الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تذكير الأخيار
بفضائل المُكث في مكان أداء الصلاة
وقراءة الأذكار
تأليف
عبد الرزاق بن فاضل الربيعي
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين أجمعين
كل الحقوق محفوظة
الطبعة الثانية
1443 هـ - 2022 م
بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن بطال رحمه الله: فمن كان كثير الذنوب وأراد أن يحطَّها الله عنه بغير تعب؛ فليغتنم ملازمة مكان مصلاه بعد الصلاة، ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم له، فهو مرجو إجابته، لقوله تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] "
(1)
.
(1)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (2/ 95) ط 2 لمكتبة الرشد 1423 هـ 2003 م.
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله الذي بيده التدبير، ومنه العون والتيسير، وأشهد أن لا إله إلا الله العليُّ الكبير، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، البشيرُ النذير، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الكرماء وأصحابه الرحماء، صلاةً مستمرةَ الدوم، جديدةً على مرِّ الليالي والأيام ....
أما بعد
فهذه الطباعة الثانية من رسالة (تذكير الأخيار بفضائل المكث في مكان أداء الصلاة وقراءة الأذكار) ولا تختلف عن الطبعة الأولى إلا باستدراك يسير في الترتيب، وتعديل في مسألة: زيادة "رب الملائكة والروح" بعد صلاة الوتر، فقد رأيت أن أكتفي بنقل فتوى اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز رحمه الله، وكذلك كلام الشوكاني رحمه الله.
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الخميس/ 14 شعبان 1443
الذخيرة/ حرسها الله، وسائرَ بلاد المسلمين = آمين.
المقدمة
الحمد لله الذي أمرَ بالذِّكر كثيرًا، أحمده عدد خلقه صغيرًا أو كبيرًا. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وَعَدَ الذاكرين والذاكرات، بالمغفرة وعظيم الحسنات. وأشهد أن محمدًا عبدُه الشكور، ونبيُّه المُشَّفع في يوم النشور، الذاكرُ لربه في العشي والبكور. صلوات الله وسلامه عليه، عدد ما تحرَّكت بالذكر الشفاه، ونطقت به الأفواه.
أما بعد
فإنَّ في قراءة الأذكار بعد الصلاة أجرٌ كبير، وفضلٌ وفير، ومتابعةٌ للبشير النذير، واستجلابٌ لمرضاة العليِّ الكبير؛ ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في فضل الذكر عمومًا: إن العطاء والفضل الذي رُتِّب عليه لم يُرَتَّبْ على غيره من الأعمال"
(1)
.
بل إنَّ الجلوس وحده فيه فوائد، والذكر مع الجلوس له عوائد، وأيُّ عوائد؛ تستغفر لمن يجلس الملائكة، وتدعو له بالمغفرة والتوبة من الذنوب المهلكة.
وأكثر الناس لا يجلسون بعد الصلاة للأذكار، واعتادوا التَّعجُّل في
(1)
الوابل الصيب (ص/ 101). ط؛ الأوقاف القطريةـ 1437 هـ ــ 2016 م.
الخروج باستمرار، فيتركون الصواب، ويفوتهم الثواب.
فلأجل نيل ذلك الثواب، والحرص على تلك الأسباب، التي توصل إلى مرضاة ربِّ الأرباب، رأيت أن أكتب في هذا الباب، ما يُبَشِّرُ أولي الألباب، ويدعو المُعرِضين إلى العودة والإناب، عن عادة السَّرَعَان
(1)
، إلى عادة أهل الذكر والاطمئنان.
فجمعتُ من الأدلة والآثار، ما يبين فضل الأدعية والأذكار، التي تقال بعد الصلاة باستمرار، وتجعل أهل الفقر والإعسار، ينافسون أهل السعة واليسار. ونقلتُ بعض الفتاوى المهمة، المتعلقة بالذكر بعد الصلاة للمأمومين والأئمة.
وأرجو لمن قرأها أنْ يُغيِّرَ من نفسه، ويقرأَ منها على جلسائه وبني جنسه، في الدروس واللقاءات، والخطب والمحاضرات، وأن نتواصى بهذا الأمر في المنشورات والتغريدات، والوسائل المتنوعات، لنحظى بالفضائل المذكورة، في السطور المزبورة.
(1)
قال النووي: "السَّرَعَان" هم المسرعون إلى الخروج. والسرعان - بفتح السين والراء - هذا هو الصواب الذي قاله الجمهور من أهل الحديث واللغة، وهكذا ضبطه المتقنون. المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (573).
وينبغي لكلِّ عاقل أنْ يحرص على العمل بالفضائل، وأن يكثر من القربات والنوافل، حتى يلتحقَ بركب الأبرار، ويرقى منازل الأخيار، لاسيما وباب الأذكار، أسهل في الأداء، وأعظم في الثواب والجزاء.
ويجدر بكل محب للسنة أنْ لا يُفوِّت العمل بما بلغه من فضائل الأعمال، وكريم الخصال، بل يعمل بقدر ما يستطيع منها، ولا يكون من الذين يهجرونها ويغفلون عنها.
قال النووي رحمه الله: اعلم: أنه ينبغي لمن بلغه شيءٌ من فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرَّة، ليكون من أهله، ولا ينبغي أنْ يتركه مطلقًا، بل يأتي بما يتيسر منه، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتَّفَق على صحته
(1)
: "وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"
(2)
.
وقد سميت هذه الرسالة (تذكير الأخيار بفضائل المكث في مكان أداء الصلاة وقراءة الأذكار)، واحتوت الرسالة على مقدمة، وأربعة فصول، وخاتمة، وفهرست. فأسأل الله أن يجعلنا من الذاكرين المخبتين، وأن يثبتنا على الحق المبين، و صلى الله عليه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
رواه البخاري (7288) ومسلم (1337).
(2)
كتاب الأذكار للنوي (ص/ 35). ط 1 الأوقاف القطرية. 1436 هـ/ 2015 مـ.
الفصل الأول الترغيب في ذكر الله والترهيب من الغفلة عنه
وفي هذا الفصل مبحثان:
المبحث الأول الحث على ذكر الله عز وجل
-
وفي هذا المبحث ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الأمر بالإكثار من الذكر
قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)} [البقرة: 200].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)} [الأحزاب: 41].
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فِي قَوْلِهِ {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}
[الأحزاب: 41]. يَقُولُ: لَا يَفْرِضُ عَلَى عِبَادِهِ فَرِيضَةً إِلَّا جَعَلَ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا فِي حَالِ عُذْرٍ غَيْرِ الذِّكْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ إِلَّا مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، قَالَ:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]. بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَفِي السَفَرِ وَالْحَضَرِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالسَّقَمِ وَالصِّحَّةِ، وَالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ:{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42]. فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ؛ صَلَّى عَلَيْكُمْ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ، قَالَ اللَّهُ عز وجل:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]
(1)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: فقيَّد الأمر بالذكر بالكثرة والشدة؛ لشدة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فأيُّ لحظةٍ خلا فيها العبد عن ذكر الله عز وجل كانت عليه لا له، وكان خُسرانه فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله عز وجل"
(2)
.
(1)
تفسير الطبري (10/ 306)[الأحزاب: 41]. ط 2 دار الكتب العلمية، 1418 هـ ــ 1997 م.
(2)
الوابل الصيب (ص/ 89). ط الأوقاف القطرية، 1437 هـ ــ 2016 م.
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} [الأعراف: 205].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} [الأنفال: 45].
وقال تعالى عن زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)} [آل عمران: 41].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ:"لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ"
(1)
.
وعن الحارث الأشعري رضي الله عنه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَمَرَ
(1)
رواه الترمذي (3375) وابن ماجه (3793) وابن حبان في صحيحه (814)، وصححه الألباني في صحح الترغيب (1491). وحسنه ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 93).
يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عليهما السلام بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ، وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ،
…
وَآمُرُكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ عز وجل كَثِيرًا، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ، فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل"
(1)
.
وقال عبد الله بن أبي الهذيل: إن الله تعالى ليحب أن يذكر في السوق، ويحب أن يذكر على كل حال، إلا على الخلاء"
(2)
.
المطلب الثاني: فضائل ذكر الله عز وجل
-
قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)} [العنكبوت: 45].
(1)
رواه أحمد (17170) والترمذي (2863). وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1498). وكذلك صححه الوادعي في الصحيح المسند من دلائل النبوة رقم (460).
(2)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 359). وذكره ابن القيم في الوابل الصيب (ص/ 164).
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)} [الأحزاب: 35]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)} [الكهف: 24].
وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].
وقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152].
قال ابن القيم رحمه الله: ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلًا وشرفًا"
(1)
. ثم أورد الحديث التالي:
(1)
الوابل الصيب (ص/ 96).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"
(1)
.
وعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ"
(2)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانُ، فَقَالَ:"سِيرُوا، هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ". قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ"
(3)
.
(1)
رواه البخاري (7405) ومسلم (2675).
(2)
رواه البخاري (6407).
(3)
رواه مسلم (2676).
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ". قَالُوا: بَلَى. قَالَ: "ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى"
(1)
.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال سألتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ تعالى؟ قال: "أن تموتَ، ولِسانُك رَطْبٌ مِنْ ذِكرِ اللهِ"
(2)
.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا قَطُّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ"
(3)
. وعند الطبراني: قيل: ولا الجهادُ
(1)
رواه الترمذي (3377) وابن ماجه (3790) وأحمد (21704). وصححه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح (2209).
(2)
أخرجه ابن حبان في صحيحه (818)، وحسنه ابن حجر في الفتوحات الربانية (1/ 257) والألباني في صحيح الترغيب (1492).
(3)
أخرجه أحمد في المسند (22079) واللفظ له، وابن أبي شيبة في المصنف (30065) والطبراني في الأوسط (2296). وصححه الألباني في صحيح الجامع (5644). وحسن إسناده ابن حجر في بلوغ المرام رقم (1333)، وراواه مالك موقوفًا (564).
في سبيلِ اللهِ؟ قال: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ، إلا أن يضربَ بسَيْفِه حتى ينقطعَ"
(1)
.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ فَقَالَ: أَوْصِنِي. فَقَالَ: سَأَلْتَ عَمَّا سَأَلْتُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَبْلِكَ؛ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ؛ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهُ رَوْحُكَ فِي السَّمَاءِ، وَذِكْرُكَ فِي الْأَرْضِ"
(2)
.
وقال أبو بكر رضي الله عنه: ذَهَبَ الذَّاكِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ"
(3)
.
وكان ابن تيمية رحمه الله يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك؛ فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء"
(4)
.
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط (2296) وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1497). من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد (11774). وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2543) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 218): رجاله ثقات.
(3)
رواه أحمد (15614).
(4)
مجموع الفتاوى (10/ 85).
المطلب الثالث: الذكر من صفات الأنبياء الأخيار والصالحين الأبرار
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سأَل موسى ربَّه عن ستِّ خِصالٍ، كان يظُنُّ أنَّها له خالصةٌ والسَّابعةُ لم يكُنْ موسى يُحِبُّها، قال: يا ربِّ أيُّ عبادِك أتقى؟ قال: الَّذي يذكُرُ ولا يَنسى. قال: فأيُّ عبادِك أهدى؟ قال: الَّذي يتَّبِعُ الهُدى. قال: فأيُّ عبادِك أحكَمُ؟ قال: الَّذي يحكُمُ للنَّاسِ كما يحكُمُ لنفسِه. قال: فأيُّ عبادِك أعلَمُ؟ قال: عالمٌ لا يشبَعُ مِنْ العِلمِ؛ يجمَعُ عِلمَ النَّاسِ إلى عِلمِه. قال: فأيُّ عبادِك أعَزُّ؟ قال: الَّذي إذا قدَر غفَر. قال: فأيُّ عبادِك أغنى؟ قال: الَّذي يَرضى بما يُؤتَى. قال: فأيُّ عبادِك أفقَرُ؟ قال: صاحبٌ
منقوصٌ"
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "ثلاثةٌ لا يرُدُّ اللهُ دعاءَهم: الذاكرُ اللهَ كثيرًا، ودعوةُ المظلومِ، والإمامُ المُقسِطُ"
(2)
.
(1)
رواه ابن حبان في صحيحه (6217) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (3350) وشعيب الأرناؤوط في تخريج صحيح ابن حبان (6217).
(2)
رواه البزار (8751) والطبراني في الدعاء (1316) والبيهقي في شعب الإيمان (588) باختلاف يسير، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1211).
المبحث الثاني
الترهيب من الغفلة عن ذكر الله عز وجل
-
قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28].
وقال الله عز وجل: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} [الجن: 17].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ، إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ لَهُمْ
حَسْرَةً"
(1)
.
وفي لفظ عند الترمذي: "مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ"
(2)
.
وعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ، لَا لَهُ، إِلَّا أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ ذِكْرُ اللَّهِ"
(3)
.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الشيطانُ جاثِمٌ على قلبِ ابنِ آدمَ؛ فإذا
(1)
رواه أبو داود (4855) والترمذي (3380). وصححه الألباني في صحيح الجامع (5508)، وقال الوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (1328): حسن على شرط مسلم.
(2)
رواه الترمذي (2322) وابن ماجه (4112)، وحسنه ابن القيم في عدة الصابرين (1/ 260) والألباني في الصحيحة رقم (2797).
(3)
رواه الترمذي (2412) وابن ماجه (3974)، وحسنه المناوي في تخريج أحاديث المصابيح (2/ 269).
ذَكَر اللهَ خَنَسَ، وإذا غَفَل وَسْوَسَ"
(1)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا تُرِك الذِّكرُ صَدِئ، فإذا ذُكِرَ جلاه.
وصدأُ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر؛ فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكباً على قلبه، وصداؤه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل؛ لأنه لما تراكم عليه الصدأ أَظْلَم، فلم تظهر فيه صور الحقائق كما هي عليه.
فإذا تراكم عليه الصدأ واسْوَدَّ، ورَكِبَهُ الرَّانُ، فسَدَ تصوُّره وإدراكه، فلا يقبل حقاً ولا ينكر باطلاً؛ وهذا أعظم عقوبات القلب.
(1)
أخرجه البخاري معلقاً في آخر كتاب التفسير، بصيغة التمريض قبل حديث (4977) بنحوه، وأخرجه موصولاً أبو داود في الزهد (337)، وابن أبي شيبة في المصنف (35919) واللفظ لهما. وصححه الألباني في تخرجي مشكاة المصابيح (2221).
وأصلُ ذلك من الغفلة، واتباع الهوى، فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره، قال الله تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28] "
(1)
.
(1)
الوابل الصيب (ص/ 92).
الفصل الثاني
الجلوس في مكان الصلاة
إن الجلوس بعد الصلاة في مكان أدائها فيه أجر كبير، وثواب وفير، بشرطين اثنين: أحدهما: اجتناب الحدث الذي ينقض الطهارة، والثاني: البعد عن الأذية باللسان أو باليد لأي أحد، فمن جلس ذلك الجلوس فإن الملائكة تستغفر له بمجرد جلوسه، أمَّا إذا رافق جلوسه ذلك قراءةٌ للأذكار الواردة، فإن فيها فضائل وفوائد زائدة، والأحاديث بها مستفيضةٌ واردة.
وهذا الفصل هو المقصد من تأليف الرسالة، وقد حوى هذا الفصل عدة مباحث:
المبحث الأول
المكث في مكان الصلاة بعد أدائها
وفي هذا المبحث عدة مطالب:
المطلب الأول: فضل المكث في مكان الصلاة بعد أدائها
- عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ يَنْتَظِرُهَا، وَلَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ"
(1)
.
قال المباركفوري، رحمه الله: قوله: "اللهم اغفر له اللهم ارحمه" بيان لقوله: "تصلي". أي: تقول: اللهم اغفر له
…
إلخ. والفرق بين المغفرة والرحمة؛ أنَّ المغفرة ستر الذنوب، والرحمة إفاضة الإحسان إليه. "ما لم يحدث" من الإحداث، أي: ما لم يبطل وضوءه. وفي الحديث بيان فضيلة من انتظر الصلاة مطلقًا سواء ثبت في مجلسه ذلك من المسجد أو تحول إلى غيره، كذا في عمدة القاري"
(2)
.
وقال السفاقسي: الحدَث في المسجد خطيئة يُحرَمُ به المُحْدِثُ استغفارَ الملائكة، ولمَّا لم يكن للحدث فيه كفارة ترفع أذاه كما يرفع الدفن أذى النخامة فيه؛ عوقب بحرمان الاستغفار من الملائكة لما آذاهم به من الرائحة الخبيثة
(3)
.
قال ابن بطال رحمه الله: فمن كان كثير الذنوب وأراد أن يحطَّها الله عنه بغير تعب؛ فليغتنم ملازمة مكان مصلاه بعد الصلاة، ليستكثر من دعاء
(1)
رواه البخاري (445) ومسلم (649) والترمذي (330) واللفظ للترمذي.
(2)
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي حديث (330).
(3)
المصدر السابق.
الملائكة واستغفارهم له، فهو مرجو إجابته، لقوله تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] "
(1)
.
وقَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى قَوْلَهُ: "مَا لَمْ يُحْدِثْ". إِلَّا الْإِحْدَاثَ الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ"
(2)
.
وقد ذكرَ اللهُ تعالى استغفارَ الملائكة للمؤمنين من حيث العموم، فقال سبحانه:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [سورة غافر: 7].
قال مُطرِّفُ بن عبد الله: وجدنا أَنْصَحَ عبادِ الله لعبادِ الله الملائكة، ووجدنا أغشَّ عبادِ الله لعبادِ الله الشيطان، وتلا هذه الآية
(3)
.
وقال يحيى بن معاذ الرازي لأصحابه في هذه الآية: افهموها، فما في العالم جُنَّةٌ أرجى منها، إنَّ مَلَكًا واحدًا لو سأل الله أن يغفرَ لجميعِ المؤمنين لغفر
(1)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (2/ 95) ط 2 لمكتبة الرشد 1423 هـ 2003 م.
(2)
الموطأ (441).
(3)
تفسير القرطبي [غافر: 7].
لهم، كيف وجميعُ الملائكة وحملةُ العرشِ يستغفرون للمؤمنين
(1)
.
وقال خَلَفُ بنُ هشامٍ البزَّارُ القارئُ: كنت أقرأ على سُلَيْمِ بنِ عيسى فلمَّا بلغت: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} بكى ثم قال: يا خلف! ما أكرم المؤمن على الله، نائمًا على فراشه والملائكة يستغفرون له"
(2)
.
المطلب الثاني: الحث على الذكر والمكث في مكان أداء صلاة الصبح
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ". قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ"
(3)
.
قال الطيبي رحمه الله: أي: ثم صلى بعد أن ترتفع الشمس قدر رمح، حتى يخرج وقت الكراهة، وهذه الصلاة تسمى صلاة الإشراق، وهي أول صلاة
(1)
تفسير القرطبي [غافر: 7].
(2)
المصدر السابق.
(3)
رواه الترمذي (586)، والبغوي في شرح السنة (710)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (586) وابن عثيمين كما في مجموع فتاوى ابن عثيمين (14/ 299)، وابن باز كما في مجموع فتاوى ابن باز (25/ 171).
الضحى. وقال المباركفوري رحمه الله معقبًا على الطيبي: قلت: وقع في حديث معاذ: (حتى يسبح ركعتي الضحى). وكذا وقع في حديث أمامة وعتبة بن عبد (كانت) أي: المثوبة (قال) أي: أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تامة تامة تامة) صفة لحجة وعمرة، كررها ثلاثًا للتأكيد، وقيل: أعاد القول لئلا يتوهم أن التأكيد بالتمام وتكراره من قول أنس. قال الطيبي: هذا التشبيه من باب إلحاق الناقص بالكامل ترغيبًا أو شبه استيفاء أجر المصلي تامًّا بالنسبة إليه باستيفاء أجر الحاج تامًّا بالنسبة إليه. وأما وصف الحج والعمرة بالتمام إشارة إلى المبالغة، كذا في المرقاة"
(1)
.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً "
(2)
.
ـ وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا
(1)
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي حديث رقم (586).
(2)
رواه أبو داود (3667) وأحمد (22185) بنحوه. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (465)، والوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين رقم (106).
صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا"
(1)
.
قال النووي رحمه الله: قوله: "تطلع الشمس حسَنًا" هو بفتح السين وبالتنوين أي: طلوعا حسَنًا، أي: مرتفعة. وفي لفظٍ لمسلم عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ كَثِيرًا، كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ أَوِ الْغَدَاةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَضْحَكُونَ، وَيَتَبَسَّمُ"
(2)
.
وقال النووي رحمه الله: اعلم أنَّ أشرف أوقات الذكر في النهار؛ الذكر بعد صلاة الصبح"
(3)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: حضرت شيخ الاسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي. أو كلاماً قريباً من هذا.
وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر. أو كلاماً هذا معناه"
(4)
.
(1)
رواه مسلم (670).
(2)
قال النووي: وفيه جواز الضحك والتبسم، كما في شرح صحيح مسلم حديث رقم (670).
(3)
كتاب الأذكار للنووي (ص/ 147).
(4)
الوابل الصيب (ص/ 96).
مسألة/ هل الجلوس في مكان الصلاة يشمل المسجد كله
سُئل ابن عثيمين رحمه الله: إذا جلس المصلي بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، ثم تنقل من مصلاه، هل يكتب له أجر حج وعمرة؟
فأجاب: إذا جلس الإنسان في مصلاه ينتظر طلوع الشمس، ثم يصلي ركعتين، لكنه قام من مكانه إلى مكان آخر لاستماع الذكر، أو لتنشيط نفسه عن النوم، فلا بأس؛ لأن المصلى واحد.
(1)
.
وقال الحافظ بن حجر رحمه الله: قوله: "في مصلاه " أي: في المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد، وكأنه خرج مخرج الغالب، وإلا فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمِرًّا على نية انتظار الصلاة كان كذلك.
(2)
.
(1)
المصدر: سلسلة لقاءات الباب المفتوح (لقاء الباب المفتوح [4]).
(2)
فتح الباري شرح صحيح البخاري (2/ 136). عند شرح حديث رقم (647).
مسألة/ هل الخروج من المسجد للوضوء يقطع حكم الجلوس
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: من جلس في مصلاه بعد أداء صلاة الفجر يذكر الله حتى طلعت الشمس ثم أحدث فخرج من المسجد ليتوضأ ثم رجع بعد وضوئه لمصلاه من قريب ولم يطل مكثه خارج المسجد فصلى ركعتين بعد ارتفاع الشمس قدر رمح، فإن خروجه ذلك لا يؤثر ولا يمنع من حصوله على الثواب العظيم المترتب على تلك العبادة إن شاء الله تعالى وهو إدراك حجة وعمرة تامتين والفوز بجنته"
(1)
.
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، المجموعة الثانية (6/ 150).
المبحث الثاني
الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة الأخرى واستماع العلم
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: فضل انتظار الصلاة بعد الصلاة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه سلم: "أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ " قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:"إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ"
(1)
.
قال أبو الوليد الباجي رحمه الله: وأما انتظار الصلاة بعد الصلاة فهو أن يصلي في جماعة ثم يجلس في مصلاه ينتظر الصلاة التي تليها. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ" يعني أنه من الرباط المُرَغَّب فيه؛ لأنه قد ربط نفسه على هذا العمل وحبس نفسه عليه، ويحتمل قوله صلى الله عليه وسلم:
(1)
رواه مسلم (649).
"فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ" التفضيل لهذا الرباط على غيره من الرباط في الثغور، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ" يريد أنه أفضل أنواعه، ولذلك يقول القائل: جهاد النفس هو الجهاد، يريد أنه أفضل. ويحتمل أن يريد أنه الرباط الممكن المتيسر. وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: إن ذلك من ألفاظ الحصر وإنما تكرر قوله: "فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ" على معنى التعظيم لشأنه. ويحتمل أن يكون كرر ذلك على عادته صلى الله عليه وسلم في تكرار كلامه ثلاثًا إلا أنه لا يخلو في ذلك من فائدة التعظيم والإفهام أو غيرهما
(1)
.
وعن أنس رضي الله عنه قال: نَظَرْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ يَبْلُغُهُ، فَجَاءَ فَصَلَّى لَنَا، ثُمَّ خَطَبَنَا فَقَالَ:"أَلَا إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا ثُمَّ رَقَدُوا، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ". قَالَ الْحَسَنُ البصري رحمه الله: وَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ"
(2)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي مُصَلَّاهُ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ حَتَّى يَنْصَرِفَ، أَوْ يُحْدِثَ". قُلْتُ: مَا يُحْدِثُ؟ قَالَ:
(1)
المنتقى شرح موطأ مالك، عند حديث رقم (445).
(2)
رواه البخاري (600) ومسلم (640)، وقول الحسن في البخاري وليس في مسلم.
يَفْسُو أَوْ يَضْرِطُ"
(1)
.
قال المباركفوري رحمه الله: قوله: "لا يزال أحدكم في صلاة" أي: في ثواب صلاة لا في حكمها؛ لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة"
(2)
.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَال: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَغْرِبَ فَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ وَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْرِعًا قَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، وَقَدْ حَسَرَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ:"أَبْشِرُوا، هَذَا رَبُّكُمْ قَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي قَدْ قَضَوْا فَرِيضَةً وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى"
(3)
.
قوله: "وَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ" في الصحاح: التعقيب في الصلاة: الجلوس بعد أن يقضيها لدعاء أو مسألة، وفي الحديث:"من عقب في الصلاة فهو في الصلاة"
(4)
.
(1)
رواه مسلم (215).
(2)
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي حديث (330).
(3)
رواه ابن ماجه (801) وصححه الألباني في صحيح الجامع (36).
(4)
مختار الصحاح (ص/ 213) مادة: >عقب<.
وقال السيوطي: التعقيب في المساجد: انتظار الصلوات بعد الصلاة"
(1)
.
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"صَلَاةٌ فِي إِثْرِ صَلَاةٍ لَا لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ"
(2)
.
قال المباركفوري رحمه الله: قوله: "صلاة في إثر صلاة" أي: صلاة تتبع صلاة وتتصل بها فرضًا أو سنةً أو نفلًا. "لا لغو بينهما" أي: ليس بينهما كلام باطل، ولا لغط. واللغو: اختلاط الكلام. "كتاب في عليين" أي: مكتوب ومقبول تصعد به الملائكة المقربون إلى عليين لكرامة المؤمن وعمله الصالح. قاله المُناوي"
(3)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مُنْتَظِرُ الصَّلَاةِ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ كَفَارِسٍ اشْتَدَّ بِهِ فَرَسُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى كَشْحِهِ، تُصَلِّي عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ اللَّهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَقُومَ، وَهُوَ
(1)
حاشية السندي على ابن ماجه رقم (801). وفيها معنى (قَدْ حَفَزَهُ) أي: أعجله النفَس. (قد حَسَرَ) أي: كشف.
(2)
رواه أبو داود (1288) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3837).
(3)
عون المعبود شرح سنن أبي داود حديث رقم (1288). والحديث غير واضح في انتظار الصلاة ولكن يُفهم منه فضل تتابع أداء الصلاة وأن انتظار الصلاة في مكانها سبب لتحقيق شرط اجتناب اللغو.
فِي الرِّبَاطِ الْأَكْبَرِ"
(1)
.
فائدة/ قال ابن رجب رحمه الله: ويدخل في "الجلوس في المساجد بعد الصلوات": الجلوس للذكر والقراءة وسماع العلم وتعليمه ونحو ذلك، لا سيما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس؛ فإن النصوص قد وردت بفضل ذلك، وهو شبيهٌ بمن جلس ينتظر صلاة أخرى، لأنه قد قضى ما جاء المسجد لأجله من الصلاة وجلس ينتظر طاعة أخرى"
(2)
.
المطلب الثاني: فضل استماع الدروس والمواعظ في المساجد
في بعض المساجد يُلْقِي الإمامُ أو غيرُه درسًا أو موعظة بعد الصلاة، وهذا من نعم الله العظيمة على المتكلم والسامع، فينبغي للمسلم حضورها والحرص عليها، وقد وردت أدلة كثيرة تبيّن فضل الجلوس في هذه
(1)
رواه أحمد (8625) والطبراني في الأوسط (8144) وحسنة شعيب الأرناؤوط في تخريج المسند (8625). وفي مختار الصحاح (ص/ 270): الكشح: بوزن الفَلْس، ما بين الخاصرة إلى الضِّلَعِ الخلفي. مادة (ك ش ح).
(2)
تفسير ابن رجب (2/ 169)، عند الحديث عن سورة [ص].
المجالس، وسأكتفي بذكر شيء يسير منها للتذكير بفضلها والحث على ملازمتها، فمن تلك الأدلة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه سلم قال:"لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عز وجل إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ"
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ". قَالَ: "فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا". قَالَ: "فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ - مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ" قَالَ: "فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ ". قَالَ: "فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ، مَا رَأَوْكَ". قَالَ: "فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ ". قَالَ: "يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا". قَالَ: "يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ " قَالَ: "يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ". قَالَ: "يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ ". قَالَ: "يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا
(1)
رواه مسلم (2700).
رَبِّ مَا رَأَوْهَا". قَالَ: "يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ ". قَالَ: "يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً". قَالَ: "فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ ". قَالَ: "يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ". قَالَ: "يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ ". قَالَ: "يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْهَا". قَالَ: "يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ ". قَالَ: "يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً". قَالَ: "فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ". قَالَ: "يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ"
(1)
.
وفي آخر لفظ مسلم: "فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا. قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ، فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ. قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ؛ هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ"
(2)
.
(1)
رواه البخاري (6408) ومسلم (2689).
(2)
صحيح مسلم (2689).
قال العلماء: معناه على جميع الروايات: أنهم ملائكة زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق، فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم، إنما مقصودهم حلق الذكر
(1)
.
وقال النووي رحمه الله: في هذا الحديث فضيلةُ الذكر، وفضيلة مَجَالِسِهِ، والجلوسِ مع أهله، وإن لم يشاركهم، وفضلُ مجالسة الصالحين وبركتهم، والله أعلم
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا لَمْ يَأْتِهِ إِلَّا لِخَيْرٍ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ جَاءَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ"
(3)
.
(1)
المنهاج شرح مسلم بن الحجاج، عند حديث رقم (2689).
(2)
المصدر السابق.
(3)
رواه ابن ماجه (227) وأحمد (8603) وصححه الألباني في صحيح الجامع (6184).
قال السندي رحمه الله: قوله: "مَنْ جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا" أراد مسجده، وتخصيصه بالذكر إما لخصوص هذا الحكم به، أو لأنه كان محلا للكلام حينئذ وحكم سائر المساجد كحكمه، قوله:"بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِ" وجه مشابهة طلب العلم بالمجاهد في سبيل الله أنه إحياء للدين وإذلال للشيطان وإتعاب النفس وكسر ذرى اللذة، كيف وقد أُبيح له التخلف عن الجهاد فقال تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122]. قوله: "وَمَنْ جَاءَ لِغَيْرِ ذَلِكَ" أي: ممن لم يأت الصلاة كما تقدم، قوله:"فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ" أي: بمنزلة من دخل السوق لا يبيع ولا يشتري، بل لينظر إلى أمتعة الناس فهل يحصل له بذلك فائدة؟ فكذلك هذا، وفيه: أن مسجده صلى الله عليه وسلم سوق العلم فينبغي للناس شراء العلم بالتعلم والتعليم"
(1)
.
(1)
حاشية السندي على ابن ماجه، حديث رقم (227).
وقال أبو بكر بن عبد الرحمن القرشي المخزومي المدني التابعي، أحد الفقهاء السبعة: مَنْ غَدَا أَوْ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، لَا يُرِيدُ غَيْرَهُ؛ لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ لِيُعَلِّمَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ، كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ رَجَعَ غَانِمًا
(1)
.
وعن شَهْر بْن حَوْشَبٍ قال: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، لَا تَعَلَّمِ الْعِلْمَ لِتُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَتُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَتُرَائِيَ بِهِ فِي الْمَجَالِسِ، وَلَا تَتْرُكِ الْعِلْمَ زَهَادَةً فِيهِ، وَرَغْبَةً فِي الْجَهَالَةِ. وَإِذَا رَأَيْتَ قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ، إِنْ تَكُ عَالِمًا يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ، وَإِنْ تَكُ جَاهِلًا عَلَّمُوكَ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ فَيُصِيبَكَ بِهَا مَعَهُمْ. وَإِذَا رَأَيْتَ قَوْمًا لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فَلَا تَجْلِسْ مَعَهُمْ، إِنْ تَكُ عَالِمًا لَمْ يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ، وَإِنْ تَكُ جَاهِلًا زَادُوكَ غَيًّا - أَوْ: عِيًّا - وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ بِسَخَطٍ فَيُصِيبَكَ بِهِ مَعَهُمْ.
(2)
.
(1)
موطأ مالك (443).
(2)
سنن الدارمي (393).
المبحث الثالث
فضل محبة المساجد والبقاء فيها
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مكانة المساجد وشرف منزلتها
ـ قال الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)} [النور: 36].
قال البغوي رحمه الله: والبيوت: هي المساجد، قوله:{أَنْ تُرْفَعَ} قال الحسن: أي: تُعظَّم، أي: لا يذكر فيه الخنا من القول. {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يُتلى فيها كتابه. {يُسَبِّحُ لَهُ} أي: يصلي {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} أي: بالغداة والعشي. قال أهل التفسير: أراد به الصلوات المفروضات؛ فالتي تؤدى بالغداة صلاة الصبح، والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأن اسم الأصيل يجمعهما"
(1)
.
ـ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(1)
تفسير البغوي [سورة النور: 36].
"أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا"
(1)
.
قال النووي رحمه الله: قوله: "أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا" لأنها بيوت الطاعات، وأساسها على التقوى. وقوله:"وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا" لأنها محل الغش والخداع، والربا، والأيمان الكاذبة، وإخلاف الوعد، والإعراض عن ذكر الله، وغير ذلك مما في معناه. والمساجد: محل نزول الرحمة، والأسواق ضدها"
(2)
.
وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قالَ: المساجدُ بيوتُ اللَّهِ في الأرضِ؛ تضيءُ لأهلِ السَّماءِ، كما تضيءُ نجومُ السَّماءِ لأهلِ الأرضِ"
(3)
.
المطلب الثاني: فضل محبة المساجد والبقاء فيها
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ؛ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ،
(1)
رواه مسلم (671).
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج حديث رقم (671).
(3)
مجمع الزوائد للهيثمي (2/ 10) وقال: رجاله موثوقون.
وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ فأَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ"
(1)
.
قال النووي رحمه الله: قوله: "وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ". معناه: شديد الحب لها، والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دوام القعود في المسجد"
(2)
.
ـ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا تَوَطَّنَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ إِلَّا تَبَشْبَشَ اللَّهُ لَهُ، كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ"
(3)
.
قال السندي رحمه الله: قوله: "ما تَوَطَّنَ" أي: التزم حضورها. "إِلَّا تَبَشْبَشَ" أصله: فرح الصديق بمجيء الصديق، واللطف في المسألة والإقبال، والمراد هاهنا: تلقيه ببره وتقريبه والكرامة"
(4)
.
وعن معمر، عن صاحب له أن أبا الدرداء رضي الله عنه، كتب إلى سلمان رضي الله عنه: أن يا أخي اغتنم صحتك وفراغك، قبل أن ينزل بك من البلاء ما لا يستطيع
(1)
رواه البخاري (660) ومسلم (1031).
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (1031).
(3)
رواه ابن ماجه (800) وصححه الوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (1253).
(4)
حاشية السندي على ابن ماجه حديث رقم (800).
العباد رده، واغتنم دعوة المبتلى، ويا أخي ليكن المسجد بيتك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إِنَّ الْمَسْجِدَ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لِمَنْ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ بُيُوتَهُمْ بِالرَّوْحِ وَالرَّحْمَةِ وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ"
(1)
.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عز وجل: رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عز وجل"
(2)
. وعند ابن حبان بلفظ: >ثلاثةٌ كلُّهم ضامنٌ على اللهِ إنْ عاش رُزِق وكُفي وإنْ مات أدخَله اللهُ الجنَّةَ<.
(1)
جامع معمر بن راشد رقم (20029) والبيهقي في شعب الإيمان (10657) والديلمي في الفردوس (6655) باختلاف يسير واللفظ من جامع معمر، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 176)، والألباني في الصحيحة (2/ 334)
(2)
رواه أبو داود (2494) وابن حبان (499) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3053).
المطلب الثالث: فضل إقامة حلقات القرآن في المسجد والجلوس فيها
إن الذين يجلسون في حلقات التحفيظ مساءً ـ طلابًا ومعلمين ـ يكادون ينفردون بالأجر المذكور في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً"
(1)
. إذ قلَّ أنْ يجلس أحد من بعد صلاة العصر إلى قُبيل المغرب إلا هم. وحلقات التحفيظ عمومًا فيها فضائل كثيرة، وأجور عظيمة، منها ما ورد في الأدلة التالية:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ؛ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ"
(2)
. قال النووي رحمه الله:
(1)
رواه أبو داود (3667) وأحمد (22185) بنحوه. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (465)، والوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين رقم (106).
(2)
رواه مسلم (2699).
قيل: المراد بالسكينة هنا: الرحمة، وهو ضعيف؛ لعطف الرحمة عليه، وقيل: الطمأنينة والوقار، وهو أحسن، وفي هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ؛ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ" معناه: من كان عمله ناقصا لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال فينبغي ألا يتكل على شرف النسب وفضيلة الآباء، ويقصر في العمل"
(1)
.
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ:"أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ، أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟ " فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُحِبُّ ذَلِكَ. قَالَ:"أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ"
(2)
. قال
(1)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، حديث رقم (2699).
(2)
رواه مسلم (803). ومعنى: (يغدو) أي: يذهب في الغدوة، وهي أول النهار، و (بطحان): بضم الباء وإسكان الطاء: موضع بقرب المدينة. (أو العقيق) قيل: أراد العقيق الأصغر وهو على ثلاثة أميال أو ميلين من المدينة، وخصهما بالذكر لأنهما أقرب المواضع التي يقام فيها أسواق الإبل إلى المدينة. (كوماوين) تثنية كوماء قُلبت الهمزة واوًا، وأصل الكوم: العلو. أي: فيحصل ناقتين عظيمتي السنام، وهي من خيار مال العرب (زهراوين) أي: سمينتين مائلتين إلى البياض من كثرة السمن (بغير إثم) كسرقة وغصب سمى موجب الإثم إثما مجازا (ولا قطع رحم) أي: بغير ما يوجبه، وهو تخصيص بعد تعميم= عون المعبود (1456).
العظيم آبادي رحمه الله: والحاصل: أنه صلى الله عليه وسلم أراد ترغيبهم في الباقيات وتزهيدهم عن الفانيات، فذِكْرُه هذا على سبيل التمثيل والتقريب إلى فهم العليل، وإلا فجميع الدنيا أحقر من أن يُقابَل بمعرفة آية من كتاب الله تعالى أو بثوابها من الدرجات العلى"
(1)
.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتَذَاكَرُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا أَظَلَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي بِهِ الْعِلْمَ سَهَّلَ اللَّهُ طَرِيقَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ"
(2)
.
(1)
عون المعبود شرح سنن أبي داود (1456).
(2)
سنن الدارمي (357). والأدلة في هذا المعنى كثيرة، وفيما ذكُر كفاية إن شاء الله، إذ المقصود التذكير بفضلها، والحث على المداومة عليها، وليس المراد الاستقصاء والجمع، فذلك في بابه.
الفصل الثالث
الأذكار المشروعة بعد الصلاة وثوابهن
تمهيد
قال النووي رحمه الله: أجمع العلماء على استحباب الذكر بعد الصلاة، وجاءت فيه أحاديثُ كثيرةٌ صحيحةٌ في أنواعٍ منه متعددةٍ"
(1)
.
عن عُقْبَةَ بن عامر رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، فَقَالَ:"ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ"
(2)
. فكونهم عجبوا من سرعته، فيه دليل على أنه كان صلى الله عليه وسلم من عادته أن يجلس بعد الصلاة فيقرأ الأذكار، ولذلك لما عجبوا من سرعته رجع وبيَّن لهم سبب سرعته ـ
فائدة/ قال ابن حجر رحمه الله: قوله: (يحبسني) أي: يشغلني التفكر فيه عن
(1)
كتاب الأذكار (ص/ 141).
(2)
رواه البخاري (851).
التوجه والإقبال على الله تعالى. وفهم منه ابن بطال معنى آخر، فقال فيه: إنَّ تأخير الصدقة تحبس صاحبها يوم القيامة"
(1)
. وفي هذا الفصل عدة مباحث:
المبحث الأول
الأذكار الواردة بعد الصلاة
والأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة كثيرة، وتقسيمها تحت المطالب التالية:
المطلب الأول: الاستغفار والدعاء بعده
عنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، وَقَالَ:"اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ". قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: كَيْفَ الِاسْتِغْفَارُ؟ قَالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ"
(2)
.
(1)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري (851).
(2)
رواه مسلم (591).
المطلب الثاني: التهليل وصيغه الواردة
الأولى: عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ: اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ"
(1)
.
الثانية: عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ، وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ". وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ"
(2)
.
(1)
رواه البخاري (7292) ومسلم (593).
(2)
رواه مسلم (594).
المطلب الثالث: ذِكرٌ عظيم يُقال عند النوم وعقب الصلوات
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ:"مَنْ قَالَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَإِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا عَدَدَ الشَّفْعِ، وَالْوِتْرِ، وَكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الطَّيِّبَاتِ الْمُبَارَكَاتِ، ثَلَاثًا، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِثْلُ ذَلِكَ، كُنَّ لَهُ فِي قَبْرِهِ نُورًا، وَعَلَى الْجِسْرِ نُورًا، وَعَلَى الصِّرَاطِ نُورًا، حَتَّى يُدْخِلْنَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ"
(1)
.
(1)
رواه ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنفه"(29256)، وذكره السيوطي في جامع الأحاديث، وحسَّن إسناده. وقال المتقي الهندي في كنز العمال (2/ 641): سنده حسن.
وقد سألتُ شيخنا نور الدين السُّدعي ـ وفقه الله ـ، عن هذا الأثر فأجاب كِتابةً: الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف بإسناد رجاله ثقات موقوفًا على ابن عمر. وذكر بعضهم بأن محمد بن عبد الرحمن يرويه عن طيسلة، ولم ينص أحد على سماعه منه، لكنه عاصره وأمكن لقاؤه له، فالحديث متصل على شرط مسلم، وحصل خلاف في تعيين طيسلة هل هو ابن مياس الذي وثقه ابن معين أم هو غيره. وقد حسن الموقوف صاحب كنز العمال. وأما المرفوع فذكره ابن رجب رحمه الله تعالى في شرح البخاري بصيغة:"روي" التي تشير إلى ضعف الحديث وعدم ثبوته. أهـ. ثم استأذنته في كتابة هذا الجواب في هذا البحث فأذن لي، جزاه الله خيرًا.
المطلب الرابع: الباقيات الصالحات وصيغها وثواب كلٍ منها
الأولى:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ
(1)
مِنَ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ؛ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ. قَالَ:"أَلَا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ: تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ".
فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا، فَقَالَ بَعْضُنَا: نُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ:"تَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ"
(2)
.
(1)
الدثور: جمع دثر بفتح الدال وإسكان الثاء المثلثة؛ وهو المال الكثير. كما في كتاب الأذكار للنووي (ص/ 143).
(2)
رواه البخاري (843) ومسلم (595).
الثانية:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ". وَقَالَ، تَمَامَ الْمِائَةِ:"لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ"
(1)
.
وعَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْحَسَنِ الضَّمْرِيِّ، أَنَّ أُمَّ الْحَكَمِ أَوْ ضُبَاعَةَ ابْنَتَيِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَدَّثَتْهُ، عَنْ إِحْدَاهُمَا، أَنَّهَا قَالَتْ: أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْيًا، فَذَهَبْتُ أَنَا وَأُخْتِي وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَسَأَلْنَاهُ أَنْ يَأْمُرَ لَنَا بِشَيْءٍ مِنَ السَّبْيِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"سَبَقَكُنَّ يَتَامَى بَدْرٍ، لَكِنْ سَأَدُلُّكُنَّ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُنَّ مِنْ ذَلِكَ: تُكَبِّرْنَ اللَّهَ عَلَى إِثْرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَحْمِيدَةً، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". قَالَ عَيَّاشٌ: وَهُمَا
(1)
رواه مسلم (597).
ابْنَتَا عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقد استدلَّ العلماء بهذا الحديث على أن المحافظة على الأذكار فيه قوة للبدن، ويدل عليه حديث أذكار النوم، وفيه:"فهو خير لكما من خادم"
(2)
. وشهدت على صحة ذلك التجارب.!
الثالثة:
عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ - أَوْ فَاعِلُهُنَّ - دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ؛ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً"
(3)
.
الرابعة:
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: أُمِرْنَا أَنْ نُسَبِّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنَحْمَدَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنُكَبِّرَهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ. قَالَ: فَرَأَى رَجُلٌ
(1)
رواه أبو داود (2987) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3607).
(2)
رواه البخاري (3705) ومسلم (2727).
(3)
رواه مسلم (596).
مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْمَنَامِ. فَقَالَ: أَمَرَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُسَبِّحُوا فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدُوا اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُوا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَاجْعَلُوا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَاجْعَلُوا التَّهْلِيلَ مَعَهُنَّ. فَغَدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثَهُ فَقَالَ:"افْعَلُوا"
(1)
. ومعنى قوله: "فَاجْعَلُوا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَاجْعَلُوا التَّهْلِيلَ مَعَهُنَّ". أي: قولوا: "لا إله إلا الله" خمسًا عشرين مرة، و"سبحان الله" خمسًا وعشرين مرة، و"الحمد لله" خمسًا وعشرين مرة، و"الله أكبر" خمسًا وعشرين مرة، فيصير مجموعها كلها مئة.
الخامسة:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَصْلَتَانِ - أَوْ خَلَّتَانِ - لَا يُحَافِظُ عَلَيْهِمَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، هُمَا يَسِيرٌ، وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ: يُسَبِّحُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا وَيَحْمَدُ عَشْرًا، وَيُكَبِّرُ عَشْرًا، فَذَلِكَ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ. وَيُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ، وَيَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيُسَبِّحُ ثَلَاثًا
(1)
رواه الترمذي (3413) وأحمد (21659)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3413).
وَثَلَاثِينَ، فَذَلِكَ مِائَةٌ بِاللِّسَانِ وَأَلْفٌ فِي الْمِيزَانِ". قال: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْقِدُهَا بِيَدِهِ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ هُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ؟ قَالَ:"يَأْتِي أَحَدَكُمْ - يَعْنِي الشَّيْطَانَ - فِي مَنَامِهِ فَيُنَوِّمُهُ قَبْلَ أَنْ يَقُولَهُ، وَيَأْتِيهِ فِي صَلَاتِهِ فَيُذَكِّرُهُ حَاجَةً قَبْلَ أَنْ يَقُولَهَا"
(1)
.
وقوله: "فَذَلِكَ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ" أي: تلك العشرات الثلاث دبر كل صلاة من الصلوات الخمس "خمسون ومائة" أي: في يوم وليلة حاصلة من ضرب ثلاثين في خمسة، أي: مائة وخمسون حسنة "باللسان" أي: بمقتضى نطقه في العدد "وألف وخمسمائة في الميزان" لأن كل حسنة بعشر أمثالها على أقل مراتب المضاعفة الموعودة في الكتاب والسنة
(2)
.
(1)
رواه أبو داود (5065) والترمذي (3410) والنسائي (1348) وابن ماجه (926) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (606).
(2)
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، حديث رقم (3410).
المبحث الثاني
مسائل تتعلق بالتسبيح
وهذه المسائل مهمة وتكثر الحاجة إليها، وتم إيرادها في أربعة مطالب:
المطلب الأول: تنويع الأذكار
قال ابن عثيمين بعد أن ذكر صيغ التسبيح: هذه كلها وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فبأيها جاء الإنسان أداه ذلك، والأحسن إذا كان الإنسان يحفظها جيداً أن يقول هذا مرة وهذا مرة"
(1)
.
وقال أيضًا رحمه الله: واعلم أن تنوع العبادات والأذكار من نعمة الله عز وجل على الإنسان؛ وذلك لأنه يحصل بها عدة فوائد، منها: أن تنوع العبادات يؤدي إلى استحضار الإنسان ما يقول من الذكر؛ فإن الإنسان إذا دام على ذكر واحد صار يأتي به بدون أن يحضر قلبه، فإذا تعمد وقصد تنويعها، فإنه بذلك يحصل له حضور القلب. ومن فوائد تنوع العبادات: أن الإنسان قد يختار الأسهل منها والأيسر لسبب من الأسباب، فيكون في ذلك تسهيل عليه. ومنها: أن في كل نوع منها ما ليس في الآخر، فيكون في ذلك
(1)
سلسلة فتاوى نور على الدرب > الشريط رقم [319].
زيادة ثناء على الله عز وجل"
(1)
.
وفي تنويع الأذكار: عمل بالسنة، وتثبيت للعلم، وتنشيط لمؤديها، ورجاء نيل الثواب الوارد في بعضها دون بعض، وكذلك تفاوت الدعاء فيها.
المطلب الثاني: التسبيح بأنامل اليد اليمنى
سُئلت اللجنة الدائمة: هل الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسبح الله عز وجل بيده اليمنى فقط أو باليد اليسرى، في حديث كان النبي صلى الله عليه وسلم يسبح بيده، في حديث آخر كان صلى الله عليه وسلم يسبح بيمينه هل هذان الحديثان صحيحان أم لا؟
ج: أمر الله تعالى في كتابه بالتسبيح وحثت السنة الثابتة عليه، وبينت فضله مطلقًا ومقيدًا بزمن أو حال، أما كونه باليد أو بأناملها، فقد روى في ذلك الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن يسيرة بنت ياسر رضي الله عنها وكانت من المهاجرات- قالت قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا نساء المؤمنات عليكن بالتهليل والتسبيح والتقديس ولا تغفلن فتنسين الرحمة واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات"
(2)
. وروى
(1)
سلسلة فتاوى نور على الدرب > الشريط رقم [319].
(2)
رواه أبو داود (1501) والترمذي (3583) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4087).
الترمذي من طريق الأعمش عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح
(1)
، ورواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح
(2)
. قال ابن قدامة: (بيمينه). من هذا يتبين للسائل ألفاظ الروايات التي روي بها هذا الحديث، وليس بينها تناف، بل بعضها مجمل وبعضها مبين مفسر، ويشهد لاختيار التسبيح باليمين عموم حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن ما استطاع في طهوره وتنعله وترجله وفي شأنه كله
(3)
. رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة، والأمر في ذلك واسع، ولا حرج في استعمال أنامل اليدين جميعًا كما هو ظاهر من حديث يسيرة المتقدم، ولكن استعمال أنامل اليد اليمنى في ذلك أفضل لما تقدم. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم"
(4)
.
(1)
رواه الترمذي (3486) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3486).
(2)
رواه أبو داود (1502) والنسائي (1355). وصححه الألباني في صحيح النسائي (1354).
(3)
راه البخاري (168) ومسلم (268).
(4)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (7/ 105).
المطلب الثالث: جواز التسبيح باليدين وتفضيل اليمين
س: أيهما أفضل: التسبيح باليد اليمنى أم الشمال؟
ج: الأفضل أن يكون ذلك باليمين؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعقد التسبيح بيمينه، ولعموم حديث عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله)
(1)
، ويجوز ذلك باليدين جميعًا لأحاديث وردت في ذلك. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم
(2)
.
وسُئل ابن عثيمين رحمه الله: ما حكم عقد التسبيح باليسرى مع اليمنى؟ يقولون: أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التسبيح باليسرى، فهل هذا صحيح؟
فأجاب الشيخ: نعم، هذا صحيح، لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسبح باليسرى، وإنما جاء عنه أنه كان يعقد التسبيح بيمينه، ولكن مع هذا لا ينكر على من سبح باليسرى، وإنما يقال: إن السنة الاقتصار على التسبيح باليمنى
(3)
.
(1)
راه البخاري (168) ومسلم (268).
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (7/ 107).
(3)
المصدر: سلسلة فتاوى نور على الدرب= الشريط رقم [28].
المطلب الرابع: التسبيح بالمسبحة
سُئلت اللجنة الدائمة: التسبيح بعد الصلاة بالمسبحة أو باليد أيهما أفضل؟ وما الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم؟
ج: التسبيح باليد أفضل ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اتخذ لنفسه مسبحة يسبح الله بها فيما نعلم، والخير كل الخير في اتباعه.
وقد سُئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فأجاب بما نصه:
(أما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز ونحوه فمن الناس من كرهه ومنهم من لم يكره، وإذا أُحسِنَتْ فيه النية فهو حسن غير مكروه، أما اتخاذه من غير حاجة أو إظهاره للناس، مثل تعليقه في العنق أو جعله كالسوار في اليد أو نحو ذلك - فهذا إما رياءً للناس، أو مظنة المراءاة ومشابهة المرائين من غير حاجة؛ فالأول محرم، والثاني أقل أحواله الكراهة، فإن مراءاة الناس في العبادات المختصة كالصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن من أعظم الذنوب، قال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 - 7] وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم
(1)
.
المطلب الخامس: الشك في عدد التسبيحات
س: أحيانا أشك حين التسبيح في أنني نقصت أو زدت عن 35 مرة فهل هذا جائز؟
ج: إذا شككت في عدد التسبيح مثلًا، فابْنِ على الأقل، فإذا شككت في أنك سبحت ثلاثين أو إحدى وثلاثين فاعتبرها ثلاثين، لأن الأصل العدم حتى يثبت أنك سبحت. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم
(2)
.
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (7/ 111).
(2)
المصدر السابق (7/ 112).
المبحث الثالث: الآيات الوارد قراءتها بعد الصلاة
جاء الحث على قراءة بعض الآيات والسور عقب الصلوات، وهي معروفة لدى عامة المسلمين، ولكن هذا تذكير بأدلة قراءتها وثواب المداومة على ذلك، ومَنْ علِمَ الثواب عظمُت نيته، وإذا عظُمت النية عظُم الأجر، وهذا من الفروق بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، والعلم بهذا من الفقه في الدين، وفي حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"
(1)
.
وقد وردت آثار فيها قراءة آيات كثيرة، ونكتفي بذكر ما صح من تلك الآثار تحت المطالب التالية:
المطلب الأول: قراءة آية الكرسي وثواب المداومة على ذلك
آية الكرسي/ قال الله عز وجل: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ
(1)
رواه البخاري (3116) ومسلم (1037).
إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255].
عن أبي أُمامةَ صُدَيِّ بنِ عَجْلان الباهليِّ رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ آية الكرسي في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ لم يمنَعْهُ من دُخُولِ الجنةِ إلَّا أنْ يمُوتَ"
(1)
.
وعن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيّ فِي دُبُرِ الصّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ فِي ذِمّةِ اللّهِ إلَى الصّلَاةِ الْأُخْرَى"
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: وقد رُوي هذا الحديث من طرق إذا نضم بعضها إلى بعض مع تبايُن طرقها واختلافِ مَخَارجها؛ دلَّت على أن الحديث له أصلٌ
(1)
رواه النسائي في عمل اليوم والليلة (100) وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (6464)، وحسَّنه الوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين رقم (478).
(2)
أخرجه الطبراني (3/ 83)(2733)، من حديث الحسن. وحسنه الدمياطي في المتجر الرابح (232)، والهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 151)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 169). والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 374).
وليس بموضوع.
ثم قال: وَبَلَغَنِي عَنْ شَيْخِنَا أَبِي الْعَبّاسِ ابْنِ تَيْمِيّةَ قَدّسَ اللّهُ رُوحَهُ أَنّهُ قَالَ: مَا تَرَكْتُهَا عَقِيبَ كُلّ صَلَاةٍ"
(1)
.
المطلب الثاني: فضل آية الكرسي والانتفاع بقراءتها وتفسيرها
أولًا: فضل آية الكرسي والانتفاع بقراءتها
عنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ:"وَاللَّهِ، لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ"
(2)
.
قال العلماء: إنما تميزت آية الكرسي بكونها أعظم آية؛ لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية، والحياة والعلم والملك والقدرة والإرادة، وهذه السبعة أصول الأسماء والصفات، والله أعلم"
(3)
.
(1)
زاد المعاد (1/ 212).
(2)
رواه مسلم (810) وأبو داود (1460).
(3)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (810).
وفي آية الكرسي أنواعٌ من الفصاحة وعلم البيان، منها: حسنُ الافتتاح، لأنها افتُتِحتْ بأجلِّ أسماء الله تعالى، وتكرار اسمه تعالى ظاهرًا ومضمرًا في ثمانية عشر موضعًا، والإطناب بتكرار الصفات"
(1)
.
وقد صحت البشارة لقارئ آية الكرسي بحفظ الرحمن، والتحصُّن من الشيطان:
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ، وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ. قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ:"أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ"
قال: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ سَيَعُودُ. فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: دَعْنِي، فَإِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَيَّ عِيَالٌ لَا
(1)
صفوة التفاسير [سورة البقرة: 255].
أَعُودُ. فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ:"أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ". فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ.
قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا. قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ.
فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ:"مَا هِيَ؟ ". قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. ـ وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ ـ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ
وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ ". قَالَ: لَا. قَالَ: "ذَاكَ شَيْطَانٌ"
(1)
.
قال ابن حجر رحمه الله: وفيه فضل آية الكرسي وفضل آخر سورة البقرة، وأن الجن يصيبون من الطعام الذي لا يذكر اسم الله عليه"
(2)
.
ثانيًا: تفسير آية الكرسي
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عَشْرِ جُمَلٍ مُسْتَقِلَّةٍ؛ فَقَوْلُهُ:
1 ـ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ.
2 ـ {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أَيِ: الْحَيُّ فِي نَفْسِهِ الَّذِي لَا يَمُوتُ أَبَدًا الْقَيِّمُ لِغَيْرِهِ. وَكَانَ عُمَرُ يَقْرَأُ: {الْقَيَّامُ} فَجَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا، وَلَا قَوَامَ لَهَا بِدُونِ أَمْرِهِ كَقَوْلِهِ:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الرُّومِ: 25].
3 ـ وَقَوْلُهُ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} أَيْ: لَا يَعْتَرِيهِ نَقْصٌ وَلَا غَفْلَةٌ وَلَا
(1)
رواه البخاري (2311) تعليقًا، وصححه الالباني في صحيح الترغيب والترهيب (610).
(2)
فتح الباري شرح صحيح البخاري (2311).
ذُهُولٌ عَنْ خَلْقِهِ، بَلْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَمِنْ تَمَامِ الْقَيُّومِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَعْتَرِيهِ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، فَقَوْلُهُ:{لَا تَأْخُذُهُ} أَيْ: لَا تَغْلِبُهُ سِنَةٌ وَهِيَ الْوَسَنُ وَالنُّعَاسُ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَا نَوْمٌ} لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنَ السِّنَةِ.
4 ـ وَقَوْلُهُ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إِخْبَارٌ بِأَنَّ الْجَمِيعَ عَبِيدُهُ وَفِي مُلْكِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ كَقَوْلِهِ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مَرْيَمَ: 93 ـ 95].
5 ـ وَقَوْلُهُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} كَقَوْلِهِ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} [النجم: 26]. وَكَقَوْلِهِ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وَهَذَا مِنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ عز وجل أَنَّهُ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ:"آتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَخِرُّ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ" قَالَ: "فَيَحِدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ".
6 ـ وَقَوْلُهُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255]، دَلِيلٌ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ: مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا وَمُسْتَقْبَلِهَا كَقَوْلِهِ إِخْبَارًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: 64].
7 ـ وَقَوْلُهُ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، أَيْ: لَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ عز وجل وَأَطْلَعَهُ عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ إِلَّا بِمَا أَطْلَعَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طَهَ: 110].
8 ـ وَقَوْلُهُ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ".
وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ: الْكُرْسِيُّ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ، وَالْكُرْسِيُّ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ بُسِطْنَ ثُمَّ وُصِلْنَ بَعْضُهُنَّ إِلَى بَعْضٍ مَا كُنَّ فِي سِعَةِ الْكُرْسِيِّ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْحَلْقَةِ
فِي الْمَفَازَةِ. وذكر ابن كثير أقوالًا كثيرة، ثم قال: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكُرْسِيَّ غَيْرُ الْعَرْشِ، وَالْعَرْشَ أَكْبَرُ مِنْهُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْآثَارُ وَالْأَخْبَارُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
9 ـ وَقَوْلُهُ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] أَيْ: لَا يُثْقِلُهُ وَلَا يُكْرِثُهُ حِفْظُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِمَا وَمَنْ بَيْنَهُمَا، بَلْ ذَلِكَ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ، وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، الرَّقِيبُ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا حَقِيرَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَوَاضِعَةٌ ذَلِيلَةٌ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، مُحْتَاجَةٌ فَقِيرَةٌ وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ الْفَعَّالُ لَمَّا يُرِيدُ، الَّذِي {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} . وَهُوَ الْقَاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْحَسِيبُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الرَّقِيبُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
10 ـ قَوْلُهُ: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]؛ كَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]. وَكَقَوْلِهِ: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالُ} [الرَّعْدِ: 9]. ثم قال ابن كثير رحمه الله: وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ؛ الْأَجْوَدُ فِيهَا طَرِيقَةُ السَّلَفِ الصَالِحٍ: إِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ"
(1)
.
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 351 ــ 353)[البقرة: 255]. تنبيه: الترقيم من عندي ليسهل ضبط الجمل وحفظ معانيها، وليس موجودًا في التفسير.
المطلب الثالث: قراءة الإخلاص والمعوِّذتين
سورة الإخلاص
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}
سورة الفلق
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)}
سورة الناس
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ"
(1)
.
ويدخل في المعوذات عند الإطلاق سورة الإخلاص، وهذا ما فهمه البخاري رحمه الله، حيث بوَّب في صحيحه:[باب فضل المعوذات] وأورد في هذا الباب حديثين:
الأول/ عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ"
(2)
.
الثاني/ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ فِيهِمَا:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} ، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ"
(3)
.
فدل هذا التبويب وإيراد الحديثين على دخول سورة الإخلاص في لفظ المعوذات. بل إن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(1)
رواه أبو داود (1523) والترمذي (2903) والنسائي (1336)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1523).
(2)
رواه البخاري (5016) ومسلم (2192).
(3)
رواه البخاري (5017)
وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا اشْتَكَى، كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ
(1)
. فقولها هذا يبين أن إطلاق لفظ المعوذات في حديث الرقية السابق يدخل فيه سورة الإخلاص.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: المراد بأنه كان (يقرأ بالمعوذات) أي: السور الثلاث، وذكر سورة الإخلاص معهما تغليبًا لما اشتملت عليه من صفة الرب، وإن لم يصرح فيها بلفظ التعويذ"
(2)
. فيستفاد استحباب قراءة المعوذتين والإخلاص عقب كل فريضة مرة مرة
(3)
.
(1)
رواه البخاري (5748).
(2)
فتح الباري (9/ 62).
(3)
وأما تكرار قراءة هذه السور ثلاثًا بعد الفجر والمغرب فلم أجد دليلًا على ذلك بعد البحث.
والاستحبابُ حكمٌ شرعي يحتاج إلى دليل. وأما فتوى بعض كبار العلماء بذلك فقد وجهها بعض العلماء كالشيخ سليمان الرحيلي وفقه الله في مقطع صوتي>موجود في اليوتيوب< بأن ذلك منهم من باب تداخل العبادات؛ حيث يجمع في نيته أن يقرأهن من أذكار الصباح والمساء وأذكار بعد الصلاة. ثم بين الشيخ سليمان أن الأفضل: قراءتهن مرة مرة على أنهن من أذكار بعد الصلاة، ثم يقرأهن من ثلاث مرات صباحاً ومساءً على أنهن من أذكار الصباح والمساء. وبالله التوفيق.
المطلب الرابع: فضل الإخلاص والمعوذتين والانتفاع بقراءتهن
أولًا: فضل سورة الإخلاص
ـ حُبُّها سبب لنيل محبة الله: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ ". فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ"
(1)
.
قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون سبب محبة الله له؛ محبته لهذه السورة، ويحتمل أن يكون لما دل عليه كلامه، لأن محبته لذكر صفات الرب دالة على صحة اعتقاده"
(2)
.
ـ سبب لدخول الجنة: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ
(1)
رواه البخاري (7375) ومسلم (813).
(2)
فتح الباري (7375).
مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ، افْتَتَحَ بِـ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَإِمَّا تَقْرَأُ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ:"يَا فُلَانُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ؟ وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟ " فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا. فَقَالَ: "حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ"
(1)
.
(1)
رواه البخاري تعليقًا (774). ووصله الترمذي (2901). وقال الألباني في أصل صفة الصلاة (1/ 400): هو على شرط مسلم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَقْبَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَتْ". قُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: "الْجَنَّةُ"
(1)
.
قال أبو الوليد الباجي رحمه الله: قوله: فَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} يحتمل أن يكون في غير صلاة، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وَجَبَتْ". يحتمل أن يريد بذلك تنبيه أبي هريرة ومن كان معه على فضلها وكثرة الثواب لقارئها"
(2)
.
وعن مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ صَاحِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} حَتَّى يَخْتِمَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه:
(1)
رواه الترمذي (2897) والنسائي (994). وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2897). وحسنه الوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (1426).
(2)
المنتقى شرح موطأ مالك، حديث رقم (558).
إِذَنْ نَسْتَكْثِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ"
(1)
.
ـ تعدل ثلث القرآن: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"
(2)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "احْشُدُوا؛ فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"، فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: إِنِّي أُرَى هَذَا خَبَرٌ جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَذَاكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ، ثُمَّ
(1)
رواه أحمد (15610)، والطبراني في الأوسط (281). وحسنه لغيره الألباني في الصحيحة (589).
(2)
رواه البخاري (7374).
خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ: سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، أَلَا إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"
(1)
.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا عَدَلَتْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لِأَجْلِ هَذَا الِاسْمِ، الَّذِي هُوَ (الصَّمَدُ) فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ، وَكَذَلِكَ (أَحَدٌ). وَقِيلَ: إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ أَثْلَاثًا؛ ثُلُثًا مِنْهُ أَحْكَامٌ، وَثُلُثًا مِنْهُ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ، وَثُلُثًا مِنْهُ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ، وَقَدْ جَمَعَتْ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أَحَدَ الْأَثْلَاثِ، وَهُوَ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. "إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَجَعَلَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ"
(2)
. وَهَذَا نَصٌّ؛ وَبِهَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَتْ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ"
(3)
.
(1)
رواه مسلم (812).
(2)
رواه مسلم (260).
(3)
تفسير القرطبي (20/ 221)[سورة الإخلاص].
وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَجَعَلَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ"
(1)
.
قال المازري رحمه الله: قيل: معناه: أن القرآن على ثلاثة أنحاء؛ قصص، وأحكام، وصفات لله تعالى، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} متمحضة، فهي ثلث، وجزء من ثلاثة أجزاء، وقيل: معناه: أن ثواب قراءتها يضاعف بقدر ثواب قراءة ثلث القرآن بغير تضعيف"
(2)
.
ثانيًا: فضل المعوذتين والانتفاع بقراءتهن
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} "
(3)
.
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: اتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَاكِبٌ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمِهِ، فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ سُورَةَ هُودٍ، وَسُورَةَ يُوسُفَ. فَقَالَ:"لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} "
(4)
.
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(1)
رواه مسلم (260).
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (2/ 199)، حديث رقم (259).
(3)
رواه مسلم (814).
(4)
رواه النسائي (953). وصححه الألباني في صحيح الجامع (5217).
وَسَلَّمَ فِي نَقْبٍ مِنْ تِلْكَ النِّقَابِ، إِذْ قَالَ:"أَلَا تَرْكَبُ يَا عُقْبَةُ؟ ". فَأَجْلَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَرْكَبْ مَرْكَبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:"أَلَا تَرْكَبُ يَا عُقْبَةُ؟ ". فَأَشْفَقْتُ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً، فَنَزَلَ، وَرَكِبْتُ هُنَيْهَةً وَنَزَلْتُ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:"أَلَا أُعَلِّمُكَ سُورَتَيْنِ مِنْ خَيْرِ سُورَتَيْنِ قَرَأَ بِهِمَا النَّاسُ؟ ". فَأَقْرَأَنِي {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} ، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَتَقَدَّمَ فَقَرَأَ بِهِمَا، ثُمَّ مَرَّ بِي فَقَالَ:"كَيْفَ رَأَيْتَ يَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ؟ اقْرَأْ بِهِمَا كُلَّمَا نِمْتَ وَقُمْتَ"
(1)
.
(1)
رواه أبو دواد (1462) والنسائي (5437) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1462).
وعن ابْنِ عَابِسٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:"يَا ابْنَ عَابِسٍ، أَلَا أَدُلُّكَ - أَوْ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ - بِأَفْضَلِ مَا يَتَعَوَّذُ بِهِ الْمُتَعَوِّذُونَ؟ ". قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ"
(1)
.
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ بِـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} ، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} ، وَيَقُولُ:"يَا عُقْبَةُ، تَعَوَّذْ بِهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا". قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَؤُمُّنَا بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ"
(2)
.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجَانِّ، وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ، فَلَمَّا نَزَلَتَا؛ أَخَذَ بِهِمَا، وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا"
(3)
.
(1)
رواه النسائي (5432) وأحمد (17389) وصححه الألباني في صحيح النسائي (5447).
(2)
رواه أبو دواد (1463). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1463).
(3)
رواه الترمذي (2058) والنسائي (5494) وابن ماجه (3511). وصححه الألباني في صحيح الجامع (4902).
ثالثًا: فضل الثلاث السور والانتفاع بقراءتهن
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاحِلَتَهُ فِي غَزْوَةٍ، إِذْ قَالَ:"يَا عُقْبَةُ، قُلْ". فَاسْتَمَعْتُ، ثُمَّ قَالَ:"يَا عُقْبَةُ، قُلْ". فَاسْتَمَعْتُ، فَقَالَهَا الثَّالِثَةَ، فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ فَقَالَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} . فَقَرَأَ السُّورَةَ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} . وَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} . فَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ:"مَا تَعَوَّذَ بِمِثْلِهِنَّ أَحَدٌ"
(1)
.
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي:"يَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ". قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي:"يَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، أَمْلِكْ لِسَانَكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ". قَالَ: ثُمَّ لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي: "يَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، أَلَا أُعَلِّمُكَ سُوَرًا مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَا فِي الزَّبُورِ، وَلَا فِي
(1)
رواه النسائي (5430). وصححه الألباني في صحيح الجامع (7950).
الْإِنْجِيلِ، وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهُنَّ، لَا يَأْتِيَنَّ عَلَيْكَ لَيْلَةٌ إِلَّا قَرَأْتَهُنَّ فِيهَا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} ، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} ". قَالَ عُقْبَةُ: فَمَا أَتَتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ إِلَّا قَرَأْتُهُنَّ فِيهَا، وَحُقَّ لِي أَنْ لَا أَدَعَهُنَّ، وَقَدْ أَمَرَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ؛ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي لَنَا، قَالَ: فَأَدْرَكْتُهُ، فَقَالَ:"قُلْ"، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ:"قُلْ"، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا قَالَ:"قُلْ"، فَقُلْتُ مَا أَقُولُ؟ قَالَ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} . وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَتُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ"
(2)
.
(1)
رواه أحمد (17452) وصححه الألباني في الصحيحة (6/ 859).
(2)
رواه الترمذي (3575) وأبو داود (5082) والنسائي (5428). وصححه النووي في الأذكار (107)، والألباني في صحيح الجامع (4406).
ــ الرقية بهن: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا"
(1)
.
وفي لفظ لمسلم: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي"
(2)
.
ـ قراءتهن عند النوم: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَلَمَّا اشْتَكَى، كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ"
(3)
.
(1)
رواه البخاري (5016) ومسلم (2192).
(2)
صحيح مسلم (2192).
(3)
رواه البخاري (5748).
المطلب الخامس: تفسير سورة الإخلاص والمعوذتين
أولًا: تفسير سورة الإخلاص
قال السعدي رحمه الله: أَيْ: قُلْ قَوْلًا جَازِمًا بِهِ، مُعْتَقِدًا لَهُ، عَارِفًا بِمَعْنَاهُ، {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أَيْ: قَدِ انْحَصَرَتْ فِيهِ الْأَحَدِيَّةُ، فَهُوَ الْأَحَدُ الْمُنْفَرِدُ بِالْكَمَالِ، الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتُ الْكَامِلَةُ الْعُلْيَا، وَالْأَفْعَالُ الْمُقَدَّسَةُ، الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا مَثِيلَ.
{اللَّهُ الصَّمَدُ} أَيِ: الْمَقْصُودُ فِي جَمِيعِ الْحَوَائِجِ. فَأَهْلُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مُفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ غَايَةَ الِافْتِقَارِ، يَسْأَلُونَهُ حَوَائِجَهُمْ، وَيَرْغَبُونَ إِلَيْهِ فِي مَهَمَّاتِهِمْ، لِأَنَّهُ الْكَامِلُ فِي أَوْصَافِهِ، الْعَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ، الْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ، الرَّحِيمُ الَّذِي كَمُلَ فِي رَحْمَتِهِ الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَهَكَذَا سَائِرُ أَوْصَافِهِ، وَمِنْ كَمَالِهِ أَنَّهُ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} لِكَمَالِ غِنَاهُ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا
أَحَدٌ} لَا فِي أَسْمَائِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، تبارك وتعالى. فَهَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ"
(1)
.
ثانيًا: تفسير سورة الفلق
قال السعدي رحمه الله: أَيْ: قُلْ مُتَعَوِّذًا {أَعُوذُ} أَيْ: أَلْجَأُ وَأَلُوذُ، وَأَعْتَصِمُ {بِرَبِّ الْفَلَقِ} أَيْ: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَفَالِقُ الْإِصْبَاحِ. {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} وَهَذَا يَشْمَلُ جَمِيعَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، مِنْ إِنْسٍ، وَجِنٍّ، وَحَيَوَانَاتٍ، فَيُسْتَعَاذُ بِخَالِقِهَا، مِنَ الشَّرِّ الَّذِي فِيهَا، ثُمَّ خَصَّ بَعْدَ مَا عَمَّ، فَقَالَ:{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} أَيْ: مِنْ شَرِّ مَا يَكُونُ فِي اللَّيْلِ، حِينَ يَغْشَى النَّاسَ، وَتَنْتَشِرُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ، وَالْحَيَوَانَاتِ الْمُؤْذِيَةِ. {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} أَيْ: وَمِنْ شَرِّ السَّوَاحِرِ، اللَّاتِي يَسْتَعِنَّ عَلَى سِحْرِهِنَّ بِالنَّفْثِ فِي الْعُقَدِ، الَّتِي يَعْقِدْنَهَا عَلَى السِّحْرِ.
(1)
تفسير السعدي (2/ 1308)[سورة الإخلاص]. تنبيه: اخترت تفسير السور الثلاث من تفسير السعدي طلبًا للاختصار؛ فإنه اختصر تفسيرهن من غير غموض في المعنى، ولم يسهب في ذكر الروايات وأسباب النزول.
{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} وَالْحَاسِدُ: هُوَ الَّذِي يُحِبُّ زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ فَيَسْعَى فِي زَوَالِهَا بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَاحْتِيجَ إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهِ، وَإِبْطَالِ كَيْدِهِ، وَيَدْخُلُ فِي الْحَاسِدِ: الْعَايِنِ، لِأَنَّهُ لَا تَصْدُرُ الْعَيْنُ إِلَّا مِنْ حَاسِدٍ شِرِّيرِ الطَّبْعِ، خَبِيثِ النَّفْسِ، فَهَذِهِ السُّورَةُ، تَضَمَّنَتِ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشُّرُورِ، عُمُومًا وَخُصُوصًا. وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَهُ حَقِيقَةٌ يُخْشَى مِنْ ضَرَرِهِ، وَيُسْتَعَاذُ بِاللَّهِ مِنْهُ وَمِنْ أَهْلِهِ"
(1)
.
ثالثًا: تفسير سورة الناس
قال السعدي رحمه الله: وَهَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِرَبِّ النَّاسِ وَمَالِكِهِمْ وَإِلَهِهِمْ، مِنَ الشَّيْطَانِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الشُّرُورِ كُلِّهَا وَمَادَّتِهَا، الَّذِي مِنْ فِتْنَتِهِ وَشَرِّهِ، أَنَّهُ {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} ، فَيُحَسِّنُ لَهُمُ الشَّرَّ، وَيُرِيهِمْ إِيَّاهُ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ، وَيُنَشِّطُ إِرَادَتَهُمْ لِفِعْلِهِ، وَيُثَبِّطُهُمْ عَنِ الْخَيْرَ، وَيُرِيهِمْ إِيَّاهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ، وَهُوَ دَائِمًا بِهَذِهِ الْحَالِ يُوَسْوِسُ وَيَخْنَسُ، أَيْ: يَتَأَخَّرُ إِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَاسْتَعَانَ عَلَى دَفْعِهِ.
(1)
تفسير السعدي (2/ 1308)[سورة الفلق].
فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ وَيَسْتَعِيذَ وَيَعْتَصِمَ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ. وَأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ، دَاخِلُونَ تَحْتَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمُلْكِ، فَكُلُّ دَابَّةٍ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا. وَبِأُلُوهِيَّتِهِ الَّتِي خَلَقَهُمْ لِأَجْلِهَا، فَلَا تَتِمُّ لَهُمْ إِلَّا بِدَفْعِ شَرِّ عَدُوِّهِمُ، الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَقْتَطِعَهُمْ عَنْهَا وَيَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهُمْ مِنْ حِزْبِهِ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ، وَالْوَسْوَاسُ كَمَا يَكُونُ مِنَ الْجِنِّ يَكُونُ مِنَ الْإِنْسِ، وَلِهَذَا قَالَ:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} "
(1)
.
(1)
تفسير السعدي (2/ 1309)[سورة الناس].
المبحث الرابع: الدعاء بعد الصلوات
وفي هذا المبحث مطلبان مهمان:
المطلب الأول: الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة
ـ عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ. قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ، أَوْ تَجْمَعُ عِبَادَكَ"
(1)
.
قال القاضي: يحتمل أن يكون التَّيامُن عند التسليم، وهو الأظهر؛ لأن عادته صلى الله عليه وسلم إذا انصرف أن يستقبل جميعهم بوجهه. قال: وإقباله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بعد قيامه من الصلاة، أو يكون حين ينفتل"
(2)
.
ـ وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ
(1)
رواه مسلم (709).
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (709).
وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ"
(1)
. وبوَّب له أبو داود: بَابٌ: مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا سَلَّمَ.
قال ابن القيم رحمه الله: هذا قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ الطّوِيلِ الّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي اسْتِفْتَاحِهِ عليه الصلاة والسلام وَمَا كَانَ يَقُولُهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ.
وَلِمُسْلِمٍ فِيهِ لَفْظَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُهُ بَيْنَ التّشَهّدِ وَالتّسْلِيمِ، وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ.
وَالثّانِي: كَانَ يَقُولُهُ بَعْدَ السّلَامِ، وَلَعَلّهُ كَانَ يَقُولُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاللّهُ أَعْلَمُ"
(2)
.
ـ وعَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ:"يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ".
فَقَالَ: "أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ، لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى
(1)
رواه مسلم (771) بروايتين إحداهما قبل السلام والثانية بعد السلام. ورواه أبو داود (1509).
(2)
زاد المعاد (1/ 207). فصل: فيما كان يقوله بعد انصرافه من الصلاة، وجلوسه بعدها.
ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ". وَأَوْصَى بِذَلِكَ مُعَاذٌ الصُّنَابِحِيَّ، وَأَوْصَى بِهِ الصُّنَابِحِيُّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيُّ ـ الراوي عن الصُّنابِحِي ـ"
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله بعد أن أورد حديث معاذ المذكور -: وَدُبُرُ الصّلَاةِ يَحْتَمِلُ قَبْلَ السّلَامِ وَبَعْدَهُ، وَكَانَ شَيْخُنَا يُرَجّحُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ السّلَامِ، فَرَاجَعْته فيه، فقال: دُبُرُ كُلّ شَيْءٍ منه، كَدُبُرِ الْحَيَوَانِ"
(2)
.
ـ وعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَا: كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُكَتِّبُ الْغِلْمَانَ، وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ"
(3)
.
ـ وعن مسْلِم ابْن أَبِي بَكْرَةَ - أَنَّهُ كَانَ سَمِعَ وَالِدَهُ يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ". قال: فَجَعَلْتُ أَدْعُو بِهِنَّ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَنَّى عُلِّمْتَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟ قُلْتُ: يَا أَبَتِ، سَمِعْتُكَ تَدْعُو بِهِنَّ
(1)
رواه أبو داود (1522) والنسائي (1303) وصححه الألباني في الكلم الطيب (115). والوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (1107).
(2)
زاد المعاد (1/ 213).
(3)
رواه البخاري (2822) والترمذي (3567) واللفظ له.
فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ، فَأَخَذْتُهُنَّ عَنْكَ. قَالَ: فَالْزَمْهُنَّ يَا بُنَيَّ، فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بِهِنَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ"
(1)
.
ـ وعن أبي أمامة الباهلي رضى الله عنه قال: ما دنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في دبر مكتوبة ولا تطوع إلا سمعته يقول: " اللهم اغفِرْ لي ذنوبي وخطايايَ كلَّها، اللهم أَنعِشْني
(2)
واجبُرْني، واهدِني لصالحِ الأعمالِ والأخلاقِ؛ فإنه لا يهدي لصالحها ولا يصرفُ سيِّئَها إلا أنت"
(3)
.
(1)
رواه النسائي (5465) وأحمد (20409). وصحح إسناده الألباني في صحيح النسائي (5480).
(2)
في مختار الصحاح (ص/ 314): >نعشه الله< أي: رفَعَه. وقال العلامة ابن قُرْقُول في مطالع الأنوار (4/ 184): >نَعَشَه< أي: رفَعَه.
(3)
أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 236) رقم (7811)، وابن السني في عمل اليوم والليلة رقم (116) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1266). وأورده النووي في كتاب الأذكار (ص/ 145) رقم (192).
المطلب الثاني: مسائل تتعلق بالدعاء بعد الصلاة
وتحت هذا المطلب عدة مسائل:
المسألة الأولى/ حكم رفع اليدين بالدعاء بعد الصلاة باستمرار
سُئلت اللجنة الدائمة: رفع اليدين بالدعاء بعد الصلوات الخمس هل ثبت رفعها من النبي صلى الله عليه وسلم أم لا، وإذا لم يثبت هل يجوز رفعهما بعد الصلوات الخمس أم لا؟
ج: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم أنه رفع يديه بعد السلام من الفريضة في الدعاء، ورفعهما بعد السلام من صلاة الفريضة مخالف للسنة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم
(1)
.
المسألة الثانية/ الدعاء بغير العربية
سُئلت اللجنة الدائمة: هل يجوز له الدعاء باللغة الإنجليزية؟
ج: يجوز للشخص أن يدعو الله جل وعلا باللغة التي يعرفها من لغة عربية
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (7/ 104).
أو إنجليزية أو أوردية أو غيرها من اللغات؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم
(1)
.
المسألة الثالثة/ حكم الدعاء الجماعي بعد الصلاة
سُئلت اللجنة الدائمة: قراءة الفاتحة والدعاء جماعة خلف الصلاة المكتوبة هل هو سنة أم بدعة؟
ج: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وقد تلقى خلفاؤه وأصحابه هديه صلى الله عليه وسلم وعملوا به ونقلوه إلى من بعدهم، وكان هديه صلى الله عليه وسلم أنه يذكر الله ويدعوه بمفرده، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يطلب أحدًا من الصحابة أن يجتمع معه ويدعو هو ومن معه جماعة، وما يفعله بعض الناس من قراءة الفاتحة والدعاء جماعة بعد الصلاة من البدع. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" خرجه مسلم في صحيحه
(2)
،
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (7/ 113).
(2)
صحيح مسلم (1718).
وأصله في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"
(1)
، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، كما قال ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله وغيره من أهل العلم. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم
(2)
.
وفي سؤال آخر: ما حكم الدعاء بعد الصلاة مع الإمام؟
ج: الدعاء بعد الصلاة مع الإمام بصوت جماعي، أو الإمام يدعو والمأمومون يؤمنون على دعائه ذلك ـ بدعة لا يجوز. أما دعاء كل شخص لنفسه منفردًا وبلا رفع صوت فلا بأس به.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم
(3)
.
(1)
البخاري (2697) ومسلم (1718).
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (7/ 121).
(3)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، المجموعة الثانية (2/ 219).
تفصيل لابن القيم بشأن الدعاء بعد الصلاة
قال ابن القيم رحمه الله: وَأَمّا الدّعَاءُ بَعْدَ السّلَامِ مِنْ الصّلَاةِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ أَوْ الْمَأْمُومِينَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم أَصْلًا وَلَا رُوِيَ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ.
وَأَمّا تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِصَلَاتَيْ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ وَلَا أَرْشَدَ إلَيْهِ أُمّتَهُ وَإِنّمَا هُوَ اسْتِحْسَانٌ رَآهُ مَنْ رَآهُ عِوَضًا مِنْ السّنّةِ بَعْدَهُمَا، وَاللّهُ أَعْلَمُ
وَعَامّةُ الْأَدْعِيَةِ الْمُتَعَلّقَةِ بِالصّلَاةِ إنّمَا فَعَلَهَا فِيهَا وَأَمَرَ بِهَا فيها، وهذا هو اللّائِقُ بِحَالِ الْمُصَلّي، فَإِنّهُ مُقْبِلٌ عَلَى رَبّهِ يُنَاجِيهِ مَا دَامَ فِي الصّلَاةِ فَإِذَا سَلّمَ مِنْهَا انْقَطَعَتْ تِلْكَ الْمُنَاجَاةُ، وَزَالَ ذَلِكَ الْمَوْقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْقُرْبُ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ سُؤَالَهُ فِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، ثُمّ يَسْأَلُهُ إذَا انْصَرَفَ عَنْهُ؟! وَلَا رَيْبَ أَنّ عَكْسَ هَذَا الْحَالِ هُوَ الْأَوْلَى بِالْمُصَلّي، إلّا أَنّ هَاهُنَا نُكْتَةً لَطِيفَةً؛ وَهُوَ أَنّ الْمُصَلّيَ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَذَكَرَ اللّهَ وَهَلّلَهُ وَسَبّحَهُ وَحَمِدَهُ وَكَبّرَهُ بِالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ عَقِيبَ الصّلَاةِ اُسْتُحِبّ لَهُ أَنْ يُصَلّيَ عَلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ، وَيَكُونُ دُعَاؤُهُ عَقِيبَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الثّانِيَةِ، لَا لِكَوْنِهِ دُبُرَ الصّلَاةِ.
فَإِنّ كُلّ مَنْ ذَكَرَ اللّهَ وَحَمِدَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلّى عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ اُسْتُحِبّ لَهُ الدّعَاءُ عَقِيبَ ذَلِكَ، كَمَا فِي حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ
(1)
مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إذَا صَلّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِحَمْدِ اللّهِ وَالثّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمّ لِيُصَلّ عَلَى النَبِيّ صلى الله عليه وسلم ثُمّ لِيَدْعُ بِمَا شَاءَ"
(2)
.
(1)
رواه الترمذي (3477) وأبو داود (1481)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (648).
(2)
زاد المعاد (1/ 181 ـــ 182).
المبحث الخامس
بيان ما يُزاد بعد صلاتي الفجر والمغرب من الدعاء والذكر
ويشتمل هذا المبحث على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول/ ما يُزاد بعد صلاتي الفجر والمغرب
عنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ ـ تابعي ـ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:"مَنْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، وَيَثْنِيَ رِجْلَهُ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مَرَّاتٍ، كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَتْ حِرْزًا مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَحِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَلَمْ يَحِلَّ لِذَنْبٍ يُدْرِكُهُ إِلَّا الشِّرْكَ، وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ عَمَلًا إِلَّا رَجُلًا يَفْضُلُهُ، يَقُولُ أَفْضَلَ مِمَّا قَالَ"
(1)
.
(1)
رواه أحمد (17990) وعبد الرزاق (3192) والنسائي في السنن الكبرى رقم (10049). وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب (477) وشعيب الأرناؤوط في تخريج المسند (17990). وقال الألباني في تمام المنة (228): له شواهد تقويه مع كل الزيادات. وحسنه ابن حجر في الأمالي الحلبية (1/ 49).
وعَنِ الْحَارِثِ بْنِ مُسْلِمٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَارِثِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهِ فَقَالَ:"إِذَا انْصَرَفْتَ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ، سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ ثُمَّ مِتَّ فِي لَيْلَتِكَ كُتِبَ لَكَ جِوَارٌ مِنْهَا، وَإِذَا صَلَّيْتَ الصُّبْحَ فَقُلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ فِي يَوْمِكَ كُتِبَ لَكَ جِوَارٌ مِنْهَا". أَخْبَرَنِي أَبُو سَعِيدٍ، عَنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ: أَسَرَّهَا إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَحْنُ نَخُصُّ بِهَا إِخْوَانَنَا"
(1)
.
وقال ابن عثيمين رحمه الله: أما في صلاة المغرب وصلاة الفجر فإنه ورد أنه يقول بعدها عشر مرات: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وكذلك يقول: ربي أجرني من النار (سبع مرات)
(2)
.
(1)
رواه أبو داود (5079)، وأحمد (18054)، والنسائي في السنن الكبرى (10049) وابن حبان في صحيحه (2022)، وصححه السيوطي في الجامع الصغير (723)، وحسنه ابن حجر العسقلاني كما في نتائج الأفكار (2/ 329)، وقال ابن باز في فتاوى نور على الدرب (9/ 51): لا بأس به.
(2)
سلسلة فتاوى نور على الدرب > الشريط رقم [105].
وقال أيضًا في إجابة على سؤال آخر ـ: في المغرب يُزاد، وفي الفجر أيضاً يزاد: التهليل عشر مرات، وكذلك: ربي أجرني من النار، سبع مرات"
(1)
.
المطلب الثاني/ ما يُزاد بعد صلاة الفجر
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ:"اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا"
(2)
. قوله: (نافعًا) أي: بالعمل به فيكون حجة لي لا عليَّ (طيِّبًا) أي: حلالًا، وحمْلُه على المستلذّ بعيدٌ هاهنا، إلا أن يحمل على رزق الآخرة لا رزق الدنيا"
(3)
.
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَالَ فِي دُبُرِ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ:
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ
(1)
سلسلة فتاوى نور على الدرب، الشريط رقم [45].
(2)
رواه بن ماجه (925) وأحمد (26521) والنسائي في السنن الكبرى (10040) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (762). وحسنه ابن حجر العسقلاني في نتائج الأفكار (2/ 329).
(3)
حاشية السندي على ابن ماجه (925).
سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ يَوْمَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي حِرْزٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَحُرِسَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَنْبَغِ لِذَنْبٍ أَنْ يُدْرِكَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا الشِّرْكَ بِاللَّهِ"
(1)
.
تنبيه/ لفظة: "وهو ثان رجليه" ضعفها بعض العلماء
(2)
.
وعلى القول بصحتها فقد رأى بعض العلماء أن المراد منها بقاء المصلي في مكان صلاته، سواء غير جلسته أم لم يغيرها، كما في الفتوى التالية.
س: من قال قبل أن ينصرف أو يثني رجليه" -كما جاء في الحديث-: "لا إله
(1)
رواه الترمذي (3474) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب (472). وقال المنذري: إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما. كما في الترغيب والترهيب (1/ 223). وقال ابن حجر في نتائج الأفكار (2/ 319): له شاهد.
(2)
كان الألباني رحمه الله يضعفها في المجلد الأول من الصحيحة رقم (114) حيث قال: فهذا القيد: "وهو ثان
…
" لا يصح في الحديث لأنه تفرد به شهر بن حوشب، وقد اضطرب في إسناد الحديث وفي متنه اضطرابًا كثيرًا. ثم صححها في الصحيحة برقم (2664) حيث قال: وفي الحديث شهادة قوية لحديث شهر بن حوشب الذي فيه هذه الجملة: "وهو ثان رجليه"، وكنت لا أعمل بها لضعف (شهر) حتى وقفت على هذا الشاهد.
إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير بعد المغرب والفجر"
…
إلى آخر الحديث. والحديث الآخر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يلتفت بعد أن يقول: اللهم أنت السلام". هل هذا خاصٌ بالإمام، أم بالإمام والمأموم والمنفرد؟
فأجاب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الإمام لا يبقى متوجهاً إلى القبلة إلا بقدر الاستغفار ثلاثاً، واللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام. فإذا قال الإمام: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فلينصرف، وذلك لأن المأمومين مربوطون به، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تسبقوني بالانصراف" وإذا كانوا مربوطين به فلا ينبغي له أن يبقى فيسجن الناس، بل يقول بقدر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ينصرف، هذا هو السنة في حق الإمام. أما المأموم فإذا انصرف إمامه فله أن ينصرف، وأما ما جاء في الحديث:"قبل أن يثني رجليه". فالمعنى: أنه إذا قال ذلك وهو في مكانه سواءٌ ثنى رجليه اتباعاً للسنة كالإمام أم لا"
(1)
.
(1)
المصدر: سلسلة اللقاء الشهري > اللقاء الشهري [36].
المطلب الثالث/ ما يُزاد بعد صلاة المغرب
وعَنْ عُمَارَةَ بْنِ شَبِيبٍ السَّبَئِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مَرَّاتٍ عَلَى إِثْرِ الْمَغْرِبِ بَعَثَ اللَّهُ مَسْلَحَةً يَحْفَظُونَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ مُوجِبَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ مُوبِقَاتٍ، وَكَانَتْ لَهُ بِعَدْلِ عَشْرِ رِقَابٍ مُؤْمِنَاتٍ"
(1)
. وقد تقدم دليل هذا الذكر في حديث آخر، وأعدت إيراده لوروده بلفظ المغرب منفردًا، وللتأكيد على فضله وبيان ثوابه، وزيادة ذكر حراسة الملائكة لقائله.
(1)
رواه الترمذي (3534)، والنسائي في الكبرى (10413). وحسنه ابن حجر العسقلاني في نتائج الأفكار (3/ 16)، وصححه الدمياطي في المتجر الرابح (225). وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (473). وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج زاد المعاد (1/ 290).
المبحث السادس
الذكر بعد النوافل
وفيه مطلبان:
المطلب الأول/ هل يقال بعد النوافل كما يقال بعد الفرائض
سُئل ابن عثيمين رحمه الله: الاستغفار بعد الصلاة؛ هل هو عام في جميع الصلوات الفرض والنفل، أم هو خاص بالفرائض فقط؟
فأجاب رحمه الله: الذي يظهر لي من السنة أن الاستغفار واللهم أنت السلام ومنك السلام. وبقية الأذكار إنما تكون في الفريضة فقط؛ لأن الذين صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل لم يذكروا أنه فعل ذلك بعد أن ختم صلاته، لكن جاء حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الوتر أن يقول: سبحان الملك القدوس. ثلاثة مرات يمد صوته في الثالثة
(1)
.
(1)
المصدر: سلسلة فتاوى نور على الدرب > الشريط رقم [239].
المطلب الثاني/ الذكر بعد الوتر
عن أبي بن كعب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات، كان يقرأ في الأولى بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]. وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1]. وَفِي الثَّالِثَةِ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1]. وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، فَإِذَا فَرَغَ قَالَ عِنْدَ فَرَاغِهِ:"سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ". ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يُطِيلُ فِي آخِرِهِنَّ
(1)
.
وفي لفظ لأحمد: أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} وَ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} . وَكَانَ إِذَا سَلَّمَ قَالَ: "سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ"، ثَلَاثًا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْآخِرَةِ
(2)
.
(1)
رواه أبو دواد (1699) والنسائي (1701) وأحمد (21142). وصححه الوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (890) من حديث عبد الرحمن بن أبزى.
(2)
المسند (15358).
وبوب ابن حبان رحمه الله في صحيحه بقوله: ذكر ما يستحب للمرء أن يسبح الله جلَّ وعلا عند فراغه من وتره"
(1)
.
وقال ابن قدامة رحمه الله: يستحب أن يقول بعد وتره: "سبحان الملك القدوس". ثلاثًا، ويمد صوته بها في الثالثة
(2)
. وقال النووي رحمه الله: يستحب أن يقول بعد الوتر ثلاث مرات: "سبحان الملك القدوس"
(3)
.
وقال الشوكاني رحمه الله: وبعد السلام "سبحان الملك القدوس" ثلاث مرات، يمد صوته ويرفعه في الثالثة، "رب الملائكة والروح". الحديث أخرجه أبو داود والنسائي والدارقطني كما قال المصنف رحمه الله"
(4)
.
وسُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: ما يقول المصلي بعد انتهائه من صلاة الوتر؟
(1)
صحيح ابن حبان (2/ 202).
(2)
المغني (2/ 122).
(3)
المجموع شرح المهذب (4/ 16)، وينظر تحفة المحتاج (2/ 227).
(4)
تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين (ص/ 198).
فأجابت: روى أبو داود والنسائي رحمهما الله عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم في الوتر قال: "سبحان الملك القدوس" وفي رواية النسائي "سبحان الملك القدوس" ثلاث مرات يطيل في آخرهن. ورواه النسائي في الكبرى بإسناد جيد بلفظ "يمد صوته في الثالثة ويرفع" من حديث عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه، ورواه الدارقطني رحمه الله بإسناد جيد بلفظ: «سبحان الملك القدوس [رب الملائكة والروح] "
(1)
.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم"
(2)
.
(1)
أخرجه النسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب ذكر أخبار الناقلين لخبر أبيّ بن كعب في الوتر، برقم (1699)، وأبو داود مختصراً، كتاب الوتر، باب في الدعاء بعد الوتر، برقم (1430)، والدارقطني (2/ 31)، وما بين المعقوفين للدارقطني، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/ 272). ونقل الشوكاني صحته عن العراقي وغيره، انظر تحفة الذاكرين (128).
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (7/ 186).
الفصل الرابع
مسائل مهمة للمأمومين والأئمة
يحتوي هذا الفصل على مسائل هامة تتعلق بالدعاء والأذكار عقب الصلوات، وتشمل الأئمة والمأمومين، وتم ترتيبها تحت المطالب الآتية:
المطلب الأول/ الجهر بالذكر بعد الصلاة
عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:"كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ"
(1)
.
وعنه بلفظ: كَانَ يُعْلَمُ انْقِضَاءُ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّكْبِيرِ"
(2)
. قال المباركفوري: أي: بعد الصلاة، وفي الرواية الآتية "بالذكر" وهو أعم من التكبير والتكبير أخص وهذا مفسر للأعم"
(3)
.
وسُئلت اللجنة الدائمة: ما حكم رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة (صلاة
(1)
رواه البخاري (841) ومسلم (583).
(2)
سنن أبي داود (1002) وصححه الألباني في صحح أبي داود (1002).
(3)
عون المعبود شرح سنن أبي داود حديث رقم (1002).
الفريضة)، وهل يعم جميع الصلوات أم في صلوات معينة، وهل يكره إذا كانت هنالك جماعة أخرى أو أفراد يصلون؟
ج: يشرع رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة المكتوبة، لما ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وأنه قال أيضا: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته
(1)
، ولو وجد أناس يقضون الصلاة سواء كانوا أفرادًا أو جماعات وذلك في جميع الصلوات الخمس المفروضة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم
(2)
.
وورد في ضمن سؤال آخر: وما حكم جهر الصوت بالدعاء وقراءة القرآن؟ فأجابت اللجنة: أما رفع الصوت بالدعاء وقراءة القرآن بصفة جماعية فهذا لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته، وفعله بدعة، أمَّا إذا دعا الإنسان لنفسه أو قرأ لنفسه جهرًا فلا شيء فيه، إذا لم يتأذ به غيره، وهكذا الدعاء الذي يؤمن عليه كدعاء القنوت.
(1)
أخرجه البخاري (841) ومسلم (583) وأبو داود (1003).
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء> الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، (7/ 115).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم
(1)
.
وسُئل ابن باز رحمه الله: ما حكم الذكر الجماعي بعد الصلاة على وتيرة واحدة كما يفعله البعض وهل السنة الجهر بالذكر أو الإسرار؟
ج: السنة الجهر بالذكر عقب الصلوات الخمس وعقب صلاة الجمعة بعد التسليم لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته"
(2)
. أما كونه جماعيًا بحيث يتحرى كل واحد نطق الآخر من أوله إلى آخره وتقليده في ذلك فهذا لا أصل له بل هو بدعة، وإنما المشروع أن يذكروا الله جميعًا بغير قصد لتلاقي الأصوات بدءًا ونهاية"
(3)
.
وسُئل ابن عثيمين رحمه الله: هذا مستمع للبرنامج يقول: إنه إمام في أحد المساجد، وبعد التسليم أقوم بالورد أو أسبح بالطريقة المشروعة بصوتٍ مرتفع، فأنكر عليَّ بعض العامة ذلك بقولهم: إنك قد تشوش على الذين
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء> الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، (7/ 115).
(2)
رواه البخاري (841) ومسلم (583).
(3)
الدرر الثرية من الفتاوى البازية (ص/ 180).
فاتتهم الصلاة فما حكم هذا مأجورين؟
فأجاب الشيخ: رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة المكتوبة مشروع، لما صح في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رفع الصوت بالذكر حين يفرغ الناس المكتوبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن إذا كان يصلي إلى جنبك شخص، وخفت أن تشوش عليه برفع الصوت، فالأفضل ألا تفعل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقراءة، فقال:"لا يجهر بعضكم على بعضٍ في القراءة، أو قال في القرآن"
(1)
؛ ولكن هذا إذا كان إلى جنبك، أما إذا كان بعيداً عنك، فالغالب أنك لا تشوش عليه، لا سيما إذا كانت الأصوات متداخلة كلهم يرفعون أصواتهم، فإنها إذا كانت متداخلة لا يحصل فيها تشويش، التشويش إنما يحصل إذا كان إلى جنبك مباشرة، أو إذا كان هناك أصواتاً متميزة جهورية، وأما إذا تداخلت الأصوات؛ فلا تشويش"
(2)
.
وسُئل أيضًا: فضيلة الشيخ ـ حفظك الله ـ: جاءت السنة بمشروعية رفع الذكر بعد الصلاة، فهل المقصود هو الذكر المباشر لانقضاء الصلاة، مثل:
(1)
رواه الطبراني في المعجم الأوسط (3/ 27) وصححه الألباني في إصلاح المساجد (264) ورقم (74)، وذكر له شاهدًا قويًا في السلسلة الصحيحة (1603).
(2)
المصدر: سلسلة فتاوى نور على الدرب > الشريط رقم [196].
(اللهم أنت السلام)، ونحوه، أو أنه يعم جميع الذكر من التسبيح، والتهليل، والتكبير؟
ج: يعم الجميع، يعم كل ذكر مشروع بعد الصلاة: الاستغفار، وقول:(اللهم أنت السلام) والتسبيح، والتهليل، وقد ألف - أظنه الشيخ/ سليمان بن سحمان رحمه الله رسالة، وقال: من فرق بين التهليل والتسبيح فقد ابتدع، وأنه لا فرق بين هذا وهذا. وهذا هو الصحيح، لكن إذا كان هناك شخص يصلي إلى جانبك، وقد فاته شيء من الصلاة، وخفت إذا رفعت صوتك أن تشوش عليه، فلا ترفع صوتك؛ لأن الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ خرج على الصحابة، وهم يصلون، ويجهرون بالقراءة، ويشوش بعضهم على بعض، فنهاهم أن يرفع الرجل صوته فيشوش على أخيه. وأما إذا لم يكن هناك تشويش، فالمشروع هو رفع الصوت. السائل: ألا يحصل تشويش إذا رفعوا أصواتهم؟
الشيخ: إذا كانوا كلهم ما فاتهم شيء من الصلاة، وكانوا يذكرون الله جميعاً لا يحصل تشويش أبداً، كما أنهم يقرءون القرآن قبل الصلاة، كلهم يرفع صوته فلا يحصل تشويش.
السائل: والإمام عندما يرفع صوته؟
الشيخ: نقول: إذا رفع صوته، وهم يسمعون، ليرفعوا أصواتهم مثله،
وسبب التشويش أن بعض الناس يكره هذا بقلبه، تعرف أن القلب إذا اشتغل يتشوش، لكن لو كانوا مطمئنين بهذا، وقد قبلته نفوسهم قبولاً تاماً لم يحصل تشويش إطلاقاً.
السائل: لكن السنة أن يجهر به!
الشيخ: السنة أن يجهر، ولكن إذا كان إماماً فينبغي أن يبلغ المأمومين قبل ذلك، ويقول: يا إخوان: السنة هي الجهر"
(1)
.
فائدة/
قال النووي رحمه الله عند شرح حديث ابن عباس: كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّكْبِيرِ"
(2)
. قال: هذا دليل لما قاله بعض السلف أنه يستحب رفع الصوت بالتكبير والذكر عقب المكتوبة، وممن استحبه من المتأخرين ابن حزم الظاهري. ونقل ابن بطال وآخرون أن أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر والتكبير، وحمل الشافعي رحمه الله تعالى هذا الحديث على أنه جهر وقتًا يسيرًا حتى يعلمهم صفة الذكر، لا أنهم جهروا دائمًا، قال:
(1)
المصدر: سلسلة لقاءات الباب المفتوح > لقاء الباب المفتوح [62]
(2)
رواه البخاري (842) ومسلم (583).
فاختار للإمام والمأموم أن يذكرا الله تعالى بعد الفراغ من الصلاة ويخفيان ذلك، إلا أن يكون إمامًا يريد أن يتعلم منه فيجهر حتى يعلم أنه قد تعلم منه، ثم يسر، وحمل الحديث على هذا"
(1)
. نقلت قول النووي من باب الفائدة، وليُعلم أنه يوجد قول آخر في المسألة.
المطلب الثاني/ حكم الذكر الجماعي أدبار الصلوات
قالت اللجنة الدائمة ـ في ضمن جواب على سؤال ـ: وهكذا أداء الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، أو الذكر بصوت جماعي بدعة لا أصل لها، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"
(2)
. متفق على صحته، وفي رواية لمسلم رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"
(3)
. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم"
(4)
.
(1)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج. كِتَابٌ: الْمَسَاجِدُ وَمَوَاضِعُ الصَّلَاةِ. باب: الذكر بعد الصلاة.
(2)
البخاري (2697) ومسلم (1718).
(3)
صحيح مسلم (1718).
(4)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، برئاسة بن باز رحمه الله = الفتوى رقم (19184).
وسُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، السؤال التالي: فضيلة الشيخ! قلتم: إنه يجوز أن يرفع الصوت بالذكر بعد الصلاة، ولكن إن أدى هذا إلى أن يكون الذكر جماعياً بين المصلين فهل يجوز؟
فأجاب: أنا في الواقع لم أقل: يجوز، بل قلت: إنه من السنة، يعني: الأفضل، فإنه من السنة ولا شك. وأما أداء هذا الذكر جماعة فهذا بدعة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك، كلُّ يذكر على نفسه لكنهم يجهرون"
(1)
.
المطلب الثالث/ مسح الوجه بعد السلام
سُئلت اللجنة الدائمة: هل يسن مسح الوجه بعد السلام؟
ج: لا يسن ذلك، ولا نعلم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم قولًا ولا عملًا، ولم يعرف عن أصحابه فيما نعلم رضي الله عنهم، والخير كل الخير في الاتباع والشر في الابتداع. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم
(2)
.
(1)
المصدر: سلسلة لقاءات الباب المفتوح > لقاء الباب المفتوح [62].
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (7/ 72).
المطلب الرابع/ حكم المصافحة بعد الصلاة
سُئلت اللجنة الدائمة: ما حكم المصافحة للمصلي والسلام على الإمام وعلى صاحب اليمين وصاحب اليسار؟
ج: إن لم يكن صافحه عند لقائه إياه قبل الصلاة صافحه بعد السلام منها، سواء كانت فريضة أم نفلًا، وسواء كان عن يمينه أو يساره لكن يكون في الفريضة بعد الأذكار المشروعة بعدها، أما سلام المأمومين على الإمام بعد الفراغ من الصلاة فلا نعلم أنه ورد فيه شيء خاص به. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم
(1)
.
المطلب الخامس/ النهي عن الانصراف قبل تسليم الإمام
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي إِمَامُكُمْ، فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ وَلَا بِالْقِيَامِ وَلَا بِالِانْصِرَافِ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي"
(2)
.
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (7/ 122).
(2)
رواه مسلم (426) والنسائي (1363) وأحمد (11997).
قال النووي رحمه الله: قَوْله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ" فِيهِ تَحْرِيم هَذِهِ الْأُمُور وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَالْمُرَاد بِالِانْصِرَافِ: السَّلَام"
(1)
.
وسُئلت اللجنة الدائمة: يقال لا تسبق الإمام بالركوع ولا السجود ولا الانصراف، فإذا كان القصد من الانصراف هو الخروج فماذا نعمل إذا كان الإمام يتأخر في المسجد؟
ج: المراد بالانصراف فيما ذكر الخروج من الصلاة بالسلام، لا الخروج من المسجد، فلا يجوز للمأموم أن يسلم قبل سلام إمامه ولا معه، بل يسلم بعده، أما الخروج من المسجد فللمأموم أن يخرج منه قبل خروج الإمام. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم
(2)
.
(1)
شرح مسلم عند حديث رقم (426).
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (7/ 70).
المطلب السادس/ كراهة الخروج من المسجد قبل انصراف الإمام
ـ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَضَّهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْصَرِفُوا قَبْلَ انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّلَاةِ"
(1)
.
قال الطيبي رحمه الله: وعِلَّة نهيه صلى الله عليه وسلم أصحابه عن انصرافهم قبله أن يذهب النساء اللاتي يصلين خلفه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثبت في مكانه حتى ينصرف النساء ثم يقوم ويقوم الرجال"
(2)
.
ـ وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَهُوَ يَمْكُثُ فِي مَقَامِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ، قَالَتْ: نَرَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِكَيْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَالِ"
(3)
.
قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث مراعاة الإمام أحوال المأمومين، والاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور.
(1)
رواه أبو داود (624) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (624).
(2)
عون المعبود شرح سنن أبي داود (624).
(3)
رواه البخاري (875).
وفيه اجتناب مواضع التهم، وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلًا عن البيوت.
ومقتضى التعليل المذكور أن المأمومين إذا كانوا رجالًا فقط أنْ لا يستحب هذا المكث، وعليه حمل ابن قدامة حديث عائشة رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" أخرجه مسلم. وفيه أن النساء كن يحضرن الجماعة في المسجد"
(1)
.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمام السلام قبل قيام الإمام، وأن يؤخر ذلك حتى ينصرف بعد انصراف الإمام، أو معه أحب إليَّ له"
(2)
.
وقال ابن قدامة رحمه الله: ويستحب للمأمومين أن لا يثبوا قبل الإمام، لئلا يذكر سهوًا فيسجد"
(3)
.
وقال ابن عثيمين رحمه الله عند مسألة كراهية مكث الإمام بعد الصلاة
(1)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري عند حديث رقم (849).
(2)
كتاب الأم (1/ 151).
(3)
المغني (1/ 328).
مستقبل القبلة في مكان صلاته: لأنَّ المأمومينَ منهيون أنْ ينصرفوا قبل انصرافِ الإِمامِ، فإذا بقي مستقبلَ القِبْلة كثيراً حَبَسَ النَّاسَ"
(1)
.
والمسألة فيها خلاف يدور بين الجواز والكراهة، والشاهد من ذِكرها أن الانصراف بعد الصلاة مباشرة غير محمود، ويكفي أنه محل خلاف إلا لحاجة، وأما لغير حاجة فإنه خلاف الأولى بلا ارتياب، عند أولي الألباب.
(1)
الشرح الممتع على زاد المستقنع (4/ 222).
ختام المجالس
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما جلَس رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم مجلِسًا، ولا تلا قُرْآنًا، ولا صلَّى صلاةً، إلَّا ختَم ذلكَ بكلِماتٍ، قالَتْ: فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أراك ما تجلِسُ مجلِسًا ولا تتلو قُرْآنًا، ولا تُصلِّي صلاةً، إلَّا ختَمْتَ بهؤلاءِ الكلِماتِ، قال:"نَعم، مَنْ قال خيرًا خُتِمَ له طابَعٌ على ذلكَ الخيرِ، ومَن قال شرًّا، كُنَّ له كفَّارةً: سُبحانَكَ وبحمدِكَ، لا إلهَ إلَّا أنتَ، أستغفِرُكَ وأتوبُ إليكَ"
(1)
.
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسًا، أَوْ صَلَّى تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ، فَسَأَلَتْهُ عَائِشَةُ عَنِ الْكَلِمَاتِ، فَقَالَ:"إِنْ تَكَلَّمَ بِخَيْرٍ كَانَ طَابِعًا عَلَيْهِنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لا إله إلَّا أنتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ"
(2)
.
قال السندي رحمه الله: قوله (إن تكلم) أيّ أحد أو متكلم (بخير) قبل هذا الذكر، ثم ذكر هذا الذكر عقبه كان هذا الذكر (طابعًا) بفتح الباء، أي:
(1)
أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص/ 73) وصححه الوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين رقم (1598).
(2)
رواه أحمد (24486) والنسائي (1344) وصححه الألباني في صحيح النسائي (1343).
خاتمًا، وكسر الباء لغة (عليهن) أي: على تلك الكلمات التي هي خير، إذ الغالب أن الخير يكون كلمات متعددة، فلذلك جمع الضمير، وفيه ترغيب إلى تكثير الخير وتقليل الشر؛ حيث اختير في جانبه الأفراد، وإشارة إلى أن جميع الخيرات تثبت بهذا الذكر إذا كان هذا الذكر عقبها، ولا تختص هذه الفائدة بالخير المتصل بهذا الذكر فقط، والمراد أنه يكون مثبتًا لذلك الخير رافعًا إلى درجة القبول أمثاله عن حضيض الرد (كفارة له) أي: مغفرة للذنب الحاصل فيستحب للإنسان ختم المجلس به، أي مجلس كان، والله تعالى أعلم"
(1)
.
ويمكن أن نفهم من قول عائشة رضي الله عنها: كَانَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسًا، أَوْ صَلَّى تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ. - وذكرتهن -؛ أن هذا الذكر يقال عقب الفراغ من قراءة الأذكار بعد الصلاة.
(1)
حاشية السندي على النسائي عند حديث رقم (1344).
الخاتمة
1 ـ أوصيكمُ يا معشرَ الإخوانِ
…
بالذِّكر للرحمنِ كلَّ أوانِ
2 ـ فالذكرُ سهلٌ والأجورُ كثيرةٌ
…
والوعدُ في القرآنِ بالغُفْرانِ
3 ـ وتريَّثوا بعد الصلاة لتقرأوا
…
ما صحَّ من ذكرٍ ومن قُرآنِ
4 ـ إنَّ التسابُقَ للخروجِ مَذمَّةٌ
…
إلَّا لِمَشغولٍ بأمرٍ ثانِ
5 ـ فَلْنَستَعِنْ باللهِ جل جلاله
…
ولْنَبْتَعِدْ عن عادةِ السَّرَعانِ
6 ـ فالمؤمنون قلوبُهمْ في راحةٍ
…
عند الدُّعا والذكرِ للرحمنِ
7 ـ يا ربِّ وفِّقْنَا وأَصلِحْ شَأننا
…
بالذكرِ أكرِمْنَا مع اطمئنانِ
8 ـ واغفر لنا يا ربّ كل خطيئةٍ
…
منّا فأنتَ اللهُ ذو الإحسانِ
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أنْ لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.