الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد نقل القرطبي في تفسيره: أن بعض العلماء قد فسروا الهيمنة بالتصديق، ونقل الآلوسيّ مثله، واستدل هؤلاء على ما ذكروه من تفسير الهيمنة بالتصديق، بقول الشاعر:
إن الكتاب مهيمن لنبينا
…
والحق يعرفه ذوو الألباب
ثم قال الآلوسي: والعطف حينئذ للتأكيد أي عطف (مهيمنا) على (مصدقا)1.
ولكني أرجح ما ذكرته أولا: لأن تفسير الهيمنة بالتصديق وإن كان مسلما لغة إلا أن قصر الهيمنة على مجرد التصديق تحكم محض إذ هي -على ما بينا- ليست تصديقا فقط، ولا شهادة لهذه الكتب فحسب، بل هي تصديق لما بقي من أصلها، وتكذيب لما عداه، وشهادة لها بصحة إنزال أصولها، وعليها بالتحريف والتبديل وبذلك يكون العطف للتأسيس لا للتأكيد.
يقول الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله بعد أن فسر الهيمنة بالحراسة الأمينة: "ومن قضية الحراسة الأمينة على تلك الكتب أن لا يكتفي الحارس بتأييد ما خلده التاريخ فيها من حق وخير، بل عليه -فوق ذلك- أن يحميها من الدخيل الذي عساه أن يضاف إليها بغير حق، وأن يبرز ما تمس إليه الحاجة من الحقائق التي عساها أن تكون قد أخفيت منها، وهكذا كان من مهمة القرآن أن ينفى عنها الزوائد، وأن يتحدى من يدعي وجودها في تلك الكتب..
{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} كما كان من مهمته أن يبين ما ينبغي تبيينه مما كتموه منها"2.
1 انظر تفسير القرطبي 4/2207، والآلوسي 6/152.
2 الدين د. محمد عبد الله دراز /189.
مظاهر هيمنة القرآن على الكتب السماوية:
لهيمنة القرآن على كتب الله المنزلة قبله -فوق ما تقدم من تصديقه لها- مظاهر متعددة منها ما يلي:
1-
أن القرآن الكريم أخبر بتحريف هذه الكتب وتبديلها، وأنها لم تبق على ما كان مفروضا فيها من الثقة بها وحقية كل ما فيها، بل تناولتها أيدي أهل الكتاب الآثمة بالتحريف والتبديل، وتناولوا ما بقي منها بالتأويل الفاسد، طبقا للأهواء والشهوات، أو متابعة لذوي السلطان، أو محاولة لكسب الجدل على أعدائهم وخصومهم، بل أخبر القرآن كذلك أنهم كتبوا الكتب بأيديهم ونسبوها إلى الله زورا وبهتانا:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} 3.
2-
بين القرآن الكريم من المسائل الكبرى التي خالفوا فيها الحق واختلفوا فيها.
ففي جانب العقائد -على سبيل المثال– نفى ما صرّحت به الأناجيل من قتل عيسى عليه السلام وصلبه فقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} 4 وحكم على النصارى بالكفر لقولهم
3 البقرة /79.
4 النساء آية 157.
أما التوراة فإنها تنسِب إلى الله -تعالى- كثيرا من النقائص التي جاء القرآن بدحضها وإبطالها، وتصوره المراجع الإسرائيلية الحالية كالتوراة والتلمود بصورة بشرية محضة، فهو:"يحب ريح الشواء، ويتمشى في ظلال الحديقة ليتبرد بهوائها، ويصارع عباده ويصارعونه، ويندم على خلق الإنسان، ويمشي على رجليه حتى يصيبه التعب والكلال، فيجلس للراحة في ظل شجرة"، يحدث سفر التكوين:"أن إبراهيم رأى الرب ومعه ملكان فاستضافهم وأطعمهم وسقاهم وغسل أرجلهم ثم رحلوا من عنده"2.
وتقول التوراة الحالية: "فأكملت السموات والأرض وكل جندها وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل، وبارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله"3.
إلى غير ذلك من المثل الكثيرة الموجودة في التوراة الحالية، تعالى الله عن كل ما قالوا علوا كبيرا، ولقد تكفل القرآن بدحض هذه الأباطيل حيث وصف الحق -جل وعلا- بكل كمال يليق بذاته ونزهه عن كل نقص.
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 4 فكيف تصفه كتبهم بالتعب والكلال؟ !!.
ولقد أخبر القرآن أنهم نسبوا إلى الله الولد، كما وصفه اليهود المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم بالفقر والبخل وغل اليد ثم كرّ على ذلك بالإبطال والدحض، قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 5.
وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ
…
} 7.
1 المائدة آية 72-73.
2 انظر سفر التكوين إصحاح 18: 1- 28.
3 سفر التكوين إصحاح 2: 1- 3.
4 قاف آية 38.
5 التوبة آية 30.
6 آل عمران آية 181.
7 المائدة آية 64.
3-
كما بين القرآن كثيرا من المسائل التي أخفوها، أو حاولوا إخفاءها، فمن ذلك أن الدارس لأسفار العهد القديم يرى أنها (قد خلت من ذكر اليوم الآخر ونعيمه وجحيمه -وإذا كانت اليهودية في أصلها تقرر البعث والنشور والحساب والجنة والنار، كما ينبئ بذلك القرآن- فإن ذلك يدل على أن اليوم الآخر وما فيه وما يتصل به من المسائل التي أخفاها أهل الكتاب)1.
ومن ذلك أيضا إخفاؤهم ما يتصل بخاتم الرسل من بشائر ونعوت وتحريفهم لها بالحذف أو بالتأويل الفاسد، فجاء القرآن بالحق في ذلك كله:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} 2.
4-
ومن مظاهر هيمنة القرآن على ما سبقه من كتب، أنه أنهى العمل بها فلا اعتبار لها بجانبه، لأنه شغل الفراغ كله بتشريعه الجديد وليس لأحد أن يركن إلى ما جاء بها بعد أن تسرب الباطل إليها، ولعبت الأيدي الأثيمة بها.
ولا ينافي ما تقدم من أن القرآن الكريم قد أنهى العمل بما سبقه من كتب الله، أنه أقر كثير من أحكامها ولم يتناوله بنسخ، لأنه أمر بهذه الأحكام وأقرها من جديد، فعملنا بها ليس متابعة لهذه الكتب بل لإقرار القرآن لها وأمره بها (لأن هيمنة القرآن على غيره واستئنافه للتشريع، لا يكون بالتقليد لغيره، بل بالإقرار الجديد وإن كان موافقا أحيانا لما سبقه، وهذا معنى قوله تعالى لرسوله:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 3، بمعنى بما أنزل عليك، وقد أنزل عليه كل ما في شريعة الإسلام ونسخ به كل ما سبقه {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} 4.
وطريق الجمع بين الآيات أن يقال: "إن كل آية دلت على اتحاد الشرائع فهي محمولة على مقاصد الدين وأصول العبادات، وأما الآيات الدالة على اختلافها فمحمولة على الفروع وما يتعلق بظواهر العبادات، فجائز أن يتعبد الله عباده في كل وقت بما شاء"5.
1 انظر الأسفار المقدسة، علي عبد الواحد وافي /29.
2 المائدة آية 15.
3 المائدة آية 48.
4 انظر (في رياض القرآن) للشيخ عبد اللطيف السبكي /90.
5 انظر الفتوحات الإلهية 1/498.