيوانًا كان أو غيره، وبه قال مالك، والشافعي رضي الله عنهما ".
وسبب الخلاف: اختلافهم في قوله صلى الله عليه وسلم: "الرهن محلوب ومركوب بقدر نفقته" فمن قال: أن للمرتهن أن يستعمل الحيوان والدابة حمل الحديث على ظاهره ورأى أن ذلك مباح للمرتهن، ومن قال: إنه لا ينتفع من الرهن بشيء، فإنه يصرف الكلام عن ظاهره بالتأويل، ويكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"الرهن مركوب ومحلوب بنفقته" معناه: أن غلاته وكراء ظهره للراهن؛ لأن عليه نفقته".
(3)
الشافعية لم يجعلوا للمرتهن حقًّا في التصرف في الرهن، بل جعلوا ذلك للراهن.
قال زكريا الأنصاري: " (للراهن انتفاع لا ينقص الرهن)، أي: المرهون (كركوب، وسكنى، واستخدام) لخبر البخاري: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا"، ولخبر: "الرهن مركوب، ومحلوب". انظر:"أسنى المطالب"(2/ 161).
(4)
يُنظر: "الكافي"، لابن قدامة (2/ 84) قال: "إلا ما كان مركوبًا أو محلوبًا، ففيه روايتان:
إحداهما: هو كغيره لما ذكرناه. والثانية: للمرتهن الإنفاق عليه، ويركب ويحلب بقدر نفقته، متحريًا للعدل في ذلك، سواء تعذر الإنفاق من المالك أو لم يتعذر".
(5)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" لإسحاق الكوسج (6/ 3051، 3002)، وفيها: "قلت: سئل سفيان عن رجل ارتهن دابةً، فعلفها من غير أن يأمره صاحب الدابة؟ فقال: العلف على المرتهن، من أَمَرَهُ أن يُعَلِّفَ. قال أحمد: هذا=
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ"
(1)
. وَمِنْ هَذَا البَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الرَّهْنِ يَهْلِكُ عِنْدَ المُرْتَهِنِ مِمَّنْ ضَمَانُهُ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: الرَّهْنُ أَمَانَةٌ وَهُوَ مِنَ الرَّاهِنِ، وَالقَوْلُ قَوْلُ المُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مَا فَرَّطَ فِيهِ وَمَا جَنَى عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَحْمَدُ
(3)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(4)
، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الحَدِيثِ
(5)
".
فالراهن هو الذي يضمن شريطةَ ألَّا يحصلَ تفريط من المرتهن.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: الرَّهْنُ مِنَ المُرْتَهِنِ وَمُصِيبَتُهُ مِنْهُ، وَمِمَّنْ قَالَ
= متبرع. قال إسحاق: كلما رهنه دابة، فإن العلف على المرتهن، وله أن ينتفع بقدر العلف؛ لِما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"الرهن مركوب ومحلوب"".
(1)
سبق تخريجه.
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (6/ 254) قال: "اختلف الناس في الرهن هل هو مضمون على المرتهن أو غير مضمون على خمسة مذاهب؟ إحداها: وهو مذهبنا أن الرهن أمانة لا يضمن إلا بالتعدي، وبه قال من الصحابة أبو هريرة رضي الله عنه، ومن التابعين ابن المسيب، ومن الفقهاء ابن أبي ذئب، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور". وانظر: "نهاية المحتاج" للرملي (4/ 277).
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 112)، قال:"والرهن بيد مرتهن أو من اتفقا عليه (أمانة ولو قبل عقد) عليه نصًّا (كبعد وفاء) دين أو إبراء منه، للخبر ولأنه لو ضمن لامتنع الناس منه خوف ضمانه فتتعطل المداينات وفيه ضرر عظيم، فإن تلف بلا تعدٍّ ولا تفريط فلا شيء عليه (ويدخل في ضمانه)، أي: المرتهن أو نائبه (بتعدٍّ أو تفريط) فيه كسائر الأمانات".
(4)
قال ابن المنذر: "افترق أهل العلم في الرهن يهلك عند المرتهن خمس فرق
…
وقال فرقة: يكون من مال الراهن، وحق المرتهن ثابت على الراهن، هذا قول الشافعي، وأحمد، وأبي ثور". انظر:"الإشراف على مذاهب العلماء"(6/ 180 - 181).
(5)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 376) قال: "قالت طائفة: سواء كان مما يخفى أو مما لا يخفى لا ضمان فيه على المرتهن أصلًا ودينه باقٍ بكماله حتى يؤدي إليه، وهو قول الشافعي، وأبي ثور، وأحمد بن حنبل، وأبي سليمان، وأصحابهم". وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 135).
بِهَذَا القَوْلِ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَجُمْهُورُ الكُوفِيِّينَ
(2)
. وَالَّذِينَ قَالُوا بِالضَّمَانِ انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ: فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ قِيمَةِ الدَّيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانُ، وَجَمَاعَةٌ
(3)
. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ قَلَّتْ أَوْ كثُرَتْ، وَإِنَّهُ إِنْ فَضَلَ لِلرَّاهِنِ شَيْءٌ فَوْقَ دَيْنِهِ أَخَذَهُ مِنَ المُرْتَهِنِ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَطَاءٌ
(4)
، وَإِسْحَاقُ
(5)
. وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِثْلُ الحَيَوَان، وَالعَقَارِ مِمَّا لَا يَخْفَى هَلَاكُهُ، وَبَيْنَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنَ العُرُوضِ، فَقَالُوا: هُوَ ضَامِنٌ فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ،
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص: 92)، قال:"وإذا اتفقا على وضع الرهن على يد عدل جاز وليس للمرتهن ولا للراهن أخذه من يده فإن هلك في يده هلك من ضمان المرتهن".
(2)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (6/ 181)، قال:"وقالت فرقة إن كان الرهن أكثر مما رهن فيه، فهلك فهو بما فيه، والمرتهن أمين في الفضل، وإن كان أقل رد عليه النقصان، هكذا قال النخعي، والثوري، وأصحاب الرأي".
(3)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 309)، قال:"قال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى والثوري والحسن بن حَيّ: الرَّهن مضمون بأقل من قيمته ومن الدَّين".
(4)
ينظر "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص: 541) قال: "واختلف النَّاس في الرَّهْن، هل هو مضمون أم لا؟ على خمسة أقوال: فقولنا ما سبق، وأنّه إذا ضمن، فهو مضمون بقيمته؛ قلت: أو كثرت، ويتراد الراهن والمرتهن الفضل، فإن فضل للراهني من القيمة شيء على مبلغ الحق، أخذه من المرتهن، وإن فضل للمرتهن شيء من حقِّه على قيمة الرَّهْن، أخذه من الراهن، وبه قال علي ابن أبي طالب رضى الله عنه، وعطاء وإسحاق".
(5)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 375) قال: "قالت طائفة: يترادان الفضل، فإن كان قيمة الرهن وقيمة الدين سواء، فقد سقط الدين عن الذي كان عليه ولا ضمان عليه في الرهن. وإن كانت قيمة الرهن أكثر سقط الدين بمقداره من الرهن وكلف المرتهن أن يؤدي إلى الراهن مقدار ما كان تزيده قيمة الرهن على قيمة الدين. وإن كانت قيمة الرهن أقل سقط من الدين بمقداره وأدى الراهن إلى المرتهن فضل ما زاد الدين على قيمة الرهن. روينا من طريق الحكم، وقتادة: أن علي بن أبي طالب قال: يتراجعان الفضل -يعني: في الرهن يهلك. وروي أيضًا عن ابن عمر، وهو قول عبيد الله بن الحسن، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه".
وَمُؤْتَمَنٌ فِيمَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ مَالِكٌ، وَالأَوْزَاعِيُّ
(1)
، وَعُثْمَانُ البَتِّيُّ
(2)
، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا يَقُولُ: إِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِهَلَاكِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَضْيِيعٍ، وَلَا تَفْرِيطٍ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ وَعُثْمَانُ البَتِّيُّ: بَلْ يَضْمَنُ عَلى كُلِّ حَالٍ قَامَتْ بَيِّنَةٌ أَوْ لَمْ تَقُمْ)
(3)
.
وهذا قول ضعيف يخالف ما جاءت به النصوص فالله سبحانه وتعالى أثبت الشهادة {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"هَل رأيت الشمس؟ " قال: نعم؟ قال: "على مِثلها فاشهد"
(4)
، فالشهادة معمولٌ بها ومعتبرةٌ فلا ينبغي إغفالها.
* قوله: (وَبِقَوْلِ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ القَاسِمِ
(5)
، وَبِقَوْلِ عُثْمَانَ،
(1)
يُنظر: "اختلاف العلماء" للمروزي (ص 566) قال: "قال مالك والأوزاعي: إِذا كان الرهن مما يخفى هلاكه نحو الذهب والفضة والحلي والمتاع يزاد الفضل بينهما مثل قول ابن أبي ليلى. وإن كان الرهن بما يظهر هلاكه نحو الدور والأرضين والحيوان فهلك فهو من مال الراهن ودين المرتهن ثابت على حاله".
(2)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 309)، وفيه:"وقال الثقفي عن عثمان البتي ما كان من رهن ذهبًا أو فضة أو ثيابًا فهو مضمون يترادان الفضل، وإن كان عقدة أو حيوانا فهلك فهو من مال الراهن والمرتهن على حقه إلا أن يكون الراهن اشترط الضمان فهو على شرطه".
(3)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (4/ 49) قال:"وما وضع من رهن يغاب عليه أم لا على يدي عدل فضمانه من الراهن. وما قبضه المرتهن من رهن لا يغاب عليه من ريع أو حيوان أو رقيق، فالمرتهن مُصدّق فيه ولا يضمن ما زعم أنه هلك أو عطب أو أبق أو دخله عيب، وأما ما يغاب عليه فالمرتهن يضمنه إذا قبضه، إلا أن يقيم بينة على هلاكه من غير سببه بأمر من الله، أو بتعدي أجنبي، فذلك من الراهن".
(4)
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"، واللفظ له (13/ 350). وأخرجه الحاكم (4/ 110)، وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، والبيهقىِ في "السنن الكبرى"(10/ 263) عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يشهد بشهادة، فقال لي:"يا ابن عباس، لا تشهد إلا على ما يضيء لك كضياء هذا الشمس". وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(2926).
(5)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (6/ 435) قال: "
…
إلا أن مالكًا وابن القاسم=
وَالأَوْزَاعِيِّ قَالَ أَشْهَبُ
(1)
. وَعُمْدَةُ مَنْ جَعَلَهُ أَمَانَةً غَيْرَ مَضْمُونة: حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ وَهُوَ مِمَّنْ رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ"
(2)
، أَيْ: لَهُ غَلَّتُهُ وَخَرَاجُهُ، وَعَلَيْهِ افْتِكَاكُهُ، وَمُصِيبَتُهُ مِنْهُ
(3)
. قَالُوا: وَقَدْ رَضِيَ الرَّاهِنُ أَمَانَتَهُ فَأَشْبَهَ المُودَعَ عِنْدَهُ
(4)
. وَقَالَ المُزَنِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مُحْتَجًّا لَهُ: "قَدْ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ: إِنَّ الحَيَوَانَ وَمَا ظَهَرَ هَلَاكُهُ أَمَانَةً"
(5)
. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ كَذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "إِنَّ مَا
= يقولان إن قامت البينة على هلاك ما يغاب عليه فليس بمضمون إلا أن يتعدى فيه المرتهن أو يضيعه فيضمن".
(1)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (6/ 435) قال: "وقال أشهب كل ما يغاب عليه مضمون على المرتهن خفي هلاكه أو ظهر، وهو قول الأوزاعي والبتي".
(2)
سبق تخريجه.
(3)
وهو تأويل الشافعية والحنابلة ومن وافقهم. يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 199) قال: " (قال الشافعي): وفيه دليل أنه غير مضمون؛ إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الرهن من صاحبه فمن وإن منه شيء فضمانه منه لا من غيره" ثم أكده بقوله: "له غنمه وعليه غرمه"، وغنمه سلامته وزيادته وغرمه عطبه ونقصانه".
وينظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" لإسحاق الكوسج (6/ 2745) قال: "قلت: لا يغلق الرهن؟ قال: لا يغلق، لا يذهب، لا يكون للمرتهن. للراهن زيادته، وعليه نقصانه، وإن عطب فإنما يعطب من الراهن".
(4)
انظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 88)، وفيه:(وهو أمانة في يد المرتهن) فلا يضمنه إلا بالتعدي كالوديع، للخبر الصحيح "لا يغلق الرهن على راهنه له غنمه وعليه غرمه".
وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 112) قال: "والرهن بيد مرتهن أو من اتفقا عليه (أمانة ولو قبل عقد) عليه نصًّا
…
فإن تلف بلا تعدٍّ ولا تفريط فلا شيء عليه، (ويدخل في ضمانه)، أي: المرتهن أو نائبه (بتعد أو تفريط) فيه كسائر الأمانات
…
(ولا يسقط بتلفه)، أي: الرهن (شيء من حقه)، أي: المرتهن نصًّا لثبوته في ذمة الراهن قبل التلف
…
".
(5)
يُنظر: "التلقين في الفقه المالكي"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 172)، قال:"والعارية تمليك منافع العين بغير عوض وهي أمانة في الرباع والحيوان وما يظهر هلاكه".
زَادَ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ عَلَى قِيمَةِ الدَّيْنِ فَهُوَ أَمَانَةٌ"
(1)
. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ أَمَانَةً
(2)
. وَمَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام عِنْدَ مَالِكٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ: "وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ"؛ أَيْ: نَفَقَتُهُ. قَالُوا: وَمَعْنَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ"؛ أَيْ: أُجْرَةُ ظَهْرِهِ لِرَبِّهِ، وَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ)
(3)
.
والذي يظهر لنا هو رجحان القول الأول وهو قول القائلين بأنه لا يضمن، فعندما وضع الراهن الرهن عند المرتهن فإنما وثق به فينبغي أن يكون حسن الظن موجودًا.
* قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: فَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: "لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ"، أَنَّ غُنْمَهُ مَا فَضَلَ مِنْهُ عَلَى الدَّيْنِ، وَغُرْمَهُ مَا نَقَصَ)
(4)
.
و"الغنم" هو ما يحصل عليه من فوائد، و"الغرم" ما يحصلُ له من نقص.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ مِنَ المُرْتَهِنِ أَنَّهُ عَيْنٌ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ ابْتِدَاءً، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِتَلَفِهِ، أَصْلُهُ تَلَفُ المَبِيعِ عِنْدَ
(1)
يُنظر: "درر الحكام شرح غرر الأحكام"، لملا خسرو (2/ 259)، قال:" (وجناية المرتهن عليه)، أي: على الرهن (تسقط من ديته)، أي: المرتهن (بقدرها)، أي: الجناية؛ لأنه أتلف ملك غيره فلزمه ضمانه، وإذا لزمه وكان الدين قد حل سقط من الضمان بقدره ولزمه الباقي؛ لأن ما زاد على قدر الدين من القيمة كان أمانة".
(2)
نقل كلام المزني أبو عمر ابن عبد البر في: "الاستذكار"(7/ 135)، فقال:"وقال المزني قد قال مالك ومن تابعه إن الحيوان ما ظهر هلاكه أمانة".
(3)
انظر: "الاستذكار"، لأبي عمر ابن عبد البر (7/ 135).
(4)
يُنظر: "التجريد"، للقدوري (6/ 2858، 2859)، قال:"قوله: "له غنمه، وعليه غرمه"، بمعنى: له زيادة من الولد والثمرة، وعليه غرمه من النفقة والمؤنة، ويحتمل: له غنمه إذا بيع بأكثر من الدين كان الزيادة له، وإذا بيع بأقل كان غرم النقصان عليه، ولا يجوز أن يحمل الغرم على الهلاك؛ لأن الغرم هو اللزوم، ومنه سمي الغريم غريمًا".
البَائِعِ إِذَا أَمْسَكَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ، وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ مِنَ الجُمْهُورِ
(1)
، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ مَالِكٍ كَالرَّهْنِ. وَرُبَّمَا احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ رَجُلًا ارْتَهَنَ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ، فَنَفَقَ
(2)
فِي يَدِهِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لِلْمُرْتَهِنِ:"ذَهَبَ حَقُّكَ"
(3)
. وَأَمَّا تَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ التُّهْمَةَ تَلْحَقُ فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَلَا تَلْحَقُ فِيمَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ)
(4)
.
والذي يكون خفي وبعيد عن الأنظار يكون محلّ شبهةٍ وشكٍّ، وأمَّا ما يُشاهَد ويُرى بالعين كالدور والحيوان فالذي يراه الإنسان لا يكون محلَّ شكٍّ.
* قوله: (وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ مَالِكٌ كَثِيرًا، فَضَعَّفَهُ قَوْمٌ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مِثْلُ اسْتِحْسَانِ أَبِي حَنِيفَةِ، وَحَدَّدوا الِاسْتِحْسَانَ بِأَنَّهُ قَوْلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ
(5)
. وَمَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَ مَالِكٍ هُوَ
(1)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (3/ 155)، قال: "
…
ومما يدل على ضمان الرهن: أنه محبوس في يد المرتهن لاستيفاء الدين. وفي الأصول: أن الحبس لا يثبت إلا مع تعلق ضمان، ألا ترى أن البيع لما كانت السلعة محبوسة في يده لاستيفاء الثمن، كانت مضمونة عليه".
(2)
قال الخليل الفراهيدي: "نَفَقَتِ الدابة تنفُقُ نُفوقًا؛ أي: ماتت". انظر: "العين"(5/ 177).
(3)
أخرجه أبو داود في المراسيل (ص 172) عن عطاء. وقال عبد الحق الإشبيلي: هذا مرسل وضعيف الإسناد. انظر: "الأحكام الوسطى"(3/ 279).
(4)
دلل أبو الوليد ابن رشد على وجه التفرقة عند مالك، فقال: "والدليل على فساد قول من أوجب على المرتهن ضمان الرهن -كان مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه. جملة من غير تفصيل، وهو مذهب أبي حنيفة: استصحاب الحال في براءة ذمة المرتهن في الأصل، وثبوت الدين في ذمة الراهن، فعلى مدعي نقل ذلك عما هو عليه في الأصل الدليل
…
". انظر: "المقدمات الممهدات" (2/ 369).
(5)
قال أبو الوليد الباجي: "والاستحسان الذي يختلف أهل الأصول في إثباته هو اختيار القول من غير دليل ولا تعليل. وذهب بعض البصريين من أصحاب أبي حنيفةَ،=
جَمْعٌ بَيْنَ الأَدِلَّةِ المُتَعَارِضَةِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ قَوْلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ)
(1)
.
وإنما في الحقيقة جمع بين الأدلة، وغير ذلك فقد يستنبط الفقيه في مسألة ما وششحسن فيها رأيًا، وهذا الرأي لا يبنيه على رأيٍ مجرَّد، وإنما يبنيه على استقرار للوصول إلى أصول هذه الشريعة والوقوف على أدلتها كما ذكر المؤلف.
* قوله: (وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ بَيْعُ الرَّهْنِ، وَلَا هِبَتُهُ)
(2)
.
لأنه سيُلْحِق ضررًا بصاحب الرهن.
* قوله: (وَأَنَّهُ إِنْ بَاعَهُ فَلِلْمُرْتَهِنِ الإِجَازَةُ، أَوِ الفَسْخُ
(3)
.
= وأصحاب مالكٍ إِلى إثباته ومنع منه شيوخنا العراقيون، والشافعي. انظر:"الإشارة في أصول الفقه"(ص 80).
(1)
قال الشاطبي: الاستحسان في مذهب مالك هو الأخذ بمصلحة جزئية فى مقابلة دليل كلي، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس، فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة. انظر:"الموافقات"(5/ 193، 194).
(2)
قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن الراهن ممنوع من بيع الرهن، وهبته والصدقة به وإخراجه من يدي مرتهنه حتى يبرأ من حق المرتهن". انظر: "الإقناع"(2/ 609).
(3)
يُنظر في مذهب الحنفية: "مختصر القدوري"(ص 93) قال: "وإذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن فالبيع موقوف، فإن أجازه المرتهن جاز وإن قضاه الراهن دينه جاز البيع".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان"، للعمراني (6/ 74) قال:"وإن أزال الراهن ملكه عن الرهن بغير إذن المرتهن. نظرت: فإن كان ببيع، أو هبة، وما أشبههما من التصرفات- لم يصحَّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار". وفي هذه التصرفات إضرار على المرتهن، ولأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير يبطل به حق المرتهن من الوثيقة، فلم يصحَّ من الراهن بغير إذن المرتهن، كالفسخ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (4/ 265)، قال: "
…
وقياس المذهب أنه متى عزله عن البيع، فللمرتهن فسخ البيع الذي حصل الرهن بثمنه
…
".
قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ إِجَازَتَهُ لِيَتَعَجَّلَ حَقَّهُ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ لَهُ
(1)
. وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ بَيْعُهُ
(2)
. وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ غُلَامًا، أَوْ أَمَةً فَأَعْتَقَهَا الرَّاهِنُ؛ فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا جَازَ عِتْقُهُ وَعَجَّلَ لِلْمُرْتَهِنِ حَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِيعَتْ وَقُضِيَ الحَقُّ مِنْ ثَمَنِهَا)
(3)
.
وهذا القول فيه تفريق بين حالة الراهن إن كان موسرًا أو كان معسرًا.
* قوله: (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الرَّدُّ، وَالإِجَازَةُ).
والرَّد هنا بمعنى: أنَّ العتق غيرُ نافذ.
* قوله: (وَالثَّالِثُ: مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ
(4)
. وَأَمَّا اخْتِلَافُ الرَّاهِنِ، وَالمُرْتَهِنِ فِي قَدْرِ الحَقِّ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الرَّهْنُ).
(1)
يُنظر: "التلقين في الفقه المالكي"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 166)، قال:"وإذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن فللمرتهن إجازته أو فسخه، فإن أجازه بطل حقه في الرهن، فإن زعم أن إجازته ليتعجل حقه من الرهن حلف على ذلك وكان له ذلك".
(2)
يُنظر: "المهذب في فقة الإمام الشافعي"، للشيرازي (2/ 101) قال:"والبيع بغير إذن المرتهن باطل، وحكي عن أبي إسحاق أنه قال: في هذه المسألة قول آخر أنه يصح البيع ويكون ثمنه رهنًا كما لو أذن له في البيع بشرط أن يكون ثمنه رهنًا".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 249) قال: " (ومضى عتق) الراهن (الموسر) لعبده المرهون (وكتابته) له، بل وتجوز ابتداء (وعجل) الدين إن كان مما يعجل، ولا يلزمه قبول رهن بدله (والمعسر) إن أعتق الرهن أو كاتبه (يبقى) عبده رهنًا على حاله مع جواز فعله ابتداء، فإن أيسر في الأجل أخذ من الراهن الدين ونفذ العتق والكتابة وإلا بيع من العبد مقدار ما يفي بالدين".
(4)
يُنظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"، للبغوي (4/ 23)، قال:"ولو رهن عبدًا، ثم أعتقه الرّاهن بعد التسليم -هل يعتق؟ فيه ثلاثة أقوال؛ أحدهما: يعتق؛ وبه قال أبو حنيفة، سواء كان موسرًا أو معسرًا؛ لأنه أعتق ملك نفسه؛ كما لو أجر عبده، أو زوج أمته، ثم أعتقهما عتقًا. والثاني: لا يعتق؛ لأن العتق يلاقي محل الرهن؛ بدليل أن رهن الحر لا يجوز، ولا يلاقي محل الإجارة والتزويج؛ بدليل أن إجارة الحر، وتزويج الحرة -يجوز؛ ففي تنفيذ العتق إبطال حق المرتهن؛ فلم يجز. والثالث -وهو الأصح-: إن كان الراهن معسرًا لا يعتق؛ لأن فيه إبطال حق المرتهن، وإن كان موسرًا يعتق".
فالراهن والمرتهن كغيرهم قد يحصل بينهم خلاف، وربما يكون الخلاف مُتعمَدًا، وربما ينتج عن نسيانٍ أو غير ذلك من الأمور.
* قوله: (فَإِنَّ الفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: القَوْلُ قَوْلُ المُرْتَهِنِ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَدْرِ الحَقِّ مَا لَمْ يمُنْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ).
وهذا من الاستحسان الذي يأخذ به الإمام مالك لكن الجمهور يخالفونه كما سيأتي، وأن معهم الأصل وأن القول قول الراهن؛ لأنه صاحب الحق.
* قوله: (فَمَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ فَالقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهْنِ
(1)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
).
وأحمد
(3)
.
* قوله: (وَأَبُو حَنِيفَةِ
(4)
، وَالثَّوْرِيُّ، وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ
(1)
يُنظر: "المدونة"(4/ 145) قال: "أرأيت إن ارتهنت رهنًا قيمته مائة دينار، فقال المرتهن: ارتهنته بمائة دينار، وقال الراهن: بل رهنتكه بخمسين؟ قال مالك: القول قول المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن. قلت: فإن ادَّعى أكثر من قيمة الرهن؟ قال: لا يصدق المرتهن، وعلى الراهن اليمين، فإذا حلف برِئَ مما زاد على قيمة الرهن وأدَّى قيمة رهنه وأخذ رهنه إن أحب، وإلا فلا سبيل له إلى رهنه". وانظر: "الاستذكار"، لأبي عمر ابن عبد البر (7/ 139).
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (4/ 297) قال: "إذا (اختلفا)، أي: الراهن والمرتهن (في)
…
قدر المرهون به كمائتين، فقال: بل مائة
…
(صدق الراهن)، أي: المالك (بيمينه) ".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 118) قال:" (أو) اختلفا في قدر (دين به)، كأن يقول راهن: رهنتك بألف، فقال مرتهن: بألفين فقول راهن بيمينه".
(4)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 174)، قال:"إذا كان الدين ألف درهم، فاختلف الراهن والمرتهن في قدر المرهون به، فقال الراهن: إنه رهن بخمسمائة، وقال المرتهن: بألف، فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأن المرتهن يدعي على الراهن زيادة ضمان، وهو ينكر، فكان القول قوله".
الأمْصَارِ
(1)
: القَوْلُ فِي قَدْرِ الحَقِّ قَوْلُ الرَّاهِنِ
(2)
. وَعُمْدَةُ الجُمْهُورِ: أَنَّ الرَّاهِنَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَالمُرْتَهِنَ مُدَّع، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ اليَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ عَلَى ظَاهِرِ السُّنَّةِ المَشْهُورَةِ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ هَاهُنَا: أَنَّ المُرْتَهِنَ وَإِنْ كانَ مُدَّعِيًا فَلَهُ هَاهُنَا شُبْهَةٌ بِنَقْلِ اليَمِينِ إِلَى حَيِّزِهِ، وَهُوَ كَوْنُ الرَّهْنِ شَاهِدًا لَهُ، وَمِنْ أُصُولِهِ أَنْ يَحْلِفَ أَقْوَى المُتَدَاعِيَيْنِ شُبْهَةً
(3)
، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ عِنْدَ الجُمْهُورِ).
لأن الجمهور عندهم نصٌّ صحيح صريح يتمسَّكون به ولا يرون حاجة للتعليل.
* قوله: (لِأَنَّهُ قَدْ يَرْهَنُ الرَّاهِنُ الشَّيْءَ وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنَ المَرْهُون فِيهِ)
(4)
.
وهذا تعليل وجيه من الجمهور يضعف التعليل الذي نسب للإمام مالك.
* قوله: (وَأَمَّا إِذَا تَلِفَ الرَّهْنُ، وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهِ).
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (6/ 182) قال:"واختلفوا في الراهن والمرتهن يختلفان في مقدار الدين والرهن قائم، فإن النخعي، وعثمان البتي، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي يقولون: القول قول الراهن مع يمينه".
(2)
قال ابن القطان: "وأجمعوا أن القول في الراهن في مقداره قول الراهن مع يمينه إلا أن يدعي المرتهن بينة على أكثر من ذلك إلا مالكًا فإنه قال: القول قول المرتهن إلا أن يأتي بأكثر من قيمة الرهن فلا يقبل منه إلا ببين انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" (2/ 194).
(3)
قال القاضي عبد الوهاب مبيِّنًا هذا الأصل في مسألة شبيهة بهذه المسألة: "ووجه اعتبار القبض دون الفوات أن الأصول موضوعة على أن اليمين في جنبة أقوى المتداعيين سببًا، والمشتري بعد القبض أقوى سببًا لما دفع إليه السلعة وائتمنه عليها إذا لَمْ يُشهد عليه ويتوثق منه وجب أن يكون القول قوله". انظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة"(ص 1078).
(4)
ولأن المرتهن إنما يفرُّ مما يخشى من ذهاب حقه، فهو في الأصل المدعي للزيادة، فعليه البينة. انظر:"مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" للكوسج (6/ 3032).
فإذا تلف الرهن بيد المرتهن، فمن الذي يضمن؟ لا شكَّ بأنه إذا لم يحصل تعدٍّ من المرتهن فلا ضمان عليه؛ لأن الرهن أمانة في يده كالوديعة في يدِ المودع
(1)
.
* قوله: (فَالقَوْلُ هَاهُنَا عِنْدَ مَالِكٍ قَوْلُ المُرْتَهِنِ؛ لأنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِبَعْضِ مَا ادُّعِي عَلَيْهِ وَهَذَا عَلَى أُصُولِهِ، فَإِنَّ المُرْتَهِنَ أَيْضًا هُوَ الضَّامِنُ فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ
(2)
. وَأَمَّا عَلَى أُصُولِ الشَّافِعِيِّ، فَلَا يُتَصَوَّرُ عَلَى المُرْتَهِنِ يَمِينٌ إِلَّا أَنْ يُنَاكِرَهُ الرَّاهِنُ فِي إِتْلَافِهِ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنيفَةَ
(3)
).
والشافعي
(4)
، وأحمد
(5)
.
(1)
وهذه المسألة خلافية سبق تحريرها، وهي هل الرهن أمانة في يد المرتَهن أو مضمون. انظر:"اختلاف الأئمة العلماء" لابن هبيرة (1/ 419 - 420).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 139) قال: "فإن اختلفا في قيمة الرهن الهالك أو صفته فالقول قول المرتهن عند مالك وأصحابه؛ لأنه الضامن لقيمته وهو مدعًى عليه والراهن مُدَّعٍ بأكثر مما يقر به المرتهن".
(3)
يُنظر: "التجريد"، للقدوري (6/ 2806) قال في بيان اختلاف الراهن والمرتهن في صفة المرهون:"قال أصحابنا: إذا اختلف الراهن والمرتهن، فقال الراهن: رهنتك عصيرًا فصار خمرًا في يدك، وقال المرتهن: رهنتني خمرًا فأقبضتني خمرًا، فالقول قول المرتهن؛ لأنهما اختلفا في صفة ما قبضه من ملك عين، فكان القول قول القابض".
(4)
الراجح من مذهب الشافعية أن القول قول الراهن. يُنظر: "نهاية المحتاج، للرملي (4/ 297)، قال: "إذا (اختلفا)، أي: الراهن والمرتهن (في)
…
صفة المرهون به؛ كرهنتني بالألف الحال، فقال الراهن: بالمؤجل
…
(صدق الراهن)، أي: المالك (بيمينه)، ولو كان المرهون بيد المرتهن؛ إذ الأصل عدم ما يدعيه المرتهن وإطلاقه بالنظر للمدعي، وإلا فمنكر الرهن ليس براهن". وهو ما صححه الشيرازي، قال: "لأنهما اتفقا على العقد والقبض واختلفا في صفة يجوز حدوثها فكان الفول من ينفي الصفة".
وحكى القول الثاني، وهو أن القول قول المرتهن، قال: وهو اختيار المزني؛ لأن الراهن يدعي قبضًا صحيحًا، والأصل عدمه. انظر:"المهذب في فقة الإمام الشافعي"(2/ 108).
(5)
عند الحنابلة القول قول الراهن.
يُنظر: "الإقناع"، للحجاوي (2/ 168) قال: "
…
أو قال: أقبضتك عصيرًا في عقد شرط فيه رهنه، فقال: بل خمرًا
…
فقول الراهن مع يمينه".
وجوز ابن قدامة أن يكون القول قول المرتهن، فقال: "ويحتمل أن القول قول=
* قوله: (فَالقَوْلُ قَوْلُ المُرْتَهِنِ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ).
أما الصفة فلا يعوَّل عليها كثيرًا فالقيمة هي مناط الخلاف ومحلُّه هنا. * قوله: (وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إِلَى صِفَةٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ يَحْلِفُ عَلَى الصِّفَةِ، وَتَقْوِيمِ تِلْكَ الصِّفَةِ. وَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي الأَمْرَيْنِ جَمِيعًا -أَعْنِي: فِي صِفَةِ الرَّهْنِ، وَفِي مِقْدَارِ الرَّهْنِ- كَانَ القَوْلُ قَوْلَ المُرْتَهِنِ فِي صِفَةِ الرَّهْنِ وَفِي الحَقِّ، مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ الصِّفَةَ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا شَاهِدَةً لَهُ
(1)
، وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَهَلْ يَشْهَدُ الحَقُّ لِقِيمَةِ الرَّهْنِ إِذَا اتَّفَقَا فِي الحَقِّ وَاخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ؟ فِي المَذْهَبِ فِيهِ قَوْلَانِ، وَالأَقْيَسُ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا شَهِدَ الوَّهْنُ لِلدَّيْنِ شَهِدَ الدَّيْنُ لِلْمَرْهُونِ، وَفُرُوعُ هَذَا البَابِ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كفَايَةٌ فِي غَرَضِنَا)
(2)
.
فإذا أيَّد الدين يكون الشاهد معتبرًا، وكذلك العكس.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
= المرتهن بناءً على اختلاف المتبايعين في حدوث العيب". انظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" (2/ 93).
(1)
يُنظر: "التفريع في فقه الإمام مالك"، لابن الجلاب (2/ 282)، قال:"ومن ارتهن رهنًا فتلف في يديه واختلف هو وربه في تلفه وصفته وقيمته، كان القول في ذلك قول المرتهن مع يمينه، ثم إذا حلف على تلفه وصفته، قومه أهل البصيرة به، وإن جهل صفته حلف على قيمته، فإن جهل قيمته حُمل رب الرهن على صفته إن عرفها أو قيمته إن جهل صفته". وانظر: "التلقين في الفقه المالكي"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 165).
(2)
يُنظر: "مناهج التحصيل" للرجراجي (8/ 313)، قال: فإن اختلفا في قيمة الرهن، وقال الراهن: قيمته عشرة، وقال المرتهن: قيمته خمسة، والدين عشرة، فالمذهب على قولين؛ أحدهما: أن القول قول المرتهن، وهو قوله في "المدونة"، وقال ابن حبيب: وإن أتى بما لا يشبه، فإنه يقبل قوله؛ لأن الرهن يرهن في أقل من قيمته وأكثر. والثاني: أن القول قول الراهن، وهو قول أصبغ، وهذا يصح بأن الرهن شاهد على الذمة.
وسبب الخلاف: اختلافهم في الدَّين، هل هو دليل على قيمة الرهن، أم لا؟ فمن رأى أن مقدار الدَّين دليل على قيمة الرهن يقول: القول قول الراهن؛ لأن الغالب أن الرهن لا يكون، إلا بما يساوي الدَّين. ومن رأى أن الدَّين لا يكون دليلًا على قيمة الرهن يقول: القول قول المرتهن؛ لأن الناس يرهنون ما يفي بالدَّين وما لا يفي به.
وانظر أيضًا: "التبصرة"، للخمي (12/ 5708).
[كِتَابُ الحَجْرِ]
والحَجر في اللغة: هو المنع، حُجِرَ على فلان أن يفعل كذا، أي: مُنِع وضُيِّق عليه
(1)
، ولذلك سُمِّي العقل حجرًا؛ لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح وما يشين وما فيه ضرر
(2)
، وهذا الإنسان أعمل عقله وتصرف تصرف العقلاء، أما إذا لم يعمل عقله فتجده يتصرف تصرف المجانين والسفهاء، والله سبحانه وتعالى أعطانا هذه العقول لندرك بها فتعرف ما ينفع فنفعله وما يضر فنجتنبه، وأرشدنا إلى التفكر في هذه العقول وأن نستخدمها فيما ينفع، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى:{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)} أي: ذِي عَقلٍ
(3)
، فينبغي أن يُستخدم هذا العقل الذي ميَّرْه الله سبحانه وتعالى به على الحيوان وفضله به على من فقد عقله، فعليه أن يدرك هذه النعمة وأن يستغلَّ هذا العقل وأن يصرفَه فيما ينفعه وتستقيم به أحوالُه.
(1)
قال ابن سيده: "الحَجْرُ، المَنْع، حَجَرَ عليه يَحْجُرُ حَجْرًا وحُجْرًا وحُجْرَانًا وحِجْرانًا، منع منه. ولا حُجْرَ عنه، أي: لا دفع". انظر: "المحكم والمحيط الأعظم"(3/ 67).
(2)
قال ابن دريد: "الحجر: العقل. والحَجر والحِجر: الحرام. وبه سمي الرجل حجرًا. وفي التنزيل: {حِجْرًا مَحْجُورًا}، أي: حرامًا محرمًا". انظر: "جمهرة اللغة"(1/ 436).
(3)
انظر: "معاني القرآن"، للأخفش (1/ 313). وهو قول ابن عباس كما أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 266)، وفيه:{قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} ، قال:"النُّهَى، والعقلُ".
أما في الاصطلاح الفقهي أو الشرعي، فالحجر: هو منع الإنسان من التصرف في ماله
(1)
.
وهذه قضية لا بد من الوقوفِ عندها، فكيف يُمنَع الإنسان من المَصرف في ماله؟ لا شكَّ أن المال ملك للإنسان والنفوس قد جُبِلت على حبِّ المال وعلى المَعلُّق به وعلى بذل الوقتِ والجهد في سبيل الوصول إلى جمع المال، يقوله الله سبحانه وتعالى:{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} [الفجر: 25]، وقال سبحانه:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] فالنفوس تميل إلى المال وترغب فيه وتسعى بأن تجمع منه الكثير، وهذا أمر لا شكَّ فيه، ولذلك نجد أيضًا بأنه حرَّم التعدي على أموال الناس، فإن الله سبحانه وتعالى يقوله:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"
(2)
، وفي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع التي ودع بها المؤمنين ولم يمض عليه وقت طويل حتى لحق بالرفيق الأعلى، افتتح صلى الله عليه وسلم بقوله: "إِنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم كحرمة
(1)
انظر: "المغرب في ترتيب المعرب"، لبرهان الدين الخوارزمي (ص 103)، وفيه:"الحجرت المنع، ومنه حجر عليه القاضي في ماله، إذا منعه من أن يفسده فهو محجور عليه".
مذهب الحنفية أن الحجر شرعًا هو: (منع من نفاذ تصرف قولي) لا فعلي؛ لأن الفعل بعد وقوعه لا يمكن رده فلا يتصور الحجر عنه. انظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(6/ 143).
في مذهب المالكية، انظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 292)، وفيه:"الحجر صفة حكمية توجب منع موصوفها من نفوذ تصرفه فيما زاد على قوته أو تبرعه بزائد على ثلث ماله".
مذهب الشافعية: انظر: "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج"(4/ 353)، وفيه:"وشرعًا: المنع من التصرفات المالية".
مذهب الحنابلة: انظر: "شرح منتهى الإرادات"(2/ 155)، وفيه:"وشرعًا (منع مالك من تصرفه في ماله) ".
(2)
أخرجه مسلم (2564).
يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"
(1)
، والإسلام مع أهمية المال طالب المؤمنين بأن يجمعوه من طرق مشروعة مباحة، ولذلك من توفيق الله سبحانه وتعالى للعبد أن يجمع المال عن طريق مشروع، وهذا المال الذي يجمعه الإنسان فيه حقوق، وهذه الحقوق منها ما هو واجب كما عرفنا في حق الزكاة فيمن بلغ ماله نصابًا، هناك حقوق أخرى كالحقوق التي تجب على الإنسان كحقِّ الوالدين والأبناء الصغار وغير ذلك مما يجب على الإنسان، وهناك حقوق غير واجبة لكنها ترفع المؤمن درجات وتكون سببًا في دخوله أعلى الجنات، ومن ذلكم الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يحضُّ على الإنفاق ويرغِّب فيه، ولما كانت النفوس أيضًا قد جُبِلَت على الشُّحِّ، فإن الله سبحانه وتعالى فتح أبواب المسابقة وحضَّ على الإنفاق ورغَّب فيه ووضع له جزاءً عظيمًا فقال تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [البقرة: 254]، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 133، 134]، ولا شكَّ أن من أجلِّ السُّبل التي يسلكها الإنسان في سبيل الإنفاق ويبذل فيها ما كان في سبيل الله سبحانه وتعالى يأتي في مقدمة ذلك ما يتعلَّق بمساعدة المحتاجين.
فهذا المال أهميته ومكانته في الإسلام كبيرة، وأنه ينبغي أن يُحفَظ وأن يُحافَظ عليه، إذا ما قصَّر الإنسان فيه أو لم يكن أهلًا لرعايته وفي إصلاحه وحسن التصرف فيه، فإنه يحجر عليه، يقول الله تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} [النساء: 5]، ثم يقول عقب ذلك مباشرة: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا
(1)
أخرجه البخاري (1741)، ومسلم (1679).
وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)} [النساء: 6]، فإذا كان الإنسان سفيهًا غير رشيد في رعاية المال وفي الحفاظ عليه وفي صيانته وأساء تصرفه، فإنه يُحجر عليه ويمنع من التصرف فيه، وإن كان خالص حقِّه؛ لأن هذا في مصلحته، وربما يكون الذي يتصرف في المال غير عاقل كالمجنون أو الصغير فإنه أيضًا يُمنَع من التصرف فيه، وربما يكون عاقلًا مدركًا غير سفيهٍ لكن عليه ديون تستغرق ماله، فإنه يحجَر عليه لمصلحة غيره.
* قوله: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الكِتَابِ فِي ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ؛ البَابُ الأَوَّلُ: فِي أَصْنَافِ المَحْجُورِينَ. الثَّانِي: مَتَى يَخْرُجُونَ مِنَ الحَجْرِ، وَمَتَى يُحْجَرُ عَلَيْهِمْ، وَبِأَيِّ شُرُوطٍ يَخْرُجُونَ؟ الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ أَفْعَالِهِمْ فِي الرَّدِّ، وَالإِجَازَةِ. البَابُ الأَوَّلُ فِي أَصْنَافِ المَحْجُورِينَ: أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الحَجْرِ عَلَى الأَيْتَامِ).
لأن هذا قول الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، ويقول:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} .
* قوله: (الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ)
(1)
.
ولم يتحدَّثِ المؤلفُ رحمه الله عما يتعلق بالبلوغ، ولعلَّه ترك ذلك لكونه قد مضى الحديث عنه، ولا شكَّ أن البلوغ له علامة، وهي المراد في:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} ، أي: بلغوا مبلغ الرجال والنساء وليس
(1)
قال ابن القطان: "واتففوا على وجوب الحجر على من لم يبلغ، وعلى من هو مجنون معتوه أو مطبق لا عقل له". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 178).
القصد {بَلَغُوا النِّكَاحَ} ، أي: الزواج، وأصبحوا فيه مكلفين
(1)
، فما هي علامات البلوغ؟ هناك علامات ثلاث يشترك فيها الذكور والإناث:
الأولى: بلوغ الحلم: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} ، أي: هو البلوغ المراد به ظهور الماء الذي يعرف بالمني من القبل بالنسبة للرجال والنساء
(2)
.
الثانية: الإنبات، وليس المراد بالإنبات مجرد الزغب الذي يسمى الشيء الخفيف
(3)
، إنما هو الشعر الخشن الذي نصَّ عليه الفقهاء، وهذا الذي ينبت بالنسبة للذكر حول الذكر وبالنسبة للأنثى حول قبلها
(4)
.
(1)
قال ابن زيد في قوله: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} ، قال:"اختبروه في رأيه وفي عقله كيف هو إذا عرف أنه قد أنس منه رشد دفع إليه ماله "، قال:"وذلك بعد الاحتلام". انظر: "تفسير الطبري"(6/ 403).
(2)
مذهب الأحناف، يُنظر:"الدر المختار"، للحصكفي (6/ 153)، قال: " (بلوغ الغلام بالاحتلام والإحبال والإنزال)، والأصل هو: الإنزال (والجارية بالاحتلام
…
) ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (3/ 293) قال: " (أو الحلم)، أي: الأنزال مطلقًا، وإن كان الأصل فيه الإنزال في النوم".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"، للشربيني (2/ 302)، قال: "والبلوغ يحصل
…
أو بإمناء، لآية {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} ، والحلم: الاحتلام، وهو لغة ما يراه النائم، والمراد به هنا خروج المني في نوم أو يقظة بجماع أو غيره".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 173)، قال:" (وبلوغ ذكر وإمناء) باحتلام أو غيره لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} ".
(3)
قال الخليل الفراهيدي: "الزَّغَبُ: صغار الريش لا يجود ولا يطوِل. ورجل زَغِبٌ، ورقبةٌ زَغْباءُ. والزَّغَبُ: ما يعلو ريش الفرخ. والزُّغابة: أصغر الزَّغب. وزغب الفرخ تزغيبًا. والزغب: شعر المهر أول ما ينبت". انظر: "العين"(4/ 385).
(4)
وهذه العلامة اعتبرها الجمهور إلا الحنفية.=
الثالثة: هي بلوغ السن، وهي سن خمسة عشر عامًا وهذا هو رأي الجمهور
(1)
، وبعض العلماء قال: سبعة عشر عامًا، وبعضهم قال: ثمانية عشر عامًا
(2)
، وبعضهم فرَّق بين الذكر والأنثى وقال: الذكر إلى ثمانية
= في مذهب الحنفية، قال الحدادي:"ولا معتبر بنبات العانة، وعن أبي يوسف: أنه اعتبر نباتها الخشن بلوغًا، وهو الذي يحتاج في إزالته إلى حلق". انظر: "الجوهرة النيرة على مختصر القدوري"(1/ 245).
وفي مذهب المالكية، قال الدردير:" (أو الإنبات)، أي: النبات الخشن لا الزغب للعانة لا للإبط أو اللحية أو الشارب فإنه يتأخر عن البلوغ". انظر: "الشرح الكبير" للدردير" (3/ 293).
وفي مذهب الشافعية، قال الهيتمي:" (ونبات العانة) الخشن بحيث تحتاج إزالته للحلق". انظر: "تحفة المحتاج"(5/ 164).
وفي مذهب الحنابلة، قال الحجاوي:"أو نبات الشعر الخشن القوي حول القبل دون الزغب الضعيف". انظر: "الإقناع"(2/ 222).
(1)
هو مذهب الشافعية والحنابلة، وقول أبي يوسف ومحمد، وهو الذي عليه الفتوى عند الأحناف.
يُنظر في مذهب الشافعية: "النجم الوهاج في شرح المنهاج"، للدميري (4/ 399)، قال:" (والبلوغ): باستكمال خمسة عشرة سنة)، أي: قمرية وذلك تحديد لا تقريب، فلو نقصت يومًا واحدًا .. لم يحكم ببلوغه".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع" للحجاوي (2/ 221، 222) قال: "ويحصل البلوغ بإنزال المني يقظة أو منامًا باحتلام أو جماع أو غير ذلك أو بلوغ خمس عشرة سنة".
ويُنظر قول أبي يوسف ومحمد في: "التجريد" للقدوري (6/ 2903)، قال:"وقال أبو يوسف، ومحمد: في الغلام والجارية خمس عشرة سنة".
قال الحصكفي في "الدر المختار"(6/ 153): " (بلوغ الغلام بالاحتلام
…
(فإن لم يوجد فيهما) شيء (فحتى يتم لكل منهما خمس عشرة سنة به يفتى) لقصر أعمار أهل زماننا".
(2)
قال القاضي عبد الوهاب: "ليس في السن المعتبرة في البلوغ حدٌّ، إلا أن أصحابنا قالوا سبع عشرة أو ثماني عشرة سنةً". انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"(2/ 592).
لكن الذي عليه المذهب هو بلوغه ثماني عشرة سنة. انظر: "مختصر خليل"(ص 172)، "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 293).
عشر، والأنثى إلى سبعة عشر
(1)
.
وهناك علاماتان تنفرد بهما الأنثى فتضافان إلى الثلاث، وهما:
الأولى: سن المحيض
(2)
، في الحديث الصحيح:"لا يقبل الله صلاة حائضر بغير خمار"
(3)
، يعني: التي بلغت سن الحيض، وحديث عائشة المتفق عليه:"إحدانا يصيب ثوبها دم الحيض فماذا تصنع؟ "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تحُتُّه ثُمَّ تَقرُصُه ثُمَّ تنضحُه بالماءِ"
(4)
.
الثانية: الحمل؛ لأن الحمل لا يكون إلا من ماء
(5)
، كما قال تعالى: {
…
مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} [الطارق: 6، 7]، فهذه هي العلامات التي يعرف بهما الذكر والأنثى وصولهما مرحلة البلوغ.
وبالنسبة للمجنون فلا خلاف فيه بأنه إذا زال عنه جنونه وعاد إليه عقلُهُ فإنه يرفع عنه الحجر دون حاجة إلى حكمِ حاكم
(6)
، وبالنسبة للسَّفيه
(1)
وهو قول أبي حنيفة. يُنظر: "التجريد"، للقدوري (6/ 2953)، قال:"قال أبو حنيفة: مدة البلوغ بالسن في الغلام ثماني عشرة سنة، وفي الجارية سبع عشرة سنة".
(2)
قال ابن القطان: "واتفق أهل العلم إلا من شذَّ ممن لا يعد خلافه على الاحتلام والحيض بلوغ". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 125).
(3)
أخرجه أبو داود (641)، والترمذي (377) وقال:"حديث حسن"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(196).
(4)
أخرجه البخاري (227)، ومسلم (291).
(5)
قال ابن القطان: "وظهور الماء في اليقظة الذي يكون منه الحمل، فيصير الرجل أبًا، والمرأة أمًا، بلوغٌ لا خلاف من أحد في ذلك" انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 125).
(6)
وهو مذهب الجميع من الأئمة الأربعة.
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 172) قال: " (وأما) المجنون فلا يزول الحجر عنه إلا بالإفاقة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 292) قال: " (المجنون) بصرع أو استيلاء وسواس (محجور) عليه
…
ويمتد الحجر عليه (للإفاقة) من جنونه
…
من غير احتياج إلى فك"، قال الدسوقي: "فإن الحجر ينفك عنه ولا يحتاج لحكم الحاكم بفكه".=
الكبير فلا بد من حكم حاكم
(1)
، واختلفوا في الصغير، وأكثرهم يرى أنه لا يحتاج إلى حكم حاكم
(2)
.
= ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 162) قال: " (ويرتفع) حجر الجنون (بالإفاقة) من غير فك".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 172، 173) قال: " (ومن بلغ) من ذكر وأنثى وخنثى (رشيدًا) انفك الحجر عنه (أو) بلغ (مجنونًا ثم عقل ورشد انفك الحجر عنه)
…
(بلا حكم) بفكه، وسواء رشده الولي أو لا؛ لأن الحجر عليهما لا يحتاج إلى حكم، فيزول بدونه".
(1)
اختلف أبو حنيفة وصاحباه، فعنده:"لا حجر عليه عن التصرف أصلًا فلا يتصور الزوال. وعند محمد: زوال الحجر على السفيه بظهور رشده؛ لأن الحجارة كان بسفهه، فانطلاقه يكون بضده وهو رشده". وعند أبي يوسف: "زواله بضده، وهو الإطلاق من القاضي فكما لا ينحجر إلا بحجره لا ينطلق إلا بإطلاقه". انظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (7/ 172، 173).
وفي المجمل دون النظر إلى اختلاف أبي يوسف ومحمد نجد أن المعمول به في المذهب هو الحجر على السفيه ولم يعتمدوا قول الإمام.
قال الحصكفي: "وعندهما يحجر على الحر بالسفه والغفلة، و (به)، أي: بقولهما (يفتى) صيانة لماله وعلى قولهما المفتى به (فيكون في أحكامه كصغير) ". انظر: "الدر المختار"(6/ 148).
وثمرة اختلاف أبي يوسف ومحمد تظهر فيما باعه قبل حجر القاضي، هل يجوز أو لا؟ فمن قال بقول أبي يوسف أفتى بالجواز، ومن قال بقول محمد رأى أنه لا يجوز. انظر:"حاشية ابن عابدين"(6/ 148).
ومذهب المالكية، يُنظر:"شرح التلقين" للمازري (13/ 218) قال: "والسفه الموجب للحجر في حق البالغ العافل لا يرفع حكم السفه بمجرد الرشد حتى يحكم به".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب" للجويني (6/ 439) قال: "وإذا زال سفهُ السفيه وبان رشدُه، فالأصح أنه ينطلق الحجر عنه من غير حاجةٍ إلى رفع القاضي وإطلاقهِ". وانظر: "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج"، للرملي (4/ 330)، وفيه:"فلا يرتفع إلا برفعه كحجر السفيه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 178) قال:" (ولا ينفك) الحجر عمن سفه ونحوه بعد رشده (إلا بحكمه)؛ لأنه ثبت بحكمه، فلا ينفك إلا به كحجر الفلس".
(2)
مذهب الحنفية، قال الكاساني: "الذي يرفع الحجر عن الصبي شيئان؛ أحدهما: إذن الولي إياه بالتجارة، والثاني: بلوغه، إلا أن الإذن بالتجارة يزيل الحجر عن=
* قوله: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6])
(1)
.
و"اليتيم": من مات أبوه ولم يبلغ وإن كانت أُمُّه موجودةً
(2)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الحَجْرِ عَلَى العُقَلَاءِ الكِبَارِ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ تَبْذِيرٌ لِأَمْوَالِهِمْ).
فلا يجوز الحجر على الكبير، لكن يحجر عليه إذا فرَّط وضيَّع المال ولم يصلحْهُ، فلمصلحته يحجر عليه.
* قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ
(3)
، وَالشَّافِعِيُّ
(4)
).
= التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع، وأما التصرفات الضارة المحضة فلا يزول الحجر عنها إلا بالبلوغ". انظر:"بدائع الصنائع"(7/ 171).
ومذهب المالكية أنه لا يحتاج إلى فك، قال الصاوي:"ولا يحتاج لفك حجره، حاصله: أنه متى بلغ عاقلًا رشيدًا زالت ولاية الأب عنه بمجرد ذلك من غير احتياج إلى فك". انظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(3/ 383).
وفي مذهب الشافعية وجهان أصحهما أنه ينفك بنفس البلوغ والرشد. قال ابن حجر الهيتمي: " (وحجر الصبي) الذكر والأنثى (يرتفع) من حيث الصبا بمجرد بلوغه ومطلقًا (ببلوغه رشيدًا) ". "تحفة المحتاج في شرح المنهاج"(5/ 162). وانظر: "روضة الطالبين"، للنووي (4/ 182).
ومذهب الحنابلة ينفكُّ بمجرده، قال الحجاوي:"ومتى عقل المجنون وبلغ الصبي ورشدا ولو بلا حكم انفك الحجر عنهما بلا حكم ودفع إليهما مالهم". "الإقناع"(2/ 221).
(1)
قال ابن القطان: "واتفقوا على وجوب الحجر على من لم يبلغ". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 178).
(2)
انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 42)، وفيه:"اليتيم من بني آدم من مات أبوه".
(3)
يُنظر: "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 593)، وفيه:"إذا بلغ الصبي وكان مبذرًا مضيعًا لماله استديم الحجر عليه أبدًا ما دام على ذلك". وانظر: "روضة المستبين في شرح كتاب التلقين" لابن بزيزة (2/ 1113).
(4)
يُنظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي" للبغوي (4/ 138) قال: "وإذا بلغ الصبي غير رشيد: يستديم الحجر عليه من كان وليًّا له في الصغر من أب، أو جد، أو وصي أو قيم، وإن لم يكن له قيم فلا يزول الحجر عنه، والحاكم يستديم".
وأحمد
(1)
، وجماهير العلماء جميعًا، ما عدا الإمام أبا حنيفة
(2)
؛ لأن أبا حنيفة يفرق بين أن يكون الحجر مستمرًّا، فيرى أبو حنيفة أنه إذا حُجِر على الصغير ثم بلغ سنَّ الرشدِ ولم يكن راشدًا استمرَّ الحجرُ عليه، لكن بعد أن يتغير حاله أو ظهر منه السَّفهُ بعد أن تجاوز هذه السن لا يرَى الحجرَ عليه، ويجعل الحدَّ في ذلك بالنسبة للصغير الذي استمرَّ سفهُه إلى خمسة وعشرين عامًا، ويستدل بالآية:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: 34]
(3)
، وقد ردَّ عليه جماهيرُ العلماء بأن الاستدلال بها عن طريق مفهوم المخالفة، أي: دليل الخطاب وهو لا يرى العمل به، وحتى لو قُدِّر أن في الآية ما يفهم منها الدلالة فقد خصصتها الأدلة الأخرى، وعلقت عليها؛ لأن المؤلف لم يعرضْ لها
(4)
.
* قوله: (وَأَهْلُ المَدِينَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ إِلَى جَوَازِ ابْتِدَاءِ الحَجْرِ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ الحَاكِمِ، وَذَلِكَ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ سَفَهُهُمْ وَأَعْذَرَ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مَدْفَعٌ)
(5)
.
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 156) قال:"الحجر على الشخص (لحظ نفسه كـ) الحجر (على صغير وسفيه ومجنون)؛ لأن مصلحته عائدة إليهم، والحجر عليهم عام في أموالهم وذممهم".
(2)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (5/ 215) قال: "كان أبو حنيفة لا يرى الحجر على الحر البالغ العاقل لا لسفه وتبذير ولا لدين وإفلاس".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 95) قال: "قال أبو حنيفة: لا يحجر على السفيه إذا كان بالغًا عاقلًا حرًّا وتصرفه في ماله جائز وإن كان مبذرًا مفسدًا يتلف ماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة، إلا أنه قال: إذا بلغ الغلام غير رشيد لم يسلم إليه ماله حتى يبلغ خمسًا وعشرين سنة، فإن تصرف فيه قبل ذلك نفذ تصرفه فإذا بلغ خمسًا وعشرين سنة سلم إليه ماله وإن لم يؤنس منه الرشد".
(4)
بل إن الآية التي استدل بها أبو حنيفة فيها ردٌّ على ما ذهب إليه، فقوله:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ، نجد أنه شرط فيها شرط ينفي جواز الدفع: البلوغ وإيناس الرشد، وعليه من كان مبذرًا مضيعًا، لم يؤنس منه الرشد. انظر:"الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 593).
(5)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (6/ 237)، قال: "اختلف أهل=
فيحجر على الكبير بحكم الحاكم؛ لأنه ليس صغيرًا.
* قوله: (وَهُوَ رأي ابْن عَبَّاسٍ
(1)
، وَابْن الزُّبَيْرِ
(2)
).
ولذلك بعض العلماء قال: هذا هو رأي الصحابة ولم يعرف مخالف لهم فيكون إجماعًا
(3)
.
= العلم في وجوب الحجر على الحر البالغ، المضيع لماله. فقال أكثر علماء الأمصار، من أهل الحجاز، والعراق، والشام، ومصر: يجب الحجر على كل مضيع لماله، صغيرًا أو كبيرًا. واحتجوا في ذلك بأخبار رويت عن علي، وابن عباس، وابن الزبير رضي الله عنهم، تدلُّ على ذلك. وهذا قول مالك، وعثمان البتي، وعبيد الله بن الحسن، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، ويعقوب، ومحمد".
(1)
من ذلك ما أخرجه مسلم (1812) عَن جعفر بن محمد عن أبيه عن يزيد بن هرمز أَن نجدة كتب إِلى ابن عباس رضي الله عنهما يسْأَله عَن خلال، فَذكر الحَدِيث، قَالَ:"وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري، إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه، ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم".
وهناك آثار أخرى في هذا الباب. انظر: "مختصر خلافيات البيهقي"(3/ 387 - 389).
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 101) عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عبد الله بن جعفر اشترى أرضًا بستمائة ألف درهم، قال:"فَهَمَّ عليٌّ وعثمانُ أن يَحْجُرَا عليه"، قال:"فَلَقِيتُ الزبير"، فقال:"ما اشترى أحدٌ بيعًا أَرْخَصَ مما اشتريتَ"، قال:"فذكر له عبد الله الحجر"، قال:"لو أنَّ عندي مالًا لَشَارَكْتُكَ" قال: "فإني أُقرِضُك نصفَ المال"، قال:"فإني شريكُك" قال: "فأتاهما عليٌّ وعثمان وهما يتراوضان"، قال:"ما تَراوَضانِ؟ " فذكرَا له الحجرَ على عبد الله بن جعفر، فقال:"أَتَحْجُرَانِ على رجل أنا شريكُه؟ " قالا: "لا لَعَمْري" قال: "فإني شريكُه، فتركَه".
وذكر أبو محمد ابن حزم رواية عن عبد الله بن الزبير من طريق أبي عبيد نا سعيد بن الحكم بن أبي مريم عن عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير، قال: كان عبد الله بن الزبير إذا نشأ منا ناشئ حجر عليه. وانظر "المحلى" لابن حزم (7/ 148).
(3)
قال الإمام أحمد في أثر ابن الزبير: "لم أسمع هذا إلا من أبي يوسف القاضي". وهذه قصة يشتهر مثلها، ولم يخالفها أحد في عصرهم، فتكون إجماعًا. انظر:"المغني"، لابن قدامة (4/ 352).
* قوله: (وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ إِلَى أَنه لَا يُبْتَدَأُ الحَجْرُ عَلَى الكِبَارِ).
مع أن صاحبيه خالفاه (أبو يوسف ومحمد) في هذه المسألة فانضما إلى جماهير العلماء
(1)
.
* قوله: (وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنِ سِيرِينَ)
(2)
.
إبراهيم النخَعيُّ تابعي، وابن سيرين أيضًا من التابعين الذي يُعرف بتفسير الرُّؤى.
* قوله: (وَهَؤُلَاءِ انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الحَجْرُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ البُلُوغِ بِحَالٍ، وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُمُ التَّبْذِيرُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنِ استَصْحَبُوا التَّبْذِيرَ مِنَ الصِّغَرِ يَسْتَمِرُّ الحَجْرُ عَلَيْهِمْ).
وهذا القول الأخير هو قول أبي حنيفة
(3)
، لكنَّه إذا جاء وقت البلوغ
(1)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (5/ 215، 216)، قال: "كان أبو حنيفة لا يرى الحجر على الحر البالغ العاقل لا لسفه وتبذير ولا لدين وإفلاس فإن حجر عليه القاضي، ثم أقرَّ بدين أو تصرف في ماله جاز ذلك عليه
…
"، وقال أبو يوسف: "إذا كان سفيهًا حجرت عليه، وإذا فلسته وحبسته حجرت عليه ولم أجز بيعه ولا شراؤه ولا إقراره بدين إلا ببينة تشهد به عليه أنه كان قبل الحجر". قال ابن أبي عمران عن ابن سماعة عن محمد في الحجر بمثل قول أبي يوسف فيه".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (3/ 188، 189) قال: "روي نحو قول أبي حنيفة في نفي الحجر عن إبراهيم، ومحمد بن سيرين".
(3)
أي: يستمر الحجر إلى سن الرشد، فإن بلغوا مبذرين يستمر الحجر عليهم ويمنعوا من التصرفات إلى سن الرشد، أي: إلى خمسة وعشرين سنة.
قال الكاساني: " (وأما) السفيه فعند أبي حنيفة عليه الرحمة ليس بمحجور عن التصرفات أصلًا وحاله وحال الرشيد في التصرفات سواء لا يختلفان إلا في وجه واحد، وهو أن الصبي إذا بلغ سفيهًا يمنع عنه ماله إلى خمس وعشرين سنة، وإذا بلغ رشيدًا يدفع إليه ماله". انظر: "بدائع الصنائع"(7/ 171).
وظلَّ على حاله والله تعالى يقول: {وَابْتَلُوا} ، يعني: اختبروا
(1)
، وبعض العلماء يرى أنه يبتدئ بالاختبار قبيل سن البلوغ فيجرب الإنسان، إن كان أبوه غنيًّا يعطيه أبوه الفرصة بأن يبيع ويشتري، وإن كان غير ذلك فإنه يمكَّن من العمل في أيِّ مكان من الأمكنة، ويجرِّب بعض الأمور.
* قوله: (وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُمْ رُشْدٌ بَعْدَ البُلُوغِ، ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهُمْ سَفَهٌ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُبْدَأُ بِالحَجْرِ عَلَيْهِمْ)
(2)
.
لأنهم يقولون: أنه عندما يصلُ إلى سنِّ البلوغ كان راشدًا، والله تعالى يقول:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} ، أي: إذا بلغوا مبلغ الرجال ومبلغ النساء {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} ، أي: وجدْتُم فيهم وأدركتم صلاحًا لأموال فادفعوا إليهم أموالهم، وهذا قد ثبت صلاحه وأهليته لأنْ يتصرف، فكيف نأتي بعد ذلك ونحجر عليه؟!
* قوله: (وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحُدُّ فِي ارْتِفَاعِ الحَجْرِ، وَإِنْ ظَهَرَ سَفَهُهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ عَامًا).
فيجعل الحدَّ في ذلك خمسة وعشرين عامًا وبذلك ينتهي، ويستدلُّ الحنفية بقول الله سبحانه وتعالى في أواخر سورة الأنعام:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ، ومعنى يبلغ أشده: أي: يصبحُ رجلًا سويًّا
(3)
.
(1)
وهو تفسير ابن عباس، كما أخرجه الطبري في "تفسيره"(6/ 403).
(2)
قال ابن هبيرة: "ثم اختلفوا فيما إذا طرأ عليه السفه بعد أن أُونس منه الرشد هل يحجر عليه أم لا؟ فقال مالك وأحمد والشافعي: "يحجر عليه". وقال أبو حنيفة: "لا يحجر عليه وإن كان مبذرًا". انظر: "اختلاف الأئمة العلماء" (1/ 429).
(3)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (3/ 189) قال:"وأما منع ماله قبل الخمس والعشرين سنة، ودفعه إليه بعدها، فإن أبا حنيفة ذهب فيه إلى ظاهر قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}. فلو خلينا وموجب اللفظ، لمنعناه المال أبدًا حتى يؤنممنه رشده، فلما قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، وكانت "حتى" غاية يقتضي=
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى الكِبَارِ ابْتِدَاءَ الحَجْرِ: أَنَّ الحَجْرَ عَلَى الصِّغَارِ إِنَّمَا وَجَبَ لِمَعْنَى التَّبْذِيرِ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِمْ غَالِبًا، فَوَجَبَ أَنْ يجِبَ الحَجْرُ عَلَى مَنْ وُجِدَ فِيهِ هَذَا المَعْنَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَغِيرًا)
(1)
.
لأنَّ الصغير محلٌّ لأنْ يبذرَ ماله؛ لأنه لم ينضجْ عقلُه بعدُ، وإذا لم يحسن التصرف ربما يبذر أمواله ويضيعها ويعود ذلك عليه بالضرر ولذلك حُجر عليه، وهذه العلة نفسها توجد في السفيه الذي لا يحسن سياسة ماله ولا التصرف فيه ولا في حفظه.
* قوله: (قَالُوا: وَلذَلِكَ اشْتَرَطَ فِي رَفْعِ الحَجْرِ عَنْهُمْ مَعَ ارْتِفَاعِ الصِّغَرِ إِينَاسَ الرُّشْدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]).
أي: صلاحًا في أموالهم فسلِّموا لهم أموالَهم.
* قوله: (فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ السَّبَبَ المُقْتَضِيَ لِلْحَجْرِ هُوَ السَّفَهُ
(2)
. وَعُمْدَةُ الحَنَفِيَّةِ: حَدِيثُ حَبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ
(3)
.
= أن يكون حكم ما بعدها بخلاف الذي يكون قبلها، تضمنت الآية وجوب دفع المال إليه، والامتناع من قربه عند بلوغ أشده".
(1)
ردَّ الأحناف على هذا الاستدل بأنه يمكن المنع منه بالنهي والإنكار، كما يفعل في المعا صي، وهي وسيلة لرده ودفعه. انظر:"التجريد"، للقدوري (6/ 2934)، وفيه:"قلنا: بل يمكن المنع منه بالنهي والإنكار، كما يفعل في المعاصي".
واستدلوا على الأحناف أيضًا بقوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} ، فجعل الله سبحانه وتعالى لكل واحد من المذكورلن وليًّا، منهم السفيه. انظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (7/ 169).
(2)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 593) قال:"فشرط في جواز الدفع إليهم شرطين: البلوغ وإيناس الرشد، ومن كان مبذرًا مضيعًا، لم يؤنس منه الرشد؛ ولأن كل من لم يكن مصلحًا لماله أو كان مبذرًا مضيعًا له لم يجز دفعه كالمجنون ومن لم يبلغ خمسًا وعشرين سنةً".
(3)
ومن أدلة الأحناف أيضًا في بطلان الحجر على الحر لأجل السفه: قوله تعالى:=
وهذا الحديث مرَّ بنا، وفي بعض الروايات: حبان بن منقذ، وفي بعضها: منقذ بن حبان، فهل هو الابن أو الأب؟ وهذا لا يؤثر
(1)
، وهو حديث أصله في الصحيحين
(2)
، وجاء في السنن التصريح باسمه؛ أي: باسم حبان بن منقذ
(3)
، وهذا قصته معروفة: رجل كان يخدع في البيوع لشيء أصابه في رأسه فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاله وأنه يخدع في البيوع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا بايعت فقل: لا خلابة"، أي: لا خديعة ولا غدر
(4)
، فكان يفعل ذلك، وامتدَّ به ذلك إلى عهد
= {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)} ، فأثبت عليه حكم سعيه، وهو عام في جميع تصرفه وأفعاله. وكذلك قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} ، ثم قال:{فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} ، فأجاز مداينة السفيه والضعيف اللذين لا يقومان بضبط الإملاء، ولو كان السفه والضعف عن معرفة التجارة، وحفظ المال موجبًا للحجر، لما جازت مداينتهما، ولكانا فيه بمنزلة الصبي والمجنون. انظر:"شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (3/ 185).
(1)
الذي يظهر أنه وقع اختلاف في تعيينه. نقل ابن الملقن عن الرافعي أن ذلك الرجل هو حبان بن منقذ، أصابته آمة في رأسه، فكان يخدع في البيع، قال: وهو أحد القولين فيه، وبه جزم ابن الطلاع في "أحكامه"، وورد كذلك مصرحًا في بعض روايات هذا الحديث، وفي بعضها أنه والده منقذ، وجزم به عبد الحق في "جمعه بين الصحيحين"، وتردد في ذلك الخطيب في "مبهماته"، وابن الجوزي في "تلقيحه". وقال النووي:"الأشهر الأصح الثاني". انظر: "البدر المنير"(6/ 537، 538).
(2)
أخرجه البخاري (2117)، ومسلم (1533) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلًا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، أنه يخدع في البيوع، فقال:"إذا بايعت فقل لا خلابة".
(3)
لم يأت في السنن التصريح باسمه إلا عند ابن ماجه (2355)، لكن ذكر أن اسمه: منقذ بن عمرو.
أما حبان بن منقذ، فجاء عند غير أصحاب السنن، منه ما أخرجه الدارقطني (4/ 7)، والبيهقي (5/ 449) عن ابن عمر، قال: كان حبان بن منقذ رجلًا ضعيفًا، وكان قد سفع في رأسه مأمومة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم له الخيار فيما يشتري ثلاثًا، وكان قد ثقل لسانه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بع وقل: لا خلابة"، فكنت أسمعه يقول:"لا خذابة، لا خذابة".
(4)
يُنظر: "غريب الحديث"، لأبي عبيد (2/ 243)، قال:"لَا خِلابة، يعني: الخداع، يقال منه: خلبتَه أخلُبه خِلابة، إِذا خدعته".
الصحابة رضي الله عنهم فكان يحصل نزاع بينه وبين بعض البائعين فيشهد له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وهبه ذلك الحقَّ
(1)
.
* قوله: ("إِذْ ذَكَرَ فِيهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي البُيُوعِ، فَجَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الخِيَارَ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَحْجِرْ عَلَيْهِ". وَرُبَّمَا قَالُوا: الصِّغَرُ هُوَ المُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ التَّصَرُّفِ بِالمَالِ، بِدَلِيلِ تَأْثِيرِهِ فِي إِسْقَاطِ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ الصِّغَرُ، لِأَنَّهُ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ السَّفَهُ غَالِبًا).
لكن الجمهور دليلهم هذه الآية التي فيها الاختبار، ثم الآية التي قبلها:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} ، فإن السفيه سفيهٌ مهما تقدم به السنُّ ومهما طال عمرُهُ.
* قوله: (كَمَا يُوجَدُ فيه نَقْصُ العَقْلِ غَالِبًا، وَلذَلِكَ جُعِلَ البُلُوغُ عَلَامَةَ وُجُوبِ التَّكْلِيفِ وَعَلَامَةَ الرُّشْدِ إِذْا كَانَا يُوجَدَافي فِيهِ غَالِبًا، -أَعْنِي: العَقْلَ وَالرُّشْدَ- وَكمَا لَمْ يُعْتَبَرِ النَّادِرُ فِي التَّكْلِيفِ، أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ البُلُوغِ عَاقِلًا فَيُكَلَّفُ؛ كَذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرِ النَّادِرُ فِي السَّفَهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ البُلُوغِ سَفِيهًا فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ، كَمَا لَمْ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ قَبْلَ البُلُوغِ رَشيدًا
(2)
. قَالُوا: وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} الآيَةَ [النساء: 5]، لَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْعِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ فَسْخَ بُيُوعِهَا وَإِبْطَالَهَا)
(3)
.
(1)
وجه الدلالة من الحديث أنه لو كان الحجر واجبًا للسفيه لمنعه صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنه لا يصبر عن التصرف. انظر: "التجريد"، للقدوري (6/ 2929 - 2930).
(2)
كما فرقوا بين البالغ والمراهق الذي دون البلوغ بأن الغالب من أمر الصبيان أنهم يضيعون المال ولا يهتدون إلى المصالح، فأجرى حكم الأغلب على الجميع، فحجر على من لا يبذر منهم، والغالب من حال الباغين أنهم يهتدون إلى حفظ المال ويحفظونه، فالتبذير نادر فيهم، فأجرى حكم الأغلب على النادر ولم يحجر عليه. انظر:"التجريد"، للقدوري (6/ 2935).
(3)
قال البابرتي: "ورُدَّ بأن ذلك لمنع المال، وليس النزاع فيه، وإنما النزاع في الحجر". انظر: "العناية شرح الهداية"(9/ 269).=
لأن أكثر ما تدلُّ عليه الآية أنهم لا يؤتون أموالهم، لكن لو باعوا واشتروا فلا ينبغي أن تبطل بيوعاتهم، ونحن نقول: ما دليل ذلك؟ الله منع من أن تؤتى إليهم أموالُهم فإذا كان الأمر كذلك، فلا يؤتون أموالهم؛ لأنهم لا يحسنون التصرف، وإذا كانوا لا يحسنون التصرف فيها فكيف يقرُّ لهم بيع وشراء وهبة وعطية ووصية وغير ذلك!
* قوله: (وَالمَحْجُورُونَ عِنْدَ مَالِكٍ سِتَّةٌ)
(1)
.
وحصرهم المؤلِّفُ عند الإمام مالك بستة، ووافقه الإمام أحمد عليهم لكنَّ واحدًا منهم وافقه في رواية، وزاد الحنابلة على الستة
(2)
.
* قوله: (الصَّغِيرُ).
بإجماع العلماء لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}
(3)
.
* قوله: (وَالسَّفِيهُ).
= وقيل أيضًا في الجواب عن هذه الآية: إما أن يكون المراد الصبيان أو المجانين، بدليل: أنه لا يثبت ولاية الولي عليه، ومن يوجب الحجر على السفيه يقول: إن ولاية الولي تزول عنه بالبلوغ عن عقل على ما بينه، أو المراد نهي الأزواج عن دفع المال إلى النساء، وجعل التصرف إليهن كما كانت العرب تفعله. انظر:"المبسوط"، للسرخسي (24/ 161).
(1)
وذكر ابن جزي أنهم سبعة، فقال:"المحجورون سبعة، وهم: الصغير، والمجنون، والسفيه، والعبد، والمريض، والمرأة، والمفلس". انظر: "القوانين الفقهية"(ص 211).
(2)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 207)، قال:"الحجر على ضربين: حجر لحق الغير: كحجر على مفلس، ومريض على ما زاد على الثلث، وعبد، ومكاتب، ومشترٍ إذا كان الثمن في البلد أو قريبًا منه بعد تسليمه المبيع، وراهن، ومشترٍ بعد طلب شفيع، ومرتدٍّ، وغير ذلك على ما يأتي. الثاني: الحجر لحظ نفسه: كحجر على صغير، ومجنون، وسفيه".
(3)
قال ابن القطان: "واتفقوا على وجوب الحجر على من لم يبلغ". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 178).
لقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ}
(1)
.
* قوله: (وَالعَبْدُ).
ومثله المكاتب، ولم يذكر عندهم ومنع تصرفهما في المال لمصلحة سيدهما
(2)
.
* قوله: (وَالمُفْلِسُ).
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما طُولب بالحجر حجر على المفلس كما سيأتي في قصة معاذ
(3)
، وقصة جابر بن عبد الله عندما قُتل والده عبد الله شهيدًا
(4)
.
* قوله: (وَالمَرِيضُ).
فيما زاد على الثلث، أي: في تبرعه.
* قوله: (وَالزَّوْجَةُ).
وهذا هو الذي يوافقه فيها الإمام أحمد في رواية عنه،
(1)
ففي هذه الآية أمر الله الآباء والأوصياء والحاكم بالنظر لهم صيانة لأموالهم التي بصيانتها قوام حياتهم وحفظ عيشهم. انظر: "شرح التلقين"، للمازري (3/ 1/ 197).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (3/ 303) قال:" (وحجر على الرقيق)، يعني: أن الرقيق محجور عليه شرعًا لسيده في نفسه وماله قليلًا كان أو كثيرًا ولو كان حافظًا للمال بمعاوضة وغيرها، وسواء كان قنًّا أو مدبرًا أو معتقًا لأجل، وأما المبعض فهو في يوم نفسه كالحر وفي يوم سيده محجور عليه إلا إذا أذن له (إلا بإذن) له في التجارة".
(3)
أخرجه الدارقطني في سننه (5/ 413) عن ابن شهاب، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه. وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1435).
(4)
سيذكرها المؤلف بعد. وهذه القصة أخرجها البخاري (2395) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن أباه قتل يوم أحد شهيدًا، وعليه دين، فاشتد الغرماء في حقوقهم، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم أن يقبلوا تمر حائطي ويحللوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطي، وقال:"سنغدو عليك"، فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة، فجددتها، فقضيتهم، وبقي لنا من تمرها.
فالمالكية
(1)
، والإمام أحمد في رواية يرون أنها لا تتصرف في أموالها فيما زاد على الثلث إلا بشرط أن يكون مقابل عوض
(2)
، أما إذا لم يكن مقابل عوض فإن ذلك لا يجوز.
* قوله: (وَسَيَأْتِي ذِكْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي بَابِهِ).
* قَوْله: ([البَابُ الثَّانِي: مَتَّى يَخْرُجُونَ مِنَ الحَجْرِ، وَمَتَى يُحْجَرُ عَلَيْهِمْ، وَبِأَيِّ شُرُوطٍ يَخْرُجُونَ]).
الصغير والمجنون يُحجر عليهما، وكذلك السفيه، لكِنْ متى يتم الحَجْر ومتى ينتهي؟ وهل للنهاية علامات ذكرها الله سبحانه وتعالى؟ وفيما يتعلق بإيناس الرشد خلافٌ بين العلماء، هل المراد بإيناس الرشد هو الصلاح في المال، أو الصلاح في الدين (يعني: ألَّا يكون فاسقًا)؟
* قوله: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا البَابِ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي وَقْتِ خُرُوجِ الصِّغَارِ مِنَ الحَجْرِ، وَوَقْتِ خُرُوجِ السُّفَهَاءِ).
بَيَّنَ الله سبحانه وتعالى ذلك غاية البيان، فقال:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} بعد أن قال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6]، فالآية أشارت إلى أمرين، هما:
(1)
يُنظر: "المدونة"(4/ 117)، قال:"قلت: أرأيت المريض إذا تكفل بكفالة، أتجوز كفالته؟ قال: ذلك جائز في ثلثه. ألا ترى أن مالكًا قد قال في المرأة، تكون تحت الزوج فتتكفل بكفالة: إن ذلك في ثلثها إذا لم تجاوز الثلث؛ لأنها محجورة عن جميع مالها وكذلك المريض قد حجر عنه جميع ماله، وإنما يجوز له من ماله الثلث".
(2)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (4/ 348)، قال:"وظاهر كلام الخرقي أن للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله، بالتبرع، والمعاوضة. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر. وعن أحمد رواية أخرى، ليس لها أن تتصرف في مالها بزيادة على الثلث بغير عوض، إلا بإذن زوجها. وبه قال مالك". وانظر في مسألة المريض: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى ابن الفراء (2/ 24).
الأوَّل: بلوغ النكاح.
وَالثَّانِي: إيناس الرشد.
* قوله: (فَنَقُولُ: إن الصِّغَارَ بِالجُمْلَة صِنْفَانِ: ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ).
أَيْ: إن الصغار لا يخلون من وصفين: أن يَكُونوا ذكورًا أو إناثًا، ومراد المؤلف من تقسيمهم إلى قسمين أن يُبيِّن:
1 -
هل هناك فرق بين الذكر وبين الأنثى؟ فمن العلماء من خالف في الأنثى كما سيأتي.
2 -
هل هناك فرق بين وصي الأب ومَنْ له وصي غير الأب، ومن لا وصي له الذي سمَّاه المؤلف بالمهمل؟ وهل يترك مهملًا أو أن السلطان ولي مَنْ لا ولي له كما جاء في الحديث
(1)
؟
لذلك، قال المؤلِّف رحمه الله:
(وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِمَّا ذُو أَبٍ، وَإِمَّا ذُو وَصِيٍّ، وَإِمَّا مُهْمَلٌ، وَهُمُ الَّذِينَ يَبْلُغُونَ وَلَا وَصِيَّ لَهُمْ وَلَا أَبٌ، فَأَمَّا الذُّكُورُ الصِّغَارُ ذَوُو الآبَاءِ: فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ الحَجْرِ إِلَّا بِبُلُوغِ سِنِّ التَّكلِيفِ، وَإينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُمْ)
(2)
.
وأن يأذن له أبوه أيضًا، وما سيأتي في الوصي بأن يتصرف، ويسبق ذلك الاختبار.
(1)
أخرجه أبو داود (2083) وغيره؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ -ثلاث مرات- فَإِنْ دَخَلَ بِهَا، فَالمَهْرُ لَهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا، فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَليُّ مَنْ لَا وَليَّ لَهُ"، وَصَححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود"، الأم (6/ 320).
(2)
يُنظر: "اختلاف الأئمة العلماء" لابن هبيرة (1/ 426) حيث قال: "واتفقوا على أن الغلام إذا بلغ غير رشيد لم يسلم إليه".
هل الاختبار قبل سن البلوغ أو بعده؟
يُفْهم من الآية أنه قبل ذلك: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] فلا يزال هذا الصغير يحمل اسم اليتيم، إذًا، هو قبل ذلك؛ لأن الله سماهم يتامى في وقت الابتلاء، فإنْ كان أبوه غنيًّا، فإنه يُعْطى الفرصة ليبيع ويشتري ويماكس
(1)
، وإذا كان أبوه من أصحاب المناصب، ولا يشتغل بالتجارة، فإنه يجرب في أمورٍ أخرى، وسيأتي بالنسبة للمرأة أنها تُعطى شيئًا من النفقة لتتصرف فيها، ليُرى هل هي كَيِّسَة تُحْسن إدارة الأموال والتصرف فيها وعدم تضييعها أو لا؟
* قوله: (وَإنْ كَانُوا قَد اخْتَلَفُوا فِي الرُّشْدِ مَا هُوَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]).
قد يسأل سائل فيقول: الآية واضحة، فلماذا هذا الخلاف بين الفقهاء؟ فالله تعالى قال:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6]، إذًا، هناك ابتلاء، ثم قال:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، فلماذا هذا التفصيل وهذه الخلافات؟
والجواب: إن هذا اجتهاد من الفقهاء رحمهم الله، وتحرٍّ، وبذل الجهد لمصلحة هذا الصغير حرصًا منهم على حفظ أمواله، وعدم تضييعها، وعدم التفريط فيها؛ لأن الأذى سيلحقه.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الإِنَاثِ، فَذَهَبَ الجُمْهُورُ).
(1)
" المماكسة" هو طلب النقصان عما طلبه البائع، وطلب الزيادة على ما يبذله المشتري. انظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 138) ".
أبو حنيفة
(1)
، والشافعي
(2)
، وأحمد
(3)
.
* قوله: (إلى أن حُكْمَهُنَّ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الذُّكُورِ -أَعْنِي: بُلُوغَ المَحِيضِ، وَإينَاسَ الرُّشْدِ-).
" بلوغ المحيض": يعني أن تبلغ المرأة، وقد ذكرنا قَبْلُ العلامات الخمس بالنسبة للأنثى، والثلاث بالنسبة للذكر التي يشترك فيها مع الأنثى.
* قَوْله: (وَقَالَ مَالِكٌ
(4)
: هِيَ فِي وِلَاية أَبِيهَا -فِي المَشْهُورِ عَنْهُ- حَتَّى تتزَوَّجَ، وَيَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا، وَيُؤْنَسَ رُشْدُهَا).
إذًا، هناكَ ثَلاثَةُ شُرُوطٍ عند مالكٍ رحمه الله:
أوَّلها: أن تتزوج، أي: يتم العقد.
(1)
ينظر "المختصر" للقدوري (ص 96)؛ حيث قال: "وبلوغ الغلام الاحتلام والإحبال والإنزال إذا وطئ، فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم له ثماني عشرة سنة عند أبي حنيفة، وبلوغ الجارية بالحيض والاحتلام والحبل، فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم لها سبع عشرة سنة. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا تم للغلام والجارية خمس عشرة سنة، فقد بلغا، وإذا راهق الغلام والجارية وأشكل أمرهما في البلوغ وقالا: قد بلغنا، فالقول قولهما، وأحكامهما أحكام البالغين".
(2)
ينظر "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 135) حيث قال: " (وتزيد المرأة حيضًا) لوقت إمكانه على ما ذكر من السن، وخروج المني، ونبات العانة الشامل لها كما مر (وحبلًا) كذا قاله جمعٌ من الأصحاب".
(3)
ينظر "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 443)؛ حيث قال: " (وتزيد الجارية) على الذَّكر بشيئين (بالحيض)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلَاةَ حَائِضٍ إلا بخمارٍ"، رواه الترمذي وحَسَّنه (والحمل لأن حملها دليل إنزالها، فيحكم ببلوغها منذ حملت)؛ لأنَّ الله تعالى أجرى العادة بخلق الولد من مائهما".
(4)
ينظر "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 67)؛ حيث قال: "والمشهور في البكر ذات الأب أنها لا تخرج من ولاية أبيها، ولا تجوز أفعالها وإن تزوجت حتى يشهد العدول على صلاح أمرها".
والثاني: أن يدخل بها زوجها.
والثالث: أن يؤنس بها رشدها؛ أعني: يظهر بعد زواجها أنها أهلٌ لأنْ تتصرف .. هذه شروط ذكرت عن الإمام مالك رحمه الله.
وعن أحمد رواية أخرى
(1)
: أنه لا بد من أن تتزوَّج، وأن يمرَّ عليها عام بعد زواجها، أو أن تلد؛ لأنَّه إذا مرَّ عليها عام، وجربت بيت الزوجية، وأدركت المسؤولية وأحست بها، وإذا ولدت أيضًا سيكون لها طفل، فهي سترعاه وتدرك أهمية ذلك، وتحس بالمسؤولية أيضًا، قالوا: وهذا (أي: قول أحمد في هذه الرواية) أُثر عن عمر رضي الله عنه أنه وجه القاضي شريحًا بذلك
(2)
، هذه حجة الذين قالوا بهذا القول، لكن الجمهور خالفوا وقالوا: إن الآية صريحة في ذلك، فذكرت البلوغ وإيناس الرشد، وهي عامة تشمل الذكر والأنثى.
* قوله: (وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ الجُمْهُورِ)
(3)
.
إذًا، الإمَام مالكٌ رحمه الله له قولٌ آخر -وإنْ لم يكن مشهورًا- يتفق فيه مع الجمهور، وأحمد في المشهور عنه مع أبي حنيفة والشافعي، وله قول آخر اقتداءً بما أُثِرَ عن عمر رضي الله عنه، وأبو حنيفة والشافعي ليس لهما إلا قولٌ واحدٌ، وهو أنه لا فرق بينهما.
(1)
ينظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 322) حيث قال: "وعنه (أي: عن أحمد) لا يدفع إلى الجارية مالها ولو بعد رشدها حتى تتزوج وتلد، أو تقيم في بيت الزوج سنةً؛ اختاره جماعةٌ من الأصحاب، منهم: أبو بكرٍ، والقاضي، وابن عقيل في "التذكرة"، والشيرازي في "الإيضاح".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(11/ 189) عن إسماعيل بن أبي خالد، وزكريا بن أبي زائدة عن الشعبي، عن شريح: قال لي عمر: إني لا أجيز عطية جارية حتى تحول في بيتها حولًا، أو تلد ولدًا. قال إسماعيل: قلت للشعبي: أرأيت إن عنست يجوز؟ قال: نعم.
(3)
يُنظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (5/ 67)؛ حيث قال:"قيل في ذات الأب: إنها تخرج بالحيض من ولاية أبيها".
* قَوْله: (وَلأَصْحَابِ مَالِكٍ فِي هَذَا أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ، قِيلَ: إِنَّهَا فِي وِلَاية أَبِيهَا حَتَّى يَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ بَعْدَ دُخُولِ زَوْجِهَا بِهَا)
(1)
.
هذه قريبٌ مما قال به الإمام أحمد رحمه الله، ولعلهم أَخَذوا ذلك مما
أُثِرَ عن عمرَ رضي الله عنه أيضًا.
* قوله: (وَقِيلَ: حَتَّى يَمُرَّ بِهَا عَامَانِ، وَقِيلَ: حَتَّى تَمُرَّ بها سَبْعَةُ أَعْوَامٍ)
(2)
.
لَكنَّ المؤلف رحمه الله سيضعف هذين القولين؛ إذْ لا دليلَ عليهما.
* قوله: (وَحُجَّةُ مَالِكٍ: أن إينَاسَ الرُّشدِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنَ المَرأة إِلَّا بَعْدَ اخْتِبَارِ الرِّجَالِ. وَأَمَّا أَقَاوِيلُ أَصْحَابِهِ، فَضَعِيفَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلنَّصِّ، وَالقِيَاسِ).
إذْ لا أساس لها، لكنَّ مالكًا رحمه الله له وجهة نظر من المصلحة، وأحمد في قوله الآخر اعتمد على ما أثر عن عمر رضي الله عنه، وأما القولان الأخيران للمالكية فلا دليل عليهما، ولذلك ضعفهما المؤلف رحمه الله.
* قوله: (أَمَّا مُخَالَفَتُهَا للنَّصِّ: فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا الرُّشْدَ، وَأَمَّا مُخَالَفَتُهَا لِلْقِيَاسِ: فَلأنَّ الرُّشْدَ مُمْكِنٌ تَصَوُّرُهُ مِنْهَا قَبْلَ هَذِهِ المُدَّةِ المَحْدُودَةِ).
قَدْ يحصلُ الرشد للفتاة قبل المدة التي حدَّدوها، وحتى نضع مدةً محددةً نحتاج إلى دليلٍ، أو أن تُثبت التجربةُ ذلك.
(1)
قال ابن الحاجب: "وفي الأنثى أن تتزوج، ويدخل بها على المشهور، ثم تبتلى بعده سنةً". انظر: "جامع الأمهات"(ص 385).
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 67)؛ حيث قال: "وقد اختلف في هاتين اختلافًا كثيرًا، فقيل في ذات الأب: إنها تخرج بالحيض من ولاية أبيها، وقيل: إنها لا تخرج بها حتى تتزوج ويمر بها عام ونحوه بعد الدخول، وقيل: عامان. وقيل: سبعة. وقيل: لا تخرج، وإنْ طالت إقامتها مع زوجها حتى يشهد العدول على صلاح حالها. وقيل: تخرج بالتعنيس، وإنْ لم يدخل بها زوجها".
* قَوْله: (وَإِذَا قُلْنَا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ لَا عَلَى قَوْلِ الجُمْهُورِ: إن الِاعْتِبَارَ فِي الذُّكُورِ ذَوِي الآبَاءِ البُلُوغُ، وَإِينَاسُ الرُّشْدِ، فَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ إذا بَلَغَ وَلَمْ يُعْلَمْ سَفَهُهُ مِنْ رُشْدِهِ، وَكَانَ مَجْهُولَ الحَالِ: فَقِيلَ عَنْهُ: إنَّه مَحْمُولٌ عَلَى السَّفَهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ رُشْدُهُ، وَهُوَ المَشْهُورُ. وَقِيلَ عَنْهُ: إنَّه مَحْمُولٌ عَلَى الرُّشْدِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ سَفَهُهُ)
(1)
.
والأخير هو رَأْي جمهور الفقهاء
(2)
؛ لأن الأصل فيه السلامة، وأن يُحْمل على الرشد حتى يتبين منه سفهه.
* قوله: (فَأَمَّا ذَوُو الأَوْصِيَاءِ
(3)
: فَلَا يَخْرُجُونَ مِنَ الوِلَاية فِي المَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ إِلَّا بِإِطْلَاقِ وَصِيِّهِ لَهُ مِنَ الحَجْرِ)
(4)
.
(1)
ينظر "شرح مختصر خليل" للخرشي (7/ 111)، حيث قال:"ويختلف في مجهول الحال، هل يحمل على الرشد بنفس البلوغ أو على السفه حتى يتبين الرشد؛ قولان".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مجمع الأنهر" لشيخي زاده (2/ 439) حيث قال: " (ومن بلغ غير رشيد) وهو لا ينفق ماله فيما يحل، ولا يمسك عما يحرم، ويتصرف فيه بالتبذير والإسراف إلا يسلم إليه ماله) بالإجماع لبقاء أثر الصبا، فلو بلغ رشيدًا ثم صار سفيهًا لا يمنع المال عنه؛ لأنه ليس بأثر الصبا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (2/ 206): " (وينقطع الحجر عن الصبي بالبلوغ رشيدًا) بغير فك لآية {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}، ومنهم من قال بالبلوغ، قال في الأصل: وليس هذا اختلافًا محققًا، بل مَنْ قال بالأول أراد الإطلاق الكلي، ومَنْ قال بالثاني أراد حجر الصبا، وهذا أولى؛ لأن الصبا سبب مستقل بالحجر، وكَذَا التبذير، وأحكامهما متغايرة، ومَنْ بلغ مبذرًا، فحكم تصرفه حكم تصرف السفيه لا حكم تصرف الصبي".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الروض المربع" للبهوتي (ص 390) حيث قال: " (ولا ينفك الحجر) عنهم (قبل شروطه) السابقة بحال ولو صار شيخًا".
(3)
"الوَصِيُّ": من يوصى لَهُ، وَمن يقوم على شؤون الصَّغِير. انظر:"المعجم الوسيط"(2/ 1038)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 662).
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 296)؛ حيث قال: "والحاصل أن ذا الأب لا يحتاج إلى فك من أبيه بخلاف ذي الوصي والمقدم، فيحتاج إليه".
يعني يأذن له وصيُّه في التصرف، فيقول له وصيُّه: انطلق، بعد أن يُختبر.
* قوله: ((أَيْ: يَقُولُ فِيهِ: إنَّه رَشِيدٌ) إنْ كَانَ مُقَدَّمًا مِنْ قِبَلِ الأَبِ بِلَا خِلَافٍ
(1)
، أو بِاِذْنِ القَاضِي مَعَ الوَصِيِّ إنْ كَانَ مُقَدَّمًا مِنْ غَيْرِ الأبِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ
(2)
. وَقَدْ قِيلَ فِي وَصِيِّ الأَبِ: إنَّه لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي أنَّه رَشِيدٌ إِلَّا حَتَّى يُعْلَمَ رُشْدُهُ
(3)
، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ حَالَهُ مَعَ الوَصِيِّ كحَالِهِ مَعَ الأَبِ يُخْرِجُهُ مِنَ الحَجْرِ إذَا آنَسَ مِنْهُ الرُّشْدَ، وإنْ لَمْ يُخْرِجْهُ وَصِيُّهُ بِالإِشْهَادِ، وإنَّ المَجْهُولَ الحَالِ فِي هَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ المَجْهُولِ الحَالِ ذِي الأَبِ. وَأَمَّا ابْنُ القَاسِمِ
(4)
فَمَذْهَبُهُ أنَّ الوِلَايةَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ثُبُوتُهَا إذا عُلِمَ الرُّشْدُ، وَلَا سُقُوطُهَا إذا عُلِمَ السَّفَهُ، وَهِيَ روَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ فِي اليَتِيم لَا فِي البِكْرِ. وَالفَرْقُ بَيْنَ المَذْهَبَيْنِ: أنَّ مَنْ يَعْتَبِرُ الوِلَاية يَقُولُ: أَفْعَاُلهُ كُلُّهَا مَرْدُودَةٌ وَإنْ ظَهَرَ رُشْدُهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الوِلَايَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 296)؛ حيث قال: "ولا يحتاج الفك منهما إلى إذن القاضي، وصورة الفك أن يقول للعدول: اشهدوا أنِّي فككت الحجر عن فلان محجوري، وأطلقت له التصرف، وملكت له أمره لما قام عندي من رشده وحفظه لماله".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل"، للمواق (5/ 65)؛ حيث قال: "قول ابن زرب أن الوصي من قبل القاضي لا يطلق من الولاية إلا بإذن القاضي
…
وقال غير ابن زرب: مقدم القاضي يكفي إطلاقه كوصي الأبد".
(3)
يُنظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"(6/ 227)؛ حيث قال: "ثم الوصي الذي من قبل الأب له الإطلاق، ويصدق فيما يذكر من حاله، وإن لم يُعْرف ذلك إلا من قوله. وقال ابن القاسم في "العتبية": لا يجوز إطلاقه إلا أن يتبين حاله، ويعرف رشده".
(4)
ينظر "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 68) حيث قال: "ذهب ابن القاسم -وهو القول الرابع- إلى أنه ينظر يوم بيعه إِنْ كان رشيدًا جازت أفعاله، وإنْ كان سفيهًا لم تجز".
أمَّا جُمْهور العلماء، فقَد عرفنا رأيهم: يُخْتبر هذا الصغير، لَكن هل يُخْتبر قُبَيل البلوغ كما هو عند الحنابلة أو بعد البلوغ كمَا هو عند الشافعية؟
{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6]، فسرها عبد الله بن عباس
(1)
رضي الله عنهما حَبْرُ القرآن بقوله: صلاح في أموالهم، فإذا تبين ذلك أنهى الأمر؛ سواء كان وصيه الأب أو غير الأب أو كان القاضي.
* قَوْله: (فَإِنَّ المُؤَثِّرَ هُوَ الرُّشْدُ لَا حُكْمُ الحَاكِمِ، وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الرُّشْدِ مَا هُوَ؟ فَإِنَّ مَالِكًا
(2)
يَرَى أنَّ الرُّشْدَ هُوَ تَثْمِيرُ المَالِ وَإِصْلَاحُهُ فَقَطْ).
مالك، وأحمد
(3)
، يريان أن المراد به: الرشد في المال، راشدًا في تصرفه في أمواله، {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] فسرها ابن عباس: صلاح في أموالهم.
* قَوْله: (وَالشَّافِعِيُّ
(4)
يَشْتَرِطُ مَعَ هَذَا صَلَاحَ الدِّينِ؛ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الرُّشْدِ عَلَى غَيْرِ صَالِحِ الدِّينِ؟).
الإمَامُ الشافعيُّ: يرى أن الرشدَ هو البعد عن السفه، والسفه يكون
(1)
انظر: "جامع البيان" للطبري (6/ 406)، وروي أيضًا عن الحسن البصري رحمه الله، انظر:"التفسير" لابن المنذر (2/ 568).
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 64) حيث قال: "إلى حفظ مال ذي الأب بعده"، هذا حد الرشد الذي لا يحجر على صاحبه باتفاق، واختلف في الذي يخرج به من الحجر، هل هو ذلك أيضًا؟ وُيزَاد فيه اشتراط حسن التنمية".
(3)
يُنظر: "شرح مُنْتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 444) حيث قال: " (والرشد: الصلاح في المال لا غير) في قول أكثر العلماء".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للرافعي (10/ 283) حيث قال: "وقد فَسَّره الشافعي بالصلاح في الدين مع إصلاح المال".
في الدين، فالذي لا يُؤْمن على دينه لا يُؤْمن على ماله، وأولئك يقولون: قد يكون الإنسان سفيهًا في دينه، قليل الصلاة، لا يُزكي، ويقصر في واجباته، لكنه من أحرص الناس على أمواله، ولذلك لما فسر ابن عباس الآية {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} ، قال: صلاحًا في أموالهم، وردوا على الشافعية بقولهم: هل يُحْجر على الكافر؟
(1)
قالوا: لا. قالوا: وهل هناك فسق وضلال أشد من ضلال الكافر؟! ومع ذلك فإنَّ الكافر يتصرف في ماله، فما دام يُحْسن التصرف في ماله، ويحسن إدارته ولا يضيعه، فيَكْفي في ذلك، أما أن يضيع دينه، فتلك مَسْألةٌ أخرى.
* قَوْله: (وَحَالُ البِكْرِ مَعَ الوَصِيِّ كَحَالِ الذَّكَرِ، لَا تَخْرُجُ مِنَ الوِلَاية إِلَّا بِالإِخْرَاجِ مَا لَمْ تَعْنَسْ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ).
يقصد بالبكر: الَّتي لم تبلغ بعد، ويعني بذلك أن الأنثى كحال الذَّكَر.
* قَوْله: (وَقِيلَ: حَالُهَا مَعَ الوَصِيِّ كحَالِهَا مَعَ الأَبِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ المَاجِشُون
(2)
. وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُمْ إنَّه لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الرُّشْدُ كاخْتِلَافِهِمْ فِي اليَتِيمِ. وَأَمَّا المُهْملُ مِنَ الذُّكُورِ فَإِنَّ المَشْهُورَ أنَّ أَفْعَالَهُ جَائِزَة إذا بَلَغَ الحُلُمَ كانَ سَفِيهًا مُتَّصِلَ السَّفَهِ، أو غَيْرَ مُتَّصِلِ السَّفَهِ، مُعْلِنًا بِهِ أو غَيْرَ مُعْلِنٍ).
(1)
قال ابن قدامة: "ثم هو منتقض بالكافر، فإنه غير رشيد، ولا يحجر عليه لذلك". انظر: "المغني"(4/ 351).
(2)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (ص 551) حيث قال: "وقد قيل: إن حاله مع الوصي كحاله مع الأب، وأنه يخرج من ولايته علم رشده، أو جهل حاله على الاختلاف المقدم، وهو ظاهر ما وقَع في كتاب الهبة والصدقة من المدونة؛ قوله: فقد مَنَعهم الله من أموالهم مع الأوصياء بعد البلوغ إلا بالرشد، فكيفَ مع الآباء الذين هم أملك بهم من الأوصياء، وإنما الأوصياء بسبب الاباء، ونحوه لابن الماجشون في الواضحة".
لا نُسَمِّيه مهملًا، ولكن نَقُول: إنسان لا وصيَّ له، فإنه حِينَئذٍ يُتَّخذ له وصي، أي: إنسان يرعى شؤونه، ويقوم عليها.
* قَوْله: (وَأَمَّا ابْنُ القَاسِمِ
(1)
فَيَعْتَبِرُ نَفْسَ فِعْلِهِ إذا وَقَعَ، فَإِنْ كَانَ رُشْدًا جَازَ وَإِلَّا رَدَّهُ).
وَهذَا هو الصحيح، وهو رأي جماهير العلماء
(2)
، فبعد بلوغه يُحْكم عليه في تَصرُّفاته، فإن كان هذا الذي لا وصيَّ له يتصرف تصرف العقلاء الراشدين؛ فإنه حينئذٍ يُنزَّل منزلتهم، وإن كان غير ذلك، فإنه يُرْفع أمره إلى القاضي، ويتولى شؤونه.
* قَوْله: (فَأَمَّا اليَتِيمَةُ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا، وَلَا وَصِيَّ: فَإِنَّ فِيهَا فِي المَذْهَبِ قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أنَّ أَفْعَالَهَا جَائِزَةٌ إذا بَلَغَتِ المَحِيضَ. وَالثَّانِي: أَفْعَالهَا مَرْدُودَةٌ مَا لَمْ تَعْنَسْ، وَهُوَ المَشْهُورُ
(3)
).
(1)
يُنْظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 68) حيث قال: "ذهب ابن القاسم إلى أنه ينظر يوم بيعه إِنْ كان رشيدًا جازت أفعاله، وإنْ كان سفيهًا لم تجز".
(2)
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 208) جث قال: "لا بد من الاختبار" لرشد الصبي في المال ليعرف رشده وعدم رشده
…
"ولو عاد" أي: صار بعد رشده "مبذرًا حجر عليه القاضي"، فلا يحجر عليه غيره كالأب والجد، ولا يعود بنفسه؛ لأنه في محل الاجتهاد".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 452) حيث قال: " (ومن بلغ سفيهًا واستمر (أو) بلغ (مجنونًا فالنظر) في ماله (لوليه قبله) أي: قبل البلوغ: من أب أو وصيه أو الحاكم لما تقدم.
(وإن فك عنه الحجر) بأن بلغ عاقلًا رشيدً (فعاوده السفه) أعيد الحجر عليه (أو جن) بعد بلوغه ورشده. (أعيد الحجر عليه)؛ لأن الحكم يدور مع علته".
(3)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 67) حيث قال: "وأما الأنثى المهملة السفيهة فلم يتعرض لها في هذا المختصر، ولم يذكر أيضًا بماذا تخرج من الحجر، وذكر في المقدمات في ذلك قولين: أحدهما أن أفعالها جائزة، وهو قول سحنون في "العتبية"، وقول غير ابن القاسم في "المدونة"، ورواية زياد عن مالك، والثاني أن أفعالها مردودة ما لم تعنس".
وهذا أيضًا فيه بُعْدٌ، وما لم تعنس فيه ضرر عليها ربما تصل الستين، وهي بعد داخلة في العنوسة، ومعنى "تعنس"؛ أي: يصيبها العنس، أيْ: تمضي السنوات ولم تتزوج، وما أكثرهن في هذا الزمان!
* قوله: (البَابُ الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ أَفْعَالِهِمْ فِي الرَّدِّ وَالإِجَازَةِ، وَالنَّظَرُ فِي هَذَا البَابِ فِي شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مَا يَجُوزُ لِصِنْفٍ صِنْفٍ مِنَ المَحْجُورِينَ مِنَ الأَفْعَالِ، وَإِذَا فَعَلُوا فَكَيْفَ حُكْمُ أَفْعَالِهِمْ فِي الرَّدِّ وَالإِجَازَةِ، وَكَذَلِكَ أَفْعَالُ المُهْملِينَ -وَهُمُ الَّذِينَ بَلَغُوا الحُلُمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا وَصِيٍّ، وَهَؤُلَاءِ كَمَا قُلْنَا: إِمَّا صِغَارٌ، وَإِمَّا كِبَارٌ مُتَّصِلُو الحَجْرِ مِنَ الصِّغَرِ، وَإِمَّا مُبْتَدَأٌ حَجْرُهُمْ).
سيبين لنا المؤلف رحمه الله حكم ما يحصل منهم من تصرفات، فإذا تصرف هؤلاء هل تنفذ تصرُّفاتهم أو لا؟
* قَوْله: (فَأَمَّا الصِّغَارُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَا المَحِيضَر مِنَ النِّسَاءِ، فَلَا خِلَافَ فِي المَذْهَبِ فِي أنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ فِي مَالِهِ مَعْرُوفٌ مِنْ هِبَةٍ، وَلَا صَدَقَةٍ، وَلَا عَطِيَّةٍ، وَلَا عِتْقٍ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الأَبُ فِي ذَلِكَ، أَو الوَصِيُّ، فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ يَدِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى نَظَرِ وَلِيِّهِ إِنْ كَانَ لَهُ وَلِيٌّ، فَإِنْ رَآهُ رُشْدًا أَجَازَهُ، وَإِلَّا أَبْطَلَهُ)
(1)
.
هذا هو مذهب الجمهور
(2)
عمومًا، وليس مذهبَ مَالِكٍ رحمه الله،
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 60) حيث قال: "لا اختلاف بين مالكٍ وأصحابه أن الصغير الذي لم يبلغ الحُلُم من الرجال، والمحيض من النساء لا يجوز له في ماله معروف من هبة، ولا صدقة، ولا عطية، ولا عتق، وإنْ أذن له في ذلك الأب، أو الوصي إن كان ذا أبٍ، أو وصي فإنْ باع، أو اشترى، أو فعل ما يشبه البيع والشراء مما يخرج عن عوض ولا يقصد فيه إلى معروف كان موقوفًا على نظر وليه، فإن رآه سدادًا أو غبطة أجازه وأنفذه".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (5/ 107) حيث قال: "أيْ: تصرف=
فهؤلاء الصِّغار ليس لهم أن يتصرفوا في مالهم، لا من هِبَةٍ، ولا عَطيَّةٍ، ولا غير ذلك مما يخرج من أموالهم؛ لأنَّه بهذا التصرف يُلْحق الضرر بنفسه، وهو غير مُدْرك، ولذلك تُلْغى هبته، وعطيته وبيعه وشراؤه إلى غير ذلك.
* قَوْله: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَليٌّ قُدِّمَ لَهُ وَليٌّ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، وإن عَمِلَ فِي ذَلِكَ -حَتَّى يَلِيَ أَمْرَهُ- كَانَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فِي الإِجَازَةِ، أو الرَّدِّ).
يَعْني: إذا لَم يكن له وليٌّ، يُوضَع له وليٌّ، والذي يضع إنما هو القاضي.
* قَوْله: (وَاخْتُلِفَ
(1)
إذَا كَانَ فِعْلُهُ سَدَادًا، وَنَظَرًا فِيمَا كَانَ يَلْزَمُ الوَلِيَّ أن يَفْعَلَهُ: هَلْ لَهُ أن يَنْقُضَهُ إذَا آلَ الأَمْرُ إلى خِلَافٍ بِحَوَالة الأَسْوَاقِ).
= تصرفًا يجوز عليه لو فعله وليه في صغره كبيع وشراء وتزوج، وتزويج أمته، وكتابة قنه ونحوه، فإذا فَعَله الصبي بنفسه يتوقف على إجازة وليه ما دام صبيًّا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 169) حيث قال: " (ووقته) أي: الاختبار (قبل البلوغ) لإناطة الاختبار في الآية باليتيم، وهو إنما يقع حقيقةً على غير البالغ، فالمختبر هو الولي كما مر، والمراد بقبله: قبيله حتى إذا ظهر رشده وبلغ سلم له ماله فورًا (وقيل بعده) لبطلان تصرف الصبي أي: بالنسبة لنحو البيع (فعلى الأول) المعتمد (الأصح) بالرفع (أنه لا يصح بيعه، بل يمتحن في المماكسة، فإذا أراد العقد عقد الولي) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 442) حيث قال: " (فلا يصح تصرفهم) أي: الصبي والمجنون والسفيه (في أموالهم ولا ذممهم قبل الإذن)؛ لأن تصحيح تصرفهم يفضي إلى ضياع مالهم، وفيه ضرر عليهم (ومن دفع إليهم) أو إلى أحدهم (ماله ببيع أو قرض رجع فيه ما كان باقيًا)؛ لأنه عين ماله".
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 61) حيث قال: "واختلف إذا كان فعله سدادًا نظرًا مما كان يلزم الولي أن يفعله هل له أن يرده وينقضه إنْ آل الأمر إلى خلاف ذلك بحوالة، أو نماء فيما باعه، أو نقصان فيما ابتاعه، أو ما أشبه ذلك، فالمشهور المعلوم في المذهب أن ذلك له، وقيل: إن ذلك ليس له".
يَعْني: باختلاف الأسعار، ربما يكون تَصرُّفه موافقًا لبعض ما يجري في الأسواق مخالفًا لما يجري في أخرى.
* قَوْله: (أَوْ نَمَاءٍ فِيمَا بَاعَهُ، أو نُقْصَانِ فِيمَا ابْتَاعَهُ، فَالمَشْهُورُ أنَّ ذَلِكَ لَهُ).
لكن عند الجمهور أن كُلَّ تصرُّفاته غير مقبولة ما لم يبلغ الحُلُم، هذا هو قول جمهور العلماء في هذه المسألة.
* قَوْله: (وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، وَيَلْزَمُ الصَّغِيرَ مَا أَفْسَدَ فِي مَالِهِ، مِمَّا لَمْ يُؤْتَمَنْ عَلَيْهِ).
إذا أفسد الصغير في ماله فهو يتحمله، وأيضًا لو أفسد في مال غيره، فهو المسؤول عنه، لكن لو أعطاه غيرُهُ شيئًا فتصرف فيه، فيبقى هذا الذي أعطَاه هو المسؤول عنه؛ سواء علم أو لم يعلم؛ لأنَّه مَحْجورٌ عليه، ولأن هذا من إرادة الذي أعطاه.
* قَوْله: (وَاخْتُلِفَ فِيمَا أَفْسَدَ وَكسَّرَ مِمَّا اوتُمِنَ عَلَيْهِ
(1)
، وَلَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ ورُشْدِهِ عِتْقُ مَا حَلَفَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي صِغَرِهِ وَحَنِثَ بِهِ فِي صِغَرِهِ).
هذه مَسألةٌ فيها خلاف، لكن هذا هو الأَوْلَى؛ لأنَّه عندما حصل منه ذلك لم يكن أهلًا للتصرُّف.
* قَوْله: (وَاخْتُلِفَ فِيمَا حَنِثَ فِيهِ فِي كبَرِهِ، وَحَلَفَ بِهِ فِي صِغَرِهِ، فَالمَشْهُورُ أنَّه لَا يَلْزَمُهُ
(2)
. وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ
(3)
: يَلْزَمُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِيمَا
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 61) حيث قال: "ويلزمه ما أفسد أو كسر مما لم يؤتمن عليه، واختلف فيما إذا أفسد وكسر مما اؤتمن عليه".
(2)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (8/ 232) حيث قال: "ولا يلزمه بعد بلوغه ورشده عتق ما حلف بحريته وحنث فيه حالة صغره؛ لأنه معروف في المال، والمشهور أنه لا يلزمه إن حنث بعد رشده نظرًا لوقوع السبب في حالة عدم الاعتبار".
(3)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 385) حيث قال: "قال ابن كنانة: إذا حنث بعد بلوغه لزمه ما حلف به من صدقةٍ أو عتقٍ، وليس له رده".
ادُّعِيَ عَلَيْهِ يَمِينٌ. وَاخْتُلِفَ إِذَا كَانَ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ: هَلْ يَحْلِفُ مَعَهُ؟ فَالمَشْهُورُ أنَّهُ لَا يَحْلِفُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ أنَّه يَحْلِفُ
(1)
. وَحَالُ البِكْرِ ذَاتِ الأَبِ وَالوَصِيِّ كَالذَّكَرِ مَا لَمْ تَعْنَسْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَعْتَبِرُ تَغنِيسَهَا).
وقَدْ رأينا أنَّ الجمهورَ لا يعتبر ذلك، وأن هذا فيه ضرر عليها، وقلنا: ربما لا تتزوج فتبقى معلقةً من أن تتصرف في أموالها.
* قوله: (فأَمَّا السَّفِيهُ البَالِغُ).
السفيه
(2)
البالغ هو الحر المكلَّف، أعني: لا يقصد به المملوك؛ لأن المملوك لا يتصرف في ماله؛ لأنَّه ليس له مال، ولذلك عندما يُبَاع من قِبَلِ سيده، فماله لسيده إلا أن يشترط ذلك المبتاع؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:"من باعِ عبدًا له مال، فمالُهُ لسيده إلا أن يشترطه المبتاع"
(3)
، وسُمِّي سفيهًا؛ لأنَّه لم يكن أهلًا رشيدًا لأنْ يتصرف في ماله.
* قَوْله: (فَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ
(4)
عَلَى أنَّ المَحْجُورَ إذا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ،
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (2/ 347) حيث قال: "اختلف إذا كان له شاهد واحد، هل يحلف مع شاهده لم لا؟ فالمشهور أنه لا يحلف، ويحلف المدعى عليه، فإن نكل غرم -ولم يكن على الصغير يمين- إذا بلغ، وإن حلف برئ - إلى بلوغ الصغير فإذا بلغ حلف وأخذ حقه، وإن نكل لم يكن له شيء، ولا يحلف المدعى عليه ثانية، وقد روي عن مالك والليث أنه يحلف مع شاهده، ولا شيء عليه فيما بينه وبين الله من الحقوق والأحكام".
(2)
أصل السفه: الخفة، ومعنى السفيه: الخفيف العقل سيئ التصرف، وسمي سفيهًا لخفة عقله. انظر:"تهذيب اللغة" للجوهري (6/ 81)، و"المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 271، 272).
(3)
أخرجه البخاري (2379).
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (6/ 148) حيث قال: "وعندهما يحجر على الحر بالسفه و) الغفلة و (به) أيْ: بقولهما (يفتى) صيانةً لماله، وعلى قولهما المفتى به (فيكون في أحكامه كصغير)، ثم هذا الخلاف في تصرفات تحتمل=
أو خَالَعَهَا مَضَى طَلَاقُهُ، وَخُلْعُهُ، إِلَّا ابْنَ أَبِي لَيْلَى، وَأَبَا يُوسُفَ
(1)
، وَخَالَفَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فِي العِتْقِ
(2)
فَقَالَ: إنَّه يَنْفُذُ. وَقَالَ الجُمْهُورُ
(3)
: إنه لَا يَنْفُذُ).
وَخَالَفه الجُمْهورُ فقالوا: لا ينفذ، ولا ينفذ العتق؛ لأنَّه إذا أعتق عبدًا من عبيده، أخرج جزءًا من ماله، فأضرَّ بنفسه، وهو ممنوع من أَنْ يتصرف في ماله، ولذلك لا ينفذ العتق.
= الفسخ ويبطلها الهزل، وأما ما لا يحتمله ولا يبطله الهزل فلا يحجر عليه بالإجماع، فلذا قال:" إلا في نكاح وطلاق وعتاق واستيلاد وتدبير".
ومذهب الشافعية، يُنظر:" أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 210) حيث قال: "يصح طلاقه ورجعته وخلعه) ولو بدون مهر المثل (وظهاره ونفيه النسب) بلعانٍ أو غيره ونحوها؛ لأنها ما عدا الخلع لا تعلق لها بالمال الذي حجر لأجله، وأما الخلع فكالطلاق بل أولى، وهو خاص بالرجل للمعنى المذكور".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(2/ 133) حيث قال: "وإنْ أقر المحجور عليه بما يوجب حدًّا أو قصاصًا، أو طلق زوجته لزمه ذلك ".
(1)
يُنظر: "المعاني البديعة" للريمي (1/ 532) حيث قال: " عند الشافعي وعامة أهل العلم يصح طلاق السفيه وخلعه، ولا ينفذ عتقه. وعند ابن أبي ليلى والنخعي وأبي يوسف لا يصح طلاقه ".
(2)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (6/ 250) حيث قال: " إذا حجر عليه القاضي، لم يكن له أن يهب من ماله، ولا يبيع ولا يتلف، وبه قال ابن أبي ليلى. وقال يعقوب مثلما قال ابن أبي ليلى ما خلا العتاقة في الحجر".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (6/ 148) حيث قال: (وعندهما يحجر على الحر بالسفه و) الغفلة و (به) أي: بقولهما (يفتى) صيانةً لماله، وعلى قولهما المفتى به (فيكون في أحكامه كصغير)، ثم هذا الخلاف في تصرفات تحتمل الفسخ ويبطلها الهزل، وأما ما لا يحتمله ولا يبطله الهزل، فلا يحجر عليه بالإجماع، فلذا قال:(إلا في نكاح وطلاق وعتاق واستيلاد وتدبير).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 171) حيث قال: " (ولا يصح من المحجور عليه لسفه بيع) ولو بغبطة (ولا شراء) ولو في الذمة لمنافاة الحجر (ولا إعتاق) في حال حياته لو بعوض كالكتابة".
وينظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 395) حيث قال: " في صحة عتق السفيه روايتان ".
قوله: (وَأَمَّا وَصِيَّتُهُ: فَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي نُفُوذِهَا)
(1)
.
لأن الوصية هي تصرف في المال، ومثلها التدبير، والتدبير: هو أن يعلق عِتْقَ عبده إلى بعد وفاته، فهذه ليس فيها ضرر عليه، إنما فيها فائدة له؛ لأنَّه إذا أوصى أو دبر عبدًا، فإنه يُثَاب على هذا العمل، وهي قربةٌ يُتَقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، وهي لا تضر به في حياته؛ لأن ذلك سيحصل بعد موته، فهو لم يتصرَّف في ذلك في وقت حياته وبعد الممات استغنى عن ذلك، فله ذلك كالحال بالنسبة لغير السفيه، ولذلك تجوز وصيته وتدبيره.
قوْله: (وَلَا تَلْزَمُهُ هِبَةٌ، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَا عَطِيةٌ، وَلَا عِتْقٌ، وَلَا شَيءٌ مِنَ المَعْرُوفِ إِلَّا أن يُعْتِقَ أُمَّ وَلَدِهِ، فَيَلْزَمُهُ عِتْقُهَا
(2)
، وَهَذَا كُلُّهُ فِي المَذْهَبِ).
وهذَا هو رأي جماهير العلماء
(3)
، وقد صدَّر المسألة بذلك.
قال: (وَهَلْ يَتْبَعُهَا مَالُهَا؟ فِيهِ خِلَافٌ: قِيلَ: يَتْبَعُ، وَقِيلَ: لَا يَتْبَعُ، وَقِيلَ بِالفَرْقِ بَيْنَ القَلِيلِ وَالكَثِيرِ
(4)
، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ بِعِوَضٍ؛ فَهُوَ أَيْضًا مَوْقُوفٌ عَلَى نَظَرِ وَليِّهِ إنْ كَانَ لَهُ وَليٌّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَليٌّ، قُدِّمَ
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 77، 78)، قال: وقال مالك: الأمر المجتمع عليه أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانًا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (4/ 359) حيث قال: " ولا يصحُّ عتق السفيه إلا لأم ولده؛ لأنه ليس له فيها إلا الاستمتاع ويسير الخدمة".
(3)
تقدم في أول المسألة.
(4)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (6/ 327) حيث قال: " نقل في التوضيح في باب الحجر في ذلك ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث بين اليسير، والكثير، ونقلها غيره، وعزا اللخمي الثالث لابن القاسم، وقال: إنه الأشبه ذكره في الحجر، والقول الثاني: أنه لا يتبعها مالها، وَإنْ لم يستثنه. قال ابن رشد في رسم العتق من سماع أشهب: هو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب ".
لَهُ وَلِيٌّ، فَإِنْ رَدَّ بَيْعَهُ الوَلِيُّ، وَكانَ قَدْ أَتْلَفَ الثَّمَنَ لَمْ يُتْبعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَكذَلِكَ إنْ أَتْلَفَ عَيْنَ المَبِيعِ).
يَعْني: مقابل عِوَضٍ، وليس كالهبة، فإنَّ الهبة لا يقابلها عوض إلا هبة الثواب، لكن إذا كان بعوض، فهل يُوقَف تصرُّفه على موافقة وليه أو لا يجوز؟ لا يجوز عند الجمهور
(1)
؛ لأنَّه ممنوع التصرف.
قوله: (وَأَمَّا أَحْكَامُ أَفْعَالِ المَحْجُورِينَ أو المُهْملِينَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ).
هَذَا كلُّه استطرادٌ في مَذْهب مالكٍ سيَذْكره المؤلف رحمه الله يبين فيه أحكام المهملين، وهم عند غير المالكية كغيرهم يوضع لهم وليٌّ، وتكون تصرفاتهم في حدود ما يتعلق بالصغير إن كان المهمل صغيرًا، أمَّا ما يتعلق به إنْ كان ذكرًا أو أنثى على الخلاف في أن الأنثى تختلف عن الذَّكر، وأيضًا إنْ كان المهمل يُسمِّيه سفيهًا، ونحن نَقُول: ليس مهملًا.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (6/ 143): "وشرعًا منع من نفاذ تصرف قولي)، أَيْ: من لزومه، فإن عقد المحجور ينعقد موقوفًا، والنافذ أعم من اللازم قهستاني. وقدمنا ما فيه في الإكراه.
والحاصل أن المنع من ثبوت حكم التصرف فلا يفيد الملك بالقبض ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"منهاج الطالبين" للنووي (59) حيث قال: "ولا يصح من المحجور عليه لسفهٍ بيعٌ ولا شراءٌ ولا إعتاقٌ وهبةٌ ونكاحٌ بغير إذن وليه، فلو اشترى أو اقترض وقبض وتلف المأخوذ في يده أو أتلفه، فلا ضَمان في الحال ولو بعد فك الحجر؛ سواء علم حاله من عامله أو جهل، ويصح بإذن الولي نكاحه لا التصرُّف المالي في الأصح، ولا يصح إقراره بدينٍ قبل الحجر أو بعده، وكذا بإتلاف المال في الأظهر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 423) حيث قال: " (ولا يصح تصرفه فيه) أي: في ماله ببيع ولا غيره (حتى ما يتجدد له) أي: للمفلس (من مال) بعد الحجر، فحكمه كالموجود حال الحجر (من أرش جناية) عليه، أو على قنه.
(وإرث ونحوهما) كوصية وصدقة وهبة (ولو) كان تصرفه (عتقًا أو صدقة بشيءٍ، كثير أو يسير)، فلا ينفذ؛ لأنه ممنوع من التبرع لحق الغرماء فلم ينفذ عتقه ".
قَوْله: (فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ إلى أَرْبَع أَحْوَالٍ: 1 - فَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا مَرْدُودَةً، وإنْ كان فِيهَا مَا هُوَ رُشْدٌ. 2 - وَمِنْهُمْ ضِدُّ هَذَا، وَهُوَ أن تَكُونَ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا مَحْمُولةً عَلَى الرُّشْدِ، وإنْ ظَهَرَ فِيهَا مَا هُوَ سَفَهٌ. 3 - وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا مَحْمُولةً عَلَى السَّفَهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ رُشْدُهُ. 4 - وَعَكْسُ هَذَا أَيْضًا أن تَكُونَ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا مَحْمُولةً عَلَى الرُّشْدِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ سَفَهُهُ).
وهذا كله مبني على المصلحة عندهم، فليس هناك دليل على هذه التقسيمات، ولا هذه التفريقات، ولكنه غير بالغ، فيدخل ضمن الآية:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، وهي لم تفرق بين مَنْ له وصي، وبين مَنْ لا وصيَّ له، وإنما مَنْ له الوصي فإنَّ له الأصلَ، ومن لا وصي له، فإنه يوضع له وصي.
قوْله: (فَأَمَّا الَّذِي يُحْكَمُ لَهُ بِالسَّفَهِ، وإنْ ظَهَرَ رُشْدُهُ، فَهُوَ الصَّغِيرُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ، وَالبِكْرُ ذَاتُ الأَبِ).
إذَا ألْحَقهم كما قلنا عند الجمهور بالَّذين لهم وصيٌّ.
قوله: (وَالوَصِيِّ مَا لَمْ تَعْنَسْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَعْتَبِرُ التَّعْنِيسَ
(1)
. وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا مِنْ دُونِ الثَلَاثِينَ إلَى السِّتِّينَ)
(2)
.
إذا وصلت الستين انتهى أمرها.
(1)
عنست الجارية عنوسًا وعناسًا: طال مكثها في أهلها بعد إدراكها حتى خرجت من عداد الأبكار، ولم تتزوج قط. انظر:" القاموس المحيط" للفيروزآبادي (1/ 560).
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 67) حيث قال: "وقيل: إذا عنست، وإن لم تتزوج، واختلف في هذه من الثلاثين سنة ومما دون الثلاثين إلى الخمسين والستين ".
قوله: (وَالَّذِي يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الرُّشْدِ، وإنْ عُلِمَ سَفَهُهُ، فَمِنْهَا السَّفِيهُ إذا لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ وِلَايةٌ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ، وَلَا مِنْ قِبَلِ السُّلْطَان عَلَى مَشْهُورِ مَذْهَب مَالِكٍ، خِلَافًا لِابْنِ القَاسِمِ الَّذِي يَعْتَبِرُ نَفْسَ الرُّشْدِ لَا نَفْسَ الوِلَاية)
(1)
.
وهذا هو الأَوْلَى.
قَالَ: (وَالبِكْرُ اليَتِيمَةُ المُهْملَة عَلَى مَذْهَبِ سَحْنُونٍ
(2)
، وَأَمَّا الَّذِي يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ بِحُكْمِ مَا لَمْ يَظْهَرْ رُشْدُهُ، فَالِابْنُ بَعْدَ بُلُوغِهِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ عَلَى المَشْهُورِ فِي المَذْهَبِ
(3)
، وَحَالُ البِكْرِ ذَاتِ الأَبِ الَّتِي لَا وَصِيَّ لَهَا إذا تَزَوَّجَتْ، وَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ رُشْدُهَا، وَمَا لَمْ تَبْلُغِ الحَدَّ المُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ مِنَ السِّنِينَ عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ، وَكذَلِكَ اليَتِيمَةُ الَّتِي لَا وَصِيَّ لَهَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ أَفْعَالَهَا مَرْدُودَةٌ
(4)
.
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (1/ 89) حيث قال: " قال عيسى في السفيه: يبيع قبل أن يولى عليه. قال ابن كنانة وابن نافع وجميع أصحاب مالكٍ: إنَّ بيعَه جائز حتى يولى عليه إلا ابن القاسم قال: بيعه وقضاؤه لا يجوز؛ لأنه لم يزل في ولايةٍ منذ كان؛ لأن السلطان ولي لمن لا ولي له، فهو في ولايته حتى يولى عليه من يقوم بأمره ".
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 68) حيث قال: "وأما البكر المهملة دون أب ولا وصي فالمشهور أن خلعها لا يجوز، ولا شيء من أفعالها، وهو نص قول أصبغ في نوازله. من هذا الكتاب، ومن كتاب التخيير والتمليك، وذهب سحنون هنا إلى أن خلعها يجوز، وكذلك سائر أفعالها قياسًا على السفيه اليتيم الذي لا وَصِيَّ له ".
(3)
يُنظر: "مواهب الجليل"(5/ 65) حيث قال: "واختلف هل الولد محمول في حياة أبيه على الرشد أو السفه، والمشهور أنه محمول على السفه حتى يعلم رشده ".
(4)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (2/ 348) حيث قال: "حال البكر ذات الأب أو اليتيمة التي لا وصي لها - إذا تزوجت ودخل بها زوجها من غير حدٍّ، ولا تفرقة بين ذات الأب واليتيمة على رواية ابن القاسم عن مالك خلافًا لمن حد في ذلك حدًّا".
وَأَمَّا الحَالُ الَّتِي يُحْكَمُ فِيهَا بِحُكْمِ الرُّشْدِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ السَّفَهُ، فَمِنْهَا حَالُ البِكْرِ المُعَنِّسِ عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ التَّعْنِيسَ، أَو الَّتِي دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا وَمَضَى لِدُخُولِهِ الحَدُّ المُعْتَبَرُ مِنَ السِّنِينَ عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ الحَدَّ).
هذه فروعٌ في مذهب الإمام مالك رحمه الله، وليس هذا هو منهج المؤلف، ومذهبُ الجمهور يلتقي مع الآية.
قَوْله: (وَكَذَلِكَ حَالُ الِابْنِ ذِي الأَبِ إذا بَلَغَ وَجُهِلَتْ حَالُهُ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالِابْنَة البِكْرُ بَعْدَ بُلُوغِهَا عَلَى الرِّوَاية الَّتِي لَا تَعْتَبِرُ فِيهَا دُخُولَهَا مَعَ زَوْجِهَا، فَهَذِهِ هِيَ جُمَلُ مَا فِي هذا الكِتَابِ، وَالفُرُوعُ كَثِيرَةٌ)
(1)
.
" إذا بلغ ": فمن المعلوم أنه يُختبر، فإن عرف حسن تصرفه أُذِنَ له، وإنْ ظهر منه عكس ذلك، فإنه ينتظر حتى يثبت رشده أيْ: يثبت إيناس الرشد.
قَوْله:
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (2/ 350) حيث قال: " الذي لزمه هو المشهور في المذهب المعمول به، وقد قيل: إنَّ حاله مع الوصي كحاله مع الأب، وأنه يخرج من ولايته إذا علم رشده، أو جهل حاله على الاختلاف المتقدم ".
[كِتَاب التَّفْلِيسِ]
(1)
هذا التفليس أو الحجر الذي يحصل فيه إنَّما هو لمصلحة غير هذا الشخص، كما تَحدَّثنا في باب الحَجر عن الذي يُحْجر عليه لمصلحة نفسه، وهم: المجنون والصغير والسفيه، أما هذا فهو يُحْجر عليه لمصلحة غيره، فقد أخذ حقوق الناس، وَكَان يجب أن يُوفِّيها، لكنَّه أصبح مدينًا حينئذٍ، والناسُ يختلفون في ذلك، بعض الناس تصيبه عسرةٌ دون تقصيرٍ منه، فهذا معذور؛ كما قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وبعض الناس يأخذ حقوق الناس ولا يريد ردَّها، ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه:"مَنْ أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومَنْ أخذها يريد إتلافها، أتلفه الله سبحانه وتعالى "
(2)
، فلماذا سُمِّي المفلسُ مفلسًا؟
ذَكَر العلَماء
(3)
عدة أسباب استخلصوها من واقع المفلس، فبعضهم
(1)
"التفليس" لغةً: النداء على المفلس وشهره بصفة الإفلاس المأخوذ من الفلوس التي هي أخس الأموال، يقال: أفلس أي: صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير ويُسْتعمل مكان افتفر.
وشرعًا: جعل الحاكم المديون مفلسًا، يمنعه من التصرف في ماله. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 141)، و"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 183).
(2)
أخرجه البخاري (2387).
(3)
قال ابن قدامة في "المغني"(4/ 306): "وإنما سمي هذا مفلسًا؛ لأنه لا مال له إلا الفلوس، وهي أدنى أنواع المال
…
ويجوز أن يكون سمي بذلك لما يئول إليه من =
قال: سُمِّي مفلسًا؛ لأنَّه كان يتعامل بالدينار وبالدرهم والريالات، ونحوها، وأصبح يتعامل بالفلوس، والفلوس هي أدنى شيءٍ، أو لأنَّه لا يتصرف في ماله إلا بقدرٍ قليلِ وهي الفلوس، أو لأنَّه يُحْجر عليه بحيث لا يتصرَّف بماله في غير ما تكونَ هناك حاجة أو ضرورة لو بفلسٍ.
إذًا، ينتهي الأمر إلى أن حاله قد تغيرت، كان صاحب مِلْكٍ إلى أن أصبح لا يملك شيئًا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الكِتَابِ فِيمَا هُوَ الفَلَسُ، وَفِي أَحْكَامِ المُفْلِسِ، فَنَقُولُ: إنَّ الإِفْلَاسَ فِي الشَّرْعِ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أن يَسْتَغْرِقَ الدَّيْنُ مَالَ المَدِينِ، فَلَا يَكُونُ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِ. وَالثَّانِي: ألَّا يَكُونَ لَهُ مَالٌ مَعْلُومٌ أَصْلًا. وَفِي كِلَا الفَلَسَيْنِ قَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي أَحْكَامِهِمَا).
إنسانٌ له مالٌ، لكن ما عليه من الديون تستغرقه، وقد يكون إنسانٌ علَيه ديون ولا يُعرف له مال، وربما يكون عنده مال يخفيه كما هو موجود في مثل هذا الزمان عند بعض الناس ممن يماطلون.
قوْله: (فَأَمَّا الحَالَة الأُولَى وَهِيَ إذا ظَهَرَ عِنْدَ الحَاكِمِ مِنْ فَلَسِهِ مَا ذَكَرْنَا: فَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ هَلْ لِلْحَاكِمِ أن يَحْجُرَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ حَتَّى يَبِيعَهُ عَلَيْهِ، وَيُقَسِّمَهُ عَلَى الغُرَمَاءِ عَلَى نِسْبَةِ دُيُونِهِمْ، أَمْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؟).
على كل حال، الحاكم لا يتدخل في أمر ذلك إلا إذا رفع الغرماء أمره إليه، كما حصل ذلك مع معاذ بن جبل رضي الله عنه، وكذلك مع جابر بن عبد الله لما خلفه والده من ديون، فمثل هذا إذا رفع إلى الحاكم، فإنَّ
= عدم ماله بعد وفاء دينه، ويجوز أن يكون سمي بذلك؛ لأنه يمنع من التصرف في ماله، إلا الشيء التافه الذي لا يعيش إلا به، كالفلوس ونحوها ".
الحاكم يتَّخذ الإجراء، وإذا ما قرَّر الحاكم الحجرَ عليه، تقررت أمور أربعة:
أوَّلها: تعلُّق حقِّ الغرماء بماله.
ثانيًا: مَنْعه في التصرُّف في ماله، فليس له أن يتصرف بعد الحجر.
ثَالثًا: أنَّ مَنْ وجد متاعه بعينه، فهو أحقُّ به من غيره كما جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه
(1)
.
رابعًا: أن للحاكم أن يبيع عليه.
إذًا، هذه أمور أربعة تتقرر إذا أمر الحاكم أو إذا حجر عليه الحاكم.
قوْله: (بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ جَمِيعَ مَالِهِ عَلَى أَيِّ نِسْبَةٍ اتَّفَقَتْ، أو لِمَنِ اتَّفَقَ مِنْهُمْ).
المَسْألَة فيهَا قَوْلان:
* قول جمهور العلماء (مالك والشافعي وأحمد)
(2)
، يرون بأنه إذا رفع إلى الحاكم أمر المفلس، وتبين فلسه، وظهر ذلك للحاكم، فإنَّه يحجر عليه، ويأمره بدفع ما عنده من المال، ويوزع ذلك محاصة بين الغرماء أي: على حسب حصصهم يقسم بينهم حصصًا، وإن لم يفعل حينئذٍ يقوم الحاكم بالبيع عليه.
* أما أبو حنيفة، وهُوَ الذي انفرد بقوله عن الأئمة الأربعة يرى أنه لا يبيع الحاكم عليه، وإنما يحبس ويضيق عليه حتى يبيع ما عنده، فيتصرف في ماله بعد ذلك.
قوْله: (وَهَذَا الخِلَافُ بِعَيْنِهِ يُتَصَوَّرُ فِيمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَفِي بِدَيْنِهِ،
(1)
سيأتي ذكر هذه الروايات وتخريجها قريبًا.
(2)
سيأتي تفصيله في كلام المصنف قريبًا، ويأتي توثيقه كذلك.
فَأَبَى أن يُنْصِفَ غُرَمَاءَهُ، هَلْ يَبِيعُ عَلَيْهِ الحَاكِمُ فَيُقَسِّمُهُ عَلَيْهِمْ، أَمْ يَحْبِسُهُ حَتَّى يُعْطِيَهُمْ بِيَدِهِ مَا عَلَيْهِ؟ فَالجُمْهُورُ يَقُولُون: يَبِيعُ الحَاكِمُ مَالَهُ عَلَيْهِ، فَيُنْصِفُ مِنْهُ غُرَمَاءَهُ أو غَرِيمَهُ إنْ كَانَ مَلِيًّا، أَوْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالإِفْلَاسِ إِنْ لَمْ يَفِ مَالُهُ بِدُيُونِهِ وَبَحْجُرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
.
وكذلك أحمد
(3)
، قالوا أيضًا: وبعد الحكم عليه بالإفلاس، يُعْلن أمره حتى لا ينخدع به بعض الناس ويغرَّ به، فإنه ربما إذا لم يعلن أمره، ربما يتورط معه بعض الناس، فلا يدرون أنه أفلس، فيبيع معهم ويشتري، فينبغي أن تُعْلَن حاله.
قَوْله: (وَبِالقَوْلِ الآخَرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ العِرَاق، وَحُجَّةُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ).
أي: حُجَّة الجمهور.
قَوْله: (حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ
(5)
: " أَنَّه كَثُرَ دَيْنُهُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَزِدْ غُرَمَاءَهُ عَلَى أَنْ جَعَلَهُ لَهُمْ مِنْ مَالِهِ ").
(1)
يُنظر: "جامع الأمهات" لابن الحاجب (ص 381) حيث قال: "وإذا التمس الغرماء أو بعضهم الحجر على من ينقص ماله عن دينه الحال حجر عليه ".
(2)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 120) حيث قال: "مَنْ عليه ديون حالة زائدة على ماله يحجر عليه بسؤال الغرماء".
(3)
يُنظر: " الفروع " لابن مفلح (6/ 452) حيث قال: "من لزمه أكثر مما له يحرم طلب وحجر وملازمة بدين حالِّ عجز عن وفاء بعضه ".
(4)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 74) حيث قال: " قال أبو حنيفة: لا أحجر في الدَّين: وإذا وجبت الديون على رجل وطلب غرماؤه حبسه والحجر عليه، لم أحجر عليه، وإن كان له لم يتصرف فيه الحاكم، ولكن يحبسه أبدًا حتى يبيعه في دينه ".
(5)
أخرجه أبو داود في " المراسيل "(ص 162)، والحاكم (3/ 306) عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: كان معاذ بن جبل رضي الله عنه شابًّا حليمًا سمحًا من أفضل =
معاذ بن جبل هو الصحابي الجليل المعروف الذي بعثه رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وكان شابًّا من أفَاضل قومِهِ، وكان كريمًا سمحًا، فكان لا يبقى شيءٌ مما يقع في يده من المال حتى تجمَّعت عليه الديون وتراكمت، وأحاطت بماله، قال:"فَشكوت الغرمَاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وقد جاء في بعض الروايات: " لو قبل أحد في أحد لقبل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاذ "
(1)
؛ لأنَّه ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه أنْ يشفع له عند غرمائه لكنهم أبوا.
وقَدْ جاء في بعض الروايات: " أن غريمه من اليهود "
(2)
، ومعلوم شأن هؤلاء الأقوام، وأنهم عرفوا بجمع المال، "فَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم شفَّعه، فلم يقبل على أن ينظروا؛ لأنه طلب من اليهود أن ينظروه، فأبى، فمَا كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن باع ماله، فأخذ الغريم خمسة من سبعة".
وقد جَاء في بعض الروايات: " أن ذلك كان في السنة التاسعة من الهجرة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن ليجبره أي: يجبر ما حلَّ به من الدَّين؛ لأنَّه أصبح لا مَال له، فأرسله رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن "
(3)
.
هذا ما يتعلَّق بشأن معاذٍ رضي الله عنه، والشاهد في هذا الحديث أنَّ معاذًا كان رجلًا كريمًا ينفق ولا يرد أحدًا.
= شباب قومه، ولم يكن يمسك شيئًا، فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين، "فأتى النبي صلى الله عليه وسلم غرماؤه "، فلو تركوا أحدًا من أجل أحد لتركوا معاذًا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فباع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله حتى قام معاذ بغير شيء". قال ابن عبد الهادي في " تنقيح التحقيق " (3/ 27):"المشهور في الحديث الإرسال ".
(1)
لم أقف عليه.
(2)
لم أصل إليها.
(3)
أخرجه الحاكم (3/ 307) وفيه: "مكث أيامًا، ثم دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه إلى اليمن، وقال: "لعل الله أن يجبرك ويؤدي عنك دَينك "، قال: فخرج معاذ إلى اليمن، فلم يزل بها حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافى السنة التي حج فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه مكة"، وقال في "مجمع الزوائد" (4/ 144):"رجاله رجال الصحيح ".
قَوْله: (وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ
(1)
: " أنَّ رَجُلًا أُصِيبَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ فِي ثَمَرٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ "، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءً بِدَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ ").
فَهَذا رجلٌ أصيب في ماله، فطَلَب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس أن يتصدقوا عليه، فلم يُغطِّ ما جُمِعَ له ما عليه من الديون، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"خذوا ما عنده، وليس لكم إلا ذلك ".
قَوْله: (وَحَدِيثُ عُمَرَ
(2)
فِي القَضَاءِ عَلَى الرَّجُلِ المُفْلِسِ فِي حَبْسِهِ؛ وَقَوْلُهُ فِيهِ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الأُسَيْفِعَ (أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ) رَضِيَ مِنْ دَيْنِهِ وَأَمَانَتِهِ بِأَنْ يُقَالَ: سَبَقَ الحَاجَّ، وَأَنَّهُ ادَّانَ مُعْرِضًا، فَأَصْبَحَ قَدْ رِينَ عَلَيْهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا).
هذا الأثر أورده كثيرٌ من أصحاب كتب الحديث، منهم الإمام مالك والبيهقي في "السنن الكبرى"
(3)
، وغيرهم
(4)
، وهو أثر مشهور صحَّ عن عمر رضي الله عنه، فيه أن رجلًا من جهينة كان يفاخر بماله، فكان يسبق الحجاج فيشتري الرواحل، فيُغَالي في ثمنها، ثم يُسْرع السير يسبقهم إلى الحاج ليقال: إنَّ فلانًا سبق إلى الحج، فما كان منه إلا أن أفلس وأحاط به الدَّين، فرُفِعَ أمره إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقام في الناس خطيبًا، فَحَمد الله وأثنى عليه، ثم قال:" ألا إن الأسيفع أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته أن يقال: سبق الحاج، وإنه بذلك دان معرضًا - أيْ: أخَذ المال غير مهتمٍّ به، ولا مُبَالٍ به - وقد دين به "؛ أيْ: أحَاط الغرماء
(1)
أخرجه مسلم (1556).
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(8) قال الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1436): "وهذا إسناد محتمل للتحسين ".
(3)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(6/ 49).
(4)
كابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 536).
بماله، وأحاط الدَّين به، ثم طلب رضي الله عنه من الغرماء أن يأتوا إليه في الغد ليقسم ماله بينهم .. كان هذا يفعل ذلك للمفاخرة ليقال إنه سبق الحجاج.
قَوْله: (وَأَيْضًا مِنْ طَرِيقِ المَعْنَى: فَإِنَّهُ إذا كَانَ المَرِيضُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِمَكَانِ وَرَثَتِهِ، فَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ المَدِينُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِمَكَانِ الغُرَمَاءِ، وَهَذَا القَوْلُ هُوَ الأَظْهَرُ؛ لأنَّه أَعْدَلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
إذا كان المريض يُحْجر عليه من أن يتصرف بما زاد على الثلث لمصلحة الورثة، وهذا هو خَالص مَالِهِ، لَكن حتى لا يلْحق ضَررٌ بالورثة، فأَوْلَى أن يكونَ بالنسبة لهذا الذي يأخذ أموالَ الناس، أَوْلى أن يُمْنع من التَّصرُّف فيه إلا في حدود مرضه، فما بالكم بمَنْ يأخذ حقوق الناس، فيستدين منهم ويتصرف فيها، وقَوْل الجمهور هو الأظهر والأعدل، وهو الذي يلتقي مع النصوص التي وردت في ذلك، أما ما يستدل به الحنفية بعد ذلك، فهي حقيقة قابلة للمناقشة.
قوله: (وَأَمَّا حُجَجُ الفَرِيقِ الثَّانِي الَّذِينَ قَالُوا بِالحَبْسِ حَتَّى يُعْطِيَ مَا عَلَيْهِ أو يَمُوتَ مَحْبُوسًا).
الفريق الثاني هم الحنفية ومَنْ معهم، الذين قالوا: لَيْس للحاكم أن يحجرَ عليه، ولا أن يبيع أمواله، إنما للحاكم شيء واحد، وهو أن يحبسه حتى يرجع فيبيع ماله أو يبقى في الحبس.
قَوْله: (فَيَبِيعُ القَاضِي حِينَئِذٍ مَالَهُ، وَبُقَسِّمُهُ عَلَى الغُرَمَاءِ، فَمِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
(1)
حِينَ اسْتُشْهِدَ أَبُوهُ بِأُحُدٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ).
(1)
أخرجه البخاري (2396)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه أخبره: أنَّ أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقًا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر، فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له، فأبى، فدخل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم النخل، فمشى فيها، ثم قال لجابر:"جد له، فأوف له الذي له "، فجده بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوفاه ثلاثين وسقًا، وفضلت =
جابر بن عبد الله هو الصحابي الجليل أحد المكثرين من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى أكثر من ألف وخمس مئة حَدِيثٍ.
قَوْله: (فَلَمَّا طَالَبَهُ الغُرَمَاءُ قَالَ جَابِرٌ: "فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمْتُهُ، فَسَأَلَهُمْ أن يَقْبَلُوا مِنِّي حَائِطِي، وَيُحَلِّلُوا أَبِي، فَأَبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَائِطِي قَالَ: وَلَكِنْ سَأَغْدُو عَلَيْكَ، قَالَ: فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ بِالنَّخْلِ فَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالبَرَكَةِ، قَالَ: فَجَذَذْتُهَا، فَقَضَيْتُ مِنْهَا حُقُوقَهُمْ، وَبَقِيَ مِنْ ثَمَرِهَا بقيَّة").
هذَا الحَديث أورده البخاري في "صحيحه" رحمه الله تعالى، وجاء في بعض السنن
(1)
وعند أحمد
(2)
، وهو حديث مشهور.
وهذا هو جابر راوي الحديث، لكن القصة تتعلق بولد ووالده وهو عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي الأنصاري السلمي، وكان أوَّل شهيد في أُحُد، فإنَّه قتل في تلك المعركة، ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنه ابنه جابرًا عندما رآه يومًا يفكر وقد بدا عليه الهم، فسأله عن ذلك، فأَخْبَره بأن والدَه قد مات وترك له دينًا وتسعةً من النساء (أخواته)، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من تَأثُّر جابر قال:" ألا أخبرك بأن الله تعالى قد كلم أباك كفاحًا "
(3)
؛ أي: بلا واسطةٍ دون رسولٍ، ودون حجابٍ، فقال: "يا عبدي، تمنَّ عليَّ أعطك، فقال: يا رب، إنِّي أسألك أن تردَّنِي إلى الدنيا لأقتل فيها ثانيةً في سبيلك، فقال الله سبحانه وتعالى: إنه قد صدر القضاء مني بأنهم إليها لا
= له سبعة عشر وسقًا، فجاء جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبره بالفضل، فقال:" أخبر ذلك ابن الخطاب "، فذهب جابر إلى عمر فأخبره، فقال له عمر: لقد علمت حين مشى فيها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ليباركن فيها.
(1)
أخرجه النسائي في "الكبرى"(6430).
(2)
حديث (14359).
(3)
أخرجه الترمذي (3010) وقال: حسن غريب، وحَسَّنه الأَلْبَانيُّ في "صحيح سنن الترمذي"(5/ 230).
يرجعون، فقال: يا رب، أبلغ من ورائي، فأنزل الله - سحانه وتعالى -:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} .
إذًا، هذه مكانة الشهداء.
جاء في حَدِيثٍ أخرَجه الترمذي بسندٍ حسنٍ أن الله سبحانه وتعالى كلَّم والد جابر كفاحًا؛ أي: بلا واسطة، وأن الله سبحانه وتعالى قال له:"يا عبدي، سلني أعطك "، فكان منه أن يسأل الله تعالى أن يردَّه إلى الدنيا ليقتل ثانيةً في سبيل الله.
وقد جاء في حديث جابر القدر الذي على أبيه، وأن الدائنين كانوا من اليهود، وكالن ثلاثين وسقًا، والوسق ستون صاعًا، إذن يبلغ ألفًا وثماني مئة صاع؛ فعَرَض الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الحائط على الغرماء فأبوا؛ لأنهم تَقالُّوه، ورأوا أنه لا يفي بحقوقهم، وأنَّه لا يكون موازيًا لها، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنْ وَعَده فَمرَّ بحائطه .. وفي بعض الروايات:" أنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم طاف به "
(1)
، وفي بعضها: مشى به، فمر على النخيل ودعا بالبركة، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره فقال له:" كل "، وخرج فوفَّى لأصحاب الحقوق حقوقهم، وزاد ما عنده من التمر سبعة عشر وسقًا، والوسق ستون صاعًا، فَخَرج جَابرٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُخْبره بذلك، فقال له:" مُرَّ على عمر بن الخطاب "، فَمرَّ به، فأخبره عما كان، فقال عُمَر رضي الله عنه: " لقد أيقنت بأنَّ ذلك سيحصل عندما مشَى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّ الله ليبارك النبي
(2)
.
قَوْله: (وَربمَا رُوِيَ أَيْضًا: أنه مَاتَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ، وَعَلَيْهِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَدَعَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ غُرَمَاءَهُ، فَقَبَّلَهُمْ أَرْضَهُ أَرْبَعَ سِنِينَ مِمَّا لَهُمْ عَلَيْهِ)
(3)
.
هذه قصة الحضير، إنما مات وعليه دَين (عشرة آلاف درهم)، وفي
(1)
أخرجه النسائي في "الكبرى"(6430).
(2)
أخرجه البخاري (2396).
(3)
لم أقف على هذه الرواية.
بعض الروايات: " أربعة آلاف "
(1)
، وإنَّ عمر رضي الله عنه استدعى أصحاب الدَّين، وسأل عن غلة هذا الحائط، فأخبر عمر رضي الله عنه بأنها تغل في السنة ألفًا، والديون أربعة آلاف، فعرض على الدائنين أن يقبلوا غلتها أربع سنوات، فقبلوا؛ لأنهم من المؤمنين، فقبلوا رأي عمر رضي الله عنه.
لكن هذا الحديث فيه ضعف؛ لأنَّه من رواية أبي صالح كاتب الليث، وهو ضعيف فيه لين، وقَدْ ذكَر القصة ابن سعد في كتابه " الطبقات "
(2)
، والبخاري في:" تاريخه "
(3)
، لكن القصة قد اشتهرت وتناولها الفقهاء جيلًا بعد جيل، لكنها ليست ببعيدة، وحال الصحابة معروف رضي الله عنه، فما كان همهم أن يشتغلوا بالدنيا، ولكنهم كانوا يعمرون أوقاتهم بطاعة الله سبحانه وتعالى.
قَوْله: (قَالُوا: فَهَذهِ الآثَارُ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا أنه بِيعَ أَصْلٌ فِي دَيْنٍ. قَالُوا: ويَدُلُّ عَلَى حَبْسِهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ "
(4)
.
حديث جابر: الجمهور أجابوا عنه بأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يُعْطيهم الحائط فأبوا، فأين الحُجَّة في ذلك؟
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم طاف بالحائط، وأمر جابرًا أن يكيل للغريم، وأن يعطيه حقه، ففعل وأخذ حقه وزاد، فليس في ذلك دلالة صريحة على أنه ينهي الأمر إلى الحبس؛ لأن ما يتعلق بديون والد جابر قد حلت.
وعن حديث الحضير: أجابوا بأنَّ الأثر صحيح، فَعن عمر رضي الله عنه أنه
(1)
أخرجه ابن سعد في "الطبقات"(3/ 606) وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(6/ 95) عن ابن عمر قال: " هلك أسيد بن الحضير وترك عليه أربعة آلاف درهم دينًا، وكان ماله يغل كل عام ألفًا، فأرادوا بَيْعَه، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فبعث إلى غرمائه فقال: "هل لكم أن تقبضوا كل عام ألفًا فتستوفوه في أربع سنين؟ "، قالوا: نعم يا أمير المؤمنين، فأخروا ذلك فكانوا يقبضون كل عام ألفًا".
(2)
أخرجه ابن سعد في "الطبقات"(3/ 606) وابن عساكر في " تاريخ دمشق "(6/ 95).
(3)
لم أقف عليه في " التاريخ الكبير " للبخاري.
(4)
أخرجه ابن ماجه (2427)، وحَسَّنه الأَلْبَانيُّ في " إرواء الغليل "(1434).
عرض على الغرماء، ورضوا بذلك، وأيضًا لو رضي الغرماء بأن يتنازلوا، ألن يقبل ذلك منهم؟ الجواب: لا، إذًا، أين الحجة في ذلك لو سلمنا صحة هذا الأثر.
إذًا، ليس هناك دليل صريح يدل على أن المفلس يحبس، وأنَّه لا يُبَاع حقه، ويُطَالب بوفاء الدين.
قوله: (قَالُوا: والعُقُوبَةُ هِيَ حَبْسُهُ. وَرُبَّمَا شَبَّهُوا اسْتِحْقَاقَ أُصُولِ العَقَارِ عَلَيْهِ بِاسْتِحْقَاقِ إِجَازَتِهِ).
يشيرُ إلى حديث: " لَيُّ الواجد ظلمٌ يحل عِرْضه وعقوبته "
(1)
، وهذا الحديث أخرجه أصحاب السنن
(2)
إلا ابن ماجه فيما أذكر، والحديث بجميع طرقه صحيح
(3)
.
ومعنى: "ليُّ الواجد"، أيْ: مَطْلُ الواجد، أي: أن الإنسان إذا كان واجدًا وعليه حق، فيجب عليه أن يوفي الغير حقه، وهذا واجب شرعي، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم:" ليُّ الواجد ظلم يحل عرضه "، أي: يجعل صاحب الحق في حلٍّ بأن يتكلم في عِرْضِهِ بأن يقول: إنه ظالم لا يؤدي الحق، والعقوبة منها الحبس وغير الحبس، ويشهد له أيضًا الحديث الآخر المتفق عليه، والذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مطل الغني ظلم "
(4)
.
قَوله: (وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ المُفْلِسَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، فَالنَّظَرُ فِي مَاذَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ، وَبِأَيِّ دُيُونِ تَكُونُ المُحَاصَّةُ فِي مَالِهِ، وَفِي أَيِّ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ تَكُونُ المُحَاصَّةُ؟ وَكيْفَ تَكُونُ؟).
(1)
وقد تقدم.
(2)
أخرجه أبو داود (3628)، والنسائي في "الكبرى"(6242)، وحسنه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1434).
(3)
تقدم تخريجه، وهو في ابن ماجه أيضًا .. انظر:"إرواء الغليل" للأَلْبَانيِّ (1434).
(4)
أخرجه البخاري (2287)، ومسلم (1564).
المحاصة
(1)
: أن يقسم الغرماءُ مالَه بينهم، كلٌّ يأخذ حصته، ومن المعلوم أنه لو كان أحد الغرماء قد وجد متاعه عنده بعينه، فَإنَّه يأخذه؛ لأنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق عليه:"من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به "
(2)
أي: أحق به من غيره، لكن يكون قد أدركه بعينه دون تغييرِ أو تبديلٍ، ودون أن يخرج من ملكِهِ، ودون أن ينتقل عنه، ودون أن تطرأَ عليه أمور، أما لو طرأت عليه أمور، فهذا محلُّ خِلَافٍ بين العلماء.
قَوْله: (فَأَمَّا المُفْلِسُ: فَلَهُ حَالَانِ: حَالٌ فِي وَقْتِ الفَلَسِ قَبْلَ الحَجْرِ عَلَيْهِ، وَحَالٌ بَعْدَ الحَجْرِ).
تَبيَّنَ أنَّ هذَا الإنسانَ قد أفلسَ، لكنه لم يصدر حُكْمٌ عليه بالحجر، والحالة الثانية أن يُحْجر عليه، وَمالكٌ رحمه الله يُلْحق الحالة الأولى بالثانية، فيرى أنه إذا ثبت إفلاسه، وهو بَعْدُ لم يحجر عليه، فإنَّه يعامل معاملة مَنْ يكون مفلسًا قد حجر عليه، وخالفه الأئمة الثلاثة في ذلك، وقالوا: إنَّ هذا ماله، وله أن يتصرف فيه وهو بَعْدُ لم يحجر عليه، فلماذا يمنع؟!
قَوْله: (فَأَمَّا قَبْلَ الحَجْرِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إِتْلَافُ شَيْءٍ).
القصد بالإتلاف هو الصرف من هبةٍ أو شراءٍ، أو نحو ذلك.
قوله: (مِنْ مَالِهِ عِنْدَ مَالِكٍ
(3)
بِغَيْرِ عِوَضٍ إذا كانَ مِمَّا لَا يَلْزَمُهُ، وَمِمَّا لَا تَجْرِي العَادَةُ بِفِعْلِهِ).
(1)
" المحاصة": المقاسمة، حاصصت فلانًا محاصة وحصاصًا إذا قاسمته فأخذت حصتك، وأعطيته حصته. انظر:"الصحاح" للجوهري (3/ 1033).
(2)
أخرجه مسلم (1559).
(3)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 798) حيث قال: " اختلف في أفعال مَنْ يستحقُّ الحجر إذا تصرف في ماله قبل الحجر. فقال ابن كنانة وابن نافع: تمضي. وقال ابن القاسم: تصرفه على الرد كالمحجور عليه. وقال مطرف وابن الماجشون: إذا كان سفهه قبل البلوغ ثم لم يأت عليه حال رشد كانت أفعاله مردودة؛ لأنه لم =
لا ضرر أنْ يبيع شيئًا مقابل شيء (إذا وجد عوض)، لكن أَنْ يخرج شيئًا دون مقابل فلَا.
قَوْله: (وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ إذا كانَ مِمَّا لَا يَلْزَمُهُ؛ لأن لَهُ أن يَفْعَلَ مَا يَلْزَمُ بِالشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِعِوَضٍ، كنَفَقَتِهِ عَلَى الآبَاءِ المُعْسِرِينَ أَوِ الأبْنَاءِ).
الإنْسَانُ إذا حُجِرَ عليه، فهو أيضًا يحتاج إلى أن يُنْفقَ على نَفْسه، وأنْ ينفقَ على أولادِهِ، فلا يمنع من ذلك، لكن على قدر الحاجة، والعُلَماء يُفصِّلون في القول.
قَوْله: (وَإِنَّمَا قِيلَ مِمَّا لَمْ تَجْرِ العَادَةُ بِفِعْلِهِ؛ لأنَّ لَهُ إِتْلَافَ اليَسِيرِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالأُضْحِيَةِ، وَالنَّفَقَةِ فِي العِيدِ، وَالصَّدَقَةِ اليَسِيرَةِ، وَكَذَلِكَ تُرَاعَى العَادَةُ فِي إِنْفَاقِهِ فِي عِوَضٍ كَالتَّزَوُّجِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَابْتِيَاعُهُ مَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ مُحَابَاةٌ).
هذَا كلُّه عند مالكٍ، أما الجمهور فيرون بأنَّه قبل أن يُحْجر عليه فَهو حرٌّ كَامل التصرُّف في حقه.
قوْله: (وَكذَلِكَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِمَنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي قَضَاءِ بَعْضِ غُرَمَائِهِ دُونَ بَعْضٍ
(1)
وَفِي رَهْنِهِ)
(2)
.
الجُمْهور هُمُ الأئمَّة الثلَاثة.
= يزل في ولاء، وإن كان رشد ثم أحدث سفهًا كان فعله نافذًا إلا أن يكون بيعة خديعة فباع ما يساوي ألفًا بمائة، فإنه يرده، وفرق بين هبته وبيعه ".
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (2/ 320) حيث قال: "واختلف قول مالك في قضائه بعض غرمائه دون بعض ورهنه، فقال مرة: ذاك جائزٌ له، وقال مرة: لا يجوز، ويدخل عليه في ذلك جميع الغرماء؛ وقد قيل: إنه يجوز قضاؤه، ولا يجوز رهنه".
(2)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (8/ 78) حيث قال: "يصحُّ ممن يصح منه البيع؛ لأنه عقد، فلا يرهن المحجور عليه ".
قوْله: (وَأَمَّا جُمْهُورُ
(1)
مَنْ قَالَ بِالحَجْرِ عَلَى المُفْلِسِ، فَقَالُوا: هُوَ قَبْلَ الحُكْمِ كسَائِرِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ الجُمْهُورُ لِهَذَا؛ لأنَّ الأصْلَ هُوَ جَوَازُ الأَفْعَالِ حَتَّى يَقَعَ الحَجْرُ).
هَذا هو الصَّحيح، أن الإنسانَ حرٌّ في ماله ما دام يملك هذا المال، ومن حقِّه التصرُّف فيه، فلماذا يمنع منه دون سبب، وكونه قد أفلسَ يحتاج إلى حُكْمٍ، بأن يُطالِب الغرماء، وأن يُرْفع أمره إلى الحاكم، ثم يتخذ الحاكم حكمه في ذلك، وأيضًا لو طالب بعضهم ولم يطالب الآخر، فهل يتمُّ الحجر عليه؟ المسألة فيها خلاف.
قوْله: (وَمَالِكٌ كأَنَّهُ اعْتَبَرَ المَعْنَى نَفْسَهَ، وَهُوَ إِحَاطَةُ الدَّيْنِ بِمَالِهِ، لَكِنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ فِي كُلِّ حَالٍ؛ لأنَّه يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ إذا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُحَابَاةٌ، وَلَا يُجَوِّزُهُ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ)
(2)
.
(1)
يُنظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (9/ 264) حيث قال: "ولو باع قبل حجر القاضي جاز عند أبي يُوسُف؛ لأنه لا بد من حجر القاضي عنده؛ لأنَّ الحجر دائرٌ بين الضرر والنظر والحجر لنظره، فلا بُدَّ من فعل القاضي. وعند محمد لا يجوز؛ لأنه يبلغ محجورًا عنده، إذ العلة هي السفه بمنزلة الصبا، وعلى هذا الخلاف إذا بلغ رشيدًا ثم صار سفيهًا".
ويُنظر: "مغني المحتاج " للشربيني (2/ 170) حيث قال: "يعود الحجر بلا إعادة"، كالجنون وتصرفه قبل الحجر عليه صحيح.
وينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 423) حيث قال: "وكل ما فعله المفلس في ماله قبل الحجر عليه: من البيع، والهبة، والإقرار، وقضاء بعض الغرماء، وغير ذلك فهو نافذ؛ لأنَّه من مالكٍ جائزِ التصرف ".
(2)
يُنظر: " شرح مختصر خليل " للخرشي (9/ 264) حيث قال: " فبسَبب حجره يمنع من التصرف المالي من بيع وشراء وكراء واكتراء ولو بغير محاباة، وما في الشارح من أن المنع من البيع حيث كان بمُحَاباة، فيه نظر؛ لأن المحاباة من التبرع وهو يمنع منه بمجرد الإحاطة، وإذا وقع منه التصرف أوقف على نظر الحاكم ردًّا وإمضاءً، وأما لو التزم شيئًا في ذمته، أو اشترى أو اكترى بشيءٍ في ذمته إلى أجل معلوم، فلا يمنع على أن يوفيه من مال يطرأ له غير ما حجر عليه فيه ".
بعض العلماء يجيزون شراءه واقتراضه في الذمة، هذا حتى بعد الحجر؛ كالحنَابلة
(1)
؛ فَإنَّهمْ لا يَمْنعون المحجورَ عليه أن يشتري، أو أَنْ يقترضَ، قالوا: لأنَّ هذا أمرٌ متعلقٌ بذمته لا بالمال، والمال قد حجر علَيه، ليس من حقه أن يتصرَّف فيه، والمسؤولية على هذا الذي باعه أو أقرضه.
قوله: (وَأَمَّا حَالُهُ بَعْدَ التَّفْلِيسِ: فَلَا يَجُوزُ لَهُ فِيهَا عِنْدَ مَالِكٍ
(2)
بَيْعٌ، وَلَا شِرَاءٌ، وَلَا أَخْذٌ، وَلَا عَطَاءٌ، وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ لِقَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ، قِيلَ: إِلَّا أن يَكُونَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيِّنةٌ).
لَا يَجُوز عند مَالِكٍ، وَلكنَّه رأي الجمهور كما قلنا في مَذْهب الحنابلة
(3)
فيما يتعلَّق باقتراضه وشرائه (أي: بما يتعلَّق بالذمة)، فيُجيزُونَه؛ لأن هذا لا يترتب عليه ضرر بالغرماء، وهذا الذي رضي أن يبيعه أو أن يقرضه، ويعرف بأنَّه محجور عليه، فهو يتحمل ما يَتَرتب على ذلك، وهذا أيضًا دَينٌ في الذمة ليس حاضرًا كحال الغرماء؛ لأن الغريم سيُبَاع ما بين يديه، ويأخذ كلٌّ حقه إن أمكن أن يصل إلى كل إنسان حقه، أو يأخذ كل واحد منهم نسبته.
(1)
يُنظر. " الروض المربع " للبهوتي (ص 251) حيث قال: " ويستحبُّ إظهاره "، أيْ: إظهَار حجر المفلس، وَكَذا السفيه ليعلم الناس بحاله فلا يعاملوه إلا على بصيرةٍ " ولا ينفذ تصرفه " أي: المحجور عليه لفلس " في ماله " الموجود والحادث بإرثه أو غيره، " بعد الحجر " بغير وصية أو تدبير " ولا إقراره عليه " أي: على ماله؛ لأنه محجور عليه، وأما تصرفه في ماله في الحجر عليه، فصحيح؛ لأنه رشيد غير محجور عليه، لكن يحرم عليه الإضرار بغريمه.
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل " للخرشي (5/ 268) حيث قال: "يعني أن المفلس بالمعنى الأخص، أو بالمعنى الأعم وهو قيام الغرماء إذا أقرَّ في مجلس التفليس، أو أقر به بدَيْنٍ في ذمته لمَنْ لا يتهم عليه، فإن إقراره يقبل بشرط أن يكون الدَّين الذي حجر عليه فيه ثبت بإقراره، وأما إنْ ثبت بالبينة الشرعية، فإن إقراره بالمجلس وقربه لا يفيد شيئًا بالنسبة إلى المال الذي في يده، وأما بالنسبة لتعلقه بذمته فيفيد".
(3)
يُنظر: " شرح مُنْتهى الإرَادات " للبهوتي (2/ 161) حيث قال: " (وإن تصرف) محجور عليه لفلس (في ذمته بشراء أو إقرار ونحوهما) كإصداق وضمان (صح) لأهليته للتصرف، والحجر يتعلق بماله لا بذمته ".
قَوْله: (وَقِيلَ: يَجُوزُ لِمَنْ يُعْلَمُ مِنْهُ إِلَيْهِ تَقَاضٍ. وَاخْتُلِفَ فِي إِقْرَارِهِ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ مِثْلِ القِرَاضِ وَالوَدِيعَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي المَذْهَبِ: بِالجَوَازِ، وَالمَنْعِ، وَالثَّالِثُ: بِالفَرْقِ بَيْنَ أن يَكُونَ عَلَى أَصْلِ القِرَاضِ، أو الوَدِيعَةِ بِبَيِّنَةٍ، أو لَا تَكُونُ)
(1)
.
إذا أقر بِمَالٍ لغَيره هل يعتبر؟ في هذه المسألة خلَافٌ، ليسَ في مذهب مَالِكٍ وَحْده، معظمهم يقولون: إذا جاءت البَيِّنة بإثبات ذلك، لم يكن متهمًا، ويُقْبل إقراره في مثل هذه الأمور.
قَوْله: (فَقِيلَ: إنْ كَانَتْ صُدِّقَ، وإن لَمْ تَكُنْ لَمْ يُصَدَّقْ).
أمَّا لو كان مُتَّهمًا، فلا يُقْبل إقراره؛ لأنَه ربما يهدُفُ إلى أن يخرج بعض الحقوق من ماله إلى آخرين ليتخلص من وفاء أصحاب الحقوق.
قَوْله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِي دُيُونِ المُفْلِسِ المُؤَجَّلة؛ هَلْ تَحِلُّ بِالتَّفْلِيسِ أَمْ لَا؟).
الدُّيون على نوعين، بعضها حالٌّ، اشترى سلعةً من الناس، أو ديون ولكنها حلت، فهذا الحكم فيما يتعلق بالديون المؤجلة، هل تلحق بعد
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (2/ 322) حيث قال: "واختلف في إقراره بمال معين مثل أن يقول: هذا المال بيدي لفلان وديعة أو قراض، وما أشبه ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن إقراره بذلك جائز، وهو قول مالك في سماع عيسى من كتاب المديان.
والثاني: أنَّ إقراره بذلك لا يجوز -وهو قول ابن القاسم في كتاب الوصايا الثاني من المدونة، وقول مالك في سماع ابن القاسم، وفي سماع أشهب عنه من الكتاب المذكور، وقال يُقَال له: أفسدت أمانتك، ولعلك أن تخص هذا أو تُدَانيه ليرد عليك.
والثالث: أنه إنْ كان على أصل القراض والوديعة بينة، صدق -أن هذا هو ذلك المال، وإن لَمْ يكن على أصل ذلك المال بينة لم يصدق، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم في الكتاب المذكور".
الحجر عليه بحقوق الغرماء الذين حلَّت حقوقهم فتحل الديون المؤجلة، فيكون لا فرق بين المؤجل وغيره، أو أن المؤجلة تختلف؟
قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ)
(1)
.
وهي رواية للإمام أحمد
(2)
.
قَوْله: (إلى أن التَّفْلِيسَ فِي ذَلِكَ كَالمَوْتِ).
وهو مذهب الجمهور
(3)
، والرواية الأخرى للإمام أحمد
(4)
.
قَوْله: (وَذَهَبَ غَيْر إلى خِلَافِ ذَلِكَ، وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ
(5)
عَلَى أن الدُّيُونَ تَحِلُّ بِالمَوْتِ).
جُمْهُور العلَماء الأئمة الأربعة عدا رواية للإمام أحمد، فإنها لا تحل
(6)
.
قوله: (وقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: مَضَتِ السُّنَّةُ)
(7)
.
أَيْ: سُنَّة رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
يُنظر: " شرح مختصر خليل " للخرشي (5/ 266) حيث قال: "الدَّين المؤجل على الشخص يحل بفلسه أو بموته على المشهور؛ لأنَّ الذمَّة في الحالتين قد خرجت ".
(2)
يُنظر: " شرح الزركشي على مختصر الخرقي "(2/ 125) حيث قال: "لا خلاف نعلمه أنَّ دين الميت المؤجل لا يحل بموته، وكذلك لا يحل دين المفلس المؤجل بفلسه ".
(3)
يُنظر: " الوسيط " للغزالي (4/ 21) حيث قال: "فيه وجه آخر أن الدَّين يحلُّ بالفلس كما يحل بالموت والجنون فهو كالديون الحالَّة وهو بعيد".
(4)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 306) حيت قال: " لا يحل الدَّين بالفلس. رواية واحدة. قال في " التلخيص ": لا يحل الثمن المؤجل بالفلس على الأصح ".
(5)
يُنظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 124) حيث قال: "ومن مات وعليه ديون، تعلقت الديون بماله كما تتعلق بالحجر في حياته، فإنْ كان عليه دَين مؤجل، حل الدَّين بالموت ".
(6)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 169) حيث قال: " (ولا يحل) دَين (بجنون) مؤجل كإغماء (ولا موت) ".
(7)
يُنظر: " المدونة "(4/ 84).
قوْله: (بِأَنَّ دَيْنَهُ قَدْ حَلَّ حِينَ مَاتَ. وَحُجَّتُهُمْ: أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى لَمْ يُبحِ التَّوَارُثَ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ).
قصده بأنَّ الدَّين يُقدَّم على الميرَاث؛ لأنَّه أوَّل ما يبدأ به بتجهيزه وتكفينه وغير ذَلكَ، ثم بعد ذلك تُسدَّد الديون؛ لأن الدُّيونَ من أهمِّ الأمور التي ينبغي أن يتخلَّص منها المؤمن؛ لأن نفس المؤمن معلقة بالدَّين كما جاء في الحديث الصحيح بأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:" نفس المؤمن معلقةٌ بدَيْنه "
(1)
، وما أكثر الذين يتساهلون في الديون! فالشهيد يغفر له كل شيءٍ إلا الدَّين
(2)
.
قوْله: (فَالوَرَثَةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا ألَّا يُرِيدُوا أن يُؤَخِّرُوا حُقُوقَهُمْ فِي المَوَارِيثِ إلى مَحِلِّ أَجَلِ الدَّيْنِ، فَيَلْزَمُ أن يَجْعَلَ الدَّيْنَ حَالًّا، وَإِمَّا أن يَرْضَوْا بِتَأْخِيرِ مِيرَاثِهِمْ حَتَّى تَحِلَّ الدُّيُونُ فَتَكُونَ الدُّيُونُ حِينَئِذٍ مَضْمُونةً فِي التَّرِكَةِ خَاصَّةً لَا فِي ذِمَمِهِمْ، بِخِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ. قَبْلَ المَوْتِ؛ لأنَّه كَانَ فِي ذِمَّةِ المَيِّتِ، وَذَلِكَ يَحْسُنُ فِي حَقِّ ذِي الدَّيْنِ. وَلذَلِكَ رَأَى بَعْضُهُمْ أنَّه إنْ رَضِيَ الغُرَمَاءُ بِتَحَمُّلِهِ فِي ذِمَمِهِمْ أُبْقِيَتِ الدُّيُونُ إلى أَجَلِهَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ ابْنُ سِيرِينَ، وَاخْتَارَهُ
(1)
أخرجه الترمذي (1078) وقال: حسن غريب، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(2915).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2778)، ولفظه:"شهيد البحر مثل شهيدي البر، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله عز وجل وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر، فإنه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين، ولشهيد البحر الذنوب والدَّين ".
وَضَعَّفه البوصيري في "مصباح الزجاجة"(2/ 99)، وَالأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1195).
أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ
(1)
، لَكِنْ لَا يُشْبِهُ الفَلَسُ فِي هَذَا المَعْنَى المَوْتَ كلَّ الشَّبَهِ).
الحديث المذكور المشهور: "من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به "
(2)
، جاء في حديثٍ آخرَ:"أفلسَ أو ماتَ "
(3)
، فكلمة "مات " جاءت ببعض الروايات، ولم تأتِ ببعض الروايات، فاختلف العلماء فيها كما سَيَأتي.
قَوْله: (وَإنْ كَانَتْ كلْتَا الذِّمَّتَيْنِ قَدْ خَرَجَتْ).
" الذِّمَّة قَدْ خَرَجتْ "، هذا مصطلحٌ اشتهر عند الفقهَاء؛ لأنَّ أصحابَ الحقوق على نوعين: إنسان يجد سلعته بعينها عند المفلس، وآخر له حق عنده، فهذا الذي يجد السلعة بعينها، يكون قد تعلق حقُّه بالعين وبالذمة.
قَوْله: (فَإِنَّ ذِمَّةَ المُفْلِسِ يُرْجَى المَالُ لَهَا بِخِلَافِ ذِمَّةِ المَيِّتِ.
وَأَمَّا النَّظَرُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ أَصْحَابُ الدُّيُون مِنْ مَالِ المُفْلِس، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلى الجِنْسِ وَالقَدْرِ).
لأن الإنسان قد يجد عين سلعته، وهذا له حكم، وهذه السلعة التي يجدها بعينها تكون قبل الحياة، وربما كانت بعد الممات، وربما لا يجد السلعة بعينها، فيدخل ضمن الغرمَاء، فيُحَاص في ذلك.
(1)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (6/ 232) حيث قال: "وفيه قولٌ ثانٍ: وهو أن الدَّين إلى أجله، إذا وثق الورثة، هذا قول ابن سيرين، وعبيد الله بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه أبو داود (3523)، وضعفه الأَلْبَانيُّ في " ضعيف الجامع "(12241).
قَوْله: (وَأَمَّا مَا كانَ قَدْ ذَهَبَ عَيْنُ العِوَضِ الَّذِي اسْتَوْجَبَ مِنْ قِبَلِهِ الغَرِيمُ عَلَى المُفْلِسِ، فَإِنَّ دَيْنَهُ فِي ذِمَّةِ المُفْلِسِ).
إذا ذَهَبت العين، إما انتقلت عنه أو تغيرت تغيرًا لا يمكن أن تكون العين على حالها، حينئذٍ يتعلق حق الغريم (أي: الدائن) بذمة المدين.
قوله: (وَأَمَّا إذا كَانَ عَيْنُ العِوَضِ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَفُتْ إِلَّا أنه لَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ).
عين العوض موجود، لكن البائع لم يقبض الثمن، فهذا قد اختلف فيه العلماء على أربعة أقوال
(1)
، وكل قول من هذه الأقوال له دليل يستدل به.
قَوْل: (فَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ فُقَهَاءُ الأمْصَارِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ؛ الأَوَّلُ: أنَّ صَاحِبَ السِّلْعَةِ أحقُّ بِهَا).
لأنَّ عينَه موجودة، وهذا يلتقي مع الحديث المتفق عليه:"مَنْ أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به "، هذا نص الحديث وهو عام، وأصحاب هذا القول -وهُمُ الجمهور- يأخذون بعموم الحديث.
إذًا، هو أحقُّ بهذه السلعة؛ لأنَّه وجد عين السلعة ولم يقبض ثمنها، فهو أحقُّ بها.
قَوْله: (عَلَى كُلِّ حَالٍ إِلَّا أن يَتْرُكَهَا، وَيَخْتَارَ المُحَاصَّةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
،
(1)
ستأتي ذكر هذه الأقوال.
(2)
يُنظر: " أسنى المطالب " لزكريا الأنصاري (2/ 194) حيث قال: " (ومن وجد من الغرماء) عند المفلس (عين ماله قبل قبض الثمن أو عين ما أقرض) له (فله الفسخ) للعقد واسترداد العين (ولو بلا حاكم) ".
وَأَحْمَدُ
(1)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(2)
. اَلقَوْلُ الثَّانِي: يُنْظَرُ إِلَى قِيمَةِ السِّلْعَةِ يَوْمَ الحُكْمِ بِالتَّفْلِيسِ).
ينظر إلى قيمة السلعة وقتَ التفليس؛ لأنَّه قد تكون قيمتها ثابتةً، فالسِّلعة عندما يشتريها هذا المشتري المبتاع الذي أفلس لها ثمنٌ، هل بقيت بعد الإفلاس على قيمتها أم تغيَّرت بأن نقصت أو زادت أو بقيت قيمتها كمَا هي؟
قوْله: (فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ خُيِّرَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهَا، أو يُحَاصَّ الغُرَمَاءَ).
يُنْظَر إلى قيمَة السِّلعة عندما يفلس الرجل، هل بقيت محتفظةً بقيمتها عند الشراء أو تغيَّرت، وهل هذا التغيُّر في زيادةٍ أو نقصٍ، فإنْ كان سعرها قد انخفض، فهو حِينَئذٍ يُخيَّر بين أن يأخذهَا وبين أن يحاص أيْ: يشترك مع الغُرَماء في القسمة، وَإنْ كان الثمن أكثر أو مساويًا، فإنه يأخذها، وقد راعى المالكية في هذا جانب صاحب السِّلعة.
قوْله: (وَإنْ كَانَتْ أكثرَ أو مُسَاويةً لِلثَّمَنِ، أَخَذَهَا بِعَيْنِهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأَصْحَابُهُ
(3)
. القَوْلُ الثَّالِثُ: تُقَوَّمُ السِّلْعَةُ بَيْنَ التَّفْلِيسِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا مُسَاويةً لِلثَّمَنِ، أو أَقَلَّ مِنْهُ، قُضِيَ لَهُ بِهَا).
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 161) حيث قال: " (إن وجد عين ما باعه) للمفلس (أو) عين ما (أقرضه أو) عين ما (أعطاه) له (رأس مال سلم)، فهو أحق بها ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 507) حيث قال: " فالغرماء أبعد من ذلك، وإنما الخيار لصاحب السلعة؛ إنْ شَاء أخَذها، وَإنْ شاء تركها، وضرب مع الغرماء بثمنها، وبهذا قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وجماعة ".
(3)
يُنظر: " البيان والتحصيل " لابن رشد (10/ 497) حيث قال: "وتفسيره أن يحاص بقيمته، وما يُسَاوي مثله يوم التفليس؛ لأنه لو تم المال يومئذٍ كان يعجل له، فما أدرك في محاصته جعل له في مثله من أجزائه يشترى له يكون به شريكًا، ثم يبيع بباقيه جزءًا نصفًا أو ربعًا أو ثلثًا على مثل ذلك مما ثاب لغرمائه مال، إن شاء الله ".
إذا كانت مساويةً أو أقل، قُضِيَ له بها؛ لأن هذه سلعته، وهو أوْلَى بها فيأخذها، ولكن إنْ كان ثمنها قد ارتفع، فهنا راعوا جانب المفلس؛ لأنهم رأوا أنه أحق بالرعاية والعناية، فيعطى البائع ثمن سلعته، وما زاد يكون بين الغرماء.
ومعنى " يتحاصون "
(1)
؛ أي: يتقاسمون (أي: الغرمَاء أصحاب الديون) ذلك.
قوْله: (أَعْنِي: لِلْبَائِعِ، وَإنْ كَانَتْ أَكْثَرَ دُفِعَ إِلَيْهِ مِقْدَارُ ثَمَنِهِ، وَيَتَحَاصُّونَ فِي البَاقِي، وَبِهَذَا القَوْلِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الأَثَرِ).
يَعْني: لا فَرْقَ بينه وبين الغرمَاء؛ أيْ: لا فرقَ أن يجد سلعتَه بعينها، أو يجدها قد تغيرت، فهو أُسْوةٌ بالآخَرين.
قوْله: (وَالقَوْلُ الرَّابعُ: أنه أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ فِيهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَهْلِ الكُوفَةِ
(2)
. وَالأَصْلُ فِي هَذِهِ المَسْأَلَة: مَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَأَدْرَكَ الرَّجُلُ مَالَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ "، وَهَذَا الحَدِيثُ خَرَّجَهُ مَالِكٌ
(3)
، وَالبُخَارِيُّ
(4)
، وَمُسْلِمٌ
(5)
، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، وَهَذَا اللَّفْظُ لِمَالِكٍ).
أما اللفظ في "الصحيحين": "مَنْ أدرك متاعه بعينه عند رجل قد
(1)
"الحِصَّةُ": النصيبُ. وأَحْصصْتُ الرَّجُلَ، أيْ: أعطيتهُ نصيبَه. وتحاصَّ القومُ يَتَحاصُونَ، إذا اقتَسموا حِصَصًا، وكذلك المُحاصَّةُ. انظر:"الصحاح" للجوهري (3/ 1033).
(2)
يُنظر: " البحر الرائق " لابن نجيم (8/ 95) حيث قال: " (وإن أفلس مبتاع عين فبائعه أسوة الغرماء) يعني: لو اشترى متاعًا فأفلس، والمتاع في يده فالذي باعه المتاع أسوة الغرماء فيه ".
(3)
حديث (2499).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.
أفلس، فَهو أحقُّ به "، وجاء بلفظ: "ما أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس، فهو أحقُّ به "
(1)
.
قوله: (فَمِنْ هَؤُلَاء مَنْ حَمَلَهُ عَلَى عُمُومِهِ، وَهُوَ الفَرِيقُ الأَوَّلُ).
هُمُ الجمهور- الشافعية ومن معهم - قالوا: هذا الحديث صحيح الدلالة على المدَّعى: "مَنْ أدرَك متاعَه بعينه عند رجلٍ قد أفلسَ، فَهو أَحقُّ به "، وليس هناك فرقٌ بين أن يزيد الثمن أو ينقص أو يبقى وإلا لبَيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ بِالقِيَاسِ).
الذين خصصوا بالقياس - وهو ما يعرف بالقياس المرسل، أو بالمصلحة المرسلة
(2)
- هم المالكية.
قوله: (وَقَالُوا: إن مَعْقُولَهُ إِنَّمَا هُوَ الرِّفْقُ بِصَاحِبِ السِّلْعَةِ لِكَوْنِ سِلْعَتِهِ بَاقِيَةً، وَأَكْثَرُ مَا فِي ذَلِكَ أن يَأْخُذَ الثَّمَنَ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ).
الذى علل بهذا التعليل هم المالكية، وقد راعوا جانب البائع فقالوا: هذا باع بثمن، فما ذنبه أن يأخذ أقل من حقه؟!، لكنهم لم يراعوا إذا زاد الثمن كما راعى الفريق الآخر، قالوا: هنا ينبغي أن يراعى جانب صاحب السلعة وهو البائع، فينبغي أن يأخذ الثمن إنْ كان مساويًا أو زاد، لكن لو نقص فله الخيار؛ إن شاء أخذ، وإن شاء شارك الغرماء في ذلك.
قوله: (فَأَمَّا أَنْ يُعْطَى فِي هَذهِ الحَالِ الَّذِي اشْتَرَكَ فِيهَا مَعَ الغُرَمَاء أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا، فَذَلِكَ مُخَالِف لِأُصُولِ الشَّرْعِ، وَبِخَاصَّةٍ إذا كان لِلْغُرَمَاءِ أَخْذُهَا بِالثَّمَنِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ.
(1)
أخرجه أحمد (7124) والحديث متفق عليه كما تقدم.
(2)
المحافِظة على مقصود الشرع المنحصر في الضروريات الخمس. انظر: "المستصفى" للغزالي (ص 174).
وَأَمَّا أَهْلُ الكُوفَةِ فَرَدُّوا هَذَا الحَدِيثَ بِجُمْلَتِهِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلأُصُولِ المُتَوَاتِرَةِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي رَدِّ خَبَرِ الوَاحِدِ إذا خَالَفَ الأُصُولَ المُتَوَاتِرَةَ، لِكَوْنِ خَبَرِ الوَاحِدِ مَظْنُونًا)
(1)
.
أبو حنيفة ومن معه ردوا هذا الحديث بجملته؛ لأنَّه خالف الأصول.
للحنفية منهجٌ وطريقٌ انفردوا بها عن بقية الفقهاء، فهم يرون أن خبر الواحد لا يخصص به؛ لأنه مظنون، لكن لو كان الحديث متواترًا، فنعم، لكن لا يخصص بالحديث المظنون عندهم آيةً أو حديثًا متواترًا أو مشهورًا، وبخاصة فيما يتعلق بمن يرون أنه يتعارض مع أصول الشريعة.
ووجه معارضة هذا الحديث لأصول الشريعة عندهم: أن هذه السلعة إنما اشتريت بثمنٍ، وهذا الثمن كان عن عقد، والله تعالى يقول:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"
(2)
، والله تعالى يقول:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقال:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} [الإسراء: 34].
فكيف يأتي إلى إنسان فيأخذ ماله لآخر، وقد أخذه بثمن، وبعقد محدد؟!
لكن إذا أفلس الإنسان، فينبغي أن يطبق في حقه بأن يشترك الغرماء فيما يتعلق بتقسيم ماله .. هذه وجهتهم.
(1)
قال ابن نجيم في " البحر الرائق "(8/ 96): "والجواب عن الحديث أنه قال: من وجد ماله، وهذا مال المشتري لا مال البائع، وإنما يصلح أن يكون حُجَّةً أنْ لو قال فأصَاب رجل عين مال قد كان باعه من الذي وجده في يده ولم يقبض ثمته، فهو أحق به من كل الغرماء".
(2)
أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532).
لكنَّ الجمهور يخالفونهم بذلك، ويرون أنَّ الحديث غير مخالف للأصول، وأنه حجة، والحديث قد رُوِيَ من طرق عدة.
قوله: (وَالأُصُولُ يَقِينِيَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا، كَمَا قَالَ عُمَرُ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: مَا كُنَّا لِنَدَعَ كِتَابَ الله وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا لِحَدِيثِ امْرَأَةٍ
(1)
. وَرَوَاهُ عَنْ عَلِيِّ أَنَّهُ قَضَى بِالسِّلْعَةِ لِلْمُفْلِسِ
(2)
، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ سِيرِينَ
(3)
، وَإِبْرَاهِيمَ مِنَ التَّابِعِينَ
(4)
.
حديث فاطمة بنت قيس حديث متفق عليه
(5)
، وحديث فاطمة: أن زوجها طلقها البتة، طلقها ثلاثًا وهو غائب، فأرسل وكيله إليها بشعير، فتسخرته أي: احتقرته فجمعت عليها ثيابها، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله، فقال لها:"ليس لك عليه نفقة ولا سكنى"، ثم قال لها عليه الصلاة والسلام:" اعتدي عند أم شريك "، ثم قال:" اعتدِّي عند ابن أم مكتوم ".
فهم يرون بأن عمر رضي الله عنه توقف عن الأخذ بقول امرأة، أما ما قيل:
(1)
أخرجه أبو داود (2291)، والبيهقي في "معرفة السنن والآثار"(11/ 288)، وقال الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود" (ص 2): صحيح موقوف. عن أبي إسحاق قال: كنت في المسجد الجامع مع الأسود، فقال: أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال:"ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري أحفظت ذلك أم لا".
(2)
لم أقف عليه.
(3)
لم أقف عليه.
(4)
لم أقف عليه.
(5)
لم يخرج البخاري هذا اللفظ، بَلْ أخرجه مسلم (1480) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس، أنَّ أبا عمرو بن حفص طلقها البتة، وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته، فقال: واللهِ، ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال:"ليس لك عليه نفقة"، فأمرها أن تعتدَّ في بيت أم شريك، ثم قال: " تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدِّي عند ابن أم مكتومٍ، فإنه رجل أعمى تضعيق ثيابك، فإذا حللت فآذنيني
…
". الحديث.
"لا ندع كتابًا"، أجاب عنه العلماء، فإن الإمام أحمد رحمه الله قال: معناه "لا نجيزه " بدل: "لا ندع ".
وأما بالنسبة لقول المرأة؛ فنعلم كَمْ من الأحاديث رواها أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة وغيرها من النساء، فهناك شطر كبير روتها النساء، وتقبلها العلماء بالقبول.
إذًا، قول عمر هذا إنما المراد منه التثبت، وروي عن علىٍّ أيضًا أنه قضى بالسلعة للمفلس، ويعتبرون هذا حجة لهم.
قوله: (وَرُبَّمَا احْتَجُّوا بِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مُخْتَلَفٌ
(1)
فِيهِ).
قَدْ جاء بعدة روايات، وليس هناك مانع بأن يرويه أبو هريرة رضي الله عنه بعدة ألفاظ، وكلها لها دلالات، "مَنْ أدرك متاعه بعينه عند رجلٍ قد أفلس فهو أحق به "، أو " من أدرك ماله بعينه عند رجلٍ قد أفلس، فهو أحق به "، أو "من باع سلعة فوجد سلعته
…
" إلى آخره، واللفظ الذي أورده المؤلف: "أيما رجل
…
"
(2)
.
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).
هذه الرواية لا تُعْرف بهذا اللفظ، واللفظ المعروف هو الذي أورده المؤلف في "الموطأ"
(3)
.
والذي في "الصحيحين": "من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به " أو "من أدرك ماله بعينه عند رجلٍ قد أفلس فهو أحق به "، أو "من باع سلعة فوجد سلعته بعينها عند رجلٍ قد أفلس ولم يقبض منه شيئًا
(1)
أخرجه مسلم (1480).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه مالك في "الموطإ"(2479)، والحديث في "الصحيحين"، وسيأتي.
فهو أحقُّ بها وإن قبض، فهو أسوة الغرماء"
(1)
.
هذه هي الألفاظ المشهورة المعروفة، أما هذا الذي ذكره فلا يعرف، ولا يصلح أن يكون حجةً.
قوله: (أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ، أو أَفْلَسَ فَوَجَدَ بَعْضُ غُرَمَائِهِ مَالَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ"، وَهَذَا الحَدِيثُ أَوْلَى؛ لأنَّه مُوَافِق لِلْأُصُولِ الثَّابِتَةِ).
قَالوا: هذه الحديث أَوْلَى؛ لكنني أقول: الأحاديث الأخرى هي الأولى؛ لأنها المعروفة والمشهورة.
قوْله: (قَالُوا: وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ وَجْهٌ، وَهُوَ حَمْلُ ذَلِكَ الحَدِيثِ عَلَى الوَدِيعَةِ وَالعَارِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ الجُمْهُورَ دَفَعُوا هَذَا التَّأْوِيلَ بِمَا وَرَدَ فِي لَفْظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ ذِكْرِ البَيْعِ).
هذا يقطع عليهم الطريق؛ لأنهم قالوا: نحمله على العارَّية والوديعة، فحاولوا أن يخرجوا به، لكن جاء لفظ صحيح من ألفاظ حديث أبي هريرة وهو قوله عليه الصلاة والسلام:"من باع سلعةً فوجد سلعته بعينها عند رجل قد أفلس ولم يقبض منه شيئًا فهو أحق بها، وإن قبض فهو أسوة الغرماء"
(2)
، ومحل الشاهد:"من باع سلعة ".
إذًا، لفظ البيع أو التنصيص على البيع يُبْطل هذا الاحتجاج وهذا التعليل الذي أورده الحنفية.
قَوْله: (وَهَذَا كلُّهُ عِنْدَ الجَمِيعِ بَعْدَ قَبْضِ المُشْتَرِي السِّلْعَةَ، فَأَمَّا
(1)
أخرجه البخاري (2402)، ومسلم (1559) بلفظ:"مَنْ أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس - أو إنسان قد أفلس - فهو أحق به من غيره ".
(2)
أخرجه ابن ماجه (2359)، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في " صحيح ابن ماجه "(5/ 359).
قَبْلَ القَبْضِ فَالعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ (أَهْلُ الحِجَازِ، وَأَهْلُ العِرَاقِ) أنَّ صَاحِبَ السِّلْعَةِ أَحَقُّ بِهَا؛ لِأَنَّهَا فِي ضَمَانِهِ).
إذا كانت السلعة في حوزة البائع ولم تنتقل للمشتري، فلا خلافَ بين العلماء بأنَّ صَاحبَها أحَق بها دون خِلَافٍ.
قوْله: (وَاخْتَلَفَ القَائِلُونَ بِهَذَا الحَدِيثِ إذا قَبَضَ البَائِعُ بَعْضَ الثَّمَنِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّ مَا قَبَضَ وَيَأْخُذَ السِّلْعَةَ كُلَّهَا، وَإِنْ شَاءَ حَاصَّ الغُرَمَاءَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ سِلْعَتِهِ)
(1)
.
المراد: أن الإنسان لو باع سلعةً فقبض شيئًا من ثمنها - أخذ بعض الثمن ثم وجد السلعة - فهل هو أحق بها أو لا؟ قال مالك: "هو بالخيار"، إنْ شاء أخذها، وإن شاء حاص الغرماء؛ أي: قاسمهم.
قوْله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَلْ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ مِنْ سِلْعَتِهِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ
(2)
. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ دَاوُدُ
(3)
، وَإِسْحَاقُ
(4)
، وَأَحْمَدُ
(5)
: إِنْ قَبَضَ مِنَ الثَّمَنِ شَيْئًا فَهُوَ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ).
(1)
يُنظر: " البيان والتحصيل " لابن رشد الجد (10/ 359)، حيث قال:" قول مالك في رواية ابن وهب عنه، ولوجد الراويتين جميعًا وقد قبض بعض ثمنهما كان مخيرًا بين أن يسلفهما ويكون أسوة الغرماء بما بقي له، وبين أن يرد ما قبض ويكون أحق بهما قولًا واحدًا في المذهب ".
(2)
يُنظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 117)، حيث قال:"المنصوص في التفليس أنه يأخذ الباقي بما بقي من الثمن ".
(3)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 486)، حيث قال:"وقولنا في هذا هو قول الأوزاعي، وعبيد الله بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود ".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 322)، حيث قال:" الشرط الثالث أَيْ: في الرجوع في السلعة ألَّا يكون البائع قبض من ثمنها شيئًا، فَإنْ كان قد قبض بعض ثمنها، سقط حق الرجوع .. وبهذا قال إسحاق ".
(5)
يُنظر: " شرح مُنْتهى الإرادات " للبهوتي (2/ 162)، حيث قال: " (وشرط) لرجوع من =
هَؤُلاء يُفصِّلون فيَقُولون: هناك فرق بين مَنْ يجد سلعته ويكون قبض منها شيئًا، فإن كان قد قبض شيئًا فيساوى بالغرماء، وإن لم يقبض شيئًا فهو أحق بها.
قوله: (وَحُجَّتُهُمْ: مَا رَوَى مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا، فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ شَيْئًا فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ الَّذِي ابْتَاعَهُ فَصَاحِبُ المَتَاعِ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ")
(1)
.
هذا هو دليل الفريق الثالث (إسحاق وأحمد وداود)، ومَنْ معهم، وهم أكثر العلماء، وهذا الحديث نص في هذه المسألة، وقد أخرجه أبو داود في "سننه "
(2)
، وابن ماجه في "سننه "
(3)
، والبيهقي
(4)
، والدارقطني
(5)
، وغيرهم
(6)
، وهو حديث صالح للاحتجاج به
(7)
.
قَوْله: (وَهُوَ حَدِيثٌ وَإِنْ أَرْسَلَهُ مَالِكٌ
(8)
فَقَدْ أَسْنَدَهُ عبد الرازق)
(9)
.
= وجد عين ماله عنده ستة شروط (كون المفلس حيًّا إلى أخذها)؛ لحديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيما رجل باع متاعه فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه، فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء "".
(1)
أخرجه أبو داود (3520)، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ فى " صحيح أبي داود "(ص 2).
(2)
أخرجه أبو داود (3520)، والحديث صحَّحه الأَلْبَانيُّ في " إرواء الغليل "(5/ 359).
(3)
أخرجه ابن ماجه (2359).
(4)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 46).
(5)
أخرجه الدارقطني (3/ 432).
(6)
كالطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(12/ 17).
(7)
صَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود "(ص 2).
(8)
أخرجه مالك (2/ 678)، عن ابن شهاب، عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، مرسلًا.
(9)
أخرجه عبد الرزاق (8/ 264)، عن الثوري، عن يحيى بن سعيد قال: حدثنا =
لَمْ يأخذ به بعض العلماء كالشافعي؛ لأنَّه مرسل، لكننا نقول: قد جاء موصولًا من طرق أخرى، فإنَّه جاء عند عبد الرزاق مسندًا، وعند أبي داود، والدارقطني
(1)
، والتعليل بأنَّه لا يحتج به لكونه جاء مرسلًا يدفعه أنَّه جاء مسندًا.
قوْله: (وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الزّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ زِيَادَةُ بَيَانٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِيهِ:" فَإِنْ كَانَ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهِ شيْئًا فَهُوَ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ "
(2)
. ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِهِ فِي الفِقْهِ
(3)
، وَخَرَّجَهُ).
كتابه في الفقه في الأموال، ولكن خرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني كما قلنا، وكان الأَوْلَى أن يذكر ذلك؛ لأنها كتب متخصصة في الحديث، فكان ينبغي أن يذكرها، أو بعضها، لكنه وقف عليه في كتاب الأموال لأبي عبيد فذكره
(4)
.
قوْله: (وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ كُلَّ السِّلْعَةٍ، أَوْ بَعْضَهَا فِي الحُكْمِ وَاحِدٌ).
المؤلف يريد بأن الشافعي لم يأخذ بهذا القول، وقد ثبت عن الإمام الشافعي رحمه الله أنَّه قال:" إذا صح الحديث فهو مذهبي "، ولم يأخذ به؛ لأنَّه رأى أنَّه مرسل، وحجته أنها كلها واحد؛ سواء قبض أو لم يقبض، هذا هو المراد.
قوْله: (وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ إذَا فَوَّتَ المُشْتَرِي بَعْضَهَا أَنَّ البَائِعَ
= أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة، مرفوعًا.
(1)
تقدم.
(2)
أخرجه أبو داود (3522)، وصححه (ص 2).
(3)
لم أقف عليه.
(4)
تقدم.
أَحَقُّ بِالمِقْدَارِ الَّذِي أَدْرَكَ مِنْ سِلْعَتِهِ إِلَّا عَطَاءً فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا فَوَّتَ المُشْتَرِي بَعْضَهَا كَانَ البَائِعُ أُسْوَةَ الغُرَمَاءِ
(1)
. وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي المَوْتِ: هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الفَلَسِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ فِي المَوْتِ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ، بِخِلَافِ الفَلَسِ)
(2)
.
مالك وأحمد
(3)
: لو وجد متاعه بعينه عند رجلٍ قد توفي فهو أسوة الغرماء، وعند الشافعي: هو أحقُّ بها، لا فرق بين أن يجد ماله عند رجلٍ قد أفلس، أو عند رجلٍ قد مات.
قَوْل: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ
(4)
.. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ).
(1)
قول عطاء أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8/ 265): أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال:" إذا باع الرجل سلعته من رجلِ، فأفلس المبتاع قال: إنْ وجد سلعته بعينها وافرةً، فهو أحق بها، وَإنْ كان المشَتري قد استهلك منها شيئًا قليلًا أو كثيرًا، فالبائع أسوة الغرماء"، وقاله ابن جريج عن عطاء.
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 50) حيث قال: "وللغريم أخذ عين ماله المحاز عنه في الفلس لا الموت ".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 166)، حيث قال:" (وإن مات بائع) حال كونه (مدينًا فمشتر أحق بمبيعه ولو قبل قبضه) نصًّا؛ لأنه ملكه بالبيع من جائز التصرف، فلا يملك أحد منازعته فيه كما لو لم يمت بائعه مدينًا وإنْ مَات المشتري مفلسًا والسلعة بيد البائع، فَهُوَ أسوة الغرماء، يضرب له معهم بالثمن إنْ لم يكن أخذه ".
(4)
يُنظر: " أسنى المطالب " لزكريا الأنصاري (5/ 144) حيث قال: " (واسترداد المبيع) كله أو بعضه، ويضارب بالباقي للخبر المتفق عليه: " إذا أفلس الرجل ووجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها من الغرماء"، وفي رواية لهما: "من أدرك ماله بعينه عند رجل وقَدْ أفلسَ، فهو أحق به من غيره "، وسياقه قاضٍ بأن الثمنَ لم يقبض، وفي أخرى: " أيما رجلٍ أفلس أو مات، فصاحب المتاع أحق بمتاعه ".
وأفهم كلامه أنه لا رجوع لو أفلس ولم يحجر عليه، أو حجر عليه بسفهٍ، أو اشترى حال الحجر إلا إن جهل حاله ".
وفي "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 415) حيث قال: " قال الشافعي: الموت والفلس سواء، وصاحب السلعة أحق بها إذا وجدها بعينها في الوجهين ".
عُمْدة مالك وأحمد.
قَوْله: (مَا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ نَصٌّ فِي ذَلِكَ، وَأَيْضًا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ: أَنَّ فَرْقًا بَيْنَ الذّمَّةِ فِي الفَلَسِ، وَالمَوْتِ، وَذَلِكَ أَنَّ الفَلَسَ مُمْكِنٌ أن تَثْرَى حَالُهُ فَيَتْبَعُهُ غُرَمَاؤُهُ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي المَوْتِ).
والواقع يشهد بذلك؛ لأن الإنسان إذا أفلس وذهب ماله، ربما يكون مبذرًا، أو عنده كرم زائد، كلما جاءه من الأموال أنفقها، وأيضًا يوجد من الناس من يمسك على المال، هذا الإنسان إذا أفلس ربما يتدارك الخطأ، ولذلك رأيت ما مر بنا من الحَجْر على السفيه الذي يبذر أمواله، لكن هذا الذي أفلس وذهب ماله وربما لا يكون نتيجة التبذير، يبيع ويشتري، فلا يوفق، فيخسر السلع، وربما يصبر وبعد ذلك يرجع إلى حاله، وربما يكون المفلس صاحب صنعةٍ وينتج.
ولذلك، يُفرِّق العلماء بين المفلس إذا كان صاحب صَنْعةٍ وبين ما أُخِذَ من بين يديه لا يستطيع أن يتصرَّف، ولا أن ينفق، وبين آخر لو أخذ جميع ما بين يديه، فإنَّه صاحب صنعة يستطيع أن يعمل وينفق.
قوْله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَعُمْدَتُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ، فَصَاحِبُ المَتَاعِ أَحَقُّ بِهِ " (1)، فَسَوَّى فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ المَوْتِ وَالفَلَسِ. وَقَالَ: وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ شِهَابٍ مُرْسَلٌ، وَهَذَا مُسْنَدٌ. وَمِنْ طَرِيقِ المَعْنَى: فَهُوَ مَالٌ لَا تَصَرُّفَ فِيهِ لِمَالِكِهِ إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَالَ المُفْلِسِ. وَقِيَاسُ مَالِكٍ أَقْوَى مِنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ).
قياسُ مالكٍ أقوى؛ لأنَّه فرق بين الميت وغيره، ومعلوم أن الحي يعمل ويعيد الكَرَّة ويبذل جهده، أما الميت فانتهى أمره.
قَوْله: (وَتَرْجِيحُ حَدِيثِهِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مُوَافَقَةَ القِيَاسِ لَهُ أَقْوَى).
موافقة القياس لرأي مالكٍ وأحمد.
قَوْله: (وَذَلِكَ أَنَّ مَا وَافَقَ مِنَ الأَحَادِيثِ المُتَعَارِضَةِ قِيَاسَ المَعْنَى فَهُوَ أَقْوَى مِمَّا وَافَقَهُ قِيَاسُ الشَّبَهِ)
(1)
.
لأنَّه فرَّق بين القياسين: قياس العلة
(2)
الذي يُعْرف بقياس المعنى، وهو حجة، وهو أحد الأدلة الشرعية، إلحاق فرع بأصل في حكم العلة تجمع بينهم؛ لكن قياس الشبه ضعيف؛ لأنَّه لا يُبْنَى على أصول، مجرد شبه بين أمرين.
قَوْله: (أَعْنِي: أَنَّ القِيَاسَ المُوَافِقَ لِحَدِيثِ الشَّافِعِيِّ هُوَ قِيَاسُ شَبَهٍ، وَالمُوَافِقَ لِحَدِيثِ مَالِكٍ قِيَاسُ مَعْنًى، وَمُرْسَلُ مَالِكٍ خَرَّجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ).
(1)
قال ابن قدامة في "روضة الناظر"(ص 312): "هو أن يتردد الفرع بين أصلين: حاظر ومبيح مثلًا، ويكون شبهه بأحدهما أكثر نحو أن يشبه المبيح في ثلاثة أوصاف، ويشبه الحاظر في أربعة، فلنلحقه بأشبههما به.
ومثاله: تردد العبد بين الحر وبين البهيمة في أنه يملك، فمن لم يملكه قال: حيوان يجوز بيعه ورهنه وهبته وإجارته وإرثه أشبه بالدابة، ومن يملكه قال: يُثَاب ويعاقب وينكح ويطلق ويكلف أشبه الحر، فيلحق بما هو أكثر هما شبهًا. وقيل: الشبه الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة الحكم من جلب المصلحة أو دفع المفسدة ".
(2)
"قياس العلة": هو أن يحمل الفرع على الأصل بالعلة التي علق الحكم عليها في الشرع، ويسمى: قياس المعنى، وينقسم إلى جلي وخفي، فأما الجلي فما علم من غير معاناة وفكر، والخفي ما لا يتبين إلا بإعمال فكر. يُنظر:" البحر المحيط " للزركشي (4/ 33).
كان ينبغي للمؤلف رحمه الله أن يضيف لفظة: " موصولًا "؛ لأن عبد الرزاق خرجه متصل السند.
قَوْله: (فَسَبَبُ الخِلَافِ: تَعَارُضُ الآثَارِ فِي هَذَا المَعْنَى، وَالمَقَايِيسِ).
من أسباب الخلاف تعارض الآثار؛ أي: تَرِدُ أدلةٌ، هذا يدل على شيءٍ، وهذا يدلُّ على شيءٍ آخر، هذا يُفْهم منه شيءٌ وهذا يُفْهم منه شَيءٌ آخر، وَهَذا سَببٌ من أسباب الاختلاف.
قَوْله: (وَأَيْضًا فَإِنَّ الأَصْلَ يَشْهَدُ لِقَوْلِ مَالِكٍ فِي المَوْتِ - أَعْنِي: أَنَّ مَنْ بَاعَ شَيْئًا فَلَيْسَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ -، فَمَالِكٌ رحمه الله أَقْوَى فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ، وَالشَّافِعِيُّ إِنَّمَا ضَعُفَ عِنْدَهُ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ لمَا رُوِيَ مِنَ المُسْنَدِ المُرْسَلِ عِنْدَهُ لَا يَجِبُ العَمَلُ بِهِ).
لما روى الشافعي من المسند عنده، والمرسل عند مالك، ونحن قلنا بأنَّ المرسل عند مالك وأحمد وصله جماعة من العلماء، فأصبح أيضًا مسندًا، فترجح القول الأول الذي هو مذهب المالكية والحنابلة ومَنْ معهم؛ لأن دليلهم أقوى.
قَوْله: (وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
فِيمَنْ وَجَدَ سِلْعَتَهُ بِعَيْنِهَا
(1)
يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (3/ 324) حيث قال: " ولو كان هذا البائع لهذه السلعة يستحق قِبَل مشتريها دينًا آخر من ثمن سلعة باعها منه، وأتلفها مشتريها، فينتزع الغرماء بأن يفدوا منه هذه السلعة التي باع وهي باقية بعينها في يد مشتريها، فإنها إذا بِيعَتْ بربحٍ وزيادةٍ على الثمن الذي فَدَوْها به من هذا البائع الذي استحق عينها، فإنه يضرب معهم بثمن السلعة الفائتة في جميع ما بيد الغريم سوى هذه السلعة خاصة، فإن دخول هذا البائع الذي استحق عينها وفَدَوْها منه بثمنها الذي باعها به مع سائر الغرماء في ثمنها الذي بيعت به، فيه اختلاف، ولكن مقدار ما يفدونها به، وما حصل لهم فيها من ربح، فلا يختلف في أن هذا البائع الذي فديت السلعة منه يضرب معهم في ربح سلعته هذه التي فَدَوْها منه، وفيما سواها من مال الغريم بالدَّين الذي له في ذمة الغريم، وهو السلعة التي فأتت ولم توجد عينها".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 156)، حيث قال: " (وإنْ زادت) بذلك (فالأظهر) =
عِنْدَ المُفْلِسِ، وَقَدْ أَحْدَثَ زِيَادَةً، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ أَرْضًا يَغْرِسُهَا، أو عَرْصَةً يَبْنِيهَا: فَقَالَ مَالِكٌ: العَمَلُ الزَّائِدُ فِيهَا هُوَ فَوْتٌ، وَيَرْجِعُ صَاحِبُ السِّلْعَةِ شَرِيكَ الغُرَمَاءِ).
"فوت "؛ أي: فأتت السلعة على صاحبها بهذا التغيير أو هذه الإضافات التي حدثت، فيكون واحدًا من الغرماء؛ فيدخل معهم في المحاصة؛ أي: الاقتسَام؛ لأن هذا التغير قد أخرجها على أن يكون هو أحق بها.
قَوْله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَلْ يُخَيَّرُ البَائِعُ بَيْنَ أن يُعْطِيَ قِيمَةَ مَا أَحْدَثَ المُشْتَرِي فِي سِلْعَتِهِ وَيَأْخُذَهَا، أَوْ أَنْ يَأْخُذَ أَصْلَ السِّلْعَةِ وَيُحَاصَّ الغُرَمَاءَ فِي الزِّيَادَةِ).
وبقول الإمام الشافعي قال الإمام أحمد رحمه الله
(1)
.
قوْله: (وَمَا يَكُونُ فَوْتًا مِمَّا لَا يَكُونُ فَوْتًا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ مَنْصُوصٌ فِي كُتُبِهِ المَشْهُورَةِ)
(2)
.
= أنَّ الزيادة عين لا أثر محض، فيشارك المفلس بها، فللبائع أخذ المبيع ودفع حصة الزيادة للمفلس، فإن أبي فالأظهر (أنه لا يباع، وللمفلس من ثمنه نسبة ما زاد) بالعمل ".
(1)
يُنظر: "شرح مُنْتهى الإرادات " للبهوتي (2/ 165) حيث قال: " (وهي) أيْ: الزيادة (لبائع) نصًّا في ولد الجارية ونتاج الدابة، واختاره أبو بكر وغيره (وظهر في التنقيح رواية كونها) أي: الزيادة المنفصلة (لمفلس) قال: وعنه لمفلس وهو أظهر، انتهى. واختاره ابن حامد وغيره، وَصَحَّحه في "المغني"، و"الشرح "، وجزم به في "الوجيز"، قال في " المغني ": يحمل كلام أحمد على أنه باعهما في حال حملهما، فيكونان مبيعين، ولهذا خص هذين بالذكر قال: ولا يَنْبغي أن يقَعَ في هذا اختلاف لظهوره ".
(2)
منها على سبيل المثال الفوت بالزيادة والنقصان في السلع، كما ذكره ابن شاس في " عقد الجواهر الثمينة " (2/ 727) حيث قال:" ثم فوت السلعة يكون بالزيادة والنقصان، وَفِي كون حَوَالة الأسواق فوتًا قولان: سببهما النظر إلى صحة البيع، فيلحق بالعيوب الموجبة للرد أو النظر إلى أن المآل في هذا فساد، فيلحق بالبيوع الفاسدة ".
ما يسمى بالفوت: هو ما يفوت الإنسان في حقه، أو ما لا يفوته، وهو مبين في كتب الفروع في المذهب
(1)
.
قَوْله: (وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِيمَا يَكُونُ الغَرِيمُ بِهِ أَحَقَّ مِنْ سَائِرِ الغُرَمَاءِ فِي المَوْتِ وَالفَلَسِ، أَوْ فِي الفَلَسِ دُونَ المَوْتِ: أَنَّ الأَشْيَاءَ المَبِيعَةَ بِالدَّيْنِ تَنْقَسِمُ فِي التَّفْلِيسِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: عَرَضٌ يَتَعَيَّنُ، وَعَيْنٌ اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَتَعَيَّنُ فِيهِ أَمْ لَا؟).
" عين اختلف فيه "، أي: حدث فيها تغير أو لا.
قوله: (وَعَمَلٌ لَا يَتَعَيَّنُ).
أجرة الأجير أو الحمل، أو غير ذلك، هذا يدخل في باب المنافع.
إذًا، إما أن يجد الإنسان سلعته، أو يجدها وقد تغيرت، أو يكون عملًا من الأعمال.
قَوْله: (فَأَمَّا العَرَضُ: فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ بَائِعِهِ لَمْ يُسَلِّمْهُ حَتَّى أَفْلَسَ المُشْتَرِي، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فِي المَوْتِ وَالفَلَسِ).
باع عليه عرضًا من عروض التجارة، كثلاجة أو ثوب أو غسالة؛ لكنها بقيت عند البائع (عروض التجارة).
قَوْله: (وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ)
(2)
.
(1)
يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (2/ 623)، قال:"والفوت هو ما لا يمكن الرد معه إمَّا لتلف المبيع كالموت والزمانة والهرم الذي لا يبقى معه انتفاع به، وإمَّا لتلف الملك كالعتق والتدبير والاستيلاد والكتابة ".
(2)
يُنظر: " البيان والتحصيل " لابن رشد (10/ 477)، حيث قال:"وعامة أصحاب مالك في أن الرجل أحق بالعين والعرض في الفلس كان العين والعرض من بيعٍ أو قرضٍ ".
متفق عليه بين الأئمة كلهم، وقد مرَّ مثله بأن الإنسان إذا باع سلعةً على رجلٍ، ثم أفلس المشتري أي: المبتاع قبل أن يتسلم السلعة، فهو أحق بها؛ أي: البائع، بلا خلافٍ بين العلماء.
قَوْله: (وَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهُ إلى المُشْتَرِي ثُمَّ أَفْلَسَ وَهُوَ قَائِمٌ بِيَدِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الغُرَمَاءِ فِي الفَلَسِ دُونَ المَوْتِ).
دفع العوض إلى المفلس، ثم أنه أفلس، لكن هذا العرض لم يغير فيه شيء "من باع سلعةً فوجد سلعته بعينها عند رجلٍ قد أفلس ولم يقبض منه شيئًا، فهو أحق بها، وإن قبضَ فهو أُسْوَة الغرماء"
(1)
، وَلكن إنْ كان هذا الإنسان قد مات فوجدها في تركته، فهو كأسوة الغرماء عند مَالِكٍ
(2)
وأحمد
(3)
، وهو أحق بها عند الشافعي
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود (3520)، ولفظه:" أيما رجل باع متاعًا فأفلس، الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعَه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه فهو أحقُّ به، وإنْ مات المشتري فَصَاحبُ المتاع أسوة الغرماء"، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(5/ 272).
(2)
يُنظر: " الفواكه الدواني " للنفراوي (2/ 239) حيث قال: " (ومن وجد سلعةً) التي باعها ولم يقبض ثمنها ولم يطلبه إلا (في) زمن (التفليس) الأخص فهو بالخيار (فإما حاصص) الغرماء بثمنها (وإلا) بان لم يحاصص (أخذ سلعته إنْ كانت تُعْرف بعينها)، وشهدت له البينة أنه سلعته لم تنقل ويأخذها ولو نقدًا مسكوكًا حيث شهدت البينة على عينه، أو كان مطبوعًا عليه أو إبقاء. وفهم من قولنا: "ولم يطلبه إلا في زمن التفليس " أن الفلس طارئ على الشراء، وأما لَوْ كان سابقًا عليه، فإنه لا يكون أحق بها، بل يكون له المحاصة مع الغرماء، نعم له حبسها حتى يقبض ثمنها إنْ كان حالًّا، ومفهوم في التفليس أشار إليه بقوله: (وهو في الموت أسوة الغرماء) ".
(3)
يُنظر: "العدة شرح العمدة" لبهاء الدين المقدسي (ص 269): " أن يكون المفلس حيًّا، فإن مات فله أسوة الغرماء".
(4)
يُنظر: " حاشية قليوبي على شرح المنهاج "(2/ 365) حيث قال: "ولا يلزم في ذلك التقديم للثمن؛ لأن المقصود دفع الإشكال. قوله: (فسخ البيع) وإن مات المفلس خلافًا لمالك في الميت ".
قوْله: (وَلَهُمْ عِنْدَهُ أَنْ يَأْخُذُوا سِلْعَتَهُ بِالثَّمَنِ
(1)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُمْ)
(2)
.
الإمام الشافعيُّ خالف في هذه المسألة، أما الإمام أحمد فوافق الإمام مالكًا رحمه الله في هذه المسألة.
قوْله: (وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يَأْخُذُونَهَا إِلَّا بِزِيَادَةٍ يَحُطُّونَهَا عَنِ المُفْلِسِ. وَقَالَ ابْنُ المَاجِشُون: إِنْ شَاؤُوا كَانَ الثَّمَنُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ مِنْ مَالِ الغَرِيمِ. وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: بَلْ يَكُونُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَأَمَّا العَيْنُ: فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا فِي المَوْتِ أَيْضًا، وَالفَلَسُ مَا كَانَ بِيَدِهِ)
(3)
.
نعلم بأنَّه ممكن أنْ يكون هناك عينٌ، وهناك دينٌ، ويقصد بالعين مفرد الأعيان.
قَوْله: (وَاخْتُلِفَ إذَا دَفَعَهُ إِلَى بَائِعِهِ فِيهِ فَفَلَّسَ أَوْ مَاتَ وَهُوَ قَائِمٌ بِيَدِهِ يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ أَحَقُّ بِهِ كَالعُرُوضِ في الفَلَسِ دُونَ المَوْتِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ القَاسِمِ)
(4)
.
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل " للخرشي (5/ 281) حيث قال: "من باع سلعة وحازها المشتري وقبل أن يقبض البائع ثمنها فلس المشتري أو مات، والسلعة موجودة، فلِبَائِعِها وهو المراد بالغريم أن يأخذ عين شيئه المحاز عنه في حالة الفلس، وهُوَ أحقُّ به من الغرماء".
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب " لزكريا الأنصاري (2/ 192) حيث قَالَ: " (ومن وجد من الغرماء) عند المفلس (عين ماله قبل قبض الثمن أو عين ما أقرض) له (فله الفسخ) للعقد واسترداد العين (ولو بلا حاكم) ".
(3)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (8/ 184) حيث قال: " قال عَبْدُ المالك: متى دفع إليه الغرماء الثمن من أموالهم أو من مال المفلس، فلَا رجوع، ومنع ابن كنانة من أموالهم، بَلْ من مال المفلس. وقال أشهب: لَيْس لهم أخذها بالثمن حتى يزيدوا عليه زيادة يحطُّونها عن المفلس ".
(4)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (8/ 177) حيث قال: " فإن سلمها للبائع، فقال ابن القاسم: أحق في الفلس دون الموت كالعرض ".
وهو قول أحمد
(1)
.
قَوْل: (وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ
(2)
، وَالقَوْلَانِ جَارِيَانِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَعْيِينِ العَيْنِ. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ فِي المَوْتِ وَالفَلَسِ).
ولذلك، نجد أن العلماء رحمهم الله يفضلون عندما يباع مال المفلس أن يحضر المفلس، تطييبًا لخاطره، وليقف على البيع حتى لا يحصل الظن في ذلك، وأن يعرف ثمن تلك السلع التي اشتراها، ويفضلون أيضًا أن يحضر الغرماء؛ لأنَّه أطيب لنفوسهم، وليقفوا على البيع، وربما رأوا أن يشتروا، وهذا يزيد في ثمن السلعة، وهم يُفضِّلون حضور المفلس والغرماء، ولا يوجبون.
قوْله: (وَأَمَّا العَمَلُ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ: فَإِنْ أَفْلَسَ المُسْتَأْجِرُ قَبْلَ أن يَسْتَوْفِيَ عَمَلَ الأَجِيرِ كَانَ الأجِيرُ أَحَقَّ بِمَا عَمِلَهُ فِي المَوْتِ وَالفَلَسِ جَمِيعًا، كَالسِّلْعَةِ إذا كانَتْ بِيَدِ البَائِعِ فِي وَقْتِ الفَلَسِ).
مثال ذلك: إنسان استأجر إنسانًا ليعمل له عملًا أو يحمل له متاعًا، إذا أفلس الإنسان قبل أن يدخل العامل في العمل فله (أي: للمستأجر) أن يُنهي العقد وينتهى الأمر، لكنَّ الخلاف إذا أدى بعضَ العمل؛ كأن حمل المتاع أو قام ببعض العمل الذي طلب منه أو أكمل العمل كاملًا، فهنا
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 212) حيث قال: " أن من وجد عنده عينًا باعها إياه ولو بعد الحجر عليه غير عالم به، أو عين قرض، أو رأس مال سلم، أو غير ذلك حتى عينًا مؤجرة ولو نفسه أو غيرها، ولم يمض من المدة شيء - فَهو أحق بها: إنْ شاء ولو بعد خروجها من ملكه وعودها إليه بفسخٍ أو شراءٍ أو نحو ذلك فلو اشتراها ثم باعها ثم اشتراها فهي لأحد البائعين بقرعة، فإن بذل الغرماء لصاحب السلعة الثمن من أموالهم أو خصوه به من مال المفلس ليتركها أو قال المفلس: أنا أبيعها وأعطيك ثمنها، لَمْ يلزمه قبوله ".
(2)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (8/ 177) حيث قال: "وقيل كالغرماء، قاله أشهب ".
يحصل الخلاف، قياسًا على السلعة التي بيد البائع في حال الفلس فهو أحق بها، وهذا أيضًا الصنعة بيده، طلب منه أن يصنع له شيئًا، أن يَخِيطَ له ثوبًا، فهو أَحقُّ به أيضًا.
قَوْله: (وَإِنْ كَانَ فَلَسُهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْفَى عَمَلَ الأَجِيرِ: فَالأَجِيرُ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ بِأُجْرَتِهِ الَّتِي شَارَطَهُ عَلَيْهَا في الفَلَسِ وَالمَوْتِ جَمِيعًا عَلَى أَظْهَرِ الأَقْوَالِ).
وهَذَا هو مذهب الجمهور
(1)
.
قَوْله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِيَدِهِ السِّلْعَةُ الَّتِى اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلِهَا، فَيَكُونُ أَحَقَّ بِذَلِكَ فِي المَوْتِ، وَالفَلَسِ جَمِيعًا؛ لِأنَّهُ كَالرَّهْنِ بِيَدِهِ).
إذا لم تخرج السلعة التي عملها العامل أو الصانع من يده، فهو أحقُّ بها قياسًا على البيع، ومذهب الحنابلة قريب جدًّا من هذا
(2)
.
قوْله: (فَإِنْ أَسْلَمَهُ، كَانَ أُسْوَةَ الغُرَمَاءِ بِعَمَلِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ أَخْرَجَهُ فَيَكُونَ أَحَقَّ بِهِ فِي الفَلَسِ دُونَ المَوْتِ، وَكَذَلِكَ الأَمْرُ
(1)
مذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (4/ 171) حيث قال: " إذا استأجر المفلس أو غيره على القصارة، أو الطحن، فعمل الأجير عمله، فهَلْ له حبس الثوب المقصور والدقيق لاستيفاء الأجرة؟ إنْ قلنا: القصارة وما في معناها أثر، فلا. وإنْ قلنا: عين، فنعم، كما للبائع حبس المبيع لاستيفاء الثمن، وبه قال الأكثرون ".
ومذهب الحنابلة، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 426) حيث قال: " (ومن استأجر أرضًا) مثلًا (للزرع) أو غيره (فأفلس) المستأجر (قبل مضي شيء من المدة) له أجرة (فللمؤجر فسخ الإجارة)؛ لأنه أدرك عين ماله عند مَنْ أفلس. (وإنْ كان) الحجر عليه (بعد انقضائها) أي: المدة (أو) بعد (مضي بعضها لم يملك الفسخ)؛ لأنه لم يجد عين ماله (تنزيلًا للمدة منزلة المبيع ومضي بعضها) أي: المدة (بمنزلة تلف بعضها) أي: بعض العين المبيعة وهو مسقط للرجوع ".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 272) حيث قال: " (وله) أي: الأجير (حبس معمول) كثوب صبغه أو قصره أو خاطه (على أجرته إن أفلس ربه) أي: حكم بفلسه ورجع به ".
عِنْدَهُ فِي فَلَسِ مُكْتَرِي الدَّوَابِّ إِنِ اسْتَكْرَى أَحَقُّ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ المَتَاعِ فِي المَوْتِ وَالفَلَسِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ مُكْتَرِي السَّفِينَةِ)
(1)
.
إن استكرى فهو أحقُّ.
قوله: (وَهَذَا كلُّهُ شَبَّهَهُ مَالِكٌ بِالرَّهْنِ).
وكذلك الرهن معتبر أيضًا عند الحنابلة، وهذا أظنه رأىِ أكثر الفقهاء.
قوله: (وَبِالجُمْلَةِ: فَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِهِ أَنَّ البَائِعَ أَحَقُّ بِمَا فِي يَدَيْهِ فِي المَوْتِ وَالفَلَسِ).
ومَعه أحمد والشافعيُّ، لكنَّ الشافعيَّ فقط يخالف بالنسبة لمن وجد متاعه بعينه عند رجلٍ قد مات
(2)
.
قوله: (وَأَحَقُّ بِسِلْعَتِهِ القَائِمَةِ الخَارِجَةِ عَنْ يَدِهِ فِي الفَلَسِ دُونَ المَوْتِ، وَأَنَّهُ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ فِي سِلْعَتِهِ إِذَا فَاتَتْ، وَعِنْدَمَا يُشْبِهُ حَالَ الأَجِيرِ- عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ -
(3)
وَبِالجُمْلة البَائِعِ مَنْفَعَةً بِالبَائِعِ الرَّقَبة).
مُرَاد المؤلف رحمه الله هنا أنه عند مالكٍ وأصحابه عطفًا على "وبالجملة" ما يَكُون في المنافع يشبهونه بالبيع، وبالجملة كبائع منفعة، كبائع الرقبة التي هي الأصل في البيوع، شبه المنافع بالبيوع.
(1)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (5/ 474) حيث قال: "إذا أفلس المكتري أو مات بعد الزرع أو قبل النقد، فربها أحقُّ بالزرع في الفلس دون الموت، وفي الدار: أحق بالسكنى إنْ لم يسكن وإن فلس الجمال فالمكتري أحق بالإبل حتى يتم حمله إلا أن يضمن الغرماء الحملة: تنزيلًا للمنافع في جميع هذه الصور منزلة السلع في التفليس ".
(2)
وقد تقدَّم ذِكر ذلك كله.
(3)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (5/ 474) حيث قال: "فالمكتري أحقُّ بالإبل حتى يتم حمله إلا أن يضمن الغرماء الحملة: تنزيلًا للمنافع في جميع هذه الصور منزلة السلع في التفليس ".
قَوْله: (فَمَرَّةً يُشَبِّهُونَ المَنْفَعَةَ الَّتِي عَمِلَ بِالسِّلْعَةِ الَّتِي لَمْ يَقْبِضْهَا المُشْتَرِي، فَيَقُولُونَ: هُوَ أَحَقُّ بِهَا فِي المَوْتِ وَالفَلَسِ).
كالحَال بالنسبة للسلعة التي باعها فوجدها.
قَوْله: (وَمَرَّةً يُشَبِّهُونَهُ بِالَّتِي خَرَجَتْ مِنْ يَدِهِ وَلَمْ يَمُتْ فَيَقُولُونَ: هُوَ أَحَقُّ بِهَا فِي الفَلَسِ دُونَ المَوْتِ، وَمَرَّةً يُشَبِّهُونَ ذَلِكَ بِالمَوْتِ الَّذِي فَاتَتْ فِيهِ، فَيَقُولُونَ: هُوَ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ).
المُرَاد هنا بأنَّه بالنِّسبة للمَنْفَعة كلام أصحاب الإمام مالكٍ كالكلام بالنسبة للمبيع.
قَوْله: (وَمِثَالُ ذَلِكَ: اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى سَقْيِ حَائِطٍ، فَسَقَاهُ حَتَّى أَثْمَرَ الحَائِطُ).
يريد أن يعطينا مثالًا تطبيقيًّا للمنفعة؛ إنسانٌ استأجر آخر ليسقي مزرعته، ثم مات المستأجر، إما أن يفلس الرجل قبل أن يحصل سقيًا فينهى العقد، أو يبدأ فيه ثم يحصل الإفلاس أو أن يُتمَّه.
قَوْله: (ثُمَّ أَفْلَسَ المُسْتَأْجِرُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِيهِ ثَلَاثَةَ الأَقْوَالِ
(1)
. وَتَشْبِيهُ بَيْعِ المَنَافِعِ فِي هَذَا البَابِ بِبَيْعِ الرِّقَابِ هُوَ شَيْءٌ -فِيمَا أَحْسَبُ- انْفَرَدَ بِهِ مَالِكٌ دُونَ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ).
لكن بعض الأجزاء يوافقه فيه الأئمة، هذا إذن وضحها أكثر بأنَّهم يقولون بالمنفعة في الأمور التي كانت في بيع الرقبة؛ أيْ: البُيُوع المعروفة
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (2/ 338) حيث قال: "استؤجر على سقي حائطٍ، فسقَاه حتى أثمر ثم فلس؛ قال في "المدونة": إنه أحق بالثمرة في الفلس دون الموت؛ وروى أصبغ أنه أحق في الموت والفلس؛ والأظهر أنه أسوة الغرماء في الموت والفلس ".
(بيع السلع)، يقولون ذلك بنَفْس المنفعة، وأما قوله:"فيما أحسب "، فهو لم ينفرد به مالكٌ، فمن العلماء من يلحق ذلك.
قَوْله: (وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ المَأْخُوذِ مِنَ المَوْضِعِ المُفَارِقِ لِلأصُولِ يَضْعُفُ).
في الحقيقة رأي ضعيف، أما عند غيري فليس بضعيف، ولعلنا ذكرنا في باب الإجارة أنَّ من العلماء مَنْ قال: يجوز أن يعبر عن الإجارة بالبيع، يقول: بعتك هذه الدار بمعنى أجَّرتك إياها.
وهذا رأي مشهور عند الحنابلة
(1)
إذًا المسألة ليس كما ذكر المؤلف حينئذٍ، لا يكون القياس قياس شبه؛ ولذلك هو تردد فيه.
قَالَ: (وَلذَلِكَ ضَعُفَ عِنْدَ قَوْمٍ القِيَاسُ عَلَى مَوْضِعِ الرُّخَصِ، وَلَكِنِ انْقَدَحَ هُنَالِكَ قِيَاسُ عِلَّةٍ، فَهُوَ أَقْوَى، وَلَعَلَّ المَالِكِيَّةَ تَدَّعِي وُجُودَ هَذَا المَعْنَى فِي القِيَاسِ، وَلَكِنَّ هَذَا كلَّهُ لَيْسَ يَلِيقُ بِهَذَا المُخْتَصَرِ. وَمِنْ هَذَا البَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي العَبْدِ المُفْلِسِ المَأْذُون لَهُ فِي التِّجَارَةِ: هَلْ يُتْبَعُ بِالدَّيْنِ فِي رَقَبَتِهِ أَمْ لَا؟).
معلوم أن العبد لا يملك؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع عبدًا له مال، فماله لسيده إلا أن يشترطه المبتاع "
(2)
، فهو لا يملك، وإن كان له مال فهو لسيده.
وَهَذِهِ المسألة هي العبد إذا فوضه سيده؛ أيْ: أعطاه تصريحًا بأن
(1)
قال ابن قدامة في "المغني"(5/ 322): "إذا ثبت هذا، فإنها تنعقد بلفظ الإجارة والكراء؛ لأنهما موضوعان لها. وهل تنعقد بلفظ البيع؟ فيه وجهان، أحدهما: تنعقد به؛ لأنها بيع فانعقدت بلفظه، كالصرف. والثاني: لا تنعقد به؛ لأن فيها معنى خاصًّا، فافتقرت إلى لفظ يدل على ذلك المعنى".
(2)
تقدم تخريجه.
يتاجر فيه ثم أفلس، فما الحكم؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوالٍ ثلاثةٍ:
قول انفرد به الإمامان مالك والشافعي، والثلاثة الأقوال كلها لأحمد فيها رواية، كما سيبين المؤلف
(1)
.
وأشار إلى أنَّه يشترط أن يكون هذا العبد مأذونًا له في التجارة، أما بدون إذنٍ، فليس من حقه أن يبيع وأن يشتري، إذا أفلس فهل يتبع بالدين في رقبته يطالب ببيعه أو لا؟
قَوْله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ)
(2)
.
وَالشَّافعي
(3)
.
قَوْله: (وَأَهْلُ الحِجَازِ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُتْبَعُ بِمَا فِي يَدِهِ لَا فِي رَقَبَتِهِ، ثُمَّ إِنْ أُعْتِقَ أُتْبعَ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ، وَرَأَى قَوْمٌ أنه يُبَاعُ).
ورواية عن الإمام أحمد
(4)
.
قَوْله: (وَرَأَى قَوْمٌ أَنَّ الغُرَمَاءَ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ بَيْعِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَسْعَى
(1)
فيما سيأتي.
(2)
يُنظر: " حاشية العدوي على كفاية الطالب "(2/ 366) حيث قال: (ولا تباع رقبة) العبد (المأذون) له في التجارة (فيما عليه) من الديون، وإنما تتبع ذمته سواء بقي في ملك سيده أو أعتقه).
(3)
يُنظر: " أسنى المطالب " لزكريا الأنصاري (2/ 112) حيث قال: (تتعلق ديون التجارة) المأذون فيها للرقيق (بما في يده) من مال التجارة الحاصلة قبل الحجر عليه أصلًا وربحًا؛ لأنها لزمت بمعاوضة بالإذن ".
(4)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 347) حيث قال: "وعنه: يتعلق برقبته، وأطلقهما المصنف هنا، وصاحب الهداية، والمذهب، والتلخيص، والشرح، والزركشي، وغيرهم. قال الزركشي: وبنى الشيخ تقي الدين رحمه الله الروايتين على أن تصرفه مع الإذن هل هو لسيده، فيتعلق بذمته كوكيله، أو لنفسه فيتعلق برقبته؟ على روايتين".
فِيمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ)
(1)
.
وهي روايةٌ عن الإمام أبي حنيفة
(2)
، والإمام أحمد رحمهما الله
(3)
.
قَوْله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَلْزَمُ سَيِّدَهُ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ).
وهي الرِّواية الثالثة عن الإمام أحمد
(4)
.
قَوْله: (فَالَّذِينَ لَمْ يَرَوْا بَيْعَ رَقَبَتِهِ قَالُوا: إِنَّمَا عَامَلَ النَّاسَ عَلَى مَا فِي يَدِهِ فَأَشْبَهَ الحُرَّ، وَالَّذِينَ رَأَوْا بَيْعَهُ شَبَّهُوا ذَلِكَ بِالجِنَايَاتِ الَّتِي يَجْنِي، وَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الرُّجُوعَ عَلَى السَّيِّدِ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ: فَإِنَّهُمْ شَبَّهُوا مَالَهُ بِمَالِ السَّيِّدِ إِذْ كَانَ لَهُ انْتِزَاعُهُ).
لأن السيد هو الذي فوَّضه، والمال هو مال السيد، إذن فالذي يطالب هو السيد.
قوْله: (فَسَبَبُ الخِلَافِ هُوَ تَعَارُضُ أَقْيِسَةِ الشَّبَهِ فِي هَذِهِ المَسْأَلة. وَمِنْ هَذَا المَعْنَى: إِذَا أَفْلَسَ العَبْدُ وَالمَوْلَى مَعًا بِأَيِّهما يَبْدَأُ: هَلْ بِدَيْنِ العَبْدِ، أَمْ بِدَيْنِ المَوْلَى؟).
إذا أفلسا معًا يبدأ بالأضعف الذي هو العبد، وهذا رأي الجمهور.
(1)
لم أقف عليه.
(2)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" للبلدحي (2/ 102) حيث قال: " (وما يلزمه من الديون بسبب الإذن متعلق برقبته يباع فيه إلا أن يفديه المولى)؛ لأن المولى رضي بذلك، فإنه لو لم يتعلق برقبته، كان تصرفه نفعًا محضًا، فلا حاجة إلى الإذن، وإنما شرط إذن المولى ليصير راضيًا بهذا الضرر؛ ولأن سبب هذا الدَّين التجارة وهي بإذنه؛ ولأن تعلق الدَّين برقبته مما يدعو إلى معاملته، وأنه يصلح مقصودًا للمولى، فينعدم الضرر في حقه إلا أنه يبدأ بكسبه لأنه أهون. (فَإِنْ لم يفِ بالدُّيُون، فإن فداه المولى بديون الغرماء، انقطع حقُّهم عنه وإلا يباع ولقسم ثمنه بين الغرماء بالحصص) لتعلق حقهم به كتعلقها بالتركة ".
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 347) حيث قال: "وعنه: يتعلق بذمة سيده وبرقبته ".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 459)، حيث قال:" (ويتعلق دين مأذون له في التجارة بذمة سيده بالغًا ما بلغ)؛ لأنه غر الناس بمعاملته ".
قوْله: (فَالجُمْهُورُ
(1)
يَقُولُونَ: بِدَيْنِ العَبْدِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ دَايَنُوا العَبْدَ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ ثِقَةً بِمَا رَأَوْا عِنْدَ العَبْدِ مِنَ المَالِ، وَالَّذِينَ دَايَنُوا المَوْلَى لَمْ يَعْتَدُّوا بِمَالِ العَبْدِ، وَمَنْ رَأَى البَدْءَ بِالمَوْلَى قَالَ: لِأَنَّ مَالَ العَبْدِ هُوَ فِي الحَقِيقَةِ لِلْمَوْلَى.
فَسَبَبُ الخِلَافِ: تَرَدُّدُ مَالِ العَبْدِ بَيْنَ أن يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَالِ الأَجْنَبِيِّ، أَوْ حُكْمَ مَالِ السَّيِّدِ، وَأَمَّا قَدْرُ مَا يُتْرَكُ لِلْمُفْلِسِ مِنْ مَالِهِ: فَقِيلَ فِي المَذْهَبِ: يُتْرَكُ لَهُ مَا يَعِيشُ بِهِ هُوَ وَأَهْلُهُ وَوَلَدُهُ الصِّغَارُ الأَيَامَ)
(2)
.
هذه مسألة مهمة جدًّا في مذهب الإمام مالك؛ لأن الإنسان إذا أفلس وأخذ ماله قد يكون عنده زوجة وأطفال، أو آباء ينفق عليهم، فما الحكم في ذلك؟
لأنه لو حجر عليه ومُنع من التصرف في ماله، فما الذي يفعله طول فترة الحجر؟
هذا يحتاج إلى تفصيل؛ فهذا الذي حجر عليه لا يخلو من أمرين:
* إما أن يكون عنده قدرة على الكسب؛ بأن يكون صاحب صنعة أو حرفة، وعنده القدرة على العمل، فهذا له شأن، فهو يعمل في هذه الصنعة أو الوظيفة أو الحرفة أو غير ذلك، فيكسب وينفق على أولاده، فمثل هذا يكسر على كسبه إلا أن يكون كسبه لا يفي بنفقته ونفقة مَنْ تلزمهم نفقتهم، فقالوا: يعطى من ماله الذي حجر ما يكفي لذلك.
(1)
يُنظر: " البحر الرائق " لابن نجيم (8/ 108) حيث قال: " الأصل أن دَين العبد أقوى من دَين المولى، ولهذا يُقدَّم دَين العبد على دَين المولى في الإيفاء من رقبة العبد".
(2)
يُنظر: " التاج والإكليل " للمواق (2/ 330) حيث قال: " والإمام يبيع عليه إذا فلس داره وعروضه كلها ما كان له من خادم أو سلاح أو غير ذلك إلا ما لا بد له من ثياب جسده، ويترك له ما يعيش به هو وأهله الأيام ".
أما إنْ لم يكن صاحب صنعة، فقال العلماء: ينفق عليه من ماله، وكذلك على زوجتِهِ، وإنْ كان له أولاد شريطَةَ ألا يبالغ في ذلك؛ أي: يصرف عليهم ما يكفيهم أسوةً بأمثالهم.
المؤلف هنا ذكر تفصيلًا لمذهب مالك، والجمهورُ أطلقوا ذلك
(1)
.
قَوْله: (وَقَالَ فِي الوَاضِحَةِ وَالعُتْبِيَّةِ: الشَّهْرَ وَنَحْوَهُ)
(2)
.
والجمهور- ورأيهم أنصف في نظري - لم يحددوا مدةً، بل قالوا: ينفق عليه طيلة مدة الحجر من ماله وعلى مَنْ تلزمه نفقتهم، ويَسْتدلُّون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ابدأ بنفسك ثم بمَنْ تعول "
(3)
، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشَدَ إلى ذلك، وإذا كان رجلًا عاجزًا أو غير قادر على الكسب والعمل فمن أين ينفق على أولاده.
قَوْله: (وَيُتْرَكُ لَهُ كِسْوَةُ مِثْلِهِ
(4)
).
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 75) حيث قال: "وينفق على المفلس من ماله وعلى زوجته وأولاده الصغار وذوي أرحامه ".
ويُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 192) حيث قال: " (وينفق) الحاكم (عليه) أيْ: علَى المفلس (وعلى قريبه) القديم والحادث (وزوجته القديمة) ومملوكه كأم ولده (من ماله) ما لم يتعلق به حق آخر كرهن وجناية (يومًا بيوم نفقة المعسرين) ".
ويُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 391) حيث قال: " (ويجب له)؛ أي: المفلس (ولعياله) من زوجةٍ وولدٍ ونحوه (أدنى نفقة مثلهم من مأكلٍ ومشربٍ وكسوةٍ) بيان لما ينفق على مثلهم، (وإنما لزمته)؛ أي: المفلس (نفقة قريب بشرط) كل الآتي في النفقات (ليساره) حالًّا (بالنسبة لما في يده) من ماله، فإذا وزع على الغرماء، ولم يبق له إلا ما يكفيه سقطت ".
(2)
يُنظر: " التاج والإكليل " للمواق (5/ 47) حيث قال: " قال في الواضحة الشهر ونحوه قال في "العتبية": هو وأهله وولده الصغير".
(3)
أخرجه البخاري (5355).
(4)
يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (3/ 262) حيث قال: "ولو كان على المفلس كسوة تقع كسوة مثله بدونها لبيعت عليه، ويُشترى له ما يليق به من لباس مثله على حال ما هو عليه ".
أيضًا تلزم كسوته عند العلماء.
وتبقى مسألة السكن اختلف فيها العلماء: إذا كان عنده بيتان، فلا خلَافَ بين العلماء
(1)
أن يُبَاع البيت الآخر، لكن إذا لم يبقَ عنده إلا بيتٌ واحدٌ، فإنَّ الإمامين مالكًا
(2)
والشافعي
(3)
يقولان: يُبَاع ذلك البيت ويسدد غرمه بالمحاصة كبقية أمواله، وخالف في ذلك الإمامان أبو حنيفة
(4)
وأحمد
(5)
فقالا: لا يباع، فحاجته إلى السكن كحاجته إلى الطعام، والإمامان الشافعي ومالك قالا: يباع بيته ويستأجر له بيت يسكن فيه.
ودليل الذين قالوا: " يُبَاع بيته ":
قصة الرجل الذي أفلس، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ببيع أمواله، وقصة هذا الحديث معروفة
(6)
.
والذين قالوا: "لا يُبَاع بيته "، قالوا: إنَّ الحاجة للسكن كالحاجة إلى الأكل والشرب لا تَقلُّ منفعةً عنهم، وأجَابوا عن حديث:"خُذُوا ما وجدتم "
(7)
احتمال أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "خُذُوا ما وجدتم "؛ أي: خذوا ما وجدتم من الأموال التي تصدق عليكم الناس بها، لا الدار التي يسكنها.
(1)
لأن ذلك من جملة " وماله "، وسيأتي الخلاف في المسكن الواحد.
(2)
يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (3/ 267) حيث قال: "ولو كان عند المفلس دار يحتاج لسكناها، وخادم لا بدَّ له منها، فإنه يباعان عليه في التفليس ".
(3)
يُنظر: "منهاج الطالبين " للنووي (ص 58) حيث قال: "ويباع مسكنه وخادمه في الأصح ".
(4)
يُنظر: "مجمع الأنهر" لشيخي زاده (2/ 443) حيث قال: "وعلى هذا إذا كان له مسكن ويمكنه أن يشتري بما دون ذلك، يبيع ذلك المسكن، ويقضي ببعض الثمن الدَّين، ويشتري بالباقي مسكنًا يكفيه كما في التبيين ".
(5)
يُنظر: "شرح مُنْتهى الإرادات " للبهوتي (2/ 167) حيث قال: " (أو يترك له) من ماله (بدلهما) دفعًا لحاجته (ويبذل أعلى) مما يصلح لمثله من مسكنٍ وخادمٍ وثوبٍ وغيرها (بصالح) لمثله؛ لأنه أحظ للمفلس والغرماء".
(6)
تقدمت في قصة معاذ وجابر رضي الله عنه.
(7)
تقدم تخريجه.
التَّعْليل الآخَر: أنهم قالوا بأنَّه لم يكن عنده عقارٌ، إذًا المسألةُ فيها خلافٌ، لكن أيهما أرفق بالإنسان، فعلى الأقل يترك له بيت يقيم به مع أولاده، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)} [البقرة: 280].
قَوله: (وَتَوَقَّفَ مَالِكٌ
(1)
فِي كِسْوَةِ زَوْجَتِهِ لِكَوْنِهَا هَلْ تَجِبُ لَهَا بِعِوَضٍ مَقْبُوضٍ - وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِهَا - أو بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَقَالَ سَحْنُونٌ
(2)
: لَا يُتْرَكُ لَهُ كِسْوَةُ زَوْجَتِهِ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ لَهُ إِلَّا مَا يُوَارِيِهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ كنَانَةَ)
(3)
.
أما جمهور العلماء
(4)
فإنهم يرون أن تُكْسَى زوجته؛ لأنَّه يجب كسوتها كوجوب نفقتها، إذًا، أكثر الفقهاء يرونَ أنَّ الكسوةَ لَازمةٌ، لكن الفقهاء يثيرون قضايا كثيرة لم يعرض لها المؤلف إذا كانت الكسوة
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (2/ 324) حيث قال: "وشك مالك في كسوة زوجته، هل تترك لها؛ لأنها لا تجب إلا بمعاوضةٍ وبطول الانتفاع بها، فيكون ذلك كالنفقة لها بعد المدة المؤقتة ".
(2)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة " لابن شاس (2/ 788) حيث قال: "وقال سحنون: لا يترك له كسوة زوجته، ولا يترك مسكنه، ولا خادمه، ولا غير ذلك من سرجه وخاتمه وثوبي جمعته ما لم تقل قيمتها ".
(3)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (2/ 324) حيث قال: "وقَدْ روى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ثوب يواريه وهو قول ابن كنانة ".
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 75) حيث قال: " وينفق على المفلس من ماله، وعلى زوجته وأولاده الصغار وذوي أرحامه ".
مَذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 192) حيث قال: " (وينفق) الحاكم (عليه) أيْ: على المفلس (وعلى قريبه) القديم والحادث (وزوجته القديمة) ومملوكه كأم ولده (من ماله) ما لم يتعلق به حق آخر كرهن وجناية (يومًا بيومٍ نفقة المعسرين ويكسوهم) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" الإنصاف " للمرداوي (5/ 304) حيت قال: " (وينفق عليه بالمعروف إلى أن يفرغ من قسمه بين غرمائه)، يَعْني: عليه وعلى عياله. ومن النفقة: كسوته وكسوة عياله ".
الموجودة عندها أثمانها عالية، فهل تترك لها؟ قالوا: لا تُباَع، ويُشْترى لها ما يكون كأمثالها من الناس، كلُّ ما في ثمنه زيادة، فإنَّه يباع ويشترى ما هو أقل من ذلك.
ومعنى "يواريه "؛ أي: الكفن، وجمهور العلماء يرون أنه يقدم على الدَّين
(1)
.
قَوْله: (وَاخْتَلَفُوا فِي بَيْع كُتُبِ العِلْمِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى كرَاهِية بَيْعِ كُتُبِ الفِقْهِ، أَوْ لَا كرَاهِية ذَلِكَ).
أكثر العلماء قالوا بأن مالى المفلس يُبَاع كلُّ شيءٍ بسوقه، الأواني تُبَاع في سوق الأواني، والثياب في سوق الثياب، والأثاث في سوق الأثاث، وهكذا أكثر العلماء يَرَون أن تُبَاع الكتب
(2)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 191): "وهو من ماله إنْ كان له مال يقدم على الدَّين والوصية والإرث إلى قدر السنة ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" التاج والإكليل " للمواق (2/ 218) حيث قال: "والكفن أولى من الدَّين ".
ومَذْهب الشافعية، يُنظر:" أسنى المطالب " لزكريا الأنصاري (1/ 308) حيث قال: " (وهو) أي: كفن الميت مع سائر مؤن تجهيزه (مقدم على الدَّين) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الروض المربع " للبهوتي (ص 127) حيث قال: "ويجب كفنه في ماله
…
مقدمًا على دينٍ ".
(2)
يُنْظر: " أسنَى المطالب " لزكريا الأنصاري (2/ 193) حيث قال: "ويترك للعالم كتبه، وتبعه ابن الأستاذ وقال تفقهًا: يترك للجندي المرتزق خيله وسلاحه المحتاج إليهما بخلاف المتطوع بالجهاد، فإنَّ وفاء الدَّين أَوْلَى إلا أن يتعين عليه الجهاد، ولا يجد غيرهما، أمَّا المصحف فيُبَاع، قال السبكي: لأنه محفوظٌ، فلا يحتاج إلى مراجعته، ويسهل السؤال عن الغلط من الحفظة بخلاف كتب العلم ".
ويُنظر: "الفروع " لابن مفلح (4/ 212) حيث قال: "جزم به الشيخ، أو له كتب يحتاجها للنظر والحفظ، أو للمرأة حلي للبس أو للكراء تحتاج إليه ".
ويُنظر: "التاج والإكليل " للمواق (2/ 218) حيث قال: "والكفن أَوْلَى من الدَّين ".
قوْله: (وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الدُّيُونِ الَّتِي يُحَاصُّ بِهَا مِنَ الدُّيُونِ الَّتِي لَا يُحَاصُّ بِهَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ).
يَدْخل المؤلف رحمه الله مرةً أخرى في مذهب مالكٍ، فيقسم الدَّين إلى مقبوضٍ وغير مقبوضٍ، أيضًا واجب مقبوض - واجب أي: واجب عليه - وغير وَاجِب عليه؛ لأنَّه أوجبه على نفسه كالصَّدقات، يحاص بها أي: يقتسمها الغًرماء محاصةً؛ لأن بعض الديون لا يقتسمونها إذا اشترى نفقةً لأولاده وزوجته، هل يحاصونها؟ لا، فيه مال لشخص يستحقه هل يحاصُّونها؟ لا، كالحَال بالنسبة لمال السَّلف فهو بالخيار؛ إمَّا أن يرده ويكون مع الغرماء، أو يقول: لا، أنا أحق به. إذًا، ليس كل شيء تحصل فيه المحاصة.
قوْله: (فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ أَوَّلًا إلى قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً عَنْ عِوَضٍ).
الذي يجب عن عوضٍ كالسلعة التي يشتريها بمعنى: أن تكون قيمة أجرة .. هذه عن عوض، هو أوجبها على نَفْسه كصدقةٍ تصدق بها، أو عطية أعطاها، أو هبة وهبها، هي غير واجبةٍ عليه، لَكنَّه هو الَّذي أوجبَها على نفسه، إذًا غير مقابل عوض.
قوْله: (وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، فَأَمَّا الوَاجِبَةُ عَنْ عِوَضٍ: فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ إلى عِوَضٍ مَقْبُوضٍ، وَإِلَى عِوَضٍ غَيْرِ مَقْبُوضٍ).
إنْ كان مقبوضًا، فهَذَا الذي يأتي فيه الخلاف، وإن كان غير مقبوضٍ، فَهَذا صَاحبه أحق به.
= ويُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 308) حيث قال: " (وهو) أي: كفن الميت مع سائر مؤن تجهيزه (مقدم على الدَّين) ".
ويُنظر: "الروض المربع" للبهوتي (ص 127) حيث قال: "ويجب كفنه في ماله
…
مقدمًا على دين ".
قوْله: (فَأَمَّا مَا كَانَتْ عَنْ عِوَضٍ مَقْبُوضٍ، وَسَوَاءٌ أكَانَتْ مَالًا، أو أَرْشَ جِنَايَةٍ: فَلَا خِلَافَ فِي المَذْهَبِ أن مُحَاصَّةَ الغُرَمَاءِ بِهَا وَاجِبَةٌ
(1)
. وَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ عِوَضٍ غَيْرِ مَقْبُوضٍ: فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ، أَحَدُهَا: أَلَّا يُمْكِنَهُ دَفْعُ العِوَضِ بِحَالٍ كنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ لِمَا يَأْتِي مِنَ المُدَّةِ. وَالثَّانِي: ألَّا يُمْكِنَهُ دَفْعُ العِوَضِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُهُ دَفْعُ مَا يُسْتَوْفَى فِيهِ، مِثْلُ أَنْ يَكْتَرِيَ الرَّجُلُ الدَّارَ بِالنَّقْدِ، أَوْ يَكُونَ العُرْفُ فِيهِ النَّقْدَ، فَفَلَّسَ المُكْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَسْكُنَ، أَوْ بَعْدَمَا سَكَنَ بَعْضَ السُّكْنَى، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ الكِرَاءَ).
هَذا مثل الأجرة؛ إنسان استأجر دارًا، وقبل أن يَسْتفيد منها أو يسكنها بعض المدة أفلس المؤجر، فإذا كان قبل البدء فينفسخ العقد وينتهي، وإذا كان بعد البدء حينئذٍ يفسخ ويدخل الغرماء.
قَوْله: (وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ دَفْعُ العِوَضِ يُمْكِنُهُ وَيَلْزَمُهُ، كَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ إِذَا أَفْلَسَ المُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْلَ دَفْعِ رَأْسِ المَالِ. وَالرَّابع: أَنْ يُمْكِنَهُ دَفْعُ العِوَضِ وَلَا يَلْزَمَهُ، مِثْلُ السِّلْعَةِ إِذَا بَاعَهَا فَفَلَّسَ المُبْتَاعُ قَبْلَ أن يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ البَائِعُ).
مثال ذلك: إنسان بَاع سلعةً، ولكنها لا تزَال عنده فأفلس المشتري، حِينَئذٍ البائع هو أحق بها، لكن له أن يسلمها له، ويكون أسوة الغرماء، لكن لو احتفظ بها، فهو أحقُّ، هذا كلُّه إعادةٌ لما مضى.
قَوْله: (وَالخَامِسُ: ألَّا يَكُونَ إِلَيْهِ تَعْحِيلُ دَفْعِ العِوَضِ، مِثْلُ أَنْ
(1)
يُنظر: "مناهج التحصيل" للرجراجي (8/ 209) حيث قال: " فإن كان مقبوضًا كأثمان السلع المقبوضة، وأَرْش الجنايات، ونفَقة الزوجات لما سلف من المدة، ومهور الزَّوجات المدخول بهن، وما خولعن عليه من شيءٍ موصوفٍ في الذِّمَّة: فإنَّ المحاصة بذلك واجبةٌ ".
يُسْلِمَ الرَّجُلُ إلى الرَّجُلِ دَنَانِيرَ فِي عُرُوضٍ إلى أَجَلٍ فَيُفْلِسَ المُسْلِمُ قَبْلَ أن يَدْفَعَ رَأْسَ المَالِ، وَقَبْلَ أن يَحُلَّ أَجْلُ السَّلَمِ).
معلومٌ أنَه " مَنْ أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم "
(1)
، فهذا إلى أجل، لَكن لو المسلم إليه أراد أن يعجل، يسلمه البضاعة (العروض التي طلبها)، وهذا راجع إليه هو، وأراد أن يكون مع الغرماء من باب التيسير عليه.
(1 - فَأَمَّا الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ العِوَضِ بِحَالٍ، فَلَا مُحَاصَّةَ فِي ذَلِكَ إِلَّا فِي مُهُورِ الزَّوْجَاتِ إِذَا أفلسَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ
(2)
. 2 - وَأَمَّا الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ العِوَضِ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُ مَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ، مِثْلُ المُكْتَرِي يُفْلِسُ قَبْلَ دَفْعِ الكِرَاءِ).
المكتري أفلس ولا يستطيع أن يدفع ثمن الأجرة، فيُسْلم الدار.
قَوْله: (فَقِيلَ: لِلْمُكْرِي المُحَاصَّةُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِسْلَامُ الدَّارِ لِلْغُرَمَاءِ. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا المُحَاصَّةُ بِمَا سَكَنَ، وَيَأْخُذُ دَارَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْكُنْ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا أَخْذُ دَارِهِ
(3)
30 - وَأَمَّا مَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ العِوَضِ وَيَلْزَمُهُ وَهُوَ إِذَا كَانَ العِوَضُ عَيْنًا: فَقِيلَ: يُحَاصُّ بِهِ الغُرَمَاءَ فِي الوَاجِبِ لَهُ بِالعِوَضِ، وَيَدْفَعُهُ، وَقِيلَ: هُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ دَفْعُ
(1)
أخرجه البخاري (2240)، ومسلم (1604).
(2)
يُنظر: " المقدمات الممهدات" لابن رشد (2/ 331) حيث قال: " ولا يخرج على هذا التقسيم الذي قسمناه إلا الحكم في مهور الزوجات، فإنَّ المحاصة بها واجبةٌ وإنْ لم يقتض العوض - أعني إذا فلس الزوج قبل الدخول ".
(3)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 40) حيث قال: " للمكري المحاصة بكراء ما بقي من السكنى إذا شاء أن يسلمه، وله مثل ذلك في العتبية، وعلى قياس هذا إن فلس قبل أن يقبض الدار، فللمكري أن يسلمها، ويحاصص بجميع كرائه ".
العِوَضِ
(1)
. 4 - وَأَمَّا مَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ العِوَضِ، وَلَا يَلْزَمُهُ، فَهُوَ بِالخِيَارِ بَيْنَ المُحَاصَّةِ، وَالإِمْسَاكِ، وَذَلِكَ هُوَ إِذَا كَانَ العِوَضُ عَيْنًا).
إنسانٌ رابعٌ باعَ سلعةً فأفلس المبتاع؛ أيْ: المشتري، فالبائع أحق بها بلا شكٍّ؛ لأنها عنده لم يسلمها للمفلس، لكن له أن يسلمها، فلو سلمها كان أسوة الغرماء، وله أن يقول: أنا أحق بها، وهذه مسألة ليس فيها خلاف.
قَوْله: (5 - وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَيْهِ تَعْجِيلُ العِوَضِ مِثْلُ أَنْ يُفْلِسَ المُسْلِمُ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ رَأْسَ المَالِ، وَقَبْلَ أن يَحِلَّ أَجَلُ السَّلَمِ، فَإِنْ رَضِيَ المُسْلَمُ إِلَيْهِ أَنْ يُعَجِّلَ العُرُوضَ، وَيُحَاصِصَ الغُرَمَاءَ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ إِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ الغُرَمَاءُ).
مثال هذه المسألة: إنسانٌ أسلمَ، والمعلوم أنَّ ربَّ السلم يدفع رأس مال السلم مقدمًا، لكنَّ هذا لم يدفع، والمُسْلَم إليه أعدَّ العروض (السلعة المطلوبة)، هل له أن يدفعها؟ هذا تنازل منه؛ لأنَّه أحق بها، ولأنَّه ما أخذ مقابلها، هذا هو مُرَاد المؤلف.
قَوْله: (فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ أَحَدُ الغُرَمَاءِ حَاصَّ الغُرَمَاءَ بِرَأْسِ المَالِ الوَاجِبِ لَهُ فِيمَا وُجِدَ لِلْغَرِيمِ مِنْ مَالٍ، وَفي العُرُوضِ الَّتِي عَلَيْهِ إِذَا حَلَّتْ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَالِ الفَلَسِ، وَإنْ شَاؤُوا أَن يَبِيعُوهَا بِالنَّقْدِ، وَيَتَحَاصُّوا فِيهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الحُقُوقِ الوَاجِبَةِ عَنْ غَيْرِ عِوَضٍ
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (2/ 330) حيث قال: "وأما ما يمكنه دفع العوض، ويلزمه كرأس مال السلم إذا فلس المسلم إليه قبل دفع رأس المال، ففي كتاب ابن المواز يلزمه أن يدفعه، ويحاص به الغرماء، ولا يكون أحق به، إذْ ليس برَهْنٍ، وهذا على قول أشهب في "المدونة": إنه لا سبيل له على العيش وهو فيه أسوة الغرماء".
فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْهَا غَيْرَ وَاجِبٍ بِالشَّرْعِ، بَلْ بِالِالتِزَامِ كَالهِبَاتِ، وَالصَّدَقَاتِ فَلَا مُحَاصَّةَ فِيهَا).
هذا شيء أوجبه الإنسان على نفسه؛ لأن الإنسان عندما يتصدق أو يعطي أو يهب، فهو لا يأخذ مقابلًا إلا هدية الثواب.
قوله: (وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا وَاجِبًا بِالشَّرْعِ كنَفَقَةِ الآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ، فَفِيهَا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ المُحَاصَّةَ لَا تجِبُ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ القَاسِمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تجِبُ بِهَا إِذَا لَزِمَتْ بِحُكْمٍ مِنَ السُّلْطَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ)
(1)
.
والرأي الأول هو الصحيح، وقد مر بنا، وفسرنا القول بما يتعلق بالنفقة وتقسيم المفلس إلى قسمين: مفلس يكتسب، ومفلس غير مكتسب.
قوْله: (وَأَمَّا النَّظَرُ الخَامِسُ (وَهُوَ مَعْرِفَةُ وَجْهِ التَّحَاصِّ): فَإِنَّ الحُكْمَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُصْرَفَ مَالُ الغَرِيمِ مِنْ جِنْسِ دُيُونِ الغُرَمَاءِ).
الغُرَمَاء قد تَخْتلف ديونهم؛ بعضهم دَيْنه قرب، وهذا دينه من عروض التجارة، وعروض التجارة أنواع كثيرة جدًّا، فهل يَكُون السداد من نفس النوع أو لا؟ هذا هو مُرَاد المؤلف.
قوْله: (وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَالُ الغُرَمَاءِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ إِذْ كَانَ لَا يَقْتَضِي فِي الدُّيُونِ إِلَّا مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ إِلَّا أَنْ
(1)
يُنظر: "مناهج التحصيل" للرجراجي (8/ 214) حيث قال: "فأما ما كان منها واجبًا بالشرع، وإنْ لم تلتزم؛ كنفقة الآباء، والأبناء، وما تحمله العاقلة من الدية، فاختلف فيه على قولين قائمين من "المدونة"، أحدهما: أن المحاصة لا تجب بها، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن المحاصة تجب بها إذا لزمت بحكم السلطان، وهو قول أشهب ".
يَتَّفِقُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ يَجُوزُ)
(1)
.
بشريطة ألَّا يدخل ذلك في أبواب الربا.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِي فَرْعٍ طَارِئٍ، وَهُوَ إِذَا هَلَكَ مَالُ المَحْجُورِ عَلَيْهِ بَعْدَ الحَجْرِ، وَقَبْلَ قَبْضِ الغُرَمَاءِ: مِمَّنْ مُصِيبَتُهُ؟).
مال المحجور عليه هلك، والهلاك قد يكون عندَه هو، وبالغَالب يَكُون بِيَدِ أَمِينٍ، يكون بيَدِ إنسانٍ آخر؛ لأنَّه لا يترك عنده، فلو وضع عند أمين، ثم هلك هذا المال، نعلم بأن المبيع إذا هلك قبل أن يستلم أن يقبض المشتري نفس المبيع، فهو من ضمان البائع، ولكن إذا تسلمه يكون من ضمان المشتري، وكل شيءٍ قبضه بحسبه، فالمكيل بالكيل، والموزون بالوزن.
قَوْله: (فَقَالَ أَشْهَبُ: مُصِيبَتُهُ مِنَ المُفْلِسِ)
(2)
.
وهُوَ أيضًا قول الإمامين؛ الشافعي وأحمد
(3)
.
قَوْله: (وَقَالَ ابْنُ المَاجِشُونِ: مُصِيبَتُهُ مِنَ الغُرَمَاءِ إِذَا وَقَفَهُ السُّلْطَانُ
(4)
. وَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ
(5)
: مَا يُحْتَاجُ إِلَى بَيْعِهِ فَضَمَانُهُ مِنَ الغَرِيمِ؛
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (5/ 43) حيث قال: "وجه التحاص أن يصرف مال الغريم من جنس ديون الغرماء إنْ كانت ديونهم دراهم أو طعامًا، إن كانت ديونهم طعامًا على صفةٍ واحدةٍ، فإن كانت ديونهم مختلفة دنانير ودراهم أو دراهم وطعامًا أو عروضًا ودنانير وما أشبه ذلك، صرف مال الغريم عينًا، إما دنانير وإما دراهم على الاجتهاد في ذلك، ويُبَاع ماله من الديون إلا أن يتَّفق الغرماء على تَرْكها حتى تُقْبضَ عند حلولها".
(2)
يُنظر: "الكافي" لابن عبد البر (2/ 828) حيث قال: "ضمان الثمن من المفلس دون الغرماء، ورواه أشهب عن مالك ".
(3)
لم أقف عليه.
(4)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (2/ 325) حيث قال: "ضمان الثمن من المفلس دون الغرماء، ورواه أشهب عن مالك ".
(5)
يُنظر: "الكافي" لابن عبد البر (2/ 828) حيث قال: "وقال ابن القاسم: إذا أفلس الرجل وخلع من ماله لغرمائه وجمع ليباع للغرماء، وَحَال الحاكم بينه وبينه، =
لأنَّه إِنَّمَا يُبَاعُ عَلَى مِلْكِهِ، وَمَا لَا يُحْتَاجُ إلى بَيْعِهِ فَضَمَانُهُ مِنَ الغُرَمَاءِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ المَالُ عَيْنًا، وَالدَّيْنُ عَيْنًا. وَكُلُّهُمْ رَوَى قَوْلَهُ عَنْ مَالِكٍ).
لأن الَّذين قالوا من ضمان المفلس، اعتمدوا على الأصل بأنها لم تُقْبض منه تلك الأموال أو تلك السلع، فيبقى هو المسؤول عنها، لكن لو قبضت وانتقلت تغيَّر الحكمُ.
قَوْله: (وَفَرَّقَ أَصْبَغُ
(1)
بَيْنَ المَوْتِ وَالفَلَسِ، فَقَالَ: المُصِيبَةُ فِي المَوْتِ مِنَ الغُرَمَاءِ، وَفِي الفَلَسِ مِنَ المُفْلِسِ، فَهَذَا هُوَ القَوْلُ فِي أُصُولِ أَحْكَامِ المُفْلِسِ الَّذِي لَهُ مِنَ المَالِ مَا لَا يَفِي بِدُيُونِهِ، وَأَمَّا المُفْلِسُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ أَصْلًا، فَإِنَّ فُقَهَاءَ الأَمْصَارِ مُجْمِعُونَ
(2)
عَلَى أَنَّ العَدَمَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِ الدَّيْنِ إِلَى وَقْتِ مَيْسَرَتِهِ).
فقهاء الأمصار مجمعون على أنه إذا عُدم المدين أي: لا مال عنده، فهو مفلس، فهذا له حق معتبر شرعًا، قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
قوله: (إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ
(3)
: أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُؤَاخِرُوهُ، وَقَالَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ
(4)
، وَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ
= فما تلف من المال فمصيبته من الغرماء؛ لأنه قَدْ وجب لهم، ولم يفرق بين الثمن وغيره من ماله، وروى عن ابن القاسم مثل قول مالك الأول ".
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (2/ 326) حيث قال: "وقال أصبغ: المصيبة في الموت من الغرماء، وفي التفليس من الغريم المفلس ".
(2)
قال ابن المنذر في " الإقناع "(2/ 565): " أن يكون الذي عليه الدَّين معسرًا، فلَا سَبيل إِلَى حَبْس المعسر؛ لأن الله - جلَّ ذكرُهُ - قَالَ:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} .
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 336) حيث قال: "والثانية: يُجْبر على الكسب، وَهُو قول عمر بن عبد العزيز".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 336) حيث قال: "وإذا فرق مال المفلس، وبقيت =
المَدِينَ إِذَا ادَّعَى الفَلَسَ، وَلَمْ يُعْلَمْ صِدْقُهُ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ، أَوْ يُقِرَّ لَهُ بِذَلِكَ صَاحِبُ الدَّيْنِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ)
(1)
.
أنه يحبس حتى يتبيَّن صدقه؛ لأنَّ هذا من باب المصالح المرسلة، فلو أن إنسانًا أخذ حقوق الناس وقد ادعى أنه قد أفلس - أي: لا مال عنده - والناس يريدون حقوقهم، فيتوصل إلى ذلك، وتعرف حقيقة الأمر بأن يحبس المدين حتى يتبين هل هو مفلس حقًّا أو لا؟ هذا هو المراد، وهذا من باب المصلحة؛ لأنَّ في حبسه وإيقافه مصلحة تعود على الغرماء؛ لأنهم أصحاب حق.
قَوْله: (وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ لِغُرَمَائِهِ أَنْ يَدُورُوا مَعَهُ حَيْثُ دَارَ)
(2)
.
= عليه بقية، وله صنعة، فهل يُجْبره الحاكم على إيجار نفسه ليقضي دَينه؟ على روايتين؛ إحداهما: لا يجبره. والثانية: يجبر على الكسب ".
(1)
قَالَ ابن المنذر في " الإشراف "(6/ 252): " أكثر مَنْ نحفظ عنه قوله من علماء الأمصار، وقُضَاتهم يرون الحبس في الدَّين، وممن نحفظ ذلك عنه: مالك وأصحابه، والشافعي، والنعمان، وأصحابهما، وأبو عبيد، وبه قال سوار بن عبد الله، وعبيد الله بن الحسن. وقد روينا هذا القول عن شريح والشعبي ".
وينظر: " كشاف القناع " للبهوتي (3/ 420) حيث قال: " (وإن ادعى مَنْ عليه الدَّين الإعسار، وأنه لا شيء معه) يؤديه في الدَّين (فقال المدعي للحاكم: المال معه، وسأل) المدعي (تفتيشه وجب على الحاكم إجابته إلى ذلك) أي: إلى تفتيشه لاحتمال صدق المدعي وعدم المفسدة فيه.
(وإن صدقه) أي: المدين (غريمه) في دعوى الإعسار (لم يحبس، ووجب إنظاره) إلى ميسرة (ولم تجز ملازمته) ".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 75) حيث قال: "ولا يحول بينه وبين غرمائه بعد خروجه من الحبس، ويلازمونه ولا يمنعونه من التصرف والسفر، ويأخذون فَضْل كسبه فيقسم بينهم بالحصص ".
ويُنْظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 420) حيث قال: " (وإن ادَّعى مَنْ عليه الدَّين الإعسار، وأنه لا شيء معه) يؤديه في الدَّين (فقال المدعي للحاكم: المال معه، =
هُنَاك أمرَان: المطالبة والملازمة؛ فأبو حنيفة رحمه الله مع جمهور العلماء
(1)
أنَّه إذا ثبت إفلاس المدين، فلا يطالب، لكن محل الخلاف بينهم هل يلازم أو لا؟
الأئمة الثلاثة - بل عامة العلماء
(2)
- يقولون: لا يلزم، وأبو حنيفة يرى بأنَّه يلزم، أي: يلازمه الغرماء ويتابعونه حتى إذا أراد أن يدخل بيته إنْ أذن لهم تركوه، وإنْ لم يأذنوا منعوه من دخول البيت خشيةَ أن يفرَّ منهم.
ودليل أبي حنيفة في هذه المسألة: "لصاحب الحق اليد واللسان"
(3)
، هذا الحديث أخرجه الدارقطني، ومَعْناه أنَّ لصاحب الحق (الدائن) أن يتكلم بلسانه؛ فيُطَالب هذا الغريم بحقِّه، وله أن يَمْنعَه، وله أن يتابعه.
أما جمهور العُلَماء، فردوا بأنَّه قد عفي عنه بالمطالبة، فكيف يلازمه إذا كانت المطالبة قد سقطت عنه؟! فهو لا يجد شيئًا، والله تعالى يقول:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، إذن، هو يُنْظر، فإذا ما عاد إليه المال، فإنَّه حِينَئذٍ تعود المطالبة.
= وسأل) المدعي (تفتيشه وَجَبَ على الحاكم إجابته إلى ذلك) أيْ: إلى تفتيشه لاحتمال صدق المدعي وعدم المفسدة فيه.
(وإن صدقه) أي: المدين (غريمه) في دعوى الإعسار (لم يحبس ووجب إنظاره) إلى ميسرة (ولم تجز ملازمته) ".
(1)
كما تقدم.
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(3/ 280) حيث قال: " 3/ 280 ": "وأنظر يساره أيْ: لثبوت ذلك، ولا يلازم رب الدَّين الغريم بحيث كلما يأتيه شيء: يأخذه منه ".
ويُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 186) حيث قال: " (يحرم حبس من ثبت إعساره وملازمته ويجب إنظاره) حتى يوسر".
ويُنظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(4/ 82) حيث قال: "مَنْ وجب عليه دَين فإن كان مؤجلًا، لم يطالب به، ولم يلازم به ".
(3)
أخرجه الدارقطني (4553)، وقال الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 166):"مرسل ".
وأجابوا عن الحديث الذي احتج به أبو حنيفة، وقد أخرجه الدارقطني في "سننه" بأنَّه حديث فيه مقال، قالوا: ولو سلمنا أيضًا لهذا الحديث، فإنَّه يُحْمل على الموسر لا على المعسر - الإنسان الذي يكون عنده مال ويماطل، أي: لا يعطي أصحاب الحقوق حقوقهم - وقَدْ وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "مطل الغني ظلم"
(1)
.
إذًا، لا شكَّ أن مذهب جمهور العلماء هو الراجح في هذه المسألة، وهو الذي يلتقي مع روح هذه الشريعة، وهو أيسر.
قَوْله: (وَإِنَّمَا صَارَ الكُلُّ إلى القَوْلِ بِالحَبْسِ فِي الدُّيُونِ، وَإِنْ كانَ لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ فِي اسْتِيفَاءِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى القَوْلِ بِالقِيَاسِ الَّذِي يَقْتَضِي المَصْلَحَةَ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِالقِيَاسِ المُرْسَلِ
(2)
. وَقَدْ رُوِيَ: " أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ "، خَرَّجَهُ فِيمَا أَحْسَبُ أَبُو دَاوُدَ
(3)
).
وكذا خرَّجه الترمذي
(4)
، وغيرهما.
قوله: (وَالمَحْجُورُونَ عِنْدَ مَالِكٍ: السُّفَهَاءُ)
(5)
.
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5].
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
وهو ما يُسمَّى الاستحسان، وهو العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص. يُنظر:"شرح مختصر الروضة" للطوفي (3/ 197).
(3)
أخرجه أبو داود (3630)، وحسَّنه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(2397).
(4)
أخرجه الترمذي (1417)، وقال: حديث حسن، والنسائي (4876)، عَنْ بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده " أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلًا في تهمة، ثم خلى عنه ".
(5)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (6/ 631): "وأسبابه سبعة: الصبا والجنون والرق والتبذير والفلس والمرض والنكاح في حق الزوجة".
قوله: (وَالمُفْلِسُونَ، وَالعَبِيدُ).
ويدخل في ذلك المكاتب.
قوله: (وَالمَرْضَى).
المراد: المريض في مرض موته؛ فإنَّه يمنع أن يحجر عليه من الزيادة على الثلث.
قوله: (وَالزَّوْجَةُ فِيمَا فَوْقَ الثُّلُثِ).
فيه خلاف، وقد أشرنا إليه.
قوله: (لأنَّه يَرَى أنَّ لِلزَّوْجِ حَقًّا فِي المَالِ، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ الأَكثَرُ، وَهَذَا القَدْرُ كَافٍ بِحَسَبِ غَرَضِنَا فِي هَذَا الكِتَابِ).
قصده: خالفه الأكثر فيما يتعلق بالزوجة لا بقية الأمور، فتنبه.
[كِتَابُ الصُّلْحِ]
يعقد الفقهاء رحمهم الله هذا الكتاب لمناقشة جملة من المسائل المتعلقة بالصلح في قضايا الأموال، وإن كان الصلح أعمَّ من ذلك، فهو يشمل الصلح عن دم العمد، وموضعه كتاب الجنايات، وقد يعرض له بعض الفقهاء في أبواب الصلح كأكثر المالكية، ويشمل الصلح بين الزوجين، وموضعه باب عشرة النساء.
وقد كان الصلح في الجملة من مآثر العرب في الجاهلية، حتى إن بعضهم كان يتحمل الحمالات الكبيرة، والديات العظيمة، لأجل أن يصلح بين الناس، وقد اشتهر فيهم خلقٌ بذلك، فحري بالمسلم أن يعتني بهذه الفضيلة، ولذا جاء الإسلام بتعظيم هذا الأمر، وقد تقدم في كتاب الزكاة أن الشرع جعل الغارم للإصلاح بين الناس مستحقًّا للزكاة وإن كان غنيًّا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَالأَصْلُ فِي هَذَا الكِتَابِ: قَوْله تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]).
فمستند المؤمن في سعيه للصلح بين الناس، هو هذه الآية الكريمة، والأحاديث الواردة في ذلك، التي أفادت أن الصلح في مواطن الشقاق، بتنازل الطرفين أو أحدهما عن شيء من حقوقه، هو خير من الشقاق، والفراق
(1)
.
(1)
يُنظر: "تفسير الطبري" ت: شاكر (9/ 267). فقد ذكر جملة من الآثار في هذا المعنى.
قوله: (وَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ: "إِمْضَاءُ الصُّلْحِ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا"
(1)
.
وقوله: "جائز"، أي: ماضٍ = ينفذ، وليست بمعنى الإباحة، بل الصلح قد يكون واجبًا، أو مستحبًّا، وقد يكون محرمًا، أو مكروهًا أو غير ذلك
(2)
.
وشرط كونه جائزًا ألا يحل حرامًا، أو يُحرِّم حلالًا.
قوله: (وَاتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِهِ عَلَى الإِقْرَارِ)
(3)
.
(1)
أخرجه الترمذي (1352) وقال: "حسن صحيح"، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1420).
(2)
يُنظر: "منح الجليل شرح مختصر خليل" لعليش (6/ 136). حيث قال: " ابن عرفة هو أي: الصلح من حيث ذاته مندوب إليه، وقد يعرض وجوبه عند تعيين مصلحته وحرمته وكراهته لاستلزامه مفسدة واجبة الدرء أو راجحته كما مر في النكاح للخمي وغيره ".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية" للبابرتي (8/ 409) حث قال: " (فإن وقع الصلح عن إقرار اعتبر فيه ما يعتبر في البياعات إن وقع عن مال بمال) لوجود معنى البيع ". مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (5/ 83) حيث قال: "فالصلح على الإقرار معاوضة صحيحة وحكم السكوت حكم الإقرار".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج " للرملي (4/ 383) حيث قال: " (هو قسمان): (أحدهما يجري بين المتداعيين، وهو نوعان: أحدهما صلح على إقرار)، أو حجة أخرى (فإن جرى على عين غير المدعاة) كما لو ادعى عليه دارًا فأقرَّ له بها وصالحه عنها بمعين كثوب (فهو بيع) للمدعاة من المدعي للمدعى عليه (بلفظ الصلح) ويسمى صلح المعاوضة (تثبت فيه أحكامه)، أي: البيع ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3913) حيث قال: " (وهو) أي: الصلح بين متخاصمين (في الأموال قسمان: أحدهما صلح على الإقرار وهو)، أي: صلح الإقرار (نوعان): (أحدهما الصلح على جنس الحق) المقر به (مثل أن يقر) رشيد (له بدين، فيضع)، أي: يسقط (عنه بعضه) ويأخذ الباقي (أو) يقر رشيد لآخر (بعين فيهب) المقر له (له)، أي: للمقر (بعضها ويأخذ الباقي فيصح) الصلح (إن كان) ما صدر من إبراء أو هبة "بغير لفظ الصلح ".
أي: مع إقرار كل واحد من الطرفين بما يقوله خصمه؛ كإنسان ادعى على آخر دينًا، فأقرَّ له، ثم اتَّفقَا على المصالحة عليه بعين يدفعها إليه، أو تصالحا على إسقاط بعضه.
فهذا صلح جائز.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ عَلَى الإِنْكَارِ).
صورته: أن يدعي أحد الخصمين على صاحبه شيئًا، فينكر الآخر، فاختلف الفقهاء في حكم الصلح بينهما.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: يَجُوزُ عَلَى الإِنْكَارِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: لَا يَجُوزُ عَلَى الإِنْكَارِ؛ لِأَنَّهُ مَنْ أَكَلَ المَالَ بِالبَاطِلِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ).
أي: أنه لا يصح أن يصالحه؛ لأنه إذا كان أحدهما ينكر أن عليه شيئًا، فإذا صالح الآخر، وأعطاه ما صالحه؛ فهو مقرٌّ على نفسه بأنه أقبضه مالًا بالباطل بغير عوض.
قوله: (وَالمَالِكِيَّةُ تَقُولُ فِيهِ عِوَضٌ، وَهُوَ سُقُوطُ الخُصُومَةِ وَانْدِفَاعُ اليَمِينِ عَنْهُ).
أجاب المالكية بأن العوض موجود، وهو السلامة من الخصومة، وافتداء اليمين، فلا يحتاج إلى أن يقوده خصمُه إلى القاضي، ولا أن يُحلفه.
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (7/ 9) حيث قال: "الصلح على الإنكار جائز".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 93) حيث قال: " الصلح: على ثلاثة أضرب: صلح مع إقرار وصلح مع سكوت وهو أن لا يقر المدعى عليه ولا ينكره وصلح مع إنكار وكل ذلك جائز".
(3)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 60) حيث قال: "النوع الثاني الصلح على الإنكار فيبطل إن جرى على نفس المدعى وكذا إن جرى على بعضه في الأصح ".
قوله: (وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ
(1)
أَنَّ الصُّلْحَ الَّذِي يَقَعُ عَلَى الإِقْرَارِ يُرَاعَى فِي صِحَّتِهِ مَا يُرَاعَى فِي البُيُوعِ، فَيُفْسَدُ بِمَا تَفْسَدُ بِهِ البُيُوعُ مِنْ أَنْوَاع الفَسَادِ الخَاصِّ بِالبُيُوعِ، وَيَصِحُّ بِصِحَّتِهِ، وَهَذَا هُوَ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ إِنْسَان عَلَى آخَرَ دَرَاهِمَ فَيُصَالِحُهُ عَلَيْهَا بَعْدَ الإِقْرَارِ بِدَنَانِيرَ نَسِيئَةً، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ البُيُوعِ الفَاسِدَةِ مِنْ قِبَلِ الرِّبَا وَالغَرَرِ).
أفادنا المصنف رحمه الله أنه لا يختلف النقل عن مالك في اشتراط شروط البيع في الصلح على إقرار -ويوافقه كثير من العلماء-؛ فلا يجوز أن يصالح على محرم، كخمر أو خنزير، أو يتضمن الصلح معاملة ربوية؛ كالمصالحة على دراهم بدنانير مع عدم تأخير التسليم، وكذلك يُمنع من المصالحة على ما فيه غرر كحمل أمة؛ لأنه غرر، فلا ندري أيخرج حيًّا أم ميِّتًا، سليمًا أم معيبًا، ذكرًا أم أنثى؟!
تنبيه: صورة المسألة المذكورة أن زيدًا ادعى على عمرو دراهم، فأقره، وصالحه عليها بدنانير مؤجلة، فهذا ربًا لا يحل.
قوله: (وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى الإِنْكَارِ: فَالمَشْهُورُ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ
(2)
أَنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ مِنَ الصِّحَّةِ مَا يُرَاعَى فِي البُيُوعِ، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ إِنْسَانٌ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمَ فَيُنْكِرُ، ثُمَّ يُصَالِحُهُ عَلَيْهَا بِدَنَانِيرَ مُؤَجَّلَةٍ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ أَصْبَغُ
(3)
: هُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (7/ 6) حيث قال: "الصلح بيع من البيوع، وسواء كان على الإقرار أو على الإنكار".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (7/ 6) حيث قال: "الصلح بيع من البيوع، وسواء كان على الإقرار أو على الإنكار".
(3)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (6/ 4) حيث قال: "والمنفعة هي سقوط اليمين المنقلبة على المدعي بتقدير نكول المدعى عليه أو حلفه فيسقط جميع المال المدعى به فهذا ممنوع عند الإمام وجائز عند ابن القاسم وأصبغ ومثال ما يمتنع على =
المَكْرُوهَ
(1)
فِيهِ مِنَ الطَّرَفِ الوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَرِفُ أَنَّهُ أَخَذَ دَنَانِيرَ نَسِيئَةً فِي دَرَاهِمَ حَلَّتْ لَهُ. وَأَمَّا الدَّافِعُ فَيَقُولُ: هِيَ هِبَةٌ مِنِّي).
تبيَّن لنا أن مالكًا يُعمل شروط البيع في الصلح على إقرار، وأما الصلح على إنكار، فخالف أصبغ من المالكية، وجوز المصالحة على الدراهم بدنانير نسيئة، وعلل ذلك بأن الواقع أن الدافع للدنانير يدفعها على سبيل الهبة؛ إذ هو يعتقد براءة ذمته من الدراهم المدعاة، بخلاف الطالب؛ فهو يعتقد أنه يصالح عن حال بمؤجل؛ فالمكروه هنا أو موضع الشبهة من طرف الطالب دون الدافع، فلما احتمل أن يكون العقد صحيحًا على ما قاله الدافع اعتبر أصبغ الصحة، وأما مالك فلم يجوزه إلا أن يكون التصرف جائز على دعوى كل من الطرفين
(2)
، وسيأتي بمثال له.
= دعواهما أن يدعي عليه بدراهم وطعام من بيع فيعترف بالطعام وينكر الدراهم فيصالحه على طعام مؤجل أكثر من طعامه أو يعترف له بالدراهم ويصالحه على دنانير مؤجلة أو على دراهم أكثر من دراهمه ".
(1)
لما ذكر في المسألة الأولى أنها حرام بلا خلاف عند مالك، أفاد قوله:"المكروه" أنه حرام مختلف فيه. يُنظر: "منح الجليل شرح مختصر خليل" لعليش (6/ 138). حيث قال: "الخرشي المراد بالمكروه هنا المختلف فيه وبالحرام المتفق عليه، وإلا فالمكروه حقيقة جائز فلا يتصور فسخه قرب أو بعد، وكراهة التنزيه لا تتأتى هنا".
(2)
يُنظر: "منح الجليل شرح مختصر خليل" لعليش (6/ 143). حيث قال: "أو الإنكار، إن جاز (الصلح) على دعوى كل، وعلى ظاهر الحكم ". وأشار الشيخ عليش إلى الخلاف في المسألة بين المالكية بدقة. يُنظر: "منح الجليل شرح مختصر خليل" لعليش (6/ 144). حيث قال: "واعتبر ابن القاسم الشرطين الأولين فقط وأصبغ أمرًا واحدًا، وهو أن لا تتفق دعواهما على فساد مثال مستوفي الشروط الثلاثة أن يدعي عليه بعشرة حالة فينكرها أو يسكت فيصالحه عنها بثمانية معجلة، أو بعرض حال.
ومثال ما يجوز على دعواهما ويمتنع على ظاهر الحكم: أن يدعي عليه بمائة درهم حالة فينكرها أو يسكت فيصالحه على تأخيره بها أو بخمسين منها شهرًا فهو جائز على دعوى كل؛ لأن المدعي أخر المدعى عليه فقط أو أخره وأسقط عنه بعض حقه والمدعى عليه افتدى من اليمين بما التزم دفعه إذا حلَّ الأجل، ويمتنع على ظاهر =
قوله: (وَأَمَّا إِن ارْتَفَعَ المَكْرُوهُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَنَانِيرَ، أَوْ دَرَاهِمَ فَيُنْكِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ يَصْطَلِحَان عَلَى أَنْ يُؤَخِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ قِبَلَهُ إِلَى أَجَلٍ، فَهَذَا عِنْدَهُمْ هُوَ مَكْرُوهٌ. أَمَّا كَرَاهِيَتُهُ: فَمَخَافَةُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَادِقًا، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ أَنْظَرَ صَاحِبَهُ لِإِنْظَارِ الآخَرِ إِيَّاهُ، فَيَدْخُلُهُ أَسْلِفْنِي، وَأُسْلِفْكَ).
ثم ذكر صورة من المصالحة على الإنكار، كل من الطرفين لا يلازمه المحظور الربوي؛ لأنه ينكر ما يقول صاحبه
(1)
، وبالتالي يرى أنه يهبه لا أنه يعاوضه معاوضة ربوية، ومع ذلك، فقد كرهوا هذه المعاملة، ووجه الكراهة: أن فيه شبهًا من تعليق عقد القرض على عقد قرض آخر. ومعلوم أن المالكية أشد المذاهب في منع ذرائع الربا.
قوله: (وَأَمَّا وَجْهُ جَوَازِهِ: فَلأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا يَقُولُ: مَا فَعَلْتُ إِنَّمَا هُوَ تَبَرُّعٌ مِنِّي، وَمَا كَانَ يَجِبُ عَلَيَّ شَيءٌ، وَهَذَا النَّحْوُ مِنَ
= الحكم؛ لأنه سلف جر منفعة، فالسلف التأخير، والمنفعة سقوط اليمين المنقلبة على المدعي بتقدير نكول المدعى عليه، أو حفظ الحق عن السقوط بحلف المدعى عليه فهذا ممنوع عند الإمام وجائز عند ابن القاسم وأصبغ.
ومثال ما يمتنع على دعواهما: أن يدعي عليه بدراهم وطعام من بيع فيعترف بالطعام وينكر الدراهم فيصالحه بطعام مؤجل أكثر من طعامه، أو يعترف بالدراهم ويصالحه بدنانير مؤجلة أو بدراهم أكثر من دراهمه، فحكى ابن رشد الاتفاق على فساده وفسخه لأنه سلف بزيادة أو صرف مؤخر".
(1)
هذا بالنسبة للحكم الظاهر، وأما في الباطن، فمن علم كذب نفسه لم يحل له ما أخذ. يُنظر:"منح الجليل شرح مختصر خليل" لعليش (6/ 146). حيث قال: " (ولا يحل) المال المصالح به (للظالم) فيما بينه وبين الله تعالى فذمته مشغولة به للمظلوم، وظاهر كلامه ولو حكم له به حاكم يراه وهو ظاهر؛ إذ قوله للظالم يشعر بأن الحكم وقع فيما ظاهره يخالف باطنه فهو موافق لقوله في القضاء لا أحل حرامًا ".
البُيُوعِ قِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ إِذَا وَقَعَ، وَقَالَ ابْنُ المَاجِشُونِ
(1)
: يُفْسَخُ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ أَثَرُ
(2)
عَقْدِهِ، فَإِنْ طَالَ مَضَى).
وجه الجواز، بيناه في المسألة السابقة أن كلًّا منهما يعتقد أن يهب صاحبه، فلا يرتكب محظورًا، وللشبهة ومراعاة الخلاف في المسألة قال بعض المالكية: إذا وقع حُكِم بنفاذه.
واختار ابن الماجشون أنه يُفسخ إلا إذا طال الزمان، ووجه التفريق ظاهر؛ فإن في فسخ المصالحات المتعاقبة، والغالب تصرف الطرفين فيما صولحوا به فيه مفسدة عظيمة، فدُرِئت بالإمضاء مع ما فيه من شبهة؛ إذ شأن الفقهاء التساهل بعد وقوع العمل
(3)
.
قوله: (فَالصُّلْحُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي البُيُوعِ هُوَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ
(4)
: صُلْحٌ يُفْسَخُ بِاتِّفَاقٍ).
هذه العبارة تلخص ما سبق بيانه: فالذي يُفسخ باتِّفاق إذا كان المكروه من الطرفين؛ فهو على دعوى كلٍّ منهما باطل كالصلح على دراهم حالة بدنانير نسيئة مع إقرار الطرفين.
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (2/ 519) حيث قال: "وأما الصلح المكروه فقيل إنه يجوز إذا وقع، وقال ابن الماجشون يفسخ إذا عثر عليه بحدثانه ما لم يطل ".
(2)
لعل صوابها: "إثرَ"، بمعنى: عقب العق، بخلاف التأخير.
(3)
يُنظر: "أسهل المدارك" شرح إرشاد السالك في مذهب إمام الأئمة مالك"" للكشناوي (1/ 449). حيث قال: "قال شيخ مشايخنا محمد علي المالكي في إيضاح المناسك، فلو نوى الإحرام بنافلة انعقد نافلة وحرم عليه ذلك ولم يجزه عن الفرض. قال وعند الشافعية يقع فرضًا، ولو نوى النفل فالأسهل تقليدهم بعد الوقوع بلا مراعاة لهم في شروط الحج، لجواز التقليد بعد الوقوع، وجواز التلفيق كما في حاشية الخرشي ".
(4)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (2/ 519) حيث قال: " فقف على أنها ثلاثة وجوه: وجه يفسخ فيه الصلح باتفاق. ووجه يفسخ فيه على اختلاف. ووجه لا يفسخ فيه باتفاق إلا أن يعثر عليه بحدثانه فيفسخ على اختلاف ".
قوله: (وَصُلْحٌ يُفْسَخُ بِاخْتِلَافٍ).
وهو ما كان المكروه فيه من طرف واحد كالصلح على إنكار؛ إذ كان أحدهما يعتقد أنه يهب لا أنه يعاوض بالربا؛ كما في مسألة أصبغ المتقدمة.
قوله: (وَصُلْحٌ لَا يُفْسَخُ بِاتِّفَاقٍ إِنْ طَالَ، وَإِنْ لَمْ يَطُلْ فِيهِ اختِلَافٌ).
وهو النوع الأخير الذي زال المكروه فيه من الطرفين، وبقيت شبهة: أسلفني وأسلفك، وهي آخر مسألة. والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[كِتَابُ الكَفَالَةِ]
(1)
هذا كتاب مهمٌّ، وموضوعه مما يتم فيه التعاون بين المؤمنين؛ لأن المرءَ مهما كان قليلٌ بنفسه، كثيرٌ بإخوانه، الناس للناس من بدوٍ وحاضرةٍ بعض لبعض وَإنْ لم يشعروا خدم، فإنَّ الإنسانَ لا يَسْتغني عن أخيه المسلم في أيِّ حالٍ من الأحوال.
وقَدْ جَاء في "صحيح البخاري"
(2)
قصة أذكرها لما لها من مناسبةٍ، في حديث أبي هريرة قال: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، يعني: يريد أن يقترض منه ألف دينار، فقال له المطلوب الاقتراض منه: ائتني بالشهود، فماذا قال له؟ قال: كفى بالله شهيدًا، فقال: ائتني بكفيلٍ، فقال: كفى بالله كفيلًا، فقال الرجل له: صدقت، يعني: صدق الرجل لما قال له: كفى بالله شهيدًا، ثم أعطاه ألف دينار إلى أجلٍ، ثم إن الرجل انطلق فركب البحر وذهب، فأدَّى الغرض الذي ذهب من أجله، اشتغل بالتجارة وباع حتى شعر بقرب الأجل الذي ضرب بينه وبين الذي أعطاه ذلك الدَّين ألف دينار، فذهب إلى البحر يطلب مركبًا فلم يجد، فَضَاقتْ به الأرض بما رحبت، فما كان
(1)
قال النسفي: "الكفالة الضمان من حدٍّ دخل، وأصلها الضم، ومنه قولهم: كفل فلان فلانًا إذا ضمه إلى نفسه يمونه ويصونه، قال الله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37]، وهي: ضم ذمة في التزام المطالبة بالدَّين" انظر: "طلبة الطلبة"(ص 139).
(2)
أخرجه البخاري (2291).
منه إلا أنْ أخَذ خشبةً فنقرها، أي: حفرها، ثم وضع فيها الألف دينار، ووضع مع ذلك صحيفة أي: رسالة، ثم أغلقها، واختلف العلماء
(1)
فى كيفية إغلاقها، ثم وضعها في البحر، واتجه إلى الله سبحانه وتعالى يدعوه وقال: إنُّ فلانًا طلب مني شهودًا فقلت: كفى بالله شهيدًا، وسألني أن آتي له بكفيل فقلت: كفى بالله كفيلًا، فصدقني فأسألك يارب أن توصلها إليه، أو كلمة نحو ذلك، أو كما قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
(2)
، فذهبت الخشبة، فَخَرج صاحب الحق إلى البحر ينظر إلى البحر لعلها تأتي سفينة وعليها مَنْ عليه الدين، فوجد الخشبة فأخذها ليوقد عليها النار -وفي بعض الرِّوايات: أنه نشرها. وفي بعض الروايات: إن أهله كسروها- فتناثرت الدنانير، ووجد الرسالة، فأدرك حقيقة الأمر، فوجد الرجل المدين مركبًا، فركب وجاء ومعه ألف دينار أخرى، فجاء إلى الرجل فقال له: هل وصلك ما أرسلت إليك؟ فقال: لا أخبرك حتى تخبرني بحقيقة الأمر، فقص عليه القصة، فقال: لقد أدى الله سبحانه وتعالى عنك أمانتك، فما كان منه إلا أن عاد وترك له الألف دينار الأخرى".
هذه القصة ذكَرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ليترتب عليها شيء من الأحكام، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا ما يذكر أصحابه، وكان يعظهم ويوجههم، ويبين لهم ما يفيدهم في أمور دينهم ودنياهم، وبخاصَّةٍ ما يتعلق بأمور الآخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر هذا للاتعاظ والاعتبار، وهذا حديث صحيح، فهي قضية ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي في "صحيح البخاري"، وعند
(1)
ما ورد في الحديث أنه زجج موضعه، قال العيني في "عمدة القاري" (9/ 89):"ثم زجج موضعها، أي: أصلح موضع النقرة وسواه، قيل: لعله من تزجيج الحواجب وهو التقاط زوائد الشعر الخارج عن الخدين، وإن أخذ من الزج وهو سنان الرمح فيكون النقر قد وقع في طرف من الخشبة فسد عليه رجاء أن يمسكه ويحفظ ما في بطنه ".
(2)
نص قوله: "فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلًا، فقلت: كفى بالله كفيلًا، فرضي بك، وسألني شهيدًا، فقلت: كفى بالله شهيدا، فرضي بك، وأني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ".
النسائي
(1)
وغيرهما، وعند أحمد
(2)
، لكنهم يختلفون، وفي بعض الروايات - لكنها ليسمت التي في "صحيح البخاري"-:" إن الرجل الذي أقرض هو النجاشي "، وكونه من بني إسرائيل قالوا: لأنَّه يتبع بني إسرائيل في دينهم
(3)
.
وَالشَّاهد: أنَّ الذي يُسْتفاد من الحديث إنما هو الاتعاظ والعبرة، وفي هذا دلالة على عظم التوكل وفضله، وأن مَنْ توكَّل على الله حقَّ توكله، فإن الله سبحانه وتعالى ينصره، يعني: مَنْ توكل على الله سبحانه وتعالى صادقًا، فإن الله سبحانه وتعالى ينصره ويعينه على تحقيق مراده كما حصل لهذا الرجل.
تعريف الكفالة:
لغة: الضمان، ومن ذلك قول الله تعالى:{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37].
اصطلاحًا: هي ضم ذمة إلى ذمة في طلب الحق
(4)
.
والأصل: أنَّ الإنسان إذا أراد أن يتوثَّق من حقه، فله ذلك، وهذا هو الأصل؛ لأن الإنسان لا يضمن الموت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
(1)
أخرجه النسائى (5800).
(2)
أخرجه أحمد في المسند (8587) والحديث صحيح في البخاري كما تقدم.
(3)
قال ابن حجر في "فتح الباري"(4/ 471): "ولم أقف على اسم هذا الرجل لكن رأيت في مسند الصحابة الذين نزلوا مصر لمحمد بن الربيع الجيزي بإسناد له فيه مجهول عن عبد الله بن عمرو بن العاص يرفعه أن رجلًا جاء إلى النجاشي فقال له: أسلفني ألف دينار إلى أجلٍ، فقال: مَن الحميل بك؟ قال: الله، فأعطاه الألف، فَضَرب بها الرجل أيْ: سافر بها في تجارة، فلما بلغ الأجل أراد الخروج إليه، فحبسته الريح، فعمل تابوتًا، فذكر الحديث نحو حديث أبي هريرة، واستفدنا منه أن الذي أقرض هو النجاشي، فيجوز أن تكون نسبته إلى بني إسرائيل بطريق الاتباع لهم لا أنه من نسلهم ".
(4)
تقدم تعريفها.
وَهَذا من باب التعاون على الخير والبر والتقوى؛ لأن هذا مما يعين فيه المسلم أخاه المسلم، ولذلك عني بها الفقهاء، ووضعوا لها كتابًا مستقلًّا درسوا فيه ما يتعلق بأحكامها.
قوله: (وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي نَوْعِهَا وَفِي وَقْتِهَا، وَفِي الحُكْمِ اللَّازِمِ عَنْهَا، وَفِي شُرُوطِهَا، وَفِي صِفَةِ لُزُومِهَا، وَفِي مَحِلِّهَا، وَلَهَا أَسْمَاءٌ: كفَالَةٌ، وَحَمَالَةٌ، وَضَمَانَةٌ، وَزَعَامَةٌ).
كثيرًا ما يذكر المؤلف رحمه الله الحمالة
(1)
؛ لأن هذا مشتهر في الفقه المالكي، والمراد بها الكفالة، ومعنى الكفالة: أن يتحمل إنسان عن غيره حقًّا، إذًا هي حمالة، وفي نفس الوقت كفالة، وهي أيضًا ضمان؛ لأنَّه ضمنه أيْ: ضمن له الحقَّ، وتسمى زعامةً أخذًا من الحديث:"العاريَّة مؤداة، والزعيم غارم"
(2)
، وهذا جاءت الإشارة إليه في خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
قوله: (فَأَمَّا أَنْوَاعُهَا: فَنَوْعَانِ: حَمَالَةٌ بِالنَّفْسِ، وَحَمَالَةٌ بِالمَالِ).
حَمَالَةٌ بالنفس: قد يتحمَّل الإنسان بالمال، فيكفل هذا الإنسان، ويكون ضمينًا إذا لم يسدد أو تعذر، فإنَّه يقوم بتسديد ذلك الحق عنه.
وهل يَتَرتب على الكفالة بالنفس أن يؤدي عنه؟ سيأتي الخلاف في ذلك.
قوْله: (أَمَّا الحَمَالَةُ بِالمَالِ: فَثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ
(3)
، وَمُجْمَعٌ عَلَيْهَا مِنَ الصَّدْرِ الأَوَّلِ وَمِنْ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ
(4)
. وَحُكِيَ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً
(1)
"الحمالة": التزام دَيْنٍ لا يسقطه أو طلب مَنْ هو عليه لمَنْ هو له. انظر "مختصر ابن عرفة"(6/ 500).
(2)
أخرجه الترمذي (1265)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح الجامع"(2/ 757).
(3)
كما في قوله: "الزعيم غارم "، وتقدم تخريجه.
(4)
قال ابن هبيرة في "اختلاف الأئمة العلماء"(1/ 439): "اتفقوا على جواز الضمان،=
تَشْبِيهًا بِالعِدَّةِ وَهُوَ شَاذٌّ
(1)
).
أمَّا مشروعيَّتها، فَهى ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع؛ ليس كما ذكر المؤلف في السُّنَّة فقط.
أما الكتاب، فقول الله تعالى في سورة يوسف:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} [يوسف: 72].
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "الزعيم الكفيل"
(2)
.
إذًا، هذه الآية دليل على مشروعية الكفالة.
وأما السُّنَّة، فالحديث:"الزعيم غارم"
(3)
؛ أي: الكفيل غارم .. وأجمعت الأمة على جوازها.
وأيضًا الحاجة تقتضي ذلك؛ فإنَّ الناسَ لا يَسْتغنون؛ لأنَّه ليس كل الناس عنده المال المتوفر إليه، فَهُو يحتاج إلى أن يقترض ويشتري أشياء مؤجلة، فيحتاج إلى كفيل وضامن (أخيه المسلم)، فيأتي ويضمنه.
قَوْله: (وَالسُّنَّةُ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا الجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "الزَّعِيمُ غَارِمٌ"
(4)
، وَأَمَّا الحَمَالَةُ بِالنَّفْسِ (وَهِيَ الَّتِي تُعْرَفُ بِضَمَانِ الوَجْهِ): فَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ
(5)
الأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا شَرْعًا إِذَا كانَتْ بِسَبَبِ المَالِ).
= وأنه لا ينتقل الحق عن المضمون عنه الحي بنفس الضمان، وإنما ينتقل بأداء الضامن ".
(1)
لم أقف عليه.
(2)
لم أجده.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" للبلدحي (2/ 167) حيث قال: " (وتجوز بالنفس والمال) لما روينا وذكرنا من الحاجة والإجماع، ولأنه قادر على التسليم ". =
قال: "بسبب المال "، قيد ذلك مما يتعلق بالحدود.
قوله: (وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ
(1)
فِي الجَدِيدِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ
(2)
).
الشافعية
(3)
مذهبهم كمذهب الجمهور، وأحيانًا يقولون بأن هناك قولين: قول بأنها ضعيفةٌ، وقول آخر بأنها صحيحة، إذًا الخلاف موجود في داخل المذهب الشافعي، أما الأئمة:(أبو حنيفة ومالك وأحمد)؛ فقولهم متفق في ذلك، ويرون جوازها، ويستدلون بالآية والحديث
(4)
.
قَوْل: (وَحُجَّتُهُمَا قَوْله تَعَالَى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79]).
هذه حجة مَنْ خالف
(5)
.
= ويُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 344) حيث قال: " (وصح) أي: الضمان (بالوجه) أي: الذات أي: بإحضارها لرب الدين عند الحاجة، فلا يصح إلا إذا كان على المضمون دَينٌ لا في نحو قصاص ".
ويُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 374) حيث قال: "لأنَّ الحاجَةَ دَاعيةٌ إلى الاستيثاق بضمان المال أو البدن وضمان المال يمتنع منه كثيرٌ من الناس، فلو لم تجز الكفالة بالنفس لأدى إلى الحرج، وعدم المعاملات المحتاج إليها".
(1)
يُنظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 152) حيث قال: "تجوز كفالة البدن على المنصوص في الكتب، وقال في "الدعاوى والبيِّنات ": إن كفالة البدن ضعيفة، فمن أصحابنا من قال: تصح قولًا واحدًا، وقوله: ضعيف، أراد من جهة القياس، ومن أصحابنا مَنْ قال: فِيهِ قَوْلَان؛ أحدهما: أنها لا تصح؛ لأنه ضمان عين في الذمة بعقد فلم يصح كالسَّلَم في ثمرة نخلة بعينها، والثاني يصح، وهو الأظهر".
(2)
لم أقف عليه.
(3)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (4/ 253) حيث قال: " كفالة البدن، وتسمى أيضًا، كفالة الوجه، وهي صحيحة على المشهور. وقيل: تصح قطعًا، فتجوز ببدن مَنْ عليه مالٌ، ولا يُشْترط العلم بقدره على الأصح ".
(4)
كما تقدم ذكر ذلك.
(5)
قال الماوردي في "الحاوي الكبير"(6/ 463): "والقول الثاني: كفالة النفوس باطلة، =
قوله: (وَلِأَنَّهَا كفَالَةٌ بِنَفْسٍ؛ فَأَشْبَهَتِ الكَفَالَةَ فِي الحُدُودِ. وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَهَا عُمُومُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "الزَّعِيمُ غَارِمٌ"
(1)
، وَتَعَلَّقُوا بِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ، وَأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ الصَّدْرِ الأَوَّلِ).
وأيضًا استدلوا بقول الله تعالى في سورة يوسف: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] إذًا، فهذه هي الكفالة بالنفس.
قَوْله: (وَأَمَّا الحُكْمُ اللَّازِمُ عَنْهَا: فَجُمْهُورُ القَائِلِينَ بِحَمَالَةِ النَّفْسِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ المُتَحَمَّلَ عَنْهُ إِذَا مَاتَ لَمْ يَلْزَمِ الكَفِيلَ بِالوَجْهِ شَيْءٌ
(2)
. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ لُزُومُ ذَلِكَ).
جُمْهور القائلين هم أبو حنيفة والشافعي وأحمد على أساس القول عند الشافعي أنه يرى ذلك، وحُكِيَ عن بعضهم لزوم ذلك،
= ودليل بطلانها قوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79]، فكان قوله:{مَعَاذَ اللَّهِ} إنكارًا للكفالة أن تجوز حين سأله إخوته أن يأخذ أحدهم كفيلًا ممَّن وجد متاعه عنده، ولأن ما لا يضمن باليد لا يضمن بالعقد، كالميتة والخمر، ولأنه عقد ضمان لا يستحق على الضامن المطالبة بمقتضاه، فوجب أن يكون باطلًا كضمان القصاص ".
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
يُنظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (4/ 148) حيث قال:" إذا مات المكفول به، فإن الكفالة تبطل ".
ويُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (7/ 60) حيث قال: "وإذا مات الغريم برئ حميل الوجه؛ لأنَّ النَّفسَ المكفولة قَدْ ذَهَبت ".
ويُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 244) حيث قال: " (فلو مات) المكفول به (أو تستر لم يلزمه) أي: الكفيل (المال)؛ لأنه لم يلتزمه، كما لو ضمن المسلم فيه فانقطع لا يطالب برأس المال ".
ويُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 132) حيث قال: " (أو مات) المكفول برئ كفيل لسقوط الحضور عنه بموته ".
وهم مَالكٌ
(1)
واللَّيثُ والحكمُ
(2)
.
قَوْله: (وَفَرَّقَ ابْنُ القَاسِمِ
(3)
بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، فَقَالَ: إِنْ مَاتَ حَاضِرًا، لَمْ يَلْزَمِ الكَفِيلَ شَيْ ءٌ، وَإِنْ مَاتَ غَائِبًا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ المَسَافَةُ الَّتِي بَيْنَ البَلَدَيْنِ مَسَافَةً يُمْكِنُ الحَمِيلَ).
أي: الكفيل.
قوْله: (فِيهَا إِحْضَارُهُ فِي الأَجَلِ المَضْرُوب لَهُ فِي إِحْضَارِهِ (وَذَلِكَ فِي نَحْوِ اليَوْمَيْنِ إلى الثَّلاثَةِ)، فَفَرَّطَ: غَرِمَ، وَإِلَّاَ لَمْ يَغْرَمْ).
هذا تعليلٌ منه رحمه الله يحتاج إلى دليلٍ.
قَوْله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا غَابَ المُتَحَمَّلُ عَنْهُ مَا حُكْمُ الحَمِيلِ بِالوَجْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ).
أيْ: غاب ولم يعرف أين هو، فما حكم الكفيل في هذه المسألة، هل هو غارم أو لا؟ فيها ثلاثة أقوال للعلماء، فمالك وأحمد لهما قول،
(1)
المنصوص عن مالك أن الكفيلَ لا يلزمه شيء، جاء في "المدونة" (4/ 97):"كذلك لو مات الغريم؛ لأنه إنما تحمل له بنفسه، وهذه نفسه قد ذهبت، وإنما تحمل به ما كان حَيًّا"، ومذهب المالكية كذلك أيضًا، جاء في "عقد الجواهر"، لابن شاس (2/ 481):"وإن مات المتكفل به لم يلزم الكفيل شيء، شرط أو لم يشرط ".
ويُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (7/ 60) حيث قال: "وإذا مات الغريم برئ حميل الوجه؛ لأن النفس المكفولة قد ذهبت ".
(2)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (6/ 235) حيث قال: "وقال الحكم، ومالك، والليث بن سعد: إذا مات، وَجَبَ غرمها على الكفيل ".
(3)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زَيْدٍ (1/ 108) حيث قال: "قال ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وفي "العتبية" من رواية عيسى: وإذا مات الغريم في البلد قبل الأجل أو بعده في حميل الوجه قبل الحكم عليه، فلا شيء عليه. قال محمد عن ابن القاسم: وقيل لمالكٍ: فإن مات بالبلد أيلزم الحميل شيء؟ فقال: أرأيت إنْ غاب إلى سفرٍ لم يكن عليه أن يعطيه حقه، قيل لمالك: أفترى الموت مثله؟ قال: الخروج أبين. قال محمد: وهذا المعروف من قول مالك وأصحابه ".
والشافعي وأبو حنيفة لهما قول، وهناك قول ثالث ذكره المؤلف ونسبه إلى أبي عبيد القاسم بن سلام
(1)
.
قَوْله: (القَوْلُ الأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُحْضِرَهُ أَوْ يَغْرَمَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
(2)
).
وأحمد أيضًا
(3)
.
قَوْله: (وَأَصْحَابِهِ، وَأَهْلِ المَدِينَةِ. وَالقَوْلُ الثَّانِي: أنه يَحْبِسُ الحَمِيلَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ أو يَعْلَمَ مَوْتَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
(4)
).
والشافعي أيضًا
(5)
.
قوْله: (وَأَهْلِ العِرَاقِ. وَالقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إِذَا عَلِمَ مَوْضِعَهُ)
(6)
.
هذا القول حدد بأنْ يكون مكانه معروفًا، فيلزمه أن يأتي به، وإنْ لم
(1)
سيأتي ذكر أقوالهم قريبًا.
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخوشي (5/ 277) حيث قال: "إذا قبل منه الحميل فغاب الغريم عند الأجل، فإن الحميل يغرم ما عليه ".
(3)
يُنظر: "الروض المربع" للبهوتي (ص 375) حيث قال: "وإن تعذر إحضار المكفول مع حياته أو غاب ومضى زمن يمكن إحضاره فيه، ضمن ما عليه إنْ لم يشترط البراءة منه ".
(4)
يُنظر: "درر الحكام" لعلي حيدر (1/ 791) حيث قال: "كذلك يحبس الكفيل، ويجبر على إحضار المكفول عنه فيما لو امتنع عن الذهاب إلى المحل الذي يوجد فيه المكفول عنه لو كان ذلك المحل بعيدًا أو بلدًا أجنبيًّا ".
(5)
قول الشافعية موافق إلى حد كبير القول الثالث الآتي، قال النووي في "روضة الطالبين" (4/ 258):"إذا غاب المكفول ببدنه، نظر، إن غاب غيبةً منقطعةً والمراد بها ألا يعرف موضعه، وينقطع خبره، فلا يكلف الكفيل إحضاره، وإن عرف موضعه، فإن كان دون مسافة القصر، لزمه إحضاره لكن يمهل مدة الذهاب والإياب ليحضره، فإن مضت المدة ولم يحضره، حبس".
(6)
وقد تقدم أنه قول الشافعية.
يأت به يحبس، أما إذا لم يكن مكانه معروفًا، فلا يلزمه أن يبحث عنه.
قَوْل: (وَمَعْنَى ذَلِكَ أَلَّا يُكَلَّفَ إِحْضَارَهُ إِلَّا مَعَ العِلْمِ بِالقُدْرَةِ عَلَى إِحْضَارِهِ، فَإِنِ ادَّعَى الطَّالِبُ مَعْرِفَةَ مَوْضِعِهِ عَلَى الحَمِيلِ، وَأَنْكَرَ الحَمِيلُ؛ كُلِّفَ الطَّالِبُ بَيَانَ ذَلِكَ. قَالُوا: وَلَا يُحْبَسُ الحَمِيلُ إِلَّا إِذَا كَانَ المُتَحَمَّلُ عَنْهُ مَعْلُومَ المَوْضِعِ، فَيُكَلَّفُ حِينَئِذٍ إِحْضَارَهُ، وَهَذَا القَوْلُ حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ فِي كِتَابِهِ فِي الفِقْهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ وَاخْتَارَهُ)
(1)
.
كتابه المعروف في الفقه هو "كتاب في الأموال "، وهو من أَجلِّ الكتب التي أُلِّفت في الشريعة الإسلامية، وتكلم عن كل ما يتعلق بالقسم المالي في الفقه الإسلامي.
قَوْله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: أَنَّ المُتَحَمِّلَ بِالوَجْهِ غَارِمٌ لِصَاحِبِ الحَقِّ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الغُرْمُ إِذَا غَابَ).
هذا الذي يتحمل بالنفس، الذي تحمل أن يحضر الإنسان بنفسه، هل هو ضامن للمال كالحال بالنسبة للقسم الأول الذي اتفق عليه العلماء، أو أنه كفل أن يحضرَه بنفسه.
قَوْله: (وَرُبَّمَا احْتَجَّ لَهُمْ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ غَرِيمَهُ أن يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ مَالَهُ أَوْ يُعْطِيَهُ حَمِيلًا").
رَجلٌ كان يطلب من آخر دينًا (مالًا)، فأمسك به، ولم يتركه.
قوله: (فَلَمْ يَقْدِرْ حَتَّى حَاكَمَهُ إلى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.
جاء في بعض الروايات: "عشرة دنانير، وأنَّه أمسك به فلم يفلته حتى رفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول تحمل فذهب الرجل، فجاء بالمطلوب من معدن، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أين جئت به؟ "
(1)
لم أقف عليه.
فقال: من معدن، فقال:" لا حاجة لنا به "، لا خير فيه، ثم إن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم دفع عنه ذلك القدر من المال ".
إذًا، الرَّسول صلى الله عليه وسلم تحمل، ثم بعد ذلك دفع عنه، هذا هو وجه الدلالة من هذا الحديث، وهذا الحديث أخرجه أبو داود
(1)
وابن ماجه
(2)
والبيهقي في "السنن الكبرى"
(3)
، والحاكم، وصححه
(4)
كذلك.
قَوْله: (فَتَحَمَّلَ عَنْهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَدَّى المَالَ إِلَيْهِ"
(5)
. قَالُوا: فَهَذَا غُرْمٌ فِي الحَمَالَةِ المُطْلَقَةِ).
هذا غرم؛ لأنَّه تحمل فدفع عنه، لكن هل ما دفعه الرسول صلى الله عليه وسلم كان التزامًا أو أنه تبرع من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هذا فيه كلام للعلماء.
قَوْله: (وَأَمَّا أَهْلُ العِرَاقِ
(6)
فَقَالُوا: إِنَّمَا يجِبُ عَلَيْهِ إِحْضَارُ مَا تَحَمَّلَ بِهِ، وَهُوَ النَّفْسُ).
(1)
برقم (3328)، وصحَّحه الأَلْبَاني رحمه الله.
(2)
سيأتي تخريجه مع ذِكْرِ لفظه كاملًا.
(3)
"السنن الكبرى"(6/ 74).
(4)
"مستدرك الحاكم"(2/ 13) وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي.
(5)
أخرجه ابن ماجه (2406)، ولفظه:"عن ابن عباسٍ أنَّ رجلًا لزم غريمًا له بعشرة دنانير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما عندي شيء أعطيكه، فقال: لا والله، لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل، فَجرَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " كم تستنظره؟ "، فقال: شهرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأنا أحمل له "، فجاءه في الوقت الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من أين أصبت هذا؟ "، قال: من معدنٍ. قال: "لا خير فيها"، وقضاها عنه "، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1413).
(6)
يُنظر: "تبيين الحقائق" لفخر الدين الزيلعي (4/ 148) حيث قال: " إن غاب المكفول بنفسه يؤجل الكفيل مدة قطع المسافة ولا يحبسه؛ لأنه لم يظهر مطله بعد، والحَبسُ للمُمَاطلة، قال رحمه الله: (فإن مضت ولم يحضره حبسه) أي: إذا مضت المدة ولم يحضره حبسه؛ لأنه ظهر مطله، والحبس جزاؤه. قال رحمه الله: (وإن غاب ولم يعلم مكانه لا يطالب به)؛ لأنه عاجز، وقد صدقه الطالب عليه فصار كالمدين إذا ثبت إعساره ".
الحنفية يقولون: هو تحمل إحضار النفس لا أنه تحمل أن يدفع أو يغرم المبلغ أي: الحق المستحق للمدين، إذًا، هو أدى ما عليه، فغايته أن يأتى به، ويسلمه لصاحب الحق، لكن لا يدفع عنه؛ لأنَّ هذا يختص بالملتزم مالًا أي: الضامن مالًا، لَكن الكفيل بالنفس لو التزم بأنَّه في حالة عدم دفع المكفول به، فإنَّه يدفع عنه، فَهُوَ حِينَئذٍ يكون ملزمًا بذلك.
قوْله: (فَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يُعَدَّى ذَلِكَ إِلَى المَالِ إِلَّا لَوْ شَرَطَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام:" المُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ "
(1)
، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ أن يُحْضِرَ المَالَ أَوْ يُحْبَسَ فِيهِ).
أبو حنيفة يقول: إما أن يحضره إلى مَنْ دفع له الحق، وإن لم يحضره، يحبس إلى أن يأتي به.
قوْله: (كَذَلِكَ الأَمْرُ فِي ضَمَانِ الوَجْهِ. وَعُمْدَةُ الفَرِيقِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ إِحْضَارُهُ إِذَا كَانَ إِحْضَارُهُ لَهُ مِمَّا يُمْكِنُ، وَحِينَئِذٍ يُحْبَسُ إِذَا لَمْ يُحْضِرْهُ).
يقول الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فكيف يُكلَّف إنسان بأن يبحث عن إنسانٍ اختفى في زوايا الأرض لا يُدرى أين هو، هذا فيه مشقة، لكن لو كان يعرف مكانه سواء كان في البلد الذي يقيم فيها أو في أخرى، فإن عليه أن يأتي به وَإِنْ لم يفعل يحبس، لكن كونه لا يعرف ذلك، فماذا يفعل؟ هل يقضي زمانه وحياته في البحث عنه.
قوله: (وَأَمَّا إذا عَلِمَ أَنَّ إِحْضَارَهُ لَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِحْضَارُهُ كمَا أَنَّهُ إِذَا مَاتَ لَيْسَ عَلَيْهِ إِحْضَارُهُ. قَالُوا: وَمَنْ ضَمِنَ الوَجْهَ
(1)
أخرجه أبو داود (3594)، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(5/ 142).
فَأُغْرِمَ المَالَ، فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ مَغْرُورًا مِنْ أَنْ يَكُونَ غَارًّا، فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَطَ الوَجْهَ دُونَ المَالِ، وَصَرَّحَ بِالشَّرْطِ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ المَالَ لَا يَلْزَمُهُ
(1)
، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا فِيمَا أَحْسَبُ؛ لِأنَّهُ كَانَ يَكُونُ قَدْ أَلْزَمَ ضِدَّ مَا اشْتَرَطَ، فَهَذَا هُوَ حُكْمُ ضَمَان الوَجْهِ).
أكثر خلاف ما اشترطه؛ لأنَّه هو قَالَ: أنا أضمنه إحضارًا، لكن أَنْ أضمن أداء الحق فلا، إذًا هذا اشترطه ووافق عليه من كفل عنده، فحينئذٍ لا يلزمه.
قَوْله: (وَأَمَّا حُكْمُ ضَمَان المَالِ: فَإِنَّ الفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ
(2)
عَلَى أَنَّه إِذَا عَدِمَ المَضْمُونُ أَوْ غَابَ أَنَّ الضَّامِنَ غَارِمٌ).
إذا عدم المضمون أو غاب، فَهَذا لا خلاف فيه بين العلماء.
قَوْله: (وَاخْتَلَفُوا إذا حَضَرَ الضَّامِنُ وَالمَضْمُونُ وَكِلَاهُمَا مُوسِرٌ).
إذا حضر معًا الكفيل والمكفول به (الكفيل والمتحمل عنه)، فما الحكم؟ هل يطالبان معًا؟ أو لصاحب الحق أن يطالب أحدهما أو يطالب الذي أخذ الحق منه؟
قوْله: (فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَأَصْحَابُهُمَا،
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (3/ 310) حيث قال: " قال مالك: إن حلف ألَّا يتكفل بمال أبدًا فتكفل بنفس رجل حنث؛ لأن الكفالة بالنفس كالكفالة بالمال إلا أن يشترط وجهه بلا مالٍ، فلا يحنث ".
(2)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 62) حيث قال: "واتفقوا على أن من كان له على آخر حيٍّ حق واجب من مال حدود قد وجب بعد فضمنه عنه ضامن وأحد بأمر الذي عليه الحق، ورضي المضمون له بذلك، وكان الضامن له غنيًّا، فإن ذلك جائز، وللمضمون له أن يطالب الضامن بما ضمن له ".
(3)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 63) حيث قال: "للمستحق مطالبة الضامن والأصيل ".
(4)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 91) حيث قال: "مثل أن يقول: تكلفت عنه بألف =
وَالثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ
(1)
، وَإِسْحَاقُ
(2)
: لِلطَّالِبِ أَنْ يُؤَاخِذَ مَنْ شَاءَ مِنَ الكَفِيلِ أَوِ المَكْفُولِ).
إذًا، هو بالخيار، له أن يأخذ أو يطالب من هذا أو من الآخر.
قَوله: (وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الكَفِيلَ مَعَ وُجُودِ المُتَكَفَّلِ عَنْهُ
(3)
، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ مِثْلُ قَوْلِ الجُمْهُورِ)
(4)
.
إذا حضرا معًا (الكفيل والمكفول به)، فهل له أن يطالب أحدهما أو له أن يطالب مَنْ شاء؟
رأي الجمهور في ذلك أن له أن يطالب من شاء منهما؛ لأن الحق متعلق بهما معًا، فله أن يطالب الغارم، وله أن يطالب المكفول في هذه الحالة.
قوْله: (وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الحَمَالَةُ، وَالكَفَالَةُ وَاحِدَةٌ، وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ مَالًا، لَزِمَهُ وَبَرِئَ المَضْمُونُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالُ وَاحِدٍ
= أو بما لك عليه أو بما يدركك في هذا البيع والمكفول به بالخيار: إن شاء طالب الذي عليه الأصل، وإن شاء طالب كفيله ".
(1)
يُنظر: "العدة شرح العمدة" لبهاء الدين المقدسي (ص 272) حيث قال: "وإنْ ضمنه عنه ضامن لم يَبْرأ، وصار الدين عليهما ولصاحبه مطالبة مَنْ شاء منهما؛ لأن الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، فثبت في ذمتهما جميعًا".
(2)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (6/ 227) حيث قال: " فقالت طائفة: لصاحب المال أن يأخذ بماله أيهما شاء، حتى يستوفي ماله، هذا قول سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأصحاب الرأي ".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 337) حيث قال: " (ولا يطالب) الضامن أي: لا مطالبة لرب الدَّين عليه (إن حضر الغريم موسرًا) ".
(4)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 817) حيث قال: "وله أن يُطَالبه من غير انقطاع الطلبة عن المضمون عنه، وهو حَاضرٌ مَليءٌ فيَتَخيَّر في طلب أيهما شاء، على الرواية الأولى".
عَلَى اثْنَيْنِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ
(1)
، وَمِنَ الحُجَّةِ لِمَن رَأَى أَنَّ الطَّالِبَ يَجُوزُ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ؛ كَانَ المَضْمُونُ عَنْهُ غَائِبًا، أَوْ حَاضِرًا، غَنِيًّا، أَوْ عَدِيمًا: حَدِيثُ قَبِيصَةَ بْنِ المُخَارِقِيِّ).
هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه"
(2)
، وكذلك بعض أصحاب السنن
(3)
وأحمد
(4)
، وهذا الحديث يتعلق بالمسألة.
فقبيصة تحمَّل حمالةً كما جاء في "صحيح مسلم" وغيره قال: "تحملت حمالةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: "قم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها "، قال: ثم قال: "يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحَلَّتْ له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيشٍ - أو قال: سدادًا من عيشٍ - ورجل أصابته فاقة حتى يَقُوم ثلاثةٌ من ذوي الحِجَا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش - أو قال: سدادًا من عيشٍ - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا".
قَوله: (قَالَ: "تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: نُخْرِجُهَا عَنْكَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ المَسْأَلة لَا تَحِلُّ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ، وَذَكَرَ رَجُلًا تَحَمَّلَ حَمَالَةَ رَجُلٍ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا"، وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبَاحَ المَسْأَلَةَ لِلْمُتَحَمِّلِ دُونَ اعْتِبَارِ حَالِ المُتَحَمَّلِ عَنْهُ).
(1)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (6/ 228) حيث قال: "وكان أبو ثورٍ يقول: الكفالة والحوالة سواء، ولا يجوز أن يكون مال واحد على اثنين، وبه قال ابن أبي ليلى إلا أن يشترط المكفول له أن يأخذ به أيهما شاء".
(2)
أخرجه مسلم (1044).
(3)
كأبي داود (1640)، والنسائي (2580).
(4)
حديث (15916).
المُتَحَمل:
هو الذي لا يجد ما يدفع ما تحمله، أما الإنسان الموسر فلا يجوز له؛ لأنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَيَّن أنه حتى ينتهي ما به، ثم بعد ذلك يمسك.
قوْله: (وَأَمَّا مَحِلُّ الكَفَالَةِ: فَهِيَ الأَمْوَالُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ العِلْمِ)
(1)
.
هي الأموال والأنفس أيضًا.
قوله: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "الزَّعِيمُ غَارِمٌ"
(2)
.
هذا نص في هذه المسألة، والآية أيضًا {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} [يوسف: 72].
قوله: (أَعْنِي: كَفَالة المَالِ وَكَفَالَةَ الوَجْهِ).
ذكر أيضًا كفالة الوجه التي يعبر بها عن النفس.
قوله: (وَسَوَاءٌ تَعَلَّقَتِ الأمْوَالُ مِنْ قِبَلِ أَمْوَالٍ، أَوْ مِنْ قِبَلِ حُدُودٍ، مِثْلُ المَالِ الوَاجِبِ فِي قَتْلِ الخَطَإ).
يُقْصَد بالحدود أنها ليست أموالًا تُشْترى بها الحدود، ولكن يجب حدًّا على إنسانٍ من الحدود التي يمكن أن يُصْطلح عليها بالمال؛ كالجرَاحات ونحوها، وكذلك أيضًا القتل - كَمَا هو مَعْلومٌ - بالنسبة لقتل العمد.
(1)
بمعنى أن الكفالة تكون في الأصل لضمان الدَّين، والكفالة المتعلقة بالنفس تكون في الغالب لأداء الدين أيضًا، أو لضمان الواجب من المال في الحدود، فهي راجعة إلى المال، وتقدَّمت الإشارة لمشروعية كلٍّ منهما، وسيأتي الكلام على الكفالة في الواجب من المال في الحدود.
(2)
تقدم تخريجه.
قَوْل: (مِثْلُ المَالِ الوَاجِبِ فِي قَتْلِ الخَطَإِ، أَوِ الصُّلْحِ فِي قَتْلِ العَمْدِ، أَوِ السَّرِقَةِ الَّتِي لَيْسَ يَتَعَلَّقُ بِهَا قَطْعٌ).
يَعْني: إذا عَفَا أولياء المقتول عن القتل فيمن يقتل عمدًا، وتنازلوا إلى الدية، فربما يطلبون أموالًا أكثر من الدية ويدفعها الإنسان حفاظًا على رقبته، وكذلك بالنسبة لقتل الخطإ، وقتل الخطإ لا قصاص فيه، تم يأتي بعد ذلك السرقة، لكنها السرقة التي لا تبلغ النصاب، أما إذا بلغت النصاب ففيها الحد إلا أن تكون من غير حرزٍ، فحينئذ يختل الشرط، فلا قطع فيها؛ لأن السرقة أيضًا لها شروط، وهي: أن تبلغ النصاب، وأن تكون من حرزٍ، وكل شيءٍ بحرزه، وأن يكون الذي سرق مكلفًا، وألَّا يكون هناك ضرورة دَعَتْ إلى السرقة، وعمر رضي الله عنه في عام الرمادة أوقف الحد
(1)
.
قَالَ: (وَهِيَ مَا دُونَ النِّصَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِجَازَةُ الكَفَالَةِ فِي الحُدُودِ وَالقِصَاصِ)
(2)
.
هذه رواية عن أبي حنيفة؛ يجيز الكفالة فيمن عليه حدٌّ أن يكفل.
قَوْله: (أَوْ فِي القِصَاصِ دُونَ الحُدُودِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ البَتِّيِّ (أَعْنِي كفَالة النَّفْسِ))
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(5/ 521)(28591)، عن حصين بن حدير، قال: سمعت عمر وهو يقول: "لا قطع في عذق، ولا في عام سنة"، وضعَّفه الأَلْبَانيُّ في " إرواء الغليل "(8/ 80).
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 91) حيث قال: "ولا يجوز الكفالة بالنفس فى الحدود والقصاص عند أبي حنيفة، وَقَالا: يجوز".
(3)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 253) حيث قال: "وقال عثمان البتي: إذا كفل بنفس رجل قبله قصاص في نفس أو ما دونها ففات أن يجيء به، فعليه أرش تلك الجراحة أو النفس، وهي للكفيل في مال الجاني، ولا قصاص على الكفيل ".
إذًا، أبو حنيفة له قولان: في الحدود والقصاص أو في القصاص وحدَه، وخالفه صاحباه في ذلك
(1)
.
قوله: (وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِ الكَفَالَةِ بِالمَالِ، أَعْنِي مُطَالَبَتَهُ بِالكَفِيلِ: فَأَجْمَعَ العُلَمَاءُ
(2)
عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ الحَقِّ عَلَى المَكْفُولِ؛ إِمَّا بِإِقْرَارٍ وَإِمَّا بِبَيِّنَةٍ، وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِ الكَفَالَةِ بِالوَجْهِ، فَاخْتَلَفُوا هَلْ تَلْزَمُ قَبْلَ إِثْبَاتِ الحَقِّ أَمْ لَا).
يكون بعد ثبوت الحق لا قبله؛ لأنَّه يطلب الكفيل بعد أن يثبت الحق، وسيأتي الخلاف بالنسبة لكفالة النفس هل يجوز تقديمها أو لا؟ والمؤلف هنا لم يعرض الخلاف إلا في داخل مذهب مالك.
قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا لَا تَلْزَمُ قَبْلَ إِثْبَاتِ الحَقِّ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ).
هذا هو الأصل؛ أنها لا تلزم إلا بعد ثبوت الحق، فإذا ثبت الحق فحينئذٍ يطلب، وبعض العلماء يقولون: هي تطلب قبل ذلك ليتوثق صاحب الحق.
قوله: (وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ القَاضِي وَالشَّعْبِيِّ)
(3)
.
الشَّعبيُّ هو أحد التابعين، وهو الذي وجَّه أبا حنيفة رحمه الله إلى الاشتغال بالعلم.
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 91) حيث قال: "ولا يجوز الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص عند أبي حنيفة، وقالا: يجوز"، وينظر "اللباب" للميداني (2/ 154) حيث قال:"المشهور من قول علمائنا أن الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص جائزة في اختيار المطلوب، أما القاضي لا يجبره على إعطاء الكفيل ".
(2)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 62) حيث قال: " اتفقوا أن ضمان ما لم يجب قط ولا وجب على المرء لا يجوز".
(3)
لم أقف عليه.
قوله: (وَبِهِ قَالَ سَحْنُونٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ)
(1)
.
وهي أيضًا روايةٌ عن الإمام أحمد
(2)
، وهو رأي الأكثر
(3)
.
قَوْله (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يجِبُ أَخْذُ الكَفِيلِ بِالوَجْهِ عَلَى إِثْبَاتِ الحَقِّ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا مَنَى يَلْزَمُ ذَلِكَ؟ وَإِلَى كَمْ مِنَ المُدَّةِ يَلْزَمُ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ أَتَى بِشُبْهَةٍ قَوِيَّةٍ مِثْلِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَ ضَامِنًا بِوَجْهِهِ حَتَّى يَلُوحَ حَقُّهُ، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الكَفِيلُ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي المِصْرِ، فَيُعْطِيهِ حَمِيلًا مِنَ الخَمْسَةِ الأَيَّامِ إلى الجُمُعَةِ
(4)
).
يعني ما بين خمسة أيام إلى أسبوع، هذه كلها تفصيلات في مذهب مالك.
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (1/ 177) حيث قال: "سأل حبيب سحنونًا، فيمن اعترف من يده شيء، فثبت عليه شاهد واحد، فيريد المشهود عليه أن يأخذ حميلًا على من باع ذلك منه كيلًا يحكم عليه في وقت يغيب هذا فيه، قال: لا حميل له عليه، ولا يعرض له حتى يحكم عليه ".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 79) حيث قال: "وإن قال المدعي: لي بينة غائبة. قال له الحاكم: لك يمينه، فإن شئتَ فاستحلفه، وإن شئتَ أخَّرته إلى أن تحضر بينتك، وليس لك مطالبته بكفيلٍ، ولا ملازمته حتى تحضر البينة. نص عليه أحمد".
(3)
فهو قول أحمد كما تقدم، وقول سحنون، وهو مذهب الشافعية أيضًا. قال الرملي:"لا تسمع الدعوى بالدَّين على غريم الغريم، إذْ هو محمولٌ على ما إذا كان الغريم حاضرًا أو غائبًا، ولم يكن دينُهُ ثابتًا على غريم الغريم، فليسَ له الدعوى لإثباته (قضاه الحاكم منه) بعد طلب المدعي؛ لأنَّ الحاكمَ يقوم مقامه، ولا يطالبه بكفيل؛ لأن الأصل بقاء المال ". انظر: "نهاية المحتاج"(8/ 272)،
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (4/ 226) حيث قال: "المدعي إذا أقام شاهدًا على حقه، وأبى أن يحلف معه، وطلب المهلة حتى يأتي بشاهده الثاني، فإنه يُجَاب لذلك بكفيلٍ من المدعى عليه بالمال، ومدة المهلة بالاجتهاد (أو بإقامة بينة) الباء بمعنى اللام كما في بعض النسخ مدخولها معطوف على دفع أي: أن المدعي إذا طلب المهلة لإقامة بينة على دعواه المجردة (فبحميل بالوجه)، يضمن المدعى عليه ".
قوله: (وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ القَاسِمِ
(1)
مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَقَالَ أَهْلُ العِرَاقِ).
ومنهم أبو حنيفة
(2)
رحمه الله.
قَوْله: (لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ حَمِيلٌ قَبْلَ ثُبُوتِ الحَقِّ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي المِصْرِ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ القَاسِمِ، إِلَّا أَنَّهُمْ حَدُّوا ذَلِكَ بِالثَّلَاثَةِ الأيَّامِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنْ أَتَى بِشُبْهَةٍ لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ حَمِيلًا حَتَّى يُثْبِتَ دَعْوَاهُ أَوْ تَبْطُلَ، وَقَدْ أَنْكَرُوا الفَرْقَ فِي ذَلِكَ، وَالفَرْقَ بَيْنَ الَّذِي يَدَّعِي البَيِّنَةَ الحَاضِرَةَ وَالغَائِبَةَ، وَقَالُوا: لَا يُؤْخَذُ حَمِيلٌ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَذَلِكَ إلى بَيَانِ صِدْقِ دَعْوَاهُ أَوْ إِبْطَالِهَا. وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ: تَعَارُضُ وَجْهِ العَدْلِ بَيْنَ الخَصْمَيْنِ فِي ذَلِكَ).
المؤلف الآن سيَذْكر العلة بعد أن ذكرَ هذه الاختلافات داخل المذهب.
قَالَ: (فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِ ضَامِنٌ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَغِيبَ بِوَجْهِهِ فَيَعْنَتَ طَالِبُهُ).
يَعْني: إذا لم يؤخذ عليه ضمين بوجه الدعوة أي: كفيل وجه، فإنه ربما يغيب، فربما يكون عنت في البحث عنه ومشقة، إذًا هذا فيه ضرر على صاحب الحق.
قَوْله: (وَإِذَا أُخِذَ عَلَيْهِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بَاطِلَةً، فَيَعْنَتَ
(1)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (6/ 247) حيث قال: "مذهب سحنون أنه لا يجب مع الشاهد إلا حميل بالوجه. وقال ابن القاسم: يجب حميل بالمال ذكر".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 150) حيث قال: "وإذا قال المدعي: لي بينة حاضرة، قيل لخصمه: أعطه كفيلًا بنفسك ثلاثة أيام، فإن فعل وإلا أمر بملازمته إلا أن يكون غريبًا على الطريق، فيلازمه مقدار مجلس القاضي ".
المَطْلُوبُ، وَلهَذَا فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ دَعْوَى البَيِّنَةِ الحَاضِرَةِ وَالغَائِبَةِ، وَرُوِيَ عَنْ عَرَاكِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:" أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنَ الأَعْرَابِ مَعَهُمْ ظَهْرٌ، فَصَحِبَهُمْ رَجُلَان فَبَاتَا مَعَهُمْ، فَأَصْبَحَ القَوْمُ وَقَدْ فَقَدُوا كَذَا وَكَذَا مِنْ إِبِلِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: "اذْهَبْ وَاطْلُبْ "، وَحَبَسَ الآخَرَ، فَجَاءَ بِمَا ذَهَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: "اسْتَغْفِرْ لِي "، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، قَالَ: "وَأَنْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَقتلَكَ فِي سَبِيلِهِ "
(1)
.
ما أعظم أن يقتل الإنسان في سبيل الله، وهو الذي كان يتمناه الشهداء كما هو معلومٌ.
و"عرَاك ": تابعيٌّ، ويرفع ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهذا حديث مرسل، لكنه جاء في الرواية الأخرى موصولًا عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا الحديث ساقه المؤلف ليبين فيه ما يتعلق بالتهمة ليستشهد به.
لكن لماذا لمِ يأت المؤلف رحمه الله بذكر أبي هريرة، وهل يعدُّ ذلك خطأً؟ لا يُعد خطأ من المؤلف رحمه الله لأن المؤلف لم يأت بلفظ أبي داود
(2)
أو النسائي
(3)
أو الترمذي
(4)
أو البيهقي
(5)
؛ لأن تلك روايات
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(10/ 216) عن عراك بن مالك، قال: أقبل رجلان من بني غفار حتى نزلا منزلًا بضجنان من مياه المدينة وعندها ناس من غطفان عندهم ظهر لهم، فأصبح الغطفانيون قد أضلُّوا قرينتين من إبلهم، فاتهموا الغفاريين، فأَقْبَلوا بهما إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذكروا له أمرهم، فحبس أحد الغفاريين، وقال للآخر:"اذهب فَالْتَمس "، فلم يكن إلا يسيرًا حتى جاء بهما، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأحد الغفاريين قال حسبت أنَّه قال المحبوس عنده:"استغفر لي "، قال: غفر الله لك يا رسول الله، فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "ولك، وقتلك في سبيله "، قال: فقتل يوم اليمامة .. والحديث ضعيف. يُنظر: "مختصر تلخيص الذهبي"(5/ 2542).
(2)
أخرجه أبو داود (3630)، والحديث حسَّنه الأَلْبَانيُّ في " إرواء الغليل "(2397).
(3)
أخرجه النسائي (4875)(4876).
(4)
أخرجه الترمذي (1417)، وقال: حديث حسن.
(5)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(11622).
مختصرة، بعضهم ذكرها في الحبس، وبعضهم في السرقه، كما عند النسائي في "سننه "، مما يدل على أن العلماء أشَاروا إلى ما يتعلق بالتهمة، لكن المؤلف ساقه كما أورده أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الأموال" عن عراك مرسلًا.
قَوْله: (خَرَّجَ هَذَا الحَدِيثَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِهِ في الفِقْهِ
(1)
، قَالَ: وَحَمَلَهُ بَعْضُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَبْسًا قَالَ: وَلَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ).
قصد به من باب الحيطة، وأنتم تعلمون ما يعرف بالمصالح المرسلة، وأيضًا دفع الشبهات، إذًا هذه من الأمور التي ينبغي أن يُحْتاط فيها.
قوله: (لأنَّه لَا يَجِبُ الحَبْسُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدِي مِنْ بَابِ الكَفَالَةِ بِالحَقِّ الَّذِي لَمْ يَجِبْ إِذْ كَانَتْ هُنَالِكَ شُبْهَةٌ لِمَكَانِ صُحْبَتِهِمَا لَهُمْ).
قوله: (فأَمَّا أَصْنَافُ الْمَضْمُونِينَ: فَلَيْسَ يَلْحَقُ مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ مَشْهُورٌ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي ضَمَانِ الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً بِدَيْنِهِ).
وهذا معروفٌ ومشهور، ويعني كونه إذا مات ميتٌ وعليه دَيْن.
وهذا هو منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، حيث كان إذا مات ميتٌ يسأل:"هل عليه دين؟ " فإن قالوا: لا. صلَّى عليه، وإن قالوا: عليه دين. قال: "هل ترك شيئًا؟ " فإن قالوا: نعم. صلى عليه، وإن لم يكن، قال:"صلوا على صاحبكم "، فلما فتح الله سبحانه وتعالى عليه البلاد والفتوح قال:"أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وترك مالًا فهو لورثته، ومن مات وترك دينًا فأنا أولى به "
(2)
.
(1)
لم أقف عليه في كتاب الفقه المشار إليه، وقد تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (2298)، ومسلم (1619) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه:=
إذًا، الرسول صلى الله عليه وسلم و كان يحتاط.
وليس معنى هذا أن الذي عليه دين لا يصلى عليه، لكن هذا يُعْلِمُنا خطورة الدين الذي كثيرًا ما تكلمنا عنه، فالدَّين أمره ليس بسهل.
إذًا، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتوقف حتى يقال له: لا دين عليه.
وتدلُّ على ذلك أيضًا قصة أبي قتادة، فإنه قال:" عليَّ يا رسول الله "
(1)
، ولذلك طلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم الوفاءُ فوفي، فقال:" الآن برد جلده "
(2)
، وفي بعض الروايات:"برد عليه قبره "
(3)
.
فالأمر شديد، فقد سُدد عنه الدَّين وبرد عليه جلده أو قبره، وهؤلاء مَن كانوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم! فدل هذا على خطورة الدَّين، وعدم التساهل فيه، وبخاصة الذين يأخذون حقوق الناس وبإمكانهم أن يردوها، أما من يكون صاحب عثرة، فالله تعالى يقول:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
قوله: (فَأَجَازَهُ مَالِكٌ
(4)
وَالشَّافِعِيُّ
(5)
).
= أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى، عليه الدين، فيسأل:"هل ترك لدينه فضلًا؟ "، فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين:"صلوا على صاحبكم "، فلما فتح الله عليه الفتوح، قال:"أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينًا، فعلي قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته ".
(1)
أخرجه البخاري (2289).
(2)
أخرجه أحمد (14536)، وغيره، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(2753).
(3)
أخرجه الدارقطني (3/ 79)، وقال ابن الملقن في "البدر المنير" (6/ 715):"ولفظ الدارقطني: "قبره" بدل "جلده"".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 331) حيث قال: "وصح الضمان (عن الميت المفلس) بسكون الفاء وكسر اللام، أي: المعسر بمعنى الحمل عنه؛ لأنه معروف من الضامن، وخص المفلس بذلك ".
(5)
يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (4/ 433) حيث قال: "قوله: حتى يقضى عنه؛ أي: أو يضمن عنه، أي: والصورة أنه لم يخلف وفاء على ما مر (قوله: على =
وأحمد
(1)
.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: لَا يَجُوزُ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ قَبْلُ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْلُومٍ قَطْعًا، وَلَيْسَ كذَلِكَ الْمُفْلِسُ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ رَأَى أَنَّ الضَّمَانَ يَلْزَمُهُ بِمَا رُوِيَ:"أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ حَتَّى يُضْمَنَ عَنْهُ"
(3)
).
يعني: كان في أول ظهور الإسلام، وأشار المؤلف دون أن يذكر السبب، وهذا الحديث متفق عليه.
قوله: (يُضْمَنَ عَنْهُ)، أيْ: يقوم إنسان فيقول: "هو علَيَّ "، أيْ: أضمن سداده، أو أن يكون عنده مما تركه ما يكفي لسداده.
= تأكد ندب ذلك في حق غيره) لعله من مال نفسه، وإلا فالظاهر أنه لا يجوز له ذلك من مال بيت المال فليراجع. (قوله: أمن من غائلته) الظاهر أن الضمير فيه للضمان: أي: بأن يجد مرجعًا إذا غرم نظير ما مر في الخبر أول الحوالة".
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 368) حيث قال: "ويصح ضمان دين الميت ولو غير مفلس؛ لأن أبا قتادة ضمن دين الميت (ولا تبرأ ذمته) أي: الميت من الدين (قبل القضاء)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ونفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه"".
(2)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(5/ 312) حيث قال: "ولا تصح (بدين) ساقط ولو من وارث (عن ميت مفلس) إلا إذا كان به كفيل أو رهن معراج، أو ظهر له مال فتصح بقدره ".
(3)
أخرجه البخاري (2289) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أتي بجنازة، فقالوا: صل عليها. فقال: "هل عليه دين؟ "، قالوا: لا. قال: "فهل ترك شيئًا؟ "، قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله، صل عليها. قال:"هل عليه دين؟ " قيل: نعم، قال:"فهل ترك شيئا؟ "، قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صل عليها، قال:"هل ترك شيئا؟ "، قالوا: لا، قال:"فهل عليه دين؟ "، قالوا: ثلاثة دنانير، قال:"صلوا على صاحبكم "، قال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله وعلي دينه. فصلى عليه.
قوله: (وَالْجُمْهُورُ
(1)
يَصِحُّ عِنْدَهُمْ كَفَالَةُ الْمَحْبُوسِ وَالْغَائِبِ، وَلَا يَصحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
(2)
).
أيضًا الجمهور والأئمة الثلاثة ملتقون هنا ومتفقون؛ يرَوْن كفالة المحبوس، وأبو حنيفة لا يرى ذلك.
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 344) حيث قال: "وإن بسجن بأن يقول له: صاحبك في السجن فعليك به (أو بتسليمه نفسه) للمضمون له (إن أمره) الضامن (به)، أي: بالتسليم؛ لأنه يصير بأمره كوكيله فإن لم يأمره به أو سلمه أجنبي بغير أمره لم يبرأ (إن حل الحق) على المضمون شرط في براءة الضامن بالتسليم المذكور".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (4/ 450) حيث قال: "ولا يخفى أنه أشار به إلى أن صحة كفالة الغائب تابعة للزوم إحضاره، فالمحل الذي يلزمه إحضاره منه لو طرأت غيبته هو الذي تصح كفالته فيه لو كان غائبًا ابتداء".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 131) حيث قال: "وتصح كفالة (ببدن من عنده عين مضمونة) كعارية وغصب (أو عليه دين) كالضمان، فتصح ببدن كل من يلزمه الحضور لمجلس الحكم بدين لازم ولو مالًا فتصح بصبي ومجنون؛ لأنه قد يجب إحضارهما مجلس الحكم للشهادة عليهما بالإتلاف وببدن محبوس غائب ".
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (7/ 170) حيث قال: "ولو سلمه في السجن وقد حبسه غير الطالب لا يبرأ؛ لأنه لا يقدر على المحاكمة فيه" وفي "المنتقى": رجل كفل بنفس محبوس ينبغي للقاضي أن يخرجه حتى يدفعه الكفيل إلى المكفول له ثم يعيده إلى السجن، ومفهوم قوله وقد حبسه غير الطالب يدل عليه. وفي "العيون ": لو ضمن بنفس رجل وحبس المطلوب في السجن فأتى به الذي ضمنه إلى مجلس القاضي فدفعه إليه قال محمد: لا يبرأ؛ لأنه في السجن؛ ولو ضمنه وهو في السجن يبرأ، ولو خلي عن الحبس ثم حبس ثانيًا فدفعه إليه وهو في الحبس، إن كان الحبس الثاني من أمور التجارة ونحوها صح الدفع، وإن كان في أمر من أمور السلطان لا يبرأ. ولو حبس الطالب المطلوب ثم أخذ الطالب الكفيل فقال: ادفعه إلي. فدفعه وهو في الحبس قال محمد: برئ بتسليمه إليه وهو في حبسه. ومفهوم هذا القيد في قول المصنف وقد حبسه غير الطالب ".
قوله: (وَأَمَّا شُرُوطُ الْكَفَالَةِ).
هل هناك شروط للكفالة ستأتي معنا؟
قوله: (فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ
(1)
وَالشَّافِعِيَّ
(2)
).
وأحمد
(3)
أيضًا.
قوله: (يَشْتَرِطَانِ فِي وُجُوبِ رُجُوعِ الضَّامِنِ عَلَى الْمَضْمُونِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ بِإِذْنِهِ).
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (7/ 201) حيث قال: " (قوله: ولا تصح الكفالة إلا بقبول المكفول له في المجلس عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف: يجوز إذا بلغه الخبر فأجاز ولم يشترط في بعض النسخ)، أي: نسخ كفالة الأصل عن أبي يوسف (الإجازة) بل إنه نافذ إن كان المكفول له غائبًا وهو الأظهر عنه ".
(2)
ينظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (4/ 463) حيث قال: "ومن أدى دين غيره وليس أبًا ولا جدًّا (بلا ضمان ولا إذن) (فلا رجوع) له لتبرعه بخلاف ما لو أوجر مضطرًّا؛ لأنه يلزمه إطعامه مع ترغيب الناس في ذلك، أما الأب والجد إذا أدى دين محجوره أو ضمنه بنية الرجوع فإنه يرجع كما قاله القفال وغيره (وإن) (أذن) له في الأداء (بشرط الرجوع) (رجع) عليه وفاء بالشرط (وكذا إن أذن) له إذنًا (مطلقًا) عن شرط الرجوع فأدى لا بقصد التبرع فيما يظهر (في الأصح) كما لو قال: اعلف دابتي، وإن لم يشترط الرجوع، ويفارق ما لو قال: أطعمني رغيفًا بجريان المسامحة في مثله، ومن ثم لا أجرة في نحو اغسل ثوبي؛ لأن المسامحة في المنافع أكثر منها في الأعيان ".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 125) حيث قال: "و (لا) يعتبر رضا (من ضمن) بالبناء للمفعول، أي: المضمون عنه؛ لأن أبا قتادة ضمن الميت في الدينارين وأقره الشارع رواه البخاري، ولصحة قضاء دينه بغير إذنه، فأولى ضمانه (أو)، أي: ولا يعتبر رضا (من ضمن له)، أي: المضمون له؛ لأنه وثيقة لا يعتبر لها قبض، فلم يعتبر لها رضا كالشهادة (ولا) يعتبر لضامن (أن يعرفهما)، أي: المضمون له والمضمون عنه (ضامن)؛ لأنه لا يعتبر رضاهما فكذا معرفتهما". وانظر: أيضًا: "شرح منتهى الإرادات"(2/ 128).
يعني أن يكون راضيًا بذلك، فلا يصح ضمان إنسان دون أن يرضى، وهو مذهب جمهور العلماء.
قوله: (وَمَالِكٌ
(1)
لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ. وَلَا تَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(2)
كَفَالَةُ الْمَجْهُولِ).
فالشيء المجهول لا تجوز كفالته عند الشافعي وبعض الأئمة، أما جمهور الأئمة الثلاثة (أبو حنيفة
(3)
ومالك
(4)
وأحمد
(5)
)، فهُم يجيزون كفالة المجهول.
قوله: (وَلَا الْحَقُّ الَّذِي لَمْ يجِبْ بَعْدُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَازِمٌ وَجَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ
(6)
، وَأَصْحَابِهِ).
(1)
يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير" للخلوتي (3/ 434) حيث قال: "وجاز ضمان (بغير إذن المضمون): فلا يشترط إذنه. (كأدائه عنه) من إضافة المصدر لمعموله ".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (4/ 442) حيث قال: "وكونه، أي: المضمون (معلومًا) للضامن فقط جنسًا وقدرًا وصفة، وعينًا (في الجديد)؛ لأنه إثبات مال في الذمة لآدمي بعقد فلم يصح مع الجهل كالثمن، والقديم لا يشترط ذلك لتيسر معرفته، ومحل الخلاف في مجهول تمكن الإحاطة به كضمنت مثل ما بعت من زيد فإن قال: ضمنت شيئًا منه. بطل جزمًا".
(3)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين رد المحتار"(5/ 301) حيث قال: "تصح ولو المال (مجهولًا به إذا كان) ذلك المال (دينًا صحيحًا) إلا إذا كان الدين مشتركًا". وانظر: "فتح القدير" لابن الهمام (7/ 181).
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 334) حيث قال: "وإن جهل الحق المضمون حال الضمان فإن الضمان صحيح فهذا مبالغة في صحته ".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 131) حيث قال: "أما عدم صحتها إلى أجل مجهول فلأن المكفول له ليس له وقت يستحق المطالبة فيه، وأما عدم صحتها بشخص مجهول فلأنه غير معلوم في الحال ولا في المآل فلا يمكن تسليمه بخلاف ضمان دين مجهول يؤول إلى العلم ".
(6)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 331) حيث قال: "وصح ضمان الدين (المؤجل حالًا)، أي: على الضامن بأن رضي المدين بإسقاط حقه من الأجل (إن كان) الدين (مما يعجل)، أي: يجوز تعجيله وهو العين مطلقًا
…
".
وأيضًا عند أبي حنيفة
(1)
وأحمد
(2)
.
ونُبين هنا: لماذا اختلف العلماء في هذه المسألة، ولماذا انفرد الإمام الشافعي رحمه الله بقوله:"لا تصح كفالة المجهول؟ ".
أما الشافعيُّ: فقد علَّلَ بأنه مالٌ لازم، ولا يصح أن يكون مجهولًا كالبيع؛ لأنه هنا الْتزَم بمال؛ فَلا يصح أن يكون مجهولًا قياسًا على البيع.
وأمما جمهور العلماء: فاحتجوا بقول الله سبحانه وتعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72].
وجه الدلالة من ذلك: أنَّ حمل البعير مقدر تقديرًا دقيقًا؛ وهذا هو محل الخلاف.
فجمهور العلماء يقولون: حمل البعير غير معلوم القدر تمامًا، ثم إن أحمال الإبل تختلف، فربما يكون هذا البعير حِمْله أكثر، وربما يكون هذا دون ذلك وهذا يكون متوسطًا؛ لذلك فالأمر غير منضبط، وهو مجهول في الحقيقة.
فجوَّزوا أن يكون مجهولًا، ولأنه أيضًا الْتِزام في الذمة، أيْ: إنسانٌ التزم حقًّا في ذمته، وكان من غير عِوَض؛ فجاز أيضًا أن يكون مجهولًا قياسًا على النظر؛ لأن الإنسان عندما يقول:"نَذَرْتُ أن أتصدَّق" لم يحدده، وكذلك أيضًا في الإقرار.
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (7/ 207) حيث قال: "ومن كفل عن رجل بألف عليه بأمره فقضاه الألف قبل أن يعطيه صاحب المال فليس له أن يرجع فيها؛ لأنه تعلق به حق القابض على احتمال قضائه الدين فلا يجوز المطالبة ما بقي هذا الاحتمال، كمن عجل زكاته ودفعها إلى الساعي ".
(2)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 300) حيث قال: "ولا تعتبر معرفة (وجوبه)؛ أي: الحق (إن آل إليها)؛ أي: إلى العلم والوجوب؛ فيصح ضمان ما لم يجب إذا آل إلى الوجوب لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ".
ثم بعد ذلك يذكرون مثالًا يُلزمون به الشافعية، فيقولون: لو أن إنسانًا قال لآخَر: "ألق متاعك في البحر وأضمن لك قيمته"، فقالوا: هذا يجوز بما في ذلك الشافعية، فقد سلَّمُوا بذلك؛ لأنه مجهول والمتاع غير معروف.
قوله: (وَأَمَّا مَا تَجُوزُ فِيهِ الْحَمَالَةُ
(1)
بِالْمَالِ مِمَّا لَا تَجُوزُ).
والحمالة هي الكفالة.
قوله: (فَإِنَّهَا تَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ
(2)
بِكُلِّ مَالٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ إِلَّا الْكِتَابَةَ).
وعند غير مالكٍ
(3)
أيضًا، تجوز الكفالة بكل مالٍ ثابتٍ ومُستَقِرٍّ في
(1)
قال ابن الأثير في "النهاية"(1/ 442): "الحمالة بالفتح: ما يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة، مثل أن يقع حرب بين فريقين تسفك فيها الدماء، فيدخل بينهم رجل يتحمل ديات القتلى ليصلح ذات البين. والتحمل: أن يحملها عنهم على نفسه ". وانظر: "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري (ص 207).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 246) حيث قال: "الضمان إنما يكون في دين ثابت في الذمة لا يسقط بالعجز، والكتابة ليست كذلك؛ لأنها تسقط بالعجز".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (7/ 238) حيث قال: "الحوالة تناسب الكفالة؛ لأن كلًّا منهما عقد التزام ما على الأصيل للتوثق، إلا أن الحوالة تتضمن براءة الأصيل براءة مقيدة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 230) حيث قال: "أن تكون الحوالة (بدين) مثلي أو متقوم (لازم) كالثمن في زمن الخيار (يجوز الاعتياض عنه) وهو ما عبر عنه أصله بكونه مستقرًّا (أو) بدين (أصله اللزوم) كالثمن في زمن الخيار".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 135) حيث ذكر من شروط الحوالة: " (استقراره)، أي: المحال عليه نصًّا كبدل قرض وثمن مبيع بعد لزوم بيع؛ لأن غير المستقر عرضة للسقوط ومقتضى الحوالة إلزام المحال عليه بالدين مطلقًا. (فلا تصح على مال سلم)، أي: مسلم فيه (أو) على (رأسه)، أي: رأس مال سلم (بعد فسخ) سلم؛ لأنه لا مقاصة فيه لما تقدم في بابه (أو) على =
ذمة إنسان آخر، لكن لو كان حقًّا غير ثابت، فلا يصح فيه الكفالة في أمر غير ثابت.
قوله: (وَمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّأْخِيرُ).
وهذا عليه شبه اتفاق بين العلماء.
قوله: (وَمَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا فَشَيْئًا).
يعني إنسان له حق على آخر ويدفعه نجومًا -أي: تقسيطًا-؛ فلآخر أن يضمنه.
قوله: (مِثْلَ النَّفَقَاتِ عَلَى الْأَزْوَاجِ، وَمَا شَاكَلَهَا).
الزوج في اللغة
(1)
: تقال على الرجل والمرأة.
أما زوجة، اصطلح عليها أهل الفرائض؛ لكي يفرِّقُوا بين الذكر والأنثى، وإلا فالأصل هو:"زوج" كما جاءت في كتاب الله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)} [الذاريات: 49]، وفي قوله تعالى:{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90].
= (صداق قبل دخول أو مال كتابة) لعدم استقرارهما وتصح على صداق بعد دخول ونحوه (وتصح إن أحال) مكاتب (سيده) بمال كتابة (أو) أحال (زوج امرأته) بصداقها ولو قبل دخول على مستقر؛ لأنه لا يشترط استقرار محال به ".
(1)
قال الهروي في تهذيب اللغة (11/ 106): "قال الزجاج في قول الله: {بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا} معناه: ونظراءهم ضرباءهم. تقول: عندي من هذا أزواج، أي: أمثال، وكذلك زوجان من الخفاف، أي: كل واحد منهما نظير صاحبه، وكذلك الزوج: المرأة، والزوج: المرء قد تناسبا بعقد النكاح "، وانظر:"مجمل اللغة" لابن فارس (ص 444).
[كِتَابُ الْحَوَالَةِ]
(1)
قوله: (وَالْحَوَالَةُ مُعَامَلَةٌ صَحِيحَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ).
الحوالة في اللغة: مأخوذة مِن التحويل؛ لأن ما في ذِمَّة المحيل ينتقل إلى ذِمَّة المحال، فهي تحوُّل من ذمة إلى ذمة.
وفي المصطلح الفقهي: نَقْل دَيْن مِن ذمة إلى ذمة.
حكمها: مشروعة في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالإجماع
(2)
.
دليلها من السُّنة: جاء في الحديث المتفق عليه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع"
(3)
.
أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على مشروعية الحوالة من حيث الجملة؛ لأن هناك مسائل داخلها محل خلاف بين الفقهاء، لكن هذه الحوالة التي أشار إليها المؤلف تُعد دَيْنًا عند إنسان عليه حق لشخص، وله حق على آخر، ويريد أن ينقل هذا الذي له حق إلى الشخص الذي عليه
(1)
الحوالة في اللغة: من حال الشيء حولًا وحؤولًا: تحول. وتحول من مكانه انتقل عنه وحولته تحويلًا نقلته من موضع إلى موضع، والحوالة بالفتح مأخوذة من هذا فأحلته بدينه نقلته إلى ذمة غير ذمتك وأحلت الشيء إحالة نقلته أيضًا. "المصباح المنير" للفيومي (1/ 157) و"جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 570).
(2)
قال البهوتي: "وهي ثابتة بالإجماع، ولا عبرة بمخالفة الأصم ". انظر: "مطالب أولي النهى"(3/ 324).
(3)
أخرجه البخاري (2287)، ومسلم (1564).
حق، وهذا يشبه بيع الدَّين بالدَّين، وقد جاء النهي عن بيع الكال بالكال
(1)
(2)
، أو هو عقد استيفاء أو هو عقد إرفاق مستقل.
فمن العلماء من قال: إنه بيع دَين بدَيْن
(3)
ولكنه خُص بالدليل، أي: إنه خصص هذا الحديث مِن النهي.
ومِن العلماء من قال: إنه عقد إرفاق مستقل
(4)
.
ومنهم من قال
(5)
: إنه عقد استفادة؛ لأنك تستفيد من الحق الذي عند غيرك، فتحول من له حق عليك إليه، لكن عندما ننظر نظرة عامة لا شك أن نجد عقد الحوالة يشتمل على الإرفاق؛ لأن فيه إرفاقًا بالناس، وتيسيرًا عليهم.
مثال: إذا كان لأحد عليك حق، ولك حق على آخر؛ فلك أن تحيل هذا الذي لك حق عليه على ذاك الذي له حق عليك، وهذا نوع من الإرفاق والتيسير.
(1)
أخرجه الحاكم (2/ 65) وغيره، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1382).
(2)
قال ابن الأثير: ""الكالئ بالكالئ"، أي: النسيئة بالنسيئة. وذلك أن يشتري الرجل شيئًا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به، فيقول: بعنيه إلى أجل آخر، بزيادة شيء، فيبيعه منه ولا يجري بينهما تقابض. يقال: كلأ الدين كلوءًا فهو كالئ، إذا تأخر". انظر: "النهاية"(4/ 194)، و"غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 20).
(3)
كالمالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (7/ 21) حيث قال: "لم يختلف في جواز الحوالة وهي في الحقيقة بيع دين بدين فاستثنيت منه؛ لأنها معروف كاستثناء العرية من بيع الرطب بالتمر".
والشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 230): "وهي بيع دين بدين جوز للحاجة". وانظر: "روضة الطالبين" للنووي (4/ 228).
(4)
كالحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 134) حيث قال: "وهي (عقد إرفاق) منفرد بنفسه ليس محمولًا على غيره، ولا خيار فيها وليست بيعًا وإلا لدخلها الخيار وجازت بلفظه، وبين جنسين كباقي البيوع ".
(5)
كالحنفية، يُنظر:"درر الحكام شرح مجلة الأحكام"(2/ 4): "وحيث إن صور رجوع المحال له على المحيل يثبت بعض الأحيان، فالمحيل يكون بهذه التأدية أوفى الدين كاملًا وأبدًا ويكون المحيل قد استفاد بالتأدية المذكورة".
شرح الدليل: "مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع "
(1)
.
المطل في اللغة
(2)
: له عدة معانٍ، منها المَد، وهو المراد، كأنه يمدد لصاحب الحق، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قيده بالغَنِي، فليس كل مطل يسمى ظلمًا.
والإنسان الذي ليس عنده شيء لا يسمى مماطلًا، ولكن الإنسان الغني هو الذي يسمى مماطلًا.
وقيل: المماطلة من المدافعة
(3)
.
قوله: "الغَنِي"
(4)
: ليس المقصود منه صاحب المال، لكنه الذي يحال عليه وعنده الحق الذي يستطيع به أن يسدده للمحال الذي يحيل عليه.
ففي هذا الحديث التشديد والتحذير من الرَّسول صلى الله عليه وسلم على كل من عليه حق ألا يماطل فيه، وهذا ليس في الدين وحده، بل في الرجل مع نفقة زوجته، أو ملبس لها، أو أي شيء يمكن أن يماطل فيه، كمماطلة المملوك كذلك.
مسألة: لا يجوز للغني أن يماطل؛ فيؤخر الحق الذي عليه والعكس، ولا يكون مبررًا لمن عليه حق إذا كان المحال عليه غنيًّا يماطل به.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
قال الجوهري: "مَطَلْتُ الحديدَة أمْطلُها مَطْلًا إذا ضربتها ومَددتها لِتَطوَل. وكلُّ ممدودٍ "مَمْطولٌ، ومنه اشتقاق المَطْلِ بالدَيْنِ، وهو اللَّيَّانُ به. يقال: مَطَلَهُ وماطَلَهُ بحقِّهِ. والمُماطَلَةُ في المكافحة". انظر: "الصحاح" (5/ 1819).
(3)
قال المناوي: "المطل: التسويف بوعد الوفاء مرة بعد أخرى، وقال أبو البقاء: التطويل والمدافعة مع القدرة على التعجيل. وقيل: المدافعة بالحق مع توجهه ". انظر: "التوقيف على مهمات التعاريف"(ص 308).
(4)
قال الأزهري: "قال الليث: الغنى في المال مقصور، واستغنى الرجل: أصاب غنى، والغنية: اسم من الاستغناء عن الشيء" انظر: "تهذيب اللغة" و"الفروق اللغوية" للعسكري (ص 175).
فليس من الحق أن يقال: هذا إنسان مليء ليس له حاجة؛ لأن هذا ما أعطاه سبحانه وتعالى، وهو لا يطلب منك إلا حقًّا؛ إذًا، فعليك أن تسدده.
قوله: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى غَنِيٍّ فَلْيَسْتَحِلْ ". وَالنَّظَرُ فِي شُرُوطِهَا وَفِي حُكْمِهَا).
أيْ: النظر في شروط الحوالة؛ لأنهم اشترطوا فيها تماثُل الحَقَّين في الجنس، والصِّفة، والحلول، والأجَل، وأن يكون أيضًا الدَّين مستقرًّا، وأن يكون بمال معلوم، وأن يكون برِضَا المحيل.
ورضا المحيل مجمع عليه من العلماء، لكن الخلاف في المحال والمحال عليه.
قوله: (فَمِنَ الشُّرُوطِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي اعْتِبَارِ رِضَا الْمُحَالِ، وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ).
لم يتكلم عن المحيل؛ لأنه محل إجماع، وكان من المفترض أن يشير إليه بأنه مجمع عليه؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يجبر على أن يحيل؛ لأنه حق له.
يبقى الخلاف في رضا المحال والمحال عليه هل هذا شرط أم لا؟
بعض العلماء يشترط هذا، أما أبو حنيفة
(1)
فيقول بأنه لا بد من رضا المحال والمحال عليه؛ لأن هذا سينتقل من شخص إلى آخر، وأنَّ حقه
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (7/ 239) حيث قال: " (وتصح الحوالة برضا المحيل والمحتال والمحتال عليه. أما المحتال فلأن الدين حقه وهو)، أي: الدين (الذي ينتقل بها)، أي: بالحوالة والذمم متفاوتة في حسن القضاء والمطل (فلا بد من رضاه) وإلا لزم الضرر بإلزامه إتباع من لا يوفيه (وأما المحتال عليه فلأنه) الذي (يلزمه الدين ولا لزوم إلا بالتزامه) ولو كان مديونًا للمحيل؛ لأن الناس يتفاوتون في الاقتضاء من بين سهل ميسر وصعب معسر".
في ذمة ذلك الإنسان؛ فلا يلزم بنقل مَا لهُ من حقوق إلى ذمة شخصٍ آخر؛ لأن حقه قد ثبت في ذمة ذلك الإنسان، وهذا يرجع إلى رضاه.
ومن العلماء من قال بعكس ذلك، وهم الحنابلة
(1)
فقالوا بعدم اعتبار رضا المحال ولا المحال عليه، بل الأمر هنا:"وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع"
(2)
، إذن المحال هنا ملزم، ومثله المحال عليه؛ لأنه كيف يلزم الَّا يكون الطرف الآخر ملزمًا.
ومنهم من قال: إن رضا المحتال -أي: المحال- مطلوب، وأما المحال عليه فلا يشترط، وهم المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
.
ومنهم من عكس ذلك وهم أهل الظاهر
(5)
، وكل خلاف العلماء يدور حول هذا الحديث.
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 135) حيث قال: "وشرط الحوالة خمسة شروط أحدها (رضا محيل)؛ لأن الحق عليه فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين على المحال عليه ".
(2)
سبق تخريجه.
(3)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 424) حيث قال: "وصحتها، أي: شرط صحتها. (رضا الأولين): المحيل والمحال (فقط) دون المحال عليه. وإنما يشترط حضوره وإقراره على الأرجح ".
(4)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 230) حيث قال: "وشروطها ثلاثة؛ الأول: رضا المحيل والمحتال؛ لأن للمحيل إيفاء الحق من حيث شاء فلا يلزم بجهة، وحق المحتال في ذمة المحيل فلا ينتقل إلا برضاه كما في بيع الأعيان ومعرفة رضاهما بالصيغة".
(5)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 394) حيث قال: "وقال أبو حنيفة: ومالك: لا يجبر المحال على قبول الحوالة
…
قال أبو محمد: هذه معارضة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا ما فيه، فكيف والذي اعترضوا به فاسد؟ لأنه مطل من غني، أو حوالة على غير مليء، ومطل الغني ظلم، والحوالة على غير مليء لم يؤمر بأن يقبلها، وإنما الحوالة على من يعجل الإنصاف بفعله لا بقوله، وإلا فليست حوالة بنص الحديث، وإذا ثبت حق المحيل على المحال عليه بإقراره أو ببينة عدل، وإن كان جاحدًا فهي حوالة صحيحة. وقال مالك: لا تجوز إلا بإقراره بالحق فقط -
…
قلنا: وقد يرجع عن إقراره بذلك الحق، ويقيم بينة بأنه قد كان أداه، فيبطل الحق - ولا يجوز تخصيص ما لم يخصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآراء الفاسدة".
قوله: (فَمِنَ النَّاسِ مَنِ اعْتَبَرَ رِضَا الْمُحَالِ وَلَمْ يَعْتَبِر الْمُحَال عَلَيْهِ، وَهُوَ مَالِكٌ).
(والشافعي).
قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اعْتَبَرَ رِضَاهُمَا مَعًا).
وهو (أبو حنيفة).
قوله: (ومِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الْمُحَالِ، وَاعْتَبَرَ رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَقِيضُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ
(1)
).
(وأهل الظاهر).
قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّهَا مُعَامَلَةٌ اعْتَبَرَ رِضَا الصِّنْفَيْنِ).
من رأى أنها معاملة من المعاملات، كعقد البيع؛ فإنه لا بد فيها من رضا الطرفين.
قوله: (وَمَنْ أَنْزَلَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُحَالِ مَنْزِلَتَهُ مِنَ الْمُحِيلِ لَمْ يَعْتَبِرْ رِضَاهُ مَعَهُ كَمَا لَا يَعْتَبِر مَعَ الْمُحِيلِ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ حَقَّهُ وَلَمْ يُحِلْ عَلَيْهِ أَحَدًا. وَأَمَّا دَاوُدُ: فَحُجَّتُهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "إِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ"
(2)
. وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ).
فداود الظاهري أخذ بظاهر الحديث، حيث لا يشترط رضا المحال.
(1)
يُنظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (6/ 286) حيث قال: "ولا تصح الحوالة إلا برضا المحتال، وبه قال كافة أهل العلم. وقال داود، وأهل الظاهر: لا يعتبر رضاه، إذا كان المحال عليه مليئًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل ". وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب ".
(2)
أخرجه الترمذي (1309) وغيره، وصححه الألباني "صحيح الجامع"(5876).
إذًا، "إذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع"
(1)
، أيْ: فليقبل الحوالة، فَهُم وقفوا عند ما ورد في النص.
أما الحنابلة قالوا: لا إذا لم يشترط رضا المحال، فكذلك المحال عليه؛ لأن هذا لا يتم إلا بهذا.
إذًا، الحنابلة وأهل الظاهر قالوا بالوجوب، والجمهور، والمالكية، والشافعية قالوا بالاستحباب؛ لقوله:"فليتبع"
(2)
فالأمر هنا للاستحباب.
قوله: (وَبَقِيَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ على الْأَصْلِ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ اعْتِبَارِ رِضَاهُ).
المحال عليه، لا يشترط ذلك أهل الظاهر، لكن الحنابلة قالوا هذا يلزم منه أيضًا؛ لأنه إذا ألزم المحال فكذلك المحال عليه، وإلا كيف يتم ذلك؟
قوله: (وَمِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي اتُّفِقَ عَلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ: كَوْنُ مَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُجَانِسًا لِمَا عَلَى الْمُحِيلِ قَدْرًا وَوَصْفًا).
شروط اتُّفق عليها، لكن عند التفصيل نجد خلافًا بين العلماء، لا بد أيضًا من اتفاق الحقَّين في الجنس والوصف، وأن يكون الدَّين بمال معلوم، ودَينا مستقِرًّا، ورضا المحيل، وهذا محل إجماع.
قوله: (إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهَا فِي الذَّهَبِ وَالدَّرَاهِمِ فَقَطْ، وَمَنَعَهَا فِي الطَّعَامِ).
من العلماء من قصَرَ الحوالة على النقدين، لكنهم لم يجوِّزوا الطعام فيه.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
قوله: (وَالَّذِينَ مَنَعُوهَا فِي ذَلِكَ رَأَوْا أَنَّهَا مِنْ بَابِ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفي، لِأَنَّهُ بَاعَ الطَّعَامَ الَّذِي كانَ لَهُ عَلَى غَرِيمِهِ بِالطَّعَامِ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ).
ولكن الذين أجازوا ذلك قالوا: إن هذا عقد مستثنًى، ظاهره أنه بيع دَيْن بدِيْن، فجاءت السنة فخصصته؛ فأصبحت الحوالة مخصصة من المنع على القول بيع دين بدين، أو هو عقد إرفاق، والإرفاق يقوم على التيسير.
قوله: (وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ غَرِيمِهِ؛ وَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ
(1)
إِذَا كَانَ الطَّعَامَانِ كلَاهُمَا مِنْ قَرْضٍ إِذَا كَانَ دَيْنُ الْمُحَالِ حَالًّا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ سَلَمٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنَانِ حَالَّيْنِ؛ وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ
(2)
يَجُوزُ ذَلِكَ إِذَا كانَ الدَّيْنُ الْمُحَالُ بِهِ حَالًّا؛ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، لِأَنَّهُ كَالْبَيْعِ فِي ضَمَانِ
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 327، 328) حيث قال: " (وأن لا يكون)، أي: الدينان المحال به وعليه (طعامًا من بيع)، أي: سلم لئلا يدخله بيع الطعام قبل قبضه وسواء اتفقت رؤوس الأموال أو اختلفت وشمل كلامه ما إذا كان أحدهما من بيع والآخر من قرض فتجوز إذا حل المحال به فقط أخذًا مما قدمه، وهو قول جميع الأصحاب إلا ابن القاسم، فاشترط حلول المحال عليه أيضًا ابن عرفة الصقلي، وقولهم أصوب؛ فلذا مشى عليه المصنف هنا، وقال بعضهم: كلا القولين ضعيف، وأن المذهب قول ابن رشد بالمنع مطلقًا، وهو الذي قدمه المصنف في البيع حيث قال: وجاز البيع قبل القبض إلا في مطلق طعام المعاوضة".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 328) حيث قال: "إلا ابن القاسم، فاشترط حلول المحال عليه أيضا ابن عرفة الصقلي، وقولهم أصوب فلذا مشى عليه المصنف هنا".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 229) حيث قال: "ثم وصف الدين ولم يبال بالفاصل؛ لأنه غير أجنبي بقوله: (المثلي) كالنقد والحبوب وقيل: لا تصح إلا بالأثمان خاصة (وكذا المتقوم) بكسر الواو (في الأصح) لثبوته في الذمة ولزومه".
الْمُسْتَقْرِضِ. وَإِنَّمَا رَخَّصَ مَالِكٌ فِي الْقَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ الْقَرْضِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفى. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: فَأَجَازَ الْحَوَالَةَ بِالطَّعَامِ، وَشَبَّهَهَا بِالدَّرَاهِمِ، وَجَعَلَهَا خَارِجَةً عَنِ الْأُصُولِ
(2)
كَخُرُوجِ الْحَوَالَةِ بِالدَّرَاهِمِ).
الأصول هي التي انتهت إلى وجود الربا فيها، فقال إن الحديث:"إذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع"
(3)
، فقيل: إنه ورد في النقدين، ومعروف أنهم الأصل، فلا يجوز فيهم الربا أيضًا، ونقيس عليهم الطعام.
قوله: (وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا شَذَّ عَنِ الْأُصُولِ هَلْ يُقَاسُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟).
الذي ورد فيها النص هو ما يتعلق بالنقدين مما يتعلق بالحوالة، وتلحق الأطعمة بها على قول أبي حنيفة بإلحاق الأطعمة بها؛ لأنها كانت معها في الربا، وهى حوالة.
قوله: (وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ فِي أُصُولِ الفِقْهِ، وَلِلْحَوَالَةِ عِنْدَ مَالِكٍ
(4)
ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ دَيْنُ الْمُحَالِ حَالًّا).
(1)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(5/ 342 - 343) حيث قال: "كل دين جازت به الكفالة جازت به الحوالة، وفي الهندية: ما لا تجوز به الكفالة لا تجوز به الحوالة".
(2)
وهي الأصناف الستة التي يجري فيها الربا وهي: "الذَّهَب والفِضَّة والبُرّ والشَّعير والتَّمر والمِلح ".
(3)
سبق تخريجه.
(4)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 424) حيث قال: "وصحتها: أي شرط صحتها. (رضا الأولين): المحيل والمحال (فقط) دون المحال عليه. وإنما يشترط حضوره وإقراره على الأرجح. (وثبوت دين) للمحيل على المحال عليه؛ وإلا كانت حمالة إن رضي المحال عليه لا حوالة وإن وقعت بلفظ الحوالة
…
وشرط صحتها: (حلول) الدين (المحال به فقط) لا حلول الدين المحال عليه. (وتساوي الدينين): المحال به وعليه (قدرًا وصفة): فلا تصح حوالة بعشرة على أكثر منها ولا أقل .... فليس المراد بالتساوي أن يكون ما على المحيل مثل ما على المحال عليه قدرًا وصفة
…
(وأن لا يكونا): أي الدينان (طعامين من بيع): لئلا يلزم بيع الطعام قبل قبضه، فإن =
وهذا الشرط موضع اتفاق بين العلماء، أن يكون دين المحال حالًّا هنا وهناك أيضًا، لا تحل على إنسان الدين، فلا تزال عليه مدة باقية حتى يستحق.
قوله: (لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَالًّا كلانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي يُحِيلُهُ بِهِ مِثْلَ الَّذِي يُحِيلُهُ عَلَيْهِ فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ).
الدَّين الذي يحيل به مثل الدَّين مساوٍ له في القدر، والصفة والجنس، ذهب بذهب، فضة بفضة، صحيحة بصحيحة، ولا بد من التساوي في القدر.
قوله: (لِأَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَا فِي أَحَدِهِمَا كَانَ بَيْعًا وَلَمْ يَكُنْ حَوَالَةً، فَخَرَجَ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ إِلَى بَابِ الْبَيْعِ، وَإِذَا خَرَجَ إلى بَابِ الْبَيْعِ دَخَلَهُ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ الدَّيْنُ طَعَامًا مِنْ يسَلَمٍ أَوْ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَحُلَّ الدَّيْنُ الْمُسْتَحَالُّ بِهِ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ
(1)
).
ذكر المالكية هذه الشروط، لكن عندما نرجع إلى الشافعية
(2)
= كان أحدهما من بيع والآخر من قرض جاز إذا حل المحال به عند الأصحاب، إلا ابن القاسم فاشترط طولهما معًا".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ للدردير وحاشية الدسوقي"(3/م 328) حيث قال: "إلا ابن القاسم فاشترط حلول المحال عليه أيضًا ابن عرفة الصقلي وقولهم أصوب؛ فلذا مشى عليه المصنف هنا".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج"(2/ 193) حيث قال: "يشترط لها لتصح (رضا المحيل والمحتال)
…
والثاني: يشترط رضاه بناءً على أن الحوالة استيفاء
…
ولا تنعقد بلفظ البيع مراعاة للفظ وقيل تنعقد مراعاة للمعنى كالبغ بلفظ السلم
…
(ولا تصح على من دين عليه) بناءً على الأصح من أنها بغ إذ ليس للمحيل على المحال عليه شيء يجعله عوضًا عن حق المحتال
…
(وتصح بالدين اللازم) وهو ما لا خيار فيه، ولا بد أن يجوز الاعتياض عنه كالثمن بعد زمن الخيار وإن لم يستقر كالصداق قبل الدخول والموت والأجرة قبل مضي المدة والثمن قبل قبض المبيع بأن يحيل به المشتري البائع على ثالث.
والثالث: يشترط العلم بما يحال به وعليه قدرًا وصفة".
والحنابلة
(1)
نجد أنهم قالوا: لا بد من اتفاق الحقين في الجنس، والصفة، والحلول، والأجَل؛ على شرط واحد، فجمعوا الشرط الثاني في أربعة أشياء، أن يكون الحق مستقرًّا في الذمة ثابتًا. الشرط الثالث: أن يكون بمال معلوم ولا يكون مجهولًا. الشرط الرابع: رضا المحيل.
قوله: (وَإِذَا كَانَ الطَّعَامَان جَمِيعًا مِنْ سَلَمٍ فَلَا تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ، حَلَّتِ الآجَالُ أَوْ لَمْ تَحِلَّ، أَوْ حَلَّ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَحِلَّ الآخَرُ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفى كَمَا قُلْنَا، لَكِنَّ أَشْهَبَ
(2)
يَقُولُ: إِنِ اسْتَوَتْ رُؤوسُ أَمْوَالِهِمَا جَازَتِ الْحَوَالَةُ وَكَانَتْ تَوْلِيَةً).
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"(2/ 135) حيث قال: " (وشرط) الحوالة خمسة شروط أحدها (رضا محيل)؛ لأن الحق عليه فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين على المحال عليه.
(و) الثاني إمكان (المقاصة) بأن يتفق الحقان جنسًا وصفة وحلولًا وأجلًا وأخذًا، فلا تصح بدنانير على دراهم ولا بصحاح على مكسرة، ولا بحال على مؤجل ونحوه، ولا مع اختلاف أجل؛ لأنها عقد إرفاق كالقرض، فلو جوزت مع الاختلاف لصار المطلوب منها الفضل فتخرج عن موضوعها
…
(و) الثالث (علم المال) المحال به وعليه لاعتبار التسليم، والجهالة تمنع منه.
(و) الرابع (استقراره) أي المحال عليه نصًّا كبدل قرض وثمن مبيع بعد لزوم بيع؛ لأن غير المستقر عرضة للسقوط ومقتضى الحوالة إلزام المحال عليه بالدين مطلقًا".
(2)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (11/ 296) حيث قال: "والحوالة جائزة في جميع الديون إذا تساوت في الوزن والصفة، وحل الدين المحال به؛ لأنه إن لم يحل كان ذمة بذمة، ويدخله ما نهى عنه من الكالئ بالكالئ، إلا أن يكون الدين الذي ينتقل إليه حالًا، ويقبض ذلك مكانه قبل أن يفترقا، مثل الصرف فيجوز ذلك، وسواء كانت الديون من بيع أو قرض أو تعد، إلا أن يكونا جميعًا طعامًا من سلم، فلا تجوز الحوالة بأحدها على الآخر، حلت الآجال أو لم تحل، أو حل أحدهما ولم يحل الآخر؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى، استوت رؤوس أموالهما أو لم تستو، خلافًا لأشهب في قوله: إذا استوت رؤوس أموالهما، جازت الحوالة وكانت تولية، فإن كان أحدهما من قرض والآخر من =
التولية
(1)
: أن يخبر البائعُ المشترِيَ برأس قيمة السلعة، أيْ: يخبره برأس مالها، ويبيع له السلعة بنفس رأس المال دون ربح.
قوله: (وَابْنُ الْقَاسِمِ
(2)
لَا يَقُولُ ذَلِكَ).
كلام المصنف رحمه الله متعلق بالشرط الثالث حيث قال: والشرط الثالث: ألَّا يكون الدين طعامًا من سلم أو أحدهما، ولم يحل الدين المستحال به على مذهب ابن القاسم، وإذا كان الطعامان جميعًا من سلم فلا تجوز الحوالة بأحدهما على الآخر، حلَّت الآجال أو لم تحل، أو حلَّ أحدهما ولم يحلَّ الآخر؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى كما قلنا.
لكن أشهب يقول: إن استوت رؤوس أموالهما جازت الحوالة وكانت تولية، وابن القاسم لا يقول ذلك
…
ومعنى كونها تولية، أي: بيع بمثل الثمن.
وعلة منع ابن القاسم ذلك؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى
(3)
.
= سلم، لم تجز حوالة أحدهما في الآخر، حتى يحلا جميعًا عند ابن القاسم ". وانظر:"الذخيرة" للقرافي (9/ 245).
(1)
قال الهروي: "والتولية في البيع: أن يشتري الرجل سلعة بثمن معلوم ثم يولي رجلًا آخر تلك السلعة بالثمن الذي اشتراها به ". انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي"(ص 146).
(2)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (11/ 296) حيث قال: "فإن كان أحدهما من قرض والآخر من سلم، لم تجز حوالة أحدهما في الآخر، حتى يحلا جميعًا عند ابن القاسم. وأجاز ذلك من سواه من أصحاب مالك، إذا حل المحال به، بمنزلة إذا كانا جميعًا من سلف، وينزل المحال في الدين الذي أحيل به، منزلة من أحاله، ومنزلته في الدين الذي أحيل به، فيما يريد أن يأخذ به منه أو يبيعه به من غيره".
(3)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (2/ 405).
قوله: (كَالْحَالِ إِذَا اخْتَلَفَتْ).
يعني: إذا اختلفت رؤوس أموالهما.
قوله: (وَيَتَنَزَّلُ الْمُحَالُ فِي الدَّيْنِ الَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ مَنْزِلَةَ مَنْ أَحَالَهُ، وَمَنْزِلَتَهُ فِي الدَّيْنِ الَّذِي أَحَالَ بِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ بَدَلَهُ مِنْهُ أَوْ يَبِيعَهُ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ الَّذِي أَحَالَهُ وَمَا يَجُوزُ لِلَّذِي أَحَالَ مَعَ الَّذِي أَحَالَهُ عَلَيْهِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ: إِنِ احْتَالَ بِطَعَامٍ كَانَ لَهُ مِنْ قَرْضٍ فِي طَعَامٍ مِنْ سَلَمٍ، أَوْ بِطَعَامٍ مِنْ سَلَمٍ فِي طَعَامٍ مِنْ قَرْضٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ احْتَالَ بِطَعَامٍ كَانَ مِنْ قَرْضٍ فِي طَعَامٍ مِنْ سَلَمٍ: نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْمُحِيلِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ مَا عَلَى غَرِيمِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ لِكَوْنِهِ طَعَامًا مِنْ بَيْعٍ، وَإِنْ كَانَ احْتَالَ بِطَعَامِ مِنْ سَلَمٍ فِي طَعَامٍ مِنْ قَرْضٍ: نَزَلَ مِنَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مَنْزِلَتَهُ مَعَ مَنْ أَحَاُلهُ -أَعْنِي: أَنَّهُ مَا كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ عَلَى كَرِيمِهِ الْمُحِيلِ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الطَّعَامَ الَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كانَ مِنْ قَرْضٍ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ-).
هذا استثناء، على قول بيع دَين بدين، أما على قول إنه عقد إرفاق مستقل؛ فلا يشمله هذا الكلام.
والكلام من المصنف بيِّنٌ، وخلاصته: أن المحال لا يحل له إلا ما كان يحل لأصله؛ فإنه قائم مقامه، ومثل لذلك بطعام من دين سلم، فلا يجوز بيعه قبل قبضه؛ لأنه لا يجوز لصاحب الدين أن يفعل ذلك؛ فكذلك من أحاله.
قوله: (وَأَدِلَّةُ هَذِهِ الْفُرُوقِ ضَعِيفَةٌ).
مسائل تكون متشابهة في الظاهر، لكنها تختلف في الحُكم.
قوله: (وَأَمَّا أَحْكَامُهَا: فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ ضِدُّ الْحَمَالَةِ)
(1)
.
الحمالة: هي الكفالة؛ لأن الكفيل يتحمل، ويسمى أيضًا غارمًا.
قوله: (فِي أَنَّهُ إِذَا أَفْلَسَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ).
مثل إنسان أحال إنسانًا إلى آخر ثم أفلس المحال عليه، فهل يرجع إلى المحيل أم لا يرجع؟ هذه مسألة جوهرية في الحوال، وتحتاج إلى تفصيل، هل الإفلاس قبل الإحالة أو بعد ذلك، هل عنده علم أم ليس عنده علم؟
قوله: (لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَى الْمُحِيلِ بِشَيْءٍ. قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ
(2)
: إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُحِيلُ غَرَّهُ فَأَحَالَهُ عَلَى عَدِيمٍ).
(1)
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (4/ 428) حيث قال: "فإن (تعذر) أخذ المحتال من المحال عليه (بفلس) طرأ بعد الحوالة (أو جحد وحلف، ونحوها) كموت (لم يرجع على المحيل)؛ إذ هي عقد لازم لا ينفسخ بفسخها فامتنع الرجوع، كما لا رجوع له فيما لو اشترى شيئًا وغبن فيه، أو أخذ عوضًا عن دينه وتلف عنده ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 328) حيث قال: "ويبرأ محيل بمجرد الحوالة، ولو أفلس محال عليه بعدها، (أو مات) خلف تركة أو لا؛ إذ الحوالة بمنزلة الإيفاء، (أو جحد) محال عليه الدين (بعد ثبوته) عليه ببينة، فماتت (أو تصديق محتال) محيلًا، (وإلا) يثبت الدين ببينة أو يصدق المحيل المحتال؛ فلا يقبل قول محيل فيه بمجرده، فلا يبرأ بها، (فيرجع) محتال (على محيل كما) يرجع عليه (لو أحيل بلا رضاه على من ظنه مليئًا، فبان عدمه، أو أحيل برضاه) ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل"(7/ 23) حيث قال: "لا تجوز حوالة إلا على أصل دين وإلا فهي حمالة".
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 427) حيث قال: "إذا علمت صحة الحوالة بشروطها الخمسة المتقدمة: (فيتحول) بمجرد عقدها (حقه)، أي: المحال (على المحال عليه، ولا رجوع) له على المحيل (وإن أعدم) المحال عليه (أو مات أو جحد) الحق الذي عليه بعد الحوالة (إلا أن يعلم بذلك المحيل. فقط) دون المحال فله الرجوع عليه لأنه قد غره ".
جمهور العلماء والفقهاء يرَوْن أنه إذا أحيل إنسان على آخر ثم أفلس المحال عليه فليس له أن يرجع، بعكس الكفالة التي هي الحمَالة؛ فتختلف لأن الشخص صاحب الحق له أن يرجع إلى الكفيل أو على المكفول به، فهنا ليس له ذلك، وهى روايةٌ للإمام أحمد
(1)
، لكن لو تبين أنه غرَّ به أن المحيل غرر به أو أخفي عليه الأمر؛ حينئذٍ على مذهب مالك
(2)
ورواية للإمام أحمد
(3)
له أن يرجع على المحيل، ويطالبه بحقه؛ لأنه غرر به.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
: يَرْجِعُ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَى الْمُحِيلِ إِذَا مَاتَ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، أَوْ جَحَدَ الْحَوَالَةَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ).
(1)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 328) حيث قال: " (ويبرأ محيل بمجرد الحوالة، ولو أفلس محال عليه) بعدها، (أو مات) خلف تركة أو لا؛ إذ الحوالة بمنزلة الإيفاء".
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 427) حيث قال: "إذا علمت صحة الحوالة بشروطها الخمسة المتقدمة: (فيتحول) بمجرد عقدها (حقه)، أي: المحال (على المحال عليه، ولا رجوع) له على المحيل (وإن أعدم) المحال عليه (أو مات أو جحد) الحق الذي عليه بعد الحوالة (إلا أن يعلم بذلك المحيل. فقط) دون المحال فله الرجوع عليه لأنه قد غره ".
(3)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 328) حيث قال: "ويبرأ محيل بمجرد الحوالة، ولو أفلس محال عليه بعدها، (أو مات) خلف تركة أو لا؛ إذ الحوالة بمنزلة الإيفاء، (أو جحد) محال عليه الدين (بعد ثبوته) عليه ببينة، فماتت (أو تصديق محتال) محيلًا، (وإلا) يثبت الدين ببينة أو يصدق المحيل المحتال؛ فلا يقبل قول محيل فيه بمجرده، فلا يبرأ بها، (فيرجع) محتال (على محيل كما) يرجع عليه (لو أحيل بلا رضاه على من ظنه مليئًا، فبان. عدمه، أو أحيل برضاه، واشترط) المحتال (الملاءة)؛ أي: ملاءة المحتال عليه، (فانتفت) الملاءة بأن ظهر غير مليء، ولا يرجع محتال على محيل إذا أحاله على شخص برضاه، فبان غير مليء (بلا شرط) لملاءة". وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 227 - 228).
(4)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي و"حاشية ابن عابدين"(5/ 344) حيث قال: "ولا يرجع المحتال على المحيل إلا بالتوى بالقصر ويمد: هلاك المال لأن براءته مقيدة بسلامة حقه، وقيده في البحر بأن لا يكون المحيل هو المحتال عليه ثانيًا (وهو) بأحد أمرين (أن يجحد) المحال عليه (الحوالة ويحلف ولا بينة له)، أي: لمحتال ومحيل (أو يموت) المحال عليه (مفلسًا) بغير عين ودين وكفيل ".
أبو حنيفة يتوسع إذا وجد الإفلاس أو جحودًا؛ فأصبح الوصول إلى الحق غير ممكن، بل يرجع إلى الذمة الأصلية التي كان حقه ثابتًا فيها، أما الجمهور يقولون: لا؛ فهذه الذمة فرغ حقه منها وانتقل، فأصبحت خالية من حق المحتال، وانتقلت إلى ذمة المحال عليه.
قوله: (وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ
(1)
، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ
(2)
، وَجَمَاعَةٌ
(3)
. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُشَابَهَةُ الْحَوَالَةِ لِلْحَمَالَةِ).
مشابهة الحوالة للحمالة؛ كونها تشبة الكفالة، فله أن يرجع، كما أنه إذا لم يأخذ حقه من المكفول؛ فإن له أن يرجع إلى الكفيل، ويطالبه بحقه، وقد عرفنا الخلاف بين كفالة المال وكفالة النفس.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 331) وفيه: "عن الحكم، عن شريح، في الرجل يحيل الرجل فيتوى قال: "لا يرجع على الأول"".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 330) وفيه: "عَنْ أَبِي إِيَاسٍ، عَنْ عُثْمَانَ، فِي الْحَوَالَةِ: "يَرْجِعُ، لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ تَوًى"".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (10/ 606) قال: "روي هذا القول عن عثمان بن عفان
…
وبه قال
…
والشعبي، والنخعي ".
[كِتَابُ الْوَكَالَةِ
(1)
]
والوكالة من العقود التي أباحها الله تبارك وتعالى تخفيفًا على المكلفين؛
(1)
"الوكالة"، بالفتح، والكسر، يدور معناها حول التفويض؛ فالمُوكِل يُفوض ما بيده إلى الوكيل ليقوم نيابة عنه بشروط يذكرونها، وتعريفاتها في المذاهب الأربعة متقاربة؟ فأما المذهب الحنفي؛ فينظر:"طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية" للنسفي (ص 137 - 138). حيث قال: " [كتاب الوكالة]: (وك ل): الوكالة مصدر الوكيل بكسر الواو، وبالفتح: لغة الوكيل من وكل إليه الأمر بالتخفيف، أي: ترك وسلم تقول في الدعاء: لا تكلني إلى نفسي، وهو من حد ضَرَبَ، ووكله بالتشديد، أي: جعله وكيلًا".
ومعنى قوله: "من حد ضرب "، أي: مضارعه: يكِلُ، كما أن مضارع:"ضرب ": "يضرِبُ " بالكسر.
قال: "والتوكل قبول الوكالة".
وهناك اشتراك في المعنى مع "التوكل على الله"؛ قال النسفي: "والتوكل على الله تعالى والاتِّكال عليه هو الاعتماد على الله تعالى عز وجل"، وقال في "مجمل اللغة":"التوكل إظهار العجز والاعتماد على غيرك، والوكل بفتح الواو والكاف الرجل الضعيف العاجز وواكل فلانًا إذا ضيع أمره متكلًا على غيره، والوكال في الدابة أن تسير بسير أبطأ".
وأما المذهب المالكي؛ فقال الرصاع في "شرح حدود ابن عرفة"(ص 327): "قال الشيخ (ابن عرفة) رضي الله عنه نيابة ذي حق غير ذي إمرة ولا عبادة لغيره فيه غير مشروطة بموته ".
وأما المذهب الشافعي، فقال النووي في "تحرير ألفاظ التنبيه" (206):"الوكالة، بفتح الواو وكسرها: التوفيض، يقال: وَكَلَهُ، أي: فوض إليه، ووكلت أمري إلى فلان، أي: فوضت إليه، واكتفيت به، وتقع الوكالة أيضًا على الحفظ ". =
فلا يستطيع كل أحد القيام بكل شؤونه؛ فلذا قد يحتاج إلى تفويض غيره، لذلك أباح الله تبارك وتعالى له أن يستنيب غيره. وهي جائزة إجماعًا في الجملة؛ قال ابن قدامة:"وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة"
(1)
.
* * *
[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي أَرْكانِ الوَكَالَةِ]
قوله: (وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ؛ البَابُ الأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهَا، وَهِيَ النَّظَرُ فِيمَا فِيهِ التَّوْكيلُ).
قوله: "وهي النظر فيما فيه التوكيل" أي: محل الوكالة؛ فهل تجوز في كل المعاملات والعبادات؟ سيوضح ذلك بعد هذا المدخل مباشرة.
* قوله: (وَفِى المُوَكِّلِ
(2)
).
ذكر هنا ركنًا آخر، وهو:"المُوكِّل" بالكسر، أي: الأصيل الذي سيفوض غيره.
= وقريب منه ما عند الحنابلة؛ قال البعلي في "المطلع على ألفاظ المقنع"(ص 309): "الْوَكَالَةُ -بفتح الواو وكسرها- كالتفويض. يقال: وكله، أي: فوض إليه، ووكلت أمري إلى فلان أي: فوضت إليه واكتفيت به، وتقع الوكالة أيضًا على الخفظ. وهو: اسم مصدر بمعنى: التوكيل ".
(1)
المغني لابن قدامة (5/ 63).
(2)
لم يذكر المؤلف رحمه الله "المُوَكَّل" بالفتح، وهو الوكيل، وسيذكره وما يتعلق به من أحكام.
وهكذا في نسخة "حلاق"، و"العبادي" ولكن في نسخة العلامة: محمد شاكر رحمه الله زيادة: "والموكل"، وهي الصواب -والله أعلم- المتوافقة مع ما يجيء بعد ذلك. ويحتاج الأمر إلى التثبت من مخطوطات الكتاب، وفي الجملة: الأمر بين والحمد لله.
قوله: (والثَّانِي: فِي أَحْكَامِ الوَكَالَةِ. وَالثَّالِثُ: فِي مُخَالَفَةِ المُوكِّلِ لِلْوَكِيلِ).
بهذا ينتهي التمهيد الذي بيَّن لنا به المصنف رحمه الله خريطة هذا الباب، ثم شرع في الركن الأول.
قوله: (البَابُ الأَوَّلُ: فِي أَرْكانِهَا، وَهِيَ النَّظَرُ فِيمَا فِيهِ التَّوْكِيلُ، وَيي المُوكلِ، وفي المُوكل. الرُّكنُ الأَوَّلُ: فِي المُوكلِ).
ثم شرع في الركن الأول، -وهو النظر فيما فيه التوكيل- وقد لخصه ابن رشد (الجد)؛ فقال:"فالوكالة نيابة عن الموكل، فهي لا تكون إلا فيما تصح فيه النيابة مما يلزم الرجل القيام به لغيره، أو يحتاج إليه لمنفعة نفسه"
(1)
.
ثم مثَّل للأول؛ فقال: "فأما الوكالة فميا يلزم الرجل القيام به لغيره فكتوكيل الأوصياء والوكلاء المفوض إليهم مَن ينوب عنهم فيما يلزمهم لمن وكَّلهم، أو لمن إلى نظرهم، وكاستخلاف الإمام على ما يلزمه القيام به من أمر المسلمين ".
ثم بيَّن الصورة الثانية؛ فقال: "وأما الوكالة فيما يحتاج إليه الرجل لمنفعة نفسه فذلك كتوكيله على البيع والشراء والنكاح والحدود والخصام وما أشبه ذلك من كلِّ أمر مباح أو مندوب إليه أو واجب تعبد به الإنسان في غير عينه؛ لأن ما تعبد به في عينه كالوضوء والصلاة والصيام لا يصحُّ أن ينوب عنه في ذلك غيره ".
وقد اختصر المصنف رحمه الله هذا القدر؛ فكتابه موضوع للقواعد دون التفاصيل، فذكر بعض الصور المختلف فيها.
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى وَكَالَةِ الغَائِبِ وَالمَرِيضِ وَالمَرْأَةِ المَالِكَيْنِ لِأُمُورِ أَنْفُسِهِمْ).
لم يختلف الفقهاء رحمهم الله في جواز التوكيل مع غياب المُوكِل،
(1)
"المقدمات الممهدات"(3/ 49 - 51).
أو عجزه كالمريض؛ لأن هذا هو محل الرخصة، وإنما اختلفوا في توكيل الذكر الحاضر مع وجوده، وقد أبان المصنف رحمه الله عن سبب الخلاف بعدُ.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي وَكَالَةِ الحَاضِرِ الذَّكَرِ الصَّحِيحِ. فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: "تَجُوزُ وَكَالَةُ الحَاضِرِ الصَّحِيحِ الذَّكَرِ"، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: "لَا تَجُوزُ وَكَالَةُ الصَّحِيحِ الحَاضِرِ، وَلَا المَرْأَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ برزَة").
ثم لمَّا أبان عن المذاهب علل ذلك؛ فقال:
(فَمَنْ رَأَى أَنَّ الأصْلَ
(3)
لَا يَنُوبُ فِعْلُ الغَيْرِ عَنْ فِعْلِ الغَيْرِ إِلَّا مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ وَانْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَيْهِ قَالَ: لَا تَجُوزُ نِيَابَةُ مَنِ اخْتُلِفَ فِي نِيَابَتِهِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الأَصْلَ هُوَ الجَوَازُ قَالَ: الوَكَالَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ جَائِزَةٌ إِلَّا فِيمَا أَجْمَعَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ فِيهِ مِنَ العِبَادَاتِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا).
وخلاصة تعليله: أن من رأى أن الوكالة رخصة على خلاف الأصل جعل الأصل فيها المنع، فلم يُرخص في أيِّ صورة مما سبق، بينما من رأى أن الوكالة على وفق القياس رخَّص في جميع ذلك.
قوله: (الرُّكْنُ الثَّانِي: فِي الوَكِيلِ. وَشَرْطُ الوَكِيلِ أَنْ لَا يَكُونَ
(1)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 787). حيث قال: "والوكالة في الخصومة جائزة من الحاضر والغائب برضى الخصم وبغير رضاه ".
(2)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (2/ 157). حيث قال: "ولا يجوز بالخصومة إلا برضاء الخصم، إلا أن يكون الموكل مريضًا أو مسافرًا".
وأما المرأة؛ فينظر: "البناية شرح الهداية"(9/ 225). حيث قال: "ولو كانت المرأة مخدرة لم تجر عادتها بالبروز وحضور مجلس الحكم قال الرازي رحمه الله: يلزم التوكيل؛ لأنها لو حضرت لا يمكنها أن تنطق بحقها لحيائها فيلزم توكيلها".
(3)
كذا في نسخة العبادي، وحلاق، وأما في نسخة الشيخ: محمد شاكر ففيها زيادة "أن"، وهي أليق بالمعنى، وأعون لاستقامة السياق.
مَمْنُوعًا بِالشَّرْعِ مِنْ تَصَرُّفِهِ فِي الشَّيْءِ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ تَوْكيلُ الصَّبِيِّ وَلَا المَجْنُوفي وَلَا المَرْأَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
(1)
عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ).
الوكيل قائمٌ مقام الأصيل (المُوكِّل) فالأصل أنه لا يملك أكثر مما كان يملك موكله؛ فما كان الأصيل ممنوعًا منه -ككون المجنون أو الصبي أو المرأة وليًّا في نكاح-، لا يجوز بالأولى أن يُوكِّل فيه.
قوله: (أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(2)
فَلَا بِمُبَاشَرَةٍ وَلَا بِوَاسِطَةٍ
(3)
: أَيْ بِأَنْ تُوَكلَ هِيَ مَنْ يَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ وَيَجُوزُ عَنْ مَالِكٍ بِالوَاسِطَةِ الذَّكَرِ
(4)
).
فلا يجوز عند الشافعية أن تكون المرأة وكيلة في النكاح.
وأما عند مالك؛ فإذا زوَّجت عبدها أو يتيمها -لا أمتها- أن إليها
(1)
يُنظر: "المنهاج" للنووي، (ص 134). حيث قال:"شرط الموكل صحة مباشرته ما وكل فيه يملك أو ولاية فلا يصح توكيل صبي ولا مجنون ولا المرأة والمحرم في النكاح".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" للرملي (5/ 16). حيث قال: " (و) لا توكيل (المرأة) لغيرها في النكاح؛ لأنها لا تباشره ولا يرد صحة إذنها لوليها بلفظ الوكالة لانتفاء كونه وكالة حقيقة، وإنما هو متضمن للإذن ".
(3)
حتى إنهم لا يرون توكيلها في الإيجاب أو القبول. يُنظر: "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" للرملي (5/ 19). حيث قال: " (وكذا المرأة والمحرم) بضم الميم (في) عقد (النكاح) الجابًا وقبولًا لسلب عبارتهما فيه ".
(4)
هذه المسألة محل خلاف عند المالكية، وقد بينه مفصلًا ابن عبد البر. يُنظر:"الكافي في فقه أهل المدينة"(2/ 527 - 528). حيث قال: "ولم يختلف قوله في المرأة أنه لا يجوز لها مباشرة العقد على أمتها، ولا على يتيمة إن كانت وصيًّا. واختلف قوله في جواز مباشرتها العقد على عبدها ويتيمها؛ فروي عنه أنه قال: إذا كانت المرأة وصيًّا باشرت عقد نكاح يتيمها دون يتيمتها، وكذلك لها أن تباشر عقد نكاح عبدها دون أمتها، وإنما لا تعقد على من لا يعقد على نفسه يومًا ما. وتحصيل مذهب مالك عند أكثر أصحابه أن إليها إذا كانت وصيًّا اختيار الأزواج، ولها أن تفرض الصداق ثم يعقد النكاح أولياؤها أو السلطان وعلى هذا أكثر علماء أهل المدينة من أصحاب مالك وغيرهم ".
إذا كانت وصيًّا اختيار الأزواج، ولها أن تفرض الصداق ثم يعقِد النكاح أولياؤها أو السلطان، وعلى هذا أكثر علماء أهل المدينة من أصحاب مالك وغيرهم.
* * *
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الرُّكْنُ الثَّالِثُ: فِيمَا فِيهِ التَّوكِيلُ)
قوله: (وَشَرْطُ مَحَلِّ التَّوْكِيلِ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلنِّيَابَةِ)
(1)
.
قد سبق بيانُ أنه يجوز للإنسان أن يوكِّلَ غيرَه في كلِّ ما يجوز أن يفعله مما تدخله النيابة، أما ما لا تدخله النيابة، فلا يجوز.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (7/ 506) قال: "قال أبو يوسف أن التوكيل إنابة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 377) حيث قال: " (باب صحة الوكالة)
…
وأشار للثالث وهو المحل بقوله (في قابل النيابة)، أي: إنما تصح في كل أمر يقبل النيابة شرعًا، وهو ما لا يتعين فيه المباشرة، أي: ما تجوز فيه النيابة تصح فيه الوكالة وما لا تجوز فيه النيابة لا تصح فيه الوكالة بناءً على أنهما متساويان، وقيل: النيابة أعم لانفرأدها فيما إذا ولى الحاكم أميرًا أو قاضيًا أو نيب إمام صلاة بمكان غيره فيها وحكمها الجواز".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 236) قال: " (و) الشرط الثاني: (أن يكون قابلًا للنيابة)؛ لأن الوكالة إنابة فما لا يقبلها كاستيفاء حق القسم بين الزوجات لا يقبل التوكيل ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 184) قال: "الوكالة
…
استنابة جائز التصرف) فيما وكل فيه (مثله)، أي: جائز التصرف (فيما تدخله النيابة) من قول كعقد وفسخ أو فعل كقبض وإقباض ".
قوله: (مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ وَسَائِرِ العُقُودِ وَالفُسُوخِ وَالشَّرِكَةِ)
(1)
.
هذا من فضل الله تبارك وتعالى ويُسْر هذه الشريعة المباركة أن أكثر المعاملات التي يجوز فيها التوكيل، مثل المعاملات المذكورة، وكذلك الشركة بأنواعها، والمساقاة والمزارعة على الخلاف في جواز التوكيل فيها، وغير ذلك.
قوله: (وَالوَكَالَةِ وَالمُصَارَفَةِ وَالمُجَاعَلَةِ وَالمُسَاقَاةِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالخُلْعِ وَالصُّلْحِ).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (5/ 515) قال: "الوكالة بالبغ والشراء الأصل أنها إن عمت أو علمت أو جهلت جهالة يسيرة وهي جهالة النوع المحض كفرس صحت وإن فاحشة وهي جهالة الجنس كدابة بطلت، وإن متوسطة كعبد، فإن بين الثمن أو الصفة كتركي صحت وإلا لا. وكله بشراء ثوب هروي أو فرس أو بغل صح ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 377) حيث قال: " (باب صحة الوكالة) ..... (من عقد) كبيع وإجارة ونكاح وصلح وقراض وشركة ومساقاة (وفسخ) لعقد يجوز فيه كمزارعة قبل بذر وبيع فاسد ونكاح كذلك ويدخل فيه الطلاق والخلع والإقالة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 237) قال: " (ويصح) التوكيل (في طرفي بيع وهبة وسلم ورهن ونكاح وطلاق) منجز (وسائر العقود) كالضمان والصلح والإبراء والشركة والحوالة والوكالة والإجارة والقراض والمساقاة والأخذ بالشفعة
…
والفسوخ المتراخية كالإيداع والوقف والوصية والجعالة والضمان والشركة والفسخ بخيار المجلس والشرط ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 187) قال: "وتصح الوكالة في كلِّ حق آدمي متعلق بمال أو ما يجري مجراه (من عقد) كبيع وهبة وإجارة ونكاح
…
(وفسخ) لنحو بيع (وطلاق)؛ لأن ما جاز التوكيل في عقده جاز في حله بطريق أولى (ورجعه)؛ لأنه يملك بالتوكيل الأقوى وهو إنشاء النكاح فالأضعف وهو تلافيه بالرجعة أولى (وتملك المباح) كصيد وحشيش؛ لأنه تملك ما لا يتعين عليه فجاز التوكيل فيه كالاتهاب (وصلح)؛ لأنه عقد على مال أشبه البيع (وإقرار) ".
"المُجاعلة" المراد بها: الجعالة، وأكثر هذه الأحكام التي ذكرها المؤلف قد سبق بيانها.
قوله: (وَلَا تَجُوزُ فِي العِبَادَاتِ البَدَنِيَّةِ)
(1)
.
كالصلاة مثلًا، فلا يجوز لأحد أن ينيب غيره في الصلاة، ولا ينفعه ذلك ولا يُسقط عنه وجوبها؛ لأنَّ هذه واجبات على الأعيان، يجب على الإنسان أن يؤدِّيَها بنفسه على حسب استطاعته وتمكنه من أدائها، فيصلي قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب
(2)
، فإذا عجز
(1)
العبادات البدنية كالصلاة والصيام لا تجوز فيه النيابة على الإطلاق باتفاق الفقهاء بالنسبة للحي.
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"(2/ 212) حيث قال: "وجملة الكلام فيه أن العبادات في الشرع أنواع ثلاثة: مالية محضة: كالزكاة والصدقات
…
وبدنية محضة: كالصلاة والصوم
…
ومشتملة على البدن والمال: كالحج،
…
والبدنية المحضة لا تجوز فيها النيابة على الإطلاق لقوله عز وجل: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] إلا ما خص بدليل ". وانظر: "الدر المختار"، و"حاشية ابن عابدين" (رد المحتار)(2/ 598).
مذهب المالكية، يُنظر:"الفروق" للقرافي (2/ 205) حيث قال: "ومنها ما لا يتضمن مصلحة في نفسه بل بالنظر إلى فاعله كالصلاة فإن مصلحتها الخشوع والخضوع، وإجلال الرب سبحانه وتعالى وتعظيمه وذلك إنما يحصل فيها من جهة فاعلها فإذا فعلها غير الإنسان فاتت المصلحة التي طلبها صاحب الشرع ولا توصف حينئذٍ بكونها مشروعة في حقه فلا تجوز النيابة فيها إجماعًا".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 22) حيث قال: " (فلا يصح) التوكيل (في عبادة) وإن لم تتوقف على نية؛ إذ القصد امتحان عين المكلف وليس منها نحو إزالة النجاسة؛ لأن القصد منها الترك ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيجاني (3/ 441) حيث قال: "ولا تصح الوكالة في عبادة (بدنية محضة) لا تتعلق بالمال؛ (كصلاة وصوم)؛ لتعلقهما ببدن من هما عليه ".
(2)
هذا معنى حديث أخرجه البخاري (1117) وغيره عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال:"صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب ".
فيصلي ولو إيماءً
(1)
.
قوله: (وَتَجُوزُ فِي المَالِيَّةِ كَالصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ
(2)
وَالحَجِّ
(3)
).
(1)
قال ابن حجر في "فتح الباري"(2/ 588): "واستدل به من قال لا ينتقل المريض بعد عجزه عن الاستلقاء إلى حالة أخرى كالإشارة بالرأس ثم الإيماء بالطرف ثم إجراء القرآن والذكر على اللسان ثم على القلب لكون جميع ذلك لم يذكر في الحديث وهو قول الحنفية والمالكية وبعض الشافعية".
(2)
العبادات المالية المحضة تجوز فيه النيابة على الإطلاق، سواء كان من عليه العبادة قادرًا على الأداء بنفسه، أو لا باتفاق الفقهاء.
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 597) حيث قال: " (العبادة المالية) كزكاة وكفارة (تقبل النيابة) عن المكلف (مطلقًا) عند القدرة والعجز".
مذهب المالكية، يُنظر:"الفروق" للقرافي (2/ 205) حيث قال: "الأفعال قسمان منها ما يشتمل فعله على مصلحة مع قطع النظر عن فاعله كرد الودائع وقضاء الديون ورد الغصوبات وتفريق الزكوات والكفارات ولحوم الهدايا والضحايا وذبح النسك ونحوها فيصح في جميع ذلك النيابة إجماعًا؛ لأن المقصود انتفاع أهلها بها وذلك حاصل ممن هي عليه لحصولها من نائبه ولذلك لم تشترط النيات في أكثرها".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 136) حيث قال: " (وله) مع الأداء بنفسه في المالين (التوكيل) فيه؛ لأنه حق مالي فجاز أن يوكل في أدائه كديون الآدميين وشمل إطلاقه ما لو كان الوكيل كافرًا أو رقيقًا أو سفيهًا أو صبيًّا مميزًا".
وقال أيضا (5/ 22): " (وتفرقة زكاة) ونذر وكفارة وصدقة .. سواء أوكل الذابح المسلم المميز في النية أم وكل فيها مسلمًا مميزًا غيره ليأتي بها عند ذبحه كما لو نوى الموكل عند ذبح وكيله ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 440) حيث قال: " (و) تصح الوكالة (في عبادة) تتعلق بالمال؛ (كتفرقة صدقة و) تفرقة (نذر و) تفرقة (زكاة)؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يبعث عماله لقبض الصدقات وتفريقها، وقال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم، فإن أطاعوك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينهما وبين الله حجاب ". متفق عليه. وتفرقة (كفارة)؛ لأنه كتفرقة الزكاة".
(3)
ذهب الجمهور (الحنفية، الشافعية، الحنابلة) إلى مشروعية الحج عن الغير، وقابليته للنيابة للعذر الميئوس من زواله بالنسبة للحي، وذهب مالك على المعتمد في مذهبه، إلى أن الحج لا يقبل النيابة لا عن الحي ولا عن الميت، معذورًا أو غير معذور.
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 212) حيث قال: "العبادات في =
وهذا النوع من العبادات تجوز فيه النيابة، فيجوز للإنسان أن ينيب غيره في أداء الزكاة لتفريقها، وفي الحجِّ إذا لم يكن مطيقًا مستطيعًا لأداء الحج ببدنه، لكن لو كان قادرًا ببدنه وبماله فليس له أن ينيب.
قوله: (وَتَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الخُصُومَةِ عَلَى الإِقْرَارِ وَالإِنْكَارِ)
(1)
.
يعني: تجوز الوكالة في الأمور التي فيها خصومات، فيوكِّل الإنسانُ مَن يحلُّ محله في الخصومات على الإقرار، عند الإمام مالك، ووافقه فيه الإمام أحمد
(2)
.
= الشرع أنوأع ثلاثة .... وأما المشتملة على البدن والمال - وهي الحج - فلا يجوز فيها النيابة عند القدرة، ويجوز عند العجز".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 543) حيث قال: "اختلف في الصوم والحج والمشهور أنهما لا يقبلان النيابة من الحي والعاجز، وأما القادر فلا يقبلان اتفاقًا".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 236) حيث قال: " (فلا يصح في عبادة)؛ لأن المقصود منها الابتلاء والاختبار بإتعاب النفس، وذلك لا يحصل بالتوكيل (إلا الحج) والعمرة عند العجز".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (3/ 221 - 222) حيث قال: " (فإن كان مريضًا لا يرجى برؤه، أو شيخًا لا يستمسك على الراحلة، أقام من يحج عنه ويعتمر، وقد أجزأ عنه وإن عوفي)، وجملة ذلك أن من وجدت فيه شرائط وجوب الحج، وكان عاجزًا عنه لمانع ميئوس من زواله، كزمانة، أو مرض لا يرجى زواله، أو كان نضو الخلق، لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير محتملة، والشيخ الفاني، ومن كان مثله متى وجد من ينوب عنه في الحج، ومالًا يستنيبه به، لزمه ذلك. وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي ".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 379) حيث قال: " (ولا له)، أي: الوكيل حينئذٍ (عزل نفسه) إلا لعذر وحلف في كسفر كذا يظهر ومفهوم حينئذٍ أن للوكيل عزل نفسه قبل ذلك وكذلك للموكل عزله قبل ذلك (ولا الإقرار)، أي: ليس للوكيل الإقرار عن موكله (إن لم يفوض له) في التوكيل بأن يوكله وكالة مفوضة (أو يجعل له) الإقرار عند عقد الوكالة فله الإقرار ويلزمه ما أقر به عنه فيهما إن أقر بما يشبه ولم يقر لمن يتهم عليه وكان الإقرار من نوع الخصومة".
(2)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 438) حيث قال: " (وتصح) الوكالة
…
(وإقرار)؛ لأنه قول يلزم به الموكل مال، أشبه الضمان، وصفته أن يقول: وكلتك =
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ
(1)
: "لَا تَجُوزُ عَلَى الإِقْرَارِ، وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ وَالأَيْمَانِ").
وهو قول أبي حنيفة أيضًا
(2)
، وشبَّه الإقرار بالشهادة؛ لأن الشهادةَ متَّفق على عدم جواز النيابة فيها، وهو قول الشافعي وأحمد.
قوله: (وَتَجُوزُ الوَكَالَةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ العُقُوبَاتِ عِنْدَ مَالِكٍ
(3)
، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَعَ الحُضُورِ قَوْلَانِ).
وتجوز كذلك عند الشافعيِّ
(4)
وأحمد
(5)
؛ لورود النصِّ بجوازها،
= في الإقرار، فلو قال: أقر عني؛ لم يكن ذلك وكالة. ذكره المجد. ويصح في تفسيره بالمجهول بأن يقول له: وكلتك في الإقرار لزيد بمال أو بشيء، ويرجع في تفسيره إلى الموكل. نقله المجد في "الهداية" عن الأصحاب ".
(1)
وهو الأصح عندهم.
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 25) حيث قال: " (لا في إقرار) كوكلتك لتقر عني لفلان بكذا (في الأصح)؛ لأنه إخبار عن حق فلم يقبل التوكيل كالشهادة نعم يكون به مقرًّا لإشعاره بثبوت الحق عليه فإنه لا يأمر غيره بأن يخبر عنه بشيء إلا وهو ثابت ".
(2)
ينظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 22) حيث قال: "فنقول: لا خلاف أنه يجوز التوكيل بالخصومة في إثبات الدين، والعين، وسائر الحقوق، برضا الخصم، حتى يلزم الخصم جواب التوكيل "
…
(وأما) التوكيل بالإقرار: فذكر في الأصل، أنه يجوز.
(3)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (8/ 5) حيث قال: "ويجوز التوكيل بقبض الحقوق واستيفاء الحدود والعقوبات وفي الخصومات في الإقرار والإنكار برضى الخصم وبغير رضاه في حضور المستحق وغيبته ".
(4)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 238) حيث قال: " (ويصح) التوكيل (في استيفاء عقوبة آدمي كقصاص وحد قذف) كسائر الحقوق، .. تنبيه قد يفهم كلامه المنع في حدود الله تعالى وليس مرادًا، بل يجوز للإمام لما في "الصحيحين" .. وفي غيرهما: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، وكذا من السيد في حدِّ رقيقه، وإنما يمتنع إثباتها لبنائها على الدرء".
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 465) حيث قال: " (ويصح) التوكيل (في إثبات الحدود، و) في (استيفائها) ممن وجبت عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فأمر بها فرجمت" متفق عليه؛ فقد وكله في الإثبات والاستيفاء جميعًا".
للحديث الوارد في "الصحيحين" أنه صلى الله عليه وسلم أناب أحدَ أصحابه في استيفاء حدِّ الرجم، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام:"وَاغْدُ يَا أُنَيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"
(1)
.
قوله: (وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الوَكالَةَ تَجُوزُ عَلَى الإِقْرَارِ اخْتَلَفُوا فِي مُطْلَقِ الوَكالَةِ عَلَى الخُصُومَةِ هَلْ يَتَضَمَّنُ الإِقْرَارَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: "لَا يَتَضَمَّنُ ". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: "يَتَضَمَّنُ ").
ووافق مالكًا فيه الشافعيُّ
(4)
وأحمدُ
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (2314)، ومسلم (1697).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (3/ 378) قال: " (و) جاز توكيل (واحد) لا أكثر إلا برضا الخصم (في خصومة، وإن كره خصمه) إلا لعداوة كما سيأتي له وأما في غير الخصومة فيجوز أكثر من واحد كما يأتي (لا إن قاعد) الموكل (خصمه) عند حاكم وانعقدت المقالات بينهما (كثلاث) من المجالس ولو في يوم واحد فليس له حينئذٍ أن يوكل من يخاصم عنه لما فيه من الإعنات وكثرة الشر (إلا لعذر) من مرض أو سفر ومن العذر ما لو حلف أن لا يخاصمه لكونه شاتمه ونحو ذلك لا إن حلف لغير موجب ".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 22) قال: "لا خلاف أنه يجوز التوكيل بالخصومة في إثبات الدين، والعين، وسائر الحقوق، برضا الخصم، حتى يلزم الخصم جواب التوكيل
…
فدل على الجواز برضا الخصم، واختلف في جوازه بغير رضا الخصم، قال أبو حنيفة -عليه الرحمة: لا يجوز من غير عذر المرض والسفر. وقال أبو يوسف، ومحمد: يجوز في الأحوال كلها".
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 24 - 25) قال: " (و) في (الدعوى) بنحو مال أو عقوبة لغير الله (والجواب) وإن كره الخصم وينعزل وكيل المدعي بإقراره بقبض موكله أو إبرائه، ولو قال وكيل الخصم: إن موكله أقر بالمدعى به انعزل، وتعديله لبينة المدعي غير مقبول، وتقبل شهادته على موكله مطلقًا، وله فيما لم يوكل فيه وفيما وكل فيه إن انعزل قبل خوضه في الخصومة، ويلزمه إقامة بينة بوكالته عند عدم تصديق الخصم له وتسمع وإن لم تتقدم دعوى حضر الخصم أو غاب فإن صدق الخصم عليها جاز له الامتناع من التسليم حتى يثبتها".
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 463) قال: " (ولو) كان التوكيل في خصومة (بغير رضا الخصم، حتى في صلح وإقرار) فيصح التوكيل فيهما، كغيرهما وصفة التوكيل =
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الرُّكنُ الرَّابِعُ: مَعْنَى الوَكالَةِ)
قوله: (وَأَمَّا الوَكَالَةُ فَهِي عَقْدٌ يَلْزَمُ بِالإِيجَابِ وَالقَبُولِ كَسَائِرِ العُقُودِ)
(1)
.
=في الإقرار: أن يقول له: وكلتك في الإقرار، فلو قال له: أقر عني لم يكن ذلك وكالة ذكره المجد".
(1)
ذهب جمهور الفقهاء على أن الوكالة لا تنعقد إلا بالإيجاب والقبول؛ لأنه عقد تعلق به حق كل واحد منهما فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالبيع والإجارة.
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2016) حيث قال: "وأما بيان ركن التوكيل. فهو الإيجاب والقبول فالإيجاب من الموكل أن يقول: "وكلتك بكذا"، أو "افعل كذا"، أو "أذنت لك أن تفعل كذا" ونحوه. والقبول من الوكيل أن يقول: "قبلت" وما يجري مجراه، فما لم يوجد الإيجاب والقبول لا يتم العقد؛ ولهذا لو وكل إنسانا بقبض دينه فأبى أن يقبل، ثم ذهب الوكيل فقبضه لم يبرأ الغريم؛ لأن تمام العقد بالإيجاب والقبول، وكل واحد منهما يرتد بالرد قبل وجود الآخر، كما في البيع ونحوه ".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (5/ 190) حيث قال: "والرابع الصيغة وأشار إليها المصنف بقوله بما يدل عرفا وهو متعلق بقوله أول الباب صحت الوكالة، والمعنى: أن الوكالة تصح وتنعقد بكلِّ ما دلَّ عليها في العرف ولا يشترط لانعقادها لفظ مخصوص قال في اللباب: من أركان الوكالة الصيغة أو ما يقوم مقامها مما يدل على معنى التوكيل انتهى. وقال ابن الحاجب: المعتبر الصيغة أو ما يقوم مقامها قال في التوضيح: إن المعتبر في صحة الوكالة الصيغة كقوله وكلتك أو أنت وكيلي أو ما يقوم مقامه من قول أو فعل كقوله تصرف عني في هذا أو كإشارة الأخرس ".
مذهب الشافعية، ينظر:"المهذب في فقة الإمام الشافعي" للشيرازي (16412) حيث قال: "ولا تصح الوكالة إلا بالإيجاب والقبول؛ لأنه عقد تعلق به حق كل واحد منهما فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالبيع والإجارة".=
إذًا فالوكالة هي عقد كسائر العقود، يتمُّ فيها تعيين المتعاقدين، وتعيين المتعاقَدِ عليه، وأجَل العقد، ونحو هذا، فلا بد من تعيين هذه الأشياء حتى يرتفع الخلافُ.
وقوله: (يَلْزَمُ بِالإِيجَابِ وَالقَبُولِ
…
).
ليس معناه الوجوب، فالوَكالة في الأصل عقد جائز، ويجوز لكلِّ واحد من الطرفين أن يفسخه -إلا أن تكونَ الوَكالة في خصومة قد شارفت على الانتهاء فلا يجوز فسخها قبل انقضاء الخصومة والفصل فيها، فهذه مسألة يستثنيها العلماء- وإنَّما يعني بقوله:(يلزم) أنها لا تصحُّ إلا بإيجاب وقبول، فلا يصحُّ أن يوكِّل إنسان آخر دون أن يحصل منه إيجاب ولا أن يتوكل إنسان عن آخر دون أن يحصل منه قبول على الوكالة.
قوله: (وَلَيْسَتْ هِيَ مِنَ العُقُودِ اللَّازِمَةِ بَلِ الجَائِزَةِ)
(1)
.
=مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 461) حيث قال: " (وتصح) الوكالة، أي: إيجابها (بكل قول يدل على الإذن) في التصرف (كوكلتك أو فوضت إليك) في كذا (أو أذنت لك فيه، أو بعه، أو أعتقه، أو كاتبه ونحو ذلك) كأقمتك مقامي، أو جعلتك نائبًا عني؛ لأنه لفظ دالٌّ على الإذن فصح كلفظها الصريح قال في الفروع: ودل كلام القاضي على انعقادها بفعل دال، كبيع وهو ظاهر كلام الشيخ فيمن دفع ثوبه إلى قصار أو خياط وهو أظهر كالقبول" انتهى.
(1)
وهذا باتفاق الفقهاء؛ لأن الوكالة تبرع ولا لزوم في التبرعات.
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (3716) حيث قال: "وأما بيان ما يخرج به الوكيل عن الوكالة: فنقول وباللّه التوفيق: الوكيل يخرج عن الوكالة بأشياء (منها): عزل الموكل إياه ونهيه؛ لأن الوكالة عقد غير لازم ".
مذهب المالكية ينظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 396 - 397) حيث قال: " (وهل لا تلزم) الوكالة مطلقًا وقعت بأجرة أو جعل أو لا؛ إذ هي من العقود الجائزة كالقضاء (أو إن وقعت بأجرة) كتوكيله على عمل معين بأجرة معلومة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2573) حيث قال: " (فصل) الوكالة ولو بجعل (جائزة من الجانبين)، أي: من جانب الموكل؛ لأنه قد يرى المصلحة في ترك ما وكل فيه أو في توكيل آخر، ومن جانب الوكيل؛ لأنه قد لا=
فالمصنف رحمه الله يصرح هنا أنَّ الوكالة عقد جائر لا إلزام فيه، فكأنَّه يحترز بهذا التصريح عن قوله:(يلزم) الوارد في تعريفه لها.
قوله: (عَلَى مَا نَقُولُهُ فِي أَحْكَامِ هَذَا العَقْدِ).
وربما يأتي تفصيل ذلك بعد قليل، وربما لا يذكر المؤلف ذلك، ولو ادعى شخص فقال: وكلتني فقال الآخر: لم أوكلك فيؤخذ بقول الموكِل؛ لأنه ادعاء عليه في بيع وشراء يحتاج إلى إثبات فالقول إذًا قول الموكل، ويبدو أن المؤلف لم يعرض لذلك.
قوله: (وَهِيَ ضَرْبَانِ عِنْدَ مَالِكٍ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ).
ليس عند مالك وحده بل عند عامَّةِ العلماء، وهو معروف ومشاهد في معاملات الناس، فالإنسان قد يوكِّل إنسانًا توكيلًا عامًّا، وربما يوكِّله توكيلًا خاصًّا فيحدِّد له ما ينوب عنه فيه
(1)
.
= يتفرغ فيكون اللزوم مضرًّا بهما، هذا إذا لم يكن عقد الوكالة باستئجار، فإن كان بأن عقد بلفظ الإجارة فهو لازم، وهذا لا يحتاج إلى استثنائه وإن عقدت بلفظ الوكالة وشرط فيها جعل معلوم ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 191) حيث قال: "والوكالة
…
(عقود جائزة من الطرفين)؛ لأن غايتها إذن وبذل نفع وكلاهما جائز (لكل) من المتعاقدين (فسخها)، أي: هذه العقود كفسخ الإذن في أكل طعامه ". وانظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 468).
(1)
هذا في الوكالة الخاصة باتفاق الفقهاء كما ذكر الشارح، وأما في الوكالة العامة فليس كما ذكر الشارح رحمه الله فقد ذهب الحنفية والمالكية إلى جواز التوكيل العام في الجملة.
أما مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(5/ 509) وما بعدها، حيث قال:"وهو خاص وعام كأنت وكيلي في كل شيء عمّ الكل حتى الطلاق قال الشهيد: وبه يفتى، وخصه أبو الليث بغير طلاق وعتاق ووقف، واعتمده في الأشباه، وخصَّه قاضي خان بالمعاوضات، فلا يلي العتق والتبرعات وهو المذهب كما في تنوير البصائر وزواهر الجواهر".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 380) حيث قال: "وأشار للركن الرابع وهو الصيغة بقوله (بما يدل عرفًا) من قول أو إشارة =
قوله: (فَالعَامَّةُ هِيَ الَّتِي تَقَعُ عِنْدَهُ بِالتَّوْكيلِ العَامِّ الَّذِي لَا يُسَمَّى فِيهِ شَيْءٌ دُونَ شَيءٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ سَمَّى عِنْدَهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالتَّعْمِيمِ وَالتَّفْوِيضِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: لَا تَجُوزُ الوَكلالَةُ بِالتَّعْمِيمِ وَهِيَ غَرَرٌ).
= أخرس (لا بمجرد) قوله (وكلتك)؛ لأنه لا يدلُّ عرفًا على شيء (لا حتى يفوض) للوكيل الأمر بأن يقول وكلتك وكالة مفوضة أو في جميع أموري أو أقمتك مقامي في أموري ونحو ذلك. وإذا فوض له (فيمضي) ويجوز (النظر)، أي: الصواب لا غيره (إلا أن يقول) الموكل (و) يمضي منك (غير النظر) فيمضي إن وقع ".
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن التوكيل العام لا يصح. فقد نصوا على أنه يشترط أن يكون الموكل فيه معلومًا من بعض الوجوه حيث يقل معه الغرر، ولا يشترط علمه من كل وجه.
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 25 - 26) حيث قال: " (وليكن المؤكل فيه معلومًا من بعض الوجوه)؛ لئلا يعظم الغرر (ولا يشترط علمه من كل وجه)، ولا ذكر أوصاف المسلم فيها؛ لأنها جوزت للحاجة فسومح فيها (فلو قال: وكلتك في كل قليل وكثير) لي (أو في كل أموري) أو حقوقي (أو فوضت إليك كل شيء) لي أو كل ما شئت من مالي (لم يصح) لما فيه من عظيم الغرر؛ لأنه يدخل فيه ما لا يسمح الموكل ببعضه كعتق أرقائه وطلاق زوجاته والتصدق بأمواله ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (5/ 69) حيث قال: "ولا تصح الوكالة إلا في تصرف معلوم. فإن قال: وكلتك في كل شيء. أو في كل قليل وكثير. أو في كل تصرف يجوز لي. أو في كل مالي التصرف فيه. لم يصح
…
ولنا، أن في هذا غررًا عظيمًا، وخطرًا كبيرًا؛ لأنه تدخل فيه هبة ماله، وطلاق نسائه، وإعتاق رقيقه، وتزوج نساء كثيرة. ويلزمه المهور الكثيرة، والأثمان العظيمة، فيعظم الضرر. وإن قال: اشتر لي ما شئت. لم يصح؛ لأنه قد يشتري ما لا يقدر على ثمنه. وقد روي عن أحمد، ما يدل على صحته؛ لقوله في رجلين، قال كل واحد منهما لصاحبه: ما اشتريت من شيء فهو بيننا: إنه جائز. وأعجبه ".
(1)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (4/ 295) حيث قال: "أن يكون ما وكل فيه معلومًا من بعض الوجوه، بحيث لا يعظم الغرر. وسواء كانت الوكالة عامة أو خاصة. أما العامة ففيها طريقة لإمام الحرمين والغزالي، وطريقة للأصحاب. فأما طريقتهما، فقالا: لو قال: وكلتك في كل قليل وكثير، فباطلة. وإن ذكر الأمور المتعلقة به مفصلة، فقال: وكلتك في بيع أملاكي، وتطليق زوجاتي، وإعتاق عبيدي، صح توكيله. ولو قال: وكلتك في كل أمر هو إلي مما يقبل التوكيل، ولم يفصل أجناس التصرفات، فوجهان. أصحهما: البطلان ".
وعدم الجواز هو قول أبي حنيفة
(1)
، وأحمد
(2)
كذلك.
قوله: (وَإِنَّمَا يَجُوزُ مِنْهَا مَا سُمِّيَ وَحُدِّدَ وَنُصَّ عَلَيْهِ).
إذًا فلا بد من تحديد وتسمية الوكالة عند الأئمة الثلاثة: (أبي حنيفة والشافعي وأحمد). وأما مالك فأجازها عامَّة، ولا شكَّ أن الأقرب للصواب هو مذهب الجمهور.
قوله: (وَهُوَ الأَقْيَسُ).
هذا ترجيح المصنف رحمه الله أن الصواب في مذهب الجمهور دون قول المالكية. وهذه من إنصاف المؤلف رحمه الله وحُسن قصده في طلب العلم، فهو لا يتعصب لمذهبه؛ بل ما يرى أنه الحق والراجح يصدع به وإن خالف ذلك مذهبه، وهذا هو شأن طالب العلم، فينبغي أن يكون دائمًا منصفًا وأن تكون غايته ومراده الوصول إلى القول الذي يؤيِّده الدليل من الكتاب أو السنة.
قوله: (إِذْ كَانَ الأَصْلُ فِيهَا المَنْعُ، إِلَّا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الإِجْمَاعُ).
إذًا الأصل هو المنع إلا ما وقع عليه الإجماع، فينبغي أن يوقف عند ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(5/ 515) حيث قال: "باب الوكالة بالبيع والشراء الأصل أنها إن عمت أو علمت أو جهلت جهالة يسيرة وهي جهالة النوع المحض كفرس صحت وإن فاحشة وهي جهالة الجنس كدابة بطلت، وإن متوسطة كعبد، فإن بين الثمن أو الصفة كتركي صحت وإلا لا".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 462) حيث قال: " (ويعتبر) لصحة الوكالة (تعيين وكيل) فلو قال: وكلت أحد هذين لم تصحَّ للجهالة و (قال في الانتصار: فلو وكل زيدًا وهو لا يعرفه) لم تصح لوقوع الاشتراك في العلم فلا بد من معرفة المقصود، إما بنسبة، أو إشارة إليه أو نحو ذلك مما يعينه (أو لم يعرف الوكيل موكله) بأن قيل له: وكلك زيد ولم ينسب له، ولم يذكر له من وصفه أو شهرته ما يميزه (لم يصحَّ) ذلك للجهالة".
(الْبَابُ الثَّانِي فِي الْأَحْكَامِ)
قوله: (وَأَمَّا الْأَحْكَامُ: فَمِنْهَا أَحْكَامُ الْعَقْدِ، وَمِنْهَا أَحْكَامُ فِعْلِ الْوَكيلِ، فَأَمَّا هَذَا الْعَقْدُ فَهُوَ كَمَا قُلْنَا عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ).
هنا المصنف رحمه الله يكرر ما ذكره من كون عقد الوكالة غير واجب؛ لأن العقود في شريعة الإسلام بعضها واجب وبعضها غير واجب. فهو يبيِّن حكم هذا العقد ومنزله من الوجوب أو عدمه.
قوله: (لِلْوَكيلِ أَنْ يَدَعَ الْوَكَالَةَ مَتَى شَاءَ عِنْدَ الْجَمِيعِ).
وللموكِّل أيضًا أن يعزله
(1)
.
قوله: (لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
يَشْتَرِطُ فِي ذَلِكَ حُضُورَ الْمُوَكَّلِ، وَللْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَهُ مَتَى شَاءَ).
(1)
يُنظر: "فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك" للشيخ عليش (1/ 262) حيث قال: "وللموكل أن يعزل الوكيل عن وكالته متى شاء، وهذا الذي حفظناه عن الشيوخ في ذلك ولا يبعد عندي أن لا يكون له أن يعزلها عن هذه الوكالة؛ لأنه لما نكحته على ذلك، فقد أخذ عليها عوضا فيلزمه كالمبايعة". وانظر: "منح الجليل" لعليش (6/ 414) وما بعدها.
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 37) حيث قال: "الوكيل يخرج عن الوكالة بأشياء (منها): عزل الموكل إياه ونهيه؛ لأن الوكالة عقد غير لازم، فكان محتملًا للفسخ بالعزل والنهي ولصحة العزل شرطان: أحدهما علم الوكيل به؛ لأن العزل فسخ للعقد، فلا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، كالفسخ فإذا عزله وهو حاضر انعزل، - وكذا لو كان غائبا فكتب إليه كتاب العزل، فبلغه الكتاب، وعلم بما فيه، انعزل؛ لأن الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر؛ وكذلك لو أرسل إليه رسولًا، فبلغ الرسالة .... وإن عزله الموكل، وأشهد على عزله، وهو غائب، ولم يخبره بالعزل أحد، لا ينعزل، ويكون تصرفه قبل العلم بعد العزل كتصرفه قبل العزل في جميع الأحكام التي بيناها".
ولم يوافقه غيره.
قوله: (قَالُوا: إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَكالَةً فِي خُصُومَةٍ).
أما الجمهورُ فلا يشترطون ذلك كما هو معلوم.
قوله: (وَقَالَ أَصْبَغُ: "لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يُشْرِفْ عَلَى تَمَامِ الْحُكْمِ"
(1)
، وَلَيْسَ لِلْوَكيلِ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْزِلَهُ الْمُوَكِّلُ
(2)
.
مثاله: أن يكون الوكيل قد وُكِّل في قضية فيها خصومة فيأتي قبل انقضائها فيعزل نفسه، ويقول: لا أريد إتمام هذه الوكالة. ونحوه.
قوله: (وَلَيْسَ مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ حُضُورُ الْخَصْمِ عِنْدَ مَالِكٍ
(3)
، وَالشَّافِعِيِّ)
(4)
.
(1)
"مواهب الجليل" للحطاب (5/ 188) حيث قال: "قال ابن عرفة: بعد أن ذكر كلام شيوخ أهل المذهب وما في ذلك من الخلاف ففي منع العزل بمجرد انتشاب الخصام أو بمقاعدته ثلاثًا ثالثها بعد مقاعدته مقاعدة يثبت فيها الحكم ورابعها ما لم يشرف على تمام الحكم وخامسها على الحكم لابن رشد مع اللخمي والمتيطي عن المذهب وله عن أحد قولي أصبغ ".
(2)
يُنظر: "فتح العلي المالك" للشيخ عليش (1/ 240) حيث قال: "الوكالة إن لم يتعلق بها حق للغير فله عزل وكيله، والظاهر: أن له ذلك ولو التزم عدم عزله، وأما إن تعلق بها حق للغير فالراجح أنه ليس للموكل عزل وكيله. قال في "التوضيح" في شرح قول ابن الحاجب في كتاب الوكالة: ومهما شرع في الخصومة فلا ينعزل ولو بحضورهما ما نصه لما ذكر العزل وأفهم كلامه أن للموكل العزل بين هنا أنه مشروط بأن لا يتعلق بالوكالة حق للغير".
(3)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضى عبد الوهاب (2/ 607) قال: "يصح التوكيل من غير حضور الخصم ويسمع الحاكم البينة عليهما
…
فدليلنا على أن التوكيل في الخصومة يصح في مجلس الحكم وإن لم يحضر الخصم، أنه توكيل على استيفاء حق يصح التوكيل فيه، فلم يكن من شرطه حضور من يستوفي منه الحق، أصله إذا حضر واحد وغاب الباقون ".
(4)
ينظر: "روضة الطالبين" للنووي (4/ 322) قال: "ولا يعتبر حضور الخصم في إثبات الوكالة".
وعند أحمد كذلك
(1)
.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: "ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِهِ").
قوله: (وَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ إِثْبَاتِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ حُضُورُهُ عِنْدَ مَالِكٍ)
(3)
.
وأحمد
(4)
.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(5)
: "مِنْ شَرْطِهِ ". وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ هَلْ تَنْفَسِخُ الْوَكالَةُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ عَلَى قَوْلَيْنِ
(6)
).
(1)
يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (2/ 137) قال: "ويجوز في إثبات القصاص، وحد القذف، واستيفائهما في حضرة الموكل وغيبته؛ لأنه حق آدمي أشبه المال. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز استيفاؤهما في غيبته، وقد أومأ إليه أحمد رضي الله عنه: بأنه يجوز أن يعفو الموكل، فيكون ذلك شبهة".
(2)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (5/ 512) قال: " (فصح بخصومة في حقوق العباد برضا الخصم) وجوزاه بلا رضاه، وبه قالت الثلاثة، وعليه فتوى أبي الليث وغيره، واختاره العتابي. وصححه في النهاية، والمختار للفتوى تفويضه للحاكم درر (إلا أن يكون) الموكل (مريضًا) لا يمكنه حضور مجلس الحكم بقدميه ابن كمال (أو غائبا مدة سفر أو مريدًا له) ويكفي قوله: أنا أريد السفر ابن كمال (أو مخدرة) لم تخالط الرجال كما مر (أو حائضًا) أو نفساء".
(3)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 184) قال: "قال في الجواهر: أيضًا، وكما لا يفتقر إلى حضور الخصم في عقد الوكالة لا يفتقر إلى حضوره في إثباتها عند الحاكم ".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 473) قال: " (وإن حضر الحاكم أحد الوكيلين، و) الوكيل (الآخر غائب) عن البلد أو المجلس (فادعى) الوكيل الحاضر (الوكالة لهما)، أي: له ولرفيقه الغائب (أقام بينة) بدعواه (سمعها الحاكم وحكم بثبوت الوكالة لهما) أي للحاضر والغائب ".
(5)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 25) قال: " (وقيل: لا يجوز) التوكيل في استيفائها (إلا بحضرة الموكل) لاحتمال عفوه، ورد بأن احتماله كاحتمال رجوع الشهود إذا ثبتت ببينة فلا يمتنع الاستيفاء في غيبتهم اتفاقًا".
(6)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (6/ 86) حيث قال: "وانعزل بموت موكله إن =
هذه المسألة عليها شبه اتِّفاق بين أهل العلم، فالأئمة أبو حنيفة
(1)
والشافعي
(2)
وأحمد
(3)
والمشهور من روايتي مذهب مالك كلهم متفقون في هذه المسألة، وأن الوكالة تنفسخ بموت الموكل.
ومع هذا أورد المصنف رحمه الله هذه المسألة على أنها مسألة خلافية، كأنه لا اتِّفاق فيها، واكتفى بذكر أن فيها قولين لأصحاب مالك.
قوله: (فَإِذَا قُلْنَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ كَمَا تَنْفَسِخُ بِالْعَزْلِ).
وهذا هو مذهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة والشافعي وأحمد أنها تنفسخ بالموت كما أنها تنفسخ بالعزل، أي: إذا عزل الموكل وكيله انفسخت الوكالة وانتهت.
= علم وإلا فتأويلان (ش)، يعني: أن الوكيل إذا علم بموت موكله فإنه ينعزل بمجرد علمه بذلك ولو مفوضًا؛ لأن ماله انتقل لغيره ولا يتصرف أحد في مال الغير إلا بإذنه وإن لم يعلم الوكيل بموت موكله فهل ينعزل بمجرد الموت أو حتى يبلغه الموت تأويلان، وعلى الأول: لو اشترى بعد موت الموكل ولم يعلم بموته فلا يلزم الورثة ذلك، وعليه غرم الثمن، وقيد بما إذا كان المبتاع من الوكيل حاضرًا ببلد الموت وإلا فيتفق التأويلان على عدم العزل ومثل الشراء البيع ". وانظر:"شرح ميارة"(1/ 136).
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 38) حيث قال: " (ومنها) موت الموكل؛ لأن التوكيل بأمر الموكل وقد بطلت أهلية الآمر بالموت فتبطل الوكالة علم الوكيل بموته أم لا".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 55) حيث قال: " (وينعزل) أيضًا (بخروج أحدهما)، أي: الموكل والوكيل (عن أهلية التصرف) (بموت أو جنون) وإن لم يعلم به الآخر أو قصر زمن الجنون؛ لأنه لو قارن منع الانعقاد، فإذا طرأ أبطله، وخالف ابن الرفعة فقال: الصواب أن الموت ليس بعزل وإنما تنتهي به الوكالة".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 468) حيث قال: " (وتبطل الوكالة بموت الموكل، أو) بموت (الوكيل)؛ لأن الوكالة تعتمد الحياة فإذا انتفت انتفت صحتها لانتفاء ما تعتمد عليه وهو أهلية التصرف (لكن لو وكل ولي اليتيم وناظر الوقف أو عقد) ولي اليتيم أو ناظر الوقف (عقدًا جائزًا غيرها، كالشركة والمضاربة لم تنفسخ بموته؛ لأنه متصرف على غيره) ذكره في القواعد واقتصر عليه في الإنصاف ".
قوله: (فَمَتَى يَكُونُ الْوَكِيلُ مَعْزُولًا، وَالْوَكَالَةُ مُنْفَسِخَةً فِي حَقِّ مَنْ عَامَلَهُ فِي الْمَذْهَبِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ؛ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَنْفَسِخُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ بِالْمَوْتِ وَالْعَزْلِ)
(1)
.
أي: تنفسخ مطلقًا، وهذا أيضًا قول للشافعي
(2)
وأحمد
(3)
.
قوله: (وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَنْفَسِخُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْعِلْمِ).
معنى قوله: "بالعلم"، أي: إذا بلغه العلم بالموت أو العزل يحصل الفسخ. وهو أيضًا قول للإمام الشافعي
(4)
، ورواية للإمام أحمد
(5)
.
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (3/ 54) حيث قال: "وإذا مات الموكل على القول الذي يرى فيه أن الوكالة تنفسخ بموته ولم يعلم الوكيل بموته، أو عزل ولم يعلم بعزله فاختلف هل يكون معزولا بنفس الموت أو العزل أم لا على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن يكون معزولا بنفس الموت أو العزل .. وهذا قول ابن القاسم في كتاب الشركة من المدونة في الذي يحجر على وكيله فيقتضي من غرمائه بعد عزله وهم لا يعلمون بذلك إنهم لا يبرؤون بالدفع إليه وإن لم يعلم هو بعزله .... والثاني: أنه لا يكون معزولًا في حق أحد إلا بوصول العلم إليه فيكون معزولًا في حقه بوصول العلم إليه وفي حق من دفع إليه أو بايعه بوصول العلم إليه. وهذا قول مالك رحمه الله في أول كتاب الوكالات من المدونة
…
والثالث: أنه لا يكون الوكيل معزولًا إلا بوصول العلم إليه، فإذا وصل العلم إليه كان معزولًا في حقه وحق من اقتضى منه وبايعه. وهذا قول أشهب؛ لأنه قال إذا علم الوكيل بعزله ولم يعلم الغريم إنه ضامن بخلاف إذا لم يعلما. فإن قيل: إنه قد قال إنه ضامن أيضًا إذا علم وإن لم يعلم الوكيل فقيل إنه يكون معزولا في حقهما جميعًا بعلم أحدهما".
(2)
يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (6/ 38) حيث قال: "وأما ما تنفسخ به الوكالة حكمًا فالموت والجنون والإغماء، أمّا الموت فيبطل أملاكه ويمنع وقوع التصرف له ".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 468) حيث قال: " (وتبطل الوكالة بموت الموكل، أو) بموت (الوكيل)؛ لأن الوكالة تعتمد الحياة فإذا انتفت انتفت صحتها لانتفاء ما تعتمد عليه وهو أهلية التصرف.
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 52) حيث قال: (فإذا)(عزله الموكل في حضوره) بأن قال: عزلتك (أو قال) في حضوره أيضًا (رفعت الوكالة، أو أبطلتها) أو فسختها أو أزلتها أو نقضتها أو صرفتها (فإن عزله وهو غائب انعزل في الحال)؛ لأنه لم يحتج للرضا فلم يحتج للعلم كالطلاق.
(5)
يُنظر: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي (5/ 372 - 373) حيث =
قوله: (فَمَنْ عَلِمَ انْفَسَخَتْ فِي حَقِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ تَنْفَسِخْ فِي حَقِّهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَنْفَسِخُ فِي حَقِّ مَنْ عَامَلَ الْوَكِيلَ بِعِلْمِ الْوَكِيلِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ).
هذا التعليلُ عند المالكية، وقوله:"وإن لم يعلم هو" يعني: الوكيل.
قوله: (وَلَا تَنْفَسِخُ فِي حَقِّ الْوَكيلِ بِعِلْمِ الَّذِي عَامَلَهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ، وَلَكِنْ مَنْ دَفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا بَعْدَ الْعِلْمِ بِعَزْلِهِ ضَمِنَهُ
(1)
، لِأَنَّهُ دَفَعَ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَكيلٍ).
يعني: لو أن إنسانًا دفع لهذا الوكيل الذي عُزل شيئًا، فإنه يضمنه؛ لأنه عُزِل وهو غير مسؤول، ولهذا قال المصنف معلِّلًا عدم ضمانه: (لِأَنَّهُ دَفَعَ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ
…
).
قوله: (وَأَمَّا أَحْكَامُ الْوَكيلِ فَفِيهَا مَسَائِلُ مَشْهُورَةٌ).
ثم شرع المصنف رحمه الله في ذكر أحكام الوكيل، وينبغي التنبيه على أن المصنف رحمه الله سيذكر بعض الأحكام وشرك بعضها.
= قال: "قوله: (وهل ينعزل الوكيل بالموت والعزل قبل علمه؟ على روايتين)
…
إحداهما: ينعزل. وهو المذهب. وهو ظاهر كلام الخرقي. قال في المذهب، ومسبوك الذهب: انعزل في أصح الروايتين. وصححه في "الخلاصة". واختاره أبو الخطاب، والشريف، وابن عقيل. قال في "الفروع ": اختاره الأكثر. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: هذا أشهر. قال القاضي: هذا أشبه بأصول المذهب،
…
".
(1)
يُنظر: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي (5/ 373) حيث قال: فوائد منها: "ينبني على الخلاف: وتضمينه وعدمه. فإن قلنا: ينعزل ضمن، وإلا فلا. وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: لا يضمن مطلقًا. قلت: وهو الصواب؛ لأنه لم يفرط. ومنها: جعل القاضي، والمصنف، والشارح، وجماعة: محل الخلاف في نفس انفساخ عقد الوكالة قبل العلم. وجعل المجد، والناظم، وجماعة: محل الخلاف في نفوذ التصرف، لا في نفس الانفساخ. وهو مقتضى كلام الخرقي. قال الزركشي: وهذا أوفق للنصوص. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: والخلاف لفظي ".
ومن الأحكام التي لم يذكرها:
1 -
الاختلاف في ثبوت الوَكالة، فلو ادَّعى شخص على آخر بأنه وكَّله، وقال: لم أوكِّلْك. فالقول للموكِّل؛ لأن هذا ادعاء عليه ويفتقر إلى إثبات، ولا إثبات عنده، وعليه فإنه في هذه الحالة لم يوكِّله
(1)
.
2 -
الاختلاف فيما يتعلَّق بالبيع، فلو قال له: وكلتني بأن أبيع هذه الدار. فقال الموكل: بل وكلتك لتبيع دارًا غيرها. أو قال: وكلتني لأبيع مثلًا بألف. فباع بألفين فهذه يُقبل فيها قول الموكل
(2)
.
فهاتان مسألتان مهمتان لم يعرض لهما المصنِّف رحمه الله.
قوله: (أَحَدُهَا: إِذَا وُكِّلَ عَلَى بَيْعِ شَيْءٍ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ؟).
(1)
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 260) قال: " (وإذا اختلفا في أصلها) بأن قال: وكلتني في كذا فقال: ما وكلتك (أو صفتها بأن قال: وكلتني في البيع نسيئة أو الشراء بعشرين) مثلًا (فقال) الموكل: (بل نقدًا أو بعشرة صدق الموكل بيمينه)؛ لأن الأصل عدم الإذن فيما ذكره الوكيل؛ ولأن الموكل أعرف بحال الإذن الصادر منه، وصورة المسألة الأولى كما قال الفارقي: إذا كان بعد التصرف أم قبله فلا فائدة في الخصومة؛ لأنه إذا ادعى عليه فأنكر الموكل الوكالة انعزل فلا حاجة لقولنا: القول قوله بيمينه ".
ومذهب الحنابلة: ينظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 203) قال: " (و) إن قال وكيل لموكله (أذنت لي في البيع نساء) وأنكره فقول وكيل (أو) قال وكيل أذنت لي في البيع (بغير نقد البلد) أو بعرض وأنكره موكل فقول وكيل ".
(2)
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 260) قال: " (وزعم أن الموكل أمره) بالشراء بها (فقال) الموكل (بل) أذنت (بعشرة، و) لا بينة لواحد منهما أو لكل منهما بينة وتعارضتا (حلف) الموكل ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 203) قال: " (أو اختلفا)، أي: الوكيل والموكل (في صفة الإذن) بأن قال: وكلتني في شرائه بعشرة فقال الموكل: بل بخمسة أو وكلتني في شراء عبد قال: بل أمة أو أن أبيعه من زيد قال: بل من عمرو أو قال: موكل: أمرتك ببيعه نسيئة برهن أو ضامن وأنكره وكيل ولا بينة (ف) القول (قول وكيل)؛ لأنه أمين ".
وهاهنا مسألة مهمة من أحكام الوكيل، وهي إذا وكَّل إنسان آخرَ في بيع شيء فهل له أن يبيعه لنفسه؟ وأن يشتريه هو؟ كأن يوكِّل إنسان آخر، ليبيع له دارًا، فهل له أن يشتري تلك الدار لنفسه؟ سيأتي ذكر الخلاف في هذه المسألة.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: "يَجُوزُ")
(1)
.
وهي كذلك رواية للإمام أحمد
(2)
، لكن الإمام أحمد قيَّد ذلك بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون المنادي غير هذا الوصي، والمراد بالمنادي، أي: مَن يعلن عن البيع ويعرض السلعة للبيع، فكأنه كالذي ينادي على السلعة: من يشتري هذه السلعة؟
الشرط الثاني: أن يشتريها بثمن أكثر من ثمنها وقت الإعلان عنها، أي: وقت النداء؛ حتى لا يتهم بأنه بر نفسه بذلك.
قوله: (وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ: لَا يَجُوزُ
(3)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:"لَا يَجُوزُ"
(4)
).
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (6/ 402) حيث قال: "قال القرطبي في تفسير سورة البقرة، في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220]، اختلف هل له أن يشتري لنفسه من مال يتيمه، فقال مالك: يشتري في مشهور الأقوال ". وانظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 216).
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 85) حيث قال: "يجوز لهما -أي: للوكيل والوصي- أن يشتريا بشرطين؛ أحدهما: أن يزيدا على مبلغ ثمنه في النداء، والثاني: أن يتولى النداء غيره .. ". فالغاية من اشتراط الشرطين انتفاء التهمة، وعدم محاباة النفس في تقدير الثمن.
(3)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (6/ 402) حيث قال: "والقول الثاني: أنه لا ينبغي أن يشتري مما تحت يده شيئًا لما يلحقه من التهمة إلا أن يكون البيع في ذلك بيع سلطان في ملأ من الناس ".
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 318) قال: " (ولا يبيع لنفسه) وإن أذن له وقدر له الثمن ونهاه عن الزيادة خلافًا لابن الرفعة وقوله اتحاد الطرفين عند انتفاء التهمة =
وهو قول أبي حنيفة
(1)
، وهي الرواية المشهورة عن الإمام أحمد
(2)
.
إذًا القول الثاني هو قول الجمهور، أنه لا يجوز للموكَّل أن يشتري لنفسه، حتى لو توفَّر الشرطان المذكوران آنفًا؛ قالوا: لأن شراءه لنفسه محل تُهمة وينبغي للمسلم أن يترفع عنها، وأن يتوقَّى مواطن الريبة لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"دَعْ ما يُريبك إلى ما لا يُريبك"
(3)
، فينبغي ألَّا يوقع المسلم نفسه في مثل هذا الأمر.
قوله: (وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ)
(4)
.
فالوصيُّ مثل الوكيل تمامًا عند الإمام أحمد
(5)
.
لكن أبا حنيفة رحمه الله تعالى خالفَ في الوصيِّ ولم يجعله كالوكيل، فجوَّز أبو حنيفة رحمه الله لوصيِّ اليتيم أن يشتري لنفسه ما يبيعه
= جائز بعيد من كلامهم؛ لأن علة منع الاتحاد ليست التهمة بل عدم انتظار الإيجاب والقبول من شخص واحد".
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 28) حيث قال: "وليس للوكيل بالبيع أن يبيع من نفسه؛ لأن الحفوق تتعلق بالعاقد فيؤدي إلى أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلمًا ومتسلمًا، مطالبًا ومطالبًا وهذا محال، وكذا لا يبيع من نفسه، وإن أمره الموكل بذلك لما قلنا؛ ولأنه متهم في ذلك ".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 84) حيتَ قال: "وشراء الوكيل من نفسه غير جائز
…
وجملة ذلك أن من وكل في بيع شيء، لم يجز له أن يشتريه من نفسه، في إحدى الروايتين. نقلها. مهنا. وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ".
(3)
أخرجه الترمذي (2518) وغيره، عن أبي الحوراء السعدي، قال: قلت للحسن بن علي: ما حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(12).
(4)
يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي الكلبي (ص 216) حيث قال: "ويجوز للوكيل والوصي أن يشتريا لأنفسهما من مال الموكل واليتيم إذا لم يحابيا أنفسهما".
(5)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 84) حيث قال: "وشراء الوكيل من نفسه غير جائز ..... وكذلك الوصي لا يجوز أن يشتري من مال اليتيم شيئًا لنفسه، في إحدى الروايتين. وهو مذهب الشافعي. وحكي عن مالك، والأوزاعي جواز ذلك فيهما".
لمصلحة وصيِّه إذا أتى بثمن أكثر؛ لأنه في مصلحة اليتيم
(1)
.
فالله سبحانه وتعالى حذَّر من الاقتراب من مال اليتيم إلا بما فيه مصلحته، ولا شكَّ أنه إذا اشترى السِّلعة التي هي حق اليتيم بأكثر من ثمنها، أنه يكون خيرًا لليتيم وأنفع له وأجدى عليه، فيكون ذلك موافقًا لقول الله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ولا شكَّ أن هذا تعليل طيِّب.
قوله: (وَمِنْهَا إِذَا وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ وَكَالَةً مُطْلَقَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَبِيعَ إِلَّا بِثَمَنِ مِثْلِهِ نَقْدًا بِنَقْدِ الْبَلَدِ، ولَا يَجُوزُ إِنْ بَاعَ نَسِيئَةً، أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ بِغَيْرِ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ فِي الشِّرَاءِ).
هذا عند الجمهور: كمالك
(2)
، والشافعي
(3)
، ....................
(1)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (6/ 211 - 212) حيث قال: "إذا اشترى شيئًا من مال اليتيم لنفسه، أو باع شيئًا منه من نفسه جاز عند أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهما الله، إذا كان لليتيم فيه منفعة ظاهرة، .. ، وأما إذا لم يكن فيه منفعة ظاهرة لليتيم فلا يجوز
…
هذا في وصي الأب، وأما وصي القاضي فلا يجوز بيعه من نفسه بكل حال؛ لأنه وكيله، وللأب أن يشتري شيئًا من مال الصغير لنفسه إذا لم يكن فيه ضرر على الصغير، بأن كان بمثل القيمة أو بغبن يسير". انظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 136).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 382) حيث قال: " (وتعين) على الوكيل (في) التوكيل (المطلق) لبيع أو شراء (نقد البلد و) تعين (لائق) أي: شراؤه (به) أي: بالموكل (إلا أن يسمي الثمن)، فإن سماه بأن قال له: اشتر لي ثوبًا بعشرة وكانت العشرة لا تفي بما يليق به (فتردد) في جواز شراء ما لا يليق وعدم جوازه (و) تعين (ثمن المثل) في البيع والشراء (وإلا) بأن خالف نقد البلد التي بها البيع والشراء أو اشترى ما لا يليق أو باع أو أشترى بغير ثمن المثل (خير) الموكل بين القبول والرد إلا أن يكون ما خالف فيه شيئًا يسيرًا يتغابن الناس بمثله فلا كلام للموكل ".
(3)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (4/ 314 - 316) وما بعدها حيث قال: "الصورة الخامسة: في امتثال تقييد الموكل. والصور المذكورة من أول الباب إلى هنا مفروضة في التوكيل المطلق، ومن هنا إلى آخره في التوكيل المقرون بتقييد. وحاصله: أنه يجب مراعاة تقييد الموكل، ورعاية المفهوم منه بحسب العرف ...... لو قال: بع =
وأحمد
(1)
.
قوله: (وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِمُعَيَّنٍ، فَقال:"يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَبِيعَ بِغَيْرِ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَأَنْ يَبِيعَ نَسِيئَةً، وَلَمْ يَجُزْ إِذَا وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ إِلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ نَقْدًا"
(2)
).
لأن أبا حنيفة يرى بأن الوكيل حلَّ محلّ الموكِّل، فله أن يتصرَّف كما يتصرف موكِّلُه.
والجمهور يرون أنه لا يتصرف إلا في حدود ما تعاقدَا عليه، ليس له أن يتصرف في مزيدٍ عليه، فالبيع نسيئة ليس كالبيع نقدًا، والبيع بنقد مختلف ليس كالبيع بنقد البلد؛ لأن هذا فيه مخالفة، فما دام الوكيل لم يأذن له فلا يجوز.
قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْوَكَالَةِ عَلَى
= ثوبي، ولا تبعه بأكثر من مائة، لم يبعه بأكثر من مائة، ويبيع بها وبما دونها ما لم ينقص عن ثمن المثل. ولو قال: بعه بمائة، ولا تبعه بمائة وخمسين، فليس له بيعه بمائة وخمسين، ويجوز بما دون ذلك ما لم ينقص عن مائة، ولا يجوز بما زاد على مائة وخمسين على الأصح ".
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 477) حيث قال: " (وإن وكله في بيع شيء فباع) الوكيل (بعضه بدون ثمن الكل لم يصح) البيع؛ لأنه غير مأذون فيه ولما فيه من الضرر أشبه ما لو وكله في شراء شيء فاشترى بعضهما (ما لم يبع) الوكيل (الباقي) من العبد فإن باعه صح، وعلى هذا فالبيع الأول موقوف إن باع الباقي تبين صحته، وإلا تبين بطلانه ولم أره صريحًا (أو يكن) المبيع (عبيدًا أو صبرة ونحوهما فيصح) بيعه (مفرقًا)؛ لأنه العرف (ما لم يأمره) الموكل (ببيعه صففة واحدة) فلا يخالفه ".
(2)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (4/ 271) حيث قال: " "(وتقيد شراؤه بمثل القيمة وزيادة يتغابن الناس فيها وهو ما يدخل تحت تقويم المقومين)، أي: تقيد شراء الوكيل بمثل القيمة حتى لا يجوز شراؤه بالغبن الفاحش وهذا بالإجماع والفرق لأبي حنيفة رحمه الله قد ذكرناه وفرق آخر أن أمره بالبيع يلاقي ملك نفسه وفي الشراء ملك غيره وله في ملك نفسه ولاية مطلقة فاعتبر إطلاقه وليس له ولاية في ملك غيره فلم يعتبر فحملناه على أخص الخصوص وهو الشراء بالنقد وبمثل القيمة".
شِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ حُجَّتِهِ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَبِيعُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ وَنَسَاءً لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا فِي ذَلِكَ كلِّهِ، كَذَلِكَ حُكْمُ الْوَكيلِ؛ إِذْ قَدْ أَنْزَلَهُ مَنْزِلَتَهُ).
هذا ما ذكرناه آنفًا، من كونه يرى أن الوكيل حلَّ محله وقام مقامه، فيجوز أن يتصرف بحسب ما يراه أصلح وأنفع.
لكن الجمهور قالوا بعدم الجواز، فالوكيل فرع والموكِّل أصل، وهذا نائب وذاك هو صاحب الحق وتصرفه أوسَع، فما دام لم يأذن له في ذلك فليس له أن يفعل. ولا شكَّ أن مذهب الجمهور أقوى وكذلك هو أحوط.
قوله: (وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَبْيَنُ).
وفيه ترجيح المصنف قولَ الجمهور على ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى.
قوله: (وَكُلُّ مَا يَعْتَدِي فِيهِ الْوَكِيلُ ضُمِّنَ عِنْدِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ تَعَدَّى)
(1)
.
إذا ثبت تعدِّيه فإنه يضمن، وإلا فلا؛ لأن الأصل في الوكيل أنه أمين، وكذلك صاحب الوديعة؛ إذ لو كان الوكيل أو المودع عنده سيضمن ما يحصل دون أن يتعدَّى ويفرِّط تفريطًا ظاهرًا؛ فحينئذ سيتهرب الناس من الوكالات ومن تحمل الأمانات، وحينئذٍ تتوقَّف مثل هذه الأبواب ويفوت العبادَ مصالحُ كثيرة ومنافع متعددة بتوقفها.
(1)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (4/ 325) حيث قال: "للوكالة حكم الأمانة. فيد الوكيل يد أمانة، فلا يضمن ما تلف في يده بلا تفريط، سواء كان بجعل، أو متبرعًا، فإن تعدى، بأن ركب الدابة، أو لبس الثوب، ضمن قطعًا، ولا ينعزل عن المذهب، بل يصح تصرفه، وإذا باع وسلم المبيع، زال عنه الضمان؛ لأنه أخرجه من يده بإذن المالك ".
ولكي تحصل المصلحة المرجوَّة من الوكالة فلا بد أن يكون الوكيل أمينًا
(1)
، وكذلك الأصل في الموكِّل ألا يختار إلا إنسانًا معروفًا بأمانته، موثوقًا به عند الناس، صاحب دين وخلق، أما إن وكَّل من لا تتوفر فيه مثل هذه الصفات؛ فهو حينئذٍ لا يبعد أن يحصل شيء من التفريط أو التعدِّي.
قوله: (وَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ شَيْئًا وَأُعْلِمَ أَنَّ الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ فَالْمِلْكُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُوَكِّلِ)
(2)
.
(1)
اتفق الفقهاء على أن الوكيل أمين على ما تحت يده من أموال لموكله فهي بمنزلة الوديعة. وعلى ذلك فلا ضمان على الوكيل لما يهلك منها إلا إذا تعدى أو فرط.
مذهب الحنفية، يُنظر:"روضة القضاة" لابن السِّمناني (2/ 659) حيث قال: "والوكيل أمين فيما في يده، والقول قوله في ضياع المال وتلفه ورده على صاحبه؛ لأنه نائب عن الموكل في اليد والتصرف ".
مذهب المالكية، يُنظر:"عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 831) حيث قال: "للوكالة ثبوت حكم الأمانة للوكيل؛ لأن يده أمانة في حق الموكل حتى لا يضمن ما تلف بغير تعد ولا تفريط، سواء كان وكيلًا بجعل أو بغير جعل ".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" الشربيني (3/ 254) حيث قال: " (ويد الوكيل يد أمانة، وإن كان بجعل) لأنه نائب عن الموكل في اليد والتصرف فكانت يده كيده، وأن الوكالة عقد إرفاق ومعونة والضمان مناف لذلك ومنفر عنه فلا يضمن ما تلف في يده بلا تعد. (فإن تعدى) في العين بلبس أو ركوب أو نحو ذلك (ضمن) بخلاف ما لو تلف بلا تعد كغيره من الأمناء فيهما، ومن التعدي أن يضيع منه ولا يدري كيف ضاع ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 484) حيث قال: " (والوكيل أمين لا ضمان عليه) (فيما تلف في يده من ثمن ومثمن وغيرهما بغير تفريط ولا تعد)؛ لأنه نائب المالك في اليد والتصرف فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد المالك كالمودع (سواء كان) بجعل (أم لا) ".
(2)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 611) قال: "إذا وكله في ابتياع شيء فابتاعه له على الصفة التي وكله عليها، فذكر أنه ابتاعه لموكله، فإن الملك ينتقل إلى الموكل دون الوكيل
…
فدليلنا هو أنه توكيل في معاوضة فإذا صح العقد الموكل لم ينتقل إلى ملك الوكيل كالتوكيل في النكاح، ولأنه مبتاع لغيره، فإذا لوم الابتياع الغير لم ينتقل الأيه كالحاكم إذا ابتاع لليتيم ".
وهو كذلك عند الشافعي
(1)
وأحمد
(2)
، فهو رأي الجمهور.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: "إِلَى الْوَكيلِ أَوَّلًا ثُمَّ إِلَى الْمُوَكِّلِ").
يعني: أن أبا حنيفة يرى أنه يمرُّ بمرحلتين، فهو اشترى هذه السلعة فينبغي أن تكون له أولًّا ثم تنتقل للموكل.
والجمهور يقولون: إن ذلك ليس صحيحًا، فهو إنما يتصرف في حقِّ الموكِّل، وقد اشترى للموكل لا لنفسه، فحينئذ لا حاجة لهذه الواسطة.
قوله: (وَإِذَا دَفَعَ الْوَكيلُ دَيْنًا عَنِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يُشْهِدْ فَأَنْكَرَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ الْقَبْضَ؛ ضَمِنَ الْوَكيلُ)
(4)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للرافعي (11/ 62) قال: "الكلام في العهده ونقدم عليه أصليين (أحدهما): الوكيل بالشراء إذا اشترى لموكله ما وكله بشرائه فالملك يثبت للوكيل ثم ينتقل إلى الموكل أم يثبت للموكل ابتداء فيه وجهان لابن سريج
…
(وأصحهما) أنه يثبت للموكل ابتداء كما لو اشترى الأب للطفل يثبت الملك للطفل ابتداء، ولأنه لو ثبت للوكيل لعتق عليه أبوه إذا اشتراه لموكله ولا يعتق ".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 472) قال: " (وحقوق العقد) كتسليم الثمن وقبض المبيع، وضمان الدرك، والرد بالعيب ونحوه (متعلقة بالموكل؛ لأن الملك ينتقل إليه)، أي: الموكل (ابتداء ولا يدخل) المبيع (في ملك الوكيل) ".
(3)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (5/ 514) قال: " (والملك يثبت للموكل ابتداء) في الأصح (فلا يعتق قريب الوكيل بشرائه ولا يفسد نكاح زوجته به) ".
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"درر الحكام" لملا خسرو (2/ 293) قال: " (وكل) بصيغة المجهول، أي: جعل رجل وكيلا (بقبض مال وادعى الغريم قبض دائنه دفع)، أي: الغريم (إليه)، أي: إلى الوكيل يعني: يجبر على دفعه إليه لأن وكالته ثبتت بقوله أخذه رب المال حيث لم ينكر الوكالة وادعى الإيفاء، وفي ضمن دعواه إقرار بالدين وبالوكالة، وإذا كان إقرارًا تثبت الوكالة في زعمه ولم يثبت الإيفاء بمجرد دعواه فيؤمر بالدفع إليه (واستخلف) أي: الغريم (دائنه على عدم القبض)؛ لأن قبضه يوجب براءة ذمته فإذا عجز عن إقامة البينة يستحلفه (لا الوكيل على عدم علمه بقبض الموكل)؛ إذ لا تجري النيابة في اليمين ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (3/ 390 - 391) =
يعني: لو أن الوكيل دفع دينًا لشخص له حق على الموكِّل فينبغي عليه أن يأخذ وثيقة على ذلك، أو أن يُشهد، فإن لم يفعل فقد فرَّط وضيَّع حق موكّله، فلو أنكر الدائن أنه استوفى حقَّه؛ فحينئذِ يضمن الوكيل لكونه فرط.
قال المصنف رحمه الله:
(الْبَابُ الثَّالِثُ: مُخَالَفَةُ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكيلِ)
(وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْوَكيلِ مَعَ الْمُوَكِّلِ).
ثم شرع المصنف رحمه الله في ذكر المسائل التي يختلف فيها الموكل مع الوكيل، ونشيرُ إلى أنه لم يورد المسألتين اللتين سبق أن ذكرناهما مما يختلف فيه الموكل مع وكيله، وهما:
1 -
الاختلاف في ثبوت الوكالة.
= قال: " (وضمن) الوكيل مطلقًا مفوضًا أو لا (إن أقبض الدين) الذي على موكله لربه (ولم يشهد) على القابض وأنكر أو مات أو غاب وسواء جرت العادة بالإشهاد أو بعدمه أو لم تجر عادة على المذهب ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 349 - 350) قال: " (ولو) أعطاه موكله مالًا و (وكله بقضاء دين) عليه به (فقال قضيته وأنكر المستحق) دفعه إليه (صدق المستحق بيمينه)؛ لأن الأصل عدم القضاء فيحلف ويطالب الموكل فقط (والأظهر أنه لا يصدق الوكيل على الموكل) فيما قال (إلا ببينة) أو حجة أخرى".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 200) قال: " (ومن وكل) غيره (ولو) كان الوكيل (مودعا في قضاء دين فقضاه ولم يشهد) الوكيل بالقضاء (وأنكر غريم)، أي: رب دين القضاء لم يقبل قول وكيل عليه؛ لأنه لم يأتمنه وكما لو ادعاه الموكل، و (ضمن) وكيل لموكله ما أنكره رب الدين لتفريطه بترك الإشهاد ولهذا إنما يضمن (ما ليس بحضرة موكل) ".
2 -
والاختلاف فيما يتعلق بالمبيع.
قوله: (قَدْ يَكُونُ فِي ضَيَاعِ الْمَالِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْوَكيلِ).
وضياع المال قد يكون عن طريق تعريضه للتَّلف، والتلف قد يحصل نتيجة تفريط وإهمال، كأن تكون للموكل رؤوسًا من بهيمة الأنعام ثم يهملها الوكيل دون أن يقوم على شأنها ويهيئ لها ما يصلحها كأن يجلب لها الأكل والشرب، فحينئذٍ قد يهلك بعضها، فهذا من ضياع المال الناتج عن إهمال الوكيل الذي أدَّى إلى تلفه.
وربما كان أيضًا بتفريط من الوكيل، والتفريط قد يكون أنه لم يضعْه في الحرز الذي ينبغي أن يوضع فيه مثله، أو وضعه حيث يسهل التوصل إليه، فحينئذ يكون مفرطًا.
وربما يكون أيضًا في الضياع، وهذا الضياع أيضًا هل حصل فيه تفريط أو لا؟
قوله: (وَقَدْ يَكُونُ فِي دَفْعِهِ إِلَى الْمُوَكِّلِ).
وربما يكون دفع المال إلى الموكِل، وقال: لم يصلني، فمن يقبل قوله في هذا؟
قوله: (وَقَدْ يَكُونُ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ بِهِ أَوِ اشْتَرَى إِذَا أَمَرَهُ بِثَمَنٍ مَحْدُودٍ).
كأن يقول له: أذنت لك أن تشتري بخمسة آلاف. فاشترى بعشرة.
قوله: (وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَثْمُونِ).
يعني: الاختلاف في السلعة التي دُفع الثمن فيها، فقد يقول: ما طلبت هذه السلعة، إنما طلبت غيرها.
قوله: (وَقَدْ يَكُونُ فِي تَعْيِينِ مَنْ أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ).
كأن يكون عيَّن شخصًا بأن يدفع إليه مبلغًا أو حقًّا، ثم هو غيَّر ذلك.
قوله: (وَقَدْ يَكُونُ فِي دَعْوَى التَّعَدِّي. فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي ضَيَاعِ الْمَالِ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: ضَاعَ مِنِّي، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: لَمْ يَضِعْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْهُ بِبَيِّنةٍ)
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:""الفتاوى الهندية" لنظام الدين البلخي (3/ 567) حيث قال: "أنه أمين فيما في يده كالمودع فيضمن بما يضمن به المودع ويبرأ به، والقول قوله في دفع الضمان عن نفسه، فلو دفع له مالًا، وقال: اقضه فلانًا عن ديني فقال: قضيته وكذبه صاحب الدين فالقول للوكيل في براءة الذمة، وللدائن في عدم قبضه فلا يسقط دينه كذا في "البحر الرائق "، ولا تجب اليمين عليهما، وإنما تجب على الذي كذبه دون الذي صدقه، فإن صدق المأمور في الدفع، فإنه يحلف الآخر بالله ما قبض، فإن حلف لا يسقط دينه ولم يظهر القبض، وإن نكل ظهر قبضه ويسقط عن الآمر دينه، وإن صدق الآمر أنه لم يقبضه وكذب المأمور، فإنه يحلف المأمور خاصة لقد دفعه إليه، فإن حلف برئ، وإن نكل لزمه ما دفع إليه ".
مذهب المالكية، يُنظر:"عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 832) حيث قال: "فإذ قال: تصرفت كما أذنت [بي] من بيع (أو) غيره، فقال الموكل بعد: لم تتصرف، فالقول قول الوكيل؛ لأنه أمين. ويلزم (الآمر) التصرف؛ لأنه قد أقر بالوكالة. وكذلك لو ادعى تلف رأس المال لكان القول قوله؛ لأنه ينبغي دفع الضمان عن نفسه. وكذلك إذا ادعى رد المال، سواء كان بجعل أو بغير جعل ".
مذهب الشافعية، يُنظر:"حاشية الجمل على شرح المنهج"(3/ 416) حيث قال: " (قوله: ويصدق بيمينه في دعوى التلف)، أي، ولا ضمان عليه، وهذا هو غاية التصديق هنا، وإلا فنحو الغاصب يقبل فيه قوله بيمينه لكنه يضمن البدل اهـ. (قوله: ويصدق بيمينه في دعوى التلف والرد) سواء في ذلك أكان قبل العزل أم بعده كما اقتضاه إطلاقهما خلافًا لابن الرفعة والسبكي في عدم قبول ذلك منه بعده، ومحل قبول قوله في الرد ما لم تبطل أمانته فلو طالبه الموكل فقال: لم أقبضه منك، فأقام الموكل بينة على قبضه فقال الوكيل: رددته إليك أو تلف عندي ضمنه، ولا يقبل قوله في الرد لبطلان أمانته بالجحود وتناقضه، وكالوكيل فيما مر ما لو ادعى الجابي تسليم ما جباه على من استأجره للجباية" اهـ. وانظر: "روضة الطالبين" للنووي (4/ 342).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (5/ 75) حيث قال: "إذا اختلف الوكيل والموكل، لم يخل من ستة أحوال: أحدها، أن يختلفا في التلف، فيقول الوكيل تلف مالك في يدي، أو الثمن الذي قبضته ثمن متاعك تلف في يدي. فيكذبه الموكل. فالقول قول الوكيل مع يمينه؛ لأنه أمين، وهذا مما يتعذر إقامة البينة عليه، فلا يكلف ذلك كالمودع ".
وهو مذهب جماهير العلماء. فالأئمة كلُّهم متَّفقون على هذا؛ لأن الأصل في الوكيل أنه أمين، فينبغي أن يُصدَّق؛ لأن الموكل عندما اختاره كان واثقًا به، وغلب على ظنه كونه أمينًا، ودفع إليه ماله، فلا ينبغي أن يضيق به، ويحمله ضمان ماله ما دام لم يتعد أو يفرط.
قوله: (فإِنْ كَانَ الْمَالُ قَدْ قَبَضَهُ الْوَكيلُ مِنْ غَرِيمِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يُشْهِدِ الْغَرِيمُ عَلَى الدَّفْعِ لَمْ يَبْرَأ الْغَرِيمُ بِإِقْرَارِ الْوَكيلِ عِنْدَ مَالِكٍ
(1)
وَغَرِمَ ثَانِيَةً، وَهَلْ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكيلِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَإِنْ كانَ قَدْ قَبَضَهُ بِبَيِّنَةٍ بَرِئَ وَلَمْ يَلْزَمِ الْوَكِيلَ شَيْءٌ، وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي الدَّفْعِ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: لَا، فَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكيلِ، وَقِيلَ: القَوْلُ قَوْلُ المُوَكِّلِ، وَقِيلَ: إِنْ تبَاعَدَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيل).
وهذا هو رأي جمهور العلماء؛ لأنه كما قلنا أمينٌ في مثل هذه الأمور فينبغي أن يُصدَّق، ما لم يُعرف عنه تلاعب أو تعدٍّ.
(1)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (6/ 401) حيث قال: " (ولو قال) الوكيل (غير المفوض) إليه في التصرف لموكله بأن وكله على شيء خاص كقبض دين أو ثمن أو مثمن ومفعول قال: (قبضت) ما وكلت على قبضه (وتلف) ما قبضته بلا تعد ولا تفريط (برئ) الوكيل فلا يغرم عوضه لموكله لأنه أمينه (ولم يبرأ) الشخص (الغريم) الذي أقبض الوكيل ما كان عنده للموكل من دين أو ثمن أو مثمن أو وديعة أو رهن لاحتمال كذب الوكيل وتواطئه مع الغريم في كل حال إلا (ببينة) تشهد للغريم بمعاينة قبض الوكيل منه ما كان عنده للموكل، .... قال الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه-: من وكل رجلًا يقبض له دينًا على رجل فقال قبضته وضاع مني، أو قال: برئ إلي من المال، وقال الرجل: دفعته إليه لم يبرأ الدافع إلا أن يقيم بينة أنه دفعه إليه أو يأتي الوكيل بالمال إلا أن يكون الوكيل مفوضًا إليه أو وصيًّا فهو مصدق، بخلاف وكيل مخصوص ".
قوله: (وَأَما اخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ الَّذِي بِهِ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
(1)
: "إِنْ لَمْ تَفُتِ السِّلْعَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ فَانَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ ").
يعني: إذا فوَّضه بأن يشتري فقال له: اشترِ بألف. فاشترى بألفين، فالجمهور على أن القول قول الموكل هنا.
قوله: (وَقِيلَ: يَتَحَالَفَانِ، وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَيَتَرَاجَعَانِ، وَإِنْ فَاتَتْ بِالْقِيمَة. وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ فِي الْبَيْعِ، فَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ
(2)
أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ).
وهذا أيضًا هو قول أكثر العلماء
(3)
، ...........................
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (6/ 409) قال: "قال ابن القاسم في اختلاف المتبايعين، ولم تفت السلعة: فمن نكل منهما، فالقول قول من حلف، وإن نكلا أو حلفا، نقض البيع، وإن فاتت، فنكل المبتاع، حلف البائع، وأخذ ما قال، فإن نكل أيضًا، أخذ ما قال المبتاع بلا يمين ".
(2)
تقدم عنه ذلك.
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 29) قال: "ومثال الثاني إذا قال: له اشتر لي جارية بألف درهم، فاشترى جارية بأكثر من الألف، تلزم الوكيل دون الموكل؛ لأنه خالف أمر الموكل، فيصير مشتريًا لنفسه. ولو قال: اشتر لي جارية بألف درهم، أو بمائة دينار، فاشترى جارية بما سوى الدراهم والدنانير، لا تلزم الموكل إجماعًا؛ لأن الجنس مختلف، فيكون مخالفًا ولو قال: اشتر لي هذه الجارية بمائة دينار، فاشتراها بألف درهم، قيمتها مائة دينار ذكر الكرخي أن المشهور من قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أنه لا يلزم الموكل؛ لأن الدراهم والدنانير جنسان مختلفان حقيقة، فكان التقييد بأحدهما مفيدًا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (3/ 382) قال: " (وتعين) على الوكيل (في) التوكيل (المطلق) لبيع أو شراء (نقد البلد و) تعين (لائق)، أي: شراؤه (به)، أي: بالموكل (إلا أن يسمي الثمن)، فإن سماه بأن قال له: اشتر لي ثوبًا بعشرة وكانت العشرة لا تفي بما يليق به (فتردد) في جواز شراء ما لا يليق وعدم جوازه (و) تعين (ثمن المثل) في البيع والشراء (وإلا) بأن خالف نقد =
ومنهم الحنابلة
(1)
.
قوله: (لِأَنَّهُ جَعَلَ دَفْعَ الثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِ السِّلْعَةِ فِي الشِّرَاءِ. وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِيمَنْ أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ فَفِي الْمَذْهَبِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَأْمُورِ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الآمِرِ. وَأَمَّا إِذَا فَعَلَ الْوَكيلُ فِعْلًا هُوَ تَعَدٍّ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ أَمَرَهُ، فَالْمَشْهُورُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ).
وهذا أيضًا مشهور عند الحنابلة.
قوله: (وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَكيلِ: إِنَّهُ قَدْ أَمَرَهُ؛ لِأنَّهُ قَدِ ائْتَمَنَهُ عَلَى الْفِعْلِ).
وهذا قول غير مشهور.
= البلد التي بها البيع والشراء أو اشترى ما لا يليق أو باع أو اشترى بغير ثمن المثل (خير) الموكل بين القبول والرد إلا أن يكون ما خالف فيه شيئًا يسيرًا يتغابن الناس بمثله فلا كلام للموكل ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 252) قال: " (ولو قال اشتر بهذا الدينار شاة ووصفها) بصفة (فاشترى به شاتين بالصفة) المشروطة (فإن لم تساوي واحدة) منهما (دينارًا لم يصح الشراء للموكل)، وإن زادت قيمتهما جميعًا على الدينار لفوات ما وكل فيه (وإن ساوته) أو زادت عليه (كل واحدة) منهما (فالأظهر الصحة) للشراء (وحصول الملك فيهما للموكل) لحديث عروة السابق في بغ الفضولي؛ ولأنه حصل غرضه وزاد خيرًا كما لو قال: بع بخمسة دراهم، فباعه بعشرة منها، وليس له بيع إحداهما ولو بدينار ليأتي به وبالأخرى إلى الموكل ".
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 477) قال: " (أو قال) الموكل (اشتر لي شاة بدينار فاشترى) الوكيل (به)، أي: الدينار (شاتين تساوي إحداهما دينارًا أو اشترى) الوكيل (شاة تساوي دينارًا بأقل منه صح) الشراء. (وكان) الزائد (للموكل) ".
[كِتَابُ اللُّقَطَةِ]
(1)
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَالنَّظَرُ فِي اللُّقَطَةِ فِي جُمْلَتَيْنِ؛ الْجُمْلَةُ الْأُولَى: فِي أَرْكَانِهَا. وَالثَّانِيَةُ: فِي أَحْكَامِهَا).
هذا كتاب جديد، عُنوِن له بـ (كتاب اللقطة)، والمشهور أن يقال (اللقَطة) بالفتح، وهناك من يقول (اللقْطة)
(2)
، ويراد بها: المال أو العروض الذي ضاع من صاحبه فأخذه غيره.
(1)
اللقطة في اللغة: "من لقط أي أخذ الشيء من الأرض، وكل نثارة من سنبل أو ثمر لقط ". انظر: "لسان العرب " لابن منظور (7/ 392 - 393).
وشرعًا: مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين""رد المحتار"(4/ 275) حيث قال: "مال يوجد ضائعًا، أو الشيء الذي تجده ملقى فتأخذه ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (8/ 35) حيث قال: "اللقطة عبارة عن مال معصوم عرض للضياع كان في عامر البلد أو غامرها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 576) حيث قال: "ما وجد في موضع غير مملوك من مال أو مختص ضائع من مالكه بسقوط أو غفلة ونحوها لغير حربي ليس بمحرز ولا ممتنع بقوته ولا يعرف الواجد مالكه ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 209) حيث قال: "اسم لما يلتقط من مال ضائع أو مختص ضائع كالساقط من ربه بغير علمه ".
(2)
يُنظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي " للأزهري (ص 176) حيث قال: "روى الليث عن مظفر عن الخليل أنه قال: اللقطة الذي يلقط الشيء بتحريك القاف، واللقطة ما يلتقط بسكون القاف ".
أما إن كانت في حيوان فتسمى (ضالة)؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن ضالة الغنم قال: "هي لك أو لأخيك أو للذئب "، ولما سئل عن ضالة الإبل قال:"ما لك ولها، معها سقائها وحذائها"
(1)
، وسوف يأتي الكلام عن هذا الحديث.
قوله: (الْجُمْلَةُ الْأُولَى وَالْأَرْكَانُ ثَلَاثَةٌ: الِالْتِقَاطُ، وَالْمُلْتَقِطُ، وَاللُّقَطَةُ).
"الالتقاط ": بمعنى أخَذَ اللقطة، أيْ: وجدَ ضالة دراهم فأخذها.
"وَالْمُلْتَقِطُ " الذي يأخذ ذاك الشيء.
"وَاللُّقَطَةُ" هي الضالة التي وُجِدَت.
قوله: (فَأَمَّا الِالْتِقَاطُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ أَفْضَلُ أَمِ التَّرْكُ؟)
(2)
.
مثل مَن وجَد مالًا أو سلعةً سواءً كان في الصحراء أو في أرضٍ عامرة، كالمدن والقُرى، فهل له أن يلتقط ذلك أم يتركه أفضل، بل هل يجب الالتقاط أم يُكره؟
فَمِن العلماء من كره -كما سيذكر المؤلف- كمالك وأحمد، ومنهم من استحب ذلك وهم الحنفية والشافعية، ولكل منهم أدلة وحُجَج يتمسك بها.
قوله: (فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: الْأَفْضَلُ الِالْتِقَاطُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَاجِبِ
(1)
أخرجه البخاري (2428)، ومسلم (1722).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 245) حيث قال: "فمنها اختلافهم في الأفضل من أخذ اللقطة أو تركها".
(3)
يُنظر: "تبيين الحقائق" لفخر الدين الزيلعى (ص 3/ 301) حيث قال: "قال رحمه الله (لقطة الحل والحرم أمانة إن أخذها ليردها على ربها وأشهد)؛ لأن الأخذ على هذا الوجه مأذون فيه شرعًا بل هو الأفضل عند عامة العلماء ويجب إذا خاف ضياعه ".
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْفَظَ مَالَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
).
قالوا: ولاية المؤمن على المؤمن أن يحافظ على الحقوق، ويأتي المال في مقدمة الحقوق، فإذا وجدت مالًا ساقطًا على الأرض، وتجد في نفسك الأمانة والحفاظ عليه؛ فخُذْهُ، وجوبًا على مذهب الشافعي في رواية، وليس أبا حنيفة.
قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ
(2)
وَجَمَاعَةٌ بِكَرَاهِيَةِ الِالْتِقَاطِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
(3)
وَابْنِ عَبَّاسٍ
(4)
، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ
(5)
).
انقسم العلماء قسمين: ففريق يرى أفضلية الالتقاط، وآخر يرى الكراهة، وسبب الخلاف هو الحق الضائع الذي تراه على الأرض، كيف تتركه لغيرك ممن قد يكون غير أمين؛ فيستولي عليه!
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 318) حيث قال: " (يستحب الالتقاط لواثق بأمانة نفسه) لما فيه من البر، بل قال جمع يكره تركه لئلا يقع في يد خائن (وقيل: يجب)؛ حفظا لمال الآدمي كنفسه ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 245) حيث قال: "وروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم عن مالك أنه كره أخذ اللقطة والآبق جميعًا قال: فإن أخذ أحد شيئًا من ذلك فأبق أو ضاعت اللقطة من غير فعله ولم يضيع لم يضمن، وقول الليث في ذلك كله نحو قول مالك ".
وينظر: "حاشية الدسوقي "(4/ 119 - 120) حيث قال: "وجوب الأخذ في ثلاث صور: ما إذا خاف الخائن وعلم أمانة نفسه، أو شك فيها، أو علم خيانتها، والحرمة في صورة هي ما إذا لم يخف الخائن وعلم خيانة نفسه، والكراهة في صورتين وهما ما إذا لم يخف خائنًا وشك في أمانة نفسه أو علم أمانتها، والحاصل أن مجموع الصور ست ".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 417) حيث قال: "عن عبد الله بن دينار، قال: قلت لابن عمر: وجدت لقطة، قال: ولم أخذتها؟ ".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 417) حيث قال: "عن ابن عباس، قال: "لا ترفعها من الأرض، فلست منها في شيء"".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 379) حيث قال: " (والأفضل) لمن أمن نفسه عليها وقوي على تعريفها (تركها) أي: اللقطة. فلا يتعرض لها".
قوله: (وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ).
يعود ذلك للفريق الأخير الذين قالوا بالكراهة.
قوله: (أَحَدُهُمَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ").
هذا الحديث رواه أبو داود
(1)
، والترمذي
(2)
، وابن ماجه
(3)
، وأخرجه النسائي بإسناد صحيح
(4)
؛ فهو حديث صحيح، لكن الحديث له مناسبة؛ لأن الطحاوي -رحمه الله تعالى- في كتابه "شرح معاني الآثار" جاء بهذا الحديث وساق الروايات الأخرى، وربما تكون بعض الروايات تُبيِّن السبب، مثلما جاء في حديث:"إن ضالة المؤمن حرق النار"، فهذه رواية تمسك بها الفريق الآخر، وهي تدل على تحذير مَن أخَذَ الضالة.
لكن جاء في روايات أخرى، منها ما في "معاني الآثار"
(5)
عن الجارور العبدي -وهو الذي روى نفس الحديث-، قال:"أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا إبل عجاف -أيْ: هزيلة وضعيفة-، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا: يا رسول الله، إنَّا نأتي إلى الجرف المعروف بالمدينة، فنجد فيه الإبل فنركبها. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ضالة المؤمن حرق النار"".
إذًا، هُم كانوا يأخذون الإبل لا ليعرفوها، وإنما ليركبوها، فلمَّا عَلِمَ الرسول صلى الله عليه وسلم منهم أنهم يأخذونها للانتفاع دون أن يؤدوا حقها؛ بيَّن لهم خطورة ذلك.
(1)
لم أجده عند أبي داود.
(2)
حديث (1881)، ولفظه: عن الجارود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ضالة المسلم حرق النار"، وصحح إسناده الألباني في "السلسلة الصحيحة"(620).
(3)
حديث (2502)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(2045).
(4)
أخرجه النسائي في "الكبرى"(5/ 337).
(5)
حديث (4/ 133) حيث قال: "عن الجارود أنه قال: كنا أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على إبل عجاف. فقلنا: يا رسول الله إنا نمر بالجرف فنجد إبلًا فنركبها فقال: "إن ضالة المسلم حرق النار".
كان هذا جواب الفريق الأول عن الحديث المتقدم.
قوله: (وَلِمَا يُخَافُ أَيْضًا مِنَ التَّقْصِيرِ فِي الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ لَهَا مِنَ التَّعْرِيفِ وَتَرْكِ التَّعَدِّي عَلَيْهَا).
في هذا دليل تعليلي -تعليل معقول المالكية والحنابلة ومَن معهم ممن قالوا بالكراهة، إلى جانب الحديث الذي ذكرنا- حيث يقولون: إن هذه أمانة، فهل نفسك إذا أخذتها ستضمنها وتحافظ عليها، أو أنَّ النفس ستضعف، ويدفعها الشيطان للطمع، فيغريها ويعلقها بها، فيأخذها دون أن يؤدي حقها، كالتعريف بها؛ فيكون بذلك قصَّر؛ فقالوا إذًا: الأوْلَى اجتناب ذلك.
أما الفريق الأول الذين قالوا بالجواز فلهم أدلة كثيرة، يأتي في مقدمتها حديث أُبَيِّ بن كعب، حيث قال: وجدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرَّة بمئة دينار، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"عرفها حولًا"
(1)
، وسيأتي الكلام عن مدة التعريف.
فهذا دليل على أنه أخذها، وأن المسألة فيها خلاف.
ومن حديث زيد بن خالد الجهني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن اللقطة بيَّن أن الإنسان "يعرفها حولًا، فإن جاء صاحبها وإلا فاستنفقها"
(2)
(1)
أخرجه البخاري (2426)، (2437)، ومسلم (1723) ولفظه: عن سويد بن غفلة، قال: كنت مع سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان في غزاة، فوجدت سوطًا، فقالا لي: ألقه، قلت: لا، ولكن إن وجدت صاحبه، وإلا استمتعت به، فلما رجعنا حججنا، فمررت بالمدينة، فسألت أبي بن كعب رضي الله عنه، فقال: وجدت صرة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيها مائة دينار، فأتيت بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"عرفها حولًا" فعرفتها حولًا، ثم أتيت، فقال:"عرفها حولًا" فعرفتها حولًا، ثم أتيته، فقال:"عرفها حولًا" فعرفتها حولًا، ثم أتيته الرابعة: فقال: "اعرف عدتها، ووكاءها ووعاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا استمتع بها" قال: فلقيته بعد بمكة، فقال: لا أدري أثلاثة أحوال أو حولًا واحدًا.
(2)
أخرجه البخاري (2427)، ومسلم (1722).
أو "فاستعملها"
(1)
في بعض الروايات.
وسئل عن ضالة الغنم فقال: "هي لك، أو لأخيك، أو للذئب"
(2)
.
وفي بعض الروايات قال: "خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب"
(3)
.
ولما سئل عن ضالة الإبل قال: "ما لك ولها
…
"، وسيأتي هذا الحديث والكلام عنه.
حكم التعريف:
ذهب بعض العلماء إلى وجوبه، سواء أخذها الإنسان ليحفظها حتى يأتي صاحبها، أو أخذها ليعرفها ثم بعد ذلك يتملكها، وهذا قول الحنابلة
(4)
، ووافقهم الشافعية
(5)
فيما إذا أخذها بقصد الحفظ، لكنهم قالوا باستحباب تعريفها ثم تملُّكها.
مدة التعريف:
سيأتي الكلام لاحقًا، وعلى كلٍّ؛ فالمشهور أنه سَنة، وذلك لأنه ربما تعود الرواحل بعد حولٍ أو ربما يأتي صاحبها، ومعلوم بأنَّ اللقطة حتى إن استنفذتها أكلتها إن كانت شاة، أو صرفتها إن كانت مالًا، فإن جاء صاحبها؛ فهو يستحقها.
(1)
أخرجه البخاري (91) بلفظ: "اعرف وكاءها، أو قال: وعاءها، وعفاصها، ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه ".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري (2428)، ومسلم (1722).
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 381) حيث قال: " (وإن أخره)، أي: التعريف فيه (الحول) كله (أو) أخره (بعضه لغير عذر أثم) لتركه الواجب ".
(5)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 319) حيث قال: "ولو خشي منه علم ظالم بها وأخذه لها امتنع وقيل: يجب. واختير لخبر صحيح بالأمر به من غير معارض له ".
زمان التعريف:
يُعرفها نهارًا لا ليلًا؛ لأن الناس تجتمع في النهار، لكننا نقول في هذا الزمان أصبح الناس يجتمعون في الليل والنهار، والمهم هو قصد الأماكن التي يكثر فيها الناس، وعندما يعرِّفها لا بد أن يُبين جنسها، إذا كانت ذهبًا أو شاةً أو مالًا.
قوله: (وَتَأَوَّلَ الَّذِينَ رَأَوْا لِالْتِقَاطَ أَوَّلَ الْحَدِيثِ، وَقَالُوا: أَرَادَ بِذَلِكَ الِانْتِفَاعَ بِهَا لَا أَخْذَهَا لِلتَّعْرِيفِ).
هذا كما وضحنا في رواية الطحاوي أنهم أخذوها ليركبوها لا ليعرفوها، ولذلك نهاهم الرَّسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"ضالة المؤمن حرق النار"
(1)
.
قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ لَقْطُهَا وَاجِبٌ)
(2)
.
هذه روايةٌ عن الإمام الشافعي، لكن لقطها واجب إذا خشي عليها من الضَّياع، فإنه يلزمه في هذه الحالة أن يلتقطها.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (2/ 417) حيث قال: "اللقطة أمانة إذا أشهد الملتقط أنه يأخذها ليحفظها ويردها على صاحبها "لأن الأخذ على هذا الوجه مأذون فيه شرعًا بل هو الأفضل عند عامة العلماء وهو الواجب إذا خاف الضياع على ما قالوا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 119) حيث قال: "وجوب الأخذ في ثلاث صور: ما إذا خاف الخائن وعلم أمانة نفسه، أو شك فيها، أو علم خيانتها".
ومذهب الشافعيهْ، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 318) حيث قال: " (يستحب الالتقاط لواثق بأمانة نفسه)؛ لما فيه من البر بل قال: جمع يكره تركه لئلا يقع في يد خائن (وقيل يجب)؛ حفظًا لمال الآدمي كنفسه ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (16/ 207) حيث قال: "وعند أبي الخطاب، إن وجدها بمضيعة، فالأفضل أخذها. قال الحارثي: وهذا أظهر الأقوال. قلت: وهو الصواب. وخرج بعض الأصحاب من هذا القول وجوب أخذها، وهو قوي في النظر".
قوله: (وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إِذَا كَانَتِ اللُّقَطَةُ بَيْنَ قَوْمٍ مَأْمُوبينَ وَالْإِمَامُ عَادِلٌ).
هذه التعليلات التي سيذكرها المؤلف من تعليلات المالكية واستحساناتهم، وإلَّا فالأدلة ليس فيها حقيقة شيء من ذلك، بل هي مطلقة.
قوله: (قَالُوا: وَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ بَيْنَ قَوْمٍ غَيْرِ مَأْمُونِينَ وَالْإِمَامُ عَادِلٌ فَوَاجِبٌ الْتِقَاطُهَا).
لأنك إذا لم تلتقطها أيها الأمين سيأتي إنسان غير أمين، فيستولي عليها؟ فأنت بذلك تكون قد أضعت حق أخيك المسلم، ولم تحفظه.
قوله: (وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ قَوْمٍ مَأْمُونِينَ وَالْإِمَامُ جَائِرٌ، فَالَأَفْضَلُ أَنْ لَا يَلْتَقِطَهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ قَوْمٍ غَيْرِ مَأْمُونِينَ وَالْإِمَامُ غَيْرُ عَادِلٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بِحَسَبِ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ سَلَامَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ).
هذه تعليلات للمالكية تتعلق بالمصالح والاستحسان، لم ترد بها أدلة.
قوله: (وَهَذَا كُلُّهُ مَا عَدَا لُقَطَةَ الْحَاجِّ).
وسبب استثنائه لقطة الحاج، أنه جاء حديث في "صحيح مسلم"
(1)
: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج "؛ لأن الإنسان إذا التقطها فربما يعود الحاج إلى المكان فلا يجدها، وسيأتي الكلام عن لقطة الحاج، ولقطة الحرم.
قوله: (فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا
(2)
عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا؛ لِنَهْيِهِ
(1)
حديث (1724).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 128) حيث قال: "وتخصيص مكة حينئذٍ لدفع وهم سقوط التعريف بها بسبب أن الظاهر أن ما وجد بها من لقطة فالظاهر أنه للغرباء وقد تفرقوا فلا يفيد التعريف فيسقط كما يسقط فيما يظهر إباحته، فبين عليه الصلاة والسلام أنها كغيرها من البلاد في وجوب التعريف، وقد ثبت في صحيح مسلم "أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن لقطة=
-عليه الصلاة والسلام عَنْ ذَلِك، وَلُقَطَةُ مَكَّةَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ؛ لِوُرُودِ النَّصِّ فِي ذَلِكَ).
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال، كما في الأحاديث المتفق عليها: "إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليهم رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من النهار
…
"، إلى أن قال: "لا تحل ساقطتها إلا لمنشد"
(1)
.
وفي حديث آخر: "إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض
…
"، إلى أن قال: "لا تحل لقطتها إلا لمنشد"
(2)
.
= الحاج". قال ابن وهب: يعني يتركها حتى يجيء صاحبها، ولا عمل على هذا في هذا الزمان لفشو السرقة بمكة من حوالي الكعبة فضلًا عن المتروك، والأحكام إذا علم شرعيتها باعتبار شرط ثم علم ثبوت ضده متضمنًا مفسدة بتقدير شرعيته معه علم انقطاعها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للشيخ الدردير (4/ 172) حيث قال: " (ولو) وجدها (بمكة) فله أحد هذه الأمور الثلاثة. وقيل: إن لقطة مكة يجب تعريفها أبدًا عملًا بظاهر الحديث ولا يجوز تملكها ولا التصدق بها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 340) حيث قال: " (قلت لا تحل لقطة الحرم) المكي (للتملك) ولا بلا قصد تملك (ولا حفظ على الصحيح) بل لا تحل إلا للحفظ أبدًا للخبر الصحيح: "لا تحل لقطتها إلا لمنشد" أي: لمعرف على الدوام، (ويجب تعريفها) أي: الملقوطة فيه للحفظ (قطعًا والله أعلم) للخبر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 82) حيث قال: "وروى يعقوب بن شيبة، في "مسنده" عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن لقطة الحاج" قال ابن وهب: يعني يتركها حتى يجدها صاحبها".
(1)
أخرجه البخاري (2434)، ومسلم (1355).
(2)
أخرجه البخاري (4313) عن مجاهد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم الفتح فقال:"إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحلل لي قط إلا ساعة من الدهر، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد". فقال العباس بن عبد المطلب: إلا الإذخر يا رسول اللَّه، فإنه لا بد منه للقين والبيوت، فسكت ثم قال:"إلا الإذخر فإنه حلال ".
هل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل ساقطتها إلا لمنشد"
(1)
يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يأخذها إلا أن يعرِّفها، أو أنها أيضًا كاللقطة في غير الحرم؟
هذه المسألة فيها خلاف، وأكثر العلماء -مالك
(2)
، وأبو حنيفة
(3)
، وأحمد
(4)
- يقولون هي كغيرها، أيْ: للإنسان أن يلتقطها ويعرِّفها، فإذا أدى ما عليه حينئذٍ تكون له، يتملكها إذا لم يجد صاحبها.
أما الإمام الشافعي
(5)
فمنع مِن لقطة الحرم، وهي إحدى الروايات للإمام أحمد
(6)
، فلماذا إلا لمنشد؟
قالوا: لأنَّ لقطة الحرم القصد منها الحس، التعريف، ومتابعة ذلك؛ لأن الناس يسافرون وربما كان الغالب أن هذه اللقطة ليست لأهل مكة، أما أن يمنع من ذلك فلا.
(1)
"المنشد": المعرف للقطة. انظر: "غريب الحديث" لإبراهيم الحربي (2/ 508).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 121) حيث قال: " (وله حبسها بعده) أي: بعد تعريفها السنة، (أو التصدق بها) عن ربها أو نفسه (أو التملك) بأن ينوي تملكها، فللملتقط هذه الأمور الثلاثة (ولو) وجدت (بمكة) ".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 135) حيث قال: "ولقطة الحل والحرم سواء".
(4)
وهو الصحيح من المذهب، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 382) حيث قال: " (لقطة الحرم) فتملك بالتعريف كلقطة الحل، ولأنها أمانة فلم يختلف حكمها بالحل والحرم كالوديعة".
(5)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 340) حيث قال: " (قلت: لا تحل لقطة الحرم) المكي (للتملك) ولا بلا قصد تملك (ولا حفظ على الصحيح) بل لا تحل إلا للحفظ أبدًا للخبر الصحيح "لا تحل لقطتها إلا لمنشد"".
(6)
يُنظر: "المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين" لأبي يعلى بن الفراء (2/ 9) حيث قال: "مسألة: هل تملك لقطة الحرم بعد التعريف والحول كما يملك غيرها؟ نقل أبو طالب والميموني والترمذي ومحمد بن داود وابن منصور: أنها تملك.
ونقل حرب عنه: اللقطة في الحرم ليس بمنزلة اللقطة في غير الحرم، لا تحل إلا لمنشد"، ينظر: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي (16/ 238) حيث قال: "وعنه، لا تملك لقطة الحرم بحال ".
ومِن العلماء مَن منعوا، وقالوا: إن الرسول أجاز فقط أن يأخذها الإنسان بقصد الإعلان عنها، ومهما بقيت لا يجوز له أن يستعملها، بل يحفظها.
قوله: (وَالْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ لَفْظَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا تُرْفَعُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ. والثَّانِي: لَا يَرْفَعُ لُقَطَتَهَا إِلَّا منْشِدٌ، فَالْمَعْنَى الْوَاحِدُ أَنَّهَا لَا تُرْفَعُ إِلَّا لِمَنْ يُنْشِدُهَا، وَالْمَعْنَى الثَّانِي لَا يَلْتَقِطُهَا إِلَّا مَنْ يُنْشِدُهَا لِيُعَرِّفَ النَّاسَ. وَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: تُعَرَّفُ هَاتَانِ اللُّقَطَتَانِ أَبَدً).
هما لقطة الحاج، ولقطة الحرم، تعرفان دائمًا.
قوله: (فَأَمَّا الْمُلْتَقِطُ فَهُوَ كلُّ حُرٍّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ).
يذهب المؤلف بأن المسألة متفق عليها، وليس الأمر كذلك؛ فقوله:(كل حر مسلم بالغ) هذا عند المالكية
(2)
، أما عند الحنفية
(3)
،
(1)
هذا القول هو قول الباجي من المالكية وهو موافق لقول الشافعية، وأما مذهب مالك فهو موافق لمذهب الجمهور: أن لقطة الحل والحرم سواء، ينظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 121) حيث قال: " (قوله: خلافًا لمن قال) أي وهو الباجي وفاقًا للشافعي وقوله: ويجب تعريفها أبدًا أي لاحتمال أن تكون من حاج ولا يتيسر له العود في السنة".
(2)
أي: ما يفهم من كلام المالكية ينظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 126). " (كأن لم يكن فيها)، أي: في القرية لا بقيد المسلمين (إلا بيتان) للمسلمين فيحكم بإسلامه أيضًا (إن التقطه مسلم) تغليبًا للإسلام فإن التقطه كافر فلا يحكم بإسلامه ومثل البيتين البيت كالثلاثة وأما الأربعة فيحكم بإسلامه، وإن التقطه كافر (وإن) وجد (في) قرية من (قرى الشرك) التي ليس فيها بيت من بيوت المسلمين (ف) هو (مشرك)، وإن التقطه مسلم تغليبًا للدار".
(3)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(4/ 277) حيث قال: " (قوله: وصح التقاط صبي وعبد)، أي: ويكون التعريف إلى ولي الصبي كما في المجتبى. وينبغي أن يكون التعريف إلى مولى العبد كالصبي بجامع الحجر فيهما، أما المأذون والمكاتب فالتعريف إليهما نهر. وصح أيضًا التقاط الكافر لقول الكافي: لو أقام مدعيها شهودًا كفارًا على ملتقط كافر قبلت ".
والحنابلة
(1)
، فيلتقط المملوك، والصبي، والفاسق، والذمي، والكافر، وفي المذهب الشافعي خلاف
(2)
، أما إذا كان قصد المؤلف (كل حر مسلم بالغ) أنه لا خلاف فيه؛ كان مقبولًا.
بمعنى إذا كان الملتقط حُرًّا غير مملوك، أو مسلمًا غير ذمي، أو بالغًا؛ فالأولَى أن يكون مكلفًا، غير صغير، أو مجنون، وبعضهم أيضًا فيه خلاف عنده، إنْ أراد أنَّ هؤلاء لهم أنْ يلتقطوا بلا خلاف؛ فنعم، أما إذا أراد أن لا يجوز عند غيرهم؛ فلا.
قوله: (وَاخْتُلِفَ عَنِ الشَّافِعِيِّ
(3)
فِي جَوَازِ الْتِقَاطِ الْكَافِرِ).
الشافعيُّ نُقِل عنه قولان: قول بالجواز، وقول بالمنع.
قوله: (قَالَ أَبُو حَامِدٍ).
الغزالي
(4)
.
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 386) حيث قال: "ولا فرق بين ملتقط (عدل أو فاسق يأمن نفسه عليها)؛ لأن الالتقاط نوع اكتساب والكافر والفاسق من أهله كالاحتشاش والاحتطاب، (وإن وجدها)، أي: اللقطة (صغير أو سفيه أو مجنون) صح التقاطه؛ لأنه نوع تكسب فصح منه كاصطياد".
(2)
سيأتي تخريجه في المتن.
(3)
يُنظر: "المهذب في فقه الإمام الشافعي" للشيرازي (2/ 311) حيث قال: "وإن التقط كافر لقطة في دار الإسلام ففيه وجهان؛ أحدهما: يملك بالتعريف لأنه كسب بالفعل فاستوى فيه الكافر والمسلم كالصيد، والثاني: لا يملك؛ لأن تصرفه بالحفظ والتعريف بالولاية والكافر لا ولاية له على المسلم "، "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (5/ 429) حيث قال: " (و) التقاط (الذمي) والمعاهد والمؤمن كما بحثه الزركشي (في دار الإسلام) وإن لم يكن عدلًا في دينه فيما يظهر.
والطريق الثاني: تخريجه على أن المغلب فيها الاكتساب فيصح أو الأمانة والولاية فلا، وخرج بدار الإسلام دار الحرب ففيها تفصيل مر (ثم الأظهر) بناءً على صحة التقاط الفاسق، ومثله فيما يأتي الكافر".
(4)
يُنظر: "الوسيط في المذهب" لأبي حامد الغزالي (4/ 283) حيث قال: "أما الكافر فهو من أهل الالتقاط قطع به المراوزة، وذكر العراقيون وجهين وكأنهم رأوا بذلك =
"قوله: (وَالْأَصَحُّ جَوَازُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ).
وهذا هو الصحيح، وهو يؤيد ذلك، وهو مذهب الحنابلة، أيْ: لا يشترط أن يكون الملتقط مسلمًا، بل لو الْتقَط كافر لصح ذلك.
قوله: (قَالَ: وَفِي أَهْلِيَّةِ الْعَبْدِ وَالْفَاسِقِ لَهُ قَوْلَانِ).
فهي جائزة عند الحنابلة
(1)
، لكن الخلاف فيما لو أفناها العبد وأنفقها، فمن المسؤول عنها؟
قوله: (فَوَجْهُ الْمَنْعِ عَدَمُ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ عُمُومُ أَحَادِيثِ اللُّقَطَةِ).
يرى هؤلاء يدهم من فوقهم، ليس لهم ولاية على أحد، فكيف لا يتصرفون بأنفسهم، وفي شؤون غيرهم، لكن هذه لقطة ضاعت؛ فهو يأخذها وإن لم يكن كفئًا وأهلًا، فإن كان عبدًا، فسَيِّدُه يتولى ذلك، وإن كان صغيرًا فولي أمره يقوم بذلك.
= تسلطًا في دار الإسلام كالإحياء إذ لم يروه من أهل الأمانة، أما الفاسق فلا يجوز له أخذه فإن أخذه فهل يصح التقاطه لإفادة الإحكام فيه قولان:
أحدهما: لا؛ لأنه أمانة في الحال وفيه شبهة الولاية والفاسق لا يليه الشرع الأمانات.
والثاني: نعم؛ لأن ماله التملك وهو مقصوده والفاسق من أهل الاكتساب ".
(1)
ينظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 386) حيث قال: "ولا فرق بين ملتقط (عدل أو فاسق يأمن نفسه عليها)؛ لأن الالتقاط نوع اكتساب والكافر والفاسق من أهله كالاحتشاش والاحتطاب، (فإن تلفت) اللقطة بيد عبد (وإن كان) تلفها (بتفريط الولي) بأن علم بها ولم يأخذها منه (فـ) ضمانها (عليه) أي: الولي؛ لأنه المضيع لها بتركها مع من ليس أهلًا لحفظها (فإن) لم تتلف وعرفها الولي، و (لم تعرف فـ) هي (لواجدها) ".
قوله: (وَأَمَّا اللُّقَطَةُ بِالْجُمْلَةِ: فَإِنَّهَا كُلُّ مَالٍ لِمُسْلِمٍ مُعَرَّضٍ لِلضَّيَاعِ).
هنا يريد أن يعطينا تعريفًا جامعًا تدخل تحته جميع الجزئيات، فيشمل النقدين، والعروض، والحيوان.
قوله: (كَانَ ذَلِكَ فِي عَامِرِ الْأَرْضِ أَوْ غَامِرِهَا).
إذا كان بمكان عامر يعمر بأهله، أو في مكان غامر بمعنى خَرِب، وبعضهم يطلق ذلك على الأرض التي لا زَرْعَ ولا نباتَ فيها، لكن الأقرب الأرض الخربة، والمهجورة كالصحراء التي لا تحيى بأحد.
قوله: (وَالْجَمَادُ وَالْحَيَوَانُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إِلَّا الإبل بِاتِّفَاقٍ
(1)
. وَالْأَصْلُ فِي اللُّقَطَةِ حَدِيثُ زَيد بْن خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ).
(1)
مذهب المالكية: أن ضالة الإبل من وجدها في القرى عرفها، ومن وجدها في الصحراء لا يقربها، وقيل: بل تترك مطلقًا وجدها بالصحراء أو بالعمران، وقيل: إن خيف عليها من خائن أخذت وعرفت، أو بيعت ووقف ثمنها لصاحبها ينظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 122) حيث قال: "وفي ابن المعتمد من مذهب مالك تركها مطلقًا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 324 - 325) حيث قال: " (الحيوان المملوك الممتنع من صغار السباع بقوة كبعير وفرس أو بعدو كأرنب وظبي أو طيران كحمام إن وجد بمفازة فللقاضي) أو نائبه (التقاطه للحفظ)؛ لأن له ولاية على أموال الغائبين ولا يلزمه وإن خشي ضياعه كما اقتضاه كلامه بل قال السبكي إذا لم يخش ضياعه لا ينبغي أن يتعرض له، (وكذا لغيره) من الآحاد أخذه للحفظ من المفازة (في الأصح)، (ويحرم) على الكل (التقاطه) زمن الأمن من المفازة (للتملك) للنهي عنه في ضالة الإبل ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"منتهى الإرادات" لابن النجار (3/ 300) حيث قال: "الضوال التي تمتنع من صغار السباع كإبل وبقر وخيل وبغال وحمير وظباء وطير وفهد ونحوها فغير الآبق يحرم التقاطه ".
أخرجه الشيخان البخاري
(1)
ومسلم
(2)
، وهو أيضًا في السُّنن
(3)
وعند أحمد
(4)
والبيهقي
(5)
.
قوله: (أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
جاء في غير "الصحيحين"- السنن والمسانيد- بأن الرجل هو عقبة بن سويد الجهني
(6)
(7)
.
قوله: (فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ).
أي: عن حكمها.
قوله: (فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا)
(8)
.
والعفاص: هو الوعاء الذي توضع فيه.
(1)
حديث (2427).
(2)
حديث (1722).
(3)
أخرجه أبو داود (1704)، والترمذي (1372) وقال:"حسن صحيح "، والنسائي في "الكبرى"(5/ 328)، وابن ماجه (2504)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1372).
(4)
حديث (17037).
(5)
"السنن الكبرى"(6/ 307).
(6)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(7/ 90) عن عقبة بن سويد، عن أبيه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشاة؟ قال: "لك أو لأخيك أو للذئب "، قال: وسألته عن البعير؟ وكان إذا غضب عرف ذلك في حمرة وجنتيه فقال: "ما لك وله؟ معه سقاؤه وحذاؤه، يرد الماء، ويصدر الكلأ، خل سبيله حتى يلقى ربه ".
(7)
أقول: الرجل إذن هو سويد وليس ابنه عقبة كما قال الشارح، والذي يعضده قول ابن حجر في "التلخيص" (3/ 161) والسائل قيل: هو ابن خالد الراوي، وقيل: بلال، وقيل: عمير والد مالك، قلت: وقيل: سويد الجهني والد عقبة.
(8)
يُنظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص 176) حيث قال: "العفاص هو الوعاء الذي تكون فيه النفقه إن كان من جلد أو خرقه أو غير ذلك ".
قوله: (وَوِكَاءَهَا)
(1)
.
والوكاء: الحبل الذي تربط به.
قوله: (ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً).
القصد: إذا وجد إنسانٌ لقطةً فعليه أن يعرِّف أوصافها تمامًا، ثم بعد ذلك يعرِّفها المدة المطلوبة، ثم بعد ذلك يتصرَّف فيها، ولا بد أنْ يعرِّف أوصاف جنسها سواءٌ كانت ذهبًا، أو فضة، وكم عددها، ونوع الوعاء الذي وُجِدت فيه، وهل كانت مربوطة أو غير مربوطة، إلى غير ذلك من الصفات؛ لأنه لو جاء إنسان يدَّعي أنها له فإنه يطالبه بذكر أوصافها.
قوله: (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا، قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟).
إن اللقطة -كما قلنا- تُطلق على غير الحيوان، أما ما يخص الحيوان فيسمى ضالة.
قوله: (قَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ).
عليك أن تأخذها؛ فهي ضعيفة لا تستطيع أن تحمي نفسها إذا تعرض لها الذئب أو السباع، فإذا أخذتها فإنك تأكلها، أو تبيعها، وتحفظ ثمنها لصاحبها حتى يعود، وسيأتي الخلاف في ذلك، وأن مالكًا رحمه الله خالف العلماء في هذه المسألة، بأنه لا ضمان على أكل الشاة
(2)
.
قوله: (قَالَ: فَضَالَّةُ الإبل؟ قَالَ: "مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا").
(1)
يُنظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 342) حيث قال: "الوكاء: الخيط الذي تشد به الصرة والكيس ونحوهما".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 122) حيث قال: " (و) له أكل (شاة) وجدها (بفيفاء) ولم يتيسر حملها للعمران ولا ضمان ".
"معها سقاؤها"
(1)
، وهو المكان الذي يجتمع فيه الماء في بطنها أو سنامها، معها "حذاؤها"
(2)
وهو الخُف، وينزل منزلة الحذاء؛ لِمَا اتُّصِف به مِن القوة، ونعلم بأن الله سبحانه وتعالى قد خص هذا الحيوان بخصائص كثيرة، منها: قوة الصبر، والتحمل على رفع الأثقال، والجلَد، وأعطاه عنقًا طويلًا يتناول به الأشجار، ووضع بها ما يدفع عنها أثر الشوك، وغير ذلك من مزايا كثيرة جدًّا.
قوله: (وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَضَمَّنُ مَعْرِفَةَ مَا يُلْتَقَطُ مِمَّا لَا يُلْتَقَطُ).
هذا الحديث بيَّن ما يُلتقط وما لا يلتقط بالنسبة للنقدين أو لضالة الغنم كذلك، أما الإبل، فقال: "ما لك ولها
…
"، وبيَّن العِلَّة.
قوله: (وَمَعْرِفَةَ حُكْمِ مَا يُلْتَقَطُ كيْفَ يَكُونُ فِي الْعَامِ وَبَعْدَهُ وَبِمَاذَا يَسْتَحِقُّهَا مُدَّعِيهَا. فَأَمَّا الإبل فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُلْتَقَطُ).
هذا الكلام -حقيقةً- غير محرَّر، فأبو حنيفة
(3)
رحمه الله يرى أنها تُلتقط مطلقًا وتُعرَّف، وقاس ذلك على الغنم، ورد عليه الجمهور، كما سيأتي في هذا الحديث وغيره، والشافعية
(4)
يقولون بجواز التقاطها بقصد
(1)
يُنظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص 176) حيث قال: "أراد بسقائها أنها إذا وردت الماء شربت منه ما يكون فيه ريها لظمئها وهي من أطول البهائم ظمأ لكثرة ما تحمل من الماء يوم ورودها".
(2)
يُنظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 127) حيث قال: "الحذاء الخف؛ لأنها تمتنع به من صغار السباع ".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 135) حيث قال: "ويجوز الالتقاط في الشاة والبقرة والبعير".
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 26) حيث قال: "حكم ضوال الإبل والغنم إذا وجدها في الصحراء، فأما إذا وجدها في المصر أو في قرية فالذي حكاه المزني فيما وجد بخطه أنها لقطة له أخذها وعليه تعريفها حولًا وحكي عن الشافعي في "الأم" أنها في المصر والصحراء سواء يأكل الغنم ولا يعرض للإبل فاختلف أصحابنا فمنهم من خرج ذلك على قولين:=
التعريف، وأما الجمهور فهم لا يرَوْنَ ذلك، وهم: المالكية
(1)
، والحنابلة
(2)
ورواية أخرى للشافعية
(3)
.
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى الْغَنَمِ أَنَّهَا تُلْتَقَطُ
(4)
، وَتَرَدَّدُوا فِي
= أحدهما: أن المصر كالبادية يأكل الغنم ولا يعرض للإبل، وهو المحكي عنه في "الأم" لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"ضالة المؤمن حرق النار".
والقول الثاني: إنها لقطة يأخذ الغنم والإبل جميعها ويعرفها كسائر اللقط حولًا كاملًا".
(1)
مذهب المالكية: أن ضالة الإبل من وجدها في القرى عرفها، ومن وجدها في الصحراء لا يقربها، وقيل: بل تترك مطلقًا وجدها بالصحراء أو بالعمران، وقيل: إن خيف عليها من خائن أخذت وعرفت، أو بيعت ووقف ثمنها لصاحبها.
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 122) حيث قال: "وفي ابن المعتمد من مذهب مالك تركها مطلقًا".
(2)
يُنظر: "منتهى الإرادات" لابن النجار (3/ 300) حيث قال: "الضوال التي تمتنع من صغار السباع كإبل وبقر وخيل وبغال وحمير وظباء وطير وفهد ونحوها فغير الآبق يحرم التقاطه ".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 324 - 325) حيث قال: " (الحيوان المملوك الممتنع من صغار السباع بقوة كبعير وفرس أو بعدو كأرنب وظبي أو طيران كحمام إن وجد بمفازة فللقاضي) أو نائبه (التقاطه للحفظ)؛ لأن له ولاية على أموال الغائبين ولا يلزمه وإن خشي ضياعه كما اقتضاه كلامه بل قال السبكي: إذا لم يخش ضياعه لا ينبغي أن يتعرض له، (وكذا لغيره) من الآحاد أخذه للحفظ من المفازة (في الأصح)، (ويحرم) على الكل (التقاطه) زمن الأمن من المفازة (للتملك) للنهي عنه في ضالة الإبل ".
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 135) حيث قال: "ويجوز الالتقاط في الشاة والبقرة والبعير).
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 122) حيث قال: "إذا كانت بمحل العمران ولو مخوفًا تكون لقطة فلا تؤكل وإذا أخذها عرفها".
ومذهب الشافعية، ينظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 326) حيث قال: " (وما لا يمتنع منها)، أي: من صغار السباع (كشاة) وعجل وفصيل وكسير إبل وخيل (يجوز التقاطه) للحفظ و (للتملك في القرية والمفازة) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 380) حيث قال: " (وما أبيح التقاطه ولم يملك به حيوان) مأكول كفصيل وشاة ودجاجة (فيلزمه)، أي: الملتقط (فعل الأصلح) لمالكه ".
الْبَقَرِ
(1)
، وَالنَّصُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ
(2)
.
وأحمد
(3)
.
قوله: (أَنَّهَا كَالإبل، وَعَنْ مَالِكٍ
(4)
أَنَّهَا كَالْغَنَمِ، وَعَنْهُ خِلَافٌ).
هنا ما يتعلق بالحيوان، والذي لا يخلو من أن يكون حيوانًا يقوى على الامتناع عن صغار السباع كالذئب، والثعلب، ويستطيع أن يدفع عن نفسه الأذى، ومن هذه الحيوانات: الإبل، والبقر، والخيل، والبغال، وربما يستطيع أيضًا أن يدفع عن نفسه الأذى بالطيران كالطيور، أو يكون سريعًا كالظباء، فهذه كلها ذكرها العلماء جملةً أنها لا تُلتقط؛ لأنها تستطيع أن تجد الماء، وتمنع نفسها من صغار السباع.
ومن العلماء من ألحقوا البقر بالغنم حيث لا تُلتقط، مثل الشافعية والحنابلة، واستدلوا بقصة عبد الله بن جرير رضي الله عنه عندما أتت بقرةٌ فانضمت إلى أخرى؛ فأمر بطردها حتى توارت وغابت، ثم قال رضي الله عنه:
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 135) حيث قال: "ويجوز الالتقاط في الشاة والبقرة والبعير".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (5/ 432 - 433) حيث قال: " (الحيوان المملوك الممتنع من صغار السباع) كنمر وفهد وذئب وما نوزع به من كون هذه من كبارها، (بقوة كبعير وفرس) وحمار وبغل وبقر (أو بعدو كأرنب وظبي أو طيران كحمام) (ويحرم) على الكل (التقاطه) زمن الأمن من المفازة (للتملك) للنهي عنه في ضالة الإبل ".
(3)
يُنظر: "منتهى الإرادات" لابن النجار (3/ 300) حيث قال: "الضوال التي تمتنع من صغار السباع كإبل وبقر وخيل وبغال وحمير وظباء وطير وفهد ونحوها فغير الآبق يحرم التقاطه ".
(4)
يُنظر: "المدونة"(4/ 457) حيث قال: "قلت: أرأيت البقر، أهي بمنزلة الغنم في قول مالك؟ قال: أما إذا كانت بموضع يخاف عليها فنعم، وإن كانت بموضع لا يخاف عليها السباع ولا الذئاب فهي بمنزلة الإبل ". وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 252).
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يأوي الضالة إلا ضال"
(1)
، وقالوا بأن كثيرًا من الأحكام تُلحق بالإبل لا الغنم، كما عرفنا في كتاب الحج، وكتاب الضحايا بأنها تكفي في الهَدْي والأضحية عن سبع.
إذًا، فهي تشبه الإبل، وأما الذين قالوا بأنها تُلتقط فشبَّهوها بالغنم، وقالوا بأنها ليس عندها من التحمل والقوة ما عند الإبل.
قوله: (الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا حُكْمُ التَّعْرِيفِ).
أيْ: كيف يعرِّفها وينشدها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إلا لمنشد"، فأنت مطالَب إذا أخذت اللُّقَطة أن تنشدها، وتنادي بها في الأماكن التي يكثر فيها الناس، كالأسواق، وعند أبواب المساجد لا داخلها؛ حتى يعلم الناس.
قوله: (فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَعْرِيفِ مَا كَانَ مِنْهَا لَهُ بَالٌ سَنَةً)
(2)
.
هناك مَن له بال، ومن لا بال له، فتمرةٌ تجدها، أو برتقالة، أو حبل صغير، أو عصًا، أو سَوْطًا، كما في حديث جابر بن عبد الله: "رخَّص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحبل، والعصا، والسوط
…
"
(3)
، وما أشبه ذلك، فهي أمور يُتجوَّز عنها؛ ولذلك نجد أن عند المالكية
(4)
،
(1)
أخرجه أبو داود (1720) وغيره، ولفظه: عن المنذر بن جرير، قال: كنت مع جرير بالبوازيج فجاء الراعي بالبقر وفيها بقرة ليست منها فقال له جرير: ما هذه؟ قال: لحقت بالبقر لا ندري لمن هي، فقال جرير: أخرجوها، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يأوي الضالة إلا ضال" وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1720).
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 176) حيث قال: "وأجمعوا أن اللقطة التي لها بال وبغاة تعرف حولًا كاملًا".
(3)
أخرجه أبو داود (1717) وغيره، عن جابر بن عبد الله، قال:"رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به "، وضعفه الألباني في، "ضعيف أبي داود"(303).
(4)
الذي وقفت عليه: ينظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 120) حيث قال: " (و) وجب (تعريفه) أي الملتقط (سنة) كاملة من يوم الالتقاط فإن أخره=
والحنفية
(1)
، وضعوا حدًّا لذلك بالقدر الذي تُقطع فيه يد السارق؛ وعللوا ذلك بأن عائشة بيَّنَت بأنهم كانوا لا يقطعون في الشيء التافه
(2)
.
كما أننا نعلم بأن يد السارق تُقطع عند الجموع -ومنهم المالكية- في رُبع دينار
(3)
.
وعند الحنابلة
(4)
في عشرة دراهم؛ إذًا فما دون ذلك يعتبرونه تافهًا.
= سنة، ثم عرفه فهلك ضمن (ولو) كان الملتقط (كدلو) ودينار ودراهم كصرفه فأقل؛ لأنها ليست من التافه، لكن الراجح أنها، وإن كانت فوق التافه، إلا أنها دون الكثير الذي له بال فتعرف أيامًا عند الأكثر بمظان طلبها لا سنة (لا تافهًا) أي لا إن كان تافهًا لا تلتفت إليه النفوس كل الالتفات وهو ما دون الدرهم الشرعي ".
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 121) حيث قال: "وجه الأول أن التقدير بالحول ورد في لقطة كانت مائة دينار تساوي ألف درهم، والعشرة فما فوقها في معنى الألف شرعًا في تعلق القطع بسرقته وتعلق استحلال الفرج به ".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 477)، وأصله في البخاري (6792) عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أخبرتني عائشة: "أن يد السارق لم تقطع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن مجن حجفة أو ترس ".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 332) حيث قال: " (قوله: تقطع يد السارق) أي المكلف سواء كان مسلمًا أو كافرًا حرًّا أو عبدًا ذكرًا أو أنثى وقطعها بواحد من ثلاثة أشياء سرقة طفل أو ربع دينار أو ثلاثة دراهم ".
(4)
أظن أن هذا رأي الحنفية وليس الحنابلة ينظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 76) حيث قال: "ولا نعلم خلافًا بين أهل العلم في إباحة أخذ اليسير والانتفاع به، وقد روي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر، وعائشة، وبه قال عطاء، وجابر بن زيد، وطاوس، والنخعي، ويحيى بن أبي كثير، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي. وليس عن أحمد وأكثر من ذكرنا تحديد اليسير الذي يباح. وقال مالك، وأبو حنيفة: لا يجب تعريف ما لا يقطع به السارق، وهو ربع دينار عند مالك، وعشرة دراهم عند أبي حنيفة؛ لأن ما دون ذلك تافه، فلا يجب تعريفه، كالكسرة والتمرة، والدليل على أنة تافه قول عائشة رضي الله عنهما: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه. وروي عن علي رضي الله عنه، أنه وجد دينارًا فتصرف فيه ".
ومذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 201) حيث قال: "وإذا اشترك جماعة في سرقة فأصاب كل واحد منهم عشرة دراهم قطع وإن أصابه أقل من ذلك لم يقطع ".
ومذهب الحنابلة يُنظر: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي=
ويستدلون أيضًا بأثر علِيٍّ رضي الله عنه "أنه وجد دينارًا فتصرَّف به"
(1)
.
وكذلك وجدت امرأةٌ تُسمَّى سلمى خاتمًا مِن ذهب، فسألت عائشة، فقالت لها:"تمتعي به"
(2)
.
وأيضًا الرسول صلى الله عليه وسلم مرَّ بتمرةٍ، فقال:"لولا أخشى أنها من الصدقة لأكلتها"
(3)
.
قوله: (مَا لَمْ يمُنْ مِنَ الْغَنَمِ).
هذا هو الرأي المشهور عند جمهور العلماء.
وكونها سنةً أو أكثر أو أقل، فقد وردت عدة آثار عن عمر بن الخطاب
(4)
، وعلي بن أبي طالب
(5)
، وابن عباس
(6)
رضي الله عنهم، وهو قول الأئمة
= (26/ 490) حيث قال: "وعنه، أنه ثلاثة دراهم، أو ربع دينار، أو ما يبلغ قيمة أحدهما من غيرهما. يعنى أن كلًّا من الذهب والفضة أصل بنفسه. وهذه الرواية هي المذهب. قال في "الكافي": هذا أولى".
(1)
أخرجه أبو داود (1715) عن علي رضي الله عنه: "أنه التقط دينارًا فاشترى به دقيقًا، فعرفه صاحب الدقيق فرد عليه الدينار فأخذه علي وقطع منه قيراطين فاشترى به لحمًا"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1715).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 416). ولفظه: عن زهير بن أبي ثابت، عن سلمى، ولا أراها إلا ابنة كعب، قالت: وجدت خاتمًا في طريق مكة فسألت عائشة، فقالت:"تمتعي به ".
(3)
أخرجه البخاري (2055)، ومسلم (1071).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 414) كان عمر بن الخطاب "يأمر أن تعرف اللقطة سنة، فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها، فإن جاء صاحبها خير".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 414) عن أبي السفر، عن رجل، من بني رؤاس، قال: التقطت ثلاثمائة درهم، فعرفتها تعريفًا ضعيفًا، وأنا يومئذ محتاج، فأكلتها حين لم أجد أحدًا يعرفها، ثم أيسرت فسألت عليًّا، فقال:"عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، فادفعها إليه، وإلا فتصدق بها، وإلا فخيره بين الأجر وبين أن تغرمها له ".
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 413) عن عبد العزيز بن رفيع، قال: حدثني أبي، قال: وجدت عشرة دنانير، فأتيت ابن عباس فسألته عنها، فقال:"عرفها على الحجر سنة، فإن لم تعرف فتصدق بها فإن جاء صاحبها فخيره الأجر أو الغرم ".
الأربعة
(1)
، وعدد من التابعين
(2)
.
ففي أثر عمر في روايةٍ أخرى أنه قال: "تعرف ثلاثة أيام"
(3)
.
وفي روايةٍ أخرى قال: "تُعرف ثلاثة أعوام"
(4)
، وقد جاء ذكر ثلاثة
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 135) حيث قال: "إن كانت أقل من عشرة دراهم عرفها أيامًا، وإن كانت عشرة فصاعدًا عرفها حولًا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 120) حيث قال: " (و) وجب (تعريفه) أي الملتقط (سنة) كاملة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 333) حيث قال: "ويجب في غير الحقير الذي لا يفسد بالتأخير أن يعرف للحفظ بناءً على ما مر من وجوب التعريف فيه أو للتملك (سنة) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 381) حيث قال: " (وإن أخره) أي: التعريف فيه (الحول) كله (أو) أخره (بعضه لغير عذر أثم) لتركه الواجب (ولم يملكها) أي: اللقطة (به) أي: التعريف (بعد) الحول ".
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (11/ 386) حيث قال: "فقال كثير من أهل العلم: تعرف سنة على ظاهر خبر زيد بن خالد، وممن روينا عنه أنه قال ذلك: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبي، ومالك، والشافعي، والحسن بن صالح، وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي ".
(3)
قال ابن المنذر في "الأوسط"(11/ 387): "وقد روينا عن عمر بن الخطاب رواية ثانية، وهي أنه أمر أن يذكرها ثلاثة أيام، ثم يعرفها سنة".
ثم ذكر أثرًا لعمر أخرجه في الأوسط (11/ 388) عن عبد الله بن بسر وكان قد صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين كلتاهما، أنه خرج إلى إفريقية فلما كان ذات ليلة تخلف عن أصحابه، فلما أصبح وجد دينارًا على الطريق، ثم تقدم فوجد آخر حتى جمع ثمانين دينارًا، وإذا هو بأثر دابة تجر شيئًا، ثم إنه لحق بأصحابه، فلما قدموا على عمر بن الخطاب ذكروا ذلك له، فقال عمر: أكثر ذكرها على باب المسجد ثلاثة أيام، فإن أتى باغيها فردها عليه وإلا عرفها سنة، فإن أتى باغيها فردها عليه، وإلا فشأنك بها، قال: فعرفتها ثلاثة أيام ثم عرفتها سنة، فلم يأت لها باغي، وكان لي امرأتين فكسوتهما منها واستنفقت سائرها.
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 74) حيث قال: "روي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عباس. وبه قال ابن المسيب، والشعبي، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي. وروي عن عمر، رواية أخرى، أنه يعرفها ثلاثة أشهر. وعنه ثلاثة أعوام ".
أعوام في حديث أُبَيٍّ الذي سيأتي، لكن الراوي تردَّد فيه، هل هو عامٌ أو ثلاثة، لكن في حديث زيد بن خالد الجهني المتفق عليه:"عرفها حولًا"
(1)
.
وبعضهم قالوا: سبعة أيام، واستدلوا بحديث ابن مُرة بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الدرهم:"يعرَّف ثلاثة أيام، فما زاد عنه فسبعة أيام"
(2)
.
والمشهور الذي وردت به الأحاديث الصحيحة المشهورة أنها تعرف حولًا، أي: سنةً كاملة.
واستثنى الغنم من تلك المدة؛ لأن الغنم إذا وُجدت فالإنسان يأكلها، وبعد ذلك يضمنها، خلافًا لمالِك
(3)
، وإما أن يبيعها ويحفظ ثمنها، وإما أن يبقيها عنده وينفق عليها، لكن الإنفاق عليها ليس سهلًا.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا بَعْدَ السَّنَةِ، فَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مَالِكٌ
(4)
وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(5)
، وَالشَّافِعِيُّ
(6)
،
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه أحمد (17566) بلفظ: "من التقط لقطة يسيرة، درهمًا أو حبلًا أو شبه ذلك، فليعرفه ثلاثة أيام، فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام ". وضعف إسناده الأرناؤوط.
وقال ابن الملقن في "البدر المنير"(7/ 155) ولفظ أحمد: "من التقط لقطة يسيرة درهمًا أو حبلًا أو شبه ذلك فليعرفه ثلاثة أيام، فإن كان فوق ذلك فليعرفه (سبعة) أيام".
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 121) حيث قال: " (وله حبسها بعده) أي بعد تعريفها السنة، (أو التصدق بها) عن ربها أو نفسه (أو التملك) ".
(5)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 135) حيث قال: "فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها فإن جاء صاحبها فهو بالخيار: إن شاء أمضى الصدقة وإن شاء ضمن الملتقط ".
(6)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 337 - 338) حيث قال: " (وقيل: تملك بمضي السنة) بعد التعريف اكتفاء بقصد التملك السابق (فإن تملكها) فلم يظهر المالك لم=
وَأَحْمَدُ
(1)
، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ إِذَا انْقَضَتْ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكلَهَا إِنْ كَانَ فَقِيرًا، أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهَا إِنْ كانَ غَنِيًّا
(2)
.
يتصدَّق بها إنْ كان غنيًّا، وهذا عند المالكية والحنفية، أما عند الشافعية والحنابلة فليس كذلك، لكن إذا أراد أن يتصدق بها ثم يضمنها فنَعم.
قوله: (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا كانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يجِيزَ الصَّدَقَةَ فَيَنْزِلَ عَلَى ثَوَابِهَا أَوْ يُضَمِّنَهُ إِيَّاهَا).
إذا جاء صاحبها، فيقول له: يا فلان، أنا تصدقت بها عنك، فإذا أردت ذلك فستجد ثواب ذلك عند الله سبحانه وتعالى، وإما أن تأخذ قيمتها، ويكون الثواب لي؛ لأنني أريد الأجر، فيُخَيِّره في ذلك؛ لأنه ليس من حقه أن يلزمه.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْغَنِيِّ هَلْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا أَوْ يُنْفِقَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
وَالشَّافِعِيُّ
(4)
).
= يطالب بها في الآخرة؛ لأنها من كسبه كما في شرح مسلم أو (فظهر المالك) وهي باقية بحالها (واتفقا على رد عينها) أو بدلها (فذاك) ظاهر".
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 382) حيث قال: " (ومن عرفها) أي: اللقطة حولًا (فلم تعرف) فيه وهي ما يجوز التقاطه (دخلت في ملكه) ".
(2)
ينظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 249) حيث قال: "واتفق الفقهاء في الأمصار مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود أن يعرف اللقطة سنة كاملة له بعد تمام السنة أن يأكلها إن كان فقيرًا أو يتصدق بها فإن جاء صاحبها وشاء أن يضمنه كان ذلك له ".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 249) حيث قال: "واختلفوا: هل للغني أن يأكلها، ويستنفقها بعد الحول أم لا؟ فاستحب مالك للغني أن يتصدق بها أو يحبسها، وإن أكلها، ثم جاء صاحبها ضمنها".
مذهب المالكية: أنه لا فرق بين الغني والفقير في اللقطة ينظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 121) حيث قال: " (وله حبسها بعده) أي بعد تعريفها السنة، (أو التصدق بها) عن ربها أو نفسه (أو التملك) بأن ينوي تملكها فللملتقط هذه الأمور الثلاثة".
(4)
مذهب الشافعية: أنه لا فرق بين الغني والفقير في اللقطة ينظر: "تحفة المحتاج"=
وأحمد
(1)
.
قوله: (لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: لَيْسَ لَهُ أن يأكلها أو
(3)
يَتَصَدَّقَ بِهَا
(4)
، وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ عَنْ عَلِيِّ
(5)
وَابْنِ عَبَّاسٍ
(6)
وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ
(7)
. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ مَالًا كَثِيرًا جَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ
(8)
).
= للهيتمي (6/ 337) حيث قال: " (إذا عرف) اللقطة بعد قصده تملكها (سنة) أو دونها في الحقير جاز له تملكها".
(1)
مذهب الحنابلة: أنه لا فرق بين الغني والفقير في اللقطة ينظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 382) حيث قال: " (ومن عرفها) أي: اللقطة حولًا (فلم تعرف) فيه وهي ما يجوز التقاطه (دخلت في ملكه) ".
(2)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (5/ 170) حيث قال: "ينتفع الملتقط باللقطة بأن يتملكها بشرط كونه فقيرًا، وأما الغني فلا يجوز له الانتفاع بها فإن لم يجئ صاحبها فليتصدق بها".
(3)
لعل بدل (لَيْسَ لَهُ أن يأكلها أو يتصدق بها): (لَيْسَ لَهُ أن يأكلها، وله أن يتصدق بها). وهذا هو مذهب أبي حنيفة كما في التخريج السابق.
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 249) حيث قال: "وقال أبو حنيفة: لا يأكلها الغني ألبتة بعد الحول، ويتصدق بها على كل حال، إلا أن يكون ذا حاجة إليها، وإنما يأكلها الفقير، فإن جاء صاحبها كان مخيرًا على الفقير الأكل وعلى الغني التصدق ".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 414) عن أبي السفر، عن رجل، من بني رؤاس، قال: التقطت ثلاثمائة درهم، فعرفتها تعريفًا ضعيفًا، وأنا يومئذ محتاج، فأكلتها حين لم أجد أحدًا يعرفها، ثم أيسرت فسألت عليًّا، فقال:"عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، فادفعها إليه، وإلا فتصدق بها، وإلا فخيره بين الأجر وبين أن تغرمها له ".
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 413) عن عبد العزيز بن رفيع، قال: حدثني أبي، قال: وجدت عشرة دنانير، فأتيت ابن عباس فسألته عنها، فقال:"عرفها على الحجر سنة، فإن لم تعرف فتصدق بها فإن جاء صاحبها فخيره الأجر أو الغرم ".
(7)
ينظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 249) حيث قال: "وممن روي عنه أن الملتقط يتصدق بها ولا يأكلها سعيد بن المسيب والحسن والشعبي وعكرمة وطاوس والثوري والحسن بن حي ".
(8)
ينظر: "التمهيد" لابن عبد البر (3/ 118) حيث قال: "وقال الأوزاعي: إن كان مالًا كثيرًا جعله في بيت المال ".
هذه المسألة اختلف فيها العلماء، هل تُعطى اللُّقطة للسُّلطان أو يُتصَرَّف فيها، وبخاصة في عروض التجارة التي لم يعرض لها المؤلف؛ لأن من العلماء مَن لا يرى بأنَّ عروض التجارة تُلتقط؛ بدعوى أنها لم تُذكَر، والحقيقة أنها داخلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم عنها.
فقد سُئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد المتاع في الطريق العابر، أو القرية؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"أخبره أن يأخذها ويُعرفها"
(1)
كالحال بالنسبة لبقية الأمور.
قوله: (وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
(2)
عَنْ عُمَرَ
(3)
وَابْنِ مَسْعُودٍ
(4)
وَابْنِ عُمَر
(5)
وَعَائِشَةَ
(6)
. وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ
(7)
عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَكَلَهَا
(1)
أخرجه النسائي (2494) وغيره بلفظ: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؟ فقال: "ما كان في طريق مأتي أو في قرية عامرة فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فلك، وما لم يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس" وحسنه الألباني في "صحيح النسائي"(6/ 138).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 249) حيث قال: "وقال الشافعي: يأكل اللقطة الغني والفقير بعد الحول، وهو تحصيل مذهب مالك وأصحابه وعليه يناط أصحابه ".
(3)
أخرجه مالك في "الموطأ"(47) عن معاوية بن عبد الله بن بدر الجهني، أن أباه أخبره: أنه نزل منزل قوم بطريق الشام فوجد صرة فيها ثمانون دينارًا، فذكرها لعمر بن الخطاب، فقال له عمر:"عرفها على أبواب المساجد، واذكرها لكل من يأتي من الشأم سنة، فإذا مضت السنة فشأنك بها".
(4)
أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(11/ 391) عن عبد الله بن مسعود في اللقطة: "إذا احتاج إليها أنفقها".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 414) عن عبد الله بن عمرو، أن رجلًا قال: التقطت دينارًا، فقال:"لا يأوي الضالة إلا ضال"، قال: فأهوى به الرجل ليرمي به، فقال:"لا تفعل"، قال: فما أصنع به؟ قال: "تعرفه، فإن جاء صاحبه، فرده إليه، وإلا فتصدق به ".
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 416) عن سلمى، ولا أراها إلا ابنة كعب، قالت: وجدت خاتمًا في طريق مكة فسألت عائشة، فقالت:"تمتعي به ".
(7)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 176) حيث قال: "وأجمعوا أن صاحبها إن جاء وثبت أنه هو فهو أحق بها من ملتقطها، وأنه يضمنها له إن أكلها واستهلكها قبل أو بعد".
ضَمِنَهَا لِصَاحِبِهَا إِلَّا أَهْلَ الظَّاهِرِ
(1)
. وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "فَشَأْنَكَ بِهَا" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ. وَمِنَ الْحُجَّةِ لَهُمَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
(2)
وَالتِّرْمِذِيُّ
(3)
عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ قَالَ: لَقِيتُ أُوَيْسَ بْنَ كَعْبٍ فَقَالَ: وَجَدْتُ صُرَّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"عَرِّفْهَا حَوْلًا"، فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلَاثًا فَقَالَ:"احْفَظْ وِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا" وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ
(4)
وَأَبُو دَاوُدَ
(5)
: "فَاسْتَنْفِقْهَا").
هذا النصُّ في "الصحيحين"، وعند الترمذي، وأبي داود، وهو حُجة للذين يرون أخذ اللقطة دون كراهة، وعرفنا فيما مضى قول الحنفية والشافعية؛ فاستنفقها ولا حرج.
قوله: (فَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ لَفْظِ حَدِيثِ اللُّقْطَةِ لِأَصْلِ الشَّرْعِ).
نعلم بأن الإنسان لا يأكل مال غيره، إلَّا أن تطيب به نفسه، فلا يجوز لإنسان أن يأخذ حق غيره فيأكله إلا برضاه، ما عدا الثمار، فإن الإنسان يأخذ مِن المتساقط، والشرط أن لا يكون الباب مغلقًا، ومرَّ بنا ذلك.
(1)
مذهب أهل الظاهر أنه يضمن، ينظر:"المحلى" لابن حزم (7/ 110) حيث قال: "فهو عند تمام السنة مال من مال الواجد -غنيًّا كان أو فقيرًا يفعل فيه ما شاء، ويورث عنه، إلا أنه متى قدم من يقيم فيه بينة أو يصف شيئًا مما ذكرنا فيصدق ضمنه له -إن كان حيًّا، أو ضمنه له الورثة- إن كان الواجد له ميتًا".
(2)
حديث (2426).
(3)
حديث (1374)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1374).
(4)
حديث (1372)، وقال:"حديث يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد حديث حسن صحيح ".
(5)
حديث (1704)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1701).
قوله: (وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ. فَمَنْ غَلَّبَ هَذَا الْأَصْلَ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ: "فَشَأْنَكَ بِهَا").
"لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه"
(1)
، فلا يجوز للإنسان أن يأخذ من حق أخيه المسلم إلا أن تطيب نفس صاحب الحق بذلك، لكن اللقطة لك، أو لأخيك، أو للذئب، ثم إن ذاك الذي يأخذ لقطة أخيه المسلم بغير طيب نفس منه؛ ليأكلها إنما يأخذها ليحفظها له، فإن وُجدت سيردها إليه، فإن تلفت أعطاه القيمة، وإن باعها أعطاه الثَّمَن، وإن كانت عنده سيردها إليه، إذًا هو لم يأكل مال أخيه المسلم في هذه الحالات؛ وهذا لا يعارض ما جاء في الأصول.
قوله: (قَالَ: لَا يَجُوزُ فِيهَا تَصَرُّفٌ إِلَّا بِالصَّدَقَةِ فَقَطْ عَلَى أَنْ يُضَمَّنَ إِنْ لَمْ يُجِزْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ الصَّدَقَةَ، وَمَنْ غَلَّبَ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَرَأَى أَنَّهُ مُسْتَثْنًى عنْهُ، قَالَ: تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ الْعَامِ وَهِيَ مَالٌ مِنْ مَالِهِ لَا يَضْمَنُهَا إِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا).
هذا الحديث مخصص لذاك العام ولا تعارض بينهما؛ لأن الحالة التي فيها يأخذ اللقطة لا يريد أن يأكل مال أخيه المسلم من غير أن تطيب نفسه، بل أخذ ذلك المال ليحفظه له إن جاء، فإن لم يأت؛ فإنه يجوز له أن يتملكه، ولا يحتاج بأن ينص على تملكه -كما يقول بعض الشافعية
(2)
- فيَنوِي أن يتملكه.
(1)
أخرجه أحمد (20695)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1459).
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 337) حيث قال: " (إذا عرف) اللقطة بعد قصده تملكها (سنة لم يملكها حتى يختاره بلفظ) من ناطق صريح فيه (كتملكت) أو كناية مع النية (وقيل تكفي النية) أي تجديد قصد التملك ".
قوله: (وَمَنْ تَوَسَّطَ قَالَ: يَتَصَرَّفُ بَعْدَ الْعَامِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا عَلَى جِهَةِ الضَّمَانِ).
هذا هو مذهب الجمهور، وكان الأول مذهب أبي حنيفة الذي قال ليس له إلا أن يتصدق بها، أما من قال بأكلها ولا ضمان عليه فهم أهل الظاهر، والثالث هو مذهب جمهور العلماء الأئمة الثلاثة.
قوله: (وَأَمَّا حُكْمُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ لِمَنِ ادَّعَاهَا، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُدْفَعُ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْعِفَاصَ وَلَا الْوِكَاءَ
(1)
).
فمثلًا جاء إنسان يدعي اللقطة، وقال: وجدت كيسًا فيه مبلغ ألف ريال، وأنواعه مِن نوع الخمس مئة، أو من المئة؛ لأن أي إنسان في نفسه مرض وطمع يقول إنه صاحبها، بل هو يقول مَن ضاعت له دراهم أو دنانير
…
، فإذا جاء فوصفها؛ لا تُدفع إليه إذا لم يعرف العفاص ولا الوكاء، وأيضًا العدد؛ لأنه جاء في بعض الروايات الصحيحة، كما عند مسلم
(2)
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" لفخر الدين الزيلعي (3/ 306) حيث قال: "قال رحمه الله: (فإن بين علامتها حل له الدفع بلا جبر) أي إذا بين المدعي علامتها حل للملتقط الدفع إليه من غير أن يجبر عليه في القضاء والعلامة مثل أن يسمي عدد الدراهم ووزنها ووكاءها ووعاءها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 118) حيث قال: " (ورد) المال الملتقط (بمعرفة مشدود فيه) وهو العفاص أي الخرقة، أو الكيس ونحوه المربوط فيه المال (و) المشدود (به) وهو الوكاء بالمد أي الخيط (و) بمعرفة (عدده بلا يمين) ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 339) حيث قال: " (وإن وصفها) وصفًا أحاط بجميع صفاتها (وظن) الملتقط (صدقه جاز الدفع) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 220) حيث قال: " (فمتى جاء طالبها) ولو بعد الحول (فوصفها) بالصفات السابقة الزم دفعها إليه إن كانت عنده، ولو بلا بينة، ولا يمين ظن صدقه أو لا) ".
(2)
حديث (6/ 1722) بلفظ: "فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها، وعددها ووكاءها، فأعطها إياه وإلا فهي لك ".
وغيره
(1)
؛ إذًا لا بد وأن يعرف عفاصها.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا عَرَفَ ذَلِكَ هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ أَمْ لَا؟
(2)
فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
).
وأحمد
(4)
.
قوله: (يَسْتَحِقُّ بِالْعَلَامَةِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(5)
، وَالشَّافِعِيُّ
(6)
: لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا بِبَيِّنةٍ).
انقسم الأئمة قسمين:
قال مالك وأحمد: لا يحتاج الأمر إلى بينة.
وقال أبو حنيفة والشافعي: لا بد من بينة.
(1)
أخرجه النسائي في "الكبرى"(5/ 346).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 250) حيث قال: "واختلفوا في دفع اللقطة إلى من جاء بالعلامة دون بينة".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 250) حيث قال: "واختلفوا في دفع اللقطة إلى من جاء بالعلامة دون بينة، فقال مالك: يستحق بالعلامة".
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 118) حيث قال: " (ورد) المال الملتقط (بمعرفة مشدود فيه) وهو العفاص أي الخرقة، أو الكيس ونحوه المربوط فيه المال (و) المشدود (به) وهو الوكاء بالمد أي الخيط (و) بمعرفة (عدده بلا يمين) ".
(4)
يُنظر: "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل" للحجاوي (2/ 402) حيث قال: "فمتى جاء طالبها فوصفها لزم دفعها إليه إن كانت عنده، ولو بلا بينة ولا يمين، ظن صدقه أو لا".
(5)
يُنظر: "تبيين الحقائق" لفخر الدين الزيلعي (3/ 306) حيث قال: "رحمه الله: (ولا يدفعها إلى مدعيها بلا بينة) أي لا يدفع اللقطة إلى من ادعى أنها له من غير إقامة البينة".
(6)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 339) حيث قال: " (وإذا ادعاها رجل ولم يصفها ولا بينة) له بها (لم تدفع) أي لم يجز دفعها (إليه) ما لم يعلم أنها له لخبر "لو أعطي الناس بدعواهم" ويكفي في البينة شاهد ويمين ".
قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ الْأَصْلِ فِي اشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى لظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ).
الأصل في الشهادات عند الدعاوى: البيِّنة؛ "البينة على المدعي"
(1)
، وهنا لا يحتاج إلى بينة؛ لأن هذا شيء ضاع من إنسان، فجاء شخص فوصفه؛ فيكفي ذكر العلامات، ولا يُطالب ببينة ولا شهود، أما الفريق الأول فيحتجون بحديث أُبي بن كعب في قصة الصرة التي وجدها
(2)
، وقد تقدمت، كذلك يحتجون ببعض الأحاديث التي فيها دفعها لصاحبها إذا جاء.
قوله: (فَمَنْ غَلَّبَ الْأَصْلَ قَالَ: لَا بُدَّ مِنَ الْبَيِّنَةِ، وَمَنْ غَلَّبَ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ، قَالَ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ. وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ الشَّهَادَةَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام "اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا؛ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا"
(3)
، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِيَدْفَعَهَا لِصَاحِبِهَا بِالْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ
(4)
).
لئلا تختلط عنده بغيرها، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك في غاية البيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
(5)
، فهو قال:"اعرف عفاصها ووكاءها وعددها"؛ إذًا، هذا نص صريح في الأمر.
(1)
أخرجه الترمذي (1341)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1341).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
"الوِكاءُ": الذي يشدُّ به رأس القِربة أو الحبل الذي يشد به السقاء وغيره. انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2528) و"جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 246).
(5)
قال الغزالي: "لا خلاف أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا على مذهب من يجوز تكليف المحال، أما تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز عند أهل الحق خلافًا للمعتزلة وكثير من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الظاهر، وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي وأبو بكر الصيرفي ". انظر: "المستصفى" للغزالي (ص 192).
قوله: (يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِيَدْفَعَهَا لِصَاحِبِهَا بِالْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ، فَلَمَّا وَقَعَ الِاحْتِمَالُ وَجَبَ الرّجُوعُ إِلَى الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْأُصُولَ لَا تُعَارَضُ بِالِاحْتِمَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لَهَا إِلَّا أَنْ تَصِحَّ الزِّيَادَةُ الَّتِي نَذْكُرُهَا بَعْدُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ
(1)
).
وأحمد
(2)
.
قوله: (وَأَصْحَابِهِ أَنَّ عَلَى صَاحِبِ اللّقَطَةِ أَنْ يَصِفَ مَعَ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ صِفَةَ الدَّنَانِيرِ وَالْعَدَدَ).
هذا الحديث في "الصحيحين"
(3)
من حديث أُبي بن كعب، أما ذِكر العدد فحديثه عند الترمذي، وأبي داود، والنسائي، والبيهقي، وغيرهم من حديث زيد بن خالد الجهني
(4)
، وقد توقف المؤلف إلا لو صحت هذه الزيادة، وقد تبيَّن أنها في "الصحيحين"، و"السنن".
قوله: (قَالُوا: وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ،
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 119) حيث قال: "لو عرف العفاص والوكاء، أو أحدهما غاية الأمر أنه أخبر بأقل من عددها، ومثل هذه المسألة في جريان القولين ما إذا عرف العفاص والوكاء، أو أحدهما ولكن جهل صفة الدنانير بأن قال: لا أدري هل هي محابيب، أو بنادقة وكذا إذا لم يعرف شيئًا من العلامات الدالة عليها إلا السكة بأن قال: هي محمدية أو يزيدية ولم يعرف عفاصها ولا وكاءها ولا وزنها ولا عددها، فقيل: لا تعطى له وهو قول سحنون، وقال يحيى: تعطى له إذا عرف السكة وعرف نقص الدنانير إن كان فيها نقص وأصاب في ذلك ".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 220) حيث قال: " (فمتى جاء طالبها) ولو بعد الحول (فوصفها) بالصفات السابقة". قلت: الصفات السابقة هي: (حتى يعرف وعاءها، وكاءها، وعفاصها، وقدرها) أي: اللقطة بمعيارها الشرعي من كيل أو وزن أو ذرع أو عد، (و) يعرف (جنسها، وصفتها) التي تتميز بها، وحتى نوعها ولونها".
(3)
أخرجه البخاري (2426)، ومسلم (1723).
(4)
تقدم تخريجه.
وَلَفْظُهُ: "فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَوَصَفَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَدَدَهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ "
(1)
. قَالُوا: وَلَكِنْ لَا يَضُرُّهُ الْجَهْلُ بِالْعَدَدِ إِذَا عَرَفَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ، وَكَذَلِكَ إِنْ زَادَ فِيهِ).
هذه مسألة أخرى فيما لو عرف الصفتين؛ لأن هذه من الأمور الدقيقة، فكونه يصف أنها في جلد كذا، ونوع كذا، وينسى العدد؛ فلا يضره.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِنْ نَقَصَ مِنَ الْعَدَدِ عَلَى قَوْلَيْنِ
(2)
، وَكذَلِكَ اخْتَلَفُوا إِذَا جَهِلَ الصِّفَةَ وَجَاءَ بِالْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ
(3)
. وَأَمَّا إِذَا غَلِطَ فِيهَا فَلَا شَيْءَ لَهُ
(4)
. وَأَمَّا إِذَا عَرَفَ إِحْدَى الْعَلَامَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَقَعَ النَّصُّ عَلَيْهِمَا وَجَهِلَ الْأُخْرَى فَقِيلَ إِنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهِمَا جَمِيعًا
(5)
، وَقِيلَ يُدْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَقِيلَ إِن ادَّعَى الْجَهَالَةَ اسْتُبْرِئَ، وَإِنْ غَلِطَ لَمْ تُدْفَعْ إِلَيْهِ).
الاستبراء يقصد به الطلب إلى آخر الأمر؛ لتقطع الشبهة، كأنه يكرر
(1)
أخرجه مسلم (1722).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 119) حيث قال: "أخبر بأقل من عددها ومثل هذه المسألة في جريان القولين فقيل: لا تعطى له وهو قول سحنون وقال يحيى: تعطى".
(3)
ينظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (6/ 136) حيث قال: "والمراعى فيما يصف من ذلك صفة العفاص والوكاء والعدد إن كانت دراهم أو دنانير قاله ابن القاسم وأشهب وعند أصبغ العفاص والوكاء".
(4)
ينظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 119) حيث قال: "إذا عرف العفاص والوكاء، أو أحدهما وغلط في الصفة فقط كأن قال بنادقة فإذا هي محابيب، أو بالعكس أو قال: هي يزيدية فإذا هي محمدية، أو العكس فإنها لا تدفع له ".
(5)
ينظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 119) حيث قال: "إذا عرف العفاص وغلط في الوكاء بأن قال: الوكاء كذا فإذا هو بخلاف ذلك، أو عرف الوكاء وغلط في العفاص فلا تدفع له ".
معه، فمثلًا عندما تختبر إنسانًا فتطلب منه أن يذكر لك هذا الأمر، ثم تقول له أَعِد، فإذا ضبط كلامه ولم يتناقض صار استبراءً؛ لأنه لا يوجد غيره مَن ادعى؛ إذًا، مطالبته حتى النهاية لقطع الشبهة.
قوله: (وَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ إِذَا أَتَى بِالْعَلَامَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ هَلْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ بِيَمِينٍ أَوْ بِغَيْرِ يَمِينٍ؟ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ).
وكذلك الإمام أحمد
(1)
.
قوله: (فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِغَيْرِ يَمِينٍ
(2)
: وَقَالَ أَشْهَبُ: بِيَمِينٍ
(3)
. وَأَمَّا ضَالَّةُ الْغَنَمِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِوَاجِدِ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فِي الْمَكَانِ الْقَفْرِ الْبَعِيدِ مِنَ الْعُمْرَانِ أَنْ يَأْكُلَهَا
(4)
؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الشَّاةِ: "هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ"
(5)
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُضَمَّنُ قِيمَتَهَا لِصَاحِبِهَا أَمْ لَا؟).
هذا هو محل الخلاف، أنهم جميعًا -الأئمة الأربعة- قالوا: يلتقطها.
لكن إذا التقطها فأكلها أو باعها واحتفظ بثمنها، وجاء صاحبها هل له أن يضمن هذه الشاة التي أكلها؟
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 220) حيث قال: " (فمتى جاء طالبها) ولو بعد الحول (فوصفها) بالصفات السابقة (لزم دفعها إليه إن كانت عنده، ولو بلا بينة، ولا يمين ظن صدقه أو لا) ".
(2)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (6/ 137) حيث قال: "المشهور من المذهب وهو الظاهر من قول ابن القاسم أن لا يمين عليه ".
(3)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (6/ 137) حيث قال: "قال أشهب: إن وصف ذلك كله لم يأخذها إلا بيمينه ".
(4)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 176) حيث قال: "وأجمعوا أن لآخذ الضالة في الموضع المخوف عليه أكلها".
(5)
تقدم تخريجه.
فالجمهور يقولون: نعم؛ وذلك لروايةٍ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "رد إلى أخيك ضالته"
(1)
.
وقال مالك: لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "هي لك، أو لأخيك، أو للذئب"
(2)
، فسوى بينها وبين الذئب، ومعلوم أنَّ الذئب لا يُطالَب بالتعريف والغرم.
ولذلك قال ابن عبد البر
(3)
-وهو من أئمة المالكية-: لم يوافق مالكًا في هذا القول أحد من فقهاء الأمصار ولا غيرهم.
قوله: (فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِنَّهُ يُضَمَّنُ قِيمَتَهَا
(4)
، وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ الْأَقَاوِيلِ عَنْهُ: إِنَّهُ لَا يُضَمَّنُ
(5)
. وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ الظَّاهِرِ -كَمَا قُلْنَا- لِلْأَصْلِ الْمَعْلُومِ مِنَ الشَّرِيعَةِ).
مخالفة الظاهر لأصل معلوم من الشريعة.
(1)
أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 135) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلًا من مزينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال له: يا نبي الله، كيف ترى في ضالة الغنم؟. فقال:"طعام مأكول لك، أو لأخيك، أو للذئب، احبس على أخيك ضالته "، وعند أحمد (6683) بلفظ:"تجمعها حتى يأتيها باغيها".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
ينظر: "التمهيد" لابن عبد البر (3/ 125) حيث قال: "ولم يوافق مالكًا أحد من العلماء على قوله في الشاة إن أكلها لم يضمنها إذا وجدها في الموضع المخوف".
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" لفخر الدين الزيلعي (3/ 303) حيث قال: "إذا أخذ اللقطة ليعرفها فإن أخذها ليأكلها لم يبرأ عن ضمانها حتى يدفعها إلى صاحبها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 122) حيث قال: "وقال سحنون: إذا وجدها في الفلاة وأكلها ضمن قيمتها لربها إذا علم به بعد ذلك ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 584) حيث قال: "وإن شاء (أكله) متملكًا له (وغرم قيمته إن ظهر مالكه) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 380) حيث قال: "وإذا أراد أكله حفظ صفته فمتى جاء ربه فوصفه غرم له قيمته ".
(5)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 122) حيث قال: " (و) له أكل (شاة) وجدها (بفيفاء) ولم يتيسر حملها للعمران ولا ضمان ".
قوله: (إِلَّا أَنَّ مَالِكًا هُنَا غَلَّبَ الظَّاهِرَ فَجَرَى عَلَى حُكْمِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَجُزْ كَذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِيمَا وَجَبَ تَعْرِيفُهُ بَعْدَ الْعَامِ لِقُوَّةِ اللَّفْظِ هَاهُنَا، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُضَمَّنُ
(1)
، وَكذَلِكَ كُلُّ طَعَامٍ لَا يَبْقَى إِذَا خُشِيَ عَلَيْهِ التَّلَفُ إِنْ تَرَكَهُ).
إذا كان الطعام يسيرًا فيأخذه الإنسان، وهذا ما رخص فيه، أما إذا كان ذا شأن فإنه يأكل ذلك الطعام، ولكن قد يكون ذلك الطعام مما يمكن معالجته.
مثال: إذا كان رطبًا يجففه الإنسان، وإذا كان عنبًا فيجففه حتى يصير زبيبًا؛ فيكون مثل هذا معالجة، أما إذا كان سيفسد فلا بد أن يأكله ويدفع القيمة إذا كان له شأن، أو يبيعه ثم بعد ذلك يعطيه الثمن.
قوله: (وتحصيل مَذْهَب مَالِك عِنْدَ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَبْقَى فِي يَدِ مُلْتَقِطِهِ وَيُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَف إِنْ تُرِكَ كَالشَّاةِ فِي الْقَفْرِ، وَالطَّعَامِ الَّذِي يُسْرعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَقِسْمٌ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَف. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ مَا يَبْقَى فِي يَدِ مُلْتَقِطِهِ وَيُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إلى ثَلَاثَة أَقْسَامِ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لَا بَالَ لَهُ وَلَا قَدْرَ لِقِيمَتِهِ وَيُعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَطْلُبُهُ لِتَفَاهَتِهِ).
كما قلنا في حديث جابر
(2)
أن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص لهم السوط، والعصا، والحبل، وما يشبه ذلك، كبيضة أو برتقالة أو تمرة أو تفاحة ونحو ذلك مما قد يجده.
(1)
مذهب المالكية: المشهور هو عدم الضمان ينظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 122) حيث قال: "وقال سحنون: إذا وجدها في الفلاة وأكلها ضمن قيمتها لربها إذا علم به بعد ذلك ".
(2)
تقدم تخريجه.
قوله: (فَهَذَا لَا يُعَرَّفُ عِنْدَهُ وَهُوَ لِمَنْ وَجَدَهُ).
هذا عند الأئمة كلهم
(1)
، وليس المالكية
(2)
وحدهم.
قوله: (وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكلْتُهَا"
(3)
).
رآها ساقطة في الأرض، فخشي أن تكون من الصدقة، ومعلوم أن الرسول لا يجوز له أن يأكل الصدقة، وإن لم تكن لأخذها وأكلها، وهذا الحديث متفق عليه.
قوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا تَعْرِيفًا، وَهَذَا مِثْلُ الْعَصَا وَالسَّوْطِ، وَإِنْ كَانَ أَشْهَبُ قَدِ اسْتَحْسَنَ تَعْرِيفَ ذَلِكَ
(4)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" لفخر الدين الزيلعي (3/ 304) حيث قال: "وإن كانت ثمرة ونحوها تصدق بها مكانها وإن كان محتاجًا أكلها مكانها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 329) حيث قال: " (فإن كان يسرع فساده كهريسة) ورطب لا يتتمر تخير بين خصلتين فقط (فإن شاء باعه) بإذن الحاكم إن وجده ولم يخف منه عليه كما هو ظاهر وإلا استقل به فيما يظهر (وعرفه) بعد بيعه لا ثمنه (ليتملك ثمنه وإن شاء تملكه في الحال وأكله) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 377) حيث قال: " (ما لا تتبعه همة أوساط الناس) أي: لا يهتمون في طلبه (كسوط وشسع ورغيف) وثمرة وكل ما لا خطر له (فيملك بأخذه) ويباح الانتفاع به ".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 120) حيث قال: "ما لا تلتفت النفس إليه وتسمح غالبًا بتركه كعصا وسوط وشيء من تمر، أو زبيب فلا يعرف، وله أكله ".
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (6/ 134) حيث قال: "وفي سماع أشهب فيمن وجد العصا، أو السوط قال: لا يأخذه، فإن أخذه عرفه، فإن لم يعرفه أرجو أن يكون خفيفًا".
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا إِلَّا أَنَّ لَهُ قَدْرًا وَمَنْفَعَةً، فَهَذَا لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِي تَعْرِيفِهِ
(1)
).
كأن يكون عشرين دينارًا، أو مئة ريال، أو خمسين، ونحو ذلك.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يُعَرَّفُ، فَقِيلَ سَنَةً، وَقِيلَ أَيَّامًا).
بيَّنا أن القول المشهور هو سَنة، أما عمر بن الخطاب في أثر عنه، وتبعه الجمهور على ثلاثة أيام، وفي أثر آخر عنه على ثلاثة أعوام، وجاءت كذلك ثلاثة أعوام في رواية عن أُبَي، لكنها رواية متردَّد فيها هل قال حول أو قال ثلاثة، لكن في حديث زيد قطع بأنه سَنة؛ فَيُقدَّم.
قوله: (وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ كثِيرًا أَوْ لَهُ قَدْرٌ، فَهَذَا لَا اخْتِلَافَ فِي وُجُوبِ تَعْرِيفِهِ حَوْلًا
(2)
. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا لَا يَبْقَى بِيَدِ مُلْتَقِطِهِ وَيُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ، فَإِنَّ هَذَا يَأْكُلُهُ غَنِيًّا كَانَ أَمْ فَقِيرًا، وَهَلْ يُضَمَّنُ؟ فِيهِ رِوَايَتَان كمَا قُلْنَا: الْأَشْهُرُ أَنْ لَا ضَمَانَ عليه. وَاخْتَلَفُوا إِنْ وُجِدَ مَا يُسْرعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ فِي الْحَاضِرَةِ، فَقِيلَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَلَا يُضَمَّنُ، أَوْ يَأْكُلَهُ فَيُضَمَّنَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ كَالإبل، أَعْنِي أَنَّ الِاخْتِيَارَ عِنْدَهُ فِيهِ التَّرْكُ لِلنَّصِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ).
الاختيار عند الإمام مالك ألا تلتقط الإبل، وهذا أيضًا مذهب
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 120) حيث قال: " (ولو) كان الملتقط (كدلو) ودينار ودراهم كصرفه فأقل لأنها ليست من التافه لكن الراجح أنها، وإن كانت فوق التافه إلا أنها دون الكثير الذي له بال فتعرف أيامًا عند الأكثر بمظان طلبها لا سنة".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 120) حيث قال: "وإما كثير له بال وهو ما فوق الدينار فيعرف سنة".
أحمد
(1)
والشافعي
(2)
، أما أبو حنيفة
(3)
فيرى أنه يجوز التقاط الإبل مطلقًا، وفي رواية للشافعية
(4)
بالتقاطها لأجل التعريف، أما أكثر العلماء فيرون أن الإبل لا تلتقط؛ لحديث:"ما لك ولها معها سقائها وحذائها"
(5)
.
قوله: (فَإِنْ أَخَذَهَا وَجَبَ تَعْرِيفُهَا، وَالِاخْتِيَارُ تَرْكُهَا
(6)
، وَقِيلَ
(1)
يُنظر: "منتهى الإرادات" لابن النجار (3/ 300) حيث قال: "الضوال التي تمتنع من صغار السباع كإبل وبقر وخيل وبغال وحمير وظباء وطير وفهد ونحوها فغير الآبق يحرم التقاطه ".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 324 - 325) حيث قال: " (الحيوان المملوك الممتنع من صغار السباع بقوة كبعير وفرس أو بعدو كأرنب وظبي أو طيران كحمام إن وجد بمفازة فللقاضي) أو نائبه (التقاطه للحفظ)؛ لأن له ولاية على أموال الغائبين ولا يلزمه وإن خشي ضياعه كما اقتضاه كلامه بل قال السبكي إذا لم يخش ضياعه لا ينبغي أن يتعرض له، (وكذا لغيره) من الآحاد أخذه للحفظ من المفازة (في الأصح)، (ويحرم) على الكل (التقاطه) زمن الأمن من المفازة (للتملك) للنهي عنه في ضالة الإبل ".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 135) حيث قال: "ويجوز الالتقاط في الشاة والبقرة والبعير".
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 26) حيث قال: "حكم ضوال الإبل والغنم إذا وجدها في الصحراء، فأما إذا وجدها في المصر أو في قرية فالذي حكاه المزني فيما وجد بخطه أنها لقطة له أخذها وعليه تعريفها حولًا، وحكي عن الشافعي في "الأم" أنها في المصر والصحراء سواء يأكل الغنم ولا يعرض للإبل فاختلف أصحابنا فمنهم من خرج ذلك على قولين:
أحدهما: أن المصر كالبادية يأكل الغنم ولا يعرض للإبل، وهو المحكي عنه في "الأم " لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"ضالة المؤمن حرق النار".
والقول الثاني: إنها لقطة يأخذ الغنم والإبل جميعها ويعرفها كسائر اللفط حولًا كاملًا".
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 122) حيث قال: " (قوله: كإبل) ظاهره وجدها في الصحراء، أو في العمران ابن عبد السلام: وهو أسعد بظاهر المذهب اهـ بن. (قوله: إلا خوف خائن) أي إلا إذا خيف عليها من أخذ الخائن فإنها تؤخذ وتعرف، وقد تبع الشارح في ذلك عبق والخرشي واختاره شيخنا، واقتصر عليه في المج وفي بن المعتمد من مذهب مالك تركها مطلقًا".
فِي الْمَذْهَبِ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَزْمنة، وَقِيلَ: إِنَّمَا هُوَ فِي زَمَان الْعَدْلِ، وَأَنَّ الْأفْضَلَ فِي زَمَان غَيْرِ الْعَدْلِ الْتِقَاطُهَا
(1)
).
إذا كان الإنسان يعيش في مكان فيه أمن وعدل؛ فإنه حينئذٍ يتركها، أما إذا كان يخشى فإنه يلتقطها.
قوله: (وَأَمَّا ضَمَانُهَا فِي الَّذِي تُعَرَّفُ فِيهِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنِ الْتَقَطَهَا وَأَشْهَدَ عَلَى الْتِقَاطِهَا فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ)
(2)
.
الإشهاد شرط إذا أشهد فيه الضمان، وعلى هذا اتفق العلماء، ولكن إذا لم يشهد؟
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ يُشْهِدْ
(3)
، فَقَالَ مَالِكٌ
(4)
، وَالشَّافِعِيُّ
(5)
).
(1)
ينظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 122) حيث قال: "وقيل: هو خاص بزمن العدل وصلاح الناس وأما في الزمن الذي فسد فالحكم فيه أن تؤخذ وتعرف ".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 177) حيث قال: "وأجمع الفقهاء أن الملتقط إذا أخذ اللقطة ليعرفها لم يضمن إن هلكت عنده إلا أبا حنيفة فإنه قال: إن لم يشهد على ذلك وقت أخذها ضمن إن هلكت عنده ".
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 119) حيث قال: "إذا كان أشهد أو إذا كان أمانة بأن أشهد إلا تكون مضمونة عليه) فلو هلكت بغير صنع منه لا ضمان عليه ".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 251) حيث قال: "واختلفوا فيمن أخذ لقطة ولم يشهد على نفسه أنه التقطها وأنها عنده ليعرفها ثم هلكت عنده وهو لم يشهد، فقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد: لا ضمان عليه إذا هلكت من غير تضييع منه وإن كان لم يشهد، وهو قول عبد الله بن شبرمة وقال أبو حنيفة وزفر: إن أشهد حين أخذها أنه يأخذها ليعرفها لم يضمنها إن هلكت، وإن لم يشهد ضمنها".
(4)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (6/ 77) حيث قال: "فإن تلفت عنده أو ادعى تلفها وادعى أنه أخذها ليحرزها على صاحبها فهو مصدق دون يمين إلا أن يتهم، وسواء أشهد حين التقاطها أو لم يشهد على مذهب مالك ".
(5)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 319) حيث قال: " (والمذهب أنه لا يجب الإشهاد على الالتقاط) بل يسن ولو لعدل كالوديعة".
وأحمد، فأحمد استحب الإشهاد؛ لأن الحنفية سيستدلون بحديث على الجمهور، والحنابلة جمعوا بين الأدلة، فاعتبروا ذلك استحبابًا؛ إذًا الأئمة الثلاثة لا يشترطون الإشهاد لكن أحمد
(1)
يستحب ذلك.
قولة: (وَأَبُو يُوسُفَ
(2)
، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
(3)
: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يُضَيِّعْ وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَزُفَرُ
(5)
: يَضْمَنُهَا إِنْ هَلَكَتْ وَلَمْ يُشْهِدْ. واسْتَدَلَّ مَالكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِأَنَّ اللُّقَطَةَ وَدِيعَةٌ فَلَا يَنْقُلُهَا تَرْكُ الْإِشْهَادِ مِنَ الْأَمَانَةِ إِلَى الضَّمَانِ، قَالُوا: وَهِيَ وَدِيعَةٌ بِمَا جَاءَ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ).
الحديث جاء من طريق سليمان بن بلال، وليس هو من رواه.
قوله: (وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ
(6)
).
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 383) حيث قال: " (و) سن عند وجدانها (إشهاد عدلين عليها) ".
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 119) حيث قال: "إن لم يشهد وقال أخذتها للرد للمالك وكذبه المالك يضمن عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يضمن، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد".
(3)
قول محمد بن الحسن كقول أبي حنيفة أنه يضمن.
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 119) حيث قال: "إن لم يشهد وقال أخذتها للرد للمالك وكذبه المالك يضمن عند أبي حنيفة ومحمد".
(4)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 119) حيث قال: "إن لم يشهد وقال أخذتها للرد للمالك وكذبه المالك يضمن عند أبي حنيفة".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 251) حيث قال: "وقال أبو حنيفة وزفر: إن أشهد حين أخذها أنه يأخذها ليعرفها لم يضمنها إن هلكت وإن لم يشهد ضمنها".
(6)
أخرجه البخاري (2428)، ومسلم (1722) واللفظ له حيث قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا سليمان يعني ابن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن يزيد، مولى المنبعث، أنه سمع زيد بن خالد الجهني، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة، الذهب، أو الورق؟ فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها، ثم=
الوديعة
(1)
لا تضمن؛ لأنها أمانة، فلو ضمن أصحاب الودائع دون أن يحصل تفريط أو إهمال منهم، ما أقبل الناس على تحمُّل الأمانات.
قوله: (وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ بِحَدِيثِ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ الْتَقَطَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوِي عَدْلٍ عَلَيْهَا وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُعْنِتْ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ").
وهذا الحديث أخرجه أيضًا أصحاب السنن
(2)
، وأحمد
(3)
، وغيرهم
(4)
، وهو صحيح، ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله باستحباب الإشهاد، لكنهم لا يرونه واجبًا
(5)
.
قوله: (وَتَحْصِيلُ الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ أَنَّ وَاجِدَ اللُّقَطَةِ عِنْدَ مَالِكٍ لَا يَخْلُو الْتِقَاطُهُ لَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ
(6)
، أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَهَا عَلَى جِهَةِ الِاغْتِيَالِ لَهَا).
= عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه "، وسأله عن ضالة الإبل، فقال: "ما لك ولها، دعها، فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها"، وسأله عن الشاة، فقال: "خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب ".
(1)
"الوديعة": المال المتروك عند إنسان تستودعه إياه ليحفظَه. انظر"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 98) و"العين" للخليل الفراهيدي (2/ 224).
(2)
أخرجه أبو داود (1709)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 344)، وابن ماجه (2505)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب"(1751).
(3)
حديث (18343)، وقال الأرناؤوط:"إسناده صحيح على شرط مسلم ".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(11/ 222)، والطيالسي (2/ 408)، والبغوي في "الجعديات "(ص 192).
(5)
تقدم تخريجه قريبًا.
(6)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (6/ 77) حيث قال: "وقال في المقدمات: واجد اللقطة على ثلاثة أوجه، أحدها أن يأخذها ولا يريد التقاطها ولا اغتيالها، والثاني أن يأخذها ملتقطًا لها، والثالث أن يأخذها مغتالًا لها".
والاغتيال أي الخفي، يأخذها على غرة؛ ولذلك يقولون في بعض القتل:"قتل الغيلة"؛ لأنه إذا قتل إنسان إنسانًا خفية، أيْ: على غرَّة، خدعة يسمَّى قتل الغيلة.
قوله: (وَالثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَهَا عَلَى جِهَةِ الِالْتِقَاطِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْخُذَهَا لَا عَلَى جِهَةِ الِالْتِقَاطِ وَلَا عَلَى جِهَةِ الِاغْتِيَالِ).
بمعنى وجد شيئًا ساقطًا، فظن أنه لأحد أصحابه، أو ممن يكون معه.
قوله: (فَإِنْ أَخَذَهَا عَلَى جِهَةِ الِالْتِقَاطِ فَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ عَلَيْهِ حِفْظُهَا وَتَعْرِيفُهَا، فَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ أَنِ الْتَقَطَهَا، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُضَمَّنُ
(1)
).
هذا القول ينسبه لأحد المالكية، وهو أيضًا قول الإمامين الشافعي وأحمد، وهذا القول محل اتفاق بين الأئمة، لكن لو أخذ اللقطة ثم ردها إلى مكانها مرة أخرى، فقد قال الجمهور: يضمن
(2)
؛ لاحتمال أن يكون صاحبها قد جاء إلى ذلك المكان فبحث عنها فلم يجدها، ثم يردها،
(1)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (6/ 135) حيث قال: "أن يأخذها ملتقطًا لها وبذا قد لزمه عند ابن القاسم حفظها وتعريفها فإن ردها بعد أن أخذها قال ابن القاسم: يضمنها".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 120) حيث قال: "فإن ذهب بها ثم أعادها ضمن، وبعضهم ضمنه ذهب بها أو لا، والوجه ظاهر المذهب ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 121) حيث قال: "يضمن في (ردها) لموضعها، أو غيره (بعد أخذها للحفظ) ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"كفاية النبيه في شرح التنبيه" لابن الرفعة (11/ 457) حيث قال: "ولا خلاف عندنا: أنه إذا ردها إلى الموضع الذي أخذها منه لا يبرأ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 213) حيث قال: " (ومتى أخذها) أي: أخذ الملتقط اللقطة (ثم ردها إلى موضعها) ضمنها".
فيكون صاحبها قد رفع من ذهنه هذا المكان الذي لم يجدها فيه، فكأنه ألحق الضرر بصاحبها، ولذلك قالوا: إن عليه الضمان.
قوله: (وَقَالَ أَشْهَبُ
(1)
: لَا يُضَمَّنُ إِذَا رَدَّهَا فِي مَوْضِعِهَا، فَإِنْ رَدَّهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ضُمِّنَ كَالْوَدِيعَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي تَلَفِهَا دُونَ يَمِينٍ إِلَّا أَنْ يُتَّهَمَ. وَأَمَّا إِذَا قَبَضَهَا مُغْتَالًا لَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا، وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ هَذَا الْوَجْهُ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ).
هذا الذي يأخذها خفية ربما يدرك أنه قد أخطأ؛ فحينئذ يضمنها.
قوله: (وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ، فَهُوَ مِثْلُ أَنْ يجِدَ ثَوْبًا فَيَأْخُذَهُ، وَهُوَ يَظُنُّهُ لِقَوْمٍ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَسْأَلَهُمْ عَنْهُ، فَهَذَا إِنْ لَمْ يَعْرِفُوهُ وَلَا ادَّعَوْهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ حَيثُ وَجَدَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقٍ عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ
(2)
. وَتَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا، وَهُوَ الْعَبْدُ يَسْتَهْلِكُ اللُّقَطَةَ).
هل العبد يلتقط أو لا؟ ربما يقال: كان ينبغي أن يذكر المؤلف الأصل ثم يفرع عليه، لكن الحقيقة أنَّ في مقدمة (كتاب اللقطة) أشار إلى أن العبد لا يلتقط عند أكثر العلماء، وهنا العبد يلتقط؛ إذًا، المسألة فيها خلاف بين العلماء، فبعضهم يرى أنه لا يلتقط، وبعضهم يرى أنه يلتقط، وبعضهم يرى أنه يلتقط إذا أذِنَ له سيده.
(1)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (6/ 135) حيث قال: "وقال أشهب: لا يضمنها إن ردها في موضعها بقرب ذلك أو بعده فلا إشهاد عليه في ردها، وعليه اليمين لردها في موضعها، فإن ردها في غير موضعها ضمن ".
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (6/ 77) حيث قال: "فهو مثل أن يجد ثوبًا وهو يظنه لقوم بين يديه يسألهم عنه فهذا إن لم يعرفوه ولا ادعوه كان له أن يرده حيث وجده ولا ضمان عليه فيه، قاله ابن القاسم في المدونة، ورواه ابن وهب عن مالك ".
فعلى القول بأنه يلتقط، فإذا أخذها ثم تلفت عنده أو استهلكها، كشاةٍ ذبحها فأكلها؛ فمن المسؤول، العبد نفسه أو سيده؟ قوله:(فَقَالَ مَالِكٌ)
(1)
.
وأحمد
(2)
.
قوله: (إِنَّهَا فِي رَقَبَتِهِ إِمَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ سَيِّدُهُ فِيهَا).
قال مالكٌ وأحمدُ: إنها في رقبة العبد، فيبقى سيده بين أمرين: إما أن يسلمه، أو يسلمه ليباع، أو أن يدفع عنه ذلك.
قوله: (وَإِمَّا أَنْ يَفْدِيَهُ بِقِيمَتِهَا، هَذَا إِذَا كَانَ اسْتِهْلَاكُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَإِنِ اسْتَهْلَكَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَلَمْ تَكُنْ فِي رَقَبَتِهِ).
فرق بين أن تُستهلك اللقطة قبل الحَوْل؛ لأنها أمانة عنده قبل الحول، فإذا ما انتهى الحول أصبحت ملكًا له، وبما أن العبد لا يملك؛ فإنها تكون ملكًا لسيده؛ لأن ما يملك العبد إلا هو ملك لسيده؛ فتغير الحكم هنا.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: إِنْ عَلِمَ بِذَلِكَ السَّيِّدُ فَهُوَ الضَّامِنُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا السَّيِّدُ كَانَتْ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَرْجِعُ الْمُلْتَقِطُ
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 122) حيث قال: " (و) إن ضاعت منه (قبل السنة) بتفريط أو بعد نية تملك فجناية (في رقبته) فيباع فيها ما لم يفده سيده وليس له إسقاطها عنه، وأما بعد السنة ففي ذمته يتبع بها إذا عتق ولا يباع فيها".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 387) حيث قال: " (ومتى تلفت) اللقطة (بإتلافه) أي الرقيق الملتقط (أو تفريطه) في الحول أو بعده ولو بدفعها لسيده وهو لا يأمنه عليها (فـ) ضمانها (في رقبته) ".
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (5/ 431) حيث قال: " (فلو أخذه) أي الملتقط (سيده) أو غيره منه (كان التقاطًا) من الآخذ فيعرفه ويتملكه ويسقط عن العبد الضمان، فإن لم يعلم تعلق برقبة العبد فقط ".
بِمَا أَنْفَقَ عَلَى اللُّقَطَةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ
(1)
: مُلْتَقِطُ اللُّقَطَةِ متَطَوِّعٌ بِحِفْظِهَا فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ اللُّقَطَةِ).
هذا هو رأي الأئمة، أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وهي أيضًا رواية للإمام أحمد، والرواية الأخرى عن الإمام أحمد أنه يرجع.
قوله: (وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ إِلَّا أَنْ تَكونَ النَّفَقَةُ عَنْ إِذْنِ الْحَاكمِ
(2)
، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مِنْ أَحْكَامِ الِالْتِقَاطِ، وَهَذَا الْقَدْرُ كافٍ بِحَسَبِ غَرَضِنَا فِي هَذَا الْبَابِ).
هم قيدوها بهذا، لكنهم مع الجمهور، وعن إذن الحاكم، وسيأتي في اللقيط وهو الذي ذكر فيه العلماء ما يتعلق باستدان الحاكم في الإنفاق عليه، وهو الذي سيأتي فيه الخلاف.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 123) حيث قال: " (و) إن أنفق الملتقط على اللقطة من عنده (خير ربها) إذا جاء (بين فكها بالنفقة)؛ لأنه قام عنه بواجب (أو إسلامها) لملتقطها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 335) حيث قال: " (وإن أخذ) رشيد (للتملك) أو الاختصاص ابتداء أو في الأثناء ولو بعد لقطه للحفظ (لزمته) مؤنة التعريف وإن لم يتملك بعد؛ لأن الحظ له في ظنه حالة التعريف (وقيل إن لم يتملك فعلى المالك) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 215) حيث قال: " (ويرجع) الملتقط (به) أي: بما أنفقه على الحيوان (ما لم يتعد) بأن التقطه لا ليعرفه، أو بنية تملكه في الحال، ونحوه (وإن نوى الرجوع) على مالكه إن وجده بما أنفق كالوديعة، (وإلا) بأن أنفق ولم ينو الرجوع (فلا) رجوع له بما أنفق؛ لأنه متبرع ".
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 125) حيث قال: " (قوله فإن أنفق الملتقط عليها بغير إذن الحاكم فهو متبرع لقصور ولايته عن ذمة المالك) أي عن أن يشغلها بالدين بلا أمره. (وإن أنفق بأمره كان دينًا عليه) ".
(بَابٌ فِي اللَّقِيطِ)
(1)
هنا اختلف الأمر، فقد مر معنا ما في اللقطة، وما يجده الإنسان من ذهب أو فضةٍ أو عروض تجارة، أو غير ذلك من الحيوان كما عرفنا، أماً هنا فالكلام عن اللقيط، وهو الطفل المنبوذ، الذي طُرح، فقد يجده إنسان مُلقًى في مكان عند باب مسجدٍ، أو في فَلاة، أو في ساحةٍ أو غير ذلك.
حكم الالتقاط:
الالتقاط مشروع، وقد استدل أهل العلم على مشروعيته بأدلة من الكتاب، والسنة، والقياس.
فمن الكتاب:
عموم قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وهذا من باب التعاون على البر والتقوى.
(1)
اللقيط في اللغة: الطفل الذي يوجد مرميًّا على الطرق لا يعرف أبوه ولا أمه، وقد غلب اللقيط على المولود المنبوذ. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (7/ 392 - 393) و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 557).
واصطلاحًا: عرفه الحنفية بأنه: اسم لحي مولود طرحه أهله خوفًا من العيلة أو فرارًا من تهمة الريبة. انظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(4/ 269).
وعرفه ابن عرفة من المالكية بأنه: صغير آدمي لم يعلم أبوه ولا رقه. انظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (7/ 130).
وعرفه الشافعية بأنه: "كل صبي ضائع لا كافل له ". انظر: "روضة الطالبين" للنووي (5/ 418).
وعرفه الحنابلة بأنه: "طفل غير مميز لا يعرف نسبه ولا رقه، طرح في شارع أو ضل الطريق ما بين ولادته إلى سن التمييز". انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 226).
ومن السنة:
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه "
(1)
.
أما القياس:
فلأن ذلك الإنسان لو تُرك دون أن يُلتقط لمات؛ ولذلك، فلو كان بحاجة إلى الطعام وجب دفعه إليه؛ لأنه مضطر إلى ذلك، فإذا لم يُعط أدَّى ذلك إلى هلاكه، كما أنه لو كان الإنسان في حالة غرق ووجد من يستطيع أن يخلصه من ذلك فيجب عليه إنقاذه.
إذًا، كما أنه يجب على الإنسان أن يُطعم المضطر، ويُخلص الغريق من غرقه إن استطاع؛ كذلك هنا يجب عليه أخذ اللقيط.
أما من حيث وجوب ذلك، فهل يكون وجوبًا عينيًّا أو كفائيًّا؛ فالصحيح أنه كفائيٌّ
(2)
، لو قام به واحد سقط عن الباقين، ولو تركوه
(1)
جزء من حديث أخرجه مسلم (2699).
(2)
وهو مذهب جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية والحنابلة) خلافًا للحنفية الذين قالوا إنه مندوب.
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 110) حيث قال: "والالتقاط مندوب إليه؛ لما فيه من إحياء نفس مسلمة) إذا لم يغلب على الظن ضياعه (فإن غلب على ظنه ضياعه كان واجبًا) وقول الشافعي وباقي الأئمة الثلاثة فرض كفاية، إلا إذا خاف هلاكه ففرض عين يحتاج إلى دليل الوجوب قبل الخوف. نعم إذا غلب على الظن ضياعه أو هلاكه فكما قالوا، وهو المراد بالوجوب الذي ذكرناه لا الوجوب باصطلاحنا؛ لأن هذا الحكم وهو إلزام التقاطه إذا خيف هلاكه مجمع عليه ". وانظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 198).
ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير"(4/ 124) حيث قال: " (قوله: ووجب لقط طفل) ظاهره ولو على امرأة وينبغي أن يقيد بما إذا لم يكن لها زوج وقت إرادتها الأخذ، أو أذن لها فيه وإلا فلا يجب عليها؛ لأن له منعها فإن أخذته بغير إذن الزوج كان له رده لمحل مأمون يمكن أخذه منه فإن لم يرده وكان لها مال أنفقت عليه منه، وإن أذن لها في أخذه فالنفقة عليه ولو كان لها مال؛ لأنه لما كان بإذنه صار كأنه الملتقط. (قوله: أي صغير) أي سواء كان ذكرًا، أو أنثى. (قوله: نبذ) فيه إشارة إلى اتحاد معنى اللقيط والمنبوذ كما عند الجوهري والمتقدمين
…
وقيل المنبوذ ما دام مطروحا، ولا يسمى لقيطًا إلا بعد أخذه وقيل: المنبوذ ما وجد بفور ولادته واللقيط بخلافه. (قوله: فالأولى أن يقول بمضيعة) أي:=
جميعًا لأثموا؛ لأنها نَفْسٌ يجب الحرص على إحيائها، فمن ترك هذه النفس تموت فإنه آثم؛ هذا فيما يتعلق بأصل المشروعية.
قوله: (وَالنَّظَرُ فِي أَحْكَامِ الِالْتِقَاطِ وَفِي الْمُلْتَقِطِ وَاللَّقِيطِ وَفِي أَحْكَامِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ شَيْءٍ ضَائِعٍ لَا كَافِلَ لَهُ فَالْتِقَاطُهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ
(1)
).
وهذا أيضًا هو رأي الإمام أحمد
(2)
.
= وجد بمضيعة لأجل أن يشمل من نبذ قصدًا ومن ضل عن أهله ويشير إلى أنه لا بد أن يوجد في غير حرز؛ إذ من أخذه من الحرز سارق. (قوله: كفاية) محل الكفاية إن لم يخف عليه وإلا وجب عينا. كما في الإرشاد وظاهر المصنف الوجوب ولو علم خيانة نفسه بدعوى رقيته مثلًا فيجب عليه الالتقاط وترك الخيانة، ولا يكون علمه بالخيانة عذرًا يسقط عنه الوجوب.
ومذهب الشافعية: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 597) حيث قال: " (التقاط) أي أخذ (المنبوذ) بالمعجمة (فرض كفاية) لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] إذ بإحيائها يسقط الحرج عن الناس فإحياؤهم بالنجاة من العذاب؛ ولأنه آدمي محترم فوجب حفظه كالمضطر إلى طعام غيره، بل أولى؛ لأن البالغ العاقل ربما احتال لنفسه وفارق اللقطة، حيث لا يجب التقاطها بأن المغلب عليها الاكتساب والنفس تميل إليه فاستغنى بذلك عن الوجوب كالنكاح والوطء فيه، فلو لم يعلم بالمنبوذ إلا واحد لزمه أخذه، فلو لم يلتقطه حتى علم به غيره فهل يجب عليهما، كما لو علما معًا أو على الأول فقط؟ أبدى ابن الرفعة فيه احتمالين. قال السبكي: والذي يجب القطع به أنه يجب عليهما".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 226) حيث قال: " (والتقاطه فرض كفاية) لفوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]؛ ولأن فيه إحياء نفسه فكان واجبًا كإطعامه إذا اضطر، وإنجائه من نحو غرق فلو تركه جميع من رآه أثموا، ويحرم النبذ؛ لأنه تعريض بالمنبوذ للتلف ".
(1)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 447). حيث قال: " (التقاط المنبوذ)، أي: المطروح والتعبير به للغالب أيضًا كما علم (فرض كفاية) حفظًا للنفس المحترمة عن الهلاك ".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 316). حيث قال: "والتقاطه فرض كفاية".
قوله: (وَفِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ خِيفَةَ الِاسْتِرْقَاقِ خِلَافٌ)
(1)
.
الإشهاد على التقاطه فيه خلاف، وأكثر العلماء لا يرون ذلك؛ لأن المقصود باللقطة حفظ المال فلا يحتاج إلى إشهاد.
مثال: إذا ذهبت لتشتري وتبيع، هل تحتاج أن يكون معك شخص ليشهد؟ لا يحتاج الأمر إلى ذلك؛ لأن المقصود حفظ المال، لكن هنا في اللقيط المقصود هو حفظ نسبه وحريته؛ فكان الأمر بالنسبة له آكد وأهم، ولذلك قال بعض العلماء بوجوب الإشهاد، وهما وجهان عند الحنابلة: وجه بوجوب الإشهاد
(2)
، وآخر بعدمه، لكنه بلا شك آكد من اللقطة
(3)
.
(1)
مذهب المالكية أن الأفضل الإشهاد، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 126). حيث قال: " (وينبغي) للملتقط (الإشهاد) عند الالتقاط على أنه التقطه، خوف طول الزمان فيدعي الولدية أو الاسترقاق ". وقد قيده الدسوقي في حاشيته بما إذا لم يطل الزمان؛ لاحتمال ادعاء الولدية أو الرق ".
وهو مذهب الحنابلة. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 405). حيث قال: "ويستحب للملتقط الإشهاد عليه ".
والأصح عند الشافعية وجوب الإشهاد، ولو كان الملتقط مشهور العدالة.
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (4/ 447). حيث قال: " (ويجب) (الإشهاد عليه) أي: الالتقاط وإن كان الملتقط مشهور العدالة".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 118). حيث قال: "والثاني: يجب؛ لأن القصد بالإشهاد حفظ النسب والحرية، فاختص بوجوب الشهادة، كالنكاح ".
ولم نجد للحنفية نصًّا في ذلك، والظاهر أنهم يرون الوجوب؛ فإنهم يوجبون الإشهاد في اللقطة، بل يُضمنون من لم يُشهد. يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (7/ 325). حيث قال: "م: (وإن لم يشهد الشهود عليه) ش: أي عند الالتقاط. م: (وقال الآخذ: أخذته للمالك وكذبه المالك يضمن عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يضمن) ".
وقد ذكر ابن رشد أن سبب الخلاف هو خلافهم في اللقطة، والحنفية قائلون بوجوب الإشهاد على اللقطة.
تنبيه: يُشكل على كلام ابن رشد أن المشهور عند الشافعية وجوب الإشهاد على اللقيط دون اللقطة، وقد يكون مأخذه صحيحًا، ويكون إيجابهم للإشهاد على اللقيط لخطره بالنسبة للقطة.
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 118). حيث قال: "يجب لأن القصد بالإشهاد حفظ=
فالذين قالوا: لا إشهاد. قاسوه على اللقطة، لكنه في الحقيقة قياسٌ مع الفارق؛ لأن اللقطة يقصد في الإشهاد هو حفظ المال والمحافظة عليه، وبالنسبة للقيط هو حفظ نسبه وحريته، فهو أشبه بالنكاح، فكما أن النكاح لا يجوز إلا بولي وشاهدي عدل، كذلك أيضًا قالوا هنا: لا بد من الإشهاد.
قوله: (وَالْخِلَافُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ في الْإِشْهَادِ عَلَى اللُّقَطَةِ. وَاللَّقِيطُ: هُوَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ غَيْرُ الْبَالِغِ).
وبعض العلماء يسميه: الطفل المنبوذ، وقد جاء في بعض الآثار تسميته بالمنبوذ
(1)
.
قوله: (وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا، فَفِيهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَرَدُّدٌ
(2)
وَالْمُلْتَقِطُ: هُوَ كُلُّ حُرٍّ عَدْلٍ رَشِيدٍ).
= النسب والحرية، فاختص بوجوب الشهادة، كالنكاح، وفارق اللقطة؛ فإن المقصود منها حفظ المال، فلم يجب الإشهاد فيها، كالبيع ".
(1)
منها: ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 295) عن علي قال: "المنبوذ حر، فإن أحب أن يوالي الذي التقطه والاه، وإن أحب أن يوالي غيره والاه ".
(2)
مذهب الشافعية جواز التقاط المميز بلا تردد، وإنما ترددهم في وجوبه.
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 447). حيث قال: " (ويجوز) (التقاط) الصبي (المميز)؛ لأن فيه حفظًا له وقيامًا بتربيته، بل لو خاف ضياعه لم يبعد وجوب التقاطه ".
وأشار الشبراملسي في حاشيته أن ظاهر المذهب الوجوب.
يُنظر: "حاشية الشبراملسي"(5/ 447 - 448). حيث قال: " (قوله: لم يبعد وجوب التقاطه) عبارة شرح البهجة: ولقط غير بالغ ولو مميزًا إن نبذ فرض اهـ. وهي كالصريحة في وجوب التقاط المميز مطلقًا".
وأما الحنفية فلم يحددوا سنًّا للطفل الملتقط فيما اطلعنا، لكن ظاهر كلامهم أنه حديث عهد بولادة. يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(ص 353). حيث عرف اللقيط: "اسم لحي مولود طرحه أهله خوفًا من العيلة أو فرارًا من تهمة الريبة".=
"الحر"، يخرج من ذلك العبد، والمكاتِب، والمدبر، فيخرجون لأن العبد لا يلتقط، لكن مِن العلماء من قال: إذا لم يوجد غيره فإنه يلتقط
(1)
؛ لأن في ذلك حفظًا للنفس حتى لا تموت؛ إذًا، هو ليس له أن يلتقط لأنه ليس من أهل الولاية، والالتقاط ولاية؛ لأنه إذا التقطه سيتولى أمره، كما أنَّ العبد لا يتولى أمر نفسه، فكيف يتولى أمر غيره؟! لكن إذا لم يوجد ملتقط غيره من الأحرار، فإنه يلتقط في هذه الحال حفاظًا على حياة ذلك الطفل الملقى.
"العدل "، يخرج الفاسق، معنى هذا بأن الفاسق لا يلتقط؛ لأنه ليس
= وأما المالكية، فقيدوه بما دون البلوغ.
يُنظر: "منح الجليل " لعليش (8/ 245). حيث قال: "فلا يلقط بالغ ولا طفل غير منبوذ".
ومذهب الحنابلة فيه تردد، فقال بعضهم إلى التمييز، وعند الأكثر إلى البلوغ.
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 405). حيث قال: "وهو طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ أو ضل إلى سن التمييز وقيل: والمميز إلى البلوغ وعليه الأكثر".
(1)
وهو مذهب الحنابلة. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 406). حيث قال: "وليس له التقاطه بغير إذن سيده إلا أن لا يجد من يلتقطه؛ لأنه تخليص له من الهلكة".
وأجاز الحنفية التقاط العبد.
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(4/ 269). حيث قال: "وأن العبد المحجور عليه يصح التقاطه ".
وذهب المالكية إلى أنه إن التقطه بإذن سيده، فالملتقط السيد؛ فإن كان بغير إذنه انتزع منه.
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (8/ 250). حيث قال: " (وليس لـ) رقيق (مكاتب ونحوه) كمدبر ومبعض ومعتق لأجل وأم ولد وولدها غير سيدها وأولى القن (التقاط) للقيط (بغير إذن السيد) فإن أذن فهو الملتقط. وهو أيضًا مذهب الشافعية".
يُنظر: "المنهاج" للنووي (ص 176). حيث قال: "ولو التقط عبد بغير إذن سيده انتزع منه فإن علمه فأقره عنده أو التقط بإذنه فالسيد الملتقط ".
تنبيه: مقتضى قول المالكية والشافعية بانتزاع اللقيط من العبد أنه لا يُترك ليهلك، بل يُنتزع، ويوضع في يد من يحفظه، ولا يُتصور أن نجد فقيهًا يُجوز نزع يد العبد عنه، وتركه بلا رعاية وحضانة، وهم الذين نصوا على أن التقاطه فرض كفاية ليسلم من الهلاك.
من أهل الولاية، فهو مُخِلٌّ فيما يتعلق بذاته في دينه، فكيف يؤمن على شخص معه؟! فإن أخذه فاسق غير أمين عليه؛ فإنه يُنزع من يده.
"رشيد"، يخرج السفيه؛ لأن السفيه
(1)
هو الذي يبذِّر، والله تعالى يقول:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} ، وإذا كان السفيه يُحْجَر عليه في مال نفسه لسوء تصرُّفه، فكيف يولَّى أمر غيره.
قوله: (وَلَيْسَ الْعَبْدُ وَالْمَكَاتِبُ بِمُلْتَقِطٍ، وَالْكَافِرُ دُونَ الْمُسلِمِ)
(2)
.
فالكافر يلتقط الكافر، أما أنه يلتقط المسلم، فلا؛ لأن الالتقاط ولاية، والكافر ليس من أهل الولاية، أما المسلم فله أن يلتقط كافرًا؛ لأن الإسلام يعلو ولا يُعلَا عليه.
قوله: (وَالْكَافِرُ دُونَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَيَلْتَقِطُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَيُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْفَاسِقِ وَالْمُبَذِّرِ).
الفاسق؛ لأنه غير أمين عليه، والمبذر؛ لأنه لا يحسن التصرف.
قوله: (وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُلْتَقِطِ الغِنَى).
فالغنى ليس شرطًا؛ لأن الغِنَى لا أثر له في ذلك.
قوله: (وَلَا تَلْزَمُ نَفَقَةُ الْمُلْتَقَطِ عَلَى مَنِ الْتَقَطَهُ).
مر بنا في باب النفقات أنها تجب لواحد من أربع:
القريب الذي تجب النفقة عليه، كالأبناء الصغار، أو الوالدين.
ما يتعلق بالنكاح، وهو ما يكون بين الزوجين كنفقة الزوج على زوجته.
(1)
"السفه في الأصل: الخفة والطيش، ومعنى السفيه: الخفيف العقل ". انظر: "لسان العرب" لابن منظور (13/ 498).
(2)
"والكافر دون المسلم" ينبغي أن تؤخر مع الفقرة التالية في المتن.
ما يتعلق بالولاء والملك، فالسيد مسؤول عن عبده؛ فيجب عليه أن ينفق عليه.
فهؤلاء الذين تجب نفقتهم، وما عدا ذلك فلا، فهذا ليس ولدًا، وليس مما يتعلق بالأمور الأخرى، ولا رق عليه هنا؛ لأنه حر كما سيأتي.
قوله: (وَإِنْ أَنْفَقَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ).
هذا فيه كلام طويل للعلماء، فبعضهم يُفصِّل ويقول: إن أنفق عليه بإذن الإمام بنِيَّة أن يرجع إليه فإنه يرجع إليه إذا كان أيسر، يعني إذا شب هذا الغلام اللقيط، وكبر وأصبح يعمل، وعنده مال؛ فإنه يطالبه بالنفقة عليه، هذا إذا استأذن الإمام فأذن له
(1)
.
(1)
مذهب الحنابلة: أن ملتقطه لا يلزمه نفقته؛ فإن تعذرت النفقة اقترض الحاكم على بيت المال، فيدخل فيه لو أذن الحاكم لملتقطه أن ينفق عليه؛ فهو قرض على بيت المال.
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 405). حيث قال: "ولا يجب نفقته على ملتقطه، وينفق عليه من بيت المال إن لم يكن معه ما ينفق عليه، فإن تعذر اقترض حاكم على بيت المال، فإن تعذر فعلى من علم حاله الإنفاق مجانًا ولا يرجع؛ لأنها فرض كفاية".
ونحوه مذهب الحنفية.
يُنظر: "البناية" للعيني (7/ 314). حيث قال: "م: (والملتقط متبرع في الإنفاق عليه) ش: أي على اللقيط م: (لعدم الولاية) ش: أي لعدم ولايته في تقصير حقه فيكون متبرعًا م: (إلا أن يأمره القاضي به) ش: أي بالإنفاق عليه م: (ليكون) ش: ما أنفقه عليه م: (دينًا عليه لعموم الولاية) ". ونحوهما.
ومذهب المالكية أن نفقته على ملتقطه إلا أن يُعطى من الفيء.
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (8/ 246). حيث قال: " (و) وجبت (نفقته) أي اللقيط على ملتقطه حتى يبلغ الذكر قادرًا على الكسب ويدخل بالأنثى زوجها (إن لم يعط) بضم التحتية وفتح الطاء المهملة اللقيط (من الفيء) ".
وعليه، فلو أنفق لم يرجع على بيت المال.
مذهب الشافعية، يُنظر:"المنهاج" للنووي (ص 176). حيث قال: "فإن لم يعرف له مال فالأظهر أنه ينفق عليه من بيت المال، فإن لم يكن قام المسلمون بكفايته قرضًا". وعليه؛ فلو أنفق لم يرجع على بيت المال.
وأما إذا لم يستأذن الإمام وأنفق عليه؛ فبعض العلماء قال: يرجع على بيت المال كما هو عند الحنابلة، وبعضهم قال: يرجع إليه، وهو شريح وإسحاق، وجمهور العلماء قالوا: لا يرجع عليه بشيء، وأقصد بهم أبا حنيفة، ومالك، والشافعي.
قوله: (وَأَمَّا أَحْكَامُهُ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ إِنِ الْتَقَطَهُ فِي دَارِ الْمُسْلِمِينَ)
(1)
.
إذا التُقط في دار المسلمين فهو مسلم بلا شك، وإن التُقط في دار فيها مسلمون، فيُحكَم بإسلامه تغليبًا للمسلمين؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلا عليه، بل قال بعض العلماء: لو كان في بلد لا يوجد فيها إلا أسرة واحدة مسلمة؛ فإنه يُحْكَم بإسلامه تغليبًا للإسلام
(2)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(4/ 270). حيث قال: "قوله: (مسلم تبعًا للدار) أفاد أن المعتبر في ثبوت إسلامه المكان سواء كان الواجد مسلمًا أو كافرًا وفيه خلاف سيأتي ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل" لعليش (8/ 250). حيث قال: " (ونزع) بضم النون وكسر الزاي لقيط (محكوم بإسلامه) بالتقاطه في قرية مسلمين ".
ومذهب الشافعية: أنه يصير مسلمًا في دار الإسلام، بشرط أن يكون فيها ولو مسلم واحد.
يُنظر: "المنهاج" للنووي (ص 177). حيث قال: "إذا وجد لقيط بدار الإسلام وفيها أهل ذمة أو بدار فتحوها وأقروها بيد كفار صلحًا أو بعد ملكها بجزية وفيها مسلم، حكم بإسلام اللقيط ".
وهو مذهب الحنابلة بشرط أن يحتمل أن يكون اللقيط من المسلم.
ينظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 405). حيث قال: "وهو حر في جميع أحكامه مسلم: إلا أن يوجد في بلد كفار حرب ولا مسلم فيه أو فيه مسلم: كتاجر وأسير فكافر رقيق، فإن كثر المسلمون فمسلم، وإن وجد في دار الإسلام في بلد كل أهلها ذمة فكافر، وإن كان فيه مسلم فمسلم إن أمكن كونه منه".
(2)
تقدم ذكر الخلاف، ونسبة المذاهب في الحاشية السابقة.
قوله: (وَيُحْكَمُ لِلطِّفْلِ بِالْإِسْلَامِ بِحُكْمِ أَبِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ
(1)
، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِحُكْمِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمَا
(2)
).
وهذا رأي الجمهور، وهو أولى؛ لأنه ينظر إلى مصلحته، ودائمًا الإسلام يُقدَّم على غيره، فمن يسلم منهما يُلحق به، لكن لو كانا متساويين فإنه يلحق بالأب.
قوله: (وَبِهِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ
(3)
. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اللَّقِيطِ
(4)
فَقِيلَ إِنَّهُ عَبْدٌ لِمَنِ الْتَقَطَهُ
(5)
).
هذه مسألة مهمة جدًّا، فهذا اللقيط الذي وُجد منبوذًا مُلقًى على الأرض في فراش ملفوف، أو لفافة، أو غير ذلك من الأمور، حكمه أنه حر، وهذا أُثِر عن الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم، ولم يُذكر مَن خالف في ذلك إلَّا الإمام النخعي من التابعين، فإنه قال: يكون عبدًا. بل فصَّل فقال: إن التقطه احتسابًا لوجه الله سبحانه وتعالى؛ يكون حرًّا، وإن التقطه بنية الرِّق يكون رقيقًا
(6)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 308). حيث قال: "ويحكم بإسلام الصغير تبعًا لإسلام أبيه ".
(2)
يُنظر: "المنهاج" للنووي (ص 177). حيث قال: "فإذا كان أحد أبويه مسلمًا وقت العلوق فهو مسلم ".
وقريب منه مذهب أحمد، ولزيد بأنه يحكم بإسلامه بموت أحد أبويه أو فقده في دارنا.
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 306). حيث قال: "وإذا مات أبو الطفل أو الحمل أو المميز أو أحدهما في دارنا على كفره -لا جده ولا جدته- فمسلم ويقسم له الميراث وكذا لو عدم الأبوان أو أحدهما بلا موت ".
(3)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (9/ 134). حيث قال: "وقال ابن وهب: وش من أسلم منهما تغليبًا للإسلام ".
(4)
[في دار الكفر]، زيادة في النسخة المقابلة على عدة مخطوطات.
(5)
يأتي عزوه للنخعي في الشرح.
(6)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 112). حيث قال: "وقال النخعي: إن التقطه للحسبة،=
وأما الإمام ابن المنذر فقد حكى إجماع العلماء على أنه حر
(1)
؛ لأن الأصل في بني آدم وذريته أنهم أحرار؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلق آدم وبَنِيه أحرارًا، والله تعالى يقول:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ، وهذا الرق إنما هو لأمر عارض، ويحصل نتيجة قتال الكفار، وإذا زال هذا العارض زال الرق تباعًا، والإسلام فتح أبوابًا كثيرة في إعتاق الرقيق كما عُرف ذلك ومَر بنا.
قوله: (وَقِيلَ إِنَّهُ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ لِمَنِ الْتَقَطَهُ).
وهذا قول القاضي شريح، وإسحاق بن راهويه
(2)
.
قوله: (وَقِيلَ إِنَّهُ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ).
وهذا رأي كافة العلماء، منهم الأئمة الأربعة.
أما قول من قال: بأنه حر وولاؤه لمن التقطه؛ فهذا معروف، أيْ: تكون له الولاية عليه أنه يرثه.
ومعنى قول جمهور العلماء بأنه حر وولاؤه للمسلمين عامة، أي: أنَّ ميراثه لبيت المال، هذا إن لم يكن له وارث.
مثال: لو قُدِّرَ أنه جمع مالًا ولم يتزوج، ولم يكن له أحد؛ فإنه في هذه الحال يكون ولاؤه للمسلمين عمومًا.
والتعبير عن المسلمين عمومًا عن بيت المال، أي: يُرَد الميراث إلى بيت المال.
= فهو حر، وإن كان أراد أن يسترقه، فذلك له. وذلك قول شذ فيه عن الخلفاء والعلماء، ولا يصح في النظر".
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 76). حيث قال: "وأجمعوا أن اللقيط حر، وليس لمن التقطه أن يسترقه، وانفرد إسحاق، فقال: ولاء اللقيط للذي التقطه ".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 117). حيث قال: "وقال شريح، وإسحاق: عليه الولاء لملتقطه ".
أما إن كان له وارث كزوجةٍ فإنها تأخذ نصيبها، وإن كان له أولاد يستغرقون الميراث؛ أخذوا، وإن بقي شيء يُرد إلى بيت المال؛ لأن بيت المال هو الذي ينفق عليه، فكذلك أيضًا له أن يرثه، وهذا هو الرأي الصحيح، وهو الأقرب.
قوله: (وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ)
(1)
.
وأبي حنيفة
(2)
، والشافعي
(3)
، وأحمد
(4)
، والفقهاء كافة.
قوله: (وَالَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْأُصُولُ).
يعني ذلك تابع لكلام الجمهور.
قوله: (إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ تُخَصَّصُ بِهِ الْأُصُولُ، مِثْلَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"تَرِثُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةً: لَقِيطَهَا، وَعَتِيقَهَا، وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَت عَلَيْهِ"
(5)
).
الحديث أوله: "تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها،
(1)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (8/ 248). حيث قال: "وهو حر، وولاؤه للمسلمين ".
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 110). حيث قال: "اللقيط حر"، وقال:(6/ 111)"ولأن ميراثه لبيت المال ".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 356). حيث قال: " (إذا لم يقر اللقيط برقه فهو حر) إجماعًا وبحث البلقيني تقييده بغير دار حرب لا مسلم فيها ولا ذمي ".
فإن مات؛ فولاؤه عندهم لبيت مال المسلمين.
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 237). حيث قال: "وسمعته يقول اللقيط حر؛ لأن أصل الآدميين الحرية إلا من ثبتت عليه العبودية، ولا ولاء عليه كما لا أب له فإن مات فميراثه لجماعة المسلمين ".
(4)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 405). حيث قال: "وهو حر في جميع أحكامه مسلم ". وولاؤه لبيت المال.
وينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 232). حيث قال: "وميراث اللقيط إن مات لبيت المال إن لم يخلف وارثًا ولا يرثه الملتقط ".
(5)
أخرجه أبو داود (2906)، وضعفه الألباني، "ضعيف الجامع"(5925).
وولدها الذي عنت عنه"
(1)
، وسيأتي الكلام عنه في (كتاب الفرائض)، لكن هذا الحديث اختلف فيه، وهو حجة للذين يقولون بأن ولاءه لمن التقطه.
"المرأة ترث عتيقها": وهذا معروف، وكذلك أيضًا "لقيطها"، وهذه لفظة الشاهد من الحديث، لكن الجمهور اعترضوا عليه بالحديث المتفق عليه:"إنما الولاء لمن أعتق"
(2)
، وأجابوا عن أثر عمر - رضي الله عنه - أنه فيه كلام في تصحيحه وتضعيفه؛ فعلى فرضٍ لو سلمنا أنه صحيح، فقول عمر:"وولاؤه لك "، يعني لك الولاية عليه، لا أن القصد بولائه أنه هو مولاه، وهذا الحديث أيضًا قالوا: فيه ضعف؛ لأن الحديث: "المرأة تحوز ثلاثة مواريث" فيه كلام للعلماء، وهو صحيح، فقد أخرجه أصحاب السنن
(3)
، ولكن النسائي في "السنن الكبرى"
(4)
، وأحمد
(5)
، والبيهقي
(6)
، وغيرهم
(7)
، وضعفه بعضهم
(8)
، لكن الجمهور استدلوا بالحديث المتفق عليه:"إنما الولاء لمن أعتق"
(9)
، وهذا لم يعتقه، فكيف تكون له الولاية عليه؛ هذا هو جواب الجمهور، وهو أظهر، والله أعلم.
(1)
هذا لفظ عامة من رواه، وقد رواه بلفظ المؤلف ابن أبي شيبة في "المصنف"(11/ 408).
(2)
أخرجه البخاري (2155)، ومسلم (1504).
(3)
أخرجه أبو داود (2906) والترمذي (2115) وقال: "حسن غريب "، وابن ماجه (2742).
(4)
حديث (6326، 6327).
(5)
حديث (16004).
(6)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(6/ 394)، (6/ 424).
(7)
كالحاكم في "المستدرك"(4/ 378)، والدارقطني في "سننه"(5/ 158).
(8)
كالبيهقي في "الكبرى"(6/ 394) قال: "هذا غير ثابت "، والألباني في "إرواء الغليل"(1576).
(9)
تقدم تخريجه.
[كتاب الوديعة]
الوديعة في اللغة:
فعيلة من ودع الشيء بمعنى: سكن أو ترك؛ لأنها تسكن عن المودع عنه، وأيضًا تُتْرك عنده
(1)
.
وفي الاصطلاح:
المال الذي يُوضَع عند إنسان أجنبي ليحفظه، أو هي العين التي توضع عند آخر ليقوم بحفظها ورعايتها
(2)
.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى بأداء الأمانات، وأمر بحفظها، ولا شك أن الوديعة نوع من أنواع الأمانات، يقول سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].
وهذه الآية مع إيجازها قد ألف فيها شيخ الإسلام رحمه الله كتابه الموسوم بـ "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية".
دليل الوديعة:
* قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].
* وقوله سبحانه وتعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283].
(1)
الوديعة في اللغة: ما استودع، وهي واحدة الودائع يقال: أودعه مالًا، أي: دفعه إليه ليكون وديعة عنده، وأودعه مالًا أيضًا قبله منه وديعة وهو من الأضداد. انظر:"المصباح المنير" للفيومي، و"مختار الصحاح" للرازي (ص 335).
(2)
قال النسفي في "طلبة الطلبة"(ص 98): "الوديعة: المال المتروك عند إنسان يحفظه ".
*وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} ، وإن كانت في الآية الأخيرة هي أعم، لكن الوديعة نوع منها:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72].
*وقال عليه الصلاة والسلام: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَن ائْتَمَنَك، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ"
(1)
.
إذًا، لا شك أن الوديعة أمانة، فهي نوع من أنواع الأمانات، وقد أخبر حذيفة في حديثه الطويل المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بنزول الأمانة في جَذْر قلوب الرجال، وأخبره أيضًا عن ذهاب الأمانة في آخر الزمان
(2)
.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَجُلُّ المَسَائِلِ المَشْهُورَةِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ هِيَ فِي أَحْكَامِ الوَدِيعَةِ، فَمِنْهَا: أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا أَمَانَةٌ لَا مَضْمُونَةٌ)
(3)
؛ لأن الوديعة إذا تَقبَّلها إنسان، فهو مُحسن بذلك؛ لأن
(1)
أخرجه أبو داود (3535) وغيره، وصححه الألباني في "الصحيحة"(423).
(2)
أخرجه البخاري (6497)، ومسلم (143/ 230) عن حذيفة، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا: "أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة"، وحدثنا عن رفعها قال:"ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرًا وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان "، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلمًا رده علي الإسلام، وإن كاق نصرانيًّا رده علي ساعيه، فأما اليوم: فما كنت أبايع إلا فلاناً وفلانًا.
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 131)، قال:"الوديعة: أمانة في يد المودع إذا هلكت لم يضمنها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (3/ 419) قال: "الوديعة أمانة، والأمين لا ضمان عليه ويصدق في دعواه ما لم يفرط ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 125 - 126) قال: "والأصح=
مَن أراد أن يضع ماله عند أحد لا بد أن يختار ثقةً يحفظ له ماله، وهذا قليل في هذا الزمان كما سيأتي أنه في آخر الزمان يُسأل عن رجل أمين، فيقال: في قبيلة فلان، أو في بني فلان، فيُقال: ما أعقله! ما أظرفه
(1)
! إلى آخره، فيُستغرب أن يوجد رجل يحفظ الأمانة في ذلك الزمان، والحمد للّه لا يزال في زماننا هذا كثير من الناس ممن يحفظون الأمانة، ويحافظون عليها، وكثير من الناس في هذا الزمان -بحمد الله- فيهم الخير.
إذن، يُختار لحفظ الأمانة إنسان صالح أمين يشتهر بين الناس بتلك الصفات، ولذلك نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تُوضع عنده الأمانات لمَّا كان بمكة، ولمَّا أراد الهجرة إلى المدينة -كما أخرج ذلك البيهقي في "السنن الكبرى" وغيره- ترك تلك الأمانات التي كانت عنده عند أمِّ أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر عليَّ بن أبي طالبٍ أن يردها إلى أصحابها
(2)
.
فما أحسن خُلُقه عليه الصلاة والسلام! قد أُخْرجَ من بلده، واعتُدِيَ عليه، وأُخذَتْ أمواله، وغير ذلك من أنواع الأذى، ومع ذلك وضع الأمانات التي كانت عنده عند أم أيمن، وأمر عليًّا أن يردها إلى أصحابها وهم كفار.
= أنها عقد، فحقيقتها شرعًا: توكيل في حفظ مملوك أو محترم مختص على وجه مخصوص
…
ولكن من عجز عن حفظها حرم عليه قبوله ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 352) قال: "الوديعة أمانة بيد وديع لا تضمن بلا تعد ولا تفريط؛ لأنه تعالى سماها أمانة، والضمان ينافي الأمانة، ولو تلفت من بين ماله ولم يذهب معها شيء منه ".
(1)
هو جزء من حديث حذيفة المتقدم.
(2)
لم نقف على ذكر لأمِّ أيمن في هذه القصة؛ فقد أخرجه البيهقي في "الكبرى"(6/ 472) عن عائشة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "وأمر تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا أن يتخلف عنه بمكة حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس ". وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1546).
وقال صلى الله عليه وسلم: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَن ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ"
(1)
، أي: لو خانك إنسان، فلا يجوز لك أن تعامله بمثل معاملته، بل تعامله بالأمانة.
قوله: (إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب)
(2)
، اتفق العلماء على أن الوديعة أمانة لا تُضْمن إلا إذا حصل فيها تفريطَ، إلا ما أثِرَ عن عمر صلى الله عليه وسلم من أنه ضَمَّنَ أنس بن مالك أمانةً كانت عنده خلطها بماله فذهبت، أو ذهبت مع بعض ماله
(3)
.
وقَدْ أجَابَ العلماء بأن ذلك ربما حَصَل بتَفْرِيطٍ من أنسٍ رضي الله عنه، وإلا كيف يُضمِّنه عمر والمسألة متفق عليها بين العلماء.
إذًا، الأمين المستودع الذي توضع عنده الأمانات لا يُضمَّن إلا إذا فرَّط؛ لأنه لو كان ضامنًا لما أقبل أحدٌ على قبول أمانة أحد؛ لأنه يقدم عملًا طيبًا، وإحسانًا إلى الناس، وبرًّا إليهم، فكيف يضمن أيضًا.
قوله: (قَالَ المَالِكِيُّونَ
(4)
: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا أَمَانَةٌ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِرَدِّ الأَمَانَاتِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالإِشْهَادِ)؛ لأن الله تعالى يقول:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، يعني: تردُّوا الأمَانات إلى أهلها؛ لأنه شيءٌ مستأمنٌ يجب ردّهُ لأهله.
قوله: (فَوَجَبَ أَنْ يُصَدَّقَ المُسْتَوْدَعُ فِي دَعْوَاهُ رَدَّ الوَدِيعَةِ مَعَ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "الأوسط" لابن المنذر (11/ 307 - 310).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8/ 182) عن قتادة قال: "كان عند أنس بن مالك وديعة، فهلكت من بين ماله فضمنه إياها عمر بن الخطاب، فقال معمر: لأن عمر اتهمه يقول: كيف ذهبت من بين مالك ".
(4)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لابن يونس (18/ 364) قال: وأمر تعالى أن تؤدى الأمانات إلى إهلها، ولم يأمر بالإشهاد في ردها، كما أمرنا بالإشهاد في غير ذلك من: الدين والبيع. وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 251).
يَمِينِهِ إِنْ كذَّبَهُ المُودِعُ)، وقد جاء في حديث:"المستودع لا ضمان عليه"
(1)
، يعني: من وضعت عنده الوديعة.
قوله: (قَالُوا: إِلَّا أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ القَوْلُ قَوْلَهُ، قَالُوا: لِأَنَّها إِذَا دَفَعَهَا إِلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ، فَكَأَنَّهُ ائتَمَنَهُ عَلَى حِفْظِهَا وَلَمْ يَأْتَمِنْهُ عَلَى رَدِّهَا، فَيُصَدَّقُ فِي تَلَفِهَا، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى رَدِّهَا، هَذَا هُوَ المَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ
(2)
.
لكن خالفه الجمهور في هذا، ومنهم بعض المالكية
(3)
.
قوله: (وَقَدْ قِيلَ عَنِ ابْنِ القَاسِمِ
(4)
: إِنَّ القَوْلَ قَوْلُهُ وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ
(5)
...........................
(1)
أخرجه ابن ماجه (2401) وغيره ولفظه: عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أُودِعَ وديعة فلا ضمان عليه ". وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1547).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (3/ 425) قال: "وضمن بجحدها بأن قال لربها ما أودعتني شيئًا، ثم اعترف، أو أقام عليه بينة بالإيداع، وإلا فالقول قوله، ثم في قبول بينة الرد من المودع لربها خلاف هل تقبل؛ لأنه أمين، أو لا؛ لأنه أكذبها بجحده أصل الوديعة وقد جزم المصنف في الدين بعدم قبول بينة الرد بعد الجحد".
(3)
يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 246) قال: "إذا طولب المودع بالوديعة فادعى التلف فالقول قوله مع يمينه وكذلك إذا أدعى الرد إلا أن يكون قبضها ببينة فلا يقبل قوله في الرد إلا ببينة".
(4)
يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 246) قال: "وروي عن ابن القاسم أن القول قوله وإن قبضها ببينة".
(5)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 125 - 126) قال: "وإن ادعى الوديع تلفها ولم يذكر سببًا له، أو ذكر سيبًا خفيًّا كسرقة وغصب وبحث حمله على ما إذا ادعى وقوعه بخلوة صدق بيمينه إجماعًا ولا يلزمه بيان السبب، نعم: يلزمه الحلف له أنها تلفت بغير تفريط منه، ولو نكل عن اليمين على السبب الخفي حلف المالك أنه=
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(1)
).
وكذلك الإمام أحمد
(2)
، وقيل: هو الرأي الصحيح، وهو رأي جماهير العلماء
(3)
، وعندما اختير كان أمينًا ومشتهرًا بين الناس بهذا.
فالرجل الذي يشتهر بالأمانة بين الناس، لا يُعرَف عنه الخيانة، وإن وُجد ذلك فهو نادرٌ، بل أندر من النادر، فينبغي أن يكون ذلك الشخص محل ثقة واطمئنان، وإلا إذا صار محل شكٍّ، فإن الناس يتبرؤون من تحمُّل الأمانات، ويتباعدون عنها، والناس بحاجةٍ إلى من يودعون عنده الأمانات.
وربما الآن قد حصل تطور في المصارف، وفي حفظ الأمانات، لكننا نتكلم عن الأمانات عمومًا، فبعض الناس لا يريد أن يضع ماله في مصرف أو بنك، وإنما يريد أن يضعها عند ثقةٍ، ثم هذا التطور قد لا يكون متوفرًا في كل مكان، فقد يكون الإنسان في مكانٍ ناءٍ، فيحتاج إلى إنسانٍ يحفظ ماله عنده لعدم وجود مكانٍ آمنٍ عنده يحفظه فيه.
= لا يعلمه وغرمه البدل، وإن ذكر ظاهرًا كحريق وموت وبحث حمله على ما إذا ادعى وقوعه بحضرة جمع فإن عرف بالبينة، أو الاستفاضة الحريق وعمومه صدق بلا يمين لإغناء ظاهر الحال عنها
…
وإن عرف دون عمومه واحتمل سلامتها صدق بيمينه لاحتمال ما ادعاه وإن جهل طولب ببينة على وقوعه ثم بحلف على التلف به
…
وإنما لم يكلف ببينة على التلف به؛ لأنه مما يخفى فإن نكل حلف مالكها على نفي العلم بالتلف ورجع عليه ".
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 211) قال: "المودع مع المودع إذا اختلفا، فقال المودع: هلكت أو قال: رددتها إليك وقال المالك: بل استهلكتها فالقول قول المودع؛ لأن المالك يدعي على الأمين أمرًا عارضًا، وهو التعدي، والمودع مستصحب لحال الأمانة، فكان متمسكًا بالأصل، فكان القول قوله، لكن مع اليمين؛ لأن التهمة قائمة، فيستحلف دفعًا للتهمة".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 179) قال: "والقول قوله مع يمينه فيما يدعيه من رد؛ لأنه لا منفعة له في قبضها، فقبل قوله بغير بينة".
(3)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (6/ 333) قال: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن المودع إذا أحرز الوديعة، ثم ذكر أنها ضاعت، أن القول قوله، وقال أكثرهم: إن القول قوله مع يمينه ".
قوله: (وَهُوَ القِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ التَّلَفِ وَدَعْوَى الرَّدِّ، وَيَبْعُدُ أَنْ تَنْتَقِضَ الأَمَانَةُ).
فَلَا يُضَمَّن إذا تلفت عنده بلا تفريطٍ
(1)
، وكذلك أيضًا هذه المسألة.
قوله: (وَهَذَا فِيمَنْ دَفَعَ الأَمَانَةَ إِلَى اليَدِ الَّتِي دَفَعَتْهَا إِلَيْهِ. وَأَمَّا مَنْ دَفَعَهَا إِلَى غَيْرِ اليَدِ الَّتِي دَفَعَتْهَا إِلَيْهِ، فَعَلَيْهِ مَا عَلَى وَلِيِّ اليَتِيمِ مِنَ الإِشْهَادِ عِنْدَ مَالِكٍ وَإِلَّا ضُمِّنَ)
(2)
.
وبعض العلماء يقول باليمين وإلا ضُمِّن
(3)
.
قوله: (يُرِيدُ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6]).
آخر الآيات التي مرَّت بنا وهي قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ
(1)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (6/ 330) قال: "وأجمع أكثر أهل العلم على أن المودع إذا أحرز الوديعة، ثم تلفت من غير جنايته، أن لا ضمان عليه ".
(2)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (2/ 461) قال: وهذا فيمن دفع الأمانة إلى المِد التي دفعتها إليه، وأما من دفعها إلى غير اليد التي دفعت إليه، فعليه ما على ولي اليتيم من الإشهاد، قال الله عز وجل:{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6]، فإن لم يشهد، فلا يصدق في الدفع -إذا أنكر القابض .... وإن أنكر القابض كانت دينًا أو صلة.
(3)
هو وجهٌ عند الشافعية.
ينظر: "روضة الطالبين" للنووي (6/ 345 - 346) قال: "هل يجب على المودع الإشهاد عند الدفع إلى الوكيل؟ وجهان جاريان فيما لو دفع إليه مالاً ابتداء وأمره بإيداعه، أصحهما عند البغوي: يجب، كما لو أمره بقضاء دينه يلزمه الإشهاد، وأصحهما عند الغزالي: لا؛ لأن قول المودع مقبول في الرد والتلف، فلا يغني الإشهاد؛ لأن الودائع حقها الإخفاء، بخلاف قضاء الدين. فإذا قلنا: يجب، فالحكم كما ذكرناه في كتاب الوكالة: أنه إن دفع في غيبة الموكل من غير إشهاد، ضمن. وإن دفع بحضرته، لم يضمن على الأصح ".
يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)} [النساء: 6]، إذًا، هذا من باب التوثق.
قوله: (فَإِنْ أَنْكَرَ القَابِضُ القَبْضَ، فَلَا يُصَدَّقُ المُسْتَوْدَعُ فِي الدَّفْعِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ
(1)
. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يَتَخَرَّجُ مِنَ المَذْهَبِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ عِنْدَ مَالِكٍ أَمَرَ صَاحِبُ الوَدِيعَةِ بِدَفْعِهَا إِلَى الَّذِي دَفَعَهَا أَوْ لَمْ يَأْمُرْ
(2)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: إِنْ كَانَ ادَّعَى دَفْعَهَا إِلَى مَنْ أَمَرَهُ بِدَفْعِهَا، فَالقَوْلُ قَوْلُ المُسْتَوْدَعِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ المَدْفُوعُ إِلَيْهِ بِالوَدِيعَةِ، أَعْنِي: إِذَا كَانَ غَيْرَ المُودِعِ).
يَقْصد المستودَع الذي عنده الأمانة، وقد ورد في ذلك حديث:
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 261 - 262) قال: "قال في الوديعة من المدونة وإن دفعته إليه مالًا ليدفعه إلى رجل فقال: دفعته له وأنكر ذلك الرجل، فإن لم يأت الدافع ببينة ضمن ذلك، قبض ذلك منه ببينة أو بغير بينة، ولو شرط الرسول أن يدفع المال إلى من أمرته بغير بينة لم يضمن، وإن لم تقم له بينة بالدفع إذا ثبت هذا الشرط ".
(2)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (10/ 444) قال: "وقال أشهب في كتبه فيمن لرجل عليه ألف وديعة وألف قرض فدفع إليه ألفاً ثم قال: هي القرض وتلفت الوديعة وقال بها: هي الوديعة فإن دفع الألف إلى ربها ببينة قبل قوله: إنها القرض، وإن دفعها بغير بينة صدق ربها ولا يخرجه من الدين إلا البينة، وابن القاسم يقول: القول قول الدافع كما يصدق في ذهاب الوديعة".
(3)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (5/ 674) قال: "قال رب الوديعة للمودع ادفع الوديعة إلى فلان فقال: دفعت وكذبه في الدفع فلان وضاعت الوديعة صدق المودع مع يمينه؛ لأنه أمين
…
قال المودع ابتداء لا أدري كيف ذهبت لا يضمن على الأصح، كما لو قال ذهبت ولا أدري كيف ذهبت، فإن القول قوله، بخلاف قوله: لا أدري أضاعت أم لم تضع، أو لا أدري وضعتها أو دفنتها في داري أو موضع آخر، فإنه يضمن، ولو لم يبين مكان الدفن لكنه قال: سرقت من المكان المدفون فيه لا يضمن ".
"المستودَع لا ضمان عليه "، عند البيهقي
(1)
.
قوله: (وَادَّعَى التَّلَفَ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ المُسْتَوْدَعُ دَفَعَهَا إِلَى أَمَانَةٍ (وَهُوَ وَكِيلُ المُسْتَوْدَعِ) أَوْ إِلَى ذِمَّةٍ، فَإِنْ كَانَ القَابِضُ أَمِينًا، فَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ القَاسِمِ، فَقَالَ مَرَّةً: يُبَرَّأُ الدَّافِعُ بِتَصْدِيقِ القَابِضِ، وَتَكُونُ المُصِيبَةُ مِنَ الآمِرِ الوَكيل بالقَبْض، وَمَرَّةً قَالَ: لَا يُبَرَّأُ الدَّافِعُ إِلَّا بِإِقَامَةِ البَيِّنَةِ عَلَى الدَّفْعِ أَوْ يَأْتِي القَابِضُ بِالمَالِ، وَأَمَّا إِنْ دَفَعَ إِلَى ذِمَةٍ
(2)
.
يعني: الدفع إلى القابض مباشرةً، يدفعها الإنسان، وإلى ذمة إنسان يقبله أن يتسلَّفها.
قوله: (مِثْلَ أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ لِلَّذِي عِنْدَهُ الوَدِيعَةُ: ادْفَعْهَا إِلَيَّ سَلَفًا، أَوْ تَسَلُّفًا فِي سِلْعَةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ).
"سلفًا"، أي: يعطيه قصده قرضًا وتسلُّفًا في مقابل سلعة
(3)
، لكن هل للأمين أن يتصرف في ذلك؟
(1)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(6/ 473) ولفظه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استودع وديعة فلا ضمان عليه ". وحسنه الألباني في "الصحيحة"(2315).
(2)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (2/ 462) قال: "فإن أقر بالقبض وادعى التلف، فلا يخلو من أن يكون قبض إلى ذمة أو إلى أمانة، فإن كان قبض إلى أمانة، فاختلف في ذلك قول ابن القاسم. قال مرة: يبرأ الدافع بتصديق القابض، وتكون المصيبة من الآمر
…
وقال مرة: لا يبرأ الدافع إلا بإقامة البينة على الدفع، أو يأتي القابض بالمال ".
(3)
السلف في المعاملات له معنيان؛ أحدهما: القرض الذي لا منفعة، للمقرض فيه غير الأجر والشكر وعلى المقترض رده كما أخذه، والثاني: هو أن يعطي مالًا في سلعة إلى أجل معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السلف، وذلك منفعة للمسلف. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (9/ 159).
قوله: (فَإِنْ كَانَتِ الذِّمَّةُ قَائِمَةً، بَرِئَ الدَّافِعُ فِي المَذْهَبِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ
(1)
، وَإِنْ كَانَتِ الذِّمَّةُ خَرِبَةً، فَقَوْلَانِ)
(2)
.
"خربةً"، أيْ: مات صاحبها وزالت، فلم يصبح موجودًا.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ كلِّه أَنَّ الأَمَانَةَ تُقَوِّي دَعْوَى المُدَّعِي حَتَّى يَكُونَ القَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ).
يعني: جانب المودع أقوى دائمًا؛ لأنه محل ثِقَةٍ.
قوله: (فَمَنْ شَبَّهَ أَمَانَةَ الَّذِي أَمَرَهُ المُودِعُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ (أَعْنِي: الوَكِيلَ) بِأَمَانَةِ المُودِعِ عِنْدَهُ).
وَهذه صورةٌ أخرى، أي: أن نفس الذي أودع المبلغ يقول للمودع عنده: ادفعها لفلانٍ، أي: لوكيله في القبض، فهل هذا الذي يُدْفَعُ له المال يُنزَّل منزلة المستودع عنده في الأمانة أو لَا؟ هذه الصورة التي يريد المؤلف أن يتكلم عنها، وهي مسألة أخرى، كأن يقول له: ادفع هذا المال الذي عندك أمانة لفلان، فيدفعها له، فهل هذا الذي يُدفَع له المال (الرجل الثاني) ذمَّته بمثابة ذمة المستودع عنده أو أنها أضعف؟
قوله: (قَالَ: يَكُونُ القَوْلُ قَوْلَهُ فِي دَعْوَاهُ التَّلَفَ، كَدَعْوَى المُسْتَوْدَعِ عِنْدَهُ)، كَمَنْ وضع عند رجلٍ أمانة وقال له: قَبِّضها فلانًا، ثم
(1)
يُنظر: "الشرح الصغير وحاشية الصاوي" للدردير (3/ 556) قال: "وبرئ متسلف الوديعة وكذا تاجر فيها بلا إذن إن رد المثلي لمحله الذي أخذه منه سواء كان المثلي نقدًا أو غيره، وسواء كان السلف له مكروهًا كالملي أو محرمًا كالمعدم، فإن تلف بعد رده فلا ضمان عليه. بخلاف المقوم فلا يبرأ بذلك؛ لأنه بتصرفه فيه وفواته لزمته قيمته لربه ".
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (5/ 262) قال: "وأما إن كانت الذمة خربة فاختلف في ذلك قيل إن الدافع يبرأ بتصديق القابض، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم، وقيل إنه لا يبرأ من تصديقه إياه لخراب ذمته ".
فعل ما أمره، فتلفت عند القابض، فهل يُقْبَلُ قوله كما يقبل قول المودع عنده الأصلي أو لا؟
يقول المؤلف والمالكية
(1)
: إِنْ نزَّلنا ذمة القابض الأخير (الوكيل) في القبض ذمةَ الذي وُضعت عنده الأمانة، فلا ضمان عليه، وإنْ كان دون ذلك، فعليه الضمان.
قَوْله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ تِلْكَ الأَمَانَةَ أَضْعَفُ، قَالَ: لَا يُبَرَّأُ الدَّافِعُ بِتَصْدِيقِ القَابِضِ مَعَ دَعْوَى التَّلَفِ. وَمَنْ رَأَى المَأْمُورَ بِمَنْزِلَةِ الآمِرِ قَالَ: القَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ لِلْمَأْمُورِ، كمَا كَانَ القَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الآمِرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
(2)
.
وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ، قَالَ: الدَّافِعُ ضَامِنٌ إِلَّا أَنْ يُحْضِرَ القَابِضُ المَالَ، وَإِذَا أَوْدَعَهَا بِشَرْطِ الضَّمَانِ، فَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ
(3)
).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (3/ 428) قال: "وتضمن بدفعها لشخص مدعيًا حال من المودع
…
أي: وادعى دافعها أنك يا مودع
…
أمرته به أي: بالدفع، وأنكر ربها وتلفت، أو ضاعت بلا تفريط من القابض لها
…
وحلفت أنك لم تأمره أي: فالضمان إذا أنكر ربها الأمر بالدفع وحلف على ذلك، ولا رجوع له حينئذٍ على القابض قطعًا؛ لاعترافه أن الآمر قد ظلمه فلا يظلم هو القابض ".
(2)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (10/ 128) قال: "وإذا قال صاحب الوديعة للمودع لا تسلمها إلى زوجتك فسلمها إليها لا يضمن. وفي "الجامع الصغير": إذا نهاه المودع أن يدفعها إلى أحد من عياله فدفعها إلى من لا بد منه لا يضمن، كما إذا كانت الوديعة دابة فنهاه عن الدفع إلى غلامه، وكما إذا كانت شيئًا يحفظ على يد النساء فنهاه عن الدفع إلى امرأته وهو محمل الأول؛ لأنه لا يمكن إقامة العمل مع مراعاة هذا الشرط، وإن كان مفيدًا فيلغو".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (5/ 664) قال: "واشتراط الضمان على الأمين كالحمامي والخاني باطل به يفتى خلاصة وصدر الشريعة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"شرح الزرقاني على مختصر خليل"(6/ 209) قال: "ولا إن شرط عليه الضمان في محل لا يضمن فيه فلا ضمان عليه إذا تلفت؛ لأنها من=
فَمَنْ قال بالضمان، فكلامُهُ غير صحيحٍ، يعني: لو أن إنسانًا جاء بأمانة، وقال: يا فلان، ضَعْها عندك بشرطَ أن تضمنها إن تلفت، فلا ضمان عليه حتى لو وافق على هذا الشرط؛ لأن هذا يعتبر من باب التعسف، واستعمال الحق في غير ما شُرِعَ له.
قوله: (وَقَالَ الغَيْرُ: يُضَمَّنُ)، يعني: سيلخص ما مضى سابقًا.
قوله: (وَبِالجُمْلَةِ، فَالفُقَهَاءُ يَرَوْنَ بِأَجْمَعِهِمْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الوَدِيعَةِ إِلَّا أَنْ يَتَعَدَّى، وَيَخْتَلِفُونَ فِي أَشْيَاءَ، هَلْ هِيَ تَعَدِّ أَمْ لَيْسَ بِتَعَدٍّ؟ فَمِنْ مَسَائِلِهِمُ المَشْهُورَةِ فِي هَذَا البَاب إِذَا أَنْفَقَ الوَدِيعَةَ، ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهَا، أَوْ أَخْرَجَهَا لِنَفَقَتِهِ ثُمَّ رَدَّهَا، فَقَالَ مَالِكٌ:"يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَان بِحَالَةٍ مِثْلِ إِذَا رَدَّهَا"
(1)
).
يعني: أخذ الوديعة ثم أنفقها على بيته، أو أعطاها أحدًا ثم ردَّها ووضعها في مكانها الذي كانت فيه.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "إِنْ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا قَبْلَ أَنْ يُنْفِقَهَا لَمْ يُضَمَّنْ).
= الأمانات فشرط ضمانها يخرجها عن حقيقتها ويخالف ما يوجبه الحكم ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 129) قال: "فلو أودعه بشرط أن تكون مضمونة عليه أو أنه إذا تعدى فيها لا ضمان عليه لم يصح فيهما".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 168) قال: "وإن شرط رب الوديعة عليه أي: الوديع ضمانها أي: الوديعة لم يصحَّ الشرط، ولا يضمنها الوديع؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، فلم يصحَّ، وتقدم، أو قال الوديع: أنا ضامن لها، أي: الوديعة لم يضمن ما تلف بغير تعد، أو تفريط؛ لأن ضمان الأمانات غير صحيح ".
(1)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 803) قال: "ومن تعدَّى في وديعة عنده فاستهلكها ثم ردها مكانها فإن كانت دنانير أو دراهم أو طعامًا أو نحو ذلك يكون مما يكال أو يوزن وضاعت فلا شيء عليه، وكذلك أن أخذ البعض وأبقى البعض وتلف فلا ضمان عليه لا فيما رد ولا فيما بقي ".
يعني: بمجرد أن أخرجها من الكيس أو الصندوق ثم تدارك وأعادها.
قوله: (وَإِنْ رَدَّ مِثْلَهَا ضُمِّنَ"
(1)
، وَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ
(2)
وَالشَّافِعِيُّ
(3)
: "يُضَمَّنُ فِي الوَجْهَيْنِ جَمِيعًا"، فَمنْ غَلَّظَ الأَمْرَ ضَمَّنَهُ إِيَّاهَا بِتَحْرِيكِهَا وَنِيَّةِ اسْتِنْفَاقِهَا، وَمَنْ رَخَّصَ لَمْ يُضَمِّنْهَا إِذَا أَعَادَ مِثْلَهَا).
وقال عبد الملك والشافعي وأحمد
(4)
: يضمن على الوجهين معًا؛ سواء أخرجها فأنفقها، أو أعطاها أحدًا فردَّها، أو بمجرد أنْ أخرجها فردها، فإنه يضمن في الجميع؛ لأنه مطالبٌ بأن يبقيها في مكانها، وأن يحفظها؛ لأنه ما المانع أن تقع عليها عين حالَ إخراجها، فيكون ذلك دافعًا إلى الاعتداء عليها.
ووجهة مَنْ قال بضمانه: أنهم اعتبروا ذلك تعدِّيًا عليها، فمن أخرجها من حِرْزِهَا، فقد تعدى عليها.
وقال الآخرون: إنْ ضاعت بعد إخراجها من حِرْزِهَا ضمنها، أمَّا إن
(1)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (7/ 276 - 277) قال: "ولو أنفق بعضها فرد مثله فخلطه بالباقي ضمن الكل، أي: البعض بالإنفاق والبعض بالخلط؛ لأنه متعد بالإنفاق منها ورد مثله باق على ملكه وقد خلطه بما بقي من الوديعة فضمن الجميع ".
(2)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 624) قال: "وقال عبد الملك
…
يضمن في الموضعين ".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 121 - 122) قال: "ومنها أن ينتفع بها بعد أخذها لا بنية ذلك بأن يلبس نحو الثوب أو يجلس عليه مثلًا أو يركب الدابة، أو يطالع في الكتاب خيانة
…
أي: لغير ما أذن له فيه فيضمن لتعديه بخلافه لنحو دفعٍ الدود مما مرَّ وبخلاف الخاتم إذا لبسه الرجل في غير الخنصر فإنه لا يعد استعمالا له
…
أو بأن يأخذ الثوب مثلًا ليلبسه، أو الدراهم لينفقها فيضمن قيمة المتقوم بأقصى القيم ومثل المثلي إن تلف وأجرة المثل إن مضت مدة عنده لمثلها أجرة وإن لم يلبس وينفق ".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 451) قال: "ومن أودع شيئًا، فأخذ بعضه، ثم رده أو مثله، فضاع الكل، لزمه مقدار ما أخذ، وجملته أن من أودع شيئًا، فأخذ بعضه، لزمه ضمان ما أخذ، فإن رده أو مثله، لم يزل الضمان عنه ".
أعادها، فلا ضمان عليه، وأكثر الفقهاء يرون بأنه تصرف تصرفًا غير مشروع، فإن تلفت فإنه يضمن.
ومنَ المعلوم أن مَنْ وُضِعَتْ عنده أمانة ثم أخرجها فأنفقها، فقد وضع نفسه موضع الشُّبهة، فكونه أنفقها فقد صار محل شبهة، وفي الحديث:"دع ما يَريبك إلى ما لَا يريبك"
(1)
، وربما يُرَى في حالة إخراجها، فيكون ذلك حافزًا ودافعًا للتعدي عليه.
قوله: (وَمِنْهَا: اخْتِلَافُهُمْ فِي السَّفَرِ بِهَا، فَقَالَ مَالِكٌ:"لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا إِلَّا أَنْ تُعْطَى لَهُ فِي سَفَرٍ"
(2)
، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:"لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَلَمْ يَنْهَهُ صَاحِبُ الوَدِيعَةِ")
(3)
.
ويُقيَّد الأَمْرُ عند الإمامين، فيسافر بها إذا كان الطريق آمنًا غير مخوفٍ، أما إذا كان الطريق مخوفًا كأن يكون فيه لصوصٌ أو غير ذلك، فلا ينبغي أن يسافر بها؛ لأنه يعرِّضها بذلك للخطر، ويغامر بها، فعليه أن يردها إلى صاحبها، فإن لَمْ يجد صاحبها، ردَّها إلى وكيله القابض، فإن لم يجده، سلَّمها إلى الحاكم، فإن لم يستطع وضعها عند ثِقَةٍ.
قوله: (وَمِنْهَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُودَعِ عِنْدَهُ أَنْ يُودِعَ الوَدِيعَةَ غَيْرَهُ مِنْ
(1)
جزء من حديث أخرجه الترمذي (2518)، وغيره عن الحسن بن علي قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(12).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (3/ 420 - 421) قال: "وتضمن
…
أو سفره بها، أي: الوديعة إن قدر على إيداعها عند أمين، وإلا فلا ضمان إلا أن ترد من الانتفاع بها، أو من السفر بها سالمة لموضع إيداعها، ثم تلفت بعد بلا تفريط فلا ضمان ".
(3)
ينظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (5/ 671) قال: "والمودع له السفر بها، ولو لها حمل درر عند عدم نهي المالك وعدم الخوف عليها بالإخراج فلو نهاه، وأخاف فإن له بد من السفر ضمن وإلا فإن سافر بنفسه ضمن وبأهله لا اختيار".
غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ فَعَلَ ضُمِّنَ
(1)
، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَوْدَعَهَا عِنْدَ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لَمْ يُضَمَّنْ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِأَهْلِ بَيْتِهِ
(2)
.
"ليس للمودع عنده "، أي: الَّذي وُضِعَتْ عنده الوديعة، أي: الأمانة أن يودعها عند غيره.
"ضُمِّنَ "، أيْ: عند جمهور العلماء والأئمة، وهذا القيد الذي وَضَعه أبو حنيفة قيدٌ إضافيٌّ، وإلا فهو معهم في الحقيقة.
قوله: (وَعِنْدَ مَالِكٍ: لَهُ أَنْ يَسْتَوْدِعَ مَا أُودِعَ عِنْدَ عِيَالِهِ الَّذِينَ يَأْمَنُهُمْ، وَهُمْ تَحْتَ غَلَقِهِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ أَمَةٍ ومَنْ أَشْبَهَهُمْ
(3)
).
(1)
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 129) قال: "وقد تصير الوديعة مضمونة على الوديع بالتقصير فيها، وله أسباب عبر عنها المصنف بعوارض: منها أن يودع غيره ولو ولده أو زوجته أو عبده أو قاضيًا بلا إذن من المودع ولا عذر له فيضمن؛ لأن المودع لم يرض بأمانة غيره ولا يده ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 255) قال: "وإن دفعها، أي: دفع مستودع الوديعة إلى من يحفظ ماله، أي: المستودع عادة كزوجته وعبده ونحوهما كخازنه فتلفت لم يضمن؛ لأنه مأذون فيه عادة، أشبه ما لو سلم الماشية إلى الراعي أو دفعها لعذر كمن حضره الموت أو أراد السفر. وليس أحفظ لها إلى أجنبي ثقة أو حاكم فتلفت لم يضمن؛ لأنه لم يتعد ولم يفرط، وإلا يكن له عذر حين دفعها إلى الأجنبي ضمن لتعديه؛ لأنه ليس له أن يودع بلا عذر".
(2)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (5/ 664) قال: "وللمودع حفظها بنفسه وعياله كماله وهم من يسكن معه حقيقة أو حكمًا لا من يمونه فلو دفعها لولده المميز أو زوجته، ولا يسكن معهما، ولا ينفق عليهما لم يضمن
…
وجاز لمن في عياله الدفع لمن في عياله، ولو نهاه عن الدفع إلى بعض من في عياله فدفع إن وجد بدا منه بأن كان له عيال غيره
…
ضمن وإلا لا، وإن حفظها بغيرهم ضمن
…
إلا إذا خاف الحرق أو الغرق وكان غالبًا محيطا، فلو غير محيط ضمن، فسلمها إلى جاره أو إلى فلك آخر".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (3/ 423) قال: "وضمن بإيداعها عند أمين؛ لأن ربها لم يأتمن غيره، بخلاف الملتقط فله الإيداع ولا ضمان عليه
…
ومحل الضمان إذا أودعها لغير زوجة، وأمة أعتيد بذلك ومثلهما العبد، والأجير في عياله، والابن المعتادون لذلك بالتجربة مع طول الزمان، وإلا ضمن ".
وَبِالجُمْلَةِ فَعِنْدَ الجَمِيعِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَهَا مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ النَّاسِ أَنْ تُحْفَظَ أَمْوَالُهُمْ، فَمَا كَانَ بَيِّنًا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ حِفْظٌ اتُّفِقَ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ غَيْرَ بَيِّنٍ أَنَّهُ حِفْظٌ اخْتُلِفَ فِيهِ، مِثْلَ اخْتِلَافِهِمْ فِي المَذْهَبِ فِيمَنْ جَعَلَ وَدِيعَةً فِي جَيْبِهِ فَذَهَبَتْ، وَالأَشْهَرُ أَنَّهُ يُضَمَّنُ)
(1)
.
"وَالأَشْهَرُ أَنَّهُ يُضَمَّنُ "؛ لأنه ما وضعها في حرزٍ.
قوله: (وَعِنْدَ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فِي المَسْجِدِ، فَجَعَلَهَا عَلَى نَعْلِهِ فَذَهَبَتْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)
(2)
.
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدرير (3/ 423) قال: "أو أمر بربط لها بكم فأخذها باليد فلا ضمان إن غصبت، أو سقطت؛ لأن اليد أحرز إلا أن يكون قصد إخفاءها عن عين الغاصب كجيبه، أي: كوضعها به إذا أمره بربطها بكم فضاعت بغصب ونحوه فلا ضمان على المختار، اللهم إلا أن يكون شأن السراق قصد الجيوب
…
لا يضمن إن نسيها في كمه حيث أمره بوضعها فيه فوقعت منه، ولا إن شرط عليه الضمان فيما لا ضمان فيه لما فيه من إخراجها عن حقيقتها الشرعية".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 136) قال: "ولو قال له: اربط الدراهم
…
في كمك أي: شدها فيه، وجمعه أكمام فأمسكها في يده فتلفت فالمذهب أنها إن ضاعت بنوم ونسيان أي أو نسيان
…
ضمن لحصول التلف من جهة المخالفة؛ لأنها لو كانت مربوطة لم تضع بهذا السبب، أو تلفت بأخذ غاصب لها من يده فلا يضمن؛ لأن اليد أمنع للغصب حينئذ، والطريق الثاني إطلاق قولين، والطريق الثالث: إن اقتصر على الإمساك ضمن ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 354) قال: "وإن قال رب وديعة لوديع اتركها في جيبك فتركها في يده أو في كمه ضمن؛ لأن الجيب أحرز؛ لأنه قد ينسى فيسقط الشيء من يده أو كمه، أو قال له: اتركها في كمك فتركها في يده أو عكسه بأن قال له: اتركها في يدك فتركها في كمه ضمن؛ لأن سقوط الشيء من اليد مع النسيان أكثر من سقوطه من الكم وتسلط الطرار بالبط على الكم بخلاف اليد فكل منهما أدنى من الآخر حفظًا من وجه ".
(2)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (10/ 429) قال: "من العتبية: روى أصبغ عن ابن وهب فيمن استودع وديعة في المسجد أو في المجلس فجعلها على نعليه فذهبت، قال: لا ضمان عليه ".
لأنَّه يرى أن النعل أمامه ويشاهده، فلم يعرضها للخطر بذلك، أمَّا إنْ كان النعل في مؤخرة المسجد وهو في مكانٍ آخر فقد عرَّضها للخطر بذلك، فالقصد في قول ابن وهب إنْ كان يرى ذلك.
قوله: (وُيخْتَلَفُ فِي المَذْهَبِ فِي ضَمَانِهَا بِالنِّسْيَانِ، مِثْلَ أَنْ يَنْسَاهَا فِي مَؤضِعٍ أَوْ يَنْسَى مَنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ
(1)
، أَوْ يَدَّعِيهَا رَجُلَانِ، فَقِيلَ: يَحْلِفَانِ وَتُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُضَمَّنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
(2)
. وَإِذَا أَرَادَ
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (3/ 423) قال: "وضمن بنسيانها في موضع إيداعها، وأولى في غيره وبدخوله الحمام بها فضاعت وبخروجه بها من منزله يظنها له فتلفت؛ لأنه جناية، والعمد، والخطأ في أموال الناس سواء. لا يضمن إن نسيها في كمِّه حيث أمره بوضعها فيه فوقعت منه، ولا إن شرط عليه الضمان فيما لا ضمان فيه لما فيه من إخراجها عن حقيقتها الشرعية".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (5/ 672) قال: "فإن أودع رجل عند رجلين ما يقسم اقتسماه وحفظ كل نصفه كمرتهنين ومستبضعين ووصيين وعدلي رهن ووكيلي شراء ولو دفعه أحدهما إلى صاحبه ضمن الدافع بخلاف ما لا يقسم لجواز حفظ أحدهما بإذن الآخر".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (3/ 432) قال: "وإن، أودع اثنين وغاب وتنازعَا فيمن تكون عنده جعلت بيد الأعدل، والضمان عليه وحده إن فرط فإن كان ربها حاضرًا فالكلام له فإن تساويا في العدالة قسمت بينهما إن قبلت القسم، وإلا فالقرعة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب" للجويني (11/ 428) قال: "إذا ادعى رجلان وديعة، فقال المودع: لا أدري لأيكما هو، وقد علمت أنه لأحدكما. فإن لم يدعيا علمه، فلا كلام لهما معه؛ فإنه ليس متعديًا باتفاقهما، ونسيانه لا يلحقه بالمتعدين وفاقا، فليحط الناظر بذلك، فهو قاعدة الفصل، فإذا لم يكن ضامنًا، ولم يدع عليه علم، انقطعت الطلبة عنه. هذا ما ذكره الأصحاب".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 360) قال: "وإن ادعاها، أي: الوديعة اثنان فأقر الوديع لأحدهما بها فهي له، أي: للمقر له بيمينه؛ لأن اليد كانت للمودع. وقد نقلها إلى المدعي، فصارت اليد له. فقبل قوله بيمينه
…
ويحلف المودع للآخر الذي أنكره؛ لأنه منكر لدعواه وتكون يمينه على نفي العلم
…
فإن حلف انقطعت خصومته معه، وإلا غرم له بدلها؛ لأنه فوتها عليه
…
وإن أقر بها لهما فهي لهما كما لو كانت بأيديهما وتداعياها ويحلف لكل منهما يمينا على نصفها".
السَّفَرَ فَلَهُ عِنْد مَالِكٍ أَنْ يُودِعَهَا عِنْدَ ثِقَةٍ مِنْ أَهْلِ البَلَدِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ قَدَرَ عَلَى دَفْعِهَا إِلَى الحَاكِمِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ
(1)
).
يعني: بأَنْ طرَأ عذرٌ من الأعذار منع أو حال بينه وبين بقاء هذه الأمانة عنده؛ كمَنْ أراد السفر أو حُرِقَ بيته، أو انهدم منزله، أو تخرب المكان الذي هي فيه، أو غرق المكان الذي يعيش فيه .. إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة، فبعض العلماء يُفصِّل القول في ذلك فيقول: يجب عليه في هذه الحالة أن يردها إلى صاحبها (صاحب الوديعة) إن كان موجودًا معه في نفس البلد فيردها إليه، وبذلك تبرأ ذمته، وَإنْ لم يكن موجودًا، فإنه يُسَلِّمها للشخص الذي أمره بقبضها، (أيْ: لوَكيله)، فإن لم يكن موجودًا، فيدفعها إلى الحاكم؛ لأنَّ الحاكمَ هو الذي له الولاية والسلطان بعد ذلك، فهو وليُّ مَنْ لا وليَّ له.
فَإِنْ لم يتمكَّن من الذهاب إلى الحاكم، فحِينَئذٍ يضعها عند ثقةٍ، وهذا -كما هو معلومٌ- مذهب الشافعية
(2)
والحنابلة
(3)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (3/ 423) قال: "ولا ضمان عليه وإن بسفر، أي: يضمن بإيداعها ولو في حال سفره، وقد أخذها في السفر قال فيها إن أودعت لمسافر مالًا فأودعه في سفره ضمن انتهى، وإنما بالغ على السفر؛ لئلا يتوهم أنه لما قبلها فيه كان مظنة الإذن في الإيداع ".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 130) قال: "وإذا أراد الوديع سفرًا ولو قصيرًا وقد أخذ الوديعة حضرًا فليردها إلى المالك أو وكيله مطلقًا أو وكيله في استرداد هذه خاصة ليخرج من العهدة، فإن دفع لغيره ضمن في الأجنبي قطعًا، وفي القاضي على الأصح؛ لأنه لا ولاية للحاكم عليه ".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 355) قال: "ومن أراد سفرًا وبيده وديعة
…
بل خاف عليها عنده من نهب أو غرق ونحوهما ردها إلى مالكها أو إلى من يحفظ ماله، أي: مال مالكها عادة كزوجته وعبده، أو إلى وكيله أي: وكيل مالكها في قبضها إن كان؛ لأن فيه تخلصًا له من دركها وإيصالًا للحق إلى مستحقه، فإن دفعها إلى حاكم إذن ضمن؛ لأنه لا ولاية له على رشيد حاضر".
إذًا، هذا الذي ذكره المؤلف هو مذهب المالكية، أما أكثر الفقهاء فيردها إلى صاحبها أولًا، فإن لم يجده، ردَّها إلى وكيله، فإن لم يجده، سلمها إلى الحاكم، فإن لم يستطع وضعها عند ثِقَةٍ.
وبَعْضهم يرى أن له أن يضعها عند ثقة وإنْ لم يرجع إلى الحاكم؛ لأنه ربما يُفضِّل صاحبها أن تكون عند شخص موثوق به.
قوله: (وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنْ أَوْدَعَهَا لِغَيْرِ الحَاكِمِ ضُمِّنَ
(1)
. وَقَبُولُ الوَدِيعَةِ عِنْدَ مَالِكٍ لَا يَجِبُ فِي حَالٍ
(2)
، وَمِنَ العُلَمَاءِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ وَاجِبٌ إِذَا لَمْ يجِدِ المُودِعُ مَنْ يُودِعُهَا
(1)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (6/ 329) قال: "ولو سافر بها لعذر، بأن جلا أهل البلد، أو وقع حريق، أو غارة، فلا ضمان بشرط أن يعجز عن ردها إلى المالك ووكيله والحاكم وعن إيداع أمين، ويلزمه السفر بها في هذه الحالة، وإلا فهو مضيع. ولو عزم على السفر في وقت السلامة، وعجز عن المالك ووكيله، والحاكم، والأمين، فسافر بها، لم يضمن على الأصح عند الجمهور".
(2)
الحنفية والمالكية والحنابلة يروا عدم الاشتراط:
فمذهب الحنفية، ينظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (7/ 273) قال: "وركنها الإيجاب قولًا صريحًا أو كناية أو فعلا والقبول من المودع صريحًا أو دلالة في حق وجوب الحفظ، وإنما قلنا صريحًا أو كناية ليشمل ما لو قال الرجل: أعطني ألف درهم، أو قال لرجل في يده ثوب: أعطنيه، فقال: أعطيتك فهذا على الوديعة نص عليه في المحيط؛ لأن الإعطاء يحتمل الهبة والوديعة الوديعة أدنى وهو متيقن فصار كناية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (6/ 108 - 109) قال: "القصد إخبار الأمين بحالها لا حفظها ويؤخذ من تعريفها بالمعنى المصدري تعريفها بالمعنى الاسمي؛ لأنه إذا كان الإيداع توكيلًا على مجرد حفظ مال علم منه أن الوديعة مال وكل على حفظه، أي: على مجرد حفظه ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 167) قال: "وقبولها، أي: الوديعة مستحب لمن يعلم من نفسه الأمانة، أي: أنه ثقة قادر على حفظها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه "، قال في "المبدع": "ويكره لغيره إلا برضا ربها" انتهى. قلت: ولعل المراد إعلامه بذلك إن كان لا يعلمه لئلا يغره ".
عِنْدَهُ
(1)
).
يرى العلماء كافة أنَّ قبول الوديعة ليس واجبًا؛ لأن هذا من أعمال البر والخير، وتفضُّل من الإنسان، فلذلك لا تجب عليه، لكن قول الإمام مالك يُعْنى بالمصالح، فمَنْ معه أمانة يعلم أنها ستضيع من بين يديه، فَعَليه أن ينظر للمصلحة، فيعطيها لغيره حفاظًا عليها؛ لأنه قد يذهب بها إلى مكانٍ يغلب على ظنه أن تتلف فيه، فيرى في هذه الحالة وجوب إعطائها لشخص أمين كي يحفظها حتى تُردَّ لصاحبها.
وبَقُولُ الجمهور: كيف يجب على الإنسان أمرٌ لم تُوجبه الشريعة، فهذا من باب التعاون ليس إلا.
قوله: (وَلَا أَجْرَ لِلْمُودَعِ عِنْدَهُ عَلَى حِفْظِ الوَدِيعَةِ)
(2)
.
أي: لا يأخذ أجرًا، ولا يسأل عليها أجرًا، وليس القصد ألا يؤجر الثواب من الله سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه يجازي كل إنسان على أيِّ عملٍ حتى الكلمة الطيبة، حتى تبسُّمك في وجه أخيك المسلم
(3)
، أو التصدق بتمرة واحدة أو بنصف تمرة
(4)
، فما من عملٍ -ولو يراه الإنسان بسيطًا-
(1)
وهو قول الشافعية: ينظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 101) قال: "صيغة المودع بلفظ أو إشارة أخرس مفهمة صريحة كانت كاستودعتك هذا أو استحفظتكه أو أنبتك في حفظه أو أودعتكه أو أستودعه أو أستحفظه أو كناية كخذه وككناية مع النية".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (3/ 431 - 432) قال: "ولا أجرة حفظها؛ لأن حفظها نوع من الجاه، وهو لا يؤخذ عليه أجرة كالقرض، والضمان إن لم يشترطها، أو يجر بها عرف، بخلاف محلها فله أجرته إن كان مثله يأخذ".
(3)
معنى حديث أخرجه الترمذي (1956) وغيره عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدفة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة". وصححه الألباني في "الصحيحة"(572).
(4)
معنى حديث أخرجه البخاري (1410)، ومسلم (64/ 1014) عن أبي هريرة رضي الله عنه،=
إلا ويجازي عليه الله عز وجل، لكن القصد هنا ألا أجر له فيما يتعلق بالدنيا.
قوله: (وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَسْكَنٍ أَوْ نَفَقَةٍ، فَعَلَى رَبِّهَا
(1)
، وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِي فَرْعٍ مَشْهُورٍ، وَهُوَ فِيمَنْ أُودِعَ مَالًا فَتَعَدَّى فِيهِ، وَاتَّجَرَ بِهِ فَرَبِحَ فِيهِ، هَلْ ذَلِكَ الرِّبْحُ حَلَالٌ لَهُ أَمْ لَا؟).
هذه مسألة مهمة جدًّا، وهذا من باب حفظ الأمانات، وهذه المسألة يذكرها العلماء هنا وفي باب الغصب، يعني: لو أن إنسانًا اغتصب مالًا، ثم بعد ذلك اتَّجر به، ثم ردَّه إلى صاحبه، فإما أن يكون الرد عن طريق القوة، أي: أُمِرَ بذلك، أو تصلُح حاله فيرد ذلك الحق إلى صاحبه.
= قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل ".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (5/ 675) قال: "خيف على الوديعة الفساد رفع الأمر للحاكم ليبيعه ولو لم يرفع حتى فسد فلا ضمان، ولو أنفق عليها بلا أمر قاض فهو متبرع ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 804) قال: "وما أنفق المودع على الوديعة فعلى ربها، سواء أذن له أو لم يأذن له إذا احتاجت إلى ذلك ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 134) قال: "قال ابن شهبة: وينبغي أن يقيد الضمان بما إذا علم بعلتها وإن أعطاه المالك علفًا
…
ولم ينهه علفها في الأصح، ويجوز علفها منه، وإلا فيراجعه أو وكيله ليستردها أو يعطي علفها أو يعلفها، فإن فقدا
…
أي: المالك أو وكيله فالحاكم يراجعه ليقترض على المالك أو يؤجرها، ويصرف الأجرة في مؤنتها أو يبيع جزءًا منها أو جميعها إن رآه. قال الإمام: والقدر الذي يعلفها على المالك هو الذي يصونها عن التلف والتعييب لا ما يحصل به السمن ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 170) قال: "وإن قدر المستودع على صاحبها، أي: البهيمة أو قدر على وكيله طالبه بالإنفاق عليها أو طالبه بردها، أي: البهيمة عليه، أي: على مالكها، أو وكيله أو طالبه بأن يأذن له في الإنفاق عليها ليرجع الوديع به، أي: بما أنفقه؛ لأن النفقة على الحيوان واجبة على مالكه، وهذه طريق الوصول إليها منه ".
ولا شكَّ أن التعدي على حقوق الإنسان وأَكْلها بالباطل من أيِّ إنسان كان من أخطر الأمور، وأعظم الذنوب، قال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
وقال عليه الصلاة والسلام: "من اقتطع شبرًا من أَرْضٍ، طوقه الله سبع أراضين يوم القيامة"
(1)
، وهذا في الغصب، وهناك شَبهٌ بينه وبين هذه المسألة، فإذا وضع إنسانٌ مبلغًا من المال عند آخر وديعةً، فأخذ الآخر من ذلك المال فاتَّجر به ثم ربح من ذلك المال، ففيها أمران: أصل المال وربحه، فهل يرد أصل المال إلى صاحبه مع أنه تصرف فيه تصرفَ فضوليٍّ دون أن يستأذنه؟ أو يردهما معًا؟
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو يُوسُفَ
(3)
وَجَمَاعَةٌ
(4)
: "إِذَا رَدَّ المَالَ، طَابَ لَهُ الرِّبْحُ، وَإِنْ كَانَ غَاصِبًا لِلْمَالِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْدَعًا عِنْدَهُ").
ويشبه الأئمة هذه المسألة بمسألة الغصب كما مرَّ التنبيه عليه، ولذلك بعض العلماء لا يذكر هذه المسألة في هذا الباب، وإنما يَذْكرها في باب
(1)
أخرجه البخاري (3198)، ومسلم (1610)، واللفظ له عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا، طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين ".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (3/ 421) قال: "والربح الحاصل من التجارة له أي للمودع بالفتح فإن كانت الوديعة نقدًا، أو مثليًّا فلربها المثل، وإن كانت عرضًا وفات فلربه قيمته، وإن كانت قائمة فربها مخير بين أخذ سلعته ورد البيع وبين إمضائه، وأخذ ما بيعت به ".
(3)
يُنظر: "مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر" لشيخي زاده (2/ 342) قال: "وعند أبي يوسف يطيب له الربح إذا أدى الضمان أو سلم عينها بأن باعها، ثم اشتراها ودفع إلى مالكها ودليل الطرفين بين في البيع ".
(4)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (6/ 336) قال: "وقالت طائفة: الربح كله للعامل، ورينا ذلك عن شريح، والحسن البصري، وعطاء بن أبي، رباح، والشعبي، ويحيى الأنصاري، وربيعة، وهو قول مالك، والثوري، وقال الثوري: يتنزه عنه أحب إلي ".
الغصب، حتى بعض الكتب الموسَّعة لا يذكرونها إلا في باب الغصب.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَزُفَرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ: يُؤَدِّي الأَصْلَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ)
(1)
.
وهذه روايةٌ للإمام أحمد كذلك
(2)
.
قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: لِرَبِّ الوَدِيعَةِ الأَصْلُ وَالرِّبْحُ).
وهذا هو الرأي المشهور عند الحنابلة
(3)
.
قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الأَصْلِ وَالرِّبْحِ، وَقَالَ قَوْمٌ: البَيْعُ الوَاقِعُ فِي تِلْكَ التِّجَارَةِ فَاسِدٌ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَوْجَبُوا التَّصَدُّقَ بِالرِّبْحِ إِذَا مَاتَ، فَمَنِ اعْتَبَرَ التَّصَرُّفَ، قَالَ: الرِّبْحُ لِلْمُتَصَرِّفِ، وَمَنِ اعْتَبَرَ الأَصْلَ، قَالَ: الرِّبْحُ لِصَاحِبِ المَالِ، وَلذَلِكَ لَمَّا أَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه ابْنَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ أَنْ يَصْرِفَا المَالَ الَّذِي أَسْلَفَهُمَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ مِنْ بَيْتِ المَالِ، فَاتَّجَرَا فِيهِ فَرَبِحَا، قِيلَ لَهُ: لَوْ جَعَلْتَهُ قِرَاضًا، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ
(4)
؛ لأنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لِلْعَامِلِ جُزْءٌ، وَلصَاحِبِ المَالِ جُزْءٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ عَدْلٌ).
(1)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم المصري (8/ 129) قال: "وإن استغله تصدق بالغلة كما لو تصرف في المغصوب الوديعة وربح، أي: استغل المغصوب بأن كان عبدًا مثلًا فأجره فنقصه الاستعمال وضمن النقصان تصدق الغاصب بالغلة كما يتصدق بالربح فيما إذا تصرف في المغصوب أو الوديعة بان باعه وربح فيه
…
فالمذكور هنا قولهما وهو التصدق ".
(2)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 209) قال: "لو اتجر الوديعة
…
ونقل حنبل: ليس لواحد منهما، ويتصدق به ".
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 209) قال: "لو اتجر الوديعة: فالربح للمالك. على الصحيح من المذهب ونص عليه في رواية الجماعة".
(4)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 687 - 688) عن أسلم، أنه قال: خرج عبد الله=
هذا الأثرُ ثابتٌ عن عمر رضي الله عنه، وقد مرَّ ذكره، ومع ذلك ذكره المؤلف، وقد أوردتُهُ في كتاب القراض؛ لأنَّ هذا هو محله، وهذه قصة معروفة، أن عبد اللّه وعبيد اللّه ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعًا- خرجوا في جيش إلى العراق، فأتيا أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، وكان واليًا عليها، فتسلَّفا منه مبلغًا، فاشتريا به متاعًا، فأتيا المدينة فباعاه، فربحا، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه من أحرص الناس على مثل هذه الأمور، فلا يُفرِّق بين ولدٍ وغَيْره، فأراد أن يأخذ رأس المال والربح؛ لأن هذا المال الذي أسلفهما أبو موسى الأشعري كان من بيت المال حيث كان واليًا على العراق، فَرَدَّ عليه أحدهما قائلًا: لو تلف أولسنا كنا نضمنه؟ فكذلك أيضًا لنا ربحه، فتكلم أحد الحاضرين فقال: لو جعلته قراضًا. قال: قد جعلته، فأخذ نصف الربح، يعني: القراض المراد به المضاربة، فإنها تُعْرف بالقراض عند أهل الحجاز، وتُعْرف بالمضاربة عند أهل العراق
(1)
، وهذه آخر مسألة في هذا الباب.
= وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق فلما قفلا مرَّا على أبي موسى الأشعري، وهو أمير البصرة، فرحب بهما وسهل، ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه فتبتاعان به متاعًا من متاع العراق، ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون الربح لكما، فقالا: وددنا ذلك، ففعل، وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر قال:"أكل الجيش أسلفه، مثل ما أسلفكما؟ " قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب:"ابنا أمير المؤمنين، فأسلفكما، أديا المال وربحه "، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين، هذا لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه؟ فقال عمر: أدياه، فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضًا؟ فقال عمر: قد جعلته قراضًا، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد اللّه وعبيد اللّه ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1470).
(1)
قد مر ذكر ذلك.
[كِتَابُ العارِيَّة]
الكتاب الذي تُذكر فيه تلك الأركان التي تقوم عليها العارية، وما يُذكر فيه من أحكام كليةٍ أو جزئية، وإن كان في الغالب يقف في مباحثه عند الكليات، إلا أنه قد يعرض كما عرض في هذا الكتاب وغيره إلى بعض المسائل الجزئية.
العارية لغةً: مصدر (عارَ) أيْ: ذهب الشيء وعاد، وهذا هو شأن العارية، فإن الإنسان يقدمها تبرعًا لأخيه المسلم؛ لينتفع بها مما يتعلق بأثاث البيت أو نحوه من المنافع، ثم يعيدها إليه
(1)
.
العارية في الاصطلاح الفقهي
(2)
: إباحة منافع عين من أعيان المال
(1)
"العارية": مأخوذة من عار الشيء يعير إذا ذهب وجاء ومنه قيل للغلام الخفيف عيار لخفته في بطالته وكثرة ذهابه ومجيئه فيها. "الزاهر فى غريب ألفاظ الشافعي" لأبى منصور الهروي (ص 158).
(2)
عرفها الفقهاء بتعاريف متقاربة.
عرفها الحنفية: بأنها تمليك المنافع مجانًا. انظر: "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(5/ 677).
وعرفها المالكية: بأنها تمليك منفعة مؤقتة بلا عوض. انظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 570).
وعرفها الشافعية: بأنها إباحة الانتفاع بما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه. انظرت "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 313).
وعرفها الحنابلة: بأنها إباحة نفعها بغير عوض من المستعير أو غيره. انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 62).
مما يجوز أن يعار
(1)
.
فهو يدخل في تعريف العارية كما ذكر الصحابة من الحلي والدلو، وما يتعلق بالحيوان والسيارات في هذا الزمان، فإن للإنسان أن يعير أخاه المسلم ويسد حاجته في ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَالنَّظَرِ فِي العارِيَّة فِي أَرْكَانِهَا وَأَحْكَامِهَا. وَأَرْكَانُهَا خَمْسَةٌ: الْإِعَارَةُ).
"الإعارة": هي الفعل الذي يقوم به الإنسان، فيعطي أخاه شيئًا لينتفع به ويرده إليه.
قوله: (وَالْمُعِيرُ).
الذي يعطي.
قوله: (وَالْمُسْتَعِيرُ).
أخر العاردة.
قوله: (وَالْمُعَارُ).
هو الشيء الذي يعطيه شخص لآخر لينتفع به على أن يرده.
(1)
مال الشارح هنا إلى تعريف الشافعية للعارية بأنها إباحة. يُنظر: "حاشية البجيرمي على الخطيب"(3/ 154). حيث قال: "إباحة منفعة ما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه ". وللحنابلة وجهان. يُنظر: "تصحيح الفروع" لابن مفلح (7/ 205). حيث قال: "نفس الإعارة هل هي هبة منفعة أو إباحة منفعة، فيه وجهان ".
ونفس الوجهين للحنفية. يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (3/ 55). حيث قال: " (وهي هبة المنافع)، وقال الكرخي: إباحة المنافع حتى لا يملك المستعير إجارة ما استعار، ولو ملك المنافع لملك إجارتها، والأول الصحيح ".
ويترتب على المسألة مسائل منها: حكم إعارة ما استعاره؛ كما أشار الموصلي. وستأتي المسألة.
قوله: (وَالصِّيغَةُ).
هل هناك صيغة معينة؟ هل يكتفي على لفظ أعرتك، أو هذه إعارة أقدمها لك؟ أو إنها تجوز بأي لفظ يدل عليها؟
قوله: (أَمَّا الْإِعَارَةُ: فَهِيَ فِعْلُ خَيْرٍ وَمَنْدُوبِ إِلَيْهِ
(1)
، وَقَدْ شَدَّدَ فِيهَا قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ الْأَوَّلِ
(2)
).
بعض السلف يرون أنها واجبة، وحجتهم في ذلك، قول الله تعالى:{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]، ويأخذون أيضًا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها
…
"
(3)
، وهو حديث طويل ومعروف، وقد مر بنا في أبواب الزكاة، وتكلمنا عنه.
ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقها أشار إلى أنه إعطاء الدلو
(4)
، أي: إعارته، وكذلك إطراق الفحل، ومنحة اللبن؛ فهذه من الأمور الطيبة التي أشار إليها الحديث.
(1)
قال ابن قدامة: "وأجمع المسلمون على جواز العارية واستحبابها". انظر "المغني" لابن قدامة (5/ 163).
(2)
يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (6/ 391) قال: قد كانت واجبة في ابتداء الإسلام حتى توعد الله تعالى من منعها فقال عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 - 7] قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنه: "الماعون العارية"، وفسرها ابن مسعود فقال: هي عارية القدر والدلو والميزان، وروي عن علي وابن عمر رضي الله عنه أنهما قالا:"الماعون الزكاة"، وروى سعيد بن المسيب والزهري:"إنه المال بلسان قريش"، وقال محمد بن كعب القرظي: إنه المعروف، وقال أبو عبيد: الماعون اسم لكل منفعة وعطية، وقال محمد بن جرير الطبري: إنه المنافع.
(3)
أخرجه مسلم (988).
(4)
جزء من الحديث السابق، ولفظه: قال رجل: يا رسول الله، ما حق الإبل؟ قال:"حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فحلها، ومنيحتها وحمل عليها في سببل الله ".
وقد أجاب الجمهور -ومنهم الأئمة الأربعة
(1)
- عمن يرَوْنَ بأن العارية ليست بواجبة وإنما هي جائزة بل مستحبة، فأجابوا عن ذلك بأنه جاء في الحديث:"ليس في المال حق سوى الزكاة"
(2)
.
وفي قصة الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عما فرضه الله سبحانه وتعالى عليه، فذكر له الركنين الأولين، ثم بعد ذلك ذكر الشهادتين، ثم الركن الثاني الصلاة، ثم قال له:"إيتاء الزكاة"، قال: هل علَيَّ غيرها؟ قال: "لا، إلَّا أن تتصدق"
(3)
؛ فدل ذلك على أنها ليست بواجبة، لكنها عمل طيب يتقدم بها الإنسان ليعين أخاه.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (9/ 3) حيث قال: " (العارية جائزة)؛ لأنها نوع إحسان وقد "استعار النبي عليه الصلاة والسلام دروعًا من صفوان "".
مذهب المالكية، بُنظر:"حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 570) حيث قال: " (وهي مندوبة): أي الأصل فيها الندب؛ لأنها من التعاون على الخير والمعروف ".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 314) حيث قال: "وهي مندوب إليها، ففي الصحيحين "أنه صلى الله عليه وسلم استعار فرسًا من أبي طلحة فركبه " وفي رواية لأبي داود وغيره بإسناد جيد "أنه صلى الله عليه وسلم استعار درعًا من صفوان بن أمية يوم حنين فقال أغصب يا محمد؟ فقال: "بل عارية مضمونة"".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 62) حيث قال: " (وهي) أي الإعارة (مندوب إليها)؛ لأنها من البر والتقوى وقال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ".
(2)
أخرجه ابن ماجه (1789)، وقال الألباني: ضعيف منكر. انظر: "ضعيف ابن ماجه"(355).
(3)
أخرجه البخاري (46)، ومسلم (2678)، ولفظه: عن طلحة بن عبيد الله، يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خمس صلوات في اليوم والليلة". فقال: هل علي غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وصيام رمضان ". قال: هل علي غيره؟ قال: "لا، إلا أن تطوع ". قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع ". قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفلح إن صدق ".
قوله: (رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ
(1)
، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
(2)
أَنَّهُمَا قَالَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 7] أَنَّهُ مَتَاعُ الْبَيْتِ الَّذِي يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْفَأْسِ وَالدَّلْوِ وَالْحَبْلِ وَالْقِدْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ).
جاء في قولهم: "هي العواري "، جمع عارية، وجاء هذا التفسير الذي ذكره المؤلف، وذكر أيضًا غير ذلك كالميزان، وأشياء كثيرة أُثِرَت عن السلف رضي الله عنه بعضها، كما ذكر عن عبد اللّه ابن مسعود، وعبد اللّه بن عباس رضي الله عنه وبعضها أيضًا عن عبد اللّه بن عمر
(3)
، وبعضها أيضًا عن بعض التابعين
(4)
؛ كل ذلك ورد عن هؤلاء.
قوله: (وَأَمَّا الْمُعِيرُ: فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إِلَّا كَوْنه مَالِكًا لِلْعَارِيَةِ).
ونضيف إلى شرط كونه مالكًا أمرًا مهمًّا، وهو أن يكون جائز التصرف؛ لأنه إذا كان مجنونًا، أو صغيرًا، أو محجورًا عليه فليس له أن يتصرف في ماله، فإذا جاز له التصرف في البيع لأنه مال فكذلك له أن يتصرف في العارية؛ لأنه يملكها، وقد تكون هذه السلعة لطفل أو لمجنون، أو تكون لإنسان لا يصلح له أن يتصرف؛ فيكون عليه وليًّا.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 420) عن ابن عباس {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} قال: "عارية المتاع ".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 420) عن عبد الله، {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} قال:"هو ما تعاون الناس بينهم الفأس، والقدر، والدلو، وأشباهه ".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 420) عن ابن عمر، قال:"هو المال الذي لا يؤدى حقه ".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 421) عن هشام، قال: سألت عكرمة، عن {الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] فقال: "الفأس والقدر والدلو".
وعن إبراهيم، قال:"القدر والرحى". انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 421).
إذًا، لا بد أن يكون جائز التصرف، أو أن يكون ذلك بموافقة ولي أمره، كاليتيم.
قوله: (إِمَّا لِرَقَبَتِهَا وَإِمَّا لِمَنْفَعَتِهَا).
"رقبتها" كالقِدْر أو الدلو، "وإما لمنفعتها" وهو الإنسان الذي يستعير شيئًا فَيُعار.
أما مَن حصل على العارلة فيجوز له أن يقدمها لغيره، ويتصرف فيها، ولكن في ذات نفسه، ولوكيله إذا كان له وكيل؛ لأنه يقوم عنه.
واختلفوا في نقله السلعة التي استعارها إلى شخص آخر ليتصرف فيها، مع أنه لا يملكها، فبعضهم أجاز ذلك، وهم: الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، وقول في مذهب الشافعي
(3)
، ومنهم من منع ذلك كالحنابلة
(4)
، والقول الثاني في مذهب الشافعي
(5)
، وغيرهم.
(1)
مذهب الحنفية جواز إعارة المستعار إن لم يختلف باختلاف المستعملين.
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (3/ 56). حيث قال: "وللمستعير أن يعيرها إن لم يختلف باختلاف المستعملين ".
(2)
مذهب المالكية كراهة إعارة المستعير مع صحة العارية إلا أن ينهاه المالك.
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 433). حيث قال: "وقوله: (وإن مستعيرًا) مبالغة في الصحة لا في الندب إذ يكره له أن يعير ما استعاره ومحل الصحة ما لم يمنعه المالك كما تقدم ".
(3)
ينظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 190). حيث قال: "وهل له أن يعير غيره؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز كما يجوز للمستأجر أن يؤجر".
(4)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 335). حيث قال: "وليس لمستعير أن يعير ولا يؤجر: إلا بإذن ".
(5)
وهو المعتمد. يُنظر: "المنهاج" للنووي (ص 144). حيث قال: "فيعير مستأجر لا مستعير على الصحيح ".
قوله: (وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَا تَصلح مِنَ الْمُسْتَعِيرِ (أَعْنِي: أَنْ يُعِيرَهَا".
المؤلف يميل إلى أنها لا تصح، وهذا رأي الأكثر.
قوله: (وَأَمَّا الْعَارِيَةُ فَتَكُونُ فِي الدُّورِ وَالأرَضِينَ وَالْحَيَوَانِ).
للإنسان أن يعير أخاه دارًا ليسكنها، أو أرضًا ليزرعها أو يبني عليها، أو يستفيد بها في أمر من الأمور، وله أن يعطيه حيوانًا يعيره إياه، أو سيارة، أو ثلاجة، أو دلوًا، وغير ذلك؛ شرط أن تكون مما يجوز إعارتها، أما ما لا تجوز إعارته فلا يجوز.
قوله: (وَجَمِيعِ مَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ إِذَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ مُبَاحَةَ الِاسْتِعْمَالِ، وَلذَلِكَ لَا تَجُوزُ إِبَاحَةُ الْحِوَارِي لِلِاسْتِمْتَاعِ. وَيُكْرَهُ لِلِاسْتِخْدَامِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ ذَات مَحْرَمٍ).
لا يجوز -مثلًا- أن يعير عبده لكافر؛ لأنه كما نعلم أن هذه ولاية، والكافر ليس له ولاية على مسلم.
قوله: (وَأَمَّا صِيغَةُ الْإِعَارَةِ: فَهِيَ كُلُّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ).
المؤلف عدَّد الأركان التي أشار إليها، فأخذها واحدةً واحدة، إلى أن جاء إلى الصيغة في العارية، -وكما هو معلوم هناك صيغ لا يجوز للإنسان أن يتجاوزها كما مرَّ في أحكام المعاملات، وهناك بعض العقود لها بعض الصيغ، ينوب بعضها عن بعض-، والصحيح أنها تجوز بكل لفظٍ يؤدي المعنى المطلوب.
قوله: (وَهِيَ عَقْدٌ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(1)
، وَأَبِي حَنِيفَةَ
(2)
.
(1)
يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (5/ 131). حيث قال: "وهي من العقود الجائزة من الطرفين كالوكالة، فحينئذ (لكل منهما) أي المعير والمستعير (رد العارية) ولو مؤقتة بوقت لم ينقض أمده (متى شاء) ".
(2)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(5/ 678). حيث قال: " (و) لعدم لزومها (يرجع المعير متى شاء) ولو موقتة".
وأحمد
(1)
، إذًا هي بعقد جائز لا واجب.
قوله: (أَيْ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ عَارِيَتَهُ إِذَا شَاءَ).
العارية ليست من العقود الواجبة، بل هي من العقود الجائزة، فالمستعير له أن يردها متى شاء، لكن ليس على إطلاقه -كما ذكر المؤلف-، فلنفترض أنه أعطاه عاربةً لمدة معينة، ثم أعطاه أرضًا فبنَى عليها وغرس؛ هنا له أن يأتيه ليستردها في أي وقت شاء شريطة ألَّا يتضرر المستعير بطلب الإعادة، إلا أن يكون قيد ذلك في وقتٍ فتجاوزه المستعير إلى وقتٍ آخر.
قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ: لَيْسَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا قَبْلَ الِانْتِفَاعِ
(2)
).
عرفنا أن الأئمة الثلاثة يرون أنها ليست بواجبة، ومالك معهم، لكن المؤلف أفرده بقول ليس له أن يسترجعها، فخالفهم في هذه الجزئية، والكل متفقون على أنها ليست بواجبة، فإن وجدت بينهم مدة فإنها تلزم؛ لأن "المؤمنون عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا"
(3)
، فإذا وُجد شرط بينهم فإنه يحسن الالتزام به.
(1)
والحنابلة يقيدون جواز الرجوع بشرط عدم الضرر. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 332). حيث قال: "ولمعير الرجوع متى شاء مطلقة كانت أو مؤقتة ما لم يأذن في شغله بشيء يستضر المستعير برجوعه -مثل أن يعيره سفينة لحمل متاعه أو لوحًا يرقع به سفينة فرقعها به ولج في البحر فليس له الرجوع والمطالبة ما دامت في اللجة حتى ترسي ".
(2)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (7/ 62). حيث قال: " (ولزمت) الإعارة (المقيدة بعمل) كحرث فدان أو زرعه كذا أو خياطة ثوب أو ركوب من مصر لمكة".
(3)
أخرجه الدارقطني (3/ 426) بلفظ: "المسلمون عند شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا".
• قوله: (وَإِنْ شَرَطَ مُدَّةً لَزِمَتْهُ مِنَ الْمُدَّةِ مَا يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ مُدَّةٌ لِمِثْلِ تِلْكَ الْعَارِيَةِ)
(1)
.
يشير المؤلف إلى العُرف، وهناك قاعدة فقهية معروفة:"المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا"
(2)
.
وهي قاعدة اشتهرت بين الفقهاء، لا سيما في مذهب الإمام مالك رحمه الله
(3)
.
وكذلك ربما يشير إلى قاعدة العادة، وهى من القواعد الكبرى المعروفة:"العادة محكمة"
(4)
.
ودليلها، أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"ما رأى المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئًا، فهو عند الله سيئ"
(5)
.
• قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ مَا يُوجَدُ فِيهَا مِنْ شَبَهِ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ وَغَيْرِ اللَّازِمَةِ).
سبب الخلاف:
هل هي لازمة أو غير لازمة؛ لأنها في بعض الأمور تشبه العقود اللازمة في بعض التصرفات، وفي بعضها تشبه العقود غير اللازمة، أي: الجائزة.
(1)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (7/ 62). حيث قال: "إن أجلت الإعارة بزمن أو انقضاء عمل لزمت إليه (وإلا) أي: وإن لم تقيد الإعارة بعمل ولا بزمن كأعرتك هذه الأرض أو الدار أو الثوب أو الدابة (فـ) العمل أو الزمان (المعتاد) ".
(2)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم، (ص 84). حيث قال:"قال في إجارة الظهيرية: المعروف عرفًا كالمشروط شرعًا".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 2) حيث قال: "وذلك أن من قواعد الفقه أن العرف كالشرط، وأن العادة محكمة".
(4)
انظر الحاشية السابقة.
(5)
أخرجه أحمد (3600) مطولًا عن عبد الله بن مسعود، وقال الألباني في "تحقيق شرح الطحاوية" (ص 469):"حسن موقوف".
• قوله: (وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَكَثِيرَةٌ، وَأَشْهَرُهَا هَلْ هِيَ مَضْمُونَةٌ أَوْ أَمَانَةٌ؟).
هذه مسألة مهمة، هل العارية مضمونة، أي: تضمن؟ وإذا وُجِدَ ضمانٌ فهل هناك فرق بين التعدي وغيره؟
ذهب الأئمة الأربعة ما عدا أبا حنيفة إلى أنها مضمونة، سواء فرَّط المستعير أو لم يفرِّط، سواء كان ذلك بفعل منه أو بأمر خارج عن إرادته.
مثال: لو أخذ صحنًا استعارة، وسقط منه فانكسر؛ فإنه يضمنه حتى لو أُسْقِط بريحٍ أو غيرها فإنه يضمنه.
• قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَضْمُونَةٌ وَإِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى تَلَفِهَا).
هي مضمونة في الحالتين، سواء فرط المستعير أو لم يفرط، سواء كان ذلك بفعل منه أو بأمر خارج عن إرادته؛ لأن ذلك حق لغيره، وأخذها للاستفادة به والانتفاع دون مقابل.
• قوله: (وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ
(1)
، وَالشَّافِعِيِّ
(2)
).
وأحمد
(3)
.
• قوله: (وَأَحَدُ قَوْلَي مَالِكٍ)
(4)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 436). حيث قال: "لأن ضمان العواري عنده ضمان تهمة ينتفي بإقامة البينة على ما ادعاه خلافًا لأشهب حيث قال: إن ضمان العواري ضمان عداء لا ينتفي بإقامة البينة".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (5/ 127). حيث قال: "ولا يعتبر للضمان التفريط فيضمنها (ولو لم يفرط) ".
(3)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 335). حيث قال: "والعارية المقبوضة مضمونة بقيمتها يوم التلف بكل حال وإن شرط نفي ضمانها".
(4)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 808). حيث قال: "وقد روي عن مالك أن المستعير لما يغاب عليه يضمنه متى تلف عنده سواء قامت بينة على هلاكه أو لم تقم".
إذًا، هذا هو القول المشهور بأن العارية مضمونة مطلقًا، سواء فرط المستعير أو لم يفرط.
قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ نَقِيضَ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَضْمُونَةً أَصْلًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
(1)
).
جمهور العلماء يذهبون إلى أن العارية مضمونة مطلقًا، وأبو حنيفة يرى أنها لا تضمن، وسيذكر المؤلف سبب الخلاف، ودليل كل منهم.
قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُضَمَّنُ فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى التَّلَفِ بَيِّنَةٌ، وَلَا يُضَمَّنُ فِيمَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَلَا فِيمَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى تَلَفِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ الْمَشْهُورُ، وَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ
(2)
).
هذا قول المالكية، فيقولون: هناك فرق بين ما يغاب عن عين الإنسان، وبين ما يراه، فما يغاب يتهم فيه الإنسان الذي يوجد عنده هذا الشيء، وما لم يغاب فأمرٌ مُشاهَد، يصعب على الإنسان أن يفرط فيه.
• قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ تَعَارُضُ الآثَارِ فِي ذَلِكَ).
إذًا، هناك قولان في المسألة:
(1)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (5/ 678 - 679). حيث قال: " (ولا تضمن بالهلاك من غير تعد) وشرط الضمان باطل".
(2)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (7/ 55). حيث قال: " (و) إن ادعى المستعير تلف الشيء المعار له (ضمن) المستعير الشيء المعار له (المغيب) بفتح الميم وكسر الغين المعجمة أي الذي يغاب (عليه) أي يمكن إخفاؤه مع وجوده كالثياب والحلي والعروض في كل حال (إلا لـ) شهادة (بينة) بتلفه بغير سببه فلا يضمنه إذا لم يفرط ولم يضيع. "ق "فيها لابن القاسم -رحمه الله تعالى- العارية مضمونة فيما يغاب عليه من ثوب أو غيره من العروض، فإن ادعى المستعير أن ذلك هلك أو سرق أو تحرق أو انكسر فهو ضامن، وعليه فيما أفسد فسادًا يسيرًا ما نقصه وإن كان كثيرًا ضمن قيمته كله إلا أن يقيم بينة أن ذلك هلك بغير سببه، فلا يضمن إلا أن يكون منه تضييع أو تفريط فيضمن".
قول يذهب إلى أنها مضمونة مطلقًا.
وآخر يرى أنها غير مضمونة.
والمالكية في روايةٍ توسَّطُوا في ذلك كما مرَّ، فما يحصل فيه غيب عن الأنظار يضمنه الإنسان مطلقًا.
• قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ وَوَدَ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ).
وضع المؤلف منهجًا يسير عليه بالنسبة للحديث، فكان يقوله:(إذا قلت: الحديث المشهور، أعني به الحديث المتفق عليه)، وهذا ليس المصطلح الذي نعرفه، (وإذا قلت: الحديث الثابت، فأعني به ما أخرجه أحد الشيخين)، يعني البخاري أو مسلمًا، لكن هنا المؤلف خرم قاعدته، وربما ظن أن هذا في أحد "الصحيحين"، والحديث ليس في أحد "الصحيحين"، بل هو في "السنن" عند النسائي
(1)
، والبيهقي
(2)
، وأحمد
(3)
، وغيرهم، فهذا حديث قد اشتهر، وهو معروف، لكنه ليس في "الصحيحين".
قوله: (أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ: "بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ مُؤَدَّاةٌ"
(4)
وَفِي بَعْضِهَا "بَلْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ"
(5)
.
(1)
أخرجه النسائي في "الكبرى"(5/ 331).
(2)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(6/ 147).
(3)
أخرجه أحمد فى "المسند"(15302) وحسنه الأرناؤوط.
(4)
لم نجد الرواية بلفظ المؤلف مسندًا، ولكن أسنده البيهقي من كلام الشافعي؛ فقال في "معرفة السنن والآثار" (8/ 299): قال الشافعي رحمه الله: العارية مضمونة كلها، استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية سلاحًا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"عارية مضمونة مؤداة".
وأقرب لفظ إلى هذا أخرجه الحاكم (3/ 48 - 49)، وغيره عن جابر وفيه: .... ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية، فسأله أدراعًا مئة درع، وما يصلحها من عدتها، فقال: أغصبًا يا محمد؟ قال: "بل عارية مضمونة حتى نوديها إليك" ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرًا. قال الأرناؤوط في "تحقيق سنن أبي داود"(5/ 415): "إسناده حسن".
ولا تتنافى مع رواية: "مضمونة"، فالضمان يزول بأدائها.
(5)
أخرجه أبو داود (3568)، وغيره من طريق ابن يعلى عن أبيه قال: قال لي =
حديث صفوان بن أمية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعًا يوم حنين، جاء في بعض الروايات:"إنها ثمانين"، بالإضافة إلى السلاح، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: غصب يا محمد، أم عارية؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بل عارية مضمونة"
(1)
.
هذا هو لفظ الحديث، وفي بعض الروايات:"أن بعض الأدرع فُقِدت، فأراد الرَّسول أن يضمنها له، فأشار إلى رغبته في الإسلام"
(2)
، وهذه الرواية تحتاج إلى التثبت من صحتها.
• قوله: (وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ضَمَانٌ"
(3)
.
جاء في بعض الروايات عند الدارقطني: "ليس على المستعير غير المغل"
(4)
.
"المغل": هو الجاني المتعدي، أي: ليس على المستعير غير المغل ضمان.
• قوله: (فَمَنْ رَجَّحَ وَأَخَذَ بِهَذَا أَسْقَطَ الضَّمَانَ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَلْزَمَهُ الضَّمَانَ، وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ).
= رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعًا وثلاثين بعيرًا". قال: فقلت: يا رسول الله، أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ قال:"بل مؤداة"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(3566).
(1)
أخرجه أبو داود (3564)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(3562).
(2)
أخرجه أحمد (15302)، قال العيني:"مضطرب سندًا ومتنًا وجميع وجوهه لا يخلو عن نظر". انظر: "عمدة القاري"(13/ 181).
(3)
الحديث لم نجده بلفظ المؤلف، وإنما بالزيادة التي أوردها الشارح، "غير المغل".
(4)
أخرجه الدارقطنى فى سننه (3/ 456) وقال الألباني فى "الإرواء"(5/ 368): "ضعيف جدًا".
هذا الرأي الثاني عند المالكية، لكن هل نعتبر هذا التعليل سببًا للجمع.
*
فائدة:
الجمع - كما هو معلوم - من أحسن ما يسلكه المرجح؛ لأنه أسهل وأولى طريق؛ لأنك لو جمعت بين الأدلة، فقد عملت بها جميعًا، لكن عندما ترجح بعضها على بعض، فمعنى ذلك أنك أعملت بعضها وتركت البعض الآخر.
ويكون الجمع عندما تتساوى الأدلة في الصِّحة، وإن اختلفت حقيقة درجاتها، وإن كان أحيانًا ارتفاع درجة بعض الأحاديث يكون سببًا من أسباب الترجيح.
أما التوازن الجمع بين حديثين أحدهما صحيح والآخر ضعيف؛ فهذا غير وارد.
إذًا، لا بد من البحث عن مرجح آخر أو أدلة أخرى، ثم يُنظر فيها.
إذًا، الحنفية لهم فهم لبعض الأدلة في كلمة "مؤداة"، حيث فهموها أنها كالوديعة، ولكن الوديعة لا تضمن، واستدلوا بقول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} .
فهل هذا المفهوم الذي سلكه الحنفية، وحاولوا أن يرجحوا به ما ذهبوا إليه يكون مقومًا لهم؟ أو أن دليل الجمهور صحيح الدلالة على المدعي؟
• قوله: (فَحَمَلَ هَذَا الضَّمَانَ عَلَى مَا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَالْحَدِيثَ الآخَرَ عَلَى مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ "لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ضَمَانٌ" غَيْرُ مَشْهُورٍ).
لا يجوز للمؤلف أن يقوله: (غير مشهور)، فالحديث قد يكون مشهورًا وهو ضعيف، وما أكثر الأحاديث المشهورة وهي ضعيفة، لكن كان ينبغي أن يقوله:(غير صحيح)؛ لأن الحديث سواء ما رواه
الدارقطني؛ ففيه ضعيفان
(1)
، أو البيهقي
(2)
؛ كل الطرق التي جاءت فيها ضعف.
إذًا، كيف يعارض به حديثًا صحيحًا؟!
• قوله: (وَحَدِيثُ صَفْوَانَ صَحِيحٌ، وَمَنْ لَمْ يَرَ الضَّمَانَ شَبَّهَهَا بِالْوَدِيعَةِ).
ومن لم ير الضمان، وهم الحنفية شبهوها بالوديعة، لكن لم يذكر لنا وجه الشبه، فوجه الشبه إذًا:
أولًا: أخذوا من بعض الروايات: "العارية مؤداة".
ثانيًا: أخذوا هذا اللفظ فقاسوه على الوديعة، - والوديعة كما ذكرنا مؤداة -؛ لأنها أمانة في يد المودع ليس عليه ضمان إلا لو تعدى، وإلَّا لو ابتعد الناس عن الأمانات، ورفضوا الودائع.
ثالثًا: ثم قالوا إن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، وبما أن الوديعة أمانة، والله أمر بأدائها؛ إذًا العارية مؤداة فتكون أيضًا كالوديعة، فلا يكون فيها ضمان. وهذا اجتهادٌ وفَهْم منهم.
• قوله: (وَمَنْ فَرَّقَ، قَالَ: الْوَدِيعَةُ مَقْبُوضَة لِمَنْفَعَةِ الدَّافِعِ، وَالْعَارِيَةُ لِمَنْفَعَةِ الْقَابِضِ).
بدايةً، لا نظن أن هذا الضمان لازم لا بد منه، بل هذا إذا طالب صاحب الحق به، لكن الكلام إذا طالب صاحب العارية بالضمان، فهل له ذلك أو لا؟
الوديعة مقبوضة لمنفعة الدافع، والعارية لمنفعة القابض، والوديعة عندما تأخذها عندك تحفظها لمصلحة غيرك.
(1)
قال الدارقطني (3/ 456): "عمرو بن عبد الجبار، عن عبيدة بن حسان ضعيفان".
(2)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(6/ 149).
مثال: أحيانًا يذهب النوم عن عينيك؛ لأنك تخاف، أو أن الإنسان ربما لا يهتم بحقه كما يهتم بحق الآخرين، أو أن الإنسان في بيته مال يحرص عليه لكن لو كان عند حق غيره فإنه يحرص عليه أكثر مما يحرص على نفسه.
إذًا، العارية تختلف تمامًا عن الوديعة؛ لأنها حق خالص لك، أعطيته آخر للانتفاع به، أما الوديعة أعطيتها غيرك ليحفظها لك، والنفع يعود لك، وهو لا يأخذ عليها أجرًا.
قوله: (وَاتَّفَقُوا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ (أَعْنِي: الشَّافِعِيَّ
(1)
وَأَبَا حَنِيفَةَ
(2)
وَمَالِكًا)
(3)
).
"الإجارة": إذا استأجر إنسان شيئًا فحصل فيه تلف أو عيب دون تفريط؛ فهو لا يضمنه، كالدار التي يستعيرها الإنسان، ثم يحصل فيها عيب، ولا يكون للمستأجر أي أثر في ذلك، ولا يكون له دخل في ذلك، كأن يستأجر دارًا تنزل عليها أمطار كبيوت الطين، فحصل عيب، فلا يقال بأن هذا فرط أو عيب جَدَّ وأنت موجود في الدار.
(1)
يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (5/ 309 - 310). حيث قال: " (ولو) (ربط دابة اكتراها لحمل أو ركوب) مثلًا (ولم ينتفع بها) وتلفت في المدة وبعدها (لم يضمنها) لأن يده يد أمانة".
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي و"حاشية ابن عابدين"(6/ 72). حيث قال: " (استأجر حمارًا فضل عن الطريق، إن علم أنه لا يجده بعد الطلب لا يضمن، كذا راع ند من قطيعه شاة فخاف على الباقي) الهلاك".
(3)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (8/ 17). حيث قال: "من اكترى دابة ليركبها فحمل عليها مكانه مثله في الخفة والأمانة فلا يضمنها وإن أكراها ممن هو أثقل منه أو من غير مأمون ضمن".
وهو مذهب الحنابلة أيضًا. يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 15). حيث قال: " (ولا يضمنها مستعير منه) أي المستأجر (إن تلفت من غير تفريط)؛ لأنه قام مقام المستأجر في الاستيفاء، فكان حكمه كالمستأجر في عدم الضمان لأن يده كيده".
قوله: (وَيُلْزِمُ الشَّافِعِيُّ إِذَا سَلَّمَ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ أَنْ لَا يَكُونَ ضَمَانٌ فِي الْعَارِيَةِ إِنْ سَلَّمَ أَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ هُوَ الِانْتِفَاعُ).
هذا فرق بين ذاك وذاك؛ لأن الإجارة تستأجرها، وهي ملك المنافع، لكن الفرق بينها وبين البيع: أن البيع ملك للأعيان، والإجارة ملك للمنافع.
مثال: دار اشتريتها فملكت عينها، وإذا استأجرتها فملكت منفعتها تلك المدة المحددة، ثم إذا انتهت المدة، عادت إلى صاحبها كما كانت؛ هذا الفرق بينهما.
وإن كان بعض العلماء يقول يجواز إطلاق لفظ البيع على الإجارة، كما هو عند الحنابلة، - وهذا فقط ضرب للمثال -، لكن هذه العين التي استأجرتها لم تكن مقابل منفعة دفعتها إلى المؤجر؛ لأن الأمر هنا يختلف، فعين دفعتها لآخر ليستفيد بها، فكيف يلزم الإمام الشافعي في أمر غير لازم؟!
• قوله: (لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُضَمَّنْ حَيْثُ قَبَضَ لِمَنْفَعَتِهِمَا فَأَحْرَى أَنْ لَا يُضَمَّنَ حَيْثُ قَبَضَ لِمَنْفَعَتِهِ إِذَا كَانَتْ مَنْفَعَةُ الدَّافِعِ مُؤَثِّرَةً فِي إِسْقَاطِ الضَّمَانِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا شُرِطَ الضَّمَانُ
(1)
، فَقَالَ قَوْمٌ: يُضَمَّنُ
(2)
،
(1)
هل مقصوده شرط الضمان في العارية أو الإجارة؟ محتمل، والظاهر أن مراده العارية؛ لأن الباب مختص بأحكامها، ويدل عليه السياق بعدها: .... أن يلزم أجرة المثل في استعماله العارية.
(2)
إنما يجيء هذا القول على قول من يقول: إن العارية لا تُضمن، فيفرع عليه: هل تُضمن بالشرط أم لا؟، وهذا إنما يجيء على مذهب الحنفية والمالكية فيما قرروا عدم ضمانه؛ فأما الحنفية، فعنهم شرط الضمان باطل.
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(5/ 678 - 679). حيث قال: " (ولا تضمن بالهلاك من غير تعد) وشرط الضمان باطل".
وأما المالكية، فعندهم قول بصحة هذا الشرط.
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 436). حيث قال: "ورد =
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُضمَّنُ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ
(1)
).
الأولى أن يقوله: (إن شرط نفي الضمان)، فنعود مرة أخرى نقول: لا اعتبار له عند من قال بالضمان؛ فهو الأولى أن يذكر هنا.
• قوله: (وَيجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ إِذَا اشْتُرِطَ الضَّمَانُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يجِبُ فِيهِ عَلَيْهِ الضَّمَانُ أَنْ يَلْزَمَ إِجَارَةُ الْمِثْلِ فِي اسْتِعْمَالِهِ الْعَارِيَةَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ يُخْرِجُ الْعَارِيَةَ عَنْ حُكْمِ الْعَارِيَةِ إِلَى بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ إِذَا كَانَ صَاحِبُهَا لَمْ يَرْضَ أَنْ يُعِيرَ إِلَّا بِأَنْ يُخْرِجَهَا فِي ضَمَانِهِ، فَهُوَ عِوَضٌ مَجْهُولٌ فَيَجِبُ أَنْ يُرَدَّ إِلَى مَعْلُومٍ
(2)
. وَاخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إِذَا غَرَسَ الْمُسْتَعِيرُ وَبَنَى ثُمَّ انْقَضَتِ المُدَّةُ الَّتِي اسْتَعَارَ إِلَيْهَا).
= بلو على مطرف كما في المواق حيث قال: إذا شرط المعير الضمان لأمر خافه من طريق مخوفة، أو نهر، أو لصوص، أو نحو ذلك فالشرط لازم إن هلكت بالأمر الذي خافه وشرط الضمان من أجله، والمعتمد أنه لا ضمان ولا عبرة بشرطه ولو لأمر خافه".
(1)
وأما باقي المذاهب، فإنما يُحتاج إلى مسألة: شرط نفي الضمان، لا شرط الضمان؛ فمذهب المالكية أن نفي الضمان على تردد عندهم فيه.
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (7/ 55 - 56). حيث قال: " (وإن شرط) المستعير (نفيه) أي الضمان فشرطه لغو، وعزاه في المقدمات لابن القاسم في بعض روايات المدونة، وله ولأشهب في العتبية يوسف بن عمر وهو المشهور، أو إن شرط نفي ضمانه فلا يضمنه لأنه معروف بعد معروف الإعارة حكاه اللخمي والمازري وغيرهما في ابن القاسم وأشهب، في الجواب (تردد) للمتأخرين في النقل عن المتقدمين".
وهو مذهب الشافعية. يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (5/ 126). حيث قال: "حتى لو أعارها بشرط أن تكون أمانة لغا الشرط كما ذكراه ولم يتعرضا لصحتها ولا فسادها، ومقتضى كلام الإسنوي صحتها".
وتقدم النقل عن الإقناع أنه يضمن ولو شرط نفي الضمان.
(2)
ينظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 436). حيث قال: "تنقلب العارية مع شرط الضمان إجارة فاسدة؛ لأنه كأنه أجرها بقيمتها، وهي مجهولة وحينئذ ففيها أجرة المثل مع الفوات باستيفاء المنفعة وتنفسخ قبل استيفاء المنفعة".
استعار أرضًا، ثم غرس فيها، أو بنَى أو زرع، إن كان هناك زرع فينتظر حتى يحصده، لكن ربما يغرس فيها شجرًا أو نخلًا، وربما يبني عليها بناءً أو عدة أبنية، فالحكم هنا، هل يقال له: اقلع غرسك، أو انقض ما بنَيْتَه؟ أو عليه أن يتولى ذلك صاحب الإعارة، أو يشتريها؟
هذه مسألة فيها خلاف مشهور بين العلماء، وهي شبيهة بالغَصب.
• قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمُسْتَعِيرَ بِقَلْعِ غِرَاستِهِ وَبِنَائِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ قِيمَتَهُ مَقْلُوعًا إِذَا كَانَ مِمَّا لَهُ قِيمَة بَعْدَ الْقَلْعِ
(1)
، وَسَوَاءٌ عِنْدَ مَالِكٍ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الْمَحْدُودَةُ بِالشَّرْطِ أَوْ بِالْعُرْفِ أَوِ الْعَادَةِ
(2)
).
كأنْ يَقُول العرف والعادة؛ لأن العرف هو العادة، وإن كان هناك نوع من التفريق لكن المراد هنا هو شيء واحد - كما هو معلوم -، فالعرف أو العادة اعتبرت في كثير من الأحكام، وقد كان الأئمة - رحمهم الله تعالى - يلجؤون إلى النساء فيما يتعلق بأحكام الحيض والنفاس كما مر بنا في بعض المسائل في الصناعة.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 439). حيث قال: " (وإن انقضت مدة البناء، والغرس) المشترطة، أو المعتادة (فكالغاصب) لأرض بنى بها، أو غرس فالخيار للمعير بين أمره بهدمه وقلع شجره وتسوية الأرض كما كانت وبين دفع قيمته منقوضًا بعد إسقاط أجرة من يهدمه ويسوي الأرض إذا كان المستعير لا يتولى ذلك بنفسه، أو خدمه، وإلَّا لم يعتبر إسقاط ما ذكر ويدفع له قيمته منقوضًا بتمامها".
وقريب منه مذهب أبي حنيفة. يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(5/ 681). حيث قال: " (ولو أعار أرضًا للبناء والغرس صح) للعلم بالمنفعة (وله أن يرجع متى شاء)؛ لما تقرر أنها غير لازمة (ويكلفه قلعهما إلا إذا كان فيه مضرة بالأرض فيتركان بالقيمة مقلوعين) ".
(2)
يُنظر: "مختصر خليل"(ص 189). حيث قال: "ولزمت المقيدة بعمل أو أجل لانقضائه وإلا فالمعتاد".
إذًا، العادة محكمة، ولذلك وضعوا القاعدة المعروفة - وهي مشهورة عند المالكية - "المشروط شرطًا كالمعروف عرفًا".
"فالمشروط شرطًا"، أي: المعروف عرفًا أصبح عادةً كالمشروط شرطًا، وهذا أشار إليه المؤلف، وهو في مذهب مالك كما تقدم.
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ الْقَلْعُ فَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْقَلْعِ، بَلْ يُخَيَّرُ الْمُعِيرُ بِأَنْ يُبْقِيَهُ بِأَجْرٍ يُعْطَاهُ، أَوْ يُنْقَضَ بِأَرْشٍ، أَوْ يُتَمَلَّكَ بِبَدَلٍ، فَأَيُّهَا أَرَادَ الْمُعِيرُ أُجْبِرَ عَلَيْهِ الْمُسْتَعِيرُ، فَإِنْ أَبَى كُلِّفَ تَفْرِيغَ الْمِلْكِ)
(1)
.
لم يذكر مذهب الإمام أحمد
(2)
هنا؛ فهو ليس بعيدًا عن الشافعي، لكن فيه شيء من الخلاف، وهو أن مذهب الحنابلة في هذه الحالة إذا بنى أو غرس ثم انتهت المدة فهو لا يخلو مِن أنْ يأتي المستعير فيقلع الغرس ويزيل البناء، ثم بعد ذلك لا يلزمه إصلاح ما ترتب على القلع وإزالة البناء من فساد وغيرها، وهذا هو المشهور في المذهب، وهناك من يرى أنه يلزمه الأمر الآخر.
(1)
يُنظر: "المنهاج" للنووي، (ص 145). حيث قال:"وإذا أعار للبناء أو الغراس ولم يذكر مدة ثم رجع إن كان شرط القلع مجانًا لزمه، وإلا فإن اختار المستعير القلع قلع ولا يلزمه تسوية الأرض في الأصح. قلت: الأصح يلزمه والله أعلم. وإن لم يختر لم يقلع مجانًا بل للمعير الخيار بين أن يبقيه بأجرة أو يقلع ويضمن أرش النقص قيل: أو يتملكه بقيمته فإن لم يختر لم يقلع مجانًا إن بذل المستعير الأجرة وكذا إن لم يبذلها في الأصح".
ونحوه مذهب أحمد. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 333). حيث قال: "وإن لم يشرط عليه القلع لم يلزمه: إلا أن يضمن له المعير النقص، فإن قلع فعليه تسوية الأرض، وإن أبي القلع في الحال التي لا يجبر فيها، فللمعير أخذه بقيمته بغير رضا المستعير أو قلعه وضمان نقصه، فإن أبي ذلك بيعا لهما".
(2)
ينظر الحاشية السابقة.
وإذا أبي أن يفعل ذلك المستعير؛ فحينئذٍ يعرض عليه المعير واحدًا من أمرين:
إما أن يقلعه هو له ويسلمه إياه ويتحمل أرش النقص، أو يشتري منه البناء والغرس، وإن أبي المستعير؛ فإنه يجبر في هذه الحالة.
إذًا، ففي هذا شبه وقرب من مذهب الإمام الشافعي.
• قوله: (وَفِي جَوَازِ بيعه لِلنَّقْضِ عِنْدَهُ خِلَافٌ؛ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلنَّقْضِ. فَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَخْذَهُ الْمُسْتَعِيرَ بِالْقَلْعِ دُونَ أَرْشٍ هُوَ ظُلْمٌ).
أخذه، أيْ: ألزمه، وقصده به أن يأخذ المستعير بإلزامه بالنقض.
قوله: (وَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ عَلَيْهِ إِخْلَاءَ الْمَحَلِّ، وَأَنَّ الْعُرْفَ فِي ذَلِكَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الشُّرُوطِ).
لأن بعضهم يرى أن ذلك ينزل منزلة الغاصب، وفي الحديث:"ليس لعرق ظالم حق"
(1)
؛ لأنك إنسان استعرت أرضًا لمدة محددة، لماذا تبني وتغرس فيها؟ وإنْ قُدِّرَ وفعلتَ؛ فعليك أن تخليها!، لكن أن تبقى وتمتنع عن إخلائها؛ تكون قد تعديت، فبعضها - كما ذكرنا - شبيهة بمسألة الغصب.
قوله: (وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ إِنِ اسْتَعْمَلَ الْعَارِيَةَ اسْتِعْمَالًا يُنْقِصُهَا عَنِ الِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ضُمِّنَ مَا نَقَصَهَا بِالِاسْتِعْمَالِ
(2)
. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الرَّجُلِ يَسْأَلُ جَارَهُ أَنْ يُعِيرَهُ جِدَارَهُ لِيَغْرِزَ فِيهِ خَشَبَةً).
(1)
جزء من حديث أخرجه أبو داود (3073) ولفظه عن سعيد بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق" وصححه الألباني في إرواء الغليل (1520).
(2)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (7/ 57). حيث قال: "وما ينقصها استعمالها يضمن باقيها بعد نقصها ذلك".
هذه مسألة مهمة جدًّا، ولذلك شدد فيها أبو هريرة رضي الله عنه في الحديث الصحيح.
فالمسألة ذُكِرَت في الفقه، ويذكرونها أيضًا من المسائل المهمة التي تذكر عند قاعدة:"الضرر يزال".
مثال: لو أنَّ إنسانًا أراد أن يضع أو يغرس خشبة على جدار جاره؛ فإن كان هناك ضرر، فلا يجوز، وإن لم يكن هناك ضرر، فاختلفوا في استئذانه وموافقته.
• قوله: (لِمَنْفَعَتِهِ وَلَا تَضُرُّ صَاحِبَ الْجِدَارِ، وَبِالْجُمْلَةِ فِي كلِّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمُعِيرِ فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِهِ إِذِ الْعَارِيَةُ لَا يُقْضَى بِهَا).
وهو القول الصحيح للشافعي
(3)
، ولذلك أخفى المؤلف ووضعه مع أحمد، مع أن القول الصحيح للإمام الشافعي مع هؤلاء.
(1)
نظر: "منح الجليل" لعليش (6/ 331). حيث قال: " (وندب) بضم فكسر للجار على المشهور، وهو قول الإمام مالك - رضي الله تعالى عنه -، ونائب فاعل ندب (إعارة جداره) أي الجار لجاره (لـ) أجل (غرز) أي إدخال (خشبة) ".
(2)
يُنظر: "المعتصر من المختصر من مشكل الآثار" للملطي (2/ 16). حيث قال: "في منع الجار من غرز الخشبة: روي عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة على جداره"
…
وروي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سأله جاره أن يضع في جداره خشبة فلا يمنعه" وفيه ما يدل على أنه ليس له إلا بعد سؤاله إياه عند حاجته وإن الأمر. في ذلك على الاختيار لا على الوجوب".
وينظر أيضًا: "التجريد" للقدوري (6/ 2966). حيث قال: "قال أصحابنا: ليس للرجل وضع خشبة على حائط جاره إلا بإذنه".
(3)
الأمر كما قال الشارح - لا المصنف - فالجديد أنه لا يلزم بتمكين جاره من وضع الخشب على الجدار.
يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (4/ 405). حيث قال: " (وليس للآخر)
…
(وضع الجذوع)، أي: الأخشاب، وضع جذع واحد (عليه بغير إذن) مالكه ولا ظن رضاه (في الجديد، ولا يجبر المالك عليه) ". =
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
وَأَحْمَدُ
(2)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(3)
، وَدَاوُدُ
(4)
وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ: يُقْضَى بِذَلِكَ
(5)
).
أهل الحديث عمومًا، ومعهم بعض الفقهاء، ذهبوا بأنَّ ذلك واجب
= والقديم أنه يقضى به بشروط.
يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (4/ 405). حيث قال: "وللقديم شروط: أن لا يحتاج مالكه إلى وضع جذوعه عليه، وأن لا يزيد الجار في ارتفاع الجدران، ولا يبني عليه أزجا، ولا يضع عليه ما يضره، وأن تكون الأرض له نص عليه، وأن لا يملك شيئًا من جدران البقعة التي يريد أن يسقفها أو لا يملك إلا جدارًا واحدًا ولا فرق على القديم بين أن يحتاج إلى فتح شيء في الحائط لتدخل فيه الجذوع أم لا، صرح به الماوردي وابن الصباغ وغيرهما؛ لأن رأس الجذع يسد المنفتح ويقوي الجدار، بخلاف فتح الكوة ونحوها فإنه لا يجوز، وقوله ولا يجبر المالك مفرع على الجديد".
(1)
انظر الحاشية أعلاه.
(2)
إنما ألزم أحمد وضع الخشبة للضرورة.
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 402). حيث قال: "وليس له وضع خشبه على حائط جاره أو المشترك إلا عند الضرورة: بألا يمكنه التسقيف إلا به فيجوز ولو ليتيم ومجنون: ما لم يتضرر الحائط، وليس له منعه منه إذن فإن أبي أجبره الحاكم، وإن صالحه عنه بشيء جاز".
(3)
المؤلف تبع ابن عبد البر في الاستذكار فيما نسبه لأبي ثور، وسيأتي النقل عنه، وقد نُسِب إليه خلاف هذا. يُنظر:"المغني" لابن قدامة (4/ 376).
حيث قال: "وإن كان لا يضر به، إلا أن به غنية عن وضع خشبه عليه، لإمكان وضعه على غيره، فقال أكثر أصحابنا: لا يجوز أيضًا. وهو قول الشافعي وأبي ثور".
(4)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 86). حيث قال: "مسألة: ولا يحل لأحد أن يمنع جاره من أن يدخل خشبًا في جداره ويجبر على ذلك - أحب أم كره - إن لم يأذن له،
…
فهذا قول أبي هريرة ولا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم وهو قول أصحابنا". وداود هو أشهر أصحابه.
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 193). حيث قال: "وقال آخرون: ذلك على الوجوب إذا لم تكن في ذلك مضرة بينة على صاحب الجدار، وممن قال بهذا الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود بن علي وجماعة أهل الحديث". وبين أن المصنف نقل مذاهبه هنا بتمامها من "الاستذكار".
إذا لم يلحق الجار ضرر؛ فإنه يلزمه أن يتقبل ذلك العمل.
الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره"
(1)
.
قوله: (وَحُجَّتُهُمْ مَا خَرَّجَهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ")
(2)
.
يقوله: (خرَّجه مالك)، ونعلم بأن المؤلف نقل كثيرًا عن "الاستذكار" لابن عبد البر، ولذلك كنا نرى في هذا الكتاب لم يذكر الإمام أحمد على أنه ينص، لكن كان يذكره أحيانًا، ثم بعد ذلك تغيَّر أسلوبه، فهو يراه محدثًا وفقيهًا، وليس كما يدعي البعض بأن ابن عبد البر ما ذكره في كتاب آخَر، أو أن المؤلف هنا لا يراه، ولذلك عد مرتين في مباحث قريبة مِن فقهاء الأمصار، فذكر منهم الإمام أحمد، إذًا هو ينقل من كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر.
• قوله: (ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مَعْرِضِينَ، وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ)
(3)
.
في بعض الروايات جاء: "والله، لأرمينَّ بها بين أكتافكم"، وفي بعضها:"أكنافكم"
(4)
.
• قوله: (وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ سَاقَ خَلِيجًا لَهُ مِنَ الْعَرِيضِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَمُرَّ بِهِ فِي
(1)
أخرجه البخاري (2463)، ومسلم (1609).
(2)
"الموطأ"(2/ 290)، ومن طريق مالك أخرجه البخاري (2463)، ومسلم (1609).
(3)
يحسن نقله مع الجزء السابق من المتن؛ لأنهما نفس الحديث، ومثله ما بعده.
(4)
أخرجه ابن ماجه (2335) وصحح إسناده الأرناؤوط في "تحقيق سنن ابن ماجه"، وقد أثبت هذه اللفظة الأرناؤوط.
أَرْضِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَأَبَى مُحَمَّدٌ، فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: أَنْتَ تَمْنَعُنِي وَهُوَ لَكَ مَنْفَعَةٌ، تَسْقِي مِنْهُ أَوَّلًا وَآخِرًا وَلَا يَضُرُّكَ؟ فَأبَى مُحَمَّدٌ، فَكَلَّمَ فِيهِ الضَّحَّاكُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَدَعَا عُمَرُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ).
هذا دليل آخر حجة للذين يقولون بوجوب وضع الخشب على جدار الجار، أو نحوه، أو إمرار الماء، أو نحو ذلك.
قوله: (قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا، فَقَالَ عُمَرُ: لَا تَمْنَعْ أَخَاكَ مَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّكَ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ، فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ، فَفَعَلَ الضَّحَّاكُ)
(1)
.
إذًا، عمر رضي الله عنه ألزم محمد بن مسلمة بإمرار الماء عن طريق بستانه؛ لأن فيه نفعًا له، وفي نفس الوقت لا يضر به، وفيه منفعة لأخيه، لكن الآخرين الذين قالوا بعدم وجوب ذلك، قالوا بأنَّ محمد بن مسلمة صحابيٌّ وخالف عمر؛ فالمسألة فيها خلاف، ولا يعتبر حقيقة الموضوع جازم.
كذلك، حاولوا حمل حديث أبي هريرة على الندب، لكن أبا هريرة شدد في ذلك، وقال:"ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم".
وقالوا أيضًا بأنَّ من قالوا بعدم الوجوب لو كان الأمر قد ظهر لهم؛ لَما توقَّفوا في الأمر، ولا نزلوا عند قول أبي هريرة، لكن كونهم توقفوا فلا شك أن الأظهر أنه لا يجوز للمسلم أن يمنع أخاه من أن يحقق منفعة له علاقة بها دون أن يلحقه ضرر في ذلك.
(1)
"الموطأ"(2/ 291). وأخرجه البيهقي في "الكبرى"(12000)، وقال الألباني في "إرواء الغليل" (5/ 254):"صحيح".
قوله: (وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ فِي حَائِطِ جَدِّي رَبِيع لعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ).
القصد بالربيع هو الجدول الذي نسميه الساقي التي تمشي، وهو معروف اليوم، إذن هذا الجدول أو الساقي يمر به، فأراد أن يمنع ذلك.
• قوله: (فَأَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْحَائِطِ، فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ).
(الذي كلمه هو عبد الرحمن بن عوف).
• قوله: (فَكَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَضَى لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِتَحْوِيلِهِ
(1)
وَقَدْ عَذَلَ الشَّافِعِيُّ مَالِكًا لِإِدْخَالِهِ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي مُوَطَّئِهِ، وَتَرْكِهِ الأخْذَ بِهَا).
"عذَلَ"
(2)
، أيْ: لَامَ، لكن المالكية ما سلموا هذا العذل، فقد قالوا: إن الإمام الشافعي عذل، أي: لام، وكذا الإمام مالك، كيف يخرج الأثرين في كتابه ولا يعمل بهما؛ لأنه ما قال بالوجوب، وإنما قال بالندب.
إذًا، هناك اختلاف بين روايته - أي: ما قاله - وخرجه في "موطئه"، وبين ما قال به.
وأجاب المالكية عن ذلك بأن القضية ليست قضية مسلمة، فمحمد بن مسلمة خالف في هذا الأمر، وتأوَّلوا أيضًا حديث أبي هريرة بأن أولئك الأقوام توقفوا، ولم ينفذوا ما قاله أبو هريرة مع تشديده في ذلك الأمر.
• قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
(1)
"الموطأ"(2/ 291)، وانفرد به مالك من هذا الطريق.
(2)
"العَذْلُ": الملامةُ. وقد عَذلْتُهُ. والاسم العَذَلُ بالتحريك. يقال: عَذَلْتُ فلانًا فاعْتَذَلَ، أي لامَ نفسه وأعتَبَ. انظر:"الصحاح" للجوهري (5/ 1762).
وَالسَّلَامُ -: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ")
(1)
.
هذا الحديث قد مرَّ بنا في أبواب كثيرة، وهو حديث أخرجه البيهقي والدارقطني وغيرهما، لكنه حديث عام، وما معنا خاص:"لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا عن طيب نفس منه"؛ هذا هو التعدي أن تأخذ حق أخيك بغير سبب، كما قال الله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
أمَّا أن تكون لك مصلحة في جدار دارك أو مزرعة جارك ولا يلحقه أي ضرر، بل ربما يستفيد هو، فهذا هو الذي جاء في حديث أبي هريرة وفي الأثرين في قصة عمر رضي الله عنه.
وأما الذي يتضمنه هذا الحديث: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه"، أنه لا يجوز للمسلم أن يأخذ حق أخيه المسلم تعَدٍّ.
• قوله: (وَعِنْدَ الْغَيْرِ أَنَّ عُمُومَ هَذَا مُخَصَّص بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَبِخَاصَّةٍ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّدْبِ، وَأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً وَأَنْ تَكُونَ عَلَى النَّدْبِ فَحَمْلُهَا عَلَى النَّدْبِ أَوْلَى؛ لأنَّ بِنَاءَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ إِنَّمَا يَجِبُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ بَيْنَهُمَا جَمْعٌ وَوَقَعَ التَّعَارُضُ. وَرَوَى أَصْبَغُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِقَضَاءِ عُمَرَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي الْخَلِيجِ، وَيُؤْخَذُ بِقَضَائِهِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي تَحْوِيلِ الرَّبِيعِ
(2)
، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ تَحْوِيلَ الرَّبِيعِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهِ بِطَرِيقٍ لَمْ يَكُنْ قَبْلُ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ بِحَسَبِ غَرَضِنَا).
(1)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(11660)، وقال ابن حجر:"فيه علي بن زيد بن جدعان وفيه ضعف" انظر: "التلخيص الحبير"(3/ 101).
(2)
بل الثابت عنه أنه لم يأخذ به.
يُنظر: "المنتقى شرح الموطأ" للباجي (6/ 46). حيث قال: "وقد قال مالك فيمن له ماء وراء أرض وله أرض دون أرض فأراد أن يجري ماءه في أرض أنه ليس له ذلك، ولم يأخذ بما روي عن عمر في ذلك، ورواه عنه ابن القاسم في المجموعة".
قصده بأن الربيع كان موجودًا عنده، ولكن أراد أن ينقله من جهة أبعد عن مزرعته وعن بستان عبد الرحمن بن عوف إلى ما هو أقرب وأنفع له، فهو لا يُدخل عليه شيء جديد، لكنه أراد التحويل من مكان إلى مكان.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
* * *
(كِتَابُ الْغَصْبِ)
(1)
يعني هذا كتاب الغصب، أو هذا كتاب يذكر فيه الغصب، قال:
• قوله: (وَفِيهِ بَابَانِ، الْأَوَّلُ: فِي الضَّمَانِ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ).
المؤلف لم يعرِّف الغصب، والغصب في الحقيقة عرَّفه العلماء بأنه: أخذ مال الغير بغير حق.
وبعضهم يتوسع، فيقول: هو أخذ حق الغير بغير حق، فيدخل ما كان مغالًا وما لم يكن أيضًا مما يتمول، مما هو حق للغير؛ فلا يجوز للإنسان أن يعتدي عليه، قال:
(1)
"الغصب" لغة: هو أخذ الشيء ظلمًا وقهرًا. والاغتصاب مثله، يقال: غصبه منه وغصبه عليه بمعنى واحد. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 648).
واصطلاحًا: عرفه أبو حنيفة وأبو يوسف بأنه: "إزالة يد المالك عن ماله المتقوم على سبيل المجاهرة والمغالبة بفعل في المال". انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني 7/ 143).
وعرفه المالكية بأنه: "أخذ مال قهرًا تعديًا بلا حرابة". انظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 581).
وعرفه الشافعية بأنه: "الاستيلاء على حق الغير عدوانًا، أي: على وجه التعدي". انظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 334).
وعرفه الحنابلة بأنه: "استيلاء غير حربي عرفًا على حق غيره من مال أو اختصاص قهرًا بغير حق". انظر: "كشاف القناع"(4/ 76).
• قوله: (الْأَوَّلُ: الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ).
والموجب للضمان هنا: إذا تعدى إنسان على آخر فأخذ دارًا له، أو دكانًا، أو بضاعةً من البضائع، أو دخل على مزرعته، فاستولى على جريرٍ من القمح، أو غير ذلك، فما حكمه؟
• قوله: (وَالثَّانِي: مَا فِيهِ الضَّمَانُ).
ما هو الذي فيه الضمان؟ هل كل شيء يضمن أو لا؟ فهناك شيءٌ يُرد إن كان موجودًا بعينه، وهناك شيء يُضمن، وهل يضمن بالمثل أو يضمن بقيته؟ في المسألة أيضًا تفصيل.
• قوله: (وَالثَّالِثُ: الْوَاجِبُ).
أيضًا ما هو الواجب على إنسان غصب شيئًا؟
• قوله: (وَأَمَّا الْبَابُ الثَّانِي: فَهُوَ فِي الطَّوَارِئِ عَلَى الْمَغْصُوبِ).
يعني ما يطرأ على المغصوب، فقد تطرأ عليه زيادة، كأن يكون عبدًا فيثمن، أو يتعلم صنعة، أو جارية فتلد، أو غير ذلك، وربما يحدث فيه نقص، هذا هو ما يطرأ عليه.
قوله: (الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي الضَّمَانِ: الرُّكنُ الْأَوَّلُ وَأَمَّا الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ، فَهُوَ إِمَّا الْمُبَاشَرَةُ لِأخْذِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ أَوْ لِإِتْلَافه).
إذًا، هناك طرق للغصب أيضًا؛ لأنها إما أن تكون بالمباشرة، كأنْ يأتِيَ إنسان فيغصب غيره الحق، وربما لا يأخذه ولكنه يأتي فيتلفه، فيدخل مزرعته ليتلف له قمحًا، أو مستودعًا، أو دكانًا" فيتلف ما فيه مِن البضائع؛ فهذا تعَدٍّ؛ ويكن الفاعل معتدٍ.
• قوله: (وَإِمَّا الْمُبَاشَرَةُ لِلسَّبَبِ الْمُتْلِفِ، وَإِمَّا إِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَيْهِ).
إذًا، الأمور أربعة: إمَّا أنه يغصب ذلك المال ويأخذه، أو إمَّا أن يتلفه، أو يتسبب في إتلافه؛ فيكون سببًا.
مثال: دابة مربوطة في مكانها، فيأتي إنسان فيطلق قيدها، ثم تتلف الدابة؛ هذا تسبب بلا شك، فهل يضمن أو لا يضمن؟ هناك تفصيل في المسألة سيأتي.
إذًا، الثالث أن يتسبب في هذا، والرابع وضع اليد عليه، فيأتي يضع يده على أرض إنسان؛ لأنه أقوى منه.
ولذلك قال العلماء: الغاصب ارتكب معصيتين:
المعصية الأولى: أنه أخذ حق غيره بغير حق.
المعصية الثانية: أنه بارَزَ اللهَ سبحانه وتعالى؛ لأن الله تعالى نهى عن الغصب، ونهى عن الظلم، وهذا قد تعدَّى؛ فكأنه بارز الله وحاربه في ذلك، وهو في النهاية خاسر بلا شك، إن لم تنزل به العقوبة في الدنيا، فسينالها بلا شك في الآخرة.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَتِهِ الضَّمَانُ إِذَا تَنَاوَلَ التَّلَفَ بِوَاسِطَةِ سَبَبٍ آخَرَ، هَلْ يَحْصُلُ بِهِ ضَمَان أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَفْتَحَ قَفَصًا فِيهِ طَائِرٌ فَيَطِيرُ بَعْدَ الْفَتْحِ).
أيْ: إنسان له طائر، فوضعه في قفصٍ فى صندوق، وأغلق عليه وحفظه فيه، فجاء آخر ففتح هذا الصندوق، ثم ترتب عليه أن طار هذا الطائر، إذًا ذهب عليه كأنه أتلفه، فهل يضمن أو لا؟
من العلماء من قال: يضمن. قولًا واحدًا دون تفصيل
(1)
.
ومنهم مَن فرَّق بين أن يهيجها أو لا يهيجها. أيْ: أنْ يُثير تلك الدابة أو ذلك الطائر، بمعنى يثيره فيطير، لكن ربما لو فتحه وتركه فقد يبقى في ذلك المكان؛ لأنه تعوَّد عليه، لكن ربما يتخذ من الوسائل ما يدفعه إلى الخروج من مكانه ثُم الذهاب أو التلف أو الضياع.
(1)
أخرنا توثيق الأقوال لكلام الشارح لتميزه بنسبة المذاهب إلى أهلها.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ)
(1)
.
وأحمد
(2)
.
قوله: (يُضَمَّنُهُ، هَاجَهُ عَلَى الطَّيَرَانِ أَوْ لَمْ يَهِجْهُ).
إذًا، مَن وجد طائرًا مملوكًا في قفص فرفع عنه ذلك القيد؛ فإنه يضمن عند الإمامين مالك وأحمد؛ لأنه تسبب في ذلك، هذا إذا طار الطائر وترتب عليه التلف أو طار ولم يَعُد، أما لو بقي مكانه أو طار وعاد؛ فهذا لا يدخل في هذا الموضوع.
• قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُضَمَّنُ عَلَى حَالٍ)
(3)
.
لأنه في هذه الحالة ما أتلفه، لكن أولئك قالوا: ذكر سببًا مباشرًا، وهو: أنه تسبب؛ فترتب على فتح ذلك الصندوق أو إطلاق قيد تلك الدابة أن تلف ذلك الحيوان وذلك الطائر.
• قوله: (وَفَرَّقَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ أَنْ يَهِيجَهُ عَلَى الطَّيَرَانِ أَوْ لَا يَهِيجُهُ)
(4)
.
أيْ: يُحَرِّضه أو يدفعه على الطيران أو لا، أما لو فتح ولم يهيجه
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 445). حيث قال: " (أو) فتح بابًا مغلقًا (على غير عاقل) فذهب فيضمنه (إلا بمصاحبة ربه) له حين الفتح فلا ضمان على الفاتح إذا لم يكن طيرًا، وإلا ضمن؛ لأن الطير لا يمكن ترجيعه عادة". وانظر: "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 630).
(2)
ينظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 354). حيث قال: "وإن فتح قفصًا عن طائر أو حل قيد عبد أو أسيرًا أو دفع لأحدهما مبردًا فبرده فذهبوا
…
ضمنه".
(3)
يُنظر: "الجوهرة النيرة على مختصر القدوري" للزبيدي (1/ 346).
حيث قال: "وإن فتح رجل باب قفص فطار منه طائر، لم يضمن إلا إذا نفره".
(4)
يُنظر: "المنهاج" للنووي، (ص 146). حيث قال:"ولو فتح قفصًا عن طائر وهيجه فطار ضمن، وإن اقتصر على الفتح فالأظهر أنه إذا طار في الحال ضمن، وإن وقف ثم طار فلا".
فإنه في هذه الحالة لا يضمن، ولكن الظاهر أن مذهب الإمامين مالك وأحمد أقوى في هذه المسألة؛ لأنه لو لم يحصل فك القيد، ولو لم يحصل فتح ذلك الصندوق أو ذلك القفص لمَّا طار الطائر، ولما ذهبت الدابة؛ فهو تسبب وإن لم يتلف هو نفسه، لكنه تناول ذلك بسبب مباشر، وهذا فيه مصلحة سد الذرائع
(1)
، و"درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"
(2)
.
إذًا، لو لم يُجازَ مثل هؤلاء ويُعاقبون ويُغرمون، ربما تكون هذه وسيلة لمن يتَلاعبون بحقوق الناس، فيتجرؤون على دوابٍّ فيطلقونها، ونحو ذلك.
• قوله: (فَقَالَ: يُضَمَّنُ إِنْ هَاجَهُ، وَلَا يُضَمَّنُ إِنْ لَمْ يَهِجْهُ).
لأن الشافعي يرى أنه إن هاجه كأنه قرب من المباشرة، يعني قرب من الإتلاف؛ لأنه فتح الصندوق، ثم أيضًا حركه ودفعه ليطير، فشبهه بمن أتلفه، ولكن الفريق الأول كما ترون قالوا: لو لم يفك القفص أو القيد؛ لبقي الطائر أو الحيوان في مكانه.
• قوله: (وَمِنْ هَذَا مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَسَقَطَ فِيهِ شَيءٌ فَهَلَكَ).
تعلمون قد يحفر إنسان بئرًا، وهذه البئر قد تقع في طريق أو يحفرها في ملكه، أو يحفرها ويحتاط فيها، فالصورة تختلف هنا، لكن لو حفر البئر فجاء إنسان فوقع فيها؛ فإنه يكون متسببًا في ذلك على تفصيل في المسألة.
(1)
سد الذرائع معناه: "حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور". انظر "الفروق" للقرافي (2/ 32).
(2)
انظر لهذه القواعد: "الفروق" للقرافي (4/ 212)، و"غمز عيون البصائر" للحموي (1/ 290).
• قوله: (فَمَالِكٌ
(1)
وَالشَّافِعِيُّ
(2)
يَقُولَانِ: إِنْ حَفَرَهُ بِحَيْثُ أَنْ يَكُونَ حَفْرُهُ تَعَدِّيًا ضُمِّنَ مَا تَلِفَ فِيهِ وَإلَّا لَمْ يُضَمَّنْ).
ومعهم أحمد
(3)
، إذًا فمذهب جمهور العلماء هو إن كان الحفر تعدِّيًا فإنه يضمن، أو لو حفر في ملكه ولم يقصد الإضرار؛ فإنه لا يضمن، فصاحب البستان يحفر بئرًا في مزرعته، وربما يحفر بِرْكةً في طريق الناس، ثم يتركها هكذا، فيأتي فيقع فيها آخر؛ فيكون قد تسبب في ذلك وإن لم يكن مباشرًا، فهو ما أخذ ذلك الإنسان أو ذلك الحيوان فألقاه، لكنه تعدى بحفر في طريق المسلمين.
• قوله: (وَيَجِيءُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُضَمَّنُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّائِرِ
(4)
. وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْمُبَاشَرَةِ الْعَمْدُ أَوْ لَا يُشْتَرَطُ؟).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 444). حيث قال: " (أو حفر بئرًا تعديًا) بأن حفرها في أرض غيره، أو في طريق الناس فتردى فيها شيء ضمن. وأما بملكه بغير قصد ضرر فلا ضمان عليه".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي (7/ 352). حيث قال: " (ويضمن بحفر بئر عدوان) كأن حفر في ملك غيره بلا إذن أو بشارع ضيق".
(3)
ينظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 357). حيث قال: "وينبغي أن يجعل عليها حاجزًا تعلم به لتتوقى - قال الشيخ: ومن لم يسده بئره سدًّا يمنع من الضرر ضمن ما تلف بها".
(4)
بل مذهب أبي حنيفة الضمان على العاقلة.
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (8/ 396). حيث قال: " (فإن مات أحد بسقوطها فديته على عاقلته كما لو حفر بئرًا في طريق أو وضع حجرًا فتلف به إنسان) أي إذا مات إنسان بسقوط ما ذكره من كنيف أو ميزاب أو جرصن فديته على عاقلة من أخرجه إلى الطريق؛ لأنه تسبب للهلاك متعديًا في إحداث ما تضرر به المارة بإشغال هواء الطريق به أو بإحداث ما يحول بينهم وبين الطريق".
فإن هلكت به بهيمة؛ فالضمان عنده في مال الحافر.
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(6/ 594). حيث قال: " (فإن مات أحد) من الناس (بسقوطها عليه فديته على عاقلته) أي عاقلة المخرج لتسببه (كما) تدي العاقلة ولو حفر بئرًا في طريق أو وضع حجرًا) أو ترابًا أو طينًا ملتقى (فتلف به إنسان) لأنه سبب (فإن تلف به) أي بواحد من المذكورات (بهيمة ضمن) في ماله".
ولذلك، نرى أن إنسانًا قد يُكره على أمر
(1)
، لكن المكره ليس كل شيء يفعله بإكراه، فقد يكره بأن ينطق بكلمة الكفر وهو مخير في هذه الحالة بين أن ينطق بها أو لا ينطق، شريطة أن يكون مطمئن القلب بها
(2)
، كما قال تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
لكن لو جاء شخص ليُكره آخر على أن يزني بامرأةٍ؛ فليس له أن يفعل ذلك
(3)
، ويترتب عليه جزاء، ولو جاء آخر وأكرهه على أن يشهد شهادة زور
(4)
، فليس له ذلك، وبخاصة إذا كان يترتب عليها القصاص، أما أن يكرهه على أخذ مال، أو أن يقذف إنسانًا، فهنا قال العلماء: له ذلك؛ لأنه إذا أتلف المال يعود ويضمنه، ولو قذف إنسانًا سيرجع ويبين الحق فيه
(5)
.
(1)
سيأتي فصل في أحكام الإكراه، ولكن نعجل توثيق بعض ما أثبته الشيخ.
(2)
وهذا مجمع عليه. يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 272). حيث قال: "واتفقوا على أن المكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أنه لا يلزمه شيء من الكفر عند الله تعالى، واختلفوا في إلزامه أحكام الكفر. واتفقوا أن خوف القتل إكراه".
(3)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 207). حيث قال فيما يباح بالإكراه وما لا يباح: "الثالث: الزنا، ولا يباح به بالاتفاق أيضًا؛ لأن مفسدته أفحش من الصبر على القتل وسواء كان المكره رجلًا، أو امرأة".
(4)
الإكراه على شهادة الزور، يأخذ حكم الإكراه على ما يُحكم به بهذه الشهادة.
يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 207). حيث قال فيما يباح بالإكراه وما لا يباح: "العاشر: شهادة الزور، فإن كانت تقتضي قتلًا أو قطعًا ألحقت به، أو إتلاف مال ألحقت به، أو جلدًا، فهو محل نظر، إذ يفضي إلى القتل، كذا في المطلب.
وقال الشيخ عز الدين: "لو أكره على شهادة زور، أو حكم باطل في قتل، أو قطع، أو إحلال بضع، استسلم للقتل، وإن كان يتضمن إتلاف مال، لزمه ذلك حفظًا للمهجة".
(5)
وهذا مذهب الحنفية. يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(4/ 44). حيث قال: "لو أكره القاذف على القذف لم يحد". ولا يحرم عليه عنهم. يُنظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 16). حيث قال: "وليس كذلك عندهم الإكراه على القذف، فيجوز له =
إذًا، ليس الإكراه على بابه، ولا على إطلاقه، كما أن حالات المكره أيضًا تختلف، والله سبحانه وتعالى قد جعل عذرًا للناسي، والجاهل، والمكره، لكن المسألة فيها تفصيل.
• قوله: (فَالْأَشْهَرُ أَنَّ الْأَمْوَالَ تُضَمَّنُ عَمْدًا وَخَطَأً، وَإِنْ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ جُزْئِيَّةٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ).
نعم، الأصل في الأموال أنها تضمن عمدًا وسهوًا.
مثال: لو أن إنسانًا أشعل كبريتًا بجوار مال في مكان فاشتعل، فهو ما قصد أن يحرق المال، لكنه تسبب فيه؛ فهنا يضمن.
قوله: (وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا؟).
هذا ما أشرنا إليه في المكره.
فبعض العلماء لم يفرقوا بينهم، بل يقولوا: المكره ليس له أن يفعل ذلك، وبعض العلماء يفصل؛ وهو أولى؛ لأن الإكراه أنواع، فمجرد أن يأتي إنسان فيهدد شخصا إما أن يفعل كذا وإلَّا ضربه؛ فهنا لا ينبغي أن التعدي على حق مسلم، لكن لو وضع السيف على رقبته، وغلب على ظنه أنه يريد أن ينفذ؛ حينئذٍ يفعل ما يجوز، ويترك ما لا يجوز.
مثال: قال إنسان: اقتل هذا وإلَّا قتلتك.
هنا ليس لك أن تقتله؛ لأن هذا دم مسلم، وأيضًا إن قتلك فستنال جزاء ذلك من الله سبحانه وتعالى فإنَّ المقتول يأتي يوم القيامة ورأسه بيده، فيقول:"يا رب، سل هذا فيم قتلني"
(1)
، لكن لا يمكن أن تدفع عن نفسك القتل فتقتل غيرك، ولا أن تدفع عن نفسك الأذى فتشهد شهادة زور فتذهب بها نفس مؤمن، فالمسألة هنا فيها تفصيل.
= أن يفعل من قبل أن القذف الواقع على وجه الإكراه لا يؤثر في المقذوف ولا يلحقه به شيء". وفيها خلاف، يأتي مفصلًا في بابه.
(1)
أخرجه ابن ماجه (2621)، وغيره، وصححه الألباني في "صحيح النسائي"(4881).
• قوله: (فَالْمَعْلُومُ عند الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا
(1)
، وَلذَلِكَ رَأَى عَلَى الْمُكْرَهِ
(2)
الضَّمَانَ (أَعْنِي: الْمُكْرَهُ عَلَى الْإِتْلَافِ)).
هناك أناس رُفع عنهم القلم، كما جاء في الحديث الصحيح:"رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يبلغ"
(3)
، فهؤلاء لهم أحكام تخصهم.
أيضًا هناك أحكام تُذكر فيما يتعلق بالناسي، والمكره، والجاهل.
فالجاهل لو وقع في خطإ، فإنه في بعض الأحيان يُرفع عنه الإثم، أو لا يُعذَر.
مثال: لو أن إنسانًا نسي صلاة الفجر ونام عنها، فهنا يجب عليه أن يؤديها متى ما قام من النوم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها، فإنه لا كفارة له إلا ذلك"
(4)
، أما مَن يسهر ليله، فإذا قارب الفجر نام؛ فهذا لا يُعذر بل يأثم؛ لأنه خرج عن الوقت، وكما هو معلوم أن الوقت شرط في صحة الصلاة، {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، أي: مفروضًا في الأوقات.
أما جهل الإنسان بحقوق أحد فلا يسقط عنه الحكم، ولا سيما الأمور المتعلقة بحقوق الناس.
قوله: (الرُّكْنُ الثَّانِي، وَأَمَّا مَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ فَهُوَ كُلُّ مَالٍ أُتْلِفَتْ عَيْنُهُ).
فلو أن إنسانًا غصب مالك وتعدَّى عليه بغير حق، يبقى هنا قضية
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي ومعه حاشية الشرواني (6/ 13 - 14). حيث قال: " (وإن جهل صاحبها إلخ) أي أو أكره على الاستيلاء على المغصوب فإذا تلف في يده كان طريقًا في الضمان وقرار الضمان على المكره له كما لو أكره غيره على إتلاف مال فأتلفه فإن كلا طريق في الضمان، والقرار على المكرِه بالكسر".
(2)
المكره، بالفتح خطأ، والصواب بالكسر.
(3)
أخرجه أبو داود (4400)، وغيره، وصححه الألباني "صحيح الجامع"(3512).
(4)
أخرجه مسلم (680).
مهمة جدًّا، وتتردد في أذهان كثير من الناس؛ فلو كان مماطلًا؛ فيسر الله أن ظفرت بالمال أو شيء منه، فهل لك أن تأخذه؟
هذه مسألة اختلف فيها العلماء، فبعضهم يقولون: جائز لأنه محض حق، وهذا رجل امتنع أن يؤدي حقي فلي أن آخذ ذلك الحق الذي هو محض حقي من ذلك الإنسان الذي يعتبر غاصبًا ومتعديًا ومماطلًا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"مطل الغني ظلم"
(1)
.
إذًا، استدلوا بما أجازوا ذلك بقصة هند زوجة أبي سفيان عندما شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حالها وقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وأولادي بالمعروف، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خُذِي ما يكفيك وولدك بالمعروف"
(2)
وهو لا يعلم بذلك، وهذا حق لها، أما لو كانت المرأة تزيد عن حقها في المصروف وعن حق أولادها فلا يجوز، لكنها قالت: رجل شحيح، إذًا هو يقصر عليهم في النفقة، ولا يعطيهم ما يكفيهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تأخذ ما يكفيها وولدها لا أن تزيد على ذلك.
وهكذا، لو قُدر أن إنسانًا وقف على حقه فله أن يأخذه عند هؤلاء.
وبعضهم يقول: لا يجوز؛ لأنه لو علم لَمَا أذن؛ فلا يجوز.
فالمسألة فيها خلاف، وهي من المسائل التي لو تعذر الإنسان أن يصل إلى حقه فوقع في يده فأخذه، فنرجو من الله ألا يكون عليه إثم في ذلك؛ لأنه ما أخذ مما يستحق.
• قوله: (وَأَمَّا مَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ فَهُوَ كُلُّ مَالٍ أُتْلِفَتْ عَيْنُهُ أَوْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ عَيْنُهُ).
يعني أخذ ثيابًا فأحرقها، أو أخذ بضاعةً فأغرقها، إذًا أخذ هذا المال فأتلفه فهنا يضمن، وربما لم يتلفها لكنها تلفت عنده، كمَن دخل
(1)
أخرجه البخاري (2287)، ومسلم (1564).
(2)
أخرجه البخاري (2211)، ومسلم (1714).
مكانًا فيه دواب فغصب شيئًا منها، ثم أبقاها عنده ثم تلفت، فإن أتلفها ضمن، وكذلك أيضًا إن تلفت عنده؛ ضمن؛ لأنه متعدٍّ.
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في العارية: "العارية مؤداة"
(1)
، أي: تجب عليه، وكذلك في قصة المرأة المخزومية التي كانت تستعير، وكانت تبقي تلك الحلي عندها لا تردها، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، وحاول أن يشفِّع فيها البعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"
(2)
؛ لأن الغصب نوع من السرقة، والسارق غاصب، والله تعالى يقول:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} .
فالسارق هو من يأخذ المال خفية، إذًا هو يعاقَب، ويُطبق في حقه ما يستحق، هذا أيضًا نوع من الغصب؛ ولذلك يذكر العلماء هذه الآية دليلًا من أدلة الغصب.
قوله: (بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ سُلِّطَتِ الْيَدُ عَلَيْهِ وَتُمُلِّكَ).
نفترض أنه أخذ عروض تجارة، فأمطرت السماء فتأثرت، هذه ربما تتلف كُلِّيًّا، وربما تنقص قيمتها، ورُبما أخذ شيئًا فغرق، جاءت السيول فجرفت هذه الأموال التي سرقها واغتصبها؛ فحينئذ تلفت بسببه، فالأمر لا يخلو من أمرين:
إما أن يكون بسبب من السماء، أيْ: بإرادة الله سبحانه وتعالى.
وإما أن يكون بسبب الإنسان، بسببه، كحرق هذه البضاعة.
ولذلك، لمَّا مر معنا في (كتاب الثمار)، إذا باع إنسان من أخيه ثمرة فأصابتها جائحة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد البائع إلى أن يواضع من اشترى منه، وأن يرفق بحاله، وقال:"بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ "
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند (15302) وحسنه الأرناؤوط.
(2)
أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688).
(3)
أخرجه مسلم (1554) ولفظه: عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بعت من =
قوله: (وَذَلِكَ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ بِاتِّفَاقٍ)
(1)
.
فالمملوكات مرت بنا، وكما جاء في الحديث المتفق عليه:"من ابتاع شيئًا فلا يبعه حتى يستوفيه"
(2)
.
وفي بعض الروايات خارج "الصحيحين": "حتى يقبضه"
(3)
.
إذًا، فالمغصوب لا يخلو من كونه: إما أن يكون منقولًا، أو غير منقول.
فالمكيل، والموزون، وعروض التجارة، والحبوب بأنواعها من الثمار وغير ذلك فكل هذه تنقل، وتؤخذ من مكان إلى مكان، لكن هناك أمور لا تنقل؛ ولذلك فقد مرَّ معنا أنه يتم تسلمها برفع يد البائع عنها ووضع يد المشتري عليها، أيْ يتخلى عنها البائع ثم يتركها؛ إذًا فغير المنقول هي الأراضي، سواءً كانت دورًا مبنية أو أراضي بساتين، وربما تكون فيها مَبانٍ، أو بئر مملوكة؛ فيأتي إنسان فيستولي عليها، إلى غير ذلك.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ مِثْل الْعَقَارِ).
إذا قيل: (العقار)، فيقصد به مطلق العقار، فيشمل الأرض البيضاء، الحيطان التي هي المزارع، والبساتين، كذلك الدور والحوانيت.
• قوله: (قَالَ الْجُمْهُورُ
(4)
: إِنَّهَا تُضَمَّنُ بِالْغَصْبِ - أَعْنِي أَنَّهَا إِنِ
= أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق".
(1)
فالخلاف إنما هو في العقار، كما سيأتي، ويبين منه أن المنقول بخلافه.
(2)
أخرجه البخاري (2124) ومسلم (1527).
(3)
أخرجها البخاري (2136) ومسلم (1526).
(4)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 443). حيث قال: " (وضمن) الغاصب المميز (بالاستيلاء) على المغصوب عقارًا، أو غيره ولو تلف بسماوي، أو جناية غيره عليه".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"المنهاج" للنووي، (ص 146).
حيث قال: "ولو سكن بيتًا =
انْهَدَمَتِ الدَّارُ ضُمِّنَ قِيمَتهَا -، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُضَمَّنُ
(1)
).
بمعنى: إنسان استولى على دار، فتهدمت، فحينئذ يضمنها، على رأي الجمهور؛ لأنه غصبها ومنع صاحبها من الاستفادة بها، أما ما حصل فيها من عيب أو خلل فإنه يضمنه كذلك.
سبب الخلاف:
كون يد الغاصب على العقار مثل كون يده على ما ينقل ويحول؛ لأن أبا حنيفة يرى أن الدار مستقرة، بمعنى أن الدار لو تسبب في هدمها يضمن لا شك.
لكن كلام أبي حنيفة بمرور الوقت بها وانهدامها، ففي الحالة لا يضمن، أما الجمهور يقولون: حبس مصالحها ومنع صاحبها من الاستفادة بها، فمضت مدة فأدت إلى أن تهدمت، ولو كان صاحبها فيها فإنه حينئذٍ سيقوم برعايتها والعناية بها ومتابعتها، وأي شيء يتركه الإنسان قد ينتهي إذا هجره إلى أن يذهب.
وهناك فرق بين بيت يكون فيه صاحبه ويتابعه، فيظل مدة طويلة، لأنه يعالج أي خلل إذا حصل في الأثاثات ونحو ذلك، لكن لو أهمل ذلك المكان قد ينتهي به الأمر إلى أن يتهدم.
فهذا إنسان جاء فتعدى، فمنع صاحب الحق من الاستفادة به، ومن التصرف به؛ فأدى ذلك إلى أن تهدم ذلك البيت، أو الدكان أو الحائط؛ فالجمهور يقولون: هو متعد فعليه أن يضمن، كما مرَّ معنا.
= ومنع المالك منه دون باقي الدار فغاصب للبيت فقط ولو دخل بقصد الاستيلاء وليس المالك فيها فغاصب
…
وعلى الغاصب الرد فإن تلف عنده ضمنه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (2/ 338). حيث قال: "وتضمن أم ولد وقن وعقار بغصب إذا تلف بغرق ونحوه".
(1)
يُنظر: "الاختيار" لابن مودود الموصلي (3/ 60). حيث قال: " (ويضمن ما نقص العقار بفعله، ولا يضمنه لو هلك). وقال محمد: يضمن العقار بالغصب. وصورته: أن من سكن دار غيره، أو زرع أرض غيره بغير إذنه، ثم خربت الدار أو غرق العقار".
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: (وَهو الواجب في الغصب).
والواجب في الغصب: يعني إنسان غصب شيئًا، فترتب عليه التلف، وربما لا يتلف؛ فالواجب عليه أن يرده إلى صاحبه إن كانت العين باقية.
مثال: إنسان غصب ثوبًا، أو سيارةً، أو سلعةً من السلع، وبقيت على حالتها التي كانت عليها، فهي عينها باقية، فما الذي يجب عليه؟ أن يردها إلى صاحبها دون تردد؛ عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"على اليد ما أخذت حتى تؤديها"
(1)
، فهذه اليد التي تطاولت وامتدت إلى حق الغير، وبقي عندها محفوظة؛ فإنها ترده إلى صاحبه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"على اليد ما أخذت حتى تؤديها"، فما دام قد غصب هذا الحق فإنه يرده إلى صاحبه.
• قوله: (وَالْوَاجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ إِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ لَمْ تَدْخُلْهُ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ أَنْ يَرُدَّهُ بِعَيْنِهِ).
يعني يطلق المال، ويدخل فيه العملات المعروفة (الدراهم، والريالات، والدنانير، والدولارات)، وغير ذلك، ويدخل في ذلك أيضًا عروض التجارة؛ لأنها تدخل في المال.
إذًا إن كانت العين باقية بحالها، فتُرَد، بخلاف ما لو طرأ نقص أو زيادة، فهذه مسألة سيتكلم عنها المؤلف.
• قوله: (وَهَذَا لَا اختلَافَ فِيهِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ عَيْنُهُ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَنَّ عَلَى الْغَاصِب الْمِثْلَ).
إذًا، إذا جاء صاحب الحق، وأُرِيدَ رد الحق إليه سواء كان ذلك حكم حاكم، أو سلطة أقوى منه، أو رجع هو إلى ضميره وحاسب نفسه، وأحس بعظم الذنب، وأن الغصب كبيرة من الكبائر" وأراد أن يتخلص من ذلك الذنب، فإنه في هذه الحالة يرد العين إلى صاحبها إن كانت على ما كانت عليه، فإن تغيرت العين فهي لا تخلو: إما أن تكون مَكيلًا وموزونًا،
(1)
أخرجه أحمد في "المسند"(20098) وقال الأرناؤوط: "حسن لغيره".
وإما غير ذلك؛ لأن هذه العين قد تكون مما يكال ويوزن، كالحبوب والثمار، وربما يكون من السائل مما يشرب كالعسل والدُّهن، فهذا قد يُوزن أو يُكال.
إذًا إن كان مما يُكال ويُوزن فله حُكم، وإن كان مما لا يُكال ولا يوزن فلا يخلو مما لو كان متماثلًا، أو متماثلًا في الصِّفة لكنه يخالفه في بعض أجناسه، أو مثله في الجنس وخالفه في بعض الصفات.
• قوله: (أَعْنِي: مِثْلَ مَا اسْتَهْلَكَ صِفَةً وَوَزْنًا).
لكن قد يختلف في بعض الأجناس ونحو ذلك، فإن كانت يسيرة فذلك يغتفر.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْعُرُوضِ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْضَى فِي الْعُرُوضِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ إِلَّا بِالْقِيمَةِ يَوْمَ اسْتُهْلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَدَاوُدُ: الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ المِثْل وَلَا تَلْزَمُ الْقِيمَةُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ).
قد يسأل سائل ويقول: العلماء اتفقوا إن وُجدت العين المغصوبة، يعني وجدت بعينها؛ تُرَد دون تغيير أو تبديل؛ لأن فيها نصًّا:"على اليد ما أخذت حتى تؤديه ولم تتغير ولم تتبدل"
(1)
، لكن إن كانت هذه العين مكيلًا أو موزونًا، فاتفقوا على أنَّ فيها المثل؛ لأن الكيل والوزن يضبطها، وعرفتم قيمة الكيل والوزن، يعني الكيل يضبط الوزن وكذلك مثله الميزان.
لكن إن كانت مما يكال ولا يوزن، فلا تخلو من أن تكون دراهم، أو دنانير، أو ريالات إلى غيرها، فهذه أيضًا فيها المثل، يعني يرد مثلها؛ لأن هذه تنضبط.
(1)
"ولو لم تتغير ولم تتبدل" ليست من الحديث.
وإن كانت غير هذه ففيها خلاف بين العلماء، وسبب الخلاف هنا هو أنه جاءت في ذلك أحاديث، فبعضهم أخذ بهذا وبعضهم أخذ بهذا، ولهذا نرى بأن الخلاف يقع بين العلماء عندما تأتي أدلة قد تختلف في مدلولاتها أو ربما يختلف العلماء في مفهومها، أو ربما يرى بعضهم أن هذه أقوى من جانب وهذه من جانب آخر، وربما يكون لصاحب هذا القول دليل آخر يقوي ما ذهب إليه أو يقوي به هذا الدليل، وهذا الدليل قد يكون من السنة، وربما يكون أيضًا من القياس.
• قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَشْهُورُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا
(1)
لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي قِيمَةَ الْعَدْلِ"
(2)
، الْحَدِيثَ).
معنى هذا الحديث:
أولًا: فيه حضٌّ على إعتاق الرقاب، - وكما هو معلوم - أن وضع اليد والملك إنما هو بسبب الكفر، وإذا استولى المسلمون وأسروا أسيرًا كافرًا؛ فإنه يبقى بعد ذلك مملوكًا، وحتى وإن أسلم، لكن هذه الشريعة الإسلامية الغراء التي ما طرق العالم مثلها أرادت أن تقرب بين نفوس المؤمنين، وتنشر المحبة والمودة والألفة بينهم.
والأدلة كثيرة جدًّا في الحض على العتق، مثل:
"من أعتق شقصًا".
وفي بعض الروايات: "من أعتق شركًا له في عبد قوم عليه بنصيب شريكه".
فالقصد، أنه إذا وُجِد عبدٌ مملوكٌ بين اثنين، فأراد أحدهما أن يعتق نصيبه، فما الحكم في هذه الحالة؟
(1)
قال الهروي: "قال شمر: الشقص والشقيص النصيب والشرك. انظر: "الغريبين في القرآن والحديث "لأبي عبيد الهروي (3/ 1020).
(2)
أخرجه البخاري (2491)، ومسلم (1501).
هذا فيه غاية الدلالة على حض الإسلام وترغيبه في العتق، فإذا وُجد مملوك بين اثنين، فأراد أحدهما أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بذلك العمل، - وكما هو معروف - فهو مِن أجَلِّ القُرَب التي يتقرب المؤمن إلى الله تعالى، أن يعتق رقبة عبد مؤمن، فإن هذا مما حضت عليه الشَّريعة الإسلامية، وترون أن في الكفارات إعتاق رقبة، فإنه إذا أعتق نصيبه يسري إلى نصيب غيره.
فإن كان عند المُعتَق مالًا فإنه يدفع لشريكه نصيبه ويعتقه، فإذا لم يكن عنده ما يكفي لنصيب شريكه؛ حينئذٍ يعطى المملوك الفرصة بأن يستسعى ذلك الاستسعاء
(1)
، بأن يشري نفسه على أقساط، وهذا ترغيب آخر في ذلك، وما أفضل أن يكون الشريك الآخر يندفع فيعتق ذلك القسط.
• قوله: (وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْهُ الْمِثْلَ وَأَلْزَمَهُ الْقِيمَةَ).
هو أعتق نصيبة وبقي نصيب الآخر، فما طلب عنه بأن يأتي برقبة أخرى أو مماثلة، ولكن أن يدفع لشريكه القيمة حتى يصبح هذا المملوك حُرًّا حريةً مُطْلقة، هذا هو المراد.
• قوله: (وَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ).
أبو حنيفة، والشافعي، ومن معهم.
• قوله: (قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]؛ وَلأَنَّ مَنْفَعَةَ الشَّيءِ قَدْ تكُونُ هِيَ الْمَقْصُودَةَ عِنْدَ الْمُتَعَدَّى عَلَيْهِ).
إذا رأيتم الفريق الأوَّل استدل بقصة المملوك، وأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بدفع القيمة، وفي الحديث الآخر:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} .
(1)
و"الاستسعاء": مأخوذ من السعي وهو العمل كأنه يؤاجر أو يخارج على ضريبة معلومة ويصرف ذلك في قيمته. انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" لأبي منصور الهروي (ص 281).
• قوله: (وَمِنَ الْحُجَّةِ لَهُمْ مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ)
(1)
.
والبخاري
(2)
.
• قوله: (مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ جَارِيَةً بِقَصْعَة لَهَا فِيهَا طَعَامٌ، قَالَ: فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ).
وفي رواية البخاري: "فضربت يد الخادم فسقطت الصحفة؛ فانفلقت"
(3)
، يعني انكسرت، وجاء في بعض الروايات تسميتها بعائشة رضي الله عنها، ومن التي أرسلت الطعام، هل هي زينب بنت جحش، أو هي حفصة؟ هذا فيه خلاف للعلماء.
• قوله: (فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَسْرَتَيْنِ فَضَمَّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى وَجَعَلَ فِيهَا جَمِيعَ الطَّعَامِ وَهو يَقُولُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ كُلُوا كُلُوا، حَتَّى جَاءَتْ قَصْعَتُهَا الَّتِي فِي بَيْتِهَا، وَحَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا).
المراد بالقصعة هي الصحفة، كما جاءت ذكرها في "صحيح البخاري".
• قوله: (فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الرَّسُولِ، وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِهِ". وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "أَنَّ عَائِشَةَ كانَتْ هِيَ الَّتِي غَارَتْ وَكَسَرَتِ الْإِنَاءَ، وَأَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا كفَّارَةُ مَا صَنَعْتُ؟ قَالَ: "إِنَاءٌ مِثْلُ إِنَاءٍ، وَطَعَامٌ مِثْلُ طَعَامٍ"").
(1)
أخرجه أبو داود (3569)، وغيره. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(3567).
(2)
البخاري (2481).
(3)
أخرجه البخاري (5225).
وهذه الرواية الثانية عند أحمد
(1)
، وأبي داود
(2)
، وبعض أصحاب السنن
(3)
، وغيرهم، وهي رواية صحيحة
(4)
.
* * *
[البَابُ الثَّانِي: الطَّوَارِئِ على الْمَغْصُوبِ بالزِيَادَةِ أو النقْصَان]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الثَّانِي: فِي الطَّوَارِئِ)
بعد أن عرفنا حكم الغصب وأنه حرام وعرفنا دليل تحريمه من الكتاب والسنة والإجماع ورأينا ما يتعلق من ذلك بمسائل.
فهذا المغصوب قد تطرأ عليه أشياء: إما بزيادة وإما بنقص؛ أي: يتأثر بها نقصًا، فما الحكم في ذلك؟ هل يرد المغصوب بحاله أو أنه يرد مع الزيادة والنقص أيضًا، بمعنى: أنَّه يضمنه الغاصب؟
هذا هو الذي سيتحدث عنه المؤلف، وهو بلا شكٍّ فيه خلاف بين العلماء، لكنَّ المؤلف لم يستوعب آراء العلماء؛ كعادته وربما لاحظنا أنه كلما تقدم في الكتاب قلَّ نقلُه عن المذاهب تفصيلًا كما كان يفعل في بداية الكتاب وفي وسطه.
(1)
أخرجه أحمد (25155).
(2)
أخرجه أبو داود (3568) وغيره، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(3568).
(3)
كالنسائي (3957).
(4)
صححها الألباني في "صحيح الجامع"(1449).
• قوله: (وَالطَّوَارِئُ عَلَى الْمَغْصُوبِ إِمَّا بِزِيَادَةٍ وإمَّا بِنُقْصَانٍ، وَهَذَان إِمَّا مِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِ، وإمَّا مِنْ قِبَلِ الْخَالِقِ).
هذه الزيادة أو النقص قد تكون من الخالق سبحانه وتعالى، كأن ينزل مطرًا فتتبلل الحنطة أو غيرها، فهذا من السماء ولا علاقة للغاصب به، وهناك أمور أخرى قد يتسبب بها الإنسان الغاصب، فربما يتصرف بالسلعة فيتلفها أو يلحقُها ضرر.
• قوله: (فَأَمَّا النُّقْصَانُ الَّذِي يَكُونُ بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا، أو يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ).
كسبب لا إرادة للغاصب فيه، لكن لا ننسى أن الغاصب متعدٍ، ولذلك اختلف العلماء في هذا الحكم، فحين لا يكون للغاصب سبب مباشر في هذا الأمر، بأن كان السبب خارجًا عن إرادته، لكنه غاصب والغاصب متعدٍّ؛ لذلك وقع اختلاف العلماء في حكمه، وإذا كان الأمر من السماء هل يضمنه أو لا يضمنه؟
(1)
.
• قوله: (وَقِيلَ إِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَه وَيُضَمَّنُ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْعَيْبِ).
إذن هناك من يقول: لا يضمنه وهو المعروف في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وهو القول الذي حكاه المؤلف أيضًا عن بعض المالكية،
(1)
قالت الحنفية: "شرط وجوب الضمان، فشرط وجوب ضمان المثل والقيمة على الغاصب
…
أو بآفة سماوية بأن هلك بنفسه". يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 151).
وقالت المالكية: "والمقوم كالحيوان والرقيق والعروض تتلف بآفة سماوية تضمن بقيمتها يوم الغصب". يُنظر: "جامع الأمهات" لابن الحاجب (ص 410).
وقالت الشافعية: "لا يضمن إلا أرش النقصان". يُنظر: "الشرح الكبير" للرافعي (11/ 256).
وقالت الحنابلة: "وإن نقصت لمرض ثم عادت ببرئه أو ابيضت عينه ثم زال بياضها ونحوه رده ولم يلزمه شيء". يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 345).
لكن لم يُشرْ إلى الأقوال الأخرى
(1)
.
• قوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ النَّقْصُ بِجِنَايَةِ الْغَاصِبِ، فَالْمَغْصُوبُ مُخَيَّرٌ فِي الْمَذْهَبِ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْغَصْبِ أَوْ يَأْخُذَهُ).
المؤلف رحمه الله خرج هنا عن قاعدته المعروفة، فقد كان يجمل الآراء ولا يدخل في التفصيلات في المذهب، لكنه بدأ منذ مدة بالتوغَّل والتفصيل في مذهب الإمام مالك، ويُغفل كثيرًا المذاهب الأخرى، فلم يُشر في هذه المسألة إلى مذاهب الأئمة (أبي حنيفة والشافعي وأحمد)، والشافعيُّ وأحمد يلتقيان في هذه المسألة، وأبو حنيفة يُوافقهم في جانب ويخالفهم في جانب آخر.
وهذا النقص الذي حصل لا يخلو عند الشافعية والحنابلة فإما أن يكون عيبًا مستقرًّا، أي: النقص نقصًا مستقرًّا ثابتًا لا يزيدُ، وإما أن يكون غير مستقرٍّ.
فإن كان مستقرًّا، كثوب تخرق، أو إناء تكسر، أو طعام تسوس، فهذا عند الإمامين الشافعي
(2)
، وأحمد
(3)
يجب فيه قيمة النقص، وهو ما يعرف عند الفقهاء بأرش النقص.
(1)
قالت الحنفية: "ومن غصب شيئًا مما له مثل فهلك في يده فعليه ضمان مثله، وإن كان مما لا مثل له فعليه قيمته يوم الغصب". يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 129).
وقالت المالكية: "يجب رد عين المغصوب فإن فات ضمن المثلي بالمثل، والمقوم بقيمته يوم الغصب، وفي نقصه يخير ربه". يُنظر: "إرشاد السالك إلى أشرف المسالك" ابن عسكر (ص 102).
وقالت الشافعية: "أبعاضه التي لا يتقدر أرشها من الحر
…
تضمن لكن بعد الاندمال لا قبله بما نقص من قيمته إجماعًا، فإن لم تنقص لم يلزمه شيء". يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 16 - 17).
وقالت الحنابلة: "وإن نقصت لمرض ثم عادت ببرئه أو ابيضت عينه ثم زال بياضها ونحوه رده ولم يلزمه شيء". يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 345).
(2)
قالت الشافعية: "وإن صبغ الغاصب الثوب بصبغة وأمكن فصله كلَّفه
…
وظاهر أن المالك إذا رضي بالبقاء في المسألتين لا يكلف الغاصب ذلك بل يجوز له، وإلا أي وإن لم يمكن فصله فإن نقصت قيمته لزمه أرش للنقص لحصوله بفعله". يُنظر:"فتح الوهاب" لزكريا (1/ 279).
(3)
قالت الحنابلة: "ويرجع غاصب غرم الجميع لمالك على جانٍ بأرش جناية فقط؛ =
وأرشُ النقص: هو أن تُقوَّم هذه السلعة صحيحةً، وتقدر قيمتها معيبة فيُقدَّر الفرق بين الصحيح والمعيب، فإن تبيَّن دفع حينئذٍ للمالك فترد إليه السلعة (العين التي غصبها الغاصب) ومعها أيضًا أرش النقص
(1)
.
ووجهة الإمامين الشافعي
(2)
وأحمد
(3)
: أن العين لم تتعيب تعيُّبًا كاملًا، وإنما العيب في قدرٍ منها فهي باقية، فيكون مقابل ذلك هو أرش النقص فيُعطَى صاحبها هذا هو قول الإمامين.
= لاستقرار ضمانه عليه؛ لأنه أرش جنايته، فلا يجب عليه أكثر منه، وللمالك تضمين الجاني أرش الجناية، ولا يرجع به على أحد؛ لأنه لم يضمنه أكثر مما وجب عليه، ويضمن الغاصب ما بقي من النقص، ولا يرجع به على أحد". يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 91).
(1)
الأرش: الدية، والخدش، وما يدفع بين السلامة والعيب في السلعة. يُنظر:"القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص 584).
وقال ابن عابدين في "حاشية الدر المختار"(رد المحتار)(6/ 187): "واختلفوا في تفسير النقصان: قال نصير بن يحيى: إنه ينظر بكم تستأجر هذه الأرض قبل الاستعمال وبعده، فيضمن ما تفاوت بينهما من النقصان، وقال محمد بن سلمة: يعتبر ذلك بالشراء يعني: أنه ينظر بكم تباع قبل الاستعمال وبكم تباع بعده فنقصانها ما تفاوت من ذلك فيضمنه وهو الأقيس. قال الحلواني: وهو الأقرب إلى الصواب وبه يفتى كما في الكبرى؛ لأن العبرة لقيمة العين لا المنفعة ثم يأخذ الغاصب رأس ماله وهو البذر وما غرم من النقصان، وما أنفق على الزرع ويتصدق بالفضل عند الإمام ومحمد".
(2)
قال الشافعي في "الأم"(3/ 254): "ولو غصبه جديدًا قيمته عشرة ثم ردَّه جديدًا قيمته خمسة لرخص الثياب لم يضمن شيئًا من قِبَل أنه رده كما أخذه فإن شبه على أحد بأن يقول قد ضمن قيمته يوم اغتصبه فالقيمة لا تكون مضمونة أبدًا إلا لفائت، والثوب إذا كان موجودًا بحاله غير فائت وإنما تصير عليه القيمة بالفوت".
(3)
قال الرحيباني في "مطالب أولي النهى"(4/ 28): "ويأخذها مالكها ويأخذ أرش نقصها؛ لأنه لا يجب المثل ابتداءً؛ لوجود عين ماله؛ ولا أرش العيب؛ لأنه لا يمكن معرفته ولا ضبطه إذن، وحيث كان كذلك صارت الخيرة إلى المالك؛ لأنه إذا رضي بالتأخير سقط حقه من التعجيل، فيأخذ العين عند استقرار فسادها؛ لأنها ملكه ويأخذ من الغاصب أرش نقصها".
وأما الإمام أبي حنيفة رحمه الله: فقد فصل القول في ذلك، فقال: هذا النقص لا يخلو:
- من أن يكون يسيرًا أو غير يسير؛ فإن كان يسيرًا كخرق قليل في ثوب، فإنه في هذه الحالة يدفع الأرش مع رد الثوب
(1)
، فهو يلتقي مع الشافعية والحنابلة في هذا الجانب، أما إذا كان كثيرًا فإنَّه بذلك يخالفهم ويرى أن المالك الذي غصب حقه بين أمرين
(2)
:
إما أن يأخذ المعيب مع الأرش، فيكون كمذهب الشافعية والحنابلة.
أو أنه يأخذ القيمة، وهذا قريب من مذهب المالكية.
أما الشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
فإذا لم يكن العيب مستقرًا، أي: غير
(1)
قال الحصكفي في "الدر المختار"(6/ 194): "وفي خرق يسير نقصه؛ ولم يفوت شيئًا من النفع ضمنه النقصان مع أخذ عينه ليس غير؛ لقيام العين من كل وجه، ما لم يجدد فيه صنعة أو يكون ربويًّا".
(2)
قال النسفي في "كنز الدقائق"(ص 578): "خرق ثوبًا فاحشًا ضمن القيمة وسلم المغصوب إليه أو ضمن النقصان".
وقال العيني في "البناية شرح الهداية"(11/ 219): "وإن خرق خرقًا كثيرًا تبطل عامة منافعه فلمالكه أن يضمنه جميع قيمته؛ لأنه استهلاك من هذا الوجه فكأنه أحرقه. قال: معناه يترك الثوب عليه وإن شاء أخذ الثوب وضمنه النقصان".
(3)
قالت الشافعية: "يرد الطعام المبلول وما نقص من قيمته في الحال، وفيما بعد؛ لأنه وجد عين ماله، فرجع إليه، كالشاة إذا ذبحت، فأما إذا عفن الطعام في يد الغاصب لطول المكث. فقال الشيخ أبو حامد: "هو كالطعام الذي بله على ما مضى".
وقال القاضي أبو الطيب: "يجب على الغاصب رد الطعام الذي غصبه وإن كان عفنًا وأرش ما نقص، قولًا واحدًا، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن العفن ليس من فعله، فلا يضمن ما تولد منه، بخلاف البلل، فإن قيل: فالعفن مضمون عليه لوجوده في يده، كالبلل الذي حصل بفعله، فكان ما تولد منهما سواء في الضمان. ألا ترى أنه لو ابتُلَّ بماء المطر، أو بله غيره. كان كما لو بله بنفسه؟
فالجواب على هذا: أن يقال: النقص الذي حصل بالبلل إذا زاد وكثر. فإنما حصل متولدًا منه، فأما العفن: فإنما يزيد ببقائه، أو بمكثه في يده، كما أن الأول حصل بذلك، لا أن بعضه يولد بعضًا، فافترقا". يُنظر:"البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (7/ 24 - 25).
(4)
قالت الحنابلة: وإن نقص المغصوب - قبل رده - نقصًا غير مستقر بأن يكون ساريًا =
ثابت مثل: طعام ابتُلَّ بالمطر، أو تطرَّقَ إليه شيء من الفساد أو العفن، فهذا - كما هو معلوم - لا يستقرُّ على حالة؛ لأن العفن يزداد، والفساد ربما يزداد، فهذا يختلف فيه المذهبان.
• قوله: (مَا نَقَصَتْهُ الجِنَايَةُ يَوْمَ الجِنَايَةِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ
(1)
، وَعِنْدَ سَحْنُونِ مَا نَقَصَتْهُ الْجِنَايَةُ يَوْمَ الْغَصْبِ
(2)
. وَذَهَبَ أَشْهَبُ
(3)
).
أشهب من المالكية.
• قوله: (إِلَى أَنَّهُ مُخَيَّر بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ أو يَأْخُذَهُ نَاقِصًا).
هذه أقوال ثلاثة ذكرها للمالكية، وقد بيَّنا رأي المذاهب الأخرى في هذه المسألة.
قوله: (وَلَا شَيءَ لَهُ فِي الْجِنَايَةِ، كَالَّذِي يُصَابُ بِأَمْرٍ مِنَ
= غير واقف؛ كحنطة ابتلت وعفنت وطلبها مالكها قبل بلوغها إلى حالة يعلم فيها قدر أرش نقصها، خير مالكها بين أخذ مثلها من مال غاصب، وبين تركها بيد غاصب حتى يستقر فسادها فيأخذها ويأخذ أرش نقصها؛ لأنه لا يجب له المثل ابتداءً لوجود عين ماله، ولا أرش العيب؛ لأنه لا يمكن معرفته ولا ضبطه". يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 92).
(1)
قال ابن أبي زيد في، "النوادر والزيادات" (10/ 333):"قال ابن القاسم فيه وفي المجموعة وغيرها: أن لربها أن يأخذها ويأخذ ما نقصها يريد: يوم الجناية".
(2)
قال ابن أبي زيد في "النوادر والزيادات"(10/ 353): "قال سحنون: كنت أقول بقول أشهب هذا ثم تبيَّن لي أن قول ابن القاسم أشبه بالأصل؛ لأن جنايته لا تعدو أن تكون نقصًا فيه وكل نقص حدث فيه فليس لسيده أن يأخذ العبد ويرجع بما نقص، وإنما له أخذ قيمته من الغاصب يوم الغصب أو أخذ عبده ناقصًا ثم يسلمه إن شاء أو يفديه، وقال ابن المواز مثل قول سحنون. واحتج بنحو حجته".
(3)
قال ابن رشد الجد في "البيان والتحصيل"(7/ 386): "وقد قيل: إن ذلك كله فوت، وهو الذي يأتي على قول أشهب وأصبغ في سماعه، من كتاب الغصب في مسألة الغصب، إذ جعل المغصوب منه مخيرًا بين أن يأخذ متاعه، أو يضمنه قيمته في البلد الذي غصبه فيه، والغصب لا يفيته حوالة الأسواق".
السَّمَاءِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمَوَّازِ
(1)
).
من المالكية أيضا.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ يَوْمَ الْغَصْبِ جَعَلَ مَا حَدَثَ فِيهِ مِنْ نَمَاءٍ أو نُقْصَانِ، كَأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلْكٍ صَحِيحٍ).
الذين جعلوا المغصوب مضمونًا على الغاصب بالقيمة وقت الغصب أو ثمن الغصب هم المالكية؛ كأنه حدث في ملك صحيح؛ لأنهم وضعوا مقياسًا دقيقًا، حيث جعلوا المقياس في ذلك أن يُقدَّر الغصب بقيمته يوم الغصب؛ أي: تُؤخذ قيمتُه يوم الغصب، فكأنه إذن أصبح في ملك صحيح؛ لأن المغصوب، أي: الملك الذي غصب حقه قد ضمن له أن يعود له الحق.
قوله: (فَأَوْجَبَ لَهُ الْغَلَّةَ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ فِي النُّقْصَانِ شَيْئًا سَوَاءٌ أكَانَ مِنْ سَبَبِهِ أو مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
(2)
. وَبِالْجُمْلَةِ
(1)
قال ابن أبي زيد في "النوادر والزيادات"(10/ 334): "قال ابن المواز: واحتج ابن القاسم في الفرق بين جناية الأجنبي والغاصب: أن يقول ربها للغاصب: أنا أسقط عنك حكم الغصب وآخذك بالتعدي، فيلزمه أن يقول ذلك في القتل إذا قتلها الغاصب: أن لربها أن يضمنه قيمتها يوم القتل وهو لا يقوله ولا مالك ولا أصحابه، ولو قتلها أجنبي فإنما عليه قيمتها يوم القتل وقيمتها من الغاصب فإذا أخذها وأخذ ما نقصها فكأنه إنما أخذ ببعض القيمة عرضًا وليس له أن يأخذ في القيمة عرضًا وإنما طلبه لما نقص طلب لتمام القيمة يوم الغصب، وكذلك لو أصابها أمر من السماء، أو جنى عليها أجنبي فلم يقدر عليه لم يلزم الغاصب ما نقصها، وإنما لربها أخذها منه ناقصة أو قيمتها يوم الغصب، ولو أخذها ناقصة فله طلب الجاني بما نقصها".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 303) قال: "إذا انتقص في يده فإن كان النقصان بآفة سماوية فإنه لا يمنع الاسترداد، وللبائع أن يأخذه مع أرش النقصان؛ لأن المبيع بيعًا فاسدًا يضمن بالقبض كالمغصوب والقبض ورد عليه بجميع أجزائه فصار مضمونًا بجميع أجزائه، والأوصاف تضمن بالقبض وإن كانت لا تضمن بالعقد =
فَقِيَاسُ قَوْلِ مَنْ يُضمِّنُهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ فَقَطْ، وَمَنْ جَعَلَ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونًا عَلَى الغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ فِي كُلِّ أَوَانٍ كَانَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ آخِذَةً بِأَرْفَعِ الْقِيَمِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ رَدَّ الْغَلَّةِ وَضَمَانَ النُّقْصَانِ، سَوَاءٌ أكَانَ مِنْ فِعْلِهِ أو مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أو قِيَاسُ قَوْلِهِ
(1)
. وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْجِنَايَةِ الَّتِي تَكُونُ مِنَ الْغَاصِبِ، وَبَيْنَ الْجِنَايَةِ الَّتِي تَكُونُ بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ - وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ
(2)
.
= كما في قبض المغصوب، وكذلك إذا كان النقصان بفعل المبيع؛ لأن هذا والنقصان بآفة سماوية سواء، وإن كان النقصان بفعل المشتري فكذلك؛ لأنه لو انتقص بغير صنعه؛ كان مضمونًا عليه فبصنعه أولى".
(1)
يُنظر: "فتح الوهاب" لزكريا (1/ 275) قال: "يضمن مغصوب متقوم تلف بإتلاف أو بدونه، حيوانًا كان أو غيره، ولو مكاتبًا ومستولدة بأقصى قيمه من حين غُصِب إلى حين تلف، وإن زاد على دية الحرِّ؛ لتوجَّه الرد عليه حال الزيادة، فيضمن الزائد، والعبرة في ذلك بنقد مكان التلف إن لم ينقله، وإلا فيتجه كما في الكفاية اعتبار نقد أكثر الأمكنة الآتي بيانها، ويضمن أبعاضه بما نقص منه؛ أي: من الأقصى، إلا إن تلفت بأن أتلفها الغاصب أو غيره من رقيق، ولها أرش مقدر من حرٍّ؛ كيد ورجل فضمن بأكثر الأمرين مما نقص، والمقدر ففي يده أكثر الأمرين مما نقص، ونصف قيمته؛ لاجتماع الشبهين، فلو نقص بقطعها ثلثا قيمته لزماه النصف بالقطع والسدس بالغصب، نعم إن قطعها المالك ضمن الغاصب الزائد على النصف فقط، وتعبيري بأقصى قيمه في الحيوان، وبأكثر الأمرين في الرقيق أولى من تعبيره في الأول بالقيمة، وفي الثاني بالقدر، فإذا تلفت الأبعاض من الرقيق، وليس مغصوبًا وجب المقدر فقط ".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 452 - 454) قال: "أو غصب منفعة لذات من دابة، أو دار، أو غيرهما، أي: قصد بغصبه لذات الانتفاع بها فقط كالركوب، والسكنى، واللبس مدة، ثم يردها لربها، وهو المسمَّى بالتعدِّي فتلفت الذات بسماوي فلا يضمن الذات، وإنما يضمن قيمة المنفعة
…
لأنها التي تُعدِّي عليها
…
أو نقصت السلعة المغصوبة، أي: قيمتها للسوق، أي: لتغيّره من غير تغير في ذاتها فلا ضمان على الغاصب في نقص القيمة، بل يأخذها مالكها ولا شيء له؛ إذ لا اعتبار بتغير السوق في هذا الباب بخلاف التعدي، فإن لربها أن يلزم الغاصب قيمتها إن تغير سوقها يوم التعدي، أو رجع بها، أي: بالدابة من سفر، ولو بعد ولم تتغير في ذاتها فلا يضمن قيمة
…
وإن تعيب المغصوب عند =
وأحمد
(1)
أيضًا.
• قوله: (وَابْنِ الْقَاسِمِ -فَعُمْدَتُهُ قِيَاسُ الشَّبَهِ
(2)
).
إذن التفريقُ بين الجناية التي تكون سببها من السماء وغيرها مشهور مذهب مالك ومشهور مذهب أحمد.
= الغاصب بسماوي، وإن قلَّ العيب؛ ككسر نهديها
…
خير ربه بين أن يضمن الغاصب القيمة يوم الغصب وبين أخذه معيبًا، ولا شيء له في نظير العيب السماوي ولو الكثير
…
إلا أن كيفية التخيير مختلفة، ففي السماوي ما تقدم، وفي جناية الغاصب بين أخذ قيمته يوم الغصب، وأخذ شيئه مع أرش النقص، وفي جناية الأجنبي بين أخذ قيمته من الغاصب فيتبع الغاصب الجاني بالأرش، وأخذ عين شيئه واتباع الجاني بالأرش لا الغاصب".
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 90) قال: "وإن نقص المغصوب بيد الغاصب أو غيره لزمه
…
ضمانه أي النقص بقيمته
…
فيقوم صحيحًا وناقصًا، وبغرم الغاصب ما بينهما؛ لأنه ضمان مال من غير جناية
…
فإذا فات منه شيء وجب قدره من القيمة، ولو كان ما نقص رقيقًا أو بعضه بأن عمي أو خرس ونحوه، أو ذهبت يده أو رجله ونحوهما بنحو أكلة، ولا يضمن ما ذهب من الرقيق بمقدر من الحر كيده، فلا يجب فيهما نصف القيمة، ولا تجب القيمة في ذهاب نحو بصره أيضًا، إذا لم يجن
…
عليه، أي: الرقيق، وإن جني عليه، أي: الرقيق المغصوب من الغاصب أو غيره، ضمنه
…
بالجناية بأكثر الأمرين من أرش نقص قيمة المجني عليه، أو دية المقطوع؛ لأن سبب كل واحد منهما وجد، فوجب أكثرهما
…
فإن الجناية واليد وجدا فيه جميعًا، فلو غصب عبدًا قيمته ألف فزادت قيمته عنده إلى ألفين، ثم قطع يده فصار يساوي ألفًا وخمسمائة كان عليه مع رده ألف، وإن كان القاطع ليده غير الغاصب".
(2)
قال ابن أبي زيد في "النوادر والزيادات"(10/ 334): "قال ابن المواز: واحتج ابن القاسم في الفرق بين جناية الأجنبي والغاصب: أن يقول ربها للغاصب: أنا أسقط عنك حكم الغصب وآخذك بالتعدي، فيلزمه أن يقول ذلك في القتل إذا قتلها الغاصب: أن لربها أن يضمنه قيمتها يوم القتل، وهو لا يقوله ولا مالك ولا أصحابه، ولو قتلها أجنبي فإنما عليه قيمتها يوم القتل وقيمتها من الغاصب، فإذا أخذها وأخذ ما نقصها فكأنه إنما أخذ ببعض القيمة عرضًا، وليس له أن يأخذ في القيمة عرضًا، وإنما طلبه لما نقص طلب؛ لتمام القيمة يوم الغصب، وكذلك لو أصابها أمر من السماء، أو جني عليها أجنبي فلم يقدر عليه لم يلزم الغاصب ما نقصها، وإنما لربها أخذها منه ناقصة أو قيمتها يوم الغصب، ولو أخذها ناقصة فله طلب الجاني بما نقصها".
• قوله: (لِأَنَّهُ رأى أَنَّ جِنَايَةَ الْغَاصِبِ عَلَى الشَّيءِ الَّذِي غَصَبَهُ هُوَ غَصْبٌ ثَانٍ مُتَكَرِّرٌ مِنْهُ، كمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مِلْكِ صَاحِبِهِ).
الغاصب قد غصب هذا الحقَّ ثم تعدَّى عليه فكان التعدى الثاني هو جناية أخرى، وهذا هو مرادُ المؤلف؛ فإذا غصب إنسان آخر عينًا ثم أتلفه أو تسبب في نقصه فهذه جناية أخرى تُضاف إلى الأول.
• قوله: (فَهَذَا هُوَ نُكْتَةُ الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا الْبَابِ فَقِفْ عَلَيْهِ).
نكتة الخلاف - هذا الذي أشار إليه - من قياس الشبه أو غيره.
• قوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عِنْدَ الْغَاصِبِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ الْغَاصِبِ).
إذن فقد غصب وجنى في المرة الأولى؛ غصب سلعة وجنى وتعدى عليها فتسبب بوجود عيب فيها، فاجتمعت جنايتان جنايةُ الغصب، وجناية التعدِّي الأخرى.
أمَّا إن لم يتعدَّ، ولكنَّه غصب العين وأبقاها عنده، ولم يتعرَّضْ لها بجناية أخرى، وحصل العيب فيها وهي عنده فما الحكم هنا؟
• قوله: (فَالْمَغْصُوبُ مُخَيَّر بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْغَصْبِ وَيُتْبعَ الْغَاصِبَ الْجَانِيَ، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ الْغَاصِبَ وَيَتْبَعَ الْجَانِيَ بِحُكْمِ الْجِنَايَاتِ
(1)
، فَهَذَا حُكْمُ الْجِنَايَاتِ عَلَى الْعَيْنِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 447) قال: "وإن كان المغصوب جلد ميتة لم يدبغ، أو كلبًا مأذونًا فأتلفه، فإنه يغرم القيمة، ولو لم يجزْ بيع ما ذكر، ولو قتله الغاصب تعديًّا وفي نسخة بعداء؛ أي: بسبب عداء المغصوب على الغاصب فالقيمة يوم الغصب، وخيِّر ربه في قتل الأجنبي في اتباع الأجنبي بالقيمة يوم التلف، أو الغاصب بها يوم الغصب، فإن تبعه؛ أي: تبع الغاصب تبع هو الجاني بالقيمة يوم الجناية، وتكون الزيادة له إن زادت القيمة، فإن أخذ ربه من الجاني قيمته يوم =
كمن غصب عينًا كثوب أو غيره، وأبقاه عنده ثُمَّ جاء شخص آخر وتعدَّى عليه، فحرق هذا الثوب أو أحرق جزءًا منه فالمتعدي ليس الغاصب فما الحكم في هذه القضية؟
يقول المؤلف: للمغصوب منه؛ أي: لصاحب الحق، أن يتبعَ الغاصبَ فيأخذ حقَّه منه وله أن ينتقل مباشرة إلى المتلف فيطالبه، لكنه لو أخذ حقَّه من الغاصب فللغاصب أن يتبع الجاني الذي أتلف الثوب مثلًا، ويطالبه بقيمة الإتلاف، وهذا هو المعروف في الجنايات كما سيأتي في بابها.
قوله: (وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْصِبَهَا غَاصِبٌ).
كسلعة عندك في مكان ثم تعدَّى عليها إنسان فأحرقها أو أغرقها أو غير ذلك من الأسباب، فهذا لم يغصب لكنه تعدَّى.
وكمن يأتي ويصدم سيارتك وهي واقفة فهذا قد تعدَّى عليها، فهو المتعدي دون أن يكون هناك غصب، فما الحكم هنا خرجنا عن كتاب الغصب إلى الجنايات.
• قوله: (فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ عِنْدَ مَالِكٍ إِلَى قِسْمَيْنِ: 1 - جِنَايَةٌ تُبْطِلُ يَسِيرًا مِنَ الْمَنْفَعَةِ).
كما لو كان الخرقُ يسيرًا في الثوب، كحرق طرفه وقمح أصاب بعض أطرافه بلل.
قوله: (وَالْمَقْصُودُ مِنَ الشَّيءِ بَاقٍ، فَهَذَا يَجِبُ فِيهِ مَا نَقَصَ يَوْمَ الْجِنَايَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوَّمَ صَحِيحًا وَيُقَوَّمَ بِالْجِنَايَةِ، فَيُعْطَى مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ)
(1)
.
= الجناية، وكانت أقل من قيمته يوم الغصب، فله الزائد؛ أي: أخذه من الغاصب فقط لا من الجاني".
(1)
مذهب المالكية ينظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 459) قال: (الغصب بالتعدي، =
وهذا القول ليس قول مالك وحده، وإنما قول الجمهور من الشافعية
(1)
، والحنابلة
(2)
، وأيضًا الحنفية
(3)
فيما أقل كما عرفنا.
• قوله: (2 - وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مِمَّا تُبْطِلُ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ).
كعبدٍ شُلَّ" فأصبحت مصالحه معطلة.
= وهو غصب المنفعة، أو الجناية على شيء دون قصد تملك ذاته فقال: والمتعدِّي جانٍ على بعض غالبًا، أي: بعض السلعة، كخرق ثوب
…
وكسر صحفة؛ أي: كسر بعضها، ومن غير الغالب قد يكون التعدِّي على جميع السلعة؛ كحرق الثوب
…
وكسر جميع الصحفة، وقتل الدابة، ومنه تعدي المكتري، والمستعير المسافة المشترطة، واستعمال دابة مثلًا بغير إذن ربها ورضاه؛ لأن المقصود بالتعدِّي إنما هو الركوب، والاستعمال الذي هو المنفعة دون تملك الذات، والذات تابعة لذلك لا مقصودة بالتعدي فليتأمل. ثم أشار إلى أن المتعدي يضمن قيمة السلعة في الفساد الكثير إن شاء المالك دون اليسير، فإنه يضمن نقصها فقط بقوله: فإن أفات المقصود مما تعدِّي عليه، والمتبادر من أفات العمد مع أن الخطأ كذلك".
(1)
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 17) قال: "الجناية على نحو كف مما هو مقدر منه بنظيره في الحرِّ ففيها ما نقص من قيمته، لكن بشرط ألَّا يساوي النقص مقدره كنصف القيمة في اليد، فإن ساواه نقص منه القاضي، كما في الحكومة في حق الحرِّ، كذا ذكره المتولي واعتمده جمع، ورد بأنه إنما يأتي في غير الغاصب، أما هو فيضمن بما نقص مطلقًا؛ لأنهم شدَّدوا عليه في الضمان بما لم يشدِّدوا على غيره، ويؤيده ما يأتي في نحو: قطع يده من أنه يضمن الأكثر".
(2)
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 90) قال: "وإن نقص المغصوب بيد الغاصب أو غيره لزمه؛ أي: الغاصب ضمانه؛ أي: النقص بقيمته
…
فيقوم صحيحًا وناقصًا وبغرم الغاصب ما بينهما؛ لأنه ضمان مال من غير جناية، فكان الواجب ما نقص؛ إذ القصد بالضمان جبر حق المالك بإيجاب قدر ما فوت عليه، ولأنه لو فات الجميع لوجبت قيمته، فإذا فات منه شيء وجب قدره من القيمة".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(6/ 193 - 194) قال: "أو خرق ثوبًا خرقًا فاحشًا، وهو ما فوت بعض العين وبعض نفعه لا كله، فلو كله ضمن كلها، وفي خرق يسير نقصه، ولم يفوت شيئًا من النفع ضمنه النقصان مع أخذ عينه، ليس غير لقيام العين من كل وجه، ما لم يجدد فيه صنعة، أو يكون ربويًّا".
قوله: (فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَكُونُ مُخَيَّرًا إِنْ شَاءَ أَسْلَمَهُ لِلْجَانِي وَأَخَذَ قِيمَتَهُ، وإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْجِنَايَةِ
(1)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: لَيْسَ لَهُ إِلَّا قِيمَةُ الْجِنَايَةِ).
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (460/ 3) قال: "وقطع يد عبد، أو عينه إلا أن يكون صانعًا، أو ذا يد فقط، أو عين فله أخذ قيمته، وعتق عليه، أي: على المتعدِّي إن قوم عليه، وأخذ سيده قيمته، لا إن أخذه ونقصه، فلا يعتق، ويدخل في قوله: إن قوم؛ ما إذا تراضيا على التقويم فيما لا يجب فيه تقويم؛ كجناية محمد فيها شين قصد، ولم تفت المقصود، ولا منع لصاحبه من التقويم، أي: ليس لسيد العبد أن يمنع الجاني من تقويمه، ويختار أخذه مع نقصه الفاحش، أي: المفيت للمقصود حتى يحرم العبد من العتق على الأرجح عند ابن يونس، بل يلزمه أخذ قيمته ليأخذه الجاني فيعتق عليه، فيجبره الحاكم على أخذ قيمته، ويجبر الجاني على دفعها ليعتق عليه، وهذا مقابل لقوله: فله أخذه ونقصه، أو قيمته وخاص بالجناية على من يعتق بالمثلة، والمذهب الأول، وهو أن ربه يخير في الفاحش مطلقًا في العبد وغيره ".
(2)
مذهب الشافعية، يُنظر:"فتح الوهاب" لزكريا (1/ 275) قال: "يضمن مغصوب متقوم تلف بإتلاف أو بدونه، حيوانًا كان أو غيره، ولو مكاتبًا ومستولدة بأقصى قيمه من حين غصب إلى حين تلف، وإن زاد على دية الحر، لتوجه الرد عليه حال الزيادة، فيضمن الزائد، والعبرة في ذلك بنقد مكان التلف إن لم ينقله، وإلا فيتجه كما في الكفاية اعتبار نقد أكثر الأمكنة الآتي بيانها، ويضمن أبعاضه بما نقص منه؛ أي: من الأقصى، إلا إن تلفت بأن أتلفها الغاصب أو غيره من رقيق، ولها أرش مقدر من حر؛ كيد ورجل فضمن بأكثر الأمرين مما نقص، والمقدر ففي يده أكثر الأمرين مما نقص، ونصف قيمته، لاجتماع الشبهين، فلو نقص بقطعها ثلثًا قيمته لزماه النصف بالقطع والسدس بالغصب، نعم إن قطعها المالك ضمن الغاصب الزائد على النصف فقط، وتعبيري بأقصى قيمه في الحيوان، وبأكثر الأمرين في الرقيق أولى من تعبيره في الأول بالقيمة، وفي الثاني بالقدر، فإذا تلفت الأبعاض من الرقيق، وليس مغصوبًا وجب المقدر فقط ".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (155/ 7) قال: "وإن كان فوات جزء من المغصوب، أو فوات صفة مرغوب فيها، أو معنى مرغوب فيه فالمغصوب لا يخلو، إما أن يكون من غير أموال الربا، وإما أن يكون من أموال الربا، فإن كان من غير أموال الربا يكون مضمونًا، إذا لم يكن للمغصوب منه فيه صنع ولا اختيار؛ لأنه هلك بعض المغصوب صورة ومعنى، أو معنى لا صورة، وهلاك كل المغصوب =
وأحمد كذلك
(1)
.
قوله: (وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْحَمْلِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَتَشْبِيهُ إِتْلَافِ أَكْثَرِ الْمَنْفَعَةِ بِإِتْلَافِ الْعَيْنِ).
كأنَّ المؤلف رحمه الله توقَّع أن يرد سؤالٌ هنا فيقال: ما مناسبة أن يأتي المؤلف بهذه المسألة في باب الغصب!، فهذا رجل جنى على عين عند آخر جناية خارجة عن الغصب فما فائدة ذكرها هنا؟ أليس اللائقُ أن تُذكَر في الجنايات؟ فذكر السبب: أن هذا يقاس على الغصب؛ فهناك وجه يجمع بينهما؛ والغاصب تعدَّى على حقِّ غيره، وهذا الجاني أيضًا تعدَّى على حقِّ غيره فهناك شبهٌ بينهما.
قوله: (وَأَمَّا النَّمَاءُ فَإِنَّهُ عَلَى قِسْمَيْنِ
(2)
: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ اللَّهِ؛ كَالصَّغِيرِ يَكْبَرُ، وَالْمَهْزُولِ يَسْمَنَ وَالْعَيْبِ يَذْهَبُ).
= مضمون بكل القيمة، فهلاك بعضه يكون مضمونًا بقدره، لما ذكرنا أن ضمان الغصب ضمان جبر الفائت فيتقدر بقدر الفوات ".
(1)
مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (25/ 4) قال: "وإن غصب عبدًا وخصاه هو أو غيره، ولو زادت قيمته بخصاه له، أو أزال منه ما تجب فيه دية كاملة من حر؛ كأنفه، أو لسانه، أو يديه، أو رجليه؛ رده على مالكه، ورد قيمته كلها نصًّا، ولا يملكه الجاني؛ لأن المتلف البعض، فلا يتوقف ضمانه على زوال الملك، كقطع خصيتي ذكر مدبر، ولأن المضمون هو المفوت، فلا يزول الملك عن غيره بضمانه؛ كما لو قطع تسع أصابع. وإن قطع غاصب من رقيق مغصوب ما فيه مقدر من حر دون الدية الكاملة؛ كقطع يد أو جفن أو هدب ونحوه؛ فعلى غاصب أكثر الأمرين من دية المقطوع، أو نقص قيمته؛ لوجود سبب كل منهما، فوجب أكثرهما، ودخل في الآخر؛ لأن الجناية واليد وجدا فيه جميعًا".
(2)
قال الكاساني في "بدائع الصنائع"(7/ 160): "إذا حدثت زيادة في المغصوب في يد الغاصب، فالزيادة لا تخلو إما أن كانت منفصلة عن المغصوب، وإما أن كانت متصلة به، فإن كانت منفصلة عنه أخذها المغصوب منه مع الأصل ولا شيء عليه للغاصب، سواء كانت متولدة من الأصل كالولد والثمرة واللبن والصوف، أو ما هو في حكم المتولد كالأرش والعقر، أو غير متولدة منه أصلًا كالكسب من الصيد=
فقد يكون بفعل الله سبحانه وتعالى فيسمَنُ، وربما يضعف، والسمن قد يكون فيه مصلحة، وقد يكون العكس، إذن ليست على إطلاقها، وربما أيضًا يمرضُ، وربما يصيبه الهزال، وربما تتقدم به السن.
قوله: (وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَحْدَثَهُ الْغَاصِبُ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ لَيْسَ بِفَوْتٍ. وَأَمَّا النَّمَاءُ بِمَا أَحْدَثَهُ الْغَاصِبُ فِي الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ إِلَى قِسْمَيْنِ).
هنا يُفَصَّل في مذهب المالكية ثم بعد أن يمر بمراحل يشير إلى مذهب الشافعي وهو مذهب أحمد.
قوله: (أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ جَعَلَ فِيهِ مِنْ مَالِهِ مَا لَهُ عَيْنٌ قَائِمَة كَالصِّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَالنَّقْشِ فِي الْبِنَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ).
إذن هذا الغاصب قد يُحدِث في المغصوب شيئًا، وهذا الحدث قد يكون زيادة فيها مصلحة كأن يأتي إلى بيت فيحسِّنه، ويدهنه إلى غير ذلك من الأشياء الكثيرة، وربما لا يضيف إليه شيئًا، لكنه يعمل فيه عملًا؛ كأن يجد مثلًا ألواحًا من الخشب فيصنع منها توابيت؛ أي: صناديق، وربما يصنع منها أبوابًا فتغيرت، أو يجد قطعة قماش فيخيطها، يصبغ الثوب، والغالب أنه يرفع سعره، لكنه ربما يُنقِصُه؛ لأنه قد يأتي في أمر غير مناسب، إلى غير ذلك من الأشياء.
قوله: (وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ جَعَلَ فِيهِ مِنْ مَالِهِ سِوَى الْعَمَلِ؛ كَالْخِيَاطَةِ وَالنَّسْجِ وَطَحْنِ الْحِنْطَةِ وَالْخَشَبَةِ يَعْمَلُ مِنْهَا تَوَابِيتَ).
= والهبة والصدقة ونحوها؛ لأن المتولد منها نماء ملكه، فكان ملكه، وما هو في حكم المتولد بدل جزء مملوك، أو بدل ما له حكم الجزء، فكان مملوكًا له وغير المتولد كسب ملكه، فكان ملكه ". وانظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (7/ 146 - 148)، و"مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 25 - 29).
الثاني: أن لا يُضيف إليه شيئًا جديدًا، لكنه يضيف إليه عملًا فيخيط الثوب، وينسج القطن، ويصنع ثوبًا أو غزلًا، أو كذلك عنده قمح فيطحنه، فهنا لم يُضف إليه شيئًا، وهذا العمل ربما يقوم به بنفسه، وربما يستأجر من يقوم به، وبعض العلماء يرى أنه في حالة الرَّد يُنظر إلى الأجرة، وبعضهم يرى أن الغاصب لا يأخذ شيئًا؛ لأنه تعدَّى.
قوله: (فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ -وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ مِنْ مَالِهِ مَا لَهُ عَيْن قَائِمَة- فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِمَّا يُمْكِنُهُ إِعَادَتُهُ عَلَى حَالِهِ كَالْبُقْعَةِ يَبْنِيهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ)
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (6/ 192) قال: "وقيمته، أي: البناء أكثر منها، أي: من قيمة الساجة يملكها الباني بالقيمة، وكذا لو غصب أرضًا فبنى عليها، أو غرس، أو ابتلعت دجاجة لؤلؤة، أو أدخل البقر رأسه في قدر، أو أودع فصيلًا فكبر في بيت المودع، ولم يمكن إخراجه إلا بهدم الجدار، أو سقط ديناره في محبرة غيره، ولم يمكن إخراجه إلا بكسرها ونحو ذلك، يضمن صاحب الأكثر قيمة الأقل، والأصل أن الضرر الأشد يزال بالأخف، كما في هذه القاعدة من الأشباه ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 454) قال: "وخير المالك في بنائه؛ أي: بناء الغاصب عرصة، أو في غرسه في أخذه
…
ودفع قيمة نقضه
…
بمعنى: منقوضه
…
إن كان له قيمة بعد الهدم، لا ما لا قيمة له؛ كجص وجير وحمرة بعد
…
إسقاط أجرة كلفة لم يتولها الغاصب بنفسه أو خدمه، أي: شأنه أنه لا يتولى الهدم وتسوية الأرض، وردها لما كانت قبل الغصب
…
فإذا كان شأنه أن يتولى ذلك بنفسه، أو خدمه غرم المالك له جميع العشرة وحذف المصنف الشق الآخر من شقي التخيير، وهو أنه يأمره بهدمه، أو قلعه إن كان شجرًا وبتسوية أرضه للعلم به
…
وللمالك أيضًا محاسبة الغاصب بأجرة المثل مدة استيلائه على الأرض، كما قدمه المصنف في قوله وغلة مستعمل وكراء أرض بنيت فتسقط من قيمة النقض أيضًا ويرجع بالزائد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 362 - 363) قال: "وإن كانت، أي: الزيادة عينا كبناء وغراس كلف القلع لها، وأرش النقص إن كان وإعادتها كما كانت، وأجرة المثل إن مضت مدة لمثلها أجرة، ولو أراد المالك تملكها بالقيمة أو إبقاءها بأجرة لم يلزم الغاصب إجابته في الأصح لإمكان القلع بلا أرش بخلاف المستعير".=
البقعةُ معناها
(1)
: القطعة من الأرض الخالية، فيأتي ويبنيها، أي: يأتي إلى قطعة أرض فيغصبها، ثم يبني فيها بيتًا أو دكانًا أو غير ذلك، فإذا ما رجع الحق إلى صاحبه يطالبه بإزالة ما في هذه البقعة، فيجب عليه أن يزيل ذلك، إلا لو اتفق مع المالك بأن يأخذها بثمنها، أو يتنازل الغاصب، وربما يصرُّ المغصوب له على إزالة ذلك، وهنا يقف العلماء فيقولون إن كانت في إزالتها مصلحة أنه يستجيب للمغصوب منه، وإن لم تكن هناك مصلحة فلا؛ لأن ذلك يترتب عليه ضرر بالنسبة للغاصب، والقصد من رد المغصوب إلى صاحبه رفع الضرر، والضرر لا يزال بالضرر.
فإذا قال: اهدم هذا البناء وخذ أنقاضه، أو: اخلع هذا الغرس من أرضي وخذ هذا الغرس معك، وعليك أن تهدم الحفر وتساوي الأرض، فله أن يطالب بذلك الغاصب؛ لأنه تعدَّى على حقَّه وملكه، وتصرفاته فيه بما لم يأذن به.
بعض العلماء يفصل فيقول: إذا كان قد استأجر على هذه الأشياء فإنَّه يأخذ من المالك الأجرة، وإن لم يكن استأجر فلا، وعند الشافعية والحنابلة لا يأخذ شيئًا؛ لأن يد الغاصب يد تعدٍّ، والمتعدي ليس له شيء.
= ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 304) قال: "ومن حفر في أرض مغصوبة بئرًا، أو شق فيها نهرًا ووضع التراب الخارج من البئر، أو النهر بها؛ أي: الأرض المغصوبة، فله، أي: الغاصب طمها، أي: الأرض المحفورة بئرًا، أو المشقوق بها النهر لغرض صحيح؛ كإسقاط ضمان ما يقع فيها، أو مطالبته بتفريغها من التراب، كما لو جعل ترابها في ملكه، أو ملك غيره، أو طريق يحتاج إلي تفريغه، ولو برئ من ضمان ما يتلف بها، أي: الأرض بسبب البئر أو النهر؛ لأن الغرض قد يكون غير خشية ضمان ما يتلف بها، وتصح البراءة منه، أي: الضمان؛ لأنه إنما لزمه لوجود تعديه، فإذا رضي صاحب الأرض بفعله زال التعدي، جعلا للرضا الطارئ كالرضا المقارن للفعل، وليس إبراءً مما لم يجب، وإن أراده، أي: الطم لغرض صحيح مالك ألزم غاصب به، أي: الطم لعدوانه، ولأنه يضر بالأرض ".
(1)
البُقعة، بالضم، وهو الأفصح، ويفتح، عن أبي زيد: القطعة من الأرض على غير هيئة القطعة التي إلى جنبها. ج: بقاع، كجبال، وكذلك البقع، بضم ففتح. انظر:"تاج العروس" للزبيدي (20/ 347).
قوله: (وَالثَّانِي: أَلَّا يَقْدِرَ عَلَى إِعَادَتِهِ كَالثَّوْبِ يَصْبُغُهُ وَالسَّوِيقِ بَلُتُّهُ)
(1)
.
وأمَّا- عند الشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
- فلو أصرَّ المالك على أن يزيل
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (454/ 3) قال: "وإن تعيب فهو راجع للمسائل الثلاث إلا أن كيفية التخيير مختلفة
…
وفي جناية الغاصب بين أخذ قيمته يوم الغصب، وأخذ شيئه مع أرش النقص
…
كصبغه بفتح الصاد؛ لأن المراد المعنى المصدري، يعني: لو غصب ثوبًا أبيض وصبغه، فمالكه يخير في أخذ قيمته أبيض يوم الغصب، وأخذ ثوبه ودفع قيمة الصبغ بكسر الصاد، أي: المصبوغ به، وهذا إن زادت قيمته مصبوغًا عن قيمته أبيض، أو لم تزد ولم تنقص، فإن نقصت عن قيمته أبيض خير بين أخذ قيمته أبيض، وأخذه مصبوغًا ولا شيء عليه ".
(2)
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (363/ 3) قال: "وإن صبغ الغاصب الثوب المغصوب بصبغه، وكان الحاصل تمويها لا يحصل منه بالانصباغ عين مال فكالتزويق فيما مرَّ، وإن حصل منه ذلك وأمكن فصله منه، كأن كان الصبغ غير منعقد أجبر عليه في الأصح قياسًا على البناء والغراس، والثاني: لا، لما فيه من ضرر الغاصب؛ لأنه يضيع بفصله
…
وعلى الأول لو تركه الغاصب للمالك ليدفع عنه كلفة القلع لم يجبر على قبوله في أصحِّ الوجهين، ولو رضي المالك بإبقائه كان للغاصب الفصل إن لم ينقص الثوب بالفصل، وكذا إن نقص، وإذا تراضيا على القلع فذاك أو على الإبقاء فهما شريكان، وإن لم يمكن فصله كأن كان الصبغ منعقدًا، فإن لم تزد فيمته، أي: الثوب بالصبغ ولم تنقص
…
فلا شيء للغاصب فيه لعدم الزيادة، ولا شيء عليه لعدم النقص، وإن نقصت قيمته
…
لزمه الأرش؛ لأن النقص حصل بفعله، وإن زادت قيمته بالصبغ
…
اشتركا فيه، أي: الثوب هذا بصبغه وهذا بثوبه أثلاثًا، ثلثاه للمغصوب منه وثلثه للغاصب
…
كل منهما يملك ما كان له مع ما يخصه من الزيادة، فلو حصل فيهما أو في أحدهما نقص لانخفاض سعر أحدهما أو زيادة لارتفاعه عمل به فيكون النقص أو الزيادة لاحقًا لمن انخفض أو ارتفع سعر ماله، وإن حصل ذلك بسبب اجتماع الثوب والصبغ، أي: بسبب العمل فالنقص على الصبغ
…
والزيادة بينهما
…
إذا أسندت إلى الأثر المحض تحسب للمغصوب منه، وأيضًا الزيادة قامت بالثوب والصبغ فهي بينهما، ولو بذل صاحب الثوب للغاصب قيمة الصبغ ليتملكه لم يجب إليه سواء أمكن فصله أم لا، بخلاف البناء والغراس في العارية لتمكنه هنا من القلع مجانًا بخلاف المغير".
(3)
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 303 - 354) قال: =
الصبغة أزالها، حتى قالوا: وإن تأثر الثوب كمن ذهب إلى إزالة الصبغ بنحوه وأثر ذلك على الثوب فإن المالك يرجع على الغاصب بالنقص أيضًا، والفقهاء يدقِّقون في هذه المسألة
(1)
.
قوله: (فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْمُرَ الْغَاصِبَ بِإِعَادَةِ الْبُقْعَةِ عَلَى حَالِهَا وَإِزَالَةِ مَا لَهُ فِيهَا مِمَّا جَعَلَهُ مِنْ نَقِيضٍ أو غَيْرِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ الْغَاصِبَ قِيمَةَ مَالِهِ فِيهَا مِنَ النَّقْضِ مَقْلُوعًا بَعْدَ حَطِّ أَجْرِ الْقَلْعِ، وَهَذَا إنْ كَانَ الْغَاصِبُ مِمَّنْ لَا يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَحُطُّ مِنْ ذَلِكَ أَجْرَ الْقَلْعِ، هَذَا إِنْ كَانَتْ لَهُ قِيمَةٌ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ لَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ عَلَى الْمَغْصُوبِ فِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمَغْصُوبِ أَنْ يُعِيدَ لَهُ الْغَاصِبُ مَا غَصَبَ مِنْهُ عَلَى هَيْئَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَقَالٌ)
(2)
.
= "وإن أزال غاصب أو غيره اسمه، أي: المغصوب بعمله فيه كنسج غزل فصار يسمى ثوبًا
…
ردَّه الغاصب وجوبًا معمولًا؛ لقيام عين المغصوب فيه
…
وردَّ أرشه إن نقص لحصول نقصه بفعله، وسواء نقصت عينه أو قيمته أو هما، ولا شيء له، أي: الغاصب لعمله، ولو زاد به لتبرعه به
…
بخلاف ما لو غصب ثوبًا فصبغه؛ لأن الصبغ عين مال لا يزول ملك مالكه عنه بجعله مع ملك غيره؛ وللمالك إجباره
…
على رد ما أمكن رده من مغصوب إلى حالته التي غصبه عليها
…
فملك المالك إزالته مع الإمكان، بخلاف فخار وصابون ونحوه ".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (6/ 196 - 197) قال: "غصب ثوبًا فصبغه لا عبرة للألوان بل لحقيقة الزيادة والنقصان، أو سويقًا فلته بسمن فالمالك مخيَّر إن شاء ضمنه قيمة ثوبه أبيض ومثل السويق، عبر في المبسوط بالقيمة لتغيره بالقلي فلم يبق مثليًّا، وسماه هنا مثلًا لقيام القيمة مقامه كذا في الاختيار، وقدمنا قولين عن المجتبى، وإن شاء أخذ المصبوغ، أو الملتوت وغرم ما زاد الصبغ، وغرم السمن؛ لأنه مثلي وقت اتصاله بملكه، والصبغ لم يبق مثليًّا قبل اتصاله بملكه لامتزاجه بماء مجتبًى".
(2)
تقدم ذكر مذاهب الفقهاء في هذا الوجه من المسألة.
إذا لم يطالبِ المالكُ الغاصب بشيءٍ، وقال له: اخرُج وتركه، فهذا لا يضرُّ.
قوله: (وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي، فَهُوَ فِيهِ مُخَيَّر بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ قِيمَةَ الصِّبْغِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَيَأْخُذَ ثَوْبَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ يَوْمَ غَصْبِهِ، إِلَّا فِي السَّوِيقِ الَّذِي يَلُتُّهُ فِي السَّمْنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الطَّعَامِ)
(1)
.
"السَّويق "
(2)
: هو ذلك الشعير الذي يُطحَن، ثم بعد ذلك يُخلط بالسمن.
قوله: (فَلَا يُخَيَّرُ فِيهِ لمَا يَدْخُلُهُ مِنَ الرِّبَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ فَوْتًا يَلْزَمُ الْغَاصِبَ فِيهِ الْمِثْلُ، أو الْقِيمَةُ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ).
يخيَّر فيه خشية وقوع التفاضل، أي: ربا الفضل.
قوله: (وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ -وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحْدَثَ الْغَاصِبُ فِيمَا أَحْدَثَهُ فِي الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ سِوَى الْعَمَلِ- فَإِنَّ ذَلِكَ أيضًا يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ
(3)
؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَسِيرًا لَا يَنْتَقِلُ بِهِ الشَّيْءُ عَنِ اسْمِهِ بِمَنْزِلَةِ الْخِيَاطَةِ فِي الثَّوْبِ أو الرُّفُولَةِ
(4)
).
"الرفولة"
(5)
: رفا أو يرفو الثوب بمعنى: أصلحه، فقد يكون فيه
(1)
تقدم ذكر مذاهب الفقهاء في هذا الوجه من المسألة.
(2)
السويق: دقيق القمح المقلو والشعير والذرة وغيرها، ولبكل بالسمن فيؤكل. انظر:"الصحاح" للجوهري (1/ 286)، و"مجمع بحار الأنوار" للفتني (3/ 152).
(3)
قال الماوردي في "الحاوي الكبير"(7/ 136): للمغصوب ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون باقيًا. والثاني: أن يكون تالفًا. والثالث: أن يكون ناقصًا.
(4)
سيأتي ذكر مذاهب الفقهاء في هذا الوجه.
(5)
رفأ الثوب: من حدَّ صنع، رفئًا، أي: أصلح ما وهن منه، وهو مهموز، فأما الرفو بالواو من غير همز من حدِّ دخل فهو التسكين. انظر:"طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية" للنسفي (ص 145).
عيب؛ كأن يكون طويلًا فيقصه، فهنا لم يضف إليه شيئًا من عنده ولكنَّه أدخل عليه إصلاحًا، وهذا الإصلاح عن طريق العمل، وأمَّا عن الخيط الذي خاط به ذلك الثوب فهذا يسير لا ينظر إليه.
قوله: (الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ كَثِيرًا يَنْتَقِلُ بِهِ الشَّيْءُ الْمَغْصُوبُ عَنِ اسْمِهِ، كَالْخَشَبَةِ يَعْمَلُ مِنْهَا تَابُوتًا)
(1)
.
كمن عنده لوحٌ كبير من الخشب فصنعَ منه دكانًا من الخشب، أو صنعَ بابًا أو تابوتًا (وهو الصندوق)؛ فتغير ففارق بين أن تقصَّ الثوب وبين أن تأتي بالخشب فتصنع منه بابًا أو تابوتًا، فإنَّه يحتاج إلى نشرِ وتجميع الخشب، وإلى مسامير وأشياء كثيرة جدًّا، وإلى جهدٍ من العمل.
قوله: (وَالْقَمْحِ يَطْحَنُهُ، وَالْغَزْلِ يَنْسِجُهُ، وَالْفِضَّةِ يَصُوغُهَا حُلِيًّا أو دَرَاهِمَ).
كلُّ ذلك تغيرت حالته؛ لأن فيه جهدًا واضحًا وبارزًا؛ لأن العمل ليس يسيرًا.
قوله: (فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْغَاصِبِ، وَيَأْخُذُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ مَعْمُولًا).
ليس في هذا الوجه خلاف بين العلماء
(2)
.
(1)
سيأتي ذكر مذاهب الفقهاء في هذا الوجه.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (6/ 193 - 194) قال: "أو خرق ثوبًا خرقًا فاحشًا وهو ما فوت بعض العين، وبعض نفعه لا كله، فلو كله ضمن كلها، وفي خرق يسير نقصه ولم يفوت شيئا من النفع ضمنه النقصان مع أخذ عينه ليس غير؛ لقيام العين من كل وجه، ما لم يجدد فيه صنعة أو يكون ربويًّا كما بسطه الزيلعي".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 459) قال: "والمتعدي جانٍ على بعض غالبًا، أي: بعض السلعة؛ كخرق ثوب
…
وكسر صحفة
…
ومن غير الغالب قد يكون التعدي على جميع السلعة؛ كحرق الثوب
…
وكسر جميع=
قوله: (وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَهُوَ فَوْتٌ يُلْزِمُ الْغَاصِبَ قِيمَةَ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ يَوْمَ غَصْبِهِ أو مِثْلَهُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ، هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ
= صحفة، وقتل الدابة، ومنه تعدي المكتري، والمستعير المسافة المشترطة واستعمال دابة مثلًا بغير إذن ربِّها ورضاه
…
ثم أشار إلى أن المتعدِّي يضمن قيمة السلعة في الفساد الكثير إن شاء المالك دون اليسير فإنه يضمن نقصها فقط
…
والمتبادر من أفات العمد مع أن الخطأ كذلك
…
كقطع ذنَب دابة
…
فقطع ذنبها مفيت للمقصود منها بخلاف قطع بعضه، أو نتف شعره أو قطع أذنها، أو طيلسانه
…
أو قطع لبن شاة هو المقصود الأعظم منها، وقلع عيني عبد، أو قطع يديه فله، أي: للمالك أخذه ونقصه، أي: مع أرش النقص، أو قيمته سليمًا يوم التعدِّي، ويتركه للمتعدِّي، وإن لم يفته
…
فنقصه فقط، أي: يأخذ ما نقصه مع أخذه وليس له تركه، وأخذ قيمته، ومثل لما لم يفته بقوله كلبن بقرة، أو شاة ليس هو المقصود الأعظم منها".
ومذهب الشافعية: ينظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 362) قال: "الزيادة أثر وعين، فالأثر لا حق للغاصب فيه كما قال قلادة المغصوب إن كانت أثرًا محضًا كقصارة لثوب، وخياطة بخيط منه، وطحن حنطة، وضرب السبائك دراهم، وضرب الطين لبنا، وذبح الشاة وشيها، فلا شيء للغاصب بسببها؛ لتعديه بعمله في ملك غيره، بخلاف المفلس حيث كان شريكا للبائع، فإنه عمل في ملكه وللمالك تكليفه رده، أي المغصوب، كما كان إن أمكن؛ كرد الدراهم سبائك واللبن طينا؛ لأنه متعد بفعله، ولا يغرم أرش ما كان زاد بصنعته؛ لأن فواته بأمر المالك، فإن لم يمكن كالقصارة فليس له إجباره بل يأخذه بحاله وأرش النقص إن نقص عما كان قبل الزيادة، وإذا رضي المالك بما يمكن إعادته بحاله أجبر الغاصب على تسليمه له بحاله وعلى غرم أرش النقص إن كان إلا أن يكون له غرض في الإعادة كأن خشي على نفسه من بقائها ضررًا من تغرير أو غيره.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 317 - 318) قال: "وإن أُتلِف بالبناء للمفعول مغصوب أو تلف مغصوب
…
وكثوب أحرقه شخص أو احترق بصاعقة ونحوه ضمن مغصوب مثلي. وهو أي: المثلي كل مكيل من حبَّ وتمر ومائع وغيرهما
…
وسواء تماثلت أجزاء المثلي أو تفاوتت كالأثمان ولو دراهم مغشوشة رائجة والحبوب والأدهان ونحوها
…
يخير مالكه فيضمنه أي: المثلين أحب. وأما مباح الصناعة كمعمول حديد ونحاس وصوف وشعر مغزول فيضمن بقيمته لتأثير صناعته في قيمته وهي مختلفة، والقيمة فيه أحضر. فإن أعوز مثلي المتلف أي: تعذر لعدم أو بعد أو غلاء فالواجب قيمة مثله يوم إعوازه؛ أي: المثلي لوجوب القيمة في الذمة حين انقطاع المثل، كوقت تلف المتقوم ".
ابْنِ الْقَاسِمِ فِي هَذَا الْمَعْنَى
(1)
. وَأَشْهَبُ يَجْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْمَغْصُوبِ
(2)
، أَصْلُهُ مَسْأَلَةُ الْبُنْيَانِ فَيَقُولُ: إِنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَاصِبِ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ مِنَ الصِّبْغِ وَالرفولةِ وَالنَّسْجِ وَالدِّبَاغِ وَالطَّحِينِ).
أي: فوت صورة الثوب، هذا الثوب قد يكون أبيض فيأتي فيصبغه فيجعله أحمر أو أسود أو غير ذلك وصاحبه لا يريد ذلك اللون ففوَّت عليه المصلحةَ التي كان يريدها، وصبغ الثوب أحيانًا يغيره، فقطعة القماش تصبغ فترتفع قيمتها فبدل أن تكون قيمة الثوب مثلًا عشرة تكون عشرين، فما الحكم هنا؟
قوله: (وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الصَّبْغَ تَفْوِيتٌ يَلْزَمُ الْغَاصِبَ فِيهِ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْغَصْبِ
(3)
. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمَا يَكُونَافي شَرِيكَيْنِ، هَذَا بِقِيمَةِ الصَّبْغِ، وَهَذَا بِقِيمَةِ الثَّوْبِ إِنْ أَبَى رَبُّ الثَّوْبِ أَنْ يَدْفَعَ قِيمَةَ الصَّبْغِ، وَإِنْ أَبَى الْغَاصِبُ أَنْ يَدْفَعَ قِيمَةَ الثَّوْبِ
(4)
، وَهَذَا الْقَوْلُ أَنْكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي
(1)
قال ابن المقاسم:
…
"أن لربِّها أن يأخذها ويأخذ ما نقصها يريد: يوم الجناية
…
قال سحنون: هذا خلاف لما قال ابن القاسم في القتل: أن عليه قيمتها يوم الغاصب لا يوم القتل، وقد يزيد قيمتها يوم القتل، وقد يكون فيما نقص القطع منها مثل قيمتها وأكثر فيأخذها ومثل قيمتها، فيأخذ في اليد مالًا يأخذ في النفس وإنما له أخذها ناقصة فقط، أو يأخذ قيمتها يوم الغصب ". انظر:"النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (10/ 333).
(2)
قال أشهب؛ "بخلاف مَن تعدَّى عليها فقطع لها أنملة أو إصبعًا أو فقأ عينها فليس له أن يضمنه إلا ما نقصها وخالف الغاصب؛ لأن الغاصب ضمنها كلها بالغصب ". انظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (10/ 317).
(3)
لم أقف عليه.
(4)
هذا قول أشهب فيما ذكره عنه ابن أبي زيد في "النوادر والزيادات"(10/ 410): "قال أشهب: في مبتاع القمح من غاصب فطحنه أو سويقًا فلته أو ثوبًا فصبغه فقام ربه، فإما أجاز البيع وأخذ الثمن من الغاصب أو قيمة الثوب أو المثل في المكيل إن كان بائعًا، وإن كان واهبًا للغاصب أن يرجع على الموهوب بما وهب له إن كان قائمًا=
الْمُدَوَّنَةِ فِي كتَابِ اللُّقَطَةِ، وَقَالَ: إِنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِيمَا كلانَ بِوَجْهِ شُبْهَةٍ جَلِيَّةٍ
(1)
. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الصَّبْغِ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ إِلَّا أَنَّهُ يُجِيزُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا).
بعد كلامٍ كثير جدًّا أشار إلى مذهب الشافعي
(2)
، ومعه الإمامان الشافعيُّ، وأحمد
(3)
يجيزان الشركة فلو قُدِّر أنه أخذ الصوف صدقة ولكن
=وكان له مثل ما للمغصوب على الموهوب له، وإن شاء ترك الغاصب ودفع إلى المبتاع أو الموهوب قيمة الصبغ حين يقوم وقيمة الطحين حين يقوم، وكذلك اللتات، وقال: يدفع أجر ما لتَّهُ ولأخذ جميع ذلك شاء ذلك الذي في يديه أو أبى، وإن أبي الغاصب فليعطه هذا مثل قمحه أو سويقه أو قيمة ثوبه، فإن أبيا كانا شريكين هذا بقيمة ثوبه وهذا بقيمة ما أحدث فيه، ثم يرجع المبتاع على بائعه بالثمن ".
(1)
لم أقف عليه.
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 363) قال: "ولو رضي المالك بإبقائه كان للغاصب الفصل إن لم ينقص الثوب بالفصل وكذا إن نقص، وإذا تراضيا على القلع فذاك أو على الإبقاء فهما شريكان، وإن لم يمكن فصله كأن كان الصبغ منعقدًا، فإن لم تزد قيمته؛ أي: الثوب بالصبغ ولم تنقص، كأن كان يساوي عشرة والصبغ خمسة فصار مصبوغًا يساوي عشرة لا لانخفاض سوق الثياب بل لأجل الصبغ، فلا شيء للغاصب فيه لعدم الزيادة، ولا شيء عليه لعدم النقص، وإن نقصت قيمته، كأن صار يساوي ثمانية لزمه الأرش؛ لأن النقص حصل بفعله، وإن زادت قيمته بالصبغ كأن صار يساوي خمسة عشر في مثالنا اشتركا فيه، أي: الثوب هذا بصبغه، وهذا بثوبه أثلاثًا ثلثاه للمغصوب منه، وثلثه للغاصب فشركتهما ليست على الإشاعة، بل كل منهما يملك ما كان له مع ما يخصُّه من الزيادة".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 308) قال: "وإن خلط مغصوبًا بدونه، أو خلطه بغير منه من جنسه، أو خلطه بغير جنسه على وجه لا يتميز كزيت بشيرج، ودقيق حنطة بدقيق شعير، ونحوه فالمالكان شريكان في المختلط، بقدر قيمتيهما كاختلاطهما من غير غصب نصًّا، ليصل كل منهما إلى بدل عين ماله. وإن نقص مغصوب عن قيمته منفردًا فعلى غاصب نقصه لحصوله بفعله، وحرم تصرف غاصب في قدر ما له فيه، أي: المختلط لاستحالة انفراد أحدهما عن الآخر. فإن أذنه مالك المغصوب جاز؛ لأن الحق لا يعدوهما؛ ولأنها قسمة، فلا تجوز بغير رضا الشريكين، هذا إن عرف ربه، وإلا تصدق به عنه، وما بقي حلال، وإن شكَّ في قدر الحرام تصدق بما يعلم أنه أكثر منه نصًّا".
ينظر إلى الثوب؛ لأنه ربما تزيد قيمته فإن نقصت القيمة فإنَّه يطالب الغاصب، وربما ترتفع قيمته فتكون قيمته قبل الصبغ خمسين ريالًا، وبعد الصبغ أصبح مائةً، فما الحكم هنا؟
تجوز الشركةُ عند الإمامين؛ فهذا يأخذ خمسين، وهذا يأخذ خمسين.
أو تكون قيمته قبل الصبغ خمسين وبعد الصبغ سبعين، فيأخذ الغاصب عشرين والآخر يأخذ خمسين، فيقولون ليس لصاحب الحق أن يتجاوز حدَّه، وإن علم أن هذا غاصب فليس له أن يأكل حق غيره بغير حق؛ لأن هذا الصبغ الذي أُدخل عليه زاد من قيمته.
ويفرقون أيضًا بين أن يكون الصبغ الذي صبغ به من مال الغاصب، وربما يكون من مال المغصوب، وحينئذ لا أثر للغاصب، إن كان الصبغ من مال المغصوب منه فالغاصب لا شيء له، لكن هذا الكلام لو كان الصبغ من مال الغاصمب وربما يكون من مال غيرهما أيضًا
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 161 - 162) قال: "ولو غصب من إنسان ثوبا ومن إنسان صبغًا فصبغه به ضمن لصاحب الصبغ صبغًا مثل صبغه؛ لأنه أتلف عليه صبغه وهو من ذوات الأمثال، فيكون مضمونًا بالمثل
…
وحكم ما إذا صبغ الثوب المغصوب بصبغ نفسه سواء؛ لأنه ملك الصبغ بالضمان
…
ولو غصب من إنسان ثوبًا ومن آخر صبغًا فصبغه فيه، ثم غاب، ولم يعرف فهذا وما إذا انصبغ بغير فعل أحد سواء استحسانًا، والقياس ألَّا يكون لصاحب الصبغ على صاحب الثوب سبيل
…
ولو غصب ثوبًا وعصفرًا من رجل واحد فصبغه به، فالمغصوب منه يأخذ الثوب مصبوغًا ويبرئ الغاصب من الضمان في العصفر والثوب استحسانًا، والقياس أن يضمن الغاصب عصفرًا مثله ثم يصير كأنه صبغ ثوبه بعصفر نفسه، فيثبت الخيار لصاحب الثوب ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 364) قال: احترز المصنف بقوله: بصبغه عن صورتين، الأولى: أن يكون الصبغ مغصوبًا من آخر فهما شريكان كما لو كان الصبغ للغاصب، فإن حصل في المغصوب نقص باجتماعهما اختصَّ النقص بالصبغ كما مرَّ وغرم الغاصب لصاحب الصبغ قيمة صبغه، وإن أمكن فصله فلكل منهما تكليفه الفصل، فإن حصل به نقص فيهما أو في أحدهما غرمه الغاصب، وإن لم يمكن فصله، بأن كان الحاصل تمويهًا فكما سبق في التزويق ففي هذه =
قوله: (وَيَقُولُ: إِنَّهُ يُؤْمَرُ الْغَاصِبُ بِقَلْبِ الصَّبْغِ إِنْ أَمْكَنَهُ وَإِنْ نَقَصَ الثَّوْبُ)
(1)
.
هذا إن طلب المغصوب منه أن يزيل ذلك فله حتى وإن نقص الثوب عن قيمته، يأخذ النقص من الغاصب وهذا أيضًا قول أحمد
(2)
.
قوله: (وَبَضْمَنُ لِلْمَغْصُوبِ مِقْدَارَ النُّقْصَانِ، وَأُصُولُ الشَّرْعِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُسْتَحَلَّ مَالُ الْغَاصِبِ مِنْ أَجْلِ غَصْبِهِ).
يقول المؤلف: أن أصول الشرع تقتضي أن لا يكون سبب الغصب مبررًا أو وسيلة أن يستحل مال الغاصب فالظلم لا يُعالَج بظلم، ولا التعدي يُعالَج بالتعدي، وإنما الإنسان يأخذ حقَّه وله أن يطالبَ به.
قوله: (وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَنْفَعَةً أو عَيْنًا، إِلَّا أَنْ يَحْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ
= الصورة زيادة على ما تقدَّم. الصورة الثانية: أن يكون الصبغ لمالك الثوب، فالزيادة له لا للغاصب؛ لأنها أثر محض والنقص على الغاصب فيغرم أرشه، وللمالك إجباره على فصله إن أمكن، وليس للغاصب فصله إذا رضي المالك بالإبقاء، وكذا لو سكت كما قال الإسنوي: إنه القياس ".
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير"(3/ 454) قال: "قوله كصبغه، أي: كتخييره في مسألة صبغه، وقوله في قيمته بدل اشتمال من قوله كصبغه وما ذكره المصنف من التخيير في مسألة الصبغ هو مذهب المدونة، ومقابله لا شيء للغاصب في الصبغ
…
قوله: ولا شيء عليه، أي: لا يلزمه قيمة الصبغ
…
والحاصل: أن المدونة قالت: وإذا غصب ثوبًا وصبغه خُيِّر ربُّه بين أخذ قيمة الثوب أبيض، أو يأخذ الثوب ويغرم قيمة الصبغ، وأطلقت في ذلك ولم تقيد بزيادة ولا مساواة".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 309) قال: "فإن طلب أحدهما، أي: مالك الثوب، أو مالك الصبغ قلع الصبغ من الثوب لم يجب، أي: لم تلزم إجابته؛ لأن فيه إتلافًا لملك الآخر، حتى ولو ضمن طالب القلع النقص لهلاك الصبغ بالقلع، فتضيع ماليته وهو سفه. وإن بذل أحدهما للآخر قيمة ماله لم يجبر على قبولها؛ لأنها معاوضة".
-عليه الصلاة والسلام: "ليْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ"
(1)
لَكِنَّ هَذَا مُجْمَلٌ).
هذا الحديث عام، وهو حديث حسن، والحديث جاء بألفاظ عدَّة، والعِرق: هو ذلك الجذور التي تمتدُّ في الأرض، قال كثير من العلماء
(2)
: إن في الحديث حذفًا، "لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِم حَقٌّ"؛ أي: ليس لصاحب عِرق ظالم حَقٌّ، فيكون الوصف لصاحب العرق إلا أن يكون ذلك من باب المجاز، وقضية المجاز محل خلاف بين العلماء، فمن العلماء من يجيز المجاز مطلقًا في الكتاب والسُّنة، وفي لغة العرض ومنهم من يمنع ذلك في الكتاب ويجيزه في غيره، ومنهم مَن يمنعه في الكتاب وغيره، ويقول: ليس مجازًا وإنما هو مجاز بالحذف.
قوله: (وَمَفْهُومُهُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ ليْسَ لَهُ مَنْفَعَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ بَيْنَ مَالِهِ وَبَيْنَ الشَّيْءِ الَّذِي غَصَبَهُ (أَعْنِي: مَالَهُ الْمُتَعَلِّقَ بِالْمَغْصُوبِ)، قَهَذَا هُوَ حُكْمُ الْوَاجِبِ فِي غَيْرِ الْمَغْصُوبِ تَغَيَّرَ أو لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَأَمَّا حُكْمُ غَلَّتِهِ).
الواجب على مَن غصب شيئًا أن يردَّه إلى صاحبه، فإن بقي على حاله أعاده؛ وإن تغير فهناك خلاف بين العلماء هل يأخذ مثله إذا تلفت العين، أو يأخذ القيمة؟
عرفنا في الكيل والوزن وكذلك النقود أخذ المثل، أما في عروض التجارة فقد نرى الخلاف فيها ودليل كلِّ قول.
(1)
أخرجه أبو داود (3073)، والترمذي (1378) وقال: حسن غريب، عن سعيد بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق "، وصححه الألباني في "الإرواء"(1520).
(2)
قال ابن الأثير: "وليس لعرق ظالم حق ": هو أن يجيء الرجل إلى أرضٍ قد أحياها رجل قبله فيغرس فيها غرسًا غصبًا ليستوجب به الأرض. والرواية: "لعرقٍ" بالتنوين، وهو على حذف المضاف: أي: لذي عرق ظالم، فجعل العرق نفسه ظالمًا والحق لصاحبه، أو يكون الظالم من صفة صاحب العرق، وإن روي "عرق" بالإضافة فيكون الظالم صاحب العرق، والحق للعرق، وهو أحد عروق الشجرة. انظر:"النهاية"(3/ 219).
قوله: (فَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ في الْمَذْهَبِ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْغَلَّةِ حُكْمُ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ).
ليس هذا الخلاف في مذهب مالك وحده
(1)
، بل الخلاف موجود في المذاهب الأخرى، وهذا القول هو المعروف في مذهب الحنابلة
(2)
، والشافعية
(3)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 448 - 449) قال: "وله غلة مغصوب مستعمل، رجح حمله على العقار من دور ورباع، وأرض سكنها، أو زرعها، أو كراهًا دون الحيوان المستعمل الذي نشأ عن استعماله غلة ككراء الدابة، أو العبد، أو استعمالهما؛ لأنه مذهب المدونة فيضمن في العقار إذا استعمل، وإلا فلا ولا يضمن في الحيوان إلا ما نشأ من غير استعمال كلبن وصوف، والأرجح حمله على ظاهره من العموم وظاهر قوله وغلة مستعمل ولو فات المغصوب ولزمت القيمة فيأخذ الغلة وقيمة الذات، وهو قول مالك وعامة أصحابه وجمهور أهل المدينة، وقال ابن القاسم: لا كراء له إذا أخذ القيمة واحترز بمستعمل عمَّا إذا عطل كدار غلقها، وأرض بورها ودابة حبسها فلا شيء عليه ولا يخالف قوله فيما يأتي ومنفعة الحر، والبضع بالتفويت وغيرهما بالفوات؛ لأنه في غصحب المنفعة وما هنا في غصب الذات فإذا غصب أرضًا وبورها فإن قصد غصب الذات فلا كراء عليه، وإن قصد غصب المنفعة لزمه كراء مثلها".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 111) قال: "وإن كان للمغصوب منفعة تصحُ إجارتها، يعني: إن كان المغصوب مما يؤجر عادة، فعلى الغاصب أجرة مثله مدة مقامه في يده، سواء استوفى الغاصب أو غيره المنافع أو تركها تذهب؛ لأن كل ما ضمن بالإتلاف جاز أن يضمنه بمجرد التلف في يده كالأعيان
…
وإن ذهب بعض أجزائه، أي: المغصوب في المدة، أي: مدة الغصب باستعمال أو لا، كخمل المنشفة لزمه، أي: الغاصب مع الأجرة أرش نقصه؛ لأن كل واحد منهما ينفرد بالإيجاب فإذا اجتمعا وجبا، والأجرة في مقابلة ما يفوت من المنافع لا في مقابلة الأجزاء، وإن تلف المغصوب فعليه، أي: الغاصب أجرته إلى حين تلفه؛ لأنه من حين التلف لم تبقَ له منفعة حتى توجب عليه ضمانها
…
وما لا تصح إجارته، أي: لم تجْرِ العادة بإجارته، كغنم وشجر وطير ونحوه مما لا منفعة له تؤجر عادة لم يلزمه، أي: الغاصب له أجرة؛ لأن منافعه غير متقومة".
(3)
ولهم تفصيل في ذلك. يُنظر: " فتح العزيز" للرافعي (11/ 262 - 264) قال: "المنافع فهي أنواع: (منها) منافع الأموال؛ من العبيد والثياب وغيرها: وهي مضمونة =
قوله: (وَالثَّانِي: أَنَّ حُكْمَهُا بِخِلَافِ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ)
(1)
.
= بالتفويت
…
(ومنها) منفعة البضع: وهي لا تضمن بالفوات تحت اليد، والفرق بينها وبين سائر المنافع أن اليد لا تثبت على منفعة البضع
…
(وأما) إذا فوت منفعة البضع بالوطء ضُمَّن مهر المثل
…
(ومنها) منفعة بدن الحرِّ وهي مضمونة بالتفويت، وإذا قهر حرًّا واستخدمه في عمل ضمن أجرته، وإن حبسه وعطل منافعه فوجهان
…
(ومنها) منفعة الكلب: فمن غصب كلب الصيد أو الحراسة لزمه ردَّه مع مؤنة الردَّ إن كان له مؤنة، وهل يضمن منفعته بالأجرة فيه وجهان مرتبان على الوجهين في جواز استئجاره ".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 206) قال: "منافع الغصب، أي: المغصوب، قوله: استوفاها أو عطلها؛ صورة الأول أن يستعمل العبد شهرًا مثلًا ثم يردَّه على سيده. والثاني: أن يمسكه ولا يستعمله ثم يرده كما في الدرر. قوله: عندنا
…
قوله: لكن لا يلائمه إلخ، أقول: بل يلائمه بعطفه عليه بالرفع فيفيد أنه غير مضمون ط، أي: بتقدير حذف الخبر، والأصل: وخمر المسلم غير مضمون بدليل ما قبله كقولك: هند غير قائمة، وعمرو على أن عدم الملاءمة فيما ذكره أشد،؛ لأنه معطوف على قوله بخلاف الحرة ومخالطة الحرة للأمة في الحكم ظاهر وبينهما مناسبة، بخلاف منافع الغصب؛ إذ لا مناسبة بينهما إلا بتكلف تأمل ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 452) قال: "غصب منفعة لذات من دابة، أو دار، أو غيرهما، أي: قصد بغصبه لذات الانتفاع بها فقط كالركوب، والسكنى، واللبس مدة، ثم يردها لربها، وهو المسمَّى بالتعدي، فتلفت الذات بسماوي فلا يضمن الذات، وإنما يضمن قيمة المنفعة، أي: ما استولى عليه منها؛ لأنها التي تعدَّي عليها، أو غصب طعامًا وأكله مالكه ضيافة، أو بغير إذن الغاصب فلا يضمنه وسواء علم المالك أنه له أم لا؛ لأن ربه باشر إتلافه، أو نقصت السلعة المغصوبة، أي: قيمتها للسوق، أي: لتغيره من غير تغيُّر في ذاتها، فلا ضمان على الغاصب في نقص القيمة، بل يأخذها مالكها ولا شيء له؛ إذ لا اعتبار بتغير السوق في هذا الباب بخلاف التعدي، فإن لربها أن يلزم الغاصب قيمتها إن تغير سوقها يوم التعدي ".
ومذهب الشافعية، ينظر:"نهاية المحتاج" للرملي (170/ 15 - 171) قال: "وتضمن منفعة الدار والعبد ونحوهما من كلَّ منفعة يستأجر عليها بالتفويت بالاستعمال والفوات، وهو ضياع المنفعة من غير انتفاع كإغلاق الدار في يد عادية؛ لأن المنافع متقومة فضمنت بالغصب كالأعيان، سواء أكان مع ذلك أرش نقص أم لا كما يأتي
…
ولا تضمن منفعة البضع وهو الفرج إلا بتفويت بالوطء، فيضمنه بمهر=
إنسانٌ غصب دارًا وأخذ يؤجِّرها، وهذه الدار قد أدرت عليه مالًا، أو أرضًا استولى عليها فزرعها أو سيارة أو غير ذلك، فهذه الغلَّة كيف يفعل بها، هل تعاد إلى صاحبها أو لا؟
هناك تفصيل فيما يتعلَّق بالزرع وفيما يتعلق بالغلَّة عمومًا، فإنها تردُّ إلى صاحبها على خلاف كما سنرى.
قوله: (فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ حُكْمَهُا حُكْمُ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ -وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ- يَقُولُ: إِنَّمَا تَلْزَمُهُ الْغَلَّةُ يَوْمَ قَبْضِهَا أو أَكْثَرَ مِمَّا انْتَهَتْ إِلَيْهِ قِيمَتُهَا
(1)
).
=مثلها
…
لا بفوات؛ لانتفاء ثبوت اليد عليه، ولهذا صحَّ تزويجه لأمَتِه المغصوبة مطلقًا لا إيجارها إن عجز كالمستاجر عن انتزاعها لحيلولة يد الغاصب، وكذا منفعة بدن الحر لا تضمن إلا بالتفويت في الأصح، دون الفوات كأن حبسه ولو صغيرًا لما سيأتي في السرقة أن الحر لا يدخل تحت اليد؛ ولأنه لو حمله لمسبعة فأكله سبع لم يضمنه فمنافعه تفوت تحت يده ". وانظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (7/ 160 - 161).
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي" لابن قدامة (2/ 226) قال: "وإذا كانت للمغصوب منفعة مباحة تستباح بالإجارة فأقام في يده مدة لمثلها أجرة، فعليه الأجرة.
وعنه: إن منافع الغصب لا تضمن، والمذهب الأول؛ لأنه يطلب بدلها بعقد المعاينة، فتضمن بالغصب كالعين. وسواء ردَّ العين أو بدلها؛ لأن ما وجب مع ردَّها، وجب مع بدلها، كأرش النقص. فإن تلفت العين، لم تلزمه أجرتها بعد التلف؛ لأنه لم يبقَ لها أجرة، ولو غصب دارًا فهدمها، أو عرصة فبناها، أو دارًا فهدمها ثم بناها وسكنها، فعليه أجرة عوضه؛ لأنه لما هدم البناء لم يبق لها أجرة لتلفها، ولما بنى العرصة كان البناء له، فلم يضمن أجرة ملكه، إلا أن يبنيها بترابها، أو آلة للمغصوب منه فيكون ملكه؛ لأنها أعيان ماله، وليس للغاصب فيه إلا أثر الفعل، فتكون أجرتها عليه. وكل ما لا تستباح منافعه بالإجارة أو تندر إجارته، كالغنم، والشجر، والطير، فلا أجرة له. ولو أطرق فحلًا، أو غصب كلبًا لم تلزمه أجرة لذلك؛ لأنه لا يجوز أخذ العوض من منافعه بالعقد، فلا يجوز بغيره ".
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (10/ 450) قال: قال أشهب: ويلزمه أن يقول إذا ركب الدابة غير الغاصب واستخدم: إن كراء غلة ذلك للغاصب بضمانه
…
وأما قبض الغاصب في غلة الحيوان فقول أشهب أحب إليّ، وقاله =
عندما يغصب دارًا ثم يؤجِّرها لمدَّة عام ثم يأخذ الأجرة بعد عام فالواجب عليه أن يرد ذلك المبلغ الذي تسلَّمه في ذلك الوقت، أي: وقمت تسلم الغلة، وهي المنفعةُ.
قوله: (عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَلْزَمُهُ أَرْفَعُ الْقِيَمِ مِنْ يَوْمِ غَصْبِهَا لَا قِيمَةُ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ يَوْمَ الْغَصْبِ
(1)
، وَأَمَّا الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْغَلَّةِ بِخِلَافِ حُكْمِ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ، فَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا اخْتِلَافًا كثِيرًا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا إِنْ تَلِفَتْ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ
(2)
).
لو تلفت هذه الغلَّة بحضور شهود فلا إشكال، فليس عليه شيء.
قوله: (وَأَنَّهُ إِنِ ادَّعَى تَلَفَهَا لَمْ يُصَدَّقْ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يغلبُ عَلَيْهِ).
لم يصدَّقْ؛ لأنه مُتَعَدٍّ، ولو كان صادقًا مع الله تعالى ومع نفسه ومع إخوانه المؤمنين لما تجاوز الحدود، ولما أخذ حقَّ غيرِه؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد فرض فرائض كما في الحديث:"إِنَّ اللهَ فَرَضَ فرائضَ فلا تضيِّعُوها وَحَدَّ حدودًا فلا تعتَدُوها"
(3)
، وهذا قد تجاوز الحدود التي وضعها الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
= محمد، ولم يختلف مالك وأصحابه فيما تولد عن الحيوان من صوف ولبن وشبهه: أن يردَّه الغاصب مع الأمهات ومع الولد، ويرد غلة النخل، ويرد ما تلف من علتها وما تلف منه بسببه وبغير سببه فليرده وكل ما انتفع به من ذلك أو وهبه، وبحسب ما سعى وعالج وما أنفق في رعاية الغنم ما بينهما وبين استيعاب الغلة فلا يزاد الغاصب على ذلك، وهذا قول أشهب في غرم القيمة".
(1)
تقدَّم ذكر مذاهب الفقهاء في هذه المسألة.
(2)
تقذَم ذكر مذاهب الفقهاء في هذه المسألة.
(3)
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 221)، والدارقطني في "السنن"(5/ 325)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(1597).
قوله: (وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ الْغَلَّةِ هُوَ أَنَّ الْغِلَالَ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ)
(1)
.
تحصيل مذهب العلماء عمومًا في الغلَّة، يريد المؤلِّف أن يرتبها في أقسام ثلاثة؛ ليبيِّن أنها ليست على نوعِ واحد فمن الغلَّة ما هو من جنس الأصل كالولد الذي تلدُهُ الجارية أو الدَابَّة، وربما يكون منها لكنه لا يأتي على صورتها كالحال بالنسبة للثِّمار واللبن وغيرها، وأحيانًا لا يتولَّد منها أصلًا، كالذي أشار إليه في الأول مثل المنافع التي تُؤخَذ مقابل أجرة ذلك الحقِّ الذي اغتُصِب.
قوله: (1 - أَحَدُهَا: غَلَّةٌ مُتَوَلِّدَة عَنِ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ عَلَى نَوْعِهِ وَخِلْقَتِهِ وَهُوَ الْوَلَدُ).
مثال ذلك: إنسان غصب ناقة فولدت؛ فهذا من نوعها، غصب جارية فولدت، هذا أيضًا من نوعها، إذن هذا من نفس الجنس وعلى نفس الصورة.
قوله: (2 - وَغَلَّة مُتَوَلِّدَة عَنِ الشَّيْءِ لَا عَلَى صُورَتِهِ، وَهُوَ مِثْلُ الثَّمَرِ وَلَبَنِ الْمَاشِيَةِ وَجُبْنِهَا وَصُوفِهَا).
هي متولَّدة منه لكن ليس على صورته؛ كاللَّبن الذي يُؤخذ من الشاة المغصوبة والناقة، وكذلك أيضًا الثمرة التي تُؤخذ من الأشجار التي اغتصبها مغتصب فأثمرت إلى غير ذلك.
قوله: (3 - وَغِلَالٌ غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ بَلْ هِيَ مَنَافِعُ، وَهِيَ الْأَكْرِيَةُ وَالْخَرَاجَاتُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ).
(1)
ويقسمها الفقهاء إلى زيادات متصلة ومنفصلة؛ فالمتصلة: كقصارة ثوب، وسمن حيوان، وتعلم فن صنعة، والمنفصلة: كولد بهيمة، وكذا ولد أمة، وككسب رقيق. انظر:"بدائع الصنائع"(7/ 143)، و"الشرح الكبير" للرافعي (8/ 213)، و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 303).
"الأكرية" من الكراء، وهي: الأجرة التي تُؤخَذ، كأن يكون استولى على سوق أو محل تجاري أو على أرض فأصبح يؤجِّرها، أو على دار، أو على سيارة، أو غير ذلك من الأشياء، فأخذ حقَّ غيره وبدأ بالاستفادةِ منه.
قوله: (فَأَمَّا مَا كَانَ عَلَى خِلْقَتِهِ وَصُورَتِهِ فَلَا خِلَافَ أَعْلَمُهُ أَنَّ الْغَاصِبَ يَرُدُّهُ كَالْوَلَدِ مَعَ الْأُمِّ الْمَغْصُوبَةِ وَإِنْ كَانَ وَلَدَ الْغَاصِبِ)
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (8/ 139) قال: "ولو زنى بمغصوبة فردت فماتت بالولادة ضمن قيمتها ولا يضمن الحرة، وهذا قول الإمام أبي حنيفة، وقالا: لا يضمن الأمة ويضمن نقصان الحبل؛ لأن الرد قد صحَّ مع الحبل والحبل عيب فيجب عليه نقصان العيب وهلاكها بعد ذلك بسبب حادث عند المالك فلا يبطل به الرد كما إذا حمت في يد الغاصب فردها وماتت في تلك الحمى أو زنت عند الغاصب فردها وجلدت بعد الردِّ عند المالك وماتت من ذلك، فإنه لا يضمن إلا نقصان البيع وكذا إذا سلم البائع الجارية للمشتري حبلى ولم يعلم المشتري بالحبل وماتت من الولادة لم يرجع المشتري على البائع بشيء من الثمن اتفاقًا وللإمام أن يردها كما أخذها؛ لأنه أخذها وليس فيها عيب التلف وردها وفيها ذلك فلم يصحَّ الرد فصار كما جنت جناية في يد الغاصب فعلت بها بعد الردِّ ودفعت بها بعد الرد، فإنه يرجع بقيمتها على الغاصب بخلاف الحرة، فإنها لا تضمن بالغصب ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 467) قال: "وضمن مشترٍ لأمَة من نحو غاصب لم يعلم بتعديه فأولدها قيمة الأمة المستحقة منه لمالكها المستحق، ويرجع بثمنها على بائعها كان قدر القيمة، أو أقل، أو أكثر ولا يرجع ربها على الغاصب بما بقي من الثمن إن زاد على القيمة التي أخذت من المستحق منه على ما يفيده عبد الحق في نكته، وهو الحق؛ لأن قيمتها قامت مقامها.
وضمن قيمة ولدها أيضًا إن كان حرًّا بأن كان من سيدها الحر فإن كان رقيقًا بأن كان من غير سيدها، أو سيدها العبد فله أخذه، وأخذها وتعتبر القيمة يوم الحكم، لا يوم الاستحقاق ولا يوم الوطء".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 50) قال: "وإن أحبل الغاصب أو المشتري منه المغصوبة عالمًا بالتحريم فالولد رقيق غير نسيب لما مرَّ أنه زنا فإن انفصل حيَّا ضمنه كل منهما أو ميتًا بجناية فبدله، وهو عشر قيمة أمه للسيد أو بغيرها ضمنه كل منهما بقيمته يوم الانفصال ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 303) قال: "ويلزم =
ليس فيه خلاف كما قال المؤلف- " فلو ولدت الجاريةُ أو الناقة أو الشاة، فإنَّه يردُّ الأمةَ مع ولدها.
مثال ذلك: إنسان غصب جارية فوطأها فولدت منه، فيترتب على هذه الحالة أمران:
الأمر الأول: أنه زنى بها فعليه حدُّ الزنا، فإن كان عالمًا بالتحريم فإنَّه بلا شك يُقام عليه الحدُّ؛ لأنه لا ملك له في هذه الجارية، ولا شبهة ملك
(1)
، فهو ليس شريكًا في هذه الجارية حتى يُقال: هناك شبهة
=غاصبًا وغيره، إذا كان بيده رد مغصوب زاد بيد غاصب أو غيره
…
بزيادته المنفصلة كولد بهيمة، وكذا ولد أمة حيث لا يحكم بحريته ويأتي، وككسب رقيق؛ لأنه نوع نماء المغصوب وهو لمالكه فلزم رده كالأصل ".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 62) قال: "ولو غصب جارية فزنى بها فماتت؛ روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أن عليه الحد وقيمة الجارية، وروى الحسن عنهما أن عليه القيمة ولا حدَّ عليه، وذكر الكرخي أن هذا أصح الروايتين ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"إرشاد السالك" لابن عسكر (ص 114 - 115) قال: "وعلى غاصب الحرة مع حد مهر مثلها، والأمة ما نقصها، ويتداخل الحد قبل إقامته لا بعده، وشمقط بشبهة، ويؤخر للحر والبرد والحمل ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 190 - 191) قال: "ولو وطئ المغصوبة الغاصب عالمًا بالتحريم، ولم يكن أصلًا لمالكها حُدَّ، وإن جهلت؛ لأنه زانٍ، وإن جهل تحريم الزنا مطلقًا، أو نشأ بعيدًا عن العلماء فلا حدَّ للشبهة، وفي الحالين، أي: حالي علمه وجهله يجب المهر؛ لأنه استوفى المنفعة وهي غير زانية، لكن في حالة الجهل يجب مهر واحد، وإن تكرر الوطء وفي حالة العلم يتعدد، وإن وطئها مرة عالمًا وأخرى جاهلًا فمهران، كما سيأتي في الصداق، إلا أن تطاوعه عالمة بالتحريم كما يفهم من قوله الآتي إن علمت لا يجب مهر على الصحيح؛ لأنها زانية وقد نهى عن مهر البغي. والثاني: يجب لأنه لسيدها فلم يسقط بمطاوعتها كما لو أذنت في قطع يدها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 97) قال: " "وإن وطئ الغاصب الجارية المغصوبة مع العلم بالتحريم، أي: تحريم الوطء فعليه، أي: الغاصب الحد، أي: حد الزنا؛ لأنها ليست زوجة له، ولا ملك يمين، ولا شبهة تدرأ الحد، وكذا هي، أي: الجارية يلزمها الحد إن طاوعت على الزنا، وكانت من أهل الحد =
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ادْرَؤُوا الحدودَ بالشُّبهاتِ"
(1)
.
إذن هذا إنسان غصب جارية فولدت عنده هذا الولد (ولد الذي غصب) لكن تُردُّ الجارية مع ولدها وكلُّ ما يترتب على ذلك، وعليه مَهر مثلِها، والمهر يكون للسيدِ، فالعلماء اختلفوا فيما يتعلق بالمهر، هل هناك فرق بين أن يكون وطأها دون رضاها وبين أن يكون برضاها؟
فأما إن وطأها بغير رضاها فهذا لا خلاف فيه بين من اختلفوا في ذلك في أنه عليه المهر
(2)
، وأما لو وطأها برضاها فنرى خلافًا بين الشافعية والحنابلة؛ الحنابلة فيقولون
(3)
: يجب المهر، والمهر حق للسيد وليس حقًّا للجارية، فيجب أخذه على كلِّ الأحوال، حتى وإن طاوعته ورضيت.
=بأن كانت مكلفة غير جاهلة بالتحريم، وعليه، أي: الغاصب بوطئها مهر مثلها بكرًا إن كانت بكرًا كما صرَّح به الحارثي، وإلا فثيِّبًا".
(1)
عزاه السيوطي في "الجامع الكبير"(934) لابن عدي في جزء له من حديث أهل مصر والجزيرة عن ابن عباس. ورواه مسدد في مسنده عن ابن مسعود موقوفًا.
وقال الزيلعي في "نصب الراية"(3/ 333): غريب بهذا اللفظ.
لكن روي معناه عن عائشة: أخرجه الترمذي (1424) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"، وضعفه الألباني في "الإرواء"(2355).
وعن أبي هريرة: أخرجه ابن ماجه (2545) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعًا"، وضعفه الألباني في "الإرواء"(2356).
(2)
تقدَّم نقل أقوال العلماء في هذه المسألة.
(3)
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 97) قال: "عليه، أي: الغاصب بوطئها مهر مثلها بكرًا إن كانت بكرًا كما صرحَّ به الحارثي، وإلا فثيبًا ".
ولو كانت مطاوعة؛ لأنه حق للسيد فلا يسقط بمطاوعتها
…
وعلى الغاصب أيضًا أرش البكارة التي أزالها؛ لأنه جزء منها، ولأن كلا من المهر والأرش يضمن منفردًا، بدليل أنه لو وطئها ثيبًا وجب مهرها، ولو افتضها بإصبعه وجب أرش بكارتها، فلذلك يجب أن يضمنها إذا اجتمعا، ويأتي في النكاح أن أرش بكارة الحرة يندرج في مهرها، وعلى الغاصب ردها، أي: الجارية إلى سيدها لما تقدم أول الباب ".
وأما الشافعية فيقولون
(1)
: لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: "نَهى عن مهرِ البغيِّ "
(2)
؛ أي: المرأة الزانية.
قوله: (وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ إِذَا مَاتَتِ الْأُمُّ، فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مُخَيَّر بَيْنَ الْوَلَدِ وَقِيمَةِ الْأُمِّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَلْ يَرُدُّ الْوَلَدَ وَقِيمَةَ الْأُمِّ وَهُوَ الْقِيَاسُ).
يقول المؤلف: ليس هناك خلاف فيما مضى، لكن الخلاف فيما لو ولدت الأمُّ فماتت، هل يرد الولد وحده أو يرد الولد مع قيمة الأم؟
اختلف الفقهاء في ذلك: فالشافعي
(3)
، .........................
(1)
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 190 - 191) قال: "في حالة الجهل يجب مهر واحد وإن تكرر الوطء وفي حالة العلم يتعدد، وإن وطئها مرة عالمًا، وأخرى جاهلًا فمهران كما سيأتي في الصداق، إلا أن تطاوعه عالمة بالتحريم كما يفهم من قوله الآتي إن علمت لا يجب مهر على الصحيح؛ لأنها زانية وقد نهى عن مهر البغي.
والثاني: يجب لأنه لسيدها فلم يسقط بمطاوعتها كما لو أذنت في قطع يدها. وأجاب الأول بأن المهر وإن كان للسيد فقد عهدنا تأثره بفعلها كما لو ارتدت قبل الدخول ".
(2)
أخرجه البخاري (2237)، ومسلم (39/ 1567) عن أبي مسعود الأنصاري:"أن رسول الله رضي الله عنه نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن ".
(3)
يفرقون بين الحر، وبين العبد؛ ينظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 50 - 51) قال: "إن أحبل الغاصب أو المشتري منه المغصوبة
…
فإن انفصل حيًّا ضمنه كل منهما، أو ميّتًا بجناية فبدله وهو عشر قيمة أمه للسيد، أو بغيرها ضمنه كل منهما بقيمته يوم الانفصال
…
وإن جهل التحريم فحرٌّ من أصله، لا أنه انعقد قِنًّا، ثم عتق نسيب للشبهة، وعليه إذا انفصل حيًّا حياة مستقرة، قيمته بتقدير رقه لتفويته رقه بظنه، فإن انفصل ميِّتًا بجناية فعلى الجاني الغرة، وهي نصف عشر دية الأب، وعليه عشر قيمة أُمِّه لمالكها؛ لأنا نقدره قِنًّا في حقه
…
والغرة مؤجلة فلا يغرم الواطئ حتى يأخذها
…
أو بغير جناية لم يضمنه لعدم تيقن حياته، وفارق ما مر في الرقيق بأنه يدخل تحت اليد فجعل تبعًا للأم في الضمان، وهذا حرٌّ فلا يدخل تحت اليد
…
والعبرة بقيمته يوم الانفصال؛ لتعذر التقويم قبله، ويلزمه أرش نقص الولادة، ويرجع =
وأحمد
(1)
يقولان: برد الولد وقيمة الأم، ومالك
(2)
: يرى أنه مخيَّر بين الأمرين، وقريب من ذلك قول أبي حنيفة
(3)
.
= بها، أي: بقيمة الولد ومثله أرش قيمة الولادة المشتري على الغاصب؛ لأن غرمها ليس من قضية الشراء بل قضيته أن يسلم له الولد حرًّا من غير غرامة".
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 97) قال: "وإن تلفت الجارية فعليه، أي: الغاصب قيمتها، وإن ردها، أي: رد الغاصب الجارية حاملًا فماتت في يد المالك بسبب الولادة وجب ضمانها على الغاصب؛ لأنه أثر فعله، كما لو استردَّ الحيوان المغصوب وقد جرحه الغاصب، فسرى الجرح إلى النفس عند المالك فمات.
وتقدَّم قريبًا إذا ولدته ميتًا فلا ضمان إن لم يكن بجناية ويضمنه سقطًا بعشر قيمة أُمِّه ".
(2)
للمالكية تفصيل في ذلك: يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي (10/ 343): قال: "قال ابن القاسم وأشهب في المجموعة: إن ما ولدت الأمة المغصوبة من الغاصب أو غيره ممن ليس بمغرور بنكاح أو شراء فرقيقه لسيدها معها، قال أشهب: فإن شاء تركها وأخذ من الغاصب قيمتها يوم الغصب؛ لأن الولادة تنقصها، ومن مات من ولدها فإنه يضمنهم عند أشهب بقيمهم يوم ولدوا وإن ماتوا وماتت الأم لزمه عنده قيمتها وقيمة الولد يوم ولدوا، وإن ماتت الأثمُ وحدها أخذ الولد مع قيمتها وابن القاسم لا يضمنه من مات الولد، والأشهب قول يشبه قول ابن القاسم في الولد يموت، وذلك أنه أنكر قول من قال في الأَمَة تلد من المشتري: إن المستحق يأخذ قيمتها يوم أحبلها وقيمة ولدها، فأعاب هذا وقال: إذا لزمه قيمتها يوم الوطء صار الولد له بعد أن لزمته القيمة. قال ابن القاسم: وإذا هلكت وبقي الولد ولدته عند الغاصب: فإما أخذ ربها الولد ولا شيء له، أو يأخذ قيمتها يوم الغصب ولا شيء له في الولد".
(3)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 205) قال: "فماتت بالولادة، أي: بسببها لا على فورها. قال قاضي خان وماتت في الولادة أو في النفاس، فإن على قول أبي حنيفة إن كان ظهر الحبل عند المولى لأقل من ستة أشهر من وقت ردِّ الغاصب ضمن قيمتها يوم الغصب اهـ.
وقال في المواهب: عليه قيمتها يوم العلوق عند أبي حنيفة وقالا عليه نقص الحبل على الأصح اهـ شرنبلالية، قوله ضمن قيمتها، أي: وإن بقي ولدها ولا يجبر بالولد كما في الهندية؛ لأنه غصبها، وما انعقد فيها سبب التلف وردت، وفيها ذلك فلم يوجد الرد على الوجه الذي أخذ فلم يصحَّ الرد، فلا يبرأ عن الضمان، كما إذا جنت عنده فردها فقتلت بتلك الجناية، أو دفعت بها فيرجع عليه المالك بكلِّ القيمة كأنه لم يردها، قوله: يوم علقت كذا في الهداية والمجمع وغيرهما، وبحث فيه في=
قوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُتَوَلِّدًا عَلَى غَيْرِ خِلْقَةِ الْأَصْلِ وَصُورَتهِ).
فهو متولَّد لكن ليس على خلقته؛ كاللبن والدر والثمر، ونحو ذلك.
قوله: (فَفِيهِ قَوْلَان
(1)
؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْغَاصِبِ ذَلِكَ الْمُتَوَلِّدَ،
= اليعقوبية أنه ينبغي أن يكون يوم الغصب فراجعها ولوافقه ما قدمناه آنفا عن قاضي خان ".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 204) قال: "وزوائد المغصوب إلخ، ليس منها الأكساب الحاصلة باستغلال الغاصب فإنها غير مضمونة وإن استهلكها؛ لأنها عوض عن منافع المغصوب ومنافعه غير مضمونة عندنا كما يأتي فكذا بدلها كفاية، قوله أمانة لا تضمن إلا بالتعدي
…
قوله؛ لأنها أمانة مكرر مع ما في المتن، قوله: ولو طلب المتصلة لا يضمن؛ لأن دفعها غير ممكن فلا يكون مانعًا اهـ ح بقي ما لو طلبها مع الأصل بأن قال سلمني الجارية أو الدابة بعد الحسن أو السمن فمنعه ينبغي أن يضمنه كالأصل وليحرر رحمتي.
أقول: ذكر في المجمع أن الزيادة المتصلة لا تضمن بالبيع والتسليم. قال شارحه، أي: عند أبي حنيفة. أما المنفصلة فمضمونة اتفاقًا؛ لأنه بالتسليم إلى المشتري صار متعديًّا اهـ وفي الاختيار: وإن طلب المتصلة لا يضمن بالبيع للغير؛ لأن الطلب غير صحيح لعدم إمكان رد الزوائد بدون الأصل اهـ فحيث لم تضمن بالتسليم إلى المشتري لا تضمن بالمنع ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 448) قال: "وله غلة مغصوب مستعمل رجح حمله على العقار من دور ورباع، وأرض سكنها، أو زرعها، أو كراها دون الحيوان المستعمل الذي نشأ عن استعماله غلة ككراء الدابة، أو العبد، أو استعمالهما؛ لأنه مذهب المدونة فيضمن في العقار إذا استعمل، وإلا فلا ولا يضمن في الحيوان إلا ما نشأ من غير استعمال كلبن وصوف، والأرجح حمله على ظاهره من العموم، وظاهر قوله: وغلة مستعمل ولو فات المغصوب ولزمت القيمة فيأخذ الغلة وقيمة الذات، وهو قول مالك وعامة أصحابه وجمهور أهل المدينة وقال ابن القاسم لا كراء له إذا أخذ القيمة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (7/ 152) قال: "إن ماتت في يده ضمن جميع قيمتها أكثر ما كانت قيمة من وقت الغصب إلى وقت التلف وسقط عنه أرش البكارة ونقص الولادة لأنهما قد دخلا في ضمان أكثر القيم ولا يسقط عنه ضمان المهر والأجرة؛ لأنها بدل عن منفعة لا تتعلق بالقيمة ولو سلمها الغاصب إلى ربها حاملًا فماتت بعد التسليم نظر فإن كان موتها بغير الولادة فلا ضمان على =
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ مَعَ الشَّيءِ الْمَغْصُوبِ إِنْ كَانَ قَائِمًا أو قِيمَتُهَا إِنِ ادَّعَى تَلَفَهَا وَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قَوْلِهِ، فَإِنْ تَلِفَ الشَّيْءُ الْمَغْصُوبُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْغَلَّةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ وبِالْغَلَّةِ وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنَ الْقِيمَةِ، وَأَمَّا مَا كَانَ غَيْرَ مُتَوَلِّدٍ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ
(1)
).
غير المتولد الذي هو الكراء ونحوه هذا الذي ذكر فيه الأقوال الخمسة.
قوله: (وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ أيضًا).
=الغاصب؛ لأنه قد برئ من ضمانها بالتسليم، وإن ماتت من ولادتها ففي ضمان قيمتها على الغاصب قولان مبنيان على اختلاف قوليه في الزاني بالحرة إذا ماتت في ولادتها من زنا فهل يضمن ديتها:
أحدهما: يكون ضامنًا لقيممَها ودية الحرة لموتها بسبب منه هو متعديه.
والقول الثاني: لا ضمان عليه من قيمة ولا دية؛ لأن السبب قد انقطع حكمه بنفيه عنه فاقتضى أن ينقطعِ حكمه من تعلق الضمان به فأما إن مات ولدها بعد التسليم دونها لم يضمنه قولا واحدًا؛ لأن وطأه إياها لا يكون سببًا لموت من تلده منه ولكن لو نقصت قيمتها بولادته كان في ضمانه لنقصه قولان كالموت فهذا ما يتعلق بوطئه من الأحكام عند عدم الشبهة وهي تسعة الحد، ونفي النسب، ورق الأولاد، وضمانهم بالتلف، والمهر مع الإكراه وأرش البكارة، وأجرة المثل، ونقص الولادة، وضمان قيمتها بالموت قبل التسليم وبعده ".
ومذهب الحنابلة: ينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 97) قال: "وإن تلفت الجارية فعليه، أي: الغاصب قيمتها، وإن ردها، أي: ردّ الغاصب الجارية حاملًا فماتت في يد المالك بسبب الولادة وجب ضمانها على الغاصب؛ لأنه أثر فعله، كما لو استرد الحيوان المغصوب وقد جرحه الغاصب، فسرى الجرح إلى النفس عند المالك فمات ". وانظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 36).
(1)
هو قول للحنفية: يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 206) قال: "منافع الغصب استوفاها أو عطلها فإنها لا تضمن عندنا، ويوجد في بعض المتون ومنافع الغصب غير مضمونة إلى آخره ".
ومذهب ابن القاسم من المالكية، قال الدردير في "الشرح الكبير" (3/ 448):"وقال ابن القاسم لا كراء له إذا أخذ القيمة".
وهذا قول الإمامين الشافعي
(1)
، وأحمد
(2)
، وهو قول الجمهور
(3)
؛ لأنه -في هذه الحالة- لا فرق بين أن يكون متولَّدًا أو غير متولدٍ، وبين أن يكون متولَّدًا على نفس الصورة أو غيرها، هو شيء نتج عن ذلك المغصوب.
قوله: (وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إِنْ أَكْرَى، وَلَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إِفي انْتَفَعَ أو عَطَّلَ
(4)
).
(1)
يُنظر: "فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (1/ 277) قال: "ويضمن في غصب منفعة ما يؤجر؛ كدار ودابة بتقويتها وفواتها كأن يسكن الدار أو يركب الدابة أو لم يفعل ذلك؛ لأن المنافع متقومة كالأعيان سواء أكان مع ذلك أرش نقص أم لا، ويضمن بأجرة مثله سليمًا قبل النقص ومعيبًا بعده فإن تفاوتت الأجرة في المدة ضمنت كل مدة بما يقابلها أو كان للمغصوب صنائع وجب أجرة أعلاها إن لم يمكن جمعها وإلا فأجرة الجميع كخياطة وحراسة وتعليم قرآن ".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 303) قال: "ويلزم غاصبًا وغيره إذا كان بيده رد مغصوب زاد بيد غاصب أو غيره، بزيادته المتصلة كقصارة ثوب، وسمن حيوان، وتعلم قنّ صنعة، وبزيادته المنفصلة كولد بهيمة، وكذا ولد أمَةٍ حيث لا يحكم بحرِّيته، ويأتي وككسب رقيق؛ لأنه نوع نماء المغصوب، وهو لمالكه فلزم رده كالأصل ".
(3)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (448/ 3 - 449) قال: "وله غلة مغصوب مستعمل رجح حمله على العقار من دور ورباع، وأرض سكنها، أو زرعها، أو كراهًا دون الحيوان المستعمل الذي نشأ عن استعماله غلة ككراء الدابة، أو العبد، أو استعمالهما؛ لأنه مذهب المدونة فيضمن في العقار إذا استعمل، وإلا فلا ولا يضمن في الحيوان إلا ما نشأ من غير استعمال كلبن وصوف، والأرجح حمله على ظاهره من العموم وظاهر قوله وغلة مستعمل ولو فات المغصوب ولزمت القيمة فيأخذ الغلة وقيمة الذات، وهو قول مالك وعامة أصحابه وجمهور أهل المدينة
…
واحترز بمستعمل عمَّا إذا عطل كدار غلقها، وأرض بورها ودابة حبسها فلا شيء عليه ولا يخالف قوله فيما يأتي ومنفعة الحر، والبضع بالتفويت وغيرهما بالفوات؛ لأنه في غصب المنفعة وما هنا في غصب الذات فإذا غصب أرضًا وبورها، فإن قصد غصب الذات فلا كراء عليه، وإن قصد غصب المنفعة لزمه كراء مثلها".
(4)
وهو قول الجمهور، قالوا بالتفصيل فيها:
فمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 215) =
قال: "استعمل عبد الغير لنفسه بأن أرسله في حاجته، وإن لم يعلم أنه عبد، أو قال له ذلك العبد الذي استعمله: إني حرٌّ، ضمن قيمته إن هلك العبد عمادية، وفيها جاء رجل إلى آخر فقال: إني حرٌّ فاستعملني في عمل فاستعمله فهلك، ثم ظهر أنه عبد ضمنه، علم أو لم يعلم، هذا إذا استعمله في عمل نفسه، ولو استعمله لغير، أي: في عمل غيره لا ضمان عليه؛ لأنه لا يصير به غاصبًا، كقوله لعبد: ارقِ هذه الشجرة، وانثرِ المشمش لتأكله أنت، فسقط لم يضمن الآمر، ولو قال: لتأكله أنت وأنا ضمن قيمته كله؛ لأنه استعمله كله في نفعه".
غلام جاء إلى فصَّاد فقال: افصدني ففصده فصدًا معتادًا فغيره بالأولى، فمات من ذلك، ضمن قيمة العبد عافلة الفصاد، وكذلك الحكم في الصبي تجب ديته على عاقلة الفصاد عمادية.
ومذْهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 448) قال: "وله غلة مغصوب مستعمل رجح حمله على العقار من دور ورباع، وأرض سكنها، أو زرعها، أو كراهًا دون الحيوان المستعمل الذي نشأ عن استعماله غلة ككراء الدابة، أو العبد، أو استعمالهما؛ لأنه مذهب المدونة فيضمن في العقار إذا استعمل ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 337) قال: "ولو دفع إلى عبد غيره شيئًا ليوصله إلى بيته، بغير إذن مالكه كان غاصبًا له، قاله القاضي، وطرد ذلك فيما إذا استعمله في شغل، وفي فتاوى البغوي أنه لا يضمن إلا إذا اعتقد طاعة الأمر، وهذا أيضًا أوجه. قال البغوي: ولو أن الزوج بعث عبد زوجته في شغل دون إذنها ضمنه بكلِّ حال؛ لأن عبد المرأة قد يرى طاعة زوجها، فهو كالأعجمي في حقِّ الأجنبي. وسئل ابن الصلاح عن رجل أخاف مملوكًا لغيره بسبب تُهمةٍ فهرب لوقته، فأجاب بأنه لا يضمنه إن لم يكن نقله من مكان إلى مكان بقصد الاستيلاء".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 78) قال: "وإن استولى على حرَّ لم يضمنه بذلك، ولو كان صغيرًا؛ لأنه ليس بمال، ويأتي في الديات إن شاء الله تعالى بأوضح من ذلك، لكن تقدم في الباب قبله: إذا أبعده عن بيت أهله يلزمه رده ومؤنته عليه، ولا يضمن دابة عليها مالكها الكبير ومتاعه؛ لأنها في يد مالكها، نقله ابن رجب عن القاضي وجزم به في المنتهى
…
وإن استعمله، أي: الحرّ كبيرًا كان أو صغيرًا كرهًا، أو حبسه مدة، فعليه أجرته؛ لأن منفعته مال يجوز أخذ العوض عنها فضمنت بالغصب، كمنافع العبد، وإن منعه أي منع إنسان آخر العمل من غير حبس فلا ضمان عليه في منافعه، ولو كان الممنوع عبدًا؛ لأن منافعه فأتت تحت يده فلا يضمنها الغيرُ".
مثال ذلك: غصب غلامًا وأبقاه عنده، فهو لا يخلو من أمرين: إما أن يأجِّرَه، أي: يجعله يعمل بأجرة، فعلى هذا القول تُؤخَذ منه الأجرة.
وإما أن يتركه عنده: لكنه ربما يتركه عنده ويستخدمه في أعماله فهذا كأنَّه أجَّره، ولذلك فإنَّ الرأي الأظهر في هذا، هو رأي الذين يقولون بأن الجميع يرد وإلا لتجاوز الحد الغاصبون.
قوله: (وَالرَّابِعُ: يَلْزَمُهُ إِنْ أَكرَى أَوِ انْتَفَعَ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِنْ عَطَّلَ
(1)
، وَالْخَامِسُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالْأُصُولِ -أَعْنِي: أَنَّهُ يَرُدُّ قِيمَةَ مَنَافِعِ الْأُصُولِ، وَلَا يَرُدُّ قِيمَةَ مَنَافِعِ الْحَيَوَانِ-
(2)
).
الأصول؛ كالدَّار والأراضي هذه هي الأصول التي يشير إليها، وهي الأشياء الثابتة التي لها أصل ثابت لا تُنقَل، والحيوان المتنقل من البغال والحمير والإبل ويدخل في ذلك الآن السيارات التي تؤجَّر.
قوله: (وَهَذَا كلُّهُ فِيمَا اغْتُلَّ مِنَ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ مَعَ عَيْنِهَا وَقِيَامِهَا. وَأَمَّا مَا اغْتُلَّ مِنْهَا بِتَصْرِيفِهَا وَتَحْوِيلِ عَيْنِهَا، كَالدَّنَانِيرِ فَيَغْتَصِبُهَا فَيَتَّجِرُ بِهَا فيَرْبَحُ).
ما اغتُلَّ منها وهي قائمة كدار قائمة فيؤجِّرها، أو حيوان ولَدَ، أو بستان أثمر فالآن قد غيَّر فيها وبدَّل فأخذ هذه النقود وصرفها إلى نقود
(1)
تقدَّم نقل أقوال الفقهاء فيه فيما سبق، على التفصيل في القول الثالث.
(2)
وهو قول المالكية: يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 448) قال: "وله غلة مغصوب مستعمل رجح حمله على العقار من دور ورباع، وأرض سكنها، أو زرعها، أو كراهًا دون الحيوان المستعمل الذي نشأ عن استعماله غلة ككراء الدابة، أو العبد، أو استعمالهما؛ لأنه مذهب المدونة فيضمن في العقار إذا استعمل، وإلا فلا ولا يضمن في الحيوان إلا ما نشأ من غير استعمال كلبن وصوف، والأرجح حمله على ظاهره من العموم وظاهر قوله وغلة مستعمل ولو فات المغصوب ولزمت القيمة فيأخذ الغلة وقيمة الذات، وهو قول مالك وعامة أصحابه وجمهور أهل المدينة".
أخرى أو اشترى بها بضائع فربح فيها، فهل الربح يكون له أو يكون للمغصوب منه.
قوله: (فَالْغَلَّةُ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا فِي الْمَذْهَبِ)
(1)
.
أما جمهور العلماء
(2)
في هذه المسألة فيرون أن الغلَّة لصاحب الحقِّ، وهذه ليس له إلا السلع التي اشتراها الربح يكون لصاحب الحق، أي: المغصوب منه، أما الغاصب فله فقط قيمة ما اشتراه.
قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: الرِّبْحُ لِلْمَغْصُوبِ. وَهَذَا أيضًا إِذَا قَصَدَ غَصْبَ الْأَصْلِ).
وقع الخلاف؛ لأن الذين يقولون بأن الغلة إنما هي للغاصب، قالوا: لأن هذا مقابل الضمان، فهو عندما غصب بستانًا فيه غرلس فأثمر فهو ضامن لهذا البستان، فكأنه استغلال لهذه المنفعة مقابل الضمان، لكنَّ هذا قد تعدَّى وتجاوز الحدَّ وأخذ حقَّ غيرِه، فكيف يُقال بأن تلك الغلَّة إنما هي له ليست له في الحقيقة
(3)
.
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي " للدردير (3/ 446) قال: "ولا رد له فقال كنقرة، أي: قطعة ذهب، أو فضة وكذا قطعة نحاس، أو حديد غصبت وصيغت حليًّا، أو غيره فليس لربها أخذها، بل له مثل النقرة، والنحاس لفواتها بالصياغة".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 129) قال: "وإن غصب فضة أو ذهبًا فضربها دنانير أو دراهم أو دنانير أو آنية لم يزل ملك مالكها عنها عند أبي حنيفة". وانظر: "البناية شرح الهداية"(11/ 212).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 42) قال: "فلو غصب دراهم واشترى شيئًا في ذمته ثم نقدها في ثمنه وربح رد مثل الدراهم عند تعذر رد عينها فإن اشترى بالعين بطل ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 303) قال: "وضرب فضة دراهم أو حُليًّا ونحوهما كضرب ذهب ونحاس، وجعل طين غصبه لبنًا، أو آجرًا، أو فخارًا كجرار ونحوها، رده الغاصب وجوبًا معمولًا لقيام عين المغصوب فيه كشاة ذبحها".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"درر الحكام" لملا خسرو (2/ 264) قال: "وأجر مستعاره، =
قوله: (وَأَمَّا إِذَا قَصَدَ غَصْبَ الْغَلَّةِ دُونَ الْأَصْلِ فَهُوَ ضَامِن لِلْغَلَّةِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ عَطَّلَ أَوِ انْتَفَعَ أو أَكْرَى، كَانَ مِمَّا يُزَالُ بِهِ أو بِمَا لَا يُزَالُ بِهِ).
هذا ليس فيه خلافٌ بين العلماء؛ فلو أنَّ إنسانًا دخل بستانًا
= أي: إذا استعار شيئًا وأجَّره وأخذ أجره ملكه، ويجب عليه تصدقه لما ذكر، وربح، أي: تصدق أيضًا بربح حصل بالتصرف في مودعه ومغصوبه متعينًا بالإشارة أو الشراء بدراهم الوديعة أو الغصب ونقدها فإن أشار إليها ونقد غيرها أو إلى غيرها أو أطلق ونقدها لا يعني أن المودع أو الغاصب إذا تصرف في الوديعة أو المغصوب وربح يتصدق به عند أبي حنيفة ومحمد، وهذا واضح فيما يتعين بالإشارة إليه كالعروض ونحوها؛ لأن العقد يتعلق به حتى لو هلك قبل القبض يبطل البيع فيستفيد الرقبة واليد في المبجع يملك خبيث، فيتصدق به، أما فيما لا يتعين كالدراهم والدنانير فقد ذكر في الجامع الصغير إذا اشترى بها فإنه يتصدق بالربح فظاهر هذه العبارة يدل على أنه أراد به إذا أشار إليها ونقد منها، وأما إذا أشار إليها ونقد من غيرها أو أطلق ونقد منها أو أشار إلى غيرها ونقد منها ففي كل ذلك يطيب له؛ لأن الإشارة إليها لا تفيد التعيين فيستوي وجودها وعدمها إلا أن يتأكد بالنقد منها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 448) قال: "واحترز بمستعمل عما إذا عطل كدار غلقها، وأرض بورها ودابة حبسها فلا شيء عليه ولا يخالف قوله فيما يأتي ومنفعة الحر، والبضع بالتفويت وغيرهما بالفوات؛ لأنه في غصب المنفعة وما هنا في غصب الذات فإذا غصب أرضًا وبورها فإن قصد غصب الذات فلا كراء عليه، وإن قصد غصب المنفعة لزمه كراء مثلها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (38/ 4 - 39) قال: "الأيدي المرتبة على يد الغاصب عشرة
…
الثانية: يد مستأجر، وقد ذكرها بقوله: وفي إجارة يرجع مستأجر غرم المالك قيمة العين، والمنفعة على غاصب بقيمة عين تلفت بيده بلا تفريط، وجهل الحال؛ لأنه لم يدخل على ضمانها، بخلاف قيمة المنفعة فتستقر عليه؛ لدخوله على ضمانها، ويرجع غاصب غرم المالك العين والمنفعة عليه -أي: على مستأجر بقيمة منفعة؛ لأنه دخل على ضمان المنفعة دون العين، فإن ضمن المالك الغاصب العين أو المنفعة معا؛ رجع الغاصب على المستأجر بقيمة المنفعة، وإن ضمنها المستأجر؛ رجع على الغاصب بقيمة العين ".
لشخص، فحصد ما فيه من الزرع أو اقتطف ما فيه من الثمار، فإنَّه بذلك غصب الغلَّة فهذا لا خلاف بين العلماء
(1)
.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ مَنْ تَعَدَّى عَلَى دَابَّةِ رَجُلِ فَرَكبَهَا أو حَمَلَ عَلَيْهَا فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ فِي رُكُوبِهِ إِيَّاهَا وَلَا فِي حَمْلِهِ)
(2)
.
لو أخذ سيَّارة فركبها وحَمَل عليها فإنَّه ليس عليه شيء عند أبي حنيفة؛ لأنَّ عليه ضمان الأصل، فلو تعطَّلت هذه السيارة أو الدَّابَّة فإنَّه يضمنها لو تلفت كليًّا، أو يضمن ما تلف منها، والصحيح هو مذهب جمهور العلماء الذين قالوا بأن ذلك لا يجوز؛ لأن الغاصب متعدَّ، والمتعدي ينبغي أن يُردَع ويُوقَف عند حدَّه.
قوله: (لِأنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا إِنْ تَلِفَتْ فِي تَعَدِّيهِ، وَهَذَا قَوْلُهُ فِي كُلَّ مَا يُنْقَلُ وُبحَوَّلُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا رأى أَنَّهُ قَدْ ضَمَّنَهُ بِالتَّعَدِّي وَصَارَ فِي ذِمَّتِهِ جَازَتْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ كمَا تَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا اتَّجَرَ بِهِ مِنَ الْمَالِ
(1)
تقدَّم نقل أقوال الفقهاء في هذه المسألة.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (6/ 179 - 180) قال: "قوله وتحميل الدابَّة، أي: ولو مشتركة وكذا ركوبها، فيضمن نصيب صاحبها، ولو ركب فنزل وتركها في مكانها لم يضمن؛ لأن الغصب لم يتحقق بدون النقل كما في المحيط. وينبغي؛ أن يكون الاستخدام كذلك قهستاني. لكن إذا تلفت بنفس الحمل والركوب يضمن وإن لم يحولها لوجود الإتلاف بفعله كما يأتي، وكذا يضمن بيع حصته من الدابة المشتركة وتسليمها للمشتري بغير إذن شريكه كما في فتاوى قارئ الهداية أبو السعود وقدمه الشارح آخر الشركة عن المحبية (قوله: لإزالة يد المالك)، أي: واثبات اليد المبطلة فيهما منح (قوله: لعدم إزالتها)، أي: يد المالك؛ لأن البسط فعل المالك فتبقى يد المالك ما بقي أثر فعله، لعدم ما يزيلها بالنقل والتحويل تبيين وغيره، ومثله لو ركب الدابة ولم يزل عن مكانه معراج، فقول ح صوابه لإزالتها لا بفعل في العين اهـ فيه كلام وهو مبني على ما قدمه عن ابن الكمال (قوله: وكذا لو دخل إلخ) التشبيه في الضمان المقدر بعد قوله: ما لم يهلك بفعله فإن تقديره فيضمن (قوله وإن لم يحوله)، أي: يحول ما استعمله من العبد والدابة ".
الْمَغْصُوبِ)
(1)
.
القصد أنه لو حبس هذا المتاع عنده ففنِيَ فإنَّه سيضمنه، وإذن مقابل هذا لا ضمان عليه، فيما حصل من غلة أو ركوب أو غير ذلك.
قوله: (وَإِنْ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي اتَّجَرَ بِهِ تَحَوَّلَتْ عَيْنُهُ، وَهَذَا لَمْ تَتَحَوَّلْ عَيْنُهُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَلْ يَرُدُّ الْغَاصِبُ الْغَلَّةَ أَوْ لَا يَرُدُّهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي تَعْمِيمِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"الْخَرَاجُ بِالضَّمَان"
(2)
، وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "ليْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ
(1)
وهو قول الشافعية أيضًا، ونحوه للحنابلة:
فمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 452) قال: "أو غصب منفعة لذات من دابة، أو دار، أو غيرهما، أي: قصد بغصبه لذات الانتفاع بها فقط كالركوب، والسكنى، واللبس مدة، ثم يردها لربها، وهو المسمى بالتعدي، فتلفت الذات بسماوي فلا يضمن الذات، وإنما يضمن قيمة المنفعة، أي: ما استولى عليه منها؛ لأنها التي تعدَّى عليها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (7/ 147) قال: "ما ضمن أصله بالتعدي ضمنت زيادته في حال التعدِّي قياسًا على الصيد إذا زاد في يد المحرم ثم نقص ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (23/ 4) قال: "ولو أنه أبرئ؛ أي: أبرأه المالك مما يتلف بها -أي: بالبئر ونحوها-؛ لأن الغرض قد يكون غير خشية ضمان ما يتلف بها، وتصح البراءة منه. قال في "المغني"، و"الشرح ": لأن الضمان إنما يلزمه؛ لوجود التعدِّي، فإذا رضي ربّ الأرض زال التعدي، فيزول الضمان، وإنما صحَّت البراءة مما يتلف بالبئر مع أنها متضمنة لما لم يجب بعد؛ لوجود أحد السببين من حافر البئر، وكل منهما موجب للضمان، فالسبب الأول هو التعدي منه بحفره في أرض غيره عدوانًا.
والسبب الثاني هو الإتلاف، وليست هذه البراءة براءة مما سيجب، وإنما هي إسقاط المالك عن الغاصب التعدي برضاه، ولو منعه اليالك من الطم؛ لم يملك الغاصب طمها في هذه الصور؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه لغير غرض صحيح، ومنعه من الطم رضي بالحفر، فيكون بمنزلة إبرائه من ضمان ما يتلف بها".
(2)
أخرجه أبو داود (3510)، وابن ماجه (2243) عن عائشة، أن رجلًا، ابتاع غلامًا فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيبًا فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فردَّه عليه=
حَقّ"
(1)
. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم هَذَا خُرِّجَ عَلَى سَبَبٍ).
سبب الخلاف: حديثان ذكرهما المؤلف وهما:
قوله عليه الصلاة والسلام: "الخَراجُ بالضَّمان "، والآخر:"ليس لعِرقٍ ظالم حقّ ".
فالأول يُفهَم منه الخراج بالضمان أن هذه المنفعة التي يَأخُذها من عنده تكون مقابل ضمانه لها، وهذا الحديث له قصة جعلها العلماء قاعدة فقهية عظيمة، وفرَّعوا عليه كثيرًا من المسائل، وهي قاعدة:"الخراجُ بالضمان"
(2)
، وقصة هذا الحديث: أن رجلًا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى غلامًا وبقي عنده، وبعد مدَّة وجد فيه عيبًا، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بردَّه للعيب، فقام صاحبُه الذي باعه وقال: يا رسول الله إنه استعمله؛ (أي: أخَذ غلَّته)، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"الخراج بالضمان ".
وهذا لا ينطبق على ما قاله أبو حنيفة؛ فهذا اشترى عبدًا وتبيَّن له أنَّ به عيبًا فردَّه فكانت الغلَّة مقابل ضمانه له، لكن هذا إنسان غاصب تعدَّى وتجاوز الحدَّ وأخذ حقَّ غيره واستعمله بغير إذن شرعي، فكيف يقال له بأنه لا يُؤاخذُ؛ لأنه ضامن.
ويُستدلُّ بالحديث وليس فيه حجة، ويؤيِّد ذلك الحديث الآخر: "ليس
= فقال الرجل: يا رسول الله، قد استغل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الخراج بالضمان "، وحسنه الألباني في "الإرواء"(1315).
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
قال ابن الأثير: يريد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة عبدًا كان أو أمة أو ملكًا، وذلك أن يشتريه فيستغله زمانًا ثم يعثر منه على عيب قديم لم يطلعه البائع عليه، أو لم يعرفه، فله رد العين المبيعة وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغله، لأن المبيع لو كان تلف في يده لكان من ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء. والباء في بالضمان متعلقة بمحذوف تقديره الخراج مستحق بالضمان، أي: بسببه. انظر: "النهاية"(2/ 19).
لعرق ظالم حق "، وجاء: "ليس لعرق ظالم حق القصد"
(1)
، والمراد: إنما هو الظالم نفسه، وليس له حقّ، وفي رواية:"ليس لعرقٍ ظالم حق" بالتنوين، أي: لذي عرق ظالم حق، فالرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن بأن الغاصب المعتدي ليس له إلا الحجر، أما أن يأخذَ حقوق الناس ويستغلَّها ويقال مقابل الضمان فهذا ليس حقيقة بحجة، والاستدلال بالحديث الأول هو استدلال فى غير محلِّه؛ لأنَّ الحنفيَّة
(2)
تأوَّلوه، وما تأولوا به الحديث غير مسلَّم.
قوله: (وَهُوَ فِي غُلَامٍ قِيمَ فِيهِ بِعَيْبٍ، فَأَرَادَ الَّذِي صُرِفَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْمُشْتَرِي غَلَّتَهُ، وَإِذَا خُرِّجَ الْعَامُّ عَلَى سَبَبٍ هَلْ يُقْصَرُ عَلَى سَبَبِهِ أَمْ يُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ؟).
إذا جاء دليل عامٌّ من كتاب أو سنة فهل يقصر على سببه أو يتجاوز به؟ وهل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟
الأَوْلى: أن العبرة بعموم اللفظ ما لم يرد دليل يدلُّ على أن المراد هو قَصْرُه على السببِ ذاتِه
(3)
.
(1)
لم أقف عليه.
(2)
يُنظر: "الهداية" للمرغيناني (4/ 301) قال: "ومن غصب أرضًا فغرس فيها أو بنى قيل له اقلع البناء والغرس وردها لقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس لعرق ظالم حق "؛ ولأن ملك صاحب الأرض باق، فإن الأرض لم تصر مستهلكة والغصب لا يتحقق فيها، ولا بد للملك من سبب فيؤمر الشاغل بتفريغها، كما إذا شغل ظرف غيره بطعامه.
قال: فإن كانت الأرض تنقص بقلع ذلك فللمالك أن يضمن له قيمة البناء والغرس مقلوعًا ويكونان له؛ لأن فيه نظرًا لهما ودفع الضرر عنهما. وقوله قيمته مقلوعًا معناه قيمة بناء أو شجر يؤمر بقلعه؛ لأن حقه فيه؛ إذ لا قرار له فيه فتقوم الأرض بدون الشجر والبناء وتقوم وبها شجر أو بناء، لصاحب الأرض أن يأمره بقلعه فيضمن فضل ما بينهما".
(3)
قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
مذهب أكثر المالكية كما حكاه القرافي في "شرح تنقيح الفصول"(ص 216).
قوله: (فِيهِ خِلَافُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مَشْهُورٌ، فَمَنْ قَصَرَ هَاهُنَا هَذَا الْحُكْمَ عَلَى سَبَبِهِ، قَالَ: إِنَّمَا تَجِبُ الْغَلَّةُ مِنْ قِبَلِ الضَّمَافي فِيمَا صَارَ إِلَى الْإِنْسَانِ بِشُبْهَةٍ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا فَيَسْتَغِلَّهُ فَيَسْتَحِقَّ مِنْهُ. وَأَمَّا مَا صَارَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ وَجْهِ شُبْهَةٍ فَلَا تَجُوزُ لَهُ الْغَلَّةُ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ).
فرق بين صاحب الغلام عندما أخذ الغلام على أنه سليم من العيوب وعندما اشتراه لم يتراجع عن شرائه، لكن وقف فيه على عيب وهذا العيب مُخلٌّ به فطالب بالردِّ، أراد صاحبه أن يأخذ مقابل هذه المدة التي بقي عنده الغلام فيها واستغله، فأخبره الرسول- صلى الله عليه وسلم بأن مقابل ذلك أنه كان ضامنًا له، فلو هلك عنده فهو الذي يضمنه فهذا مقابل هذا.
قوله: (وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ، فَعَمَّمَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْأَصْلِ وَالْغَلَّةِ -أَعْنِي: عُمُومَ هَذَا الْحَدِيثِ- وَخَصَّصَ الثَّانِيَ).
مراد المؤلف: أن هذا الحديث عامٌّ ليس قاصرًا على المغصوب بنفسه، وإنما يشمل المغصوب وغلته، ليس لعرق ظالم حق، فقد ظلم عندما غصب هذه الأرض، وظلم عندما تعدَّى وغرس فيها غرسًا فاستغلَّ مالا يملكه.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ عَكَسَ الْأَمْرَ فَعَمَّمَ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: "الْخَرَاجُ بِالضَّمَان"
(1)
عَلَى أَكْثَرَ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي خُرح عَلَيْهِ، وَخَصَّصَ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام:"لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ"
(2)
بِأَنْ
= لكن نقل عن الإمام مالك القول بأن العبرة بخصوص السبب، نقله الإسنوي في "نهاية السول"(ص 219).
ويُنظر: "الأشباه والنظائر" للسبكي (2/ 134)، و، "الموافقات" للشاطبي (4/ 34) وما بعدها.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
جَعَلَ ذَلِكَ فِي الرَّقَبَةِ دُونَ الْغَلَّةِ، قَالَ: لَا يَرُدُّ الْغَلَّةَ الْغَاصِبُ. وَأَمَّا مِنَ الْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا فَالْقِيَاسُ أَنْ تَجْرِيَ الْمَنَافِعُ وَالْأَعْيَانُ الْمُتَوَلِّدَةُ مَجْرًى وَاحِدًا).
أحسنَ المؤلف في هذا القول: "مِنْ قَوْلِنَا فَالْقِيَاسُ "، وقصده القياس الذي يلتقي مع روح هذه الشريعة، فإن هذا القياس يقتضي ألا يُفرِّق بين الأصل وبين الغلة فهذا غصب لا يقتضيه القياس، والقصد بذلك القياس الصحيح الذي لا يُعارض النصوص، وإنما يلتقي معها.
قوله: (وَأَنْ يُعْتَبَرَ التَّضَمُّنُ أو لَا يُعْتَبَرَ).
هل يتضمن الجميع أو لا يتضمن؟ الصحيح أنه يُعتبر التضمن فإنَّه يتضمن الأصل وما نما عنه
(1)
.
قوله: (وَأَمَّا سَائِرُ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي بَيْنَ هَذَيْنِ فَهِيَ اسْتِحْسَانٌ).
وهذا أيضًا عملٌ ثانٍ حسنٌ من المؤلف رحمه الله، فهذه الأقوال استحسانٌ من أصحابها، فقد اجتهدوا فيها وعلَّلوا وقصدُهم بلا شك الخيرُ، ومعلومٌ أنَّه "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد"
(2)
.
لكن بشرط أن يكون أهلًا للاجتهاد، وأن لا يكون دافعه إلى هذا الاجتهاد هو الهوى أو غرس في نفسه يحقِّق له ما يريد.
قوله: (وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ اغْتَرَسَ نَخْلًا أو ثَمَرًا بِالْجُمْلَةِ وبنيانًا فِي كَيْرِ أَرْضِهِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْقَلْعِ)
(3)
.
(1)
تقدم نقل أقوال الفقهاء في هذه المسألة.
(2)
أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716/ 15) عن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".
(3)
مذهب الحنفية: ينظر: "الدر المختار" للحصكفي (6/ 194) قال: "ومن بنى أو غرس =
لأنه قد تعدَّى تعديًا صريحًا، فهو يأتي إلى أرض إنسان فيستولي عليها ويغرس فيها غرسًا ما عقوبته أن يقال: اقلع ما فعلت، ثم بعد ذلك يطالب أيضًا بتسوية ما فيه.
قوله: (لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ"
(1)
، وَالْعِرْقُ الظَّالِمُ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا اغْتُرِسَ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةً: قال عُرْوَة: وَلَقَدْ حَدَّثَنِي الَّذِي حَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ: "أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غَرَسَ أَحَدُهُمَا نَخْلًا فِي أَرْضِ الْآخَرِ، فَقَضَى لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِأَرْضِهِ، وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَتُضْرَبُ أُصُولُهَا بِالْفُؤُوسِ، وإِنَّهَا لنَخْلٌ عُمٌّ).
"نَخْل عمٌّ ": هي التامة في طولها والتفافها، وواحدتها: عَميمة، ومنه
= في أرض غيره بغير إذنه أمر بالقلع والرد لو قيمة الساحة أكثر كما مر".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 461) قال: "وإن زرع غاصب لأرض، أو لمنفعتها فاستحقت، أي: الأرض بمعنى: قام مالكها وليس المراد به الاستحقاق المعروف الذي هو رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله؛ إذ الكلام في الغاصب والمتعدي، فإن لم ينتفع بالزرع بأن لم يبلغ أحد الانتفاع به ظهر، أو لم يظهر أخذ بلا شيء في مقابلة البذر، أو العمل، وإن شاء أمره بقلعه، وإلا بأن بلغ حدَّ الانتفاع به، ولو لرعي فله، أي: للمستحق قلعه، أي: أمر ربه بقلعه وتسوية الأرض".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 42) قال: "وإن كانت الزيادة التي فعلها الغاصب عينًا كبناء وغراس كلف القلع وأرش النقص ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 299): قال: "وإن غرس غاصب أرض فيها أو بنى فيها أخذ أي: ألزم بقلع غراسه أو بنائه ".
(1)
الحديث هكذا مرسلًا، أشار إليه الترمذي عقيب (1378)، وتقدم تخريجه موصولًا.
قيل للمرأة: عميمة إذا كانت كذلك في خلقها
(1)
.
قوله: (حَتَّى أُخْرِجَتْ مِنْهَا"
(2)
).
هذا حديث صحيح، وهو تطبيق عملي حصل في زمن رسول صلى الله عليه وسلم، بيَّن فيه عليه الصلاة والسلام عن طريق القول والعمل: فالقول هو: "ليس لعرق ظالم حق "، ثم هذا تطبيق عمليٌّ لهذا الرجل الذي غصب أرضَ غيره فغرس فيها فكانت نخلًا طوالًا عُمُّ، أي: كاملة، ومع ذلك أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم بقلعها فكانت تُضرب بالفُؤوس.
قوله: (إِلَّا مَا رُوِيَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ "أَنَّ مَنْ زَرَعَ زَرْعًا فِي أَرْضِ غَيْرِهِ وَفَاتَ أَوَانُ زِرَاعَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَقْلَعَ زَرْعَهُ، وَكَانَ عَلَى الزَّارعِ كِرَاءُ الْأَرْضِ"
(3)
. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مَا يُشْبِهُ قِيَاسَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ
(4)
).
قصده في هذه المسألة الزرع غير الغرس، لو أنَّ إنسانًا أخذ أرضًا من الناس ثم زرع فيها زرعًا، كالذرة أو الحنطة أو غيرها، ثم بعد ذلك قلع ذلك الزرع، فلمن يكون ذلك الزرع؟
وسيأتي في الحديث بأن الزرع إنما لصاحب الأرض وليس للزارع إلا أن يأخذ النفقة، لكنَّ هذا الغاصب لو أخذ الثمرة قبل أن يأتي المالك
(1)
قال ابن الأثير في "النهاية"(3/ 301)؛ "لنخل عم "، أي: تامَّة في طولها والتفافها، واحدتها: عميمة، وأصلها: عمم، فسكن وأدغم.
(2)
أخرجه أبو داود (3074) وحسنه الألباني في "الإرواء"(1520).
(3)
قال ابن رشد الجد في "البيان والتحصيل"(9/ 5): "قال سحنون: أخبرني ابن القاسم، قال: سمعت مالكًا يقول: من تكارى أرضًا ثلاث سنين يزرعها فزرع سنة أو سنتين ثم استقال صاحبه فأقاله وفيها زرع لم يبلغ صلاحه، فأراد صاحب الأرض أن يقلع زرعه، قال: ليس ذلك له، ولكن يقرّ زرعه ويسقي من الماء ما يصلحه حتى يدرك ويحسب ذلك عليه من حساب الثلاث سنين وكرائها".
(4)
تقدَّم ذكر أقوال الفقهاء في ذلك.
وقبل أن يُردَّ إليه حقُّه، فأكثر العلماء يقولون: لا؛ لأن ذلك إنما هو من فعله، وهو مَن أحضر البذر وزرعه في تلك الأرض.
قوله: (وَعَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ كلَّ مَا لَا يَنْتَفِعُ الْغَاصِبُ بِهِ إِذَا قَلَعَهُ وَأَزَالَهُ أَنَّهُ لِلْمَغْصُوبِ، يَكُونُ الزَّرْعُ عَلَى هَذَا لِلزَّارعِ. وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ فَقَالُوا: الزَّارعُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ لَهُ نَفَقَتُهُ وَزَرِيعَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ كَثيرٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ).
هؤلاء قالوا إذا زرع الغاصب زرعًا في أرض؛ فإن الزرع يكون لصاحب الأرض؛ أي: المالك، وللغاصب له فقط نفقته.
قوله: (وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَرُوِيَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام:"مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَلَهُ نَفَقَتُهُ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيءٌ"
(1)
).
هذا الحديث نصٌّ في هذه المسألة، فيؤخذ به، وليس له من الزرع شيء، لكن له نفقته التي أنفقها، والمالك سيستفيد بأخذ ذلك الزرع.
قوله: (وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَضَاءِ فِيمَا أَفْسَدَتْهُ الْمَوَاشِي وَالدَّوَابُّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ دَابَّةٍ مُرْسَلَةٍ فَصَاحِبُهَا ضَامِن لِمَا أَفْسَدَتْهُ
(2)
.
(1)
أخرجه أبو دا ود (3403)، والترمذي (1366) وقال:"حسن غريب "، وصححه الألباني في "الإرواء"(1519).
(2)
وهو مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 608 - 609) قال: "ومن أرسل بهيمة أو كلبًا ملتقى، وكان خلفها سائقا لها فأصابت في فورها ضمن؛ لأنه الحامل لها، وإن لم يمشِ خلفًا فما دامت في دورها فسائق حكمًا، وإن تراخى انقطع السوق فالمراد بالسوق المشي خلفها والمراد بالدابة الكلب زيلعي ".
وقال ابن عابدين في "الحاشية"(6/ 612): "ولو أرسل بهيمة فأفسدت زرعًا على فورها ضمن المرسل، وإن مالت يمينًا أو شمالًا وله طريق آخر لا يضمن لما مر اهـ، قوله وتمامه في البزازية: من ذلك ما قدمناه آنفًا، ومنه قوله سائق حمار =
وَالثَّانِي: أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ
(1)
. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى أَرْبَابِ الْبَهَائِمِ بِاللَّيْلِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَفْسَدَتْهُ بِالنَّهَارِ
(2)
. وَالرَّابِعُ: وُجُوبُ
=الحطب إذا لم يقل إليك، إنما يضمن إذا مشى الحمار إلى جانب صاحب الثوب، لا في عكسه وهو يراه ولم يتباعد عنه ووجد فرصة الفرار".
(1)
وهو مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (6/ 608) قال: "وإن أرسل طيرًا ساقه، أو لا، أو دابة، أو كلبًا ولم يكن سائفا له، أو انفلتت دابة بنفسها فأصابت مالًا أو آدميًا نهارًا أو ليلًا لا ضمان في الكل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "العجماء جبار"، أي: المنفلتة هدر، كما لو جمحت الدابة به، أي: بالراكب، ولو سكران ولم يقدر الراكب على ردها فإنه لا يضمن كالمنفلتة؛ لأنه حينئذٍ ليس بمسير لها، فلا يضاف سيرها إليه حتى لو أتلفت إنسانًا فدمه هدر عمادية".
(2)
وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة:
مذهب المالكية، يُنظر:"عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 480) قال: "ومن أرسل ماشية في النهار للرعي، فأتلفت زرغا أو غيره، فلا ضمان عليه، وإن كان ربها معها، وهو قادر على منعها، فلم يفعل فهو ضامن
…
وإن انفلتت ليلاً، أو أرسلها ربها مع قدرته على منعها، فأفسدت شيئًا، فربها ضامن لما أتلفت ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 206 - 207) قال: "وإن كانت الدابة وحدها وقد أرسلها في الصحراء
…
فاتلفت زرعًا أو غيره نهارًا لم يضمن صاحبها، أي: من يده عليها بحق كوديع أو أجير أو غيره كغصب
…
أو ليلًا ضمن للحديث الصحيح بذلك الموافق للعادة الغالبة في حفظ نحو الزرع نهارًا والدابة ليلًا
…
أما لو أرسلها في البلد فيضمن مطلقًا خلافًا لما اقتضاه كلامهما في الدعاوى لمخالفته العادة، وقضيته أن العادة لو اطردت به أدير الحكم عليها أيضًا كالصحراء إلا أن يفرق بغلبة ضرر المرسلة بالبلد فلم تقوَ فيها العادة على عدم الضمان
…
واستثنى من عدم الضمان نهارًا المذكور في المتن ما إذا توسطت المراعي المزارع فأرسلها بلا راع فإنه يضمن ما أفسدته ليلًا أو نهارًا؛ لأن العادة حينئذٍ أنها لا ترسل بلا راع، ومن ثم لو اعتيد إرسالها بدونه فلا ضمان كما صرحوا به
…
وما لو تكاثرت فعجز أصحاب الزروع عن ردها فيضمن أصحابها
…
وما لو ربط دابة بطريق فيضمن متلفها نهارًا، وإن اتسع الطريق ما لم يأذن له الإمام في الواسع وما لو أرسلها في موضع مغصوب فانتشرت منه لغيره وأفسدته فيضمنه مرسلها ولو نهارًا".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 330) قال: "ويضمن ربها أي: الدابة ومستعير ومستأجر ومودع ما أفسدت من زرع وشجر وغيرهما كثوب خرقته أو مضغته فنقص، أو وطئت عليه ونحوه ليلًا فقط نصًّا. لحديث مالك عن الزهري عن حزام بن سعد عن محيصة أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت،=
الضَّمَان فِي غَيْرِ الْمُنْفَلِتِ وَلَا ضَمَانَ فِي الْمُنْفَلِتِ
(1)
. وَمِمَّنْ قَالَ: يُضَمَّنُ بِاللَّيْلِ وَلَا يُضَمَّنُ بِالنَّهَارِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ).
=فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم "
…
ولأن عادة أهل المواشي إرسالها للرعي وحفظها ليلًا، وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً، إن فرط من هي في يده في حفظها بأن لم يضمنها بحيث لا يمكن الخروج. فإن فعل فاخرجها غيره أو فتح عليها بابها فعليه الضمان دون مالكها لتسببه. ولا يضمن ما أفسدت نهارًا للخبر".
(1)
وهو مذهب الجمهور:
فمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (6/ 608) قال: "وإن أرسل طيرًا ساقه أو لا أو دائة أو كلبًا، ولم يكن سائقا له أو انفلتت دابة بنفسها فأصابت مالًا أو آدمِيا نهارًا أو ليلًا لا ضمان في الكل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "العجماء جبار"، أي: المنفلتة هدر، كما لو جمحت الدابة به، أي: بالراكب ولو سكران، ولم يقدر الرأكب على ردها فإنه لا يضمن كالمنفلتة؛ لأنه حينئذٍ ليس بمسير لها، فلا يضاف سيرها إليه حتى لو أتلفت إنسانًا فدمه هدر عمادية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب المالكي (ص 480) قال: "وإن انفلتت ليلًا، أو أرسلها ربها مع قدرته على منعها، فأفسدت شيئًا، فربها ضامن لما أتلفت ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 542) قال: "أفهم قول المصنف مع دابة أنها إذا تفلتت وأتلفت شيئًا لا ضمان وهو كذلك لخروجها عن يده، وأورد على قوله من كان مع دابة ما إذا كانت معه في مسكنه فدخل فيه إنسان فرمحته أو عضته فلا ضمان، فلو قال في الطريق لم يرد، وأورد على قوله: نفسًا ومالًا صيد الحرم والإحرام وشجر الحرم فإنه يضمنه وليس نفسًا ولا مالًا، ورد بأنه لا يخرج عنهما وهو لم يقل لآدمي فلا يرد ذلك، ويستثنى من إطلاقه صور
…
سادسها: لو كان مع الدواب راع فهاجت ريح وأظلم النهار فتفرقت الدواب ووقعت في زرع فأفسدته فلا ضمان على الراعي في الأظهر للغلبة كما لو ند بعيره أو انفلتت دابته من يده فأفسدت شيئًا".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (89/ 4) قال: " ولو انفلتت دابة ممن هي بيده، فأفسدت شيئًا؛ فلا ضمان على أحد؛ لحديث: "العجماء جرحها جبار"، وتقدم فلو استقبلها إنسان، قردها؛ ضمن.
هذا قياس قول الأصحاب قاله الحارثي، ويتجه أن راد الدابة يضمن ما أتلفه إن ردها من عند نفسه، لا إن ردها بأمر ربها، فإن ردها بأمر ربها ليمسكها؛ فلا ضمان عليه؛ لأنه محسن. وهو متجه ".
وبه قال أحمد، فجمهور العلماء
(1)
فرَّقوا بين الليل والنهار؛ لأنَّ أصحاب الدوابِّ مسؤولون عن حفظها وصيانتها ليلًا، ولكنها في النهار إما أن تنفلت تبحث عن الرعي، هاما في العمل لحاجة أصحابها؛ لأن هذه الدواب يطلقونها أو يستفيدون منها بالعمل لكن عليهم أن يحفظوها ليلًا، فلو أنها ذهبت ليلًا فدخلت بستانًا لأحد وأفسدت ما فيه فإنهم يضمنون ذلك؛ لأن عليهم حفظها في الليل كما جاء في الحديث.
قوله: (وَبِأَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ أَصْلًا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ)
(2)
.
كل واحد من العلماء له دليل، لكن قد يكون دليل أحد الفريقين قويّ، ويكون الفريق الآخر له تعليل في دليل، وهذا التعليل يكون ضعيفًا، وهنا سيأتي الخلاف في هذه المسألة.
ورد حديثان: حديث متفق عليه، وحديث آخر مرسل لكنه صحيح ومع ذلك نرى أن الجمهور أخذوا بذلك المرسل الصحيح، ولم يأخذوا بذلك الحديث المتفق عليه؛ لأن بعضهم رأى أن لا تعارض بينهما، أو أنهم رأوا أن هذا في أمر، وهذا في أمر آخر.
قوله: (وَبِالضَّمَان بِإِطْلَاقٍ قَالَ اللَّيثُ، إِلَّا أَنَّ اللَّيثَ قَالَ: لَا يُضَمَّنُ أَكثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمَاشِيَةِ)
(3)
.
الليث يرى أنَّ فيها الضمان، لك قيد ذلك بألا يتجاوز الضمان قيمة هذه الدابة التي أُتلفت.
(1)
تقدم نقله عنهم.
(2)
تقدم نقله عنهم.
(3)
نقله عنه الطحاوي في "مختصر اختلاف العلماء"(212/ 5)، وابن حزم في "المحلى"(11/ 4)، وابن عبد البر في "الاستذكار" (7/ 207):"قال الليث: يضمن بالليل والنهار، ولا يضمن أكثر من قيمة الماشية".
قوله: (وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، فَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيَّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْئَان: أَحَدُهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78]).
هذه قضية حدثت في زمن نبي الله داود وسليمان عليهما السلام، فإن غنمًا نفشت؛ أي: انتشرت في الليل، فدخلت أرضا فيها حرث لأقوام فأكلت ما فيها من الزرع، وجاء في بعض الروايات
(1)
: أنه كرم؛ أي: عنب فأكلت جميع ما كان في البستان فذهبوا إلى داود عليه السلام ليحكم بينهم فكان حكمه: أن تسلم الغنم لأصحاب الحرث مقابل ذلك، أما سليمان فقيل: أنه ذكر بحضور والده، أو لما خرج أصحاب أولئك الغنم فقال: أرى أن تسلم الماشية لأصحاب الحرث ينتفعون بها وتبقى في أيديهم ويسلم الحرث لأصحاب الغنم يقومون عليه بالإصلاح والرعاية فإنما عاد إلى حالته الأولى، سلم البستان لأهله والغنم لأصحابها
(2)
.
النفش لا يكون إلا بالليل أما في النهار يقال له: طوعًا.
قوله: (وَالنَّفْشُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّيْلِ
(3)
، وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّا مُخَاطَبُونَ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا).
هذه قاعدة أصولية: هل شرع من قبلنا شرع لنا؟
وهناك أحكام كثيرة وردت في كتاب الله عز وجل في سورة المائدة وغيرها، فهل الأحكام التي كانت في الأمم السابقة تكون لنا أيضًا ويذكرها الله سبحانه وتعالى في معرض ذكره لأولئك الأقوام أن تكون حكمًا مستقرًا؟،
(1)
أخرجه الطبري في "التفسير"(18/ 474 و 475)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 643)، وإسناده ضعيف.
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(18/ 476 - 477).
(3)
قال الهروي: النفش: الرعي بالليل، يقال: نفشت السائمة بالليل، وهملت بالنهار إذا رعت بلا راع. انظر:"الغريبين في القرآن والحديث"(6/ 1872).
هل أرادها في شريعتنا فتكون حكمًا ملزمًا لنا، أو لا تكون؟، هذا مما يختلف فيه العلماء أو لا بد من وجود دليل على أننا مطالبون بهذا
(1)
.
قوله: (وَالثَّانِي: مُرْسَلُهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ "أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطَ قَوْمٍ فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ حِفْظَهَا، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْهُ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا"
(2)
، أَيْ: مَضْمُونٌ).
هذا نصّ في المسألة، وحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسل، فهل كونه مرسلًا يقدح فيه، هو مرسل صحيح وقد تكلم عنه الإمام الشافعي وصححه غيره من الأئمة، وقال الإمام الشافعي -عندما أراد أن يجمع بينه وبين حديث "العجماء جرحها جبار"
(3)
.
قال: إن هذا الحديث أُريد به الخصوص من الأصل، فقد جاء بلفظ عام أريد به الخصوص، ومعلوم أن هناك عامًّا مخصوصًا، يأتي عامًّا ثم يُخصُّ، وهناك عامًّا أُريد به الخصوص.
قوله: (وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ"
(4)
).
(1)
هذه القاعدة مختلف فيها بين أهل العلم على قولين، وقال بكل قول طائفة من أهل العلم:
فالقول الأول: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه في شرعنا، والثاني: ليس بشرع لنا؛ لقيام الدلالة على نسخه. انظر: "المستصفى"(ص 165)، و، "الإحكام" للآمدي (4/ 137).
(2)
أخرجه مالك في "الموطإ"(37) واللفظ له، وأبو داود (3570) وصححه الألباني في "الصحيحة"(238).
(3)
أخرجه البخاري (6912)، ومسلم (1710/ 450) عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس ".
(4)
تقدم تخريجه.
العجماء: هي البهيمة
(1)
، و"جبار" يعني: هدرًا
(2)
، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال:"العجماء جرحها جبار"، فما يترتب عليها من فعل تلف وغيره فإنَّه مهدر؛ لأنها لا تعقل ولا تدرك، لكن لو أن قائدها يركبها فحكمها يتغير، فهو الذي يطالب بذلك، وفي الحديث الآخر رأينا أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أصحاب الدواب أن يُحافظوا عليها ليلًا، فإن لم يحافظوا عليها ليلًا وأطلقوها، فإنهم يكونون ضامنين لما تتلف، وأما بالنسبة للنهار فالضمان على أصحاب البساتين؛ لأن عليهم أن يقوموا بحفظها ورعايتها.
قوله: (وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ
(3)
: وَتَحْقِيقُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُضَمَّنُ إِذَا أَرْسَلَهَا مَحْفُوظَةً، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُرْسِلْهَا مَحْفُوظَةً فَيُضَمَّنُ).
هذا كل ما يتعلق بالعجماء، ورأينا أن المؤلف قصر حديثه فيها فيما أرسلت ليلًا تركت فإن الضمان على أهلها، وأما لو كانت نهارًا فإنَّه على أهل تلك المزارع.
قوله: (وَالمَالِكِيَّةُ تَقُولُ: مِنْ شَرْطِ قَوْلِنَا أَنْ تَكُون الْغَنَمُ فِي الْمَسْرَحِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِي أَرْضِ مَزْرَعَةٍ لَا مَسْرَحَ فِيهَا، فَهُمْ يُضَمَّنُونَ لَيْلًا وَنَهَارًا
(4)
. وَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى الضَّمَانَ فِيمَا أَفْسَدَتْ لَيْلًا وَنَهَارًا شَهَادَةُ الْأُصُولِ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَدٍّ مِنَ الْمُرْسَلِ، وَالْأُصُولُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُتَعَدَّي الضَّمَانَ
(5)
. وَوَجْهُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُنْفَلِتِ وَغَيْرِ الْمُنْفَلِتِ بَيِّن، فَإِنَّ الْمُنْفَلِتَ لَا يُمْلَكُ
(6)
).
(1)
العجماء: البهيمة، سميت به؛ لأنها لا تتكلم، وكل ما لا يقدر على الكلام فهو أعجم ومستعجم. انظر:"النهاية" لابن الأثير (3/ 187).
(2)
جبار: أي هدر. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 20).
(3)
انظر: " شرح معاني الآثار"(3/ 254 - 205)، و"مشكل الآثار"(15/ 465 - 466).
(4)
ويعبرون عن المسرح بالرعي، وكلاهما صحيح بالنسبة للمعنى، وقد تقدم نقل قولهم في هذه المسألة.
(5)
تقدم نقل أقوال من قال بهذا.
(6)
تقدم نقل أقوال من قال بهذا.
وهذا نسبه المؤلف إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد رأينا أنه ورد حديث نصٌّ في هذه المسألة.
قوله: (فَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْبَابِ مُعَارَضَةُ الْأَصْلِ لِلسَّمْعِ، وَمُعَارَضَةُ السَّمَاعِ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ).
السمع: يقصد به الأدلة التي وردت
(1)
.
قوله: (أَعْنِي: أَنَّ الْأَصْلَ يُعَارِضُ "جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ"، وَيُعَارِضُ أيضًا التَّفْرِقَةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَكَذَلِكَ التَّفْرِقَةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ تُعَارِضُ أيضًا قَوْلَهُ: "جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ").
حديث البراء الذي فيه أن أهل المزارع أرسلوا، أن أهل الدواب التي أرسلوها ليلًا عليهم ضمانها.
(وَمِنْ فسَائِلِ هَذَا الْبَابِ الْمَشْهُورَةِ اخْتِلَافُهُمْ فِي حُكْمِ مَا يُصَابُ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ)
(2)
.
(1)
الأدلة السمعية من أدلة الفقه، وهي أقسام: نص الكتاب، ونص السنة، والإجماع، ومستند. انظر:"البرهان في أصول الفقه" للجويني (1/ 8)، و"كشف الأسرار شرح أصول البزدوي" لعبد العزيبز البخاري الحنفي (1/ 84).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (6/ 609 - 610) قال: "وضمن في فقء عين دجاجة أو شاة قصاب أو غيره ما نقصها؛ لأنها للحم، وفي عينيها يخير ربها إن شاء تركها على الفاقئ وضمنه قيمتهما، أو أمسكها وضمنه النقصان زيلعي.
وفي عين بقرة جزار وجزوره، أي: إبله فائدة الإضافة عدم اعتبار الإعداد للحم في الحكم الآتي ابن كمال، وحمار وبغل وفرس ربع القيمة؛ لأنه إقامة العمل، إنما يمكن بأربع أعين وعيناها وعينا مستعملها فصارت كأنها ذات أعين أربع ".
ومذهب المالكية: ينظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 628) قال: "ولا تضمن الجنايات على البهائم بشيء يقدر في قيمتها
…
فدليلنا أنها جناية على بهيمة فلم يضمن بذلك كقطع يدها، ولأنه حيوان لم يضمن أطرافه بمقدر كالشاة".=
قد يصيب الحيوانَ إنسان، وربما أصابه في مقدمته، وهذا له حكم، وربما أصابه في رجله وعليه قائده، وربما يكون إصابه وليس عليه قائد، وما يتعلق بالمزارع فيما يخص أصحاب تلك الدواب التي يطلقوها ليلًا، فإذا حصل في نفس البهيمة عيبٌ كأن تكون فُقئت عينها أو قطعت رجلها المهم أنه تُعدَّي عليها فما الحكم؟
هذه المسألة تتعلق فيما لو تُعدِّي على حيوان فأعطب جزءٌ منه فما الحكم في ذلك؟
قوله: (فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَضَى فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ بِرُبْعِ ثَمَنِهَا)
(1)
.
قضى بربع عين الدابة، وأُثر عن عمر رضي الله عنه أنه قضى بنصفها، وأنه لما نظر ووجد الدابة لم تتأثر من حيث عملها وقوتها عاد مرة أخرى إلى الربع
(2)
، وأيضًا كتب بذلك القاضي شريح بأن يحكم بمثل
=ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (7/ 139 - 140) قال: "إن كان بهيمة فإنه يردها ويرد معها نقص ما بين قيمتها سليمة وناقصة وسواء كان النقص بجناية أو حادثة وسواء كانت البهيمة ذات ظهر أو در".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 91) قال: "وإن كان المغصوب دابة، ونقصت بجناية، أو غيرها ضمن الغاصب ما نقص من قيمتها، ولو كان النقص بتلف إحدى عينيها، أي: الدابة فيغرم أرش نقصها فقط؛ لأنه الذي فوته على المالك، وما روى زيد بن ثابت "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في عين الدابة بربع قيمتها"، وروي عن عمر، قال في المبدع: لا نعرف صحته، بدليل احتجاج أحمد بقول عمر دونه، مع أن قول عمر محمول على أن ذلك كان قدر نقصها، ولو كان تقدير الواجب في العين نصف الدية، كعين الآدمي".
(1)
روي عنه من طرق صحيحة وضعيفة، أصحها ما: أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 402) عن أبي المهلب، عن عمر، قال:"في عين الدابة ربع ثمنها". ورجاله ثقات.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(10/ 77) عن الشعبي أن عمر: "قضى في عين جمل أصيب بنصف ثمنه "، ثم نظر إليه بعد فقال:"ما أراه نقص من قوته، ولا من هدايته شيء، فقضى فيه بربع ثمنه ". وإسناده ضعيف.
ذلك
(1)
، وهو أيضًا قول الإمام الشعبي من التابعين
(2)
.
وقد قضى بذلك عمر بن عبد العزيز صلى الله عليه وسلم
(3)
، وهي أيضًا رواية للإمام أحمد
(4)
، إذن القول الأول فيمن تعدَّى على دابة وذكر مثالًا لذلك فيمن فقع عينها فما الحكم؟
أُثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "فيها ربع قيمتها"
(5)
، وجمهور العلماء على خلاف ذلك: يرون القيمة على الأصل الذي مرَّ بنا في الغصب بأن مَن أتلف مال غيره بأن فيه قيمته
(6)
.
قوله: (وَكتَبَ إِلَى شُرَيْحٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ
(7)
، وَبِهِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ،
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 394) عن الشعبي، عن شريح قال:"كتب إلي عمر بخمس من صوافي الأمراء، أن الأسنان سواء، والأصابع سواء، وفي عين الدابة ربع ثمنها، وعن الرجل يسأل عن ولده عند موته فأصدق ما يكون عند موته، وعن جراحات الرجال، والنساء سواء، إلى الثلث من دية الرجال ". وإسناده ضعيف.
وقال البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 162): ورواه مجالد عن الشعبي قال: كتب عمر صلى الله عليه وسلم إلى شريح، وهو منقطع.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 402) عن الشعبي، قال:"في عين الدابة ربع ثمنها".
(3)
لم أقف عليه.
(4)
قال المرداوي في "الإنصاف"(6/ 151): "ويتخرج أنه يضمنه بأكثر الأمرين منهما، وانفرد المصنف بهذا التخريج هنا. قاله الزركشي عنه في عين الدابة من الخيل، والبغال، والحمير ربع قيمتها. نصرها القاضي، وأصحابه. قال الزركشي: وهو المشهور عن الإمام أحمد رحمه الله. فقال القاضي في روايتيه وأبو الخطاب، والمصنف، والمجد، والشارح، وغيرهم: الخلاف في عين الدابة من الخيل، والبغال، والحمير. وقدمه في الفروع وغيره. قال الزركشي: ونصوص الإمام أحمد رحمه الله على ذلك. وقال في الفروع: وخص في الروضة هذه الرواية بعين الفرس. وجعل في عين غيرها ما نقص. والإمام أحمد إنما قال في عين الدابة". انتهى.
(5)
تقدَّم تخريجه.
(6)
تقدَّم نفله عنهم.
(7)
تقدَّم تخريجه.
وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(1)
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ
(2)
: يَلْزَمُ فِيمَا أُصِيبَ مِنَ الْبَهِيمَةِ مَا نَقَصَ فِي ثَمَنِهَا قِيَاسًا عَلَى التَّعَدِّي فِي الْأَمْوَالِ).
وهي رواية أخرى عن الإمام أحمد
(3)
.
فلو تعدى إنسان على دار أو على مزرعة أو على عَرض من العروض أو على سلعة من السلع أو على عبد مملوك فإن ذلك يُقوَّم - كما عرفنا - ثم تُنظر قيمته صحيحًا كم يساوي، وقيمته معيبًا كم يساوي، ثم بعد ذلك يدفع الفرق بينهما
(4)
.
قوله: (وَالْكُوفِيُّونَ اعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه).
الأخذ بقول الصحابي أمر مطلوب، لكن يُؤخذ بقول الصحابي ما لم يكن هناك دليل من كتاب أو سنة يعارضه، فلا شكَّ أن أدلة الكتاب والسنة تُقدَّم على كُلِّ قولٍ مهما كان قدر صاحبه.
قوله: (وَقَالُوا: إِذَا قَالَ الصَّاحِبُ).
يقصد بالصاحب هنا الصحابيُّ.
قوله: (قَوْلًا وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَوْلُهُ مَعَ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ، وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ)
(5)
.
(1)
لم أقف عليه.
(2)
تقدم نقله عنهم.
(3)
تقدم نقله عنه.
(4)
تقدم نقله أقوال الفقهاء في ذلك.
(5)
يُنظر: "الفصول في الأصول" لأبي بكر الحنفي (3/ 361) قال: كان أبو الحسن يقول: كثيرًا مما أرى لأبي يوسف في إضعاف مسألة يقول: القياس كذا، إلا أني تركته للأثر، وذلك الأثر قول صحابي لا يعرف عن غيره من نظرائه خلافه. قال أبو الحسن: فهذا يدل من قوله دلالة بينة على أنه كان يرى أن تقليد الصحابي إذا لم يعلم خلافه من أهل عصره أولى من القياس. وانظر: "تقويم الأدلة في أصول الفقه" لأبي زيد الدبوسي (ص 256).
تكلَّم العلماء كثيرًا عن هذه القضية، فبعضهم عندما يجد قولًا للصحابي لا يقف على خلاف يخالفه، يقول: هذا لا يقوله الصحابيُّ برأيه، وإنما هو توقيف، فيكون إجماعًا؛ لأنَّه لا مخالف له من الصحابة، وآخرون يعارضون، ولا يرون ذلك إجماعًا، وإنما الإجماع عندما يأتي التصريح بعدم وجود خلاف
(1)
.
قوله: (لِأَنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا صَارَ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ. فَسَبَبُ الْخِلَافِ إِذن مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِقَوْلِ الصَّاحِبِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْجَمَلِ الصَّئُولِ وَمَا أَشْبَهَهُ).
هذه مسألة مهمة، وهي تتعلق بقاعدة فقهية، والمؤلف يُشير إلى الصائل
(2)
؛ لأن الصائل قد يكون رجلًا، وربما يكون بعيرًا أو بغلًا، وربما فرسًا، أو غير ذلك.
وهذا الصائل قد يصول على إنسان، وهذا الإنسان قد يدفعه دون قتله وإصابته، وربما لا يستطيع أن يدفعه إلا بقتله، فإذا صال على إنسان جملٌ أو بغلٌ أو فرس أو ثور أو غير ذلك من الحيوانات، فخشي الإنسان أن يفتك به، والإنسان مطالب بأن يُدافع عن نفسه وعن مهجته، فأدى ذلك إلى أنه لم يستطع أن يدفع ذلك الحيوان إلا بقتله؛ كأن يكون معه سهمًا فيطلقه عليه أو سكينًا حادة فيصيبه فيرديه قتيلًا، فيحفظ نفسه، فهذا الحيوان الصائل هل يلزم ضمانه أو لا؟
(3)
.
(1)
قول الصحابي الذي لا يعرف له مخالف، أو الصحابي المجتهد، اختلف فيها العلماء كثيرًا.
انظر: " "أصول السرخسي" (2/ 150) وما بعدها، و"التبصرة في أصول الفقه" للشيرازي (ص 399).
(2)
الصائل: القاصد الوثوب عليه. قال الجوهري: يقال: صال عليه. وثب، صولًا وصوله، والمصاولة: المواثبة، وكذلك الصيال والصيالة. انظر:"المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 211).
(3)
سيأتي ذكر أقوال الفقهاء فيها.
هذا مثال يتعلق بقاعدة يذكرها الفقهاء: "من أتلفَ شيئًا لدفع أذاه له لم يضمنه، وإن أتلفه لدفع أذًى به ضمنه"
(1)
.
وهذه هي القواعد التي نُشير إليها كثيرًا ونقول بأنها أحكام كلية تجتمع وتلتقي نحوها مسائل كثيرة وأن تلك المسائل تُنْظَمُ في سِلك واحد فتندرج تحت تلك القاعدة أو الحكم الكلي، من أتلف شيئًا لدفع أذاه له لم يضمنه، فلو صال عليك هذا البعيرُ ولم تستطع أن تتخلَّص منه فأرديته قتيلًا؛ كما لو أرسلت عليه سهمًا فأتلفته لدفع أذاه عنك، ثُمَّ قالوا في الجزء الثاني من القاعدة وإن أتلفه لدفع أذًى به ضمنه، أي: لو كنت في الصحراء وأصابك الجوع وليس عندك إلا شاة لإنسان أو بعير وهو مملوك لغيرك ولا يجوز لك أن تتعدَّى على مِلك غيرك، فقد كالت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه"
(2)
، فلك أن تَقتل هذا الحيوان قبل أن تنحر هذا البعير وأن تأكل منه لتدفع الجوع عنك لكن الحكم يختلف بين الصورة الأولى وبين الصورة الثانية؛ فالصورة الأولى: جَملًا صال عليك فدفعتَه حفاظًا على نفسك
(3)
، وفي الصورة الثانية: لم
(1)
وهي من قواعد أحكام الضمان. انظر: "القواعد" لابن رجب (ص 50)، و"مختصر اختلاف العلماء" للجصاص (5/ 195).
(2)
أخرجه أحمد في "المسند"(15488) عن عمرو بن يثربي الضمري، قال: شهدت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، فكان فيما خطب به أن قال:"ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه "
…
الحديث. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1459).
(3)
اختلف أهل العلم في هذه المسألة، على قولين:
مذهب الحنفية: ينظر: "حاشية ابن عابدين على الدر المختار" قال: "قوله (وسبع) هو كل حيوان مختطف عاد عادة، (قوله أي حيوان) أشار إلى ما في النهر من أن هذا الحكم لا يخص السبع؛ لأن غيره إذا صال لا شيء بقتله ذكره شيخ الإسلام، فكان عدم التخصيص أولى؛ إذ المفهوم معتبر في الروايات اتفاقًا اهـ لكن ينبغي تقييد الحيوان بغير المأكول؛ لما في البحر من أن الجمل لو صال على إنسان فقتله فعليه قيمته بالغة ما بلغت؛ لأن الإذن في قتل السبع حاصل من صاحب الحق وهو الشارع، وأما الجمل فلم يحصل الإذن من صاحبه (قوله صائل)، أي: قاهر حامل على المحرم من الصولة أو الصألة بالهمزة قهستاني، وقيد به لما مرَّ من أن غير=
يتعدَّ عليك هذا البعير ولكنك نحرته لتأكل منه لتدفع الموت عن نفسك.
إذن أيّ شيء يتلفه الإنسان دفاعًا عن نفسه لا ضمان عليه عند الأئمة الثلاثة، وإن أتلفه لمصلحة نفسه ودفع الأذى عنه فإنَّه في هذه الحالة يَضمنه.
=الصائل يجب بقتله الجزاء ولا يجاوز عن شاة. وما في البدائع من أن هذا، أي: عدم وجوب شيء إنما هو فيما لا يبتدئ بالأذى كالضبع والثعلب وغيرهما، أما ما يبتدئ به غالبًا كالأسد والذئب والنمر والفهد فللمحرم قتله ولا شيء عليه. قال بعض المتأخرين: إنه بمذهب الشافعي أنسب نهر".
ومذهب المالكية: ينظر: "الشرح الكبير" للدردير (4/ 287) قال: "لا صائلًا، أي: لا كفارة على من قتل صائلًا عليه بحيث لا يندفع عنه إلا بالقتل، وإنما نصَّ عليه، وإن خرج بقوله معصومًا خطأ؛ لئلَّا يتوهم فيه الكفارة لعدم القصاص فيه كالخطإ ".
ومذهب الشافعية: ينظر: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 528) قال: "فإن قتله، أي: المصول عليه الصائل دفعًا فلا ضمان بقصاص ولا دية ولا كفارة ولا قيمة ولا إثم؛ لأنه مأمور بدفعه، وفي الأمر بالقتال والضمان منافاة، حتى لو صال العبد المغصوب أو المستعار على مالكه فقتله دفعًا لم يبرأ الغاصب ولا المستعير: ويستثنى من عدم الضمان المضطر إذا قتله صاحب الطعام دفعًا فإن عليه القود. قال الدبيلي: في أدب القضاء.
تنبيه: دخل في كلامهم ما لو صالت حامل على إنسان فدفعها فألقت جنينها ميتًا فالأصح لا يضمنه، وقاسه القاضي على ما إذا تترس الكفار حال القتال بمسلم، واضطر المسلمون إلى قتله ".
ومذهب الحنابلة: ينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 129 - 130) قال: "ومن صال أي: وثب عليه آدمي صغير أو كبير، عاقل أو مجنون قاله: الحارثي، أو غيره من البهائم والطيور فقتله المصول عليه دفعًا عن نفسه لم يضمنه، إن لم يندفع بغير القتل؛ لأنه قتله لدفع شره، فكأن الصائل قتل نفسه، ولو دفعه، أي: دفع إنسان الصائل عن غيره غير ولده، أي: القاتل ونسائه كزوجته وأُمِّه وأخته وعمته وخالته بالقتل متعلق بدفعه ضمنه، قال في القاعدة السابعة والعشرين لو دفع صائلًا عليه بالقتل لم يضمنه، ولو دفعه عن غيره بالقتل ضمنه ذكره القاضي
…
قال الحارثي: وعن أحمد رواية بالمنع من قتال اللصوص في الفتنة فيترتب عليه وجوب الضمان بالقتل؛ لأنه ممنوع منه إذن وهذا لا عمل عليه انتهى. قال في "الإنصاف": أما ورود الرواية بذلك فمسلم، وأما وجوب الضمان بالقتل ففي النفس منه شيء".
قوله: (يَخَافُ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقْتُلُهُ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ غُرْمُهُ أَمْ لَا؟).
عرفنا بأن جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة يُفصِّلون، فيقولون: إن كان قد تعدَّى عليه ودفعه وانتهى إلى قتله، فلا ضمان، أما إن قتله ليدفع عن نفسه خطر الموت فإنَّ عليه الضمان.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ إِذَا بَانَ أَنَّهُ خَافَهُ عَلَى نَفْسِهِ)
(1)
.
وكذا أحمد رحمهم الله جميعًا
(2)
.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: يُضَمَّنُ قِيمَتَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ)
(3)
.
قالوا يدفع عن نفسه لكن يضمنه، وسواء بين ذلك والمضطر، قالوا: المضطَّر يخشى على نفسه الهلاك فلماذا يضمن وهذا لا يضمن؟
قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يَرَ الضَّمَانَ الْقِيَاسُ عَلَى مَنْ قَصَدَ رَجُلًا فَأَرَادَ قَتْلَهُ).
إنسانٌ قصد رجلًا فأراد قتله فدافع عن نفسه فأدَّى ذلك إلى أن قتل الذي أراد قتل غيره، هل عليه القصاص؟
قوله: (فَدَافَعَ الْمَقْصُودُ عَنْ نَفْسِهِ فَقَتَلَ فِي الْمُدَافَعَةِ الْقَاصِدَ الْمُتَعَدِّيَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَوَدٌ)
(4)
.
(1)
تقدم نقله عنهم.
(2)
تقدم نقله عنهم.
(3)
تقدم نقله عنهم.
(4)
مذهب الحنفية: ينظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (8/ 344) قال: "ومن أشهر على المسلمين سيفًا وجب قتله ولا شيء بقتله لقوله عليه الصلاة والسلام: "من شهر=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
=على المسلمين سيفًا فقد أبطل دمه "؛ ولأن دفع الضرر واجب فوجب عليهم قتله إذا لم يكن دفعه إلا به ولا يجب على القاتل شيء؛ لأنه صار باغيًا بذلك وكذا إذا أشهر على رجل سلاحًا فقتله أو قتله غيره دفعًا عنه فلا يجب بقتله شيء لما بيَّنا ولا يختلف بين أن يكون بالليل أو بالنهار في المصر أو خارج المصر؛ لأنه لا يلحقه الغوث بالليل ولا في خارج المصر، فكان له دفعه بالقتل بخلاف ما إذا كان في المصر نهارًا، وفي "النوادر" يغسل ويصلى عليه، وعن الثاني يغسل ولا يصلى عليه قال رحمه الله: ومن شهر على رجل سلاحًا ليلًا أو نهارًا في المصر أو غيره أو شهر عليه عصًا ليلًا أو نهارًا في غيره فقتله المشهور عليه فلا شيء عليه، لما بينا من المنقول والمعقول ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 357) قال: "وجاز دفع صائل على نفس أو مال أو حريم، والمراد بالجواز الإذن، فيصدق بالوجوب بعد الإنذار ندبًا كما في المحارب للفاهم، أي الإنسان العاقل بأن يقول له: ناشدتك الله إلا ما تركتني ونحو ذلك، أي: إن أمكن كما تقدم في المحارب، فإن لم ينكف أو لم يمكن جاز دفعه بالقتل وغيره، وإن كان الدفع عن مال وبالغ عليه؛ لئلا يتوهم أن قتل المعصوم لا يجوز، إلا إذا كان الدفع عن نفس أو حريم لسهولة المال بالنسبة لقتل المعصوم، ومفهوم الفاهم أن الصائل إذا كان غير فاهم بأن كان مجنونًا أو بهيمة، فإنه يعاجل بالدفع لعدم فائدة الإنذار، وجاز قصد قتله ابتداء إن علم أنه، أي: الصائل لا يندفع إلا به، ويثبت ذلك ببينة لا بمجرد قول المصول عليه إلا إذا لم يحضره أحد فيقبل قوله بيمينه ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 182 - 183) قال: "فإن قتله بالدفع على التدريج الآتي فلا ضمان بشيء، وإن كان صائلًا على نحو مال الغير خلافًا لأبي حامد؛ لأنه مأمور بدفعه، وذلك لا يجامع الضمان أي: غالبًا لما يأتي في الجرة، نعم يحرم دفع المضطر لماء أو طعام ويلزم صاحب المال تمكينه والمكره على إتلاف مال الغير، بل يلزم مالكه أن يقي روحه، أي: مثلًا بماله وتوقف الأذرعي في مال الغير إذا كان حيوانًا، ويجاب بأن حرمة الآدمي أعظم منه، وحق الغير ثابت في البدل في الذمة، نعم لو قيل: إن عد المكره به حقيرًا محتملًا عرفًا في جنب قتل الحيوان لم يجز قتله حينئذٍ لم يبعد".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي" لابن قدامة (4/ 112 - 113) قال: "ويدفع الصائل بأسهل ما يمكن الدفع به، فإن أمكن دفعه بيده، لم يجز ضربه بالعصا، وإن اندفع بالعصا، لم يجز ضربه بحديدة، وإن أمكنه دفعه بقطع عضو، لم يجز قتله، وإن لم يمكن إلا بالقتل، قتله ولم يضمنه؛ لأنه قتل بحق فلم يضمنه، كالباغي. وإن قتل=
"قَوَدٌ" بمعنى: أنه لا يُقْتلُ به
(1)
.
قوله: (وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي النَّفْسِ كَانَ فِي الْمَالِ أَحْرَى).
أي: لو اعتُدي على إنسان وحُرمتُه عظيمة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن بأن حُرمتَه من حُرمة البيت، ولو قتله إنسان في مثل هذه الحالة فإنَّه لا قَوَد عليه، إذن من باب أولى أن لا يكون هناك قَوَدٌ بالنسبة للحيوان فمهما كانت للحيوان من حرمة لكن لا تصل إلى حُرمة الإنسان.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "في كُلِّ كبد رطب أَجْر"
(2)
فالحيوان فيه أجر؛ ولذلك كما جاء في "صحيح مسلم" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتل وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحِدَّ أحدُكم شفرته وليُرِح ذبيحته"
(3)
.
هذا حديثٌ عند مُسلم وغيره
(4)
، وهذا من الوسائل التي يُراح فيها الحيوان، كذلك لو أن إنسانًا عنده دواب فلم ينفق عليها فإنَّه يُؤمر بالإنفاق عليها وإلا تباع عليه، إذن الحيوان له حرمة ولا يجوز أن يتعدَّى عليه بغير سبب لكن لا تُساوي حرمة الإنسان، ومع ذلك فإنَّ الإنسانَ إذا قتله آخرُ وقد تعدَّى، فإنَّ عليه الضمانَ بلا شكٍّ، ومذهب الجمهور هو الأقرب لروح الشريعة.
=الدافع، فهو شهيد، وعلى الصائل ضمانه، للخبر ولأنه قُتِل مظلومًا، فأشبه ما لو قتله في غير الدفع ".
(1)
القود: القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل. انظر:"النهاية" لابن الأثير (4/ 119).
(2)
أخرجه البخاري (2363)، ومسلم (2244/ 153) عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا، فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفَّه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له "، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال:"في كل كبد رطبة أجر".
(3)
أخرجه مسلم (1955/ 57).
(4)
أخرجه أبو داود (2815)، والنسائي (4405)، والترمذي (1409)، وابن ماجه (3170).
قوله: (لِأَنَّ النَّفْسَ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنَ الْمَالِ، وَقِيَاسًا أيضًا عَلَى إِهْدَارِ دَمِ الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ إِذَا صَالَ وَتَمَسَّكَ بِهِ حُذَّاقُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ).
هذه المسألة تندرجُ تحت القاعدة التي أشرنا إليها: لو صال عليك مثلًا صيدٌ كغزال أو بقرٍ وحشيٍّ أو حمارٍ وحشيٍّ فصال عليك فدافعت عن نفسك وأنت مُحْرِم لا يجوز لك أَن تقتل الصيد؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، لكن لو صَال عليك هذا الحيوان فأردتَ أن تدفعه عن نفسك فقتلته فلا ضمان عليك، لكن لو احتجت إليه؛ كما كنتَ في جُوع ومرَّ بك حَيوانٌ ومعك سهمٌ فأطلقته عليه فتأكل منه في هذه الحالة تضمن؛ لأنك في الأولى دفعت الأذى عن نفسك بقتل هذا الحيوان، وهنا دفعت الأذى عن نفسك بأكل هذا الحيوان.
وهذه قاعدة فقهية مهمة: "من أتلف شيئًا لدفع إيذائه له لم يضمنه، وإن أتلفه لدفع إيذائه به ضمنه ".
قوله: (وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَمْوَالَ تُضَمَّنُ بِالضَّرُورَةِ إِلَيْهَا، أَصْلُهُ الْمُضْطَرُّ إِلَى طَعَامِ الغَيْرِ، وَلَا حُرْمَةَ لِلْبَعِيرِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ ذُو نَفْسٍ).
البعيرُ له حرمة؛ لأنه مِلكٌ للغير، ولا يجوز للإنسان أن يتعدَّى على حَقِّ غيره لحرمته، لكنَّه إنما قتله لأمر أعظم. فليس هناك شيء أعظم من كلمة التوحيد، ومع ذلك فإنَّ الله سبحانه وتعالى بيَّن أنه يجوز للإنسان أن ينطق بكلمة الكفر إذا اضطرَّ إلى ذلك؛ فالأمر يتعلق بالنفس.
قوله: (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَا).
قد تُكْره امرأةٌ على الزنا، والكلام هنا متعلِّقٌ بالغصب، فلو اغتصب أحدهم جارية لآخر -بمعنى: وطئها-، وهذا المغتصب لا يملكها ولا
شُبهة له في ملكها، وربما جاءت له بولد أو لم تأت، فهو قد ارتكب حدًّا من حدود الله فزَنَا، ولا فرق بين أن تكون حُرَّة وبين أن تكون أَمَةً، فهل يترتب على ذلك حقوق؟
الجواب: يترتب على ذلك حقَّان:
الحق الأول: لا خلاف فيه، وهو حق خالصٌ لله سبحانه وتعالى؛ حيث تعدَّى على حرمة من حرمات الله فترتب على ذلك حدُّ الزنا.
الحق الثانى: حق خالصٌ للإنسان، وهو حق المعتدى عليه؛ فهذه ملك للسيد وقد اعتدى عليها، ولا فرق بين أن تكون بِكرًا أو لا، فهل على المغتصب في ذلك المهر أو لا؟
هذه هي المسألة التي يعرض لها المؤلف رحمه الله.
قوله: (هَلْ عَلَى مُكْرِهِهَا مَعَ الْحَدِّ صَدَاقٌ أَمْ لَا؟).
الحدُّ ليس محلَّ نقاش؛ لأنَّ الرجل زَنى ولا مِلك له، ولا شبهة، فلو كانت له شبهة فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"ادرؤوا الحدود بالشبهات"
(1)
؛ أي: ادرؤوا على المسلمين الحدَّ ما استطعتم إلى ذلك سبيلًا.
أما الجارية فليس عليها شيء، فلا يقام عليها الحد، أما لو طاوعته فهذه مسألة أخرى.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، ...............
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "إرشاد السالك" لابن عسكر (ص 114 - 115) قال: "وعلى غاصب الحرة مع حدِّ مهر مثلها، والأمة ما نقصها، ويتداخل الحد قبل إقامته لا بعده، ويسقط بشبهة، ويؤخر للحر والبرد والحمل ".
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 190 - 191) قال: "ولو وطئ المغصوبة الغاصب عالمًا بالتحريم، ولم يكن أصلًا لمالكها حُدَّ، وإن جهلت؛ لأنه زان، وإن جهل تحريم الزنا مطلقًا، أو نشأ بعيدًا عن العلماء فلا حدَّ للشبهة، وفي الحالين، أي: حالي علمه وجهله يجب المهر؛ لأنه استوفى المنفعة وهي غير زانية، لكن في حالة الجهل يجب مهر واحد، وإن تكرر الوطء وفي حالة العلم يتعدد، وإن وطئها مرة عالمًا وأخرى=
وَاللَّيْثُ
(1)
: عَلَيْهِ الصَّدَاقُ وَالْحَدُّ جَمِيعًا).
وأحمد
(2)
أيضًا.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَالثَّوْرِيُّ: عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا صَدَاقَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ
(4)
. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجب عَلَيْهِ حَقَّانِ: حَقُّ اللَّهِ وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّ، فَلَمْ يُسْقِطْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، أَصْلُهُ: السَّرِقَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا عِنْدَهُمْ غُرْمُ الْمَالِ وَالقَطْعُ).
هناك أمورٌ تتداخل، وأمورٌ لا تتداخل، والقاعدة المعروفة:"اجتمع أمران من جنس واحد ولم يختلف مقصودهما ولا تداخل بين الأمرين "
(5)
. فيجب الحدُّ، وحصل وطءٌ فيترتب عليه المهر، فلا تداخل بين الأمرين،
جاهلًا فمهران، كما سيأتي في الصداق، إلا أن تطاوعه عالمة بالتحريم كما يفهم من قوله الآتي إن علمت لا يجب مهر على الصحيح؛ لأنها زانية وقد نُهي عن مهر البغي.
والثاني يجب لأنه لسيدها فلم يسقط بمطاوعتها كما لو أذنت في قطع يدها".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 146) قال: واختلف الفقهاء في وجوب الصداق على المغتصب فقال مالك والليث والشافعي: عليه الصداق والحدُّ جميعًا.
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 97) قال: "وإن وطئ الغاصب الجارية المغصوبة مع العلم بالتحريم، أي: تحريم الوطء فعليه، أي: الغاصب الحد، أي: حد الزنا؛ لأنها ليست زوجة له، ولا ملك يمين، ولا شبهة تدرأ الحدَّ.
وكذا هي، أي: الجارية يلزمها الحد إن طاوعت على الزنا، وكانت من أهل الحد بأن كانت مكلفة غير جاهلة بالتحريم، وعليه، أي: الغاصب بوطئها مهر مثلها بكرًا إن كانت بكرًا كما صرح به الحارثي، وإلا فثيِّبًا".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 62) قال: "ولو غصب جارية فزنى بها فماتت؛ روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أن عليه الحد وقيمة الجارية، وروى الحسن عنهما أن عليه القيمة ولا حد عليه، وذكر الكرخي أن هذا أصح الروايتين ".
(4)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (3/ 298) قال: قال أصحابنا إذا استكره امرأة فزنى بها فعليه الحد ولا مهر عليه وهو قول ابن شبرمة والثوري.
(5)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسبكي (1/ 95)، و"القواعد" لابن رجب (ص 23).
فهذا حق لله لا يُسقط حق المخلوق، وكذلك حق المخلوق لا يُسقط حق الله.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُوجِبِ الصَّدَاقَ، فَتَعَلَّقَ فِي ذَلِكَ بِمَعْنَيَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ حَقَّانِ: حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلْمَخْلُوقِ، سَقَطَ حَقُّ الْمَخْلُوقِ لِحَقِّ اللَّهِ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ فِي أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ عَلَى السَّارِقِ غُرْمٌ وَقَطْعٌ).
لكنَّ هذا غير مُسلَّم؛ فإنَّ السارق -مثلًا- يُؤخذ منه ما سرق، وتُقطع يده " كما قال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38]، وأيضًا يُؤخذ ما عنده من المتاع.
إذًا فالحنفية بنوا ذلك على أصلهم المعروف، ومذهب الجمهور هو الراجح في هذه المسألة.
قوله: (وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ الصَّدَاقَ لَيْسَ مُقَابِلَ الْبُضْعِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ، إِذْ كَانَ النِّكَاحُ شَرْعِيًّا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا صَدَاقَ فِي النِّكَاحِ الَّذِي عَلَى غَيْرِ الشَّرْعِ).
ولكنَّ هذا أَوجد نقصًا يتضرَّر به السيد؛ لأنَّ الجارية قد وُطئت، وكذلك حصل اعتداء على المرأة نفسها فترتب عليه ذلك المهر.
قوله: (وَمِنْ مَسَائِلِهِمُ الْمَشْهُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ مَنْ غَصَبَ أُسْطُوَانَةً فَبَنَى عَلَيْهَا بِنَاءً يُسَاوِي قَائِمًا أَضْعَافَ قِيمَةِ الْأُسْطُوَانَةِ).
المراد بالأسطوانة
(1)
: العمود، والجمع أعمدة، هذا بإطلاق الفقهاء،
(1)
الأسطوانة، بالضم: السارية، والغالب عليها أنها تكون من بناء بخلاف العمود، فإنه من حجر واحد، وهو معرَّب أستون عن الأزهري، وهي فارسية، معناها المعتدل الطويل. انظر:"تاج العروس" للزبيدي (35/ 186).
أما التعريف الهندسي فهذا أمر آخر، فإنَّ الفقهاء عندما يُطلقون لفظ:"أسطوانة" يقصدون بها الأعمدة بالبيت.
مثال ذلك: إنسانٌ غصب ساريةً أو غصب خشبًا لإنسان فبنى عليه، أو غصب خشبة فوضعها على بئر فعلق عليها الدلو الذي يُستخرج به الماء، المهمُّ أنه تعدَّى فبنى على هذا الشيء، فما الحكم؟
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
: يُحْكَمُ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْهَدْمِ وَيَأْخُذُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أُسْطُوَانَتَهُ).
وأحمد
(3)
أيضًا قال به.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 448) قال: "وله أي للمغصوب منه أرض، أو محمود، أو خشب هدم بناء عليه، أي: على الشيء المغصوب، وأخذه وله إبقاؤه، وأخذ قيمته يوم الغصب وأجرة الهدم على الغاصب ".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 362 - 363) قال: "وإن كانت، أي: الزيادة عينًا كبناء وغراس كلف القلع لها، وأرش النقص إن كان وإعادتها كما كانت، وأجرة المثل إن مضت مدة لمثلها أجرة، ولو أراد المالك تملكها بالقيمة أو إبقاءها بأجرة لم يلزم الغاصب إجابته في الأصح لإمكان القلع بلا أرش بخلاف المستعير.
تنبيه: قد يفهم كلامه أنه ليس للغاصب القلع بغير رضا المالك، وليس مرادًا، بل لو أراد القلع فليس للمالك منعه، ولو بادر لذلك أجنبي غرم الأرش، وقيل: لا غرم؛ لأنه غير محترم، ورد بأن عدم احترامه بالنسبة إلى مستحق الأرض لا مطلقًا، ولو كان الغراس والبناء مغصوبين من آخر، فلكلٍّ من مالكي الأرض والبناء والغراس إلزام الغاصب بالقلع، وإن كانا لصاحب الأرض، فإن رضي المالك به لم يكن للغاصب قلعه ولا شيء عليه وإن طالبه بالقلع، فإن كان له فيه غرض لزمه قلعه مع أرش النقص، وإلا فوجهان؛ أحدهما وهو الظاهر: نعم لتعديه، والثاني لا؛ لأنه عيب ".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 81 - 82) قال: "وإن غرسها، أي: الأرض المغصوبة الغاصب، أو بنى فيها ولو كان الغاصب شريكًا في الأرض المغصوبة، أو فعله، أي: غرس أو بنى في الأرض أجنبي أو شريك من غير غصب، بلا إذن رب الأرض أخذ، أي: ألزم بقلع غراسه، وقلع بنائه إذا طالبه رب الأرض بذلك
…
ولو جصص الغاصب الدار ونحوها أو زوقها، فحكمها كالبناء؛ لأنه شغل ملك غيره بما لا حرمة له ".
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: تَفُوتُ بِالْقِيمَةِ كَقَوْلِ مَالِكٍ فِيمَنْ غَيَّرَ الْمَغْصُوبَ بِصِنَاعَةٍ لَهَا قِيمَةٌ كَثِيرَةٌ
(2)
).
إذا غصب شيئًا فغيَّره بشيء آخر، وأخرجه عن أصله، فهذا الذي أُضيف إليه كان للغاصب قيمته.
(1)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (11/ 214) قال: " (ومن غصب ساجة) ش، أي:
قال القدوري رحمه الله
…
خشبة عظيمة. وقيل: خشبة منحوتة مهيأة للأساس، والأصح أنها خشبة صلبة قوية تُجلَب من بلاد الهند لها، ثم تعمل منها الأبواب
…
م: (فبنى عليها زال ملك مالكها عنها ولزم الغاصب قيمتها) ش: وفي "الذخيرة": هذا إذا كانت قيمة البناء أكثر من قيمة الساجة، أما إذا كانت قيمة الساجة أكثر من قيمة البناء لم يزل ملك مالكها عنها بالإجماع.
وفي "الكافي" للحاكم: وإن غصب ساجة أو خشبة فأدخلها في بنائه أو آجرة فأدخلها في بنائه أو جصا فبنى به، قال: عليه في ذلك كله قيمته، وليس للمغصوب منه نقض ما بناه وأخذ ساجته وخشبته وآجره على حوالي الساجة؛ لأنه غير متعدٍّ في البناء على ملكه فلا ينقض. وأما إذا بنى على نفس الساجة ينقض بناؤه؛ لأنه مطلقًا وجعله الأصح
…
م: (ووجه آخر لنا فيه) ش، أي: وجه آخر لنا في غصب الساجة، أي: في تعليله
…
م: (إضرارًا بالغاصب بنقض بنائه الحاصل من غير خلف) ش: لأن فيه إبطال حقه م: (وضرر المالك فيما ذهبنا إليه مجبور بالقيمة) ش: فكان فوات حقه مجبورًا بالقيمة، وضرر الغاصب ليس بمجبور بشيء فيفوت حقَّه لا إلى خلف، وكان قطع حق المالك أولى من قطع حق الغاصب ".
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 448 - 449) قال: "وله غلة مغصوب مستعمل رجح حمله على العقار من دور ورباع، وأرض سكنها، أو زرعها، أو كرَاهَا دون الحيوان المستعمل الذي نشأ عن استعماله غلة ككراء الدابة، أو العبد، أو استعمالهما؛ لأنه مذهب المدونة فيضمن في العقار إذا استعمل، وإلا فلا ولا يضمن في الحيوان إلا ما نشأ من غير استعمال كلبن وصوف، والأرجح حمله على ظاهره من العموم، وظاهر قوله وغلة مستعمل ولو فات المغصوب ولزمت القيمة فيأخذ الغلة وقيمة الذات
…
والبضع بالتفويت وغيرهما بالفوات؛ لأنه في غصب المنفعة وما هنا في غصب الذات فإذا غصب أرضًا وبورها فإن قصد غصب الذات فلا كراء عليه، وإن قصد غصب المنفعة لزمه كراء مثلها".
قوله: (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَفُوتُ الْمَغْصُوبَ بِشَيْءٍ مِنَ الزِّيَادَةِ).
وهو أيضًا عند أحمد، فإنَّ الإمامين الشافعيَّ وأحمد مذهبهم متقارب جدًّا في أصول كتاب الغصب، وإن وُجد خلاف ففي الجزئيات.
قوله: (وَهُنَا انْقَضَى هَذَا الْكِتَابُ).
أي: كتاب الغصب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كِتَابُ الاِسْتِحْقَاقِ
(1)
" الاستحقاق"
(2)
: هو إضافة الشيء إلى غير من هو بيده؛ لكونه يستحق ذلك الشيء.
مثال ذلك:
اشتريت دارًا من إنسان وإذا بهذه الدار مملوكة لغيره، فأنت لا تعتبر معتديًا ولا غاصبًا؛ لأنك اشتريتها بمحض حقك، لكن لو علمت بأن هذه الدار مغصوبة أو أن هذا الثوب مسروقًا، أو غير ذلك فأنت قد شاركته في الإثم فبذلك تكسب الإثم كما كسب هو الإثم، لكن {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
فإذا اشتريت شيئًا لا تعلم أنه مغصوب أو مسروق، ثم تبيَّن لك ذلك
(1)
الاستحقاق لغة: إما ثبوت الحق ووجوبه، ومنه قوله تعالى:{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أي: وجبت عليهما عقوبة، وإما بمعنى: طلب الحق. انظر: "المصباح المنير"(1/ 143) و"المطلع " للبعلي (ص 498).
(2)
مذاهب العلماء في تعريف الاستحقاق:
عرفه الحنفية بأنه: ظهور كون الشيء حقًّا واجبًا للغير. انظر: "حاشية ابن عابدين"(5/ 191).
عرفه المالكية بأنه: رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله بغير عوض. انظر: "المختصر الفقهي" لابن عرفة (7/ 303).
والشافعية والحنابلة: يستعملونه بالمعنى اللغوي. وليس لهم تعريف يستعملونه بالمعنى الاصطلاحي.
فحينئذٍ لا إثم عليك، لكن ما الحكم في هذا الشيء بعد التبيُّن؟
خالف المؤلف في هذا الكتاب منهجه الذي مضى عليه كليًّا فلم يعرض إلا مذهب المالكية وسكت عن الأئمة الثلاثة.
ومع ذلك أقول: من حذاقة المؤلف ودقة فهمه أشار إلى عبارتين في آخر الكتاب، أعطانا تصورًا عن مذاهب الأئمة؛ لأنه وخاصة في مذهب الإمامين الشافعي وأحمد أعطانا ما يشير إليهما، والمؤلف هنا لم يقف على خلافات موزعة متشعبة كالحال في بعض المسائل وإنما هي قليلة ووقف على الخلاف في المذهب ولعله لم يجد من أفرده بكتاب مستقل إلا المالكية وابن حزم في كتابه:"المحلَّى"، فقد عنون له ب "كتاب الاستحقاق والغصب"
(1)
، ولكن عندما تأتي إلى المذاهب الأخرى تجد كما قلت لكم أنه موزع بين تلك الكتب.
قوله: (وَجُلُّ النَّظَرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ هُوَ فِي أَحْكَامِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَتَحْصِيلُ أُصُولِ أحكام هَذَا الْكِتَابِ: أَنَّ الشَّيْءَ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ يَدِ إِنْسَانٍ بِمَا تَثْبُتُ بِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الشَّرْعِ لِمُسْتَحِقِّهَا).
ما هي الأشياء التي تثبت بها شرعًا؟
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى أناس دماء رجال وأموالهم"
(2)
، ثم انظر كيف وضع الرسول صلى الله عليه وسلم القاعدة:"ولكن البيِّنة على المدعي واليمين على من أنكر"
(3)
، فربما يأتي إنسان ويقول: هذا
(1)
انظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 134).
(2)
أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (7111/ 1) عن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم، ذكروها بالله واقرؤوا عليها: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 77] فذكروها فاعترفت، فقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اليمين على المدَّعَى عليه".
(3)
أخرجه الترمذي (1341) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته:"البينة على المدَّعِي، واليمين على المدَّعَى عليه "، وقال: هذا حديث في إسناده مقال، وصححه الألباني في "الإرواء"(2661).
بيتي، وربما يأتي ببعض شهود الزور، ولكن بحمد الله أصبحت الأمور الآن مثبتة وصار هناك الصكوك والسندات، فأصبحت هذه الأمور صعبة إلا أنه في بعض الأمور اليسيرة، لكن قد يأتي إنسان فيقول: هذا بيتي، فبماذا تثبت الدعوى شرعًا؟
إما بالإقرار وإما بالبينة؛ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "البيِّنة أو حدّ في ظهرك"
(1)
، فلا بد أن تكون هناك بينة، والبينة تكون بالشهادة.
قوله: (إِذَا صَارَ إِلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ الَّذِي اسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ الشَّيْءُ الْمُسْتَحَقُّ بِشِرَاءٍ، أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَسْتَحِقَّ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَقَلَّهُ أو كُلَّهُ أو جُلَّهُ).
فهو قد يصل إليه عن طريق الشراء، أو عن طريق الهِبة، أو عن طريق الميراث، أو عن طريق العطية، أو عن طريق الصدقة، كإنسان يسرق مالَ إنسان ويتصدق منه، ويقول: ربما يكفِّر الله عني، ويتصور أنه بهذا العمل يكفَّر عنه.
قوله: (ثُمَّ إِذَا اسْتُحِقَّ مِنْهُ كُلُّهُ أو جُلُّهُ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ عِنْدَ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ بِزِيَادَةٍ أو نُقْصَانٍ، أو يَكُونَ لَمْ يَتَغَيَّرْ)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (2671) عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"البينة أو حدٌّ في ظهرك "، فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا، ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل يقول:"البينة وإلا حدٌّ في ظهرك" فذكر حديث اللعان.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الرد المختار"(6/ 194 - 195) قال: "ومن بنى، أي: بغير تراب تلك الأرض وإلا فالبناء لربِّ الأرض؛ لأنه لو أمر بنقضه يصير ترابًا كما كان در منتقى في (قوله بغير إذنه) فلو بإذنه فالبناء لرب الدار، ويرجع عليه بما أنفق جامع الفصولين من أحكام العمارة في ملك الغير
…
(قوله: لو قيمة الساحة أكثر)
…
ولو قيمتها أقل، فللغاصب أن يضمن له قيمتها، ويأخذها
…
(قوله: أي مستحق القلع إلخ) وهي أقل من قيمته مقلوعًا مقدار أجرة القلع فإن كانت قيمة الأرض مائة وقيمة الشجر المقلوع عشرة، وأجرة القلع درهم=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
=بقيت تسعة دراهم، فالأرض مع هذا الشجر تقوم بمائة وتسعة دراهم فيضمن المالك التسعة منح (قوله: إن نقصت الأرض به)، أي: نقصانًا فاحشًا بحيث يفسدها، أما لو نقصها قليلًا فيأخذ أرضه، ويقلع الأشجار ويضمن النقصان
…
(قوله: ولو زرعها يعتبر العرف إلخ) قال في "الذخيرة": قالوا إن كانت الأرض معدَّة للزراعة، بأن كانت الأرض في قرية اعتاد أهلها زراعة أرض الغير، وكان صاحبها ممن لا يزرع بنفسه، ويدفع أرضه مزارعة، فذلك عن المزارعة، ولصاحب الأرض أن يطالب المزارع بحصة الدهقان على ما هو متعارف أهل القرية النصف أو الربع، أو ما أشبه ذلك
…
وهو نظير الدار المعدة للإجارة إذا سكنها إنسان، فإنه يحمل على الإجارة وكذا هاهنا، وعلى هذا أدركت مشايخ زماني، والذي تقرَّر عندي وعرضته على من أثق به أن الأرض وإن كانت معدة للزراعة، تكون هذه مزارعة فاسدة؛ إذ ليس فيها بيان المدة، فيجب أن يكون الخارج كله للمزارعة، وعلى المزارع أجر مثل الأرض اهـ .... (قوله: وإلا فالخارج للزارع إلخ)، أي: إن لم يكن عرف في دفعها مزارعة، ولا في قسم حصة معلومة يكون الزارع غاصبًا فيكون الخارج له ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 233) قال: "ومستحق الأرض من يد صاحب شبهة يملك بعد أن عمرت بفتح الميم، أي: عمرها صاحب الشبهة بالبناء أو الغرس فالمستحق لها بالخيار بين أن يدفع قيمة العمارة، أي: ما عمرت به حالة كون البناء قائمًا؛ لأنه وضعه بوجه شبهة، ولو كان اشتراها من غاصب حيث لا علم عنده بالغصب، وقوله: قائمًا، أي: على التأبيد الغير المغيَّا إن كان الباني مشتريًا مثلًا، أو على التأبيد المغيَّا بحدٍّ إن كان الباني مستأجرًا أو مستعيرًا للأرض وحصل الاستحقاق قبل انقضاء المدة. فإن أبي المستحق من دفع قيمة البناء قائمًا دفع إليه المشتري صاحب الشبهة قيمة البقعة براحًا، أي: خالية مما عمرت به. فإن أبي المشتري أيضًا، أو كان عديمًا كانا، أي: المستحق والمستحق منه شريكين بقيمة ما لكل واحد، المراد منهما فالمستحق بقيمة أرضه خربة، وصاحب الشبهة بقيمة عمارته، وتعتبر قيمة كل يوم الحكم، فإن كانت قيمة الأرض مائة وقيمة البناء أو الغرس كذلك كانا شريكين بالمناصفة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 52) قال: "وغراسه إذا اشترى أرضًا وبنى أو غرس فيها، ثم بانت مستحقة للغير، فلم يرض ببقاء ذلك فيها حتى نقض بالمعجمة بناؤه، أو غراسه في الأصحِّ فيهما، أما الأولى فلما مرَّ، وأما الثانية فلأنه غره بالبيع، وإن جهل الحال أيضًا؛ لأنه مقصر بعدم بحثه حتى وقع في ذلك، فرجع عليه بأرش ما حصل في ماله من النقص، وهو ما بين قيمته قائمًا ومقلوعًا، وللمستحق تكليف المشتري نزع ما زوق به من نحو طين، أو جبس، ثم يرجع بأرش=
هذا الذي استُحِقَّ ربَّما بقي على حاله، وهذه المسألة ليس فيها خلاف عند العلماء.
مثالها: إنسان اشترى دارًا فتملكها ثم ظهر مستحقٌّ لها والدار لم تتغير ولم تتهدم ولم يُضف إليها بناءً جديدًا، فتردُّ إلى صاحبها ويرجع على الذي غرر به، لكن ربما تزداد هذه السلعة، وهذه الزيادة قد تكون زيادة من الله سبحانه وتعالى -لا دخل فيها لأحد-، صغيرًا يكبر أو حيوانًا يسمن، وربما تكون من الإنسان؛ كأن يشتري دارًا مثلًا بخمسين ألفًا ثم يضيف إليها بناءً بخمسة وعشرين ألفًا، ففي هذه الحالة يرجع إليه، فهل يأخذ القيمة أو هل يشترك معه كلًا بقدره؟ وإن قلنا بالاشتراك فهذا يأخذ خمسون وذاك له خمسة وعشرون، وهذا ما سيشير إليه المؤلف.
قوله: (ثُمَّ لَا يَخْلُو أيضًا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ مِنْهُ قَدِ اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ أو مَثْمُونٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ اسْتُحِقَّ مِنْهُ أَقَلُّهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَرْجِعُ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِقِيمَةِ مَا اسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْجملةِ).
لأنه كان قليلًا؛ لأن حقَّه في هذه الدار أو في هذه السلعة قليل فهو
=نقصه على البائع؛ لذلك قال في "الروضة" عن البغوي وأقره: والقياس ألَّا يرجع على الغاصب بما أنفق على العبد وما أدى من خراج الأرض؛ لأنه شرع في الشراء على أنه يضمنها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 316) قال: "ومن اشترى أرضًا فغرس فيها، أو بنى فيها فخرجت مستحقة لغير بائعها، وقلع غراسه أو بناءه، أي: المشتري؛ لأنه وضع بغير حق رجع مشتر على بائع بما غرمه من ثمن أقبضه، وأجرة غارس وبان، وثمن مؤن مستهلكة، وأرش نقص بقلع وأجرة ونحوه؛ لأنه غره ببيعه وأوهمه أنها ملكه، وذلك بسبب بنائه وغرسه، وعلم منه أن لمستحق الأرض قلع الغراس والبناء بلا ضمان نقص لوضعه في ملكه بغير إذنه كالغاصب، ومن أخذ أي: انتزع منه بحجة مطلقة بأن أقيمت بينة شهدت للمدَّعى له بملكه المطلق بأن لم تقل ملكه من وقت كذا ما اشتراه مدعى عليه رد بائعه للمشتري ما قبضه منه من ثمن؛ لفساد العقد بخروجه مستحقًا. والأصل عدم حدوث ملك ناشئ عن المشتري، كما لو شهدت يملك سابق على زمن الشراء".
لا يمثل أكثرها، وإنما الأكثر هو ملك لمن باع وأصبح ملكًا للمشتري فالقليل عندهم لا يؤثر على الكثير فيردُّ، لكن عند الجمهور يرون ردَّه؛ لأن البيع لم يكن مستحقًّا، إذ بيع دون أن يوافق أحد الشريكين
(1)
.
قوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ اسْتُحِقَّ كُلُّهُ أو جُلُّهُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ، أَخَذَهُ الْمُسْتَحِقُّ وَرَجَعَ الْمُسْتَحَقُّ مِنْ يَدِهِ عَلَى الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِثَمَنِ مَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ)
(2)
.
(1)
تقدم التفصيل في أقوال الفقهاء في هذه المسألة.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"درر الحكام" لملا خسرو (2/ 193) قال: "ادعى حقًّا مجهولًا في دار فصولح على شيء كمائة درهم مثلًا فاستحقَّ بعضها، أي: بعض الدار لم يرجع صاحب الدار بشيء من البدل على المدعي لجواز أن يكون دعواه فيما بقي، وإن قل أو استحق كلها، أي: كل الدار رد كلَّ العوض للعلم بأنه أخذ عوض ما لم يملكه فيرد، وإن ادعاها، أي: الدار كلها فصولح على شيء كمائة فاستحق بعضها، أي: بعض الدار رجع بحصته؛ لأن الصلح على مائة وقع عن كل الدار، فإذا استحق منها شيء تبين أن المدعي لا يملك ذلك القدر فيرد بحسابه من العوض صالح عن الدنانير على دراهم وقبضها أي الدراهم فاستحقت أي الدراهم بعد التفرق رجع بالدنانير؛ لأن هذا الصلح في معنى الصرف، فإذا استحق البدل بطل الصلح فوجب الرجوع ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 471 - 472) قال: "ورجع المستحق منه في بيع عرض بعرض استحق أحدهما بما خرج من يده إن كان باقيًا، أو قيمته إن لم يوجد، ومراده بالعرض ما قابل النقد الذي لا يقضى فيه بالقيمة فيشمل الحلي فإنه يقضى فيه بالقيمة، وقوله: عرض، أي: معين، وأما غير المعين فليس فيه إلا الرجوع بالمثل إلا نكاحًا أصدقها فيه عبدًا مثلًا فاستحقَّ من يدها وخلعًا على نحو عبد فاستحق منه، وصلح دم عمد على إقرار، أو إنكار بعبد، أو شقص فاستحق وإلا عبدًا، أو شقصًا مقاطعًا به عن عبد، أي: مأخوذًا عن عبد اشترى نفسه من سيده به فاستحق من يد السيد، فالعتق ماض ويرجع السيد عليه بعوضه إن كان المقاطع به موصوفا، أو معينًا، وهو في ملك غير العبد.
وأما معين في ملك العبد فلا رجوع للسيد بشيء إذا استحق؛ لأنه كمال انتزعه منه، ثم أعتقه، أو مقاطعًا به عن كتابة مكاتب فاستحق، أو مصالحًا به عن عمرى لدار، أي: أن المعمر بالكسر صالح المعمر بالفتح بعبد مثلًا في نظير العمرى فاستحق من=
وهذا متفقٌ عليه من العلماء، يعني: كأن اشتراه بنقد وربما اشتراه بعوض؛ كأن يبيع دارًا بدار، أو يبيع ثوبًا بثوب، أو يبيع بُرًّا ببر، ولكن يشترط في ذلك الحذر من الوقوع في الربا.
قوله: (وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِالْمَثْمُونِ رَجَعَ بِالْمَثْمُونِ بِعَيْنِهِ إِنْ كَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ).
المثمون الذي عرض دارًا بدار، أو ثوبًا بثوب، أو سلعة بسلعة أو غير ذلك.
=المعمر بالفتح فلا رجوع للمستحق منه في هذه المسائل السبع بالذي خرج ". ومذهب الشافعية، يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 52) قال: "وكل ما لو غرمه المشتري رجع به على الغاصب كقيمة الولد وأجرة المنافع الفائتة تحت يده، لو غرمه الغاصب ابتداءً لم يرجع به على المشتري؛ لأن القرار على الغاصب فقط، وما لا أي: وكل ما لو غرمه المشتري لم يرجع به على الغاصب كقيمة العين والأجزاء ومنافع استوفاها فيرجع به الغاصب إذا غرمه ابتداء على المشتري؛ لأن القرار عليه فقط لتلفه في يده هذا إن لم يسبق من الغاصب اعتراف للمشتري بالملك كما مرَّ نظيره، وإلا فهو مقرٌّ بأن المغصوب منه ظالم له، والمظلوم لا يرجع إلا على ظالمه، ولو زادت القيمة عند الغاصب عليها عند المشتري لم يطالب بتلك الزيادة؛ لأنه لم يضع يده عليها، فإذا غرمها الغاصب لم يرجع بها، وليس ذلك مما شمله الضابط لما تقرَّر أن المشتري لا يغرم الزائد ولا يطالب به، قلت: وكل من انبنت - بنونين ثانية ورابعة كما بخطه يده - على يد الغاصب فكالمشتري فيما تقرر من الرجوع وعدمه، والله أعلم ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 103) قال: "وإذا اشترى إنسان أرضًا فغرسها أو بنى فيها فخرجت الأرض مستحقة، وقلع غرسه وبناءه رجع المشتري على البائع بما غرمه بسبب ذلك من ثمن أقبضه، وأجرة غارس وبان، وثمن مؤن مستهلكة، وأرش نقص بقلع ونحو ذلك وأجرة دار؛ لأن البائع غرَّ المشتري ببيعه إياها وأوهمه أنها ملكه، وكان سببًا في غراسه وبنائه وانتفاعه، فرجع عليه بما غرمه، ولا يرجع المشتري بما أنفق على العبد والحيوان ولا بخراج الأرض، إذا اشترى أرضًا خراجية وغرم خراجها ثم ظهرت مستحقة فلا يرجع المشتري بذلك على البائع؛
…
لأن عقد البيع يقتضي النفقة على المبيع ودفع خراجه ".
قوله: (فَإِنْ تَغَيَّرَ تَغَيُّرًا يُوجِبُ اخْتِلَافَ قِيمَتِهِ رَجَعَ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الشِّرَاءِ).
ومن العلماء من يرى أنه يرجع بالمثل
(1)
.
قوله: (وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الْمُسْتَحَقُّ قَدْ بِيعَ؛ فَإِنَّ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُمْضِيَ الْبَيْعَ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ أو يَأْخُذَهُ بِعَيْنِهِ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ يَدِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرِ الشَّيْءُ الْمُسْتَحَقُّ. فَإِنْ تَغَيَّرَ الشَّيْءُ الْمُسْتَحَقُّ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَغَيَّرَ بِزِيَادَةٍ أو نُقْصَانٍ)
(2)
.
كما هو الحال بالنسبة للغصب، وقد يزداد زيادة متصلة كجارية تسمن، أو دابة تسمن وربما يتأثر بالنقص أيضًا بأن يمرض أو يضعف الخادم أو نحو ذلك.
قوله: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ تَغَيُّرٌ بِزِيَادَةٍ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَغَيَّرَ بِزِيَادَةٍ مِنْ قِبَلِ الَّذِي اسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ الشَّيْءُ، أو بِزِيَادَةٍ مِنْ ذَاتِ الشَّيْءِ، فَأَمَّا الزِّيَادَةُ مِنْ ذَاتِ الشَّيْءِ فَيَأْخُذُهَا الْمُسْتَحِقُّ، مِثْلَ أَنْ تَسْمَنَ الْجَارِيَةُ أو يَكْبَرَ الْغُلَامُ)
(3)
.
(1)
تقدم التفصيل في أقوال الفقهاء في هذه المسألة.
(2)
مر في كتاب الغصب مثل هذه المسألة.
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 204) قال: "وزوائد المغصوب إلخ ليس منها الأكساب الحاصلة باستغلال الغاصب فإنها غير مضمونة وإن استهلكها؛ لأنها عوض عن منافع المغصوب، ومنافعه غير مضمونة عندنا كما يأتي، فكذا بدلها
…
قوله أمانة لا تضمن إلا بالتعدي
…
فلو قتله الغاصب ضمنه مع الزيادة ابن ملك، ولو هلكت الجارية بعد الزيادة ضمن قيمتها وقت الغصب ولا يضمن الزيادة، وكذا لو زادت قيمتها نهاية (قوله؛ لأنها أمانة) مكرر مع ما في المتن (قوله ولو طلب المتصلة لا يضمن)؛ لأن دفعها غير ممكن فلا يكون مانعا اهـ ح بقي ما لو طلبها مع الأصل بأن قال سلمني الجارية أو الدابة بعد الحسن أو السمن فمنعه ينبغي أن يضمنه كالأصل وليحرر رحمتي
…
ذكر في=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
=المجمع أن الزيادة المتصلة لا تضمن بالبيع والتسليم
…
أما المنفصلة فمضمونة اتفاقا؛ لأنه بالتسليم إلى المشتري صار متعديًا اهـ .. فحيث لم تضمن بالتسليم إلى المشتري لا تضمن بالمنع أيضًا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 575) قال: "من غصب جارية فزادت عنده؛ بسمن أو تعليم صناعة أو غير ذلك، فغلت قيمتها ثم نقصت؛ بهزال أو نسيان الصناعة، فنقصت عن الزيادة قيمتها، ورجعت إلى ما كانت عليه أو أقل في القيمة؛ كان لسيدها أخذها بلا أرش ولا زيادة عليها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 360 - 361) قال: "والأصح أن السمن الطارئ في المغصوب عند الغاصب لا يجبر نقص هزال حصل قبله عنده، كأن غصب جارية سمينة فهزلت عنده، ثم سمنت عنده فعادت القيمة، فإنه يردها وأرش السمن الأول؛ لأن الثاني غير الأول، حتى لو زال الثاني: ردها وأرش السمنين. والوجه الثاني: يجبر، كما لو جنى على عين فابيضت ثم زال البياض، وعود الحسن كعود السمن.
تنبيه: أشار بقوله نقص هزال إلى أن السمن المفرط الذي لا تنقص القيمة بزواله غير مضمون وهو كذلك، ولو انعكس الحال بأن كانت معتدلة فسمنت في يد الغاصب سمنًا مفرطًا، ونقصت قيمتها ردها وهل يغرم أرش النقص. قال في الكفاية: لا؛ لأنها لم تنقص حقيقة ولا عرفًا. وقال الإسنوي: نعم وهو الأوجه؛ لأن الأول مخالف للقاعدة في تضمين نقص القيمة
…
ولو تعلمت الجارية المغصوبة الغناء فزادت قيمتها به ثم نسيته لم يضمنه. قال في أصل الروضة؛ لأنه محرم كما في كسر الملاهي، وهو محمول على غناء يخاف منه الفتنة؛ لئلا ينافي ما صححه في الشهادات من أنه مكروه، وكالجارية فيما ذكر العبد".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 92) قال: "والصناعة إن لم تكن من عين المغصوب فهي صفة فيه، ولذلك يضمنها إذا طولب برد العين، وإن عاد مثل الزيادة الأولى من جنسها مثل: أن غصب عبدًا فسمن فزادت قيمته ثم نقصت قيمته بزوال ذلك السمن، ثم سمن فعادت قيمته كما كانت لم يضمن الغاصب ما نقص أولًّا ثم عاد؛ لأن ما ذهب من الزيادة عاد وهو بيده، أشبه ما لو مرضت فنقصت قيمتها ثم برئت فعادت القيمة، وكذا لو نسي صنعة ثم تعلمها، أو بدلها فعادت قيمته كما كانت لم يضمن شيئًا، وإن كانت الزيادة الحاصلة من غير جنسها، أي: الزيادة الذاهبة، مثل أن غصب عبدًا قيمته مائة فتعلم صنعة، فصار يساوي مائتين، ثم نسيها فصار يساوي مائة، ثم سمن فصار يساوي مائتين لم يسقط ضمانها؛ لأنه لم يعد ما ذهب بخلاف التي قبلها".
كإنسان اشترى جارية من إنسان لا يملكها والمشتري يظن أنها ملك له ثم تبيَّن أنها غير مملوكة فيأتي المستحق فيأخذها وقد سمنت هذه الجارية أو كبرت أو كذلك الدابة يأخذها على حالها؛ لأن هذا بدون سبب منه.
قوله: (وَأَمَّا الزِّيَادَةُ مِنْ قِبَلِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ، فَمِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ الدَّارَ فَبَنَى فِيهَا فَتُسْتَحَقُّ مِنْ يَدِهِ).
مثال ذلك: اشترى دارًا فأضاف إليها بناءً كأن تكون من طابق واحد فأضاف إليها دورًا آخر، أو أقام فيها مباني أو حسَّنها أو أضاف إليها إضافات فزادت من قيمتها، وكانت تساوي ثلاثين ألفًا ثم أصبحت تساوي أربعين، إذًا فقد زاد فيها الربع وربما يزيد فيها الثلث وربما يزيد النصف وربما أكثر.
قوله: (فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُدْفَعَ قِيمَةُ الزِّيَادَةِ وَيَأْخُذَ مَا اسْتَحَقَّهُ وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ يَدِهِ قِيمَةَ مَا اسْتَحَقَّ أو يَكُونَا شَرِيكَيْنِ)
(1)
.
هو مخير في ذلك إما أن يعطيه القيمة، أعني: قيمة الدار ويذهب، وإما أن يعطي هذا ذاك قيمة الزيادة أي: التكلفة التي كلفها في الإضافات على هذه الدار ويأخذ الدار، وإما أن يكونا شريكين كُلًّا بحسب حصته.
قوله: (هَذَا بِقَدْرِ قِيمَةِ مَا اسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ، وَهَذَا بِقَدْرِ قِيمَةِ مَا بَنَى أو غَرَسَ، وَهُوَ قَضَاءُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
(2)
).
يعني: هذا أُثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكما هو ظاهر فيه عدل.
(1)
تقدم في كتاب الغصب مثل هذه المسألة.
(2)
لم أقف عليه.
قوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ وِلَادَةً مِنْ قِبَلِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ).
هذه حقيقة هي التي فيها نقاش وكلام للعلماء إن كانت هنا ولادة، يعني: اشترى إنسان جارية يظن أنها ملك للبائع ثم تبينت أنها ليست ملكًا له، ومن الصور أيضًا أن يتزوج إنسان أمةً على أنها حرة ثم تبين أنها أمة، جارية خرجت من يد مولاها فلحقت بقوم بحي من العرب فتزوجت رجلًا على أنها حرة فجاء أولاد ثم بعد ذلك يظهر عليها سيدها وهذه واقعة حصلت.
قوله: (مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ أَمَةً فَيُولِدَهَا ثُمَّ تُسْتَحَقَّ مِنْهُ أو يُزَوِّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَخْرُجَ أَمَةٌ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَعْيَانَ الْوَلَدِ)
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(5/ 144) قال: "وكذا لو أخبره رجل أنها حرة فتزوجها ثم ظهر أنها مملوكة فلا رجوع بقيمة الولد على المخبر إلا في ثلاث مسائل الأولى: إذا كان الغرور بالشرط، كما لو زوجه امرأة على أنها حرة ثم اسحقت فإنه يرجع على المخبر بما غرمه للمستحق من قيمة الولد، الثانية: أن يكون في ضمن عقد معاوضة، فيرجع المشتري على البائع بقيمة الولد إذا استحقت بعد الاستيلاد ويرجع بقيمة البناء، لو بنى المشتري، ثم استحقت الدار بعد أن يسلم البناء
…
وكذا لو ظهر حرًّا أو مديرًا أو مكاتبًا، ولا بُدَّ في الرجوع من إضافته إليه والأمر بمبايعته
…
الثالثة: أن يكون في عقد يرجع نفعه إلى الدافع كوديعة وإجارة، فلو هلكت الوديعة والعين المستأجرة، ثم استحقت وضمن المودع والمستأجر فإنهما يرجعان على الدافع بما ضمناه، وكذا من كان بمعناهما وفي عارية وهبة لا رجوع إذ القبض كان لنفسه وتمامه في الخانية في فصل الغروو من البيوع ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المدونة" للإمام مالك (12/ 140 - 141): قال: "قلت: وإذا غرت أمة الأب أو أمة الابن من نفسها والده أو ولده فتزوجها فولدت له أولادًا فاستحقها الأب أو ولده؟ فقال: لا شيء له من قيمتهم؛ لأن مالكًا قال: إذا ملك الرجل أخاه أو أباه أو ولده أو ولد ولده فهو حر
…
قلت: أرأيت لو أن رجلًا أخبرني أن فلانة حرة ثم خطبتها فزوجنيها غيره فولدت لي أولادًا، ثم استحقت أمة أيكون لي على الذي أخبرني أنها حرة شيء أم لا في قول مالك؟ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
=قال: لا شيء لك عليه إلا أن يكون علم أنها أمة، فقال لك: هي حرة وزوجكها. فإذا علم أنها أمة وقال لك هي حرة وزوجكها فولدت لك أولادًا فاستحق رجل رقبتها، فإنه يأخذ جاريته ويأخذ منك قيمة الأولاد، ولا ترجع أنت بقيمة الأولاد على الذي غرك وزوجك وأخبرك أنها حرة وهو يعلم أنها أمة؛ لأنه لم يغرك من الأولاد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 357 - 358) قال: "ولو غر بحرية أمة في نكاحه إياها كأن شرطت فيه وصححناه، أي: النكاح بأن قلنا: إن خلف الشرط لا يبطله، مع وجود شروط نكاح الأمة فيه، أو لم نصححه بأن قلنا: إن الخلف يبطله، أو لفقد بعضها فالولد الحاصل قبل العلم بأنها أمة حر، وإن كان الزوج عبدًا عملًا بظنه، فإن الولد يتبعه، ومن ثم لو وطئ عبد أمةً يظن أنها زوجته الحرة كان الولد حرًّا، ولو وطئ زوجته الحرة يظن أنها زوجته الأمة فالولد حر ولا أثر لظنه
…
أما ما علقت به بعد علمه كأن ولدته بعد أن وطئ بعده بأكثر من ستة أشهر منه فهو قن، ويصدق في ظنه بيمينه، وكذا وارثه فيحلف أنه لا يعلم أن مورثه علم رقها، وعلى المغرور في ذمَّته ولو قِنًّا قيمته يوم ولادته؛ لأنه أول أوقات إمكان تقويمه لسيدها، وإن كان السيد جد الولد لأبيه أو أُمِّه لتفويته رقه من أصله التابع لرقها بظنه حريتها ما لم يكن الزوج قِنًّا لسيدها؛ إذ السيد لا يثبت له على قنِّه مالى أو تكن هي الغارة وهي مكاتبة، وقلنا قيمة الولد لها إذ لو غرم لها رجع عليها، .. ويرجع بها الزوج إذا غرمها لا قبله كالضامن على الغار غير السيد؛ لأنه الموقع له في غرامتها، مع كونه لم يدخل في العقد على أن يضمن الولد بخلاف المهر، والتغرير بالحرية لا يتصور من سيدها غالبا لعتقها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 670 - 672) قال: "ومن تزوَّج أمةً وظن أنها حرَّة الأصل لا عتيقة، أو تزوج امرأة وشرط أنها حرة فولدت منه مع جهله رقها فولده حر؛ لاعتقاده حريته باعتقاده حرية أُمِّه.
ويفدي، أي: يلزم الزوج أن يفدي ما ولد له من زوجته الأمة التي غرّ بها حيًّا لوقت يعيش لمثله
…
ولأن الولد نماء الأمة المملوكة فسبيله أن يكون مملوكًا لمالكها، وقد فوت رقه باعتقاده الحرية، فلزمه ضمانه، كما لو فوت رقه بفعله فيفديه بقيمته
…
لأنه محكوم بحريته عند وضعه، وهو أول أوقات إمكان تقويمه، وقيمته التي تزيد بعد وضعه لم تكن مملوكة لمالك الأمة فلم يضمنها كما بعد الخصومة
…
فما حملت وولدت عند زوج بعد ثبوت رقها فهو رقيق لرب الأمة؛ لأنه من نمائها، وإن كان المغرور بالأمة بأن ظنها أو شرطها حرة عبدًا فولده منها حر؛ لأنه وطئها معتقدًا حريتها أشبه الحر، وعلة رقّ الولد رقّ أُمِّه خاصة ولا عبرة بالأب، بدليل=
حصل هذا في قصة رجل باع جارية لوالده فتزوجها رجل يعني: تسراها فجاءت بأولاد، ثم إن الأب خاصمه عند عمر فأمره بأن يرد الجارية والولد، فقال: أولادي، فقال: دع أولادها
(1)
، والمسألة فيها خلاف أيضًا.
=ولد الحر من الأمة وولد العبد من الحرة، وهنا يقال حر بين رقيقين، ويفديه، أي: يفدي العبد ولده من أمة غر بها بقيمته يوم ولادته حيًّا إذا عتق لتعلقه، أي: الفداء بذمته؛ لأنه فوت رقه باعتقاده الحرية وفعله ولا مال له في الحال فتعلق الفداء بذمته.
ويرجع زوج حرًّا كان أو عبدًا بفداء غرمه على من غره إن كان الغار له أجنبيًّا
…
ويرجع زوج بالمهر المسمى؛ لأنه الواجب عليه دون مهر المثل على من غره إن كان الغار له أجنبيًّا؛ لأنه ضمن له سلامة الوطء، كما ضمن له سلامة الولد، فكما يرجع عليه بقيمة الولد كذلك يرجع عليه بالمهر، وكذا أجرة انتفاعه بها إن غرمها، فإن كان الغار للزوج سيدها ولم تعتق بذلك بأن لم يكن التغرير بلفظ تحصل به الحرية، أو كان الغار للزوج أباها، أي: الزوجة نفسها وهي مكاتبة فلا مهر له، أي: لسيدها إذا كان هو الغار، ولا مهر لها، أي: المكاتبة إن كانت هي الغارة؛ لأنه لا فائدة في أن يجب لأحدهما ما يرجع به عليه. وولدها، أي: المكاتبة من زوج غر بحريتها مكاتب لولا التغرير تبعًا لها، فيغرم أبوه قيمته لها إن لم تكن هي الغارة؛ لأنه فوته عليها ويرجع بما يغرمه على من غره.
وإن كانت الزوجة الغارة قِنًّا أو مدبرة أو أم ولد لم يسقط مهرها ويغرمه، وفداء ولدها لسيدها، ويقوم ولد أم ولد كأنه قن، وتعلق ما غرمه لسيدها برقبتها فيخير سيدها بين فدائها بالأقل من قيمتها، أو الغرم، أو يسلمها إن لم تكن أم ولد، فإن اختار فداءها بقيمتها سقط قدرها عن الزوج مما عليه؛ لأنه لا فائدة في إيجابه عليه، ثم رده إليه، وإن اختار تسليمها سلمها وأخذ ماله. والمعتق بعضها إذا غرت زوجها بحريتها يجب لها البعض من مهرها بقدر حريتها، فيسقط ما وجب لها لما تقدم، ويجب باقيه لمالك البقية، ويتعلق برقبتها، فيخرج سيدها ككاملة الرق، وولدها، أي: المعتق بعضها يغرم أبوه قدر رقه من قيمته، ويرجع من سيد وزوجة مكاتبه ومبعضة، مطالبة غار لزوج ابتداء نصًّا بدون مطالبة الزوج، والغار من علم رقها، أي: الزوجة أو رق بعضها ولم يبينه للزوج بل أتى بما يوهمه حريتها". وانظر: "الكافي" لابن قدامة (3/ 48 - 49).
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 361) عن سليمان بن يسار، أن أمة أتت قومًا فغرتهم وزعمت أنها حرة، فتزوجها رجل فولدت منه أولادًا فوجدوها أمة، "فقضى عمر بقيمة أولادها في كل مغرور غرة".
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي أَخْذِ قِيمَتِهِمْ).
اختلف العلماء في مثل هذه الحالة؛ فمن العلماء من قال: المالك الحقيقي الذي استحقَّ هذه الجارية والتي اشتراها إنسان ظان أنها ملك للبائع إذا ظهر مستحقها، قالوا: يأخذها ويأخذ قيمة الولد، وبعضهم قال: يأخذ الجارية ولا يأخذ عن الولد شيئًا لا قيمة ولا غيرها، وبعضهم قال: يأخذ قيمة الجارية وقيمة الولد ويبقيان عند المستحق.
هذه هي خلافات موجودة في المذاهب الأخرى، لم يشر إليها المؤلف
(1)
.
قوله: (وَأَمَّا الْأُمُّ فَقِيلَ: يَأْخُذُهَا بِعَيْنِهَا).
إذًا هو أشار إلى واحد من هذه الخلافات.
قوله: (وَقِيلَ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْوَلَدُ بِنِكَاحٍ فَاسْتُحِقَّتْ بِعُبُودِيَّةٍ).
يعني: تزوجها على أنها حرة، ثم تبيَّن أنها أَمَة فما الحكم هنا؟
قوله: (فَلَا خِلَافَ أَنَّ لِسَيِّدِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا وَيَرْجِعَ الزَّوْجُ بِالصَّدَاقِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ، وَإِذَا أَلْزَمْنَاهُ قِيمَةَ الْوَلَدِ لَمْ يَرْجِعْ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ غَرَّهُ؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْوَلَدِ
(2)
، وَأَمَّا غَلَّةُ الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ).
كأن يكون بستانًا له ثمر، فما حكم الغلة هنا؟ هل تعامل معاملة الغصب أو أنها تختلف عنه؟
(1)
قدمنا أقوال الفقهاء في هذه المسائل واختلافهم فيها.
(2)
قدمنا أقوال الفقهاء في هذه المسألة واختلافهم فيها.
قوله: (فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ ضَامِنًا بِشُبْهَةِ مِلْكٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْغَلَّةَ لِلْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ)
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 130) قال: "وثمرة البستان المغصوب أمانة في يد الغاصب فإن هلك فلا ضمان عليه إلا أن يتعدى فيها أو يطلبها مالكها فيمنعها إياه ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 448 - 449) قال: "وله غلة مغصوب مستعمل رجح حمله على العقار من دور ورباع، وأرض سكنها، أو زرعها، أو كراها دون الحيوان المستعمل الذي نشأ عن استعماله غلة ككراء الدابة، أو العبد، أو استعمالهما؛ لأنه مذهب المدونة فيضمن في العقار إذا استعمل، وإلا فلا ولا يضمن في الحيوان إلا ما نشأ من غير استعمال كلبن وصوف، والأرجح حمله على ظاهره من العموم وظاهر قوله: وغلة مستعمل ولو فات المغصوب ولزمت القيمة فيأخذ الغلة وقيمة الذات، وهو قول مالك وعامة أصحابه وجمهور أهل المدينة وقال ابن القاسم لا كراء له إذا أخذ القيمة واحترز بمستعمل عما إذا عطل كدار غلقها، وأرض بورها ودابة حبسها فلا شيء عليه ولا يخالف قوله فيما يأتي ومنفعة الحر، والبضع بالتفويت وغيرهما بالفوات؛ لأنه في غصب المنفعة وما هنا في غصب الذات فإذا غصب أرضًا وبورها فإن قصد غصب الذات فلا كراء عليه، وإن قصد غصب المنفعة لزمه كراء مثلها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 183) قال: "وإن كانت الزيادة التي فعلها الغاصب عينًا كبناء وغراس كلف القلع، وأرش النقص لخبر: "ليس لعرق ظالم حق "، وإعادتها كما كانت، وأجرة المثل إن مضت مدة لمثلها أجرة، ولو أراد المالك تملكه أو إبقاءه بأجرة لم يلزم الغاصب إجابته لإمكان القلع من غير أرش بخلاف المستعير، ولو أراد الغاصب القلع بغير رضا المالك لم يمنع، فإن بادر أجنبي لذلك غرم الأرش لأن عدم احترامه بالنسبة إلى مستحق الأرض فقط، ولو كان البناء والغراس مغصوبين من آخر فلكل من مالكي الأرض والبناء والغراس إلزام الغاصب بالقلع، وإن كانا لصاحب الأرض ورضي به المالك امتنع على الغاصب قلعه ولا شيء عليه، وإن طالبه بقلعه؛ فإن كان له فيه غرض لزمه قلعه مع أرش النقص، وإلا فوجهان أوجههما نعم لتعديه ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي" لابن قدامة (2/ 223) قال: "وإن زرعها، وأخذ زرعه، فعليه أجرة الأرض، وما نقصها، والزرع له؛ لأنه عين بذره نما، وإن أدركها ربها، والزرع قائم، فليس له إجبار الغاصب على القلع، ويخير بين تركه إلى الحصاد بالأجرة، وبين أخذه، ويدفع إلى الغاصب نفقته؛ لما روى رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من=
هو ضامن بشبهة ملك؛ لأنه أصلًا اشترى هذا البستان أو هذه المزرعة ظنًّا منه أنها ملك للبائع فلو تلفت في تلك الحال فالضمان عليه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"الخراج بالضمان"
(1)
، ومعنى الخراج: الغلة والنماء.
قوله: (وَأَعْنِي بِالضَّمَان: أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ خَسَارَتِهِ إِذَا هَلَكَتْ عِنْدَهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ ضَامِنٍ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا، فَيَطْرَأَ عَلَيْهِ وَارِثٌ آخَرُ فَيَسْتَحِقَّ بَعْضَ مَا فِي يَدِهِ؛ فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْغَلَّةَ).
هنا ليس ضامنًا؛ لأنه وارث ورث جملة من الحيوانات نصيبه من الميراث، ثم بعد ذلك تبيَّن وارث ينازعه في ذلك، وهذا يحصل وخصوصًا في الأزمنة السابقة، فإنك ترى رجلًا يتزوج وينجب أولادًا، ثم يسافر وتنقطع أخباره، وربما تزوج وسافر قبل أن يكون له ولد تم جاءه أولاد ولا يدري، فتقسم تركته التي كانت في ذلك المكان، ثم يظهر أولاده فيكونوا مستحقون، وقد يكون هذا الذي ظهر يحجب الآخر، وربما يشاركه في ذلك، وهنا يقول المؤلف: لا ضمان في هذه الحالة
(2)
.
=الزرع شيء، وله نفقته" قال الترمذي: هذا حديث حسن. ولأنه أمكن الجمع بين الحقين بغير إتلاف، فلم يجز الإتلاف، كما لو غصب لوحًا، فرقع به سفينة ملججة في البحر، وفارق الغراس؛ لأنه لا غاية له ينتظر إليها. وفيما يرده من النفقة روايتان:
إحداهما: القيمة؛ لأنه بدل عنه، فتقدرت به، كقيم المتلفات.
والثانية: ما أنفق من البذر ومؤنة الزرع في الحرث وغيره؛ لظاهر الحديث، ولأن قيمة الزرع زادت من أرض المالك، فلم يكن عليه عوضها، وإن أدرك رب الأرض شجر الغاصب مثمرًا، فقال القاضي: للمالك أخذه، وعليه ما أنفقه الغاصب من مؤنة الثمرة كالزرع؛ لأنه في معناه، وظاهر كلام الخرقي: أنه للغاصب؛ لأنه ثمر شجره، فكان له كولد أمته ".
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(5/ 191 - 192) قال: "قوله (وعلى من تلقى ذو اليد الملك منه) هذا مشروط بما إذا ادعى ذو اليد=
قوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ ضَامِنٍ إِلَّا أَنَّهُ ادَّعَى فِي ذَلِكَ ثَمَنًا مِثْلَ الْعَبْدِ يُسْتَحَقُّ بِحُرِّيَّةٍ، فَإِنَّهُ وَإِنْ هَلَكَ عِنْدَهُ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَنَّهُ لَا يُضَمَّنُ إِذَا لَمْ يجِدْ عَلَى مَنْ يَرْجِعُ، وُيضَمَّنُ إِذَا وَجَدَ عَلَى مَنْ
=الشراء منه. ففي البحر عن الخلاصة: إذا قال المشتري في جواب دعوى الملك هذا ملكي؛ لأني شريته من فلان صار البائع مقضيًّا عليه ويرجع المشتري عليه بالثمن: أما إن قال في الجواب ملكي ولم يزد عليه لا يصير البائع مقضيًّا عليه والإرث كالشراء نص عليه في الجامع الكبير.
وصورته: دار بيد رجل يدعي أنها له فجاء آخر وادعى أنها له وقضي له بها فجاء أخو المقضي عليه، وادعى أنها كانت لأبيه تركها ميراثًا له وللمقضي عليه يقضى للأخ المدعي بنصفها؛ لأن ذاك لم يقل ملكي؛ لأني ورثتها من أبي ليصير الأخ مقضيًّا عليه، وكذا لو أقرَّ الأخ المقضي عليه أنه ورثها من أبيه بعد إنكاره وإقامة البينة ولو أقر بالإرث قبل إقامة البينة لا تسمع دعوى الأخ اهـ قال: وذكر قبله إذا صار المورث مقضيًّا عليه في محدود فمات فادعى وارثه ذلك المحدود إن ادعى الإرث من هذا المورث لا تسمع، وإن ادَّعى مطلقًا تسمع وإن كان المورث مدعيًا وقضي له ثم بعد موته ادَّعى وارث المقضي عليه على وارث المقضي له هذا المحدود مطلقًا لا تسمع اهـ
…
(قوله ولو مورثه)
…
أي: لو اشتراه ذو اليد من مورثه، فالحكم عليه بالاستحقاق حكم على المورث، فلا تسمع دعوى بقية الورثة على المستحق بالإرث ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (14/ 251 - 252) قال: "قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يموت فيقسم ورثته ميراثه، ثم يأتي رجل فيقيم البينة أنه ولده ويثبت نسبه، ويعدم بعض الورثة؟ قال: ينظر إلى ما صار بيد كل وارث من حقِّه أن لو كان أولًا معهم فيتبع المعدم بما صار عليه، والمليء بما صار عليه، ولا يأخذ من المليء عن المعدم
…
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، أعلمه، وكذلك حكم الغريم يطرأ على الغرماء، والموصى له على الموصى لهم، فإن وجد بأيديهم ما قبضوا قائمًا لم يفت، أخذ من كل واحد منهم ما يجب له، ولم تنتقض القسمة إن كان ذلك مكيلًا أو موزونًا، وإن كان حيوانًا أو عروضًا، انتقضت القسمة، لما يدخل عليها من الضرر في تبعيض حقهم، واختلف هل يضمن كل واحد منهما للطارئ ما ينوبه مما قبض إن قامت له بينة على تلفه من غير سببه أم لا على قولين، أحدهما: أنه ضامن لذلك. والثاني: أنه لا ضمان عليه فيه ".
ومذهب الشافعية والحنابلة: لم أقف عليه.
يَرْجِعُ
(1)
. وَأَمَّا مِنْ أَيِّ وَقْتٍ تَصِحُّ الْغَلَّةُ لِلْمُسْتَحِقِّ؟ فَقِيلَ يَوْمَ الْحُكْمِ).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (6/ 157) قال: "وإن قال عبد لمشترٍ: اشترني فإني عبد فاشتراه، فإذا هو حرٌّ، فإن كان البائع حاضرًا أو غائبًا غيبة معروفة فلا شيء على العبد، تفريع على أن التناقض في دعوى الحرية معفو عنه، فإن هذا الشخص أقر أولًا بالعبودية ثم ظهر بعد ذلك أنه حر بدعواه فكان متناقضًا، لكنه معفو عنه في دعوى الحرية فتقبل الشهادة، وحينئذ فلا يدل وضعها على أنه لا يشترط الدعوى في الحرية العارضة بل العارضة والأصلية سواء في أنه لا بد من دعوى العبد عند أبي حنيفة، وهو قول الجمهور، وهو الصحيح لأنها حق العبد، ولا يمنعها التناقض كما ذكرنا، وإنما لم يلزم العبد في هاتين الصورتين شيء لإمكان الرجوع على البائع القابض، قوله وإلا رجع المشتري على العبد، والعبد على البائع، أي: وإن كان البائع غائبًا غيبة غير معروفة بأن لم يدر مكانه فإن المشتري يرجع على من قال له: اشترني فأنا عبد بما دفع إلى البائع من الثمن ثم يرجع على من باعه بما رجع المشتري به عليه إن قدر، وإنما يرجع به على من باعه مع أنه لم يأمره بالضمان عنه لأنه أدى دينه، وهو مضطر في أدائه
…
وإنما قيد بالقيدين؛ لأنه لو قال: أنا عبد وقت المبيع، ولم يأمره بشرائه، أو قال: اشترني، ولم يقل: أنا عبد لا رجوع عليه بشيء".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للرعيني (5/ 302) قال: "المذهب من أن العبد إذا استحق بحرية لا يرجع على سيده بما اغتله منه من خراجه وأجرة عمله ولا بأجرة ما استخدمه فيه وكذا لو كاتبه ثم استحق بحرية بعد أن قبض السيد الكتابة لم يرجع عليه بها بخلاف ما لو جرح فأخذ السيد لذلك أرشًا فله الرجوع على سيده بما أخذه من أرش جراحه وكذا لو كان له مال اشتراه معه أو أفاده عبد من فضل خراجه أو عمله أو تصدق به عليه أو وهب له فانتزعه السيد فله الرجوع على سيده بما انتزعه من ذلك أما لو وهب له السيد مالًا أو استخبره بمال فاستفاد فيه وقال: إنما دفعته إليه؛ لأنه عبدي وكنت أرى أن لي أن أنتزعه منه متى شئت فللسيد أن يرجع في ذلك كله، وأما إذا قال: اتجر بهذا المال لنفسك فليس له إلا رأس ماله ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"فتح العزيز بشرح الوجيز" للرافعي (11/ 110 - 111) قال: "إذا حكمنا بالعتق والحالة هذه فلا نقول بأن ولاءه للمشتري لاعترافه أنه لم يعتقه، ولا للبائع لزعمه أنه ليس بعتق بل هو موقوف، فإن مات وقد اكتسب مالًا فإن كان له وارث بالنسب فهو له وإلا فينظر إن صدق البائع المشترى أخذه ورد الثمن وإن كذبه وأصر على كلامه الأول فظاهر النص أنه يوقف المال كما كان الولاء موقوفاً واعترض المزني فقال للمشترى أن يأخذ قدر الثمن مما تركه فإن فضل شيء كان=
هناك دعوى، والمدَّعى عليه قد يوقع به ثم بعد ذلك قد يظهر الحكم، ثم التنفيذ، فمن أيِّها يُبدأ، هل من وقت منعه من التصرف في هذا الملك أو من حين صدور الحكم عليه بأن الملك مستحق للآخر الذي ادعاه أو من الوقت الذي نفذ فيه الحكم؟
قوله: (وَقِيلَ مِنْ يَوْمِ ثُبُوتِ الْحَقِّ، وَقِيلَ مِنْ يَوْمِ تَوْقِيفِهِ
(1)
).
=الفاضل موقوفًا وعلله بأن المشتري إذا كان كاذبًا فالميت رقيق وجميع أكسابه له أو صادقًا فالإكساب للبائع إرثًا بالولاء وهو قد ظلمه بأخذ الثمن وتعذر استرداده فإذا ظفر بماله كان له أن يأخذ به حقه وافترض الأصحاب في المسألة فذهبت فرقة إلى تقرير النصين تخطئة المزني فالتوجيه من وجهين: (أحدهما) أنه لو أخذ شيئًا فأما أن يأخذه بجهة أنه كسب مملوكه وقد نفاه بإقراره أو بجهة الظفر بمال من ظلمه وهو ممتنع؛ لأنه إنما بذله تقربًا إلى الله تعالى باستنقاذه حراًّ فيكون سبيله سبيل الصدقات والصدقات لا يرجع فيها. (والثاني): لا يدري أنه يأخذه بجهة الملك أو بجهة الظفر بمال من ظلمه فيمتنع من الأخذ إلى ظهور جهته
…
(الحالة الثانية): أن يكون صفة إقراره أنه حر الأصل وأنه عتق قبل أن أشتريه فإذا اشتراه فهو فداء من جهته بلا خلاف
…
وإذا مات وقد اكتسب مالًا وليس له وارث فالمال لبيت المال وليس للمشترى أن يأخذ منه شيئًا؛ لأن تقدير صدقه لا يكون المال للبائع حتى يأخذ عوضًا عن الثمن ولو مات العبد قبل أن يقبضه المشتري لم يكن للبائع أن يطالبه الثمن؛ لأنه لا حرية في زعمه والمبيع قد تلف قبل القبض".
ومذهب الحنابلة: لم أقف عليه.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (6/ 159) قال: "ولو شرى أرضًا فبنى أو زرع أو غرس فاستحق يرجع المشتري بثمنه على بائعه، ويسلم بناءه، وزرعه، وشجره إليه فيرجع بقيمتها مبنيًّا قائمًا يوم سلمها إليه فلو بنى المشتري بناء قيمته عشرة آلاف مثلًا، وسكن فيه زمانًا حتى خلف البناء، وتغير، وانهدم بعضه ثم استحق يرجع على بائعه بقيمة البناء يوم تسليمه، ولا ينظر إلى ما كان أنفق، وإنما يرجع بقيمة ما يمكن نقضه، وتسليمه إلى البائع حتى لا يرجع بقيمة جص وطين، ولو كان البائع غائبًا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رش الجد (11/ 189 - 190) قال: "قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الأرض تكون بيد الرجل، فيدعيها رجل، ويخاصمه فيها، فيستحقها، وقد قلبها الذي كانت في يديه، وأنعم حرثها ليزرعها. قال: المستحق بالخيار، إن شاء أعطاه قيمة عمله وأخذها، فإن أبي قيل للذي=
وهذا يظهر له فائدة؛ لأنه ربما تكون دارٌ تؤجر ولو طبق من حين أن يوقف ربما يدرك الأجرة فيأخذها وكذلك تمرُّ المزرعة، لكن ربما لو كان من وقت الحكم فيكون قد خرجت تلك الثمرة واستفاد منها المستحق منه وذهبت له، فالنتيجة تختلف.
قوله: (وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْغَلَّةَ تَجِبُ لِلْمُسْتَحِقِّ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، فَإِذَا كَانَتْ أُصُولًا فِيهَا ثَمَرَة، فَأَدْرَكَ هَذَا الْوَقْتَ الثَّمَرُ وَلَمْ يُقْطَفْ بَعْدَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهَا لِلْمُسْتَحِقِّ مَا لَمْ تَيْبَسْ).
تقطف؛ أي: تُقطع
(1)
، وتيبس؛ أي: تكون جُذاذًا، أو من وقت القطع قطع الجذاذ.
قوله: (وَقِيلَ: مَا لَمْ يَطِبْ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا سَقَى وَعَالَجَ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ يَدَيْهِ).
لأن هذا الذي قام عليه سقاها وأيضًا يعالجها بالإصلاح والتأبير وغير ذلك.
قوله: (وَهَذَا إِنْ كَانَ اشْتَرَى الْأُصُولَ قَبْلَ الْإِبَّارِ).
والإبَّار الذي يعرف بالتلقيح
(2)
، يعني: تلقيح النخل يؤخذ من الذكر فتلقح الأنثى.
=استحقت في يديه: إن شئت فاغرم كراءها، وإن شئت فأسلمها بما فيها من العمل، ولا شيء عليك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة لم يجر فيها ابن القاسم على الأصل؛ لأنه إذ لم يلزم المستحق أن يعطي المستحق من يديه الأرض قيمة حرثه وعمله فيها، كما يلزم مستحق الحائط أن يعطي الذي استحق من يديه قيمة سقيه وعلاجه، إن كان سقاه وعالج فيه ".
(1)
القطف: قطعك العنب وغيره وكل شيء تقطعه، فقد قطفته. انظر:"تهذيب اللغة" للأزهري (9/ 26)، و"النهاية" لابن الأثير (4/ 84).
(2)
الإبَّار: تلقيحها، وقد أبَّر من حدِّ ضرب. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 154).
قوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بَعْدَ الْإِبَّارِ فَالثَّمَرَةُ لِلْمُسْتَحِقِّ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ إِنْ جُذَّتْ).
وهذا هو رأي الأكثر أيضًا
(1)
.
قوله: (وَبَرْجِعُ بِالسَّقْيِ وَالْعِلَاجِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: هِيَ لِلْمُسْتَحِقِّ مَا لَمْ تُجَذَّ. وَالْأَرْضُ إِذَا اسْتُحِقَّتْ، فَالْكِرَاءُ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُسْتَحِقِّ إِنْ وَقَعَ الِاسْتِحْقَاقُ فِي إِبَّانِ زَرِيعَةِ الْأَرْضِ. وَأَمَّا إِذَا خَرَجَ الْإِبَّانُ فَقَدْ وَجَبَ كِرَاءُ الْأَرْضِ لِلْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ تَغَيَّر بِنُقْصَانٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ سَبَبِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ يَدَيْهِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ مِنْ يَدَيْهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَخَذَ لَهُ ثَمَنًا مِثْلَ أَنْ يَهْدِمَ الدَّارَ فَيَبِيعَ نَقْضَهَا، ثُمَّ يَسْتَحِقَّهَا مِنْ يَدِهِ رَجُلٌ آخَر).
يعني: يبيع الأنقاض ثم يستحقها آخر، فإن ذلك يرجع عليه بما أخذ من هذا النقيض الذي هو نقض الدار
(2)
.
قوله: (فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ مَا بَاعَ مِنَ النَّقْضِ. قَالَ الْقَاضِي).
أي: ابن رشد رحمه الله.
قوله: (وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذَا الْبَابِ خِلَافًا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِيمَا نَقَلْتُهُ فِيهِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ).
يقول: بأن هذه المسائل المتعلقة بالاستحقاق لم يقف على خلاف يُعتمد عليه، أي: خلاف له أدلة وله حجج ونحو ذلك، وسبب ذلك أن بعض العلماء يتبعه بكتاب الغصب، وبعضهم يجعله مفرَّقًا لأبواب عدة.
(1)
مرت هذه المسائل في كتاب الغصب.
(2)
مرت هذه المسائل في كتاب الغصب.
قوله: (وَهِيَ أُصُولُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَكِنْ يَجِيءُ عَلَى أُصُولِ الْغَيْرِ).
يقصد بذلك الأئمة الذين أشرت إليهم، وقد ذكرنا رأيهم وطريقتهم، وخاصة فيما يتعلق بعروض التجارة إذا كان عرضًا، فإن كان موجودًا أخذ، وإن كان قد تلف أخذ مثله، وكذلك الحال بالنسبة للدراهم والدنانير والمكيل والموزون، وكل ذلك عرفناه في كتاب الغصب (1).
قوله: (وَلَكِنْ يَجِيءُ عَلَى أُصُولِ الْغَيْرِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مُشْتَرًى بِعَرَضٍ، وَكانَ الْعَرَضُ قَدْ ذَهَبَ أَنْ يَرْجِعَ الْمُسْتَحَقُّ مِنْ يَدِهِ بِعَرَضٍ مِثْلِهِ لَا بِقِيمَتِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَرَوْنَ فِي جَمِيعِ الْمُتْلَفَاتِ الْمِثْلَ).
وهم الشافعية والحنابلة؛ كما مرَّ، والمالكية يوافقونهم ببعض المواضع (2).
قوله: (وَكَذَلِكَ يَجِيءُ عَلَى أُصُولِ الْغَيْرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي إِذَا اسْتُحِقَّ مِنْهُ قَلِيلٌ أو كَثِيرٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْبَاقِي، وَلَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ بَيْعٌ، وَلَا وَقْعَ بِهِ تَرَاضٍ، كَمُلَ كِتَابُ الِاسْتِحْقَاقِ بِحَمْدِ اللَّهِ).
وهذه نقطة الخلاف الأخرى، لذلك في مقدمة هذا الباب فرَّق بين القليل وبين الكثير وبين الكل، فالقليل جعل له حكمين، أما الشافعية والحنابلة فلا يرون فرقًا ما دام أن له جزءًا من هذا الملك فله الحق أن يعاد الملك كما كان (3).
[كِتَابُ الْهِبَاتِ]
هناك الهبة، والهدية، والعطية، والصدقة، والذي يُعنوَن به عند كافة الفقهاء وفي كتب الحديث وغيرها هو لفظ الهبة
(1)
.
والهبة لغة: من وَهَبَ يَهِبُ هِبَةً، وأصل فعلها: وَهَبَ يُوهِب، وهذا مما تدخله العلل الصرفية؛ مثل: وَعَدَ يَعِدُ فتقول: ميعاد، وكذلك هنا هبة
(2)
.
واصطلاحًا: تمليكُ عَين بعقْدٍ على غير عِوَضٍ مَعلومٍ في الحياة
(3)
.
ومعلوم بأن البيع هو مبادلة مال بمال، البائع يدفع سلعة، يدفع مثمَّنًا، والمشتري يدفع ثمنًا، وكذلك الإجارة تستأجر دارًا فتدفع ثمن الأُجرة، لكنَّ الهبة ليس فيها شيء من ذلك، إنسان وَهب آخر شيئًا، ولا شكَّ أنه جاء الحض على ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "يا نساء
(1)
انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 299).
(2)
وهب لك الشيء يهبه وهْبًا، ووهَبًا، بالتحريك، وهبة؛ والاسم الموهب، والموهبة، بكسر الهاء فيهما. ولا يقال: وهبكه، ووهبت له هبة، وموهبة، ووهبًا، ووهبًا إذا أعطيته. ووهب الله له الشيء، فهو يهب هبة. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (1/ 803).
(3)
"الهبة": التبرع بما ينتفع به الموهوب له، وقد يكون بالعين، وقد يكون بالدين، وقد يكون بغير المال، يقال: وهب له عبدًا ووهب له ما عليه من الدين ووهب له جرمه وتقصيره، ووهب الله له ولدًا صالحًا. يُنظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 106).
المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة"
(1)
.
و"فرسن الشاة" هو
(2)
: عَظْم صغير عليه جزء قليل من اللحم، أي: لا تحتقر أن تهدي إلى جارتها شيئًا حتى وإن كانت تراه شيئًا يسيرًا، وكذلك ينبغي للمُهدى إليه أن لا يحتقر الهدية
(3)
، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تهادوا تحابوا"
(4)
؛ لأن في الهدية تقريبًا للنفوس، وتقوية للمحبة والمودة بين الناس، وهي لا تختص بأن تكون من الغني إلى الفقير أو من الأكثر مالًا، فهي وإن كانت من الفقير إلى الغنيِّ تجد نفس الغنيِّ تنشرح لذلك وتطمئن، فهي تَبُثُّ الوُدَّ والمحبة بين المؤمنين، وَتُقوِّي الصلة، وتُعمِّق الروابط بينهم، ولقد أَهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُهدي إليه أيضًا، ولذلك صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت ولو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت"
(5)
.
فذراع الضأن كان من أحبِّ اللحم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الكراع فلا فائدة فيه ومع ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت "، وهذا يدلُّ على تواضعه صلى الله عليه وسلم، وأنه يُبادر إلى إجابة دعوة أخيه المسلم، وأنه يقصد بذلك تطييب المؤمن وبثِّ الراحة في نفسه، وفيه إشارة إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرم الخلق، من التواضع، والرضا بالقليل، والحلم، والبعد عن كل ما يتعلق بشئون هذه الحياة، وأنه
(1)
أخرجه البخاري (2566)، ومسلم (1030/ 90).
(2)
"الفرسن ": عظم قليل اللحم، وهو خف البعير، كالحافر للدابة، وقد يستعار للشاة فيقال: فرسن شاة، والذي للشاة هو الظلف. انظر:"النهاية" لابن الأثير (3/ 429).
(3)
قال ابن حجر في "فتح الباري"(5/ 198): أي لا تمنع جارة من الهدية لجارتها الموجود عندها لاستقلاله، بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر، وإن كان قليلًا فهو خير من العدم، وذكر الفرسن على سبيل المبالغة، ويحتمل أن يكون النهي إنما وقع للمهدى إليها، وأنها لا تحتقر ما يهدى إليها ولو كان قليلًا، وحمله على الأعمِّ من ذلك أولى.
(4)
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(594)، وحسنه الألباني في "الإرواء"(1601).
(5)
أخرجه البخاري (2568).
لا يبالي بالأمور الكبيرة
(1)
.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يُبيِّن أنَّ الهدية أو الهبة لا يُشترط فيها أن تكون عظيمة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَالنَّظَرُ فِي الْهِبَةِ: فِي أَرْكَانِهَا، وَفِي شُرُوطِهَا، وَفِي أَنْوَاعِهَا، وَفِي أَحْكَامِهَا. وَنَحْنُ إِنَّمَا نَذْكُرُ مِنْ هَذِه الْأَجْنَاسِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ، فَنَقُولُ: أَمَّا الْأَرْكَانُ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ: الْوَاهِبُ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ، وَالْهِبَةُ).
"الركن ": هو الأساس الذي يقوم عليه الشيء، فأيُّ بناء لا بد أن يقوم على أساس.
وأركان الهبة ثلاثة:
وَاهِبٌ وهو الشخص الذي يُقدِّم الهبة ويدفعها.
ومَوهُوبٌ لَه وهو الذي تُقدَّم له الهبة.
والركن الثالث: الشيء المُهدى
(2)
.
قوله: (أَمَّا الْوَاهِبُ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ هِبَتُهُ إِذَا كَانَ مَالِكًا لِلْمَوْهُوبِ صَحِيحَ الْمِلْكِ)
(3)
.
(1)
قال ابن حجر في "فتح الباري"(5/ 199 - 200): وخصَّ الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الحقير والخطير؛ لأن الذراع كانت أحب إليه من غيرها، والكراع لا قيمة له، وفي المثل أعط العبد كراعًا يطلب منك ذراعًا.
(2)
انظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 241)، و"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 560)، و"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 299 - 300).
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 118) قال: "شرائط ركن الهبة (فصل): وأما الشرائط فأنواع بعضها يرجع إلى نفس الركن وبعضها يرجع إلى الواهب
…
وأما ما يرجع إلى الواهب فهو أن يكون ممن يملك التبرع ولأن الهبة تبرع فلا يملكها من لا يملك التبرع فلا تجوز هبة الصبي والمجنون لأنهما=
يعني: أن يَهب ما يملك، أما أن يهب ما لا يملك فهذا لا يصحُّ؛ لأنَّه يكون متعديًا، وهذا يدخل في باب الغصب، فليس من حقِّه؛ كأن يدخل إلى بُستان فيأخذ من ثمره ثم يُهديه للغير.
=لا يملكان التبرع لكونه ضررًا محضًا لا يقابله نفع دنيوي فلا يملكها الصبي والمجنون كالطلاق والعتاق وكذا الأب لا يملك هبة مال الصغير من غير شرط العوض بلا خلاف؛ لأن المتبرع بمال الصغير قربان ماله لا على وجه الأحسن ولأنه لا يقابله نفع دنيوي، وقد قال الله عز شأنه:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ولأنه إذا لم يقابله عوض دنيوي كان التبرع ضررًا محضًا وترك المرحمة في حق الصغير فلا يدخل تحت ولاية الولي ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 97 - 98) قال: "وصحت، أي: الهبة في كل مملوك للواهب فلا تصح في حرٍّ ولا ملك غير بخلاف بيعه؛ لأنه في نظير عوض ينقل، أي: يقبل النقل شرعًا، خرج أم الولد والمكاتب ممن له تبرع بها، وهو من لا حجر عليه فخرج السفيه والصبي ومن أحاط الدين بماله والسكران والمريض والزوجة فيما زاد على الثلث، لكن هبتهما ما زاد على الثلث صحيحة موقوفة على الوارث والزوج، كمن أحاط الدين بماله فإنها صحيحة موقوفة على رب الدين، وأما السفيه والصغير فباطلة كالمرتد وضمير بها عائد على الهبة، والمراد من له أن يتبرع بالهبة في غير هبة؛ لئلا يلزم شرط الشيء في نفسه كأنه قال ممن له التبرع بالهبة وقفًا، أو صدقة، أي: أن من له ذلك فله أن يهب تلك الذات ومن لا فلا، فالمريض والزوجة إذا أرادَا هبة ثلثهما صح لهما؛ لأن لهما أن يتبرعا به فلو لم يأت المصنف بقوله بها لورد عليه الزوجة والمريض؛ لأنهما ليس لهما التبرع دائمًا كما هو المتبادر من كلامه لو لم يأت بما ذكر".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 560) قال: "وشرط الهبة لتتحقق عاقدان كالبيع، وهذا هو الركن الأول، ولهما شروط، فيشترط في الواهب الملك، وإطلاق التصرف في ماله، فلا تصح من ولي في مال محجوره ولا من مكاتب بغير إذن سيده، ويشترط في الموهوب له أن يكون فيه أهلية الملك لما يوهب له من تكليف وغيره، وسيأتي أن غير المكلف يقبل له وليه فلا تصحُّ لحمل ولا لبهيمة ولا لرقيق نفسه، فإن أطلق الهبة له فهي لسيده ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 429) قال: "هي شرعًا تمليك خرج به العارية، جائز التصرف أي: مكلف رشيد مالًا معلومًا خرج به الكلب ونحوه، معلومًا يصح بيعه، أو مالًا مجهولًا تعذر علمه كدقيق اختلط بدقيق لآخر فوهب أحدهما للآخر ملكه منه فيصح مع الجهالة للحاجة.
قوله: (وَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، وَحَالِ إِطْلَاقِ الْيَدِ).
حَالُ الصحة فلا يكونُ مريضًا، وإن كان مريضًا فهل للمريض أن يَهب؟ وإن قلنا: إنه يهب، فهل فهل الهبة تعامل معاملة الوصية؟
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي حَالِ الْمَرَضِ، وَفِي حَالِ السَّفَهِ وَالْفَلَسِ. أَمَّا الْمَرِيضُ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا فِي ثُلُثِهِ تَشْبِيهًا بِالْوَصِيَّةِ
(1)
).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(5/ 700) قال: "وهب في مرضه، ولم يسلم حتى مات بطلت الهبة؛ لأنه وإن كان وصية حتى اعتبر فيه الثلث فهو هبة حقيقة، فيحتاج إلى القبض.
وهب المريض عبدًا لا مال له غيره، ثم مات وقد باعه الموهوب له لا ينقض البيع، ويضمن ثلثيه، وإن أعتقه الموهوب له والواهب مديون ولا مال له غيره قبل موته جاز وبعد موت الواهب لا لأن الإعتاق في المرض وصية: وهي لا تعمل حال قيام الدين، وإن أعتقه الواهب قبل موته ومات لا سعاية على العبد لجواز الإعتاق ولعدم الملك يوم الموت بزازية ورأيت في مجموعة مُنْلَا عليٍّ الصغيرة بخطه عن جواهر الفتاوى كان أبو حنيفة حاجًّا فوقعت مسألة الدور بالكوفة، فتكلم كل فريق بنوع فذكروا له ذلك حين استقبلوه فقال من غير فكر ولا رواية: أسقطوا السهم الدائرة تصح المسألة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 98) قال: "لا تصح في حر ولا ملك غير بخلاف بيعه؛ لأنه في نظير عوض ينقل، أي: يقبل النقل شرعًا خرج أم الولد والمكاتب ممن له تبرع بها وهو من لا حجر عليه فخرج السفيه والصبي ومن أحاط الدين بماله والسكران والمريض والزوجة فيما زاد على الثلث لكن هبتهما ما زاد على الثلث صحيحة موقوفة على الوارث ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 290) قال: "هبة المريض وما يتصل به في الدور، وإذ وهب المريض في مرضه، هبة، فإن كانت لوارث، فهي مردودة؛ لأن هبة المريض وصية من ثلثه، والوارث ممنوع من الوصية، وكذلك لو وهب لغير وارث، فصار عند الموت وارثًا، كانت باطلة؛ لأنها صارت هبة لوارث، ولو وهب لوارث، فصار عند الموت غير وارث، فهي هبة لغير وارث اعتبارًا بحاله عند الموت.
ولو وهب في مرضه لوارثه، ثم مات الموهوب له قبل الواهب، صحت الهبة إن احتملها الثلث؛ لأنه لما مات قبله صار غير وارث، ولو وهب لوارث في مرضه،=
قاسوا الهبة على الوصية؛ فالمريض ليس له أن يَهبَ أكثر من الثلث قياسًا على الوصية، فليس هناك نصٌّ في أنَّ الهبة تُقيَّد بالثلث، ولكنَّهم قاسوها على الوصيَّة.
قوله: (أَعْنِي: الْهِبَةَ التَّامَّةَ بِشُرُوطِهَا).
أن يَكونَ جَائز التصرف فلا يكونُ صغيرًا، ولا يكون مجنونًا، ولا يكون محجورًا عليه لحظ نفسه
(1)
، لقوله تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]. {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، أي: غير المكلف ليس له أن يَهب حتى وإن وافق وليُّ أمره، فليس لوليِّ الصبي أن يُوافق على أن يتبرع بماله؛ لأنه محجور عليه لحظ نفسه، ومثله تمامًا المحجور عليه لسفهٍ؛ أي: لعدم الرشد في التصرف في المال، وإن كان كبيرًا، وكذلك الذي يُحجَر عليه لفلس، وإن كان إنسانٌ أفلس فيُحجر عليه، فليس له أن يُهدي أمواله أو بعضًا منها؛ لأنها تعلَّقت بها حقوقُ الآخرين
(2)
.
=ثم صحَّ منه ومات من غيره، كانت الهبة جائزة؛ لأن تعقب الصحة يمنع من أن يكون ما يقدمه وصية، فأما إذا وهب لأجنبي في مرضه الذي مات منه، هبة فإن لم يقبضها حتى مات: فالهبة باطلة؛ لأنها لا تتم إلا بالقبض، وإن أقبضه قبل الموت: صحت الهبة، وكانت من الثلث، تمضي إن احتملها الثلث، ويرد منها ما عجز الثلث عنه، وهكذا لو وهب في صحته، وأقبض في مرضه، كانت في ثلثه؛ لأنها بالقبض في الموصى، فصارت هبة في المرض ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 328) قال: "حكم العطية في مرض الموت حكم الوصية في أشياء كما تقدم منها أنه يقف نفوذها على خروجها من الثلث، أو إجازة الورثة ومنها: أنها لا تصح لوارث إلا بإجازة الورثة ومنها: أن فضيلتها ناقصة عن فضيلة الصدقة ومنها: أنها تتزاحم في الثلث إذا وقعت دفعة واحدة كتزاحم الوصايا، ومنها: أن خروجها من الثلث يعتبر حال الموت لا قبله ولا بعده ".
(1)
تقدَّم نقل أقوال الفقهاء في ذلك أول كتاب الهبة.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 145 - 146) قال: "ومن عقد عقدًا يدور بين نفع وضر كما سيجيء في المأذون، منهم:=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
=من هؤلاء المحجورين وهو يعقله يعرف أن البيع سالب للملك والشراء جالب أجاز وإليه، أو رد وإن لم يعقله فباطل نهاية.
وإن أتلفوا، أي: هؤلاء المحجورين سواء عقلوا أو لا درر شيئًا مقومًا من مال أو نفس ضمنوا؛ إذ لا حجر في الفعلي، لكن ضمان العبد بعد العتق على ما مرَّ. وفي الأشباه: الصبي المحجور مؤاخذ بأفعاله فيضمن ما أتلفه من المال للحال.
وقال في "الحاشية": قوله: من هؤلاء المحجورين، المراد: الصبي والرقيق فأطلق لفظ الجمع على الاثنين كقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} ، والمراد: أخوان، وقيل: المراد العبد والصبي والمجنون الذي يفيق جوهرة. (قوله: يعرف أن البيع سالب إلخ)
…
وزاد في الجوهرة: ويعلم أنه لا يجتمع الثمن والمثمن في ملك واحد قال في شاهان: ومن علامة كونه غير عاقل إذا أعطى الحلواني فلوسًا فأخذ الحلوى وبقي يقول: أعطني فلوسي وإن ذهب ولم يسترد الفلوس فهو عاقل اهـ. (قوله: أجاز وليه)، أي: إن لم يكن فيه غبن فاحش، فإن كان لا يصح وإن أجازه الولي بخلاف اليسير جوهرة وسيأتي بيان الولي آخر المأذون وأنه يصح إذن القاضي وإن أبي الأب ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 98) قال: "لا تصح في حر ولا ملك غير بخلاف بيعه؛ لأنه في نظير عوض ينقل، أي: يقبل النقل شرعًا، خرج أم الولد والمكاتب ممن له تبرع بها، وهو من لا حجر عليه فخرج السفيه والصبي، ومن أحاط الدين بماله، والسكران والمريض والزوجة، فيما زاد على الثلث لكن هبتهما ما زاد على الثلث صحيحة موقوفة على الوارث والزوج، كمن أحاط الدين بماله فإنها صحيحة موقوفة على ربِّ الدين، وأما السفيه والصغير فباطلة كالمرتد وضمير بها عائد على الهبة، والمراد من له أن يتبرع بالهبة في غير هبة؛ لئلا يلزم شرط الشيء في نفسه، كأنه قال ممن له التبرع بالهبة وقفًا، أو صدقة، أي: أن من له ذلك فله أن يهب تلك الذات ومن لا فلا، فالمريض والزوجة إذا أرادا هبة ثلثهما صحَّ لهما؛ لأن لهما أن يتبرعا به فلو لم يأت المصنف بقوله بها لورد عليه الزوجة والمريض؛ لأنهما ليس لهما التبرع دائمًا كما هو المتبادر من كلامه لو لم يأت بما ذكر".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 159 - 160) قال: "الحجر
…
منع من تصرف خاص بسبب خاص، وهو إما لمصلحة الغير، ومنه حجر المفلس لحق الغرماء والراهن للمرتهن والمريض للورثة بالنسبة لتبرع زاد على الثلث أو لوارث، وللغرماء مطلقًا، ولا ينافيه نفوذ إيفائه دين بعضهم في المرض،=
قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الظَّاهِرِ
(1)
: إِنَّ هِبَتَهُ تُخْرَجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ إِذَا مَاتَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ إِذَا صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ أَنَّ الْهِبَةَ صَحِيحَةٌ).
أي: إذا صَحَّ من مَرَضه وعاد إلى صِحَّتِه يكونُ تَصَرُّفه صحيحًا، أمَّا أهل الظاهر فخالفوا في ذلك؛ لأنهم لا يرون القياس.
قوله: (وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام: "فِي الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْتَقَ ثُلُتَهُمْ، وَأَرَقَّ الْبَاقِي"
(2)
).
يعني: أنَّهم ستةٌ فأعتق اثنين وأرقَّ الباقي؛ لأنه ليس له مالٌ إلا هذا، فكأنَّه أوصى بذلك.
=وإن لم يف الباقي بدين الباقين، بل وإن لم يفضل شيء؛ لأنه مجرد تخصيص لا تبرع فيه
…
وإما لمصلحة النفس وهو مقصود الباب وذلك حجر الصبي والمجنون والمبذر وإما لهما، وهو حجر المكاتب قيل الأول حقيقة؛ لأنه منع مع وجود المقتضي بخلاف حجر الصبي والمجنون ويتردد النظر في حجر السفه والرق ".
ومذهب الحنابلة: ينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 303) قال: "والهبة من الصبي لغيره باطلة؛ لأنه محجور عليه، ولو أذن فيها الولي لم تصحَّ؛ لأنه متجرع، وكذا السفيه لا تصح هبته ولو أذن فيها وليه ".
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 348) قال: "فعل المريض مرضًا يموت منه أو الموقوف للقتل، أو الحامل، أو المسافر في أموالهم:
قال أبو محمد: كل من ذكرنا فكل ما أنفذوا في أموالهم من هبة أو صدقة أو محاباة في بيع أو هدية أو إقرار: كان كل ذلك لوارث، أو لغير وارث، أو إقرار بوارث، أو عتق أو قضاء بعض غرائمه دون بعض كان عليهم دين أو لم يكن فكله نافذ من رؤوس أموالهم ".
(2)
أخرجه مسلم (668/ 56) عن عمران بن حصين، "أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرقَّ أربعة، وقال له قولًا شديدًا".
قوله: (وَعُمْدَةُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: اسْتِصْحَابُ الْحَالِ).
أهلُ الظاهر يقولون: ألستم قد أجمعتم على أنَّه يجوز للإنسان أن يَتبرَّع ولو بجميع ماله في حياته، فقالوا: ما الفرق بين المريض وبين الصحيح؟ هذا هو استصحاب الحال
(1)
.
قوله: (أَعْنِي: حَالَ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ هِبَتِهِ فِي الصحَّةِ وَجَبَ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي الْمَرَضِ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدلِيل مِنْ كِتَابٍ أو سُنَّةٍ بَيِّنَةٍ، وَالْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ)
(2)
.
يعني: حديثَ الستة الذين دبَّرهم فإنَّهم قالوا: هذا خاصّ بالوصية.
قوله: (وَالْأَمْرَاضُ الَّتِي يُحْجَرُ فِيهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ هِيَ الْأَمْرَاضُ الْمَخُوفَةُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ الْحَالَاتُ الْمَخُوفَةُ
(3)
).
(1)
قال ابن حزم في "المحلى"(9/ 354): "ثم نسألهم، عن مال المريض لمن، ألَهُ أم للورثة؟ فإن قالوا: بل له كما هو للصحيح. قلنا: فلم تمنعونه ماله دون أن تمنعوا الصحيح، وهذا ظلم ظاهر. ولو قالوا: بل هو للورثة. لقالوا الباطل؛ لأن الوارث لو أخذ منه شيئًا لقضي عليه برده، ولو وطئ أمَةَ المريض لحدّ، ولو كان ذلك لما حلَّ للمريض أن يأكل منه هو ومن تلزمه نفقته من غير الورثة. ولا ندري من أين أطلقوا للمريض أن يأكل من ماله ما شاء، ويلبس ما شاء، وينفق على من إليه من عبيد وإماء. وإن أتى على جميع المال، ومنعوه من الصدقة بأكثر من الثلث. إن هذا لعجب لا نظير له فظهر فساد هذا القول جملة وتعريه، عن أن يوجد، عن أحد من الصحابة، وإنما وجد، عن نفر يسير من التابعين مختلفين، وقد خالفوا بعضهم في قوله في ذلك ".
(2)
انظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 358).
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي و"حاشية ابن عابدين"(6/ 660 - 661) قال: " (قوله إن طالت مدته سنة) هذا على ما قاله أصحابنا، وبعضهم قالوا: إن عد في العرف تطاولًا فتطاول وإلا فلا
…
ثم المراد من الخوف الغالب منه لا نفس الخوف كفاية. وفسر القهستاني عدم الخوف بأن لا يزداد ما به وقتًا فوقتًا اهـ لأنه إذا تقادم العهد صار طبعًا من طباعه كالعمى والعرج، وهذا؛ لأن المانع من التصرف مرض الموت، وهو ما يكون سببًا للموت غالبًا، وإنما يكون كذلك إذا كان=
الأمراض المخوفة: هي التي يُخشى فيها الهلاك.
قوله: (مِثْلُ الْكَوْن بَيْنَ الصَّفَّيْنِ).
يعني: كونَ الإنسان بين صَفَّي القتال.
=بحيث يزداد حالًا فحالًا إلى أن يكون آخره الموت، وأما إذا استحكم وصار بحيث لا يزداد، ولا يخاف منه الموت لا يكون سببًا للموت كالعمى ونحوه إذ لا يخاف منه، ولهذا لا يشتغل بالتداوي اهـ زيلعي وغيره.
(قوله وإلا تطل وخيف موته) عبارة القهستاني، وإلا يكن واحد منهما بأن لم تطل مدته بأن مات قبل سنة أو خيف موته بأن يزداد ما به يومًا فيومًا اهـ ومفهومه: أنه إذا لم تطل ولم يخف موته فهو من الثلث
…
وبقي ما إذا طال وخيف موته، ومقتضى عبارة القهستاني أنه من الثالث أيضًا، وهو المفهوم من تقييد المصنف ما يكون من كل المال بقوله ولم يخف موته، (قوله لأنها أمراض مزمنة)، أي: طويلة الزمان وهو تعليل لقوله: من كل ماله فكان ينبغي ذكره قبل قوله وإلا إلخ ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 306 - 307) قال: "السبب الخامس من أسباب الحجر وهو المرض المخوف فقال: وعلى مريض، أو من تنزل منزلته بدليل تمثيله للقسمين حكم الطب، أي: أهله العارفون به بكثرة الموت به، أي: بسببه أو منه، ولو لم يغلب كسل بكسر السين مرض ينحل به البدن، فكأن الروح تنسل معه قليلًا قليلًا، وقُولَنجٍ
…
مرضٌ مِعَويٌّ مؤلم يعسر معه خروج الغائط والريح
…
وحمى قوية حارة تجاوزَ العادة في الحرارة مع إزعاج البدن والمداومة، وحامل ستة، أي: أتمتها ودخلت في السابع ولو بيوم هذا هو الراجح خلافًا لظاهره، ومحبوس لقتل ثبت عليه بالبينة أو الاعتراف، وأما الحبس لمجرد الدعوى ليستبرئ أمره فلا يحجر عليه، أو مقرب لقطع لا محبوس له فالمعطوف محذوف، إن خيف الموت، يعني: أن من قرب أن تقطع يده أو رجله وخيف بالقطع موته فإنه يحجر عليه، وحاضر صف القتال وإن لم يصب بجرح، لا خفيف مرض كجرب، ورمد أو ضرس أو حمى يوم بعد يوم من كل ما لا ينشأ عنه موت عادة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"فتح الوهاب" لزكريا (2/ 19 - 25) قال: "من المخوف قُولَنج وذات جنب ورعاف دائم وإسهال متتابع أو وخرج الطعام غير مستحيل أو بوجع أو بدم ودق وابتداء فالج وحمى مطبقة أو غيرها إلا الربع وأسر من اعتاد القتل. والتحام قتال بين متكافئين وتقديم لقتل واضطراب ريح في راكب سفينة وطلق وبقاء مشيمة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 155 - 156) قال: "والحجر الذي هو منع الإنسان من التصرف في ماله على ضربين: أحدهما
…
وعلى مريض مرض موت مخوفًا فيما زاد على الثلث لحق الورثة".
قوله: (وَقُرْبِ الْحَامِلِ مِنَ الْوَضْعِ).
حيثُ إنَّها قد تموت أثناء الوضع.
قوله: (وَرَاكِبِ الْبَحْرِ الْمُرْتَجِّ).
الذي تتلاطم أمواجُه؛ كما قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، فهو مُعرَّضٌ للغرق ثم الهلاك.
قوله: (وَفِيهِ اخْتِلَافٌ
(1)
. وَأَمَّا الْأَمراضُ الْمُزْمِنَةُ فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِيهَا تَحْجِيرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ).
يُقصد بالأمراض المزمنة؛ كالإنسان الذي يُصيبه مرضٌ مُقعد، كأن يكونَ مَشلولًا مثلًا.
قوله: (وَأَمَّا السُّفَهَاءُ وَالْمُفْلِسُونَ فَلَا خِلَافَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِمْ أَنَّ هِبْتَهُمْ غَيْرُ مَاضِيَةٍ
(2)
).
الذين يقولون بالحَجْر عليهم هم الأئمة، وقد جاء التنصيص عليه في كتاب الله عز وجل:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
فهو غير رشيد، فلا يجوز له أن يتصرَّف حتى وإن أقرَّه وليُّه على ذلك، وكذلك الحال بالنسبة للسفيه لأنه مُبذِّر ومُضيِّعٌ لأمواله.
قوله: (وَأَمَّا الْمَوْهُوبُ فَكُلُّ شَيْء صَحَّ مِلْكُهُ).
كل شيء يثبت ملكه للإنسان الموهِب، فكلُّ ما تملكه ملكًا صحيحًا
(1)
تقدم ذكر أقوال الفقهاء فيها.
(2)
تقدم ذكر أقوال الفقهاء فيها.
فإنك تتصرف فيه، والقاعدة عند الشافعية
(1)
، والحنابلة
(2)
: "كُلُّ ما صَحَّ بيعُهُ صَحَّت هِبَتُه ".
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَهَبَ جَمِيعَ مَالِهِ لِلْأجْنَبِيِّ)
(3)
.
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 302) قال: "وما جاز بيعه جاز لم يؤنثه ليشاكل ما قبله، أو؛ لأن تأنيث فاعله غير حقيقي، هبته بالأولى؛ لأنها أوسع، نعم المنافع يصح بيعها بالإجارة وفي هبتها وجهان أحدهما أنها ليست بتمليك بناءً على أن ما وهبت منافعه عارية وقضية كلامهما كما قاله الإسنوي ترجيحه وبه جزم الماوردي وغيره ورجحه الزركشي ثانيهما أنها تمليك بناءً على أن ما وهبت منافعه أمانة ورجحه جمع منهم ابن الرفعة والسبكي والبلقيني ".
(2)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 394) قال: "وما صح بيعه من الأعيان صحت هبته؛ لأنها تمليك في الحياة، فصحت فيما صحَّ فيه البيع، وعلم منه أن كل ما لا يصح بيعه لا تصح هبته؛ كأم الولد، ويجوز نقل اليد في الكلب ونحوه مما يباح الانتفاع به، وليس هبة حقيقية، وصح استثناء نفعه، أي: الشيء الموهوب في الهبة عند إنشائها زمنًا معينًا كشهر وسنة، قياسًا على البيع فيما إذا شرط فيه البائع نفعًا معلومًا، كسكنى الدار المبيعة شهرًا ونحو ذلك، وما لا يصح بيعه فلا تصح هبته كالكلب وجلد الميتة المأكولة، وإن جاز الانتفاع بهما".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (5/ 687) قال: "الهبة
…
تمليك العين مجانًا، أي: بلا عوض لا أن عدم العوض شرط فيه، وأما تمليك الدين من غير من عليه الدين، فإن أمره بقبضه صحت لرجوعها إلى هبة العين، وسببها إرادة الخير للواهب دنيوي كعوض ومحبة وحسن ثناء، وأخروي: قال الإمام أبو منصور يجب على المؤمن أن يعلم ولده الجود والإحسان كما يجب عليه أن يعلمه التوحيد والإيمان؛ إذ حب الدنيا رأس كل خطيئة نهاية مندوبة وقبولها سنة قال صلى الله عليه وسلم "تهادوا تحابوا"".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 296 - 298) قال: "التمليك لعين أو دين بتفصيله الآتي، أو منفعة على ما يأتي، بلا عوض هبة بالمعنى الأعم الشامل للهدية والصدقة وقسيمهما، ومن ثَمَّ قدم الحدّ على خلاف الغالب، نعم هذا هو الذي ينصرف إليه لفظ: الهبة عند الإطلاق
…
فإن ملك أي: أعطى شيئًا بلا عوض محتاجًا وإن لم يقصد الثواب، أو غنيًّا لثواب الآخرة، أي: لأجله فصدقة أيضًا، وهي أفضل الثلاثة
…
نقله أي المملك بلا عوض إلى مكان الموهوب له إكرامًا ليس بقيد وإنما ذكر؛ لأنه يلزم غالبًا من النقل إلى ذلك، كذا قاله السبكي،=
يجوز للإنسان أن يَهَب جميع أمواله لجمعية خيرية أو لمجموعة من الناس كما له أن يُوقِف ماله، وله أن يتبرع ببعضه، وله أن يهبه لشخص واحد غير من سيرثه.
وهل له أن يهبه لمن يرثه ويترك الآخرين؟ أو أن يزيد بعضَ الورثة على بعض، في هذا خلاف مشهور بين العلماء.
=وهو مردود بل احترز به عما ينقل للرشوة، أو لخوف الهجو مثلًا، فهدية أيضًا فلا دخل لها فيما لا ينقل ولا ينافيه صحة نذر إهدائه؛ لأن الهدي اصطلاحًا غير الهدية خلافًا لمن زعم ترادفهما ويؤيده اختلاف أحكامهما".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 97 - 98) قال: "الهبة
…
تمليك بلا عوض، أي: تمليك ذات، وأما تمليك المنفعة فإما وقف، وإما عارية إن قيد بزمن ولو عرفًا، وإما عمري إن قيد بحياة المعطى بالفتح في دار ونحوها، ويدل على المراد بقية كلامه، وخرج بقوله: بلا عوض هبة الثواب وستأتي، فالتعريف لهبة غير الثواب وتسمى هدية
…
لوجه المعطى بالفتح يدل عليه قوله ولثواب الآخرة صدقة
…
أي: والتمليك لثواب الآخرة صدقة سواء قصد المعطي أيضًا أم لا، ولو قال المصنف: تمليك ذات بلا عوض لوجه المعطى فقط هبة، ولثواب الآخرة صدقة كان أبين؛ لأن كلامه يوهم أن الهبة مقسم وليس كذلك، وإنما هي قسم من التمليك أو الإعطاء
…
وصحت، أي: الهبة في كل مملوك للواهب، فلا تصح في حر ولا ملك غير بخلاف بيعه؛ لأنه في نظير عوض ينقل، أي: يقبل النقل شرعًا، خرج أم الولد والمكاتب ممن له تبرع بها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 378) قال: "ولا تصح الهبة هزلًا ولا تلجئة بأن لا تراد الهبة باطنًا كأن توهب في الظاهر، وتقبض مع اتِّفاق الواهب والموهوب له على أنه ينزعه منه متى شاء، أو توهب لخوف من الموهوب له أو غيره؛ فلا تصح، وللواهب استرجاعها إذا زال ما يخاف، أو جعلت الهبة طريقًا إلى منع وارث حقه أو منع غريم حقه فهي باطلة، لأن الوسائل لها حكم المقاصد، فمن قصد بإعطاء لغيره ثواب الآخرة فقط فعطيته على هذا الوجه صدقة، وإن قصد بإعطائه إكرامًا أو تودُّدًا أو مكافأة فعطيته هدية، وإلا بأن لم يقصد بإعطائه شيئًا مما ذكر فما أعطى هبة وعطية ونحلة؛ أي: يسمى بذلك
…
وهي
…
صدقة وعطية وهدية مستحبة لمن قصد بها وجه الله تعالى، كالهبة لعالم وصالح وفقير، وما قصد به صلة الرحم بل الصدقة على قريب محتاج أفضل من العتق ".
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْضِيلِ الرَّجُلِ بَعْضَ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْهِبَةِ)(1).
=فصل أصحاب المذاهب في هذه المسألة، ولكل دليله وتوجيهه:
فمذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 127) قال: "وينبغي للرجل أن يعدل بين أولاده في النحلى لقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} .
(وأما) كيفية العدل بينهم فقد قال أبو يوسف: العدل في ذلك أن يسوي بينهم في العطية ولا يفضل الذكر على الأنثى وقال محمد: العدل بينهم أن يعطيهم على سبيل الترتيب في المواريث للذكر مثل حظ الأنثيين
…
وذكر محمد في "الموطإ" ينبغي للرجل أن يسوي بين ولده في النحل ولا يفضل بعضهم على بعض، وظاهر هذا يقتضي أن يكون قوله مع قول أبي يوسف وهو الصحيح
…
ولأن في التسوية تأليف القلوب والتفضيل يورث الوحشة بينهم فكانت التسوية أولى، ولو نحل بعضًا وحرم بعضًا جاز من طريق الحكم؛ لأنه تصرف في خالص ملكه لا حق لأحد فيه، إلا أنه لا يكون عدلًا سواء كان المحروم فقيهًا تقيًّا أو جاهلًا فاسقًا على قول المتقدمين من مشايخنا، وأما على قول المتأخرين منهم لا بأس أن يعطي المتأدبين والمتفقهين دون الفسقة الفجرة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (3/ 369 - 371) قال: "وسئل عن الرجل يتصدق بماله كله على بعض ولده دون بعض، قال مالك: لا أرى ذلك جائزًا قيل له: فالرجل يتصدق بالدار على بعض ولده دون بعض، وهو جلّ ماله، ويخرج منها ويدفعها إليه. قال: لا بأس بذلك، وغيره أحسن منه. قال سحنون: إذا كان تصدق جل ماله، واستبقى اليسير، فلم يكن فيما يستبقي من ماله ما يكفيه ردت صدقته، وإن أبقى من ماله ما فيه قوت له رأيته صدقة ماضية. قال ابن القاسم: وأنا أكره أن يعمل به أحد، فإن تصدق به وحيز منه وقبض لم يرد بقضاء، يريد الذي تصدق بماله كله.
قال محمد بن رشد:
…
وأما إذا أعطى بعض ولده دون بعض ماله، وإن كان جله، وأبقى لنفسه بعضه فلا اختلاف في المذهب، ولا بين فقهاء الأمصار: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة في أن ذلك جائز، إلا أنه مكروه لما جاء من الأمر بين أن يعدل الرجل بين ولده في العطية
…
فترك الرجل العدل بين بنيه في عطيته إياهم جور مكروه غير حرام
…
وقد اختلف في صفة عدل الرجل بين بنيه في العطية إذا كان فيهم ذكر وأنثى فقيل: على السواء،
…
ولا يراد من الذكر من البر إلا ما يُراد من الأنثى، وقيل: العدل بينهم، أن يعطى للذكر مثل ما يعطى للأنثى قياسًا على الميراث ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 307 - 308) قال: "ويسن=
مثال ذلك: رجلٌ عنده ولدان، ففضَّل أحدهما على الآخر، فهل يجوز له ذلك؟
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "اتقوا اللَّهَ واعدلوا بين أولادكم"
(1)
، ولما جاء
= للوالد، أي: الأصل وإن علا العدل في عطية أولاده، أي: فروعه وإن سفلوا ولو الأحفاد مع وجود الأولاد على الأوجه وفاقًا لغير واحد، وخلافًا لمن خصص الأولاد سواء أكانت تلك العطية هبة أم هدية أم صدقة، أم وقفًا أم تبرعًا آخر، فإن لم يعدل لغير عذر كره عند أكثر العلماء، وقال جمع يحرم
…
فإن فضل البعض أعطى الآخرين ما يحصل به العدل والا رجع ندبًا للأمر به في رواية، نعم الأوجه أنه لو علم من المحروم الرضا وظن عقوق غيره لفقره ورقة دينه لم يسنَّ الرجوع، ولم يكره التفضيل، كما لو أحرم فاسقًا؛ لئلا يصرفه في معصية، أو عاقًا، أو زاد أو آثر الأحوج، أو المتميز بنحو فضل كما فعله الصديق مع عائشة رضي الله تعالى عنهما، والأوجه: أن تخصيص بعضهم بالرجوع في هبته كهو بالهبة فيما مر وأفهم قوله كغيره عطية أنه لا يطلب منه التسوية في غيرها كالتودد بالكلام وغيره ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 309 - 310) قال: "ويجب على الأب، وعلى الأم وعلى غيرهما من سائر الأقارب التعديل بين من يرث بقرابة من ولد وغيره، كأب وأم وأخ وابنه وعم وابنه في عطيتهم
…
وفي لفظ لمسلم: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم "، فرجع أبي في تلك الصدقة، وللبخاري مثله لكن ذكره بلفظ العطية فأمر بالعدل بينهم وسمى تخصيص أحدهم دون الباقين جورًا والجور حرام فدلَّ على أن أمره بالعدل للوجوب وقيس على الأولاد باقي الأقارب بجامع القرابة وخرج منه الزوجات والموالي فلا يجب التعديل بينهم في الهبة، ولا يجب التعديل بينهم في شيء تافه؛ لأنه يتسامح به فلا يحصل التأثر، والتعديل الواجب أن يعطيهم بقدر إرثهم منه اقتداء بقسمة الله تعالى، وقياسًا لحالة الحياة على حال الموت
…
فائدة: نص أحمد في رواية صالح وعبد الله وحنبل فيمن له أولاد زوج بعض بناته فجهزها وأعطاها قال يعطي جميع ولده مثل ما أعطاها
…
قال الشيخ: لا يجب على المسلم التسوية بين أولاد الذمة أي: الذميين انتهى، وكلام غيره لا يخالفه؛ لأنهم غير وارثين منه ".
(1)
أخرجه البخاري (2587) عن النعمان بن بشير، وهو على المنبر قال: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال:"أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ "، قال: لا، قال:"فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم "، قال: فرجع فرد.
الرجل ليُشهده قال: "لا أشهد على جور"
(1)
، وقال:"سووا بين أولادكم"
(2)
، وقال:"اعدلوا بين أولادكم"
(3)
، وجمهور العلماء يرون أن ذلك مكروه لكنَّه جائز، وبعضهم يرى أن ذلك لا يجوز
(4)
، والذين قالوا بعدم الجواز عللوا بعدة أدلة، منها: أنَّ الله سبحانه وتعالى قد حَثَّ على صلة الرحم وحذَّر من قطيعتها، قال سبحانه:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)} [محمد: 22]. وكذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقوق
(5)
، فلا يجوز للإنسان أن يَعق وحثَّ على البر، وبيَّن مدى مكانة الوالدين، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].
واستدلُّوا كذلك: بأنَّ ما كان وسيلة إلى واجبٍ فهو واجبٌ، وما أدَّى إلى مُحرَّم فهو مُحرَّم، وأن تفضيل بعض الأولاد على بعض قد يؤدي إلى قطيعة الرَّحم فيفرُّ بعضهم من بعض، وقد يَقطع هذا الولد صلتَه بأبيه فيكونُ الأب قد تسبَّب في قطيعة رحمٍ؛ فيحصل العقوق، وهذا لا يجوز، فيجب أن يُسدَّ هذا الباب.
(1)
أخرجه البخاري (2650)، ومسلم (1623/ 14، 15)، واللفظ له عن النعمان بن بشير، أن أمه بنت رواحة، سألت أباه بعض الموهبة من ماله لابنها، فالتوى بها سنة ثم بدا له، فقالت: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وهبت لابني، فأخذ أبي بيدي وأنا يومئذ غلام، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أم هذا بنت رواحة أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا بشير ألك ولد سوى هذا؟ " قال: نعم، فقال:"أكلهم وهبت له مثل هذا؟ " قال: لا، قال:"فلا تشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جور".
(2)
أخرجه الحارث كما في "بغية الباحث"(1/ 512)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11/ 354) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلًا لفضلت النساء"، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(340).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم ذكر أقوالهم.
(5)
أخرجه البخاري (2653)، ومسلم (88/ 144) عن أنس، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر، قال:"الإشراك با لله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور".
والذين يجيزون ذلك: يستدلُّون بقصة أبي بكر عندما نَحَل؛ أي: وَهَب ابنته عائشة عشرين وسقًا من مزرعته في العالية
(1)
، والوسق يساوى ستون صاعًا
(2)
، ثم أمرها أن تردَّها؛ لأنَّها لم تحُجَّ.
ووجه الدلالة هنا: أنه أعطاها ولم يُعط باقي الأولاد، وللفريق الآخر أجوبة على ذلك.
واستدلوا أيضًا بقصة عمر أنَّه أعطى ابنه عاصمًا
(3)
، أي: وهبه ما لم يهبْ غيره.
ووجه الدلاله منه: أنَّ هذا قد ورد عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولا مخالف لهما من الصحابة.
وأجيب بأنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه أعطاها لشدة الحاجة، والمحتاج مختلف عن غيره، أو أنَّه أعطاها لفضلها؛ لأنها أمُّ المؤمنين وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أنه ربما رتب أنَّ يُعطي بقية أولاده وإلى غير ذلك من الأسباب.
وأجابوا أيضًا على الاستدلال بفعل عمر رضي الله عنه.
(1)
أخرجه مالك في "الموطإ"(40) والبيهقي في "الكبرى"(6/ 280)(11948) عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت:"إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك. وإنما هو اليوم مال وارث، وإنما هما أخواك، وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله، قالت عائشة، فقلت: يا أبت، والله لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ فقال أبو بكر: ذو بطن بنت خارجة، أراها جارية". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1619).
(2)
الوسق، بالفتح: ستون صاعًا، وهو ثلاثمائة وعشرون رطلًا عند أهل الحجاز، وأربعمائة وثمانون رطلًا عند أهل العراق، على اختلافهم في مقدار الصاع والمد. انظر:"النهاية" لابن الأثير (5/ 185).
(3)
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(9/ 64) معلقًا عن الشافعي قال: قال الشافعي في رواية أبي عبد الله: .. وفضل عمر عاصم بن عمر بشيء أعطاه إياه.
قوله: (أو فِي جَمِيعِ مَالِهِ لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ).
ومن العلماء من كان له مأخذٌ جيِّد في هذا المقام؛ كالإمام أحمد رحمه الله، فهو من الذين يرون عدم المفاضلة؛ أي: وجوب التسوية، لكنَّه يقول: إن وُجد عند إنسان ولدان أحدهما شابٌ فقير ذو عائلة أو مريض مرضًا مُقعدًا أو أن يكون أعمى، أو يكون فرَّغ نفسه لطلب العلم، فهذا بحاجة أن يُعطى أكثر إذا كان الآخرون في خير، ويعملون، ولديهم من الأموال ما يُغنيهم، فيُعطى هذا المحتاج، أو أن يكون هذا الولد شابًّا صالحًا تقيًّا ورعًا، والآخر فاسقًا، فربما أخذَ المال فأسرفه في معصية الله سبحانه وتعالى، فيريد والده أنْ يُضْيِّق عليه؛ ليعود إلى الحقِّ، ويرجع إلى طريق الثواب، فيتوب وينيب إلى الله عز وجل، لا شكَّ أن هذا مَلحظٌ جيِّد، فإذا كان التمييز بين أثنين أحدهما صالحٌ والآخر طالح، أو أحدهما فقير والآخر غني، أحدهما مريض والآخر صحيح يستطيع أن يعمل فهذا يكون مبرِّرًا ومخرجًا.
قوله: (فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِكَرَاهِيَةِ ذَلِكَ لَهُ)
(1)
.
وهم أبو حنيفة ومالك والشافعي، كل الأئمة والعلماء متفقون على أنه من المستحب أن يعدل؛ لأن العدل مطلوب في كلِّ أمر، فبالعدل قامت السماوات والأرض، والله سبحانه وتعالى أمرنا بالعدل؛ كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]، وقال تعالى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"
(2)
وقال: "لا أشهد على جور، أو لا تُشهدني على جور"
(3)
.
(1)
تقدم ذكر أقوالهم.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
قوله: (وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ جَازَ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(1)
: لَا يَجُوزُ التَّفْضِيلُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَهَبَ جَمِيعَ مَالِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ التَّفْضِيلُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَهَبَ بَعْضَهُمْ جَمِيعَ الْمَالِ دُونَ بَعْضٍ
(2)
).
الإمام مالك رحمه الله له مَلحظ، فهو يقول: تجوز المفاضلة، أما ما لا يجوز فهو أن يُعطي المال لأحدهم أو بعضهم ويترك الآخرين، ولكن أن يخصَّ بعضهم بمزايا فهذا لا بأس به.
وهل هناك فرق بين الذكور والإناث في مثل ذلك؟ فهل لو أراد أن يُعطي الأولاد وجب عليه أن يُسوي بين الذكور والبنات أم يُفرِّق بينهم كالميراث؟
أكتر العلماء على أن يُفرِّق
(3)
، فيُعطي الذكرَ مثل حظ الأنثيين، وذهب فريق من العلماء إلى أنه يُسوِّي بينهم؛ كما جاء في حديث عبد الله بن عباس الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي جاء في آخره:"ولو كنت مُفضِّلًا أحدًا على أحد لفضلت النساء"
(4)
، وفي سياق حديثه عليه الصلاة والسلام عن الهبة.
(1)
قال ابن حزم: "ولا يحل لأحد أن يهب، ولا أن يتصدق على أحد من ولده إلا حتى يعطي أو يتصدق على كلِّ واحد منهم بمثل ذلك. ولا يحل أن يفضل ذكرًا على أنثى، ولا أنثى على ذكر فإن فعل فهو مفسوخ مردود أبدًا، ولا بد، وإنما هذا في التطوع وأما في النفقات الواجبات فلا، وكذلك الكسوة الواجبة. لكن ينفق على كل امرئ منهم بحسب حاجته، وينفق على الفقير منهم دون الغني، ولا يلزمه ما ذكرنا في ولد الولد، ولا في أمهاتهم، ولا في نسائهم، ولا في رقيقهم، ولا في غير ولد، بل له أن يفضل بماله كل من أحب، فإن كان له ولد فأعطاهم، ثم ولد له ولد فعليه أن يعطيه كما أعطاهم، أو يشركهم فيما أعطاهم، وإن تغيرت عين العطية ما لم يمت أحدهم فيصير ماله لغيره، فعلى الأب حينئذٍ أن يعطي هذا الولد، كما أعطى غيره، فإن لم يفعل أعطي مما ترك أبوه من رأس ماله مثل ذلك ". انظر: "المحلى"(9/ 142).
(2)
تقدم ذكر مذهب المالكية.
(3)
تقدم ذكر مذاهب الفقهاء وتفصيلهم في ذلك.
(4)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(11/ 354)، والبيهقي في "الكبرى"(6/ 294) عن =
قوله: (وَدَلِيلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ حَدِيثُ النُّعْمَان بْنِ بَشِيرٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اخْتُلِفَ فِي أَلْفَاظِهِ، وَالْحَدِيثُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَبَاهُ بَشِيرًا أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَارْتَجِعْهُ"
(1)
، وَاتَّفَق مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، قَالُوا: وَالِارْتجَاعُ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْهِبَةِ. وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "هَذَا جَوْرٌ"
(2)
، وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَهَبَ فِي صِحَّتِهِ جَمِيعَ مَالِهِ لِلأجَانِبِ دُونَ أَوْلَادِهِ، فَإِن كَانَ ذَلِكَ لِلْأَجْنَبِيِّ، فَهُوَ لِلْوَلَدِ أَحْرَى).
هذا تعليلهم، والدِّينُ ليس بالرَّأي، يُعلِّلون بأنَّه يجوز للإنسان أن يهب جميع مالِه لأجنبي فكيف لا يهبه لولده.
لكننا لو نظرنا إلى النتائج نجد أنَّه لو خَصَّ بعض الأولاد دون بعض فإنَّ ذلك يؤدِّي إلى الضغينة في نفوسهم، فيحمل بعضهم على بعض، فيؤدي ذلك إلى قطيعة الرحم والتباعد فيما بينهم.
قوله: (وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ كَانَ نَحَلَ عَائِشَةَ جَذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِ الْغَابَةِ)
(3)
.
ولكنه عندما قربت وفاة أبي بكرٍ رضي الله عنه كلَّم ابنته عائشة، فقال:"لو كنت قد احتزتيه فإنَّه لك فإنَّ لك أخواك وأختاك ".
= ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلًا أحدًا لفضلت النساء"، وضعفه الألباني فى "الإرواء"(1628).
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه أبو داود (3542)، وأحمد (30/ 327)، وأصله في "الصحيحين".
(3)
تقدم تخريجه.
ووجه الدلالة: أنه أمرها بردِّها؛ لأنها ما قبضتها، قالوا: وفعل ذلك عمر رضي الله عنه أيضًا عندما نحل ابنه عاصم؛ أي: وهبه دون غيره من الأولاد.
قوله: (فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ: وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةُ، مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْكِ، وَلَا أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا بَعْدِي مِنْكِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا فَلَوْ كُنْتِ جَذَذْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ).
"احتزتيه "؛ أي: أخذتيه لحوزتك وقبضتيه
(1)
، يقول الجمهور: فلو أنها قبضته لكانت قد استحقته، لكنها تركته دون قبض؛ ولذلك رجع أبو بكر رضي الله عنه في ذلك وذكر لها أن لها أخوين وأختين.
قوله: (قَالُوا: وَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمُرَادُ بِهِ النَّدْبُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ:"أَلَسْتَ تُرِيدُ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْبِرِّ وَاللُّطْفِ سَوَاءً؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي"
(2)
.
أخذ الجمهور من هذا أنه يدلُّ على عدم الوجوب؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: تريد أن يكون لك في البر سواء، وأحوج ما يكون الأب إذا تقدَّمت به السِنُّ؛ لأنَّه يعود وكأنَّه صغير يحتاج إلى الخدمة والرعاية والعناية، فإذا كان قد عدل بين أولاده فسيكون أحرى أن يقوم الأولاد بذلك، ولا شكَّ أنَّ من الأولاد من لا يهتم بذلك، ويُدركُون مكانة الأب وقيمته وأنَّه ينبغي أن يَبر به، وإذا كانت صلته بأبيه المشرك لا تنقطع فكيف بأبيه المسلم حتى ولو جار في الهبة.
(1)
يحوز: يجمع، حازه يحوزه إذا قبضه وملكه واستبد به. انظر:"النهاية" لابن الأثير (1/ 459).
(2)
أخرجه أبو داود (3542)، وصححه الألباني على شرط مسلم في "غاية المرام"(ص 196).
قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ رأى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ جَمِيعَ مَالِهِ لِوَاحِدٍ مِنْ وَلَلِإِ هُوَ أَحْرَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَأَوْجَبَ عِنْدَهُ مَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَخُصَّ الرَّجُلُ بَعْضَ أَوْلَاد بِجَمِيعِ مَالِهِ).
لأنه ربَّما رأى الإمام مالك رحمه الله تعالى أن في ذلك إرادة والرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار"
(1)
؛ لأنه بلا شك فرق بين إنسان يمنح بعض ماله لولده، وبين آخر يهب جميع المال فإذا تُوفي لا يجد الأولاد شيئًا، وإنما تحول وانتقل إلى واحد منهم أو إلى بعضهم.
قوله: (فَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلَفْظِ النَّهْيِ الْوَارِدِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي عِنْدَ الْأَكثَرِ بِصِيغَتِهِ التَّحْرِيمَ، كمَا يَقْتَضِي الْأَمْرُ الْوُجُوبَ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ السَّمَاعِ وَالْقِيَاسِ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى النَّدْبِ، أو خَصَّصَهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كمَا فَعَلَ مَالِكٌ، وَلَا خِلَافَ عِنْدِ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ السُّنَّةِ بِالْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ الْعُدُولُ بِهَا عَنْ ظَاهِرِهَا (أَعْنِي: أَنْ يُعْدَلَ بِلَفْظِ النَّهْيِ عَنْ مَفْهُومِ الْحَظْرِ إِلَى مَفْهُومِ الْكَرَاهِيَةِ)).
إذا وجد ما يؤدَّى إلى ذلك إذا وجدت قرينة فإنَّه يعدل، والجمهور ذكروا عدة تعليلات وأخذوها من الحديث وأيَّدوا ذلك بقصة أبي بكرٍ رضي الله عنه وكذلك ما حصل من عمر رضي الله عنه عندما نحل ابنه عاصم دون بقية إخوانه.
قوله: (وَأَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمُ الْقِيَاسُ فِي
(1)
أخرجه ابن ماجه (2340) عن عبادة بن الصامت ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى أن "لا ضرر ولا ضرار"، وصححه الألباني في "الإرواء"(896).
الشَّرْعِ اعْتَمَدُوا ظَاهِرَ الْحَدِيثِ، وَقَالُوا بِتَحْرِيمِ التَّفْضِيلِ فِي الْهِبَةِ).
لكن ليس هذا مذهب أهل الظاهر بل عرفنا أنه مذهب الإمام أحمد وهو أحد الأئمة، وقال به عدد من التابعين والسلف، وقد رأينا وجهة نظرهم وتعليلهم وأنهم أيضًا أخذوا من الحديث ما يدلُّ على الوجوب:"اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"
(1)
، "سووا بين أولادكم "
(2)
، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لا أشهد على جور"
(3)
، والجور لا يجوز إذن هناك عدَّة معالم اشتمل عليها الحديث يفهم منها أيضًا الوجوب فكلٌّ له فهم في هذا الحديث، وهذا سبب من أسباب الخلاف بين العلماء، فإن من أسباب اختلاف العلماء رحمهم الله تعالى أنهم قد يختلفون في مفهوم النص، وربما بعضهم يجد ما في النص يؤيد رأيه ويجد الآخر ما يؤيد رأيه وقد توجد أدلة أخرى تؤيِّد رأي هذا ورأي هذا.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ غَيْرِ الْمَقْسُومِ).
"المشاع" بمعنى: دار تكون بين اثنين فأكثر كل واحد منهم له نصيب، فهل يعرف كل نصيبه؟ الجواب: لا يعرفه لأن الحق مشاع، فهل يجوز يهمب نصيبه في هذه الدار أو في هذا البستان أو في هذه التجارة لغيره أو لا؟ الجواب: جمهور العلماء قالوا: نعم يجوز أن يهمب الإنسان نصيبه ولو كان مشاعًا فكما أنه يجوز أن يهب نصيبه المعروف المنفرد كذلك أيضًا يجوز أن يهب نصيبه المشاع، وخالف في ذلك أبو حنيفة.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَحْمَدُ
(3)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(4)
: تَصِحُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(5)
: لَا تَصِحُّ. وَعُمْدَةُ الْجَمَاعَةِ: أَنَّ الْقَبْضَ فِيهَا يَصِحُّ كَالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ. وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْقَبْضَ فِيهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا مُفْرَدَةً كالرَّهْنِ).
استدل المؤلف للجمهور بدليل عقلي فقال: لأن الجمهور أجازوا القبض في ذلك (قبض المشاع) كما يجوز في البيع، والحقيقة أن جمهور العلماء لهم دليل أقوى في قصة هوازن ما وقع بين المسلمين وبين هوازن وأن الله سبحانه وتعالى نصر المؤمنين والآيات قد أشارت إلى شيء من ذلك، وكما هو معلوم في تلك القصة عندما غنم المسلمون منهم ما غنموا جاء وفد هوازن إلى رسول الله سبحانه وتعالى يطلبون منه أن يرد لهم تلك المغانم، فقال لهم رسول الله سبحانه وتعالى:"أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم"
(6)
؛
(1)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 605) قال: "يجوز هبة المشاع ويتأتى قبضه، كما يجوز بيعه؛ كان مما ينقسم كالدور والأرضين، أو لا ينقسم كالعبيد والثياب والجواهر وغير ذلك؛ سواء كان مما يقبض بالنقل والتحويل كالطعام والثياب، أو مما يقبض بالتخلية.
فإن كان مما يقبض بالنقل والتحويل صحَّ قبضه، وإما بقسمه، أو بأن يسلم الواهب الجميع إليه، فيأخذ حقه ولأخذ الباقي بيده وديعة".
(2)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (5/ 373) قال: "تجوز هبة المشاع سواء المنقسم وغيره، وسواء وهبه للشريك أو غيره ".
(3)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 388) قال: "وتصح هبة المشاع من شريكه ومن غيره، منقولًا كان كجزء من نحو فرس أو غيره كجزء من عقار، سواء كان ينقسم أو لا كالعبد".
(4)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (6/ 169) قال: وممن أجاز هبة المشاع: مالك،
…
وأبو ثور
(5)
يُنظر: "الدر المختار." للحصكفي (5/ 688) قال: "وشرائط صحتها في الموهوب أن يكون مقبوضا غير مشاع مميزًا غير مشغول كما سيتضح ".
(6)
أخرجه النسائي (3688) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته وفد هوازن، فقالوا: يا محمد، إنا أصل وعشيرة، وقد نزل بنا =
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم له أن يتصرف في نصيبه ونصيب بني عبد المطلب قال: "لكم "، وهذا مشاع بالنسبة للغنيمة؛ لأن الغنيمة تجمع أنواعًا متعددة فلا يُعلَم نصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لم تقسم، وكذلك أيضًا نصيب بني عبد المطلب، إذن قد استدل الجمهور بتلك القصة على جواز هبة المشاع إلى جانب التعليل العقلي الذي ذكره المؤلف فيما يتعلق بالقبض.
قوله: (وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِي جَوَازِ هِبَةِ الْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ الْمُتَوَقَّعِ الْوُجُودِ).
"في المذهب" يقصد به مذهب مالك، يقول: ولا خلاف في المذهب في جواز بيع المعدوم؛ بمعنى: الذي لم يخلق بعدُ كشجرة لم تثمر أو دابة لم تحمل كناقة أو جارية وكذلك أيضًا المجهول كحمل في بطن فالمالكية
(1)
يجوزون ذلك؛ لأنهم يرون أن الهبة تبرع، وسبب المنع في هذه الأشياء في البيوع كما مر بنا هو الغرر الذي فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر
(2)
، وقد مرت بنا عدة أمثلة في ذلك المقام في البيوعات.
إذن لماذا أجاز المالكية ذلك؟ أجازه المالكية؛ لأنهم يرون أن الغرر مغتفر في هذا المقام، وأما جمهور العلماء وهم الأئمة الثلاثة (أبو
= من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن علينا من الله عليك، فقال:"اختاروا من أموالكم أو من نسائكم وأبنائكم "، فقالوا: فد خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا بل نختار نساءنا وأبناءنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا صليت الظهر فقوموا، فقولوا: إنا نستعين برسول الله على المؤمنين أو المسلمين في نسائنا وأبنائنا" فلما صلوا الظهر قاموا فقالوا ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم "، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث، وحسنه الألباني في "الصحيحة"(1973).
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 678) قال: "هبة المجهول جائزة".
(2)
أخرجه مسلم (1513).
حنيفة
(1)
، والشافعي
(2)
، وأحمد
(3)
) فقالوا: لا يجوز بيع المجهول،
(1)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (5/ 705) قال: "أما لو قال: وهبتك بكذا، فهو بيع ابتداء وانتهاء وقيد العوض بكونه معينًا؛ لأنه لو كان مجهولًا بطل اشتراطه فيكون هبة ابتداءً وانتهاءً".
قال ابن عابدين في "الحاشية"(5/ 706 - 707): "قوله: (شيئًا منها)، أي: شيئًا مجهولًا ح (قوله: لأنه بعض) وقد مر متنًا أنه يشترط أن لا يكون العوض بعض الموهوب (قوله: أو مجهول) الأول: راجع إلى صورة هبة الدار، والثاني: إلى قوله أو على أن يعوض، ولا يشمل الثلاث التي بعد الأولى.
فالأولى تعليل الهداية بأن هذه الشروط تخالف مقتضى العقد، فكانت فاسدة، والهبة لا تبطل بها إلا أن يقال: قوله: والهبة لا تبطل بالشروط من تتمة التعليل (قوله: ولا تنس إلخ) نبَّه عليه إشارة إلى دفع ما قاله الزيلعي تبعًا للنهاية من أن قوله أو على أن يعوض إلخ. فيه إشكال؛ لأنه إن أراد به الهبة بشرط العوض فهي والشرط جائزان فلا يستقيم قوله بطل الشرط، وإن أراد به أن يعوضه عنها شيئًا من العين الموهوبة فهو تكرار محض؛ لأنه ذكره بقوله: على أن يرد عليه شيئًا منها، وحاصل الدفع أن المراد الأول، وإنما بطل الشرط لجهالة العوض، كذا أفاده في "البحر". ثم رأيت صدر الشريعة صرح به فقال: مرادهم ما إذا كان العوض مجهولًا، وإنما يصح العوض إذا كان معلومًا".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 411 - 412) قال: "ولا تصح هبة ما في الذمة بخلاف بيعه فوهبتك ألف درهم مثلًا في ذمتي غير صحيح وإن عينه في المجلس وقبضه، والمريض يصح بيعه لوارثه بثمن المثل لا هبته بل يكون وصية، والولي والمكاتب يجوز بيعهما لا هبتهما، والمرهونة إذا أعتقها معسرًا واستولدها يجوز بيعها للضرورة لا هبتها ولو من المرتهن.
والأوجه عدم استثناء شيء من ذلك؛ لأن المانع من الهبة أمر خارجي في العاقد وطرأ في المعقود عليه فلا إيراد، كما لا يرد أيضًا ما لو أعطى لبن شاة مجعولة أضحية أو صوفها لآخر أو ترك له حق التحجر أو أعطاه جلد ميتة قبل الدباغ أو دهنًا نجسًا للاستصباح به أو تركت إحدى الضرتين نوبتها للأخرى أو أعطى الطعام المغنوم في دار الحرب لمثله، فإن ذلك ليس فيه هبة تمليك وإنما هو نقل يد أو حق إلى غيره من غير تمليك، ومن سماها هبة أراد أنه على صورتها، والثمر ونحوه قبل بدو صلاحه تصح هبته من غير شرط قطع وهبة أرض مع بذر أو زرع لا يفرد بالبيع، صحيحة في الأرض لانتفاء المبطل للبيع فيهما من الجهل بما يخصهما من الثمن عند التوزيع، فالقول بأن ذلك وارد على الضابط لجواز هبته دون بيعه مردود، وما لا يجوز بيعه كمجهول ومغصوب لمن لا يقدر على انتزاعه، وضال وآبق فلا يجوز هبته بجامع أن كلًّا منهما تمليك في الحياة".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 298) قال: "الهبة تمليك جائز التصرف
…
مالًا =
ولا يجوز هبة المجهول كمن قال: وهبتك مثلًا حملًا ما في بطن أو نحو ذلك؛ لأنه لا يملك تسليمه في الحاضر وهو أيضًا مجهول لا يُدرى ما نوع هذا الحمل، كذلك أيضا المعدوم فقالوا: لا تجوز هبته، والمعدوم كأن يقول: إذا أثمرت هذه الشجرة فلك ثمرها، فهذا الشيء غير موجود، وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع ما لم يخلق
(1)
، إذن سبب الخلاف بين الجمهور وبين مالك وإن كانوا يرون في هذه الأشياء غررًا لكنهم يقولون بأنه غرر مغتفر؛ لأن الأصل في هذه الهبة أنها تبرع فلا يؤثر فيها هذا الغرر، أما الجمهور فقالوا: لا، ثم جاءوا بالقاعدة المعروفة عند الشافعية والحنابلة التي أوردها المؤلف كل ما جاز بيعه جاز هبته وما لا يجوز بيعه لا تجوز هبته.
قوله: (وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ فِي الشَّرْعِ مِنْ جِهَةِ الْغَرَرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ)
(2)
.
وأحمد
(3)
.
قوله: (مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَتْ هِبَتُهُ كَالدَّيْنِ، وَمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ تَجُزْ هِبَتُهُ، وَكُلُّ مَا لَا يَصِحُّ قَبْضُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّة لَا تَصِحُّ هِبَتُهُ كَالدَّيْنِ وَالرَّهْنِ).
لأن ليس للراهن أن يبيع الرهن إلا بإذن المرتهن فالذي رهن هذه
= معلومًا منقولًا أو عقازا مجهولًا تعذر علمه بأن اختلط مال اثنين على وجه لا يتميز، فوهب أحدهما الآخر ماله، موجودًا مقدورًا على تسليمه غير واجب في الحياة متعلق بتمليك، بلا عوض متعلق أيضًا به فخرج بالمال الاختصاصات، وتأتي، وبالمعلوم المجهول الذي لا يتعذر علمه فلا تصح هبته كبيعه، وبالموجود المعدوم كعبد في ذمته".
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم نقل ذلك.
(3)
تقدم نقل ذلك.
السلعة إنما رهنها حفاظًا على حقه، كمن باع سلعةً وأراد أن يتوثق على حقه، كمن باع دارًا فطلب منه أن يعطيه وثيقة يمسكها بيده فرهنه أيضًا شيئًا آخر فليس للراهن أن يبيع الرهن؛ لأنه لو باعه لتضرر المرتهن فلا تبقى ثمرة ولا فائدة من الرهن لكن لو أذن له المرتهن فذلك جائز؛ لأنه حق يخصه.
قوله: (وَأَمَّا الْهِبَةُ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِيجَابِ فِيهَا وَالْقَبُولِ عِنْدَ الْجَمِيعِ)
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (5/ 688) قال: "وركنها هو الإيجاب والقبول كما سيجيء.
قال في "الحاشية": (قوله: هو الإيجاب)
…
فقد أفاد أن التلفظ بالإيجاب والقبول لا يشترط، بل تكفي القرائن الدالة على التمليك كمن دفع لفقير شيئًا وقبضه، ولم يتلفظ واحد منهما بشيء
…
ومثله ما يدفعه لزوجته أو غيرها قال: وهبت منك هذه العين فقبضها الموهوب له بحضرة الواهب ولم يقل: قبلت، صح لأن القبض في باب الهبة جار مجرى الركن فصار كالقبول ولوالجية
…
(قوله: والقبول) فيه خلاف ففي القهستاني: وتصح الهبة بك وهبت وفيه دلالة على أن القبول ليس بركن كما أشار إليه في الخلاصة وغيرها، وذكر الكرماني أن الإيجاب في الهبة عقد تام. وفي المبسوط: أن القبض كالقبول في البيع، ولذا لو وهب الدين من الغريم لم يفتقر إلى القبول كما في الكرماني لكن في الكافي والتحفة أنه ركن، وذكر في الكرماني: أنها تفتقر إلى الإيجاب لأن ملك الإنسان لا ينقل إلى الغير بدون تمليكه، والى القبول؛ لأنه إلزام الملك على الغير، وإنما يحنث إذا حلف أن لا يهب فوهب ولم يقبل؛ لأن الغرض عدم إظهار الجود وقد وجد الإظهار، ولعل الحق الأول فإن في التأويلات التصريح بأنه غير لازم ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 99) قال: "ودينا فتصح هبته لمن هو عليه ولغيره، وهو أي هبة الدين إبراء إن وهب لمن هو عليه، فلا بد من قبوله؛ لأن الإبراء يحتاج إلى قبول، وإلا يهبه لمن عليه بل لغيره فكالرهن، أي: فكرهن الدين يشترط في صحته الإشهاد، وكذا دفع ذكر الحق، أي: الوثيقة على قول، وقيل: هو شرط كمال كالجمع بينه وبين من عليه الدين ولو قال فكرهنه لكان أظهر، وشبه به وإن لم يذكره في بابه لشهرته عندهم ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 298 - 299) قال: "وشرط الهبة الذي لا بد منه في تحقق وجودها في الخارج، فالشرط هنا بمعنى: الركن، =
وبالنظر للهبة نجد أنها كالبيع والنكاح كما مر فلا بد من إيجاب وقبول، فإنما البيع عن تراضٍ فلا يلزم إنسان بشراء سلعة ولا يلزم ببيعها أيضًا، إذن يُشترط في الهبة القبض والإيجاب والقبول، ولكن يستثنى من ذلك القبض فيما يتعلق بالصغير تجاه أبيه، فالأب له أن يشهد ولا يحتاج الأمر إلى قبض سواء ما يهب هو لولده أو ما يُوهب لولده.
قوله: (وَمِنْ شَرْطِ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ قَبُولُهُ وَقَبْضُهُ)
(1)
.
= وركنها الثاني: العاقدان، والثالث: الموهوب، وهي هنا بالمعنى الثاني، إيجاب كوهبتك ومنحتك وملكتك وعظمتك وأكرمتك ونحلتك هذا وكذا أطعمتك ولو في غير الطعام كما نقل عن النص، وقبول كقبلت واتهبت ورضيت لفظًا في حق الناطق، وإشارة في حق الأخرس؛ لأنها تمليك في الحياة كالبيع، ومن ثَمَّ انعقدت بالكناية مع النية كلك أو كسوتك هذا، وبالمعاطاة على قول اختير، واشترط هنا في الأركان الثلاثة جميع ما مرَّ فيها ثم، ومنه موافقة القبول للإيجاب، خلافًا لمن زعم عدم اشتراطها هنا، فلو قال: وهبتك هذا، أو وهبتكما فقبل الأول، أو أحد الاثنين نصفه لم يصحَّ لما تقرر أن الهبة ملحقة بالبيع، أي: من حيث إنها عقد مالي مثله فأعطيت أحكامه وإن تخلف بعضها فيه كما هنا؛ إذ المانع ثم أن الإيجاب لما اشتمل على الكل المقابل بالثمن الذي ذكره كان قبول البعض ببعض للثمن قبولًا لغير ما أوجبه من كل وجه، وإنما لم ينظروا لهذا بل سووا بينهما في البطلان نظرًا لما هو أقوى من ذلك، وهو الإلحاق المذكور؛ إذ لو أبطل بهذا سرى بطلانه إلى البقية إذ لا مرجح فوجب التعميم طردُا للباب ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 430 - 431) قال: "وتصح الهبة بعقد وتملك العين الموهوبة بعقد أي: إيجاب وقبول فالقبض معتبر للزومها واستمرارها لانعقادها وإنشائها
…
فيصح تصرف موهوب له في الهبة بعد العقد قبل قبض على المذهب
…
ولأن دلالة الرضا بنقل الملك تقوم مقام الإيجاب والقبول فتجهيز بنته بجهاز إلى بيت زوجها تمليك لوجود المعاطاة بالفعل وهي أي: الهبة بإيجاب وقبول في تراخي قبول عن إيجاب، وفي تقدمه عليه وفي غيرهما كاستثناء واهب نفع موهوب مدة معلومة كبيع على ما تقدم تفصيله ".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (5/ 690) قال: "وتصح بقبول أي في حق الموهوب له، أما في حق الواهب فتصح بالإيجاب وحده؛ لأنه متبرع حتى =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لو حلف أن يهب عبده لفلان فوهب ولم يقبل بر، وبعكسه حنث بخلاف البيع، وتصح بقبض بلا إذن في المجلس، فإنه هنا كالقبول فاختص بالمجلس وبعده به، أي: بعد المجلس بالإذن، وفي المحيط لو كان أمره بالقبض حين وهبه لا يتقيد بالمجلس ويجوز القبض بعده، والتمكن من القبض كالقبض فلو وهب لرجل ثيابًا في صندوق مقفل ودفع إليه الصندوق لم يكن قبضًا لعدم تمكنه من القبض، وإن مفتوحًا كان قبضًا لتمكنه منه، فإنه كالتخلية في البيع اختيار وفي الدرر والمختار صحته بالتخلية في صحيح الهبة لا فاسدها، وفي النتف ثلاثة عشر عقدًا لا تصح بلا قبض، ولو نهاه عن القبض لم يصح قبضه مطلقًا ولو في المجلس؛ لأن الصريح أقوى من الدلالة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 101 - 102) قال: "وحيز الشيء الموهوب لتتم الهبة، أي: تحصل الحيازة عن الواهب التي هي شرط في تمامها، وإن بلا إذن من الواهب، ولا يشترط التحويز وأجبر الواهب عليه، أي: على الحوز، أي: على تمكين الموهوب له منه حيث طلبه؛ لأن الهبة تملك بالقول على المشهور فله طلبها منه حيث امتنع، ولو عند حاكم ليجبره على تمكين الموهوب له منها، قال ابن عبد السلام: القبول والحيازة معتبران إلا أن القبول ركن والحيازة شرط
…
أو مات الموهوب له المعينة له، أي: الذي قصد بها عينه دون وارثه سواء استصحب، أو أرسل فتبطل لعدم القبول من الموهوب له إن لم يشهد، ومفهوم "المعينة له " أنه لو لم تقصد عينه بل هو وذريته كطعام حمل إليه لكثرة عياله لم تبطل بموت المرسل إليه، فتكون لذريته فهذه أربع صور أيضًا، ومفهوم "إن لم يشهد" أنه إن أشهد أنها لفلان حين الاستصحاب أو الإرسال أنها لم تبطل بموت المرسل إليه، ويقوم وارثه مقامه، ولا بموت الواهب بل تصح في الثمانية، أي: استصحب الواهب أو أرسل قصد عين الموهوب له أم لا، وفي كل مات الواهب أو الموهوب له لتنزيلهم الإشهاد منزلة الحوز فقد اشتمل كلامه منطوقًا ومفهومًا على ست عشرة صورة ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 559) قال: "فإن نقله بنفسه أو بغيره مع قصد الثواب إلى مكان الموهوب له إكرامًا له فهدية أيضًا، أو بدون قصد الثواب فهدية فقط، ولهذا قال في المحرر: وإن نقله بالواو وهي أولى، فإن الفاء توهم لولا ما قدرته أن الهدية قسم من الصدقة، وليس مرادًا، بل هي قسيمها، وإذا انضم إلى تمليك المحتاج بقصد ثواب الآخرة النقل إلى مكانه فتكون هدية وصدقة، وقد تجتمع الأنواع الثلاثة فيما لو ملك محتاجًا لثواب الآخرة بلا عوض ونقله إليه إكرامًا بإيجاب وقبول. قال السبكي: والظاهر أن الإكرام ليس شرطًا =
ممن يصحُّ قبوله كما أن الواهب ينبغي أن يكون صحيحًا، وأن يكون مكلَّفًا كذلك أيضا الأمر للموهوب.
قوله: (وَأَمَّا الشُّرُوطُ فَأَشْهَرُهَا الْقَبْضُ)
(1)
.
للهبة شروط أشهرها القبض، والقبض في البيع شرط كما هو معلوم؛ فقد جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه"
(2)
هذا لفظ "الصحيحين"، وفي "الصحيحين" منفردين:"فلا يبعه حتى يقبضه"
(3)
، والمرادُ حتى يستوفيه، وهذا الحكم انتقل إلى الهبة؛ لأن الهبة تعتبر نوعًا من البيع أو شبيهة بالبيع، غير أنَّ البيع عقد تمليك بعوض، -أعني: مبادلة مال بمال بعوض- وأما الهبة فليس فيها مقابل، وإنما هي تمليكُ عين بعقد بغير عوض.
قوله: (أَعْنِي: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا هَلِ الْقَبْضُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ
= فالشرط هو النقل. قال الزركشي: وقد يقال: احترز به عن الرشوة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي" لابن قدامة (2/ 260 - 261) قال: "ولا يثبت الملك للموهوب له في المكيل والموزون إلا بقبضه، لحديث أبي بكر رضي الله عنه. وروي عن عمر رضي الله عنه نحوه، فإن مات الموهوب له قبل القبض، بطلت؛ لأنه غير لازم، فيبطل بالموت كالشركة. وإن مات الواهب، فعنه ما يدلُّ على أن الهبة تبطل لذلك، وهو قول القاضي. وقال أبو الخطاب: لا تبطل؛ لأنه عقد مآله إلى اللزوم، فلا يبطل بالموت، كبيع الخيار. ويقوم الوارث مقام المورثين في التقبيض والفسخ، فإذا قبض، ثبت الملك حينئذ. والخيرة في التقبيض إلى الواهب؛ لأنه بعض ما يثبت به الملك فكانت الخيرة له فيه، كالإيجاب، ولا يجوز القبض إلا بإذنه؛ لأنه غير مستحق عليه، فإن قبض بغير إذنه، لم تتمَّ الهبة. وإن أذن، ثم رجع قبل القبض، أو مات بطل الإذن
…
وأما غير المكيل والموزون، ففيه روايتان؛ إحداهما: لا تتم هبته إلا بالقبض؛ لأنه نوع هبة، فلم تتم قبل القبض، كالمكيل والموزون. والثانية: تتم قبل القبض ".
(1)
تقدم نقل أقوال أهل المذاهب في ذلك.
(2)
أخرجه البخاري (2126)، ومسلم (1526/ 32).
(3)
أخرجه البخاري (2133)، ومسلم (1526/ 36).
الْعَقْدِ أَمْ لَا؟ فَاتَّفَقَ الثَّوْرِيُّ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْهِبَةِ الْقَبْضَ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُقْبَضْ لَمْ يَلْزَمِ الْوَاهِبَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَنْعَقِدُ بِالْقَبُولِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبْضِ كالْبَيْعِ سَوَاءً)
(4)
.
اشترط القبض أيضًا الشافعي وأحمد
(5)
للمكيل والموزون، والمؤلف رحمه الله جعل مذهب أحمد روايتين، والواقع أنها رواية واحدة لما ذكره المؤلف؛ فالإمام أحمد لا يشترط ذلك إلا في المكيل والموزون.
قوله: (فَإِنْ تَأَنَّى الْمَوْهُوبُ لَهُ عَنْ طَلَبِ الْقَبْضِ حَتَّى أَفْلَسَ الْوَاهِبُ أو مَرِضَ بَطَلَتِ الْهِبَةُ، وَلَهُ إِذَا بَاعَ تَفْصِيلٌ: إِنْ عَلِمَ فَتَوَانَى لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا الثَّمَنُ، وَإِنْ قَامَ فِي الْفَوْرِ كانَ لَهُ الْمَوْهُوبُ. فَمَالِكٌ: الْقَبْضُ عِنْدَهُ فِي الْهِبَةِ مِنْ شُرُوطِ التَّمَامِ لَا مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ).
الفرق بين شروط التمام وشروط الصحة: أن شرط الصحة يقتضي أنَّه إذا لم يَقبض فلا حق له في الهبة، وأما شرط التمام -كما هو مذهب الإمام مالك- يقتضي صحة الهبة.
قوله: (وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(6)
، وَأَبِي حَنِيفَةَ
(7)
مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ.
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (7/ 82) قال: واختلفوا في الهبة، يهبها الرجل، ويقبلها الموهوب له الشيء. فقالت طائفة: لا تتم الهبة إلا بالقبض، هذا قول إبراهيم النخعي، وسفيان الثوري.
(2)
تقدم نقله.
(3)
تقدم نقله.
(4)
تقدم نقله.
(5)
تقدم نقله.
(6)
تقدم نقله.
(7)
تقدم نقله.
وَقَالَ أَحْمَدُ
(1)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(2)
: تَصِحُّ الْهِبَةُ بِالْعَقْدِ، وَلَيْسَ الْقَبْضُ مِنْ شُرُوطِهَا أَصْلًا).
عند الإمام أحمد وأبو ثور وجماعة من العلماء أنَّ الهبة تنعقد بمجرد العقد دان لم يتمَّ القبض، فبمجرد أن يهب هذا الإنسان شيئًا لآخر فحينئذٍ تُصبح الهبة مشروعة وتنتقل إلى ملك الموهوب له، لكن الإمام أحمد رحمه الله تعالى استثنى من ذلك المكيل والموزون
(3)
.
وقد رأيت أن هذه القاعدة في المكيل والموزون - عند الإمام أحمد - كانت معنا في عدة أبواب.
واشتراطهم القبض؛ لأنه يسهل ضبط ذلك، فهذا تضبطه بالكيل وبالوزن، أما ما عدا ذلك فالعقد كافٍ عند الإمام أحمد قولًا ولا يوجد روايتان كما ذكر المؤلف.
قوله: (لَا مِنْ شَرْطِ تَمَامٍ وَلَا مِنْ شَرْطِ صِحَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ
(4)
. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ الْقَبْضَ مِنْ شُرُوطِهَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ
(5)
).
(1)
تقدم نقله.
(2)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (7/ 82) قال: "وكان أبو ثور يقول: الهبة تتم بالكلام، دون القبض، وهو مثل البيع، ينعقد بالكلام ".
(3)
تقدم نقله.
(4)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 120) قال: "ومن وهب هبة سالمة من شرط الثواب، أو غيره، أو أعطى عطية كذلك أو تصدق بصدقة كذلك، فقد تمت باللفظ، ولا معنى لحيازتها، ولا لقبضها، ولا يبطلها تملك الواهب لها، أو المتصدق بها وسواء بإذن الموهوب له، أو المتصدق عليه كان ذلك أم بغير إذنه، سواء تملكها إلى أن مات، أو مدة يسيرة أو كثيرة على ولد صغير كانت أو على كبير أو على أجنبي إلا أنه يلزمه رد ما استغل منها كالغصب سواء سواء في حياته، ومن رأس ماله بعد وفاته".
(5)
تقدَّم نقله.
جعلها كأنها رواية أخرى وفصلها وهي مرتبطة بالأولى!
قوله: (فَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ تَشْبِيهُهَا بِالْبَيْعِ؛ وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ أَنْ لَا قَبْضَ مُشْتَرَطٌ فِي صِحَّتِهَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ).
من لم يشترط في الهبة القبض شبَّهها بالبيع، فأنت إذا اشتريت سلعة كثوبٍ مثلًا أو سيارة أو نحو ذلك فلم تتسلمها فإنَّ البيع يعتبرُ قد تمَّ، ولكن الذي لا يجوز لك أن تفعله هو أن تبيعها قبل أن تقبضها؛ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه"
(1)
، ففرق بين صحة البيع ونقله إلى مشترٍ آخر، فأنت لك أن تشتري السلعة وحتى إن لم تقبضها فهي ملكك ما فى دُمتَ قد اشتريتها وتمَّ العقد الصحيح، لكن هل الهبة بمثابة البيع أو أنها تختلف؛ لأن ذلك عقد تبرع وذاك عقدُ تمليك؟
قوله: (وَعُمْدَةُ مَنِ اشْتَرَطَ الْقَبْضَ أَنَّ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فِي حَدِيثِ هِبَتِهِ لِعَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ
(2)
، وَهُوَ نَصٌّ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي صِحَّةِ الْهِبَةِ. وَمَا رَوَى مَالِكٌ
(3)
عَنْ عُمَرَ أيضًا أَنَّهُ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَنْحَلُونَ أَبْنَاءَهُمْ نِحْلًا ثُمَّ يُمْسِكُونَهَا، فَإِنْ مَاتَ ابْنُ أَحَدِهِمْ قَالَ: مَالِي بِيَدِي لَمْ أُعْطِهِ أَحَدًا).
إذا ماتَ ابنه قال: المال بين يديَّ فهو مالي فكأنَّه يرجع في هبته، فعمر رضي الله عنه يُنكر أن يمنح الرجل ابنَه شيئًا فإذا مات ابنه قال هذا مالي بيديَّ.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 753)(41)، وإسناده صحيح.
قوله: (وِإنْ مَاتَ قَالَ: هُوَ لِابْنِي قَدْ كنْتُ أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ، فَمَنْ نَحَلَ نِحْلَةً فَلَمْ يُجِزْهَا الَّذِي نَحَلَهَا لِلْمَنْحُولِ لَهُ وَأَبْقَاهَا حَتَّى تَكُونَ إِنْ مَاتَ لِوَرَثَتِهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ).
هذا أَيضًا دليل آخر احتجوا به على أنَّه لا بد من القبض، إذا نحل ابنه نحلًا فعليه أن يقبضه إيَّاها.
قوله: (وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ)
(1)
.
أُثر ذلك عن عليٍّ، ولأنَّ هذا القول قد أُثر عن أبي بكر في قصته مع عائشة، وعن عمر فيما أورده المؤلف، وعن عليٍّ رضي الله عنه، فيكون حجة قوية للذين يقولون بالقبض؛ لكونه قول للصحابة.
قوله: (قَالُوا: وَهُوَ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ).
هناك من يرى في مثل هذه الأمور أنَّه إذا قال أحدُ الصحابة أو بعضُهم قولًا ولا يُوجد له مُعارض أن يُقال: هذا إجماع.
قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ فَاعْتَمَدَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا: (أَعْنِي: الْقِيَاسَ وَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ) وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَمِنْ حَيثُ هِيَ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا الْقَبْضُ، وَمِنْ حَيْثُ شَرَطَتِ الصَّحَابَة فِيهِ الْقَبْضَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ الَّتِي ذَكرَهَا عُمَرُ جُعِلَ الْقَبْضُ فِيهَا مِنْ شَرْطِ التَّمَامِ، وَمِنْ حَقِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَأَنَّهُ إِنْ تَرَاخَى حَتَّى يَفُوتَ الْقَبْضُ بِمَرَضٍ أو إِفْلَاسٍ عَلَى الْوَاهِبِ سَقَطَ حَقُّهُ).
مالكٌ يرى أنَّه إن حَصَل تقصيرٌ من الموهوب له وتراخى عن القبض
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 107)، وابن أبي شبية في "المصنف" (4/ 420) عن علي قال:"من وهب هبة لذي رحم فلم يثب منها فهو أحق بهبته ".
فإنَّه حينئذٍ يعود أو يلتقي مع الذين قالوا بالقبض، وإلا فلا، فهو لا يراه شرطًا في الأصل، وإنَّما يرى أن التراخي وترك ذلك يجعله شرطًا.
قوله: (وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ
(1)
عَلَى أَنَّ الْأَبَ يَحُوزُ لِابْنِهِ
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (5/ 694 - 695) قال: "وهبة من له ولاية على الطفل في الجملة، وهو كلُّ من يعوله فدخل الأخ والعم عند عدم الأب لو في عيالهم تتم بالعقد لو الموهوب معلومًا، وكان في يده أو يد مودعه؛ لأن قبض الولي ينوب عنه، والأصل: أن كل عقد يتولاه الواحد يكتفى فيه بالإيجاب.
وإن وهب له أجنبي يتم بقبض وليه وهو أحد أربعة: الأب، ثم وصيه، ثم الجد، ثم وصيه، وإن لم يكن في حجرهم، وعند عدمهم تتم بقبض من يعوله كعمِّه وأُمِّه، وأجنبي ولو ملتقطًا لو في حجرهما وإلا لا، لفوات الولاية، وبقبضه لو مميزًا يعقل التحصيل، ولو مع وجود أبيه مجتبى؛ لأنه في النافع المحض كالبالغ، حتى لو وهب له أعمى لا نفع له وتلحقه مؤنته لم يصحَّ قبوله أشباه.
قلت: لكن في البرجندي: اختلف فيما لو قبض من يعوله، والأب حاضر فقيل: لا يجوز والصحيح هو الجواز اهـ.
وظاهر القهستاني ترجيحه، وعزاه لفخر الإسلام وغيره على خلاف ما اعتمده المصنف في شرحه، وعزاه للخلاصة لكن متنه يحتمله بوصل ولو بأمه والأجنبي أيضًا فتأمل ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" (المدونة،) للإمام مالك (4/ 406): "قلت: أرأيت الطفل الصغير إذا كان له ولد وأوصى، فوهب له رجل هبة بتلها له وجعلها على يدي رجل من الناس، أيكون هذا حوزًا للصبي ووالده حاضر أو وصيه؟ قال: نعم. أراه حوزًا له إذا كان إنما وضعه له إلى أن يبلغ وترضى حاله وأشهد له بذلك. ويدفع ذلك إليه إذا بلغ. قلت: فما فرق ما بين الصغير إذا كان له والد وبين الكبير إذا وهبت له الهبة وجعلها الواهب على يدي هذا الرجل؟
قال: خوفًا من أن يأكلها الوالد أو يفسدها، فيجوز ذلك إلى أن يبلغ الصغير فيقبضها. وأما الكبير المرضي فعلى أيِّ وجه حازها هذا له أو إلى أيِّ أجل يدفع إليه إلا أن يكون على وجه الحبس يجري عليها غلتها، فهذا فرق ما بينهما. قال: ولقد سألت مالكًا عن الرجل يهب الهبة على أن لا يبيع ولا يهب؟
قال: قال مالك: لا تجوز هذه الهبة. قال: فقلت لمالك: فالأب في ابنه إذا اشترط هذا الشرط؟
قال مالك: لا يجوز إلا أن يكون صغيرًا أو سفيهًا، فيشترط ذلك عليه ما دام الولد =
الصَّغِيرِ الَّذِي فِي وِلَايَةِ نَظَرِهِ، وَللْكَبِيرِ السَّفِيهِ الَّذِي مَا وَهَبَهُ، كمَا يَحُوزُ لَهُمَا مَا وَهَبَهُ غَيْرُهُ لَهُما، وَأَنَّهُ يَكْفِي فِي الْحِيَازَةِ لَهُ إِشْهَادُهُ بِالْهِبَةِ وَالْإِعْلَانُ بِذَلِكَ).
= في تلك الحال. فأما أن يشترط عليه أن لا يبيع ولا يهب إن كبر، أو اشترط على السفيه أن لا يبيع وإن حسنت حاله، فإن ذلك لا يجوز وإنما يجوز شرطه إذا أشترطه ما دام سفيهًا أو صغيرًا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (8/ 122 - 123) قال: "قال الشافعي: ويقبض للطفل أبوه.
وجملة ذلك: أنه إذا وهب غير ولي الطفل للطفل هبة: فإن كان له أب أو جد، وكان عدلًا قبل له الهبة، وقبض له؛ لأنه هو المتصرف عنه. وإن كان فاسقًا لم يصحَّ قبوله ولا قبضه؛ لأنه لا ولاية له عليه مع الفسق، وإن لم يكن له أب ولا جد، وكان الناظر في ماله الوصي من قبلهما، أو الأمين من قبل الحاكم قبل له الهبة، وقبض له؛ لأنه المتصرف عنه.
وإن كان الواهب للطفل هو وليه: فإن كان الولي عليه الوصي، أو الحاكم، أو أمينه لم يصحَّ قبوله له من نفسه ولا قبضه، بل ينصب له الحاكم أمينًا ليقبل له الهبة، ويقبض له؛ لأنه لا يصح أن يبيع ماله بماله، فلم يصح قبوله له، وإن كان وليُّه أباه أو جده صحَّ أن يقبل له الهبة من نفسه؛ لأنه يجوز له أن يبتاع ماله بماله ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 301 - 302) قال: "ويقبض لطفل وهبه وليه هبة أبوه فقط من نفسه، فيقول: وهبت ولدي كذا وقبضته له، فإن لم يقل: وفبضته له لم يكف على ظاهر رواية حرب، لتغاير القبضين، فلا بد من تمييز؛ لأن اليد التي لجهة المتهب هنا هي نفس يد الواهب، فلا يؤمن أن يدعيه في ثاني الحال أو يدعيه الورثة تركة فيذهب على الطفل، ولا يحتاج أب وهب طفله إلى قبول للاستغناء عنه بقرائن الأحوال، ولا يصح قبض الطفل، أي: غير بالغ، ولو كان غير البالغ مميزًا، ولا قبض مجنون لأنفسهما ولا قبولهما الهبة لانتفاء أهلية التصرف، بل يقبل ويقبض لهما وليهما؛ لأنه المتصرف عليهما فالأب الأمين، أي: العدل، ولو ظاهرًا يقوم مقامهما في ذلك، ثم عند عدمه وصي ثم حاكم أمين كذلك، أو من يقيمونه مقامهم وعند عدمهم، أي: الأولياء يقبض له من يليه من أم وقريب وغيرهما نصًّا، قال ابن الحكم: سئل أحمد يعطي من الزكاة الصبي؟ قال: نعم يعطي أباه أو من يقوم بشأنه وروى المروزي أيضًا نحوه قال الحارثي: وهو الصحيح؛ لأنه جلب منفعة ومحل حاجة".
هذا ما يتعلق بالحيازة إذن هل القبض هنا شرط أو لا بالنظر للأب مع ابنه الصغير أو مع الكبير السفيه، فالأب إذا وهب ابنه هبة وهو صغير، أو وهب ابنه السفيه الذي لا يُحسن التصرف في الأمور فهل للأب أن يقوم مقامهما ويحوز ذلك الشيء له؟ وهل هناك فرق بين ما يحوزه الأب لولديه المذكورين من النوعين؟ وهل هناك فرق بين أن يكون نحل لهما إياه وبين أن يكون نحل إياه من غير الأب أو لا؟
الجواب: الصحيح أنه لا فرق في ذلك، فإذا ما وهب لابن صغير هبة أو كذلك للسفيه الذي ذُكر فإن للأب أن يتولى ذلك عن ابنه ويحوز تلك الهبة ويكفي في ذلك الإشهاد فقط، ولا يشترط أيضًا هنا القبض؛ لأن الأب مأمون على ابنه وهو ثقة وهو أحرص الناس على ابنه، وإن وجد من هو على خلاف ذلك فهو شاذ لكن لو احتاج الأب إلى مال ابنه فإن له أن يأخذ من مال ذاك الابن فأطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه.
قوله: (وَذَلِكَ كُلُّهُ فِيمَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَفِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ).
وخصَّ الذهب والفضة خشية أن يدخل ذلك في أبواب الربا.
قوله: (وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ: مَنْ نَحَلَ ابْنًا لَهُ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَحُوزَ نِحْلَتَهُ فَأَعْلَنَ ذَلِكَ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ فَهِيَ حِيَازَةٌ وَإِنْ وَليَهَا
(1)
.
"وإن وليها"، أي: تحت ولاية الأب، وهذا أيضًا أثر عن عثمان رضي الله عنه وهو يؤيد قول جمهور العلماء، ونعلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"
(2)
، وهذا قول عثمان رضي الله عنه، وما
(1)
أخرجه مالك في "الموطإ"(2/ 771) رقم (9)، وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه أبو داود (4657)، والترمذي (2676) عن عبد الرحمن. بن عمرو السلمي، =
عرف أن أحدًا من الصحابة خالفه فيه، وغالبًا إذا قال الصحابة قولًا يكون لهم سند سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس ذلك شرطًا، فكثيرًا ما يكون ذلك رأي للصحابي، ولذلك نرى أن الصحابة يختلفون في بعض المسائل التي يجتهدون فيها.
قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: لَا بُدَّ مِنَ الْحِيَازَةِ فِي الْمَسْكُون وَالْمَلْبُوسِ، فَإِنْ كَانَتْ دَارًا سَكَنَ فِيهَا خَرَجَ مِنْهَا)
(1)
.
وذلك لأن الدار على القول بالقبض إنما قبضها يكون بالتخلية، فلا يمكن أن تنقل الدار إلا بخروج من فيها ودخول المالك الجديد أو الموهوب له الجديد.
قوله: (وَكَذَلِكَ الْمَلْبُوسُ إِنْ لَبِسَهُ بَطَلَتِ الْهِبَةُ).
كإنسان يقول: أهبك هذا الثوب ثم يلبسه ونعلم أن أيضًا للواهب أن يرجع في هبته قبل أن يقبضها الآخر (قبل أن يعطيها ذاك له)، لكن يكره
= وحجر بن حجر، قالا: أتينا العرباض بن سارية، وهو ممن نزل فيه:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] فسلمنا، وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال:"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، وصححه الألباني في "الإرواء"(2455).
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 101) قال: "وحيز الشيء الموهوب لتتم الهبة، أي: تحصل الحيازة عن الواهب التي هي شرط في تمامها، وإن بلا إذن من الواهب، ولا يشترط التحويز، وأجبر الواهب عليه، أي: على الحوز، أي: على تمكين الموهوب له منه حيث طلبه؛ لأن الهبة تملك بالقول على المشهور فله طلبها منه حيث امتنع ولو عند حاكم ليجبره على تمكين الموهوب له منها قال ابن عبد السلام القبول والحيازة معتبران إلا أن القبول ركن والحيازة شرط ".
هذا، وسيأتي الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"العائد في هبته كالذي يقيء ويعود في قيئه"
(1)
، وفي بعض الروايات:"العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود لقيئه"
(2)
، ولا يرضى مسلم أن يشبه نفسه بالكلب.
قوله: (وَقَالُوا فِي سَائِرِ الْعُرُوضِ بِمِثْلِ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ (أَعْنِي: أَنَّهُ يَكْفِي فِي ذَلِكَ إِعْلَانُهُ وَإِشْهَادُهُ)، وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ).
يقصد بالورق: الفضة.
قوله: (فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يُخْرِجَهُ الْأَبُ عَنْ يَدِهِ إِلَى يَدِ غَيْرِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا جَعَلَهَا فِي ظَرْفٍ أو إِنَاءٍ وَخَتَمَ عَلَيْهَا بِخَاتَمٍ وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ الشُّهُودَ).
إذا حفظها وأخرجها فلا مانع في ذلك.
قوله: (وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ الْوَصِيَّ يَقُومُ فِي ذَلِكَ مَقَامَ الْأَبِ).
الوصي هو ولي اليتيم فكما هو معلوم أن اليتيم له وصي، ويقصد باليتيم الذي مات أبوه ولم يبلغ، أما الأم فلا علاقة لها بذلك فأي إنسان مات أبوه دون أن يبلغ فذاك اليتيم، والبلوغ له علامات معلومة، ولا خلاف بين العلماء فيما يتعلق بأن الوصي يقوم مقام الأب، ولكن ينبغي أن يكون الوصي أمينًا أيضًا.
(1)
أخرجه أحمد (384) عن عمر بلفظ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يعود في صدقته كمثل الذي يعود في قيئه "، وحسن إسناده الأرناؤوط.
وأخرجه أبو داود (3538) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العائد في هبته كالعائد في قيئه "، قال قتادة:"ولا أعلم القيء إلا حرامًا".
(2)
أخرجه البخاري (2589)، ومسلم (1622/ 5 و 6) عن ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه ".
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْأُمِّ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا تَقُومُ مَقَامَ وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ
(1)
).
فالذين قالوا: لا تقوم مقام الأب ليس معنى ذلك أنها أقل عطفًا ورحمة وعناية بولدها فهي بلا شكٍّ أشفق من الأب، ولذلك لما سأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أحقُّ الناس بصحابتي، قال:"أمك "، قال: ثم مَن؟ قال: "أمك "، قال: ثم مَن؟ قال: "أمك" قالها ثلاثًا، وفي الرابعة قال:" أبوك "
(2)
.
قوله: (وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: تَقُومُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
،
(1)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (12/ 274) قال: "قال ابن القاسم: ومن تصدق على صغير أو سفيه أو أحد ممن تولى عليه بصدقة من أم أو أخ أو قريب أو بعيد فحاز ذلك له وأشهد عليه فإن ذلك باطل لا يجوز إلا أن يكون وصيًّا فيكون حوزه له حوزًا أو يضعه له على يدي غيره ويبينها عن نفسه فيكون لهم حوزًا جائزًا ماضيًا، وليس ينزل أحد بمنزلة الأب في هذا إلا من يلي السفيه ممن يوصي إليه، فالوصي في ذلك بمنزلة الأب في الحوز لهم والقيام بصدقاتهم، ثم يكون حائزًا لهم ماضيًا عليهم. قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب المعلوم من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أنه لا يحوز للرجل ما وهبه إلا أب أو وصي، وفي رسم الأقضية من سماع يحيى من كتاب الصدقات والهبات من قول ابن وهب إنه لا يحوز للصغير ما وهبه إلا الأب والوصي، والأم إذا كان يتيمًا في حجرها وإن لم يكن موصًا إليها بمنزلة الوصي، والأجداد بمنزلة الأب إذا لم يكن أب وكان في حجر الجد يليه، والجدات بمنزلة الأم إذا لم تكن أم وكان في حجر الجدة تليه، قال: وأما من سوى هؤلاء فلا يكون حوزه حوزًا للصغير إلا أن يبرأ به إلى رجل يليه للصغير".
(2)
أخرجه البخاري (5971)، ومسلم (1/ 2548) عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:"أمك " قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك ".
(3)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (5/ 695) قال: "وإن وهب له أجنبي يتم بقبض وليه وهو أحد أربعة: الأب، ثم وصيه، ثم الجد، ثم وصيه، وإن لم يكن في حجرهم، وعند عدمهم تتم بقبض من يعوله كعمه، وأمه وأجنبي، ولو ملتقطًا لو في حجرهما =
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: الْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، وَالْجَدَّةُ عِنْدَ ابْنِ وَهْبِ -أُمُّ الْأُمِّ- ثَقُومُ مَقَامَ الْأُمِّ، وَالْأُمُّ عِنْدَهُ تَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ).
المسألة فيها خلاف في المذاهب الأخرى؛ فبعض الشافعية والحنابلة يقولون بأنَّها تقومُ مقام الأب، وسبب الخلاف بين أهل المذهمب الواحد؛ أن الأب عنده من الرعاية والعناية ما ليس عند الأم، والقضية ليست قضية مفاضلة، ولكنَّها قضية من يستطيع أن ينهض بذلك الأمر، والمرأة مهما كان لها من مكانة فلا تتولى القضاء مثلًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"
(2)
، وليس لها أن تتولى إمامة الصلاة، وليس لها أن تتقدَّم الرجال؛ لأن لها وظائف محدَّدة لا تتجاوزها، أما الرجل فعنده مِن بُعد النَّظر وسَعة الأُفق والإدراك والتَّحمل، والنظر لعواقب الأمور ما ليس عند المرأة؛ ولذلك جعل الله تعالى الطلاق في يد الرجل دون المرأة.
قال المصنف رحمه الله ثعالى:
= وإلا لا، لفوات الولاية وبقبضه لو مميزًا يعقل التحصيل، ولو مع وجود أبيه مجتبى؛ لأنه في النافع المحض كالبالغ، حتى لو وهب له أعمى لا نفع له وتلحقه مؤنته لم يصحَّ قبوله أشباه ".
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 560) قال: "فإن وهب للصغير ونحوه ولي غير الأب والجد قبل له الحاكم، وإن كان أبًا أو جدًّا تولى الطرفين، فلا بد من الإيجاب والقبول. ومنها ما لو قال: اشتر لي بدراهمك لحما فاشتراه وصححناه للسائل، فإن الدراهم تكون هبة لا قرضًا، ويقبل الهبة للصغير ونحوه ممن ليس أهلًا للقبول الولي، فإن لم يقبل انعزل الوصي ومثله القيم وأثما لتركهما الأحظ، بخلاف الأب والجد لكمال شفقتهما ويقبلها السفيه نفسه وكذا الرقيق لا سيده وإن وقعت له ".
(2)
أخرجه البخاري (4425) عن أبي بكرة، قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل، بعدما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس، قد ملكوا عليهم بنت كسرى، قال:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".
(القَوْلُ فِي أَنْوَاع الهِبَاتِ
وَالهِبَةُ مِنْهَا مَا هِيَ هِبَةُ عَيْنٍ، وَمِنْهَا مَا هِيَ هِبَةُ مَنْفَعَةٍ، وَهِبَةُ العَيْنِ مِنْهَا مَا يُقْصَدُ بِهَا الثَّوَابُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُقْصَدُ بِهَا الثَّوَابُ، وَالَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الثَّوَابُ مِنْهَا مَا يُقْصَدُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، وَمِنْهَا مَا يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ المَخْلُوقِ. فَأَمَّا الهِبَةُ لِغَيْرِ الثَّوَابِ، فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِهَا، وَأَمَّا هِبَةُ الثَّوَابِ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا، فَأَجَازَهَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَنَعَهَا الشَّافِعِيُّ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَسَبَبُ الخِلَافِ هَلْ هِيَ بَيْعٌ مَجْهُولُ الثَّمَنِ أَوْ لَيْسَ بَيْعًا مَجْهُولَ الثَّمَنِ؟ فَمَنْ رَآهُ بَيْعًا مَجْهُولَ الثَّمَنِ قَالَ: هُوَ مِنْ بُيُوعٍ الغَرَرِ الَّتِي لَا تَجُوزُ، وَمَنْ لَمْ يَرَ أَنَّهَا بَيْعٌ مَجْهُولٌ، قَالَ: يَجُوزُ، وَكأَنَّ مَالِكًا جَعَلَ العُرْفَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ، وَهُوَ ثَوَابُ مِثْلِهَا، وَلذَلِكَ اخْتَلَفَ القَوْلُ عِنْدَهُمْ إِذَا لَمْ يَرْضَ الوَاهِبُ بِالثَّوَابِ مَا الحُكْمُ؟ فَقِيلَ: تَلْزَمُهُ الهِبَةُ إِذَا أَعْطَاهُ المَوْهُوبُ القِيمَةَ، وَقِيلَ: لَا تَلْزَمُهُ إِلَّا أَنْ يُرْضِيَهُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ، فَإِذَا اشْتُرِطَ فِيهِ الرِّضَا، فَلَيْسَ هُنَالِكَ بَيْعٌ انْعَقَدَ، وَالأَوَّلُ هُوَ المَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، وَأَمَّا إِذَا أُلْزِمَ القِيمَةَ، فَهُنَالِكَ بَيْعٌ انْعَقَدَ، وَإِنَّمَا يَحْمِلُ مَالِكٌ الهِبَةَ عَلَى الثَّوَابِ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، وَخُصُوصًا إِذَا دَلَّتْ قَرِينَةُ الحَالِ عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَهَبَ الفَقِيرُ لِلْغَنِيِّ، أَوْ لِمَنْ يَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ الثَّوَابَ).
وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وُهِبَ له
(1)
، وقُصِدَ بذلك الثواب، وأُهْدِيَتْ إليه هدية،
(1)
لم أقف على هذا المعنى، وأقرب ما وقفت عليه من ذلك:
ما أخرجه أحمد (27020) عن الربيع بنت معوذ، قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بقناع فيه رطب وأجر زغب، فوضع في يدي شيئًا، فقال:"تحلي بهذا، واكتسي بهذا"، وضعفه الأرناؤوط.
فأعطي الرسول صلى الله عليه وسلم جملًا، فطلب الزيادة فأعطاه آخر حتى انتهى
(1)
، وهذا دليل مَنْ أجازوا هبة الثواب إذ أنها حصلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال المؤلف، والهبة تختلف عن الهدية التي يتقرب بها الإنسان إلى مسؤول ليعينه في تحقيق أمر قد يترتب عليه هضم حق للآخرين، فهذا لا يجوز.
قَوْله: (وَأَمَّا هِبَاتُ المَنَافِعِ: فَمِنْهَا مَا هِيَ مُؤَجَّلَة، وَهَذ تُسَمَّى عَارِيَّةً وَمِنْحَةً، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ)
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي (3946) وغيره عن أبي هريرة، قال: أهدى رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناقةً من إبله التي كانوا أصابوا بالغابة، فعوضه منها بعض العوض فتسخط، فَسَمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول:"إنَّ رجالًا من العرب يهدي أحدهم الهدية فأعوضه منها بقدر ما عندي، ثم يتسخطه، فيظل يتسخط فيه عليَّ، وايم الله، لا أقبل بعد مقامي هذا من رجل من العرب هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي"، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "السلسلة الصحيحة"(1684).
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"التبصرة" للخمي (13/ 6015) قال: "والمنحة أيضًا في معنى العارية؛ لأن العارية هبة المنافع دون الرقاب ".
مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (3/ 55) قال: "قال: (وهي هبة المنافع)، وقال الكرخي: إباحة المنافع حتى لا يملك المستعير إجارة ما استعار، ولو ملك المنافع لملك إجارتها، والأوَّل الصحيح؛ لأن المستعيرَ له أن يعير، ولو كانت إباحة لما ملك ذلك، كمَنْ أبيح له الطعام، ليس له أن يبيحه لغيره، ولأن العارية مشتقة من العرية وهي العطية، وإنما لم تجز الإجارة؛ لأنها تمليك مؤقت ينقطع حقه عنها إلى انتهاء المدة، والعاريَّة تمليك على وجه لا ينقطع عنها متى شاء".
مذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (7/ 116) قال: "والعارية هي هبة المنافع مع استيفاء ملك الرقبة، وتفتقر إلى ثلاثة أشياء: معير ومستعير ومعار، فأما المعير فمَنْ كان مالكًا مطلق التصرف جاز أن يكون معيرًا، ولا يجوز من غير مالدً، ولا من ممنوع التصرف، وأجاز أبو حنيفة للعبد المأذون له في التجارة أن يعير، وهذا خطأ؛ لأن الإذن بالتجارة لا يبيح التصرف في غير التجارة.
وأما المستعير، فمَنْ صح منه قبول الهبة، صح منه طلب العارية؛ لأنها نوعٌ من الهبة، ومن لم يصح منه قبولها، لم يصح منها طلبها.
وأمَّا المعار، فهو كل مملوكٍ يصح الانتفاع به مع بقاء عينه من حيوان وغيره، ولا يصح فيما لا ينتفع به مع بقاء عينه كالمأكولات لاختصاصها بالمنافع دون الرقاب ". =
فمنها ما يؤجل، ومنها ما يَكُون حاضرًا أيضًا.
قوله: (وَمِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا بَقِيَتْ حَيَاةُ المَوْهُوبِ لَهُ، وَهَذِهِ تُسَمَّى العُمْرَى، مِثْلَ أَنْ يَهَبَ رَجُل رَجُلًا سُكْنَى دَارٍ حَيَاتَهُ).
ومن العلماء من يخصُّ من بين أنواع الهبات ما يُعْرف بالعُمْرى والرقبى، ومعنى العمرى
(1)
هو أن يقول إنسان لآخر: أعمرتك هذه الدار عمرى، أو عمرك، وربما يطلق هذة العبارة وربما يُقيِّدها بشرطٍ فيَقُول: أعْمَرتُكَ هذه الدار ما حييت على أن تَرْجع لي بعد مماتك، أو يطلق فيقول: وهبتك هذه الدار في حياتك وبعد مماتك ولعقبك، فهل هَذِهِ تعتبر هبةً مؤبدةً للرقبى، أيْ: تقتضي الملك؟ وربما يسكت فيقول: هذه الدار لك عُمْرى، أو هذا البستان لك عُمْرى أو رقبى، فما معنى العمرى والرقبى؛ لأن الحكمَ على الشيء فرعٌ عن تصوُّره؟
أولًا: "العُمْرى" هذَا هو لفظها المشهور، بضم العين وتسكين الميم، وتأتي الألف مقصورة، وأما الرقبى فهى أيضًا على وزن عمرى، والعمرى والرقبى اشتهرت بين العلماء، وَإنْ كانت العُمْرى أكثر اشتهارًا، والرقبى كانت في الجاهلية
(2)
، ومن العلماء مَنْ يعدُّها كالعُمْرى، وبعضهم أيضًا
= مذهب الحنابلة، يُنظر:"المبدع في شرح المقنع" لابن مفلح (5/ 199) قال: "فرع: إذا قال: سكناه لك عمرك، أو غلته، أو خدمته لك، أو منحتكه -فهو عارية، نقله الجماعة؛ لأنه في التحقيق هبة المنافع، والمنافع إنما تُسْتوفى بمضي الزمان شيئًا فشيئًا، وتبطل بموت أحدهما".
(1)
العُمْرى في اللغة: مِنْ أعمرته الدار: جعلتها له يسكنها، وما تجعله للرجل طول عمرك أو عمره. انظر:"مختار الصحاح" للرازي (ص 218) و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 603).
واصطلَاحًا: هو أن يقول: هذه الدار لك عمرك، أي: مدة حياتك، فإذا متَّ أنت فهي لي أو يقول: هذه الدار لك عمري، فإذا متُّ أنا، أَخَذَها ورثتي منك، وهي تمليد للحال، فصحَّ، واشتراط الاسترداد بعد زمان فبطل الشرط؛ لأنه يُخَالف مقتضى الشرع. انظر:"طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية" للنسفي (ص 108).
(2)
انظر: "النهاية" لابن الأثير (3/ 298)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 238).
يخرجها ويقتصر على العُمْرى، والعُمْرى إنما هي حقيقةً نسبةً إلى العمر؛ لأنه عندما يقول: وهبتك هذة الدار عمرى أو عمرك فكأنه ربط ذلك بالعمر، ولذلك سُمِّيت عمرى، والرقبى من المراقبة
(1)
؛ لأن كل واحد ممَّن أعطى أو ممَّن أخذ ربما ينتظر موت الآخر لترجع إليه، فَإنْ كانت مقيدةً بالرجوع إلى الواهب أو وَرَثته، فينتظرون موت هذا حتى تعود إليهم، وَربما تكون أيضًا بالعكس، ثم هل هي نوع واحد؟ هل تأتي على صيغةٍ واحدةٍ أو لها عدة صيغ؟ بمعنى هل هي دائمًا تأتي على وضع واحد أو لها أحكام متنوعة؛ لأنه ربما يقول إنسان لآخر: وهبتك هذة الدار لك حياتك ومماتك ولعقبك، فهذه صريحة لأنها له في حياته، وبعد مماته، وهذا فيه إطلاق، وربما يَقُولُ: وهبت لك هذه الدار ويسكت، وربما أيضًا يُقيِّدها بشرطٍ من الشروط، فيقول: وَهَبتُكَ هذه الدار ما عشت، فإن مت عادت لي، فهل هذا الشرط معتبر أم لا؟ وقد اختلف العلماء في هذه الصور.
قوله: (وَهَذِهِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّهَا هِبَةٌ مَبْتُوتَةٌ).
أي: مقطوع بها يتملكها الموهوب.
قَوْله: (أَيْ: أَنَّها هِبَةٌ لِلرَّقَبَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
(1)
الرُّقْبى في اللغة: من المراقبة. يقال: رقبته، وأرقبته، وارتقبته: انتظرته. انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 138).
اصطلاحًا: أن يقول صاحب الدار أو نحوها: هذه الدار لأينا بقي بعد صاحبه، يعني: إن متُّ أنا فهي لك، وإن متَّ أنت فهي لي، فهذا ليس بتمليكٍ مطلقٍ للحال، فلذلك بطل، وسميت رقبى لأن كل واحد منهما ينتظر موت صاحبه. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 108).
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 409) قال: ولا تصح الهبة بأنواعها مع شرطٍ مفسدٍ كألَّا يزيل ملكه عنه، ولا مؤقتة ولا معلقة إلا في مسائل العُمْرى والرُّقبى كما قال:(ولو قال: أعمرتك هذه الدار) أو هذا الحيوان مثلًا أي: جعلتها لك عمرك (فإذا دمت فهي لورثتك) أو لعقبك (فهي) أي: الصيغة المذكورة (هبة) أي: صيغة =
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(1)
وَالثَّوْرِيُّ
(2)
وَأَحْمَدُ
(3)
وَجَمَاعَةٌ
(4)
).
= هبة طول فيها العبارة، فيُعْتبر فيها القبول، وتلزم بالقبض، وتكون لوَرَثتِهِ، ولا تختصُّ بعقبه إلغاءً لظاهر لفظه عملًا بالخَبَر الآتي، ولا تعود للواهب بحالٍ لخبر مسلم:"أيما رجل أعمَر عُمْرى، فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها". وانظر "روضة الطالبين" للنووي (5/ 370).
(1)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (5/ 93) قال: معنى العُمْرى هو التمليك للحال واشتراط الاسترداد بعد موت المعمر له، فصح التمليك، وبطل الشرط؛ لأن الهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة وبقوله: حملتك على هذه الدابة ناويًا به الهبة؛ لأن الإركاب تصرف في المنفعة، فيكون عَاريَّة إلا إذا أراد به الهبة فتصح. وانظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 116).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 241) قال: قال أبو عمر: مَنْ قال في العمرى بحديث أبي الزبير عن جابر وما كان مثله في العمرى جعل العمرى هبةً مبتوتة ملكًا للذي أعمرها، وأبطل شرط ذكر العمر فيها
…
وهو قول عبد اللَّه بن شبرمة وسفيان الثوري.
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 307) قال: (ولا يصح توقيتها) أي: الهبة (كقوله: وهبتك هذا سنةً) أو شهرًا، فلا تصح لأنها تمليك عين، فلا توقت كالبيع (إلا العمرى والرقبى) فيصحان.
(وهما نوعان من أنواع الهبة يفتقران إلى ما تفتقر إليه سائر الهبات) من الإيجاب والقبول والقبض، ويصح توقيتها، سميت عُمْرى لتقييدها بالعمر
…
(كقوله: أعمرتك هذه الدار أو) أعمرتك هذه (الفرس أو) أعمرتك هذه (الجارية أو أرقبتكها) قال ابن القطاع: أرقبتك: أعطيتك، وهي هبة ترجع إلى المرقب إن مات المرقب، وقد نُهِيَ عنه (أو جعلتها) أي: الدار أو الفرس أو الجارية (لك عمرك أو) جعلتها لك (عمري أو) جعلتها لك (رقبى أو) جعلتها لك (ما بقيت أو أعطيتكها عمرك ويقبلها) الموهوب له (فتصح) الهبة في جميع ما تقدم، وهي أمثلة العُمْرى (وتكون) العين الموهوبة (للمعمَر بفتح الميم) وللمرقَب بفتح القاف ولورثته من بعده (إن كانوا) كتصريحه بان يقول: هي لك ولعقبك من بعدك (فإن لم يكن له) أي: الموهوب له. وانظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 397، 398).
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 68) قال: "
…
فإن العُمْرَى تنقل المِلْكَ إلى المعمر. وبهذا قال جابر بن عبد الله، وابن عمر، وابن عباس، وشريح، ومجاهد، وطاوس، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي، ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ".
فَهَذَا قول جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، والذي خالف في ذلك هو الإمام مالك رحمه الله.
قَوْله: (وَالقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُعْمَرِ فِيهَا إِلَّا المَنْفَعَةُ)
(1)
.
فيستفيد منها، ثم تعود للأول، فهذه هبة مؤقتة مقيدة.
قوله: (فَإِذَا مَاتَ عَادَتِ الرَّقَبَةُ لِلْمُعْمِرِ أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ).
سواء اشترط ذلك المعمر أو لم يشترط، فهي عند مالك تعود إلى الواهب بعد موت الموهوب. ومن العلماء مَنْ يقول: لو اشترط فقال: وهبتك وأعمرتك سكنى هذه الدار ما عشت، فإذا مت عادت إليَّ، فإنَّ فيها شرطًا، والشرط معتبر، ومن العلماء مَنْ لا يعتبر ذلك وَيُلْغيه، ويعتبرها هبةً مبتوتةً.
قَوْله: (وَبِهِ قَالَ مَالِل وَأَصْحَابُهُ
(2)
، وَعِنْدَهُ أَنَّهُ إِنْ ذَكَرَ العَقِبَ عَادَتْ إِذَا انْقَطَعَ العَقِبُ إِلَى المُعْمِرِ أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ).
(1)
يُنظر: "أسهل المدارك" للكشناوي (3/ 96) قال: "وهي تمليك منفعة مملوك حياة المُعْطَى -بالفتح- بغير عوض، فإذا قال المالك المتبرع: أعمرتك داري هذه، ثَبتَ لَه ملك منفعة تلك الدَّار، إذا مات المُعْمَر رجعت ملكًا للمُعمِرِ أَوْ وارثه يوم موت المعمَر بالفتح ".
(2)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (12/ 206) قال: "قال مالك: لو أن رجلًا أعمر عمرى دارًا أو خادمًا له ولعقبه ما عاشوا، ولم يقل مرجعه إِلَيَّ، ولم يجعل لمرجعها وجهًا ترجع إليه، رجعت إليه كما لو اشترط. قال مُحمَّد بن رشد: هذا هو مذهب مالك وجميع أصحابه أن العُمْرى ترجع إِلى الذي أعمرها بعد موت المُعْمَرِ إنْ لم تكن معقبةً وبعد انقراض العقب إِنْ كانت معقبةً، ولم يأخذ مالك في العُمْرى بحديثه الذي روَاه في "موطئه" عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَيُّما رَجلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلعقِبِهِ، فَإنَّهَا للذِي يُعْطَاهَا، لا تَرْجِعُ إلَى الذِي أَعْطَاهَا"؛ لَأنَّه أَعْطَى عَطَاء وَقَعتْ فِيهِ المَوَارِيث، وذهب في ذلك إلى ما رواه عن ابن القاسم بن محمد أنه قال: ما أدركت الناس إِلَّا وهُمْ على شُرُوطهم في أموالهم وفيما أعطوا، فقال: مَعْنى الحَديث أن العُمْرَى لا تَرْجع إلى الذي أعطَاها حتى ينقرض العقب بدليل قولِهِ في الحَديث: "فإنها للذي يُعْطاها"، =
فَمَالكٌ أيضًا يقول: هي تعود، لَكن لو ذكر العقب فقال: أعمرتك هذه الدار ولعقبك من بعدك تبقى في العقب.
قَوْله: (وَالقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ: هِيَ عُمْرَى لَكَ وَلعَقِبِكَ كَانَتِ الرَّقَبَةُ مِلْكًا لِلْمُعْمَرِ، فَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ العَقِبُ عَادَتِ الرَّقَبَةُ بَعْدَ مَوْتِ المُعْمَرِ لِلْمُعْمِرِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ)
(1)
.
فَمِنَ العُلَماء مَنْ يقول: إذا أطلق، فقال: وهبتك هذه الدار، فإنها لا تعود، بل تعتبر بمثابة قوله: هذه الدار لك ولعقبك، وهما لا يختلفان، وهذه هي الثلاثة أقوال التي اختلف العلماء حولها، وأما العُمْرى، فمن غير شكٍّ أنها جائزةٌ؛ لأنه ثَبتَ في "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم قال:"العُمْرَى جَائزةٌ"
(2)
، وثبت عن عبد الله بن عباس أنه قال:"العُمْرى والرُّقبى سواء"
(3)
، ولا فرق بينهم.
قَوْله: (وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ
(4)
، وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي هَذَا البَابِ اخْتِلَافُ الآثَارِ، وَمُعَارَضَةُ الشَّرْطِ وَالعَمَلِ لِلأثَرِ).
= والذي أعطيهَا هو المُعْمَر وعقيبه، فَوَجب أنْ تكونَ لهم بنص الحديث، وتَرْجع بعد انقراضهم إلى المُعْمَر بالتأويل الصحيح، إذْ لا يصح أن يكون ملكًا لجميع العقب، فمَنْ قال: إنَّ العمرى المعقبة تكون ملكًا للمُعْمَرِ، فقد خالف الحديث، ومالك أَسْعَدُ به".
(1)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد (12/ 207) قال: "ففي العمرى لأهل العلم ثلاثة أقوال
…
والثالث: أنها تكون للمُعْمَر ملكًا! إن كانت معقبة، وترجع إلى المُعْمِر ملكًا بعد موت المعْمَر إن لم تكن معقبة".
(2)
حديث (2626)، ومسلم (1626/ 32).
(3)
أخرجه النسائي (3711) وغيره، وَصحَّحه الأَلْبَانيُّ مرفوعًا في "صحيح النسائي"(8/ 283).
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (7/ 239) قال: "وروى معمر عن ابن شهاب عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال: إنما العُمْرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها. قال معمر: وكان الزهريُّ يفتي بذلك. قال أبو عمر: هذا قول أبي سلمة بن عبد الرحمن
…
وإليه ذَهَب أبو ثور وداود بن علي ". وانظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 69).
وهذه من مزايا الكتاب أنه عندما يعرض آراء العلماء في مسألة يحاول أن يبين سبب اختلافهم، وإذا قيدت بشرط، فهل هذا الشرط يعارض أو لا يعارض؟
قَوْله: (أَمَّا الأَثَرُ، فَفِي ذَلِكَ حَدِيثَان، أَحَدُهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ).
ومصطلح عند المحدثين بأن الحديثَ هو ما نُسِبَ إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حتى ولو كان مرسلًا
(1)
، وأما الأثر فهو ما يُرْوى عن الصحابة فيوقف عليه
(2)
، ويجوز أن يطلق على الحديث بأنه أثر؛ لأنه أثر حقيقة
(3)
، والمؤلف هنا لم يفرق بينهما، فربما يقول عن حديث متفق عليه بأنه أثرٌ، وَإنْ كنَّا قد عرفنا المصطلح في ذلك بأنَّ الآثارَ هي التي تُرْوى عن
(1)
قال ابن الصلاح: "والمرفوع هو ما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، ولا يقع مطلقه على غير ذلك .. ويدخل في المرفوع: المتصل، والمنقطع، والمرسل، ونحوها، فهو والمسند عند قومٍ سواء، والانقطاع والاتصال يدخلان عليهما جميعًا". انظر: "مقدمة ابن الصلاح"(ص 116).
وقال محققاه: جاء في بعض نسخ الكتاب، جاءت حاشية نصها:"قال المؤلف: رأيت في كتاب "الضعفاء" لعلي بن المديني تسمية قول الحسن البصري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعًا".
(2)
قال ابن الصلاح: وموجود في اصطلاح الفقهاء الخراسانيين تعريف الموقوف باسم الأثر.
قال أبو القاسم الفوراني -منهم- فيما بلغنا عنه: الفقهاء يقولون: "الخبر: ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأثر ما يروى عن الصحابة رضي الله عنه". انظر، "مقدمة ابن الصلاح "(ص 117) و"تدريب الراوي مع تقريب النواوي" للسيوطي (1/ 202).
(3)
قال ابن حجر: "هذا قَدْ وجد في عبارة الشافعي رضي الله عنه في مواضع. والأثر في الأصل العلامة والبقية والرواية، ونقل النووي عن أهل الحديث أنهم يطلقون الأثر على المرفوع والموقوف معًا، ويؤيده تسمية أبي جعفر الطبري كتابه "تهذيب الآثار"، وهو مقصور على المرفوعات، وإنما يورد فيه الموقوفات تبعًا. وأما كتاب "شرح معاني الآثار" للطحاوي فمشتمل على المرفوع والموقوف أيضًا، والله تعالى الموفق ". انظر: "النكت على كتاب ابن الصلاح"(1/ 513).
الصحابة، والأحاديث هي التي تُرْوى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك بأن هنا فرقًا بينهما فيما يتعلق بالدلالة.
قوله: (وَهُوَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلعَقِبِهِ، فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا، لَا تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا أَبَدًا)
(1)
.
وفي هذا الحديث التنصيص على العقب أيضًا، ودليل على اختلاف الحكم عما لو أطلق ولم يذكر العقب، وهذا الحديث متفق عليه، لكن هذا اللفظ الذي أورده المؤلف هل هو لفظ الإمام مسلم
(2)
أم لفظ الإمام البخارى؟ وقد جاء مختصرًا، ونصه: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعُمْرى بأنها لمن وهبت له
(3)
، فحديث البخاري مطلق كأنه يشمل ما فيه ذكر العقب وما ليس فيه، وقضى بمعنى حكم، والقضي أصله هو الحكم والأمر، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في العمرى بأنها لمن وهبت له، وهذا مطلق، فهل هي لمن وهبت له هبةٌ مبتوتةٌ أو أنها مقيدة في الحياة؟ الحديث أطلق فدل على العموم حديث مسلم؛ لأنه هو الذي جاء فيه هذا التفصيل وهذه الزيادة، وفيه ذكر لعقبه، أي: للذين يأتون بعده من الورثة، وقد جاء في بعض الأحاديث أيضًا ذكر المواريث أو الميراث.
قوله: (لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ المَوَارِيثُ"
(4)
، وَالحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ، أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا تُعْمِرُوهَا، فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا حَيَاتَهُ،
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(43).
(2)
أخرجه مسلم (1625/ 20) ولفظه: "أيما رجلٍ أعمرَ عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها"؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث.
(3)
أخرجه البخاري (2625)، ومسلم (1625/ 25) ولفظه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرى لمن وهبت له ".
(4)
جزء من الحديث، أخرجه مسلم (1625/ 20).
فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ"
(1)
).
وَمُنَاسبَة هذا الحديث أنه عندما قال الله سبحانه وتعالى في وَصْف الأنصار: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ، كانوا يعمرون المهاجرين، فلذلك قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الأنصار، أمسكوا عليكم أموالكم ولا تعمروها"، وفي بعض الروايات:"ولا تفسدوها"
(2)
، فَهُوَ لَه في حياته وبعد مماته، فهناك نصٌّ على العقب بين فيه الرسول- عليه الصلاة والسلام بأن من أعمر غيره عمرى، فإنه يكون للذي أعطيه له في حياته وبعد مماته.
قوله: (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظٍ آخَرَ: "لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا، فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا أَوْ أُرْقِبَهُ، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ"
(3)
، فَحَدِيثُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مُخَالِفٌ لِشَرْطِ المُعْمِرِ
(4)
.
وَهذه الأحاديث -كمَا نرَى- هي أحاديث صحيحة وصريحة فيما يتعلق بالعُمْرى، وهو: مَنْ أعمر إنسان شيئًا فلا يخلو إما أن يقول له: ولعقبك، وإما أن يسكت في ذلك، وربما أضاف العلماء شيئًا وهو أن يقيده بأن يقول: ما عشت، أما إذا مت، فإن الأمرَ ينتهي، وتعود لي.
قَوْله: (وَحَدِيثُ مَالِكٍ عَنْهُ)
(5)
.
أي: عَنْ جابرٍ رضي الله عنه، فالضمير يعود عليه؛ لأن الأول عن جابر،
(1)
أخرجه مسلم (1625/ 26) عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا، ولعقبه ".
(2)
أخرجه مسلم (1625/ 26).
(3)
أخرَجه أبو داود (3556) والنسائي (3731)، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1609).
(4)
حديث: "يا معشر الأنصار، أمسكوا عليكم -يعني: أموالكم- لا تعمروها، فإنه من أعمر شيئًا، فإنه لمن أعمره حياته ومماته ".
(5)
حديث: "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ".
وهذا الذي عن طريق أبي الزبير إنما هو أيضًا عن جابر أيضًا، وأحاديث مالك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
قَوْله: (مُخَالِفٌ أَيْضًا لِشَرْطِ المُعْمِرِ إِلَّا أَنَّهُ يُخَيَّلُ أَنَّهُ أَقَلُّ فِي المُخَالَفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ العَقِبِ يُوهِمُ تَبْتِيتَ العَطِيَّةِ).
لأن الأوَّل نص فيه على العقب، فدل على التبتيت، وأنها لا ترجع إلى مَنْ وهبها، ونعلم ما جاء في الهبة، وما سيأتي بأن العائد في هبته كالذي يقيء ثم يعود في قيئه.
قوله: (فَمَنْ غَلَّبَ الحَدِيثَ عَلَى الشَّرْطِ قَالَ بِحَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَحَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرٍ، وَمَنْ غَلَّبَ الشَّرْطَ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ العُمْرَى تَعُودُ إِلَى المُعْمِرِ إِنْ لَمْ يَذْكُرِ العَقِبَ، وَلَا تَعُودُ إِنْ ذَكَرَ، فَإِنَّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ الحَدِيثِ).
والذي قال بذلك هو الإمام مالك في الرواية الأخرى.
قوله: (وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ (أَعْنِي: رِوَايَةَ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ)
(1)
، وَأَمَّا إِذَا أَتَى بِلَفْظِ الإِسْكَانِ، فَقَالَ:
(1)
أبو الزبير المكي، هو محمد بن مسلم بن تدرس؛ وسواء كان روى عن جابر، أو عن غيره، هو مدلس، والمدلس لا تُقْبل عنعنته إلا إذا صرح بالسماع.
قال العلائي في "جامع التحصيل"(ص 294): "والصحيح الذي عليه جمهور أئمة الحديث والفقه والأصول الاحتجاج بما رواه المدلس الثقة مما صرح فيه بالسماع دون ما رواه بلفظ محتمل.
فَإنْ كَانت عنعنته في داخل "الصحيحين" أَوْ أحدهما، فهي محمولة على السماع ما لم ينتقد أحد الحفاظ أو الأئمة هذا الإسناد من أجل عنعنة أبي الزبير.
قال النووي في "تقريبه ": "وما كان في "الصحيحين" وشبههما، عن المُدلِّسين بـ "عن "، محمول على ثبوت السماع من جِهَةٍ أخرى". انظر: "تدريب الراوي "(1/ 262). =
أَسْكَنْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ حَيَاتَكَ، فَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الإِسْكَانَ عِنْدَهُمْ، أَوِ الإِخْدَامَ بِخِلَافِ العُمْرَى وَإِنْ لَفَظَ بِالعَقِبِ
(1)
).
= وأمَّا إذا كانت خارج "الصحيحين": فإذا روى عنه الليث بن سعد، فتُحْمل عنعنته على السماع. قال ابن عدي في "الكامل" (7/ 290) بسنده إلى الليث قال: أتيت أبا الزبير المكي، فدفع إليَّ كتابين قال: فلما سِرْتُ إلى منزلي قلت: لا أكتبهما حتى أسأله قال: فَرَجعت إليه فقلت: هذا كلُّه سمعته من جابرٍ؟ قال: لا، قلت: فاعلم لي على ما سمعت قال: فاعلم لي على هذا الذي كتبته عنه.
وأما روايته في غير "الصحيح"، ومن طريق غير الليث، فنقف في روايته؛ سواء كانت عن جابرٍ أو عن غيره، ومن الأئمة من يضعف أبا الزبير مثل شعبة؛ لأنه رآه يزن ويسترجع في الميزان، وقد دافع ابن حبان عنه في "الثقات"(5/ 352) فقال. ولم ينصف من قدح فيه؛ لأن من استرجح في الوزن لنفسه لم يستحق الترك من أجله .. والراجح أنه صدوق من جهة الرواية لكنه مدلس.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (12/ 96) قال: فإن قال: داري لك عمرى سكنى: فهذه عارية؛ لأن قولَه: سُكْنى، تفسير لقوله: عمرى .. والكلام المبهم إذا تعقبه تفسير، فالحكم للتفسير، وبيان هذا وهو أنَّ قوله: لك عُمْرى، يحتمل تمليك عينها منه عمره، ويحتمل تمليك منفعتها. فكان قوله: سكنى، تفسيرًا، أي: لك سكناها عمرك، وكذلك قوله: نحلى سكنى، وقوله: هبة سكنى، أو سكنى هبة، أو سكنى صدقة، فهذا كله عارية؛ لما بينَّا أن قوله: سكنى، تفسير للمحمل من كلامه؛ ألا ترى أنَّه لو قال: هي لك فاقبضها: كانت هبة، ولو قال: هي لك سكنى كانت عاريةً، وجعل قوله: سكنى تفسيرًا، وكذلك إذا زاد لفظة العمرى والهبة والصدقة، وإنْ قال: هي لك هبةٌ عاريةٌ، أو هي عارية هبة: فهي عارية، قدم لفظة الهبة، أو أخرها؛ لأنه محتملٌ لجواز أن يكون مراده هبة العين، ويجوز أن يكون مراده هبة المنفعة.
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 313) قال: "ومتى قال: هذه الدار لك عارية" بالرفع أو النصب أو الجر أو الإسكان كما هو ظاهر كلامهم "أو هبة عارية أو هبة سكنى بالإضافة" فيهما "فهي عارية" بإقراره فله الرجوع فيها.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 71) قال: "وإن قال: سكناها لك عمرك. كان له أخذها أي وقت أحب؛ لأن السُّكنى ليست كالعُمْرى والرُّقبى" أما إذا قال: سكنى هذه الدَّار لك عمرك، أو اسكنها عمرك. أو نحو ذلك، فليس ذلك بعقدٍ لازمٍ؛ لأنه في التحقيق هبة المنافع، والمنافع إنما تُسْتوفَى بمضي الزمان شيئًا فشيئًا، فلا تلزم إلا في قدر ما قبضه منها واستوفاه بالسكنى. وللمسكن الرجوع متى شاء، =
فقال: أسكنتُكَ هذه الدار أو منحتك خدمة هذا المملوك أو هذه الدابة، والإسكان يختلف عن الهبة.
قَوْله: (فَسَوَّى مَالِكٌ بَيْنَ التَّعْمِيرِ وَالإِسْكَانِ)
(1)
.
فلم يَرَ فرقًا بين أنْ يقول: أعمرتُكَ هذه الدار وبين أن يقول: أسكنتُكَ هذه الدار، والجمهور يُخَالفون في ذلك؛ لأن السُّكنى تختلف.
قَوْله: (وَكَانَ الحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ
(2)
، يُسَوُّونَ بَيْنَ السُّكْنَى وَالتَّعْمِيرِ فِي أَنَّهَا لَا تَنْصَرِفُ إِلَى المَسْكَنِ أَبَدًا عَلَى قَوْلِ الجُمْهُورِ فِي العُمْرَى. وَالحَقُّ أَنَّ الإِسْكَانَ وَالتَّعْمِيرَ مَعْنَى المَفْهُومِ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الحُكْمُ إِذَا صَرَّحَ بِالعَقِبِ مُخَالِفًا لَهُ إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكرِ العَقِبِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(3)
).
والمراد: أسكنتك هذه الدار لك ولعقبك، فكأن ذكر العقب يزيد أيضًا المعنى قوةً، وأن المراد بذلك هو الإعمار.
= وأيهما مات بطلت الإباحة
…
وَإِنْ قال: داري هذه اسكنها حتى تموت، فإنها ترجع إلى صاحبها؛ لأنه إذا قال: هي لك، فقد جعل له رَقبتها، فتكون عمرى، فإذا قال: اسكن داري هذه، فإنما جعل له نفعها دون رقبتها، فتكون عاريةً، ولنا أن هذا إباحة المنافع، فلم يقع لازمًا كالعارية. وفارق العمرى فإنها هبة للرقبة، فأما إذا قال: هذه لك، اسكنها حتى تموت، فإنه يحتمل لك سكناها حتى تموت.
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (8/ 21) قال: صيغة العمرى ما دل على هبة المنفعة دون الرقبة كأسكنتك هذه الدار، ووهبتك سكناها عمرك "أو وارثك" من "المدونة": إن قال له: قَدْ أسكنتك هذه الدار وعقبك رجعت إليه ملكًا بعد انقراضهم، فإن مات فلأقرب الناس به يوم مات أَوْ إلى وَرَثتهم .. انتهى.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 241) قال: "وقد كان الحسن وعطاء وقتادة يُسوُّون بين العمرى والسكنى وقالوا: من أسكن أحدًا داره، لم ينصرف إليه أبدًا".
(3)
انظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 164) قال: العمرى والرقبى: هبة صحيحة تامة، يملكها المعمر والمرقب كسائر ماله، يبيعها إن شاء، وتورث عنه، ولا ترجع إلى المعمر، ولا إلى وَرَثته؛ سواء اشترط أن ترجع إليه أو لم يشترط، وشرطه لذلك ليس بِشَيْءٍ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(القَوْلُ فِي الأَحْكَامِ:
وَمِنْ مَسَائِلِهِمُ المَشْهُورَةِ فِي هَذَا البَاب جَوَازُ الِاعْتِصَارِ فِي الهِبَةِ
(1)
(وَهُوَ الرُّجُوعُ فِيهَا)).
وَالفُقَهَاء لَهم مصطلحاتٌ، وَربما تجد في بَعْض المَذَاهب مصطلحات تختلف عن المذهب الآخر، فنحن نعرف في المذاهب عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد بأن ما يسميه المالكية بالاعتصار هو الرجوع في الهبة، كأنه اعتصره بمعنى أخذها منه وجلبها، فكأن فيها معنى الشد.
قَوْله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ المَدِينَةِ)
(2)
.
وهو أيضًا قول الإمام أحمد
(3)
.
(1)
يُنظر: "شرح حدود ابن عرفة" للرصاع (ص 427) قال: "الاعتصار: ارتجاع المعطي عطية عوض لا بطوع المعطى.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 228) قال: "ذهب مالكٌ وأكثر أهل المدينة إلى أن للأب أن يعتصر ما وهب لابنه ".
(3)
ورد عن أحمد روايتان.
يُنظر: "الروايتين والوجهين" لأبي يعلى ابن الفراء (1/ 442، 443) قال: هل للأب الرجوع في الهبة؟
فنقل الميموني وأبو طالب وإسحاق بن إبراهيم: له الرجوع، وهذا على الإطلاق بكل حال.
وَنقَل أبو الحَارث: إذا وهب لابنه أو لابنته هبةً، فإن غَرَّ بها قومًا، فليس له الرجوع، فظاهر هذا أنه إنْ بان نفع ذلك عليه لم يكن له الرجوع، وهو أن يهب لولده شيئًا وهو فقير فيستغني بعد ذلك فيرغب الناس في معاملته ومصاهرته، فلا يكون له الرجوع، وإِنْ لم يبنِ نفعه عليه فله الرجوع.
والذي عليه المذهب أن له الرجوع. يُنظر: "المبدع في شرح المقنع "، لابن مفلح (5/ 203)، قال:"ولا يجوز" أي: لا يحل "لواهب أن يرجع في هبته" اللازمة، كَذا في "الرعاية" و"الوجيز"؛ لما رَوَى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه "، متفق عليه، ولأحمد والبخاري:"ليس لنا مثل السوء"، وفي رواية لأحمد قال قتادة: ولا أعلم القيء إلا حرامًا، وكالقيمة، وظاهره =
قوله: (أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ)
(1)
.
وهو أيضًا عند الإمام الشافعي
(2)
، لكن الإمام الشافعي بعد ذلك توقف في حديث طاوس الذي سيأتي الكلام عنه، ونعلم أن الإمام الشافعي قد وضع له منهجًا، ذلكم المنهج أنه قال:"إذا صح الحديث فهو مذهبي "، فلو قدر بأن مسألةً من المسائل خالف فيها الإمام الشافعي رحمه الله لأن الحديثَ الذي هو حجتهم لم يصح عنده، ثم تبين أن ذلك الحديث صحيح، فيكون مذهب الإمام الشافعي، ثم إن الإمام الشافعي قال بهذه
= وإن لم يثب عليها، صرح به في "المحرر"، وكذا حكم الهدية "إلا الأب "، فله الرجوع في أظهر الروايات عنه، وصححه ابن حمدان، وهو المذهب عند الشيخين؛ لما روى عمر، وابن عباس مرفوعًا:"لا يحلُّ للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ".
(1)
يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 258) قال: "قوله: وقيد اعتصار الأب من الكبير
…
إلخ " لا مفهوم له، بل لا فرق بين أن يكون الولد كبيرًا أو صغيرًا. "قوله: ما لم ينكح أو يداين
…
إلخ " بالبناء للمجهول ليفيد أن العبرة بقصد المنكح أو رب الدين الذي داينه، وأما قَصده هو فلا يعتبر ذلك، ولكن ذكر المواق ما يفيد أن المعتمد خلاف ذلك، وأنه يكفي قصد الابن، فلو قصد ذاته بالإنكار أو كانت قليلةً لا ينكح ولا يداين الشخص لأجلها، فلا يفوتان الاعتصار. تنبيه: المراد بالإنكاح العقد، دخل أو لا، بقي نكاحه أو زال بطلاق أو موت.
"قوله: أو يحدث في الهبة حدثًا"، أي: حادثًا ينقصها في ذاتها أو يزيدها، فإنها تفوت عليه، ولا يحل له اعتصارها إلا أن يزول النقص أو يرجع الزائد، فإنه يعود الاعتصار، ولا فرق في النقص بين الحسي كهزال الحيوان الذي كان سمينًا، والمعنوي كنسيان العبد صنعة، وكذا تفوت الهبة المثلية بخلطها بمثلها، ولا عِبْرَة بحوالة الأسواق.
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 568) قال: "للأب الرجوع" على التراخي "في هبة ولده" الشاملة للهدية والصدقة وكذا لبعضها كما فهم بالأولى من دون حكم حاكم "وكذا لسائر الأصول" من الجهتين ولو مع اختلاف الدين "على المشهور"؛ سواء أقبضها الولد أم لا، غنيًّا كان أو فقيرًا، صغيرًا أو كبيرًا، لخبر:"لا يحلُّ لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده "، رواه الترمذي والحاكم وصححاه. وانظر:"نهاية المحتاج" للهيتمي (6/ 309).
المسألة، ثم بعد ذلك توقف، وقال: لو صح حديث طاوس لقلتُ به
(1)
، ولما زدت على الوالد شيئًا؛ لأن الوالد هو الذي له أن يرجع في هبته التي يهبها ابنه، وغير الوالد ليس له ذلك، وسنبين بأن هذا الحديث قد صحَّ، وقد تمَّ وَصْله وحينئذٍ يكون مذهبًا للإمام الشافعي رحمه الله.
قَوْله: (مَا لَمْ يَتَزَوَّجْ الِابْنُ، أَوْ لَمْ يَسْتَحْدِثْ دَيْنًا أَوْ بِالجُمْلَةِ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حَقٌّ للْغَيْرِ)
(2)
.
والعلماء وَضَعوا قيودًا وشروطًا لذلك، فقالوا: للأب أن يرجع في هبته التي وهبها ولده لكن بشروطٍ، ومن هَذِهِ الشُّرُوط: أَنْ تَكُونَ الهبةُ مَوْجودةً لا تزَال قائمةً عند الولد، وألَّا يكون أخرجها ببيع، وألَّا يكون أخذ عنها عوضًا، وألا يكون الولد بحاجةٍ، واختلفت المذاهب في ألا يكون زاد عليها أيضًا، فإذا غيَّر فيها وبدَّل، فإن ذلك يمنع من الرجوع فيها، فالرجوع ليس على إطلاقه، لكن من حيث الأصل فللأب أن يرجع في هبته.
قَوْله: (وَأَنَّ لِلأمّ أَيْضًا أَنْ تَعْتَصِرَ مَا وَهَبَتْ إِنْ كَانَ الأَبُ حَيًّا)
(3)
.
(1)
قال الماوردي: وهذا صحيح، والحديث متصل. انظر:"الحاوي الكبير"(7/ 545).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (7/ 235) قال: قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا فيمن نحل ولده نحلًا، أو أعطاه عطاءً ليس بصدقة أن له أن يعتصر ذلك ما لم يستحدث الولد دينًا يداينه الناس به، ويأمنونه عليه من أجل ذلك العطاء الذي أعطاه أبوه، فليس لأبيه أن يعتصر من ذلك شيئًا بعد أن تكون عليه الديون، أَوْ يعطي الرجل ابنه أو ابنته فتنكح المرأة الرجل، وإنما تنكحه لغناه وللمال الذي أعطاه أبوه، فيريد أن يعتصرَ ذلك الأب أو يتزوج الرجل المرأة قد نحلها أبوها النحل، إنما يتزوجها ويرفع في صداقها لغناها ومالها وما أعطاها أبوها، ثم يقول الأب: أنا أعتصر ذلك، فليس له أن يعتصر من ابنه ولا من ابنته شيئًا من ذلك إذا كان على ما وَصفت لَكَ.
(3)
يُنظر: "حاشية العدوي"(2/ 258) قال: "قوله: وأما الأم" أي: دنية "قوله: فإنها لا تعتصر" أي: ما وهبته لولدها سواء كان صغيرًا أو كبيرًا. =
وهذا أيضًا قول الشافعي
(1)
والإمام أحمد في رواية
(2)
أيضًا، على معنى أن الأم بمنزلة الأب بالنسبة للرجوع في الهبة، وأن ذلك لا يخصُّ الأب، ومن العلماء
(3)
من يرى أنه ليس للأم أن ترجع فيما وهبت ولدها.
قوله: (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَعْتَصِرُ)
(4)
.
أي: أن الأم لا تعود في هبتها.
قَوْله: (وَقَالَ أَحْمَدُ
(5)
وَأَهْلُ الظَّاهِرِ
(6)
: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ
= "قوله: ما دام الأب حيًّا" أي: ولو مجنونًا زمن الهبة جنونًا مطبقًا إلا أن تكون قصدت بهبتها صلة رحم أو ثواب آخرة أو لفقره، فلا تعتصر.
(1)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (5/ 379) قال: للأب الرجوع في هبته لولده
…
وأما الأم والأجداد، والجدات من جهة الأب والأم، فالمذهب أنهم كالأب.
(2)
يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (2/ 262) قال: وليس للجد الرجوع؛ لأن الخبَر يتناول الوالد حقيقةً، وليس الجد في معناه؛ لأنه يدلي بواسطةٍ، ويسقط بالأب، ولا تسقط الإخوة، فأما الأم فيحتمل أن لا رجوع لها؛ لأنه لا ولاية لها على ولدها، بخلاف الأب، ويُحْتمل أن لها الرجوع؛ لأنها أحد الأبوين، فأشبهت الأب، ولأنه يجب عليها التسوية بين ولدها في العطية، فأشبهت الأب.
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 149) قال: تنبيه: ظاهر كلام المصنف بَلْ هو كالصَّريح أن الأم ليس لها الرجوع إذا وهبت ولدها. وهو الصحيح من المذهب، نص عليه، وعليه أكثر الأصحاب، وجزم به في الوجيز، وغيره، وقدمه في الفروع وغيره.
(4)
قال ابن عبد البر في "الاستذكار"(7/ 229): "وقد روي عنه أنها لا ترجع أصلًا".
(5)
يُنظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(4/ 310) قال: ولا يحل لواحد أن يرجع في هبته، ولا لمهد أن يرجع في هديته، وإن لم يثب عليها.
(6)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 71) قال: مسألة: ومن وهب هبة صحيحة لم يجز له الرجوع فيها أصلًا مذ يلفظ بها إلا الوالد، والأم فيما أعطيا، أو أحدهما لولدهما، فلهما الرجوع فيه أبدًا -الصغير والكبير سواء. وسواء تزوج الولد أو الابنة على تلك العطية أو لم يتزوجا، داينا عليها أو لم يداينا، فإن فات عينها فلا رجوع لهما بشيء، ولا رجوع لهما بالغلة ولا بالولد الحادث بعد الهبة، فإن فات البعض وبقي البعض كان لهما الرجوع فيما بقي فقط
…
وترجع الأم كذلك فيما وهبت الأم لولدها الصغار خاصةً ما دام أبوهم حيًّا، فلها الرجوع فيه، فإن مات أبوهم فلا =
يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَهُ؛ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَهُ إِلَّا مَا وَهَبَ لِذِي مَحْرَمٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ).
وَالمَحْرَم هي التي تحرم عليه، فإنه في هذه الحالة ليس له أن يرجع.
قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الهِبَةَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الصَّدَقَةُ (أَيْ: وَجْهُ اللَّهِ) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الرُّجُوعُ فِيهَا)
(2)
.
لأنه لا يجوز للمسلم أن يتصدق بصَدَقةٍ يقصد بها وجه الله سبحانه وتعالى، ويريد الثواب عليها في الآخرة، ويسعى بأن يرفعه الله سبحانه وتعالى بها درجاتٍ، وأن يحط عنه بسببها سَيِّئاتٍ، ثم تضعف نفسه، وتكسر همته، ويتراجع عن هبته، فعلى الانسان أن يبذل، وأن يكون كريمًا، وألا يبخل فيما ينفقه في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ سواء كان ذلك عن طريق الصدقات أو الهبات أو فعل المعروف، فَإنَّ ذلك من أجل أن يتقرب به العبد إلى الله سبحانه وتعالى:"ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويديه التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنه"
(3)
.
= رُجُوع لها، وكذلك لا رجوع لها فيما وهبت لولدها الكبار، كان أبوهم حيًّا أو لم يكن.
(1)
مذهب الحنفية أنه لا يجوز للواهب الرجوع في هبته بعد القبض إذا كان الموهوب له ذا رحم محرم من الواهب. يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (3/ 225) قال: "وإذا وهب هبةً لأجنبي، فله الرجوع فيها"، وقال الشافعي: لا رجوع فيها.
وقال أيضًا في "الهداية"(3/ 226) قال: "وإن وَهَب هبةً لذي رحم محرم منه، فلا رجوعَ فيها"؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا كانت الهبة لذي رحم محرم منه لم يرجع فيها"؛ ولأن المقصودَ فيها صلة الرحم وقد حصل.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 236) قال: قال أبو عمر: ولا أعلم خلافًا بين العلماء أن الصدقة لا رجوع فيها للمتصدق بها وكل ما أريد به -من الهبات- وجه الله تعالى بأنها تجري مجرى الصدقة في تحريم الرجوع فيها.
(3)
جزء من حديثٍ أخرجه البخاري (6502) ولفظه: "إنَّ اللهَ قال: مَنْ عادى لي وليًّا =
قَوْله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي هَذَا البَابِ تَعَارُضُ الآثَارِ، فَمَنْ لَمْ يَرَ الِاعْتِصَارَ أَصْلًا: احْتَجَّ بِعُمُومِ الحَدِيثِ الثَّابِتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ"
(1)
).
وفي بعض الأحاديث: "العائد في هبته كالذي يقيء ثم يعود في قيئه "
(2)
، وهذا من أسوإ ما يكون؛ لأنه حقيقة تنفر منه النفوس، وتشمئز منه الصدور، ولذلك يبين الرسول صلى الله عليه وسلم بأن من يهب هبةً ثم يستولي عليه الشح والبخل فيرجع في الهبة، هو بمثابة إنسان قاء قيئًا خرج من بطنه لم تقبله نفسه، ثم أعاده إليها مرة أخرى، فلا يليق بالمسلم أن يفعل مثل ذلك.
قَوْله: (وَمَنِ اسْتَثْنَى الأَبَوَيْنِ، احْتَجَّ بِحَدِيثِ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام:"لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إِلَّا الوَالِدُ"
(3)
، وَقَاسَ الأُمَّ عَلَى الوَالِدِ).
= فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، وبده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ".
(1)
أخرجه البخاري (6975).
(2)
أخرجه البخاري (2589) ومسلم (1622) بلفظ: عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه ".
وأخرجه أحمد (384) بلفظ عن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَل الذي يَعُود في صدقته كمثل الذي يعود في قيئه "، وحسن إسناده الأرناؤوط.
وأبو داود (3538) عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"العائد في هبته كالعائد في قيئه "، قال قتادة: ولا أعلم القيء إلا حرامًا.
(3)
أخرجه الشافعي في "مسنده"(ص 174) عن طاوس، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(13/ 63) عن طاوس، عن ابن عمر، وابن عباس، وقال الأَلْبَانيُّ في "المشكاة": حسن صحيح (2030/ التحقيق الثاني).
وفي رِوَايةٍ: "ليس لأحدٍ أن يعطي عطيةً أو يهب هبةً، ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده"
(1)
.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوِ اتَّصَلَ حَدِيثُ طَاوُسٍ لَقُلْتُ بِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَدِ اتَّصَلَ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنٍ المُعَلِّمِ، وَهُوَ ثِقَةٌ
(2)
، وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ الِاعْتِصَارَ إِلَّا لِذَوِي الرَّحِمِ المُحَرَّمَةِ
(3)
، فَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِصِلَةِ رَحِمٍ أَوْ عَلَى جِهَةِ صَدَقَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الثَّوَابَ بِهَا، فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ يَرْجِعُ فِيهَا إِذَا لَمْ يُرْضَ مِنْهَا)
(4)
.
فالذي يهب الهبة إما أن يقصد بها وجه الله، ويدفعها إلى الرحم، فلا يليق به أن يرجع، لكن إن وهب هبةً لإنسان بدافع أن يُثَاب عليها مقابل ذلك، فله أن يرجع.
قوله: (قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنَّ الأَصْلَ أَنَّ مَنْ وَهَبَ شَيْئًا عَنْ غَيْرِ عِوَضٍ أَنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِهِ كَمَا لَوْ وَعَدَ إِلَّا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنَ الهِبَةِ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ.
وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ
(5)
عَلَى أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ فَمَاتَ الِابْنُ بَعْدَ أَنْ حَازَهَا، فَإِنَّهُ يَرِثُهَا).
(1)
أخرجه أبو داود (3539) والنسائي (3690).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 236) قال: قد وصل حديث طاوس حسين المعلم هو ثقة ليس به بأس.
(3)
كمذهب الحنفية وقد تقدم.
(4)
أخرجه مالك في "الموطإ"(42) والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 81)، وَصَححه الأَلْبَانيُّ موقوفًا في "إرواء الغليل"(1613).
(5)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (12/ 92) قال: "رجل تصدق على رجل بصدقة، وسلمها إليه، ثم مات المتصدق عليه، والمتصدق وارثه فورثه تلك الصدقة، فلا بأس عليه فيها"، بلغنا في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أن رجلًا تصدق بصدقة، ثم مات المتصدق عليه، فورثه النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الصدقة". =
فإن الإنسان قد يتصدق على ابنه بصدقةٍ يكون محتاجًا لها، أو وهبه هبةً، ثم مات هذا الابن، والذي يرثه هو أبوه، فهل يرث هذه الدار؟
قوله: (وَفِي مُرْسَلَاتِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا أَنْصَارِيًّا مِنَ الخَزْرَجِ تَصَدَّقَ عَلَى أَبَوَيْهِ بِصَدَقَةٍ فَهَلَكَا، فَوَرِثَ ابْنُهُمَا المَالَ وَهُوَ نَخْلٌ).
فحين يُقدِّم لأبويه هذه الهبة قاصدًا بذلك برهما والإحسان إليهما، وهو بالدرجة الأولى يطلب الثواب من الله سبحانه وتعالى، وأن يجازيه على هذا العمل الطيب، ومضت الأيام وإذا بالأبوين يموتان، ومَنْ يرثهما هو ذلك الابن، فهَذا الأنصاريُّ ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هل لي أن أرثه؟ فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "قد أُجرت "، أي: أجرت على فعل الخير؛ لأنك عندما أخرجته إنما أخرجته بقصد الطاعة، وطلب القربى لله تعالى، وبر الوالدين، وكونه رجع إليك، فهو رجع إليك عن طريق حقك؛ لأنك ترثهما، فعاد إليك، وهذا لا يضر.
= مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (7/ 115) قال: (ص) وكره تملك صدقة بغير ميراث (ش) يعني أن عود الصدقة إلى مِلْكِ مَنْ تصدق بها ببيع أو هبة أو صدقة أو غير ذلك مكروه، واحترز بالصدقة من الهبة، فإنه يجوز أن يتملَّكها على المشهور، واحترز بقوله: بغير ميراث مما إذا عادت له بميراث، فإنه لا كراهة فيه.
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 408) قال: قال البغوي: وليس من ذلك أن يشتري من غلة أرض كان قد تصدق بها؛ لأنها غير العين المتصدق بها أي: وغير جزئها "لا من غيره" أي: لا يكره أن يتملكها من غيره "ولا أن يملكها بالإرث" لخبر مسلم عن بريد قال: بينما أنا جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إني تَصدَّقت على أمي بجارية، وإنها ماتت فقال:"وجب أجرك وردها عليك الميراث "، وانظر:"المجموع" للنووي (6/ 241).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 214) قال: "وإن رجعت إليه" زكاته أو صدقته "بإرث" طابت له بلَا كَرَاهةٍ؛ لحديث بريدة أنه صلى الله عليه وسلم أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وجب أجرك، وردها عليك الميراث "، رواه جماعة إلا البخاري والنسائي "أو" عادت إليه بـ (هبة أو وصية أو أخذها من دينه) طابت له؛ لأن ذلك كالإرث. وانظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 115).
قوله: (فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام، فَقَالَ:"قَدْ أُجِرْتَ فِي صَدَقَتِكَ، وَخُذْهَا بِمِيرَاثِكَ"
(1)
، وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ امْرَأَةٍ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ:"كنْتُ قَدْ تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِوَلِيدَةٍ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ وَتَرَكَتْ تِلْكَ الوَلِيدَةَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: وَجَبَ أَجْرُكِ، وَرَجَعَتْ إِلَيْكِ بِالمِيرَاثِ"
(2)
).
وهذا حديثٌ ليس كالآخر، فهذا حديثٌ حسنٌ، وقد رواه الخمسة
(3)
.
قَوْله: (وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(4)
: لَا يَجُوزُ الِاعْتِصَارُ لِأَحَدٍ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِعُمَرَ: "لَا تَشْتَرِهِ، فِي الفَرَسِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنَّ العَائِدَ فِي هِبَتِهِ كالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ"
(5)
، وَالحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ).
وهذا الحديث له قصة، يقول عمر رضي الله عنه والحديث في "صحيح البخاري ": حملت على فرس، فأضاعه مَنْ كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه بايعه برخص، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تَشْتره وإنْ أعطاه لك بدرهم واحد، فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يقيء ثم
(1)
أخرجه مالك في "الموطإ" بلاغًا (2/ 760)(54).
قال ابن عبد البر في "الاستذكار"(7/ 258): رُوِيَ هذا الحديث من وجوهٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنًى واحدٍ، أحسنها حديث بريدة الأسلمي.
وقَالَ في "التمهيد"(24/ 407): وقد روى هذا الحديث عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد فيه لين، ولكنه احتمل.
(2)
أخرجه أبو داود (1656)، وجوَّد إسناده الأَلْبَانيُّ على شرط مسلم (5/ 353).
(3)
أخرجه أحمد (22956) والترمذي (667)، وقال: حسن صحيح، والنسائي في "الكبرى"(6283) وابن ماجه (2394)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(4)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 71) قال: مسألة: "ومن وهب هبةً صحيحةً لم يجز له الرجوع فيها أصلًا".
(5)
أخرجه البخاري (2623)(3003) ومسلم (1620).
يعود في قيئه"
(1)
، فالرجل لم يقم على خدمته، ولم يوفر له ما يحتاجه من مطعم، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: أضاعه.
وقال بعض العلماء
(2)
: إنه لم يعرف قَدْر هذا الفرس، ولكن أشهرها أن القصد من إضاعتها له أنه لم يقم عليها كما ينبغي، فأراد عمر رضي الله عنه أن يستردَّه، وأن يَشْتريه، ولما رأى أن ذلكم الرجل غير عابئٍ به، وغير مهتمٍّ به، ورأى أنه سيبيعه برخص، قال: وظننت أنه بائعه برخص، لكن عمر رضي الله عنه تقيٌّ ورع، أراد أن يعرف الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رَسُولُ الله:"لا تَشْتره ولو أعطاه لك بدرهمٍ واحدٍ؛ لأنَّ العائدَ في صدقته كالعائد في قيئه "، أو "كالكلب يعود في قيئه ".
* قولُهُ: (قَالَ القَاضِي
(3)
: وَالرُّجُوعُ فِي الهِبَةِ لَيْسَ مِنْ مَحَاسِنِ الأَخْلَاقِ، وَالشَّارعُ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا بُعِثَ لِيُتَمِّمَ مَحَاسِنَ الأَخْلَاقِ
(4)
، وَهَذَا القَدْرُ كَافٍ فِي هَذَا البَابِ).
لأنَّ المسلمَ ينبغي أن يكون جوادًا، وينبغي أن يكون سخيًّا، إذا أخرج شيئًا ينبغي أن يُخْرجه عن طيب نفسٍ، وأن يخرجه عن رضًا، وألا تكون نفسه معلقةً به، فإذا وهب هبةً، أو أعطى عطيةً، أو تصدق بعمل من الأعمال، فإنه بذلك يريد الخير، فلا ينبغي أن يكون صدره ضيقًا؛ لأن الله تعالى يقول:{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} ، بل على الإنسان إذا
(1)
انظر ما قبله.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 236، 237).
(3)
هو: (ابن رشد) المصنف، ويحتمل أن يكون القاضي عبد الوهاب.
نقل اللخمي في "التبصرة"(7/ 3475) كلامًا قريبًا من كلام ابن رشد قال: قال أبو محمد عبد الوهاب: يكره ذلك: لأن الموهوب أو المتصدق عليه قد يستحي فيسامحه فيها، فيكون رجوعًا في ذلك القدر، وهذا أحسن، وليس من مكارم الأخلاق أن يرجع في هبته، وإن كانت الصدقة أبين.
(4)
أخرجه أحمد (8952) والبخاري في "الأدب المفرد"(273) بلفظ: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق "، وقوى إسناده الأرناؤوط.
تَصدَّق بأَمْرٍ من الأمور، أو أحسن إلى أَحَدٍ، فعليه أن يحمد الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله تعالى هو الذي يسَّر له هذا الطريق، وهو الذي أعَانه عليه، وكل معروفٍ تفعله في هذه الحياة الدنيا لترفع به رأس مسلم، أو تخفف عنه كربة، فإن ذلك سيُدوَّن لك في سجل أعمالك، وستجده يومًا في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها في وقت أنت أحوج ما تكون إلى ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع المال، وقد مات وليس عنده دينار ولا درهم
(1)
، ومع ذلك كان أجود من الريح، وكان أجود ما يكون في رمضان
(2)
، فهو عليه الصلاة والسلام لا يمسك شيئًا، لكنه يعطي ويتصدق ويقدم، وهو يعطي عطاء مَنْ لا يخشى الفقر
(3)
، وهو أسوتنا صلى الله عليه وسلم.
ثمَّ أشار المؤلف إلى قَضيَّةٍ أخرى، وهي أنَّ هذا الدين العظيم إنما جاء بمحاسن الأخلاق، وأن الرَّسول الخاتم إنما جاء ليتمم مكارم الأخلاق
(4)
، وتَعْلمون أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بُعِثَ في أُمَّة أميَّة
(5)
قد انتشرت
(1)
أخرجه مسلم (1635) عَنْ عائشة قالت: "ما تَركَ رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا، ولا درهمًا، ولا شاةً، ولا بعيرًا، ولا أوصى بشيءٍ".
(2)
أخرجه البخاري (6)(1902)(3220) ومسلم (2308) عن ابن عباس، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة".
(3)
معنى حديث أخرجه مسلم (2312) عن أنسٍ: أن رجلًا سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم غنمًا بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال:"أي قوم، أسلموا، فوالله إنّ محمدًا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر"، فقال أنس:"إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها".
(4)
معنى حديث أخرجه أحمد في "مسنده"(8952) عن أبي هُرَيرة، قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعِثْتُ لأتمم صالح الأخلاق "، وقال الأرناؤوط: صحيح، وهذا إسناد قوي.
(5)
أخرجه البخاري (1913)، ومسلم (1080) بلفظ: عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنا أُمَّة أميَّة، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا"، يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين. ومن ذلك أيضًا ما رواه الترمذي (2944) عن أُبي بن كعبٍ، قال: لقي=
فيها الجاهلية
(1)
، ومع أنه عليه الصلاة والسلام بعث بين أولئك الأقوام الذين سادهم الجهل، وسيطرت عليهم الخرافات إلا أنهم كانوا على بعض الصفات الكريمة، فإنهم كانوا أوفياء، وكانوا شجعانًا، وكانوا أيضًا كرماء، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق، والله سبحانه وتعالى قد وَهَب الرسول صلى الله عليه وسلم خلقًا عظيمًا، فقال:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، ويقول سبحانه وتعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].
وقَدْ وصفت عائشة رضي الله عنها خُلُقَ الرسول صلى الله عليه وسلم لما سُئلَت عن ذلك، فقالت:"كان خلقه القرآن"
(2)
.
والكلام في أول الأمر كان جائزًا في الصلاة حتى نزل قول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، فأمرنا بالسكوت، ونهانا عن الكلام
(3)
، ولما عطس رجل في الصلاة، رد آخر لا يعلم بنسخ الكلام، فقال:"يرحمك الله "، فرأى استغراب الصحابة حتى قال: فرموني بأبصارهم حتى قال: فأخذوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما فرغ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم من
= رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جبريل، فقال:"يا جبريل، إني بعثت إلى أمة أميين: منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابًا قط، قال: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ".
(1)
مثال ذلك ما أخرجه البخاري (4376) عن أبي رجاء العطاردي، قال:"كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرًا هو أخير منه ألقيناه، وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جثوةً من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه، ثم طفنا به، فإذا دخل شهر رجب قلنا: منصل الأسنة، فلا ندع رمحًا فيه حديدة، ولا سهمًا فيه حديدة إلا نزعناه وألقيناه شهر رجب ".
(2)
أخرجه أحمد (25302)، والبخاري في خلق أفعال العباد (ص 87) بلفظ عن سعد بن هشام، قال: سألت عائشة، فقلت: أخبريني عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: "كان خُلُقه القرآن "، وصحح إسناده الأرناوؤط على شرط الشيخين.
(3)
أخرجه البخاري (1200)(4534) ومسلم (539) بلفظ: عن زيد بن أرقم قال: "إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت: {(237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} "فأمرنا بالسكوت ".
الصلاة، لم يوبخه، ولم يؤنبه، قال: فبأبي وأمي ما رأيت معلمًا أحسن منه، فوالله ما قهرني، ولا شتمني، ولا ضربني، ثم بيَّن له أن الصلاة لا يصلح بها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن
(1)
.
وقصة ذلك الشاب ورسول الله صلى الله عليه وسلم في جَمْع من أصحابه، فيقول: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فتأثر الصحابة، وظهًر الغضب على وجههم، وأرادوا تأنيبه، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتركوه، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يعالج ذلك عن طريق القوة، ولكن استطاع أن ينفذ لألباب قلبه، ويمسك بسويداء فؤاده، فقال:"أترضاه لأمك؟ "، قال: لا. قال: "والناس لا يرضونه لأمهاتهم "، فخاطبه الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق أمر يؤثر فيه، فلا يوجد مسلم عنده غَيْرة يَرْضى بمثل ذلك لأمه، قال: "هل ترضاه لابنتك، لإخوتك، لعماتك
…
" إلى أن قال: فوالله ما كرهت شيئًا أكره من الزنا"
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم (537)، عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذْ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: "إنَّ هذهِ الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن
…
". الحديث.
(2)
أخرجه أحمد (22211)، والطبراني في "الكبير" (8/ 162) بلفظ: عن أبي أُمَامَة قال: إن فتًى شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فاقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه. فقال: "ادنه "، فدنا منه قريبًا. قال: فَجَلس قال: "أتحبُّه لأمك؟ ". قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال:"ولا الناس يحبونه لأمهاتهم ". قال: "أفتحبه لابنتك؟ ". قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال:"ولا الناس يحبُّونه لبناتهم ". قال: "أفتحبُّهُ لأختك؟ ". قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال:"ولا الناس يحبونه لأخواتهم ". قال: "أفتحبه لعمتك؟ ". قال: لا والله جعلني النّه فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم ". قال: "أفتحبُّهُ لخالتك؟ ". قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال:"ولا الناس يحبونه لخالاتهم "
…
الحديث، وصحح إسناده الأرناؤوط.
فهذه أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما كان يفعل ذلك، فكان يربي أصحابه رضي الله عنه على ذلك العمل، وهو قدوة المسلمين في كل زمان، والله سبحانه وتعالى يقول في سورة الأحزاب:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} .
قال المصنف رحمه الله تعالى: