الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده ا لله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد.
فإن الله تعالى خلق الثقلين لحكمة عظيمة وهي تحقيق عبادته فقال عز من قائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}
(1)
ثم أرسل رسله مبينين للناس كيفية التعبد؛ فخص هذه الأمةَ بأكرم رسول، وأعظم شريعة، وأشرف كتاب.
فكان من أعظم ما تميزت به شريعتنا عن الشرائع السابقة نعمة كمال الدين كما قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}
(2)
قال الطبري رحمه الله في تفسير الآية: «لم يزل [الله] يصرف نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه، درجة بعد درجة، ومرتبة بعد مرتبة، وحالا بعد حال، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه، وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه»
(3)
(1)
الذاريات: (56).
(2)
المائدة: (3).
(3)
تفسير الطبري (1/ 421).
وكان من عظمة هذا الدين أن جاءت تشريعاته مستغرقة لكل ما أحبه الله ورضيه لعباده أن يتقربوا به إليه، من سائر الطاعات، وملبية رغبة العباد في التقرب إلى ربهم بشتى أنواع القربات، بل ما من عضو من أعضاء البدن، أو حاسة من حواسه، إلا شرع الله لها من العبادة ما تؤدي بها حق شكرها؛ فالقلب واللسان، والسمع والبصر، واليد والقدم لكل منها عبادة مشروعة.
(1)
هذا مع مراعاة التوازن في تأدية حقوق الخلق على مختلف الطبقات، وإعطاء النفس حظها من مباح الشهوات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لعبد الله بن عمرو بن العاص: «إن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزَورِك
(2)
عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا».
(3)
وقال سلمان لإبي الدرداء: «إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا؛ فأعط كل ذي حق حقه» . قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان» .
(4)
وقد اقتضت حكمة الله العزيز الحكيم، أن لم يجعل تلك التشريعات كلها حتماً واجباً على كل فرد، بل كانت على مراتب ودرجات:
فمنها ما هو واجب عيني على كل مسلم، لا يسعه تركه مع القدرة عليه.
ومنها ما هو واجب كفائي على عموم الأمة، تبرأ الذمة بقيام بعضهم به.
ومنها ما هو من نوافل العبادات لا إثم على الأمة بتركها، وإنما جعلها الله
(1)
انظر لمزيد الاطلاع والبحث في هذا الموضوع مدارج السالكين للإمام ابن القيم (1/ 109122) فقد بسط القول في أنواع العبادات وتعلقها بالقلب واللسان والجوارح، وأحكام العبودية الخمسة مع التمثيل والاستشهاد لكل نوع، بما لا مزيد عليه في التحقيق فجزاه الله خيراً.
(2)
الزَّور: هو الزائر. وهو في الأصل مصدر وضع موضع الإسم. وقد يكون جمع زائر. انظر النهاية لابن الأثير (2/ 318).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه. الصحيح مع الفتح (10/ 531) ح (6134)، ومسلم في صحيحه (2/ 813).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه. الصحيح مع الفتح (10/ 534) ح (6139).
ميدانا عظيما لأصحاب العزائم في السبق إلى أعلى الدرجات.
كما أن هذه العبادات بدرجاتها الثلاث، وما يندرج تحتها من أعمال متفاوتة في الفضل والجزاء عند الله تفاوتا عظيما، وتفاوتها في الفضل لا يرجع إلى معنى واحد بل إلى اعتبارات كثيرة دلت عليها النصوص.
فهي متفاضلة باعتبار انقسامها إلى واجبات ومستحبات كما تقدم، وباعتبار أجناسها، وباعتبار الإخلاص والمتابعة فيها، وباعتبار المداومة عليها، وباعتبار تعديها للخلق، وباعتبار زمانها ومكانها، وباعتبار ما يصحبها من الأحوال الخاصة، وباعتبار الاقتصاد والتيسير في تأديتها، وباعتبار العامل ومنزلته عند الله إلى غير ذلك من أسباب التفاضل.
ونظرا لأهمية مسألة التفاضل بين الأعمال وشدة الحاجة إلى فهمها الفهم الصحيح في التقرب إلى الله بأفضل الطاعات، والمسابقة إلى أعلى الدرجات، رأيت أنه من الواجب ضرورة الكتابة في هذه المسألة بجمع شتاتها، وتقريب مسائلها، والخروج بقواعد مؤصلة بناء على مدلولات النصوص، وفهم السلف لأفضل ما ينبغي أن تشتغل به الأمة على مختلف طبقاتها، وتنوع قدراتها، وتوجيه الراغبين في الخير لأفضل الأعمال في حقهم بناء على مراعاة الفوارق الفردية، والمؤهلات النفسية، والظروف الزمانية والمكانية، وغير ذلك من الأحوال المؤثرة في تقرير هذه المسألة العظيمة الجليلة.
ويكمن إبراز
أهمية دراسة هذا الموضوع
في النقاط الآتية:
1 -
أن هذا الموضوع كان محل العناية التامة من السلف حيث عظمت رغبتهم في التفقه فيه؛ فكثرت أسئلة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل العمل، كما عني به التابعون من بعدهم، والأئمة المحققون من أهل السنة فكثر بحثهم فيه، والتنبيه على أصوله وقواعده مما خلف لنا مادة علمية غزيرة، وفوائد نافعة عظيمة في هذا الباب قد تخفى على بعض طلبة العلم، فضلا عن عامة الناس مما يحتم بحثه،
وتقريبه للناس.
2 -
أن المسلم المتفقه في هذا الباب يقطع في الزمن اليسير، وبجهد قليل في السبق إلى الله ما يقطعه غيره في زمن أكثر، وبجهد أكبر، مما تعظم معه الرغبة لكل مسلم في التفقه فيه، خصوصا في هذا الزمن الذي كثرت فيه الصوارف والأشغال، وضاقت فيه الأوقات عن الكثير من أعمال البر وصالح الأعمال.
3 -
الانحراف في هذا الباب عن السنة والاتباع من قبل طوائف من الأمة من أهل الجهل والابتداع بانشغالهم بالبدع عن السنن، وبالنوافل عن الواجبات، وبالمفضول عن الفاضل من العبادات مما يتحقق بالكتابة فيه معالجة هذه الإنحرافات، والرجوع بالناس إلى السنة في منهج التعبد.
4 -
أن الشيطان قد لبس في هذا الباب على بعض العبَّاد، فزين لهم الأعمال المرجوحة، وشغلهم بها عما هو أرجح وأحب إلى الله منها كما نبه على ذلك بعض الأئمة.
قال ابن الجوزي رحمه الله: «فأول تلبيسه عليهم إيثارهم التعبد على العلم، والعلم أفضل من النوافل»
(1)
.
(2)
.
وقال الإمام ابن القيم في سياق تعداده للعقبات (الست) التي صرف بها الشيطان العباد عن العبادة أو أفضلها: «العقبة السادسة: وهي عقبة الأعمال
(1)
تلبيس إبليس (ص: 190).
(2)
تلبيس إبليس (ص: 200).
المرجوحة المفضولة من الطاعات، فأمره بها، وحسنها في عينه، وزينها له، وأراه ما فيها من الفضل والربح، ليشغله بها عما هو أفضل منها، وأعظم كسبا وربحا، ولأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب، طمع في تخسيره كماله، وفضله، ودرجاته العالية. فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب عن الأحب، وبالمرضي عن الأرضى».
(1)
ففي الكتابة في هذا الموضوع تنبيه وتحذير للأمة من كيد الشيطان وتلبيسه كما هي طريقة أهل العلم المتقدمين؛ فلهذه الأسباب، ولغيرها آثرت الكتابة في هذا الموضوع، وتقريبَ مسائله، وجمعَ فوائده في بحث مختصر لطيف مؤصلاً بالأدلة، مدعما بأقوال الأئمة.
وقد سميته: «تجريد الاتباع في بيان أسباب تفاضل الأعمال» .
وقد سرت في كتابته على خطة منهجية اشتملت على:
مقدمة، وتمهيد، واثني عشر فصلاً، و خاتمة.
أما المقدمة: فكانت في أهمية الموضوع وأسباب اختياره.
وأما التمهيد: ففي بيان عناية السلف بهذا الباب، وحرصهم على التفقه فيه.
وأما الفصول فهي على النحو الآتي:
الفصل الأول: تفاضل الأعمال باعتبار جنسها.
الفصل الثاني: تفاضل الأعمال باعتبار انقسامها إلى واجبات ونوافل.
الفصل الثالث: تفاضل الأعمال باعتبار النية وقوة الإخلاص.
الفصل الرابع: تفاضل الأعمال باعتبار حسن المتابعة فيها.
الفصل الخامس: تفاضل الأعمال باعتبار المداومة عليها.
(1)
مدارج السالكين (1/ 225).
الفصل السادس: تفاضل الأعمال باعتبار تحققها على وجه الاقتصاد والتيسير.
الفصل السابع: تفاضل الأعمال باعتبار فضل العامل ومنزلته عند الله.
الفصل الثامن: تفاضل الأعمال باعتبار الأوقات والأزمان.
الفصل التاسع: تفاضل الأعمال باعتبار الأمكنة والبقاع.
الفصل العاشر: تفاضل الأعمال باعتبار تعديها للخلق.
الفصل الحادي عشر: تفاضل الأعمال باعتبار الأحوال المصاحبة لها.
الفصل الثاني عشر: الموازنة بين أسباب تفاضل الأعمال وما الذي يقدم منها عن التزاحم.
أما الخاتمة: فهي في النتائج التي توصل إليها البحث.
هذا وأسأل الله الكريم أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، صوابا على النهج القويم، وأن يجعله قربة لي عنده مدخرة ليوم الدين، وأن يعم بنفعه المسلمين وأن يبارك فيه، وأن يشرح صدور قُرَّائه لفهمه، والعمل بما فيه من توجيهات وإرشادات صحيحة، وأن يغفر لي ما اعتراه من خطأ أو زلل، ويوفقني عاجلا غير آجل لإصلاحه؛ إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم.
ثم أتوجه برغبة صادقة إلى علمائنا ومشايخنا، وإخواني من طلاب العلم، ممن طالع كتابي هذا، أن يتحفني بنصحه وتوجيهه، ويرشدني لما يقف عليه من خطأ في فهم، أو تصحيف لنقل، أو استدراك لمسألة، سائلا الله التوفيق للجميع لما فيه الخير والصلاح والسداد.
وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه، وصفوة رسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
التمهيد: عناية السلف بتفاضل الأعمال، وحرصهم على التفقه فيه
لقد عظمت عناية السلف بموضوع التفاضل بين الأعمال، بدأ بالصحابة رضوان الله عليهم، ثم من جاء بعدهم من أئمة التابعين، ثم من سار على طريقهم من أئمة المسلمين المحققين في أبواب الاعتقاد، والسنة، والحديث، والفقه، على رأسهم الأئمة الأربعة الفقهاء، وتلاميذهم، وأتباعهم رحمة الله عليهم أجمعين.
وفي الحقيقة إنه لا يمكن حصر كلامهم، وأقوالهم، وجهودهم في تقرير هذا الباب، وإنما أشير هنا إلى ما يدل على ذلك من خلال بعض الأوجه العامة الدالة على عناية السلف بهذا الموضوع، وهي:
1 - كثرة أسئلة الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الموضوع،
على ما دلت على ذلك السنة من سؤال جمع من الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: يارسول الله دلنا على أفضل العمل .. ؟ يارسول الله أي العمل أفضل؟
ويخبر بعضهم: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟
(1)
ويقول آخر: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل، فكان كلما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثم أي؟ ثم أي؟ كما هو ثابت من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
وهذا يدل على عظيم عناية الصحابة رضوان الله عليهم بهذا الباب،
(1)
انظر هذه الأحاديث (ص: 15 - 16) من هذا البحث.
(2)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح (6/ 3) ح: (2782)، ومسلم (1/ 89) ح:(85). وسيأتي بنصه (ص: 15) من هذا البحث.
وطلبهم التفقه فيه، وحرصهم على العناية بضبطه وفهمه.
2 - عناية أئمة الحديث بهذا الموضوع بنقلهم الأحاديث المؤصلة له في مواطن كثيرة من مصنفاتهم،
وإفرادها بتراجم خاصة تبرز أهمية هذا الموضوع. ففي تراجم البخاري في صحيحه: «باب أي الإسلام أفضل»
(1)
و «باب تفاضل أهل الإيمان بالأعمال»
(2)
و «باب أحب العمل إلى الله أدومه»
(3)
و «باب العلم قبل القول والعمل»
(4)
و «باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة»
(5)
و «باب أفضل الناس مؤمن مجاهد» .
(6)
وكذلك أورد مسلم في صحيحه كثيرا من الأحاديث في التفاضل بين الأعمال، ترجم لها الإمام النووي بتراجم تشير إلى هذا الموضوع، ومن هذه التراجم: «باب عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها
…
»
(7)
و «باب تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل»
(8)
(9)
و «باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة» .
(10)
كما ذكر أبو داود كثيرا من الأحاديث في الفضائل في سننه منها ما جاء في كتاب الجهاد، وقد ترجم لها بعدة تراجم كقوله:«باب في ثواب الجهاد»
(11)
و «باب
(1)
صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (5).
(2)
المصدر نفسه كتاب الإيمان، باب (15).
(3)
المصدر نفسه كتاب الإيمان، باب (33).
(4)
المصدر نفسه كتاب العلم، باب (10).
(5)
المصدر نفسه كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب (1).
(6)
المصدر نفسه كتاب الجهاد والسير، باب (1).
(7)
صحيح مسلم كتاب الإيمان باب (12).
(8)
المصدر نفسه كتاب الإيمان باب (14).
(9)
المصدر نفسه كتاب الإيمان باب (21).
(10)
المصدر نفسه كتاب البر والصلة والآداب باب (2).
(11)
سنن أبي داود كتاب الجهاد باب (5).
فضل قتال الروم على غيرهم من الأمم»
(1)
(2)
وعقد الترمذي في سننه كتبا لأحاديث الفضائل مثل: «كتاب فضل الجهاد»
(3)
(4)
والأمثلة على هذا من كتب الحديث كثيرة جدا يصعب حصرها، وإنما أشرت هنا إلى بعضها.
3 - اهتمام الأئمة المحققين بهذا الباب
حيث أفرده بعضهم بالتصنيف، ومن الكتب المصنفة فيه:
فضائل الأعمال لابن شاهين.
فضائل الأعمال لابن قدامة.
هذا غير ما أفرد في بعض الموضوعات الخاصة:
كفضائل القرآن لأبي عبيد.
وفضائل القرآن للنسائي.
وفضائل القرآن لابن كثير.
وفضائل الأوقات للبيهقي.
ولطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب.
وهذا مما يدل على اهتمام أهل العلم بهذا الباب حيث أفردوه بهذه التصانيف، وغيرها مما لا يسع المقامُ ذكره.
(1)
المصدر نفسه كتاب الجهاد باب (8).
(2)
المصدر نفسه كتاب الجهاد باب (10).
(3)
سنن الترمذي (4/ 164188).
(4)
المصدر نفسه (5/ 155184).
4 - عناية العلماء المحققين بتحقيق مسائل هذا الموضوع،
والتوسع في بحثها، وتقريرها، ومن أشهر من عرف بهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مواطن كثيرة من كتبه، ورسائله، وقد اشتمل مجموع الفتاوى على كثير من الرسائل والمسائل المتعلقة بهذا الموضوع خصوصا الرسائل المجموعة في المجلدات (السابع)، و (العاشر)، و (الحادي عشر). وكذلك ما جاء في (الفتاوى الكبرى)، وبخاصة (المجلد الثاني).
كما عني بهذا الباب، وتوسع فيه أيضا الإمام الفذ ابن القيم رحمه الله في مواضع كثيرة من كتبه ومن أكثرها طرقا له (كتاب مدارج السالكين)، و (إغاثة اللهفان)، و (طريق الهجرتين).
كما طرق هذا الباب بحثا وتحقيقا حتى يكاد يكون السمة البارزة لكتبه الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي، ومن أشهر كتبه في هذا: كتاب (لطائف المعارف)، و (جامع العلوم والحكم)، و (المحجة في سير الدلجة)، و (ورثة الأنبياء)، و (شرح حديث ما ذئبان جائعان)، و (شرح حديث شداد بن أوس: «إذا كنز الناس الذهب و الفضة
…
»)، و (الخشوع في الصلاة)، وغيرها من الرسائل المفيدة العظيمة النفع لهذا الإمام المحقق عليه وعلى علمائنا سوابغ الرحمة والغفران.
وعلى كل حال فما ذكرته في هذه العجالة إنما هي إشارات وشذرات لبعض جهود الأئمة، وعنايتهم بهذا الباب العظيم، وإلا فجهودهم في تقريره كبيرة جدا يصعب الإحاطة بها في هذه الورقات، وهذا مما لا يخفى على الناظر في كتبهم، ورسائلهم عليهم رحمة الله.
الفصل الأول: تفاضل الأعمال باعتبار جنسها
دلت النصوص على تفاضل الأعمال باعتبار جنسها، وتفضيل أجناس بعض الأعمال على بعض.
فقد ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل العمل في أكثر من مناسبة فتنوعت إجابته.
ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: «الصلاة على ميقاتها» . قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» . قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» . فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني.
(1)
وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» . قيل: ثم ماذا؟ قال: «جهاد في سبيل الله» . قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور» .
(2)
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله، وجهاد في سبيله» . قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: «أغلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها
…
». الحديث.
(3)
(1)
صحيح البخاري مع الفتح (6/ 3) رقم: (2782)، وصحيح مسلم (1/ 89) رقم:(85).
(2)
صحيح البخاري مع الفتح (3/ 381) رقم: (1519)، وصحيح مسلم (1/ 88) رقم:(83).
(3)
متفق عليه. صحيح البخاري مع الفتح (5/ 148) رقم: (2518)، وصحيح مسلم (1/ 89) رقم:(84).
وقد اختلفت أقوال أهل العلم في توجيه تنوع إجابة النبي صلى الله عليه وسلم للسائلين، وتباينت أجوبتهم عن ذلك.
فأجاب بعضهم بأن المراد «بأفضل العمل» : «من أفضل العمل «؛ فتكون الأعمال المذكورة من أفضل الأعمال لا أن كل واحد منه يقصد به أنه أفضل العمل، وحينئذ ينتفي التعارض.
قال الإمام ابن خزيمة: «إن العرب قد تقول: إن أفضل العمل كذا، وإنما تريد: من أفضل. وخير العمل كذا، وإنما تريد: من خير العمل» .
(1)
وقد نقل هذا القول الحليمي عن شيخه أبي بكر القفال،
(2)
وارتضاه،
(3)
ونقله عنهما النووي في شرحه لصحيح مسلم.
(4)
وقد ضعف هذا القول الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي؛ قال بعد نقله: «وهذا في غاية البعد»
(5)
قلت: وظواهر النصوص لا تعضد هذا القول؛ فإن السائلين كانوا يسألون عن أفضل العمل على الإطلاق، فيذكر النبي صلى الله عليه وسلم عملا ثم يستفصل السائل قائلا: ثم ماذا؟ ثم أي؟ فيجيب النبي صلى الله عليه وسلم. و «ثم» تفيد الترتيب في لغة العرب لا يفهم منها غير هذا.
(6)
(1)
صحيح ابن خزيمة (4/ 174).
(2)
هو أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي القفال الكبير، المتوفى سنة خمس وستين وثلاث مائة بالشاش، وهو غير القفال الصغير المشهور في كتب الفقه. قال الذهبي نقلا عن النووي: إذا ذكر القفال الشاشي فالمراد هو، وإذا قيل القفال المروزي، فهو القفال الصغير. انظر سير إعلام النبلاء (16/ 283، 284).
(3)
المنهاج في شعب الإيمان (2/ 469).
(4)
شرح صحيح مسلم (2/ 77، 78).
(5)
فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن رجب (4/ 211).
(6)
انظر كتاب معاني الحروف لأبي الحسن علي بن عيسى الرمَّاني ص: (105).
وقد أجاب بعض العلماء بأن أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم اختلفت بحسب أحوال السائلين، وأنه كان يجيب كل سائل بالأفضل في حقه، وهذا القول هو المشهور عند أكثر العلماء.
وقد تتابع على نقله كثير من شراح الحديث.
وإليه ذهب القفال في أحد جوابيه مع القول الأول كما نقله الحليمي عنه.
(1)
ونقله عنهما جميعا النووي كما تقدم.
(2)
وذكره القاضي عياض ضمن أجوبة أهل العلم عن الأحاديث في شرحه لصحيح مسلم
(3)
وكذا أبو العباس القرطبي
(4)
في المفهم منتصرا له ومستدلا.
(5)
كما نقله عن بعض أهل العلم ابن حجر في الفتح ولم يتعرض له بنقد.
(6)
وقد ضعف هذا القول ابن رجب في شرحه لحديث عبد الله بن مسعود حيث قال: «هذا مما أشكل فهمه على كثير من الناس، وذكروا في توجيهه والجمع بين النصوص الواردة به وجوها غير مرضية» .
(7)
ثم ذكره مع الجواب السابق، وذهب إلى توجيه آخر في الجمع بين النصوص على ما يأتي.
ويشكل على هذا القول أمران:
الأمر الأول: أن الأصل في جواب النبي صلى الله عليه وسلم أنه محمول على العموم حيث
(1)
انظر المنهاج في شعب الإيمان (2/ 471472).
(2)
انظر شرح صحيح مسلم للنووي (2/ 77).
(3)
إكمال المعلم (1/ 347).
(4)
هو أبو العباس أند بن عمر بن إبراهيم الأنصاري القرطبي المالكي نزيل الاسكندرية كان من كبار الأئمة ولد سنة 578 هـ وسمع بالمغرب من جماعة وتوفي في ذي القعدة سنة 656 هـ. شذرات الذهب لابن العماد (5/ 273 - 274).
(5)
المفهم (1/ 275276).
(6)
فتح الباري لابن حجر (2/ 9).
(7)
فتح الباري لابن رجب (4/ 211).
لم يستفصل عند الإجابة عن أحوال السائلين، وهذا أمر مقرر في باب الأصول؛ أن عدم استفصال النبي صلى الله عليه وسلم عند السؤال عن الحال يُنزّل منزلة العموم القولي؛ إذ لو كان الحكم يتنزل على التفصيل لاستفصل عن الحال للحاجة إليه.
قال الإمام الشافعي: «ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال، ينزله منزلة العموم في المقال» .
(1)
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: «وقد تقرر في الأصول أن عدم الاستفصال من النبي صلى الله عليه وسلم أي طلب التفصيل في أحوال الواقعة ينزل منزلة العموم القولي، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله:
ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم من الأقوال»
(2)
فتخصيص إجابة النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل العمل بالسائلين، وأن الإجابة اختلفت باختلاف أحوالهم، تخصيص لعموم النص من غير دليل على التخصيص.
يقول الإمام الشافعي مقررا عدم جواز تخصيص النصوص إلا بدليل: «ولا يقال بخاص في كتاب الله ولا سنة إلا بدلالة فيهما، أو في واحد منهما. ولا يقال بخاص حتى تكون الآية تحتمل أن يكون أريد بها ذلك الخاص، فأما ما لم تكن محتملة، له فلا يقال فيها بما لم تحتمل الآية» .
(3)
الأمر الثاني: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر ابتداء، من غير سؤال عن تفضيل بعض الأعمال، فتنوعت الأحاديث في ذلك على نحو ما جاء في إجابة السائلين، كما جاء في حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» .
(4)
(1)
المحصول لمحمد بن عمر الرازي (2/ 631)، والمسودة في أصول الفقه لآل تيمية ص: 98
(2)
أضواء البيان (5/ 100).
(3)
الرسالة للإمام الشافعي (ص: 207).
(4)
أخرجه ابن ماجه (1/ 101) ح: (277)، والدارمي (1/ 175) ح:(656)، وأحمد (5/ 277، 282)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 670)، والحاكم في المستدرك (1/ 221) ح:(449).
وقد صححه الألباني، ونقل تصحيحه عن جمع من أهل العلم. انظر إرواء الغليل (1/ 135) ح:(412)، وحاشية مشكاة المصابيح (1/ 96).
وفي حديث أبي الدرداء أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة، والصلاة» ؟ قال: قلنا: بلى. قال: «إصلاح ذات البين؛ وفساد ذات البين هي الحالقة» .
(1)
وعن أبي الدرداء أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم؛ فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم» . قالوا: بلى. قال: «ذكر الله» .
(2)
فهذا لا يستقيم مع قول من حمل تنوع إجابة النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل العمل، أنها تتنزل على أحوال السائلين، إذ النصوص ليست محصورة في إجابة السائلين، كما هو ظاهر هنا.
ومن الأجوبة التي ذكرها أهل العلم في الجمع بين الأحاديث: أن الأجوبة اختلفت باختلاف الأوقات، بأن يكون العمل في ذلك الوقت، أفضل منه في غيره، وحملوا على هذا تقديم الجهاد على الحج في حديث أبي هريرة. قالوا: كان هذا في أول الإسلام لعظم الحاجة إلى الجهاد في إظهار الدين. أو أنه محمول على الجهاد الواجب، وقت النفير إليه.
(3)
(1)
أخرجه أبو داود (5/ 218) ح: (4919)، والترمذي (4/ 663) ح:(2509) وقال: «هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه «، وأحمد (45/ 500) ح (27508).
(2)
أخرجه الترمذي (5/ 459) ح: (3377)، وابن ماجه (2/ 1245) ح:(3790)، والحاكم (1/ 673) ح:(1825)، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني. انظر حاشية مشكاة المصابيح (2/ 702)، وصحيح الكلم الطيب (ص: 24).
(3)
انظر إكمال المعلم للقاضي عياض (1/ 347)، وشرح صحيح مسلم للنووي (2/ 78)، وفتح الباري لابن حجر (2/ 9).
ومن أوسع ما وقفت عليه من التحقيقات لهذه المسألة وأدقها، ما ذكره الإمام الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرحه لحديث ابن مسعود رضي الله عنه في فتح الباري، وملخص ما ذكره في الجمع بين النصوص: أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة بأن أفضل العمل الإيمان بالله ورسوله، هذا وجه ظاهر لا إشكال فيه؛ فإن أفضل العمل ما افترضه الله على عباده، والإيمان بالله ورسوله أفضل الأعمال مطلقا. وأما إجابته عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود بأن أفضل العمل الصلاة على وقتها؛ فلأن الصلاة أفضل أعمال الجوارح، فتارة يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله ورسوله؛ لأنه أفضل أعمال القلوب، وتارة يذكر الصلاة؛ لأنها أفضل أعمال الجوارح.
وحيث أجاب بأحدهما فمقصوده التمثيل بأفضل مباني الإسلام، ومراده في كلا الجوابين سائر المباني، فكأنه قال: الشهادتان وتوابعهما، والصلاة وتوابعها، وهو بقية المباني الخمس. ثم ذكره رحمه الله أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد بعد الإيمان في حديث أبي هريرة، وعطفه على الإيمان في حديث أبي ذر يحتمل معنيين:
أحدهما: أن ذلك حيث كان الجهاد فرض عين، فكان أفضل الأعمال بعد الإيمان، فلما نزلت الرخصة، وصار الجهاد فرض كفاية تأخر عن فرض الأعيان.
الثاني: وهو أشبه، أن التعبير بالإيمان بالله ورسوله، يندرج تحته بقية أركان الإسلام، على ما سبق تقريره فيكون الجهاد متأخرا عنها في الفضل.
وأجاب عن تقديم الجهاد على الحج في حديث أبي هريرة بأن ذلك يحتمل أربعة وجوه:
الأول: كان ذلك في زمان كان الجهاد فيه فرض عين، فكان مقدما على الحج.
الثاني: أنه قد فُهم دخول الحج في ذكر الإيمان بالله ورسوله؛ لأن ذلك يتبعه
بقية مباني الإسلام ومنها الحج، ويكون المراد بالجهاد التطوع وهو أشبه بقواعد الشريعة.
الثالث: أن ذلك عندما كان الحج تطوعا؛ فإن الصحيح أن فرضه تأخر إلى عام الوفود.
(1)
الرابع: قد يقال: دل حديث أبي هريرة على أن جنس الجهاد أشرف من جنس الحج؛ فإن عرض للحج وصف يمتاز به على الجهاد وهو كونه فرض عين كان ذلك الحج المخصوص أفضل من الجهاد، وإلا فالجهاد أفضل منه.
وأما تقديم الذكر في النصوص على سائر الأعمال فقال في توجيهه: إن المراد بذلك الذكر الكثير المستدام في أغلب الأوقات، وليس الذكر مما يقطع من الأعمال، فمن عمل عملا صالحا، وكان أكثر ذكرا فيه من غيره، فهو أفضل من عمل مثل ذلك العمل من غير أن يذكر الله فيه.
فتكون النصوص محمولة على من أدى الفرائض مع ذكر الله فهو أفضل ممن أداها بغير ذكر.
(2)
ثم خلص رحمه الله من هذا التحقيق إلى أن قال: «فتبين بهذا التقرير أن الأحاديث كلها دالة على أن أفضل الأعمال: الشهادتان مع توابعهما: وهي بقية مباني الإسلام، أو الصلاة مع توابعها أيضا من فرائض الأعيان التي هي من حقوق الله عز وجل، ثم يلي ذلك في الفضل حقوق العباد التي هي فروض الأعيان كبر الوالدين، ثم بعد ذلك [أعمال]
(3)
التطوع المقربة إلى الله، وأفضلها الجهاد».
(4)
(1)
عام الوفود هو عام تسعة من الهجرة. وسمي بذلك لقدوم وفود العرب على النبي صلى الله عليه وسلم معلنين دخولهم في الإسلام. انظر البداية والنهاية لابن كثير (7/ 232).
(2)
انظر فتح الباري لابن رجب (4/ 211219).
(3)
ليست في المصدر والسياق يقتضيها، فلعلها سقطت والله أعلم.
(4)
فتح الباري لابن رجب (4/ 217).
وهذا التوجيه مع التوجيه السابق له من أقوى ما ذكر في الجمع بين النصوص، ويمكن أن يستخلص منهما أن هناك ثلاثة طرق للجمع بين النصوص لا يكاد يستشكل شيء بعدها في هذا الباب.
الطريق الأول: حمل الألفاظ المجملة على ما يفسرها من النصوص الأخرى بما يتناسب مع أصول الشرع وقواعد الدين، كإجابة النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن أفضل العمل في حديث أبي هريرة بقوله:«إيمان بالله ورسوله» . وفي حديث ابن مسعود بقوله: «الصلاة على وقتها» فيحمل هذا على إرادة أركان الإسلام كلها على سبيل الإشارة إليها بذكر أعظمها على ما جرت بذلك طريقة النصوص كقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين}
(1)
وقوله تعالى في الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}
(2)
فالمقصود هنا هو التزام الكفار بسائر شعائر الدين، والتعبير بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة هو إشارة لما عداهما من باقي المباني والشعائر كما فهم ذلك السلف، قال ابن كثير في تفسير الآية الثانية:«ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهو الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته، ونبه بأعلاها على أدناها» .
(3)
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؛ فمن قالها فقد عصم مني ماله، ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله» .
(4)
فقد فهم أبو بكر الصديق دخول الزكاة في حصول العصمة المذكورة في
(1)
التوبة: (11).
(2)
التوبة: (5).
(3)
تفسير ابن كثير (4/ 111).
(4)
أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة الصحيح مع الفتح (3/ 262) ح: (1399)، ومسلم (1/ 5) ح:(20).
الحديث مع أنها لم تذكر صراحة، لكنها كانت داخلة تحت ذكر الشهادة، والأمثلة على هذا كثيرة من النصوص.
الطريق الثاني: أن تفضيل بعض الأعمال في النصوص لا يرجع إلى فضل جنسها مجردا، وإنما لما يصاحبها من الأحوال الخاصة وحينئذ فلا يعارض بهذه النصوص ما جاء في النصوص الأخرى من تفضيل بعض الأعمال باعتبار جنسها، بل تحمل هذه على التفضيل باعتبار، وتلك على التفضيل باعتبار آخر؛ فإن التفاضل بين الأعمال يحصل باعتبارات كثيرة على ما سيأتي تفصيله في أثناء هذا البحث، وبهذا يمكن الجمع بين النصوص.
ومن الأمثلة لهذا الوجه تفضيل الذكر في حديث أبي الدرداء على سائر الأعمال، فقد ذكر ابن رجب على ما تقدم أن الذكر المفضل هنا هو الذكر الكثير المستدام، وهذا التفضيل هنا ليس باعتبار الجنس، بل باعتبار ما صاحب العمل من المداومة والكثرة وسيأتي مزيد تفصيل لهذا قريبا في فصل مستقل إن شاء الله.
(1)
الطريق الثالث: أن تفضيل بعض الأعمال في النصوص كان يتنزل على بعض الأوقات دون بعض ويرجع هذا إلى سببين:
السبب الأول: أن بعض النصوص كانت قبل أن يستقر التشريع على ما هو عليه. ومن أمثلة هذا: تقديم الجهاد على الحج في حديث أبي هريرة على ما ذكره ابن رجب ضمن الأوجه المحتملة لتوجيه الحديث وأن ذلك حيث كان الجهاد فرض عين، والحج تطوعا، قال: فإن الصحيح أن فرض الجهاد تأخر إلى عام الوفود.
(2)
وبهذا وُجِّه أيضا ذكر الجهاد مقترنا بالإيمان في حديث أبي ذر، وأن ذلك قبل
(1)
انظر الفصل الخامس ص: 101 وما بعدها.
(2)
تقدم نقله ص: (22).
اكتمال دعائم الإسلام، وتعين الجهاد، على ما أشار إلى هذا القاضي عياض، وابن حجر رحمهما الله.
(1)
السبب الثاني: أن تفضيل بعض الأعمال كان بحسب حاجة المسلمين، وما تقتضيه المصلحة في ذلك الوقت الذي تكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث.
وقد نص على هذا بعض العلماء في توجيه تقديم الجهاد على الحج في حديث أبي ذر، وأنه محمول على أول الإسلام، ومحاربة أعائه، والجد في إظاهره.
(2)
فبهذا يمكن الجمع بين النصوص؛ فإن ما يظن بينها من التعارض يتنزل على أحد هذه الأوجه الثلاثة؛ فإنها ثمرة أقوال أهل العلم، وزبدة كلام المحققين في هذا الباب، ويكون توجيه النصوص بها بحسب ترتيبها في الذكر، فإن أمكن الجمع عن طريق الوجه الأول فهو الأولى، ولا يعدل عنه لغيره، فإن لم يكن فالوجه الثاني، فإن تعذر الجمع ينتقل إلى الوجه الثالث، وهذا التدرج في الجمع بين النصوص، هو الذي تقتضيه أصول الشرع وقواعد الدين، والله أعلم.
والمقصود في هذا المقام معرفة أفضل الأعمال باعتبار جنسها على ضوء مدلولات النصوص وفهم العلماء لها.
والذي يظهر بعد هذا العرض المفصل للنصوص وتوجيهها في هذا الباب أن أفضل الأعمال الواجبات، وأفضلها أركان الإسلام الخمسة؛ فإن النصوص دلت دلالة ظاهرة أن أفضل العمل الإيمان بالله ورسوله، والصلاة على وقتها، فدخلت بقية أركان الإسلام تحت ما ذُكر على ما تقدم تقريره في الطريق الأول من طرق الجمع بين النصوص.
كما يفهم من النصوص تفضيل الإيمان بالله ورسوله الذي هو مقتضى
(1)
انظر إكمال المعلم (1/ 347)، وفتح الباري لابن حجر (5/ 149).
(2)
انظر إكمال المعلم (1/ 347)، والمفهم لأبي العباس القرطبي (1/ 276)، وشرح صحيح مسلم للنووي (2/ 78).
الشهادتين، والصلاة، على بقية الأركان؛ للتصريح بذكرهما في النصوص، والتعبير بهما عن غيرهما من بقية المباني.
والشهادتان وتحقيقهما تلفظا واعتقادا وامتثالا للعمل بمقتضاهما، أفضل الأعمال على الإطلاق، فبهما يدخل الرجل في الإسلام، وهي الأصل العظيم الذي يندرج تحته بقية الأركان، وسائر خصال الدين، وقد أجمع العلماء على تكفير من ترك التلفظ بالشهادتين وإن اعتقدهما بقلبه، واختلفوا في التكفير بترك شيء من الأركان بعدها مع اعتقاد وجوبها اختلافا كبيرا مشهورا.
(1)
فأفضل الأعمال على هذا الشهادتان، ثم الصلاة، ثم الزكاة؛ إذ هي قرينة الصلاة في كتاب الله وفي عامة النصوص، ثم بقية الأركان، ثم سائر الواجبات، وأفضلها بر الوالدين على ما هو ظاهر حديث أبي هريرة فقد ذكر بر الوالدين بعد الصلاة، فدل على أنه آكد الواجبات بعد أركان الإسلام.
ثم يأتي بعد الواجبات نوافل العبادات، وأفضلها طلب العلم النفل، والجهاد، والذكر، فهذه الأعمال الثلاثة أفضل الأعمال بعد الفرائض، وقد جاء في كل واحد منها من النصوص، وكلام أهل العلم ما ظاهره أنه أفضل الأعمال بعد الواجبات.
فمما جاء في تفضيل العلم قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
(2)
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ذُكِر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما عابد، والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» .
(3)
(1)
انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 610611)، وجامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 54).
(2)
الزمر: (9).
(3)
أخرجه الترمذي (5/ 50) ح: (2685). وصححه الألباني في صحيح الجامع (4213).
وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب
…
» الحديث.
(1)
وأما ما جاء عن السلف في تفضيل العلم على العبادة، وعلى سائر أعمال البر بعد الواجبات، فعن أبي هريرة، وأبي ذر رضي الله عنهما قالا:«باب من العلم تتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوع» .
(2)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها» .
(3)
وعن مطرف بن الشخير رحمه الله قال: «فضل العلم خير من فضل العمل وخير دينكم الورع» .
(4)
وعن الحسن البصري رحمه الله قال: «العالم خير من الزاهد في الدنيا المجتهد في العبادة» .
(5)
وعن سفيان الثوري رحمه الله قال: «ما من عمل أفضل من طلب العلم إذا صحت النية» .
(6)
وعن قتادة رحمه الله قال: «باب من العلم يحفظه الرجل لصلاح نفسه، وصلاح من بعده أفضل من عبادة حول» .
(7)
وعن الزهري رحمه الله قال: «ما عبد الله بمثل الفقه» .
(8)
(1)
أخرجه أحمد (5/ 196)، وأبو داود (4/ 58) ح:(3641)، وابن ماجه (1/ 81) ح:(223)، والدارمي (1/ 110) ح:(342).
قال ابن حجر: «له شواهد يتقوى بها «. فتح الباري (1/ 160)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 105).
(2)
رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 121).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1/ 253) ح: (20469).
(4)
أخرجه ابن سعد في الطبقات (7/ 142)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 113).
(5)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 120).
(6)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 124).
(7)
المصدر نفسه (1/ 111).
(8)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1/ 256) ح: (20479).
وعن وكيع بن الجراح قال: «ما عبد الله بشيء أفضل من الحديث» .
(1)
وعنه قال: «لولا الحديث أفضل عندي من التسبيح ما حدثت» .
(2)
وعن الإمام الشافعي أنه قال: «طلب العلم أفضل من الصلاة النافلة» .
(3)
وعن بشر بن الحارث قال: «لا أعلم على وجه الأرض عملا أفضل من طلب العلم والحديث لمن اتقى الله وحسنت نيته» .
(4)
والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا عن السلف، وإنما هذا طرف منها.
(5)
ومما جاء في تفضيل الجهاد من النصوص على غيره من الأعمال:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد. قال: «لا أجده» قال: «تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟» قال: ومن يستطيع ذلك؟
(6)
ومن أقوال السلف في هذا المعنى:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «لسفرة في سبيل الله أفضل من خمسين حجة» .
(7)
(1)
رواه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث (ص: 150).
(2)
المصدر نفسه (ص: 151).
(3)
أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (9/ 119)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 123).
(4)
رواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص: 150).
(5)
انظر جامع بيان العلم وفضله (1/ 99131)، وشرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (ص: 148157)، وشرح السنة للبغوي (1/ 225226)، وورثة الأنبياء لابن رجب (ص: 96103).
(6)
أخرجه البخاري واللفظ له، صحيح البخاري مع الفتح (6/ 4) ح:(2785)، ومسلم (3/ 1498) ح:(1878).
(7)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (5/ 260).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: «لأن أغزو في البحر غزوة أحب إلي من أن أنفق قنطارا متقبلا في سبيل الله» .
(1)
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: «مثل الغازي مثل الذي يصوم الدهر، ويقوم الليل» .
(2)
وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فحملت على بكر فهو أوثق أعمالي في نفسي» .
(3)
وعن عبد الله بن الإمام أحمد قال: سمعت أبي سئل عن أعمال البر فقال: «ما من عمل أفضل من الغزو بعد حجة الإسلام، ثم الرباط في الموضع المخوف» .
(4)
ومما ورد في تفضيل الذكر من النصوص:
حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكر الله» .
(5)
ومما جاء عن السلف في هذا:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه ذكر له أن أبا سعد بن منبه جعل في ماله مائة محرَّر
(6)
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/ 219)، وابن أبي عاصم في الجهاد (2/ 659).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (5/ 256).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه. الصحيح مع الفتح (6/ 125).
(4)
مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله (2/ 819)، وانظر المغني لابن قدامة (13/ 10).
(5)
أخرجه الترمذي (5/ 459) ح: (3377)، وابن ماجه (2/ 1245) ح:(3790)، والحاكم في المستدرك (1/ 673) ح:(1825) وصححه، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في حاشية مشكاة المصابيح (2/ 702)، وصحيح الكلم الطيب (ص: 24).
(6)
المحرَّر: الذي جعل من العبيد حرا فأعتق. النهاية لابن الأثير (1/ 62).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: «لو أن رجلين أحدهما يحمل على الجياد في سبيل الله، والآخر يذكر الله لكان هذا أعظم، أو أفضل أجرا يعني الذاكر» .
وعنه رضي الله عنه أنه قال: «لأن أذكر من غدوة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أحمل على الجياد في سبيل الله من غدوة حتى تطلع الشمس» .
وعن سلمان رضي الله عنه قال: «لو بات رجل يعطي القيان
(1)
البيض، وبات آخر يقرأ القرآن ويذكر الله رأيت أن ذاكر الله أفضل».
وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: «لو أن رجلين أحدهما في حجرة دنانير يعطيها والآخر يذكر الله كان ذاكر الله أفضل» .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «لأن أكون في قوم يذكرون الله من حين يصلون الغداة إلى أن تطلع الشمس، أحب إليّ من أن أكون على متون الخيل أجاهد في سبيل الله إلى أن تطلع الشمس، ولأن أكون في قوم يذكرون الله من حين يصلون العصر حتى تقرب الشمس، أحب إليّ من أن أكون على متون الخيل أجاهد في سبيل الله حتى تغرب الشمس» .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «لو أن رجلين أقبل أحدهما من المشرق، والآخر من المغرب مع أحدهما ذهب لا يضع منه شيئا إلا في حق، والآخر يذكر الله حتى يلتقيا في طريق، لكان الذي يذكر الله أفضلهما» .
(2)
والآثار في هذا كثيرة عن السلف من الصحابة والتابعين، قال ابن رجب:
(1)
القيان: هو العبيد والإماء. انظر النهاية لابن الأثير (4/ 135).
(2)
أخرج هذه الآثار عن الصحابة في فضل الذكر ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 179181).
«وكذلك قال سلمان الفارسي وغيره من الصحابة والتابعين: إن الذكر أفضل من الصدقة بعدده من المال» .
(1)
فتبين بهذه النقول أن أفضل الأعمال بعد أداء الفرائض هي هذه الأعمال الثلاثة: العلم، والجهاد، والذكر. كما دلت على ذلك النصوص وأقوال أهل العلم.
وأما المفاضلة بين هذه الأعمال فمحل نزاع بين أهل العلم المتقدمين، بحسب فهمهم للنصوص الواردة في ذلك، على ما تقدم نقل أقوالهم مفصلة.
والذي عليه الأكثر منهم هو تقديم العلم، ثم الجهاد، ثم الذكر، وإلى هذا ذهب المحققون من أهل العلم بعدهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أما تعليم القرآن والعلم بغير أجرة فهو أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ليس هذا يخفى على أحد ممن نشأ بديار الإسلام» .
(2)
وقال رحمه الله في شرحه لقول عمر رضي الله عنه: «لو لا ثلاث لأحببت أن أكون قد لحقت بالله، لو لا أن أسير في سبيل الله، أو أضع جبهتي في التراب ساجدا، أو أجالس قوما يلتقطون طيب الكلام كما يُلْتَقط طيب الثمر» : «وكلام عمر رضي الله عنه من أجمع الكلام وأكمله؛ فإنه ملهم محدث
…
فإنه ذكر الصلاة، والجهاد، والعلم، وهذه الثلاثة هي أفضل الأعمال بإجماع الأمة».
(3)
فظاهر من كلام شيخ الإسلام تفضيل العلم كما في النقل الأول عنه، وذكر هنا انعقاد الإجماع على الصلاة، والجهاد، والعلم فدل ذلك على أن الجهاد أفضل
(1)
جامع العلوم والحكم (1/ 466).
(2)
مجموع الفتاوى (30/ 204).
(3)
منهاج السنة (6/ 75).
النوافل بعد العلم، وأما الصلاة فهي أفضل من الجميع؛ لأنها واجبة، ولم يشر شيخ الإسلام هنا للذكر فدل على أنه يلي العلم والجهاد في المرتبة.
وقال الحافظ ابن رجب مقررا تفضيل العلم على الجهاد والذكر وعلى سائر النوافل: «ومما يدل على تفضيل العلم على جميع النوافل، أن العلم يجمع جميع فضائل الأعمال المتفرقة؛ فإن العلم أفضل أنواع الذكر كما سبق تقريره وهو أيضا أفضل أنواع الجهاد» .
(1)
والحاصل من كل هذا هو تفضيل العلم، ثم الجهاد، ثم الذكر في عامة أقوال أهل العلم والتحقيق.
وقد أجاب بعض أهل العلم عن حديث أبي الدرداء في تفضيل الذكر على سائر الأعمال وغيره من النصوص في هذا المعنى.
(2)
وقال ابن حجر: «إن المراد بذكر الله في حديث أبي الدرداء الذكر الكامل، وهو ما يجتمع فيه ذكر اللسان، والقلب بالتفكر والمعنى واستحضار عظمة الله تعالى، وأن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار مثلا من غير استحضار لذلك، وأن أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن اتفق له أنه جمع ذلك، كمن يذكر الله بلسانه، وقلبه، واستحضاره، وكل
(1)
ورثة الأنبياء (ص: 103).
(2)
فتح الباري لابن رجب (4/ 218).
ذلك حال صلاته، أو في صيامه، أو تصدقه، أو قتاله الكفار مثلا، فهو الذي بلغ الغاية القصوى، والعلم عند الله تعالى».
(1)
وبهذا يتبين أن الذكر المفضل على سائر الأعمال في حديث أبي الدرداء، وما جاء في معناه من النصوص، هو ما كان مصاحبا للاستدامة، ومقارنة الأعمال الصالحة الأخرى، وتفضيل الذكر بهذا الاعتبار لا يقتضي تفضيل جنسه على جنس الجهاد، والعلم، وغيرهما من الأعمال؛ إذ المداومة على العمل أو اقترانه بالأعمال الصالحة من الأحوال المؤثرة في تفضيل العمل عند مصاحبتها له فيفضل بها ويشرف على غيره من الأعمال التي خلت منها وإن كان هذا العمل مفضولا باعتبار جنسه.
وهذا مما يدل على عدم معارضة حديث أبي الدرداء، وما في معناه من النصوص، للنصوص الأخرى في تفضيل العلم، والجهاد باعتبار جنس العمل، فتفضيل الذكر في حديث أبي الدرداء باعتبار، وهو ما يصحب العمل من الأحوال المؤثرة، والتفضيل للعلم، والجهاد، باعتبار آخر وهو التفضيل باعتبار الجنس.
وكذلك ما قيل في الذكر هنا مقارنا بالعلم والجهاد، يقال في الجهاد مقارنا بالعلم وأن ما جاء من النصوص مما ظاهره تفضيل الجهاد على العلم محمول على ذلك.
كحديث أبي هريرة السابق في تفضيل الجهاد أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدله على عمل يعدل الجهاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أجده» .
(2)
فإن هذا محمول على الجهاد الدائم غير المنقطع. يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك
…
إلى آخر الحديث. فدل هذا على أن الجهاد الذي لا يعدله عمل وهو الجهاد الدائم الذي لا يرجع صاحبه من الغزو،
(1)
فتح الباري لابن حجر (11/ 210).
(2)
تقدم تخريجه ص: 31
أما إذا انتهى الجهاد وانقطعت المداومة فلا يفهم من الحديث تفضيل جنس الجهاد على غيره من الأعمال، ومن ذلك العلم الذي تقدم تفضيل جنسه على جنس الجهاد.
والمقصود هنا أن مقتضى النصوص والله أعلم، وكلام أهل العلم هو تقديم جنس العلم، ثم الجهاد، ثم الذكر، وما جاء من النصوص مما ظاهره خلاف هذا فمحمول على التفضيل باعتبارات أخرى. وموضوع البحث هنا هو التفاضل بين الأعمال باعتبار جنسها، لا ما يحصل به التفاضل بين الأعمال من اعتبارات أخرى هي خارجة عن جنس العمل مما سيأتي تفصيله في ثنايا هذا البحث إن شاء الله تعالى.
الفصل الثاني: تفاضل الأعمال باعتبار الوجوب والنفل
تتفاضل الأعمال في الإسلام باعتبار انقسامها إلى واجبات ونوافل:
فالواجبات أفضل من النوافل، وأداء الواجبات أحب إلى الله من أداء النوافل، وهذا أصل عظيم من أصول الدين، قد دلت عليه النصوص الشرعية وأقول السلف.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه
…
» الحديث.
(1)
فدل الحديث دلالة ظاهرة على أن الواجبات أفضل عند الله، وأحب إليه من النوافل.
قال ابن حجر في شرحه: «يستفاد منه، أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله» .
(2)
ومن أقوال السلف في تقرير هذا الأصل:
قول أبي بكر رضي الله عنه في وصيته لعمر: «واعلم أن لله عملا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة
…
»
(3)
فقوله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة من أوجز الكلام، وأبلغه وفيه دلالة على تفضيل الفرائض على النوافل، وأن قبول النوافل مرهون بتأدية الواجبات؛ إذ
(1)
أخرجه البخاري. صحيح البخاري مع الفتح (11/ 340) ح: (6502).
(2)
فتح الباري (11/ 343).
(3)
أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 36).
الواجبات هي الأصل، والنوافل فرع، ولا استقرار للفرع بدون الأصل.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وصدق النية فيما عند الله تعالى» .
(1)
وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: «أفضل العبادات أداء الفرائض، واجتناب المحارم
…
».
(2)
وكذلك أقوال العلماء المحققين جاءت مقررة لهذا الأمر:
قال ابن هبيرة في شرحه للحديث السابق: «يؤخذ من قوله: «ما تقرب» إلخ أن النافلة لا تقدم على الفريضة؛ لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفريضة».
(3)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا وجب التقرب بالفرائض قبل النوافل، والتقرب بالنوافل إنما يكون تقربا إذا فعلت الفرائض، لا كما ظنه بعض الاتحادية كصاحب (الفتوحات المكية) ونحوه من أن قرب الفرائض تكون بعد قرب النوافل» .
(4)
إلى أن قال بعد ذكره الحديث القدسي المتقدم في معرض رده على الاتحادية: «وقد بين في هذا الحديث أن المتقرِب ليس هو المتقرَب إليه، بل هو غيره، وأنه ما تقرب إليه عبده بمثل أداء المفروض، وأنه لا يزال بعد ذلك يتقرب إليه بالنوافل حتى يصير محبوبا لله فيسمع به، ويبصر به، ويبطش به، ويمشي به» .
(5)
(1)
أورده ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 222).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 182) رقم: (35070).
(3)
الإفصاج عن معاني الصحاح (7/ 303).
(4)
مجموع الفتاوى (17/ 133).
(5)
المصدر نفسه (17/ 134).
وقال رحمه الله في جواب سؤال: «أيما طلب القرآن أو العلم أفضل» ؟
(1)
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «أداء الواجبات كلها أفضل من التنفل بالحج والعمرة، وغيرها؛ فإنه ما تقرب العباد إلى الله تعالى بأحب إليه من أداء ما افترض عليهم» .
(2)
وأقوال العلماء في هذا كثيرة مشهورة، ومن هذا الباب شدة إنكار السلف على من اشتغل بالنوافل عن الفرائض، أو أدى اشتغاله بالنوافل إلى ضعفه عن أداء الفرائض، على ما جاء في قصة رجل في زمن التابعين كان يصوم، ويواصل حتى يعجز عن القيام، فكان يصلي الفرض جالسا فأنكروا ذلك عليه حتى قال عمرو بن ميمون:«لو أدرك هذا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لرجموه» .
(3)
وقال ابن حجر: قال بعض الأكابر: «من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور» .
(4)
فتقرر بهذا تفضيل الفرائض على النوافل، وأن النوافل مهما بلغت لا تبلغ درجة الفرائض في الأجر والثواب عند الله، بل صرح السلف أن النوافل لا تكون مقبولة عند الله حتى تؤدى الفرائض.
وهذا التقرير هو مقتضى النصوص والله أعلم، وهو الذي تظافرت عليه أقوال السلف، والأئمة المتقدمين، وعليه عامة أهل العلم من بعدهم.
(1)
الفتاوي الكبرى (2/ 234)، ومجموع الفتاوى (23/ 54).
(2)
لطائف المعارف (ص: 442).
(3)
أورده ابن رجب في لطائف المعارف (ص: 447).
(4)
فتح الباري (11/ 343).
وقد ذهب بعض العلماء المتأخرين إلى أن الفرائض أفضل من النوافل إلا في أربع مسائل، دلت النصوص على أن السنة فيها أفضل من الفرض، وهذه المسائل هي:
1 -
ابتداء السلام أفضل من رده، مع أن ابتداء السلام سنة، ورده واجب.
2 -
إبراء المعسر سنة، وهو أفضل من إنظاره مع أن إنظاره واجب.
3 -
التطهر قبل الوقت سنة، وبعد الوقت واجب. وهو قبل الوقت أفضل.
4 -
الختان قبل البلوغ سنة، وهو أفضل منه بعد البلوغ وهو واجب.
ذكر هذه المسائل السفاريني، ونقل بعضها عن السيوطي.
(1)
وهي محل نظر:
أما السلام فقد اختلف العلماء في ابتدائه هل هو سنة أم أنه فرض كالرد.
(2)
فعلى القول بوجوبه، فالمفاضلة بينه وبين الرد من مسائل التفاضل بين الفرائض، ولا نزاع في هذا على ما سيأتي تقريره.
وأما على القول بأن ابتداء السلام سنة، وهو المشهور فلا يسلم أنه أفضل من رده، وذلك لمخالفة هذا للنصوص الصريحة في تفضيل الفرائض على النوافل، ومن أظهرها الحديث القدسي السابق الذكر، وفيه يقول الله تعالى:«ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه» .
(3)
وهذا نص عام يقتضي تفضيل كل الفرائض على كل النوافل.
وإنما تمسك من قال بتفضيل ابتداء السلام على رده بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» .
(4)
(1)
انظر غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني (1/ 286).
(2)
انظر أحكام القرآن لابن العربي (1/ 592)، ومدارج السالكين لابن القيم (1/ 114).
(3)
تقدم تخريجه (ص: 39)
(4)
أخرجه مسلم. صحيح مسلم (4/ 1984) ح: (2560).
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام» .
(1)
وليس في الحديثين ما يدل على تفضيل ابتداء السلام على رده.
أما الحديث الأول ففيه تفضيل المبادر بالسلام من المتهاجرين على الآخر، ووجه التفضيل هنا لكونه هو المبادر للصلح، ولا شك أن المبادر للصلح أفضل من المعرض، ويظهر من هذا أن تفضيل المبتدئ بالسلام هنا ليس لمرد إلقائه السلام فقط، بل لمعنى آخر كامن في مبادرته بالسلام، وهو الشروع في الصلح، فلا حجة في هذا عندئذ على المسألة، هذا مع مراعاة أن السلام هنا قد يكون واجبا، وهذا بناء على ما قرره بعض أهل العلم من أن الهجر لا يزول إلا بالسلام، وقال آخرون لا يزول إلا بالسلام والكلام.
روى ابن وهب عن مالك أنه قال: «إذا سلم عليه فقد قطع الهجرة» .
(2)
وقال أبو بكر الأثرم: «قلت لأحمد بن حنبل: إذا سلم عليه هل يجزيه ذلك من كلامه إياه؟ فقال: ينظر في ذلك إلى ما كان عليه قبل أن يهجره، فإن كان قد علم منه مكالمته والإقبال عليه، فلا يخرجه من الهجرة إلا سلام ليس معه إعراض ولا إدبار» .
(3)
وقال ابن مفلح: «والهجر المحرم يزول بالسلام، ذكره في الرعاية والمستوعب» .
(4)
فالسلام مشترط على كل حال في زوال الهجر المحرم فدل على وجوبه، وبهذا يتبين أن السلام الممدوح في الحديث واجب، فلا حجة فيه لتفضيل السلام
(1)
أخرجه أبو داود (5/ 380)، والترمذي (5/ 2694)، وقال: «حديث حسن «. وقال الألباني: «سنده صحيح «. انظر حاشية مشكاة المصابيح (3/ 1318)، وصحيح الكلم الطيب (ص: 105).
(2)
ذكره ابن عبد البر في التمهيد (6/ 127).
(3)
ذكره ابن عبد البر في التمهيد (6/ 127128).
(4)
الآداب الشرعية لابن مفلح (1/ 244).
مطلقا على الرد والله أعلم.
وأما الحديث الثاني ففي فضل إلقاء السلام، وليس فيه ما يدل على أنه أفضل من الرد. كما أنه لا يفهم من لفظ الحديث أن السلام أفضل من بقية الواجبات، وأن المسلم هو أولى الناس بالله على الإطلاق، وأنه أفضل ممن تقرب إلى الله بسائر الواجبات، بل من المقرر في الشرع أن الرجل لا يمدح بالنفل إلا بعد أداء الواجب فيكون هذا الثناء في حق من أدى واجب الرد عند السلام عليه، وبادر المسلمين بالسلام فهو أولى الناس بالله.
ومما تتجلى به صورة هذه المسألة في أن ابتداء السلام ليس بأفضل من رده أن هذا يعرف عند تزاحم الأمرين، وذلك في حق رجل مر في طريق فقابله رجلان يخالفانه في السير، أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، فسلم عليه أحدهما ولم يسلم عليه الآخر فما الأفضل في حقه، الرد على من سلم عليه، أو مبادرة الآخر بالسلام، مع أنه لا يمكن الجمع بين الأمرين لضيق الوقت عن ذلك؟ كأن يكون مستقلا سيارة أو غيرها من وسائل النقل السريعة.
فإن قلنا بتفضيل الابتداء على الرد، قلنا: الأولى في حقه فعل الأفضل، ونحن مع هذا ندرك أنه لا يسلم من الإثم بترك الواجب وهذا تناقض.
وإن قلنا بتفضيل الرد زال هذا التعارض، وانتظم في اشتغاله بالرد تحقيق الواجب، وفعل الأفضل، وهو معذور في ترك النفل؛ لاشتغاله بالواجب كما قال أهل العلم:«من شغله الفرض عن النفل فهو معذور» .
(1)
وأما مسألة إبراء المعسر وإنظاره، فلا يُسَلَّم أن الإبراء نفل محض، بل قد تضمن الإبراء معنى الواجب وزيادة، فَفَضُل من هذا الوجه، وذلك أنه قد تحقق في الإبراء مقصود الإنظار وهو: رفع الحرج بالسداد في ذلك الوقت وهذا
(1)
تقدم عزوه (ص: 42)
واجب وإسقاط الحق بالكلية وهذا نفل
ولهذه المسألة نظائر كثيرة في الشرع، كمسألة الإنفاق على الأهل بالمعروف واجب، والإحسان في ذلك والتوسعة في النفقة من غير إسراف أفضل، لتضمنه الواجب وزيادة، وكالإسباغ في الوضوء أفضل من غسل الأعضاء من غير إسباغ، وذلك لاشتمال الإسباغ على الغسل الواجب وزيادة، وكذلك الحلق في التحلل من الإحرام أفضل من التقصير لهذا المعنى، إلى غير ذلك من المسائل التي يتضمن نفلها واجبها وزيادة.
وكذلك المسألتان الأخيرتان، وهي مسألة التطهر قبل الوقت، والختان قبل البلوغ، قد تحقق بهما تأدية الواجب، وإنما حصل التنفل فيهما في المبادرة إلى الواجب قبل حلول وقته، يدل على هذا ارتفاع الحدث بالتطهر قبل دخول الوقت، وسقوط الوجوب في الاختتان بفعله قبل البلوغ، وبالتالي فإن دعوى أن كل واحد من هذين العملين نفل محض لا يسلم، وإنما هما في الحقيقة تأدية للواجب في كل منهما لكن على سبيل التعجل وبهذا حصل التفضيل.
ومثل هاتين المسألتين سائر الأعمال التي يرغب فيها إلى المبادرة إلى العمل قبل وقت الوجوب، كالسعي إلى الجمعة قبل وقت الوجوب من أول النهار، فإنه أفضل عند كثير من أهل العلم،
(1)
وكذلك قضاء الدين قبل حلول أجله أفضل لما فيه من براءة الذمة، وغير ذلك من المسائل.
وبهذا يتبين أنه ليس هناك ما يستثنى من قاعدة تفضيل الواجبات على النوافل، بل القاعدة على أصلها من غير استثناء على ما دلت عليه النصوص وقواعد الشريعة، وما هو مقرر عند سلف الأمة، ومن جاء بعدهم من المحققين الذين استفاضت أقوالهم بذكر هذه القاعدة، وتأصيلها في كتبهم، من غير تقييد أو تخصيص.
(1)
انظر المغني لابن قدامة (3/ 164)
وقد اجتهد بعض العلماء المحققين في استنباط الحكمة من تفضيل الواجبات على النوافل فذكروا في ذلك عدة أوجه:
1 -
أن الأمر بالفرائض جازم بخلاف النوافل.
2 -
أن الفرائض يقع بتركها المعاقبة بخلاف النوافل.
3 -
أن الفرض كالأصل والأس، والنفل كالفرع والبناء.
4 -
أن في الإتيان بالفرائض امتثال الأمر، واحترام الآمر، وإظهار عظمة الربوبية، وذل العبودية، وهذه المعاني وإن تحققت في النوافل لكنها ليس بمقدار تحققها في الفرائض، وذلك لأن الامتثال في الفرائض على سبيل الإلزام، وفي النوافل على سبيل التخيير.
5 -
أن الذي يؤدي الفرض قد يفعله خوفا من العقوبة، ومؤدي النفل لا يفعله إلا إيثارا للخدمة.
(1)
وإذا تقرر تفضيل الفرائض على النوافل فينبغي أن يعلم أن الواجبات في نفسها تتفاضل، فهي ليست على درجة واحدة.
ففروض الأعيان أفضل من فروض الكفايات؛ لتعين وجوب فروض الأعيان على كل أحد، ولحصول الإثم بتركها لا محالة، بخلاف فروض الكفايات، فوجوبها كفائي على الأمة قاطبة، لا يلحق الأفراد إثم بتركها ما دام في الأمة من يقوم بها.
قال الإمام ابن رجب في توجيه تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد في حديث أبي هريرة، وذكره له بعد الإيمان بالله:«إنما كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين فكان حينئذ أفضل الأعمال بعد الإيمان وقرينا له، فلما نزلت الرخصة، وصار الجهاد فرض كفاية تأخر عن فرض الأعيان» .
(2)
وقال أيضا: «وقد يقال: حديث أبي هريرة دل أن جنس الجهاد أشرف من
(1)
انظر فتح الباري لابن حجر (11/ 343).
(2)
فتح الباري لابن رجب (4/ 213).
جنس الحج، فإن عرض للحج وصف يمتاز به على الجهاد وهو كونه فرض عين كان ذلك الحج المخصوص أفضل من الجهاد، وإلا فالجهاد أفضل منه».
(1)
وهذا مما يدل على تفضيل فروض الأعيان على فروض الكفايات عند أهل العلم والتحقيق.
وكلام العلماء في هذا مشهور ومواضع بسطه في كتب الأصول والفقه.
وفروض الأعيان في نفسها تتفاضل من حيث تعلقها بحقوق الله، وحقوق المخلوقين، فتقدم في الفضل حقوق الله على حقوق الخلق، كما أن بين أفراد كل قسم من هذين القسمين تفاضل فيما بينها فليست حقوق الله على درجة واحدة في الفضل، وكذا حقوق المخلوقين.
فدل على تقدم حقوق الخالق على حقوق المخلوقين عمومُ النصوص كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}
(2)
وقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
…
}
(3)
وقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}
(4)
فقدم الله حقه على حقوق المخلوقين، والآيات في هذا كثيرة جدا.
ومن السنة ما جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال:«نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء» .
(5)
فأخبر أن حق الله أحق بالوفاء من حق المخلوق.
وجاء عن سلمان أنه قال لأبي الدرداء رضي الله عنهما: «إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك
(1)
فتح الباري لابن رجب (4/ 217).
(2)
سورة الإسراء: (23).
(3)
سورة النساء: (36).
(4)
سورة لقمان: (14).
(5)
أخرجه البخاري من الصحيح مع الفتح (4/ 64) ح (1852).
عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. قال النبي صلى الله عليه وسلم:«صدق سلمان» .
(1)
فقدم حق الله على حق النفس، وحق الأهل، مما يدل على تفضيل حق الله على سائر حقوق المخلوقين.
قال الإمام ابن رجب في سياق دراسته للأحاديث في تفاضل الأعمال: «فتبين بهذا التقرير أن الأحاديث كلها دالة على أن أفضل الأعمال: الشهادتان مع توابعهما وهي بقية مباني الإسلام، أو الصلاة مع توابعهما أيضا من فرائض الأعيان التي هي من حقوق الله عز وجل ثم يلي ذلك في الفضل حقوق العباد التي هي من فروض الأعيان كبر الوالدين» .
(2)
ودل على تفاضل حقوق الله فيما بينها نصوص كثيرة منها حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، فأفضها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» .
(3)
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل شعب الإيمان لا إله إلا الله، وقدمها على غيرها من الشعب المتعلقة بحقوق الخالق كالصلاة، والصيام، والحج.
كما دل على هذه المسألة أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن: «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس» .
(4)
(1)
أخرجه البخاري. الصحيح مع الفتح (10/ 534) ح: (6139).
(2)
فتح الباري لابن رجب (4/ 217).
(3)
أخرجه مسلم (1/ 63) ح: (35)، وأخرجه البخاري بلفظ:«الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» . صحيح البخاري مع الفتح (1/ 51) ح: (9).
(4)
أخرجه البخاري. صحيح البخاري مع الفتح (13/ 347) ح: (7372)، (3/ 261) ح:(1395)، و (ص: 322) ح: (1458)، ومسلم (1/ 50) ح:(19).
فدل الحديث على تفضيل التوحيد على سائر أعمال البر المتعلقة بحقوق الله، وحقوق المخلوقين، وأنه أول ما يُبدأ به في الدعوة لفضله وشرفه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مقررا هذا الأصل: «وكذلك ليس الأمر بالتوحيد، والإيمان بالله ورسوله، وغير ذلك من أصول الدين الذي أمرت به الشرائع كلها، وغير ذلك مما يتضمن الأمر بالمأمورات العظيمة، والنهي عن الشرك، وقتل النفس، والزنا، ونحو ذلك مما حرمته الشرائع كلها، وما يحصل معه فساد عظيم، كالأمر بلعق الأصابع، وإماطة الأذى، عن اللقمة الساقطة، والنهي عن القران في التمر، ولو كان الأمران واجبين» .
(1)
كما دلت النصوص أيضا على التفاضل بين حقوق المخلوقين فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك» .
(2)
فقدم النبي صلى الله عليه وسلم النفقة على الأهل على غيرها من النفقات لتأكد حقهم على حقوق غيرهم من الناس.
قال أبو العباس القرطبي: «هذا محمول على ما إذا استوت الحالة في الأهل والأجنبي، فلو كان أحدهما أحوج أو أوكد، لكان المنفق في الأوكد أعظم أجرا، فإذا استوت المراتب فترتيب الأعظم كما وقع في الحديث» .
(3)
كما دل أيضا على التفاضل في حقوق الخلق حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل من بني عذرة: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء
(1)
مجموع الفتاوى (17/ 59).
(2)
أخرجه مسلم (2/ 692) ح: (995).
(3)
المفهم (3/ 40).
فهكذا، وهكذا»، يقول: فبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك.
(1)
قال القاضي عياض في شرح الحديث: «وفي قوله: «فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك فلذي قرابتك» فيه حجة في ترتيب الحقوق، وتقديم الآكد فالآكد، وأن الواجبات تتأكد في نفسها، لأن حق النفس واجب، وحق الأهل ومن تلزمه النفقة واجب، لكنه يقدم حق النفس عليها».
(2)
وقال النووي: «في هذا الحديث فوائد منها الإبتداء في النفقة بالمذكور على هذا الترتيب، ومنها أن الحقوق والفضائل إذا تزاحمت قدم الأوكد فالأوكد» .
(3)
فتقرر بهذا تفاضل الواجبات فيما بينها فيقدم منها الأوكد فالأوكد بحسب قوة الوجوب، ومرجع هذا التفاضل هنا هو قوة الوجوب، فكلما كان العمل أوجب كلما كان أفضل.
(4)
كما أن التفاضل بين الواجبات والنوافل، يرجع إلى (قوة المشروعية) فتكون هذه المسألة فرعا عن تلك، بناء على أن التفاضل باعتبار (قوة الوجوب) فرع عن التفاضل باعتبار قوة المشروعية.
ولهذا ناسب تقرير مسألة التفاضل بين الواجبات، بعد تقرير التفاضل بين الواجبات والمستحبات، استكمالا لموضوع البحث، وتنبيها على هذا المعنى.
والمقصود هنا بيان أن المنهج الصحيح في التعبد يرجع إلى هذا التأصيل، وهو أن يكون التقرب إلى الله بالواجبات أولا بدأً بالأوكد فالأوكد، ثم بالنوافل أخذا بالأهم فالأهم، فبذلك يحصل السبق إلى الفضل عند الله، وتتحقق المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في العبادة، وعلى قدر التفريط في هذا المنهج يحصل الخلل في العبادة
(1)
أخرجه مسلم (1/ 692) ح: (997).
(2)
إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (3/ 514515).
(3)
شرح صحيح مسلم (7/ 83).
(4)
انظر مجموع الفتاوى (11/ 381).
والانقطاع في السير إلى الله.
وقد نبه الأئمة المحققون على خطورة الإنحراف في هذا الباب فكان مما اشتهر عنهم هذه المقولة: «من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور» .
كما نبه بعضهم على أن الإنحراف في هذا الباب من كيد الشيطان وتلبيسه على العباد، وذلك أنه لماّ لم يظفر منهم بالتثبيط عن العمل شغلهم بالمفضول منه عن الفاضل.
قال الإمام ابن الجوزي في سياق ذكره تلبيس الشيطان على العباد: «فأول تلبيسه عليهم إيثارهم التعبد على العلم، والعلم أفضل من النوافل»
(1)
(2)
(3)
وقال في تلبيس الشيطان على أهل الصيام: «وقد لبس على أقوام فحسن لهم الصوم الدائم، وذلك جائز إذا أفطر الإنسان الأيام المحرم صومها، إلا أن الآفة
(1)
تلبيس إبليس (ص: 190).
(2)
تلبيس إبليس (ص: 197).
(3)
تلبيس إبليس (ص: 200).
فيه من وجهين:
أحدهما: أنه ربما عاد بضعف القوى فأعجز الإنسان عن الكسب لعائلته ومنعه من إعفاف زوجته، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن لزوجك عليك حقا»
(1)
فكم من فرض يضيع بهذا النفل.
والثاني: أنه يفوت الفضيلة؛ فإنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضل الصيام صيام داود عليه الصلاة والسلام كان يصوم يوما، ويفطر يوما
(2)
».
(3)
وقد أطال الإمام ابن الجوزي في ذكر صور كثيرة من تلبيس الشيطان على العباد في هذا الباب مما يدل على أهمية ضبطه، والتفقه فيه.
كما ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن تلبيس الشيطان على العباد في هذه المسألة هي إحدى العقبات الست التي يصرف بها العباد عن الطاعة وعما يحب الله من العباد.
(4)
وصدق والله هذان الإمامان الجليلان، فكم كاد الشيطان للإنسان في هذا
(1)
أخرجه البخاري، الصحيح مع الفتح (4/ 217) ح:(1975)، ومسلم (2/ 817818)، وهو جزء من وصية النبي صلى الله عليه وسلم المشهورة لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2)
قطعة من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وقد تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(3)
تلبيس إبليس ص: (203 - 204).
(4)
مدارج السالكين (1/ 225).
الباب، فإنا في كل يوم نشاهد من تلبيس الشيطان على كثير من أهل التعبد والرغبة في الخير ما لا يمكن وصفه، ويصعب حصره، وليس أدل على هذا من اشتغال كثير من طلبة العلم اليوم ناهيك عن غيرهم من الناس بالنوافل والسنن عن الوجبات، في باب العلم والعمل، وذلك كالتعمق في دراسة بعض المسائل الفرعية، التي لا تعدو أن تكون من فروض الكفايات في باب العلم، عن تعلم أوجب المسائل مما لا يتحقق الواجب إلا بها، كما هو الشأن في مسائل التوحيد، والطهارة، والصلاة، وغيرها من المهمات، وكذلك الإنحراف في باب العمل بالإنشغال ببعض السنن وفروض الكفايات عن تأدية الواجبات العينية، كاستغراق الوقت أو جلّه في الدعوة مثلا، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو كثرة الصيام، أو العكوف في المساجد، مع ما يصحب ذلك من تضييع حقوق الوالدين، أو الزوجة والأولاد، أو حقوق العمل، وغير ذلك من الأمثلة التي لا تخفى على متأمل لواقع حال كثير من الناس في هذا العصر، مما يتعين معه مراعاة هذا الجانب المهم، وإعطاؤه حقه من البحث والدراسة، وتوجيه الناس فيه كما فعل الأئمة السابقون نصحا للأمة، وإبراء للذمة. والله تعالى أعلم.
الفصل الثالث: تفاضل الأعمال باعتبار النية وقوة الإخلاص
الإخلاص لله تعالى في العمل هو الركن الأساس لكل عمل صالح، وهو الأصل الذي يبنى عليه صحة العمل وقبوله عند الله تعالى، كما أن المتابعة في العمل هي الركن الثاني لكل عمل صالح مقبول عند الله.
وقد دل على هذين الأصلين قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .
(1)
قال الإمام ابن كثير في تفسير الآية: «{فمن كان يرجو لقاء ربه} أي ثوابه وجزاءه الصالح، {فليعمل عملاً صالحاً} أي ما كان موافقا للشرع. {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له. وهذان ركنا العمل المتقبل، لابد أن يكون خالصا، صوابا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
(2)
والنصوص في تقرير هذه المسألة وأقوال أهل العلم كثيرة جداً، وهي مبسوطة في مواضعها من كتب الاعتقاد والسنة والآداب، ومقصد البحث هنا هو بيان أثر قوة الإخلاص في تفاضل الأعمال عند الله تعالى وإنما عبرت (بقوة الإخلاص)، ولم أقل (الإخلاص)، لأن الإخلاص، هو ركن العمل، الذي لا يقبل إلا به، فالحديث عن الإخلاص من عدمه هو من باب الحديث عن قبول العمل ورده، وحديثنا هنا هو من باب التفاضل بين الأعمال بحسب قوة الإخلاص فيها، ففي هذا الباب قد تحقق ركن الإخلاص في كل الأعمال المفاضل بينها، وإن كان متفاوتا قوة وضعفا.
(1)
سورة الكهف: من الآية 110.
(2)
تفسير ابن كثير (5/ 205).
وقد دلت النصوص الشرعية وكلام أهل العلم على تفاضل الأعمال بهذا الاعتبار.
قال الله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} .
(1)
قال الفضيل بن عياض رحمه الله في تفسير أحسن العمل: «أخلصه وأصوبه؛ فإنه إذا كان العمل خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً. والخالص: إذا كان لله، والصواب: إذا كان على السنة» .
(2)
فقوله رحمه الله «أخلصه» : صيغة تفضيل، تدل على التفاضل في الإخلاص، وفي تفسير أحسن العمل بالأخلص والأصوب، دليل على تفاضل الأعمال، باعتبار قوة الإخلاص والمتابعة فيها.
ومما استدل به لمضاعفة الحسنات بحسب الإخلاص وقوته قول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
(3)
فقد ذكر بعض المفسرين أن المضاعفة المذكورة هنا بحسب قوة الإخلاص في العمل:
قال ابن كثير رحمه الله: «{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} أي بحسب إخلاصه في عمله» .
(4)
وقال السعدي رحمه الله: «وذلك بحسب ما يقوم بقلب المنفق من الإيمان، والإخلاص التام، وفي ثمرات نفقته ونفعها» .
(5)
(1)
سورة الملك: من الآية 2.
(2)
أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 95)، وذكره البغوي في تفسيره (4/ 369).
(3)
سورة البقرة: 261
(4)
تفسير ابن كثير (1/ 693).
(5)
تفسير السعدي (1/ 157).
ويشهد لهذا ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها، تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها» .
(1)
قال ابن رجب معلقا: «فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لابد منه؛ والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام، وإخلاص النية، والحاجة إلى ذلك العمل وفضله» .
(2)
ومما يدل على تفاضل الأعمال بحسب قوة الإخلاص فيها، ما جاءت به النصوص من تفضيل أعمال السر على العلانية، وذلك لما يصحب الأعمال السرية من قوة الإخلاص، والبعد عن الرياء والسمعة، ومصانعة المخلوقين.
قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} .
(3)
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: «فيه دلالة على أن إسرار الصدقة، أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة» .
(4)
وقال ابن القيم رحمه الله مبيناً الفوائد من إخفاء الصدقة: «وأما إيتاؤها الفقراء، ففي إخفائها من الفوائد: الستر عليه، وعدم تخجيله بين الناس، وإقامتِه مقام الفضيحة، وأن يرى الناس أن هذه هي اليد السفلى، وأنه لا شيء له فيزهدون في معاملته ومعاوضته، وهذا قدر زائد عن الإحسان إليه بمجرد الصدقة، مع تضمنه الإخلاص، وعدم المراءاة، وطلب المحمدة من الناس» .
(5)
ومما جاء في فضل إخفاء الصدقة من السنة حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
صحيح البخاري مع الفتح (1/ 100) ح (42)، وصحيح مسلم (1/ 118) ح (129).
(2)
جامع العلوم والحكم (1/ 213).
(3)
سورة البقرة: من الآية 271.
(4)
تفسير ابن كثير (1/ 701).
(5)
طريق الهجرتين ص: (376).
قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله» وذكر منهم: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» .
(1)
قال أبو العباس القرطبي في شرحه: «هذه صدقة التطوع في قول ابن عباس، وأكثر العلماء، وهو حض على الإخلاص في الأعمال، والتستر بها، ويستوي في ذلك جميع أعمال البر التطوعية» .
(2)
وقال النووي رحمه الله: «وفي هذا الحديث فضل صدقة السر، قال العلماء: وهذا في صدقة التطوع؛ فالسر فيها أفضل؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء، وأما الزكاة الواجبة فإعلانها أفضل» .
(3)
فدلت النصوص على فضل إخفاء الصدقة، وذلك لما في إخفائها من قوة الإخلاص والبعد عن الرياء كما نص على ذلك العلماء، فتضمن ذلك تفاضل الأعمال بحسب شدة الإخلاص وقوته.
والترغيب في إخفاء الصدقة في النصوص محمول على صدقة التطوع، أما الزكاة فإظهارها أفضل، كما تقدم في كلام الإمامين القرطبي والنووي، وهو قول ابن عباس وعليه أكثر أهل العلم بل نقل الطبري وغيره الإجماع على ذلك.
(4)
وقد ذهب بعض العلماء إلى طرد هذا الحكم في كل أعمال البر، وأن الأفضل في
(1)
أخرجه البخاري. الصحيح مع الفتح (2/ 143) ح (660)، ومسلم (2/ 715) ح (1031)، وفي رواية مسلم:((حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله))، وذكر القاضي عياض أنه وهم جاء من الناقلين عن مسلم، ونقله النووي على سبيل المقرر له. وقطع ابن حجر أن الوهم ليس من مسلم ولا ممن دونه بل من شيخه أو شيخ شيخه يحيى القطان. انظر إكمال المعلم (3/ 563)، وشرح النووي لصحيح مسلم (7/ 122)، وفتح الباري (2/ 146).
(2)
المفهم (3/ 76).
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 122).
(4)
انظر تفسير الطبري (3/ 93)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 315)، وفتح الباري لابن حجر (3/ 289).
واجباتها الإظهار، وفي نوافلها الإسرار، كما قرر هذا كل من القاضي عياض والقرطبي والنووي
(1)
رحمهم الله تعالى.
قلت: ويشهد لهذا فعل السلف؛ فإنهم كانوا يجتهدون في إخفاء أعمالهم ما أمكنهم ذلك، وذلك لما تقرر عندهما في إخفائها من كمال الإخلاص وعظم الأجر.
عن إبراهيم النخعي قال: «إن كانوا ليكرهون إذا اجتمعوا أن يخرج الرجل أحسن حديثه، أو أحسن ما عنده» .
(2)
(3)
وعن الأعمش قال: «بكى حذيفة في صلاته فلما فرغ التفت، فإذا رجل خلفه فقال: لا تعلمن بهذا أحدا» .
(4)
وعن محمد بن واسع قال: «كان الرجل ليبكي عشرين سنة، ومعه امرأته لا تعلم به» .
(5)
وعن بسطام بن حريث
(6)
قال: «كان أيوب يرق، فيستدمع فيحب أن يخفي ذلك
(1)
انظر إكمال المعلم (3/ 564)، والمفهم (3/ 76)، وشرح النووي على صحيح مسلم (7/ 122).
(2)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/ 195) رقم (128).
(3)
المصدر نفسه (1/ 195) رقم (129).
(4)
أخرجه الحسن الضراب في ذم الرياء ص: (175) رقم (92).
(5)
المصدر نفسه ص: (176) رقم (94).
(6)
بسطام بن حريث الأصفر أبو يحيى البصري ثقة من السابعة. تقريب التهذيب ص: (122).
على أصحابه فيمسك على أنفه، كأنه رجل مزكوم، فإذا خشي أن تغلب عبرته قام».
(1)
والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا عن السلف.
ومما يدل على تفاضل الأعمال بالإخلاص والنية الصالحة، أن العامل إن نوى الخير ثم عجز عنه، أو عن إكماله، لموت أو عذر، كُتِب له أجر العامل، وهذا أصل عظيم من أصول الدين وقد دلت عليه كثير من النصوص.
(2)
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: «أي ومن خرج من منزله بنية الهجرة، فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر» .
(3)
وذكر الطبري أن هذه الآية نزلت في ضمرة بن العيص الخزاعي لما أُمروا بالهجرة كان مريضا، فأمر أهله أن يفرشوا له على سريره ويحملوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلوا فأتاه الموت وهو بالتنعيم، فنزلت هذه الآية.
(4)
وفي معنى هذه الآية ما أخرجه البخاري من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رجوعه من غزوة تبوك: «إن أقواما بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا، ولا واديا، إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر» .
(5)
قال ابن بطال: «هذا يدل أن من حبسه العذر من أعمال البر مع نيته فيها أنه
(1)
أخرجه الضراب في ذم الرياء ص: (180) رقم (99).
(2)
سورة النساء: من الآية 100.
(3)
تفسير ابن كثير (1/ 391).
(4)
انظر تفسير الطبري (4/ 240).
(5)
أخرجه البخاري. الصحيح مع الفتح (6/ 46) ح (2839)، وأخرجه مسلم (3/ 1518) ح (1911) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه بلفظ:((إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض)).
يكتب له أجر العامل فيها».
(1)
(2)
قلت: ولا شك أن هؤلاء القاعدين بسبب العذر، ما بلغوا ما بلغوا من الأجر ومشاركة المجاهدين في جهادهم إلا لقوة الإخلاص، وعظم النية في قلوبهم، ومما يدل على هذا وصف الله تعالى لبعض هؤلاء عند تأخرهم عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بسبب عدم النفقة بقوله:{وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} .
(3)
فوصفهم بدمع العين، وحزن القلب على التخلف عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهذا لا يحصل إلا مع قوة الإخلاص، وصدق النية في الخروج للجهاد، وفيه دلالة ظاهرة على تفاضل الأعمال بحسب الإخلاص وصدق النية.
وبهذا العرض للنصوص المفسرة بكلام أهل العلم، يتم تقرير هذه المسألة وهو أثر قوة الإخلاص في تفضيل العمل عند الله وزيادة أجره. والله تعالى أعلم.
(1)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (5/ 48).
(2)
شرح صحيح مسلم (13/ 57).
(3)
سورة التوبة: 92.
الفصل الرابع: تفاضل الأعمال باعتبار حسن المتابعة فيها.
حقيقة المتابعة في العمل: هي امتثال هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وتأديته على الوجه المشروع الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: «أن يُفْعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل»
(1)
.
وهذا يعني أن المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في عمل لابد أن يتحقق فيها أمران:
الأول: الموافقة للنبي صلى الله عليه وسلم في الفعل بأن يكون مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: الموافقة له صلى الله عليه وسلم في القصد بأن يكون على وجه التعبد، ويخرج من هذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على غير وجه التعبد وإنما بحكم العادة فمن فعل ذلك على وجه التعبد، لم يكن متابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، وكذلك العكس، وهو أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم الفعل بنية التعبد، فيصدر مثل هذا الفعل من شخص، لكن بغير نية التعبد، كمن توضأ بنية التنظف فليس في هذا العمل متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في المقصد، ولهذا لا تقبل العبادات إلا بنية التعبد.
ومقصود البحث هنا بيان أثر المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في المفاضلة بين الأعمال، ويمكن تقسيم المتابعة باعتبار تأثيرها في العمل ومضاعفة ثوابه إلى قسمين: متابعة خاصة، ومتابعة عامة.
أما المتابعة الخاصة: فهي المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في عمل مخصوص وهو على درجتين.
(1)
مجموع الفتاوى 1/ 280.
الدرجة الأولى: متابعة واجبة وهي المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في أصل مشروعية العمل، وتحقق شروطه، وأركانه، وواجباته التي لا يصح إلا بها، وهذا القسم مؤثر في أصل قبول العمل فإن تحققت فيه المتابعة وإلا رُدَّ، كمن تقرب إلى الله بما لم يشرعه أصلاً، أو يكون مشروعاً: كالصلاة، أو الصيام، أو الحج، لكن يخل العامل ببعض شروط صحته، أو أركانه، أو واجباته، فهذا العمل مردود من أصله غير مقبول عند الله لفقده المتابعة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا دل قول النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد» .
(1)
وفي رواية لمسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» .
(2)
قال الحافظ ابن رجب في شرح الحديث: «والأعمال قسمان عبادات ومعاملات: فأما العبادات فما كان منها خارجاً عن حكم الله ورسوله بالكلية فهو مردود على عامله
…
وأما من عمل عملاً أصله مشروع وقربة ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع، أو أخل فيه بمشروع، فهذا أيضاً مخالف للشريعة بقدر إخلاله بما أخلَّ به
…
فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل، أو شروطه، موجباً لبطلانه في الشريعة، كمن أخل بالطهارة في الصلاة مع القدرة عليها، أو كمن أخل بالركوع، أو بالسجود، أو بالطمأنينة فهذا عمله مردود عليه، وعليه إعادته إن كان فرضاً».
(3)
الدرجة الثانية: متابعة في كمال العمل وهي المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في هديه الكامل في هذا العمل، والاجتهاد في الإتيان به على أكمل ما يكون، من غير نقص فيه بوجه من الوجوه، ويتطلب هذا تحقيق عدة جوانب في العمل:
(1)
صحيح البخاري مع الفتح 5/ 301 ح (2697) وصحيح مسلم 3/ 1343 ح (1718).
(2)
صحيح مسلم 3/ 1344.
(3)
جامع العلوم والحكم 1/ 115 - 116.
الجانب الأول: الإتيان بالسنن والمستحبات التي تصحب العمل، فإنه ما من عمل من الأعمال الصالحة، إلا وقد شرع فيه من السنن والمستحبات ما يزكو به ويفضل وذلك كالإسباغ في الوضوء، والغسلة الثانية، والثالثة، وتخليل الأصابع، واللحية، والأذكار المشروعة بعده
(1)
، وكدعاء الاستفتاح في الصلاة، والزيادة على مرة في تسبيح الركوع والسجود، ورفع اليدين مع تكبيرة الإحرام، وفي مواطن الرفع، وكالأدعية والأذكار المسنونة في الصلاة
(2)
وكالتلبية في الحج، والمبيت بمنى ليلة التاسع، وكاستلام الحجر الأسود وتقبيله، واستلام الركن اليماني في الطواف، والطهارة في السعي والدعاء فيه
(3)
وغير ذلك من السنن في العبادات وهي كثيرة ويطول التفصيل فيها.
فالمتابعة في الإتيان بالسنن في العبادات، مما يكمل به العمل ويفضل على غيره من الأعمال التي لم تتحقق فيها السنن فالوضوء المستوفي السنن، أفضل من الوضوء الذي لم تتحقق فيه وكذا القول في الصلاة، والصوم، والحج، وسائر العبادات، ما تحققت فيه السنن منها أفضل من الذي لم تتحقق فيه.
وقد دل على ذلك كثير من الأدلة فمن ذلك حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه: «أنه دعا بإناء فافرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال صلى الله عليه وسلم: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه» .
(4)
(1)
انظر العمدة مع شرحه العدة لبهاء الدين المقدسي (1/ 29 - 30)، وزاد المستقنع لشرف الدين أبي النجا ص:(5).
(2)
انظر الإقناع لشرف الدين أبي النجا (1/ 205 - 207)، والمعتمد في فقه الإمام أحمد (1/ 131 - 139).
(3)
انظر العمدة مع شرحه العدة (1/ 255)، والمغني لابن قدامة (5/ 227 - 228، 246، 259).
(4)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح (1/ 259)، ح (159)، وأخرجه مسلم في صحيحه (1/ 204) ح (226).
فدل هذا الحديث على حصول هذا الثواب العظيم، لمن توضأ نحو وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور، وصلى الصلاة الموصوفة في الحديث، ومعلوم أن الوضوء المذكور متضمن لبعض السنن التي ليست من فروض الوضوء، كالغسلتين الثانية، والثالثة، والإسباغ في الوضوء، وكذلك الصلاة المذكورة، وهي التي لا يحدث المصلى فيها نفسه، فهي درجة عالية من الخشوع، وحضور القلب، وتصح الصلاة الواجبة بدون هذا، ومع وجود حديث النفس، وإن كان ينقص ذلك من ثوابها. نقل ابن بطال رحمه الله عن بعض أهل العلم:«وأما من وسوس له الشيطان، وحدث نفسه في صلاته بأشياء دون قصد منه لذلك، فإنه يرجى أن تقبل صلاته ولا تبطل، وتكون دون صلاة الذي لم يحدث نفسه» .
(1)
والمقصود هنا أن ذلك الثواب العظيم، لمن توضأ نحو الوضوء المذكور، وصلى الصلاة الموصوفة، حصل بسبب ما تحقق في هذين العملين من السنن الزائدة على الفرض ولهذا تميز الثواب بتميز العمل قال الإمام الطحاوي رحمه الله:«في هذه الأحاديث دليل أن المفترض من الوضوء هو مرة مرة، وما زاد على ذلك فهو لإصابة الفضل لا الفرض» .
(2)
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: «والحديث إنما يقتضي ترتب ثواب مخصوص على عمل مخصوص، فمن حصل له ذلك العمل حصل له ذلك الثواب، ومن لا فلا، وليس ذلك من باب التكاليف حتى يلزم رفع العسر عنه» .
(3)
ومما يدل أيضا على فضل الأعمال باعتبار ما يصحبها من السنن ما أخرجه البخاري من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يغتسل رجل
(1)
شرح صحيح البخاري لابن بطال 1/ 250، وانظر إحكام الأحكام لابن دقيق 1/ 86.
(2)
نقله عنه ابن بطال في شرح صحيح البخاري 1/ 249.
(3)
إحكام الأحكام 1/ 86.
يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى».
(1)
فرتب الأجر، وهو مغفرة الذنوب إلى الجمعة الأخرى، على مجموع ما ذُكِر، قال ابن حجر في شرح الحديث:«وتبين بمجموع ما ذكرنا أن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة، مشروط بوجود جميع ما تقدم، من غسل وتنظيف، وتطيب، أو دهن، ولبس أحسن الثياب، والمشي بالسكينة، وترك التخطي، والتفرقة بين الاثنين، وترك الأذى، والتنفل والإنصات وترك اللغو» .
(2)
ومعلوم أن بعض ما ذكر هي من السنن لا الواجبات قطعاً، كالدهن والطيب، فإن العلماء مجمعون على أنهما غير واجبين، كما نقل الإجماع على ذلك ابن بطال نقلا عن الطبري والطحاوي.
(3)
وكذلك التنفل قبل الصلاة ظاهر عدم وجوبه، وأما الغسل فاختلف أهل العلم في وجوبه من عدمه، والذي عليه جمهور أهل العلم، أنه مندوب وليس بواجب.
(4)
وعلى كل حال فالثواب في الحديث قد ترتب على فعل الواجب، مع بعض المستحبات، فدلّ ذلك على أن الأعمال الواجبة المفترضة تشرف بما يقارنها من السنن والمستحبات، على ما جاء مجرداً منها، والأدلة على هذه المسألة كثيرة في الشرع وإنما ذكرت هنا ما يستدل به، والله أعلم.
والجانب الثاني: تنزيه العمل من الذنوب والمعاصي.
(1)
صحيح البخاري مع الفتح 2/ 370 ح 883.
(2)
فتح الباري 2/ 372.
(3)
انظر شرح صحيح البخاري لابن بطال 2/ 478، 483.
(4)
انظر المغني لابن قدامة 3/ 224 - 227، وشرح صحيح البخاري لابن بطال 2/ 477، وفتح الباري لابن حجر 2/ 361 - 364.
فالأعمال الصالحة يعظم أجرها بتنزيهها من الذنوب التي تنقص من أجرها إذا ما خالطتها وقد دلت على ذلك الأدلة.
(1)
فدلت هذه الآيات من سورة البقرة على تأثير الذنوب إذا صاحبت العمل في النقص من ثوابه، وأجره عند الله.
ففي الآية الأولى: أخبر أن الأجر عند الله يستحقه من خلت صدقته من المن والأذى، قال ابن جرير رحمه الله:«أوجب الأجر لمن كان غير مانٍّ، ولا مؤذٍ من أنفق عليه في سبيل الله»
(2)
فدلت الآية على فضل الصدقة السالمة من المنّ والأذى على التي صاحباها، دلالة بينة ظاهرة حيث رتب الأجر والمثوبة على الصدقة الخالية من المن والأذى دون تلك.
وفي الآية الثانية: يخبر الله تعالى أن {قول معروف} : من كلمة طيبة، ودعاء المسلم {ومغفرة}: من عفو عن ظلم، خير من صدقة يتبعها أذى
(3)
، فدلت الآية على أن العمل الصالح الخالي من الإثم وإن كان مفضولاً من حيث جنسه أفضلُ من العمل الصالح المصاحب للإثم وإن كان فاضلاً.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسير الآية: «ذكر الله أربع مراتب
(1)
سورة البقرة الآيات من 262 - 264.
(2)
تفسير الطبري 3/ 63.
(3)
انظر تفسير ابن كثير 1/ 693.
للإحسان: المرتبة العليا النفقة الصادرة عن نية صالحة، ولم يتبعها المنفق منا ولا أذى.
ثم يليها قول المعروف وهو الإحسان القولي، بجميع وجوهه الذي فيه سرور المسلم، والاعتذار من السائل إذا لم يوافق عنده شيئاً، وغير ذلك من أقوال المعروف.
والثالثة: الإحسان بالعفو والمغفرة، عمن أساء إليك بقول أو فعل، وهذان أفضل من الرابعة وخير منها، وهي التي يُتْبِعُهَا المتصدقُ الأذى للمعطي؛ لأنه كدّر إحسانه وفعل خيراً وشراً، فالخير المحض، وإن كان مفضولاً خير من الخير الذي يخالطه شر وإن كان فاضلاً».
(1)
وفي الآية الثالثة: نهى الله جلّ وعلا عباده عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى، وشبه هذا بحال من ينفق ما له مراءاة للناس، فدلت الآية على إبطال المن والأذى لأجر الصدقة بالكلية وإلى هذا ذهب جمهور المفسرين:
قال الطبري رحمه الله في تفسير الآية: «يقول لا تبطلوا أجور صدقاتكم بالمن والأذى، كما أبطل كفر الذي ينفق ماله»
(2)
وقال القرطبي: «عبر عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبطال، والمراد الصدقة التي يمن بها ويؤذي لا غيرها» .
(3)
وقال ابن كثير: «فأخبر أن الصدقة تبطل بما تبعها من المن والأذى، فما بقي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى» .
(4)
وبنحو هذا قال جمع من المفسرين المتأخرين في تفسيرهم للآية:
(5)
(1)
تفسير السعدي 1/ 157.
(2)
تفسير الطبري 3/ 65.
(3)
تفسير القرطبي 3/ 311.
(4)
تفسير ابن كثير 1/ 694.
(5)
انظر فتح القدير للشوكاني 1/ 285 وتفسير السعدي 1/ 158، وأضواء البيان للشيخ محمد الأمين 1/ 198.
ووجه الدلالة من هذه الآية لموضوعنا: أنه إذا ثبت تأثير هذه المعصية المخصوصة في إبطال أجر هذه الطاعة هنا وهي الصدقة أرشد ذلك إلى تأثير جنس المعصية، في جنس الطاعة في النقص من أجرها من باب أولى.
فدلت كل واحدة من الآيات الثلاث، على أثر تنزه الأعمال الصالحة من الذنوب والخطايا، على كمال أجرها وثوابها عند الله.
ومما جاء في هذا المعنى من السنة حديث أبي هريرة الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»
(1)
فدل الحديث على انتقاص أجر الصوم بقول الزور والعمل به، بل ظاهر الحديث يدل على بطلانه به
(2)
.
(3)
وقال ابن حجر: «واستدل به على أن هذه الأفعال تنقص الصوم» .
(4)
ونقل عن السبكي أن «مقتضى ذلك أن الصوم يكمل بالسلامة عنها، فإذا لم يسلم عنها نقص» .
(5)
وقال ابن رجب معللاً نقص الصيام بذلك «وسر هذا أن التقرب إلى الله تعالى
(1)
صحيح البخاري مع الفتح 4/ 116 ح (1903).
(2)
وبه قال بعض أهل العلم وذهبوا إلى أن الصيام يبطل بما ذكر في الحديث، كما نقل هذا ابن حجر في الفتح 4/ 117، عن ابن المنير وابن العربي رحمها الله.
(3)
شرح صحيح البخاري لابن بطال 4/ 23.
(4)
فتح الباري 4/ 117.
(5)
المصدر نفسه 4/ 117.
بترك المباحات، لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات، ثم تقرب بترك المباحات، كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل، وإن كان صومه مجزئاً عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته».
(1)
ومما ورد صريحاً في السنة في بيان تفاضل الأعمال الصالحة بسبب تنزهها من الذنوب، ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج فلم يرفث ولم يفسق
(2)
رجع كيوم ولدته أمه».
(3)
فدل الحديث على فضل الحج الذي خلا من الرفث والفسوق على غيره، وأن هذا الثواب إنما استحقه من سلم حجه من ذلك.
قال ابن رجب رحمه الله: «مما يكمل به برّ الحج، اجتناب أفعال الإثم فيه من الرفث، والفسوق، والمعاصي» .
(4)
فتقرر بهذا أثر تنزه الأعمال الصالحة، من مخالطة الذنوب والمعاصي في كمال أجرها، وزيادة فضلها عند الله، وانتقاص ذلك بوجودها، كما دلت على ذلك النصوص وتقريرات أهل العلم.
إذا ثبت هذا فهل تبطل المعاصي أجر العمل إذا خالطته، أم تنقص من ثوابه فقط.
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية اختلاف العلماء في ذلك على قولين: فمن قائل بالإبطال، ومن قائل بعدمه.
(1)
لطائف المعارف 292.
(2)
الرفث: هو الجماع في قول الجمهور وقيل: هو اسم للفحش من القول. والفسق: هو المعاصي والسيئات. انظر: فتح الباري لابن حجر 3/ 382.
(3)
صحيح البخاري مع الفتح 3/ 382 ح (1521) وصحيح مسلم 2/ 984 ح: (1350).
(4)
لطائف المعارف 417.
قال رحمه الله: «فإذا كانت السيئات لا تحبط جميع الحسنات، فهل تحبط بقدرها، وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر فيه قولان للمنتسبين إلى السنة، منهم من ينكره، ومنهم من يثبته، كما دلت عليه النصوص مثل قوله تعالى:{لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ واَلأَذَى} .
(1)
الآية، دل على أن هذه السيئة تبطل الصدقة، وضرب مثله بالمرائي، وقالت عائشة:(أبلغي زيداً أن جهاده بطل)
(2)
الحديث».
(3)
وذكر في موضع آخر أن القول بالإبطال هو قول الأكثر من أهل السنة:
قال: «الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات، ولكن قد تحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة» .
(4)
وحكى ابن القيم الإجماع على هذا القول في معرض حديثه عن التوبة قال: «فإذا استقرت قاعدة الشريعة، أن من السيئات ما يحبط الحسنات بالإجماع، ومنها ما يحبطها بالنص، جاز أن تحبط سيئة المعاودة حسنة التوبة» .
(5)
وذهب ابن رجب إلى التفصيل، في هذا: فذكر أن العمل يبطل بارتكاب ما نهى عنه فيه لخصوصه دون ارتكاب ما نهى عنه لغير معنى يختص به قال: وهذا هو أصل جمهور العلماء.
(6)
الجانب الثالث: إيقاع العبادات في أفضل أوقاتها.
فقد جاءت الشريعة بتحديد أوقات كثير من العبادات، وهذه الأوقات إما أوقات وجوب لا تصح العبادة إلا فيها، وإما أوقات فضيلة تشرف العبادة فيها
(1)
سورة البقرة: (264).
(2)
أخرجه الدارقطني 3/ 52.
(3)
مجموع الفتاوى 10/ 638.
(4)
نقلا عن ابن مفلح في الآداب الشرعية 1/ 124.
(5)
مدارج السالكين 1/ 278.
(6)
انظر لطائف المعارف 292.
على ما أُدى في غيرها من الأوقات.
والحديث هنا هو عن أوقات الفضيلة التي يشرف بها العمل ويكمل، دون أوقات الوجوب، فالحديث عنها متعلق بالدرجة الأولى، من درجات المتابعة الخاصة وهي المتابعة الواجبة، فإن تأدية العمل في وقته الواجب واجب مندرج تحت تلك المرتبة لا ما نحن بصدده هنا، من عرض جوانب المتابعة المستحبة الكاملة.
إذا تقرر هذا فينبغي أن يعلم أن الأوقات الفاضلة للأعمال في الشرع على قسمين بحسب انقسام الأعمال إلى فرائض ونوافل:
فالقسم الأول: أوقات فضيلة للفرائض:
وهي الأوقات الفاضلة لتأدية الفرائض، كالأوقات الفاضلة لتأدية الصلوات الخمس، وهي أوائل الأوقات من أوقات الصلوات، إلا العشاء فتأخيرها أفضل
(1)
، وكذا الظهر في شدة الحر فيستحب تأخيرها والإبراد بها، كما هو ثابت في السنة.
(2)
وكالوقت الفاضل للإمساك والفطر في الصوم، وهو تأخير الإمساك وتعجيل الفطر، إلى غير ذلك من الأوقات الفاضلة لأداء الواجبات، مما هو مفصل في الفقه، فتأدية الواجبات في أوقاتها الفاضلة أكمل من تأديتها في غيرها، وبذلك يعظم أجرها وثوابها عند الله، كما دلت على ذلك النصوص.
فعن عبد الله بن مسعود قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل: قال: «الصلاة على ميقاتها
…
».
(3)
الحديث
فقد فهم بعض أهل العلم من قوله صلى الله عليه وسلم (على ميقاتها) أن المقصود من ذلك
(1)
انظر المغني لابن قدامة 2/ 32 - 45، وإحكام الأحكام لابن دقيق العيد 1/ 165 - 167.
(2)
انظر الحديث في صحيح البخاري مع الفتح 2/ 15 ح (533) وصحيح مسلم 1/ 430 ح (615) وانظر أقوال أهل العلم في فتح الباري 2/ 16.
(3)
متفق عليه وقد تقدم تخريحه ص (15)
أول الوقت، قال ابن بطال:«فيه أن البدار إلى الصلاة في أول أوقاتها أفضل من التراخي فيها لأنه إنما اشترط فيها؛ أن تكون أحب الأعمال إلى الله إذا أقيمت لوقتها المستحب الفاضل»
(1)
وقال بعض العلماء في توجيه الاستدلال بهذا الحديث على ماتقدم: «إن إخراجها عن وقتها محرم، ولفظ أحب يقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت» .
(2)
ومن الأدلة الظاهرة على فضيلة أداء الصلوات في أول الوقت، أداء النبي صلى الله عليه وسلم لها في أول الوقت كما هو ثابت في السنة.
فعن جابر بن عبد الله قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عَّجَّل، وإذا رآهم أبطئوا أَخَّر والصبح كانوا أو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس» .
(3)
وأما زكاة الفطر فدل على فضيلة أدائها قبل صلاة العيد، ما أخرجه أبو داود وغيره، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين؛ فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصّدقات»
(4)
فدل الحديث على فضل تأدية زكاة الفطر قبل صلاة العيد، وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم، من غير خلاف يذكر، لنص الحديث على هذا، وإن تنازعوا في إخراجها بعد صلاة العيد هل هو مجزئ مع ترك الفضيلة أم لا يجزئ.
(5)
(1)
شرح صحيح البخاري لابن بطال 2/ 157.
(2)
ذكره ابن حجر في الفتح 2/ 9.
(3)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح 2/ 41 ح (560) ومسلم 1/ 446 ح (646).
(4)
أخرجه أبو داود 2/ 262 ح (1609) وابن ماجه 1/ 585 ح (1827) والحاكم 1/ 568 ح (1488) وقال «صحح على شرط البخاري» ووافقه الذهبي، وحسن الحديث الألباني في صحيح ابن ماجه 1/ 306 ح (1480).
(5)
انظر المغني لابن قدامة 4/ 297 - 298، وشرح صحيح مسلم للنووي 7/ 63 وزاد المعاد لابن القيم 2/ 21 - 22، وفتح الباري لابن حجر 3/ 375.
وأما تأخير السحور فدل على فضله حديث أنس عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: «تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة: قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية» .
(1)
قال ابن بطال في شرح الحديث قال مهلب: «هذا يدل على تأخير السحور ليتقوى به على الصوم» .
(2)
وبه استدل البغوي على فضل تأخير السحور قال: «واستحب أهل العلم تأخير السحور .. » .
(3)
ثم ساق الحديث.
وأما فضل تعجيل الفطر فدل عليه حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» .
(4)
قال البغوي رحمه الله: بعد إيراده الحديث: «والعمل على هذا عند أهل العلم، استحبوا تعجيل الفطر، بعدما تيقن غروب الشمس» .
(5)
فدل الحديث على استحباب تأخير السحور وتعجيل الفطر.
وقد نص على هذا الأئمة المحققون، وأنه هو الذي عليه هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته الثابتة:
قال عبد الكريم بن أبي مخارق: «من عمل النبوة تعجيل الفطر، والاستيناء بالسحور» .
(6)
وقال ابن عبد البر: «من السنة تعجيل الفطر، وتأخير السحور» .
(7)
(1)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح 4/ 138 ح (1921) ومسلم 2/ 771 ح (1997).
(2)
شرح صحيح البخاري 4/ 44.
(3)
شرح السنة 3/ 468.
(4)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح 4/ 198 ح (1957) ومسلم 2/ 771 ح (1098).
(5)
شرح السنة 3/ 468.
(6)
ذكره البغوي في شرح السنة 3/ 468.
(7)
التمهيد 21/ 97.
وقال ابن القيم في وصف هدي النبي صلى الله عليه وسلم: «وكان يعجل الفطر، ويحض عليه، ويتسحر ويحث على السحور ويؤخره، ويرغب في تأخيره» .
(1)
وإذا ثبت هذا تبين فضل الصيام الذي تحقق فيه تأخير السحور، وتعجيل الفطر، على الصيام الذي لم يتحقق فيه ذلك.
وبهذا يظهر فضل تأدية العبادات الواجبة في أوقاتها الفاضلة، على تأديتها في غير تلك الأوقات.
ولهذا عني الفقهاء رحمهم الله في مباحث مواقيت العبادات ببيان أوقات الفضيلة والإجزاء للعبادات، تنبيهاً لهذا الأمر، وترغيباً للناس في إدراك الفضل.
قال ابن قدامة رحمه الله: «الأوقات ثلاثة أضرب: وقت فضيلة: وجواز، وضرورة» .
(2)
وقال ابن رشد: «اتفق المسلمون على أن للصلوات أوقاتاً خمسة وهي شرط في صحة الصلاة وأن فيها أوقات فضيلة وأوقات توسعة» .
(3)
وقال النووي في شرح حديث بريدة
(4)
«وفيه بيان أن للصلاة وقت فضيلة ووقت اختيار» .
(5)
وكلامهم في هذا يطول جداً وإنما ذكرت هنا شيئاً يستأنس به.
(1)
زاد المعاد 2/ 50.
(2)
المغني 2/ 32.
(3)
بداية المجتهد 1/ 92.
(4)
حديث طويل أخرجه مسلم 1/ 428 ح (613) وفيه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة فقال له (صل معنا هذين): [يعني اليومين] ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات في اليوم الأول أوائل أوقاتها وفي اليوم الثاني في أواخر أوقاتها ثم قال: (وقت صلاتكم بين ما رأيتم).
(5)
شرح صحيح مسلم 5/ 114.
القسم الثاني: أوقات فضيلة للنوافل.
ومبنى هذا القسم أن نوافل العبادات أجناس متعددة، كالصلاة، والصوم، والصدقة، والقراءة، والذكر، والدعاء، إلى غير ذلك من أنواع النوافل، ولكل جنس من هذه الأجناس وقت فضيلة يفضل فيه هذا العمل على غيره من الأعمال.
وبيان هذا على وجه التفصيل أن نوافل العبادات بحسب ما تؤدى فيه من الأوقات على نوعين:
النوع الأول: ما كان مقيداً بوقت مخصوص، أو حال مخصوصة.
ومن ذلك: قيام الليل، وصلاة الوتر، فهما مقيدان بما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر على المشهور
(1)
والسنن الراتبة التي تؤدى قبل الصلوات أو بعدها مقيدة بأوقاتها المخصوصة.
(2)
وصلاة الضحى مقيدة بوقتها، وهو من خروج وقت النهي إلى قبيل الزوال.
(3)
وأذكار الصباح والمساء مقيدة بوقتي الصباح والمساء، منها ما هو مقيد بطلوع الشمس وغروبها، ومنها ما هو مقيد بعدم انصرافه وثني قدميه من صلاة الصبح والمغرب
(4)
، وما عدا ذلك من النوافل المقيدة بأوقات مخصوصة.
وكذلك ما كان مقيداً بحال مخصوصة كأذكار النوم، والأكل والشرب، وأذكار اللباس، والخلاء، ودخول المنزل والمسجد والخروج منهما، وأذكار
(1)
انظر مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي ص 277.
(2)
انظر المغني لابن قدامة 2/ 544.
(3)
انظر زاد المستقنع لشرف الدين أبي النجا ص 15.
(4)
انظر الأذكار للنووي ص: 70 - 82 والكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية ص: 30 - 36، وصحيح الترغيب والترهيب للألباني 1/ 260 - 263.
الوضوء ومتابعة المؤذن، وأذكار ركوب الدابة، وأذكار السفر، وتشميت العاطس، والسلام على المسلمين والرد عليهم، إلى غير ذلك من الأذكار المخصوصة مما هو مبسوط في كتب الأذكار.
(1)
وأفضل الأعمال في هذه الأوقات والأحوال هو الاشتغال بالمشروع فيها، دون الاشتغال بغيرها من الأعمال المطلقة التي لا تقيد بوقت، أو حال. وذلك لأن العمل المقيد بوقت يفوت بخروج وقته، وانقضاء أجله، بخلاف الأعمال المطلقة فيمكن أداؤها فيما عدا ذلك من الأوقات. قال الإمام ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر اختلاف الناس في المفاضلة بين الأعمال:
«الصنف الرابع: قالوا: إن أفضل العبادة: العمل في مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته» .
(2)
وقال أيضا: «فالفضل في كل وقت: إثبات مرضاة الله في ذلك الوقت والحال.
والاستقلال بواجب ذلك الوقت، ووظيفته، ومقتضاه، وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد».
(3)
النوع الثاني: ما ورد الترغيب في أدائه في بعض الأوقات على سبيل الاستحباب، ويدخل في هذا بعض الأعمال الصالحة التي جاءت النصوص بالترغيب فيها في بعض الأوقات، وإن كانت مشروعة في غير تلك الأوقات، لكن أداءها في الأوقات المرغب فيها أفضل.
ومن ذلك الصلاة المطلقة فهي في الليل أفضل منها في النهار، لقوله تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً}
(4)
.
(1)
انظر تفاصيل ذلك في كتابي: الأذكار للنووي، والكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(2)
مدارج السالكين 1/ 88.
(3)
المصدر نفسه 1/ 89.
(4)
المزمل الآية (9).
قال الضحاك في قوله: {أَشَدُّ وَطْئاً} : «قراءة القرآن بالليل أثبت منه بالنهار وأشد مواطأة بالليل منه بالنهار» .
(1)
وقال الطبري: «ناشئة الليل أشد ثباتاً من النهار وأثبت في القلب، وذلك أن العمل بالليل أثبت منه بالنهار» .
(2)
وقال ابن كثير: «أي أجمع للخاطر في أداء القراءة، وتفهمها، من قيام النهار، لأنه وقت انتشار الناس، ولغط الأصوات، وأوقات المعاش» .
(3)
وقد دلت على هذا أقوال الصحابة رضي الله عنهم:
فعن ابن مسعود رضي الله عنه: «فضل صلاة الليل على صلاة النهار، كفضل صدقة السر، على صدقة العلانية» .
(4)
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: «ركعة بالليل، خير من عشر بالنهار» .
(5)
قال ابن رجب رحمه الله: «وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار، لأنها أبلغ في الإسرار، وأقرب إلى الإخلاص» .
(6)
ومما يدخل في هذا الباب الاستغفار في السحر، قال تعالى:{وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}
(7)
، وقال تعالى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار} .
(8)
قال ابن كثير رحمه الله «دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار. وقد قيل: إن يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}
(9)
، أنه أخرهم إلى
(1)
تفسير الطبري 12/ 284.
(2)
المصدر نفسه 12/ 283.
(3)
تفسير ابن كثير 8/ 252.
(4)
أخرجه ابن المبارك في الزهد 1/ 119 وقال المحقق: «موقوف بسند صحيح» أخرجه أبو نعيم في الحلية 7/ 238، وأبو نصر المروزي في قيام الليل. (مختصر قيام الليل للمقريزي ص 63).
(5)
أخرجه المروزي في قيام الليل (مختصر قيام لليل للمقريزي ص 63).
(6)
لطائف المعارف ص 87.
(7)
الذريات: (18).
(8)
آل عمران من الآية (17).
(9)
يوسف من الآية (98).
وقت السحر».
(1)
ومنه الذكر طرفي النهار قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}
(2)
، وقال عز وجل:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ}
(3)
وقال جلا وعلا: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}
(4)
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأخرج الإمام أبو داود من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس، أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة» .
(5)
فدلت النصوص على أن هذين الوقتين هما أفضل الأوقات للذكر وبهذا صرح أهل العلم:
قال الإمام النووي: «اعلم أن أشرف أوقات الذكر في النهار الذكر بعد صلاة الصبح» .
(6)
(7)
ومما ورد الترغيب فيه في بعض الأوقات الدعاء. فإنه يفضل في أوقات إجابة
(1)
تفسير ابن كثير (2/ 23).
(2)
الأحزاب الآية (41 - 42).
(3)
غافر الآية (55).
(4)
طه الآية (130).
(5)
سنن أبي دواد 4/ 37 - 74 ح (3667) وقد حسن الحديث الألباني في صحيح الترغيب 1/ 260.
(6)
الأذكار ص 70.
(7)
جامع العلوم والحكم 2/ 379، 380. وانظر المحجة في سير الدلجة ص 61، 62.
الدعاء، ومن ذلك: وقت السحر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حتى يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» .
(1)
وساعة الاستجابة من يوم الجمعة لقول صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة «فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو يصلي، يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه»
(2)
، وقد اختلف فيها على أكثر من أربعين قولاً
(3)
أصحها قولان: الأول: هي ما بين جلوس الإمام على المنبر، إلى الفراغ من الصلاة. الثاني: هي ما بعد صلاة العصر، إلى الغروب.
(4)
ويوم عرفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم «خير الدعاء دعاء يوم عرفة
…
».
(5)
قال ابن عبد البر: «وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره. وفي الحديث أيضاً دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب كله في الأغلب» .
(6)
وما بين الأذان والإقامة لقوله صلى الله عليه وسلم «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة» .
(7)
ومما جاء الترغيب فيه أيضاً في بعض الأوقات صيام بعض الأيام: كيوم
(1)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح 3/ 29 ح (1145) ومسلم 1/ 521 ح (758).
(2)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح 1/ 415 ح (935) ومسلم 1/ 2/ 583 ح (852).
(3)
ذكرها بن حجر في الفتح 2/ 416 - 421 وأوصلها إلى (ثلاثة وأربعين) قولا.
(4)
انظر شرح صحيح مسلم للنووي 6/ 140 - 141 وزاد المعاد لابن القيم 1/ 394 وفتح الباري لابن حجر 2/ 421 - 422.
(5)
أخرجه الترمذي 5/ 572 ح (3585) وحسنه الألباني: مشكاة المصابيح 2/ 797.
(6)
التمهيد 6/ 41.
(7)
أخرجه أحمد 20/ 41 ح (12584) وأبو داود 1/ 358، والترمذي 1/ 415 وحسنه وصححه الألباني في إرواء الغليل 1/ 261 - 262، ح (244).
عرفة، وعاشوراء، والأيام البيض من كل شهر، والاثنين والخميس من كل أسبوع، وصيام ستة أيام من شوال، كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
وكذلك صيام محرم وقد ثبت أن صيامه أفضل الصيام بعد رمضان، لما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم
…
».
(2)
(3)
ومما رغب فيه من الأعمال أيضاً في بعض الأوقات العمرة في رمضان لما أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سنان الأنصاري: «عمرة في رمضان تقضي حجة معي» .
(4)
وفي رواية: «تعدل حجة» .
(5)
فالتقرب إلى الله بهذه الأعمال في أوقاتها الفاضلة أفضل من التقرب بها في غيرها من الأوقات، وإن كان المتقرب بها في غير أوقاتها الفاضلة مأجور على عمله، لم يخرج عن السنة، لأن هذه العبادات مطلقة، بخلاف القسم الأول فإن العبادات فيه مقيدة بأوقات مخصوصة لا تخرج عن وقتها إلا لعذر، فتؤدى على سبيل القضاء، كقضاء صلاة الليل والوتر في النهار، لمن عرض له عارض في الليل من نوم أو مرض، فينبغي التنبه لهذا الفرق بين القسمين.
(1)
انظر الأحاديث في ذلك في الصفحات: 156 - 161، من هذا الكتاب.
(2)
صحيح مسلم 2/ 821 ح (1163).
(3)
لطائف المعارف ص 77.
(4)
صحيح البخاري مع الفتح 4/ 72 ح (1863) ومسلم 2/ 917، 918.
(5)
أخرجها البخاري، الصحيح مع الفتح 3/ 603 ح (1782) ومسلم 2/ 917 ح (1206).
ثم هاهنا مسألة متعلقة بهذا القسم، وهي: هل الأفضل في هذه الأوقات، الاشتغال بهذه الأعمال واستغراق الوقت فيها، وتقديمها على غيرها من الأعمال الأخرى التي قد تكون أفضل منها باعتبار الجنس؟ أما أن الأفضل هو الاشتغال بما هو أفضل منها باعتبار الجنس؟.
الذي يظهر أن الأعمال المذكورة وأوقاتها المرغب فيها ليست على باب واحد بل تتنزل على عدة صور:
الصورة الأولى: أن لا يتعارض العمل المرغب فيه، ولا يضيق وقته الفاضل عن عمل آخر:
مثل الصيام فإنه لا يتعارض مع عمل آخر من صلاة، وقراءة، وذكر، وغيرها من أعمال البر، ولا يضيق وقته وهو مدة النهار، عن الجمع بين تلك الأعمال. ومثل العمرة في رمضان، فإنه يمكن الجمع بين تأديتها وبين أعمال البر الأخرى من قراءة وذكر وأمر بمعروف ونهي عن منكر، كما أن وقتها الفاضل وهو طوال شهر رمضان لا يضيق عن التقرب إلى الله بغيرها من أعمال البر.
وفي مثل هذه الصورة لا شك أن الجمع بين هذه الأعمال أفضل من الاقتصار على العمل الفاضل في هذا الوقت، بل جاء الترغيب في ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم:
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة».
(1)
وهذا في حق من استطاع الجمع بين هذه الأعمال، أما من عجز عن ذلك ولم
(1)
صحيح مسلم 4/ 1857 ح (1028).
يقدر إلا على بعضها أو أحدها، فحكمه حكم من تعارض عنده العملان، على ما سيأتي بيانه في الصورة الثانية:
الصورة الثانية: أن يتعارض العمل المرغب فيه، ويضيق وقته عن عمل آخر، مثل الذكر طرفي النهار، وعلى وجه الخصوص ما رُغب فيه قبل الشروق والغروب، فإن الذكر يتعارض مع أعمال اللسان الأخرى كقراءة، ودعاء، وتعليم، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر باللسان، كما أن الانشغال بغيره من أعمال الجوارح، من اتباع جنازة، وعيادة مريض، وقضاء حوائج المسلمين مظنة النقص من كماله لانشغال القلب بغيره، وإن كان اللسان ذاكراً. وكذا الدعاء في ساعة الجمعة، خصوصاً عند من يرى أنها ما بين جلوس الإمام على المنبر حتى ينصرف، فالقول فيها وفي وقتها، كالقول في الذكر ووقته بل إن وقتها أضيق كما لا يخفى.
ففي مثل هذه الصورة لابد من الترجيح بين الأعمال، والاشتغال بما هو أفضل. ثم ينظر هل يقدم العمل المرغب فيه في هذا الوقت، كالذكر، والدعاء، أم يقدم الأفضل باعتبار الجنس كالقراءة مثلاً؟.
(1)
قلت: وهذا هو الظاهر من السنة، فإن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأذكار في طرفي النهار، مما كان يقوله ويرغب فيه شيء كثير، وهذا بلا شك يستغرق وقتاً من أول النهار وآخره، والانشغال بالقراءة أو غيرها يقطع عنه.
(1)
جامع العلوم والحكم 2/ 380، 381.
وبهذا يظهر أن الاشتغال بوظائف الأوقات مقدم على غيره، وإن كان الغير أفضل باعتبار الجنس.
الصورة الثالثة: أن يتعارض العمل المرغب فيه مع عمل آخر، ولا يضيق وقته الفاضل عن غيره، مثل الصلاة فإنها تتعارض مع غيرها من الأعمال، فلا يمكن الجمع بينها وبين عمل آخر في وقت واحد، وإن كان الوقت الفاضل لأدائها، وهو الليل لا يضيق عن غيرها، بل يبقى متسع من الوقت في التقرب إلى الله بغيرها من قراءة، وذكر، واستغفار، وتعلم، وتعليم، وقضاء حوائج المسلمين.
وهذه الصورة تأخذ حكم الصورة الأولى، في أن الأفضل هو الاشتغال بما أمكن من أعمال الطاعات مع تأدية العمل المفضل في هذا الوقت، ما دام الجمع ممكناً.
وهذا هو الموافق لهدي النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء الله فقد كان يقوم من الليل ما شاء. ولربما عاد أهل البقيع، واستغفر لهم في بعض الليالي، كما في حديث عائشة وقصة خروجه من بيتها ليلاً، وفي رواية: أنه يفعل ذلك في كل ليلة يبيت عندها
(1)
، كما أنه كان أحياناً يسمر مع أبي بكر وعمر في بعض أمور المسلمين.
(2)
وبهذا العرض المفصل يظهر فضل إيقاع العبادات في أوقاتها الفاضلة، على ما تم أداؤه في غيرها من الأوقات الأخرى، وبمراعاة هذا الجانب مع الجانبين السابقين وهما: المحافظة على السنن والمستحبات المشروعة في العمل، وتنزيه العمل في العبادات من الذنوب والمعاصي تتحقق المتابعة في كمال العمل.
ومن خلال هذا كله تتبين حقيقة المتابعة الخاصة بدرجتيها:
- درجة المتابعة الواجبة المؤثر في قبول العمل.
(1)
أخرجهما مسلم في صحيحه 2/ 669 - 771، ح (974).
(2)
أخرج الحديث الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه 1/ 315، وقال:«حديث حسن» .
- ودرجة المتابعة الكاملة المستحبة المؤثرة في كمال العمل وفضله.
على ما تم عرضه وبيانه من خلال النصوص وكلام أهل العلم في ذلك.
وأما المتابعة العامة:
فهي المتابعة الكاملة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم العام في كل أحواله، وبابها واسع جداً يصعب في هذا المقام حصره، وحقيقتها امتثال الشرع كله، ولا سبيل لتحقيقها إلا بكمال الفقه في الدين، وقوة العزيمة على العمل، مع توفيق الله للعبد وإعانته، وليس لمثلي من أهل التفريط والنقص، الحديث عن هذه الدرجة العالية الرفيعة، لولا أن البحث قادني إليها، ولذا فإني أذكر الأصول العامة التي عليها مدار هذه الدرجة بحسب ما وقفت عليه من النصوص، وكلام أهل العلم فيها، وأما تفاصيل جزئياتها: فالمرجع فيه العلماء العاملون، والفقهاء الراسخون، والعباد المثابرون الذين ذاقوا حلاوتها، ونقلهم الله إلى أعتاب مرتبتها.
فأقول مستعيناً بالله إن مدار هذه الدرجة على عدة أصول:
الأصل الأول: المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في الشمول في العبادة، بحيث لا يشتغل بنوع دون آخر، بل يجمع بين كل أنواع العبادات، ويضرب بسهم مع كل طائفة من أصحاب الطاعات.
وجماع ذلك التقرب إلى الله تعالى بكل شعب الإيمان القلبية، والعملية، والقولية، وهي بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.
(1)
قال ابن القيم رحمه الله في وصف حال المتعبدين التعبد المطلق: «وصاحب
(1)
انظر الحديث في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا 1/ 63، بلفظ «الإيمان بضع وسبعون شعبة» وفي رواية «بضع وسبعون أو بضع وستون» وفي صحيح البخاري مع الفتح 1/ 51 بلفظ (بضع وستون
…
).
التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها، فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة، عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبه في السير، حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم، فهذا هو العبد المطلق
…
».
(1)
وقد ثبت في فضل التقرب إلى الله بجمع من أنواع البر، أنهم يدعون من أبواب الجنة كلها، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أنفق زوجين من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان.
فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟ وقال: هل يدعى منها كلها أحدٌ يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر».
(2)
والأصل الثاني: المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في المداومة على العمل قدر الطاقة.
فعن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: كيف كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وهل كان يخص شيئاً من الأيام؟ قالت:«كان عمله ديمة. وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع» .
(3)
(1)
مدارج السالكين 1/ 89 - 90.
(2)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح 7/ 19 ح (3666) ومسلم 2/ 711 ح (1027).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 541 ح (783).
وعنها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»
(1)
وسيأتي بسط الحديث في هذا الباب وبيان حدوده وأثره في التفاضل في العمل، في الفصل القادم إن شاء الله،
(2)
وإنما القصد هنا التنبيه على أن المداومة على العمل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي تتحقق به كمال المتابعة له في العمل.
الأصل الثالث: المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في العمل على وجه السداد والاقتصاد والتيسير واجتناب ما كان منه على وجه التكلف، والاجتهاد والتعسير.
(3)
جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» .
(4)
فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الرغبة عن سنته، في الاقتصاد في العبادة، وبيَّن أن هديه في التعبد أكمل وأفضل من سلوك طريق الرهبنة والتشدد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة، فيفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة، وإعفاف النفس وتكثير النسل» .
(5)
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 541.
(2)
انظر ص: 101 وما بعدها.
(3)
انظر المحجة في سير الدلجة لابن رجب ص 46.
(4)
صحيح البخاري مع الفتح 9/ 104 ح (5063) وصحيح مسلم 2/ 1020 ح (1401).
(5)
فتح الباري 9/ 105.
وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الدين يسر ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» .
(1)
والنصوص في هذا الأصل، وأقوال العلماء في تقريره كثيرة، وسيأتي عرضها مفصلة في فصل مستقل إن شاء الله.
(2)
الأصل الرابع: المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في الموازنة بين الحقوق بحيث لا يشتغل بحق على حساب آخر، بل يقوم بتأدية الحقوق كلها، وإعطاء كل ذي حق حقه.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: «إن لجسدك عليك حقاً وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزورك
(3)
عليك حقاً وإن لزوجك عليك حقاً».
(4)
وقال سلمان لأبي الدرداء رضي الله عنهما «إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه» . قال النبي صلى الله عليه وسلم «صدق سلمان» .
(5)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مع عظم قيامه بحق ربه، وانشغاله بأعباء الرسالة لم يشغله ذلك عن تأديته لحقوق الخلق ومجاملتهم وحسن صحبتهم.
قال جرير بن عبد الله: «ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم» .
(6)
(1)
صحيح البخاري الفتح 1/ 93 ح (39).
(2)
انظر الفصل السادس من هذا الكتاب ص: 115.
(3)
تقدم بيان معناه ص: 3.
(4)
صحيح البخاري مع الفتح 10/ 531 ح (6134) وصحيح ومسلم 2/ 813.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه، الصحيح مع الفتح 10/ 534 ح (6139).
(6)
ذكره القاضي عياض في الشفاء 1/ 157.
وعن عائشة رضي الله عنها: «ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دعاه أحد من أصحابه، ولا أهل بيته إلا قال: لبيك» .
(1)
(2)
فالتأسي به صلى الله عليه وسلم في تأدية الحقوق سواء ما يتعلق منها بحق الله، أو بحقوق الخلق، مما تكمل به المتابعة له في هديه وعبادته، ويشرف به العبد عند ربه.
فهذه بعض الأوجه التي تحصل بها المتابعة العامة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ولست أزعم حصرها في هذه الأوجه وإنما هذه إشارة لأبرز ملامحها.
والمرجع في تفاصيل جزئيات هذه الدرجة العالية، للأئمة الراسخين والعلماء المحققين الذي سبروا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأبواب وضبطوا هديه في كل الأحوال، وامتثلوا ذلك في الأقوال والأعمال، فاجتمع لهم في الحديث عنها رسوخ القدم في العلم بها، وطول التجربة في ممارستها.
وبهذا العرض المفصل تتبين حقيقة المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان درجاتها، وأثرها في تفاضل الأعمال وبه يتحقق المقصود من عقد هذا الفصل، فلله الحمد والفضل.
(1)
الشفاء للقاضي عياض 1/ 157.
(2)
المصدر نفسه.
الفصل الخامس تفاضل الأعمال باعتبار المداومة عليها
من أسباب التفاضل بين الأعمال المداومة على العمل ولزومه، فإن العمل الدائم، وإن كان قليلا، يفضل العمل المنقطع، وإن كان كثيرا.
وبذلك جاءت الأحاديث الصحيحة.
أخرج الإمام مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل» .
(1)
وعنها رضي الله عنها أن رسول الله سئل: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «أدومه وإن قل» .
(2)
وسئلت عائشة رضي الله عنها كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل كان يخص شيئا من الأيام؟ قالت: «كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع» .
(3)
قال القاضي عياض: «قولها: «كان عمله ديمة» أي دائم غير منقطع ومنه سمي المطر المتوالي ديمة؛ يعني أن ما عمل من خير لم يكن يقطعه، ويتركه بل يداوم عليه».
(4)
فدلت الأحاديث على تقرير هذا الأصل العظيم في السير إلى الله تعالى والتقرب إليه وهو أن أحب العمل إلى الله ما كان على وجه المداومة وإن كان قليلا، وأن هذا هو كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته، كما أخبرت بذلك أعرف
(1)
صحيح مسلم (1/ 541).
(2)
أخرجه مسلم (1/ 541).
(3)
أخرجه مسلم (1/ 541).
(4)
إكمال المعلم (3/ 148).
الناس به، وبعبادته، الصديقة بنت الصديق، رضي الله عنهما.
ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد أمته لهذا الأمر، ويحذرها من التكلف، والتعمق في العبادة مما لا تطيقه النفس؛ لأنه مظنة الانقطاع، وفوات لزوم المداومة، على ما أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصير وكان يُحَجِّره
(1)
من الليل فيصلي فيه، فجعل الناس يصلون بصلاته، ويبسطه بالنهار، فثابوا ذات ليلة فقال:«أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دُووِمَ عليه وإن قل» .
(2)
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة فقال: «من هذه»؟ فقلت: أمرأة لا تنام تصلي، قال: «عليكم من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يملُّ الله حتى تملوا» وكان أحب الدين إلى الله ما دام عليه صاحبه).
(3)
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشدد في العبادة لما يفضي من السأم والملالة ومن ثم الانقطاع عن العمل، وأرشد إلى الإقتصاد في العمل مع المداومة، ولذا جعل أهل العلم ضابط التعبد الحقيقي، ومقياس السير الصحيح إلى الله، ما كان على وجه المداومة في العمل.
قال القاضي عياض في معنى «عليكم من العمل ما تطيقون» أي ما لكم بالمداومة عليه طاقة».
(4)
وقال ابن رجب: «المراد بهذا الحديث: الإقتصاد في العمل والأخذ منه بما يتمكن صاحبه من المداومة عليه» .
(5)
(1)
أي يتخذه حجرة كما في رواية مسلم في صحيحه (1/ 540).
(2)
صحيح مسلم (1/ 540) ح: (782).
(3)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح (1/ 101) ح: (43)، ومسلم واللفظ له (1/ 542) ح:(785).
(4)
إكمال المعلم (3/ 147).
(5)
فتح الباري لابن رجب (1/ 165).
وقال ابن حجر: «قوله: عليكم بما تطيقون. أي: اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه» .
(1)
وقد دلت أقوال السلف على تقرير هذا المعنى، كما كان عليه هديهم في عبادتهم لربهم لما علموا في ذلك من الفضل وحصول رضا الرب عز وجل.
جاء في رواية مسلم من حديث عائشة السابق في خبر مجيء الصحابة للإقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في صلاتهم، قول الراوي بعد ذكر الحديث:«وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملا أثبتوه» .
(2)
وفي صحيح مسلم قال القاسم بن محمد: «وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته» .
(3)
وعن الحسن البصري رضي الله عنه أنه كان يقول: «يا قوم المداومة، المداومة فإن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت» .
(4)
وكان رحمه الله يقول: «إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوما على طاعة الله عز وجل فبغاك، وبغاك، فإذا رآك مداوما ملَّك ورفضك، وإذا رآك مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك» .
(5)
كما دلت على تقرير هذه المسألة وتأصيلها أقوال أهل العلم والتحقيق من شراح الحديث وغيرهم.
قال ابن حبان في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ياعبد الله لاتكن مثال فلان كان
(1)
فتح الباري لابن حجر (1/ 102).
(2)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة، ولعل هذا القول من قول عائشة أو أحد رواة الحديث.
(3)
صحيح مسلم (1/ 541).
(4)
ذكره ابن رجب في المحجة في سير الدلجة (ص: 71).
(5)
المصدر السابق (ص: 46).
يقوم الليل فترك
…
».
(1)
(2)
وقال ابن عبد البر في شرح حديث عائشة: (أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يداوم عليه صاحبه): «وفي هذا الحديث عندي دليل على أن قليل العمل إذا دام عليه صاحبه أزكى له» .
(3)
وقال النووي في شرح حديث «عليكم من العمل ما تطيقون
…
»: وفيه الحث على المداومة على العمل، وأن قليله الدائم، خير من كثير ينقطع».
(4)
وقال ابن رجب في رسالة المحجة: «وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث المشار إليها، في أول الجزء من رواية عائشة، وأبي هريرة رضي الله عنهما إلى أن أحب الأعمال إلى الله عز وجل شيئان:
أحدهما: ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلا، وهكذا كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل آله وأزواجه من بعده
…
والثاني: أن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير».
(5)
وقال ابن حجر في الحكمة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو عن مواصلة الصيام والقيام: «وفيه الحض على ملازمة العبادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مع كراهته له التشديد على نفسه حضه على الإقتصاد» .
(6)
(1)
أخرجه البخاري. انظر الصحيح مع الفتح (3/ 37) ح: (1152).
(2)
نقله ابن حجر في الفتح (3/ 38).
(3)
التمهيد (22/ 120).
(4)
شرح النووي على مسلم (6/ 71).
(5)
المحجة في سير الدلجة (ص: 4546).
(6)
فتح الباري (3/ 39).
فثبت بهذا العرض للنصوص، وأقوال السلف، وأهل العلم من بعدهم تفضيل العمل الدائم المستمر وإن قل، على العمل الكثير المنقطع. وهذا مما يتقرر به أن المداومة على العمل من أسباب التفاضل بين الأعمال فيفضل بها العمل على غيره وإن كان ذلك الغير أفضل من حيث الجنس أو أكثر من حيث الحجم وامتداد والوقت.
وقد اجتهد العلماء في استنباط الحكمة والعلة التي شرف بها العمل مع المداومة على غيره فذكروا في ذلك أقوالا كثيرة:
قال ابن الجوزي: «إنما أُحِبَّ الدائم لمعنيين:
أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، فهو متعرض للذم.
الثاني: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يوم وقتا ما كمن لازم يوما كاملا ثم انقطع».
(1)
وقال القرطبي: «وسبب ذلك أن التخفيف يكون معه الدوام والنشاط، فيكثر الثواب لتكرار العمل، وفراغ القلب، بخلاف الشاق منها؛ فإنه يكون معه التشويش والإنقطاع غالبا» .
(2)
(3)
وقال ابن رجب: «إن دوام العمل وإيصاله، ربما حصل للعبد به في عمله
(1)
ذكره ابن حجر في الفتح (1/ 103)، وقد بحثت عنه في مظانه من كتب ابن الجوزي فلم أجده.
(2)
المفهم (2/ 413).
(3)
شرح صحيح مسلم (6/ 71).
الماضي ما لا يحصل له فيه عند قطعه، فإن الله يحب مواصلة العمل ومداومته، ويجزي على دوامه ما لا يجزي المنقطع منه».
(1)
وقال أيضا: «فمن عمل عملا يقوى عليه بدنه في طول عمره في قوته وضعفه استقام سيره، ومن عمل ما لا يطيق فإنه قد يحدث له مرض يمنعه من العمل بالكلية، وقد يسأم ويضجر فيقطع العمل، فيصير كالمُنْبَتِّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى
(2)
».
(3)
وقال ابن حجر في الحكمة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشدد في العبادة: «إشارة إلى كراهة ذلك، خشية الفتور والملال على فاعله، لئلا ينقطع عن عبادة التزمها فيكون رجوعا عما بذل لربه من نفسه» .
(4)
وبعض هذه المعاني التي ذكرها العلماء متقاربة، وما اختلف فيه منها فلا يبعد أنه مقصود كله لله في تشريعه، فلله تعالى الحكمة البالغة، التي لا يحيط بها خلقه، وإنما يذكر كل واحد منهم ما عرف، وكل في علم الله وحكمته.
وإذا تقرر أن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله أدومها، فهل المداومة مشروعة في كل الأعمال أم في بعضها دون بعض؟ الصحيح من هذا أن الأعمال من حيث المداومة عليها أو عدمها ليست على باب واحد وتفصيل ذلك مرجعه إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في تعبده.
والظاهر من السنة أن الأعمال في هذا على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتزمه، ويداوم عليه في السفر، والحضر،
(1)
فتح الباري لابن رجب (1/ 166).
(2)
قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد في المسند (20/ 346) برقم (13052) ونصه: «إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك فإن المُنْبَتَّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى «.
(3)
لطائف المعارف (ص: 242).
(4)
فتح الباري (3/ 375).
كصيام الأيام البيض، وركعتي الفجر، والوتر، وقيام الليل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر أيام البيض في سفر ولا حضر» .
(1)
(2)
وقال ابن القيم أيضا: «لم يكن يدع قيام الليل حضرا ولا سفرا، وكان إذا غلبه نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة» .
(3)
فالسنة هي التزام هذه الأعمال في السفر والحضر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وعدم التزام ما لم يلتزمه النبي صلى الله عليه وسلم في السفر من الأعمال، وبهذا تتحقق السنة الكاملة، في الفعل والترك، وهذا أكمل الهدى وأفضله.
المرتبة الثانية: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتزمه من الأعمال ويداوم عليه في الحضر دون السفر، ومن ذلك محافظته على السنن الرواتب في الحضر دائما.
قال ابن القيم: «كان صلى الله عليه وسلم يحافظ على عشر
(4)
ركعات في الحضر دائما وهي التي قال فيها ابن عمر: «حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته،
(1)
أخرجه النسائي (4/ 168).
(2)
زاد المعاد (1/ 315).
(3)
زاد المعاد (1/ 324).
(4)
هذا العدد بحسب حديث ابن عمر رضي عنهما، وفي حديث عائشة الذي أخرجه مسلم (2/ 504) ح (730) ذكرت اثنتي عشرة ركعة، والخلاف في سنة الظهر القبلية هل هي أربع أم اثنتان.
وركعتين قبل صلاة الصبح».
(1)
فهذه لم يكن يدعها في الحضر أبدا، ولما فاتته الركعتان بعد الظهر قضاهما بعد العصر، وداوم عليهما لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عمل عملا أثبته، وقضاء السنن الرواتب في أوقات النهي عام له ولأمته، وأما المداومة على تلك الركعتين في وقت النهي فمختص به».
(2)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام الاثنين والخميس ويوم عاشوراء.
أخرج الإمام الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام الإثنين والخميس» .
(3)
وأخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان» .
(4)
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم المحافظة على الأذكار، كأذكار الصباح والمساء، والأذكار الخاصة عند دخول المسجد، والخروج منه، ودخول الخلاء، وغيرها مما هو مفصل في بابه.
(5)
وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتزمه ويتحراه من الأعمال كثير يصعب حصره، وإنما ذكرت هنا بعض ما يستشهد به لهذا النوع من الأعمال.
والسنة في ذلك التزام ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتزمه على قدر الإستطاعة، وتحري ما كان يتحراه من الأعمال. والتحري هو: القصد، والإجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل هكذا فسره ابن الأثير رحمه الله.
(6)
(1)
أخرجه البخاري. الصحيح مع الفتح (3/ 48) ح: (1165).
(2)
زاد المعاد (307308).
(3)
سنن الترمذي (3/ 112) ح: (745)، وأخرجه ابن ماجه (1/ 553) ح:(1739). وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1/ 290) ح: (1414).
(4)
صحيح البخاري مع الفتح (4/ 245) ح: (2006)، وصحيح مسلم (2/ 797) ح:(1132).
(5)
انظر زاد المعاد لابن القيم (2/ 365) وما بعدها.
(6)
النهاية في غريب الحديث (1/ 376).
هذا مع مراعاة الرفق بالنفس في هذا الباب، وألا يتكلف العبد ما لا يطيق من العمل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيق من العمل ما لا تطيق أمته لِمَا خصه الله به من الكمالات الدينية، والبدنية، مما لم يحصل لغيره من الأمة.
المرتبة الثالثة: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله من الأعمال في وقت دون وقت، وفي حال دون حال، ومن أمثلة هذا صيامه بعض الأيام غير الإثنين والخميس، وفطرها أحيانا كما قالت عائشة رضي الله عنها:«كان يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم» .
(1)
ومن ذلك تنوع هديه صلى الله عليه وسلم في الوضوء قال ابن القيم: «كان يتوضأ لكل صلاة في غالب أحيانه، وربما صلى الصلوات بوضوء واحد. وكان يتوضأ بالمد تارة، وبثلثيه تارة، وبأزيد منه تارة
…
وصح عنه أنه توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا، وفي بعض الأعضاء مرتين وفي بعضها ثلاثا».
(2)
ومن ذلك هديه في صلاة الضحى، أنه كان يفعلها في بعض الأوقات على قول طائفة من أهل العلم:
قال ابن القيم: في سياق نقله الأقوال في حكم صلاة الضحى «وذهبت طائفة ثالثة إلى استحباب فعلها غبا فتصلى في بعض الأيام دون بعض، وهذا أحد الروايتين عن أحمد وحكاه الطبري عن جماعة، واحتجوا بما روى الجريري عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: «لا إلا أن يجيء من مغيبة.
(3)
ثم ذكر حديث أبي سعيد: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا
(1)
أخرجه مسلم (2/ 810).
(2)
زاد المعاد (1/ 191192).
(3)
أخرجه مسلم (1/ 496) ح: (717).
يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها».
(1)
والسنة في هذا النوع من الأعمال فعلها تارة، وتركها تارة وعدم المداومة عليها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فمن داوم على مثل هذه الأعمال فقد خالف السنة.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن المداومة على مثل هذه الأعمال فأجاب رحمه الله: «الصواب أن يقال: التنوع في ذلك متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم فإن في هذا اتباعا للسنة والجماعة، وإحياء لسنته، وجمعا بين قلوب الأمة، وأخذا بما في كل واحد من الخاصة أفضل من المداومة على نوع معين لم يداوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم لوجوه» .
(2)
ثم ذكر في ذلك وجوها سبعة ملخصها:
1 -
أن هذا هو اتباع السنة والشريعة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قد فعل هذا تارة وهذا تارة، لم يداوم على أحدهما كان موافقته في ذلك هو التأسي والاتباع المشروع.
2 -
أن ذلك يوجب اجتماع قلوب الأمة وائتلافها، وزوال كثرة التفرق والاختلاف.
3 -
أن ذلك يخرج الجائز المسنون عن أن يُشَبَّه بالواجب؛ فإن المداومة على المستحب أو الجائز مشبهة بالواجب.
4 -
أن في ذلك تحصيل مصلحة كل واحد من تلك الأنواع فإن كل نوع لا بد له من خاصة، وإن كان مرجوحا، فكيف إذا كان مساويا.
(1)
زاد المعاد (1/ 353)، والحديث أخرجه الترمذي (2/ 342) ح (477) وأحمد في المسند (17/ 246) ح (11155) وقد حسنه جماعة وضعفه آخرون للاختلاف في توثيق عطية العوفي. انظر حاشية سنن الترمذي بتحقيق أحمد محمد شاكر (2/ 342) وحاشية المسند بتحقيق شعيب الأرنؤوط وجماعة (17/ 247).
(2)
مجموع الفتاوى (24/ 247).
5 -
أن في ذلك وضعا لكثير من الآصار والأغلال التي وضعها الشيطان على الأمة بلا كتاب من الله، ولا أثارة من علم؛ فإن مداومة الإنسان على أمر جائز مرجحا له على غيره يحب الموافقة عليه، ويكره المخالفة فيه، يكون ذلك سببا لترك حقوق له وعليه.
6 -
أن في المداومة على نوع دون غيره هجران لبعض المشروع، وذلك سبب لنسيانه والإعراض عنه حتى يعتقد أنه ليس من الدين.
7 -
أن الله يأمر بالعدل والإحسان، والعدل التسوية بين المتماثلين، وحرم الظلم ومن أعظم العدل العدل في الأمور الدينية، وإذا كان الشارع قد سوى بين عملين، أو عاملين كان تفضيل أحدهما من الظلم العظيم، وإذا فضل بينهما كانت التسوية كذلك.
(1)
وبهذا يظهر أن السنة في هذا الباب هو التزام ما التزمه النبي صلى الله عليه وسلم وداوم عليه من الأعمال، فما كان يلتزمه في السفر والحضر التُزم كذلك، وما كان يلتزمه في الحضر التُزم في الحضر، وعلى هذا تتنزل النصوص في فضل المداومة على الأعمال فإن النصوص يفسر بعضها بعضا، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم هو امتثال كامل لسنته القولية.
وأما ما لم يكن يلتزمه النبي صلى الله عليه وسلم بل يفعله في وقت، دون وقت فالسنة فيه عدم الالتزام، والتزامه في هذه الحال مع ما فيه من المخالفة للسنة، فلا بد وأن يفضي إلى تضييع شيء من الواجبات ووجود بعض المفاسد الأخرى التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر مجموع الفتاوى (24/ 248251).
الفصل السادس تفاضل الأعمال باعتبار تحققها على وجه الاقتصاد والسداد والتيسير
من الأصول العامة التي عليها مدار التشريع في هذا الدين، التخفيف والتيسير، وعدم التكليف بما لا يطاق، وبما فيه حرج ومشقة على الأمة في عبادتها لربها
(1)
.
قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}
(2)
وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(3)
وقال عز وجل: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}
(4)
وقال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}
(5)
.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير الآية الأخيرة: «أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيئ فشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً» .
(6)
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: «وقد بين الله أن هذه الحنيفية السمحة، التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنها مبنية على التخفيف والتيسير، لا على الضيق والحرج، وقد رفع الله فيها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا» .
(7)
وبناء على هذا الأصل في التشريع، أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته، إلى سلوك مسلك الاقتصاد والتيسير في العمل وترك التكلف والتشديد فيه.
(1)
انظر في تقرير هذا الأصل الموافقات للشاطبي 2/ 107/ 119 - 128.
(2)
سورة البقرة (286).
(3)
سورة البقرة (185).
(4)
سورة المائدة (6).
(5)
سورة الحج (78).
(6)
تفسير ابن كثير 5/ 455.
(7)
أضواء البيان 5/ 748.
ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة فقال: من هذه؟ فقلت امرأة لا تنام تُصَلَّيِ قال: «عليكم من العمل ما تطيقون فو الله لا يملُّ الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه» .
(1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» .
(2)
وعن أبي بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي في المسجد، يكثر الركوع والسجود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أتراه يرائي» فقلت: الله ورسوله أعلم فجمع بين يديه فجعل يصوبهما ويرفعها ويقول: «عليكم هدياً قاصداً، عليكم هدياً قاصداً، عليكم هديا قاصداً، فإنه من يشادّ هذا الدين يغلبه» .
(3)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، وحبل ممدود بين ساريتين، فقال:«ما هذا؟» قالوا: لزينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال: «حلُّوه. ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد» .
(4)
فتضمنت هذه الأحاديث، الأمر بلزوم الاقتصاد في العمل، والنهي عن التشديد، والتعنت في العبادة. وفي هذا دلالة ظاهرة على أن العمل على وجه السداد والتيسير، أفضل من العمل على وجه التكلف والتعسير، فإنه لا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم مع كمال
(1)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح 3/ 36 ح (1151) ومسلم واللفظ له 1/ 542 ح (785).
(2)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح 1/ 93 ح (39).
(3)
أخرجه أحمد 38/ 61 ح (22963) والحاكم في المستدرك 1/ 475 وصححه ووافقه الذهبي.
(4)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح 3/ 36 ح: (1150) ومسلم 1/ 541 ح (784).
حرصه على أمته، أن يوجهها ويرشدها، إلَّا لمَا يعلم أنه خير لها وأزكى في عبادتها لربها، هذا مع امتثاله هذا الهدي في نفسه، وتشديده على المخالف فيه.
كما جاء في قصة الرهط، الذين أرادوا الانقطاع إلى العبادة، وترك بعض المباحات، فقال صلى على الله عليه وسلم:«أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» .
(1)
فأخبر أنه أخشى الأمة وأتقاها لله وهو مع هذا لا ينقطع للعبادة، بل يسلك مسلك الاقتصاد والتوسط، ويجمع بين العبادة، وإعطاء النفس حظها من المباحات، في غير إفراط ولا تفريط.
ومما جاء صريحاً من السنة، في تفضيل الأعمال المؤداة على وجه التيسير والرفق، على غيرها من الأعمال:
قوله صلى الله عليه وسلم «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة» .
(2)
قال ابن حجر في شرحه: «قوله أحب الدين: أي خصال الدين؛ لأن خصال الدين كلها محبوبة، لكن ما كان منها سمحاً أي سهلاً فهو أحب إلى الله، ويدل عليه ما أخرجه أحمد بسند صحيح، من حديث أعرابي لم يسمه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه يقول: «خير دينكم أيسره
(3)
».
(4)
كما جاءت بالحث على الاقتصاد في العمل، والإرشاد إلى مسلك الرفق في
(1)
تقدم تخريجه ص: 98.
(2)
أخرجه البخاري معلقاً في الصحيح. الصحيح مع الفتح 1/ 93، وأخرجه موصولاً من حديث ابن عباس في الأدب المفرد، الأدب المفرد مع شرحه فضل الله الصمد 1/ 385 ح (287)، وأخرجه البغوي في شرح السنة 2/ 468 قال ابن حجر إسناده حسن: فتح الباري 1/ 94.
(3)
هو في مسند أحمد من حديث مِحْجَن بن الأدْرَع 33/ 457، 458 ح (30349) وقال محققوه:«حسن لغيره» .
(4)
فتح الباري 1/ 93، 94.
العبادة، الآثارُ عن السلف رحمهم الله.
فعن كعب الأحبار قال: «إن هذا الدين متين، فلا تبغض إليك دين الله، وأوغل برفق، فإن المنبت لم يقطع بُعْداً، ولم يستبق ظهراً، واعمل عمل المرء الذي يرى أنه لا يموت اليوم، واحذر حذر المرء الذي يرى أنه يموت غداً» .
(1)
وعن عمر بن إسحاق
(2)
(3)
وعن الحسن البصري رحمه الله قال: «دين الله وُضع، فوق التقصير، ودون الغلو» .
(4)
وعن يحيى بن جعده
(5)
قال: «كان يقال: اعمل وأنت مشفق، ودع العمل وأنت تحبه، عمل دائم وإن قل، خير من عمل كثير منقطع» .
(6)
وعن مطرف بن الشخير أنه قال لابن له قد اجتهد في العبادة: «خذ الأمور أوسطها، الحسنة بين السيئتين وشر السير الحقحقة» .
(7)
قال أبو عبيد في شرح قول مطرف: «يعني أن الغلو في العبادة سيئة، والتقصير سيئة، والاقتصاد بينهما حسنة» قال: «والحقحقة: أن يلح في شدة السير، حتى تقوم عليه راحلته أو تعطب، فيبقى منقطعاً به»
(8)
(1)
ذكره الشاطبي في الاعتصام 1/ 305.
(2)
عمر ابن إسحاق المدني، مولى زائدة، حجازي مقبول، مات بعد المائة، انظر تقريب التهذيب ص 410.
(3)
ذكره الشاطبي في الاعتصام 1/ 305.
(4)
المصدر نفسه 1/ 306.
(5)
يحيى بن جعده بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي قال ابن حجر ثقة من الثالثة تقريب التهذيب ص 588.
(6)
ذكره الشاطبي في الاعتصام ص 1/ 305.
(7)
أخرجه الطبري في التفسير 9/ 412 وأبو نعيم في الحلية 209 والبغوي في شرح السنة 2/ 471.
(8)
غريب الحديث 4/ 388.
وفي تراجم الإمام البخاري لبعض الأحاديث المتقدمة: «باب ما يكره من التشديد في العبادة»
(1)
ترجم به في كتاب التهجد لحديث أنس بن مالك في اجتهاد زينب، وحديث عائشة في خبر المرأة المكثرة من الصلاة.
(2)
وفي كتاب الإيمان ترجم لحديث أبي هريرة المتقدم (إن الدين يسر)
(3)
بقوله «باب الدين يسر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة» .
(4)
وفي كتاب الرقاق، ترجم لجملة من الأحاديث في هذا المعنى بقوله «باب القصد والمداومة على العمل»
(5)
وفي هذا دلالة على تقرير الإمام البخاري رحمه الله لهذا الأصل، وتفضيله العمل على وجه السداد والمقاربة على غيره، كما هو ظاهر في التراجم.
كما نص على هذه المسألة وقررها العلماء المحققون في السنة والاتباع.
قال البغوي رحمه الله معلقاً على حديث أبي هريرة (إن الدين يسر
…
(6)
وقال القاضي عياض رحمه الله في قول النبي صلى الله عليه وسلم (عليكم من الأعمال ما تطيقون): «يحتمل الندب لنا إلى تكلف ما لنا به طاقة من العمل، ويحتمل النهي عن تكلف ما لا نطيق، والأمر بالاقتصار على ما نطيق، وهو اللائق بنسق الحديث» .
(7)
(1)
الصحيح مع الفتح 3/ 36.
(2)
انظرهما بنصهما ص: 116، 117 من هذا الكتاب.
(3)
انظره ص: 116 من هذا الكتاب.
(4)
الصحيح مع الفتح 1/ 93.
(5)
الصحيح مع الفتح 11/ 294.
(6)
شرح السنة 2/ 470.
(7)
إكمال المعلم 3/ 147.
وقال أيضاً في بيان فضل المداومة على العمل: «وقلنا: إن فضل ذلك يرجع إلى التخفيف في العبادة» .
(1)
وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله في شرح حديث (عليكم من الأعمال ما تطيقون): «هذا حض على التخفيف في أعمال النوافل، ويتضمن الزجر عن التشديد والغلو فيها، وسبب ذلك أن التخفيف يكون معه الدوام والنشاط، فيكثر الثواب لتكرار العمل وفراغ القلب، بخلاف الشاق منها، فإنه يكون معه التشويش والانقطاع غالباً»
(2)
وقال النووي رحمه الله في شرح الحديث السابق: «في هذا الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم، ورأفته بأمته، لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفس: نشطة والقلب منشرحاً فتتم العبادة، بخلاف تعاطي من الأعمال ما يشق، فإنه بصدد أن يتركه أو بعضه، أو يفعله بكلفه، وبغير انشراح القلب، فيفوته خير عظيم» .
(3)
وقال الشاطبي رحمه الله «والدليل على صحة الأخذ بالرفق وأنه الأولى والأحرى وإن كان الدوام على العمل أيضاً مطلوباً عتيداً في الكتاب والسنة {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}
(4)
» ..
(5)
وقال ابن رجب رحمه الله: «إن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير، دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير، كما قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
(6)
…
»
(7)
ثم ساق جملة من الأدلة لذلك.
(1)
المصدر نفسه 3/ 148.
(2)
المفهم 2/ 413.
(3)
شرح صحيح مسلم 6/ 71.
(4)
سورة الحجرات (7).
(5)
الاعتصام 1/ 294.
(6)
سورة البقرة (185).
(7)
المحجة في سير الدلجة ص 46، 47.
(1)
إلى غير ذلك من أقوال أهل العلم في هذا المعنى، وهي كثيرة جداً مشهورة عند أهل العلم، وموطن بسطها في كتب الاعتقاد والسنة، والفقه وأصوله وشروحها.
وبهذا العرض للأدلة وكلام أهل العلم، يتبين فضل الاقتصاد في العمل، على المبالغة فيه. وسلوك مسلك الرفق والتيسير في العبادة، على التعنت والتشديد فيها.
وإذا تقرر هذا، فحقيقة الاقتصاد في العمل مما قد تختلف الناس في حدّه تبعاً لتفاوت الآراء، فما يراه بعضهم مُقْتَصَداً، قد يراه غيره شديداً، والعكس بالعكس، ولذا فينبغي أن يكون المرجع في ذلك إلى النصوص الشرعية، التي هي الحكم الفصل عند الاختلاف.
ويمكن من خلال الأحاديث تحديد الضوابط العامة لحقيقة، الاقتصاد في العمل فيما يأتي:
أولا- أن يكون العمل على وجه السداد والمقاربة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة (فَسَدِدُوا وقَارِبُوا).
(2)
والتسديد: «العمل بالسداد، وهو القصد والتوسط في العبادة، فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه» قاله ابن رجب.
(3)
والمقاربة: هي التوسط بين الإفراط والتفريط، فهي على هذا بمعنى السداد
(1)
المصدر نفسه ص 56.
(2)
تقدم تخريجه ص: 116.
(3)
المحجة في سير الدلجة ص 51.
أو قريباً منه.
(1)
وقيل: هي أن يعمل بما يقرب من الكمال، إن لم يستطع الأخذ به.
(2)
والمقصود هو أن يسلك العبد مسلك التوسط في العبادة، بين الإفراط وهو التشدد في العبادة، وبين التفريط وهو النقص عن المشروع، وأن يجتهد في إيقاع العمل على وجه المقاربة، عند العجز عن الكمال.
ثانيا- ألا يتكلف العامل ما لا يطيق من العمل وعليه دل قول النبي صلى الله عليه في حديث عائشة (عليكم من العمل ما تطيقون).
(3)
قال ابن حجر: «منطوقه الأمر بالاقتصاد على ما يطاق، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق» .
(4)
وبه صرح أبو العباس القرطبي كما تقدم
(5)
والمقصود هو النهي عن تكلف ما لا يطاق في النوافل، وأما الواجبات فإن الله لا يكلف العباد إلا ما يطيقون قال تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} .
(6)
قال الشاطبي: «ثبت في الأصول أن شرط التكليف، أو سببه القدرة على المكلف به، فما لا قدرة للمكلف عليه، لا يصح التكليف به شرعاً وإن جاز عقلاً» .
(7)
وفي تقرير هذا الأصل استدلال من وجه لطيف، للنهي عن تكلف ما لا يطاق في النوافل، فإن الله إذا لم يكلف عباده ما لا يطيقون في الواجبات فدل من باب
(1)
انظر المصدر السابق ص 52.
(2)
انظر فتح الباري لابن حجر 1/ 95.
(3)
تقدم تخريجه ص: 116.
(4)
فتح الباري 1/ 102.
(5)
تقدم نقله ص: 122.
(6)
سورة البقرة (286).
(7)
الموافقات 2/ 107.
أولى أنه لم يرد منهم تحمل ما لا طاقة لهم به في باب النوافل. فتقرر أن تكلف ذلك ليس من الدين لا على سبيل الوجوب أو النفل.
ومعنى تحمل ما لا يطاق: هو تحمل ما يثقل أداؤه ويشق، وإن كان مطاقاً مع التكلف، وهذا على الصحيح من أقوال أهل العلم في معناه.
قال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} .
(1)
يعني «ربنا لا تكلفنا من الأعمال، ما لا نطيق القيام به، لثقل حمله علينا» .
(2)
وقال ابن كثير في معنى الآية: «أي لا تكلفنا من الأعمال الشاقة، وإن أطقناها» .
(3)
وقال ابن الأنباري
(4)
(5)
وعلى هذا يدخل كل ما يشق من الأعمال، في حكم ما لا طاقة به، وفي هذا رد على بعض المتنطعة، الذين قد يتكلفون من الأعمال ما يثقل عليهم، بدعوى أنهم مطيقون لفعله.
إذا تقرر هذا فتكلف ما لا يطاق من الأعمال يكون عن طريق:
الأول: أن يكون العمل في نفسه مما لا يطاق، أو مما فيه حرج ومشقة فادحة، أو
(1)
سورة البقرة (286).
(2)
تفسير الطبري 3/ 158.
(3)
تفسير ابن كثير 1/ 738.
(4)
هو أبو بكر، محمد بن أبي محمد القاسم بن محمد بن بشار، الأنباري، النحوي، صاحب التصانيف في النحو والأدب، كان علامة وقته في الآداب، وأكثر الناس حفظاً، وكان صدوقاً، ثقة، ديناً، خيِّراً من أهل السنة، ولد سنة 271 هـ، وتوفي سنة 328 هـ. وفيات الأعيان لابن خلكان 4/ 341 - 342.
(5)
ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية ص 654.
يؤدي إلى تضييع ما هو أولى منه، وهذه هي الرهبانية التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم (من رغب عن سنتي فليس مني).
(1)
الثاني: أن لا يكون في الدخول في العمل مشقة ولا حرج، ولكنه عند الدوام عليه تلحق بسببه المشقة والحرج، أو تضييع ما هو أوكد.
(2)
ثالثاً- أن يتمكن من المداومة على العمل من غير مشقة، وإليه الإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:(وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه)
(3)
وذلك بعد قوله صلى الله عليه وسلم (عليكم من العمل ما تطيقون) وفيه دلالة على اعتبار المداومة على العمل في الإطاقة المعتبرة شرعاً، وأن من لم يتمكن من المداومة لم يكن مطيقاً، كما تقدم التنبيه عليه في الضابط السابق، وعليه دلت أقوال أهل العلم في سياق شرحهم لقوله صلى الله عليه وسلم:(عليكم من العمل ما تطيقون).
قال القاضي عياض في معناه «أي ما لكم بالمداومة عليه طاقة» .
(4)
وقال النووي: «أي تطيقون الدوام عليه بلا ضرر» .
(5)
وقال ابن حجر: «أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه»
(6)
وبناءً على هذا فكل عمل لم يتمكن العامل من المداومة عليه أو تمكن من المداومة عليه مع مشقة وكلفة، خرج عن كونه مطاقاً، ميسراً في حقه، وبالتالي قل انتفاعه به. وذلك لأن المداومة مع التيسير مقصودان للشارع في العبادة، فإذا أُخِلَّ بهما أو بأحدهما، تخلف من الأجر والثواب المترتب على تحقيقهما، بقدر ما تخلف من امتثالهما. وهذا بالنسبة لما تشرع المداومة عليه من الأعمال، دون ما
(1)
تقدم تخريجه ص: 98.
(2)
انظر الاعتصام للشاطبي 1/ 300.
(3)
تقدم تخريجه ص: 116.
(4)
إكمال المعلم 3/ 147.
(5)
شرح صحيح مسلم 6/ 70 - 71.
(6)
فتح الباري 1/ 102.
ثبت في السنة فعله في وقت دون وقت، فالسنة فيه عدم الالتزام والمداومة، على ما تقدم تقريره في فصل التفاضل بين الأعمال باعتبار المداومة
(1)
والله تعالى أعلم.
رابعاً- أن لا يورث ذلك العملُ العاملَ مللاً واستثقالاً للعبادة، وعلى هذا دل قول النبي صلى الله عليه وسلم (فو الله لا يمل الله حتى تملوا)
(2)
والملل هو استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته
(3)
. ومعناه في حق الله: منع ثواب من مل العمل، وقطع أجره.
(4)
قال ابن رجب: «سمى هذا المعنى من الله مللاً وسآمة، مقابلة للعبد على ملله وسآمته، كما قال الله:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم} .
(5)
فسمى إهمالهم وتركهم نسياناً، مقابلة لنسيانهم له. هذا أظهر ما قيل في هذا».
(6)
والمقصود هو المنع من كل عمل يفضي بالعبد إلى السأم من العبادة واستثقالها، وإنما كُرِه ذلك، لما يترتب عليه من محاذير شرعية.
(7)
ثم ذكر.
1 -
أن الله ورسوله أهدى في هذا الدين التسهيل والتيسير وهذا الالتزام يشبه من لم يقبل هديته، وهذا غير لائق بالمملوك مع سيده فكيف به مع ربه.
(1)
انظر ص: 111.
(2)
تقدم تخريجه ص: 116.
(3)
انظر فتح الباري لابن حجر 1/ 102.
(4)
انظر النهاية لابن الأثير 4/ 360، والمفهم لأبي العباس القرطبي 2/ 414، وفتح الباري لابن رجب 1/ 166.
(5)
سورة التوبة (67).
(6)
فتح الباري 1/ 166.
(7)
الاعتصام 1/ 301.
2 -
خوف التقصير، أو العجز عن القيام بما هو أولى، وآكد في الشرع.
3 -
خوف كراهية النفس لذلك العمل المُلْتَزَم، لأنه قد فرض من جنس ما يشق الدوام عليه، بحيث لا يقرب من وقت العمل إلا والنفس تشمئز منه، وتَودُّ لو لم تعمل وإلى هذا المعنى يشير حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا لأنفسكم عبادة الله .. » .
(1)
4 -
خوف الانقطاع عن العمل؛ لأن بغض العمل وكراهيته مظنة الانقطاع وهو مكروه لمن ألزم نفسه لأجل نقض العهد، وعليه دل قوله تعالى {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} .
(2)
5 -
الخوف من الدخول في الغلو في الدين، فإن الغلو هو المبالغة في الأمر، ومجاوزة الحد فيه إلى حيز الإسراف.
(3)
فبهذه الضوابط الشرعية يمكن تحديد مفهوم الاقتصاد في العمل من عدمه. فمتى ما تحققت هذه الضوابط في العمل، فهو من الأعمال الميسرة المقتصدة ومتى ما تخلفت أو بعضها، خرج عن مسلك الاقتصاد والرفق، إلى مسلك التكلف والتعنت.
وإذا ثبت فضل الاقتصاد في العمل، وتأصيله في باب التعبد والسير إلى الله تعالى، بما تقدم ذكره من الأدلة وأقوال أهل العلم في تقريره، فقد ينقدح في بعض الأذهان مظنة التعارض بين هذا الأصل، وبين ما جاء في بعض النصوص من ترتب الثواب على قدر المشقة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، لما استأذنته في أن تعتمر من مكة، فأذن لها أن تهل بعمرة من التنعيم وقال لها: «ولكنها على قدر نفقتك أو
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص 3/ 28 وإسناده ضعيف، وله شاهد من حديث أنس أخرجه أحمد في المسند 3/ 199 قال محققه «حسن بشواهده» وليس فيه «ولا تبغضوا لأنفسكم عبادة الله» .
(2)
سورة الحديد (27).
(3)
انظر الاعتصام للشاطبي 1/ 301 - 304.
نصبك»
(1)
وفي رواية: «إن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك» .
(2)
وقوله صلى الله عليه وسلم «أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى» .
(3)
وقد نقل ابن حجر عن ابن المنير وغيره في شرحه «إن السبب في زيادة الأجر وجود المشقة بالمشي إلى الصلاة» .
(4)
والجواب على هذا أن المشقة المذكورة في هذه النصوص والتي يعظم الأجر بقدرها، هي المشقة التي يستلزمها العمل دون أن تكون مقصودة للشارع ولا للعامل، فالحج والاعتمار من الأماكن البعيدة، مثلا، أعظم أجراً من الحج والاعتمار من الأماكن القريبة، وذلك لزيادة النفقة والنصب في حق القادم البعيد، وإن كانت الكلفة الحاصلة بذلك ليست مقصودة للشارع ولا للعامل، لكن لا سبيل لتحقق المشروع إلا بها ولا سبيل لدفعها، فيؤجر العامل عليها، وهذا بخلاف ما لو أمكن دفعها فتعمدها العامل، فلا يؤجر عليها، كأن يكون للحاج أو المعتمر طريقان أحدهما قريب سهل، والآخر بعيد شاق، فسلك البعيد طلباً للأجر بزيادة المشقة، فلا يؤجر على ذلك بل يلحقه الذم، حيث لم يسلك مسلك الرفق في تحقيق المشروع، وهذا التقرير هو الذي دلت عليه النصوص وأقوال أهل العلم.
أما النصوص فكثيرة جداً، وقد تقدم في بداية هذا الفصل ذكر طرف منها، وهي متضمنة أن الله لم يرد بنا في الدين العسر، ولم يشرع لنا ما فيه كلفة وحرج ومشقة علينا، فضلاً أن تكون الكلفة والمشقة مقصودة بالتشريع.
(1)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح 3/ 610 ح (1787) ومسلم 2/ 877.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 644 وقال (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.
(3)
أخرجه البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الصحيح مع الفتح 2/ 137 ح 651 ومسلم 1/ 460، ح (662)
(4)
فتح الباري 2/ 138.
بل قد جاء في النصوص أن المانع من تشريع بعض الأمور، التي هي محبوبة للشارع، وتتحقق بها بعض المقاصد الشرعية، إنما هو دفع المشقة عن الأمة.
كقوله عليه الصلاة والسلام: «لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة» .
(1)
وأخر صلاة العِشَاء يوما وقال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوها هكذا» .
(2)
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المانع له من الأمر بالسواك عند كل صلاة، وتأخير العشاء إلى ذلك الوقت، هو خشية المشقة على الأمة، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قد ترك بعض ما هو محبوب في الشرع لرفع المشقة عن أمته، لا يمكن مع هذا أن يأمرها بسلوك مسلك الشدة في العبادة من غير مصلحة ويرتب الثواب على ذلك. فهذا من أبعد ما يكون، وهو من أظهر الأدلة لهذه المسألة والله أعلم.
وأما ما جاء عن العلماء في تقرير هذه المسألة:
فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «قول بعض الناس الثواب على قدر المشقة، ليس بمستقيم على الإطلاق، كما قد يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة
…
ولو قيل الأجر على قدر منفعة العمل وفائدته، لكان صحيحاً اتصاف (الأول) باعتبار تعلقه بالأمر (والثاني): باعتبار صفته في نفسه.
فأما كونه مُشِقاً
(3)
فليس سبباً لفضل العمل ورجحانه، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقاً، ففضله لمعنى غير مشقته، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه
(1)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح 2/ 374 ح (887) ومسلم 1/ 220 ح (252).
(2)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح 2/ 50 ح (571).
(3)
جاء في حاشية الكتاب طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف «هكذا وردت في المطبوع ولعل الصواب (شاقاً)»
وأجره، فيزداد الثواب بالمشقة، كما أن من كان بعده عن البيت في الحج والعمرة أكثر: يكون أجره أعظم من القريب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في العمرة:«أجرك على قدر نصبك» . لأن الأجر على قدر العمل في بعد المسافة، وبالبعيد يكثر النصب فيكثر الأجر ..
فكثيراً ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، وهذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر، وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة منهم».
(1)
ويقول الإمام الشاطبي «إن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظراً إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل، أما هذا الثاني فلأنه شأن التكليف في العمل كله، لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر، وذلك هو قصد الشارع بوضع التكليف به، وما جاء على موافقة قصد الشارع هو المطلوب.
وأما الأول فإن الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات كما يذكر في موضعه إن شاء الله فلا يصلح فيها إلا ما وافق قصد الشارع، فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة خالف قصد الشارع، من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد للمشقة باطل، فهو إذا من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض».
(2)
وذكر في الاعتصام في معرض الحديث عن البدع: «فمن ذلك أن يكون للمكلف طريقان في سلوكه للآخرة، أحدهما سهل والآخر صعب،
(1)
مجموع الفتاوى 10/ 620 - 622 وانظر أيضاً الكتاب نفسه 22/ 313 - 315.
(2)
الموافقات 2/ 128 - 129.
وكلاهما في التوصل إلى المطلوب على حد واحد، فيأخذ بعض المتشددين بالطريق الأصعب، الذي يشق على المكلف مثله، ويترك الطريق الأسهل بناء على التشديد على النفس، كالذي يجد للطهارة مائين: سخنا وبارداً فيتحرى البارد الشاق
(1)
استعماله، ويترك الآخر، فهذا لم يعط النفس حقها الذي طلبه الشارع منه، وخالف دليل رفع الحرج من غير معنى زائد، فالشارع لم يرض بشرعية مثله»
(2)
.
وبهذا يندفع توهم معارضة النصوص الواردة في ترتب الأجر على المشقة، للأصل العظيم السابق تقريره وهو أن أفضل الأعمال ما كان على وجه الاقتصاد والتيسير، وأنها أحب إلى الله مما كان منها على وجه التشدد والتعسير.
وبه يتحقق المقصود من تقرير هذا الأصل في باب المفاضلة بين الأعمال، وكونه من المبادئ العظيمة لهذا الدين بحسب ما تقدم ذكره من الضوابط الواجب مراعاتها في هذا الباب والله تعالى أعلم.
(1)
قوله (البارد الشاق) إنما قصد الشاطبي رحمه الله: التمثيل عندما يكون استعمال البارد هو الشاق، لا أن البارد لازم للمشقة، بل قد يكون الساخن هو الشاق كما في بعض الأوقات في البلدان الحارة، أو في حق بعض الناس، ولو كانت العبارة (
…
فيتحرى ما يشق استعماله) لكانت أدق دفعاً للإيهام.
(2)
الاعتصام 1/ 340.
الفصل السابع: تفاضل الأعمال باعتبار فضل العامل ومنزلته عند الله.
من أسباب التفاضل بين الأعمال التي دلت عليها النصوص، وقررها أهل العلم، تفاضل الأعمال بحسب شرف العامل ومكانته عند الله.
(1)
قال الطبري في معنى قوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} «قول يعطها الله ثواب عملها مثلي ثواب عمل غيرهن من سائر نساء الناس» .
(2)
وفي هذه الآية دلالة ظاهرة على شرف العمل وفضله بشرف العامل وعلو قدره فلما كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الشرف والمكانة عند الله وقربهن من رسوله صلى الله عليه وسلم ضاعف الله لهن أعمالهن على غيرها من أعمال سائر النساء.
قال ابن رجب «وكان علي بن الحسين يتأول في آل النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم مثل ذلك لقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم» .
(3)
ومن الأدلة أيضا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
(4)
(1)
سورة الأحزاب (30 - 31).
(2)
تفسير الطبري (10/ 292).
(3)
جامع العلوم والحكم (2/ 208).
(4)
سورة الحديد (28).
قال ابن عباس: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أجرين، وفي رواية ضعفين، وبه قال مجاهد.
(1)
وفي هذا دلالة على تفضيل العمل، ومضاعفة أجره، لفضل العامل فهذه الأمة خير الأمم كما قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .
(2)
ولهذا أعطاهم الله الأجر على العمل القليل ما لم يعط غيرهم على العمل الكثير.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين فأنتم هم فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا: ما لنا أكثر عملاً وأقل عطاء، قال: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا. قال فذلك فضلي أوتيه من أشاء» .
(3)
قال ابن حجر: «وفي الحديث تفضيل هذه الأمة وتوفير أجرها مع قلة عملها» .
(4)
ومن الأدلة لهذه المسألة من السنة ما أخرج الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ حد أحدهم ولا نصيفه» .
(5)
(1)
انظر تفسير الطبري (11/ 693، 694).
(2)
سورة آل عمران (110).
(3)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح (4/ 445) ح (2268) وانظره بالأرقام (2269)(3459)(5021)(7467)(7533).
(4)
فتح الباري (4/ 449).
(5)
صحيح البخاري مع الفتح (7/ 21) ح (3673) وصحيح مسلم (4/ 1967) ح (2540).
قال البيضاوي في شرحه: «معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهبا من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصيفه، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص وصدق النية» .
(1)
وقد دلت على هذه المسألة أقوال السلف:
روى ابن أبي شيبة عن سعيد بن زيد قال: «والله لمشهد يشهده الرجل منهم، يوما واحدا في سبيل الله، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اغْبرَّ فيه وجهه، أفضل من عمل أحدكم لو عمرّ عمر نوح» .
(2)
وقال ابن مسعود: «أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرا منكم، قالوا: ولم؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب في الآخرة» .
(3)
فظهر بهذا فضل عمل الصحابة على عمل غيرهم، وهذا مما يدل على التفاضل في العمل باعتبار منزلة العامل.
وإذا تقرر هذا فإن أهل العلم، قد نبهوا على بعض أسباب هذا التفضيل، وهو وإن كان الذي يظهر من النصوص وأقوال أهل العلم، أن التفضيل يرجع لفضل العامل ومكانته عند الله، إلا أن وراء ذلك أيضا أسبابا أشار إليها أهل العلم.
فمنها: أن الفضل في العمل، يرجع إلى ما عليه العامل الفاضل من عمل باطن يغلب به غيره. وهذا ما أشار إليه ابن مسعود في قوله:«كانوا أزهد منكم في الدنيا» .
ومنها: ما يكون عليه العامل من فقه في الدين وتأثير ذلك في عبادته، من حيث الإتقان، والإخلاص، والاشتغال بما هو أفضل، وأنفع، بما يناسب كل وقت.
(1)
ذكره ابن حجر في فتح الباري (7/ 34).
(2)
المصنف لابن أبي شيبة (4/ 231، 232).
(3)
ذكره ابن رجب في لطائف المعارف ص (448).
وإلى هذا أشار أبو الدرداء رضي الله عنه في قوله: «يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم كيف يعيبون سهر الحمقى وصيامهم ومثقال ذرة من بر صاحب تقوى ويقين، أعظم، وأفضل، وأرجح، من أمثال الجبال من عبادة المغترين» .
(1)
وقال يحيى بن معاذ: «كم من مستغفر ممقوت، وساكت مرحوم، هذا أستغفر وقلبه فاجر، وهذا سكت وقلبه ذاكر» .
(2)
وقال غيره: «ليس الشأن فيمن يقوم الليل، إنما الشأن فيمن ينام على فراشه، ثم يصبح وقد سبق الركب» .
(3)
وقال بعضهم منشداً:
مَنْ لي بمثلِ سيرِك المُدَلَّلِ تمشي رُوَيْداً وتَجِي في الأولِ
(4)
وبهذا يتم تقرير هذه المسألة والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 211). وذكره ابن رجب في لطائف المعارف ص (448)، بلفظ «يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يسبق سهر الجاهلين وصيامهم» .
(2)
المصدر نفسه ص (449).
(3)
المصدر نفسه ص (449).
(4)
ذكره ابن رجب في لطائف المعارف ص (449).
الفصل الثامن: تفاضل الأعمال باعتبار الأوقات والأزمان
التفاضل بين الأوقات والأزمان من الأصول المقررة في الشرع وعلى ذلك تظافرت أقوال أهل العلم:
(1)
.
وقال ابن عبد البر في شرح حديث: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة): «وفي فضل يوم عرفة دليل أن للأيام بعضها فضلاً على بعض؛ إلا أن ذلك لا يدرك إلا بالتوقيف»
(2)
.
وقال ابن القيم: «والله سبحانه لا يخصص شيئاً ولا يفضله ويرجحه إلا لمعنى يقتضي تخصيصه وتفضيله
…
ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض
…
»
(3)
.
وقال ابن رجب: «وجعل الله سبحانه لبعض الشهور فضلاً على بعض كما قال تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}
(4)
كما جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض، وجعل ليلة القدر خيرا من ألف شهر»
(5)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 149، 148.
(2)
التمهيد 6/ 41.
(3)
زاد المعاد 1/ 54.
(4)
سورة التوبة: 36.
(5)
لطائف المعارف ص 40.
وقد دلت النصوص الشرعية على تفضيل بعض الأعمال باعتبار زمانها، وإن لم تكن من حيث الأصل أفضلَ من غيرها، وإنما اكتسبت الفضل من شرف الزمان الذي وقعت فيه.
ويمكن تقسيم الأزمان والأوقات التي دلت النصوص على تفضيل العمل فيها إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول:
أزمان وأوقات دلت النصوص على تفضيل الأعمال فيها مطلقا. ويدخل تحت هذا القسم أنواع منها:
1 -
الأشهر الحرم:
وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب.
(1)
(2)
روى الطبري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد ذكر الآية إلى قوله: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} قال: «لا تظلموا أنفسكم في كلهن، ثم خص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرما وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم» .
(3)
وقال الطبري: «الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر، وشرفهن على سائر شهور
(1)
صح الحديث بذكرهن كما أخرجه البخاري في صحيحه. انظر صحيح البخاري مع الفتح (10/ 7).
(2)
سورة التوبة: (36).
(3)
تفسير الطبري (6/ 366)، وأخرجه البيهقي في فضائل الأوقات (ص: 8081).
السنة، فخص الذنب فيهن بالتعظيم، كما خصهن بالتشريف».
(1)
فظهر بهذا تفضيل الأعمال في هذه الأشهر لفضلها عند الله تعالى.
قال ابن رجب رحمه الله: «فأما التطوع المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرم
…
وأفضل صيام الأشهر الحرم صيام شهر الله المحرم».
(2)
وجاء في فضيلة صيام محرم على وجه الخصوص ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» .
(3)
وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل.
فقال الحسن البصري وغيره: أفضلها شهر الله المحرم، قال ابن رجب: ورجحه طائفة من المتأخرين.
وقال سعيد بن جبير: أفضل الأشهر الحرم ذو القعدة، وذو الحجة.
وذهب بعض الشافعية أن أفضل الأشهر الحرم رجب.
قال ابن رجب: وهو قول مردود.
(4)
2 -
شهر رمضان:
قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
(5)
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: «يمدح الله تعالى شهر الصيام من بين سائر
(1)
تفسير الطبري (6/ 367).
(2)
لطائف المعارف (ص: 78).
(3)
أخرجه مسلم (2/ 821) ح: (1163).
(4)
انظر لطائف المعارف (ص: 79).
(5)
سورة البقرة: (185).
الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه».
(1)
وقد أوجب الله صيام شهر رمضان، وهو ركن من أركان الإسلام، وهو أفضل ما تقرب إلى الله به في هذا الشهر إذ أن صيامه واجب وتأدية الواجبات مقدم على النوافل كما تقدم تقريره.
(2)
وقد ورد الترغيب في قيامه؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» .
(3)
كما ثبت في السنة الترغيب في سائر أعمال البر في هذا الشهر على ما أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفِّدَت الشياطين ومردة الجن، وغُلِّقَت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفُتِّحَت أبواب الجنة فلم يُغْلَق منها باب، وينادي منادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر اقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة» .
(4)
وهذا مما يدل على تفضيل كل أعمال البر في هذا الشهر، ويتأكد منها القيام بعد فرض الصيام كما ثبت من حديث أبي هريرة السابق في فضل قيام رمضان.
3 -
العشر الأواخر من رمضان:
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله» . هذا لفظ البخاري.
(5)
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 501).
(2)
انظر الفصل الثاني من هذا الكتاب.
(3)
أخرجه البخاري. الصحيح مع الفتح (4/ 250) ح: (2009)، ومسلم (1/ 523) ح:(759).
(4)
سنن الترمذي (3/ 57) ح: (682). وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 582 ح (1532) وقال: «صحيح ولم يخرجاه بهذه السياقة» . وقد صحح الحديث العلامة الألباني في صحيح الترغيب (ص: 489).
(5)
صحيح البخاري مع الفتح (4/ 269) ح: (2024).
ولفظ مسلم: «أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر» .
(1)
وفي رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره» .
(2)
فدلت الأحاديث على فضل هذه الليالي، وتفضيل العمل فيها على باقي ليالي الشهر لمزيد عناية النبي صلى الله عليه وسلم بها وتخصيصها بما لم يكن في غيرها من الأعمال.
ويتأكد فيها القيام على غيره من الأعمال كما هو ظاهر من النصوص.
4 -
عشر ذي الحجة:
وقد ورد في فضلها قول الله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} .
(3)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «إن الليالي العشر التي أقسم الله بها هي الليالي العشر الأول من ذي الحجة» .
(4)
وبه قال عبد الله بن الزبير، ومسروق، وعكرمة، ومجاهد وقتادة، والظحاك، والسدي، ومقاتل وغيرهم.
(5)
قال الطبري: «والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه» .
(6)
وقال ابن رجب: «وأما الليالي العشر فهي عشر ذي الحجة، هذا الصحيح الذي عليه جمهور والمفسرين من السلف، وغيرهم، وهو الصحيح عن ابن
(1)
صحيح مسلم (2/ 832) ح: (1174).
(2)
أخرجها مسلم (2/ 832) ح: (1175).
(3)
سورة الفجر (1، 2).
(4)
تفسير الطبري 12/ 560.
(5)
انظر تفسير الطبري (12/ 560)، وزاد المسير لابن الجوزي، (9/ 103) وتفسير ابن كثير (8/ 390).
(6)
تفسير الطبري (12/ 561).
عباس روى عنه من غير وجه».
(1)
وروى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه. قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» .
(2)
قال الإمام ابن رجب في سياق الحديث عن فضائل عشر ذي الحجة: «وقد دل الحديث على أن العمل في أيامه أحبُّ إلى الله العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله، فهو أفضل عنده
…
وإذا كان العمل في أيام العشر أفضل وأحب إلى الله في غيره من أيام السنة كلها، صار العمل فيه وإن كان مفضولا أفضل من العمل في غيره وإن كان فاضلا ولذا قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد. ثم استثنى جهادا واحدا هو أفضل الجهاد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم سئل أي الجهاد أفضل؟ قال: من عُقِرَ جواده، وأُهْرِيق دَمُهُ.
(3)
وصاحبه أفضل الناس درجة عند الله
…
وأما بقية أنواع الجهاد فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل وأحب إلى الله عز وجل منها، وكذلك سائر الأعمال. وهذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره».
(4)
(1)
لطائف المعارف (470).
(2)
صحيح البخاري مع الفتح (2/ 457) ح: (669).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (2/ 146) ح: (1449). وقد ذكره الشيخ بمعناه. ونصه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل:» أي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بماله ونفسه، قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: من أهريق دمه وعُقِر جواده «.
(4)
لطائف المعارف (ص: 458459).
وقد اختلف أهل العلم في المفاضلة بين ليالي عشر ذي الحجة، وليالي العشر الأواخر من رمضان.
قال ابن رجب رحمه الله: «فأما لياليه فمن المتأخرين من زعم أن ليالي عشر رمضان أفضل من لياليه لاشتمالها على ليلة القدر،
(1)
وهذا بعيد جدا
…
والتحقيق ما قاله بعض أعيان المتأخرين من العلماء أن يقال: مجموع هذا العشر أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها. والله أعلم».
(2)
5 -
أيام التشريق:
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} .
(3)
قال ابن عباس رضي الله عنهما:» يعني بالأيام المعدودات أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد النحر «.
(4)
وبه قال أجلة المفسرين كعطاء، ومجاهد، وقتادة، والسدي، والضحاك، وغيرهم
(5)
وأفضلها اليوم الأول لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر ثم يوم القرِّ» .
(6)
ويوم القرِّ: هو اليوم الحادي عشر سمي بذلك لأن أهل منى يستقرون فيه.
(7)
(1)
ممن ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ونصره كذلك ابن القيم. انظر الفتاوى الكبرى (2/ 477)، وزاد المعاد (1/ 57).
(2)
لطائف المعارف (ص: 468469).
(3)
سورة البقرة (203).
(4)
أخرجه الطبري في التفسير (2/ 314).
(5)
انظر المصدر السابق.
(6)
أخرجه أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن قُرط رضي الله عنه (2/ 369) ح (1765) وأحمد في المسند (4/ 350)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (1064).
(7)
انظر النهاية لابن الأثير 4/ 37.
قال ابن رجب: وأفضلها أولها، ولا يجوز فيه النفر، ثم يوم النفر الأول، وهو أوسطها، ثم يوم النفر الثاني، وهو آخرها
(1)
، ويشرع فيها للحاج تأدية المناسك المشروعة فيها من رمي ومبيت، وتشرع فيها الأضحية لمن لم يذبح يوم النحر، كما يشرع للحاج وغيره فيها التكبير المطلق، والمقيد، والجهر به، ويستحب الإكثار فيه في هذه الأيام
(2)
، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله» ، وأما والصيام فلا صيام فيها
(3)
كما دل عليه الحديث وذلك للتقوي على الذكر والطاعة قال ابن رجب رحمه الله: «وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم إنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل إشارة إلى أن الأكل في أيام الأعياد والشرب إنما يستعان به على ذكر الله تعالى وطاعته» .
(4)
6 -
ليلة القدر:
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} .
(5)
روى الطبري عن مجاهد رحمه الله في قوله تعالى: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} قال: عملها وصيامها، وقيامها خير من ألف شهر».
(6)
وعن عمرو بن قيس الملائي قال: «عمل فيها خير من عمل ألف شهر» .
(7)
وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من
(1)
انظر لطائف المعارف (501).
(2)
انظر كتاب فضائل الأوقات للبيهقي ص (413 - 425).
(3)
المقصود صيام التطوع، أما صيام القضاء: الفرض، أو نذر، أو صيام من لم يجد الهدي، ففيه خلاف مشهور بين العلماء، انظر لطائف المعارف ص (506).
(4)
لطائف ص (504).
(5)
سورة القدر: (13).
(6)
تفسير الطبري (12/ 653).
(7)
المصدر نفسه (12/ 652).
قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه».
(1)
فدلت هذه النصوص على تفضيل ليلة القدر على غيرها من ليالي السنة وتفضيل العمل فيها مطلقا، على سائر الأعمال، ويتأكد من ذلك القيام لورود النص الخاص به والله أعلم.
7 -
يوم عرفة:
أخرج الإمام مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء» .
(2)
وأخرج الترمذي عن عمر بن شعيب عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة
…
»
(3)
الحديث.
قال ابن عبد البر في شرحه: «وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره» .
(4)
فدل الحديثان على تفضيل هذا اليوم، وتفضيل العمل فيه خصوصاً الدعاء كما دل على ذلك الحديث، كما جاءت السنة بمشروعية صيامه على ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «
…
صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله».
(5)
وقد اختلف أهل العلم في صيامه للحاج بعد اتفاقهم على مشروعية صيامه
(1)
صحيح البخاري مع الفتح (4/ 250)(2/ 2014) وصحيح مسلم (1/ 524).
(2)
صحيح مسلم (2/ 892) ح: (1348).
(3)
تقدم تخريجه ص: 89.
(4)
التمهيد (6/ 41)
(5)
صحيح مسلم (2/ 818) ح: (1162).
لغير الحاج.
(1)
ثم رجح ابن قدامة عدم صيامه للحاج محتجا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم.
(2)
8 -
يوما العيدين:
أخرج أبو داود من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يوما يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، يوم الفطر» .
(3)
قال البيهقي: «فزاد الحسن فيه فقال: أما يوم الفطر فصلاة وصدقة، قال يعني الصاع وأما يوم الأضحى فصلاة ونسك يعني ذبائحكم» .
(4)
عن عبد الله بن قرط رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القرِّ
(5)
».
(6)
(1)
المغني (4/ 444).
(2)
انظر المغني (4/ 444).
(3)
سنن أبي داود (1/ 675) ح (1134) ومسند أحمد (19/ 65) ح (12006) والمستدرك للحاكم (1/ 434) ح (1091) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(4)
كتاب فضائل الأوقات ص: (303، 304).
(5)
تقدم بيان معناه ص: 148.
(6)
تقدم تخريجه ص: 148.
ويشرع فيهما تأدية صلاة العيد وخروج الناس إليها، ويسن الاغتسال والتطيب فيهما، وإظهار الزينة، ويشرع في عيد الفطر إخراج زكاة الفطر، قبل الخروج للصلاة وهي واجبة، ويستحب في عيد النحر ذبح الأضاحي، والأكل منها والإهداء والتصدق وهي سنة مؤكدة.
ويشرع في العيدين التكبير، والتهليل، في يوميهما وليلتيهما، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج للعيدين مع طائفة من أصحابه رافعاً صوته بالتهليل والتكبير، وكان أصحابه يفعلونه من بعده، ويخرجون للأسواق والطرقات مكبرين.
(1)
قال عبد الرحمن السلمي:» كانوا في التكبير في الفطر أشد منهم في الأضحى «.
(2)
ويوما العيدين يوما أكل وشرب وزينة ويحرم صيامهما، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر والنحر
…
»
(3)
9 -
يوم الجمعة:
روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها» .
(4)
فدل الحديث على تفضيل يوم الجمعة على سائر الأيام.
وبه استدل بعض أهل العلم على تفضيل يوم الجمعة على يوم عرفة، وفي
(1)
انظر السنن الكبرى للبيهقي (3/ 393 - 402)، وخلاصة الأحكام للنووي 2/ 819 - 849، وكتاب الأزمنة المفصلة في الإسلام للدكتور على بن عباس الحكمي (88 - 101).
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/ 395).
(3)
أخرجه البخاري، الصحيح مع الفتح 4/ 239 ح (1191) ومسلم في صحيحه (2/ 800).
(4)
صحيح مسلم (2/ 585) ح: (854).
المفاضلة بينهما نزاع مشهور بين أهل العلم، فمن قائل بتفضيل بوم الجمعة، ومن قائل بتفضيل يوم عرفة، وأعدل الأقوال في هذا ما قرره الإمام ابن القيم حيث قال:«والصواب أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم عرفة، ويوم النحر أفضل أيام العام، وكذلك ليلة القدر، وليلة الجمعة» .
(1)
وقد دلت النصوص على تفضيل العمل يوم الجمعة، وأفضل أعماله تأدية صلاة الجمعة، والعناية بها من التهيأ لها قبلها، والمحافظة على إكمالها.
وروى الإمام البخاري عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» .
(2)
والأحاديث في فضائل يوم الجمعة، وتفضيل الأعمال فيه كثيرة وهي مبسوطة في مواضعها من كتب السنة، وإنما ذكرت هنا ما يستدل به لفضل هذا اليوم.
وكل ما ذكرته تحت هذا القسم مما تقدم عرضه من الأزمان قد جاءت النصوص بتفضيلها، وتفضيل العمل فيها على الإطلاق، من غير أن تُخَصَّ بعد تأدية الواجب فيها بعمل دون آخر، وإن كانت بعض الأعمال قد تتأكد فيها على غيرها كما تقدم التنبيه على شيء من هذا في موطنه. والله أعلم.
القسم الثاني:
أزمان وأوقات دلت النصوص على تفضيل بعض الأعمال فيها على الخصوص، ومنها:
(1)
زاد المعاد (1/ 60) وحكى هذا القول الإمام الشوكاني عن الحافظ العراقي، انظر نيل الأوطار (3/ 240)، وانظر الأزمنة الفاضلة في الإسلام للدكتور علي الحكمي ص (199 - 200).
(2)
صحيح البخاري مع الفتح (2/ 370) ح: (883).
1 -
شهر شعبان:
ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الصيام فيه فيصوم أكثره.
أخرج الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أنا قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان» .
(1)
وفي رواية عنها رضي الله عنها قالت: «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان وكان يصوم شعبان كله
…
».
(2)
وفي رواية: «لم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً» .
(3)
نقل الترمذي عن ابن المبارك قال: «جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال صامه كله» . قال الترمذي: «كأن ابن المبارك رأى كلا الحديثين متفقين» .
(4)
وقال النووي: «قولها كان يصوم شعبان كله كان يصومه إلا قليلاً الثاني تفسير للأول وبيان أن قولها كله أي غالبه» .
(5)
وإليه ذهب ابن حجر.
(6)
وفي توجيه للفظين أقوال أُخر
(7)
وهذا أصحها والله أعلم.
وقد دلت الأحاديث على تخصيص شعبان بكثرة الصيام، دون غيره فدل على فضل صيامه على هذه الصفة على صيام غيره من الأشهر.
(1)
صحيح البخاري مع الفتح (4/ 213) ح (1969) وصحيح مسلم (2/ 810).
(2)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح (4/ 213) ح (1970).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه (2/ 811)
(4)
سنن الترمذي (3/ 105).
(5)
شرح صحيح مسلم (8/ 37).
(6)
فتح الباري (4/ 214).
(7)
انظر شرح صحيح مسلم للنووي (8/ 37) وفتح الباري لابن حجر (4/ 214، 215).
وقد اختلف في الحكمة في تخصيص شعبان بكثرة الصيام تبعاً لاختلاف الروايات في ذلك، وأصح ما جاء فيه
(1)
ما أخرجه أحمد من حديث أسامة بن زيد وفيه قال قلت: «يا رسول الله ولم أرك تصوم من شهر من شهور ما تصوم من شعبان، قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» .
(2)
2 -
يوم عاشوراء:
فقد دلت السنة على تفضيل الصيام فيه خاصة دون غيره من الأعمال.
أخرج الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «
…
ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان».
(3)
وفي حديث أبي قتادة المتقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
…
صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله»
(4)
ومراتب صومه ثلاثة: أكملها: أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم، ذكره ابن القيم رحمه الله.
(5)
(1)
انظر فتح الباري (4/ 215).
(2)
أخرجه أحمد (36/ 85) والنسائي (4/ 171) وقد حسن إسناده محققو المسند.
(3)
صحيح البخاري مع الفتح (4/ 245) ح: (2006)، ومسلم (2/ 797) ح:(1132).
(4)
تقدم تخريجه (ص: 151)
(5)
انظر زاد المعاد (2/ 76).
ولا يشرع في يوم عاشوراء إظهار شيء من شعائر الفرح، كالاكتحال والاختضاب، وتوسيع النفقة على العيال، مما أحدثه النواصب، ولا شيئ من مظاهر الحزن من شق الجيوب، ولطم الخدود، والنياحة، والبكاء، مما أحدثه الرافضة.
قال شيخ الإسلام في وصف حال الطائفتين: «فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسما كمواسم الأعياد والأفراح، وأولئك يتخذونه مأتما يقيمون فيه الأحزان والأتراح وكلا الطائفتين مخطئة خارجة عن السنة» .
(1)
وقال رحمه الله: «ولم يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون في يوم عاشوراء شيئا من هذه الأمور، لا شعائر الحزن والترح، ولا شعائر السرور والفرح، ولكنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود تصوم عاشوراء فقال: «ما هذا» ؟ فقالوا: هذا يوم نجَّى الله فيه موسى من الغرق فنحن نصومه. فقال: «نحن أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه» .
(2)
3 -
الأيام البيض من كل شهر:
وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر.
وقد وردت الأحاديث بمشروعية صيامها، وأنها تعدل صيام الشهر.
عن قتادة بن ملحان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام أيام البيض، ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، قال: وقال: «هو كهيئة الدهر» .
(3)
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صمت من الشهر ثلاثا فصم
(1)
مجموع الفتاوى (25/ 310).
(2)
المصدر نفسه (25/ 310).
(3)
أخرجه أبو داود (2/ 821) ح: (2449)، والنسائي (4/ 194)، وقد حسن الحديث الألباني في صحيح الترغيب (ص: 505) ح: (1025).
ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة».
(1)
وقد ذهب بعض أهل العلم أن الأيام البيض هي: الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر.
والصحيح المشهور هو القول الأول ذكر هذا النووي
(2)
وهو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة.
وقد جاءت النصوص في الصحيحين وغيرها بصيام ثلاثة من كل شهر من غير تحديد بالأيام البيض، كما في حديث أبي هريرة قال:«أوصاني خليلي: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام» .
(3)
وقد ترجم البخاري للحديث بقوله: «باب صيام البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة» .
(4)
4 -
ستة أيام من شوال:
وقد ثبتت السنة بمشروعية صيامها لما أخرجه مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر» .
(5)
قال النووي في شرح الحديث: «فيه دلالة صريحة لمذهب الشافعي، وأحمد، وداود وموافقيهم في استحباب صوم هذه الستة، وقال مالك، وأبو حنيفة: يكره ذلك، قال مالك في الموطأ: ما رأيت أحدا من أهل العلم يصومها، قالوا:
(1)
أخرجه أحمد في المسند (5/ 162)، والترمذي (3/ 125) ح:(761) وقال: «حديث حسن» ، وحسن الحديث الألباني في صحيح الترغيب (ص: 504) ح: (1024).
(2)
رياض الصالحين (ص: 437).
(3)
صحيح البخاري مع الفتح (4/ 226) ح: (1981)، وصحيح مسلم (1/ 499) ح:(721).
(4)
صحيح البخاري مع الفتح (4/ 266).
(5)
صحيح مسلم (2/ 822) ح: (1164).
فيكره لئلا يظن وجوبه. ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح، وإذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس، أو أكثرهم، أو كلهم لها».
(1)
(2)
قال أبو العباس القرطبي مجيبا ومعتذرا لخلاف من خالف: «ويظهر من كلام مالك هذا: أن الذي كرهه هو وأهل العلم الذين أشار إليهم، إنما هو أن توصل الأيام الستة بيوم الفطر لئلا يظن أهل الجهالة والجفاء أنها بقية من صوم رمضان، وأما إذا باعد بينها وبين يوم الفطر فيبعد ذلك التوهم، وينقطع ذلك التخيل» .
(3)
وقد اختلف أهل العلم في تحديد هذه الستة.
فذهب بعضهم إلى استحباب صيامها متتابعة من أول الشهر، وهو قول ابن المبارك والشافعي.
وذهب آخرون إلى عدم اشتراط التتابع وأنه يستوي أن تتابع أو تفرق في الشهر كله فهما سواء، وهو قول وكيع وأحمد.
وذهب فريق ثالث إلى أنها لا تصام عقيب الفطر، ولكن تصام ثلاثة أيام قبل أيام البيض أو بعدها، وهو قول معمر وعبد الرزاق.
(4)
وظاهر كلام النووي الانتصار للقول الأول،
(5)
كما انتصر أبو العباس القرطبي للقول الثاني.
(6)
(1)
شرح صحيح مسلم (8/ 56).
(2)
لطائف المعارف ص 389.
(3)
المفهم (3/ 237).
(4)
انظر لطائف المعارف لابن رجب (ص: 390391).
(5)
انظر شرح صحيح مسلم (8/ 56).
(6)
انظر المفهم (3/ 238).
5 -
الاثنين والخميس من كل أسبوع:
على ما ثبت في السنة من استحباب صيامهما فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين فقال: «فيه وُلِدتُ، وفيه أُنْزِل عليّ» .
(1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس؛ فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» .
(2)
6 -
ثلث الليل الآخر:
ويشرع فيه القيام، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، على ما جاءت بذلك النصوص قال تعالى:{كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .
(3)
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى، كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» .
(4)
وهذا مما يدل على عظيم فضل هذا الوقت؛ لنزول الرب فيه تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا؛ ومناداته عباده، ولهذا شرع قيام هذا الوقت وورد الترغيب فيه.
أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهوده وذلك أفضل» .
(5)
(1)
أخرجه مسلم (2/ 820).
(2)
أخرجه الترمذي (3/ 113) ح: (747)، وقال:» حديث حسن غريب «. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (ص: 506) ح: (1027).
(3)
سورة الذاريات (17 - 18).
(4)
صحيح البخاري مع الفتح (13/ 464 ح: (7493) وصحيح مسلم 1/ 521 ح (758).
(5)
صحيح مسلم (1/ 520) ح (755).
وقد وردت النصوص بالتقرب إلى الله في هذا الوقت بالصلاة، والدعاء، والاستغفار، كما هو ظاهر من النصوص المتقدمة. وأضاف بعض أهل العلم قراءة القرآن
(1)
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الأفضل من ذلك فأجاب: (الصلاة أفضل من القراءة في غير الصلاة، نص على ذلك أئمة العلماء وقد قال:
(2)
«استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» . لكن من حصل له نشاط وتدبر وفهم للقراءة دون الصلاة فالأفضل في حقه ما كان أنفع له)
(3)
.
7 -
أول النهار وآخره:
وقد وردت النصوص بالترغيب في الذكر في هذين الوقتين:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} .
(4)
وقال تعلى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} .
(5)
وقال عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .
(6)
وقال تعالى في ذكر زكريا عليه السلام {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} .
(7)
ومن السنة حديث جابر بن سمرة في وصف هدي النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان لا
(1)
انظر: قيام الليل للمروزي (باب ثواب القراءة بالليل) ص (164)
(2)
أي النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخرج الحديث من طريق ثوبان رضي الله عنه ابن ماجه (1/ 1001) ح (277) وأحمد في المسند (5/ 277، 282) وصحح الحديث الألباني انظر إرواء الغليل (2/ 135) ح (412) وصحيح الترغيب ص (158) ح (190).
(3)
الفتاوى الكبرى (2/ 236).
(4)
سورة الأحزاب (41 - 42).
(5)
سورة غافر (55).
(6)
سورة الأنعام (52).
(7)
سورة مريم (11).
يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام
…
».
(1)
وقد ثبت الترغيب في بعض الأذكار المخصوصة في هذين الوقتين، ومن ذلك:
ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد» .
(2)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو بكر: يا رسول الله مرني بشيء أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت. قال: «قل اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشِرْكِه» قال: «قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك» .
(3)
والأذكار المشروعة في الصباح والمساء كثيرة، وهي مبسوطة في كتب الأذكار والسنن، وإنما ذكرت هنا ما يستدل به على فضل هذين الوقتين.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: «فهذه الأوقات الثلاثة، منها وقتان وهما أول النهار وآخره، يجتمع في كل من هذين الوقتين عمل واجب، وعمل تطوع: فأما العمل الواجب فهو صلاة الصبح وصلاة العصر، وهما أفضل الصلوات الخمس، وهما البردان اللذان من حافظ عليهما دخل الجنة، وقد قيل في كل منهما أنهما الصلاة الوسطى، وأما التطوع فهو ذكر الله بعد صلاة الصبح حتى
(1)
صحيح مسلم (1/ 463) ح (670).
(2)
صحيح مسلم (4/ 2071) ح: (2692).
(3)
أخرجه الترمذي (5/ 467) ح: (3392)، وقال:» حديث حسن صحيح «. وصححه الألباني في صحيح الجامع (4278).
تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وقد وردت في فضله نصوص كثيرة، وكذلك وردت النصوص الكثيرة في أذكار الصباح والمساء، وفي فضل الذكر حين يصبح وحين يمسي».
(1)
فظهر بهذا التقرير المفصل تفاضل الأزمان، والأوقات، وتفاضل العمل باعتبار فضل الزمان الواقع فيه، كما تبين من خلال النصوص اختصاص بعض الأوقات والأزمان بوظائف مخصوصة من العبادات، وهذه العبادات المخصوصة بتلك الأوقات هي أفضل ما يتقرب به إلى الله في ذلك الوقت، وإن كان هذا العمل مفضولا من حيث جنسه.
قال الإمام ابن القيم في سياق ذكره اختلاف الناس في أفضل الأعمال: «الصنف الرابع: قالوا: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد وإن آل الأمر إلى ترك الأوراد من صلاة الليل، وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك أداء حق الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة، والقرآن، والدعاء، والذكر، والاستغفار». إلى أن قال بعد أن ذكر أنواعا كثيرة من العبادات المخصوصة بأوقات أو أحوال: «فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت وظيفته ومقتضاه.
(1)
المحجة في سير الدلجة (ص 6162).
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم هم أهل التعبد المقيد».
(1)
وهذا التقرير الذي ذكره الإمام ابن القيم هو أفضل ما ذكر في هذا الباب، وهو مقتضى النصوص. والله تعالى أعلم.
(1)
مدارج السالكين (1/ 8889).
الفصل التاسع: تفاضل الأعمال باعتبار الأماكن والبقاع
من أنواع التفاضل التي شرف الله بها بعض المخلوقات على بعض، التفاضل بين الأماكن والبقاع، على ما جاءت بذلك النصوص.
ولست بصدد تقرير هذه المسألة لذاتها، وإنما القصد هنا تقرير ما يتعلق منها بموضوع البحث ألا وهو تحقيق مسألة التفاضل بين الأعمال باعتبار الأماكن والبقاع.
ويمكن أن تقسم البقاع والأماكن باعتبار تأثيرها في المفاضلة بين الإعمال إلى قسمين:
القسم الأول:
بلدان دلت النصوص على شرفها وفضل سكناها، وهي:
1 -
مكة المكرمة حرسها الله:
روى الشيخان من حديث أبي شريح العدوي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صبيحة فتح مكة: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرا، فإن أحد ترخَّص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن له فيه ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب» .
(1)
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عدي بن حمراء رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله
(1)
صحيح البخاري مع الفتح (8/ 20) ح: (4295)، وصحيح مسلم (2/ 987) ح:(1354).
صلى الله عليه وسلم قائما على الحزْوَرَة
(1)
فقال: «والله إنك لخيرُ أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت» .
(2)
2 -
المدينة النبوية حرسها الله:
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاها
(3)
، أو يقتل صيدها». وقال: «المدينة خير لهم لو كان يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت على لأوائها
(4)
، وجَهْدِهَا إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة».
(5)
وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» .
(6)
3 -
الشام:
ورد في فضل الشام كثير من الأحاديث الصحيحة منها حديث زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لأهل الشام» فقلنا: لأي شيء ذاك؟ فقال: «لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليهم» .
(7)
(1)
الحَزْوَرَة في اللغة: الرابية الصغيرة، وقد كانت الحزورة سوق مكة مم دخلت في المسجد لما زيد فيه، انظر معجم البلدان لياقوت الحموي (1/ 255).
(2)
سنن الترمذي (5/ 722) ح: (3925)، وقال الترمذي:» هذا حديث حسن غريب صحيح «. وصححه ابن عبد البر في التمهيد (2/ 288)، وابن حجر في الفتح (3/ 76)، وقال الألباني:» إسناده صحيح «. مشكاة المصابيح (2/ 832).
(3)
العضاة: ما عظم من شجر الشوك واشتد شوكه، لسان العرب (13/ 516).
(4)
اللأواء: الشدة وضيق المعيشة، النهاية لابن الأثير (4/ 221).
(5)
صحيح مسلم (2/ 992) ح: (1363).
(6)
صحيح البخاري مع الفتح (4/ 93) ح: (1876)، وصحيح مسلم (1/ 131) ح:(147).
(7)
أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 249) ح: (2900)، وقال:» حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه «. ووافقه الذهبي في التلخيص. وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ح: (503).
وعن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تخرج نار من حضرموت أو بحضرموت فتسوق الناس» . قلنا: يا رسول الله ما تأمرنا؟ قال: «عليكم بالشام» .
(1)
فدلت النصوص على فضل هذه البلدان الثلاثة وفضل سكانها، وما يحصل به من البركة في الرزق، والعصمة من بعض الفتن، كالعصمة من فتنة الدجال ممن لزم مكة والمدينة فإن الدجال لا يدخلها
(2)
والفرار إلى الشام في آخر الزمان، عند خروج النار من حضر موت قبل قيام الساعة، كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فضل من صبر على لأواء المدينة، وما يرجى له من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما فضل العمل في هذه البلدان الثلاثة، باستثناء المساجد الثلاثة المفضلة فيها، - فلم أقف فيه على نص سوى، حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعا: «من أدرك رمضان بمكة، فصام وقام منه ما تيسر له، كتب الله له مائة ألف شهر رمضان
…
».
(3)
وهذا الحديث ضعفه العلماء فلا حجة فيه.
(4)
وإنما ذكر أهل العلم أن العمل يفضل في هذه البقاع لشرفها، من غير أن يذكروا دليلا خاصا على هذا.
قال ابن رجب رحمه الله: «واعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب، منها شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحَرَم» .
(5)
(1)
أخرجه أحمد (8/ 134) ح: (4536)، قال المحققون: إسناد صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه الترمذي (4/ 498) ح: (2217)، وقال:» هذا حديث حسن غريب صحيح «.
(2)
وردت بذلك عدة أحاديث في الصحيحين انظر: صحيح البخاري مع الفتح (4/ 95) ح (1879 - 1882)، وصحيح مسلم (4/ 2265) ح (2943).
(3)
سنن ابن ماجه (2/ 1040) ح (3117).
(4)
قال ابن رجب:» إسناده ضعيف «لطائف المعارف (ص: 285)، وذكر الألباني أنه موضوع. ضعيف سنن ابن ماجه (ص: 245).
(5)
لطائف المعارف (ص: 285).
وقال ابن حجر رحمه الله في سياق شرحه لحديث «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة
…
(1)
وقال ضمن حديثه عن مسألة تفضيل صلاة النافلة في المسجدين: «ويمكن أن يقال: لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه يعني حديث (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) فتكون صلاة النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما، وكذا في المسجدين، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقا» .
(2)
فظاهر هذه الأقوال تفضيل الأعمال في هذه البلدان المفضلة لشرف المكان والله أعلم.
وبناء على هذا فإن العمل في هذه البلدان يتفاضل تبعا لتفاضل هذه البلدان؛ فإنها متفاوتة في الفضل، وقد أجمع العلماء على أن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض، ويليهما بيت المقدس، ثم اختلف العلماء في المفاضلة بين مكة والمدينة.
(3)
قال ابن عبد البر: «وذكر أبو يحيى الساجي قال: اختلف العلماء في تفضيل مكة على المدينة، فقال الشافعي: مكة خير البقاع كلها، وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين.
وقال مالك والمدنيون: المدينة أفضل من مكة، وأختلف البغداديون وأهل البصرة، فطائفة تقول: مكة، وطائفة تقول: المدينة».
(4)
(1)
فتح الباري (1/ 67).
(2)
المصدر نفسه (1/ 68).
(3)
انظر الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها. لجمال الدين بن ظهيرة (ص: 151).
(4)
التمهيد (6/ 18).
وذكر ابن ظهيرة أن القول بتفضيل مكة هو قول الأحناف، والشافعية والحنابلة، ووهب، وابن حبيب من المالكية، وهو قول الجمهور.
(1)
قال ابن عبد البر: «والآثار في فضل مكة عن السلف أكثر، وفيها بيت الله الذي رضي من عباده على الحط لأوزارهم بقصده مرة في العمر» .
(2)
القسم الثاني:
أماكن دلت النصوص على فضلها، وفضل العمل فيها، ومضاعفته.
وهي عموم المساجد التي أنشئت لإقامة الصلاة وذكر الله.
وتفضيل الإعمال باعتبار المساجد يقع على نوعين:
النوع الأول:
تفضيل إقامة الصلوات المكتوبة للرجال، في المساجد على إقامتها في غيرها من البيوت والأسواق.
روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في الجماعة، تضعف على صلاته في بيته، وفي سوقه، خمسا وعشرين ضعفا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط بها عنه خطيئة
…
».
(3)
قال ابن حجر رحمه الله: «والذي يظهر لي أن البخاري قصد الإشارة بأثر الأسود وأنس
(4)
، إلى أن الفضل الوارد في أحاديث الباب مقصور على من جمع في
(1)
انظر الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها (ص: 151).
(2)
التمهيد (2/ 290).
(3)
صحيح البخاري مع الفتح (2/ 131) ح: (647)، وأخرجه مسلم مختصرا (1/ 449) ح:(649).
(4)
أي في ترجمته للباب فقد ترجم البخاري بقوله: (باب فضل صلاة الجماعة، وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر، وجاء أنس إلى مسجد قد صلى فيه، فأذن وأقام وصلى جماعة).
المسجد دون من جمع في بيته مثلا».
(1)
وقال رحمه الله بعد أن ذكر خمسا وعشرين خصلة تقتضي حصول الأجر الوارد في الحديث: «مقتضى الخصال التي ذكرتها اختصاص التضعيف بالتجمع في المسجد وهو الراجح عندي» .
(2)
فظهر بهذا فضل إقامة الصلوات الخمس للرجال في المساجد على غيرها من الأماكن لشرف المساجد وفضلها على غيرها.
وأما النوافل فتأديتها في البيوت أفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة» .
(3)
وهذا في حق الرجال، وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل فرضها ونفلها كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك أم حميد الأنصارية
(4)
رضي الله عنها.
النوع الثاني:
تفضيل إقامة الصلوات في المساجد المفضلة، على إقامتها في غيرها من المساجد.
وقد جاءت السنة بتفضيل أربعة مساجد، وتفضيل الصلاة فيها على غيرها وهي:
1 -
المسجد الحرام.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» .
(5)
(1)
فتح الباري (2/ 131).
(2)
فتح الباري (2/ 134).
(3)
أخرجه مسلم من حديث زيد بن ثابت (1/ 539) ح (781).
(4)
انظر الحديث في مسند أحمد (6/ 371).
(5)
صحيح البخاري مع الفتح (3/ 63) ح: (1190)، وصحيح مسلم (2/ 1012) ح:(1394).
وأخرج ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه» .
(1)
فظهر بهذا مضاعفة الصلاة في المسجد الحرام، وأنها تفضل مائة ألف صلاة فيما عداه من المساجد، وهذا أكثر ما ورد في مضاعفة الصلاة في المساجد فيكون المسجد الحرام بهذا أفضل مساجد الأرض على الإطلاق.
2 -
المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام.
وقد تقدم في الحديثين السابقين ما يدل على مضاعفة الصلاة فيه وأنها تفضل ألف صلاة فيما عداه من المساجد، إلا المسجد الحرام. وبهذا يكون المسجد النبوي أفضل المساجد بعد المسجد الحرام.
3 -
المسجد الأقصى:
قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه}
(2)
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثا: حكما يصادف حكمه، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة» .
(3)
(1)
سنن ابن ماجه (1/ 450) ح (1406) قال الألباني» سنده صحيح على شرط الشيخين وصححه المنذري والبوصيري «إرواء الغليل (4/ 146).
(2)
سورة الإسراء: (1).
(3)
أخرجه ابن ماجه (1/ 451) ح: (1208)، والإمام أحمد بسياق أطول المسند (11/ 219) ح:(6644)، والحاكم كذلك (1/ 84) ح:(83) وقال:» هذا حديث صحيح قد تداوله الأئمة وقد احتجا بجميع رواته ثم لم يخرجاه، ولا أعلم له علة «. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1/ 237) وقال محققو المسند:» إسناده صحيح «.
وهذا مما يدل على فضل الصلاة في المسجد الأقصى، وأنه يرجى لمن صلى فيه مغفرة الذنوب، كما دل على ذلك الحديث والله أعلم.
والمسجد الأقصى هو أحد ثالث المساجد في الفضل، بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي، وهذه المساجد الثلاثة هي التي صح الحديث فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تشد الرحال إلا لها كما أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى» .
(1)
4 -
مسجد قباء:
أخرج الإمام أحمد عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خرج حتى يأتي هذا المسجد يعني مسجد قباء فيصلى فيه كان كعدل عمرة» .
(2)
فظهر بهذا العرض تفاضل الأعمال وتفاوتها في الفضل بحسب تفاوت أماكنها في الفضل والشرف.
كما تبين من خلال النصوص وكلام أهل العلم أن التفاضل باعتبار الأماكن يحصل بأحد ثلاثة أوجه من أوجه التفاضل.
الوجه الأول: مضاعفة العمل نفسه إلى أضعاف كثيرة، كمضاعفة الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي، على الصلاة في غيرهما من المساجد، على تفاوت في قدر المضاعفة بينهما كما تقدم، وكمضاعفة الصلاة في عموم المساجد على الصلاة في البيت بخمسة وعشرين ضعفاً.
(1)
صحيح البخاري مع الفتح (3/ 63) ح: (1189)، ومسلم (2/ 1014) ح:(1397).
(2)
المسند (25/ 358) ح: (15981)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 13) ح:(4279)، وصححه ووافقه الذهبي. وقال محققو المسند:«صحيح بشواهده، وهذا إسناد حسن» .
والوجه الثاني: التفضيل العام من غير مضاعفة، كتفضيل الأعمال في عامة الأماكن الفاضلة الشريفة على الأعمال في غيرها من الأماكن، كما قرره بعض المحققين على ما تقدم.
الوجه الثالث: أن يؤجر العامل على عمل يسير بثواب عمل آخر أفضل من عمله، كما ورد في فضل الخروج إلى مسجد قباء والصلاة فيه أن ذلك يعدل عمرة.
وبتأمل هذه الأوجه يظهر اختصاص كل واحد منها بما يميزه عن غيره من الأوجه الأخرى، ولعل الحكمة في هذا والله تعالى أعلم تنويع الحوافز للأعمال الصالحة، مع مراعاة تفاوت الناس في الاستجابة لبعض هذه المحفزات دون بعض، ولقد لاحظت بحكم مخالطتي للناس أن من الناس من لو خوطب بفضل الصلاة في مسجد قباء مثلاً وأنها تعدل عمرة، لكانت استجابته لذلك أعظم من استجابته للفضيلة الواردة في فضل الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقد يحصل العكس، وكل ذلك بحسب تفاوت الناس في الاستجابة لهذه المحفزات، فكان في مخاطبتهم بها جميعاً والتنويع في ذلك أبلغ الأثر في استجابة أكبر قدر من الناس لذلك فسبحانه العليم الحكيم اللطيف الخبير.
الفصل العاشر تفاضل الأعمال باعتبار تعديها للخلق
الأعمال الصالحة تنقسم باعتبار تعديها للخلق واقتصارها إلى قسمين:
القسم الأول:
أعمال مقتصرة على العامل نفسه لا تتعدى لغيره، وهي سائر العبادات التي يتقرب بها العباد إلى ربهم فيما بينهم وبينه من غير أن تتعلق بمخلوق.
والقسم الثاني:
أعمال متعدية للخلق، وهي كل الأعمال التي يتعدى نفعها للمخلوقين وتتحقق بها مصالحهم الدينية والدنيوية.
وقد قرر العلماء المحققون في أبواب المفاضلة بين الأعمال الصالحة، تفضيل الأعمال المتعدية على القاصرة وذلك لما يحصل بالأعمال المتعدية من عموم النفع للخلق، وتحقق المصالح التي لا يقوم أمر الدين ولا يصلح حال الدنيا إلا بها.
وقد استدلوا لذلك بعامة النصوص التي دلت على تفضيل الأعمال المتعدية والترغيب فيها والثناء على أهلها:
ومن ذلك قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .
(1)
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: «خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام» .
(2)
(1)
سورة آل عمران: (110).
(2)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح (8/ 224) ح (4557).
(1)
فدل فهم السلف للآية أن الخيرية قد حصلت للأمة لكونهم أنفع الناس للناس، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يحصل به دخول الجنة والنجاة من النار، وهذا مما يدل على أثر الأعمال المتعدية في السبق إلى الخير والفضل عند الله، خاصة ما يتعلق منها بنفع الناس في دينهم الذي تتحقق به سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
(2)
روى الطبري عن معمر قال تلا الحسن {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً} إلى قوله {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قال: «هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته وقال: إنني من المسلمين هذا خليفة الله» .
(3)
كما دلت السنة على تفضيل الأعمال المتعدية على غيرها في أحاديث كثيرة.
منها:
ما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدي والعلم، كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا، فكان منها نقية، قبلت الماء
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 391).
(2)
سورة فصلت (33).
(3)
تفسير الطبري (11/ 109 - 110).
فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا، وسقوا، وزرعوا، وأصابت منه طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».
(1)
قال ابن حجر في شرحه: «وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها» .
(2)
وفي الحديث دلالة ظاهرة على تفضيل الأعمال المتعدية على القاصرة وذلك من جهتين:
الأولى: تفضيل النوعين الأولين من الأراضي بتعدي نفعهما على الثالث الذي لم ينتفع به.
الثانية: تفضيل النوع الأول، بزيادة نفعه على الثاني، إذ الأول ممسك للماء منبت للعشب، والثاني ممسك للماء غير منبت للعشب، فمثل النوع الأول مثل الفقهاء العاملين المعلمين لغيرهم، ومثل النوع الثاني مثل الجامعين للعلم من غير فقه ولا فهم له، لكنهم أدوه إلى غيرهم، ومثل النوع الثالث مثل من لم يحملوا العمل ولم يحفظوه فلم ينتفعوا في أنفسهم ولم ينفعوا الناس بنقله ولا بتعليمه.
ومما يتجلى به فضل نفع الناس في العلم، وعظم أجره، ما جاء في حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» .
(3)
(1)
صحيح البخاري مع الفتح (1/ 175) ح (79) وصحيح مسلم (4/ 1787) ح (2282).
(2)
فتح الباري (1/ 177).
(3)
صحيح مسلم (4/ 2060) ح: (2674).
والنصوص في فضل تعليم والناس، ودعوتهم للخير ومدح القائمين به كثيرة في الشرع، ويكفيه شرفا وفضلا أنه عمل الأنبياء والمرسلين، الذي شرفهم الله به، واصطفاهم له من بين سائر خلقه.
كما جاءت النصوص أيضا بالثناء على أهل الخير والفضل، الباذلين للمعروف، المحسنين للخلق، وأنهم خيار الخلق عند الله.
أخرج الإمام الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» .
(1)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» .
(2)
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من خيركم أحسنكم خلقا» .
(3)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أناس جلوس فقال: «ألا أخبركم بخيركم من شركم؟ قال: فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال رجل: بلى يا رسول الله أخبرنا بخيرنا من شرنا. قال: «خيركم من يرجى خيره، ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره» .
(4)
(1)
سنن الترمذي (4/ 333) ح: (1944)، والحاكم (4/ 181) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(2)
أخرجه ابن ماجه (1/ 636) ح: (1977)، والدارمي (2/ 212) ح:(2260).
قال الألباني صحيح على شرط الشيخين. الأحاديث الصحيحة رقم: (285).
(3)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح (10/ 452) ح: (6029)، ومسلم (4/ 1810) ح:(3321).
(4)
أخرجه الترمذي (4/ 528) ح: (2263)، وقال: حديث حسن صحيح. وأحمد في المسند (14/ 410) ح: (8812). وقال محققو المسند: «إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح» .
فدلت هذه الأحاديث على أن خيار الخلق عند الله خيارهم للناس، وأن أفضلهم عند الله أنفعهم لخلقه. وهذا من أقوى ما ورد في الدلالة على هذا الباب ومن أظهر ما ذكر في تفضيل الأعمال المتعدية على الأعمال القاصرة في الدين، والله أعلم بها.
ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في تفضيل الأعمال المتعدية، وخدمة الناس على العبادة القاصرة على العبد، ما أخرجه الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثرنا ظلا الذي يستظل بكسائه، وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئا، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب، وامتهنوا، وعالجوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ذهب المفطرون اليوم بالأجر» .
(1)
وهذا من الأدلة الظاهرة الجلية، في تقديم خدمة الناس، ونفعهم، على العبادات القاصرة.
ومما تتقرر به هذه المسألة أفعال السلف، المتضمنة تقديمهم الأعمال المتعدية، على العبادات اللازمة، وسعيهم في خدمة الناس ونفعهم.
قال مجاهد: «صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني
(2)
.
وعن مصعب بن أحمد بن مصعب أنه صحب أبا محمد المروزي في الحج، وكان قد اشترط عليه ألا يخالفه قال: «فخرجت معه وكان إذا حضر الطعام يؤثرني، فإذا عارضته بشيء قال: ألم أشرط عليك أن لا تخالفني، فكان هذا دأبنا حتى ندمت على صحبته لما يُلحق نفسه من الضرر، فأصابنا في بعض الأيام مطر شديد، ونحن نسير، فقال يا أبا أحمد اطلب الميل
(3)
، ثم قال لي: اقعد في
(1)
صحيح البخاري مع الفتح (6/ 84) ح: (2890)، وصحيح مسلم (2/ 788) ح:(1119).
(2)
ذكره ابن رجب في لطائف المعارف ص: (413).
(3)
الميل: قدر مد البصر، ويطلق على الأعلام المبنية في طريق مكة، لأنها بنيت على مقادير مد البصر من الميل إلى الميل، انظر لسان العرب (11/ 639).
أصله، فأقعدني في أصله، وجعل يديه على الميل، وهو قائم قد حنا عليَّ، وعليه كساء قد تجلل به، يظلني من المطر، حتى تمنيت أني لم أخرج معه لما يلحق نفسه من الضرر»
(1)
.
وكان كثير من السلف يشترط على أصحابه في السفر أن يخدمهم اغتناما لأجر ذلك. منهم عامر بن عبد قيس، وعمرو بن عتبة بن فرقد مع اجتهادهما في العبادة في أنفسهما، وكذلك كان إبراهيم بن أدهم يشترط على أصحابه في السفر الخدمة والأذان
(2)
.
وكان رجل من الصالحين يصحب إخوانه في سفر الجهاد وغيره، فيشترط عليهم أن يخدمهم، فكان إذا رأى رجلا يريد أن يغسل ثوبه قال له: هذا من شرطي فيغسله، وإذا رأى من يريد أن يغسل رأسه قال له: هذا من شرطي فيغسله، فلما مات نظروا في يده فإذا فيها مكتوب من أهل الجنة، فنظروا إليها فإذا هي كتابة بين الجلد واللحم».
وهذا مما يدل على تقديمهم رحمهم الله تلك الأعمال على العبادات القاصرة، وذلك أن اشتغالهم بخدمة الناس يأخذ من أوقاتهم الشيء الكثير، ولو علموا أن العبادات القاصرة أنفع لهم، ما كانوا ليشتغلوا بغيرها عنها، مع ما هم عليه من تمام الفقه، وشدة الحرص على الخير، واغتنام الفرص.
كما دل على هذا الأمر أقوال العلماء المحققين، فقرروه في كتبهم ووضحوه.
يقول الإمام ابن الجوزي واصفا حاله: «ما زالت نفسي تنازعني بما يوجبه مجلس
(1)
صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 382).
(2)
انظر الزهد لعبد الله بن المبارك (2/ 659)، وسير أعلام النبلاء (4/ 17)، لطائف المعارف ص (413).
الوعظ، وتوبة التائبين، ورؤية الزاهدين إلى الزهد والإنقطاع عن الخلق، والإنفراد بالآخرة، فتأملت ذلك فوجدت عمومه من الشيطان، فإن الشيطان يرى أنه لا يخلو لي مجلس من خلق لا يحصون يبكون ويندبون على ذنوبهم، ويقوم في الغالب جماعة يتوبون ويقطعون شعور الصبا، وربما اتفق خمسون ومائة، ولقد تاب عندي في بعض الأيام أكثر من مائة، وعمومهم صبيان قد نشأوا على اللعب، والانهماك في المعاصي، فكان الشيطان لبحر غوره في الشر رآني أجتذب إلي من أجتذب، منه فأراد أن يشغلني عن ذلك بما يزخرفه؛ ليخلو هو بمن أجتذبهم من يده، ولقد حسن إليَّ الإنقطاع عن المجالس
…
».
(1)
إلى أن قال: «وأما الانقطاع فينبغي أن تكون العزلة عن الشر لا عن الخير، والعزلة عن الشر واجبة على كل حال، وأما تعليم الطالبين، وهداية المريدين فإنها عبادة العالم، وإن من بعض العلماء إيثاره التنفل بالصلاة، والصوم، عن تصنيف كتاب أو تعليم علم ينفع لأن ذلك بذر يكثر ربعة ويمتد زمان نفعه
…
فلعيك بالنظر في الشَّرْب
(2)
الأول، فكن مع الشَّرْب المقدم، وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم.
فهل نقل عن أحد منهم ما ابتدعه جملة المتزهدين، والمتصوفة من الانقطاع عن العلم والانفراد عن الخلق؟ وهل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق، وحثهم على الخير، ونهيهم عن الشر؟».
(3)
فتأمل كيف نبه هذا هذا العالم المتفقه، على خطورة الانصراف إلى العبادة وترك تعليم الناس، ووعظهم، مما يتعدى نفعه للناس، وأن ذلك من تلبيس الشيطان وكيده ثم تقريره لهذه المسألة بما أستدل له من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في
(1)
صيد الخاطر (ص: 82).
(2)
الشَّرْب: مصدر شَرِبَ، ويطلق على الفهم، ويقال ما زال بني فلان على شَربة واحدة، أي على أمر واحد. انظر لسان العرب:(1/ 487، 493)، والمقصود هنا لزوم ما كان عليه السلف.
(3)
صيد الخاطر (ص: 8384).
قيامهم بالعلم والنصح والتوجيه، وعدم الانقطاع إلى العبادة واعتزال الخلق.
يقول الإمام النووي في ترجمته لأحد أبواب (رياض الصالحين): «باب فضل الإختلاط بالناس، وحضور جمعهم، وجماعتهم، ومشاهد الخير، ومجالس الذكر معهم وعيادة مريضهم، وحضور جنائزهم، ومواساة محتاجهم، وإرشاد جاهلهم وغير ذلك من مصالحهم، لمن قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقمع نفسه عن الإيذاء، وصَبَر على الأذى» .
(1)
ثم قال: «اعلم أن الإختلاط بالناس على الوجه الذي ذكرته هو المختار الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وكذلك الخلفاء الراشدون، ومن بعدهم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء المسلمين وأخيارهم، وهو مذهب أكثر التابعين ومن بعدهم، وبه قال الشافعي، وأحمد، وأكثر الفقهاء رضي الله عنهم أجمعين قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}
(2)
والآيات في معنى ما ذكرته كثيرة معلومة».
(3)
ويقول الإمام ابن القيم في سياق نقله أقوال العلماء في أفضل الأعمال: «الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها: ما كان فيه نفع متعد فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء والإشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل فتصدوا له وعملوا عليه» .
(4)
ثم نقل جملة من حججهم على هذا فقال: واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه، وعمل النّفاع متعد إلى الغير، وأين أحدهما من الآخر. ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم
(1)
رياض الصالحين (ص: 244).
(2)
سورة المائدة: (2).
(3)
رياض الصالحين (ص: 244).
(4)
مدارج السالكين (1/ 87).
لعلي لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حُمْر النعم، وبأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، وصاحب النفع لا ينقطع عمله، وبأن الأنياء بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ونفعهم في معاشهم ومعادهم، ولم يبعثوا بالخلوات، والانقطاع عن الناس والترهب.
(1)
ويقول الإمام المحقق ابن رجب مقررا هذه المسألة: «وفي الجملة فخير الناس أنفعهم للناس، وأصبرهم على أذى الناس، كما وصف الله المتقين بذلك في قوله تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
(2)
»
(3)
وقال: «الإحسان إلى الرفقة في السفر، أفضل من العبادة القاصرة، لا سيما إن احتاج العابد إلى خدمة إخوانه» .
(4)
وبهذه النقول المستفيضة من النصوص وأقوال أهل العلم يتم تقرير هذه المسألة وهي: تفضيل الأعمال المتعدية على الأعمال القاصرة اللازمة لعموم النفع واتصال الأجر. على أنه ينبغي أن يراعى في هذا المقام التوازن بين أنواع التفاضل السابقة، فقد يكون العمل القاصر عبادة واجبة، فلا يقدم عليه ما كان متعديا من النفل، وكذلك مراعاة الأحوال الأخرى في أسباب التفاضل مما سيأتي تفصيله إن شاء الله في مبحث مستقل بحول الله وقوته.
(1)
انظر مدارج السالكين (1/ 8788).
(2)
سورة آل عمران: (134).
(3)
لطائف المعارف (ص: 411).
(4)
المصدر نفسه (ص: 412).
الفصل الحادي عشر تفاضل الأعمال باعتبار الأحوال المصاحبة لها
من أنواع التفاضل بين الأعمال التي دلت عليها النصوص اقترانها ببعض الأحوال المؤثرة في زيادة أجرها أو مضاعفته.
ويمكن تقسيم هذه الأحوال من حيث الجملة إلى قسمين رئيسين:
أحوال عامة، وأحوال خاصة.
فالعامة: هي الأحوال المتعلقة بعامة الناس في عصر من العصور أو مصر من الأمصار، ويندرج تحت هذا القسم عدة أحوال دلت النصوص على تأثيرها في تفضيل الأعمال المصاحبة لها، ومن هذه الأحوال:
أولاً: حال فساد الناس وظهور الفتن.
فقد دلت الأحاديث على تفضيل العمل في هذه الحال كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء» .
(1)
وأخرج الطبراني من حديث سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل بعد ذكر الحديث «ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس» .
(2)
ففي الحديث الثناء على الغرباء الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يصلحون إذا أفسد الناس، أي يعملون بالدين، ويتقربون بصالح الأعمال، إذا ترك الناس
(1)
أخرجه مسلم 1/ 130 ح (145).
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط 4/ 65 ح (3080) وأخرجه الهيثمي في المجمع وصححه 7/ 278، وللحديث عدة شواهد من حديث عبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، وحكم الألباني بصحة أسانيدها، انظر الأحاديث الصحيحة 3/ 267 ح (1273).
العمل وظهر فيهم الفساد، وهذا متضمن تفضيل عملهم في هذه الحال، على غيره من الأعمال التي لم تصحبها.
ومن الأدلة لهذه المسألة أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إن من ورائكم أيام الصبر، المتمسك فيهن يومئذ مثل ما أنتم عليه، له كأجر خمسين منكم قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: بل منكم» .
(1)
فأخبرهم أن للعامل في هذه الأيام أجر خمسين منهم، على أنه لا يفهم من هذا تفضيل هؤلاء العاملين في تلك الأزمان على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ الصحبة فضيلة في ذاتها لا يبلغها أحد بعمله كما هو مقرر عند المحققين من أهل السنة
(2)
، ولذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يعطي هؤلاء العاملين أجر خمسين من الصحابة، ولم يقل إنهم أفضل منهم، لكن في هذا الحديث دلالة على مضاعفة أجر العاملين في أزمان الفتن على العاملين في غيرها.
وهذا من الأوجه التي يظهر بها فضل العمل في أزمان الفتن على غيرها، وهو معنى زائد على التفضيل فقط المفهوم من الحديث السابق.
فإن المفاضلة بين الأعمال تحصل بتفضيل عمل على آخر دون مضاعفة للأجر، وتحصل بمضاعفة أجره مرات عديدة، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا عند الحديث عن التفاضل باعتبار الأمكنة.
(3)
فظهر بهذا شرف العمل في أزمان الفتن وفساد الناس من هذين الوجهين الصحيحين، وقد يضاف لهما وجه ثالث وهو ما دل عليه الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العبادة في
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط 4/ 100 ح (3145) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (494).
(2)
انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 4/ 527 وفتح الباري لابن حجر 7/ 7.
(3)
انظر ص: 175.
الهرج كهجرة إليَّ».
(1)
فجعل للعامل في الهرج وهي «الفتن واختلاط أمور الناس»
(2)
أجر المهاجر إليه، وهذا وجه آخر من الأوجه التي يشرف بها العمل بأن يعطى العامل أجره كأنما عمل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وله من المعاني والترغيب في الأجر وحفز الهمم غير ما يحصل بالمعنيين المتقدمين.
والمقصود هنا بيان فضل العمل في حال الفتن على العمل في غيرها من هذه الأوجه الصحيحة كلها على ما دلت عليه الأحاديث السابقة والله تعالى أعلم.
ثانيا: أحوال غفلة الناس.
فقد جاءت النصوص بالترغيب في العمل فيها على ما جاء في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه وفيه قال قلت: «يا رسول الله ولم أرك تصوم من شهرين ما تصوم من شعبان قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر يرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» .
(3)
قال ابن رجب رحمه الله وفي قوله: «يغفل الناس عنه بين رجب ورمض 0 ان، إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله، من الأزمان، أو الأماكن، أو الأشخاص، قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقاً، أو الخصوصية، فيه لا يتفطن لها أكثر الناس، فيشتغلون بالمشهور عنه ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم.
وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة، وكذلك فضل القيام في وسط الليل، لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر
…
(1)
صحيح مسلم 4/ 2268 ح (2948).
(2)
انظر شرح صحيح مسلم للنووي 18/ 88.
(3)
تقدم تخريجه والحكم عليه ص: 156.
ولهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من الحديث المرفوع والآثار الموقوفة، حتى قال أبو صالح (إن الله ليضحك ممن يذكره في السوق) وسبب ذلك أنه ذكرٌ، في موطن الغفلة، بين أهل الغفلة».
(1)
ثم ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله فوائد العمل في أوقات الغفلة وخصائصه فذكر منها:
1 -
أنه يكون أخفى وإخفاء النوافل وإسرارُها أفضل.
2 -
أنه أشق على النفوس وأفضل الأعمال أشقها على النفوس
(2)
، وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم، كثر أهل الطاعة، لكثرة المقتدين بهم، فسهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المتيقظين طاعاتهم لقلة المقتدين بهم فيها.
3 -
أن المنفرد بالطاعة بين أهل المعاصي والغفلة قد يُدْفع به البلاء عن الناس كلهم، فكأنه يحميهم ويدافع عنهم
…
قال بعض السلف: ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس.
(3)
ثالثاً: الأحوال التي تعظم فيها حاجة المسلمين إلى بعض الأعمال، ولا تتحقق مصالحهم الدينية أو الدنيوية إلا بها.
فتفضل هذه الأعمال في تلك الأحوال لعظم الحاجة إليها.
كالإنفاق على المسلمين ومصالحهم في حال الفاقة والعسر على ما دل عليه قوله تعالى: {أَوْ
(1)
لطائف المعارف 251، 252.
(2)
تقدم تقرير هذه المسألة، وبيان وجه الجمع بينها وبين ما دلت عليه النصوص، من كون أفضل الأعمال ما كان على وجه الاقتصاد والتيسير انظر ص: 130 - 135 من هذا الكتاب.
(3)
انظر لطائف المعارف ص 252 - 255.
إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}.
(1)
قال القرطبي في تفسير الآية: «إطعام الطعام فضيلة، وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل» .
(2)
وكالقيام على خدمة المسلمين عند حاجاتهم لذلك، فهو أفضل الأعمال وأعظمها أجراً عند الله، كما دل على ذلك حديث أنس في الصحيحين: قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثرنا ظلاً الذي يستظل بكسائه، وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئاً، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذهب المفطرون اليوم بالأجر» .
(3)
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فضل عمل المفطرين على الصائمين لقيامهم بالخدمة التي اشتدت إليها الحاجة وعجز الصوام عنها.
قال أبو العباس القرطبي في شرح عبارة: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر): «يعني أنهم لما قاموا بوظائف ذلك الوقت، وما يُحتاج إليه فيه، كان أجرهم على ذلك أكثر من أجر من صام ذلك اليوم، ولم يقم بتلك الوظائف» .
(4)
وهكذا كل عمل يحتاج إليه المسلمون وتتحقق بهم مصالحهم في وقت من الأوقات، فالاشتغال به مقدم على غيره، وهو أفضل في حق أهل ذلك الزمان، وهذا ما أشار إليه ابن مسعود في قوله مخاطباً أصحابه:«إنكم أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه قليل خطباؤه، قليل سائلوه كثير معطوه، العمل فيه خير من العلم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير خطباؤه، قليل معطوه، كثير سائلوه، العلم فيه خير من العمل» .
(5)
(1)
سورة البلد (14).
(2)
تفسير القرطبي 20/ 70.
(3)
تقدم تخريجه ص: 182.
(4)
المفهم 3/ 182.
(5)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد، الأدب المفرد مع شرحه فضل الله الصمد 2/ 258 برقم (789) وعبد الرزاق في المصنف 2/ 382 برقم (3787) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم 1/ 114 ح (103) والصحيح وقفه على ابن مسعود رضي الله عنه انظر حاشية جامع بيان العلم بتحقيق أبي الأشبال الزهيري.
فأخبر أن الاشتغال بالعمل في زمن انتشار العلم أفضل من العلم، لاكتفاء الناس بما عندهم من العلم وقلة سائليه، وإنما هم محتاجون للعمل، وان الاشتغال بالعلم في حال قلته وضعفه، أفضل من العمل، لحاجة الناس إلى العلم وكثرة سائليه، فبين أن الأفضل لكل أهل زمان هو الاشتغال بما تدعوا الحاجة إليه.
ويقول الإمام المحقق ابن القيم في تقرير هذا الأصل: «فأفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت، بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل، وصيام النهار، بل ومن ترك تمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن، والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك أداء حقوق الزوجة والأهل
…
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أوالبدن أو المال، الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم، أو موته، عيادته وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهروب منهم، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم، أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه».
(1)
وهذا كله مما يتعلق بالأحوال العامة للأمة.
وأما الأحوال الخاصة المتعلقة ببعض الأفراد دون بعض والتي دلت
(1)
مدارج السالكين 1/ 88، 89.
النصوص على تفضيل الأعمال المصاحبة لها فكثيرة ومنها:
1 -
الأحوال التي تضعف معها دواعي الاستقامة وتقوى أسباب المخالفة، فتفضل الأعمال الصالحة في هذه الحالة على غيرها.
ومن أصحاب هذه الحالة الذين تحققت فيهم صورتها بعض الأصناف السبعة الذين ورد في الحديث أن الله يظلهم في ظله، يوم لا ظل إلا ظله
(1)
وهم: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله.
فهؤلاء شرفت طاعتهم، وفضل عملهم، لاستقامتهم على الطاعة، مع قوة الدافع إلى المخالفة في حقهم.
فدافع الظلم لدى السلطان قوي لقدرته عليه وكثرة المعينين له عليه، خصوصاً إذا صاحب ذلك تزيين الظلم للإمام من بطانة السوء، وتهوينه عليه وإغرائه بالمظلومين وأنهم مستحقون لذلك، فلزوم العدل في هذه الحالة، وترك الظلم من الإمام دليل على قوة الإيمان والمراقبة لله، وأن الحامل له على ذلك تقوى الله، بخلاف غير الإمام فلربما كان تنزهه عن الظلم لأسباب أخرى، من عجز أو خشية عقوبة دنيوية، أو تسلط مظلوم وانتقامه.
وكذا الشاب فدافع المعصية فيه أقوى، لقوة البدن، وغلبة الشهوة، وعدم اكتمال العقل، فنشأته على الطاعة ومغالبة الهوى دليل على قوة الإيمان والمراقبة لله قال ابن حجر:«خص الشاب لكونه مظنة غلبة الشهوة، لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى، فإن ملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى» .
(2)
(1)
انظر الحديث في صحيح البخاري مع الفتح 2/ 143 ح (660) وصحيح مسلم 2/ 715 ح (1031).
(2)
فتح الباري 2/ 145.
وكذلك البواعث الحاملة على الزنا بمن دعت إليه من ذات منصب وجمال، عظيمة جداً، من كون هذه المرأة طالبة لهذا الأمر بنفسها، مجتهدة في وقوعه، ومن كونها ذات منصب، يخشى من سطوتها عند المخالفة، ويرجى نفعها عند الموافقة، وهي مع هذا ذات جمال، يرغب فيها مع التجرد من كل ما سبق، فكيف وقد اجتمعت فيها الأسباب كلها، فلا شك أن عدم مطاوعتها لطلبها ممن دعته لذلك من الرجال دليل على عظم خشية الله في قلب ذلك الرجل، وشدة المراقبة لله في نفسه قال الحافظ ابن حجر:«والصبر عن الموصوفة بما ذكر من أكمل المراتب، لكثرة الرغبة في مثلها وعسر تحصيلها، لا سيما وقد أعنت من مشاق التوصل إليها بمراودة ونحوها» .
(1)
ولهذا استحق هؤلاء الأصناف الثلاثة ذلك الثواب العظيم من الله، بأن يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله، كما استحق غيرهم من باقي الأصناف السبعة ذلك الثواب، لأسباب أخرى تحققت في أعمالهم فتميزت بها عن غيرها.
ومن صور هذه المسألة ما جاء في حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كظم غيظه، وهو يقدر على أن ينتصر، دعاه الله تبارك وتعالى على رؤوس الخلائق، حتى يخيره في حور العين، أيتهن شاء، ومن ترك أن يلبس صالح الثياب وهو يقدر عليه، تواضعاً لله تبارك وتعالى، دعاه الله تبارك وتعالى على رؤوس الخلائق حتى يخيره في حلل الإيمان أيتهن شاء» .
(2)
فدل الحديث على فضل هذين العملين، وهما كظم الغيظ مع القدرة على
(1)
فتح الباري 2/ 145.
(2)
أخرجه أحمد في السنن 24/ 384 ح (15619) وأبو داود 5/ 137 ح (4777) والترمذي 4/ 372 ح (2021) وقال: (حسن غريب) وابن ماجه 2/ 1400 ح (4186) وحسن الحديث الألباني في صحيح ابن ماجه 2/ 407 ح (3375).
الانتصار، وترك لبس صالح الثياب تواضعاً، مع القدرة على الصالح منها، وإنما شرف العملان هنا بالقدرة على ما يضادها، فظهر أن الباعث عليها هو إيثار مراضاة الرب، وهذا بخلاف ما لو تحقق العملان المذكوران من غير قدرة على ما سواهما، كمن كظم غيظه من غير قدرة على إنفاذه، ولبس غير الصالح لعجزه عن الصالح، فلا الأن الأجرين المذكورين.
ومما يدخل في هذا الباب أيضاً ترك المراء لمن كان محقاً، على ما ورد فضل ذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا زعيم ببيت في ربض
(1)
الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً
…
»
(2)
، فترتب على من ترك المراء في هذه الحالة هذا الفضل العظيم، لقوة الدافع على المماراة بسبب كون الممارى محقاً وحجته على خصمه ظاهرة، ونصره عليه متحققاً، فترك المراء مع كل هذا، دليل على قوة الإيمان وإيثار ما عند الله على نشوة النصر، وحب العلو في الأرض.
وهكذا كل عمل صالح ضعفت دواعي فعله، وقويت أسباب تركه أو المخالفة فيه، فإنه يعظم أجره بسبب ما يحصل من المجاهدة، ومدافعة الهوى، والصبر على الطاعة فيه.
2 -
حال قدرة العامل على بعض الأعمال وإتقانها دون غيرها من الأعمال، فاشتغال العبد بما يقدر على تأديته على وجه الإتقان أفضل من اشتغاله بغيره مع عدم الإتقان.
والأصل الذي عليه مبنى هذه المسألة أن الله تعالى بحكمته البالغة، قد فاضل بين الخلق في قدراتهم البدنية، والعقلية، والنفسية، كما فضل بعضهم على بعض في الأرزاق وهم بحسب ذلك: يتفاوتون في القدرة على بعض الأعمال دون
(1)
ربض الجنة ما حولها خارجاً عنها، تشبيهاً بالأبنية التي تكون حول المدن وتحت القلاع. النهاية لابن الأثير 2/ 185.
(2)
أخرجه أبو داود 5/ 150 ح (4800) وقد حسنه الألباني في الأحاديث الصحيحة ح (273).
بعض، فاشتغال العبد بما يحسن من الأعمال ويكون أنفع للأمة، أفضل من تكلفه الاشتغال بعمل لا يحسنه أو يضعف عنه، وإن كان هذا المُتَكَلَّف هو أفضل من حيث الجنس.
وقد دلت على هذه المسألة عدة أدلة منها:
قول الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} .
(1)
قال ابن عباس في معنى قول الله تعالى: {على شاكلته} «على ناحيته» .
وعن مجاهد قال: «على طبيعته على حِدَته» .
وقال الحسن وقتادة: «على نيته» .
وقال مقاتل «على خليقته» .
وقال الفراء: «على طريقته التي جبل عليها» .
وقال القتيبي: «على طريقته وجبلته» .
(2)
وقال ابن القيم في تفسير الآية: «كل يعمل على ما يشاكله ويناسبه ويليق به
…
فالمريد الصادق المحب يعمل ما هو اللائق به والمناسب له».
(3)
والآية وإن وردت مورد الخبر عن عموم الناس، وأن كل واحد هو عامل بما يناسب طبيعته، وما جبل عليه، إلا أنها متضمنة توجيه أهل الإيمان إلى العمل بما يناسب قدراتهم وطبائعهم، كما تقدمت الإشارة إلى هذا في كلام ابن القيم رحمه الله، وهذا المعنى هو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه أمته في قوله:«عليكم من العمل ما تطيقون» . وما جاء في معناه من الأحاديث
(1)
سورة الإسراء (84).
(2)
مدارج السالكين 2/ 371.
(3)
انظر تفسير الطبري 8/ 140، 141 وتفسير البغوي 3/ 133.
مما تقدم نقلها في فصل التفاضل في العمل باعتبار الاقتصاد والتيسير.
(1)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي هذا الجانب المهم فيما يسنده إلى أصاحبه من أعمال، فيوجه كل واحد منهم إلى ما يعلم قدرته عليه وإتقانه له من الأعمال، بحسب استعداداتهم الفطرية، والنفسية والجسدية، والعلمية.
فوجه بعضهم إلى تعليم الناس في الأمصار أمور دينهم
(2)
وأسند إلى بعضهم قيادة الجيوش والسرايا
(3)
وكان يرجع إلى أهل الرأي والخبرة فيستشيرهم فيما يعرض له من أمور المسلمين
(4)
، واتخذ كُتَّابا بين يديه ممن كانوا يحسنون الكتابة
(5)
، وكان يتعهد من علم منه الحرص على العلم بالتعليم ولربما دعا لبعضهم بذلك كما دعى لأبي هريرة وابن عباس
(6)
رضي الله عنهما.
كما كان في مقابل هذا لا يُمَكِّن من العمل من علم ضعفه أو عجزه عنه كما ردَّ طائفة من أصحابه عن الخروج معه للجهاد يوم أحد لصغر سنهم وضعفهم عن الجهاد
(7)
، وامتنع من تولية من سأله الإمارة مصرحاً بسبب ذلك في قوله:«إنك ضعيف وإنها أمانة» .
(8)
وأمر عبد الله بن زيد رضي الله عنه بعد أن رأى في منامه صفة الأذان أن يعلمه بلال بن رباح معللاً ذلك بكونه (أندى منه صوتاً) فكان بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(9)
.
(1)
انظرها ص: 116 - 117.
(2)
انظر زاد المعاد لابن القيم 1/ 123.
(3)
انظر الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لابن كثير 122 - 125.
(4)
انظر المستدرك للحاكم 2/ 247، والسنن الكبرى للبيهقي 1/ 664.
(5)
انظر زاد المعاد لابن القيم 1/ 117، والمختصر الكبير في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لابن جماعة ص:111.
(6)
انظر صحيح البخاري مع الفتح 1/ 215، وسنن الترمذي 5/ 679، 680.
(7)
انظر تاريخ الطبري 2/ 505.
(8)
انظر الحديث في صحيح مسلم 3/ 1457 ح (1852).
(9)
انظر الحديث في مسند أحمد 26/ 402 ح (16478) وقال محققه «إسناده حسن» .
إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا يمكن حصرها إلا بصعوبة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مراعاته هذا الأمر المهم فيما يوجه إليه أصحابه وما يأمرهم به من أعمال. الأمر الذي يتضمن إرشاد الأمة إلى ضرورة مراعاة القدرة على العمل والتمكن من تأديته على الوجه المشروع لكل عامل، بحسب ما يعلم من نفسه.
كما دلت على تقرير هذا الأصل أيضاً أقوال السلف وأهل العلم المحققين في السنة:
فعن تميم الداري رضي الله عنه أن رجلاً سأله عن مقدار قراءته القرآن في كل ليلة فغضب ثم قال له: «أرأيت إن كنتَ أنا مؤمناً قوياً وأنت مؤمن ضعيف، فتحمل قوتي على ضعفك فلا تستطيع فتنبتُّ، أرأيت إن كنت مؤمناً قوياً وأنا مؤمن ضعيف أتيتك بنشاطي حتى أحمل قوتك على ضعفي ولا أستطيع فأنبت، ولكن خذ من نفسك لدينك، ومن دينك لنفسك، يستقيم بك الأمر على عبادة تطيقها» .
(1)
فبين هذا الصحابي الجليل تفاوت الناس في القدرة على العمل وأن ما يكون مقدوراً عليه من العمل في حق بعضهم لا يكون كذلك في حق الآخرين وبالتالي فاشتغال كل واحد بما يقدر عليه وتستقيم عليه عبادته هو الأفضل في حقه.
وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقلُّ الصيام ويقول: «إنه يضعفني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إلي»
(2)
. وهذا تحقيق منه رضي الله عنه لهذا الأصل وامتثاله له في عبادته.
ومن أقوال العلماء المحققين في تقرير هذا الأصل قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في جواب سائل له عن أفضل الأعمال؟ «وأما ما سألت عن أفضل الأعمال بعد الفرائض، فإنه يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب
(1)
أخرجه ابن المبارك في الزهد 2/ 798 برقم (1050).
(2)
أورده ابن رجب في لطائف المعارف ص 447.
أوقاتهم».
(1)
ويقول في موطن آخر: «إن الأفضل يتنوع تارة بحسب أجناس العبادة كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة
…
وتارة يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه، فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه، وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل».
(2)
ويقول رحمه الله أيضاً: «أكثر الناس يعجزون عن أفضل الأعمال، فلو أُمروا بها لفعلوها على وجه لا ينتفعون به، أو ينتفعون انتفاعاً مرجوحاً، فيكون في حق أحد هؤلاء العمل الذي يناسبه، وينتفع به أفضل له مما ليس كذلك» .
(3)
ويقول الحافظ ابن رجب في سياق حديثه عن نهي الشارع عما لا يحتمله العبد، وما لا يطيقه من العمل:«ومن احتمل بدنه ذلك ولم يمنعه من حق واجب عليه لم ينه عن ذلك، إلا أن يمنعه عما هو أفضل من ذلك من النوافل، فإنه يرشد إلى عمل الأفضل، وأحوال الناس تختلف فيما تحتمل أبدانهم من العمل» .
(4)
فتبين بهذا أثر القدرة على العمل في التفاضل في الأعمال، لما يترتب على ذلك من إتقان العمل وتحقيقه على أكمل الأوجه وأتمها كما دلت على ذلك النصوص الشرعية وأقوال العلماء المحققين في السنة.
3 -
حال اقتران الأعمال الصالحة واجتماعها في حق العبد، فإن ذلك من أسباب التفاضل في الأجر والثواب عند الله تعالى.
وللجمع بين الأعمال الصالحة ثلاث صور، دلت النصوص عليها وعلى فضلها.
(1)
مجموع الفتاوى 10/ 660.
(2)
المصدر نفسه 10/ 427 - 428.
(3)
مجموع الفتاوى (24/ 237).
(4)
لطائف المعارف ص 447.
الصورة الأولى: الجمع بين خصال البر خلال العمر.
وذلك بأن يجتمع للعبد العمل بعدة أنواع من شعب الإيمان وخصال البر، فيكون أكمل ممن اقتصر على بعضها أو على خصلة واحدة منها استغرق فيها عمره.
ومن الأدلة على هذه الصورة.
(1)
(2)
(3)
قال الشوكاني في تفسير الآية عند قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} «أي مغفرة لذنوبهم التي أذنبوها، وأجراً عظيماً على طاعتهم التي فعلوها: من الإسلام، والإيمان، والقنوت، والصدق، والصبر، والخشوع والتصدق، والصوم، والعفاف، والذكر، ووصف الأجر بالعظم للدلالة على أنه
(1)
البقرة (177).
(2)
تفسير ابن كثير 1/ 486.
(3)
سورة الأحزاب (35).
بالغ غاية المبالغ».
(1)
وقال الشيخ السعدي بعد تفسيره لهذه الصفات المذكورة في الآية: «من قام بهن فقد قام بالدين كله، ظاهره وباطنه، بالإسلام والإحسان، فجازاهم على عملهم {مغفرة} لذنوبهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات و {أجرا عظيما} لا يقدر قدره إلا الذي أعطاه» .
(2)
والآيات في هذا المعنى كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
(3)
وقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} .
(4)
إلى غير ذلك من الآيات المتضمنة المجازاة بالأجور العظيمة والدرجات العالية في الجنة لمن اجتمعت فيه بعض خصال البر والخير والإحسان.
وأما ما جاء في هذا المعنى من السنة فحديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دُعي من أبواب -يعني الجنة- يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان، فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يُدْعى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال: هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم وأرجو أن
(1)
فتح القدير 4/ 282.
(2)
تفسير السعدي 6/ 109.
(3)
سورة المؤمنون الآيات (1 - 10).
(4)
سورة آل عمران (133 - 136).
تكون منهم يا أبا بكر».
(1)
ففي الحديث دلالة ظاهرة على فضل الجمع بين خصال البر، وذلك أن كل صاحب خصلة يدعى للجنة من باب هذه الخصلة، ويدعى من جمع بين الخصال كلها، من الأبواب كلها ومنهم أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
(2)
ولهذا ترجم شُرَّاح صحيح مسلم لهذا الحديث وما جاء في معناه بما يدل على هذا المعنى، فترجم القاضي عياض (باب من جمع الصدقة وأعمال البر).
(3)
وترجم أبو العباس القرطبي «باب أجر من أنفق شيئين في سبيل الله، وعظم منزلة من اجتمعت فيه خصال من الخير» .
(4)
وترجم النووي: (باب فضل من ضم إلى الصدقة غيرها من أنواع البر).
(5)
وبمجموع هذه الأدلة يظهر فضل الجمع بين الأعمال الصالحة على الاشتغال بنوع واحد منها، وهذا مقتضى النظر الصحيح الموافق لأصول الشريعة في باب الإيمان، فإن من عبد الله بأكثر من نوع من أنواع العبادة، يكون قد جمع بين عدة شعب من شعب الإيمان، فإن الأعمال الصالحة شعب الإيمان، وعلى قدر ما يحقق العبد من الشعب يقوى إيمانه، حتى إذا ما استكمل الشعب كلها وهي تزيد على الستين أو السبعين كمل إيمانه كمالاً مطلقاً، لا يبلغ درجته من قصر في بعض الشعب.
(1)
أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح 7/ 19 ح (3666) ومسلم 2/ 711 ح (1028).
(2)
لا يشكل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم (أرجو أن تكون منهم) لأن الرجاء من الله ومن نبيه صلى الله عليه وسلم واقع، ثم إنه قد جاء في بعض روايات الحديث، التصريح بوقوع ذلك لأبي بكر، انظر فتح الباري 7/ 29.
(3)
إكمال المعلم 3/ 554.
(4)
المفهم 3/ 70.
(5)
شرح النووي 7/ 115.
الصورة الثانية: الجمع بين خصال البر في وقت واحد.
وقد دل على هذه الصورة حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا. قال فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» .
(1)
والظاهر من الحديث أن هذا الثواب المذكور، وهو دخول الجنة، مترتب على اجتماع الخصال المذكورة في الرجل في يوم واحد، فقد كان في كل مرة يقول من (فعل اليوم؟) ثم قال (ما اجتمعن
…
) فمفهومه: أن يجتمعن على القيد السابق، أي يجتمعن في يوم واحد.
يؤيد هذا ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد، بعد ذكر الحديث عن مروان بن معاوية أحد رواة الحديث أنه قال:«بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمعت هذه الخصال في رجل في يوم، إلا دخل الجنة» .
(2)
ومن هنا فارقت هذه الصورة الصورة السابقة. ففي هذه الصورة اجتماع للعمل في حق العامل في وقت واحد، وفي الصورة السابقة اجتماع للعمل في حق العامل في حياته كلها، من غير تقييد بالاشتراك في الزمن، بل قد يعمل بعمل في زمن، ويعمل بغيره في زمن آخر، فينبغي التنبه للفرق.
كما ينبغي أن يقرر في الصورة الثانية أن الزمن المقيد لاجتماع الأعمال المذكورة فيه وهو (اليوم) وإن كان معتبراً في هذا الموطن إلا أنه لا يلزم أن يكون هذا الزمن قيداً عاماً لكل أفراد هذه الصورة، بل قد يأتي الشارع بالترغيب في
(1)
أخرجه مسلم 2/ 713 ح (1028).
(2)
الأدب المفرد مع شرحه فضل الله الصمد 1/ 608 ح (515).
الجمع بين أعمال أخرى، في زمن أوسع، كأن يكون شهراً، أو أقل، أو أكثر كما جاءت النصوص بالترغيب في أعمال البر في شهر رمضان على ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قام رمضان، إيماناً واحتساباً، غُفِر له ما تقدم من ذنبه» .
(1)
وأخرج الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، صُفِّدَت الشياطين، ومردة الجن، وغُلِّقَت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفُتِّحَت أبواب الجنة فلم يُغْلَق منها باب، وينادي منادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر اقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة» .
(2)
فهذان الحديثان وغيرهما، يدلان على فضل المسارعة لأعمال البر في شهر رمضان، وعلى فضل الجمع بين خصال الخير فيه، وهذا ظاهر من الترغيب في القيام، والجمع بينه وبين الصيام كما في الحديث الأول، كما أن في الاخبار عن فتح أبواب الجنة كلها كما في الحديث الثاني والذي تقدم في حديث أبي هريرة السابق
(3)
أن كل باب منها يختص بنوع من أنواع البر، إرشاد من وجه لطيف إلى فضل الجمع بين أعمال البر في هذا الشهر وحفز الهمم لذلك.
قال ابن رجب بعد ذكر بعض الآيات في الترغيب في الجمع بين أعمال البر في حال الصيام: «وهذه الخصال كلها تكون في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصيام والقيام، والصدقة وطيب الكلام، فإنه ينهى فيه الصائم عن اللغو والرفث» .
(4)
(5)
.
(1)
تقدم تخريجه ص: 144.
(2)
تقدم تخريجه ص: 144.
(3)
انظر ص: 206 من هذا الكتاب.
(4)
لطائف المعارف 312.
(5)
لطائف المعارف 312.
والمقصود هنا هو التنبيه على تنوع أفراد هذه الصورة، باعتبار الزمان المرغب في اجتماع الأعمال فيه، فقد يكون يوما، أو أسبوعاً، أو شهراً، بحسب ما جاءت به النصوص.
الصورة الثالثة: اقتران العمل من جنس واحد بمثله.
وقد دل على هذه الصورة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المتقدم: «من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة» .
(1)
قال ابن حجر في شرحه: «والمراد بالزوجين إنفاق شيئين من أي صنف من أصناف المال من نوع واحد» .
(2)
والمقصود بالزوج في الحديث هنا (الفرد) ومنه قوله تعالى: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}
(3)
ويقع الزوج على الاثنين أيضاً، وقيل إنما يقال للفرد زوج إذا كان معه آخر ذكره القاضي عياض في شرح الحديث.
(4)
وقد ذهب أهل العلم، إلى أن الحديث وإن كان في النفقة، إلا أنه يشمل سائر أعمال البر، في حصول الأجر المذكور باقترانها بأجناسها:
قال القاضي عياض: «يحتمل أن يكون هذا في جميع أعمال البر، من صلى صلاتين، أو صام يومين، والمقصود من هذا كله والله أعلم تشفيع صدقته بأخرى مثلها» .
(5)
وقال أبو العباس القرطبي: «وهذا نص في عموم كل شيء يخرج في سبيل الله، وقيل: يصح إلحاق جميع أعمال البر بالإنفاق، ويدل على صحة هذا بقية الحديث إذ قال فيه: «من كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان
(1)
تقدم تخريجه ص: 205.
(2)
فتح الباري 4/ 112.
(3)
سور هود الآية 40.
(4)
إكمال المعلم 3/ 555.
(5)
المصدر نفسه 3/ 555.
من أهل الصيام دعي من باب الصيام».
(1)
وإلى هذا الفهم ذهب النووي
(2)
وهو ظاهر كلام ابن حجر في الفتح والله أعلم.
فثبت بهذا أثر اقتران الأعمال الصالحة في التفاضل في العمل، من خلال الصور الثلاث المذكورة، على ما دلت على ذلك الأدلة وتقريرات أهل العلم.
وبه ختام هذا الفصل، الذي تم من خلاله بيان التفاضل في الأعمال، باعتبار اقترانها ببعض الأحوال المؤثرة في زيادة أجرها وثوابها عند الله.
على أنه يحسن التنبيه هنا إلى أن ماتم عرضه من الأحوال المؤثرة في التفاضل، سواء أكانت عامة أم خاصة، ليس هو إلا من باب التمثيل لا الحصر، ولا أدعي أني استوفيت الأحوال كلها، بل لم يكن هذا من قصدي، إذ الأحوال من هذا النوع كثيرة يصعب حصرها، وإنما أردت التنبيه ولفت النظر إلى هذا النوع من أنواع التفاضل والتمثيل لذلك بما تيسر، فما جاءت به النصوص من أحوال أخرى فهو ملحق بأصله، ومقارن بالمذكور من مثله، والله تعالى أعلم.
(1)
المفهم 3/ 71.
(2)
انظر شرح صحيح مسلم 7/ 116.
الفصل الثاني عشر: الموازنة بين أسباب تفاضل الأعمال وما الذي يقدم منها عند التزاحم
تقدم من خلال البحث ذكر أسباب التفاضل بين الأعمال، باعتبارات كثيرة تزيد على العشرة، كما هو ظاهر من استعراض البحث.
وهاهنا سؤال مهم تتعين الإجابة عليه وهو: هل بالإمكان الجمع بين أنواع التفاضل كلها، وتحققها مجتمعة للعامل، أم أن هذا غير ممكن؟
والجواب على هذا أن اجتماع أسباب التفاضل كلها للعامل ممكن ومتصور، بل هذا هو الأصل الذي نُدِب إليه العباد في أعمالهم، بأن يحققوها على أحسن الأوجه وأكملها، كما قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}
(1)
بل إن اجتماع كثير من أسباب التفاضل المذكورة في عمل واحد متصور ممكن، وذلك بأن يجتمع في العمل أن يكون فاضلا باعتبار جنسه، متعديا للخلق، كما يتحقق للعامل فيه قوة الإخلاص، وحسن المتابعة، مع تأديته له على وجه الاقتصاد والسداد، ولزوم المداومة، إلى غير ذلك من الأسباب المذكورة، التي يتصور اجتماعها في عمل واحد، فيزكو بقدر ما اجتمع فيه من أسباب التفاضل.
لكن ينبغي أن يقرر هنا أن إمكانية اجتماع أسباب التفاضل في حق العامل من حيث التقرير العلمي، والتصور الذهني، أو حتى تحققها في الخارج في بعض الأفراد: أن هذا لا يعني أن يكون هذا الحكم عاما في حق كل الأفراد، بل ولا في الغالب منهم؛ وذلك أن بعض أسباب التفاضل قد يتعذر تحقيقها مجتمعة لدى الكثير من الناس: إما قدراً، أو شرعاً، فلا يكونون حينئذ مخاطبين بها، بل لابد لمن كانت هذه حاله، أن يرجح بين أسباب التفاضل، فيأخذ بالأقوى منها في
(1)
الملك: من الآية 2
التفضيل والأنسب لحاله.
ومن هنا كانت الحاجة ملحة لعقد هذا المبحث الخاتم للمقارنة بين أسباب التفاضل عند التزاحم.
ومدار البحث في هذه المسألة وقطب رحاها يبنى على النظر في أصلين:
الأول: الموازنة بين أسباب تفاضل الأعمال من حيث الإطلاق، وما الذي يقدم منها عند التزاحم.
الثاني: الموازنة بين أسباب تفاضل الأعمال في حق المعينين باعتبار تفاوت أحوالهم.
أما الأصل الأول: وهو الموازنة بين أسباب تفاضل الأعمال من حيث الإطلاق، فهذا الأصل مبناه على معرفة مراتب أسباب التفاضل بين الأعمال، وما الذي يقدم منها عند التزاحم من حيث الجملة. وذلك أنه تقدم في ثنايا البحث، أن الأعمال تتفاضل باعتبارات كثيرة، فإذا ما تعارض عملان فاضلان باعتبارين، كأن يفضل أحدهما باعتبار جنسه، والآخر باعتبار مكانه، أو يفضل أحدهما باعتبار المتابعة، والآخر باعتبار المداومة، فلابد والحالة هذه من الترجيح، للأخذ بالأفضل وتقديمه على المفضول المرجوح.
والموازنة بين أسباب تفاضل الأعمال والترجيح بينها، من أدق المسائل وأصعبها، وهي تحتاج للنظر في شعب كثيرة، ومسائل متنوعة، مع إلمام واسع بمقاصد الشرع، وأصول الدين.
قال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: «فعلى المتكلم في هذا الباب، أن يعرف أسباب الفضل أولا، ثم درجاتها، ونسبة بعضها إلى بعض، والموازنة بينها ثانيا، ثم نسبتها إلى من قامت به ثالثا كثرة وقوة، ثم اعتبار تفاوتها بتفاوت محلها رابعا» .
(1)
(1)
بدائع الفوائد (1/ 140).
وقد اجتهد العلماء المحققون رحمهم الله، في جمع شتات هذا الباب وتقريب أبعاده، بذكر بعض القواعد العامة في الموازنة بين أسباب التفاضل بين الأعمال، استنبطوها من النصوص الشرعية.
وسأذكر هنا جملة منها، لتكون عونا للناظر في هذا الباب بعد عون الله وتوفيقه. فمن هذه القواعد:
القاعدة الأولى: تقديم الواجبات على النوافل.
وذلك لأن تأدية الواجبات أفضل عند الله وأحبّ إليه من تأدية النوافل على ما تقدم تقريره في الفصل الثاني من هذا الكتاب
(1)
فينبغي مراعاة هذا الأصل عند الترجيح بين الأعمال الفاضلة، فإذا ما حصل التزاحم بين عملين فاضلين، قدم ما كان تفضيله راجعا إلى الوجوب، على ما كان تفضيله راجعا إلى سبب آخر من الأسباب المتقدمة في تفاضل الأعمال.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في (القواعد والأصول الجامعة): «القاعدة الثالثة والثلاثون: إذا تزاحمت المصالح قدم الأعلى منها، فيقدم الواجب على المستحب، والراجح من الأمرين على المرجوح .. » .
(2)
فإذا تعارض لدى العامل واجب عيني في حقِّه كطاعة والدٍ، أو ولي أمر، أو القيام على حقوق الزوجة والأولاد الواجبة، أو قيام الزوجة بحقوق زوجها، إذا تعارضت هذه الواجبات مع أعمال أخرى مستحبة في حق هذا العامل، فإن هذه الأعمال المستحبة لا تقدم على الحقوق الواجبة ولو كانت المستحبة هي أفضل باعتبار جنسها، أو تعديها للخلق، أو مصاحبتها لزمان، أو مكان فاضلين، إلى
(1)
انظر ص: 39 وما بعدها.
(2)
ص: 66.
غير ذلك من أسباب التفضيل الأخرى.
وكذا ما قيل في المفاضلة بين الواجبات والنوافل، يقال في المفاضلة بين الواجبات نفسها؛ فإنها تتفاوت في قوّة الوجوب كما تقدم تقرير ذلك
(1)
فيقدم الأوجب فالأوجب عند التزاحم.
ومن الأمثلة لتوظيف أهل العلم هذا الأصل في الترجيح بين الأعمال:
جواب شيخ الإسلام ابن تيمية لمن سأله: طلب القرآن أو العلم أفضل؟ فقال:
(2)
(3)
القاعدة الثانية: تقديم السنن الراتبة على السنن المطلقة.
وذلك لمكانة السنن الرواتب من الدين، وتأكيد الأئمة على أهمية التزامها، بل وذمهم من داوم على تركها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في جواب من سأله عن حكم من لا يواظب على السنن الرواتب:«من أصرّ على تركها، دلّ ذلك على قلّة دينه، وردتّ شهادته، في مذهب أحمد والشافعي وغيرهما» .
(4)
وقد نص بعض أهل العلم على تقديمها على السنن المطلقة، وعلى فضلها
(1)
انظر ص: 49 - 53.
(2)
الفتاوى الكبرى (2/ 234)، ومجموع الفتاوى (23/ 54).
(3)
القواعد والأصول الجامعة ص: 67.
(4)
الفتاوى الكبرى (2/ 259).
عليها.
يقول ابن عبد البر رحمه الله في سياق حديثه عن ركعتي الفجر: «وآكد ما يكون من السنن، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب عليه، ويندب إليه ويأمر به» .
(1)
ويقول رحمه الله: «وأعمال البر كلها مرغوب فيها، وأفضلها ما واظب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها
(2)
، وسنّها».
(3)
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: «ويقدم [أي العبد] السنن الراتبة على السنن المطلقة»
(4)
وهذا يقتضي تقديم السنن الرواتب قبل الصلوات وبعدها على غيرها من المستحبات، التي قد تكون أفضل باعتبار جنسها، كطلب علم، وتعليمه، وجهاد، أو تكون أفضل باعتبار تعدّيها كعموم الإحسان إلى الخلق وذلك لكون السنن الرواتب تفوت بفوات وقتها، والمداومة عليها مقصودة للشارع بخلاف غيرها فيمكن تحقيقها في غير هذا الوقت.
القاعدة الثالثة: تقديم وظائف الأوقات والأحوال في الأوقات والأحوال التي شرعت فيها على غيرها من العبادات.
وقرر هذا الأصل الإمام ابن القيم في سياق نقله الخلاف بين الناس في أفضل العمل، وذكر أن أصحاب هذا القول هم أهل التعبّد المطلق، وأن العمل بمقتضى هذا الأصل هو أفضل العمل.
قال رحمه الله: «الصنف الرابع قالوا: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب
(1)
التمهيد (22/ 71).
(2)
هكذا في المصدر والذي يظهر أن الصواب «ماواظب عليه
…
» فسقطت كلمة «عليه» من السياق.
(3)
المصدر نفسه (22/ 71).
(4)
القواعد الأصول الجامعة ص: 67.
في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته. فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا: القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب. وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل. والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء، والذكر، والاستغفار، والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن، والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع وإن بَعُد كان أفضل، والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك ..
فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه .. »
(1)
ويدل على صحة تقرير هذا الأصل وجهان ظاهران في العلم:
الأول: أن الاشتغال بمقتضى وظيفة الوقت والحال هو الموافق لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ندب أمته في هذه الأوقات والأحوال إلى هذه الوظائف. فلا ينبغي أن تعارض هذه الوظائف بغيرها من الأعمال التي لم تُخَص بهذه الأوقات، فأُمِرنا عند سماع المؤذن بإجابته، وعند لقاء المسلم بالسلام عليه، وعند دخول المسجد والخروج منه، ودخول المنزل والخروج منه بأذكار مخصوصة، فلا ينبغي أن تعارض هذه الوظائف: بقراءة القرآن مثلاً، أو الذكر المطلق، أو غير ذلك من
(1)
مدارج السالكين (1/ 88 - 89).
الأعمال مما جاءت الأدلة بالترغيب فيها مطلقا.
الثاني: أن هذه الوظائف المقيدة بوقت وحال، تفوت بفوات وقتها وحالها، فلا يمكن تداركها بخلاف العبادات الأخرى المطلقة فإنها لا تفوت، ولهذا رجح شيخ الإسلام ابن تيمية الأذكار المشروعة في وقت أو حال، على قراءة القرآن، بالنظر لهذا المعنى.
قال رحمه الله: «إن قراءة القرآن أفضل من جنس الذكر من حيث الجملة، وإن كان هذا الكلام قد يكون أفضل من القراءة كما أن الشهادتين في وقت الدخول في الإسلام، أو تجديده، أو عندما يقتضي ذكرهما، مثل: عقب الوضوء، ودبر الصلاة، والأذان وغير ذلك، أفضل من القراءة.
وكذلك في موافقة المؤذن، فإنه إذا كان يقرأ وسمع المؤذن، فإن موافقته في ذكر الأذان أفضل له حينئذ من القراءة، حتى يستحب له قطع القراءة لأجل ذلك؛ لأن هذا وقت هذه العبادة يفوت بفوتها، والقراءة لا تفوت».
(1)
القاعدة الرابعة: تقديم الفضائل المتعلقة بذات العبادة على الفضائل المتعلقة بزمانها ومكانها.
وقد أشار إلى هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في سياق حديثه عن المفاضلة بين سماع قراءة الإمام في صف متأخر والصلاة في الصف الأول من غير سماع فقال: «ووقوف المأموم بحيث يسمع قراءة الإمام، وإن كان في الصف الثاني أو الثالث أفضل من الوقوف في طرف الصف الأول مع البعد عن سماع قراءة الإمام؛ لأن الأول صفة في نفس العبادة، فهو أفضل من صفة مكانها، كما رجحنا الرمل مع البعد في الطواف، على الدنو مع ترك الرمل» .
(2)
كما ذكر هذه القاعدة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في سياق الترجيح بين الرمل في
(1)
مجموع الفتاوى (24/ 239).
(2)
الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية جمع علاء الدين البعلي ص: 76.
الطواف أو القرب من الكعبة عند عدم التمكن من الجمع بينهما فقال: «فإن قال قائل إذا دار الأمر بين أن أرمل مع البعد عن الكعبة، وبين أن أمشي مع القرب فأيهما أقدم؟ الجواب قَدِّم الأول، فارمل ولو بعدت عن الكعبة؛ لأن مراعاة الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى، من المراعاة المتعلقة بزمانها أو مكانها، وهذه القاعدة لها أمثلة:
مثال ذلك لو أن رجلا حين دخل عليه وقت الصلاة وهو حاقن، أو بحضرة طعام، فهل الأولى أن يقضي حاجته، ويأكل طعامه، ولو أدى ذلك إلى تأخير الصلاة عن أول وقتها، أو العكس؟
الجواب: الأول. فهنا راعينا نفس العبادة دون أول الوقت؛ لأنه إذا صلى فارغ القلب، مقبلا على صلاته كانت صلاته أكمل.
مثال آخر: لو أن شخصا أراد أن يصلي في الصف الأول وحوله ضوضاء وتشويش، أو حوله رجل له رائحة كريهة، فهل الأولى أن يتجنب الضوضاء والرائحة الكريهة، ولو أدى ذلك إلى ترك الصف الأول. أو أن يصف في الصف الأول مع وجود التشويش؟ لا شك أن الأولى تجنب التشويش، وترك الصف الأول؛ لأن هذا يتعلق بذات العبادة».
(1)
وهذا مما يدل على ترجيح أسباب التفاضل المتعلقة بالإخلاص أوالمتابعة أوغيرهما من الأسباب المتعلقة بأصل العبادة، على الأسباب الخارجة عنها كالأسباب المتعلقة بالزمان أو المكان.
مثل أن يتزاحم عند العامل تأدية الصلاة من أولها في مسجد قريب مفضول،
(1)
الشرح الممتع شرح زاد المستنقع (7/ 280).
أو تأديتها في مسجد فاضل مع فوات شيء منها، كما يسأل عن هذا بعض طلاب العلم في المدينة النبوية، وهل الأفضل تأدية الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مع فوات شيء منها، أو إدراك الصلاة من أولها في مسجد آخر من مساجد المدينة، فيترجح هنا:
تأدية الصلاة من أولها في مسجد آخر على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مع فوات شيء منها وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن إدراك الصلاة من أولها مأمور به على سبيل الوجوب، وإدراك الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مع إمكانية تأدية الجماعة في مسجد آخر مأمور به على سبيل الندب، ولا يتقدم المندوب على الواجب.
الوجه الثاني: وهو راجع إلى هذه القاعدة التي نحن بصددها وهو أن إدراك الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة راجعة إلى ذات العبادة، وإدراك الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة راجعة إلى مكان العبادة، فتترجح الفضيلة المتعلقة بذات العبادة، عن المتعلقة بمكانها.
ومن الأمثلة لهذا ممّا يتعلق بالزمان: تأدية الصلاة النافلة في النهار على وجه الكمال، تفضل على تأديتها في الليل مع التقصير، وإن كانت صلاة الليل أفضل من حيث الجملة.
(1)
لكن لما تعارضت هنا فضيلتان تقدّمت الفضيلة المتعلّقة بذات العبادة وهي أداء الصلاة على وجه الكمال، على الفضيلة المتعلقة بالزمان والله أعلم.
القاعدة الخامسة: إذا تساوى عملان أو أكثر في الفضل، أو رجح أحدهما على الآخر، فالأفضل هو الجمع بين هذه الأعمال، دون المداومة على أحدها وترك الآخر.
وهذه مسألة مهمة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهي تصلح أن تكون
(1)
تقدم تقرير هذه المسألة ص: 198 - 203 من هذا الكتاب.
قاعدة في باب المفاضلة بين الأعمال.
قال رحمه الله: «والسلف كان كل منهم يقرأ ويصلي، ويدعو، ويذكر على وجه مشروع، وأخذ ذلك الوجه عنه أصحابه، وأهل بقعته، وقد تكون تلك الوجوه سواء، وقد يكون بعضها أفضل
…
لكن هنا مسألة تابعة، وهو أنه مع التساوي أو الفضل أيما أفضل للإنسان المداومة على نوع واحد من ذلك، أو أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فمن الناس من يداوم على نوع من ذلك مختاراً له، أو معتقدا أنه أفضل، ويرى أن مداومته على ذلك النوع أفضل، وأما أكثرهم فمداومته عادة ومراعاة لعادة أصحابه وأهل طريقته، لا لاعتقاد الفضل.
والصواب أن يقال: التنوع في ذلك متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن في هذا اتباعا للسنة والجماعة، وإحياء لسنته، وجمعاً بين قلوب الأمة، وأخذاً بما في كل واحد من الخاصة أفضل من المداومة على نوع معين لم يداوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم لوجوه».
(1)
ثم ذكر في ذلك وجوها سبعة ملخصها:
الأول: أن في هذا إتباع السنة والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن ذلك يوجب اجتماع قلوب الأمة وائتلافها وزوال التفرّق والإختلاف.
الثالث: أن ذلك يخرج الجائز المسنون عن أن يشبه بالواجب فالمداومة على المستحب أو الجائز مشبهة بالواجب.
الرابع: أن في ذلك تحصيل مصلحة كلَّ واحد من تلك الأنواع فإنّ كلَّ نوع لابد له من خاصة.
(1)
مجموع الفتاوى (24/ 246 - 247).
الخامس: أن في ذلك وضعاً لكثير من الآصار والأغلال التي وضعها الشيطان على الأمة بلا كتاب من الله.
السادس: أن في المداومة على نوع دون غيره هجران لبعض المشروع ونسيانه والإعراض عنه.
السابع: أن الشارع إذا كان قد سوّى بين عملين كان تفضيل أحدهما من الظلم العظيم، وإذا فضل بينهما كانت التسوية كذلك
(1)
.
والمقصود هنا بيان أن تنويع العبادة والتقرب إلى الله بكل الأنواع المشروعة، أفضل من الاقتصار على بعضها وترك غيرها.
وهذا هو حقيقة العبودية الكاملة، وذلك أن الإيمان شعب كما دلت على ذلك النصوص ولا يتحقق الكمال في الإيمان إلا باستكمال شعبه كلها، كما قال عمر بن عبد العزيز:«إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان» .
(2)
ومع هذا فلا ينبغي أن يفهم من هذا التقعيد هنا، التهوين من شأن المداومة على بعض أعمال البر، التي جاءت السنة بالمداومة عليها، فقد تقدم في ما مضى من البحث أن المداومة على العمل من أعظم أسباب التفاضل بين الأعمال، كما دلت على ذلك النصوص وأقوال أهل العلم.
(3)
وإنما التحذير هنا هو من الانقطاع إلى عمل واحد، أو أكثر والمداومة عليها، مع ترك غيرها من أعمال البر، لا المداومة المشروعة على بعض الأعمال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم عليها؛ فإن هذه المداومة لا تتنافى مع التقرب إلى الله بغيرها من
(1)
انظر مجموع الفتاوى (24/ 248251).
(2)
ذكره البخاري معلقا. صحيح البخاري مع الفتح (1/ 45).
(3)
انظر ص: 101 وما بعدها.
شعب الإيمان وأعمال البرّ، كما كان على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن سار على طريقهم من سلف الأمة الصالح.
ولهذا صرح شيخ الإسلام في كلامه السابق بأن التنويع في العمل أفضل من المداومة على نوع معين، لم يداوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فاستثنى ما كان يداوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من المداومة المفضولة هنا، وهي ما كانت راجعة إلى محض اختيار العامل معتقدا فضلها، أو مقلدا فيها غيره كما نبه عليه شيخ الإسلام في عرض كلامه.
وقد تقدم في فصل (تفاضل الأعمال باعتبار المداومة) بيان مراتب الأعمال من حيث المداومة وعدمها على ضوء النصوص الشرعية فلتراجع في موضعها.
القاعدة السادسة: إذا تقابل عملان أحدهما ذو شرف في نفسه والأخر ذو تعدد وكثرة فأيهما يقدم؟
ذكر هذه القاعدة الإمام ابن رجب رحمه في تقرير القواعد فقال:
«القاعدة السابعة عشرة: إذا تقابل عملان: أحدهما ذو شرف في نفسه ورفعة وهو واحد، والآخر ذو تعدد في نفسه وكثرة، فأيهما يرجح؟
ظاهر كلام أحمد ترجيح الكثرة. ولذلك صور:
أحدها: إذا تعارض صلاة ركعتين طويلتين، وصلاة أربع ركعات في زمن واحد، فالمشهور أن الكثرة أفضل. وحكي عن أحمد رواية أخرى بالعكس، وحكي عنه رواية ثالثة بالتسوية.
والثانية: أهدى بدنة سمينة بعشرة، وبدنتين بعشرة أو بأقل.
قال ابن منصور: قلت لأحمد: بدنتان سمينتان بتسعة، وبدنة بعشرة. قال: ثنتان أعجب إلي، ورجح الشيخ تقي الدين تفضيل البدنة السمينة وفي سنن أبي داود حديث يدل عليه
(1)
.
(1)
قال محقق الكتاب الشيخ مشهور بن حسن (1/ 132): «يشير المصنف إلى ما أخرجه أبو داود في السنن (كتاب الضحايا باب ما يستحب من الضحايا رقم: 2796)
…
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن فحيل يأكل في سواد، ويشرب في سواد. وإسناده صحيح على شرط مسلم».
والثالثة: رجل قرأ بتدبر وتفكر سورة، وآخر قرأ في تلك المدة سوراً عديدة.
قال أحمد في رواية جعفر بن أحمد بن أبي قيماز، وقد سئل أيما أحب إليك: الترسل أو الإسراع؟ قال: أليس قد جاء بكل حرف كذا وكذا حسنة؟ قالوا له: في السرعة؟ قال: إذا صور الحرف بلسانه ولم يسقط من الهجاء.
وهذا ظاهر في ترجيح الكثرة على التدبر.
ونقل عنه حرب: أنه كره السرعة، إلا أن يكون لسانه كذلك لا يقدر أن يترسل.
وحمل القاضي الكراهة على إذا لم يبين الحروف .. »
(1)
إلى آخر ما ذكر من الأوجه.
والحاصل أنه يتنازع المسألة هنا سببان من أسباب التفضيل، أحدهما: يرجع إلى تحسين العمل وإتقانه، وآخر يرجع إلى كثرته وتعدده.
والعلماء في المفاضلة بين النوعين على مذاهب:
فمنهم من مال إلى التوقف في أصل المفاضلة بين النوعين، ذاهبا إلى أنه: كما أن التفاضل غير ممتنع، فكذلك التساوي في الفضل وارد، باعتبار أن لكل عمل جهة فضل يختص بها، وهذا ظاهر كلام ابن حجر رحمه الله في المفاضلة بين الإسراع والترتيل في القراءة.
قال رحمه الله: «والتحقيق أن لكل من الإسراع والترتيل جهة فضل، بشرط أن يكون المسرع لا يخل بشيء من الحروف، والحركات، والسكون الواجبات، فلا يمتنع أن يفضل أحدهما الآخر، وأن يستويا؛ فإن من رتل وتأمل كمن تصدق
(1)
تقرير القواعد وتحرير الفوائد لابن رجب (1/ 130134).
بجوهرة واحدة مثمنة، ومن أسرع كمن تصدق بعدة جواهر لكن قيمتها قيمة الواحدة، وقد تكون الواحدة أكثر من قيمة الأخريات وقد تكون بالعكس».
(1)
وحقيقة هذا القول: التوقف في المفاضلة بين النوعين وعدم الترجيح، بل التوقف في ثبوت التفاضل بينهما من أصله.
وما ذهب إليه ابن حجر من احتمال التساوي في الفضل: وجهه أنّ كل عمل يختص بخصيصة ليست موجودة في الآخر، فاحتمال مقاومة كل واحدة من الخصيصتين للأخرى في الفضل متصور، وبالتالي يتساوى العملان.
وإلى هذا أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في سياق حديثه عن أسباب التفاضل بين الأعمال من حيث العموم فقال: «وكثير ممّا تتنازع الطوائف من الأمة في تفاضل أنواعه لايكون بينها تفاضل، بل هي متساوية، وقد يكون مايختص به أحدهما مقاوما لما يختص به الآخر
…
»
(2)
.
ومن العلماء من رجّح كل واحد من النوعين باعتبار فقال: «إن ثواب قراءة الترتيل أجل قدرا، وثواب الكثرة أكثر عدداً؛ لأن بكل حرف عشر حسنات» نقله ابن الجزري عن بعض الأئمة مستحسناً له.
(3)
ومحصل هذا القول هو الرجوع إلى أصل المسألة، وهو أن كل واحد من النوعين يفضل باعتبار، ولا يزال التساؤل واردا على أصحاب هذا القول في أي العملين أرجح؟ وما الذي يقدم منهما عند العمل؟.
ومن أهل العلم من سلك مسلك الترجيح والمفاضلة بين النوعين، ثم اختلفوا في الراجح:
(1)
فتح الباري (9/ 89).
(2)
مجموع الفتاوى (24/ 252).
(3)
انظر النشر في القراءات العشر لابن الجزري (1/ 166).
فمنهم من رجح الكثرة، وهو الظاهر من مذهب أحمد كما نقله ابن رجب سابقا.
ومنهم من رجح حسن العمل في نفسه وإن قل، ونقله ابن رجب عن شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض صور المسألة على ماتقدم.
وهذا القول هو الراجح إن شاء الله، وهو قول جمهور أهل العلم من السلف والخلف حكى ذلك عنهم بعض المحققين في صورة التلاوة.
قال النووي: «واتفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع، قالوا: وقراءة جزء بترتيل، أفضل من قراءة جزئين في قدر ذلك الزمان بلا ترتيل» .
(1)
وقال ابن الجزري في (النشر): «وقد اختلف في الأفضل هل الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة .. والصحيح بل الصواب، ما عليه معظم السلف والخلف، وهو أن الترتيل مع قلة القراءة أفضل» .
(2)
وقال المناوي: «ولو تعارض الإسراع والترتيل روعي الترتيل عند الجمهور» .
(3)
وترجيح هذا القول من عدة أوجه:
الأول: أنه هو الذي تعضده ظواهر النصوص كما في قوله تعالى: {الَذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}
(4)
.
ففي الآية الترغيب في تحسين العمل، لا في كثرته ولذا قال محمد بن عجلان في تفسير الآية:«لم يقل أكثر عملا»
(5)
(1)
المجموع (2/ 188).
(2)
النشر في القراءات العشر (1/ 165).
(3)
فيض القدير (2/ 61).
(4)
سورة الملك: من الآية 2
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره (8/ 176).
وكذلك ما جاء في حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه المتفق على صحته من الترغيب في صلاة ركعتين لا يحدث فيهما المصلي نفسه، على ما تقدم في فصل (التفاضل باعتبار المتابعة)
(1)
وهذا ترغيب في تحسين العمل ولم يرد مثله في الكثرة.
الثاني: أن هذا القول هو المنقول عن بعض الصحابة وبعض السلف: فعن أبي جمرة الصنيعي قال: قلت لابن عباس: إنّي سريع القراءة إني أقرأ القرآن في ثلاث فقال: «لأن أقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحبّ إليّ من أن أقرأ كما تقول» .
(2)
وفي رواية أخرى عنه قال: «لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إليّ من أن أقرأ القرآن كله» .
(3)
وفي سنن الدارمي عن علي رضي الله عنه أنّه قال: «إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فهم فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها» .
(4)
وعن مجاهد أنه قال: «أحبّ النّاس في القراءة إلى الله أعقلهم عنه» .
(5)
وعنه أنه سئل عن رجلين قرأ أحدهما البقرة وآل عمران، والآخر البقرة وحدها، وزممنهما وركوعهما وسجودهما واحد سواء، فقال:«الذي قرأ البقرة وحدها أفضل» .
(6)
والآثار في هذا المعنى كثيرة عن السلف وهي تدل على ترجيحهم التدبر
(1)
انظر ص: 70.
(2)
أخرجه الآجري في أخلاق حملة القرآن (ص: 82).
(3)
أوردها النووي في التبيان في آداب حملة القرآن (1/ 45).
(4)
أخرجه الدارمي في سننه (1/ 101).
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره (19/ 38).
(6)
أورده النووي في التبيان (1/ 45).
والترتيل، على الإسراع وكثرة القراءة، وهي ما بين صريحة في هذا، أو ظاهرة الدلالة عليه.
الثالث: أن ترجيح تحسين العمل على الكثرة والتعدد هو الذي تقتضيه الأصول الشرعية في باب المفاضلة. كما تقدم في القاعدة الرابعة: (أن الفضائل المتعلقة بذات العبادة مقدمة على الفضائل الخارجة عنها) فالفضل في تحسين العمل كالإطالة في الصلاة. والتدبر في التلاوة، راجع إلى ذات العبادة، والفضل في تعدد الركعات وكثرة القراءة راجع إلى سبب خارج عن ذات العبادة، فمن هنا ترجح القول بتقديم تحسين العمل مع الانفراد، على الكثرة والتعداد والله تعالى أعلم.
فمن خلال هذه القواعد يتمكن الباحث والناظر في هذا الباب من الإلمام بمراتب الفضل وما الذي يقدم منها أو يؤخر، ومن ثم الترجيح بين أسباب التفاضل بين الأعمال، والأخذ بالأرجح فالأرجح منها. وبه يتحقق الأصل الأول للناظر في هذا الباب والمتمثل في الموازنة بين أسباب التفاضل على وجه الإجمال.
وأما الأصل الثاني: وهو الموازنة بين أسباب تفاضل الأعمال في حق المعينين.
فتراعى فيه أحوال المعينين وأفراد الناس، وما يناسب حال كل واحد منهم من الأعمال، فلا يلزم من كون العمل فاضلا من حيث الجملة، أن يكون هذا حكمه في حق كل أحد، بل قد يكون العمل المفضول من حيث الجملة، أفضل ممن هو أشرف منه في حق بعض الناس.
ومثال ذلك تعلم العلم، وتعليمه، ونشره بين الناس، مقدم من حيث الجملة على الجهاد في سبيل الله.
(1)
لكن بالنظر إلى أحوال المعينين قد يكون الجهاد في سبيل الله أفضل، في حق
(1)
تقدم تقريره عن أكثر أهل العلم انظر الصفحات: 28 - 30.
القادرين الذين يضعفون عن العلم، بل هو أفضل في حق من لا يتحقق أمر الجهاد إلا بهم، أو يعظم بلاؤهم فيه حتى مع القدرة على العلم. فيراعى في هذا الجانب، حال العامل في نفسه والأحوال العامة المؤثرة في ترجيح عمل على آخر، بحسب ما يتحقق بذلك من المصالح العامة والخاصة.
ومن هنا يظهر الفرق بين الأصل الأول، والذي مدار البحث فيه على النظر المجرد للعمل ودرجته في الفضل من حيث الجملة على ما تقدم في البحث وبين هذا الأصل الذي تراعى فيه أحوال العاملين عند المفاضلة بين الأعمال في حقهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مقررا هذا الأصل:
(1)
(2)
ويقول أيضا: «وقد يكون بعض الناس انتفاعه بالمفضول أكثر بحسب حاله، إما لاجتماع قلبه عليه، وانشراح صدره له، ووجود قوته له، مثل من يجد ذلك في الذكر أحياناً دون القراءة، فيكون العمل الذي أتى به على الوجه الكامل، أفضل في حقه من
(1)
مجموع الفتاوى (24/ 236).
(2)
مجموع الفتاوى (24/ 198).
العمل الذي يأتي به على الوجه الناقص، وإن كان جنس هذا أفضل، وقد يكون الرجل عاجزا عن الأفضل، فيكون ما يقدر عليه في حقه أفضل له، والله أعلم».
(1)
وبناءً على هذا فينبغي لكل فرد مراعاة عدة جوانب عند تزاحم الأعمال في حقِّه:
فيراعى منزلة العمل بالنسبة له فيقدم ما كان واجبا في حقه على غيره من النوافل
(2)
دون النظر إلى مراتب هذه الأعمال من حيث التفضيل العام، فقد يكون ما هو واجبٌ في حقّه مرجوحاً مفضولا من حيث العموم، كأن يتزاحم الجهاد في سبيل الله أو طلب العلم النفل في حقه، مع ما هو دون هذين العملين من حيث الجملة، كاشتغاله بتربية أولاد، أو إنفاق على زوجة، أو صلة قريب، فيقدم هذه الواجبات العينية على الجهاد في سبيل الله أو طلب العلم النفل، وإن كان الجهاد وطلب العلم أفضل من حيث العموم.
فإذا تساوى العملان في درجة المشروعية، بأن كان كلاهما واجبا، أو كلاهما نفلاً، قدم أوجب الواجبين، وآكد النفلين في حقه على ما تقدم تقرير ذلك.
(3)
فإذا تساويا في المرتبة نظر في مدى قدرته على كل واحد منهما، فيقدم ما يقدر على أدائه على ما يعجز عنه، وإن كان المقدور عليه دون ذلك في التفضيل العام، على ما قرره شيخ الإسلام في كلامه السابق. والمقصود بالعجز هنا ما كان موجباً للكلفة والمشقة لا العجز التام عن العمل
(4)
فليس هذا محل البحث هنا. فإذا تساويا في القدرة نظر في مدى تمكنه
(1)
الفتاوى الكبرى (2/ 237)، ومجموع الفتاوى (23/ 63)، وانظر أيضا مجموع الفتاوى (10/ 428، 22/ 309، 23/ 58).
(2)
انظر تقرير هذه المسألة ص: 39 وما بعدها، وص: 214 - 216.
(3)
انظر تقرير هذه المسألة ص: 214 - 217.
(4)
انظر تقرير هذه المسألة ص: 125 - 126.
من تأديتهما على وجه الكمال. فيقدم ما أمكنه تأديته على وجه الكمال، على ما أداه على وجه النقص والتقصير.
(1)
فإن تساويا في كل ما تقدم قدم الأفضل من حيث الجملة، على ضوء ما تقدم تقريره من الأصول والقواعد المقررة في الأصل الأول.
ومن خلال هذا العرض يتبين للقارئ والناظر في هذا الباب الضوابط الشرعية، والقواعد الكلية، للموازنة بين أسباب تفاضل الأعمال، وكيفية الترجيح بينها، وما الذي يقدم منها ويؤخر عند التزاحم، على ضوء النصوص الشرعية وأقوال الأئمة.
والله تعالى أعلم وهو الهادي لكل خير وفضل.
(1)
انظر تقرير هذا الأصل ص: 198 - 203.
الخاتمة
لقد كان من لطف الله وتوفيقه، وإعانته وتسديده، أن يسر لي إتمام هذا البحث.
فجاء بحمد الله مشتملاً على فوائد عظيمة، وقواعد شريفة، ولطائف منيفة، في باب التفاضل في العبادة، وهي ظاهرة إن شاء الله لمن قرأ هذا البحث وتدبره.
وإنما أشير في هذا المقام إلى شيء منها تمشيّاً مع منهجية البحث، وتيسيراً لمطالعتها في موطن واحد.
1 -
ومن هذه الفوائد غزارة المادة العلمية في موضوع التفاضل في العبادة، لكثرة النصوص الواردة فيه وتنوع دلالتها عليه، مما يدل على تأصّله في العلم، وعراقته في الشرع، وهذا مما يشحذ الهمم إلى مزيد العناية ببحثه والتفقه فيه، ثم امتثال ذلك في العمل، والترقي في مراتب الفضل.
2 -
عناية السلف من الصحابة، ومن بعدهم من التابعين، وأئمة الهدى، بهذا الباب يتمثل هذا في تعدد الأسئلة من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم عنه، وكثرة الآثار عن السلف في تقريره، ووضع الأئمة المحققين لكثير من القواعد والضوابط في تأصيله وتقريب مسائله.
3 -
تفاضل الأعمال باعتبار أجناسها كما دلت على ذلك إجابات النبي صلى الله عليه وسلم للسائلين عن أفضل العمل، وغيرها من النصوص الأخرى الدالة على تفاضل الأعمال بهذا الاعتبار.
4 -
بيان أن أفضل الأعمال على الإطلاق والله أعلم أركان الإسلام الخمسة، وأفضلها الشهادتان تلفظًا واعتقادًا وامتثالا للعمل بمقتضاهما، ثم الصلاة ثم الزكاة ثم بقية الأركان، ثم سائر الواجبات بعدها، وأفضلها بر
الوالدين، ثم بعد الواجبات نوافل العبادات، وأفضلها طلب العلم النفل، والجهاد، والذكر على اختلافٍ بين العلماء في المفاضلة بين هذه الثلاثة الأخيرة، والمشهور عنهم هو تفضيل العلم ثم الجهاد ثم الذكر، على ما تم تقرير ذلك مفصلاً.
5 -
تفاضل الأعمال باعتبار انقسامها إلى واجبات ونوافل، وتقديم الواجبات على النوافل، وبيان أن هذه القاعدة على أصلها من غير استثناء على ما دلت على ذلك النصوص وقواعد الشريعة، خلافًا لما زعمه بعض العلماء المتأخرين من استثناء بعض المسائل من هذه القاعدة فهو قولٌ مرجوح عند التأمل كما تقدم نقد ذلك مفصلاً.
6 -
تفاضل الواجبات في نفسها وتقديم فروض الأعيان منها، على فروض الكفايات، وحقوق الخالق على سائر حقوق المخلوقات، وكذلك تفاضل النوافل في نفسها، وتقديم السنن الراتبة منها على المطلقة، والمؤكدة على ما سواها.
7 -
تفاضل الأعمال باعتبار النية وقوة الإخلاص على ما دلت على ذلك النصوص الشرعية وأقوال الأئمة.
8 -
تفاضل الأعمال باعتبار حسن المتابعة فيها، على ما دلت على ذلك النصوص من الكتاب والسنة.
9 -
بيان انقسام المتابعة في العمل إلى قسمين خاصة وعامة. فالعامة هي المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في كامل هديه وكل أحواله، والخاصة هي المتابعة له في عمل مخصوص وهي على درجتين واجبة: مؤثرة في قبول العمل، وكاملة: مؤثرة في كماله.
10 -
تفاضل الأعمال باعتبار المداومة عليها على ما دلت على ذلك
النصوص وأقوال أهل العلم.
11 -
بيان انقسام الأعمال باعتبار المداومة وعدمها إلى ثلاث مراتب، الأولى: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدوام عليه في السفر والحضر. والثانية: ما كان يداوم عليه في الحضر دون السفر. والثالثة: ما كان يفعله في وقت دون وقت من غير مداومة. وأن الفضل في كل مرتبة هو الإقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
12 -
تفاضل الأعمال باعتبار تأديتها على وجه الاقتصاد والتسير، على ما دلت على ذلك النصوص وأقوال السلف، وأقوال الأئمة المحققين في هذا الباب.
13 -
أنه لا تعارض بين ما جاء في النصوص من الترغيب في الاقتصاد في العمل وسلوك مسلك الرفق فيه، وبين ما جاء في النصوص الأخرى من أن الأجر في العمل على قدر المشقة. فالمشقة المذكورة هنا هي التي يستلزمها العمل دون أن تكون مقصودة للشارع ولا للعامل، وبهذا تتفق النصوص على أنه ليس للعامل أن يسعى في جلب المشقة لنفسه في العمل، فإن حصلت من غير اختيار أُجر عليها.
14 -
تفاضل الأعمال باعتبار فضل العامل ومنزلته عند الله، وأن العمل يشرف بشرف العامل وعلو قدره في الدين على ما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.
15 -
استنباط بعض أهل العلم للعلة في تفضيل العمل باعتبار العامل، وأن مرجع ذلك إما لما عليه العامل من عملٍ باطن يغلب به غيره. وإما لما يكون عليه العامل من فقهٍ في الدين مؤثر في كمال عبادته من حيث الإتقان وقوة الإخلاص فيها.
16 -
تفاضل الأعمال باعتبار الأوقات والأزمان على ما دلت على ذلك
النصوص وتظافرت عليه أقوال أهل العلم.
17 -
بيان انقسام الأوقات التي دلت النصوص على تفضيل العمل فيها إلى قسمين، قسم دلت النصوص على تفضيل الأعمال فيه مطلقًا، كالأشهر الحرم، ورمضان، والعشر الأواخر من رمضان، وعشر ذي الحجة. وقسم دلت النصوص على تفضيل بعض الأعمال فيه على وجه الخصوص، كالصيام في يوم عاشوراء، والأيام البيض، والاثنين والخميس، وكالقيام، والقراءة، والذكر في ثلث الليل الآخر، والذكر في طرفي النهار.
18 -
تفاضل الأعمال باعتبار الأماكن والبقاع على ما دلت على ذلك النصوص الشرعية.
19 -
انقسام الأماكن باعتبار تأثيرها في تفاضل الأعمال إلى قسمين:
أ/ بلدان دلت النصوص على شرفها وفضل سكناها وهي مكة والمدينة والشام.
ب/ أماكن دلت النصوص على فضلها وفضل العمل فيها ومضاعفته وهي عموم المساجد وهي على نوعين:
النوع الأول: ما جاءت النصوص بتفضيل إقامة الصلوات المكتوبة فيها على إقامتها في البيوت والأسواق في حق الرجال وهي عامة المساجد.
والنوع الثاني: ما جاءت النصوص بتفضيل إقامة الصلوات فيها، على إقامتها في غيرها من المساجد، وهي المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ومسجد قباء.
20 -
تفاضل الأعمال باعتبار تعدِّيها للخلق على الأعمال القاصرة ودلالة النصوص وأقوال العلماء المحققين على ذلك.
21 -
تفاضل الأعمال باعتبار اقترانها ببعض الأحوال المؤثرة في زيادة
أجرها، أو مضاعفته، على ما دلت على ذلك النصوص.
22 -
انقسام الأحوال المؤثرة في تفاضل الأعمال إلى قسمين:
أ/ عامة وهي متعلقة بعامة الناس في عصر من العصور، أو مصر من الأمصار، كحال فساد الناس وظهور الفتن، وأحوال غفلة الناس، والأحوال التي تشتد فيها حاجة المسلمين إلى بعض الأعمال الخاصة فتفضل بهذا الاعتبار.
ب/ خاصة وهي التي تتعلق ببعض الأفراد دون بعض، كالأحوال التي تَضْعُفُ فيها دواعي الاستقامة وتقوى أسباب المخالفة في حق العامل، وكحال قدرة العامل على عمل دون غيره، فيفضل المقدور عليه بهذا الاعتبار.
23 -
عظمة التشريع في هذا الدين حيث تنوعت فيه الأعمال الصالحة، وتعددت أسباب الفضل، لتتماشى مع فطر الناس وقدراتهم وأحوالهم، فيُسهم كل فردٍ من المسلمين بما يقدر عليه في بدنه، ويكون أنفع له في دينه، فسبحان الحكيم العليم ما أعظم إحسانه لخلقه ولطفه بهم.
وبه ختام هذا البحث فلله الحمد على ما يسّر من جمع مادته وصياغته، واستنباط أحكامه ومسائله. حتى جاء بهذه الصورة، فما كان فيه من إصابة وهدى فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ وزلل فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان. فاللهم تقبله مني واجبر تقصيري فيه، واجعله خالصًا لوجهك الكريم مقربًا لمرضاتك. ثم الدعاء موصول لكل من وقف من طلاب العلم فيه على خطأ فنبهني له، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
فهرس المصادر والمراجع
1 -
القرآن الكريم.
2 -
الآداب الشرعية والمنح المرعية.
لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي. مكتبة ابن تيمية.
3 -
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام.
للإمام تقي الدين ابن دقيق العيد. ت: أحمد محمد شاكر عالم الكتب. ط: الثانية 1407 هـ.
4 -
أحكام القرآن.
لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي. تحقيق محمد عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية. بيروت لبنان.
5 -
الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
تأليف علاء الدين أبي الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي. تحقيق: أحمد بن محمد حسن خليل. دار العاصمة. المملكة العربية السعودية. ط: الأولى 1418 هـ.
6 -
أخلاق حملة القرآن.
للحافظ أبي بكر محمد بن الحسين الآجري المتوفى سنة 360 هـ. تحقيق: فواز أحمد زمرلي. الناشر: دار الكتاب العربي. ط: الأولى 1407 هـ.
7 -
الأدب المفرد (مع شرحه فضل الله الصمد).
لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. خرج أحاديثه محب الدين الخطيب. المكتبة السلفية. الطبعة الثانية 1407 هـ.
8 -
الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار.
لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 هـ. دار العربية للطباعة والنشر بيروت.
9 -
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل.
للعلامة محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي. ط: الثانية 1405 هـ.
10 -
الأزمنة الفاضلة في الإسلام وما تتميز به من الخصائص والأحكام.
للدكتور علي بن عباس الحكمي. الطبعة الأولى 1418 هـ. مطابع الصفا. مكة المكرمة.
11 -
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن.
للعلامة محمد الأمين بن محمد المختار. نشر مكتبة ابن تيمية. ط: الأولى 1408 هـ.
12 -
الاعتصام.
لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد الشاطبي. دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت. لبنان. 1405 هـ.
13 -
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان.
لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية. تحقيق: محمد سيد كيلاني. شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1381 هـ
14 -
الإفصاح عن معاني الصحاح.
للوزير العالم ابن هبيرة المتوفى سنة 560 هـ. تحقيق فؤاد عبد المنعم أحمد. دار الوطن للنشر الرياض ط: الأولى 1419 هـ.
15 -
الإقناع لطالب الانتفاع.
للعلامة شرف الدين أبو النجا. تحقيق: د/ عبد الله بن عبد المحسن التركي نشر: هجر للطباعة والنشر. ط: الأولى 1418 هـ.
16 -
إكمال المعلم بفوائد مسلم.
للإمام أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي. تحقيق: د/ يحيى إسماعيل. دار الوفاء. ط: الأولى 1419 هـ.
17 -
بدائع الفوائد.
للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية (ت: 751 هـ). تحقيق: معروف مصطفى زريق، وزميليه. دار الخير. ط: الأولى 1414 هـ.
18 -
بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد المتوفى سنة 595 هـ. الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان ط: الرابعة 1398 هـ.
19 -
البداية والنهاية.
للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي المتوفى سنة 774 هـ. تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي. ط: الأولى 1406 هـ. دار الهجرة للطباعة.
20 -
تاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك).
لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت: 310 هـ). تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم.
21 -
التبيان في آداب حملة القرآن.
للإمام يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 هـ. دار النشر: الوكالة العامة للتوزيع. دمشق. ط: الأولى 1403 هـ.
22 -
تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم).
للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير. تحقيق: سامي بن محمد السلامة. دار طيبة. ط: الثانية 1420 هـ.
23 -
تفسير البغوي (معالم التنزيل).
للإمام أبي الحسين محمد بن الحسين البغوي (ت: 516). تحقيق: خالد بن عبد الرحمن العك، مروان سوار. دار المعرفة. بيروت. لبنان. ط: الأولى 1406 هـ.
24 -
تفسير السعدي (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان).
للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1398 هـ.
25 -
تفسير الطبري (جامع البيان في تأويل القرآن).
لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري. دار الكتب العلمية. بيروت لبنان.
26 -
تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن).
لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي تعليق: محمد إبراهيم الحفناوي. خرج أحاديثه د/ محمود حامد عثمان. دار الحديث ط: الأولى 1414 هـ.
27 -
تقريب التهذيب.
للإمام الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر المتوفى سنة 852 هـ. تقديم ومقابلة محمد عوامة. دار الرشيد سوريا حلب. ط: الأولى 1406 هـ.
28 -
تقرير القواعد وتحرير الفوائد.
للإمام الحافظ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي. تحقيق: مشهور حسن آل سلمان. دار ابن عفان. ط: الأولى 1419 هـ.
29 -
تلبيس إبليس.
للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي البغدادي. دار المدني للطباعة والنشر.
30 -
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد.
للإمام أبي عمر يوسف بن عبد البر. تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي. ومحمد بن عبد الكريم البكري 1387 هـ. توزيع مكتبة الأوس.
31 -
جامع بيان العلم وفضله.
للإمام أبي عمر يوسف بن عبد البر. تحقيق: أبي الأشبال الزهيري. دار ابن الجوزي. ط: الرابعة 1419 هـ.
32 -
جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم.
لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين بن رجب الحنبلي. تحقيق: د/ وهبة الزحيلي. المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. ط 1413 هـ.
33 -
الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها.
لجمال الدين محمد جار الله بن ظهيرة. ط: الثالثة 1393 هـ.
34 -
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء.
للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني. نشر مكتبة الخانجي بمصر.
35 -
خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام.
للإمام الحافظ يحيى بن شرف بن مري النووي. تحقيق: حسين إسماعيل الجمل. مؤسسة الرسالة. بيروت. ط: الأولى 1418 هـ.
36 -
ذم الرياء.
لأبي محمد الحسن بن إسماعيل بن محمد الضراب. المتوفى سنة 391 هـ. تحقيق: د/ محمد باكريم با عبد الله. ط: الأولى 1416 هـ.
37 -
الرسالة.
للإمام محمد بن إدريس الشافعي. تحقيق: أحمد محمد شاكر. ط: الأولى 1358 هـ شركة مكتبة مصطفى الحلبي بمصر.
38 -
رياض الصاحين.
للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي. ضبطه وكتب هوامشه حسن شكر. دار الكتب العلمية. بيروت لبنان.
39 -
زاد المستقنع في اختصار المقنع.
للعلامة شرف الدين أبو النجا. المتوفى سنة 960 هـ. نشر مكتبة الرياض الحديثة.
40 -
زاد المسير في علم التفسير.
للإمام أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي المكتب الإسلامي. ط: الرابعة 1407 هـ.
41 -
زاد المعاد في هدي خير العباد.
لأبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية. تحقيق: شعيب الأرنؤوط عبد القادر الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة.
42 -
الزهد والرقائق.
للإمام عبد الله بن المبارك المتوفى سنة 181 هـ. تحقيق: أحمد فريد، دار المعراج الدولية. ط: الأولى 1415 هـ.
43 -
سلسلة الأحاديث الصحيحة.
للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. 1 طبعة المكتب الإسلامي. 2 طبعة مكتبة المعارف بالرياض.
44 -
سنن ابن ماجه.
للإمام الحافظ أبي عبد الله بن يزيد القزويني. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. مطبعة دار إحياء الكتب العربية.
45 -
سنن أبي داود.
سليمان بن الأشعث السجستاني دار الحديث للطباعة والنشر حمص سورية.
46 -
سنن الترمذي (الجامع الصحيح).
لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي تحقيق إبراهيم عطوه شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
47 -
سنن الدارقطني.
للإمام الحافظ علي بن عمر الدارقطني المتوفى سنة 385 هـ. عنى بتصحيحه عبد الله هاشم يماني المدني. دار المحاسن للطباعة القاهرة.
48 -
سنن الدارمي.
للإمام الحافظ عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. تحقيق فؤاد أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي. دار الريان. ط: الأولى 1407 هـ.
49 -
السنن الكبرى.
للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي. دار الفكر.
50 -
سنن النسائي (المجتبى).
للإمام الحافظ أبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي. شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر. ط: 1383 هـ.
51 -
سير أعلام النبلاء.
للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي. تحقيق: شعيب الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة. ط: التاسعة 1413 هـ.
52 -
شذرات الذهب في أخبار من غبر.
لأبي الفرج عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089 هـ، دار المسيرة، بيروت. ط: الثانية 1399 هـ.
53 -
شرح السنة.
للإمام أبي محمد الحسن بن مسعود البغوي. تحقيق: علي محمد معوض. عادل أحمد عبد الموجود. دار الكتب العلمية.
54 -
شرح صحيح البخاري.
لأبي الحسين علي بن خلف بن عبد الملك. تحقيق: أبي تميم ياسر بن إبراهيم. مكتبة الرشد. ط: الأولى 1420 هـ.
55 -
شرح صحيح مسلم.
للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي. المطبعة المصرية بالأزهر ط: الأولى 1347 هـ.
56 -
شرح العقيدة الطحاوية.
للإمام القاضي علي بن علي بن محمد بن أبي العز الدمشقي (ت: 972 هـ). تحقيق: د/ عبد الله بن عبد المحسن التركي شعيب الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة. بيروت. ط: الثانية 1413 هـ.
57 -
شرح الكوكب المنير.
لابن النجار الفتوحي. تحقيق: د/ محمد الزحيلي. ونزيه حماد. مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
58 -
الشرح الممتع شرح زاد المستقنع.
للعلامة محمد بن صالح بن عثيمين. مؤسسة آسام للنشر. المملكة العربية السعودية. الطبعة الأولى 1416 هـ.
59 -
شرف أصحاب الحديث ونصيحة أهل الحديث.
للحافظ أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي. تحقيق: عمرو عبد المنعم سليم. نشر مكتبة ابن تيمية.
60 -
الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم.
للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي الأندلسي. تحقيق: علي محمد البجاوي. الناشر: دار الكتب. بيروت.
61 -
صحيح البخاري.
للإمام محمد بن إسماعيل البخاري المطبوع مع فتح الباري لابن حجر (انظر فتح الباري).
62 -
صحيح الترغيب والترهيب.
تحقيق محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي.
63 -
صحيح الجامع الصغير.
للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي. ط: الثالثة 1408 هـ.
64 -
صحيح ابن خزيمة.
للإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة. نحقيق: د/ محمد مصطفى الأعظمي المكتب الإسلامي.
65 -
صحيح سنن ابن ماجه.
للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. نشر مكتبة التربية العربي لدول الخليج. ط: الأولى 1407 هـ.
66 -
صحيح مسلم.
للإمام مسلم بن الحجاج المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر استانبول تركيا تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
67 -
صفة الصفوة.
للإمام جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي (ت: 597 هـ). ضبطه وخرج أحاديثه وعلق عليه عبد الرحمن اللاذقي حياة شيحا اللاذقي دار المعرقة. بيروت.
ط: الأولى 1415 هـ.
68 -
صيد الخاطر.
للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. تحقيق: د/ عبد الرحمن البر. دار القبلتين الرياض.
69 -
ضعيف سنن ابن ماجه.
للعلامة محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي. الطبعة الأولى 1408 هـ.
70 -
الطبقات الكبرى.
لأبي عبد الله محمد بن سعد بن منيع الهاشمي. دار صادر. بيروت.
71 -
طريق الهجرتين وباب السعادتين.
للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية. عنى بإخراجه محب الدين الخطيب. ط: الثانية 1394 هـ.
72 -
العمدة في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل.
لأبي محمد عبد الله بن أحمد المقدسي مع شرحه العدّة لبهاء الدين عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي. نشر مؤسسة قرطبة. الطبعة الأولى 1412 هـ.
73 -
غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب.
للإمام محمد السفاريني الحنبلي. ط: مطبعة الحكومة بمكة 1393 هـ.
74 -
غريب الحديث.
لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي المتوفى سنة 224 هـ. مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد. الدكن. الهند. الطبعة الأولى 1378 هـ.
75 -
الفتاوى الكبرى.
لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. تحقيق: عبد القادر عطا. مصطفى عبد القادر عطا. دار الريان للتراث. القاهرة.
76 -
فتح الباري بشرح صحيح البخاري.
للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. ط: دار المعرفة. بيروت لبنان.
77 -
فتح الباري شرح صحيح البخاري.
للحافظ زين الدين أبي الفرج ابن رجب الحنبلي. تحقيق محمود بن شعبان بن عبد المقصود وجماعة معه. نشر مكتبة الغرباء بالمدينة النبوية.
78 -
فتح القدير بين فني الرواية والدراية من علم التفسير.
لمحمد بن علي الشوكاني (ت: 1250). دار الفكر للطباعة والنشر.
79 -
الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
للحافظ أبي الفداء إسماعيل ابن كثير. تحقيق محمد العيد الخطراوي. محي الدين مستو. ط: السابقة 1216 هـ.
80 -
فضائل الأوقات.
لأبي بكر أحمد بن الحسن البيهقي. تحقيق عدنان عبد الرحمن القيسي. مكتبة المنارة مكة المكرمة. ط: الأولى 1410 هـ.
81 -
فيض القدير.
لعبد الرؤوف المناوي. دار النشر: المكتبة التجارية الكبرى. الطبعة الأولى 1356 هـ.
82 -
القواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة.
تأليف عبد الرحمن بن ناصر السعدي. تحقيق: د/ خالد بن علي المشيقح. دار ابن الجوزي. ط: الثانية 1423 هـ.
83 -
كتاب الجهاد.
للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن عمر بن أبي عاصم الشيباني. تحقيق: مساعد
بن سليمان الراشد. دار القلم. دمشق. ط: الأولى 1409 هـ.
84 -
كتاب معاني الحروف.
لأبي الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي ت: 384 هـ. تحقيق: د/ عبد الفتاح إسماعيل شلبي. ط: الثانية 1407 هـ.
85 -
الكلم الطيب.
لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. تحقيق محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي.
86 -
لسان العرب.
للإمام أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري. دار صادر. بيروت. ط: الثالثة 1414 هـ.
87 -
لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف.
لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي. تحقيق ياسين محمد السواسي. دار ابن كثير.
88 -
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد.
للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المتوفى سنة 807 هـ. عنيت بنشره مكتبة القدسي. القاهرة 1353 هـ.
89 -
المجموع.
للإمام يحيى بن شرف النووي. المتوفى سنة 676 هـ. تحقيق: محمود مطرحي. دار الفكر. بيروت. ط: الأولى 1417 هـ.
90 -
مجموع الفتاوى.
لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد. الطبعة الأولى 1398 هـ.
91 -
المحجة في سير الدلجة.
للحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب. تحقيق. يحيى مختار غزاوي. دار البشائر الإسلامية.
92 -
المحصول.
لمحمد بن عمر بن الحسين الرازي المتوفى سنة 606 هـ. تحقيق: طه جابر فياض العلواني. الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ط: الأولى 1404 هـ.
93 -
مختصر قيام الليل.
لأبي عبد الله محمد بن نصر المروزي. نشر حديث أكاديمي. فيصل أباد. باكستان.
94 -
المختصر الكبير في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
لعز الدين بدر الدين بن جماعة الكناني (ت: 767). تحقيق: سامي مكي العاني. دار النشر للنشر والتوزيع. ط: الأولى 1413 هـ.
95 -
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية. تحقيق: محمد حامد الفقي. دار الكتاب العربي. بيروت لبنان.
96 -
مسائل الإمام أحمد بن حنبل برواية ابنه عبد الله.
تحقيق ودراسة علي بن سليمان المهنا. مكتبة الدار بالمدينة المنورة. ط: الأولى 1406 هـ.
97 -
المستدرك على الصحيحين.
للإمام أبي عبد الله الحاكم النيسابوري. تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية. بيروت لبنان. ط: الأولى 1411 هـ.
98 -
مسند الإمام أحمد.
للإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل. بتحقيق شعيب الأرنؤوط وجماعة معه. مؤسسة الرسالة. طبع على نفقة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله.
99 -
المسودة في أصول الفقه.
لآل تيمية. جمعها شهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الغني المقدسي المتوفى 745 هـ. مطبعة المدني.
100 -
مشكاة المصابيح.
للإمام محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي. تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي. ط: الثالثة 1405 هـ.
101 -
المصنف في الأحاديث والآثار.
للإمام أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة. تحقيق: محمد عبد السلام شاهين. دار الكتب العلمية. لبنان بيروت. الطبعة الأولى 1416 هـ.
102 -
المصنف.
للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني. تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. المكتب الإسلامي.
103 -
المعتمد في فقه الإمام أحمد.
جرى فيه الجمع بين نيل المآرب، ومنار السبيل، وملخص إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل. إعداد: علي عبد الحميد بلطه جي، محمد وهبي سليمان. دار الخير. ط: الأولى 1418 هـ.
104 -
المعجم الأوسط.
للإمام أحمد بن سليمان الطبراني (ت: 360 هـ). تحقيق: الدكتور محمود
الطحان. مكتبة المعارف. الرياض. ط: الأولى 1415 هـ.
105 -
معجم البلدان.
للإمام أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي. دار إحياء التراث العربي. بيروت 1399 هـ.
106 -
المغني.
لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي. تحقيق. د/ عبد الله بن عبد المحسن التركي. د/ عبد الفتاح محمد الحلو. هجر للطباعة. القاهرة. ط: الأولى 1406 هـ.
107 -
المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم.
للإمام الحافظ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي. تحقيق: محي الدين ديب مستو. يوسف علي بديوي. دار ابن كثير. بيروت دمشق ط: الأولى 1417 هـ.
108 -
منهاج السنة.
لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. تحقيق: محمد رشاد سالم. ط: إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ط: الأولى 1406 هـ.
109 -
الموافقات في أصول الشريعة.
لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المتوفى سنة 790 هـ. عنى بضبطه وترقيمه الشيخ عبد الله دراز، المكتبة التجارية بمصر.
110 -
المنهاج في شعب الإيمان.
للإمام أبي عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي. تحقيق: حلمي محمد فوده. دار الفكر. الطبعة الأولى 1399 هـ.
111 -
النشر في القراءات العشر.
للإمام الحافظ أبي الخير محمد بن محمد الدمشقي الشهير بابن الجزري المتوفى سنة 833 هـ. خرج آياته الشيخ زكريا عميرات. دار الكتب العلمية. بيروت. ط: الأولى 1418 هـ.
112 -
النهاية في غريب الحديث.
للإمام مجد الدين المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير. ط: دار الفكر. بيروت لبنان الطبعة الثانية 1399 هـ.
113 -
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار.
للعلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني. المتوفى سنة 1255 هـ. مكتبة دار التراث. القاهرة.
114 -
ورثة الأنبياء شرح حديث أبي الدرداء.
للإمام زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب. نشر مكتبة التراث الإسلامي.
115 -
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان.
لأبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان (ت: 861 هـ). تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد. ط: الأولى 1948 هـ.