المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال - تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال - جـ ٢

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال

ص: 387

بسم الله الرحمن الرحيم

ربِّ يسِّر يا كريم

الحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد:

ففي "الصحيحين"(1) من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:«قَالَ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ. فَوَاعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا، إِلَّا {كَانَ} (2) لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ؟ فَقَالَ: وَاثْنَتَيْنِ» .

هذا يدل عَلَى أنَّ مجالس النبي صلى الله عليه وسلم للفقه في الدين والتذكير ونحو ذلك لم يكن النساء يحضرنها مع الرجال، وإنما كن يشهدن الصلوات في مؤخر المساجد ليلاً ثم ينصرفن عاجلاً، وكن يشهدن العيدين مع المسلمين منفردات عن الرجال من ورائهم، ولهذا لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد رأى أنه لم يسمع النساء، فلما فرغ جاء ومعه بلال إِلَى النساء، فوعظهن، وذكرهن وأمرهن بالصدقة، وأجلس الرجال حتى يفرغ من موعظة النساء (3).

وأصلُ هذا أنَّ اختلاط النساء بالرجال في المجالس بدعةٌ، كما قال الحسن البصري؛ فلذلك قال له النساءُ: يا رسول الله، غَلَبنا عليك الرجال.

(1) أخرجه البخاري (101)، ومسلم (2633).

(2)

قال الحافظ في "الفتح"(1/ 236): وتعرب "كان" تامة، أي حصل لها حجاب. وللمصنف في الجنائز:"إلا كن لها" أي: الأنفس التي تقدم. وله في الاعتصام: "إذا كانوا" أي: الأولاد.

(3)

أخرجه البخاري (98)، ومسلم (884) من حديث ابن عباس. وأخرجه البخاري (978)، ومسلم (885) من حديث جابر.

ص: 389

وقد روي من حديث أبي هريرة "أن النساء قلن: يا رسول الله، إنا لا نقدر عَلَى أن نجالسك في مجلسك، قد غلبنا {عليك} (1) الرجال! فواعدنا موعدًا نأتيك، قال: موعدكن بيت فلانة. فأتاهن فحدثهن"(2).

وقد أمره الله تعالى أن يبلِّغ ما أُنزل إِلَيْهِ للرجال والنساء، وأن يعلم الجميع كما قال له:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (3) الآية.

وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (4) الآية.

فامتثل ما أمره الله تعالى، ووعدهن مجلسًا خالصًا لهن في بيت امرأة، ولعل تلك المرأة كانت من أزواجه أو محارمه، والله أعلم بحقيقة ذلك.

ثم وفى بموعده لهن فأتاهن في يوم موعدهن، فوعظهن وأمرهن ونهاهن، ورغبهن ورهبهن، فكان من جُملة ما بشَّرهن به أن قال لهن:«مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا {كَانُو} (5) لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ؟ قَالَ: وَاثْنَتَيْنِ» (6).

وليس في هذا الحديث {أنهم} (7) لم يبلغوا الحنث.

وعمومُه يدخل فيه من بلغ الحنث ومن لم يبلغ؛ والمصيبة بمن بلغ أعظم وأشق عَلَى النفوس.

(1) في "الأصل": "عَلَى" والمثبت هو الصواب.

(2)

أخرجه مسلم (2633).

(3)

الأحزاب: 59.

(4)

النور: 31.

(5)

في "الأصل": كان، والمثبت من البخاري.

(6)

أخرجه البخاري (1249) من حديث أبي سعيد، ومسلم (2634) من حديث أبي هريرة.

(7)

طمس بالأصل، والمثبت لمراعاة السياق.

ص: 390

والمصيبة بمن لم يبلغ أهون وأخف، وقد جاء تقييده في حديث أنس بن مالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ» خرجاه في "الصحيحين"(1).

والمُراد بالحنث: الإثم. والمعنى: أنه لم يجر عليه الإثم ببلوغه العمر الَّذِي يكتب عليه الإثم فيه، وهو بلوغ الحُلم، وعلَّل بفضل رحمة الله إياهم، يعني: أن الله يرحم أطفال المسلمين رحمة تامة، حتى تفضُل عنهم، فيدخل آباؤهم في فضل تلك الرحمة، وهذا مما يستدل {به} (2) عَلَى أن أطفال المسلمين في الجنة.

وقد قال الإمامُ أحمد: ليس فيهم اختلاف أنَّهم في الجنة. وضعَّف ما رُوي مما يخالف ذلك أيضاً و {لا} (2) أحد يشك أنهم في الجنة. قال: وإنما اختلفوا في أطفال المشركين.

وقال أيضاً: هو يرجى لأبويه فكيف يُشك فيه؟! يعني أنه يُرجى لأبويه دخول الجنة بسببه، فكيف يشك فيه؟!

ولذلك نص الشافعي عَلَى أنَّ أطفال المؤمنين في الجنة، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وكعب.

وخرَّج ابنُ أبي حاتم، عن ابن مسعود قال:"أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير، تسرح في الجنة حيث شاءت، فتأوي إِلَى قناديل معلقة في العرش" وخرج البيهقي من رواية ابن عباس، عن كعب نحوه.

وفي "صحيح مسلم"(3) عن أبي هريرة "أن رجلاً قال له: مات لي ابنان، فما أنت مُحدِّثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث تُطيِّبُ به أنفسنا عن موتانا؟

(1) أخرجه البخاري (1248)، وليس عند مسلم.

(2)

ليست في الأصل، وأثبتها لحاجة السياق.

(3)

"صحيح مسلم"(2635).

ص: 391

فَقَالَ: "نعم، صغارُهم دَعَامِيص (1) الجنة، يتلقَّى أحدهم أباه- أو قال: أبويه -فيأخذ بثوبه- أو قال: بيده- كما آخُذ أنا بصَنِفَة (2) ثوبك، فلا يتناهى -أو قال: ينتهي- حتى يُدخله الله وأباه الجنة".

وخرَّج النسائي (3) من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَمُوتُ لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلَّا إِلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ الجَنَّة. قَالَ تَعَالَى لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ. فَيَقُولُونَ: حَتَّى يَدْخُلَ أَبَوَانَا. فَيُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَبَوَاكُمْ".

وخرَّج الإمام أحمد، وابن ماجه (4) من حديث معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده، إِنَّ السقط ليجُرُّ أمُّه بسرَرِه (5) إِلَى الجنة، إذا احتسبته".

وخرَّج الإمام أحمد، وابن ماجه (6) أيضاً من حديث عتبة بن عبدٍ السُّلمي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل" وفي رواية للإمام أحمد (7): "إِنَّ الله تعالى يقول للولدان يوم القيامة: ادخلوا الجنّة.

فيَقُولُونَ: يا رب، حتى يدخل آباؤنا وأمَّهاتنا. قال: فيأبون، فيقول الله عز وجل: ما لِي أراهم مُحبنطئين (8) ادخلوا الجنة. فيَقُولُونَ: يا رب، آباؤنا. فيقول: ادخلوا

(1) الدعموص: الدخال في الأمور: أي أنهم سياحون في الجنة، دخالون في منازلها لا يمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدُّنْيَا لا يمنعون من الدخول عَلَى الحرم، ولا يحتجب منهم أحدًا "اللسان"(7/ 36).

(2)

صنفة الإزار، بالكسر: طرته، ويقال: هي حاشية الثوب أي جانب كان -قال الليث: الصنفة: قطعة من الثوب. وقال شمر: الصنف: الطرف الزاوية من الثوب وغيره. "اللسان"(9/ 198 - 199).

(3)

برقم (1876).

(4)

أحمد (5/ 241)، وابن ماجه (1609).

(5)

كتب بالهامش: سرره جمع سرة.

(6)

أخرجه أحمد (4/ 183)، وابن ماجه (1604).

(7)

(4/ 105).

(8)

المحبنطئ: المتغضب المستبطئ للشيء. وقيل: هو الممتنع طلب، لا امتناع إباء. "اللسان"(7/ 272).

ص: 392

الجنة أنتم وآباؤكم" وروى الطبراني من حديث أنس نحوه، وزاد (1) فيه: يقال لهم في المرة الرابعة: "ادخلوا ووالديكم معكم، فيثب كلُّ طفل إِلَى أبويه فيأخذون بأيديهم، فيدخلونهم الجنة، فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم".

وخرَّج الإمام أحمد (2)، والنسائي (3) من رواية {مُعَاوِيَةُ بْنُ} (4) قُرَّةَ، "أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَتُحِبُّهُ؟ قَالَ: أَحَبَّكَ اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ. فَمَاتَ فَفَقَدَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَمَا يَسُرُّكَ أَنْ لا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ عِنْدَهُ يَسْعَى يَفْتَحُ لَكَ؟» زاد الإمام أحمد: "فَقَالَ رجل: له خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم".

وخرَّج الطبراني، من حديث ابن عمر نحوه، ولكن قال فيه:(فَقَالَ له النبي صلى الله عليه وسلم: «أَوَمَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ ابْنُكَ مَعَ ابْنِي إِبْرَاهِيمَ يُلَاعِبُهُ تَحْتَ ظِلِّ العَرْشِ؟! قال: بَلى يا رسولَ الله». (5).

وفي المعنى أحاديثُ كثيرة جدًّا، وقد كان الصحابة يرجون ذلك عند موتهم، كما روي عن أبي ذر "أنه لما حضرته الوفاة بكت أمُّ ذر، فَقَالَ لَهَا: أَبْشِرِي وَلا تَبْكِي، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لا يَمُوتُ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثة، فَيَصْبِرَانِ وَيَحْتَسِبَانِ فَيَرَيَانِ النَّارَ أَبَدًا» (6) وقد مات لنا ثلاثة من الولد".

والحديث الَّذِي قبله يدل عَلَى أنَّ أطفال المسلمين الموتى يلعبون تحت ظل العرش، وفي حديث {أبي هريرة} (7):"أنهم دعاميص الجنة"

(1) تكررت بالأصل.

(2)

في "المسند"(3/ 436)، (5/ 34، 35).

(3)

في "السنن" برقم (1869).

(4)

سقط من الأصل، والمثبت من "المسند".

(5)

ذكره الهيثمي في "المجمع"(3/ 10) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" من حديث إبراهيم ابن عبيد في التابعين -وهو ضعيف- وبقية رجاله موثقون.

(6)

أخرجه ابن حبان (6671 - إحسان)، والحاكم (3/ 388) ولفظهما قريب من لفظ المصنف. وأخرجه أحمد (5/ 166) بنحوه. وليس عندهم جميعا: "وقد مات لنا ثلاثة من الولد.

(7)

طمس بالأصل وقد سبق من رواية مسلم.

ص: 393

والدُّعموص: دُويبة {صغيرة تكون} (1) في الماء، والمعنى أنهم يتربُّون في أنهار الجنة وينعمون فيها، وفي رواية:"ينغمسون في أنهار الجنة" يعني: يلعبون فيها.

وقد روي " أنه يكفلهم إبراهيمُ عليه السلام وزوجته سارة- عليها السلام". وخرَّج ابن حبان في "صحيحه" والحاكم من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ذراري المؤمنين يكفلهم إبراهيمُ في الجنة". وخرجه الإمام أحمد (2) مع نوع شك في رفعه ووقفه عَلَى أبي هريرة.

وروي من وجه آخر، عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا:«أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ فِي جَبَلٍ فِي الْجَنَّةِ، يَكْفُلُهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَسَارَةُ عليهما السلام فَإِذا كَانَ يَوْم القِيَامَة دُفِعُوا إِلَى آبَائِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» خرّجه البيهقي وغيره مرفوعًا.

ويشهد لذلك: ما في "صحيح البخاري"(3) عن سمُرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني الليلة آتيان

" فذكر حديثًا طويلاً وفيه: أن الملكين فسراه له، وأنهما جبريل وميكائيل، وأنه من جملة ما رأى: "رَجُلاً طَوِيلاً فِي رَوضَةٍ وَحَوْلَهُ وِلْدَان وقالا له: الرَّجُلُ الطَّوِيلُ فِي الرَّوْضَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَالْوِلْدَانُ حَوْلَهُ كُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، فقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ".

وقد روي أنهم يرتضعون من شجرة طُوبى؛ وروى ابنُ أبي حاتم بإسناده عن خالد بن معدان قال: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا: طُوبَى، ضروع كلها، ترضع أهل الجنة، وإن سقط المرأة يكون في أنهار يتقلب {فيها} "(4) حتى يوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة" كذا قال.

(1) طمس بالأصل، والمثبت من "لسان العرب"(7/ 35 - 36).

(2)

أخرجه أحمد (2/ 326)، وابن حبان (7446 - الإحسان)، والحاكم (2/ 370).

(3)

برقم (7047).

(4)

في "الأصل": فيه. والمثبت أنسب للسياق.

ص: 394

وفي حديث المقدام بن معدي كرب المرفوع: "إِنَّ ما بين السقط والهرم، يبعثون أبناء ثلاثين سنة" وفي رواية: "أبناء ثلاثة وثلاثين".

وروى ابنُ أبي الدُّنْيَا بإسناده عن خالد بن معدان قال: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا: طُوبَى، كلها ضروع؛ فمن مات من الصبيان الذين يرضعون يرضع من طوبى، وحاضنهم إبراهيم عليه السلام". وروى الخلال بإسناده، عن عبيد ابن عمير:"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ لَهَا ضروع البقر، يغذى به ولدان أهل الجنة، حتى إنهم يستنون كاستنان البكارة".

وبعضُ الأطفال له مرضع في الجنة، مثل إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما مات قبل أن يُفطم قال النبي صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الجَنَّةِ تكمل رضاعه {في الجنة} (1)، (2). وفي رواية: "ظئرًا" وفي رواية: "إِنَّ له مرضعين يكملان رضاعه في الجنة".

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حضره وهو {يكيد} (3) بنفسه، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال:«تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى الرَّب، وَاللهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ» (4) وفي رواية: "ولولا أنه أمر حق ووعد صدق، وأنها سبيل مأتية، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا".

وروى ابنُ أبي الدُّنْيَا في "كتاب العزاء" من حديث زُرارة بن أوفى "أن النبي صلى الله عليه وسلم عزَّى رجلاً عَلَى ابنه، فَقَالَ الرجل: يا رسول {الله} (5) أنا شيخ كبير، وكان ابني قد أجزأ (6) عنا. فَقَالَ: أيسرك، قد نشر لك أو يتلقاك من أبواب الجنة

(1) طمس بالأصل والمثبت من "صحيح مسلم".

(2)

أخرجه البخاري (1382) من حديث البراء، ومسلم (2316) من حديث أنس.

(3)

في "الأصل": "يكبد" والمثبت من "صحيح مسلم"، ويكيد بنفسه كيدًا: يجود بها، يريد النزع. "اللسان"(3/ 383).

(4)

أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315) من حديث أنس.

(5)

سقط لفظ الجلالة من "الأصل" والسياق يقضيه.

(6)

أجزأ عنه: أغنى عنه "اللسان"(1/ 46 - 47).

ص: 395

بالكأس؟ قال: من لي بذاك يا رسول الله؟ قال: الله لك به، ولكل مسلم مات له ولد في الإسلام".

وبإسناده عن عبيد بن عمير، قال:"إذا كان يوم القيامة خرج ولدان المسلمين من الجنة بأيديهم الشراب، فيقول الناس: اسقونا اسقونا. فيَقُولُونَ: أبوينا أبوينا، حتى السقط محبنطئًا بباب الجنة يقول: لا أدخل حتى يدخل أبواي".

وفي المعنى حديث مرفوع من رواية ابن عمر، لكن إسناده لا يصح وهو باطل، قاله أبو حاتم الرازي.

وفي المعنى رُؤيا إبراهيم الحربي المشهورة صار يتمنَّى موتَ ابنه، ومات قبل البلوغ.

وروى البيهقي بإسناده، عن ابن شوذب:"أن رجلاً كان له ابن لم يبلغ الحُلم، فأرسل إِلَى قومه: إِنَّ لي إليكم حاجة؛ إني أريد أن أدعو عَلَى ابني هذا أن يقبضه الله، وتؤمنون. فسألوه عن ذلك، فأخبرهم أنه رأى في نومه كأن الناس جمعوا إِلَى القيامة، فأصاب الناس عطشٌ شديدٌ، فَإِذَا الوالدان قد خرجوا من الجنة معهم الأباريق، فأبصرت ابن أخ لي. فقلت: يا فلان، اسقني. فَقَالَ: يا عم، إنا لا نسقي إلا الآباء. قال: فأحببت أن يجعل الله ولدي هذا فرطًا لي. فدعا فأمنوا. فلم يلبث الغلام إلا يسيرًا حتى مات".

وفي أكثر الأحاديث ذكر الثلاثة والاثنين. وفي بعضها "وأظن لو قلنا: وواحدًا لقال: وواحدًا". خرَّجه أحمد (1) من حديث جابر.

وقد جاء ذكرُ الواحد في حديث؛ خرَّج الترمذي (2) وغيره من حديث ابن مسعود مرفوعًا: " «مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا. فَقَالَ

(1)(3/ 306).

(2)

برقم (1061) وقال: هذا حديث غريب، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. وابن ماجه (1606) وأحمد (1/ 375، 429، 451).

ص: 396

أَبُو ذَرٍّ: قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ، فَقَالَ: وَاثْنَيْنِ. فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: قَدَّمْتُ وَاحِدًا.

قَالَ: وَوَاحِدًا، وَلَكِنْ إِنَّما ذَاكَ عِنْدَ الصَّدْمَةٍ الأُوْلَى» وفي الترمذي (1)، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ {بِهِمَا} (2) الجَنَّةَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ منْ أَمْتَلِك؟ قَالَ: وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ أُمَّتِي يَا مُوَفَّقَةُ. قَالَتْ: فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: فَأَنَا فَرَطُ أُمَّتِي، لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي» .

ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم في آخر خطبة خطبها: "إني فرطكم على الحوض"(3) يشير إِلَى أنه يتقدمهم ويسبقهم إِلَى الحوض، وينتظرهم عنده.

وفي حديث مرسل خرجه ابن أبي الدُّنْيَا: "من مات ولم يقدم فرطًا لم يدخل الجنة إلا {تصْريدًا} (4). فقيل: يا رسول الله، وما الفرط؟ قال: الولد وولد الولد، والأخ يؤاخيه في الله عز وجل فمن لم يكن له فرط، فأنا له فرط" وفي حديث عبد الرحمن بن سمُرة، في ذكر المنام الطويل عن النّبي صلى الله عليه وسلم:"ورأيت رجلاً من أمتي {خف} (5) ميزانه، فجاءته أفراطه الصغار فثقلوا ميزانه".

وعن داود بن أبي هند قال: "رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس يدعون للحساب، فقدمت إِلَى الميزان فوضعت حسناتي في كفة وسيئاتي في كفة، فرجحت السيئات عَلَى الحسنات، فبينا أنا كذلك مغموم، إذ

(1) أخرجه أحمد (1/ 334)، والترمذي (1062). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد ربه بن فارق.

(2)

في "الأصل": "بهم" والمثبت من "سنن الترمذي".

(3)

أخرجه البخاري (1344)، ومسلم (2296) من حديث عقبة بن عامر. وأخرجه البخاري (6589)، ومسلم (2289) من حديث جندب بن سفيان. وأخرجه البخاري (6583)، ومسلم (2290) من حديث سهل بن سعد. وأخرجه البخاري (6575)، ومسلم (2297) من حديث ابن مسعود.

(4)

أي قليلاً: والتصريد في العطاء: تقليله. "اللسان"(3/ 249).

(5)

في الأصل: "خفت".

ص: 397

أتيت بشيء كالمنديل أو كالخرقة البيضاء، فوضعت في حسناتي فقيل لي: تدري ما هذا؟ قلت: لا. قال: سقط كان لك. قلت: إنه قد كانت لي صبية ابنة لي فقيل لي: تيك ليست لك؛ لأنك كنت تتمنى موتها".

وفي هذا إشارة إِلَى أن الميزان إِنَّمَا يثقل بما يثقل عَلَى النفوس من المصائب ويشق، فأما ما لا يثقل عليها ولا يشق -لمن يتمنى موته من أولاده- فلا يثقل به الميزان.

قال ابن أسلم: "مات ابن لداود عليه السلام فحزن عليه حزنًا شديدًا.

فأوحى الله: ماذا كنت مفتديه؟ قال: بطلاع الأرض ذهبًا. قال: فأوحى الله إِلَيْهِ: "إِنَّ لك عندي من الأجر بحساب ذلك" وفي رواية: "قال: يا داود، ما كان يعدل هذا الولد عندك؟ قال: كان يعدل عندي ملء الأرض ذهبًا، قال: فلك يوم القيامة عندي ملء الأرض ثوابًا".

سبحان من لا يحصي العبادُ نعمه، وربما كانت نعمه فيما يسوء أكثر من نعمه فيما يسر، كما قيل:

[شعر].

إذا مس بالسراء عم سرورها

وإن مس بالضراء أعقبها الأجرُ

وما فيهما إلا له فيه نعمة

تضيق بها الأوهام والبر والبحر

لمّا كان للمؤمن داران: دار يرتحل منها، ودار ينتقل إليها ويقيم بها، أمره أن ينقل من دار ارتحاله إِلَى دار إقامته؛ ليعمرها من بعض ما أعطاه في دار ارتحاله وربما أخذ منه كرها ما يعمر به دار إقامته، ويكمل له به عمارتها وإصلاحها، ويقدم له إليها ما يحب من أهل ومال وولد، يسبقونه إليها ليقدم عَلَى ما يحب من مال وأهل وولد، وإن كان المؤمن لا يشعر بذلك.

ص: 398

فما فرَّق إلا ليجمع، ولا أخذ إلا ليرد، ولا سلب إلا ليهب، ولا استرد العواري إلا ليردها تمليكًا ثابتًا لا استرجاع فيه بعد ذلك.

وفي مراسيل الحسن "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لأن أموت قبل أخي أَحَبّ إلي. فَقَالَ: لأنّ يكون لك أَحَبّ إليك من أن تكون له".

قال الحسن: علموا أنَّ ما لهم من أهاليهم إلا ما قدَّموا أمامهم.

وكذا قال عمر بن عبد العزيز وغيره، ويشهد له حديث:"الرَّقوب (1) من لم يقدم ولدًا".

سبحان من أنعم عَلَى عباده بما خولهم من المال والولد، ثم استرجع بعض ذلك منهم كُرهًا، وعوضهم الصلاة والرحمة والهدى، وذلك أفضل مما أخذ كما قيل:

[شعر]

عطِيَّتُهُ إذا أعطى سرورا

وإن أخذ الَّذِي أعطى أثابا

فأي النعمتين أجلُّ قدرًا

وأحمدُ في عواقبها مآبا

أرَحْمتُهُ التي جاءت بكرهِ

أم الأخرى التي جلبت ثوابا

بل الأخرى وإن نزلت بضرٍّ

أجلُّ لفقد من صبر احتسابا

آخرُه، والحمد لله وحده، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. تم.

(1) الرقوب: الرجل والمرأة لم يعش لهما ولد. "النهاية"(2/ 249).

ص: 399