المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في حقيقة الروح وما قيل فيها - تحفة المشتاق إلى شرح أبيات المولى إسحق

[السياغي]

الفصل: ‌في حقيقة الروح وما قيل فيها

ثانيها: إنهم سألوا صلى الله عليه وسلم سؤال تعجيز وتغليط إذا كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان وجبريل وملك آخر يقال له الروح، وصنف من الملائكة والقرآن وعيسى بن مريم كما أشار إليها صاحب (الكشاف) في تفسير الأية، فقصد اليهود أن يسألوه فبأي شيء أجابهم، قالوا: لسنا نريد هذا فجاء الجواب كسؤالهم مجملا، فإن أمر ربي يصدق على كل واحد من مسميات الروح، وذكر مثل هذا الوجه الزركشي في (البحر المتوسط قال: وهكذا ذكر صاحب الافتتاح في خلق الإنسان إذ قد دلت قواطع الشرع على تعيينها، فقد يحمل المستدل لفظا احتياطا لنفسه في ميدان النظر بحيث إذا توجه سؤال المعترض على أحد معنيي اللفظ تخلص عنه بتعيين كلامه بالمعنى الآخر.

ثالثها: ما ذهب إليه علماء الطريقة أن المراد بقوله تعالى: (مِن أَمرِ رَبي) كون الروح من عالم الأمر، وهو عالم الغيب وعالم الملكوت ومقابله عالم الخلق الذي هو عالم الشهادة، وعالم الملك، وحملوا قوله تعالى: ألا له الخلق والأمر على العالمين المذكورين، وأراد بعالم الأمر عالم المجردات لأنها وجدت بمجرد الأمر الذي هو قول كن ومقابله الجسمانيات، وقد بالغ الشيخ العارف بالله أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في نصرة هذا الوجه. فقال: من ظن أن علم الروح وغيره مما ذكر ومما لم يذكر لم يحط به الخاصة من العلماء أهل البدء الأعلى فقد وقع في عظيمين، تجهيل أوليا الله إذ وصفهم بالقصور عن ذلك وظن بربه أنه منعهم وكيف يجوز أن يظن على مخصوص ويسري به التكذيب إلى القدرة والشرع، بقوله عن اليهود أو عن العرب على الخلاف (وَيَسأَلونَكَ عَنِ الروح قُل الروحُ مِن أَمرِ رَبي) فما الدليل لك فيها على جهل الصديقين وأهل خاصة الله العلياء والكشف عن هذا، إن السؤال يقع بهل وكيف ولم ومن فهل يقع السؤال به عن الشيء أموجود هو أو معدوم وقد عرفنا وجوده من قبل، ولولا ذلك ما قال (وَيَسأَلونَكَ عِنِ الروح) فثبت إنهم عرفوا وجوده فبطل هذا وليس فيه سؤال عن الحال كيف هو ولا سؤال عن العلة لم كذا وكذا. ولو كان سؤالهم عن هذين لما قنعوا بقوله (قُل الروحُ مِن أَمرِ رَبي) الآية المراد منه وحاصله أن المقدار الذي ينبغي أن يطلب من يتعرف الروح إنما هو عالمه ومن أين هو، فأوجب الشيخ معرفة مثل هذا عن الروح، وهي كون الحياة والحركة والعقل مثلا تابعا لها، لا معرفة حقيقتها ولكنه لا يتمشى على تقدير صحة حديث ابن عباس المتقدم، إذ هو صريح في السؤال عن الماهية لا من أين هو.

‌الفصل الثاني

‌في حقيقة الروح وما قيل فيها

إعلم أن الخلاف في ذلك واسع جدا، كما تقدمت إشارة إليه فزعمت طائفة من قدماء الفلاسفة أن النفس التي هي عبارة عن الروح أمر كلي عام، وإنه يفيض على الأجسام فيض الشمس على ما يقع شعاعها عليه، فيعطي كل مادة قدر استحقاقها، وإنها ليست حالة بالأجسام وإنما هي مؤثرة فيها لضرب من المناسبة كما يفعل المغناطيس في الحديد وليس أحدهما حالا في الآخر، وإنها لا تزال مؤثرة في الجسم ما دام مستعدا لقبول الآثر، وإنها لا تزال مؤثرة في الجسم ما دام مستعدا لقبول الأثر، فإذا أفسد استعداده بطل فعلها فيه كما يبطل فعل المغناطيس في الحديد عند فساد الحديد وتغيره وهذا مبني على قدم النفس، وعدم تناهيها، وقد تكفل علم الكلام ببطلانه.

ص: 2

وحكي عنهم في ترتيب الموجودات تفصيل وهو أن الصادر الأول عن الذات الواجب الوجود عقل له اعتبارات ثلاثة: وجوده في نفسه، ووجوبه بالغير، وإمكانه لذاته فيصدر عنه بكل اعتبار أمر. فباعتبار وجوده يصدر عقل، وباعتبار وجوبه بالغير يصدر نفس، وباعتبار إمكانه يصدر جسم، وهو الفلك الأول وهو فلك الأفلاك المشتمل على جميع ما عداه من الأفلاك، وهو المسمى عند الحكماء بالفلك الأطلس، لأنه غير مكوكب ويسمى بالعرش المجيد في لسان الشرع، وتحته فلك الثوابت وهو الكرسي، ثم فلك زحل، ثم فلك المريخ، ثم فلك الشمس، ثم فلك الزهرة، ثم فلك عطارد، ثم فلك القمر وهو سماء الدنيا، لأنه أقرب إلينا من سائر الأفلاك. ويصدر من العقل الثاني، عقل ثالث، ونفس ثانية، وفلك ثان، وهكذا إلى العقل العاشر الذي هو في مرتبة التاسع من الأفلاك، وهو فلك القمر، ويسمى العقل الفعال المؤثر في هيولا العالم السفلي، المفيض للصور والأعراض على العناصر البسيطة وعلى المركبات منها بسبب ما يحصل لها من الاستعدادات المسببة عن الحركات الفلكية، والاتصالات الكوكبية، وأوضاعها، وأسند في تلك الاعتبارات الثلاثة في كل فلك الأشرف إلى الأشرف، والأخس إلى الأخس، ولهم على ما يدعونه إمارات ظنية، لم يكن عليها إثارة من علم الشريعة.

وقد جعل السيد الشريف قدس سره الأرواح تنقسم إلى ثلاثة: فقال في تعريفاته: الروح الإنساني هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان الراكبة على الروح الحيواني، نازل من عالم الأمر، تعجز العقول عن إدراكها كنهها، وذلك الروح قد تكون مجردة، وقد تكون منطبعة في البدن والروح الحيواني جسم لطيف منبعه تجويف القلب الإنساني، وينتشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن، والروح الأعظم الذي هو الروح الإنساني مظهر الذات الإلهية من حيث ربوبيتها، لذلك لا يمكن أن يحوم حولها حائم، ولا يروم وصلها رايم، ولا يعلم كنهها إلا الله، ولا ينال هذه البغية سواه، وهو العقل الأول، والحقيقة المحمدية، والنفس الواحدة، والحقيقة الإسمائية، وهو أول موجود خلقه الله على صورته، وهو الخليفة الأكبر، وهو الجوهر النوراني جوهريته مظهر الذات، نورانيته مظهر علمها ويسمى باعتبار الجوهرية نفسا واحدة وباعتبار النورانية عقلا أولا، فكما أن له في العالم الكبير مظاهر وأسماء من العقل الأول والقلم الأعلى والنور والنفس الكلية واللوح المحفوظ، وغير ذلك له في العالم الصغير مظاهر وأسماء بحسب ظهوراته ومراتبه في اصطلاح أهل الله وغيرهم، وهي السر والخفي والروح والقلب، والكلمة، والروح، والفؤاد، والصدر، والعقل، والنفس وهذا ما عليه أهل الطريقة ومستندهم في أكثر ذلك هو الكشف. وذهب قوم إلى أنه عرض لأنه لو كان جوهرا، والجواهر، والجواهر متساوية الأقدام في الجوهرهية، للزم أن يكون للروح روح آخر وهو فاسد، وذلك لأن الأخبار الواردة فيه من العروج والهبوط والتردد في البرزخ ينفي كونه عرضا، لأن العرض لا يوصف بأوصاف، إذ الوصف معنى، والمعنى لا يقوم بالمعنى كما تقرر في موضعه وما ذكره من اللازم الممنوع.

وذهبت طائفة إلى أنه جوهر، فرد متحيز فزعموا أنه خلاف الحياة القائمة بالجسم الحيواني وأنه حامل للصفات المعنوية وهو فاسد أيضا لأن الجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يتجزأ لصغره لا كسرا ولا قطعا ولا هما ولا فرضا، وصدور المعاني الخارقة للعقول عن مثل ذلك مستحيل.

ص: 3

ومنهم من ذهب إلى أنه جسم لطيف في البدن، سار فيه سريان ماء الورد في الورد، والنار في الفحم، قابل للزوال، عامل لصفات الكمال من العقل والفهم، وهو اختيار الإمام يحيى، وحكاه الإمام المهدي في مقدمات البحر عن النظام وابن الأخشيد من المعتزلة، وعليه اعتمد عامة المتكلمين من أهل السنة، وذهب إليه ابن الخطيب ونقحه في تفسيره الكبير، فقال ما لفظه: قالوا لا يجوز أن يكون الإنسان عبارة عن هذا الهيكل المحسوس، لأن أجزاءه أبدا في النمو والذبول، والزيادة والنقصان، والاستكمال والذوبان، ولا شك أن الإنسان من حيث هو هو أمر باق من أول عمره إلى آخره، والهيكل المحسوس غير باق، فالمشار إليه عند كل أحد بقوله إنما وجب أن يكون مغايرا لهذا الهيكل. ثم اختلفوا عند ذلك في الذي يشير إليه كل أحد بقوله: إنا وجب أن يكون مغايرا لهذا الهيكل ثم اختلفوا عند ذلك في الذي يشير إليه كل أحد بقوله أنا أبشر هو، والأقوال كثيرة، إلا أن أسدها تخليصا أنها أجزاء جسمانية سارية في هذا الهيكل سريان النار في الفحم، والدهن في السمسم، وماء الورد في الورد. ثم المحققون منهم قالوا: إن الأجسام التي هي باقية من أول العمر إلى آخره أجسام مخالفة بالماهية. والحقيقة التي منها اتلفت هذا الهيكل وتلك الأجسام فيه مدركة لذاتها، فإذا خالطت هذا الهيكل وتلك الأجسام فيه مدركة لذاها، فإذا خالطت هذا البدن وصارت سارية في الهيكل سريان النار في الفحم، فصار هذا الهيكل أبدا في الذوبان، والتحلل، إلا أن تلك الأجزاء بحالها وإنما لا يعرض لها التحلل، لأنها مخالفة في الماهية بهذا الأجسام القابلة. فإذا فسد هذا القالب، انفصلت تلك الأجسام اللطيفة النورانية إلى عالم السموات والعرش، إن كانت من جملة الأشقياء كلامه.

وقال الإمام القرطبي في تذكرته: إن الروح جسم لطيف متشابك الأجسام المحسوسة يجذب ويخرج وفي أكفانه يلف، وبه إلى السماء يعرج، لا يموت ولا يفنى، وهو مما له أول وليس له آخر، هو بعينين ويدين وإنه ذو روح طيب وخبيث، وهذه صفة الأجسام لا صفة الاعراض، وهذا غاية البيان ولا عطر بعد عروس. وقد اختلف الناس في الروح اختلافا كثيرا، أصح ما قيل فيه، ما ذكرناه لك وهو مذهب أهل السنة، إنه جسم، ثم قال: وكل من يقول عن الروح يموت ويفنى فهو ملحد، وكذا من يقول بالتناسخ كلامه.

ص: 4

وذهب حجة الإسلام الغزالي وغيره من المحققين، ولعله إن شاء الله أشبه بالصواب إلى أنه جوهر محدث قائم بنفسه، غير متحيز، وأنه ليس داخل الجسم، ولا خارج عنه، وليس متصلا به، ولا منفصلا عنه، وذلك لعدم التحيز الذي هو شرط الكون في الجهات. وتحقيق ذلك يتوقف على إيراد ما ذكره في الرسالة اللدنية وإن وقع إطناب فهو مغتفر في جنب ما تعرض له من نفائش الفوائد، فقال: اعلم أن الإنسان من شيئين مختلفين، أحدهما: الجسم المظلم الكثيف الداخل تحت الكون والفساد وهو المركب الترابي الذي لا يتم أمره إلا بغيره، والآخر: هو النفس وهو الجوهر الفرد المنير الفاعل المحرك المتمم للآلات والأجسام، والله تعالى ركب الجسد من أجزاء الغذاء ورباه بأجزاء الدماء، ومهد قاعدته وسوى أركانه، وعين أطرافه، وميز قواه، وأظهر جوهر النفس من أمره الواحد الكامل المكمل المقيد، ولا أعني بالنفس القوة الطالبة للغذاء ولا القوة المحركة للشهوة والغضب، ولا القوة الساكنة في القلب المولدة للحياة المنفذة للحس والحركة من القلب إلى جميع الأعضاء، فإن هذه القوة تسمى روحا حيوانيا والحس والحركة والشهوة والغضب من جنده، وتلك القوة الطالبة للغذاء الساكنة في الكبد بالتصرف بالغذاء، يقال لها روحا طبيعيا، والهضم والدفع من صفاتها، والقوة المصورة والمولدة والنامية وباقي القوة المتصورة كلها خدام للنفس والجسد، والجسد خادم الروح الحيواني لأنه يقبل القوى عنه، ويعمل بحسب تحريكه، وإنما أعني بالنفس، ذلك الجوهر الكامل الفرد الذي ليس من شأنه إلا التذكر والتحفظ والتفكر والتمييز والروية، ويقبل جميع العلوم، ولا يمل عن قبول الصور المجردة المعراة عن المواد، وهذا الجوهر رئيس الأرواح وأمير القوى، والكل يخدمونه ويمتثلون أمرهن والنفس أعني هذا الجوهر عند كل قول اسم خاص، فالحكماء يسمون هذا الجوهر عند كل قول اسم خاص، فالحكماء يسمون هذا الجوهر النفس الناطقة، والقرآن يسميه النفس المطمئنة والروح الأمري، والمتصوفة تسميه الروح، وتارة تسمية القلب، والخلاف في الأسامي والمعنى واحد لا خلاف فيه، والروح عندنا والمطمئنة كلها أسامي للنفس الناطقة، والنفس الناطقة هي الجوهر الحي الفعال المدرك، وحيث ما نقول الروح المطلق، أو القلب، فإنما نعني به هذا الجوهر. والمتصوفة يسمون هذا الروح الحيواني نفسا، والشرع ورد بذلك فقال: أعدي عدو لك نفسك، وأطلق الشارع اسم النفس، بل أكدها بالإضافة فقال: نفسك التي بين جنبيك، وإنما أشار بهذه اللطيفة إلى القوة الشهوانية والغضبية فإنهما ينبعثان عن القلب الواقف الواقع بين الجندين، فإذا عرفت فرق الأسامي، فاعلم أن القائلين يعبرون عن هذا الجوهر النفيس بعبارات مختلفة، ويرون فيها آراء متفاوتة.

والمتكلمون المعروفون بعلم الجدل يعدون النفس جسما، ويقولون هو جسم لطيف، بإزاء هذا الجسم الكثيف، ولا يرون الفرق بين الروح والجسد غلا باللطافة والكثافة، وبعضهم يعد الروح عرضا، وبعض الأطباء يميل إلى هذا القول، وبعضهم يرى الدم روحان وكلهم قنعوا بقصور نظرهم على تخيلهم وما طلبوا.

ص: 5

القسم الثالث: فاعلم أنت أن القسمة ثلاث: الجسم، والعرض، والجوهر الفرد. فالروح الحيواني جسم لطيف كأنه سراج مشتعل موضوع في زجاجة القلبن أعني الشكل الصنوبري المعلق بالصدر والحياة هو ضوء السراج، والدم دهنه، والحس والحركة نوره، والشهوة حرارته، والغضب دخانه، والقوة الطالبة للغذاء الساكنة في الكبد خادمه وحارسه ووكيله. وهذا الروح يوجد عند جميع الحيوانات لأنه مشترك بين البهائم وسائر الحيوانات. وهذا الروح لا يهتدي إلى العلم، ولا يعرف طريق المصنوع، ولا حق الصانع، وإنما هو خادم أسير يموت بموت البدن ولو يزيد دم الدهن ينطفي ذلك السراج بزيادة الحرارة أو ينقص ينطفي بزيادة البرودة، وانطفاؤه سبب موت البدن وليس خطاب الباري سبحانه ولا تكليف الشارع على هذا الروح، لأن البهائم وسائر الحيوانات غير مكلفين، ولا مخاطبين بأحكام الشرع، والإنسان إنما يكلف ويخاطب لأجل معنى آخر وجد عنده زائدا، خاصا وذلك المعنى هو النفس الناطقة والروح المطمئنة، وهذا الروح ليس بجسم ولا عرض، ولا يقبل الفساد، ولا يضمحل ولا يفنى، ولا يموت، بل يفارق البدن وينتظر العود إليه في يوم القيامة كما ورد به الشرع، وقد صح في العلوم الحكمية بالبراهين القاطعة، والدلائل الواضحة الساطعة، أن الروح الناطق ليس بجسم، ولا عرض بل هو جوهر ثابت دائم غير فاسد، ونحن نستغني عن تكرير البرهان وتعديد الدلائل لأنها مفروغة مذكورة. ومن أراد تصحيحها فليرجع إلى الكتب اللائقة بذلك الفن. فأما في طريقتنا، فلا نبالي بالبرهان، فالمعول على العيان، ونعتمد على رؤية الإيمان. ثم أورد حجة الإسلام بعض الأدلة والحجج وساق على هذا النمط العجيب حتى قال: وإذا كان الروح من أمر الباري سبحانه فيكون في البدن كالغريب، ويكون وجهه إلى أصله، وإنما يقبل على البدن رعاية لصلاحه، لا لضرورة ذاته، وإذا كان وجهه إلى أصله ينال الفوائد من جانب الأصل أكثر ما ينال من جهة الشخص، إذ هو قوي ولم يتدنس بأدناس الطبيعة، وإذا علمت أن الروح جوهر فرد، وعلمت أن الجسم لا بد له من المكان، والعرض لا يبقى إلا بالجوهر، فاعلم أن الجوهر لا يحل بمحل، ولا يسكن بمكان، وليس البدن مكان الروح، ومركب النفس، والروح بذاته غير متصل بأجزاء البدن، ولا منفصل بل هو مقبل على البدن ومقيد له، ومفيض عليه. ما أردت نقله من كلامه رحمه الله وقد تعقب من وجهين: أحدهما أن قوله غير داخل في الجسم ولا خارج عنه، ولا متصل ولا منفصل، يلزم منه خلو الشيء عن الشيء وضده، وأجيب إن الشيء يجوز أن يخلو عن الضدين إذا كان كل واحد منهما مشروطا بشرط فإنه إذا انعدم الشرط، عدم المشروط لا محالة كما يقال في الجماد إنه لا عالم ولا جاهل، لأن الشرط المصحح لقيام العلم أو ضده في لجسم هو الحياة، وقد انتفت في الجماد فكذلك شرط الدخول والخروج، والاتصال والانفصال، هو التحيز وإذا لم يكن الجوهر متحيزا لا يتصف بشيء من ذلك.

ص: 6

ثانيهما: لزوم التناقض بأنه جعله من عالم الأمر لا من عالم الخلق محتجا بقوله تعالى (قُل الرُوح مِن أَمرِ رَبي) وإذا لم يكن مخلوقا، لم يكن محدثا، وقد قال إنه جوهر محدث، وأجيب: إن مراده ليس نفي كونه مخلوقا بل اصطلح على تسمية كل ما صدر عن الله تعالى بلا واسطة غير الأمر العزيز بعالم الأمر وعلى تسمية كل ما صدر عنه تعالى عن سبب متقدم من غير خطابه بالأمر الذي هو الكلمة بعالم الخلق، قال الله تعالى (أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمَر) فإذا لا مشاححة في ذلك ثم إن الدليل العقلي في كونه جوهرا قائم وذلك أنه قد علم مما مر أن الإنسان يباين سائر الحيوانات، بمعنى زائد على الحيوانية يكون به إدراك المعاني الكلية المجردة عن المادة، وبه سميت النفس الناطقة، أي المدركة من غير تعلم ولا طلب بل يجدها الإنسان حاصلة في ذهنه، ومعلوم له منذ أول نشوئه، وكأنها مولودة معه ولا يدري مع ذلك كيف حصلت ولا من أين حصلت، وذلك مثل أن النقيضين لا يجمتعان والكل أعظم من جزئه ونحوهما، ولا بد لهذه المعاني من حامل لها، فإما أن يكون جسما أو عرضا أو شيئا ليس بجسم ولا عرض، ومحال كونه عرضا إذا العرض لا يحمل شيئا ومحال أيضا أن يكون جسما، لأن الجسم منقسم والمعاني الكلية غير منقسمة أصلا، إذ لو انقسمت لم تخل أن تكون لأجزائها كلها معنا أولا، ومحال أيضا أن يكون للكل معنى غير موجود في شيء من الأجزاء، أو يقول قائل: إن ذلك المعنى يكون للكل عند إجتماع الأجزاء بعد أن لم يكن لها فليس إذ المعنى الموجود منقسم ولا هو لا حق للأجزاء عند اجتماعها والله أعلم.

وظاهر عبارة الشيخ شهاب الدين في (عورف المعارف) مائل إلى هذا المذهب ولفظه بعد أن ألم بشيء مما ذكره حجة الإسلام أن الروح الإنساني العلوي لما ورد على هذا الروح الحيواني باين أرواح الحيوانات واكتسب صفة أخرى، فصارت نفسا محلا للنطق والإلهام.

ص: 7