الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المائدة اية
11
- {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} تذكيرٌ لنعمة الإنجاءِ من الشرائر تذكيرِ نعمةِ إيصالِ الخير الذي هو نعمةُ الإسلام وما يتبَعُها من الميثاق وعليكم متعلِّقٌ بنعمة الله أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً منها وقولُه تعالى {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} على الأول ظرفٌ لنفس النعمة وعلى الثاني لِما تعلَّق به عليكم ولا سبيلَ إلى كونه ظرفا لا ذكروا التنافي زمانَيْهما أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم أو اذكروا نعمته كائنةً عليكم في وقت همِّهم {أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} أي بأن يبطشوا بكنم بالقتل والاهلات يقال بسَطَ إليه يدَه اذا بطش به وبسط إليه لسانَه إذا شتمته وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصَّريحِ للمُسارعةِ إلى بيان رجوعِ ضررِ البسطِ وغائلتِه إليهم حملاً لهم منْ أولِ الأمرِ عَلى الاعتداد بنعمةِ دفعِه كما أن تقديم لكم في قولِه عز وجل هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض للمبادرة إلى بيان كونِ المخلوق من منافعِهم تعجيلاً للمَسَرّة {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} عطفٌ على هم وهو النعمة التي أُريد تذكيرُها وذكراً لهم للإيذان بوقوعها عند مزيدا لحاجة إليها والفاءُ للتعقيب المفيدِ لتمام النعمة وكما لها وإظهارُ أيديهم في موقع الإضمار لزيادة التقرير أي منَعَ أيديَهم أن تُمدَّ إليكم عقيب همِّهم بذلك لا أنه كفها عنكم بعد ما مدُّوها إليكم وفيه من الدلالة على كمالِ النعمة من حيثُ إنها لم تكن مشوبةً بضَرَر الخوف والانزعاجِ الذي قلما يعْرَى عنه الكفُّ بعد المد ما لا يخفى مكانُه وذلك ما روى ان المشركين راوا ارسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه بعَسفانَ في غزوة ذي انما روها غزوةُ ذاتِ الرَّقاع وهي السابعة من مغازيه عليه الصلاة والسلام قاموا إلى الظهر معاً فلما صلَّوْا ندِمَ المشركون ألا كانوا قد أكبُّوا عليهم فقالوا إن لهم بعدها صلاةً هي أحبُّ إليهم من آبائهم وأبنائِهم يعنون صلاةَ العصر وهمُّوا ان يوقعوا بهم اذ قاموا إليها فرد الله تعالى كيدَهم بأن أنزلَ صلاةَ الخوف وقيل هو ما رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتى بني قُرَيْظَةَ ومعه الشيخانِ وعليٌّ رضي الله تعالى عنهم يستقرِضُهم لدِيَةِ مسلمَيْن قتلهما عمْرُو بنُ أميةَ الضَّمُريُّ خطأً يحسَبُهما مشرِكَيْن فقالوا نعم يا أبا القاسم اجلِسْ حتى نُطعِمَك ونعطِيك ما سألت فأجلسوه في صُفَّةٍ وهمّوا بالفتك به وعمد عمروا بنُ جِحاش إلى رَحا عظيمةٍ يطرَحُها عليه فأمسك الله تعالى يده ونزل جبريلُ عليه السلام فأخبره فخرج عليه الصلاة والسلام وقيل هو ما رُوي انه صلى الله عليه وسلم نزل منزِلاً وتفرّق أصحابُه في العظاء يستظلون بها فعلّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيفَه بشجرة فجاء أعرابيٌّ فاخذها وسله فقال مَنْ يمنعُك مني فقال صلى الله عليه وسلم الله تعالى فاسقطع جبريلُ عليه السلام من يده فاخذه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال من يمنعك مني فقال لا أحدَ أشهدُ أَن لَاّ إلَه إِلَاّ الله وأن محمداً رسولُ الله {واتقوا الله} عطفٌ على اذكُروا أي اتقوه في رعاية حقوقِ نعمتِه ولا تُخِلُّوا بشكرِها أو في كلِّ ما تأتون وما تذرون فيدخُل فيه ما ذُكر دخول اولياء {وَعَلَى الله} أي عليهِ تعالى خاصَّة دونَ غيرِه استقلال واشتراكا {فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} فإنه يكفيهم في إيصال كلِّ خيرٍ ودفع كل شر والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لمَا قبلَهُ وإيثارُ صيغة أمْرِ الغائبِ واسنادها إلى المؤمنين لإيجابِ التوكل على
سورة المائدة اية 12 المخاطبين بالطريق البرهاني ولايذان بأن ما وُصفوا به عند الخطابِ من وصف الإيمان داعٍ ألى مَا أُمروا بهِ من التوكل والتقوى وازعٌ عن الإخلال بهما وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لتعليلِ الحُكمِ وتقوية استقلال الجملة التذييلية
{وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بني إسرائيل} كلامٌ مستأنفٌ مشتمِلٌ على ذكر بعضِ ما صدَر عن بني إسرائيلَ من الخِيانة ونقضِ الميثاق وما أدّى إليه ذلك من التّبِعاتِ مَسوقٌ لتقرير المؤمنين على ذكر نعمةِ الله تعالى ومراعاةِ حقِّ الميثاقِ الذي اوثقهم به وتحذيرِهم من نقضِه أو لتقرير ما ذُكر من الهم بالبطش وتحقيقِه على تقدير كون ذلك من بني قريظة حسْبما مرّ من الرواية ببيان أن الغدرَ والخيانة عادةٌ لهم قديمة توار ثوها من أسلافهم وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابةِ وتفخيمِ الميثاق وتهويلِ الخطبِ في نقضه مع ما فيه من رعاية حقِّ الاستئنافِ المستدعى لانقطاع عما قبله ولالتفات في قوله تعالى {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً} للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ أو لأن البعثَ كان بواسطة موسى عليه السلام كما سيأتي وتقديمُ الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مرا مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر والنقيبُ فعيل بمعنى فاعل مشتقٌ من النَّقْب وهو التفتيش ومنه قوله تعالى فَنَقَّبُواْ فِى البلاد سُمِّيَ بذلك لتفتيشِه عن أحوال القومِ وأسرارِهم قال الزجاجُ وأصله من النقْب وهو الثقب الواسع رُوي إن بني إسرائيلَ لما استقروا بمصْرَ بعهد مَهْلِكِ فرعونَ أمرهم الله عز وجل بالمسير الى اريحا أرضِ الشام وكان يسكُنها الجبابرةُ الكَنعانيون وقال لهم إني كتبتُها لكم داراً وقراراً فاخرُجوا إليها وجاهِدوا من فيها وإني ناصِرُكم وأمر موسى عليه السلام أن يأخُذَ من كلِّ سِبطٍ نقيباً أميناً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أُمروا به توثِقَةً عليهم فاختارَ النقباءَ وأُخذ الميثاقُ على بني إسرائيلَ وتكفَّلَ إليهم النُقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعانَ بعث النقباءُ يتجسسون فرءوا أجراماً عظيمةً وقوةً وشَوْكة فهابوا ورَجَعوا وحدَّثوا قومَهم بما رؤوا وقد نهاهم موسى عن ذلك فنكثوا الميثاقَ إلا كالبَ بنَ يوقنا نقيبَ سبط يهاذا ويُوشَعَ بنَ نونٍ نقيبَ سِبطِ أفراييمَ بن يوسُفَ الصديق عليه الصلاة والسلام قيل لما توجه النقباءُ إلى أرضهم للتجسس لقِيَهم عوجُ بنُ عنق وكان طوله ثلاثة الاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وقد عاش ثلاثة آلاف سنة وكان على رأسه حُزمةُ حطب فأخذهم وجعلهم في الحُزمة وانطلق بهم إلى امرأته وقال انظُري إلى هؤلاء الذين يزعُمون أنهم يريدون قتالنا فطرَحهم بين يدَيْها وقال ألا أطحَنُهم برِجْلي فقالت لا بل خلي عنهم حتى يُخبِروا قومَهم بما رؤوا ففعل فجعلوا يتعرّفون أحوالَهم وكان لا يحمِلُ عنقودَ عِنبِهم إلا خمسةُ رجال أو أربعة فلما خرج النقباءُ قال بعضُهم لبعض إن أخبرتم بني إسرائيلَ بخبر القومِ ارتدوا عن نبي الله ولكنِ اكتُموه
سورة المائدة اية 12 إلا عن موسى وهارونَ عليهما السلام فيكونان هما يَريانِ رأيَهما فأخذ بعضُهم على بعضٍ الميثاقَ ثم انصرفوا إلى مُوسى عليه السلام وكان معهم حبةٌ من عنبِهم وِقْرَ رجل فنكثوا عهدَهم وجعل كلٌّ منهم ينهى سِبْطه عن قتالِهم ويُخبرهم بما رأى الا كالب ويشع وكان معسكرُ موسى فرسخاً في فرسخ فجاء اوج حتى نظر إليهم ثم رجع إلى الجبل فقور منه صخرة عظيمة على قدر العسكر ثم حملها على رأسه ليُطبِقَها عليهم فبعث الله تعالى الهُدُهُد فقوَّر من الصخرة وسَطَها المحاذِيَ لرأسه فانتقبت فوقعت في عُنُق عوج وطوقته فصرعته فاقبل موسى عليه السلام وطولُه عشرةُ أذرُعٍ وكذا طولُ العصا فتراما في السماء عشرةَ أذرع فما أصاب العصا إلا كعبا وهو مصروعٌ فقتله قالوا فأقبلت جماعةٌ ومعهم الخناجرُ حتى حزّوا رأسَه {وَقَالَ الله} أي لبني إسرائيل فقد اذاهم المحتاجون إلى ما ذُكر من الترغيب والترهيب كما يُنْبىءُ عنه الالتفاتُ مع ما فيه من تربية المهابة وتأكيدِ ما يتضمنه الكلام من الوعد {إِنّى مَعَكُمْ} أي بالعلم والقدرة والنُّصرة لا بالنصرة فقط فإن تنبيهَهم على علمِه تعالى بكل ما يأتون وما يذرون وعلى كونهم تحت قدرته وملوته مما يحمله على الجد في الامتثال بما أمروا به والانتهاءِ عمَّا نُهوا عنهُ كأنه قيل إني معكم أسمع كلامَكم وأرى أعمالَكم وأعلم ضمائِرَكم فأجازيكم بذلك هذا وقد قيل المرادُ بالميثاق هو الميثاقُ بالإيمان والتوحيد وبالنقباءِ ملوكُ بني إسرائيلَ الذين ينقُبون أحوالَهم ويَلُون أمورَهم بالأمر والنهي وإقامةِ العدل وهو الأنسبُ بقولِه تعالى {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وآتيتم الزكاة وَآمَنتُم بِرُسُلِي} أي بجميعِهم والالام موطِّئةٌ للقسم المحذوفِ وتأخيرُ الامان عن إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ مع كونهما من الفروع المترتبةِ عليه لِما أنهم كانوا معترفين بوجوبِهما مع ارتكابِهم لتكذيبِ بعضِ الرسل عليهم السلام ولمراعاة المقارَنةِ بينه وبينَ قولِهِ تعالى {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي نصرتموهم وقوَّيتموهم وأصله الذّبُّ وقيل التعظيمُ والتوقيرُ والثناءُ بخير وقرء وعزرتموهم بالتخفيف {وَأَقْرَضْتُمُ الله} بالإنفاق في سبيل الخير وبالتصدق بالصدقات المندوبة وقوله تعالى {قَرْضًا حَسَنًا} إما مصدرٌ مؤكّدٌ وارد على غير صيغة المصدر كما في قوله تعالى فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بقبول حسن وانبتها نبات حسن او مفعول ثاني لأقرضتم على أنه اسم للمال المُقْرَض وقوله تعالى {لأكفرن عنكم سيئاتكم} جوابٌ للقسم المدلولِ عليه بالالام سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط {وَلَادْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} عطفٌ على ما قبله داخل معه في حُكم الجواب متأخرٌ عنه في الحصول أيضاً ضرورةَ تقدُّمِ التخلية على التحلية {فَمَن كَفَرَ} أي برسلي أو بشيءٍ مما عُدِّد في حيِّز الشرط والفاءُ لترتيب بيانِ حُكمِ من كفَر على بيان حُكمِ من آمن تقويةً للترغيب بالترهيب {بَعْدَ ذَلِكَ} الشرطِ المؤكّدِ المُعلَّقِ به الوعدُ العظيمُ الموجِبُ للإيمان قطعاً {مّنكُمْ} متعلِّقٌ بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً من فاعل كفَرَ ولعل تغييرَ السبْكِ حيث لم يقل وإن كفرتم عطفا على االشرطية السابقة لإخراج كفرِ الكلِّ عن حيِّز الاحتمال وإسقاطِ من كفَرَ عن رُتبة الخطاب وليس المرادُ إحداثَ الكفر بعد الإيمان بل ما يعمُّ الاستمرارَ عليه أيضاً كأنه قيل فمن اتّصفَ بالكفر بعد ذلك خلا أنه قصَدَ بإيراد ما يدلّ على الحدوث بيانَ ترقِّيهم في مراتب الكفر فإن الاتصافَ بشيءٍ بعد ورود ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمرار عليه لكنه بحسَب العنوان فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادثٌ {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} أي وسَطَ الطريق الواضحَ ضلالاً بيناً وأخطأه خطأً فاحشا لا غذر معه أصلاً بخلافِ من كفر قبل ذلك إذْ ربما يمكن ان
سورة المائدة اية 13 14 يكون له شُبْهةٌ ويُتَوهَّمُ له معذرةً
{فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} الباء سبيبة وما مزيدةٌ لتأكيد الكلام وتمكينِه في النفس أي بسبب نقضِهم ميثاقَهم المؤكَّدَ لا بشيءٍ آخرَ استقلالاً أو انضماماً {لعناهم} طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا ومسخناهم قِرَدَةً وخنازيرَ أو أذللناهم بضرب الجزيةِ عليهم وتخصيصُ البيان بما ذُكر مع أن حقَّه أن يبيَّنَ بعد بيانِ تحققِ نفسِ اللعنِ والنقضِ بأن يقال مثلا فنقصوا ميثاقَهم فلعنّاهم ضرورةَ تقدّمِ هيئةِ الشيءِ البسيطةِ على هيئتِه المُركّبة للإيذانِ بأن تحققَهما أمرٌ جليٌّ غنيٌّ عن البيان وإنما المحتاجُ إلى ذلك ما بينهما من السبيبة والمُسبَّبية {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} بحيث لا تتأثرُ من الايات والنظر وقيل أملينا لهم ولم نعاجِلْهم بالعقوبة حتى قَسَتْ أو خذلناهم ومنعناهم الألطافَ حتى صارت كذلك وقرىء قسي وهي إما مبالغةُ قاسية وإما بمعنى رديئة من قولهم دِرْهمٌ قِسيٌّ أي ردى اذ إذا كان مغشوشاً له يبس وخشونة وقرا بكسر القاف إتباعاً لها بالسبيبة {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} استئنافٌ لبيان مرتبةِ قساوةِ قلوبهم فإنه لا مرتبةَ اعظم مما يصحح الا افتراء على تغيير كلامِ الله عز وجل والافتراءَ عليه وصيغةُ المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وقيل حالٌ من مفعول لعناهم {وَنَسُواْ حَظَّا} أي تركوا نصيباً وافراً {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} من التوراة او من اتباع محمدٍ صلى الله عليه وسلم وقيل حرفوا التوراةَ وزلَّتْ أشياءُ منها عن حفظهم وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قد ينسى المرىء بعض العلم بالمعصية وتلى هذه الآية {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ} أي خيانةٍ على أنها مصدرٌ كلاغيةٍ وكاذبةٍ أو فَعْلةٍ خائنة أي ذاتِ خيانة أو طائفةٍ خائنة أو شخصٍ خائنةٍ على أن التاء للمبالغة أو نفس خائنة ومنهم متعلقٌ بمحذوف وقع صفة لها خلى أن مِنْ على الوجهين الأولين ابتدائيةٌ أي على خيانةٍ أو على فعلةٍ خائنةٍ كائنةٍ منهم صادرةٍ عنهم وعلى الوجوه الباقيةِ تبعيضية والمعنى أن الغدرَ والخيانة عادةٌ مستمرة لهم ولأسلافهم بحيث لا يكادون يتركونها او يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم {إِلَاّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} استثناء منَ الضميرِ المجرورِ في منهم على الوجوه كلِّها وقيل مِنْ خائنة على الوجوه الثلاثةِ الأخيرةِ والمرادُ بهم الذين آمنوا منهم كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلام وأضرابِه وقيل من خائنة على الوجه الثاني فالمرادُ بالقليل الفعلُ القليل ومِنْ ابتدائيةٌ كما مر أي الا فعلى قليلاً كائناً منهم {فاعف عَنْهُمْ واصفح} أي إن تابوا وآمنوا أو عاهدُوا والتزموا الجزية وقيل مطلقٌ نُسخ بآيةِ السيف {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} تعليلٌ للأمر وحثٌّ على الامتثال به وتنبيهٌ على أنَّ العفوَ على الإطلاقِ من باب الإحسان
بيانٌ لقبائح النصارى وجناياتهم إثرَ بيان قبائحِ اليهود وخياناتهم ومن متعلقة بأخذنا إذِ التقديرُ وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم وتقديمُ الجار والمجرور للاهتمام به ولأن ذكرَ حال إحدى الطائفتين مما يوقعُ في ذهن السامع أن حالَ الأخرى ماذا فكأنه قيل ومن الطائفة الأخرى أيضاً أخذنا ميثاقهم وقيل هي متعلِّقةٌ بمحذوفٍ وقع خبر المبتدا محذوفٍ قامت صفتُه أو صلتُه مَقامه أي ومنهم قومٌ أخذنا ميثاقهم أو مَنْ أخذنا ميثاقهم وضميرُ ميثاقَهم راجعٌ إلى الموصوف المقدر وأما في الوجه الأولِ فراجعٌ إلى الموصول وقيل راجع إلى بني إسرائيل أي أخذنا من هؤلاء ميثاق اؤلائك أي مثل ميثاقهم من الإيمان بالله والرسل وبما يتفرع على ذلك من أفعال الخير وإنما نَسَب تسميتَهم نصارى إلى أنفسهم دون أن يُقال ومن النصارى إيذاناً بأنهم في قولهم نحن أنصارُ الله بمعزلٍ من الصدق وإنما هو تقوّلٌ محْضٌ منهم وليسوا من نُصْرة الله تعالى في شيء أو إظهاراً لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وافعالهم فان ادعائهم لنُصْرته تعالى يستدعي ثباتَهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه {فَنَسُواْ} عَقيبَ أخذِ الميثاق من غير تلعثم {حظا} ووافرا {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك حسبما مرَّ آنفاً وقيل هو ما كُتب عليهم في الإنجيل من أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فتركوه ونبذوه وراء ظهورهم واتبعوا اهوائهم فاختلفوا وتفرقوا نصطورية ويعقوبيةً وملكانية أنصاراً للشيطان {فَأَغْرَيْنَا} أي ألزمنا وألصَقنا من غراب الشيء اذ لزم ولصِق به وأغراه غيرُه ومنه الغِراء وقوله تعالى {بَيْنَهُمْ} إما ظرف لأغرينا أو متعلِّق بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعوله أي أغرينا {العداوة والبغضاء} كائنة بينهم ولا سبيل إلى جعله ظرفاً لهما لأنَّ المصدرَ لا يعملُ فيما قبلَهُ وقوله تعالى {إلى يَوْمِ القيامة} إما غاية للإغراء أو للعداوة والبغضاء أي يتعادَوْن ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبنا تقتضيه اهواؤهم المختلفة وارائهم الزائغة المؤدية إلى التفرق والى الفرق الثلاث فضمير بينهم لهم خاصة وقيل لهم ولليهود أي أغرينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى {وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وعيد شديد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فَعَلت أي يجازيهم بما عملوا على الاستمرار من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به وسوف لتأكيد الوعيد والالتفاتُ إلى ذكر الاسم الجديد لتربية المهابة وإدخال الروعة لتشديد الوعيد والتعبيرُ عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم في ذلك وعن المجازاة بالتنبئة للتنبيه على أنهم لا يعلمون حقيقةَ ما يعملونه من الاعمال الشيئة واستتباعِها للعذاب فيكونُ ترتيبُ العذابِ عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها
{يَا أَهْلِ الكتاب} التفاتٌ إلى خطاب الفريقين على أن الكتاب جنسٌ شاملٌ للتوراة والإنجيل إثرَ بيانِ أحوالهما من الخيانة وغيرها من فنون القبائح ودعوةٌ لهم إلى الإيمان برسولِ الله صلى الله عليه وسلم والقرآن وإيرادُهم بعنوان أهلية الكتاب للانطواء كلام المصدَّر به على ما يتعلق بالكتاب
سورة المائدة اية 16 وللمبالغة في التشنيع فإن أهلية الكتاب من موجباتِ مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الأحكام وقد فعلوا من الكَتم والتحريف ما فعلوا وهم يعلمون {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} للاضافة للتشريف والايذان بموجوب اتباعه وقوله تعالى {يُبَيّنُ لَكُمْ} حال من رسولنا وإيثارُ الجملة الفعلية على غيرها للدَلالة على تجدّد البيان أي قد جائكم رسولُنا حال كونه مبيناً لكم على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة {كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} أي التوراةِ والإنجيل كبِعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وآيةِ الرجم في التوراة وبشارةِ عيسى بأحمدَ عليهما السلام في الإنجيل وتأخيرُ كثيراً عن الجار والمجرور بما مر مراراً من إظهار عناية بالمقدم لما فيه من تعجيلِ المسرَّةِ والتِّشويقِ إلى المؤخَّرِ لأن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر لا سيما الإشعار بكونه من منافع المخاطَب تبقَى النفسُ مترقبة إلى وروده فيتمكن عندها إذا ورد فضلُ تمكنٍ ولأن في المؤخر درب تفصيل ربما يُخِلُّ تقديمُه بتجاذب أطرافِ النظمِ الكريم فإن مما متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفة لكثيرا وما موصولة اسمية وما بعدها صلتُها والعائدُ إليها محذوف ومن الكتاب متعلق بمحذوف هو حال من العائد المحذوف والجمع بين صيغتين الماضِي والمستقبلِ للدِّلالةِ على استمرارهم على الكتم والإخفاء أي بين لكم كثيراً من الذي تخفونه على الاستمرار حال مونه من الكتاب الذي أنتم اهله والمتمسكون به {ويعف عَن كَثِيرٍ} أي ولا يُظهر كثيراً مما تخفونه إذا لم تدعُ إليه داعيةٌ دينية صيانةً لكم عن زيادة الافتضاح كما يُفصحُ عنه التعبير عن عدم الإظهار بالعفو وفيه حثٌّ لهم على عدم الإخفاء ترغيباً وترهيباً والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ الحالية داخلةٌ في حكمها وقيل يعف عن كثيرٍ منكم ولا يؤاخذه في قوله تعالى {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان أن فائدةَ مجيءِ الرسول ليست منحصرةً فيما ذُكر ومن بيانِ ما كانوا يُخفونه بل له منافعُ لا تحصى ومن الله متعلق بجاء ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً او محذوف وقع حالا من نور وأيا ما كان فهو تصريحٌ بما يشعر به إضافةُ الرسول من مجيئه من جنابِه عز وجل وتقديم الجار والجرور على الفاعل للمصارعة إلى بيان كون المجيء من جهته العالية والتشويق إلى الجائي ولأن فيه نوعَ تطويلٍ يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظم الكريم كما في قوله تعالى وجائك فِى هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ وتنوين نور للتفخيم والمراد به وبقوله تعالى {وكتاب مُّبِينٌ} القرآنِ لما فيهِ من كشف ظلمات الشرْك والشك وإبانة ما خفِيَ على الناس من الحق والإعجاز البيِّن والعطف لتنزيل المغايَرَة بالعنوان منزلة المغايرة وبالذات وقيل المرادُ بالأول هو الرسول صلى الله عليه وسلم وبالثاني القرآن
{يَهْدِى بِهِ الله} توحيد الضمير المجرور لاتحاد المرجِع بالذات أو لكونهما في حكم الواحد أو أريد يهدي بما ذُكر وتقديم الجار والمجرور للاهتمام وإظهارُ الجلالة لإظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية ومحل الجملة الرفع على أنها صفةُ ثانية لكتاب أو النصبُ على الحالية منه لتخصصه بالصفة {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} أي رضاه بالإيمان به ومن موصوله او
سورة المائدة اية 17 موصوفة {سُبُلَ السلام} أي طرق السلامة من العذاب والنجاة من العقاب أو سبل الله تعالى وهي شريعتُه التي شرعها للناس وقيل هو مفعول ثاني ليهدي والحقُّ أن انتصابه بنزع الخافض على طريقة قوله تعالى واختار موسى قَوْمَهُ وإنما يُعدَّى إلى الثاني بالى او بالام كما في قوله تعالى ان هذا القران يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ {وَيُخْرِجُهُمْ} الضمير لمن والجمع باعتبارِ المَعْنى كَما أنَّ الإفراد في اتبع اعتبار اللفظ مِنَ {الظلمات} أي ظلمات فنون الكفر والظلال {إِلَى النور} إلى الإيمان {بِإِذْنِهِ} بتيسيره أو بإرادته {وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} هو أقرب الطرق إلى الله تعالى وموؤدي إليه لا محالة وهذه الهداية عينُ الهداية إلى سبل السلام وإنما عُطفت عليها تنزيلاً للتغاير الوَصْفيِّ منزلةَ التغايرِ الذاتيِّ كما في قوله تعالى وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} أي لا غيرُ كما يقال الكرمُ هو التقوى وهم اليعقوبيةُ القائلون بأنه تعالى قد يحِلُّ في بدن إنسان معين أو في روحه وقيل لم يصرِّح به أحدٌ منهم لكن حيث اعتقدوا اتصافَه بصفاتِ الله الخاصة وقد اعترفوا بأن الله تعالى موجود فلزِمهم القول بان المسيح لا غير وقيل لما زعموا أن فيه لا هوتا وقالوا لا إله إلا واحدٌ لزمهم أن يكونَ هو المسيح فنُسب إليهم لازمُ قولِهم توضيحاً لجهلهم وتفضيحاً لمعتَقَدِهم {قُلْ} أي تبكيتاً لهم وإظهاراً لبطلان قولِهمِ الفاسد وإلقاماً لهم الحجَرَ والفاء في قوله تعالى {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شيئا} فصيحة ومن اتفهامية الانكار والتوبيخ والملك الضبض والحِفظُ التامُّ عن حزم ومن متعلقةٌ به على حذفِ المضافِ أي إنْ كانَ الأمرُ كَما تزعُمون فمن يمنَعُ من قدرته تعالى وإرادته شيئاً وحقيقتُه فمن يستطيعُ أن يُمسك شيئاً منها {إن أراد أن يهلك المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً} ومن حق مَنْ يكون الها ان لا يتعلقَ به ولا بشأنٍ من شؤونه بل بشيءٍ من الموجودات قدرةُ غيرِه بوجهٍ من الوجوه فضلاً عن أن يعجِزَ عن دفع شيءٍ منها عند تعلقِها بهلاكه فلما كان عجزه بينة لا ربي فيه ظهرَ كونُه بمعزل مما تقوَّلوا في حقه والمراد بالاهلاك الايمانة والإعدامُ مطلقاً لا بطريق السُخْط والغضب وإظهارُ المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه الألوهية في مقام الإضمارِ لزيادة التقرير والتنصيصِ على أنه من تلك الحيثية بعينها داخلٌ تحت قهره وملوكته تعالى ونفْيِ المالكيةِ المذكورة بالاستفهام الإنكاري عن كل أحدٍ مع تحقق الإلزامِ والتبكيتِ بنفيها عن المسيح فقط بأن يقال فهل يملِك شيئاً مّنَ الله إِنْ أَرَادَ الخ لتحيقيق الحقِّ بنفيِ الألوهية عن كل ما عداه سبحانه وإثباتُ المطلوب في ضمنه بالطريق البرهان فإن انتفاءَ المالكيةِ المستلزِمَ باستحالة الألوهية متى ظهر بالنسبة إلى الكلِّ ظهر بالنسبة إلى المسيح على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه فيظهر استحالةُ الالوهية قطعاً وتعميمُ إرادةِ الإهلاك للكل مع حصول ما ذكر من التحقيق نقصرها عليه بأن يقال فمن يملك من الله شيئا ان
سورة المائدة اية 18 أراد أن يهلك المسيح لتهويل الخطب وإظهارِ كمالِ العجز بيان أن الكلَّ تحت قهره تعالى وملَكوته لا يقدِرُ أحدٌ على دفع ما أريد به فضلاً عن دفه ما اريد بغيره وايذان لان المسيحَ أُسوةٌ لسائر المخلوقات في كونه عُرْضةً للهلاك كما أنه أُسوة لها فيما ذُكر من العجز وعد استحقاقِ الألوهية وتخصيصُ أمِّه بالذكر مع اندراجها في ضمن مَنْ في الأرض بزيادة تأكيدِ عجْز المسيح ولعل نَظْمَها في سِلْك من فَرضَ إرادةَ إهلاكهم مع تحقيق هلاكها قبل ذلك لتأكيد التبكيت وزيادة ترير مضمون الكلام يجعل حالها أُنموذجاً لحال بقيةِ مَنْ فرَضَ إهلاكَه كأنه قيل قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح وأمه ومن فى الارض وقد أهلك أمَّه فهل مانَعَه أحد فكذا حال مَنْ عداها من الموجودين وقوله تعالى {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي ما بين قُطْرَي العالم الجسماني لا بين وجهِ الأرض ومُقعَّرِ فَلك القمر فقط فيتناول ما في السَّمواتِ من الملائكة عليهم السلام وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات تنصيصٌ على كون الكلِّ تحت قهره تعالى وملكوته إثرَ الإشارة إلى كون البعض أي من في الأرض كذلك أي له تعالى وحَدهُ ملك جميع الموجودات والتصرُّفُ المطلقُ فيها إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة لا لاحد سواه استقلال ولا اشتراكاً فهو تحقيقٌ لاختصاص الألوهية به تعالى إثرَ بيانِ انتفائها عن كلِّ ما سواهُ وقوله تعالى {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان بعض أحكام المُلك والألوهية على وجه يزيح معتراهم من الشبهة في أمر المسيح لولادته من غير أب وخَلْقِ الطير وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أي يَخْلُقُ مَا يَشَاء من أنواع الخلق والإيجاد على أن ما نكرة وصوفة محلها النصب على المصدر به لا على المفعولية كأنه قيل يخلق أيَّ خلق يشاء فتارةً يخلق من غير أصل كخلق السموات والأرض وأخرى من أصلٍ كخلق ما بينهما فيُنشىء من أصلٍ ليس من جنسه كخلق آدمَ وكثيرٍ من الحيوانات من أصلٍ يجانسه إما مِنْ ذكرٍ وحده كخلق حواءَ أو أنثى وحدها كخلق عيسى عليه السلام أو منهما كخلق سائر الناس ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات وقد يخلُق بتوسط مخلوق آخرَ كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزةً له وإحياءِ الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك فيجب أن يُنسَبَ كلُّه إليهِ تعالى لا إلى من أجرى ذلك على يده {والله على كل شىء قدير} اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله وإظهارُ الاسمِ الجليل للتعليل وتقويةِ استقلال الجملة
{وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} حكايةٌ لِما صدر عن الفريقين من الدعوى الباطلة وبيانٌ لبطلانها بعد ذكر ما صدر عن أحدهما وبيانِ بطلانه أي قالت اليهود نحن أشياعُ ابنِه عُزَيْرٍ وقالت النصارى نحن أشياعُ ابه المسيحِ كما قيل لأشياع أبي خُبيب وهو عبدِ اللَّه بن الزبير الخُبيبيّون وكما يقول أقاربُ الملوك عند المفاخرة نحن الملوك وقال ابن
سورة المائدة اية 19 عباس رضي الله تعالى عنهما ان النبيِّ صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوَّفهم بعقاب الله تعالى فقالوا كيف تخوِّفُنا به ونحن أبناء الله وأحباؤه وقيل ان النصارى يتلوون في الإنجيل أَنَّ المسيح قال لهم اني ذاهي إلى أبي وأبيكم وقيل أرادوا أن الله تعالى كالأب لنا في الحُنُوِّ والعطف ونحن كالأبناء له في القُرب والمنزلة وبالجملة أنهم كانوا يدّعون أن لهم فضلا ومزية عند الله تعالى على سائر الخلق فردّ عليهم ذلك وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم {قُلْ} إلزاماً لهم وتبكيتاً {فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم} أي إن صح ما زعمتم فلأيِّ شيءٍ يعذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ وقد عرفتم بأنه تعالى سيعذبكم في الآخرة بالنار أياماً بعدد أيامِ عبادتِكم العجلَ ولو كان الأمر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم ما وقع وقولُه تعالى {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ} عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلام أي لستم كذلك بل أنتم بشر {مّمَّنْ خَلَق} أي من جنس مَنْ خَلقه الله تعالى مِنْ غَيْرِ مزيةٍ لكُم عليهم {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أنْ يغفر له من أولئك المخلوقين وهم الذين آمنوا به تعالى وبرسله {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أنْ يعذبه منهم وهم الذين كفروا به وبرسله مثلَكم {ولله ملك السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} منْ الموجودات لا ينتمي إليه سبحانه شيء منها إلا بالملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرّف فيهم كيف يشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وايماتة وايثابة وتعذيباً فأنى لهم ادعاءُ ما زعموا {وَإِلَيْهِ المصير} في الآخرة خاصَّة لا إلى غيرِه استقلال أو اشتراكاً فيجازِي كلاًّ من المحسن والمسيء بما يستدعيه عملُه من غير صارف يَثْنيه ولا عاطفٍ يَلْويه
{يَا أَهْلِ الكتاب} تكريرٌ للخطاب بطريق الالتفات ولطفٌ في الدعوى {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ} حال من رسولنا وإيثارُه على مبيِّناً لما مر فيما سبق أي يبين لكم الشرائعَ والأحكامَ الدينية المقرونة بالوعد والوعيد من جملتها ما بُيِّن في الآيات السابقة من بطلان أقاويلِكم الشنعاء وما سيأتي من أخبار الأمم السالفة وإنما حُذف تعويلاً على ظهور أن مجيءَ الرسول إنما هو لبيانها أو يفعلُ لكم البيانَ ويبذُله لكم في كل ما تحتاجون فيه إلى البيان من أمور الدين وأما تقديرُ مثل ما سبق في قوله تعالى كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب كما قيل فمع كونه تكريراً من غير فائدة يرده قوله عز وجل {على فترة من الرسل} فان فتور الارسال ونقطاع الوحي انما يحودج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه وعلى فترة متعلق بجائكم على الظرفية كما في قوله تعالى واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سليمان أي جاءكم على حين فتور الإرسال وانقطاع من الوحي ومزيدِ احتياج إلى بيان الشرائع والأحكام الدينية أو بمحذوف وقع حال من ضمير يبين أو من ضمير لكم أي يبين لكم ما ذُكر حال كونه على فترة من الرسل أو حال كونكم عليها أحوجَ ما كنتم الى البيان ومن الرسل متعلق بمحذوفٍ وقع صفة لفترة أي كائنةٍ من الرسل مبتدا من جهتهم وقوله تعالى {أَن تَقُولُواْ} تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذفِ المضافِ أي كراهةَ أن تقولوا معتذرين عن تفريطكم في مراعات أحكام الدين {مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ}
وقد انطمست آثارُ الشرائع السابقة وانقطعت أخبارُها وزيادة مِنْ في الفاعل للمبالغة فى نفى المجى وتنكير بشير ونذير للتقليل وهذا كما ترى يقتضي أن المقدر أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والاحكام لاكيفما كانت بل مشفوعة بما ذكر من الوعد والوعيد وقوله تعالى {فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} متعلق بمحذوف ينبى عنه الفاء الفصيحة وتُبيِّنُ أنه مُعلَّل به وتنوينُ بشيرٌ ونذيرٌ للتفخيم أي لاتعتذروا بذالك فقد جاءكم بشير أيُّ بشيرٍ ونذير أيُّ نذير {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدِرُ على الإرسال تترى كما فعله بين مُوسى وعيسى عليهما السلام حيث كان بينهما ألفٌ وسبعُمائة سنة وألفُ نبيَ وعلى الإرسال بعد الفترة كما فعله بينَ عيسَى ومحمَّدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ حيثُ كان يبينهما ستُمائة سنةٍ أو خمسُمائةٍ وتسعة وستون سنةً أو خمسُمائةٍ وستة وأربعون سنةً وأربعةُ أنبياءَ على ما روى الكلي ثلاثةٌ من بني إسرائيلَ وواحدٌ من العرب خالد بن سنان العبسي وقيل لم يكن بعد عيسى عليه السلام إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهُو الأنسبُ بَما في تنوين فترةٍ من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بأن الرسول قد بُعث إليهم عند كمالِ حاجتهم اليه بسبب مضي دهر طويل بعد انقطاعِ الوحي ليهشو إليه ويعُدّوه أعظمَ نعمةٍ من الله تعالَى وفتحَ بابٍ إلى الرحمة وتلزَمُهم الحجةُ فلا يَعتلُّوا غداً بأنه لم يُرسَلْ إليهم من بينهم من غفلتهم
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان ما فعلت بنوا إسرائيلَ بعد أخذِ الميثاق منهم وتفصيلِ كيفيةِ نقضِهم له وتعلّقِه بما قبله من حيث إن ما ذُكر فيه من الأمور التي وصف النبيِّ صلى الله عليه وسلم ببيانها ومن حيث اشتمالُه على انتفاء فترة الرسل فيما بينهم واذ نصب على أنه مفعولٌ لفعل مقدرٍ خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطابِ وصرفِه عن أهل الكتاب ليعدِّدَ عليهم ما صدر عن بعضهم من الجنايات أي واذكرهم وقت قولِ موسى لقومه ناصحاً لهم ومستميلاً لهم باضافتهم اليه {يا قوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانيِّ ولأن الوقتَ مشتملٌ على ما وقع فيه تفصيلاً فإذا استُحضِر كان ما وقع فيه حاضرا بتفاصيل كانه مشاهد عيانا وعليكم متعلق بنفس النعمة إذا جُعلت مصدراً وبمحذوف وقع حالاً منها إذا جُعلت اسماً أي اذكروا إنعامه عليكم أو اذكروا نعمة كائنة عليكم وكذا إذ في قوله تعالى {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء} أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم في وقت جَعْله أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم في وقت جهله فيما بينكم من أقربائكم أنبياءَ ذوِي عددٍ كثير وأُولي شأنٍ خطير حيث لم يَبْعثْ مِنْ أُمَّةٍ من الأممِ ما بَعَث من بني إسرائيلَ من الأنبياء {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} عطفٌ على جعل فيكم داخلٌ في حُكمهِ أيْ جعل فيكم أو منكم ملوكاً كثيرة فإنه قد تكاثر فيهم الملوكُ تكاثرَ الأنبياء وإنما حذف الظرف تعويلاً على ظهور الأمرِ أو جَعْل الكلِّ في مقام الامتنان عليهم ملوكاً لما أن أقاربَ الملوك يقولون
سورة المائدة اية 21 22 عند المفاخر نحن الملوك وإنما لم يسلُكْ ذلك المسلكَ فيما قبله لما أن منصِبَ النبوةِ مِنْ عِظَم الخطر وعِزَّة المطلب وصعوبة المنال ليس بحيث يليقُ أن يُنْسبَ إليه ولو مجازاً مَنْ ليس ممن اصطفاه الله تعالى له وقيل كانوا مملوكين في أيدي القِبْط فأنقذهم الله تعالى فسمَّى إنقاذهم مُلْكاً وقيل المَلِكُ مَنْ له مسكنٌ واسع فيه ماء جار وقيل من له بيت وخدم وقيل من له مال لا يَحتاج معه إلى تكلف الاعمال وتحمل المشاق {وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} من فلْق البحر وإغراقِ العدو وتظليلِ الغمامِ وإنزالِ المنِّ والسلوى وغير ذلك مما آتاهُم الله تعالى من الأمور العِظام والمرادُ بالعالمين الأممُ الخالية إلى زمانهم وقيل مِنْ عالَمِي زمانهم
{يا قوم ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ} كرر النداء بالاضافة التشريفية اهتمام بشأن الأمر ومبالغةً في حثهم على الامتثال به والأرضُ هي أرضُ بيت المقدس سُمِّيت بذلك لأنها كانت قرارَ الأنبياء ومسكنَ المؤمنين وقيل هي الطورُ وما حوله وقيل دمشقُ وفِلَسطينُ وبعضُ الأردن وقيل هي الشام {الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي كتَبَ في اللوح المحفوظ أنها تكونُ مسكناً لكم إن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى له بعض ما عصَوْا فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ وقولِه تعالى {وَلَا تَرْتَدُّوا على أدباركم فَتَنْقَلِبُوا خاسرين} فإن ترتيبَ الخَيبة والخُسران على الارتداد يدل على اشتراط الكَتْب بالمجاهدة المترتِّبة على الإيمان والطاعة قطعاً أي لا ترجِعوا مُدبرين خوفاً من الجبابرة فالجار والمجرور متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من فاعل ترتدوا ويجوز أن يتعلق بنفس الفعل قيل لما سمعوا أحوالهم من النقباء بكوا وقالوا يا ليتنا مِتْنا بمصر تعالَوْا نجعلُ لنا رأساً ينصرِفْ بنا الى مصر اولا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى وقوله فتنقلبوا إما مجزومٌ عطفا على ترتدوا أو منصوبٌ على جواب النهي والخُسران خُسرانُ الدين والدنيا لا سيما دخولُ ما كتب لهم
{قالوا} استئناف مبنى نشىء من مَساق الكلام كأنه قيل فماذا قالوا بمقابلة أمرِه عليه السلام ونهيِه فقيل قالوا غيرَ ممتثِلين بذلك {يا موسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} متغلبين لا ياتي منازعتهم ولا يتسنى مناصبتهم والجبارُ العاتي الذي يُجبرُ الناس ويقصرهم كائناً مَن كانَ على ما يريده كائناً ما كان فعّال من جبرَه على الأمر أي أجْبَره عليه {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا} من غير صُنْع مِنْ قِبَلِنا فان لا طاقة لنا بإخراجهم مِنْهَا {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} بسببٍ من الأسباب التي لا تعلق لنابها {فَإِنَّا داخلون} حينئذ أتَوْا بهذه الشرطية مع كون مضمونها مفهوماً مما سبق من توقيت عدمِ الدخول وخروجهم منها تصريحاً بالمقصود وتنصيصاً على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيما وأتَوا في الجزاء بالجملة الاسمية المصدرة بحرف التحقيق دلالة على تقرر
سورة المائدة اية 23 24 الدخول وثباتِه عند تحقّق الشرط لا محالة وإظهاراً لكمال الرغبة فيه وفي الامتثال بالأمر
{قَالَ رَجُلَانِ} استئنافٌ كما سبق كأنه قيل هل اتفقوا على ذلك أو خالفهم البعض فقيل قال رجلان {مِنَ الذين يَخَافُونَ} أي يخافون الله تعالى دون العدوِّ ويتّقونه في مخالفة أمرِه ونهيِه وبه قرأ ابنُ مسعود وفيه تعريضٌ بأن مَنْ عداهما لا يخافونه تعالى بل يخافون العدو وقيل من الذين يخافون العدو أي منهم في النسَب لا في الخوف وهما يوشَعُ بنُ نون وكالب بن يوقنا من النقباء وقيل هما رجلان من الجبابرة اسلما وصارا مِن موسى عليه السلام فالو او حينئذ لبني إسرائيلَ والموصول عبارة عن الجبابرة وإليهم يعود العائد المحذوف أي من الذين يخافهم بنو اسرائيل ويعضه قرات من قراء يُخافون على صيغة المبني للمفعول أي المَخُوفين وعلى الأول يكون هذا من الاخافة أي من الذين يخوِّفون من الله تعالى بالتذكير أو يخوِّفهم الوعيدُ {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} أي بالتثبيت وربْطِ الجأش والوقوف على شؤونه تعالى والثقة بوعده أو بالإيمان وهو صفة ثانيةٌ لرجلان أو اعتراض وقيلَ حالٌ من الضميرِ في يخافون أو من رجلان لتخصّصه بالصفة أي قال مخاطِبين لهم ومشجعين {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب} أي بابَ بلدهم وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عليهِ للاهتمام به لأن المقصودَ إنما هو دخولُ الباب وهم في بلدهم أي باغتوهم وضاغضوهم في المضيق وامنعوهم في البُروز إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالاً {فَإِذَا دخلتموه} أي بلدهم وهم فيه {فَإِنَّكُمْ غالبون} منْ غيرِ حاجةٍ إلى القتال فان قد رأيناهم وشاهدنا أن قلوبَهم ضعيفة وإن كانت أجسادُهم عظيمة فلا تخشَوْهم واهجُموا عليهم في المضايق فإنهم لا يقدرون فيها على الكر والفر وقيل إنما حَكَما بالغَلَبة لما عَلِماها من جهة موسى عليه السلام ومن قوله تعالى كَتَبَ الله لَكُمْ أو لِما علِما من سنّته تعالى في نَصْره رسله وما عهِدا من صُنعه تعالى لموسى عليه السلام من طهر أعدائه والأول أنسبُ بتعليق الغلَبةِ بالدخول {وَعَلَى الله} تعالى خاصةً {فَتَوَكَّلُواْ} بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها بمعزلٍ من التأثير وإنما التأثير من عند الله العزيز القدير {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي مؤمنين به تعالى مصدِّقين لوعده فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ التوكل عليه حتماً
{قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق أي قالوا غيرَ مبالين بهما وبمقالتهما مخاطِبين لموسى عليه السلام إظهاراً لإصرارهم على القول الأول وتصريحاً بمخالفتهم له عليه السلام {يا موسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا} أي أرضَ الجبابرة فضلاً عن دخول بابهم وهم في بلدهم {أَبَدًا} أي دهراً طويلاً {مَّا دَامُواْ فِيهَا} أي في أرضهم وهو بدل من أبداً بدلَ البعض أو عطفُ بيان {فاذهب} الفاء فصيحة أي فإذا كان الأمرُ كذلك فاذهب
سورة المائدة اية 25 26 {أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} أي فقاتلاهم إنما قالوا ذلك استهانة واستهزاء بع سبحانه وبرسوله وعدمَ مبالاةٍ بهما وقصدوا ذهابَهما حقيقةً كما يُنْبىء عنْهُ غايةُ جهلهم وقصوة قلوبهم وقيل اراد وارادتهما وقصْدَهما كما تقول كلمتُه فذهب يجيبني كأنهم قالوا فاريد قتالَهم واقْصِداهم وقيل التقدير فاذهبْ أنت وربُك يُعينُك ولا يساعده قوله تعالى فَقَاتِلا ولم يذكروا هارون ولا الرجلين كأنهم لم يجزموا بذهابهم أو لم يعبأوا بقتالهم وقوله تعالى {إنا ها هنا قاعدون} يؤيد الوجه الأول وأرادوا بذلك عدمَ التقدم لا عدمَ التأخر
{قَالَ} عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العِناد على طريقة البثِّ والحُزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلبِ التي بمثلها تُستجلبُ الرحمةُ وتُسْتَنزَلُ النُّصرة {رَبّ إنى لا أملك إلا نَفْسِى وَأَخِى} عطف على نفسي وقيل على الضَّميرِ في إني على معنى إنى لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملِكُ إلا نفسَه وقيل على الضَّميرِ في لا أملك للفصل {فافرق بَيْنَنَا} يريد نفسه وأخاه والفاء لترتيب الفرق أو الدعاءِ به على ما قبلَه {وَبَيْنَ القوم الفاسقين} الخارجين عن طاعتك المُصِرّين على عِصيانك بأن تحكُم لنا بما نستحقّه وعليهم بما يستحقونه وقيل بالتعبيد بيننا وبينهم وتخليصِنا من صحبتهم
{قَالَ فَإِنَّهَا} أي الأرض المقدسة والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} تحريمَ منعٍ لا تحريمَ تعبُّد لا يدخُلونها ولا يملِكونها لأن كتابتها لهم كانت مشروطةً بالإيمان والجهاد وحيث نكصوا على أدبارهم حُرموا ذلك وانقلبوا خاسرين وقوله تعالى {أَرْبَعِينَ سَنَةً} إن جُعل ظرفاً لمحرمةٌ يكون التحريم موقتا لا مؤبداً فلا يكون مخالفاً لظاهر قولِه تعالى كَتَبَ الله لَكُمْ فالمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم في هذه المدة لكن لا بمعنى أن كلَّهم يدخلونها بعدها بل بعضهم ممن بقي حسب ما رُوي أن موسى عليه السلام صار بمن بقيَ من بني إسرائيلَ إلى أريحا وكان يوشعُ بنُ نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قُبض عليه السلام وقيل لم يدخلها أحد ممن قال لن ندخُلها أبداً وإنما دخلها معَ مُوسى عليه السلام النواشي من ذرياتهم فالموقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وإنما جُعل تحريمُها عليهم لما بينهما من العلاقة التامة المتاخمة للاتحاد وقوله تعالى {يَتِيهُونَ فِى الارض} أي يتحيرون في البرية استئناف لبيان كيفية حِرْمانهم أو حالٌ من ضميرِ عليهم وقيل ظرف متعلق بيتهون فيكون التيه موقتا والتحريم مطلقاً قيل كانوا ستمائة ألف مقاتل وكان طول البرية تسعون فرسخاً وقد تاهوا في ستة فراسخَ أو تسعة فراسخَ في ثلاثين فرسخاً وقيل في ستة فراسخَ في اثنى عشرَ فرسخاً روي أنهم كانوا كلَّ يوم يسيرون جادّين حتى إذا أمسَوا إذا هم بحيث ارتحلوا وكان الغمامُ يُظلُّهم من حر الشمس ويطلُع بالليل عمودٌ من نور يضيء لهم ويَنزِلُ عليهم المن والسلوى ولا تطول شعورُهم وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوبٌ كالظُفُر يطول بطوله وهذه الإنعاماتُ عليهم مع أنهم معاقَبون لِما أن عقابهم كان بطريق العرك والتأديب قيل كان موسى وهارون معهم ولكن
سورة المائدة اية 27 كان ذالك لهما روحاوسلامه كالنار لاءابراهيم وملائكت العذاب عليهم السلام وروي أن هارون مات في النيه ومات موسى بعده بسنة ودخل يوشعُ أريحا بعد موته بثلاثة اشهرولا يساعده ظاهرُ النَّظمِ الكريمِ فإنَّه تعالى بعد ما قبل دعوته على بني اسراءيل وعذبهم بالتيه بعيدان ينجِّيَ بعضَ المدعوِّ عليهم اوذراريهم ويقدّر وفاتَهما في محل العقوبه ضاهرا وان كان ذالك لهما منزِلَ رَوْحٍ وراحةٍ وقد قيل إنهما لم يكونا معهم في التيه وهو الأنسب بتفسير الفرق با لمباعده ومن قال بأنهما كانا معهم فيه فقد فسر الفَرْقَ بما ذُكر من الحُكْمِ بما يستحقّه كلُّ فريق {فَلَا تَأْسَ} فلا تحزن {عَلَى القوم الفاسقين} روي أنه عليه السلام ندم على دعاءه عليهم فقيل لاتندم ولاتحزن فانهم احقاء بذالك لفسقهم
{واتل عَلَيْهِمْ} عطفٌ على مقدّر تعلق به قولُه تعالى وَإِذَا قَالَ موسى الخ وتعلُقه به من حيث إنه تمهيدٌ لما سيأتي من جنايات بنى اسراءيل بعد ماكتب عليهم ما كُتب وجاءتهم الرسلُ بما جاءت به من البينات {نَبَأَ ابْنَي آدَم} هما قابيلُ وهابيلُ ونُقل عن الحسن والضحاك أنهما رجلان من بني اسراءيل بقرينه اخر القسه وليس كذلك أوحى الله عز وجل إلى آدمَ أن يزوج كلاًّ منهما توأمةَ الآخر وكانت توأمةُ قابيلَ أجملَ واسمها اقليما فحسد عليها أخاه وسخِط وزعم ان ذالك ليس من عند الله تعالى بل من جهة آدمَ عليه السلام فقال لهما عليه السلام قرِّبا قُرباناً فمِنْ أيِّكما قُبل تزوّجها ففعلا فنزلت نارٌ على قُربانِ هابيلَ فأكلتْه ولم تتعرَّضْ لقُربانِ قابيلَ فازداد قابيل حسَداً وسُخْطاً وفعل ما فعل {بالحق} متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي تلاوه ملتبسه با لحق والصِّحة أو حالاً من فاعلِ اتْلُ أو من مفعولِه أي ملتبساً أنت او نبأَهما بالحق والصدقِ حسبما تقرّر في كتب الأولين {إِذْ قَرَّبَا قربانا} منصوب بالنبأ ظرفٌ له أي اتلُ قصتهما ونبأهما في ذالك الوقت وقيل بدلٌ منه على حذفِ المضافِ أي اتلُ عليهم نبأهما نبأَ ذلك الوقت ورُد عليه بان اذ لايضاف اليهما غير الزمان كوقتذ وحينذ والقُربان اسمٌ لما يُتقرَّب بهِ إلى الله تعالى من نسُكٍ أو صَدَقةٍ كا لحلوان اسمٌ لما يُحْلى أي يعطى وتوحيدُه لما أنه في الأصل مصدرٌ وقيل تقديره إذ قرّب كلٌّ منهما قرباناً {فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا} هو هابيلُ قيل كان هو صاحبَ ضَرْعٍ وقرب جَملاً سميناً فنزلت نارٌ فأكلتْه {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخر} هو قابيل قيل كان هو صاحبَ زرع وقرّب أردأَ ما عنده من القمح فلم تتعرضْ له النارُ أصلاً {قال} استناف مبني على سوال نشأ من سوق الكلام كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ من لم يُتقبَّلْ قُربانه فقيل قال لأخيه لِتضاعُفِ سَخَطِه وحسَدِه لما ظهر فضلُه عليه عند الله عز وجل {لَاقْتُلَنَّكَ} أي والله لأقتلنَّك بالنون المشددة وقرىء بالمخففة {قال} استناف كما قبله أي قال الذي تُقُبِّل قُربانُه لمّا رأى أن حسَدَه لقَبول قربانه وعدم قبول قربانه نفسِه {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله} أي القربانَ {مِنَ المتقين} لامن غيرهم وإنما تقبَّلَ قُرباني وردّ قُربانَك لما فينا من التقوى وعدمِه أي إنما أُتيتَ من قِبَل نفسك لا من
سوره المائدة ايه 28 سوره الماءده ايه 29 قِبَلي فلم تقتلني خلا أنه لم يصرِّحْ بذلك بل سلك مسلكَ التعريضِ حذراً من تهييج غضبه وحملاً له على التقوى والإقلاعِ عما نواه ولذلك أُسند الفعلُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابة ثم صرح بتقواه على وجهٍ يستدعي سكونَ غيظِه لو كان له عقلٌ وازعٌ حيث قال بطريق التوكيد
{لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ} حيث صدر الشرطيه باللام المؤ طه للقسم وقدم الجارَّ والمجرورَ على المفعول الصريح إيذانا من أول الأمر برجوعِ ضرر البسط وغاءلته إليه ولم يُجْعلْ جوابُ القسمِ السادُّ مسدَّ جوابِ الشرط جملةً فعليةً موافقة لما في الشرط بل اسميه مصدرت بما الحجازية المفيدةِ لتأكيدِ النفي بما في خبرها من الباء للمبالغة في إظهار براءتِه عن بسْطِ اليد ببيانِ استمراره على نفي البسط كما في قوله تعالى وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ وقوله وَمَا هُم بخارجين منها فاءن الجملةَ الاسميةَ الإيجابية كما تدل بمعونة المقام على دوامَ الثبوت كذلك السلبيةُ تدل بمعونته على دوام الانتفاءِ لا على انتفاء الدوام وذلك با عتبار الدوام والاستمرار بعد اعتبارِ النفى لاقبله حتى يردَ النفيُ على المقيّدِ بالدوام فيرفعَ قيدَه اى والله لءن باشرتَ قتلي حسبما أوعدتني به وتحقق ذلك منك ما أنا بفاعلٍ مثلَه لك في وقتٍ من الأوقاتِ ثم علل ذالك بقوله {إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} وفيه من إرشادِ قابيلَ إلى خشية الله تعالى على أبلغِ وجهٍ وآكدِه مالا يخفى كأنه قال إني أخافه تعالى إن بسطتُ يدِيَ إليك لأقتلك أن يعاقبَني وإن كان ذلك مني لدفع عداوتِك عني فما ظنُّك بحالك وأنت البادى العادي وفي وصفه تعالى بربوبية العالمين تأكيدٌ للخوف قيل كان هابيل اقوا منه ولكن تحرَّج عن قتله واستسلم خوفاً من الله تعالى لأن القتلَ للدفع لم يكن مباحا حينذ وقيل تحرِّياً لما هو الأفضلُ حسبما قال عليه السلام كن عبدَ الله المقتول ولا تكنْ عبدَ الله القاتل ويا باه التعليلُ بخوفه تعالى إلا أن يدعى أن تركَ الأَوْلى عنده بمنزلة المعصية في استتباع الغائلة مبالغةً في التنزه وقوله تعالى
{إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ} تعليل آخرُ لامتناعه عن المعارضة على أنه غرَضٌ متأخِّرٌ عنه كما أن الأولَ باعثٌ متقدِّمٌ عليه وإنما لم يُعطفْ عليه تنبيهاً على كفاية كل منها في العِلّية والمعنى إني أريد باستسلامي لك وامتناعي عن التعرّض لك أن ترجِعَ بإثمي أي بمثل إثمي لو بسطتُ يدي اليك وباثمك ببسط يدِك إِلى كَما في قولِه عليه السلام المُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى البادى مَا لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُوم اى على البادى عينُ إثمِ سبِّه ومثلُ سبِّ صاحبه بحكم كونه سَبَباً له وقيل معنى بإثمي إثمِ قتلي ومعنى باثمك الذي لأجله لم يُتقبَّلْ قربانك وكلا هما نُصب على الحالية أي ترجع ملتبساً بالإثمين حاملاً لهما ولعل مرادَه بالذات إنما هو عدمُ ملابستِه للاثم لاملابسة أخيه له وقيل المراد بالإثم عقوبتُه ولا ريب في جواز إرادة عقوبةِ العاصي ممن عَلِم أنه لا يرعوي عن المعصية أصلاً ويأباه قولُه تعالى {فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار} فإن كونَه منهم إنما يترتّب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلائِه بعقوبتهما وحملُ العقوبة على نوعٍ اخر يترتب عليها
سورة المائدة ايه 30 سورة الماءده ايه 31 العقوبةُ النارية يردّه قوله تعالى {وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين} فإنه صريحٌ في أن كونه من أصحاب النار تمامُ العقوبة وكمالُها والجُملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها ولقد سلك في صَرْفه عما نواه من الشر كلَّ مسلك من العظة والتذكير بالترغيب تارةً والترهيب أخرى فما أورثه ذلك إلا الإصرارَ على الغيِّ والانهماك في الفساد
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} أي وسَّعَتْه وسهّلته من طاعَ له المرتَعُ إذا اتسع وترتيبُ التطويع عَلى ما حُكي من مقالات هابيلَ مع تحققه قبلها أيضاً كما يُفصح عنهُ قولُه لَاقْتُلَنَّكَ لِما أن بقاءَ الفعل بعد تقرّر ما يُزيله من الدواعي القوية وإن كان استمرار عليه بحسَب الظاهر لكنه في الحيقيقة أمرٌ حادث وصُنع جديد كما في قولك وعظتُه فلم يتَّعظ أو لأن هذه المرتبةَ من التطويع لم تكن حاصلةً قبلَ ذلك بناءً على تردُّده في قُدرته على القتل لما أنه كان أقوى منه وإنما حصلت بعد وقوفه على استسلام هابيلَ وعدم معارضتِه له والتصريحُ بأُخوَّته لكمال تقبيحِ ما سوَّلته نفسُه وقرىء فطاوعت على أنه فاعَلَ بمعنى فعل أو على أن قتل اخيه كلانه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع وله لزيادة الربطِ كقولك حفظتُ لزيد مالَه {فَقَتَلَهُ} قيل لم يدر قابيلُ كيف يقتل هابيلَ فتمثل إبليسُ وأخذ طائراً ووضع رأسه على حجر ثم شدَخها بحجر آخرَ فتعلّم منه فرضخَ رأسَ هابيلَ بين حجرين وهو مستسلم لا يستعصي عليه وقيل اغتالَه وهو نائم وكان لهابيلَ يوم قُتل عشرون سنة واختلف في موضِع قتلِه فقيل عند عقبةِ حِراء وقيل بالبصرة في موضع المسجدِ الأعظم وقيل في جبل بود ولما قتله تركه بالعَراء لا يدري ما يصنع به فخاف عليه السباع فحمله في جِراب على ظهره أربعين يوماً وقيل سنة حتى أروح وعكفت عليه الطيور والسباع تنظر متى يرمي به فتأكلَه {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} ديناً ودنيا
{فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الارض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْأَةَ أَخِيهِ} رُوي أنَّه تعالى بعثَ غرابين فاقتتلى فقتل أحدهما الآخرَ فحفر له بمنقاره ورجليه حُفرة فألقاه فيها والمستكنُّ في يريه الله تعالى او للغراب والالام على الأول متعلقة ببعَثَ حتما وعلى الثاني يبحث ويجوز تعلُّقها ببعث أيضاً وكيف حال من ضمير يُواري والجملةُ ثاني مفعولي يري والمراد بسواة أخيه جسدُه الميْتُ {قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عند مشاهدةِ حال الغراب فقيل قال {يا ويلتى} هي كلمةُ جَزَعٍ وتحسّرٍ والالاف بدلٌ من ياء المتكلم والمعنى يا ويلتي احضرا فهذا أوانك والويلُ والويلةُ الهلَكة {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ} أي عن أن أكون {مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِى} تعجبٌ من عدم اهتدائِه إلى ما اهتدى إليه الغرابُ وقولُه تعالى فَأُوَارِيَ بالنصب عطفٌ على أن أكونَ وقرا بالرفع أي فأنا أواري {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} أي على قتله لِما كابد فيه من التحيّر في أمره وحملِه على رقبته مدةً طويلة روي أنه لما قتله اسودّ جسدُه وكان أبيضَ فسأله آدمُ عن اخيه فقال
سورة المائدة اية 32 ما كنت عليه وكيلاً قال بل قتله ولذلك اسود جسدُك ومكث آدمُ بعده مائةَ سنةٍ لا يضحك وقيل لما قتل قابيلُ هابيلَ هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليسُ فقال له إنما أكلت النارُ قربانَ هابيلَ لأنه كان يخدُمها ويعبُدها فإن عبدتَها أيضاً حصل مقصودُك فبنى بيتَ نارٍ فعبدها وهو أولُ مَنْ عبد النار
{مِنْ أَجْلِ ذلك} شروعٌ فيما هو المقصودُ من تلاوة النبأ من بيان بعض آخر من جنايات بني إسرائيل ومعاصيهم وذلك إشارةٌ إلى عِظم شأنِ القتلِ وإفراطِ قُبحِه المفهومَين مما ذكر في تضاعيف القِصّةِ مَن استعظام هابيلَ له وكمالِ اجتنابه عن مباشرته وإن كان ذلك بطريق الدفعِ عن نفسه واستسلامه لأن يُقتلَ خوفاً من عقابه وبيانِ استتباعِه لتحمل القاتلِ لإثم المقتول ولكون قابيلَ بمباشرته من جُملة الخاسرين دينَهم ودنياهم ومن ندامته على فعله مع ما فيه من العتوّ وشدة الشكيمةِ وقساوةِ القلب والأجْلُ في الأصل مصدر أجَل شراً إذا جناه استعمل في تعليل الجناياتِ كما في قولهم من جرّاك فعلتُه أي من أن جرَرْتَه وجنيتَه ثم اتُّسع فيه واستُعمل في كل تعليل وقرا من إِجْل بكسرِ الهمزةِ وهي لُغةٌ فيه وقرا مِنَ اجْل بحذف الهمزة والقاء فتحها على النون ومن لا ابتداء الغايةِ متعلقةٌ بقوله تعالى {كتبنا على بني إسرائيل} وتقديمُها عليه للقصر أي من ذلك ابتداءُ الكَتْب ومنه نشأ لا من شيء آخرَ أي قضينا عليهم وبيّنا {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً} واحدةً من النفوس {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي بغير قتلِ نفسٍ يوجب الاقتصاص {أَوْ فَسَادٍ فِى الارض} أي فساد يوجب إهدارَ دمِها وهو عطفٌ على ما أضيفَ إليهِ غير على معنى نفي كلا الامرين معاً كما في قولكَ من صلى بغير وضوء أو تيمُّمٍ بطلت صلاتُه لا نفيِ أحدِهما كما في قولك من صلى بغير وضوء أو ثوب بطلت صلاته ومذار الاستعمالين اعتبارُ ورودِ النفي على ما يُستفاد من كلمة أو من الترديد بين الامرين المنبا عن التخيير والإباحة واعتبارِ العكس ومناطُ الاعتبارين اختلافُ حالِ ما أضيف إليه غير من الأمرين بحسب اشتراط نقيض الحكم بتحقق أحدِهما واشتراطِه بتحققهما معاً ففي الأول يرد النفيُ على الترديد الواقعِ بين الامرين قبل ورود فيفيد نفيَهما معاً وفي الثاني يرد الترديدُ على النفي فيفيد نفيَ أحدهما حتماً إذ ليس قبل ورودِ النفيِ ترديدٌ حتى يُتصَوَّر عكسُه وتوضيحُه أن كلَّ حكمٍ شُرِطَ بتحقق أحدِ شيئين مثلاً فنقيضُه مشروطٌ بانتفائهما معاً وكلَّ حكمٍ شرُط بتحققهما معاً فنقيضُه مشروطٌ بانتفاء أحدِهما ضرورةَ النقيض كلِّ شيءٍ مشروطٌ بنقيض شرطِه ولا ريب في النقيض الإيجابِ الجزئي كما في الحكم الأول هو السلبُ الكليُّ ونقيضَ الإيجابِ الكليِّ كما في الحكم الثاني هو رفعُه المستلزِمُ للسلب الجزئي فثبت اشتراطُ نقيضِ الأولِ بانتفائهما معاً واشتراطُ نقيضِ الثاني بانتفاء أحدِهما ولمّا كان الحكمُ في قولك من صلى بوضوء أو تيممٍ صحت صلاتُه مشروطا بتحقق احدهما مهما كان نقيضا في قولك من صلى بغير وضوء او
المائدة آية 32
تيمم بطلتْ صلاتُه مشروطاً بنقيض الشرطِ المذكور البتةَ وهو انتفاؤهما معاً فتعين ورورد النفي المستفادِ من غير على الترديد الواقعِ بين الوضوء والتيمّمِ بكلمة أو فانتفى تحققُهما معاً ضرورةَ عمومِ النفي الواردِ على المبهم وعلى هذا يدور ما قالوا إنه إذا قيل جالس العلماءَ أو الزهار قم أُدخل عليه لا الناهية امتنع فعلُ الجميع نحو ولا تطع منهم آثما أكفورا إذ المعنى لا تفعلْ أحدَهما فأيُّهما فعله فهو أحدُهما وأما قولُك من صلى بوضوء أو ثوبٍ صحت ثلاته فحيث كان الحكمُ فيه مشروطاً بتحقق كِلا الأمرين وهو انتفاءُ أحدِهما فتعين ورودُ الترديد على النفي فأفاد نفيَ أحدِهما ولا يخفى أن إباحةَ القتلِ مشروطةٌ بأحد ما ذكر من القتل والفساد ومن ضرورته اشتراطُ حرمتِه بانتفائهما معاً فتعين ورودُ النفي على الترديد لا محالة كأنَّه قيل
مَنْ قتل نفساً بغير أحدِهما {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} فمن قال في تفسيره أو بغير فساد فقد أبعد عن توفية النظم الكريم حقَّه وما في كأنما كافةٌ مهيئةٌ لوقوع الفعلِ بعدها وجميعاً حالٌ من الناس أو تأكيد ومناطُ التشبيهِ اشتراكُ الفعلين في هتك حرمةِ الدماء والاستعصاء على الله تعالى وتجسيرِ الناس على القتل وفي
استتباع القَوَد واستجلابِ غضبِ الله تعالى وعذابِه العظيم {وَمَنْ أحياها} أي تسبب لبقاء نفس واحدةٍ موصوفةٍ بعدم ما ذُكر من القتل والفساد في الأرض إما بنهي قاتلها عن قتلها أو استنقاذِها من سائر أسبابِ الهلَكة بوجهٍ من الوجوه {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} وجهُ التشبيهِ ظاهرٌ والمقصود تهويل أمر التقل وتفخيمُ شأن الإحياءِ بتصوير كلَ منهما بصورة لائقة به في إيجاب الرهبةِ والرغبة لذلك صدر النظمُ الكريمُ بضمير الشأنِ المنبىء عن كمال شهرته ونابهته وتبادره إلى الأذهان عند ذكر الضمير الموجب لزيادة تقريرِ ما بعده في الذهن فإنَّ الضميرَ لا يُفهمُ منه من أولِ الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقُبه فيتمكن عند وروده فضلُ تمكن كأنه قيل إن الشأنَ الخطيرَ هذا {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رسلنا بالبينات} جملة مستقرة غيرُ معطوفةٍ على كتبنا أكدت بالتأكيد القسمي وحرفِ التحقيقِ لكمال العنايةِ بتحقق مضمونِها وإنما لم يُقَلْ ولقد أرسلنا إليهم الخ للتصريح بوصول الرسالةِ إليهم فإنه أدلُّ على تناهيهم في العتوّ والمكابرة أي وبالله لقد جاءتهم رسلنا حسبما أرسلناهم بالآيات الواضحةِ الناطقةِ بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيداً لوجوب مراعاتِه وتأييداً لتحتم المحافظةِ عليه {ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذلك} أي بعد ما ذكر من الكَتْب وتأكيدِ الأمر بإرسال تترى وتجديدِ العهدِ مرة أخرى ووضعُ اسمِ الإشارةِ موضع الضمير للإيذان بكمال تميّزِه وانتظامِه بسببِ ذلكَ في سلكِ الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعدِ للإيماء إلى علو درجتِه وبُعد منزلتِه في عظ الشأنِ وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ والاستبعاد {فِى الارض} متعلقٌ بقوله تعالى {لَمُسْرِفُونَ} وكذا الظرفُ المتقدم ولا يقدح فيه توسط اتللام بينه وبينهما لأنها لامُ الابتداءِ وحقُّها الدخولُ على المبتدأ وإنما دخولُها على الخبر لمكان إنّ فهي في حيزها الأصلي حكما والإسرافُ في كل أمر التباعدُ عن حد الاعتدالِ مع عدم مبالاة به أي مسرفون في القتل غيرُ مبالين به ولما كان إسرافُهم في أمر القتلِ مستلزِماً لتفريطهم في شأن الإحياء وذكراً وكان هو أقبحَ الأمرين وأفظعَهما اكتفي بذكره في مقام التشفيع
{إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان حكمِ نوع من أنواع القتلِ وما يتعلق به من الفساد بأخذ المالِ ونظائرِه وتعيينِ موجبِه العاجلِ والآجلِ إثرَ بيان أعظم شأن القتلِ بغير حق وأُدرج فيه بيانُ ما أشير إليه إجمالاً من الفساد المبيحِ للقتل قيل أي يحاربون رسولَه وذكرُ الله تعالى للتمهيد والتنبيه على ما رفعه عنده عز وجل ومحاربةُ أهلِ شريعتِه وسالكي طريقتِه من المسلمين محاربةٌ له صلى الله عليه وسلم فيعم الحكمُ من يحاربهم ولو بعد أعصارٍ بطريق العبارة دون الدِلالةِ والقياس لأن ورود النصِّ ليس بطريق خكاب المشافهةِ حتى يختصَّ حكمُه بامكلفين عند النزول فيُحتاجَ في تعميمه لغيرهم إلى دليل آخرَ وقيل جعلُ محاربة المسلمين محاربةً لله تعالى ورسولِه تعظيماً لهم والمعنى يحاربون أولياءَهما وأصل الحربِ السلب والمراد هههنا قطعُ الطريق وقيل المكابرة بطريق اللصوصية وإن كانت في مِصْرٍ {وَيَسْعَوْنَ فِى الارض} عطف على يحاربون والجار المجرور متعلقٌ به وقولُه تعالى {فَسَاداً} إما مصدرٌ وقعَ موقعَ الحالِ من فاعلِ يسعون أي مفسدون أو مفعول له أي للفساد أو مصدر مؤكد ليسعون لأنه في معنى مفسدون على أنه مصدرٌ من أفسد بحذف الزوائد أو اسمُ مصدر قيلَ نزلتِ الآيةُ في قوم هلال بنِ عويمرٍ الأسلمي وكان وادعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يُعينُه ولا يُعينُ عليه ومن أتاه من المسلمين فهو آمن لا يُهاج ومن مر بهلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج فمر قومٌ من بني كنانةَ يريدون الإسلام بناس من قوم هلالٍ ولم يكن هلال يومئذ شاهداً فقطعوا عليهم وقتلوهم وأخذوا أموالهم وقيل نزلت في العُرَنيين وقصتُهم مشهورة وقيل في قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ فنقضوا العهدَ وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض ولما كانت المحاربةُ والفسادُ على مراتبَ متفاوتةٍ ووجوه شتى من القتل بدون أخذ المال ومن التق مع أخذه وأخذِه بدون القتل ومن الإخافة بدون قتلٍ وأخذ شُرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبةٌ معينة بطريق التوزيعِ فقيل {أَن يُقَتَّلُواْ} أي حداً من غير صلبٍ إن أفرد القتلَ ولو عفا الأولياءُ لا يلتفت إلى ذلك لأنه حقُّ الشرعِ ولا فرقَ بين أنْ يكون القتلُ بآلة جارحةٍ أو لا {أَوْ يُصَلَّبُواْ} أي مع القتل إن جمعوا بين القتلِ والأخذِ بأن يصلّبوا أحياءً وتُبعَجَ بطونُهم برمح إلى أن يموتوا وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك وإن شاء قطع أيديَهم وأرجلَهم من خلاف وقتلهم وصلبهم وصيغةُ التفعيل في الفعلَين للتكثير إن اقتصروا على أخذ المالِ من مسلم أو ذمي وكان المقدر بحيث لو قسم عليهم أصاب كلاًّ منهم عشرةُ دراهمَ أو ما يساويها قيمتُه أما قطعُ أيديهم فلأخذ المالِ وأما قطعُ أرجلهم فلإخافة الطريقِ بتفويت أمْنِه {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الارض} إن لم يفعلوا غيرَ الإخافةِ والسعي للفساد والمرادُ بالنفي عندنا هو الحبس
المائدة آية 34 35
فإنه نفيٌ عن وجه الأرضِ لدفع شرِّهم عن أهلها ويُعزّرون أيضاً لمباشرتهم منكر الإخافة وإزالة الأمن وعند الشافعي رضي الله عنه النفي من بلدٍ إلى بلدٍ لا يزال يُطلب وهو هاربٌ فزعاً وقيل هو النفي عن بلده فقط وكانوا ينفونهم إلى دَهْلَك وهو بلد في أقصى تِهامة وناصع وهو بلد من بلاد الحبشة {ذلك} أي من فضل من الأحكام والأجزية قيل هو مبتدأٌ وقوله تعالى {لَهُمْ خِزْىٌ} جملةٌ من خبرٍ مقدمٍ على المبتدأ وقوله تعالى {فى الدنيا} متعلق بمحذوب وقع صفةً لخزيٌ أو متعلق بخزيٌ على الظرفية والجملةُ في محل الرفع الرفعِ على أنها خبرٌ لذلك وقيل خزيٌ خبرٌ لذلك ولهم متعلق بمحذوب وقع حالاً من خزي لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له فلما قدم انتصب حالاً وفي الدنيا إما صفة لخزي أو متعلق به على ما مر والخزيُ الذلُّ والفضيحة {وَلَهُمْ فِى الآخرةِ} غيرُ هذا {عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يقادَرُ قدرُه لغاية عِظمِ جنايتِهم فقوله تعالى لَهُمْ خبرٌ مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وفي الآخرة متعلقٌ بمحذوف وفع حالاً من عذاب لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له فلما قدم انتصب حالا أي كائناً في الآخرة
{إِلَاّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} استثناءٌ مخصوصٌ بما هو من حقوق الله عز وجل كما ينبىء عنه قوله تعالى {فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أما ما هو من حقوق الأولياءِ من القصاص ونحوِه فإليهم ذلك إن شاءوا عفَوْا وإن أحبوا استوفَوْا وإنما يسقطُ بالتوبة وجوبُ استيفائِه لا جوازُه وعَنْ عليَ رضي الله عنه أن الحرثَ بن بدر جاءه تائباً بعد ما كان يقطع الطريقَ فقبِلَ توبته ودرأ عنه العقوبة
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اتقوا الله} لما ذُكِرَ عِظَمُ شأنِ القتلِ والفساد وبيَّن حُكمَهما وأُشير في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب من جنايته أُمِرَ المؤمنون بأن يتقوه تعالى في كلِّ ما يأتُون وما يذرون بترك ما يجب بقاؤه من المعاصي التي من جملتها ما ذكر من القتل والفساد وبفعل الطاعات التي من زُمرتها السعيُ في إحياء النفوس ودفعِ الفساد والمسارعة إلى التوبة والاستغفار {وابتغوا} أي اطلُبوا لأنفسكم {إِلَيْهِ} أي إلى ثوابه والزلفى منه {الوسيلة} هي فعيلةٌ بمعنى ما يُتوسّل به ويُتقرَّب إلى الله تعالى من فعل الطاعات وتركِ المعاصي من وسَّل إلى كذا أي تقرب إليه بشيء وإليه متعلقٌ بها قُدّم عليها للاهتمام به وليست بمصدرٍ حتى لا تعملَ فيما قبلها ولعل المراد بها الاتقاءُ المأمورُ به فإنه مَلاكُ الأمر كلِّه كما أشير إليه وذريعةٌ لنيل كلِّ خير ومنجاةٌ من كل ضَيْر فالجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيانِ والتأكيد أو مطلقُ الوسيلة وهو داخل فيها دخولاً أولياً وقيل الجملةُ الأولى أمرٌ بترك المعاصي والثانية أمرٌ بفعل الطاعات وحيث كان في كلَ من ترك المعاصي المشتهاةِ للنفي وفعلِ الطاعات المكروهة لها كُلفة ومشقة عقّب الأمرَ بهما بقوله تعالى {وجاهدوا فِى سَبِيلِهِ} بمحاربة أعدائِه البارزةِ والكامنة {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بنيلِ مرضاتِه والفوزِ بكراماته
المائدة آية 36
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأوامر السابقة وترغيبِ المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز وجل قبل انقضاءِ أوانِه ببيان استحالةِ توسُّلِ الكفار يومَ القيامة بأقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلاً عن نيلِ الثواب {لَوْ أَنَّ لَهُمْ} أي لكل واحد منهم كما في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ الخ لا لجميعهم إذ ليس في ذلك هذه المرتبةُ من تهويل الأمر وتفظيع الحال {مَّا فِى الأرض} أي من أصناف أموالِها وذخائها وسائرِ منافعِها قاطبةً وهو اسمُ أن ولهم خبرُها ومحلُّها الرفعُ بلا خلاف خلا أنه عند سيبويه رفعٌ على الابتداء ولا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتِها على المُسنَدِ والمُسنَد إليه وقد اختصَّتْ منْ بينِ سائرِ ما يُؤوّل بالاسم بالوقوع بعد لو ولو قيل الخبرُ محذوفٌ ثم قيل يُقدّر مقدّماً أي لو ثابتٌ كونُ ما في الأرض لهم وقيل بقدر مؤخراً أي لو كونُ ما في الأرض لهم ثابتٌ وعند المبرِّد والزجّاج والكوفيين رُفعَ على الفاعلية والفعلُ مقدرٌ بعد لو أي لو ثبَتَ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الارض وقولُه تعالى {جَمِيعاً} توكيد للوصول أو حال منه {وَمِثْلَهُ} بالنصب عطفٌ عليه وقوله تعالى {مَعَهُ} ظرفٌ وقع حالاً من المعطوفِ والضميرُ راجعٌ إلى الموصول وفائدتُه التصريحُ بفرض كينونَتِهما لهم بطريق المعيّة لا بطريق التعاقُب تحقيقاً لكمال فظاعةِ الأمر مع ما فيه من نوع إشعارٍ بكونهما شيئاً واحداً وتمهيداً لإفراد الضمير الراجع إليهم واللام في قوله تعالى {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} متعلقةٌ بما تعلق به خبرُ أن أعني الاستقرارَ المقدَّرَ في لهم وبالخبر المقدّر عند من يرى تقديرَ الخبرِ مقدماً أو مؤخراً وبالفعل المقدّر بعد لو على رأي المبرد ومن نحاه ولا ريب في أن مدارَ الافتداءِ بما ذُكر هو كونُه لهم لا ثبوت لهم وإن كان مستلزِماً له والباء في به متعلقةٌ بالافتداء والضميرُ راجعٌ إلى الموصول ومثله معاً وتوحيدُه إما لما أشير إليه وإما لإجرائه مُجرى اسمِ الإشارة كأنه قيل بذلك كما في قوله كأنه في الجلد توقيع البَهَق أي كأن ذلك وقيل وهو راجعٌ إلى الموصول والعائدُ إلى المعطوف أعني مثله محذوفٌ كما حُذف الخبرُ من قيارٌ في قوله فإني وقيارٌ بها لغريبُ أي وقيار أيضاً غريبُ وقد جوز أن يكون نصب ومثله على أنَّه مفعولٌ معه ناصِبُه الفعلُ المقدر بعد لو تفريعاً على مذهب المبرد ومن رأى رأيَه وأنت خبير بأن يؤدِّي إلى كونِ الرافعِ للفاعل غيرَ الناصب للمفعول معه لأن المعنى على اعتبار المعية ما في الأرض ومثله في الكينونة لهم لا ثبوت تلك الكينونة وتحقيقها ولا مَساغَ لجعل ناصبِه الاستقرار المقدر في لهم لِما أن سيبويهِ قد نص على غسم الإشارةِ وحرفَ الجر المتضمِّنَ للاستقرار لا يعمَلانِ في المفعول معه وأن قوله هذا لك وأباك قبيحٌ وإن جوزه بعضُ النحاة في الظرف وحرف الجر وقولُه تعالى {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامةِ} متعلقٌ بالافتداء أيضاً أي لو أَنَّ مَّا فِى الأرض ومثله ثابتٌ لهم ليجعلوه فديةً لأنفسِهم من العذاب الواقعِ يومئذ {مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ} ذلك وهو جواب لو وترتيبُه على كون ذلك لهم لأجل افتدائِهم به من غير
المائدة آية 37 38
ذكرِ الافتداءِ بأن يقال وافتدَوْا به مع أن الردَّ والقَبولَ إنما يترتب عليه لا على مباديه للإيذانِ بأنه أمرٌ محقَّقُ الوقوع غنيٌّ عن الذكر وإنما المحتاجُ إلى الفَرْض قدرتُهم على ما ذُكر او للمبالغة في تحقق الردِّ وتخييلِ أنه وقع قبل الافتداءِ على منهاج ما في قوله تعالى أنا آتيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُك فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه حيث لم يقل فأتى به فرآه فلما الخ وما في قوله تعالى وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ من غير ذكر خروجِه عليه السلام عليهن ورأيتهن له والجملة الامتناعية بحالها خبرُ إن الذين كفروا والمرادُ تمثيلُ لزوم العذاب لهم واستحالةُ نجاتِهم منه بوجهٍ من الوجوهِ المحققةِ والمفروضة وعن النبي عليه الصلاة والسلام يقالُ للكافر أرأيت لو كان لك ملءُ الأرض ذهباً أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد سُئلتَ أيسرَ من ذلك وهو كلمة السهادة وقوله تعالى {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تصريحٌ بما أشير إليه بعدم قَبول فِديتِهم لزيادة تقريرِه وبيانِ هَوْلِه وشدّتِه قيل محلُّه النَّصبُ على الحاليَّةِ وقيل الرفعُ عطفاً على خبر إِن وقيل عطفٌ على إن الذين فلا محلَّ له كالمعطوف عليه
{يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار} استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ حالِهم في أثناء مكابدة العذاب مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ مما قبله كأنه قيل فكيف يكون حالُهم أو ماذا يصنعون فقيل يريدون الخ وقد بين تضاعيفه أن عذابهم عذاب النار قيل إنهم يقصدون ذلك ويطلبون المخرَج فيلفَحُهم لهم النار ويرفعُهم إلى فوق فهناك يريدون الخروج ولاتَ حين مناصٍ وقيل يكادون يخردون منها لقوة النار وزيادةِ رفعِها إياهم وقيل يتمنّونه ويريدون بقلوبهم وقولُه عز وجل {وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} إما حالٌ من فاعل يريدون أو اعتراض وأياما كان فإيثارُ الجملة الاسمية على الفعلية مصدّرةً بما الحجازية الدالة بما في خبرها من البناء على تأكيد النفي لبيان كمالِ سوءِ حالهم باستمرار عدم خروجبهم منها فإن الجملةَ الاسميةَ الإيجابية كما تفيدُ بمعونة المقام دوامَ الثبوت تفيد السلبية ايضا بمعونته دوامِ النفي لا نفْيِ الدوام كما مر في قوله تعالى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ الخ وقرىء أن يُخرَجوا على بناء المفعول من الإخراج {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} تصريح بما أشير إليه آنفاً من عدم تناهي مدتِه بعد بيان شدتِه
{والسارق والسارقة} شروعٌ في بيان حكم الشرقة الصُّغرى بعد بيان أحكام الكبرى وقد عرفت اقتضاءَ الحال لإيراد مكا توسّط بينهما من المقال ولمّا كانت السرقة معهودةً من النساء كالرجال صرح بأن السارقة أيضاً مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراجُ النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريق الدلالة لمزيد الاعتناءِ بالبيان والمبالغةِ في الزجْر وهو مبتدأ خبرُه عند سيبويه محذوفٌ تقديرُه وفيما يتلى عليكم أو وفيما فُرِضَ عليكم السارقُ والسارقةُ أي حكمُهما وعند المبرِّد قوله تعالى {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرط إذ المعنى الذي سرق والتي سرقة وقُرىء بالنصب وفضَّلها سيبويه على قراءة الرفع لأن الإنشاء لا يقع خبراً إلا بتأويلٍ وإضمار والسرقةُ أخذُ مال الغير خُفْيةً وإنما توجب القطعَ إذا كان الأخذ من حِرزٍ
المائدة آية 39 40
والمأخوذُ يساوي عشرةَ دراهِمَ فما فوقها مع شروط فُصِّلت في موقعها والمراد بأيديَهما أيمانُهما كما يُفصحُ عنه قراءةُ ابن مسعود رضي الله عنه والسارقون والسارقاتُ فاقطعوا أيمانهم ولذلك ساغ وضعُ الجمْع موضعَ المثنى كما في قوله تعالى فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا اكتفاءً بتثنية المضاف إليه واليد اسمٌ لتمام الجارحة ولذلك ذهب الخوارجُ إلى أن المقطَعَ هو المنكب والجمهورُ على أنه الرُّسُغ لأنه عليه الصلاة والسلام أُتيَ بسارقٍ فأمر بقطع يمينِه منه {جَزَاء} نُصبَ على أنَّه مفعولٌ له أي فاقطعوا للجزاء أو مصدرٌ مؤكِّد لفعله الذي يدل عليه فاقطعوا أي فجازوهما جزاء وقوله تعالى {بِمَا كَسَبَا} على الأول متعلّقٌ بجزاء وعلى الثاني باقطعوا وما مصدريةٌ أي بسبب كسْبِهما أو موصولةٌ أي ما كسباه من السرقة التي تباشَر بالأيدي وقوله تعالى {نكالا} مفعولٌ له أيضاً على البدلية من جزاء لأنهما من نواع واحد وقيل القطعُ معلَّلٌ بالنكال وقيل وهو منصوبٌ بجزاءً على طريقة الأحوال المتداخِلَة فإنه علةٌ للجزاء والجزاءُ علةٌ للقطع كما إذا قلتَ ضربتُه تأديباً له إحساناً إليه فإن الضربَ معلَّلٌ بالتأديب والتأديبُ معللٌ بالإحسان وقد أجازوا في قولِه عز وجل أن يكفر بِمَا أنزَلَ الله بَغْيًا أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أن يكون بغياً مفعولاً له ناصبُه أن يكفروا ثم قالوا إن قوله تعالى إن يُنَزّلُ الله مفعولٌ له ناصبُه بغياً على أن التنزيلَ عَلةٌ للبغي والبغْيَ علةٌ للكفر وقولُه تعالى {مِنَ الله} متعلق بمحذوف وقع صفة لنكالا أي نكالا كائناً منه تعالى {والله عَزِيزٌ} غالبٌ على أمره يُمضيه كيف يشاءُ من غير نِدَ ينازعُه ولا ضدَ يمانعُه {حَكِيمٌ} في شرائعه لا يَحكُم إلا ما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحة ولذلك شرَعَ هذه الشرائعَ المنطويةَ على فنون الحِكَمِ والمصالح
{فَمَن تَابَ} أي من السرق إلى الله تعالى {من بَعْدِ ظُلْمِهِ} الذي هو صرقته والتصريحُ به مع أن التوبةَ لا تُتصوَّرُ قبلَه لبيان عِظَم نعمتِه تعالى بتذكير عِظمِ جنايتِه {وَأَصْلَحَ} أي أمره بالتقصِّي عن تبعات ما باشرَه والعزمِ على ترك المعاودةِ إليها {فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ} أي يقبل توبتَه فلا يعذّبه في الآخرة وأما القطعُ فلا تُسقطُه التوبةُ عندنا لأن فيه حقَّ المسروقِ منه وتُسقطُه عند الشافعيِّ في أحد قوليه {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} مبالغ غفي المغفرة والرحمة ولذلك يَقبلُ توبتَه وهو تعليلٌ لما قبله وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعارِ بعِلَّة الحُكْم وتأييدِ استقلالِ الجملة وكذا في قولِه عزَّ وجلَّ
{ألم تعلمَ إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} فإن عنون الألوهية مدار أحكام ملكوتهما والجار والمجرور خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأٌ والجملةُ خبرٌ لإن وهي مع ما غفي حيِّزِها سادّةٌ مَسدَّ مفعوليْ تعلم عند الجمهور وما فيه من تكرير الإسناد لتقويةِ الحُكْم والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين وقيل لكل أحدٍ صالحٍ للخطاب والاستفهامُ الإنكاريُّ لتقرير العلم والمرادُ به الاستشهادُ بذلك على قدرته تعالى
المائدة آية 41
على ما سيأتي من التعذيب والمغفرةِ على أبلغ وجهٍ وأتمِّه أي ألم تعلمَ أَنَّ الله له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرُّفِ الكليِّ فيهَما وفيمَا فيهما إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة إلى غير ذلك حسْبما تقتضيهِ مشيئتُه {يُعَذّبُ مَن يَشَآء} أنْ يعذَبهُ {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أنْ يغفرَ له من غير نِدَ يساهمُه ولا ضدَ يزاحمُه وتقديمُ التعذيبِ على المغفرة لمراعات ما بين سببيهما من الترتيب والجملة إما تقريرٌ لكون ملكوتِ السموات والأرضِ له سبحانه أو خبرٌ لأن {والله على كُلّ شىء قدير} فيقدر على ما ذكر من التعذيب والغفرة والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لما مرَّ مراراً والجملة تدييل مقررلما قبلها
{يا أيها الرسول لَا يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِى الكفر} خُوطب عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالةِ للتشريفِ والإشعارِ بما يوجب عدمَ الحزن والمسارعةُ في الشيء الوقوعُ فيه بسرعة ورَغبةً وإيثارُ كلمةُ في على كلمة إلى الواقعة في قوله تعالى وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن ربكم وجنة غلخ للإيماء إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرَحونه وإنما ينتقِلون بالمسارعة عن بعض فنونِه وأحكامِه إلى بعضٍ آخرَ منها كإظهارِ موالاةِ المشركين وإبرازِ آثارِ الكيدِ للإسلام ونحوِ ذلك كما في قولِه تعالى أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيرات فإنهم مستمروه على الخير مسارعون في أنواعِه وأفرادِه والتعبيرُ عنهم بالموصول للإشارة بما في حيِّز صلتِه إلى مدار الحزن وهذا وإن كان بحسب الظاهرِ نهياً للكَفَرة عن أن يحزنوه عليه الصلاة والسلام بمسارعتهم في الكفر لكنه في الحقيقة نهيٌ له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك والمبالاةِ بهم على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن النهي عن أسباب الشيءِ ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني وقلعٌ له من أصله وقد يوجَّه النهيُ إلى المسبب ويزاد به النهيُ عن السَّببِ كما في قوله لا أرينك ههنا يريد نهْيَ مخاطَبه عن الحضورِ بين يديه وقرىء لا يُحزِنْك من أحزنه منقولاً من حزِن بكسر الزاء وقرىء يُسرعون يقال أسرع فيه الشيبُ أي وقع فيه سريعاً أي لا تحزَنْ ولا تُبالِ بتهافتهم في الكفر بسرعة وقوله تعالى {مّنَ الذين قالوا آمنا بأفواههم} بيان للمسارعين في الكفر وقيل متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل يسارعون وقيل من الموصول أي كائنين من الذين الخ والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا وقوله تعالى {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} جملةٌ حالية من ضمير قالوا وقيل عطف على قالوا وقوله تعالى {وَمِنَ الذين هِادُواْ} عطف على من الذين قالوا الخ وبه يتم بيانُ المسارعين في الكفر بتقسيمهم إلى قسمين المنافقين واليهود فقوله تعالى {سماعون للكذب} خبر لمبنتدأ محذوفٍ راجعٍ إلى الفريقين أو إلى المسارعين وأما رجوعُه إلى الذين هادوا فمخل بعموم
المائدة آية 41
الوعيد الآتي ومباديه للكل كما ستقف عليه وكذا جُعل قولُه وَمِنَ الذين الخ خبراً على أن قولَه سماعون صفةٌ لمبتدأ محذوف أي ومنهم قومٌ سماعون الخ لأدائه إلى اختصاص ما عُدِّد من القبائح وما يترتبُ عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم فالوجهُ ما ذُكِرَ أولاً أي هم سماعون واللامُ إما لتقوية العمل وإما لتضمين السماعِ معنى القبول وإما لامُ كي والمفعولُ محذوف والمعنى هم مبالغون في سماع الكذب أو في قَبول ما يفتريه أحبارهمن من الكذب على الله سبحانه وتحريفِ كتابه أو سماعون أخبارَكم وأحاديثَكم ليكذبوا عليكم بأن يمسَخوها بالزيادة والنقص والتبديل والتغيير أو أخبارَ الناس وأقاويلَهم الدائرة فيما بينهم ليكذبوا فيها بأن يرجفوا بقتل المؤمنين وانكسارِ سراياهم ونحو ذلك مما يُضَرُّ بهم وأيَّا ما كان فالجملةُ مستأنفةٌ جارية مَجرى التعليل للنهي فإن كونهم سماعين للكذب على الوجوه المذكورة وابتناءَ أمورهم على ما لا أصلَ له من الأباطيل والأراجيف مما يقتضي عدمَ المبالاة بهم وتركَ الاعتداد بما يأتون وما للقطع بظهور بطلان أكاذيبهم واختلالِ ما بَنَوْا عليها من الأفاعيل الفاسدة المؤدِّية إلى الخزيِ والعذاب كما سيأتي وقرىء سمّاعين للكذب بالنصب على الذم وقوله تعالى {سماعون لِقَوْمٍ آخَرِين} خبرٌ ثانٍ للمبتدأ المقدرِ مقرِّرٌ للأول ومبينٌ لما هو المراد بالكذب على الوجهين الأولين واللام مثلُ ما في سمع الله لمن حمِده في الرجوع إلى معنى من أي قبِلَ منه حَمْدَه والمعنى مبالِغون في قبول كلام قومٍ آخرين وأما كونُها لامَ التعليل بمعنى سماعون منه عليه الصلاة والسلام لأجل قومٍ آخرين وجَّهوهم عُيوناً ليُبلِّغوهم ما سمعُوا منه عليه الصلاة والسلام أو كونُها متعلقةً بالكذب على أن سماعون الثانيَ مكررٌ للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقومٍ آخرين فلا يكاد يساعدُهُ النظمُ الكريمُ أصلاً وقوله تعالى {لَمْ يَأْتُوكَ} صفة أخرى لقوم أي لم يُحضروا مجلسك وتجافَوْا عنك تكبراً وإفراطاً في البغضاء قيل هم يهودُ خيبر والسماعون بنو قُريظة وقوله تعالى {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} صفةٌ أخرى لقوم وصِفوا أولاً بمغايَرَتِهم للسماعين تنبيهاً على استقلالهم وأصالتهم وأصالتهم في الرأي والتدبير ثم بعدم حضورِهم مجلسَ الرسولِ عليه الصلاة والسلام إيذاناً بكمال طغيانهم في الضلال ثم باستمرارهم على التحريف بياناً لإفراطهم في العتوِّ والمكابرةِ والاجتراء على الافتراءِ على الله تعالى وتعييناً للكذب الذي سمعه السماعون أي يُميلونه ويُزيلونه عن مواضعه بعد أن وضعه الله تعالى فيها إما لفظاً بإهمالِه أو تغييرِ وضعه وإما معنى بحَمْلِه على غير المراد وإجرائِه في غير موردِه وقيل الجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب ناعيةٌ عليهم شنائعَهم وقيل خبرُ مبتدأ محذوفٍ راجع إلى القوم وقوله تعالى {يَقُولُونَ} كالجملة السابقة في الوجوه المذكورة ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً من ضمير يحرفون وأما تجويزُ كونها صفةً لسماعون أو حالاً من الضمير فيه فما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وإن مقولَ القول ناطقٌ بأن قائلَه ممن لا يحضرُ مجلسَ الرسول صلى الله عليه وسلم والمخاطَب به ممن يحضُره فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون إليه صلى الله عليه وسلم لمن لا يحومُ حوله قطعاً وادعاءُ قولِ السماعين لأعقابهم المخالِطين للمسلمين تعسّفٌ ظاهرٌ مُخلٌّ بجزالة النظم الكريم والحقُّ الذي لا محيدَ عنه أن المحرِّفين والقائلين هم القومُ الآخرون أي يقولون لأتباعهم السماعين لهم عند إلقائهم إليهم أقاويلَهم الباطلةَ مشيرين إلى كلامهم الباطل {إِنْ أُوتِيتُمْ} من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم {هذا فَخُذُوهُ} واعملوا بموجَبه فإنه الحق {وَإِن لَّمْ تؤتوه} بل أوتيتم
المائدة آية 41
غيرَه {فاحذروا} أي فاحذروا قبوله وإياكم وإياه في ترتيب الأمر بالحذَر على مجردِ عدمِ إيتاء المحرَّف من المبالغة في التحذير ما لا يخَفْى رُوي أن شريفاً من خَيْبرَ زنى بشريفةٍ وهما مُحصَنان وحدُّهما الرجمُ في التوراة فكرِهوا رجمَهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقالوا إن أمرَكم بالجلد والتحميم فاقبَلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا وأرسلوا الزانيَيْن معهم فأمرهم بالرَّجْم فأَبوْا أن يأخُذوا به فقال جبريلُ عليه السلام اجعل بينك وبينهم ابنَ صوريا ووصفه له فقال صلى الله عليه وسلم هل تعرفون شاباً أبيضَ أعورَ يسكن فَدَك يقال له ابن صوريا قالوا نعم وهو أعلمُ يهوديَ على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى بنِ عِمرانَ في التوراة قال فأرسولا إليه ففعلوا فأتاهم فقال له النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنت ابن صوريا قال نعم قال صلى الله عليه وسلم وأنت أعلم اليهود قال كذلك يزعُمون قال لهم أترضَوْن به حكماً قالوا نعم فَقَالَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنشُدك الله الذى لَا إله إلا هو الذي فلق البحرَ وأنجاكم وأغرق آلَ فرعون وظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المنّ والسلوى ورفعَ فوقكم الطورَ وأنزل عليكم التوراةَ فيها حلالُه وحرامُه هل تجدون في كتابكم الرجْمَ على من أُحصِن قال نعم والذي ذكرتني به لولا خشيت أن يحرقني التوراةُ إن كذبتُ أو غيَّرتُ ما اعترفت لك ولكن كيف هي في كتابك يا محمد قال صلى الله عليه وسلم إذا شهد أربعةُ رهطٍ عدول أن أَدخَل فيها كما يُدخَلُ الميلُ في المُكحُلة وجب عليه الرجم قال ابن صوريا والذي أنزل التوراةَ على موسى هكذا أنزل الله في التوراة على موسى فوثب عليه سَفَلةُ اليهود فقال خفتُ إن كذَبتُه أن ينزِل علينا العذاب ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياءَ كان يعرِفها من أعلامه فقالَ أشهدُ أَن لَاّ إله إِلَاّ الله وأنك رسول اله النبيُّ الأمي العربي الذي بشر به المرسلون وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرُجما عند باب المسجد {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} أي ضلالته أو فضيحته كائناً من كان فيندرج فيه المذكورون اندراجاً أولياً وعدمُ التصريح بكونهم كذلك للإشعار بكمال ظهورِه واستغنائه عن ذكره {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ} فلن تستطيع له {مِنَ الله شَيْئاً} في دفعها والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها ومبينةٌ لعدم انفكاكِهم عن القبائح المذكورة أبداً {أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين من المنافقين واليهود وما في اسْم الإشارةِ من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ} أي من رجْسِ الكفر وخَبَثِ الضلالة لأنهِماكِهم فيهما وإصرارِهم عليهما وإعراضِهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية بالكلية كما ينبىء عنه وصفُهم بالمسارعة في الكفر أولاً وشرحُ فنون ضلالاتهم آخراً والجملة استئنافٌ مبينٌ لكون إرادتِه تعالى لفتنتِهم مَنوطةً بسوء اختيارِهم وقُبح صنيعِهم الموجبِ لها لا واقعةً منه تعالى ابتداءً {لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ} أما المنافقون فخزيُهم فضيحتُهم وهتكُ سِترتِهم بظهور نفاقِهم فيما بين المسلمين وأما خزيُ اليهود فالذلُ والجزيةُ والافتضاحُ بظهور كَذِبهم في كِتمان نصِّ التوراة وتنكيرُ خزيٌ للتفخيم وهو مبتدأ ولهم خبرُه وفي الدنيا متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ من الاستقرار وكذا الحالُ في قولِه تعالى {وَلَهُمْ فِى الاخرة} أي من الخزي الدنيوي {عذاب أليم} هو الخلودُ في النار وضميرُ لهم في الجملتين للمنافقين واليهود جميعاً لا اليهة ود خاصة كما قيل وتكريرُ لهم مع اتحاد المرجِع لزيادة التقرير والتأكيد والجملتنان استئناف مبني على سؤال نشأ من تفصيل أفعالِهم وأحوالهم الموجبةِ للعقاب كأنه قيل فما لهم من العقوبة فقيل لهم في الدنيا الآية
المائدة آية 42
{سماعون لِلْكَذِبِ} خبرٌ آخرُ للمبتدأ المقدّر كُرِّر تأكيداً لما قبله وتهيدا لما بعده من قوله تعالى {أكالون لِلسُّحْتِ} وهو أيضاً خبرٌ آخرُ للمقدَّر واردٌ على طريقة الذم أو بناء على أنَّ المراد بالكذِب ما يفتعله الراشون عند الأكّالين والسُحْت بضم السين وسكون الحاء في الأصل كل ما لا يحِلُّ كسبُه وقيل هو الحرام مطلقاً من سَحَتَه إذا استأصله سمي به لأنه مسحوتُ البركة والمراد به ههنا إما الرِّشا التي كان يأخذها المحرِّفون على تحريفهم وسائرِ أحكامِهم الزائغة وهو المشهور أو ما كان يأخذه فقراؤهم من أغنيائهم من المال ليُقيموا على اليهودية كما قيل وإما مطلقُ الحرام المنتظِمِ لَما ذُكر انتظاماً أولياً وقرىء للسُحُت بضم السين والحاء ووبفتحهما وبفتح السين وسكون الحاء وبكسر السين وسكون الحاء وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم كلُّ لحمٍ أنبتَه السُّحْتُ فالنار أولى به {فَإِن جاؤوك} لما بيَّن تفاصيلَ أمورِهم الواهية وأحوالَهم المختلفةَ الموجبة لعدم المبالاة بهم وبأفاعليهم حسبما أمر به صلى الله عليه وسلم خوطب صلى الله عليه وسلم ببعض ما يتبنى عليه من الأحكام بطريق التفريع والفاء فصيحة أيْ وإذَا كانِ حالُهم كما شُرح فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجَرَ بينهم من الخصومات {فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} غيرَ مبالٍ بهم ولا خائفٍ من جهتهم أصلاً وهذا كما ترى تخييرٌ له صلى الله عليه وسلم بين الأمرين فقيل هو في أمر خاص هو ما ذُكر من زنا المحصَن وقيل في قتيل قُتل من اليهود في بني قُريظةَ والنضيرِ فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بنو قريظة إخوانُنا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد وإذا قَتَلوا منا قتيلاً لم يرضَوْا بالقَوَد وأعطَوْنا سبعين وَسْقاً من تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتلَ وأخذوا منا الضِّعفَ مائة وأربعين وسقاً من تمر وإن كان القتيلُ امرأةً قتلوا بها الرجلَ منا وبالرجل منهم الرجلين منه وبالعبدِ منهم الحرَّ منا فاقض بيننا فجعل صلى الله عليه وسلم الدية سواء وقيل وهو عام في جميع الحكومات ثم اختلفوا فمن قائل إنه ثابت وهو المرويُّ عن عطاءٍ والنَخَعيِّ والشَعْبيِّ وقَتادةَ وأبي بكرٍ الأصمِّ وأبي مسلم وقائلٍ إنه منسوخ وهو قولُ ابنِ عبَّاسٍ والحسن ومجاهد وعِكْرِمة قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يُنسخْ من المائدة إلا آيتان قولُه تعالى لَا تحلوا شعائر الله وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وعليه مشايخُنا {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ} بيانٌ لحال الأمرين إثْرَ تخييرِه صلى الله عليه وسلم بينهما وتقديمُ حالِ الإعراض للمُسارعةِ إلى بيانِ أنَّ لا ضررَ فيه حيث كان مظِنةُ الضرر لِما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه صلى الله عليه وسلم لآ لطلبِ الأيسر والأهونِ عليهم فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومةَ بينهم شق ذلك عليهم فتشتد عداوتهم ومضاراتهم له صلى الله عليه وسلم فأمنه الله عز وجل بقولِهِ {فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} من الضرر فإن الله عاصمُك من الناس {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط} بالعدل الذي أُمرت به كما حكمت بالرجم {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} ومن ضرورته أن يحفَظَهم عن كل مكروه ومحذور
المائدة آية 43 44
{وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التوراة فيها حكم الله} تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه والحالُ أن الحكم منصوصٌ عليه في كتابهم الذي يدّعون الإيمان به وتنبيهٌ على أنهم ما قصَدوا بالتحكيم معرفةَ الحق وإقامةَ الشرع وإنما طلبوا به ما هو أهونُ عليهم وإن لم يكن ذلك حكمَ الله على زعمهم فقوله تعالى وعندهم التواراة حالٌ من فاعل يحكّمونك وقوله تعالى فِيهَا حُكْمُ الله حالٌ من التوراة إن جُعِلت مرتفعةً بالظرف وإن جُعلت مبتدأ فهو حالٌ من ضميرها المستكنِّ في الخبر وقيل استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ أن عندهم ما يُغنيهم عن التحكيم وتأنيثه الكونها نظيرةَ المؤنث في كلامِهم كموماة ودوداة {ثم يتلون} عطفٌ على يحكمونك داخلٌ في حُكمِ التعجيبِ وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ وقوله تعالى {مِن بَعْدِ ذلك} أي بعدما حكّموك تصريحٌ بما عُلم قطعا لتأكيد الاستبعاد والتعجيب أي ثم يُعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم من بعد ما رضوُا بحكمك وقوله تعالى {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} تذييلٌ مقرِّرٌ لفحوى ما قبله ووضع اسمُ الإشارةِ موضعَ ضميرِهم للقصد إلى إحضارِهم في الذهن بما وُصفوا به من القبائح إيماءٌ إلى علة الحُكم وإلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهمن أكملَ تمييز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ ببُعد درجتِهم في العتو والمكابرة أي وما أولئك الموصوفون بما ذكر بالمؤمنين أي بكتابهم لإعراضهم عنه أولاً وعن حُكمِك الموافقِ له ثانياً أو بهما وقيل وما أولئك بالكاملين في الإيمان تهكماً بهم
{إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان علوِّ شأن التوراةِ ووجوبِ مراعاة أحكامِها وأنها لم تزل مَرْعيّةً فيما بين الأنبياء ومَنْ يقتدي بهم كابراً عن كابر مقبولةً لكل أحد من الحكام والمتحاكمين محفوظةً عن المخالفة والتبديل تحقيقاً لما وُصف به المحرِّفون من عدم إيمانهم بها وتقريراً لكفرهم وظلمهم وقوله تعالى {فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} حالٌ من التوراة فإن ما فيها من الشَّرائعِ والأحكامِ من حيث إرشادُها للناس إلى الحق الذي لا محيد عنه هدىً ومن حيث إظهارُها وكشفها ما استَبْهَم من الأحكام مي حيث إرشادُها للناس إلى الحق الذي لا محيد عنه هدىً ومن حيث إظهارها وكشفها ما استَبْهَم من الأحكام وما يتعلق بها من الأمور المستورةِ بظلمات الجهل نور وقوله تعالى {يَحْكُمُ بِهَا النبيون} أي أنبياءُ بني إسرائل وقيل موسى ومَنْ بعده من الأنبياء جملةٌ مستأنفة مبينةٌ لرِفعةِ رتبتِها وسُمُوِّ طبقتها وقد جوَّز كونَه حالاً من التوراة فيكون حالاً مقدرة أي يحكُمون بأحكامها ويحمِلون الناس عليها وبه تمسك من ذهب إلى أن شريعةَ مَنْ قبلَنا شريعةٌ لنا ما لم تُنْسَخْ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من الاعتناء بشأن المقدمِ والتَّشويق إلى المؤخَّر ولأنَّ في المؤخَّر وما يتعلق به نوعَ طولٍ ربَّما يُخِلّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم وقوله
المائدة آية 44
تعالى {الذين أسلموا} صف أجريت على النبيين على سبيل المدح دون التخصيص والتوضيح لكن لا للقصد إلى مدحهم بذلك حقيقة فإن النبوة أعظم من الإسلام قطعاً فيكون وصفُهم به بعد وصفِهم بها تنزلاً من الأعلى إلى الأدنى بل لتنويه شأن الصفة فإن إبرازَ وصفٍ في معرض مد ح العظماء مُنبىءٌ عن عِظَم قدرْ الوصْفِ لا محالة كما في وصف الأنبياءِ بالصلاحِ ووصفِ الملائكة بالإيمان عليهم السلام ولذلك قيل أوصافُ الأشراف أشرافُ الأوصاف وفيه رفع لشأن المسلمين وتعريضٌ باليهود وأنهم بمعزِل من الإسلام والاقتداءُ بدين الأنبياء عليهم السلام لا سيما مع ملاحظة ما وُصفوا به في قوله تعالى {لِلَّذِينَ هَادُواْ} وهو متعلق بيحكم أي يحكمون فيما بينهم واللام ما لبيان اختصاصِ الحُكم بهم أعمُّ من أن يكون لهم أو عليهم كأنه قيل لأجل الذين هادوا وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضا بإسقاط النبعة عنه وإنا للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادِهم له كأنه أمرٌ نافع لكلا الفريقين ففيه تعريضٌ بالمحرِّفين وقيل التقديرُ للذين هادوا وعليهم فحُذِفَ ما حُذف لدلالة ما ذكر عليه وقيل ما هو متعلق بأنزلنا وقيل بهدىً ونور وفيه فصلٌ بين المصدر ومعموله وقيل متعلق بمحذوف وقع صفة لهما ونورٌ كائنان للذين هادوا {والربانيون والاحبار} أي الزهاد والعلماء من ولد هرون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دجين اليهود وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الربانيون الذي يوسوسون الناسَ بالعلم ويربُّونهم بصغاره قبل كباره والأحبارُ هم الفقهاء واحده حبر بالفتح والكسر والثاني أفصح وهو رأي الفراء مأخوذ من الحبير والتحسين فإنهم يُحبِّرون العلمَ ويزينونه ويُبيِّنونه وهو عطفٌ على النبيون أي هم أيضاً يحكمُون بأحكامها وتوسيطُ المحكومِ لهم بين المعطوفين للإيذان بأن الصل في الحُكم بها وحَمْلِ الناس على ما فيها هم النبيون وإنما الربانيون والأحبارُ خلفاءُ ونوابٌ لهم في ذلك كما يُنبىء عنه قوله تعالى {بِمَا استحفظوا} أي بالذي استُحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفَظُوها من التغيير والتبديل على الإطلاق ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام استخلافٌ لهم في إجراء أحكامِها من غير إخلالٍ بشيء منها وفي إبهامها أولاً ثم بيانِها ثانياً بقوله تعالى {مِن كتاب الله} من تفخيمها وإجلالِها ذاتاً وإضافةً وتأكيد غيجاب حفظِها والعملِ بما فيها ما لا يخفى وإيرادهابعنوان الكتاب للإيماء إلى إيجاب حفظِها عن التغييرِ من جهة الكتابة والباءُ الداخلة على الموصول متعلقةٌ بيحكم لكنْ لَا على أنَّها صلة له كالتي في قولِه تَعالَى بِهَا ليلزَمَ تعلقُ حرفي جرٍ متحدَّيْ المعنى بفعلٍ واحد بل على أنها سببية أي ويحكم الربانيون والأحبارُ أيضاً بسبب ما حفِظوه من كتاب الله حسْبما وصاهم به أنبياؤُهم وسألوهم أن يحفظوه وليس المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذاتُ بل من حيث كونُه محظوظا فإن تعليقَ حكمِهم بالموصول مُشعرٌ بسببية الحفظِ المترتب لا محالة على مَا في حيزِ الصِّلةِ من الاستحفاظ له وقيل الباء صلةٌ لفعلٍ مقدر معطوفٍ على قوله تعالى يَحْكُمُ بِهَا النبيون عطفَ جُملةٍ على جملة أي ويحكم الربانيون والأحبارُ بحكم كتابِ الله الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} أي رُقباءَ يحمُونه مِنْ أنْ يحومَ حولَه التغييرُ والتبديلُ بوجه من الوجوه فتغييرُ الأسلوب لما ذُكر من المزايا وقيل بما استحفظوا بدل من
المائدة آية 45
قوله تعالى بِهَا بإعادة العامل وهو بعيد وكذا تجويزُ كونِ الضمير في استُحفظوا للأنبياء والربانيين والأحبارِ جميعاً على أن الاستحفاظَ من جناب الله عز وجل أي كلفهم الله تعالى أن يحفظوه ويكونوا عليه شهداء وقوله تعالى وتقدَّسَ {فَلَا تَخْشَوُاْ الناس} خطابٌ لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات وأما حكامُ المسلمين فيتناولهم النهْيُ بطريق الدلالة دون العبارة والفاءُ لترتيبِ النهْيِ على ما فُصِّل من حال التوراة وكونها معنى بشأنها فيما بين الأنبياء عليهم السلام ومَنْ يقتدى بهم من الربانيين والأحبار المتقدمين عملاً وحفظاً فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ الاجتنابَ عن الإخلال بوظائف مراعاتِها والمحافظةِ عليها بأي وجهٍ كان فضلاً عن التحريف والتغيير ولمّا كان مدارُ جراءتهم على ذلك خشيةَ ذي سلطان أو رفبة في الحظوظ الدنيوية نُهوا عن كل منهما صريحاً أي إذا كان شأنها كما ذكر فلا تخشوا الناسَ كائناً من كان واقتدوا في مراعاة أحكامها بالتعرُّض لها بسوء {وَلَا تَشْتَرُواْ بآياتي} الاشتراء استبدالُ السلعة بالثمن أي أخذها بدلاً منه لا بذلُ الثمن لتحصيلها كما قيل ثم استعير لأخذ شيء بدلاً مما كان له عيناً كان أو معنى أخذاً منوطاً بالرغبة فيما أُخذ والإعراضِ عما أُعطِيَ ونبذكما فصل في تفسيرِ قولِه تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فالمعنى لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تُخرجوها منها أو تتركوا العملَ بها وتأخذوا لأنفسكم بدلاً منها {ثَمَناً قَلِيلاً} من الرِّشوة والجاهِ وسائرِ الحظوظ الدنيوية فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة في نفسها لا سيما بالنسبة إلى ما فات عنهم بترك العمل بها وإنما عبر عن المشتري الذي هو العمدة في عقود المعاوضة والمقصِدُ الأصليُّ بالثمن الذي شأنُه أن يكونَ وسيلةً إلى تحصيله وأُبرزَتِ الآياتُ التي حقُّها أنْ يتنافسَ فيها المتنافسون في معرض الآلات والوسايط حيث قُرنت بالباء التي تصحب الوسائل ايذنا بمبالغتهم في التعكيس بأ جَعلوا المقصِدَ الأقصى وسيلةً والوسيلةَ الأدنى مقصِداً {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله} كائناً مَنْ كان دون المخاطبين خاصة فإنهم مُندرجون فيه اندراجاً أوليَّاً أي من لم يحكم بذلك مستهيناً به منكِراً له كما يقتضيه ما فعلوه من تحريف آيات الله تعالى اقتضاءً بيناً {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ والجمع باعتبار معناها كما أنَّ الإفرادَ فيما سبقَ باعتبار لفظِها {هُمُ الكافرون} لاستهانتهم به وهم إما ضمير الفصل أو مبتدأٌ وما بعده خبرُه والجملةُ خبرُ لأولئك وقد مر تفصيله في مطلعِ سورةِ البقرةِ والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها أبلغَ تقريرٍ وتحذيرٌ عن الإخلال به أشدَّ تحذير حيث علّق فيه الحكمَ بالكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله تعالى فكيف وقد انضم إليه الحكمُ بخلافه لا سيما مع مباشرة ما نُهوا عنه من تحريفه ووضع غيره موضِعَه وادعاءِ أنَّه من عندِ الله ليشتروا به ثمناً قليلاً
{وَكَتَبْنَا} عطفٌ على أنزلنا
المائدة آية 46 47
التوارة {عَلَيْهِمْ} أي على الذين هادوا وقرىء وأنزل الله على بني إسرائل {فِيهَا} أي في التوراة {أن النفس بالنفس} أن تقاد بها ذا قتلها بغير حق {والعين} تُفقأ بالعي إذا فُقئَتْ بغير حق {والانف} يُجدَع {بالانف} المقطوعِ بغير حق {والاذن} تُصْلَم {بالاذن} المقطوعة ظلماً {والسن} تُقلعُ {بالسن} المقلوعة بغير حق {والجروح قِصَاصٌ} أي ذاتُ قصاص إذا كانت بحيث تُعرف المساواة وعن ابن عباس رضي تعالى عنهما أنهم كانوا لا يقتُلون الرجلَ بالمرأة فنزلت وقرىء وإنّ الجروحَ قصاص وقرىء العين إلى آخره بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِّ أن النفس لأن المعنى كتبنا عليهم النفسُ بالنفس إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك النفسُ بالنفس مما يقع عليه الكَتْبُ كما يقع عليه القراءة تقول كتبت الحمدُ لله وقرأتُ سُورَةٌ أنزلناها {فَمَن تَصَدَّقَ} أي من المستحقين {بِهِ} أي بالقصاص أي فما عفا عنه والتعبيرُ عنه بالتصدق للمبالغة في الترغيب فيه {فهو} أي التصدق {كَفَّارَةٌ لَّهُ} أي للمتصدق يكفّر الله تعالى بها ذنوبَه وقيل للجاني إذا تجاوزت عنه صاحب الحقِّ سقطَ عنه ما لزِمه وقُرىء فهو كفارته له أي فالمتصدقُ كفارتُه التي يستحقُّها بالتصدق له لا ينقُصُ منها شيء وهو تعظيمٌ لكما فَعَل كقوله تعالى فَأَجْرُهُ عَلَى الله {وَمَن لَّمْ يَحْكُم} كائناً من كان فيتناول من لا يرى قتلَ الرجل بالمرأة من اليهود تناولاً بيناً {بِمَا أنزَلَ الله} مِن الأحكام والشرائع كائنا ماكان فيدخل فيها الأحكامُ المحكية دخولاً أولياً {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} المبالغون في الظلم المتعدُّون لحدودِه تعالى الواضعون للشيء في غير موضعِه والجملة تذييلٌ مقرِّر لإيجاب العمل بالأحكام المذكورة
{وقفينا على آثارهم} شروعٌ في بيان أحكام الإنجيلِ إثْرَ بيانِ أحكام التوراة وهو عطفٌ على أنزلنا التوراة أي آثارِ البيين المذكورين يقال قَفَّيتُه بفلان إذا أتبعتُه إياه فحذَفَ المفعولَ لدلالة الجارِّ والمجرورِ عليهِ أيْ قفيناهم {بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ} أي أرسلناه عقبهم {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة} حالٌ من عيسى عليه السلام {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيل} عطفٌ على قفَّينا وقرىء بفتح الهمزة {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} كما في التوراة وهو في محل النصبِ على أنه حال من الإنجيل أي كائناً فيه ذلك كأنه قيل مشتملا على هجى ونور وتنوينُ هدىً ونورٌ للتفخيم ويندرج في ذلك شواهد نبوته عليه السلام {وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة} عطفٌ عليهِ داخلٌ في حكم الحالية وتكريرُ ما بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة لزيادة التقرير {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ} عطفٌ على مصدقاً منتظمٌ معه في سلك الحالية جُعل كلُّه هدىً بعد ما جُعل مشتملاً عليه حيث قيل هدى وتخصيصُ كونِه هدىً وموعظةً بالمتقين لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بحدواه
{وليحكم أهل الإنجيل بما أَنزَلَ الله فِيهِ} أمرٌ مبتدأٌ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته عليه الصلاة
المائدة آية 48
والسلام وشواهد نبوته وما قررته الشريعة الشريفةُ من أحكامه وما أحكامُه المنسوخةُ فليس الحكمُ بها حكماً بما أنزل الله فيه بل هو إبطالٌ وتعطيلٌ له إذ هو شاهدٌ بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها لأن شهادته بصحة ما ينسَخُها من الشريعة شهادة ينسخها وبأن أحكامَه ما قرَّرتْه تلك الشريعةُ التي شهد بصحتها كما سيأتي في قوله تعالى يا أهل الكتاب لَسْتُمْ على شَىْء حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل الآية وقيل هو حكايةٌ للأمر الوارد عليهم بتقدير فعلٍ معطوف على آتيناه أي وقلنا ليحكم أهلُ الإنجيل الخ وقرىء وأن ليحكم على أنّ أنْ موصولةٌ بالأمر كما في قولك أمرته بأن قم كأنه قيل وآتيناه الإنجيل وأمَرْنا بأن يحكُمَ أهلُ الإنجيل الخ وقرىء على صيغة المضارع ولام التعليل على أنها متعلقةٌ بمقدَّر كأنه قيل ولِيَحْكُمَ أهلُ الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه وإياه وقد عطف على هجى وموعظة على أنهما مفعول لهما كأنه قيل وللهدى والموعظة آتيناه إياه وللحُكْم بما أنزل الله فيه {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله} منكراً له مستهيناً به {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} المتمردون الخارجون عن الإيمان والجُملة تذييلٌ مقرِّر لمضمونِ الجملة السابقة ومؤكِّد لوجوب الامتثال بالأمر وفيه دلالة على أن الإنجيلَ مشتملٌ على الأحكام وأن عيسى عليه السلام كان مستقلاً بالشرع مأموراً بالعمل بما فيهِ من الأحكامِ قلَّت أو كثُرت لا بما في التوراة خاصة وحملُه على معنى وليحكم بما أنزل الله فيه من إيجابِ العملِ بأحكام التوراة خلافُ الظاهر
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} أي الفردَ الكاملَ الحقيقيَّ بأن يسمى كتاباً على الإطلاق لحيازته جميعَ الأوصافِ الكمالية لجنس الكتابِ السماويِّ وتفوقِه على بقية أفراده وهو القرآنُ الكريم فاللام للعهد والجملةُ عطف على أنزلنا وما عُطِف عليه وقوله تعالى {بالحق} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً مؤكّدة من الكتاب أي ملتبساً بالحق والصدق وقيل من فاعل أنزلنا وقيل من الكاف في إليك وقوله تعالى {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} حال من الكتاب أي حالَ كونِه مصدقاً لما تقدَّمَه إما من حيث أنه نازل حسبما نعت فيه أو من حيث إنه موافقٌ له في القصص والمواعيد والدعوة إلى الحق والعدلِ بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفتِه له في بعض جزئياتِ الأحكام المتغيِّرة بسبب تغيُّرِ الأعصارِ فليست بمخالفةٍ في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيثُ إنَّ كلاًّ من تلك الأحكام حقٌّ بالإضافة إلى عصره متضمِّنٌ للحكمة التي عليَها يدورُ أمرُ الشريعة وليس في المتقدم دلالةٌ على أبديةِ أحكامِه المنسوخة حتى يخالفه الناسخ المتأخرون وإنما يدل على مشروعيتها مُطلقاً من غيرِ تعرضٍ لبقائها وزوالها بل نقول هو ناطقٌ بزوالها لما أن النطقَ بصحة ما ينسخها نطق ينسخها وزوالِها وقوله تعالى {مّنَ الكتاب} بيانٌ لِما واللام للجنس إذ المراد هو الكتاب السماوي وهو
المائدة 48 بهذا العنوان جنسٌ برأسه وإن كان في نفسه نوعاً مخصوصاً من مدلول لفظ الكتاب وعن هذا قالوا اللام للعهد إلا أن ذلك لا ينتهي إلى خصوصية الفردية بل إلى خصوصية النوعية التي هي أخصُّ من مُطلقِ الكتاب وهو ظاهر ومن الكتاب السماوي أيضاً حيث خُصَّ بما عدا القرآن {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} أي رقيباً على سائر الكتبِ المحفوظة من التغيير لأنه يشهد لها بالصحة والثبات ويقررأصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعيِّن أحكامَها المنسوخةَ ببيان انتهاءِ مشروعيتها المستفادة من تلك الكتاب وانقضاءِ وقت العمل بها ولا ريب في أن تمييزَ أحكامِها الباقيةِ على المشروعية أبداً عما انتهى وقتُ مشروعيتِه وخرج عنها من أحكام كونِه مهيمناً عليه وقرىء ومُهيمَناً عليه على صيغةِ المفعولِ أي هو من عليه وحُوفظ من التغيير والتبديل كقوله عز وجل ولا يأتيه الباطلُ من بينِ يديه ولا من خلفه والحافظُ إما من جهتِه تعالى كما في قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون أو الحفاظُ في الأعصار والأمصار والفاء في قوله تعالى {فاحكم بَيْنَهُمْ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونَ شأنِ القرآن العظيم حقاً مصدِّقاً لما قبله من الكتب المنزلة على الأمم مهيمناً عليه من مُوجباتِ الحكم المأمور به أي إذا كان القرآن كما ذُكِر فاحكمْ بين أهل الكتابين عند تحاكُمِهم إليك {بِمَا أنزَلَ الله} أي بما أنزله إليك فإنه مشتملٌ على جميع الأحكام الشرعية الباقيةِ في الكتب الإلهية وتقديم بينهم لفعتناء ببيانِ تعميمِ الحكم لهم ووضوع الموصول موضعَ الضمير للتنبيه على عِلِّيَّةِ ما في حين الصلة للحكم والالتفات بإظهار الإسم الجليل لتربية المهابة والإشعار بعِلَّة الحكم {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} الزائغة {عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحق} الذي لا محيد عنه وعن متعلقة بلا تتَّبعْ على تضمين معنى العُدول ونحوِه كأنه قيل ولا تعدِلْ عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم وقيل بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعله أي لا تتبع أهواءهم عادلا عما ججاءك وفيه أن ما وقع حالاً لا بد أن يكون فعلاً عاماً ووضع الموصول موضع ضمير الموصول الأول للإيماء بما في حيز الصلة من مجيء الحق إلى ما يوجب كمالَ الاجتناب عن اتباع الأهواء وقولِه تعالى {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} كلام مستأنَفٌ جيءَ به لحمل أهل الكتابين من معاصريه صلى الله عليه وسلم على الانقياد لحُكمه بما أُنزل إليه من القرآن الكريم ببيان أنه هو الذي كُلِّفوا العملَ به دون غيره من الكتابين وإنما الذين كلفوا العملَ بهما مَنْ مَضَى قبل نسخهما من الأمم السالفة والخطابُ بطريق التلوين والالتفات للناس كافة لكن لا للموجودين خاصة بل للماضين أيضاً بطريق التغليب واللام متعلقة بجعلنا المتعدي لواحد وهو إخبارٌ بجَعَلَ ماضٍ لا إنشاءٌ وتقديمها عليه للتخصيص ومنكم متعلق بمحذوف وقع صفة لِما عُوِّض عنه تنوينُ كلَ ولا ضيرَ في توسط جعلنا بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السموات الخ والمعنى لكل أمة كائنةٍ منكم أيها الأمم الباقية والخالية جعلنا أي عيّنّا ووضعنا شرعةً ومنهاجاً خاصَّين بتلك الأمة لا تكاد أمةٌ تتخطى شرعتها التي عُيِّنت لها فالأمةُ التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام شرعتهم التوارة والتي كانت من مَبعثِ عيسى إلى مبعثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم شرعتهم الإنجيل وأما أنتم أيها الموجودون فشِرْعتُكم القرآنُ ليس إلا فآمنوا به واعملوا بما فيه والشِّرْعةُ والشريعة هي الطريقة إلى الماء شُبِّه بها الدينُ لكونه سبيلاً موصولاً إلى ما هو سببٌ للحياة الأبدية كما أن سببٌ للحياة الأبدية كما أن الماء سببٌ للحياة الفانية والمنهاجُ الطريق الواضح في الدين من نهَجَ الأمر إذا وضح
المائدة آية 49
وقرىء شَرْعة بفتح الشين قيل فيه دليلٌ على أنا غيرُ مُتعبَّدين بشرائِعِ مَنْ قبلنا والتحقيق أنا متعبَّدون بأحكامها الباقية من حيث إنها أحكامُ شرعتِنا لا من حيث إنها شرعة للأولين {وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة} وتفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير اختلاف بينكم وبين من قبلكم من الأممِ في شيء من الأحكام الدينية ولا نسخَ ولا تحويل ومفعول المشيئة محذوفٌ تعويلاً على دِلالة الجزاء عليه أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم الخ وقيل المعنى لو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه {ولكن لّيَبْلُوَكُمْ} متعلِّقٌ بمحذوف يستدعيه النظام أي ولكن لم يسأ ذلك أي لأن يجعلكم أمةً واحدة بل شاء ما عليه السنةُ الإلهية الجاريةُ فيما بين الأمم ليعامِلَكم معاملةَ من يبتليكم {في ما آتاكم} من الشرائع المختلفة المناسبة لأعصارها وقرونِها هل تعملون بها مذعِنين لها معتقدين أن اختلافَها بمقتضى المشيئةِ الإلهيةِ المبنيةِ على أساس الحِكَم البالغةِ والمصالحِ النافعة لكم في معاشكم ومعادِكم أو تزيغون عن الحق وتتبعون الهوَى وتستبدلون المضَرَّة بالجدوى وتشترون الضلالة بالهدى وبهذا اتَّضحَ أنَّ مدارَ عدمِ المشيئةِ المذكورة ليس مجرد إلا بتلاء بل العمدةُ في ذلك ما أشيرَ إليهِ من انطواءِ الاختلاف على ما فيه مصلحتُهم معاشاً ومعاداً كما ينبىء عنه قوله عز وجل {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خيرٌ لكم في الدارين من العقائد الحَقَّة والأعمالِ الصالحة المندرجة في القرآن الكريم وابتدروها انتهاز للفرصة وإحرازاً لسابقةِ الفَضْل والتقدم ففيه من تأكيد الترغيبِ في الإذعان للحق وتشديدِ التحذير عن الزيغ ما لا يخفى ووقوله تعالى {إلى الله مَرْجِعُكُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ مَساقَ التعليل لاستباق الخيرات بما فيهِ من الوعدِ والوعيدِ وقوله تعالى {جَمِيعاً} حالٌ من ضمير الخطاب والعامل فيه إما المصدرُ المنحلُّ إلى حرفٍ مصدريَ وفعل مبني للفاعل أو مبني للمفعول وإما الاستقرارُ المقدَّر في الجار {فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين المُحِقّ والمُبطل ما لا يبقى لكم معه شائبةُ شكٍ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ في الدنيا وإنما عبر عن ذلك بما ذكر لوقوعه موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الإخبار
{وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتابَ والحُكْمَ بما فيه والتعرُّضُ لعنوان إنزاله تعالى غياه لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمرِ أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم وحكايةُ إنزال الأمر بهذا الحكم بعد ما مر من الأمر الصريح بذلك تأكيد له وتمهيدٌ لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إليك} أي يصرفوك عن بعضه ولو كان أقلَّ قليلٍ بتصوير الباطل بصورة الحق وإظهارُ الاسمِ الجليل لتأكيدِ الأمر بتهويل الخطب وأن بصلته بدلُ اشتمالٍ من ضميرهم أي احذر فتنتهم أو مفعول له أي
المائدة آية 50 51
احذرهم مخافة أن يفتنوك وإعادة ما أنزل الله لتأكيد التحذير بتهويل الخطب رُوي أن أحبارَ اليهودِ قالوا اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتِنُه عن دينه فذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم وقالوا يا أبا القاسم قد عرفت أنّا أحبارُ اليهود وأنا من اتبعناك اتبعنا البهود كلهم وإن بيننا وبين قومنا خصومةً فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بط ونصدقك فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرَضوا عن الحكم بما أنزل الله تعالى وأرادوا غيره {فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} أي بذنب تولِّيهم عن حكم الله عز وجل وإنَّما عبّر عنه بذلك إيذاناً بأن لهم ذنوباً كثيرة هذا مع كمال عَظَمةِ واحدٍ من جملتها وفي هذا الإبهام تعظيمٌ للتولِّي كما في قول لبيد أو يرتبطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها يريد به نفسه أي نفساً كبيرة ونفساً أيَّ نفس {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ لفاسقون} أي متمردين في الكفر مصرُّون عليه خارجون عن الحدود المعهودة وهو اعتراض تذييليٌّ مقررٌ لمضمون ما قوله
{أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} إِنْكارٌ وتعجيبٌ منْ حالِهم وتوبيخ لهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي يتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية وتقديمُ المفعول للتخصيص المفيدِ لتأكيد الإنكار والتعجيب لأن التولَّيَ عن حكمه صلى الله عليه وسلم وطلبَ حكمٍ آخرَ منكرٌ عجيب وطلبُ حكم الجاهلية أقبح وأعجب والمراد بالجاهلية إما المِلةُ الجاهلية التي هي متابعو الهوى الموجبةُ للميل والمداهنةُ في الأحكام فيكون تعييراً لليهود بأنهم مع كونهم أهلَ كتاب وعلمٍ يبغون حكمَ الجاهلية التي هي هوى وجهلٌ لا يصدُر عن كتاب ولا يرجِعُ إلى وحي وإما أهلُ الجاهلية وحكمُهم ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى حيث رُوي أن بني النضيرِ لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومةِ قتلِ وقعت بينهم وبين بني قريظة طلبوا إليه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهلُ الجاهليَّةِ من التفاضل فقال صلى الله عليه وسلم القتلى سواءٌ فقال بنو النضير نحن لا نرضى بذلك فنزلت وقرىء برفع الحكم على أنه مبتدأ ويبغون خبرُه والراجعُ محذوفٌ حذْفَه في قوله تعالى أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً وقد استُضعف ذلك في غير الشعر وقرىء بقاء الخطاب إما بالالتفات لتشديد التوبيخ وإما بتقدير القول أي قل لهم أفحكم الخ وقرىء بفتح الحاء والكاف أي أفحاكماً كحكام الجاهلية يبغون {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً} إنكار لأن يكون أحدٌ حكمُه أحسنُ من حكمه تعالى أو مساوله وإنْ كانَ ظاهرُ السَّبكِ غيرَ متعرِّضٍ لنفي المساواة وإنكارِها وقد مر تفصيله في تفسير قوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي عندهم واللام كما في هَيْتَ لك أي هذا الاستفهام لهم فإنهم الذين يتدبرون الأمور بأنظارهم فيعلمون يقيناً أن حكم الله عز وجل أحسن الأحكام وأعد لها
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} خطاب يعُمّ حكمُه كافةَ المؤمنين من المخلصين وغيرهم وإن كان سببُ ورودِه بعضاً منهم كما سيأتي
المائدة آية 52
ووصفُهم بعنوان الإيمان لحملَهم منْ أولِ الأمرِ عَلى الانزجار عما نُهوا عنه بقوله عز وجل {لَا تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} فإن تذكيرَ اتصافِهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتِهما أي لا يتخذْ أحدٌ منكم أحداً منهم ولياً بمعنى لا تُصافوُهم ولا تعاشروهم مصافاة الحباب ومعاشرَتَهم لا بمعنى لا تجعلوهم أولياءَ لكم حقيقة فإنه أمرٌ ممتنِعٌ في نفسه لا يتعلق به النهي {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} أي بعضُ كلِّ فريق من ذَيْنِك الفريقَيْن أولياءُ بعضٍ آخَرَ من ذلك الفريق لا من الفريق الآخر وإنما أوثر الإجمالُ في البيان تعويلاً على ظهور المُراد لوضوح انتفاءِ الموالاة بين فريقَي اليهود والنصارى رأساً والجملة مستأنفةٌ مَسوقة لتعليل النهي وتأكيدِ غيجاب الاجتناب عن المنهي عنه أي بعضُهم أولياءُ بعضٍ متفقون على كلمة واحدة في كلِّ ما يأتُون وما يذرون ومن ضرورته إجماعُ الكل على مُضادَّتكم ومضارَّتِكم بحيث يسومونكم السوءَ ويبغونكم الغوائل فكيف يُتصورُ بينكم وبينهم موالاة وقوله تعالى {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} حكمٌ مستنتَجٌ منه فإن انحصارَ الموالاة فيما بينهم يستدعي كونَ من يوابيهم منهم ضرورةَ أن الاتحادَ في الدين الذي عليه يدورُ أمرُ الموالاة حيث لم يكن بكونهم ممن يواليهم من المؤمنين تعيّنَ أنْ يكونَ ذلك بكَوْنِ من يواليهم منهم وفيه زظجر شديد للمؤمنين عن إظهار صورةِ الموالاة لهم وإن لم تكن موالاةً في الحقيقة وقوله تعالى {إِنَّ الله لَا يَهْدِى القوم الظالمين} تعليلٌ لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنَهم فيقعون في الكفر والضلالة وإنما وَضعَ المُظْهَرَ موضعَ ضميرِهم تنبيهاً على أن تولِّيهم ظلمٌ لما أنه تعريضٌ لأنفسهم للعذاب الخالد ووضعٌ للشيء في غير موضعخه وقوله تعالى
{فَتَرَى الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} بيان لكيفية توليهم وإشعارٌ بسببه وبما يؤول إليه أمرُهم والفاء للإيذان بترتُّبه على عدم الهداية والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين وإما لكل أحدٍ ممن له أهليةٌ له وفيه مزيدُ تشنيع للتشنيع أي لا يهديهم بل يذرهم وشأنَهم فتراهم الخ وإنما وُضع موضعَ الضميرِ الموصولُ ليُشارَ بما في حيز صلته إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما في قلوبِهِم منَ مرض النفاق ورَخاوة العَقْد في الدين وقوله تعالى {يسارعون فِيهِمْ} حال من الموصول والرؤية بصرية وقيل مفعولٌ ثانٍ والرؤية قلبية والأول هو الأنسبُ بظهور نفاقهم أي تراهم مسارعين في موالاتهم وإنما قيل فيهم مبالغةً في بيان رغبتِهم فيها وتهالُكِهم عليها وإيثارُ كلمةُ في على كلمة إلى الدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة وإنما مسارعتُهم من بعضِ مراتبها إلى بعضٍ آخر منها كما في قوله تعالى أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيراتِ لا أنَّهم خارجُون عنها متوجِّهون إليها كما في قوله تعالى وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ وقرىء فيَريَ بياءِ الغَيْبة على أنَّ الضمير لله سبحانه وقيل لمن تصِحُّ منه الرؤية وقيل الفاعل هو الموصولُ والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية والرؤية قلبية أن ويرى القومُ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أن يسارعوا فيهم فلما حُذفت أنْ
المائدة آية 53
انقلب الفعلُ مرفوعاً كما في قول من قالَ أَلَا أيُهذَا الزَّاجِرِي أحضر الوغى والمراد بهم عبدُ اللَّهِ بنُ أبي وأضر به الذين كانوا يسارعون في مُوادَّةِ اليهود ونَصارى نجرانَ وكانوا يعتذرون إلى المؤمنين بأنهم لا يأمنون أن تصيبَهم صروفُ الزمان وذلك قوله تعلى {يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} وهو حال من ضمير يسارعون والدائرةُ من الصفات الغالبة التي لا يُذكر معها موصوفُها أي تدور علينا دائرةٌ من دوائر الدهر ودَوْلةٌ من دُولِه بأن ينقلبَ الأمرُ وتكون الدولةُ للكفار وقيل يخشى أن يصيبنا مكروهٌ من مكاره الدهر كالجدْب والقَحْط فلا يعطونا المِيرةَ والقَرْض روي أن عبادة بنَ الصامت رضي الله تعالى عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي مواليَ من اليهود كثيراً عددُهم وإني أبرأ إلى ى الله ورسولِه من وَلايتهم وأُوالي الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي إني رجل أخاف الدوائرَ لا أبرأ من وِلاية موالي وهو يهود بني قينقاع ولعله يُظهرُ للمؤمنين أنه يريد بالدوائر المعنى الأخيرَ ويُضمِرُ في نفسه المعنى الأول وقوله تعالى {فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح} رد من جهة الله تعالى لعللهم الباطلة وقطعٌ أطماعهم الفارغة وتبشيرٌ للمؤمنين بالظفر فإن عسى منه سبحانه وعدٌ محتوم لما أن الكريمَ إذا أطْمَعَ أطعم لا محالة فما ظنُّك بأكرم الأكرمين وأن يأتي في محل النصب على أنه خبرُ عسى وهو رأي الأخفش أو على أنَّه مفعولٌ به وهو رأيُ سيبويه لئلا يلزَمَ الإخبارُ عن الجُثَّة بالحدَث كما في قولك عسى زيدا أن يقوم والمراد بالفتح فتحُ مكةَ قاله الكلبي والسُّديّ وقال الضحاك فتحُ قُرى اليهودِ من خيبرَ وفَدَك وقال قَتادة ومقاتِلٌ هو القضاءُ الفصلُ بنصره صلى الله عليه وسلم على من خالفه وإعزازِ الدين {أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ} بقطع شأفةِ اليهود من القتل والإجلاء {فَيُصْبِحُواْ} أي أولئك المنافقون المتعلَّلون بما ذُكر وهو عطفٌ على يأتي يأتي داخلٌ معه في حيزِ خبر عيسى وإن لم يكن فيه ضميرٌ يعود إلى اسمها فإن فاء السببية مغنيةٌ عن ذلك فإنها تجعل الجملتين جملة واحدة {على مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نادمين} وهو ما كانوا يكتمونه في أنفسهم من الكفر والشك في أمره صلى الله عليه وسلم وتعليقُ الندامة به لا بما كانوا يُظهرونه من موالاة الكفر لِما أنه الذي كان يحمِلُهم على الموالاة ويُغريهم عليها فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها
{ويقول الذين آمنوا} كلام مبتدأ مَسوقٌ لبيان كمالِ سوءِ حال الطائفة المذكورة وقُرىء بغير واو على أنه جواب سؤال نشأ مما سبق كأنه قيل فماذا يقول المؤمنون حينئذ و 5 قرىء ويقولَ بالنصب عطفاً على يصبحوا وقيل على يأتيَ باعتبارِ المَعْنى كأنَّه قيلَ فعسى أن يأتيَ الله بالفتح ويقولَ الذين آمنوا والأولُ أوجهُ لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامةِ المنافقين لا عند إتيان الفتح فقط والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطِبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتَهم ويُظهرون لهم غاية المحبة وعدمَ المفارقة عنهم في السراء والضراء عند مشاعدتهم لخَيْبة رجائِهم وانعكاسِ تقديرهم بوقوع ضدِّ ما كانوا يترقبونه ويتعللون به تعجيباً للمخاطَبين من حالهم وتعريضاً بهم {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم إِنَّهُمْ لمعكم}
أي بالنصرة والمعونة كما قالوا فيما حُكيَ عنهم وإن قوتلتم لننصُرَنَّكم واسمُ الإشارة مبتدأٌ وما بعده خبرُه والمعنى إنكارُ ما فعلوه واستبعادُه وتخطئتُهم في ذلك أو يقولُ بعضُ المؤمنين لبعضٍ مشيرين إلى المنافقين أيضاً أهؤلاء الذين أقسموا للكَفَرة إنهم لمعكم فالخطابُ في معكم لليهود على التقديرين إلا أنه على الأول من جهةِ المؤمنين وعلى الثاني من جهة المُقْسِمين وهذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإعراب لأنها تفسيرٌ وحكايةٌ لمعنى أقسَموا لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل إنا معكم وجَهدُ الأيْمان أغلظُها وهو في الأصل مصدرٌ ونصبُه على الحال على تقدير وأقسموا بالله يَجْهَدون جَهدَ أيمانهم فحُذِفَ الفعلُ وأقيم المصدرُ مُقامَه ولا يبالى بتعريفه لفظاً لأنه مؤوَّلٌ بنكرة أي مجتهدين في أيْمانهم أو على المصدرِ أيْ أقسمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليمين وقوله تعالى {حَبِطَتْ أعمالهم فَأَصْبَحُواْ خاسرين} إما جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ من جهته تعالى لبيان مآلِ ما صنعوه من ادِّعاء الولاية والإقسام على المعيَّةِ في المنشَطِ والمكره إثرَ الإشارة إلى بُطلانه بالاستفهام الإنكاري وإما خبرٌ ثانٍ للمبتدأ عندَ مَنْ يجوِّزُ كونَه جملةً كما في قوله تعالى فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى أو هو الخبرُ والموصول مع ما في حيز صلتِه صفةٌ لاسم الإشارة فالاستفهامُ حينئذٍ للتقرير وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أحبَطَ أعمالَهم فما أخسرَهم والمعنى بطلت أعمالِهم التي عمِلوها في شأن موالاتكم وسعو في ذلك سعياً بليغاً حيث لم تكن لكم دولةٌ فينتفعوا بما صنعوا من المساعي وتحمَّلوا من مكابدة المشاق وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطَبين ما لا يخفى وقيل قاله بعضُ المؤمنين مخاطِباً لبعض تعجباً من سوء حال المنافقين واغتباطاً بما من الله تعالَى على أنفسهم من التوفيق للإخلاص أهؤلاءِ الذين أقسموا لكم بإغلاظ الأيْمان أنهم أولياؤُكم ومعاضِدوكم على الكفار بطَلتْ أعمالُهم التي كانوا يكلفونها في رأيِ أعينِ الناس وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ الكلامَ من المؤمنين إنما يليقُ بما لو أظهرَ المنافقون حينئذ خلافَ ما كانوا يدَّعونه ويُقسِمون عليه من ولاية المؤمنين ومعاضَدَتِهم على الكفار فظهر كذِبُهم وافتضحوا بذلك على رءوس الأشهاد وبطَلتْ أعمالُهم التي كانوا ينكلفونها في رأس أعين لمؤمنين ولا ريبَ في أنَّهم يومئذ أشدُّ ادعاءً وأكثر إقساماً منهم قبل ذلك فضلاً عن أن يظهروا خلافَ ذلك وإنما الذي يظهر منهم الندامةُ على ما صنعوا وليس ذلك علامةً ظاهرةَ الدلالة على كفرهم وكذبهم في ادعائهم فإنهم يدّعون أنْ ليست ندامتُهم إلا على ما أظهروه من موالاة الكَفَرةِ خشية إصابة الدائرة
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} وقرىء يرتدِدْ بالفك على لغة الحجاز والإدغام لغة تميم لمّا نهيَ فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى وبيّن أن موالاتَهم مستدعيةٌ للارتداد عن الدين وفصَّل مصيرَ أمْرِ من يواليهم من المنافقين شَرَع في بيان حالِ المرتدين على الإطلاق وهذا من الكائنات التي أخبر
المائدة آية 54
عنها القرآنُ قبل وقوعِها روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فِرقةً ثلاثٌ في عهد رسولِ الله عليه الصلاة والسلام بنو مدلج ورئيسُهم ذو الخِمار وهو الأسود العنْسي كان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عُمّالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب عليه الصلاة والسلام إلى معاذِ بنِ جبلٍ وإلى ساداتِ اليمنِ فأهلكه الله تعالى على يَدَيْ فيروزَ الدَّيْلمي بيَّته فقتله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلِه ليلةَ قُتل فسُرَّ به المسلمون وقبض عليه الصلاة والسلام من الغدِ وأتى خبرُه في آخرِ شهرِ ربيع الأول وبنو حنيفةَ قومُ مسيلِمَةَ الكذابِ تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسليمة رسولِ الله إلى محمدٍ رسولِ الله أما بعد فإن الأرضَ نصفُها لي ونصفها لك فأجاب عليه الصلاة والسلام من محمدٍ رسولِ الله مسيلِمَةَ الكذاب أما بعد فإن الأرضَ لله يورثُها مَن يَشَاء مِنْ عباده والعاقبةُ للمتقين فحاربه أبُو بكرٍ رضي الله عنه بجنودِ المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل خمزة رضي الله عنه وكان يقول قتلتُ في جاهليتي خيرَ الناس وفي إسلامي شرَّ الناس وبنو أسد قومُ طليحةَ بنِ خويلد تنبأ فبعث إليه أبُو بكرٍ رضي الله عنه خالدَ بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشامِ فأسلم وحسُنَ إسلامُه وسبعٌ في عهد أبي بكرٍ رضي الله عنه فَزارةُ قومُ عيينةَ بنِ حِصْن وغطَفانُ قوم قرَّةَ بنِ سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة ابن عبد يا ليل وبنو يَرْبوعٍ قومُ مالكِ بننويرة وبعضُ تميم قومُ سَجاح بنتِ المنذر المتنبّئة التي زوَّجَتْ نفسها من مسيلِمة الكذاب وفيها يقول أبو العلاء المعري في كتاب استغفرْ واستغفري آمتْ سَجاحِ ووالاها مسيلِمة كذابةٌ في بني الدنيا وكذّابُ وكِندةُ قومُ الأشعث بن قيس وبنو بكر بنِ وائل بالبحرَيْن قومُ الحطَمِ بنِ زيد وكفى بالله تعالى أمرَهم على يد أبي بكرٍ رضي الله عنه وفِرقة واحدةٌ في عهد عمر رضي الله عنه غسانُ قومُ جَبَلةَ بنِ الأيهم نصَّرتْه اللطمة وسيَّرتْه إلى بلاد الروم وقصاه مشهورة وقوله تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِى الله} جواب الشرط والعائد إلى اسم الشرط محذوفٌ أي فسوف يأتي الله مكانهم بعد إهلاكهم {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} أي يريد بهم خيري الدنيا والآخرة ومحلُّ الجملةُ الجرُّ على أنها صفةٌ لقوم وقوله تعالى {وَيُحِبُّونَهُ} أي يريدون طاعته ويتحرّزون عن معاصيه معطوفٌ عليها داخلٌ في حكمها قيل أهم أهلُ اليمن لما رُوي أن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال قومُ هذا وقيل هم الأنصار رضي الله عنهم وقيل هم الفرسُ لما روي أنه عليه السلام سئل عنهم فضرب بيده الكريمة على عاتق سَلمان رشي الله عنه وقال هذا وذوُوه ثم قال لو كان الإيمانُ معلقاً بالثريا لنالَه رجالٌ من أبناء فارسَ وقيل هم ألفان من النخَع وخمسةُ آلافٍ من كِندةَ وثلاثة آلاف من أفناء الناس جاهدوا يوم القادسية {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} جمع ذليلٍ لا ذلول فإن جمعه ذُلُلٌ أي أرِقّاءَ رحماءَ متذللين ومتواضعين لهم واستعماله بعلى إما لتضمين معنى العطف والحُنُوّ أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتِهم وفضلِهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتَهم أو لرعاية المقابلة بينه وبين ما في قوله تعالى {أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} أي أشداء متغلبين عليهم من عزَّه إذا غلبَه كمنا في قوله عز وعلا أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ وهما صفتان أُخريان لقوم ترك بينها العاطفُ للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما وفيه دليلٌ على صحَّة تأخير الصفة الصريحة عن غير الصريحة من الجملة والظرف كما في قوله تعالى وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ وقوله تعالى مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ من رَّبّهِمْ محدَثٌ وقوله تعالى
المائدة آية 55 56
مَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ مّن الرحمن مُحْدَثٍ وما ذهب إليه من لا يجوِّزه مِنْ أنَّ قولَه تعالى يحبهم ويحبونه كلام معترِضٌ وأن مبارك خبرٌ بعد خبر أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ وأن من ربهم ومن الرحمن حالان مقدمتان من ضمير محدث تكلف ولا يخفى وقرىء أذلة أعزةً بالنَّصبِ على الحاليَّةِ من قوم لتخصصه بالصفة {يجاهدون فِى سَبِيلِ الله} صفة أخرى لقو مترتبةٌ على ما قبلها مبنية مع ما بعدها لكيفية عزتهم أو حالٌ من الضمير في أعزة {وَلَا يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ} عطف على يجاهدون بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة في سبيل الله وبين التصلب في الدين وفيه تعريضٌ بالمنافقين فإنهم كانوا إذا خردوا في جيش المسلمين خافوا أولياءَهم اليهودَ فلا يكادون يعملون شيئاً يلحقهم فيه لومٌ من جهتهم وقيلَ هُو حالٌ من فاعل يجاهدون بمعنى أنهم يجاهدون وحالُهم خلافُ حال المنافقين واعتراض عليه بأنهم نصُّوا على أن المضارعَ المنفيَّ بلا أو كالمُثْبَت في عدم جواز مباشرة واو الحال له واللَّوْمةُ المرةُ من اللوم وفيها وفي تنكيرِ لائمٍ مبالغة لا تخفى {ذلك} إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف الجليلةِ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعد منزلتها في الفضل {فَضَّلَ الله} أي لطفُه وإحسانُه لا أنهم مستقلون في الاتصاف بها {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآء} إيتاءَهُ إيَّاهُ ويوقفه لكسبه وتحصيلِه حسبما تقتضيه الحِكْمةُ والمصلحة {والله واسع} كثيرُ الفواضل والألطاف {عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلمِ بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جملتها مَنْ هو أهلٌ للفضل والتوفيق والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمنوا} لما نهاهم الله عز وجل عن موالاة الكفرة وعلّله بأن بعضَهم أولياءُ بَعْضٍ لا يُتصوَّرُ ولايتُهم للمؤمنين وبين أن من يتولاهم يكون من جملتهم بيَّن ههنا من هو وليُّهم بطريقٍ قصَرَ الولايةَ عليه كأنه قيل لا تتخذوهم أولياءَ لأن بعضَهم أولياءُ بعضٍ وليسوا بأوليائكم إنما أوليائكم الله ورسولُه والمؤمنون فاختصُّوهم بالموالاة ولا تتخطّوهم إلى غيرعم وإنما أفرد الوليَّ مع تعدده للإيذان بأن الولايةَ أصالةً لله تعالى وولايتُه عليه السلام وكذا ولايةُ المؤمنين بطريقِ التبعية لولايتِه عز وجل {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة} صفة للذين آمنوا لجرَيانه مجرى الاسمِ أو بدلٌ منه أو نصْبٌ على المدحِ أو رفعٌ عليه {وهم راكعون} حال مع فاعل الفعلين أي يعملون ما ذكر من إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى وقيل هو حال مخصوصةٌ بإيتاء الزكاة والركوعُ ركوعُ الصلاة والمراد بيانُ كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه ورُوي أنها نزلت في عليَ رضي الله عنه حين سأله سائل وهو راكع فطرح غليه خاتمه كأنه كان مرجاً في خنصر غيرَ محتاجٍ في إخراجه إلى كثير عمل يؤدِّي إلى فساد الصلاة ولفظ الجمع حينئذ لترغيب الناس في مثل فعله رضي الله عنه وفيه دَلالةٌ على أن صدقة التطوُّع تسمّى زكاةً
أُوثرَ الإظهارُ على أن يقال ومن يتولَّهم رعايةً لما مر من نُكتةِ بيانِ أصالتِه تعالى في الولاية كما ينبىء عنه قوله تعالى {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} حيث أضيفَ الحِزبُ إليه تعالى خاصة وهو أيضاً من باب وضْعِ الظاهِرِ موضعَ الضَّميرِ العائد إلى من أي فإنهم الغالبون لكنهم جُعِلوا حزبَ الله تعالى تعظيماً لهم وإثباتاً لغَلَبتهم بالطريقِ البرهانيِّ كأنه قيلَ ومن يتولى هؤلاء فإنهم حزبُ الله وحزبُ الله هم الغالبون
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} رُوي أن رُفاعةَ بنَ زيد وسويد بن الحرث أظهرا افسلام ثم نافقا وكان رجالٌ من المؤمنين يُوادُّونهما فنُهوا عن موالاتهما ورُتِّب النهيُ على وصف يعمُّهما وغيرَهما تعميماً للحكم وتنبيهاً على العلة وإيذاناً بأن مَنْ هذا شأنُه جديرٌ بالمعاداة فكيف بالموالاة {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} بيان للمستهزئين والتعرّضُ لعنوان إيتاءِ الكتاب لبيان كمال شناعتِهم وغايةِ ضلالتهم لِما أنَّ إيتاءَ الكتاب وازعٌ لهم عن الاستهزاء بالدلين المؤسَّسِ على الكتابِ المصدِّقِ لكتابهم {والكفار} أي المشركين خُصّوا به لتضاعُفِ كفرهم وهو عطفٌ على الموصول الأولِ ففيه إشعارٌ بأنهم ليسوا بمستهزئين كما يُنبىءُ عنه تخصيصُ الخطاب بأهل الكتاب في قوله تعالى ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا الآية وقُرىء بالجرِّ عطفا على الموصول الأخير ويعضُده قراءةُ أُبيَ وَمِنْ الكفار وقراءةُ عبدِ اللَّه وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ فهم أيضاً من جملة المستهزئين {أَوْلِيَاء} وجانبوهم كلَّ المجانبة {واتقوا الله} في ذلك بترك موالاتهم أو بترك المَناهي على الإطلاق فيدخل فيه تركُ موالاتِهم دخولاً أولياً {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أيحقا فإن قضيةَ الإيمان توجب الاتقاءَ لا محالة {وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة اتخذوها} أي الصلاةَ أو المناداةَ ففيه دلالة على شرعية الأذان
{هُزُواً وَلَعِباً} بيان لاستهزائهم بحكم خاص من أحكام الدين بعد بيان استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهاراً لكمال شقاوتهم رُوي أن نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أنَّ محمداً رسولُ الله يقول أحرق الله الكاذب فدخل خادمُه ذاتَ ليلة بنار وأهله نيام فتطايرة منه شرارةٌ في البيت فأحرقَتْه وأهلَه جميعاً {ذلك} أي الاستهزاء المذكور {بِأَنَّهُمْ} بسببِ أنَّهُم {قَوْمٌ لَاّ يَعْقِلُونَ} فإن السَّفَه يؤدِّي إلى الجهل بمحاسِنِ الحق والهُزُؤ به ولو كان لهم عقلٌ في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة
{قُلْ} أمرٌ لرسولِ الله صد بطريق تلوين الخطاب بعد نهْيِ المؤمنين عن تولِّي المستهزئين بأن يخاطِبَهم ويبيِّنَ أن الدين منزه عما يصحِّحُ صدورَ ما صدرَ عنهُم من الاستهزاء ويُظهرَ
المائدة آية 60
لهم سببَ ما ارتكبوه ويُلْقِمَهم الحجرَ أي قل لأولئك الفجرة {يَا أَهْلِ الكتاب} وُصفوا بأهلية الكتاب تمهيدا بما سيأتي من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا} من نقَم منه كذا إذا عابه وأنكره وكرهه وينقمه من حدِّ ضرب وقُرىء بفتح القاف من حد علِمَ وهي أيضاً لغة أي ما تَعيبون وما تُنكرون منا {إِلَاّ أَنْ آمنا بالله وما أُنزِلَ إِلَيْنَا} من القُرآنِ المجيد {وما أنزل مِن قَبْلُ} أي من قبل إنزاله من التوراة والإنجيل المنزَّلَيْن عليكم وسائرِ الكتبِ الإلهية {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون} أي متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر فإن الكفر بالقرآن مستلزم للكفر بما يصدِّقُه لا محالة وهو عطف على أن آمنا على أنَّه مفعولٌ له لتنقمون والمفعول الذي هو الدينُ محذوفٌ ثقةً بدلالةِ ما قبلَهُ وما بعده عليه دلالةً واضحة فإن اتخاذ الدين هزواً ولعباً عينُ نِقَمِه وإنكارِه والإيمانُ بما فُصِّل عينُ الدين الذي نقَموه خلا أنه أبرَزَ في معرِض علةِ نقمِهم له تسجيلاً عليهم بكمال المكابرةِ والتعكيس حيث جعلوه موجِباً لنقمه مع كونِه في نفسِه موجباً لقَبوله وارتضائه فالاستثناءُ من أعمِّ العللِ أي ما تنقِمون منا دينَنا لعلة من العلل إلا لأن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبلُ من كتُبكم ولأن أكثركم متمردون غيرُ مؤمنين بواحدٍ مما ذُكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطقِ بصحة كتابِنا لآمنتم به وإسنادُ الفسق إلى أكثرِهم لأنهم الحاملون لأعقابهم على التمرُّد والعناد وقيل عطفٌ عليه على أنه مفعول لتنقمون منا لكن لا على أن المستثنى مجموعُ المعطوفَيْن بل هو ما يلزَمهما من المخالفة كأنه قيل ما تنقمون منا إلا مخالفتَكم حيث دخلنا الإيمانَ وأنتم خارجون عنه وقيل على حذف المضاد أي واعتقادَ أن أكثركم فاسقون وقيل عطف على ما أي ما تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وبأنكم فاسقون وقيل عطفٌ على علة محذوفةٍ أي لقلة إنصافِكم ولأن أكثركم فاسقون وقيل الواو بمعنى مع أي ما تنقِمون منا إلا الإيمانَ مع أن أكثركم الخ وقيل هو منصوبٌ بفعل مقدر دل عليه المذكورُ أي لا تنقمون أن أكثركم فاسقون وقيل هو مرفوعٌ على الابتداء والخبرُ محذوفٌ أي وفِسقُكم معلوم أي ثابت والجملةُ حالية أو معترضة وقرىء بأن المكسورة المكسورة والدجملة مستأنَفة مبيّنةٌ لكون أكثرهم فاسقين متمرِّدين
{قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك} لما أُمرَ عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم ببيان أن مدارَ نقمِهم للدين إنما هو اشتمالُه على ما يوجب ارتضاءَه عندهم أيضاً وكفرُهم بما هو مُسلَّم لهم أُمرَ عليه الصلاة والسلام عَقيبَه بأن يُبكتَهم ببيان أن الحقيقَ بالنقم والعيبَ حقيقةً ما هم عليه من الدين المحرَّف وينعى عليهم في ضمن البيان جناياتِهم وما حاق بهم من تبعانها وعقوباتِها على منهاج التعريض لئلا يحمِلَهم التصريحُ بذلك على ركوب متن المكابرةِ والعنادِ ويخاطِبَهم قبل البيانِ بما يُنبىء عن عِظَم شأن المبيَّنِ ويستدعي إقبالَهم على تلقّيه من الجملة الاستفهامية المُشَوِّقة إلى المخبِر به والتنبئةِ المُشعرة بكونه أمراً خطيراً لما أن النبأ هو الخبرُ الذي له شأنٌ وخطَرٌ وحيث كان مناطُ النقم شَرِّيَّةَ المنقوم حقيقة او اعتقاد وكان مجردُ النقم غيرَ مفيد
المائدة آية 60
لشَرِّيته البتّةَ قيل بشرَ من ذلك ولم يقُل بأنقَمَ من ذلك تحقيقاً لشرية ما سيذكر وزيادى ة تقرير لها وقيل إنما قيل لذلك وقوعه في عبارة المخاطَبين حيث أتى نفرٌ من اليهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دينه فقال عليه الصلاة السلام أو من بالله وما أنزل إلينا إلى قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام قالوا لا نعلم شراً من دينكم وإنما اعتَبَر الشَّرِّيةَ بالنسبة إلى الدين وهو منزَّه عن شائبةِ الشرّية بالكلية مجاراةً معهم على زعمهم الباطِلِ المنعقدِ على كمال شريتِه ليثبِتَ أن دينهم شرٌ من كل شر أي هل أخبركم بما هو شرٌّ في الحقيقة مما تعتقدونه شراً وإن كان في نفسه خيراً محضاً {مَثُوبَةً عِندَ الله} أي جزاءً ثابتاً في حكمه وقرىء مثوبةً وهي لغة فيها كمشورة ومشورة وهي مختصةٌ بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر وإنما وضعت ههنا موضعها على طريقةِ قولِه تحيَّةَ بينهم ضربٌ وجميع ونصبُها على التمييز من بشر وقوله عز وجل {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} خبر لمبتدأ محذوفٍ بتقدير مضافٍ قبله مناسبٍ لما أشير إليه بكلمة ذلك أي دينُ مَنْ لعنه الخ أو بتقدير مضافٍ قبلها مناسبٍ لمن أي بشرّ مِنْ أهل ذلك والجملة على التقديرين استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ من الجملة الاستفهامية إما على حالها وهو الظزاهر المناسب لسياق النظم الكريم وإما باعتبار التقدير فيها فطكأنه قيل ما الذي هو شرٌّ من ذلك فقيل هو دينُ مَنْ لعنه الله الخ أو قيل في السؤال من ذا الذي هو شرٌّ من أهل ذلك فقيل هو مَنْ لعنه الله ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويلِ أمر اللعن وما تبعه والموصولُ عبارةٌ عن المخاطبين حيث أبعدهم الله تعالى من رحمته وسخِط عليهم بكفرهم وانْهماكِهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسُنوحِ البينات {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} أي مسخ بعضَهم قردةً وهم أصحابُ السبْت وبعضَهم خنازيرَ وهم كفار مائدةِ عيسى عليه السلام وقيل كلا المسخين في أصحاب السبْت مُسِخت شبانُهم قردةً وشيوخُهم خنازيرَ وجمعُ الضميرِ الراجع إلى الموصول في منهم باعتبار معناه كما أنَّ أفرادَ الضميرينِ الأولين باعتبار لفظه وإيثارُ وضعه موضعَ ضمير الخِطاب المناسب لأنبئكم للقصدِ إلى إثبات الشرِّية بما عدد في حين صلتِه من الأمورِ الهائلة الموجبةِ لها على الطريقة البرهانية مع ما فيه من الاحتراز عن تهييج لَجاجِهم {وَعَبَدَ الطاغوت} عطفٌ على صلةِ مَنْ وإفراد الضمير لما مر وكذا عُبد الطاغوتُ على قراءة البناء للمفعول ورفع الطاغوتَ وكذا عبد الطاغوت بمعنى صار معبوداً فالراجع إلى الموصول محذوف على القراءتين أي عُبد فيهم أو بينهم وتقديم أوصافِهم المذكورة بصدد إثباتِ شرّية دينِهم على وصفهم هذا مع أنه الأصلُ المستتبِعُ لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوتِ عينُ دينهم البيّنِ البطلان ودلالتُها عليها بطريق الاستدلال بشرِّيَّة الآثار على شرِّية ما يوجبُها من الاعتقاد والعمل إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيلَ لهم إلى الجحود لا بشرِّيته وفظاعته ولا باتصافهم به وإما للإيذان باستقلال كلَ من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرِّية ولو روعيَ ترتيبُ الوجود وقيل مَنْ عَبَدَ الطاغوتَ ولعنه الله وغضب عليه الخ لربما فهم أن علة الشرية هو المجموعُ وقد قرىء عابدَ الطاغوت وكذا عبد الطاغوت بالإضافة على أنه نعتٌ كفطِنٍ ويقِظٍ وكذا عبدَةَ الطاغوتِ وكذا عبد الطاغوت بالإضافة على أنه جمع عابد كخَدَمٍ أو على أن أصله عبدةَ حذفت تاؤه للإضافة بالنصب في الكل عطفا على
المائدة آية 61
االقردة والخنازير وقرىء عَبَدِ الطاغوتِ بالجر عطفاً على مَنْ بناءً على أنه مجرور بتقدير المضاف وقد قيل إن مَنْ مجرور على أنه بدلٌ من شرَ على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في تقدير المضاف وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ مع اقتضائه إخلاء النظم الكريم عن المزايا المنذكورة بالمرة مما لا سبيل إليه قطعاً ضرورةَ أن المقصود الأصلي ليس مضمونَ الجملة الاستفهامية بل هو كما مر مقدّمة سيقت أمام المقصود لهزؤء المخاطبين وتوجيه أذهانهم تنحو تلقي ما يلقى إليهم عَقيبها بجملة خبرية موافقةٍ في الكيفية للسؤال الناشىء عنها وهو المقصودُ إفادتُه وعليه يدور ذلك الإلزام والتبكيتُ حسبما شُرح فإذا جُعل الموصولُ بما في حيز صلتِه من تتمة الجملة الاستفهامية فأين الذي يلقى إليهم عقيبها جواباً عما نشأ منها من السؤال ليحصُلَ به الإلزامُ والتبكيت وأما الجملة الآنية فبمعزلٍ من صلاحية الجواب كيف لا ولا بد من موافقته في الكيفية للسؤال الناشىء عن الجملة الاستفهامية وقد عرفت أن السؤال الناشىءَ عنها يستدعي وقوعَ الشر من تتمة المخبَرِ عنه لا خبراً كما في الجملة المذكورة وسيتضح ذلك مزيدَ اتضاحٍ بإذن الله تعالى والمراد بالطاغوت العِجْلُ وقيل هو الكهنة وكلُّ من أطاعوه في معصية الله عز وجل فيعم الحكمُ دينَ النصارى أيضاً ويتضح وجه تأخيرِ ذكرِ عبادتِه عن العقوبات المذكورة إذ لو قُدِّمت عليها لتُوُهِّم اشتراكُ الفريقين في تلك العقوبات ولما كان مآلُ ما ذُكرَ بصدد التبكيت أن ماهو شرٌّ مما نقَموه دينُهم أو أن من هو شرٌّ من أهل ما نقموه أنفسُهم بحسَب ما قدِّر من المضافين وكانت الشرِّيةُ على كلا الوجهين من تتمة الموضوع غيرَ مقصودة الإثبات لدينهم أو لأنفسهم عقِبَ ذلك بإثباتها لهم على وجهٍ يُشعر بعِلِّية ما ذُكر من القبائح لثبوتها لهم بجملةٍ مستأنفةٌ مَسوقةٌ من جهته سبحانه شهادةً عليهم بكمال الشرارة والضلال أو داخلةٍ تحت الإمر تأكيدا للإلزان وتشديد للتبكيت فقيل {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مكانا} فاسم الإشارة عبارةٌ عمَّن ذُكرتْ صفاتُهم الخبيثة وما فيه من معنى البعيد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الشرارة أي أولئك وقيل شر مكاناً أي مُنصَرَفاً {وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السبيل} عطف على شر مقرِّرٌ له أي أكثرُ ضلالاً عن الطريق المستقيم وفيه دلالة على كون دينهم شراً محضاً بعيداً عن البحق لأن ما يسلُكونه من الطريق دينُهم فإذا كانوا أضلَّ كان دينُهم ضلالاً بينا لا غايةَ وراءه وصيغةُ التفضيل في الموضعين للزيادة مطلقاً لا بالإضافة إلى من يشاركهم في أصلِ الشرارة والضلال
{وإذا جاؤوكم قالوا آمنا} نزلتْ في ناسٍ من اليهود كانوا يدخُلون على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ويُظهرون له الإيمان نفاقاً فالخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والجمع للتعظيم أوله مع ما عنده من المسلمين أي إذا جاءوكم أظهروا الإسلام {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} أي يخرجون من عندك ملتبسين بالكفر كما دخلوا لم يؤثِّرْ فيهم ما سمعوا منك والجملتان حالان من فاعل قالوا وبالكفر وبه حالان من فاعل دخلوا
المائدة آية 62 64
وخرجوا وقد وإن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالات أفادت أيضاً بما فيها من معنى التوقع أن أمارات النفاق كانت لائحة وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يظنه ويتوقع أن يظهره الله تعالى ولذلك قيل {والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} أي من الكفر وفيه وعيد شديد لهم
وَتَرَى خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب والرؤية بصرية كَثِيراً مّنْهُمْ من اليهود والمنافقين وقولُه تعالى {يسارعون فِى الإثم} حال من كثيراً وقيل مفعول ثانٍ والرؤيةُ قلبية والأول أنسبُ بحالهم وظهور نفاقهم والمسارعة المبادرة والمباشرة للشيء بسرعة وإيثار كلمةُ في على كلمة إلى الواقعة في قوله تعالى وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ الخ لِما ذُكر في قوله تعالى فَتَرَى الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يسارعون فِيهِمْ والمرادُ بالإثم الكذبُ على الإطلاق وقيل الحرام وقيل كلمةُ الشرك وقولُهم عزيرٌ ابنُ الله وقيل هو ما يختصُّ بهم من الآثام {والعدوان} أي الظلم المتعدي إلى الغير أو مجاوزة الحد في المعاصي {وَأَكْلِهِمُ السحت} أي الحرام خصه بالذكر مع اندراجه في الإثم للمبالغة في التقبيح {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لبئس شيئاً كانوا يعملونه والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار
{لَوْلَا ينهاهم الربانيون والاحبار} قال الحسن الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة وقيل كلهم في اليهود وهو تحضيضٌ للذين يقتديْ بهم أفناؤهم ويَعْلمون قَباحةَ ما هم فيه وسوءَ مغبَّته على نهْيِ أسافلِهم عن ذلك مع توبيخ لهم على تركه {عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت} مع علمهم بقبحهما ومشاهدتهم لمباشرتهم لهما {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وهذا أبلغ مما قيل في حق عامتهم لما أن العمل لا يبلُغ درجة الصنع ما لم يتدرَّبْ فيه صاحبُه ولم يحصُلْ فيه مهارة تامة ولذلك ذَمَّ به خواصَّهم ولأن ترك الحسنة أقبحُ من مواقعة المعصية لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك تركُ الإنكار عليها فكان جديراً بأبلغِ ذم وفيه مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات ما لَا يخفي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهما أشد آية في القرآن وعن الضحاك ما في القرآن آية خوف عندي منها
{وَقَالَتِ اليهود} قال ابن عباس وعكرمة والضحاك إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس
المائدة آية 64
مالاً وأخصبَهم ناحيةً فلما عصَوا الله سبحانه بأن كفروا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف عنهم ما بسَطَ عليهم فعند ذلك قال فنخاص بنُ عازوراء {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} وحيث لم ينكر عليه الآخرون ورضُوا به نُسبت تلك العظيمةُ إلى الكل كما يقال بنُو فلان قتلُوا فلاناً وإنما القاتلُ واحدٌ منهم وأرادوا بذلك لعنهم الله أنه تعالى مُمسك يقتِّر بالرزق فإن كلاًّ من غَلِّ اليد وبسْطِها مجازٌ عن محض البخل والجود من غير قصد في ذلك إلى إثبات يدٍ وغَلَ أو بسطٍ ألا يُرى أنهم يستعملونه حيث لا يتصور فيه ذلك كما في قولِه جاد الحمى بَسْطَ اليدين بوابل شكَرتْ نداهُ تِلاعُه ووِهادُهُ وقد سلك لبيد هذا المسلكَ السديد حيث قال وغداةِ ريحٍ قد شهِدْتُ وقره غذ اصبحت بيد السمال زِمامُها فإنه إنما أراد بذلك إثباتَ القدرة التامة للمشال على التصرفِ في القَرَّة كيفما تشاء على طريقة المجاز من غير أن يخطُرَ بباله أن يثبِتَ لها يدا ولا للقة زماماً وأصله كناية فيمن يجوز عليه إرادة المعنى الحقيقي كما مر في قوله تعالى وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة في سورة آل عمران وقيل أرادوا ما حُكيَ عنُهم بقولِه تعالى لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بالبخل المذموم والمسكَنة أو بالفقر والنَّكَد أو بغَلِّ الأيدي حقيقة بأن يكونوا أسارى مغلولين في الدنيا ويُسحبوا إلى النار بأغلالِها في الآخرة فتكون المطابقةُ حينئذ من حيث اللفظُ وملاحظةُ المعنى الأصلي كما في سبّني سبّ الله دابرَه {وَلُعِنُواْ} عطف على الدعاء الأول أي أُبعدوا من رحمة الله تعالى {بِمَا قَالُواْ} أي بسبب ماقالوا من الكلمة الشنعاء وقيل كلاهما خبر {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} عطفٌ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي كلاّ ليس كذلك بل هو في غايةِ ما يكونُ من الجود وإليه أُشير بتثنية اليد فإن أقصى ما ينتهِي إليه هممُ الأسخياء أن يُعطوا ما يعطونه بكلتا يَدَيْهم وقيل التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدجنيا والآخرة وقيل على إعطائه إكراماً وعلى إعطائه استدراجاً {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده وللتنبيه على سرِّ ما ابتُلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالِهم ذريعةً إلى الاجتراء على تلك الكَفْرة العظيمة والمعنى والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تالبع لمشيئته المبنيَّةِ على الحُكم التي عليَها يدورُ أمرُ المعاش والمعاد وقد اقتضتِ الحكمةُ بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيِّقَ عليهم كما يشير إليه ما سيأتِي من قولِه عز وجل ولو أنهم أقاموا التواراة والإنجيل الآية وطكيف ظرفٌ ليشاء والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير ينفق أي ينفق كائناً على أي حال يشاء أي كائناً على مشيئته أي مريداً وتركُ ذكرِ ما ينفقه لقصد التعميم {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً منهم} وهم علماؤهم ورؤساهم {مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} مِن القرآن المستمل على هذه الآيات وتقديمُ المفعول للاعتناء به وتخصيص الكثير منهم بهذا الحكم لِما أن بعضهم ليس كذلك {مِن رَبّكَ} متعلق بأنزل كما أن إليك كذلك وتأخيره عنه مع أن حق المبدا أن يتقدم على المنتهي لاقتضاء المقامِ الاهتمامَ ببيان المنتهي لأن مدجار الزيادة هو النزولُ إليه عليه السلام كَما في قوله تعالَى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لتشريفه عليه السلام {طغيانا وَكُفْراً} مفعول ثان للزيادة أي ليزييدنهم كغيانا على طغيانهم وكفراً على كفرهم القديمين إما من حيث الشدةُ والغلوُّ وإما من حيث الكمُ والكثرة إذ كلما نزلة ى ية كفروا بها فيزداد طغيانُهم وكفرهم بحسب المقدار
المائدة آية 65 66
كما أن الطعامَ الصالح للأصِحّاء يزيد المرضى مرضاً {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} أي بين اليهود فإن بعضَهم جبْريةٌ وبعضهم قدرية زوبعضهم مُرْجئة وبعضهم مشبِّهة {العداوة والبغضاء} فلا يكاد تتوافق قلوبُهم ولا تتطابق أقوالهم والجملة مبتدأ مَسوقة لإزاحة ما عسى يُتوهَّمُ من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمرٍ يؤدِّي إلى الإضرار بالمسلمين قيل العداوة والبغضاء أخصُّ من البغضاء لأن كل عدوَ مبغضٌ بلا عكسٍ كليَ {إلى يَوْمِ القيامة} متعلقٌ بألقينا وقيل بالبغضاء {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلةِ ما هم فيه إلى المسلمين أي كلما أرادوا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ورتبوا مبادِيَها وركِبوا في ذلك متنَ كلِّ صعب وذَلولٍ ردهم الله تعالى وقهرهم أو كلما أرادوا حرب أحد غُلبوا فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بُخْتَ نَصَّرَ ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرُسَ الروميّ ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وللحرب إما صل لأوقدوا أو متعلِّق بمحذوف وقع صفة لنار أي كائنة للحرب {وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَاداً} أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وإثار الشر والفتنة فيما بينهم مما يُغايرُ ما عبَّر عنه بإيقاد نارِ الحرب وفسادا إما مفعول له أو في موقعِ المصدر أي يسعون للفساد أو يسعون سعي فساد {والله لَا يُحِبُّ المفسدين} ولذلك أطفأ ثائرةَ إفسادهم واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً وإما للعهد ووضعُ المُظْهَرِ مَقام الضمير للتعليل وبيانِ كونِهم راسخين في الإفساد
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب} أي اليهودُ والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنسُ المنتظمُ للتوراة والإنجيل وإنما ذكروا بذلك العنوان تأكيداً للتشنيع فإنّ أهليةَ الكتاب توجب إيمانهم به وإقامتَهم له لا محالة فكفرُهم به وعدمُ إقامتهم له وهم أهلهخ أقبحُ من كُلِّ قبيحٍ وأشنعُ من كل شنيع فمفعول قوله تعالى {آمنوا} محذوف ثقةً بظهوره مما سبقَ من قولِه تعالى هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَاّ أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون وما لَحِقَ من قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة الخ أي ولو أنهم مع صدور ما صدَرَ عنهُم من فنون الجنايات قولاً وفعلاً آمنوا بما نُفِيَ عنهم الإيمانُ به فيندرج فيه فرضُ إيمانهم برسول اللله صلى الله عليه وسلم وأما إرادةُ إيمانهم به صلى الله عليه وسلم خاصة فيأباها المقام لأن ما ذُكر فيما سبَقَ وما لَحِق من كفرهم به صلى الله عليه وسلم إنما ذُكر مشفوعاً بكفرهم بكتابهم أيضا قصدجا إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفر به صلى الله عليه وسلم مستلزم الكفر بكتابهم فحمل الإيمان ههنا على الإيمان به صلى الله عليه وسلم خحاصة مُخِلٌّ بتجاوُب أطرافِ النظمِ الكريم {واتقوا} ما عددجنا من معاصيهم التي من جُملتها مخالفةُ كتابهم {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم} التي اقترفوها وإنْ كانتْ في غايةِ العِظَم ونهايةِ الكثرة ولم تؤاخذهم بها {ولادخلناهم} مع ذلك {جنات النعيم} وتكرير اللام لتأكيدِ الوعد وفيه تنبيه على كمال عِظَم ذنوبهم وكثرةِ معاصيهم وأن الإسلام يجبُّ ما قبله من السيئات وإن جلَّتْ وجاوزت كلَّ حدَ معهود
المائدة آية 67
ما فيهما من الأحكامِ التي من جُملتها شواهدُ نبوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومبشراتُ بِعثتِه فإن إقامتهما إنما تكون بلك لا بمراعاة جميعِ ما فيهما من الأحكام لانتساخِ بعضِها بنزول القرآن فليست مراعات الكلِّ من إقامتهما في شيء {وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ} من القرآن المجيد المصدِّق لكتبهم وإيرادُه بهذا العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدّعونه من عدم نزوله إلى بني غسرائيل وتقديمُ إليهم لما مر من قبل وفي إضافة الربِّ إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة وقيل المراد بما أنزل إليهم كتب أنبياء بني إسرائيل مثلُ كتاب شعياءوكتاب حتقوق وكتاب دانيال فإنها مملوءة بالبشارة بمبعثه صلى الله عليه وسلم {لَاكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي لوسَّع عليهم أرزاقَهم بأن يُفيض عليهم بركاتِ السماء والأرض أو بأن يكثر ثمراتِ الأشجار وغلالَ الزروع أو بأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجتنوا ما تهدّل منها من رءوس الأشجار ويلتقطوا ما تساقط منها على الأرض وقيل المراد المبالغة في شرح السَّعَة والخِصْب لا تعيينُ الجهتين كأنه قيل لأكلوا من كل جهة ومفعول أكلوا محذوف لقصد التعميم أو للقصدِ إلى نفسِ الفعلِ كما في قوله فلان يعطي ويمنع ومن في الموضعين لابتداء الغاية في هاتين الشرطيتين من حثِّهم على ما ذكر من الإيمان والتقوى والإقامةِ بالوعد بنيل سعادة الدارين وزجرِهم عن الإخلال بما ذُكر ببيان إفضائِه إلى الحِرْمان عنها وتنبيههم على أنَّ ما أصابَهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصورٍ في فيض الفياض ما لا يخفى {مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} جملة مستأنَفةٌ مبنيّةٌ على سؤال نشأ من مضمون الجملتين المصدّرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاءِ وإقامةِ الكتب المُنْزلة من أهل الكتاب كأنه قيل هل كلُّهم كذلك مصرّون على عدم الإيمان الخ فقيل منهم أمة مقتصدة إما على أن منهم مبتدأ باعتبار مضمونه أي بعضهم أمة وإما بتقدير الموصوف أي بعضٌ كائنٌ منهم كما مر في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله الآية أي طاتفة معتلده وهم المؤمنون منهم كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلَام وأضرابه وثمانيةٌ وأربعون من النصارى وقيل طائفة حالُهم أَممٌ في عدجاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ} مبتدأٌ لتخصُّصِه بالصفةِ خبرُه {سَاء مَا يَعْمَلُونَ} أي مقولٌ في خقهم هذا القولُ أي بئسما يعملون وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملَهم من العِناد والمكابرةِ وتحريفِ الحق والإعراض عنه والإفراطِ في العداوة وهم الأجلافُ المتعصبون ككعب من الأشرف وأشباهه والروم
{يا أيها الرسول} نودي صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة تشريفاً له وإيذانا بأنها موجبات الإتيانِ بما أُمر به من متبليغ ما أُوحِيَ إليه {بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي جميع مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن الأحكام وما يتعلق بها كائناً ما كان وفي قولِه تعالى {مِن رَبّكَ} أي مالِكِ أمورِك ومبلِّغِك إلى كمالك اللائقِ بك عِدَةٌ ضِمْنية بحفظه صلى الله عليه وسلم وكَلاءته أي بلِّغْه غيرَ مراقب في ذلك أحد ولا خائف أن ينالك مكروهٌ أبداً {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} ما أُمرت به من تبليغ الجميع بالمعنى المذكور كما ينبىء عنه قوله تعالى {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} فإن ما لا تتعلق به الأحكام
المائدة آية 68
أصلاً من الأسرار الخفية ليست مما يُقصَدُ تبليغه إلى الناس أي فما بلغت شيئاً من رسالته وانسلخْتَ مما شَرُفتَ به من عنوان الرسالة بالمرة لِما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض فإذا لم تؤدِّ بعضها فكأنك أغفلتَ أداءَها جميعاً كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كلَ منها بما يُدليه غيرها وكونُها لذلك في حكم شيءٍ واحد ولا ريب في أن الواحد لا يكونُ مُبلَّغاً غيرَ ميبلغ مؤمَناً به غيرَ مؤمَنٍ به ولأن كتمان بعضها إضاعةٌ لما أُدِّيَ منها كترك بعض أركان الصلاة فإن غرض الدعوة ينتقض بذلك وقيل فكأنك ما بلغت شيئاً منها كقوله تعالى فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً من حيث أن كتمنان البعض والكل سواءٌ في الشناعة واستجلاب العقاب وقرىء فما بلغت رسالاتي وعن ابن عباس رشي الله عنهما إن كتمت ى ية لم تبلِّغْ رسالاتي وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني الله برسالاته فضِقْتُ بها ذرعاً فأوحَى الله إلي إنْ لم تبلِّغْ رسالاتي عذبتُك وضمِن لي العصمة فقوِيْتُ وذلك قوله تعالى {والله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فإنَّه كما ترى عِدَةٌ كريمةٌ بعصمته من لُحوق ضررهم بروحه العزيزِ باعثة له صلى الله عليه وسلم على الجد في تحقيق ما أُمر بهِ من التبليغ غير مكترث بعجاوتهم وكيدهم وعن أنسٌ رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يُحرَسُ حتى نزلت فأخرج رأسَه من قُبّةٍ أدم فقال انصرفوا يأيها الناس فقد عصمني الله من الناس وقوله تعالى {إِنَّ الله لَا يَهْدِى القوم الكافرين} تعليل لعصمته تعالى له صلى الله عليه وسلم أي لا يمكنهم مما يريدون بك من الإضرار وإيرادُ الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل الكتاب لِما أن الكل قوارعُ يسوء الكفارَ سماعُها ويشُقّ على الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهتُهم بها وخصوصاً ما يتلوها من النصِّ الناعي عليهم كمالَ ضلالتهم ولذلك أعيد الأمر فقيل
{قل يا أهل الكتاب} مخاكبا للفريقين {لستم على شيء} أي دينٍ يُعتدّ به ويليق بأن يسمى شيئاً لظهور بُطلانه ووضوح فساده وفي هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غايةَ وراءَه {حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل} اي تراعواهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وشواهدُ نبوته فإن إقامتهما إنما تكون بذلك وأما مراعاة أحكامهما المنسوخةِ فليست من إقامتهما في شيء بل هي تعطيل لهما وردٌّ لشهادتهما لأنهما شاهدان بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها لأن شهادتهما بصحة ما ينسخها شهادةٌ بنسخها وخروجها عن كونها من أحكامهما وأن أحكامهما ما قرره النبي الذي بشَّرَ فيهما ببعثته وذُكر في تضاعيفهما نعُوتُه فإذن إقامتُهما بيانُ شواهدِ النبوة والعملُ بما قررته الشريعة من الأحكام كما يفصحُ عنه قولُه تعالى {وما أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} أي القرآن المجيد بالإيمان به فإن إقامة الجميع لا تتأتَّى بغير ذلك وتقديم غقامة الكتابين على إقامته مع أنها المقصودةُ بالذات لرعاية حقِّ الشهادة واستنزالِهم عن رتبة الشِّقاق وإيرادُه بعنوان الإنزال إليهم لما مرّ من التصريح بأنهم مأمورون بإقامته والإيمان به كما لا يزعُمون من اختصاصه بالعرب وفي إضافة الربِّ إلى ضميرهم ما أشيرَ إليهِ من اللطف في الدعوة وقيل امراد بما
المائدة آي 69
أنزل إليهم كتب أنبياء بني إسرائيلَ كما مر وقيل الكتبُ الإلهية فإنها بأسرها آمرةٌ بالإيمان لمن صدَّقَتْه المعجزةُ ناطقةٌ بوجوب الطاعة له رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ جماعةً من اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألست تقرأ أن التوراة حقٌّ من عند الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم بلى فقالوا فإنا مؤمنون بها ولا نؤمنُ بغيرها فنزلت وقوله تعالى {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً} جملة مستأنَفةٌ مبيِّنةٌ لشدة شكيمَتِهم وغُلوِّهم في المكابرةِ والعنادِ وعدمِ إفادة التبليغ نفعاً وتصدريها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيق مدلولِها والمرادُ بالكثير المذكور علماؤهم ورؤساؤهم ونسبةُ الإنزال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسبته فيما مر إليهم للإنباء عن انسلاخِهم عن تلك النسبة {فَلَا تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين} أي لا تتأسف ولا تحزن عليهم لإفراطهم في الطغيان والكفر بما تُبلّغه إليهم فإن غائلتَه آيلةٌ إلهم وتبعته حائقة بهم لا تتخطاهم وفي المؤمنين مندوحةٌ لك عنهم ووضعُ المُظْهر موضعَ المُضمَرِ للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر
{إن الذين آمنوا} كلام مستأنَفٌ مسوق لترغيب مَنْ عدا المذكورين في الإيمان والعمل الصالح أي الذين آمنوا بألسنتهم فقد وهم المنافقون وقيل أعمُّ من أن يُواطِئَها قلوبُهم أولا {والذين هَادُواْ} أي دخلوا في اليهودية {والصابئون والنصارى} جمعُ نَصْرانَ وقد مر تفصيله في سورةِ البقرةِ وقوله تعالى الصابئون رفعٌ على الابتداء وخبرُه محذوف والنيةُ به التأخرُ عما في حيّز إنّ والتقدير إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمُهم كيتَ وكيتَ والصابئون كذلك كقوله فإني وقيارٌ بها لغريبُ وقوله وإلا فاعلموا أَنّا وأنتم بُغاةٌ ما بقِينا في شقاق خلا أنه وسَطٌ بين اسْمِ إنَّ وخبرِها دلالةً على أن الصابئين مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلِّها حيث قُبلت توبتُهم إن صحَّ منهم الإيمانُ والعملُ الصالح فغيرُهم أولى بذلك وقيل الجملة الآتية خبرٌ للمبتدأ المذكور وخبرُ إن مقدر كما في قوله نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأْيُ مختلِفُ وقيل النصارى مرفوع على الابتداءِ وقولُه تعالَى والصابئون عطفاً عليه وهو مع خبره عطفٌ على الجملة المصدَّرة بإن ولا مَساغَ لعطفه وحده على محلِّ إنَّ واسمِها لاشتنراط ذلك بالفراغ عن الخبر وإلا لارتفع الخبر بإن والابتداء معاً واعتُذر عنه بأن ذلك إذا كان المذكورُ خبراً لهما وأما إذا كان خبرُ المعطوف محذوفاً فلا محذورَ فيه ولا على الضمير في هادوا لعدم التأكيد والفصل ولاستلزامه كونَ الصابئين هُوداً وقرىء والصابيون بيان صريحة وبتخفيف الهمزة وقرىء والصابون وهو من صبا يصبوا لأنهم صبَوْا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم وقرىء والصابئين وقرىء يأيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون وقوله تعالى {مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صالحا} إما في محلِ الرفعِ على أنه مبتدأ خبره {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرط وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول كما أن إفرادَ ما في صلته باعتبار لفظه والجملة
المائدة آية 70
خبر إن والعائد إلى اسمها محذوف أي من آمن منهم وإما في محل النصب على أنه بدل من اسم إن وما عُطف عليه والخبر قوله تعالى فَلَا خَوْفٌ والفاء كما في قوله عز وعلا إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ الآية فالمعنى على تقدير كون المراد بالذين آمنوا المنافقين وهو الأظهر من أحدث من هذه الطوائف إيمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإنَّ ذلكَ بمعزلٍ من أن يكون إيماناً بهما وَعَمِلَ عملاً صالحا حسبما يقتضيه الإيمانُ بهما فلا خوف عليهم حين يخاف الكفار العقاب ولا هُمْ يَحْزَنُونَ حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان جوام انتفائِهما لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يُوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانية مضارِعاً لما مر مراراً لأن النفيَ وإن دخل على نفس المضارع يُفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا مطلقَ المتدينين بدين الإسلام المخلِصين منهم والمنافقين فالمرادُ بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواءٌ كان بطريق الثبات والدوام عليه كما هو شأن المخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كما هو حالُ من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف وفائدةُ التعميم للمخلصين المبالغةُ في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غيرُ مُخلَ بكونهم أسوةً لأولئك الأقدمين الأعلام وأما ما قيل المعنى من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملاً بمقتضى شرعه غمما لا سبيل إليه أصلا كما مرَّ تفصيلُه في سورة البقرة
{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إسرائيل} كلام مبتدأ مسوقٌ لبيان بعضٍ آخرَ من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم أي بالله لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} ذوي عدد كثير وأولي شأن خطير ليقررهم على مرعاة حقوق الميثاق ويُطْلعوهم على ما يأتون ويذرون في دينهم ويتعهدوهم بالعظة والذكير وقولُه تعالى {كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تهوى أَنفُسُهُمْ} جملة شرطيةٌ مستأنَفةٌ وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل وجواب الشرط محذوف كأنه قيل فمذا فعلوا بالرسل فقيل كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تُحبه أنفسهم المنهمكة في الغنى والفساد من الأحكام الحَقّة والشرائعِ عَصَوْه وعادَوْه وقوله تعالى {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} جواب مستأنَفٌ عن استفسار كيفية ما أظهروه من آثار المخالفة المفهومة من الشرطية على طريقة الإجمال كأنه قيل كيف فعلوا بهم فقيل فريقاً منهم كذبوهم من غير أن يتعرضوا لهم بشيء آخرَ من المَضارِّ وفريقاً آخر منهم لم يكتفوا بتكذيبهم بل قتلوهم أيضاً وإنما أُوثر عليه صيغة المضارعِ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتها الهائلة للتعجيب منها وللتنبيه على أن ذلك دَيْدنُهم المستمرُّ وللمحافظة على رءوس الآي الكريمة وتقديم فريقاً في الموضعين للاهتمام به وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر هذا وأما
المائدة آية 71
جعلُ الشرطية صفةً لرسلاً كما ذهب إليه الجمهور فلا يساعده المقام أصلاً ضرورةَ أن الجملة الخبرية إذا جُعلتْ صفةً أو صلةً يُنسخ ما فيها من الحُكم وتُجعل عنواناً للموصوف تتمةً له في إثباتِ أمرٍ آخَرَ له ولذلك يجب أن يكون الوصفُ معلومَ الانتساب إلى الموصوف عند السامع قبل جعله وصفاً له ومن ههنا قالُوا إن الصفاتِ قبلَ العلمِ بها أخبارٌ والأخبارُ بعد العلم بها أوصافٌ ولا ريب في أن ما سيق له النظمُ إنما هو بيانُ أنهم جعلوا كل من جاءهم من رسل الله تعالى عُرضةً للقتل أو التكذيب حسبما يفيده جعلُها استئنافاً على أبلغِ وجه وآكله لا بيانُ أنه تعالى أرسل إليهم رسلاً موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلِها صفةً
{وَحَسِبُواْ أَلَاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي حسِب بنو إسرائيلَ أن لا يصيبَهم من الله تعالى بما أتَوْا من الداهية الدهياء والخُطة الشنعاء بلاءٌ وعذاب وقرىء لا تكونُ بالرفع عَلى أنَّ أنْ هيَ المخففةُ من أنّ واسمُها ضميرُ الشأن المحذوف وأصله أنه لا تكون فتنةٌ وتعليقُ فعل الحُسْبان بها وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته وأن بما في حيِّزها سادٌّ مَسدَّ مفعوليه {فَعَمُواْ} عطف على حسِبوا والفاء للدِلالة على ترتيبِ ما بعدها على ما قبلها أي أمِنوا بأسَ الله تعالى فتمادَوْا في فُنون الغيِّ والفساد وعمُوا عن الدين بعد ما هداهم الرسلُ إلى معالمه الظاهرة ويبنوا لهم مناهجه الواضحة {وَصَمُّواْ} عن استماع الحق الذي ألقَوْه عليهم ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرّتَيْ إفساد بني إسرائيلَ حين خالفوا أحكام التوراة وركِبوا المحارم وقتلوا شعياء وقيل حبسوا أرمياء عليهما السلام لا إلى عبادتهم العجلَ كما قيل فإنها وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كماال العمَى والصمَم لكنها في عصر موسى عليه السلام ولا تعلُّقَ لها بما حُكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاءهم بعده عليه السلام بأعصار {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ} حين تابوا ورجعوا عمَّا كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابلَ دهراً طويلاً تحت قهر بُخْتَ نَصَّرَ أسارى في غاية الذل والمهانة فوجه الله عز وجل ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقس ليعمُرَه ونجّى بقايا بني إسرائيل من أسر بختَ نصَّرَ بعد مهلكه وردَّهم إلى وطنهم وتراجَعَ من تفرق منهم في الأكتاف فعَمَروه ثلاثين سنة فكثُروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه وقيل لما ورث بهمن ابن اسفنديارَ المُلك من جدِّه كستاسف ألقى الله عز وجل في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام وملّك عليهم دانيال عليه السلام فاستولَوا على من كان فيها من أتباع بختَ نصّر فقامت فيهم الأنبياءُ فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال وذلكَ قولُه تعالى ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وأمَّا ما قيل من أن المراد قبولُ توبتهم عن عبادة العجل فقد عرفت أن ذلك لا تعلُّق له بالمقامِ ولم يُسنِد التوبةَ إليهم كسائر احوالهم من الحسابن والعمَى والصمم تجافياً عن التصريح بنسبة الخير إليهم وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم تمهيداً لبيان نقضهم إياها بقوله تعالى {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرّتيْ إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدُهم قتلَ عيسى عليهم السلام لا إلى طلبهم الرؤية كما قيل لِما عرفت سره فإن فنون
المائدة آية 72
الجناياتِ الصادرةِ عنهم لا تكاد تتناهى خلا أن انحصار ما حُكي عنهم ههنا في المرتين وترتّبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام يقضي بأن المراد ما ذكرناه والله عنده علم الكتاب وقرىء عُموا وصُمّوا بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم كما يقال نَزَكتَهُ إذا ضربتَه بالنَّيْزَك ورَكَبتَهُ إذا ضربتَه بركبتك وقوله تعالى {كَثِيرٌ مّنْهُمْ} بدلٌ من الضمير في الفعلين وقيل خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي أولئك كثير منهم {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي بما عملوا وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضية استحضاراً لصورتها الفظيعة ورعايةً للفواصل والجملة تذييلٌ أشير به إلى بطلان حُسْبانهم المذكور ووقوع العذاب مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ إشارةٌ إجمالية اكتُفيَ بها تعويلاً على ما فُصِّل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيلَ والمعنى حسبوا أن لا يصيبهم عذابٌ ففعلوا ما فعلوا من الجنايات العظيمة المستوجبة لأشد العقوبات والله بصيرٌ بتفاصيلها فكيف لا يؤاخذهم بها ومن أين لهم ذلك الحسبانُ الباطل ولقد وقع ذلك في المرة الأولى حيث سلط الله تعالى بُخْتَ نصَّر عامل لهراسِبَ على بابل وقيل جالوتَ الجزري وقيل سنجاريبَ من أهل نينوى والأول هو الأظهر فاستولى على بيت المقدس فقتل من أهله أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرضه فبقُوا هناك على أقصى ما يكونُ من الذل والنكد إلى أن أحدثوا توبةً صحيحة فردهم الله عز وجل إلى ما حكي عنهم من حسنِ الحال ثم عادوا إلى المرة الآخرة من الإفساد فبعث الله تعالى عليهم الفرسَ فغزاهم ملكُ بابلَ من ملوك الطوائف اسمُه خيدرود وقيل خيدروس ففعل بهم ما فعل قيل دخل صاحب الجيش مذبحَ قرابينَهم فوجد فيه دماً يغلي فسألهم فقالوا دمُ قربانٍ لم يقبل منا فقال ما صَدَقوني فقتل عليه ألوفاً منهم ثم قال إنْ لم تصدُقوني ما تركت منكم أحداً فقالوا إنه دمُ يحيى عليه السلام فقال بمثل هذا بنتقم الله تعالى منكم ثم قال يحيى قد علم ربي وربُّك ما أصاب قومَك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقيَ أحداً منهم فهدأ
{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مريم} شروع في تفصيل قبائح النصارى وإبطالِ أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود وهؤلاء هم الذين قالوا إن مريم ولدت غلها قيل هم الملكانية والمار يعقوبية منهم وقيل هم اليعقوبية خاصة قالوا ومعنى هذا أن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذاته تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً {وَقَالَ المسيح} حالٌ من فاعل قالوا بتقدير قد مفيدةٌ لمزيد تقبيحِ حالهم ببيان تكذبيهم للمسيح وعدم انزجارِهم عما أصروا عليه بما أوعدهم به أي قالوا ذلك وقد قال المسيح مخاطباً لهم {يا بني إسرائيل اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ} فإني عبدٌ مربوبٌ مثلُكم فاعبدوا خالقي وخالقَكم {إٍِنَّهُ} أي الشأنَ {مَن يُشْرِكْ بالله} أي شيئاً في عبادته أو فيما يختص به من صفات الألوهية {فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة} فلن يدخلها أبداً كما لا يصل المحرم عليه إلى
المائدة آية 73
المحرم فإنها دار الموحدين وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمار لتهويل الأمر وتربية المهابة {وَمَأْوَاهُ النار} فإنها هي المعدّة للمشركين وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب غثر بيانِ حرمانِهم الثوابَ {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} أي مالهم من أحد ينصُرهم بإنقاذهم من النار إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظهار وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً ووضعه على الأول موضع الضمير للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لمَا قبلَهُ وهُو إمَّا من تمامِ كلامِ عيسى عليه السلام وأما واردٌ من جهته تعالى لمقالته عليه السلام وتقريراً لمضمونها وقد قيل إنه من كلامه عز وجل على معنى أنهم ظلموا وعجلوا عن سبيل الحق فيما تقوّلوا عَلَى عيسَى عليه السلام فلذلك لم يساعدْهم عليه ولم ينصُرْ قولهم ورده أنكره وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره أو من قول عيسى عليه السلام على معنى لا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبُعْده عن المعقول وأنت خبير بأن التعبيرَ عما حُكي عنه عليه السلام من مقابلته لقولهم الباطل بصريح الرد والإنكار والوعيد بحرمان الجنة ودخول النار بمجرد عدم مساعدته على ذلك ونفْي نُصْرته له مع خُلوِّه عن الفائدة تصوير للقوي ل = بصورة الضعيف وتهوين للخطب من مقام تهويله بل ربما يوهم ذلك بحسب الظاهر ما لا يليق بشأنه عليه السلام من توهم المساعدةِ والنُصرة لا سيما مع ملاحظة قوله وإن كانوا معظمين له الخ إلا أن يحمل الكلامُ على التهكم بهم كذا وكذا الحالُ على تقديرِ كونِه من تمام كلامِه عليه السلام فإن زجْرَه عليه السلام إياهم عن قولهم الفاسد بما ذكره من عدم الناصرِ والمساعدِ بعد زجره إياهم بما مر من الرد الأكيدِ والوعيدِ الشديد بمعزِلٍ من الإفادة والتأثير ولا سبيل ههنا إلا الاعتذار بالتهكم
{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة} شروع في بيان كفر طائفة أخرة منهم ومعنى قوله ثالث ثلاثة ورابع أربعة ونحوُ ذلك أحدُ هذه الأعدادِ مطلقاً لا الثالثُ والرابعُ خاصة ولذلك منع الجمهورُ أن ينصِبَ ما بعده بأن يقال ثالثٌ ثلاثة ورابع أربعة وغنما ينصبه إذا كان ما بعده دونه بمرتبة كما في قولك عشر تسعةً وتاسعٌ ثمانيةً قيل إنهم يقولون إن الإلهية مشتركة بين الله سبحانه وتعالى وعيسى ومريم وكلُّ واحد من هؤلاء إله ويؤكده قوله تعالى للمسيح أأنت قلت للناس اتخذونمي وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله فقوله تعالى ثالث ثلاثة أي أحد ثلاثةِ آلهة وهو المتبادر من ظاهرِ قولِه تعالى {وَمَا مِنْ إله إِلَاّ إله واحد} أي والحالُ أنه ليس في الوجود ذاتُ واجبٍ مستحق للعبادة من حيث إنه مبدأُ جميعِ الموجودات إلا إله موصوفٌ بالوحدانية متعالٍ عن قَبول الشِرْكة ومن مزيدة للاستغراق وقيل إنهم يقولون الله جوهرٌ واحدٌ ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس وأنهم يريدون بالأول الذات وقيل
المائدة 74 75
الوجود وبالثاني العلم وبالثالث الحياة فمعنى قوله تعالى وَمَا مِنْ إله إِلَاّ إله واحد إلا إله واحد بالذات منزه عن شائبةِ التعدد بوجهٍ من الوجوه {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ} من الكفر الشنيع ولم يوحّدوا وقوله تعالى {لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ} جوابُ قسمٍ محذوف سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط أي وبالله إن لم ينتهوا لميسنهم وإنَّما وضعَ موضعَ ضميرِهم الموصولُ لتكرير الشهادة عليهم بالكفر فمن في قوله تعالى {منهم} بيانية أو ليمسن الذين بقُوا منهم على ما كانُوا عليهِ من الكفر فمن تبعيضية وإنما جيء بالفعل المنبىء عن الحدوث تنبيهاً على أن الاستمرار عليه بعد ورود ما ينحى عليه بالقلع من نص عيسى عليه السلام وغيره وكفر جديد وغلوٌّ زائد على ما كانُوا عليهِ من أصل الكفر {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي نوع شديد الألم من العذاب وهمزة الاستفهام في قوله تعالى
{أفلا يتوبون إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} لإنكار الواقع واستبعاده لا لإنكار الوقوع وفيه تعجيب من إصرارهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقاويل الباطلة فلا يتوبون إلى الله تعالى ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عما نسبوه إليه من الاتحاد والحلول فمدارُ الإنكار والتعجيب عدمُ الانتهاء وعدم التوبة معاً أو أيَسْمعون هذه الشهاداتِ المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك فمدارُهما عدم التوبة عَقيبَ تحقُّق ما يوجبها من سماع تلك لقوارع الهائلة وقوله عز وجل {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ يستغفرونه مؤكِّدةٌ للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار أي والحالُ أنَّه تعالَى مبالغٌ في المغفرة فيغفرُ لهم عند استغفارهمويمنحهم من فضله
{مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلَاّ رَسُولٌ} استئناف مَسوقٌ لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه وبيانِ حقيقة حاله عليه السلام وحالِ أمه بالإشارة أولاً إلى أشرفِ ما لهما من نعوت الكمالِ التي بها صارا من زمرة أكمل أفراد الجنس وآخراً إلى الوصف المشترك بينهما وبين جميع أفرادِ البشر بل أفراد الحيوان استنزالهم بطريق التدريج عن رتبة الإصرار على ما تقوّلوا عليهما وإرشاداً لهم إلى التوبة والاستغفار أي هو مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها وقوله تعالى {قد خلت من قبله الرسل} صفة لرسول منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية فإن خلو الرسلِ السالفةِ عليهم السلام منذر بخلوِّه المقتضي لاستحالة ألوهيته أي ما هو إلا رسول كالرسل الخالية من قبله خصه الله تعالى ببعضٍ من الآيات كما خص كلاًّ منهم ببعضٍ آخر منها فإن أحيى الموتى على يده فقد أحيى العصا في يد موسى عليه السلام وجعلت حية تسعى وهو أعجب منه وإن خُلق من غير أبٍ فقد خَلَق آدمَ من غير أب ولا أم وهو أغرب منه وكل ذلك من جنابِه عز وجل وإنما موسى وعيسى مظاهرُ لشئونه وأفعاله {وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ} أي وما أمه أيضا كسائر النساء اللاتي يلازِمْن الصدق أو التصديق ويبالغْن في الاتصاف به فما رتبتهما
المائدة آية 76 77
إلا رتبةُ بشرَيْن أحدُهما نبي والآخر صحابي فمن اين لكم أن تصفوهما بما لا يوصف به سائر الأنبياء وخواصم {كَانَا يَأْكُلَانِ الطعام} استئناف مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر أفراد البشر في الاحتياج إلى ما يحتاج إليه كُلُّ فردٍ من أفرادِه بل من أفراد الحيوان وقوله تعالى {انظر كَيْفَ نبين لهم الايات} تعجيب من حال الذين يدّعون لهما الربوبية ولا يرعوون عن ذلك بعد ما بيَّن لهم حقيقة حالهما بياناً لا يحوم حوله شائبةُ ريب وكيف معمول لنبينُ والجملة في حين النصب معلقة لا نظر أي انظر كيف نبين لهم الآيات الباهر المناديةَ ببطلان ما تقوّلوا عليهما نداءً يكاد يسمعه صمُّ الجبال {ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ} أي كيفَ يُصرفون عن استماعها والتأمل فيها والكلام فيه كما فيما قبله وتكريرُ الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت أي إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بالغٌ لأقاصي الغايات القاصيةِ من التحقيق والإيضاح وإعراضُهم عنها مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضُدِ ما يوجب قبولَها أعجبُ وأبدع
قل أمرٌ له عليه الصلاة والسلام بالإلزامهم وتبكيتِهم إثْرَ تعجيبه من أحوالهم {أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي متجاوزين إياه وتقديمُه عَلى قولِه تعالَى {مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً} لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والموصول عبارةٌ عن عيسى عليه السلام وإيثاره على كلمة مَنْ لتحقيق ما هو المراد من كونه بمعزلٍ من الألوهية رأساً ببيان انتظامه عليه السلام في سلك الأشياء التي لا قُدرةَ لها على شيء أصلاً وهو عليه السلام وإن كان يملك ذلك بتمليكه تعالى إياه لكنه لا يملِكه من ذاته ولا يملك مثل ما يُضِرُّ به الله تعالى من البلايا والمصائب وما ينفع به من الصِّحة وتقديم الضرر على النفع لأن التحرز عنه أهمُ من تحرّي النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم جلب الحير وقوله تعالى {والله هُوَ السميع العليم} حال من فاعل أتعبدون مؤكِّد للإنكار والتوبيخ ومقررللإلزام والتبكيت والرابط هو الواو أي تشركون بالله تعالى ما لا يقدرُ على شيءٍ من ضُرِّكم ونفعكم والحال أن الله تعالى هو المختص بالإحاطة التامةِ بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة والأعمال السيئة وبالقدرة اللباهرة على جميعِ المقدُورات التي من جملتها مَضارُّكم ومنافعُكم في الدنيا والآخرة
{قل يا أهل الكتاب} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى فريقي أهل الكتاب بطريق الالتفات على لسان النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد إبطال مسلك كل منهما للمبالغة في زجرهم عما سلكوه من المسلك الباطل وإرشادهم إلى الأَمَم المنئاة {لا تغلوا فى دينكم} أي لا تتجاوزا الحد وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عن رتبة الرسالة إلى ما تقوَّلوا في حقه من العظيمة ولليهود عن وضعهم له عليه السلام عن رتبته العلية إلى ما تقوَّلوا عليه من الكلمة الشنعاء وقيل هو خاص بالنصارى كما في سورة النساء فذكَرَهم بعنوان أهلية الكتاب لتذكير أن
المائدة آية 78 79
الإنجيل أيضاً ينهاهم عن الغلو وقوله تعالى {غَيْرَ الحق} نُصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي لا تغلوا فى دينكم غلواً غيرَ الحق أي غلواً باطلاً أو حالٌ من ضميرِ الفاعل أي لا تغلوا مجاوزين الحق أو من دينكم أي لا تغلوا فى دينكم حال كونه باطلاً وقيل نُصب على الاستثناء المتصل وقيل على المنقطع {وَلَا تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} هم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أو من النصارى على القولين قبل مبعث النبيِّ صلى الله عليه وسلم فير شريعتهم {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} أي قوماً كثيراً ممن شايعهم في الزيغ والضلال أو إضلالاً كثيراً والمفعولُ محذوف {وَضَلُّواْ} عند بعثةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتوضيح محجة الحق وتبين مناهجِ الإسلام {عَن سَوَاء السبيل} حين كذبوه وحسدوه وبغَوْا عليه وقيل الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل والثاني إلى ضلالِهم عما جاء به الشرع
{لُعِنَ الذين كَفَرُواْ} أي لعنهم الله عز وجل وبناءُ الفعل للمفعولِ للجَرْي على سَنن الكبرياءِ {مِن بني إسرائيل} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً منَ الموصولِ أو مِنْ فاعل كفروا وقوله تعالى {على لسان داود وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} متعلق بلُعن أي لعنهم الله تعالى في الزبور والإنجيل على لسانهمها وقيل إن أهل أَيْلةَ لما اعتدَوا في السبت دعا عليهم داود عليه السلام وقال اللهم العنهم واجعلهم آيم فمسخهم الله قردة وأصحابُ المائدة لمكا كفروا قال عيسى عليه السلام اللهم عذِّبْ من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذِّبْه أحداً من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازيرَ وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي {ذلك} إشارة إلى اللعن المذكور وإيثارُه على الضمير للتنبيه على كمال ظهورِه وامتيازِه عن نظائره وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته في الشناعة والهول وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى {بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} والجملة مستأنَفةٌ واقعة موقع الجواب عما نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل بأي سبب وقع ذلك فقيل ذلك اللعنُ الهائل الفظيعُ بسبب عصيانهم واعتدائهم المستمر كما يفيده الجمعُ بينَ صيغتي المَاضِي والمستقبل وينبىء عنه قوله تعالى
{كَانُواْ لَا يتناهون عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} فإنه استئناف مفيد بعبارته لاستمرار عدم التناهي عن المنكر ولا يمكن استمرارُه إلا باستمرار تعاطي المنكرات وليس المراد بالتناهي أن ينْهَى كلُّ واحد منهم الآخَرَ عما يفعله من المنكر كما هو المعنى المشهورُ لصيغة التفاعل بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة من غير اعتبارِ أنْ يكون كلُّ واحدٍ منهم ناهياً ومنهياً معاً كما في تراءَوْا الهلالَ وقيل التناهي بمعنى الانتهاء يقال تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع عنه وتركه فالجملة حينئذ مفسرةٌ لما قبلها من المعصية والاعتداء ومفيدة لاستمرارهما صريحاً وعلى الأول مفيدة لاستمرار انتفاء النهي عن المنكر بأن لا يوجد فيما بينهم من يتولاه في وقتٍ من الأوقاتِ ومن ضرورته استمرارُ فعل المنكر حسبما سبق وعلى كل تقدير فما يفيده تنكيرُ المنكر من الوحدة
المائدة آية 80 81
نوعية لا شخصية فلا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق انهي به لِما أن متعلَّق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلقُ به النهي والانتهاء من مطلق المنكر باعتبار تحقّقه في ضمن أيِّ فردٍ كان من أفراده على أن المضي المعتبر في الصفة إنما هو بالنسبة إلى زمان النزول لا إلى زمان النهي حتى يلزمَ كونُ النهي بعد الفعل فلا حاجة إلى تقدير المعاودة أو المِثْل أو جعلِ الفعل عبارةً عن الإرادة على أن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول فلا بد من المصير إلى أحد ما ذُكر من الوجهين أو إلى تقدير المثل أو إلى جعل الفعل عبارة عن إرادته وفي كل ذلك تعسفٌ لا يخفى {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} تقبيح لسوء أعمالهم وتعجيب منه بالتوكيد القسمي كيف لا وقد أداهم إلى ما شُرح من اللعن الكبير وليس في تسبُّبه بذلك دلالةٌ على خروج كفرهم عن السببية مع الإشارةِ إلى سببيته له فيما سبقَ من قولِه تعالى لُعِنَ الذين كَفَرُواْ فإن إجراءُ الحُكم على الموصول مُشعرٌ بعِلِّية ما في حين الصلة له لما أن ما ذكر في حين السببية مشتملٌ على كفرهم أيضاً
{ترى كَثِيراً مّنْهُمْ} أي من أهل الكتاب ككعبِ بن الأشرف وأضرابِه حيث خرجوا إلى مشركي مكةَ ليتّفقوا على محاربة النبيِّ صلى الله عليه وسلم والرؤيةُ بصريةٌ وقوله تعالى {يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ} حال من كثيراً لكونه موصوفاً أي يوالون المشركين بُغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وقيل مِنْ منافقي أهل الكتاب يتولَّوْن اليهود وهو قولُ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ومجاهدٌ والحسن وقيل يوالون المشركين ويُصافوُنهم {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} لبئس شيئاً قدّموا ليَرِدوا عليه يوم القيامة {أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} هو المخصوصُ بالذم على حذف المضاد وإقامةِ المضافِ إليهِ مُقامَهُ تنبيهاً على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد ومبالغةً في الذم أي موجبُ سُخطِه تعالى ومحله الرفع على الابتداء والجملة قبله خبرُه والرابط عند من يشترطه هو العموم أو لا حاجة إليه لأن الجملةَ عينُ المبتدأ أو على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوف ينبىء عنه الجملة المتقدمة كأنَّه قيلَ ما هُو أو أيُّ شيء هو فقيل هو أنْ سخِط الله عليهم وقيل المخصوصُ بالذم محذوف وما اسم تامٌّ معرفةٌ في محل رفع الفاعلية لفعل الذم وقدمت لهم أنفسهم جملة في محلِ الرفعِ على أنها صفة للمخصوصِ بالذم قائمةٌ مَقامه والتقدير لبئس الشيءُ شيءٌ قدّمتْه لهم أنفسُهم فقوله تعالى أَن سَخِطَ الل عَلَيْهِمْ بدلٌ من شيء المحذوفِ وهذا مذهب سيبويه {وَفِى العذاب} أي عذابَ جهنَم {هُمْ خالدون} أبد الآبدين
{وَلَوْ كَانُواْ} أي الذين يتولون المشركين من أهل الكتاب {يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ} أي نبيهم {وَمَا أُنْزِلَ إليه} من الكتاب أولو كان المنافقون يؤمنون بالله ونبينا إيماناً صحيحاً {مَا اتخذوهم} أي المشركين أو اليهود {أَوْلِيَاء} فإن الإيمان بما ذُكر وازعٌ عن تولِّيهم قطعاً {ولكن كَثِيراً مّنْهُمْ فاسقون} خارجونَ عن الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم أو متمرِّدون في النفاق مفرطون فيه
المائدة آية 82
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً للذين آمنوا اليهود والذين أَشْرَكُواْ} جملةٌ مستأنَفة مَسوقة لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود وعَراقتهم في الكفر وسائرِ أحوالهم الشنيعة التي من جملتها موالاتُهم للمشركين أُكِّدت بالتوكيد القسَميّ اعتناءً ببيان تحققِ مضمونها والخطابُ إمَّا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد صالح له إيذاناً بأن حالهم مما لا يخفى على أحد من الناس والوُجدانُ متعدَ إلى اثنين أحدُهما أشدُّ الناس والثاني اليهودُ وما عُطف عليه وقيلَ بالعكس لأنهما في الأصل مبتدأٌ وخبرٌ مصب الفائدةِ هُوَ الخبرُ لا المبتدأ ولا ضيرَ في التقديم والتأخير إذا دل على الترتيب دليل وهههنا دليل واضح عليه وهو أن المقصودَ بيانُ كون الطائفتين أشدَّ الناس عداوة للمؤمنين لا كونِ أشدِّهم عداوةً لهم الطائفتين المذكورتين وأنت خبير بأنه بمعزلٍ من الدلالةِ على ذلك كيف لا والإفادة في الصورة الثانية أتمّ وأكملُ مع خلوها عن تعسُّف التقديم والتأخير غذ المعنى أنك إن قصدتَ أن تعرِفَ من أشدُّ الناس عداوةً للمؤمنين وتتبعْتَ أحوالَ الطوائف طُراً وأحطتَ بما لديهم خُبْراً وبالغْتَ في تعرُّف أحوالهم الظاهرةِ والباطنة وسعَيْتَ في تطلُّب ما عندهم من الأمور البارزة والكامنة لتجدن الأشدَّ تَيْنِك الطائفتين لا غيرُ فتأملْ واللام الداخلة على الموصول متعلقةٌ بعداوةً مقويةٌ لعملها ولا يضرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء مبنية عليها كما في قولِه ورهبةً عقابَك وقيل متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لعداوة أي كائنةً للذين آمنوا وصفهم الله تعالى بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعُف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرُّنهم على التمرّد والاستعصاء على الأنبياء والاجتراء على تكذيبهم ومُناصَبَتِهم وفي تقديم اليهود على المشركين بعد لَزِّهما في قَرنٍ واحد إشعارٌ بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن تقديمهم عليهم في قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ إيذاناً بتقدُّمهم عليهم في الحرص {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مودة للذين آمنوا} أعيد الموصولُ مع صلته رَوْماً لزيادة التوضيح والبيان {الذين قالوا إنا نصارى} عبر عنهم بذلك إشعار بقرب مودتهم حيث يدّعون أنهم أنصار الله وأوداء أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقدا حقية الإسلام وعلى هذه النكتنى مبنى الوجه الثاني في تفسيرِ قولِه تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم والكلام في مفعولي لتجدن وتعلق اللام كالذي سبق والعجول عن جعْل ما فيه التفاوتُ بين الفريقين شيئاً واحداً قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخِراً ولتجدن أضعفَهم عداوة الخ أو بأن يقال أو لا لتجدن أبعد الناس مودة الخ للإيذان بكمال تبايُن ما بينَ الفريقينِ من التفاوتِ ببيان أن أحدَهما في أقصى مراتبِ أحدِ النقيضين والآخَرَ في أقربِ مراتب النقيض الآخر {ذلك} أي كونهم أقربَ مودةً للمؤمنين {بأن منهم} بسبب أن منهم {قِسّيسِينَ} وهم علماءُ النصارى وعبّادهم ورؤساؤهم والقِسّيسُ صيغةُ مبالغةٍ من تقَسَّسَ الشيءَ إذا تتبَّعه وطلبه بالليل سُموا به لمبالغتهم في تتبع العلم قاله الراغب وقيل القَسُّ بفتح القاف تتبُّعُ الشيء ومنه سمي عالم النصارى قسيساً لتتبعه العلم وقيل قصَّ الأثرَ وقسه بمعنى وقيل
المائدة 83 84
إنه أعجمي وقال قُطرُبُ القِسّ والقِسّيسُ العالم بلغة الروم وقيل ضيَّعت النصارى الإنجيلَ وما فيه وبقي منهم رجل يقال له قسيسا لم يبدِّلْ دينه فمن راعى هديه ودينه قيل له قسيس {وَرُهْبَاناً} وهو جمه راهب كراكب ورُكبان وفارس وفُرسان وقيل إنه يطلق على الواحد وعلى الجمع وأُنشِدَ فيه قولُ من قول لو عايَنَتْ رُهبانَ ديْرٍ في قُلَل لأقبل الرهبانُ يعدو ونزَلْ والترهب التعبد في الصومعة قال الراغب الرهبانية الغلوُّ في تحمل التعبد من فرط الخوف والتنكير لإفادة الكثرة ولا بد من اعتبارها في القسيسين أيضاً إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فإن اتصاف أفرادٍ كثيرة لجنسٍ بخصلةٍ مظِنةٌ لاتصاف الجنس بها وإلا فمن السهود أيضاً قوم مهتدون ألا يُرى إلى عبدُ اللَّه بنُ سَلَام وأضرا به قال تعالى مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيات الله آناء الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ الخ لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعدَّ حكمُهم إلى جنس اليهود {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} عطف على أن منهم أي وبأنهم لا يستكبرون عن قبول الحق إذا فهموا ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود وهذه الخَصلةُ شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيّتُها لأقربيّتهم مودةً للمؤمنين واضحة وفيه دليلٌ على أنَّ التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودٌ وإن كان ذلك من كافر
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول} عطف على لا يستكبرون أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون وأن أعينَهم تفيض من الدمع عند سماع الرقآن وهو بيانٌ لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتِهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} أي تمتلىء بالدمع فاستُعير له الفيضُ الذي هو الانصبابُ عن امتلاءٍ مبالغةً أو جُعلت أعينُهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} من الأُولى لابتداء الغايةِ والثانية تبعيضية لأن ما عرفوه بعضُ الحق وحيث أبكاهم ذلك فما ظنك بهم لو عرفوا كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة وقرىء تُرى أعينُهم على صيغة المبني للمفعول {يقولون} استئن مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل ماذا يقولون فقيل يقولون {ربنا آمنا} بهذا أو بمن أنزل هذا عليه أو بهما وقيلَ حالٌ من الضميرِ في عرفوا أو منَ الضميرِ المجرورِ في أعينهم لما أن المضاف جزؤه كما في قوله تعالى وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي الذين شهدوا بأنه حق أو بنبوته أو مع أمته الذين هم شهداءُ على الأممِ يومَ القيامةِ وإنما قالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك
{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق} كلام مستأنَفٌ قالوه تحقيقاً لإيمانهم وتقريراً له بإنكار سبب انتفائه ونفيِه بالكلية على أنَّ قولَه تعالى لَا نُؤْمِنُ حال من الضمير في لنا والعاملُ ما فيه من الاستقرارِ أيْ أيُّ شيءٍ حصل لنا
المائدة آية 85 87
غيرَ مؤمنينَ على توجيه الإنكارِ والنَّفي إلى السببِ والمسبَّب جميعاً كَما في قوله تعالى ومالي لَا أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى ونظائرِه لا إلى السببِ فقط مع تحقق المسبب كما في قوله تعالى فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وأمثاله فإنَّ همزةَ الاستفهامِ كَما تكونُ تارةً لإنكارِ الواقعِ كَما في أتضرِبُ أباكَ وأخرة لإنكار الوقوعِ كما في أأضربُ أبي كذلكَ ما الاستفهاميةُ قد تكونُ لإنكارِ سببِ الواقعِ ونفْيِه فقطْ كما في الآية الثانية وقولُه تعالى مَّا لَكُمْ لَا تجون لِلَّهِ وَقَاراً فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ محُققاً فإنَّ كلاً من عدمِ الإيمانِ وعدمِ الرَّجاءِ أمرٌ محققٌ قد أنكر ونفي سببه وقد يكون الإنكارُ سببَ الوقوعِ ونفيَه فيسريانِ إلى المسببِ أيضاً كَما في الآية الأولى فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ مفروضاً قطعاً فإنَّ عدمَ العبادةِ أمرٌ مفروضٌ حتماً وقوله تعالى {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين} حال أخرى من الضمير المذكور بتقدير مبتدأ والعامل فيها هو العامل في الأولى مقيداً بها أيْ أيُّ شيءٍ حصلَ لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في صحبة الصالحين أو من الضميرِ في لا نؤمن على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين وقيل معطوف على نؤمن على معنى وما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع المذكور
{فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} أي عن اعتقاد من قولك هذا قول فلان أن مُعتقدُه وقرىء فآتاهم الله {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وذلك جَزَاء المحسنين} أي الذينَ أحسنوا النظر والعمل أو الذين اعتادوا الإحسان في الأمور والآيات الأربع رُوي أنَّها نزلتْ في النجاشي وأصحابه بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه فقرأه ثم دعا جعفرَ بنِ أبي طالبٍ والمهاجرين معه وأحضر القسيسين والرهبان فأمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم فبكوا وآمنوا بالقرآن وقيل نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه وفدوا على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم سورة مريم فبكَوا وآمنوا
{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} عطَفَ التكذيب بآيات الله على الكفر مع أنه ضربٌ منه لِما أن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكَرهم بمقابلة المصدِّقين بها جمعاً بين الترغيب والترهيب
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لَا تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} أي ما طاب ولذ منه كأنه لمّا تضمّن ما سلف من مدح النصارى على الترهيب ترغيب المؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات عقّب ذلك بالنهي عن الإفراط في الباب أي لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغةً منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً ورويَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وصف القيامة لأصحابه يوماً فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار فرقّوا واجتمعوا في بيت
المائدة آية 88 89
عثمانَ بنِ مظعونٍ واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين وأن لا يناموا على الفُرش ولا يأكلوا اللحم والودَك ولا يقرَبوا النساء والطيِّب ويرفضوا الدنيا ويلْبَسوا المُسوح ويَسيحُوا في الأرض ويجبوا مناكيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقو وأنام وأصوم وأُفطر وآكلُ اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغِب عن سنتي فليس مني فنزلت {وَلَا تعتدوا} أي ولا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات أو جَعَلَ تحريمَ الطيبات اعتداءً وظلماً فنهى عن مطلق الاعتداء ليدخُل تحته النهيُ عن تحريمها دخولاً أولياً لوروده عَقيبه أو أريدَ ولا تعتدوا بذلك {إِنَّ الله لَا يُحِبُّ المعتدين} تعليل لما قبله
{وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيّباً} أي ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله فحلالاً مفعول كلوا ووما رزقكم إما حال منه تقدمتْ عليه لكونِه نكرةً أو متعلق بكلوا ومِنْ ابتدائية أو هو المفعول وحلالاً حالٌ منَ الموصولِ أو مِنْ عائدِه المحذوف أو صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي أكلاً حلالاً وعلى الوجوه كلها لو لم يقع الرزظق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة {واتقوا الله الذى أَنتُم به مؤمنون} توطكيد للوصية بما أَمَر به فإن الإيمانَ بهِ تعالى يوجب المبالغة في التقوى والانتهاء عما نهى عنه
{لَاّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم} اللغو في اليمين الساقطُ الذي لا يتعلق به حُكم وهو عندنا أن يحلِف على شيء يظن أنه كذلك وليس كما يظن وهو قول مجاهد قيل كانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظنِّ أنه قُربة فلما نزل النهي قالوا كيف بأيماننا فنزلت وند الشافعي رحمه اللله تعالوا ما يبدوا من المرء من غير قصد كقوله لا والله وبلى والله وهو قول عائشةَ رضيَ الله تعالى عنها وفي أيمانكم صلةُ يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايمان} أي بتعقيدكم اليمان وتوثيقها عليه بالقصد والنية والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقّدتموه إذا حنِثتم أو بنَكْثِ ما عقّدتم فحُذِف للعلم به وقرىء بالتخفيف وقرىء عاقدتم بمعنى عقدتم {فَكَفَّارَتُهُ} أي فكفارةُ نكْثِه وهي الفعلة التي من شأنِها أنْ تكفّرَ الخطيئة وتسترها واستدل بظاهره على جواز التكفير قبل الحِنْث وعندنا لا يجوز ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين ورأى غيرَها خيراً فليأتِ الذي هو خيرٌ ثم لْيُكفِّرْ عن يمينه {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي من أقصَدِه في النوع أو المقدار وهو نصفُ صاعٍ منْ بُر لكلِّ مسكين ومحلُّه النصبُ لأنه صفةُ مفعول
المائدة آية 90
محذوف تقديرُه أن تُطعموا عشرة مساكينَ طعاماً كائناً من أوسط ما تطعمون أو الرفعُ عَلى أنَّه بدل منإطعام وأهلون جمعُ أهلٍ كأَرَضون جمع أرض جمع أرض وقرىء أهاليكم بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف وهذا أيضاً جمع أهلٍ كالأراضي في جمع أرض والليالي في جمع ليل وقيل جمع أهلاة {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} عطف على إطعامُ أو على محلَّ من أوسط على تقدير كونِه بدلاً من إطعام وهو ثوب يغطي العورة وقيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار وقُرىء بضمِّ الكافِ وهي لغة كقدرة في قُدوة وإسوة في أُسوة وقرىء أو كأُسوتهم على أن الكافُ في محل الرفعِ تقديره أو إطعامهم كأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم غسرافا وتقتيراً تواسون بينهم وبينهم إن لم تُطعموهم الأوسط {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي أو إعتاقُ إنسان كيفما كان وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه فيه الإيمان قياساً على كفارة القتل ومعنى أو غيجاب إحدى الخصال مطلقاً وخيارُ التعيين للمكلف {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أيْ شيئاً من الأمور المذكورة {فَصِيَامُ} أي فكفارتُه صيام {ثلاثة أَيَّامٍ} والتتابع شرط عندنا لقراءة ثلاثة أيام متتابعات والشافعي رضي الله عنه لا يرى الشواذ حجة {ذلك} أي الذي ذُكرَ {كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ} أي وحنِثْتم {واحفظوا أيمانكم} بأن تضِنوا بها ولا تبذُلوها كما يُشعر بهِ قولُه تعالى إِذَا حَلَفْتُمْ وقيل بأن تَبَرّوا فيها ما استطعتم ولم يفُتْ بها خير أو بأن تكفروها إذا حنِثتم وقيل احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاوناً بها {كذلك} غشارة لي مصدر الفعل الآتي لا إلى تبيينٍ آخَرَ مفهومٍ مما سبق والكاف مقحمةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحله في الأصلِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير يبين الله تبييناً كائناً مثلَ ذلك التبيين فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصل نفسَ المصدر لا نعتاً له وقد مر تفصيله في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا أي ذلك البيان البديع {يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} أعلام شريعته وأحكامه لا بياناً أدنى منه وتقديم لكم على المفعول لما مر مراراً {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب} أي الأصنامُ المنصوبةُ للعبادة {والازلام} سلف تفسيرها في أوائل السورةِ الكريمة {رِجْسٌ} قذر تعاف عنه العقول وإفراده لأنه خبرُ الخمر وخبرُ المعطوفات محذوفٌ ثقةً بالمذكور أو المضاف محذة وف أي شأن الخمر والميسر إلخ {رجس مِنْ عَمَلِ الشيطان} في محلِ الرفعِ على أنه صفةُ رجس أي كائن من عمله لأنه مسبَّبٌ من تسويله وتزيينه {فاجتنبوه} الرجس أو ما ذكر {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي راجين فلاحكم وقيل لكي تفلحوا بالاجتناب عنه وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير قولِه تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ولقد أُكِّد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة بفنون التأكيد حيث صُدِّرت الجملة بإنما وقُرِنا بالأصنام والأزلام وسُمِّيا رجساً من عمل الشيطان تنبيهاً على أن تعاطيهما شرٌّ بحْتٌ وأَمَر بالاجتناب عن عينهما وجعل ذلك
المائدة آية 91 93
سببا يرجى منه الفلاح فيكون ارتكابهما خَيبة ومَحْقة ثم قرر ذلك بيان ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقيل
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِى الخمر والميسر} وهو إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} إشارة إلى مفاسدهما الدينية وتخصيصُهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيانُ حالهما وذكرُ الأصنام والأزلام للدلالة على أنهما مثلُهما في الحرمة والشرارة لقوله صلى الله عليه وسلم شارب الخمر كعابد الوثن وتخصيصُ الصلاة بالإفراد مع دخولها في الذكر للتعظيم والإشعار بأن الصادَّ عنها كالصادِّ عن الإيمان لما أنها عِمادُه ثم أعيد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتَّباً على ما تقدم من أصناف الصوارف فقيل {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} أيذاناً بأن الأمر في الزجر والتحذير وكشفِ ما فيهما من المفاسد والشرور قد بلغ الغاية وأن الأعذارَ قد انقطعت بالكلية
{وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} عطف على اجتنبوه أي أطيعوهما في جميع ما أمرا به ونهيا عنه {واحذروا} أي مخالفتَهما في ذلك فيدخل فيه مخالفةُ أمرِهما ونهْيِهما في الخمر والميسر دخولاً أولياً {فَإِن توليتم} أي أعرضتم عن الامتثال بما أُمرتم به من الاجتناب عن الخمر والميسر وعن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والاحترازِ عن مخالفتهما {فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} وقد فعل ذلك بكما لا مزيد عليه وخرج عن عُهدة الرسالة أيَّ خروج وقامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار وانقطعت العلل وما بقي بعذ ذلك إلا العقاب وفيه من عظم التهديد وشدة الوعيد ما لا يخفى وأما ما قيل من أن المعنى فاعلموا أنكم لم تضُروا بتولِّيكم الرسولَ لأنه ما كُلّف إلا البلاغَ المبينَ بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كُلِّفتموه فلا يساعده المقام إذ لا يُتوهم منهم ادعاءُ أنهم بتوليهم يضرونه صلى الله عليه وسلم حتى يردَ عليهم بأنهم لا يضرونه وإنما يضرون أنفسهم
{ليس على الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} أي إثم وحرج {فِيمَا طَعِمُواْ} أي تناولوا أكلاً أو شرباً فإن استعماله في الشرب أيضاً مستفيضٌ منه قوله تعالى ومن لم يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى قيل لما أنزل الله تعالى تحريم الخمر بعد غزوة الأحزاب قال رجال من أصحابِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام أصيب فلان يوم بدر وفلان يوم أحد وهو يشربونها ونحن نشهد أنهم في الجنة وفي رواية أخرى لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهو يشربون الخمر ويأكلون الميسر وفي
المائدة
رواية أخرى قال أبُو بكرٍ رضيَ الله تعالى عنه يا رسولَ الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار فنزلت وليست كلمة ما في طعموا عبارةً عن المباحات خاصة وإلا لزم تقييد غباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله تعالى {إِذَا مَا اتقوا} واللازمُ منْتفٍ بالضرورة بل هي عبارة على عمومها موصولوة كانت أو موصوفة وإنما تخصصت بذلك القيد الطارىء عليها والمعنى ليس عليهم جُناحٌ فيما تناولوه من المأكول والمشروب كائناً ما كان إذا اتقَوْا أنْ يكونَ في ذلكَ شيء من المحرمات وإلا لم يكن نفْيُ الجُناح في كل ما طعموه بل في بعضه ولا محذورَ فيه إذِ اللازمُ منه تقييد غباحة الكل بأن لا يكون فيه محرم لا تقيد إباحة بعضه باتقاء بعضٍ آخرَ منه كما هو اللازمُ من الأول {وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} أي واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة وقوله تعالى {ثُمَّ اتَّقَواْ} عطف على اتقوا داخلٌ معه في حيِّز الشرط أي اتقوا ما حُرّم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحاً فيما سبق {وآمنوا} أي بتحريمه وتقديم الاتقاء عليه إما للاعتناء به أو لأنه الذي يدل على التحريم الحادث الذي هو المؤمن به واستمروا على الإيمان {ثُمَّ اتَّقَواْ} أي ما حرم عليهم بعد ذلك مما كان مباحاً من قبل على أن المشروط بالاتقاء في كل مرة غباحة كل ما طعِموه في ذلك الوقت لا إباحةُ كل ما طعموه قبله لانتساخ إباحةِ بعضِه حينئذ {وَأَحْسِنُواْ} أي عملوا الأعمالَ الحسنةَ الجميلة المنظمة لجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية وليس تخصيص هذه المرات بالذكر لتخصيص الحكم بها بل لبيان التعدد والتكرر بالغاً ما بلغ والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على ما هم عليه من الإيمان والأعمالِ الصالحةِ وكانوا في طاعة الله ومراعاةِ أوامرِه ونواهيه بحيث كلما حرِّم عليهم شيء من المباحات اتقَوْه ثم وثم فلا جناح عليهم فيما طعموه في كل مرة من المطاعم والمشارب إذ ليس فيها شيء محرم عند طُعْمِه وأنت خبير بأن ما عدا اتنقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة لا دخْلَ لها في انتفاء الجُناح وإنما ذكرت في حين إذا شهادةً باتصاف الذين سُئل عن حالهم بها ومدحاً لهم بذلك وحمداً لأحوالهم وقد أُشير إلى ذلك حيث جُعلت تلك الصفاتُ تبعاً للاتقاء في كل مرةٍ تمييزاً بينها وبين ما له دخل في الحكم فإن مَساقَ النظمُ الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال المصنفين بما ذُكِرَ من النعوتِ فيما سيأتي بقضية كلمة إذا ما لكنه قد أُخرج مُخْرَجَ الجواب عن حال الماضين لأثبات الحكم في حقهم في ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهانيّ بطريق دلالة النص بناءً على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها فكأنه قيل ليس عليهم جمناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعنه تعالى مع ما لَهُم منَ الصفات الحميدة بحيث كلما أمِروا بشيء تلقَّوْه بالامتثال وإنما كانوا يتعاطَوْن الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها إذا ذاك ولو حُرما في عصرهم لاتقوهما بالمرة هذا وقد قيل التكريرُ باعتبار الأوقات الثلاثة أو باعتبار الحالات الثلاث استعمالِ الإنسان التقوى بينه وبين نفسه وبينه وبين الناس وبين الله عز وجل ولذلك جيءَ بالإحسان في الكرة الثالثة بدلَ الإيمان إشارة إلى ما قله عليه الصلاة والسلام في تفسيره أو باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى أو باعتبار ما يُتَّقى فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقياً من العقاب والشبُهاتِ توقياً من الوقوع في الحرام وبعضَ المباحات حفظاً للنفس عن الخِسة وتهذيباً لها عن دنَس الطبيعة وقيل التكريرُ لمجرد التأكيد كما في قوله تعالى كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ونظائرِه وقيل المرادُ بالأول اتقاءُ الكفر وبالثاني
المائدة آية 94
اتقاءُ الكبائر وبالثالث اتقاءُ الصغائر ولا ريب في أنه لا تعلُّقَ لهذه الاعتبارات بالمَقام فأَحسِنِ التأمل {والله يُحِبُّ المحسنين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله أبلغَ تقرير
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله ليُعامِلَّنكم معاملة من يختبركم لبتعرف أحوالَكم {بِشَىْء مّنَ الصيد} أي من صيدِ البَرّ مأكولا أو غير مأكول ما عجا المستثنياتِ من الفواسق فاللام للعَهْد نزلت عام الحُدَيْبية ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم مُحرِمون كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث كانوا متمكنين من صيدِها أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم وذلك قوله تعالى {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم} فهمُّوا بأخذها فنزلت ورُوي أنه عَنَّ لهم حمارُ وحشٍ فحمل عليه أبو اليَسَر بنُ عمرو فطعنه برمحه وقتله فقيل له قتلته وأنت مُحرم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك فأنزل الله تعالى الآية فالتأكيد القَسَميُّ في ليبلونكم إنما هو لتحقيق أن ما وقع من عدم توحُّش الصيد عنهم ليس إلا لابتلائهم لا لتحقيق وقوعِ المبتلى به كما لو كان النزول قبل الابتلاء وتنكير شيء للتحقير المُؤْذِن بأنَّ ذلك ليس من الفِتن الهائلة التي تزِلُّ فيها أقدامُ الراسخين كالابتلاء بقتل الأنفس وإتلافِ الأموال وإنما هو من قبيل ما باتلي به أهلُ أَيْلَةَ من صيد البحر وفائدتُه التنبيهُ على أن من لم يتثبت في مثل هذا كيف يتثبت عند شدائد المحن فمن في قوله تعالى من الصيد بيانية قطعاً أي بشيء حقير هو الصيد وجعلُها تبعيضيةً يقتضي اعتبارَ قِلَّته وحقارته بالنسبة إلى كل الصيد لا بالنسبة إلى عظائم البلايا فيَعْرَى الكلامُ عن التنبيه المذكور {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} أي ليتميز الخائفُ من عقابه الأخروي وهو غائبٌ مترقبٌ لقوة إيمانه فلا يتعرض للصيد ممن لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيُقدم عليه وإنما عبر عنْ ذلك بعلم الله تعالى اللازم له إيذاناً بمدار الجزاءِ ثواباً وعقاباً فإنه أدْخَلُ في حملهم على الخوف وقيل المعنى ليتعلق علمه تعالى يمن يخافه بالفعل فإن علمه تعالى بأنه سيخافه وإن كان متعلقاً به قبل خوفه لكنّ تعلُّقَه بأنه خائف بالفعل وهو الذي يدور عليه أمرُ الجزاء إنما يكون عند تحقق الخوف بالفعل وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ والتقدير ليعلم أولياءَ الله وقرىء ليُعلِمَ من الإعلام على حذف المفعول الأول أي ليُعْلِمَ الله عباده الخ والعلمُ على القراءتين متعدَ إلى واحد وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك} أي بعد بيانِ أن ما وقع ابتلاءٌ منْ جهتِه تعالَى لِما ذُكر من الحِكمة لا بعد تحريمِه أو النهي عنه كما قاله بعضهم إذ النهي والتحريم ليس أمراً حادثاً يترتب عليه الشرطية بالفاء ولا بعد الابتلاء كما اختاره آخرون لأن نفس الابتلاء لا يصلح مداراً لتشديد العذاب بل ربما يتوهم كونُه عذراً مسوِّغاً لتخفيفه وإنما الموجب للتشديد بيانُ كونه ابتلاءً لأن الاعتداء بعد ذلك مكابرةٌ صريحة وعدمُ مبالاةٍ بتدبير الله تعالى وخروجٌ عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية أي فمن تعرض للصيد بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحُّشه منهم ابتلاءٌ مؤدَ إلى تمييز المطيع من العاصي {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
لما ذكر من أنه مكابرة محضة ولأن من لا يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذه البلايا الهيِّنة لا يكاد يُراعيه في عظائم المداحض والمراد بالعذاب الأليم عذاب الدارين قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يُوسَعُ ظهرُه وبطنه جَلداً وينزع ثيابه
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} شروعٌ في بيان ما يتدارك به الاعتداءُ من الأحكام إثر بيانِ ما يلحقه من العذاب والتصريح بالنهي في قوله تعالى {لَا تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} مع كونه معلوماً لا سيما من قوله تعالى غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبُه عليه واللام في الصيد للعهد حسبما سلف وحُرُم جمع حَرام وهو المُحرم وإن كان في الحِل وفي حكمه من في الحَرَم وإن كان حَلالاً كرُدُح جمع رداح والجملة حالٌ من فاعل لا تقتلوا أي لا تقتلوه وأنتم محرمون {وَمَن قَتَلَهُ} أي الصيد المعهود وذِكرُ القتل في الموضعين دون الذبح اللذان بكونه في حكمه الميتة {منكم} متعلق بمحذوفوقع حالاً من فاعل قتله أي كائناً منكم {مُّتَعَمّداً} حال منه أيضا ذاكراً لإحرامه عالماً بحُرمة قتل ما يقتله والتقييدُ بالتعمّد مع أن محظوراتِ الإحرام يستوي فيها العمْدُ والخطأ لِما أنَّ الآيةَ نزلتْ في المتعمِّد كما مرَّ من قصة أبي اليَسَر ولأن الأصل فعلُ المتعمّد والخطأ لاحقٌ به للتغليظ وعن الزُهري نزل الكتاب بالعمد وورد السنة بالخطأ وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه لا أرى في الخطأ شيئاً أخذاً باشتراط التعمّد في الآية وهو قول داودَ عن مجاهد والحسن أن المراد بالتعمد هو تعمدُ القتل مع نسيان الإحرام أما إذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم عليه وأمره إلى الله عز وجل لأنه أعظمُ من أن يكون له كفارة {فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ} برفعهما أي فعليه جزاءٌ مماثلٌ لما قتله وقرىء برفع الأول ونصب الثاني على إعمال المصدر وقرىء بجرِّ الثاني على إضافته إلى مفعوله وقرىء فجزاؤه مثلُ ما قتل على الابتدجاء واخبرية وقرىء بنصبهما على تقدير فليجْزِ جزاءً أو فعليه أن يجزى جزاءً مثلَ ما قتل والمرادُ به عند أبي حنيفة وأي يوسف رضي الله عنهما المثل باعتبار القيمة يوم الصيد حيث صِيدَ أو في أقرب الأماكن إليه فإن بلغَت قيمتُه قيمةَ هدْيٍ يُخير الجاني بين أن يشتري بها ما قيمته قيمةَ الصيد فيُهدِيَه إلى الحرم وبين أن يشتريَ بها طعاماً فيُعطيَ كل مسكينٍ نصفُ صاعٍ منْ بر أو صاعامن غيره وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما فإن فضل مالا يبلغُ طعامَ مسكين تصدّق به أو صام عنه يوماً كاملاً إذ لم يُعهد في الشرع صومُ ما دونه فيكون قوله تعالى {مِنَ النعم} بياناً للهدْي المشترى بالقيمة على أحد وجوه اتخيير فإنَّ من فعل ذلك يصدق علبيه أنه جزىء بمثل ما قتل من النعم وعند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى ومن يرى رأيهما هو المِثْلُ باعتبار الخِلْقة والهيئة لأن الله تعالى أوجب مثلَ المقتول مقيداً بالنعم فمن اعتبر
المائدة آية 95
المِثْل بالقيمة فقد خالف النص وعن الصحابةِ رضي الله عنهم أنهم أوجبوا في النَّعامة بدنةً وفي الظبْيِ شاةً وفي حمار الوَحش بقرَةً وفي الأرنب عَناقاً وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال الضبُع صيدٌ وفيه شاةٌ إذا قتله محرم ولنا أن النصَّ أوجبَ المثْل والمِثْلُ المطلق في الكتاب والسنة وإجماعِ الأمة والمعقولِ يُراد به إما المثلُ صورةً ومعنى وإما المثلُ صورةً بلا معنى فلا اعتبارَ له في الشرع أصلاً وإذا لم يمكن إرادةُ الأول إجماعاً تعيّنت إرادةُ الثاني لكونه معهودا في الشرح كما في حقوق العباد ألا يرى أن المماثلة بين أفراد نوعٍ واحد مع كونها في غاية القوة والظهور لم يعتبْرها الشرع ولم يجعل الحيوانَ عند الإتلاف مضموناً بفردٍ آخَرَ من نوعه مماثلٍ له في عامة الأوصاف بل مضموناً بقيمتِه مع أن المنصوص عليه في أمثاله إنما هو المثل قال تعالى فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ فحيث لم تُعتبرْ تلك المماثلةُ القويةُ مع تيسُّر معرفتها وسهولة مراعاتها فلئلا تُعتبرُ ما بين أفراد أنواع مختلفةٍ من المماثلة الضعيفة الخفيةِ مع صعوبة مأخذِها وتعسُّرِ المحافظة عليها أولى وأحرى ولأن القيمة قد أريدت فيما لا نظيرَ له إجماعاً فلم يبق غيرُه مراداً إذْ لا عمومَ للمشترَك في مواقع الإثبات والمراد بالمرويِّ إيجابُ النظير باعتبار القيمة لا باعتنبار العيب ثم الموجبُ الأصليُّ للجناية والجزاءِ المماثلِ للمقتول إنما هو قيمتُه لكن لا باعتبار أن يعنمد الجاني إليها فيصرِفَها إلى المصارف ابتداءً بل باعتبار أن يجعلَها معياراً فيقدِّرَ بها إحدى الخصال الثلاث فيُقِيمَها مُقامها فقوله تعالى مّثْلُ مَا قَتَلَ وصفٌ لازم للجزاء غيرُ مفارِقٍ عنه بحال وأما قوله تعالى مِنَ النعم فوصفٌ له معتبرٌ في ثاني الحال بناءً على وصفه الأول والذي هو المعيارُ له ولِما بعده من الطعام والصيام فحقُّهما أن يُعطفا على الوصف المفارِق لا على الوصف اللازم فضلاً عن العطف على الموصوف كما سيأتي بإذن الله تعالى ومما يرشدك إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل {يَحْكُمُ بِهِ} أي بمثل ما قتل {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} أي حكَمان عادلان من المسلمين لكنْ لا لأن التقويمَ هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد من العُدول دون الأشياء المشاهدةَ التي يستوي في معرفتها كلُّ أحد من الناس فإن ذلك ناشىء من الغفلةِ عما أرادوا بما به المماثلة بل لأن ما جعلوه مدار المماثلة بين الصيد وبين النَّعم من ضربِ مشاكَلةٍ ومضاهاة في بعض الأوصاف والهيئات مع تحقق التبايُن بينهما في بقية الأحوال مما لا يَهتدي إليه من أساطينِ أئمة االاجتهاد وصناديدِ أهل الهداية والإرشاد إلا المؤيدون بالقوة القدسية ألا يُرى أن الإمام الشافعي رضي الله عنه أوجب في قتل الحمامة شاةً بناء على ما أثبتَ بينهما من المماثلة من حيث إن كلا منهما يعُبّ ويهدِر مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضّبّ والنون فكيف يُفوَّضُ معرفةُ أمثالِ هذه الدقائق العويصة إلى رأي عجلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عُيِّن بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد نوعٌ من أنواع النعم يتم الحُكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجةٌ إلى حكمٍ أصلاً وقرىء يحكم به ذو عدل على إرادة جنس العادل دون الوَحْدة وقيل بل على إرادة الإمام والجملة صفة لجزاءٌ أو حالٌ منهُ لتخصُّصه بالصفة وقوله تعالى {هَدْياً} حالٌ مقدرة من الضمير في به أو من جزاء لما ذكر من تخصصه بالصفة أو بدلٌ من مثل فيمن نصبه أو مِنْ محله فيمن جرَّه أو نصبٌ على المصدر أي يهديه هدياً والجملة صفة أخرى لجزاء {بالغ الكعبة} صفةٌ لهدياً لأن الإضافة غير حقيقية {أَوْ كَفَّارَةٌ} عطف على محل من النعم على أنه خبر
المائدة آية 96
مبتدأ محذوف والجملةُ صفة ثانية لجزاء كما أشير إليه وقوله تعالى {طَعَامُ مساكين} عطفُ بيانٍ لكفارةٌ عند من لا يخصصه بالمعارف أو بدلٌ منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام مساكين وقوله تعالى {أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً} عطف على طعام الخ كأنه قيل فعليه جزاءٌ مماثلٌ للمقتول هو من النَّعم أو طعامُ مساكينَ أو صيامُ ايام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفاً لازماً للجزاء يقدَّر به الهدْي والطعام والصيام أما الأولان فبلا واسطة وأما الثالث فبواسطة الثاني فيختار الجاني كلاًّ منها بدلاً من الآخرَيْن هذا وقد قيلَ إنَّ قوله تعالى أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على جزاء فلا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدَّر به الطعام والصيام والإلتجاء إلى إلى القيامس على الهدْي تعسفٌ لا يخفى هذا على قراءة جزاء بالرفع وعلى سائر القراءات فقوله تعالى أَوْ كَفَّارَةٌ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ معطوفة على جملة هو من النعم وقرىء أو كفارةُ طعامِ مساكين بالإضافة لتبيين نوع الكفارة وقرىء طعامُ مِسْكين على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس وقرىء أو عِدْل بكسر العين والفرق بينهما أن عَدلَ الشيء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعِدْلَه ما عُدِل به في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول وذلك إشارة إلى الطعام وصياما تمييز للعَدْل والخيار في ذلك للجاني عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وللحَكَمين عند محمد رحمه الله {لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} متعلق بالاستقرارِ في الجارِّ والمجرور أي فعليه جزاءٌ ليذوق الخ وقيل بفعل يدل عليه الكلامُ كأنَّه قيل شرع ذلك عليه ليذوق وبال أمره أي سوءَ عاقبةِ هَتْكه لحُرمة الإحرامِ والوبال في الأصل المكروهُ والضررُ الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثِقَله ومنه قوله تعالى فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً ومنه الطعام الوبيلُ وهو الذي لا تستمرِئُه المَعِدة {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} من قتل الصيد مُحرِماً قبل أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل عما سلف منه في الجاهلية لأنهم كانوا متعبَّدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرّماً {وَمَنْ عَادَ} إلى قتل الصيد بعد النهي عنه وهو محرم {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه فهو ينتقم الله منه ولذلك دخلت الفاء كقوله تعالى فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً أي فذلك لا يخاف الخ وقوله تعالى وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ أي فأنا أمتعه والمراد بالانتقام التعذيبُ في الآخرة وأما الكفارة فعن عطاءٍ وإبراهيمَ وسعيدِ بن جبير والحسن أنها واجبة على العائد وعن ابن عباس رضي الله عنهما وشُريح أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر {والله عَزِيزٌ} غالب لا يُغالَب {ذُو انتقام} شديد فينتقم ممن أصر على المعصية والاعتداء
{أُحِلَّ لَكُمُ} الخطاب للمُحْرمين {صَيْدُ البحر} أي ما يصاد في المياه كلها بحراً كان أو نهراً أو غديراً وهو ما لا يعيش إلا في الماء مأكولاً أو غير مأكول {وَطَعَامُهُ} أي وما يُطْعَم من صيده وهو تخصيص بعد تعميم والمعنى أحل لكم التعرّضُ لجميع ما يصاد في المياه والانتفاعُ به وأكلُ ما يؤكل منه وهو السمك عندنا وعند ابن أبي ليلى جميعُ ما يصاد فيه على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيدُ حيوانِ البحر وأن تطعموه وقرىء
المائدة آية 97
وطُعْمه وقيل صيدُ البحر ما صيد فيه وطعامُه ما قذمه أو نَضَب عنه {متاعا لَّكُمْ} نُصِب على أنَّه مفعولٌ له مختص بالطعام كما أن نافلة في قوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ إسحق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً حالٌ مختصة بيعقوبَ عليه السلام أي أحل لكم طعامه تمتيعاً للمقيمين منكم يأكلونه طرياً {وَلِلسَّيَّارَةِ} منكم يتزودونه قَديداً وقيل نسب على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لفعل مقدر أي متّعكم به متاعاً وقيل مؤكد لمعنى أُحل لكم فإنه في قوة متّعكم به تمتيعاً كقوله تعالى كتاب الله عَلَيْكُمْ {وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر} وقرىء على بناء الفعلِ للفاعل ونسب صيدَ البر وهو ما يُفْرِخُ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كطير الماء {مَا دُمْتُمْ حُرُماً} أي محرمين وقرىء بكسر الدال من دامَ يدامُ وظاهرُه يوجب حرمة ما صاده الحَلالُ على المُحرم وإن لم يكن له مَدْخلٌ فيه وهو قول عمر وابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهم وعن أبي هريرة وعطاءٍ ومجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبير رضي الله عنهم أنَّهُ يحلُّ له أكلُ ماصاده الحلالُ وإن صاده لأجله إذا لم يُشِرْ إليه ولم يُدلَّ عليه وكذا ما ذبحه قبل إحرامِه وهو مذهبُ أبي حنيفةَ لأن الخِطاب للمحرمين فكأنه قيل وحرم عليكم ما صِدتُّم في البر فيَخرُج منه مَصيدُ غيرهم وعند مالك والشافعي وأحمد لا يباح ما صِيدَ له {واتقوا الله} فيما نهاكُم عنْهُ أو في جميع المعاصي التي من جُمْلتِها ذلكَ {الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} لا إلى غيره حتى يُتَوهَّمَ الخلاصُ من أخذه تعالى بالالتجاء إليه
{جَعَلَ الله الكعبة} قال مجاهد سميت كعبها لكونها مُكَعبّةً مُربَّعة وقيل لانفرادها من البناء وقيل لارتفاعها من الأرض ونتوئها وقوله تعالى {البيت الحرام} عطفُ بيانٍ على جهة المدح دون التوضيح كما تجىء الصفة وقيل مفعولٌ ثانٍ لجعل وقوله تعالى {قِيَاماً لّلنَّاسِ} نُصبَ على الحال ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما سيجيء بل هذا هو المفعول الثاني وقيل الجعلُ بمعنى الإنشاءِ والخلق وهو حال كما مر ومعنى كونه قياماً لهم أنه مدارٌ لقيام أمر دينهم ودنياهم إذ هو سببٌ لانتعاشهم في أمور معاشِهم ومَعادِهم يلوذ به الخائفُ ويأمَن فيه الضعيف ويربح فيه التجار ويتوجه إليه الحجاج والعُمّار وقرىء قِيَماً على أنه مصدر على وزن شِبَع أُعلَّ عينه بما أُعلَّ في فعله {والشهر الحرام} أي الذي يؤدى فيه الحجُ وهو ذو الحجة وقيل جنس الشهر الحرام وهو وما بعده عطف على الكعبة فالمفعول الثاني محذوف ثقةً بما مر أي وجعل الشهر الحرام {والهدى والقلائد} أيضاً قياماً لهم والمرادُ بالقلائد ذواتُ القلائد وهي البُدْنُ خُصّت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر وبهاءَ الحجَّ بها أظهر {ذلك} إشارة إلى الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره ومحلُّه النصبُ بفعل مقدر يدل عليه السياق وهو العامل في اللام بعده أي شرَعَ ذلك {لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في السماوات وَمَا فِي الارض} فإن تشريع هذه الشرائعِ المستَتْبِعةِ لدفع المضارِّ الدينية والدنيوية قبل وقوعها وجلبِ المنافع الأولوية والأخروية من أوضحِ الدلائلِ على حكمة الشارع وعدمِ خروجِ شيء عن علمه المحيط وقوله تعالى {وَأَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ}
المائدة آية 98 100
تعمبيم إثْرَ تخصيصٍ للتأكيد ويجوز أن يراد بما قي السموات والأرض الأعيانُ الموجودة فيهما وبكل شيء الأمورُ المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قَبيل المعاني
{اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} وعيد لمن انتهك محارِمَه أو أصر على ذلك وقوله تعالى {وَأَنَّ الله غفور رحيم} وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى أو أقلع عن الانتهاك بعد تعاطيه ووجهُ تقديمِ الوعيد ظاهر
{مَّا عَلَى الرسول إِلَاّ البلاغ} تشديد في إيجاب القيام بما أَمَرَ به أي الرسول قد أتى بما وجب عليه من التَّبليغِ بما لا مزيدَ عليهِ وقامت عليه الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم من بعد في التفريط {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} فيؤاخذكم بذلك نقيرا أو قطميرا
{قُل لَاّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وبين جيِّدها قَصَد به الترغيب في جيِّد كل منها والتحذيرَ عن رديئها وإن كان سببَ النزول شريحُ بن ضبة البكريُّ الذي مرت قصته في تفسيرِ قولِه تعالى يأيها الذين آمنوا لَا تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله الخ وقيل نزل في رجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الخمر كانت تجارتي وإني اعتقدت من بيعها مالاً فهل ينفعني من ذلك المال إن عمِلت فيه بطاعة الله تعالى فقال النبيِّ صلى الله عليه وسلم إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدِلْ جَناحَ بعوضة إن الله لا يقبل إلا الطيب وقال عطاءٌ والحسن رضي الله عنهما الخبيث والطيب الحرامُ والحلال وتقديم الخبيث في الذكر للإشعار من أولِ الأمرِ بأنَّ القصورَ الذي ينبىءُ عنه عدم الاسواء فيه لا في مقابِلِه فإن مفهومَ عدمِ الاستواءِ بين الشيئينِ المتفاوتينِ زيادةً ونقصاناً وإن جازَ اعتبارُهُ بحسبِ زيادةُ الزائدِ لكنْ المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر كما في قوله تعالى هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير إلى غير ذلك وأما قولُهُ تعالى هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لَا يَعْلَمُونَ فلعلَّ تقديمَ الفاضلِ فيه لما أن صلَتَهُ ملكةٌ لصلةِ المفضولِ {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} أي وإن أسرك كثرته والخطاب لكل واحد من الذين أُمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم بخطابهم والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدَّر وقيل للحال وقد مر أي لو لم تُعجِبْك كثرة الخبيث ولو أعجبتك وكلتاهما في موقع الحالِ من فاعل لا يستوي أي لا يستويان كائنين على كل حالٍ مفروض كما في قولك أحسِنْ إلى فلان وإن أساء إليك أي أحسِنْ إليه إن لم يسىء إليك وإن أساء إليك أي كائناً على كلِّ حال مفروض وقد حُذفت الأولى حذفا مطَّرداً لدلالة الثَّانيةِ عليها دِلالةً واضحةً فإن الشيء إذا تحقق مع المعارِض فلأن يتحقق بدونه أولى وعلى هذا السرِّ يدور ما في لو وإن الوصليتين من المبالغة والتأكيد وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلهما عليه وسيأتي تمام
المائدة آية 101
تحقيقه في مواقعَ عديدةٍ بإذنِ الله عز وجل {فاتقوا الله يا أُوْلِى الالباب} أي في تحرِّي الخبيث وإن كثر وآثِروا عليه الطيِّب وإن قلّ فإن مدارَ الاعتبار هو الجُودة والرداءةُ لا الكثرةُ والقِلة فالمحمودُ القليلُ خيرٌ من المذموم الكثير بل كلما كثر الخبيثُ كان أخبثَ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} راجين أن تنالوا الفلاح
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لا تسألوا عن أشياء} هو اسمُ جمعٍ على رأي الخليل وسيبويه وجمهور البصريين كطرفاء وقصباء أصله شيآه بهمزتين بينهما ألف فقُلبت الكلمة بتقديم لامها على فائها فصار وزنها لفعاء ومُنعت الصرفَ لألف التأنيث الممدودة وقيل هو جمع شيْء على أنه مخفف من شيء كهَيْنٍ مخففٌ من هيِّن والأصل أشيئاه كأهوناء بزنة أفعِلاء فاجتمعت همزتان لام الكلمة والتي للتأنيث إذ الألف كالهمزة فخففت الكلمة بأن قلبت الهمزة الأولى ياءً لانكسار ما قبلها فصارت أشيياء فاجتمعت ياءان أولاهما عين الكلمة فحذفت تخفيفا فصارت أشياء وزنها أفلاء ومُنعت الصرفَ لألف التأنيث وقيل إنما حذفت من أشيِياءَ الياءُ المنقلبةُ من الهمزة التي هي لام الكلمة وفتحت الياء المقصورة لتسلم ألف الجمع فوزنها أفعاء وقوله تعالى {إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} صفةٌ لأشياء داعيةٌ إلى الانتهاء عن السؤال نها وحيث كانت المَساءةُ في هذه الشرطية معلقةً بإبدائها لا بالسؤال عنها عُقّبت بشرطية أخرى ناطقةٍ باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجِبِ للمحظور قطعاً فقيل {وإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ ينزلُ القُرْآن تُبْدَ لَكُم} أي تلك الأشياء الموجِبة للمَساءة بالوحي كما ينبىء عنه تقييدُ السؤال بحينِ التنزيل والمراد بها ما يشُق عليهم ويغمُهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقون بها والأسرارِ الخفية التي يفتضحون بها بظهورها ونحوُ ذلكَ مما لا خيرَ فيه فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستَتْبِعٌ لإبدائها كذلك السؤالُ عن تلك التكاليف مستتبعٌ لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب واجترائِهم على المسألة والمراجعة وتجاوزِهم عما يليق بشأنهم من الاستسلام لأمرِ الله عز وجل من غير بحث فيه ولا تعرّضٍ لكيفيته وكمِّيته أي لا تُكثروا مُساءلةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لا يَعْنيكم من نحو تكاليف شاقة وعليكم إن أفتاكم بها وكلفكم إياها حسبما أُوحيَ إليه ولم تطيقوا بها نحو بعضِ أمورٍ مستورة تكرهون بروزها وذلك ما رُوي عن عليَ رضي الله عنه أنَّه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمِد الله تعالى وأثنى عليه ثمَّ قالَ إنَّ الله تعالى كتَب عليكم الحجَّ فقام رجل من بني أسدٍ يقال لهُ عكاشة ابن محسن وقيل هو سُراقة بنُ مالك فقال أفي كل عامٍ يا رسول الله فأعرضَ عنه حتى أعاد مسألتَه ثلاثَ مرات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك وما يُؤْمِنُك أن اقول نعم لوجبت ولو وجبتْ ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاترُكوني ما تركتكم فإنما هلَك من كان قبلَكم بكثرة سؤالِهم واختلافِهم على أنبيائهم فإذا أمرتُكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه ومِثلُ ما رُوي عن أنسٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما أنه سأل الناسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياءَ حتى أحفَوْه في المسألة فقام صلى الله عليه وسلم مغضبا خطيبا
المائدة آية 101
فحمِد الله تعالى وأثنى عليه وقال سلوني فوالله ما تسألوني عن شيءٍ ما دُمْت في مقامي هذا إلا بيّنتُه لكم فأشفق اصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يَدَيْ أمرٍ قد حضَر قال أنسٌ رضي الله عنه فجعلتُ ألتفتُ يميناً وشِمالاً فلا أجدُ رجلاً إلا وهو لافٌّ رأسَه في ثوبه يبكي فقام رجل من قريشٍ من بني سَهْمٍ يقال له عبدُ اللَّه بنُ حُذافة وكان إذا لاحى الرجال يدعى إلى غير أبيه وقال يا نبيَّ الله مَنْ أبي فقال صلى الله عليه وسلم أبوك حذافةُ بنُ قيسٍ الزهري وقام آخرُ وقال أين أبي قال صلى الله عليه وسلم في النار ثم قام عمر رضي الله عنه فقال رضِينا بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولاً نبياً نعوذ بالله تعالى من الفتن إنا حديثو عهدٍ بجاهلية وشِرْكٍ فاعفُ عنا يا رسول الله فسكن غضبه صلى الله عليه وسلم {عَفَا الله عَنْهَا} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتِهم عن المَساءة بل لأنها في نفسها معصيةٌ مستتبِعةٌ للمؤاخذة وقد عفا عنها وفيه مِنْ حثّهم على الجِدّ في الانتهاء عنها ما لا يخفى وضميرُ عنها للمسألة المدلول عليها بلا تسألوا أي عفا الله تعالى عن مسائلِكم السالفةِ حيث لم يفرِضْ عليكم الحج في كل عام جزاءً بمسألتكم وتجاوَزَ عن عقوبتكم الأخروية بسائر مسائلكم فلا تعودوا إلى مثلها وأما جعلُه صفةً أخرى لأشياء على أن الضمير لها بمعنى لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلّفْكم إياها فمما لا سبيلَ إليه اصلا لاقتدائه أن يكون الحجُّ قد فُرض أولاً في كل عام ثم نسخ بطرق العفو وأن يكون ذلك معلوماً للمخاطَبين ضرورةَ أن حقَّ الوصف أن يكونَ معلومَ الثُبوت للموصوف عند المخاطب قبل جعلِه وصفاً له وكلاهما ضروريُّ الانتفاء قطعاً على أنه يستدعي اختصاصَ النهْي بمسألة الحجِّ ونحوِها إن سلِمَ وقوعُها مع أن النظم الكريمَ صريحٌ في أنه مَسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي التي يسوؤُهم إبداؤُها سواءٌ كانت من قبيل الأحكام والتكاليفِ الموجبة لِمَساءتهم بإنشائها وإيحابها بسبب السؤال عقوبة وتجديدا كمسألة الحج لولا عفوُه تعالى عنها أو من قبيل الأمور الواقعةِ قبل السؤال الموجبةِ للمساءة بالإخبار بها كمسألة مَنْ قال أين أبي إن قلتَ تلك الأشياءُ غير مُوجبةٍ للمَساءة البتةَ بل هي محتمِلةٌ لإيجاب المَسرَّة أيضاً لأن إيجابَها للأولى إن كانت من حيث وجودُها فهي من حيث عدمُها موجبةٌ للأخرى قطعاً وليست إحدى الحيثيتَيْن محقّقةً عند السائل وإنما غَرَضُه من السؤال ظهورُها كيف كانت بل ظهورُها بحيثية إيجابها للمسرة فلم يعبر عنها بحيثية إيجابها للمَساءة قلتُ لتحقيق المنهيِّ عنه كما ستعرِفه مع ما فيه من تأكيد النهْي وتشديدِه لأن تلك الحيثيةَ هي الموجبةُ للانتهاء والانزجار لا حيثيةُ إيجابِها للمسرة ولا حيثيةُ تردّدِها بين الإيجابين إن قيل الشرطية الثانية ناطقةٌ بأن السؤالَ عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزمٌ لإبدائها البتةَ كما مر فلا تخلَّفَ الإبداءُ عن السؤال في مسئلة الحج حيث لم يُفرَضْ في كل عام قلنا لوقوع السؤال قبل ورودِ النهي وما ذُكر في الشرطية إنما هو السؤال الواقعُ بعد وروده إذ هو الموجبُ للتغليظ والتشديد ولا تخلُّفَ فيه إن قيل ما ذكرتَه إنما يتمشى فيم إذا كان السؤالُ عن الأمور المترددةِ بين الوقوع وعدمِه كما ذُكرَ من التكاليف الشاقةِ وأما إذا كان عن الأمور الواقعةِ قبله فلا يكادُ يتسنّى لأن ما يتعلق به الإبداءُ هو الذي وقع في نفس الأمرِ ولا مرد له سواء كان السؤالُ قبل النهي أو بعده وقد يكون الواقع ما يوجب المسرة كما في مسئلة عبد الله بن حذافة فيكون هو الذي يتعلق به الإبداء لا غيره فيتعين للتخلف حتماً قلنا لا احتمالَ للتخلف فضلاً عن التعيُّن فإن المنهيَّ عنه في الحقيقة إنما هو السؤالُ عن الأشياء الموجبة
المائدة 102 103
للمَساءة الواقعةِ في نفس الأمر قبل السؤال كسؤال من قال أين أبي لا عما يعمها وغيرهما مما ليس بواقع لكنه محتمِلٌ للوقوع عند المكلفين حتى يلزمَ التخلّفُ في صورةِ عدم الوقوع وجملة الكلام أن مدلول النظمُ الكريم بطريق العبارة إنما هو النهيُ عن السؤال عن الأشياء التي يوجبُ إبداؤها المساءة البتنة إما بأن تكون تلك الأشياءُ بعَرَضية الوقوعِ فتُبدَى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبةً وتشديداً كما في صورة كونِها من قبيل التكاليف الشافة وإما بأن تكون تلك الأشياءُ بعَرَضية الوقوعِ فتُبدَى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبةً وتشديداكما في صورة كونِها من قبيل التكاليف الشافة وإما بأن تكون واقعةً في نفس الأمر قبل السؤال فتُبدى عنده بطريق الإخبار بها فالتخلفُ ممتنِعٌ في الصورتين معاً ومنشأ توهّمِه عدمُ الفرق بين المنهي عنه وبين غيرِه بناءً على عدم امتياز ما هو موجودٌ أو بعَرَضية الوجود من تلك الأشياء في نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم وفائدةُ هذا الإبهام الانتهاءُ عن السؤال عن تلك الأشياء على الإطلاق حِذارَ إبداء المكروه {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّر لعفوه تعالى أي مبالغٌ في مغفرة الذنوب والإغضاءِ عن المعاصي ولذلك عفا عنكم ولم يؤاخِذْكم بعقوبة ما فَرَط منكم
{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ} أي سألوا هذه المسألةَ لكنْ لا عينَها بل مثلَها في كونها محظورةً ومستتْبِعة للوبال وعدمُ التصريح بالمثل للمبالغة في التَّحذيرِ {مِن قَبْلِكُمْ} متعلق بسألها {ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا} أي بسببها أو بمرجوعها {كافرين} فإن بني إسرائيلَ كانوا يستفتون أنبياءَهم في أشياءَ فإذا أُمروا بها تركوها فهلكوا
{مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَآئِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} ردٌّ وإبطال لما ابتدعه أهلُ الجاهلية حيث كانوا إذا نُتِجَت الناقةُ خمسةَ أبطنٍ آخرُها ذكرٌ بَحروا أُذنها أي شقُّوها وحرَّموا ركوبها ودَرَّها ولا تُطرد عن ماءٍ ولا عن مرعى وكان يقول الرجل إذا قدِمْت من سفري أو برِئْتُ من مرضي فناقتي سائبةٌ وجعلَها كالبَحيرة في تحريم الانتفاعِ بها وقيل كان الرجل إذا أعتق عبداً قال هو سائبة فلا عقْلَ بينهما ولا ميراث وإذا ولَدت الشاةُ أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصَلَتْ أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم وإذا نُتجت من صُلب الفحل عشَرةَ أبطُنٍ قالوا قد حمَى ظهرَه فلا يُركب ولا يُحمل عليه ولا يُمنع من ماء ولا مرعى ومعنى ما جعل ما شرع وما وضع ولذلك عُدِّيَ إلى مفعول واحد هو بَحيرة وما عطف عليها ومن مزيد لتأكيد النفي فإن الجعلَ التكوينيَّ كما يجيء تارة متعدياً إلى مفعولين وأخرى إلى واحدٍ كذلك الجعلُ التشريعيُّ يجيء مرة متعدياً إلى مفعولينِ كما في قوله تعالى جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لّلنَّاسِ وأخرى إلى واحد كَما في الآيةِ الكريمةِ {ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون الله أمرنا بهذا وإمامُهم عمْروُ بنُ لُحَيَ فإنه أولُ مَنْ فعلَ هذهِ الأفاعيلَ الباطلة هذا شأن رؤسائهم وكُبرَائهم {وَأَكْثَرُهُمُ} وهم أراذلُهم الذين يتبعونهم من
المائدة آية 104 105
معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يشهد به سياقُ النظم الكريم {لَا يَعْقِلُونَ} أنه افتراء باطلٌ حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق بأنفسهم فيبقَوْن في أسر التقليد وهذا بيان لقصور عقولِهم وعجزِهم عن الاهتداء بأنفسهم وقوله عز وجل
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي للذين عبَّر عنهم بأكثرُهم على سبيل الهداية والإرشاد {تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله} من الكتاب المبين للحلال والحرام {وَإِلَى الرسول} الذي أُنزل هو عليه لتقفوا على حقيقة الحال وتُميِّزوا الحرامَ من الحلال {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عليه آباءنا} بيان لعنادهم واستعصائهم على الهدى إلى الحق وانقيادِهم للداعي إلى الضلال {أولو كَانَ آبَاؤُهم لَا يَعْقِلُونَ شيئا ولا يهتدون} قيل الواو للحال دخلت عليها الهمزة للإنكار والتعجيب أي أحَسْبُهم ذلك ولو كان آباؤهم جَهَلةً ضالين وقيل للعطف على شرطية أخرى مقدّرة قبلها وهو الأظهر والتقدير أحَسْبهم ذلك أو أيقولون هذا القولَ لو لم يكن آبَاؤُهم لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا من الدين ولا يهتدون للصواب ولو كانوا لا يعلمون الخ وكلتاهما في موقعِ الحالِ أي أحسْبُهم ما وجدوا عليه آباءهم كائنين على كل حالٍ مفروض وقد حذفت الأولى في الباب حذفا مطَّرداً لدلالة الثَّانيةِ عليها دلالةً واضحةً كيف لا وإنَّ الشيءَ إذا تحقق عند المانِع فلأَنْ يتحققَ عند عدمِه أولى كما في قولك أحسِنْ إلى فلان وإن أساء إليك أي أحسِنْ إليه إن لم يسىء إليك وإن أساء أي أحسن إليه كائناً على كلِّ حال مفروض وقد حذفت الأولى لدلالةِ الثانية عليها دَلالة ظاهرةً إذِ الإحسانُ حيث أُمِر به عند المانع فلأَنْ يُؤْمَرَ به عند عدمه أولى وعلى هذا السرِّ يدورُ ما في إنْ ولو الوصليتين من المبالغة والتأكيد وجوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما سبقَ عليه أي لَّوْ كَانَ آبَاؤُهم لَا يعلمون شيئا ولا يهتدون حسبُهم ذلك أو يقولون ذلك وما في لو من معنى الامتناع والاستبعاد إنما هو بالنظر إلى زعمهم لا إلى نفس الأمر وفائدتُه المبالغةُ في الإنكار والتعجيب ببيان أن ما قالوه موجبٌ للإنكار والتعجيب إذا كان كونُ آبائهم جَهلةً ضالين في حيز الاحتمال البعيد فكيف إذا كان ذلك واقعاً لا ريبَ فيه وقيل مآلُ الوجهين واحدٌ لأن الجملة المقدرة حالٌ فكذا ما عُطف عليها وأنت خبيرٌ بأن الحالَ على الوجه الأخير مجموعُ الجملتين لا الأخيرةُ فقط وأن الواو للعطف لا للحال وقد مر التحقيق في قوله تعالى أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهم لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ فتدبر
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي الزموا أمرَ أنفسِكم وإصلاحِها وقُرِىءَ بالرفعِ على الابتداءِ أي واجبة عليكم أنفسُكم وقوله عز وجل {لَا يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} إما مجزومٌ على أنه جوابٌ للأمر أو نهْيٌ مؤكِّد له وإنما ضُمَّتِ الراء إتباعاً لضمِّه الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة إذِ الأصلُ لا يضْرُرْكم ويؤيده القراءةُ بفتح الراء وقراءةُ مَنْ قرأ لا يضِرْكم بكسر الضاد وضمها من ضار يضيره ويضوره وإما مرفوع على أنه كلام
المائدة آية 106
مستأنفٌ في موقع التعليل لما قبله ويعضُده قراءةُ مَن قرأَ لا يضيرُكم أي لا يضركم ضلالُ مَنْ ضل إذا كنتم مهتدين ولا يُتوهَّمَنَّ أن فيه رخصةً في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع استطاعتهما كيف لا ومن جملة الاهتداء أن يُنكَر على المنكَر حسْبما تفي به الطاقة قال صلى الله عليه وسلم من رأي منكم منكراً فاستطاع أن يغيره فليغيْره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطِعْ فبقلبه وقد روي أن الصديقَ رضي الله تعالى عنه قال يوماً على المنبر يأيها الناس إنكم تقرأون هذه الآيةَ وتضعونها غيرَ موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الناس إذا رأو منكراً فلم يغيِّروه عمهم الله بعقاب فأمُروا بالمعروف وانهَوْا عن المنكر ولا تغتروا بقولِ الله عز وجل يأيها الذين آمنوا الخ فيقول أحدكم عليَّ نفسي والله لتأمُرنّ بالمعروف وتنهَوُنّ عن المنكر أو ليستعلمن الله عليكم شرارَكم فيسومونكم سوء العذاب ثم ليدعُوَنَّ خيارُكم فلا يستجابُ لهم وعنه صلى الله عليه وسلم ما من قوم عُمل فيهم منكرٌ أو سُن فيهم قبيحٌ فلم يغيِّروه ولم ينكروه إلا وحقٌّ على الله تعالَى أنْ يعُمَّهم بالعقوبة جميعاً ثم لا يستجابُ لهم والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسَّرون على الكفرة وكانوا يتمنون إيمانهم وهم من الضلال بحيث لا يكادون يرعَوون عنه بالأمر والنهي وقيل كان الرجل إذا أسلم لاموُه وقالوا له سفّهتَ آباءك وضلّلتهم أي نسبتهم إلى السَّفاهة والضلال فنزلت تسليةً له بأن ضلال آبائه لا يضرُّه ولا يَشينُه {إِلَى الله} لا إلى أحدٍ سواه {مَرْجِعُكُمْ} رجوعُكم يوم القيامة {جَمِيعاً} بحيث لا يتخلفَ عنه أحدٌ من المهتدين وغيرِهم فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {في الدنيا} من أعمال الهداية والضلال فهو وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخَذُ بعمل غيره
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} استئناف مَسوقٌ لبيان الأحكامِ المتعلقة بأمور دنياهم إثرَ بيانِ الأحوال المتعلقةِ بأمور دينهم وتصديره بحر في النداءِ والتنبيه لإظهار كمالِ العناية بمضمونه وقوله عز وجل {شهادة بَيْنِكُمْ} بالرفع والإضافة إلى الظرف توسعاً إما باعتبار جَرَيانِها بينهم أو باعتبار تعلّقِها بما يجري بينهم من الخصومات مبتدأ وقوله تعالى {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} أي شارفه وظهرت علائمُه ظرفٌ لها وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت ورودِه عليها فإنه أدخلُ في تهوين أمر الموت وقولُه تعالى {حِينَ الوصية} بدلٌ منه لا ظرف للموت كما تُوُهِّم ولا لحضوره كما قيل فإن في الإبدال تنبيهاً على أن الوصية من المَهَمّات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهَلَ عنها وقوله تعالى {اثنان} خبرٌ للمبتدأ بتقدير المضاف أي شهادةُ بينكم حينئذ شهادةُ اثنين أو فاعلُ شهادةُ بينكم على أن خبرها محذوف أي فيما نزل عليكم أن يشهد بينكم اثنان وقرىء شهادةٌ بالرفع والتنوين والإعرابُ كما سبق وقرىء شهادة بالنصب
المائدة آية 106
والتنوين على أن عاملها مضمر هو العامل في اثنان أيضاً أي ليُقِمْ شهادةً بينكم اثنان {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} أي من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت وأنصح له وأقرب إلى تحرِّي ما هو أصلح له وقيل من المسلمين وهما صفتان لاثنان {أَوْ آخَرَان} عطف على اثنان تابع له فيما ذُكر من الخبرية والفاعلية أي أو شهادةُ آخَرَيْن أو أن يشهد بينكم آخران أو ليقم شهادةً بينكم آخران وقوله تعالى {مِنْ غَيْرِكُمْ} صفةٌ لآخَران أي كائنان من غيركم أي من الأجانب وقيل من أهل الذمة وقد كان ذلك في بدء الإسلام لعزة وجود المسلمين لا سيما في السفر ثم نسخ وعن مكحول أنه نسخها قوله تعالى وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ {إِنْ أَنتُمْ} مرفوعٌ بمُضْمرٍ يفسرُه ما بعده تقديره إن ضربتم فلما حُذف الفعل انفصل الضمير وهذا رأيُ جمهور البَصْريين وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأٌ بناءً على جواز وقوعِ المبتدأ بعد إنْ الشرطية كجواز وقوعِه بعد إذا فقوله تعالى {ضَرَبْتُمْ فِى الارض} أي سافرتم فيها لا محلَّ له من الإعراب عند الأولين لكونه مفسِّراً ومرفوع على الخبرية عند الباقين وقوله تعالى فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت عطفٌ على الشرطية وجوابُه محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه أي إن سافرتم فقاربَكم الأجلُ حينئذ وما معكم من الأقارب أو من أهل الإسلام مَنْ يتولى أمرَ الشهادة كما هو الغالب المعتاد في الأسفار فليشهد آخرانِ أو فاستشهدوا آخَرَيْن أو فالشاهدانِ آخرانِ كذا قيل والأنسب أن يقدر عين ماسبق أي فآخرانِ على معنى شهادةُ بينِكم شهادةُ آخَرَيْن أو فأَنْ يشهَدَ آخران على الوجوه المذكورة ثمَةَ وقوله تعالى {تَحْبِسُونَهُمَا} استئنافٌ وقعَ جوابا عما نشأ من اشتراط العدالة كأنه قيل فكيف نصنع إنِ ارْتبْنا بالشاهدين فقيل تحبِسونهما أي تقفونهما وتصبرونهما للتحليف {من بعد الصلاة} وقيل هو صفة لآخران والشرط بجوابه المحذوف اعتراضٌ فائدته الدلالة على أن اللائق إشهادُ الأقارب أو أهلِ الإسلام وأما إشهادُ الآخَرِين فعند الضرورة المُلجئةِ إليه وأنت خبير بأنه يقتضي اختصاصَ الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضاً قطعاً على أن اعتبارَ اتصافهما بذلك يأباه مقامُ الأمر بإشهادهماإذ مآلُه فآخرانِ شأنُهما الحبسُ والتحْليف وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قَيدِ الارتياب بهما كما يفيده الاعتراضُ الآتي والمرادُ بالصلاة صلاةُ العصر وعدمُ تعيينها لتعيُّنِها عندهم بالتحْليف بعدها لأنه وقت اجتماع الناس ووقت تصادُمِ ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار ولأن جميع أهل الأديان يعظّمونه ويجتنبون فيه الحلِفَ الكاذب وقد رُويَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقتئذ حلّف من حلف كما سيأتي وقيل بعد أي صلاة كانت لأنها داعيةٌ إلى النطق بالصدق وناهيةٌ عن الكذِب والزور إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفحشاء والمنكر {فيقسمان بالله} عطف على تحبسونهما وقوله تعالى {إِنِ ارتبتم} شرطية محذوفةُ الجواب لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه سيقت من جهته تعالى معترِضةً بين القسمَ وجوابِه للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب أي إن ارتاب بهما الوارِثُ منكم بخيانةٍ وأخذِ شيءٍ من التركة فاحبِسوهما وحلِّفوهما بالله وقولُه تعالى {لَا نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً} جوابٌ للقسم وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قَسَمٌ وشرط فاكتُفِيَ بذكر جوابِ سابقِهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالباً فإن ذلك إنما يكون عند سدِّ جواب السابق مَسدَّ جوابِ اللاحق لاتحاد مضمونهما كما
المائدة 107
في قولك والله إن أتيتَني لأكرمنك ولا ريب في استحالة ذلك ههنا لأن القسم وجوابه كلاهما وقد عرفت أن الشرط من جهته تعالى والاجتراء هو استبدال السلعة بالثمن أي أخذها بدلا منه لا بذلُه لتحصيلها كما قيل وإن كان مستلزِماً له فإن المعتبرَ في عقد الشراء ومفهومِه هو الجلبُ دون السلب المعتبر في عقد البيع ثم استُعير لأخذ شيءٍ بإزالة ما عنده عيناً كان أو معنى على وجه الرغبة في المأخوذ والإعراض عن الزائل كما هو المعتبرُ في المستعار منه حسبما مرَّ تفصيلُه في قولِهِ تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والضمير في به لله والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلا من الله أي من رحمته عرضا من الدنيا بأن نهتِكَها ونُزيلَها بالحلف الكاذب أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال وقيل الضمير للقسم فلا بُدَّ من تقدير مضافٍ البتةَ أي لا نستبدل بصحة القسم بالله أي لا نأخذ لأنفسنا بدلاً منها عرضا من الدنيا بأن نُزيلَ عنه وصفَ الصدق ونصفَه بالكذب أي لا نحلف كاذبين كما ذكر وإلا فلا سِدادَ للمعنى سواءٌ أريد به القسمُ الصادقُ أو الكاذب أما إن أريدَ به الكاذبُ فلأنه يفوِّتُ حينئذ ما هو المعتبرُ في الاستعارة من كون الزائل شيئاً مرغوباً فيه عند الحالف كحُرمة اسمِ الله تعالى ووصفِ الصحة والصدق في القسم ولا ريب في أن القسم الكاذبَ ليس كذلك وأما إن أريد به الصادقُ فلأنه وإن أمكن أن يُتوسَّلَ باستعمالِه إلى عرض الدنيا كالقم الكاذب لكن لا محظور فيه وأما التوسلُ إليه بترك استعماله فلا إمكان له ههنا حتى يصح التبرؤ منه وإنما يُتوسَّلُ إليه باستعمال القسم الكاذب وليس استعمالُه من لوازم ترْكِ استعم الالصادق ضرورةَ جوازِ تركِهما معاً حتى يتصور دجعل ما أخذ بتركِ استعمالِ الصادق كما في صوره تقديرِ المضاف فإن إزالةَ وصْفِ الصدق عن القسم مع بقاء الموصوفِ مستلزِمةٌ لثبوت وصفِ الكذِب له البتة فتأمل وقوله تعالى {وَلَوْ كَانَ} أي المقسَمُ له المدلولُ عليه بفحوى الكلام {ذَا قربى} أي قريباً منا تأكيد لتبرئهم ما لالحف كاذباً ومبالغةٌ في التنزه عنه كأنهما قالا لا نأخذ لأنفسنا بدلا من حُرمة اسمه تعالى مالاً ولو انضمَّ إليه رعايةُ جانبِ الأقرباء فكيف إذا لم يكنْ كذلك وصيانةُ أنفسِهما وإن كانت أهمَّ من رعاية الأقرباء لكنها ليست ضميمةً للمال بل هي راجعة إليه وجواب لو محذوفٌ ثقة بدلالة ما سبق عليه أي لا نشترى به ثمنا والجملة معطوفة على أخرى مثلِها كما فُصِّل في تفسيرِ قولِه تعالى وَلَوْ أعجبك الخ وقوله عز وجل {وَلَا نَكْتُمُ شهادة الله} أي الشهادة التي أمرَنا الله تعالى بلإقامتها معطوفٌ على لا نشتري به داخلٌ معه في حكم القسم وعن الشعبي أنه وَقَفَ على شهادة ثم ابتدأ آلله بالمد على حذف حرف االقسم وتعويض حرف الاستفهام منه وبغير مد كقولهم الله لأفعلن {إنا إذا لمن الاثمين} أي إن كتمناها وقرىء لملائمين بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللام وإدخال النون فيها
{فَإِنْ عُثِرَ} أي اطُّلع بعد التحليف {على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً} حسبما اعترفا به بقولهما إنا إذاً لمن الآثمين أي فعلا ما يوجبُ إثماً من تحريف وطكتم بأن ظهر
المائدة آية 107
بأيديهما شيءٌ من التركة وادَّعيا استحقاقَهما له بوجهٍ من الوجوه كما وقع في سبب النزول حسبما سيأتي {فَآخَرَانِ} أي رجلان آخران وهو مبتدأ خبرُه {يقومان مقامهما} ولا محظور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وبين وَصفِه الذي هو الجارُّ والمجرور بعده أي يقومان مَقام اللذين عُثر على خيانتهما وليس المراد بمقامهما مقامَ أداءِ الشهادة التي تولَّياها ولم يؤدِّياها كما هي بل هو مقام الحبس والتحليف على الوجه المذكور لإظهار الحق وإبراز كذِبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديهما {مِنَ الذين استحق} على البناء للفاعل على قراءة عليَ وابنِ عباس وأُبيَ رضي الله عنهم أي من أهل الميت الذين استحق {عَلَيْهِمُ الاوليان} من بينهم أي الأقربانِ إلى الميت الوارثانِ له الأحقانِ بالشهادة أي باليمين كما ستعرفه ومفعولُ استحق محذوفٌ أي استحقا عليهم أن يجرِّدوهما للقيام بها لأنها حقُّهما ويُظهروا بهما كذِبَ الكاذبَيْن وهما في الحقيقة الآخرانِ القائمان مَقام الأوَّلَيْن على وُضع المُظْهر مقامَ المُضْمَر وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ وهو الأظهر أي من الذين استُحق عليهم الإثمُ أي جُنيَ عليهم وهم أهلُ الميت وعشيرتُه فالأَوْليان مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف كأنه قيل ومن هما فقيل الأوليان أو هو بدلٌ من الضمير في يقومان أو من آخران وقد جوِّز ارتفاعَه باستَحق على حذفِ المضافِ أي استحقّ عليهم انتدابُ الأوَّلَيْن منهم للشهادة وقرىء الأولِّين على أنهم صفة للذين الخ مجرور أو منصوبٌ على المدحِ ومعنى الأولية التقدمُ على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها وقرىء الأوليين على التثنية وانتصابُه على المدح وقرىء الأولان {فَيُقْسِمَانِ بالله} عطف على يقومان {لشهادتنا} المرادُ بالشهادة اليمينُ كما في قوله تعالى فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات بالله أي لَيَمينُنا على أنهما كاذبان فيما ادَّعيا من الاستحقاق مع كونِها حقةً صادقةً في نفسها {أَحَقُّ} بالقبول {مِن شهادتهما} أي من يمينهما مع كونها كاذبةً في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقُهما للإثم ويمينُنا منزهةٌ عن الرَّيْب والرِّيبة فصيغةُ التفضيلِ مع أنَّه لا حقيةَ في يمينهما رأساً إنما هي لإمكان قَبولِها في الجُملة باعتبار احتمالِ صدقِهما في ادعاء تملُّكِهما لما ظهر في أيديهما {وَمَا اعتدينا} عطفٌ على جوابِ القسمِ أيْ ما تجاوزنا فيها الحقَّ أو ما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما {إنا إذا لَّمِنَ الظالمين} استئنافٌ مقرَّرٌ لما قبله أي إنا إنِ اعتدَيْنا في يميننا لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى أو لمن الواضعين الحقَّ في غير موضعه ومعنى النظم الكريم أن المُحتَضَرَ ينبغي أن يُشهدَ على وصيته عدلين من ذوِي نسبِه أو دينه فإن لم يجدْهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم ثم إن وقع ارتيابٌ بهما أقسما على أنهما ما كتما من الشهادة ولا من التركة شيئاً بالتغليظ في الوقت فإنِ اطُّلعَ بعد ذلك على كذبهما بأن ظهر بأيديهما شيءٌ من التركة وادعيا تملُّكه من جهة الميت حلفَ الورثةُ وعُمل بأيْمانهم ولعل تخصيص الاثنين لخصوص الواقعة فإنه رُوي أن تميمَ بنَ أوسٍ الداري وعديَّ بنَ يزيد خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصْرانيين ومعهما بديلُ بنُ أبي مريم مولى عمْرو بنِ العاص وكان مسلماً مهاجراً فلما قدِموا الشامَ مرضَ بديلٌ فكتب كتاباً فيه جميعُ ما معه وطرحه في متاعِه ولم يخبرْهما بذلك وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعَه إلى أهله ومات ففتشاه فوجدا فيه إناءً من فضة وزْنُه ثلثمائةِ مثقالٍ منقوشاً بالذهب فغيَّباه ودفعا المتاعَ إلى أهله فأصابوا فيه الكتاب فطلبوا منهما الإناءَ فقالا ما ندري إنما أوصى إلينا بشيءٍ وأمرَنا أن ندفعه إليكم
المائدة آية 108
ففعلنا وما لنا بالإناء من علم فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل يأيها الذين أآمنوا الآية فاستحلَفَهما بعد صلاة العصر عند المِنْبر بالله الذي لا إلَه إِلَاّ هو أنهما لم يخْتانا شيئاً مما دَفَع ولا كتما فحلَفا على ذلك فخلى صلى الله عليه وسلم سبيلهما ثم إن الإناءَ وُجد بمكةَ فقال مَنْ بيده اشتريتُه من تميم وعدي وقيل لما طالت المدةُ أظهراه فبلغ ذلك بني سهمٍ فطلبوه منهما فقالا كنا اشتريناه من بديل فقالوا ألم نقلْ لكما هل باع صاحبُنا من متاعه شيئاً فقلتما لا قالا ما كان لنا بينة فكر هنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله عز وجل فَإِنْ عُثِرَ الآية فقام عمروُ بنُ العاص والمطَّلِبُ بنُ أبي وداعةَ السَّهْميان فحلفا بالله بعد العصر أنهما كَذَبا وخانا فدفع الإناءَ إليهما وفي رواية إلى أولياء الميت واعلم أنهما إن كانا وارثين لبديل فلا نسخ إلا في وصف اليمين فإن الوارثَ لا يُحَلَّفُ على البَتات وإلا فهو منسوخ
{ذلك} كلامٌ مستأنفٌ سيقَ لبيانِ أن ما ذُكر مستتبِعٌ للمنافع واردٌ على مقتضى الحِكمة والمصلحة أي الحُكم الذي تقدم تفصيلُه {أدنى أن يأتوا بالشهادة على وَجْهِهَا} أي أقربُ إلى أن يؤدِّيَ الشهودُ الشهادةَ على وجهها الذي تحمَّلوها عليه من غير تحريفٍ ولا خيانة خوفاً من العذاب الأخروي وهذه كما ترى حكمةُ شَرْعيةِ التحليفِ بالتغليظ المذكور وقوله تعالى {أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم} بيانٌ لحِكمة شرعيةِ ردِّ اليمين على الورثة معطوفٌ على مقدَّرٍ ينبأ عنه المقامُ كأنه قيل ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذابَ الآخرة بسبب اليمين الكاذبة أو يخافوا الافتضاحِ على رؤوس الأشهاد بإبطال أيمانهم والعملِ بأَيْمان الورثة فينزجروا عن الخيانة المؤدية إليه فأيُّ الخوفين وقع حصل المقصِدُ الذي هو الإتيانُ بالشهادة على وجهها وقيل هو عطفٌ على يأتوا على معنى أن ذلك أقربُ إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو إلى أن يخافوا الافتضاحَ برد اليمين على الورثة فلا يحلِفوا على موجَب شهادتِهم إنْ لم يأتوا بها على وجهها فيظهرُ كذبُهم بنكولهم وأما ما قيل من أن المعنى أن ذلك أقربُ إلى أحد الأمرين اللذين أيُّهما وقع كان فيه الصلاح أداءُ الشهادة على الصدق والامتناعُ عن أدائها على الكذب فيأباه المقام إذ لا تعلّق له بالحادثة أصلاً ضرورةَ أن الشاهدَ مضطرٌّ فيها إلى الجواب فالامتناعُ عن الشهادة الكاذبة مستلزمٌ للإتيان بالصادقة قطعاً فليس هناك أمران أيُّهما وقع كان فيه الصلاحُ حتى يَتوسَّطَ بينهما كلمةُ أو وإنما يتأتى ذلك في شهودٍ لم يُتَّهموا بخيانة على أن إضافةَ الامتناع عن الشهادة الكاذبة إلى خوف رد اليمين على الورثة ونِسبةَ الإتيانِ بالصادقة إلى غيره مع أن ما يقتضي أحدُهما يقتضي الآخَرُ لا محالة تحكُّمٌ بحْتٌ فتأمل {واتقوا الله} في مخالفة أحكامه التي من جملتها هذا الحكمُ {واسمعوا} ما تؤمرون به كائناً ما كانَ سمعَ طاعةٍ وقَبول {والله لَا يَهْدِى القوم الفاسقين} الخارجين عن الطاعة أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم فاسقين والله لَا يَهْدِى القوم الفاسقين أي إلى طريق الجنةِ أو إلى ما فيه نفعهم
المائدة آية 109
{يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} نصب على أنَّهُ بدلُ اشتمالٍ من مفعول اتقوا لما بينهما من الملابسة فإن مدار البدلية ليس ملابسةَ الظرفية والمظروفية ونحوِها فقط بل هو تعلّقٌ ما مُصحِّحٌ لانتقال الذهن من المُبدلَ منه إلى البَدَل بوجه إجماليَ كما فيما نحن فيه فإن كونَه تعالى خالقَ الأشياء كافةً مالكَ يومِ الدين خاصةً كافٍ في الباب مع أن الأمرَ بتقوى الله تعالى يتبادر منه إلى الذهن أن المتقى أيُّ شأنٍ من شئونه وأيُّ فعلٍ من أفعاله وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ به يتحقق الاشتمال أي اتقوا عقاب الله فحينئذ يجوزُ انتصابُه منه بطريق الظرفية وقيل منصوبٌ بمضمرٍ معطوفٍ على اتقوا وما عُطف عليه أي واحذروا أو اذكروا يوم الخ فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يُضْطرُّهم إلى تقوى الله عز وجل وتلقِّي أمره بسمع الإجابة والطاعة وقيل هو ظرفٌ لقولِهِ تَعَالى لَاّ يَهِدِّى أي لا يهديهم يومئذ إلى طريق الجنة كما يهدي إليه المؤمنين وقيل منصوب بقوله تعالى واسمعوا بحذف مضاف أي اسمعوا خبرَ ذلك اليوم وقيل منصوب بفعل مؤخّرٍ قد حُذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانه لكمال فظاعةِ ما يقع فيهِ من الطَّامةِ التَّامةِ والدواهي العامة كأنه قيل يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فيقول الخ يكونُ من الأحوالِ والأهوال مالا يفي ببيانه نطاقُ المقال وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمار لتربية المهابةِ وتشديد التهويل وتخصيصُ الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم كيف لا وذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وقد قال الله تعالى يَوْمَ ندعو كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم بل لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدمِ الحاجة إلى التَّصريحِ بجمعِ غيرِهم بناءً على ظهور كونهم أتباعاً لهم ولإظهار سقوطِ منزلتهم وعدم لياقتهم بالانتظام في سلك جمع السرل كيف لا وهم عليهم السلام يُجمعون على وجه الإجلال وأولئك يسحبون على وجوههم بالأغلال {فَيَقُولُ} لهم مشيراً إلى خروجهم عن عُهدة الرسالة كما ينبغي حسبما يُعربُ عنه تخصيصُ السؤال بجواب الأمم إعراباً واضحا إلا لصدر الخطاب بأن يقال هل بلغتنم رسالاتي وماذا في قولِه عز وجل {مَاذَا أَجَبْتُمُ} عبارةٌ عن مصدر الفعل فهو نصْبٌ على المصدرية أيْ أيَّ إجابةٍ أُجبتم من جهة أُممِكم إجابةَ قَبول أو إجابةَ قَبول أو إجابةَ رد وقيل عبارة عن الجواب فهو في محل النصب بعد حذف الجارِّ عنه أيْ بأيِّ جوابٍ أجبتم وعلى التقديرين ففي توجيه السؤال عما صدرَ عنهم وهم شهودٌ إلى الرُّسلِ عليهم السلام كسؤال الموءودة بمَحْضرٍ من الوائد والعدولِ عن إسناد الجواب إليهم بأن يقال ماذا أجابوا من الأنباء عن كمال تحقيرِ شأنهم وشدة الغيظ والسُّخط عليهم ما لا يخفي {قالوا} استئنماف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل فماذا يقول الرسل عليهم السلام هنالك فقيل يقولون {لَا عِلْمَ لَنَا} وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التقرر والتحقق كما في قوله تعالى وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب الاعراف ونظائرِهما وإنما يقولون ذلك تفويضاً للأمر إلى علمه تعالى وإحاطتِه بما اعتراهم من جهتهم من مقاساة الأهوال ومعاناة الهموم والأوجال وعَرْضاً لعجزهم عن بيانه لكثرته وفظاعتِه {إِنَّكَ أَنتَ علامُ الغيوب} تعليل لذلك أي فتعلَمُ ما أجابوا وأظهروا لنا وما لم نعلمْه مما أضمَروه في قلوبهم وفيه إظهارٌ للشَّكاةِ وردّ للأمر إلى علمه تعالى بما لَقُوا من قبلهم من
المائدة آية 110
الخطوب وكابدوا من الكروب والتجاءٌ إلى ربهم في الانتقام منهم وقيل المعنى لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة ورُدَّ ذلك بأنهم يعرفونهم بسيماهم فكيف يخفى عليهم أمرُهم وأنت خبير بأن مُرادهم حينئذ أن بعضهم كانوا في زمانهم على الحق ثم صاروا كَفَرة وعن ابن عباس ومجاهد والسدي رضي الله عنهم أنهم يفزَعون من أول الأمر ويذهَلون عن الجواب ثم يجيبون بعد ما ثابت إليهم عقولُهم بالشهادة على أممهم ولا يلائمه التعليل المذكور وقيل المرادُ به المبالغةُ في تحقيق فضيحتهم وقرىء علامَ الغيوب بالنصب على النداء أو الاختصاص بالمدح على أنَّ الكلامَ قد تمَّ عند قولِه تعالى أَنتَ أي إنك أنت المنعوتُ بنعوتِ كمالِك المعروفُ بذلك
{إذ قال الله يا عِيسَى ابن مَرْيَمَ} شروعٌ في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين من المفاوضة على التفصيلِ إثرَ بيان ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأُنموذج لتفاصيلِ أحوال الباقين وتخصيصُ شأن عيسى عليه السلام بالبيان تفصيلاً من بين شئون سائر الرسل عليهم السلام مع دلالتها على كمال هو ل ذلك اليوم ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل لما أنه شأنه عليه السلام متعلِّقٌ بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نُعِيتْ عليهم في السورة الكريمة جناياتُهم فتفصيلُه أعظمُ عليهم وأجلبُ لحسرتهم وندامتِهم وأفتُّ في أعضادهم وأدخَلُ في صرفهم عن غيهم وعنادهم وإذ بدلٌ من يومَ يجمع الله الخ وصيغة الماضي لما ذُكر من الدلالة على تحقق الوقوع وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في مقام الإضمار لما مر من المبالغة في التهويل وكلمة على في قوله تعالى {اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ وعلى والدتك} متعلقة بنفس النعمة إن جُعلت مصدراً أي اذكر إنعامي عليكما أو بمحذوفٍ هو حالٌ منها إنْ جُعلت اسماً أي اذكر نعمتي كائنة عليكما وليس المرادُ بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفَه عليه السلام شكرَها والقيامَ بمواجبها ولاتَ حينَ تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أيَّ خروج بل إظهارَ أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتداداً بها وتلذذا بذكرها على رءوس الأشهاد لتكون حكايةُ ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخاً ومزجرةً للكفرة المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطاً وتفريطاً وإبطالاً لقولهما جميعاً {إِذْ أَيَّدتُّكَ} ظرف لنعمتي أي اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لك أو حال منها أي اذكرها كائنة وقت تأييدي لك وقرىء آيدتُك والمعنى واحد أي قويتك {بِرُوحِ القدس} بجبريلَ عليه السلام لتثبيت الحجة
المائدة آية 110
أو باكلام الذي يحيى به الدين وإضافته إلى القدس لأنه سبب الطهر عن أوضار الآثام أو يحيى به الموتى أو النفوسُ حياةً أبدية وقيل الأرواحُ مختلفةُ الحقائق فمنها طاهرةٌ نورانية ومنها خبيثةٌ ظُلمانية ومنها مشرقةٌ ومنها كَدِرةٌ ومنها حُرة ومنها نذْلة وكان روحه عليه السلام طاهرةً مشرقةً نورانية عُلوية وأيا ما كان غهو نعمة عليهما {تُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً} استئناف مبين لتأييده عليه السلام أو حال من الكاف وذكر تكليمه عليه السلام في حال الكهولة لبيان أن كلامه عليه السلام في تينك الحالتين كان على نسق واحد بديعٍ صادراً عن كمال العقل مقارِناً لرزانة الرأي والتدبير به واستدل على أنه عليه السلام سينزِل من السماء لِما أنه عليه السلام رفع قبل التكهُّل قال ابن عباس رضي الله عنهما أرسله الله تعالى وهو ابن ثلاثين سنة ومكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه اللع = هـ تعالى إليه {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب} عطف على قوله تعالى إِذْ أَيَّدتُّكَ منصوب بما نصبه أي اذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك والكتاب {والحكمة} أي جنسهما {والتوراة والإنجيل} خُصا بالذكر مما تناوله الكتابُ والحكمةُ إظهاراً لشرفهما وقيل الخطُّ والحكمةُ الكلام اتلمحكم الصواب {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} أي تُصوَّر منه هيئةً مماثلة لهيئة الطير {بِإِذْنِى} بتسهيلي وتيسيري لا على أنْ يكونَ الخلقُ صادراً عنه عليه السلام حقيقة بل على أن يظهر ذلك يده عليه السلام عند مباشرة السباب مع كون الخلق حقيقةً لله تعالى كما قيل عنه قوله تعالى {فَتَنفُخُ فِيهَا} أي في الهيئة المصوَّرة {فَتَكُونُ} أي تلك الهيئة {طَيْراً بِإِذْنِى} فإن إذنه تعالى لو لم يكن عبارةً عن تكوينه تعالى للطير بل عن محضِ تيسيره مع صدور الفعل حقيقةً عما أُسند إليه لكان هذا تكوّناً من جهة الهيئة وتكريرُ قوله بِإِذْنِى في الطير مع كونه شيئاً واحداً للتنبيهِ على أنَّ كلاً من التصوير والنفخ أمرٌ معظّم بديعٌ لا يتسنى ولا يترتب عليه شيء إلا بإذنه تعالى {وتبرئ الاكمه والابرص بِإِذْنِى} عطف على تخلُق {وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِى} عطف على إذ تخلق أعيد فيه إذْ لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صارت رميماً معجزةً باهرةً ونعمةً جليلة حقيقةً بتذكير وقتها صريحاً قيل أخرج سامَ بنَ نوح ورجلين وامرأةً وجاريةً وتكرير قوله بإذنى في المواضع الأربعة للاعتناء بتحقيق الحق ببيان أن تلك الخوارقَ ليست من قبل عيسى عليه الصلاة والسلام بل من جهته سبحانه قد أظهرها على يديه معجزةً له ونعمةً خصَّها به وأما ذكرُه في سورة آلِ عِمرانَ مرتين لما أن ذلك موضعُ الإخبار وهذا موضعُ تعداد النعم {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسرائيل عَنكَ} عطف على إذ تخرج أي منعت الهود الذين أرادوا بك السوء عن التعرُّض لك {إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات} بالمعجزات الواضحة ممَّا ذُكر ومَا لم يُذكر كالإخبار بما يأكلون وما يدّخِرون في بيوتهم ونحوِ ذلك وهو ظرفٌ لكففت لكن لا باعتبار المجيء بها فقط بل باعتبار ما يعقبُه منْ قولِه تعالى {فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} فإن قولهم ذلك مما يدل على أنهم قصدوا اغتيالَه عليه السلام المُحوِجَ إلى الكف أي كففتُهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئِك إياهم بالبينات وإنما وضع ضميرِهم الموصولُ لذمِّهم بما في حيِّز الصلة فكلمة من بيانية وهذا إشارةٌ إلى ما جاءَ به والتذكير لأن إشارتهم إلى ما رأَوْه من نفس المسمّى من حيث هو أو من حيث هو سحر لا من حيث هو مسمى بالبينات وقرىء إن هذا إلا ساحر
المائدة آية 111 112
مبين فهذا حينئذ إشارة إلى عيسى عليه السلام
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} عطف على ما قبله من أخواتها الواقعةِ ظروفاً للنعمة التي أُمر بذكرها وهي وإن كانت في الحقيقة عينُ ما يُفيده الجمل التي أضيف إليها تلك الظروفُ من التأييد بروح القدس وتعليم الكتاب والحكمة وسائرِ الخوارق المعدودة لكنها لمغايَرَتها لها بعنوانٍ منْبىءٍ عن غاية الإحسان أُمر بذكرها من تلك الحيثية وجُعلت عاملةً في تلك الظروف لكفاية المغايَرَة الاعتبارية في تحقيق ما اعتُبر في مدلول كلمةِ إذ من تعدد النسبة فإنه ظرف موضوعٌ لزمان نسبتين ماضيتين واقعتين فيه إحداهما معلومةُ الوقوعِ فيه للمخاطَب دون الأخرى فيُراد إفادةُ وقوعها أيضاً له فيضاف إلى الجملة المفيدة للنسبة الأولى ويجعل ظرفاً معمولاً للنسبة الثانية ثم قد تكون المغايَرةُ بين النسبتين بالذات كما في قولك اذكر إحساني إليك إذ أحسنتَ إليّ تريد تنبيهَ المخاطَب على وقوع إحسانك إليه وقت وقوع إحسانه إليك وهما نسبتان متغايرتان بالذات وقد تكون بالاعتبار كما في قولك اذكرإحساني إليك غذ منعتُك من المعصية تريد تنبيهه على كون منعه إحساناً إليه لا على إحسانٍ آخرَ واقعٍ حينئذ ومن هذا القبيل عامةُ ما وقع في التنزيل من قوله تعالى يا قوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً الآية وقولِه تعالى يايها الذين آمنوا اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ إلى غير ذلك من النظائر ومعنى إيحائه تعالى إليهم أمرُه تعالى إياهم في الإنجيل على لسانه عليه السلام وقيل إلهامُه تعالى إياهم كما في قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى وأنْ في قولِه تعالَى {إن آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} مفسِّرة لما في الإيحاء من معنى القول وقيل مصدرية وإيرادعه عليه السلام بعنون الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه السلام كأنه قيل ى منوا بوحدانيتي في الألوهية والربوبية وبرسالة رسولي ولا تُزيِّلوه عن حيِّزه حطّاً ولا رفعاً وقولُه تعالى {قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل فماذا قالوا حين أوحِيَ إليهم ذلك فقيل قالوا {آمنّا} أي بما ذُكر من وحدانيته تعالى وبرسالة رسولِه كما يُؤذِنُ به قولهم {واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} أي مخلِصون في إيماننا مِنْ أَسْلَمَ وجهَه لِلَّهِ وهذا القولُ منهم بمقتضى وحيه تعالى وأمرِه لهم بذلك نعمةٌ جليلة كسائر النعمم الفائضة عليه عليه الصلاة والسلام وكل ذلك نعمةٌ على والدته أيضاً رُوي أنه عليه السلام لما علم أنه سيُؤمر بذكر هاتيك النعم العِظامِ جعل يلبَسُ الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئاً لغد يقول لكل يوم رزقُه لم يكن له بيت فيخرَبَ ولا ولد فيموتَ أينما أمسى بات
{إِذْ قَالَ الحواريون} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيانِ بعض ما جَرَى بينَهُ عليه السلام وبين قومه منقطعٌ عما قبله كما يُنبىء عنه الإظهارُ في موقعِ الإضمارِ وإذ منصوبٌ بمضمرٍ خُوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب والالتفات لكن لا لأن الخطاب السابق لعيسى عليه
المائدة آية 113
السلام فإنه ليس بخطاب وإنما هو حكايةُ خطاب بل لأن الخطابَ لمن خوطب بقوله تعالى واتقوا الله الآية فتأمل كأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم عَقيبَ حكايةِ ما صدرَ عن الحواريين من المقالة المعجودة من نعمِ الله تعالَى الفائضة عَلَى عيسَى عليه السلام اذكُر للناس وقت قولهم الخ وقيل هو ظرف لقالوا أريد به التنبيهُ على أن ادعاءَهم الإيمانَ والإخلاصَ لم يكن عن تحقيقٍ وإيقان ولا يساعده النظمُ الكريم {يا عيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء} اختلف في أنهم هل كانوا مؤمنين أو لا فقيل كانوا كافرين شاكّين في قدرةَ الله تعالى على ما ذَكَروا وفي صدْقِ عيسى عليه السلام كاذبين في دعوى الإيمان والإخلاص وقيل كانوا مؤمنين وسؤالُهم للاطمئنان والتثبّت لا لإزاحة الشك وهل يستطيع سؤال عن الفعل دون القدرة عليه تعبيراً عنه بلازمه وقيل الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما تقتضيه القدرة وقيل المعنى هل يطيع ربك بمعنى هل يجيبك واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب بمعنى أجاب وقرىء هل تستطيعُ ربَّك أي سؤال ربك والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارفٍ يصرِفك عنه وهي قراءة علي وعائشةَ وابن عباس ومعاذ رضي الله عنهم وسعيدِ بن جبير في آخرين والمائدة الخِوانُ الذي عليه الطعام من مالده إذا أعطاه ورفدَه كأنها تَميدُ مَنْ تُقدَّم إليه ونظيرُه قولهم شجرة مطعمة وقال أبو عبيد هي فاعلة بمعنى مفعول كعيشة راضية {قال} أاستئناف مبني على سؤال ناشىءٍ مما قبله كأنه قيل فماذا قال لهم عيسى عليه السلام حين قالوا ذلك فقيل قال {اتقوا الله} أي من أمثال هذا السؤال {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي بكمال قدرته تعالى وبصِحّة نبوتي أو إن صَدَقتم في ادّعاء الإيمانِ والإسلام فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات وقيل أمرهم بالتقوى ليصير ذلك ذريعة لحصول المسئول كقوله تعالَى وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يحتسبُ وقوله تعالى يأَيُّهَا الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة
{قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق {نريد أن نأكل منها} تمهيدُ عذرٍ وبيانٍ لِمَا دعاهم إلى السؤال أي لسنا نريد بالسؤال إزاحةَ شُبهتِنا في قدرته سبحانه على تنزيلها أو في صحة نبوتك حتى يقدحَ ذلك في الإيمان والتقوى بل نريد أن نأكلَ منها أي أكلَ تبرّكٍ وقيل أكلَ حاجةٍ وتمتُّع {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} بكمال قدرته تعالى وإن كنا مؤمنين به من قبل فإن انضمامَ علم المشاهدةِ إلى العلم الاستدلالي مما يوجب ازديادَ الطُمأنينة وقوةَ اليقين {وَنَعْلَمَ} أي علماً يقينياً لا يحوم حوله شائبةُ شُبهةٍ أصلاً وقرىء ليُعْلَمَ على البناء للمفعول {أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} أنْ هيَ المخففةُ منَ أن وضمير الشأن محذوف أي ونعلم أنه قد صدقتنا في دعوى النبوة وأن الله يُجيب دعوتنا وإن كنا عالمين بذلك من قبل {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين} نشهد عليها عند الذين لم يحضُروها من بني إسرائيل ليزدادَ المؤمنون منهم بشهادتنا طُمأنينةً ويقيناً ويؤمنَ بسببها كفارُهم أو من الشاهدين للعَيْن دون السامعين للخبر وعليها متعلقٌ بالشاهدين إن جُعل اللامُ للتعريف وبيانٌ لما يشهدون عليه
المائدة 114 115
إن جُعلتْ موصولة كأنه قيل على أي شهيد يشهدون فقيل عليها فإن ما يتعلق بالصلة لا يتقدم على الموصول أو هو حالٌ من اسم كان أو هو متعلق بمحذوف يفسره من الشاهدين
{قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ} لما رأى عليه السلام أن لهم غَرَضاً صحيحاً في ذلك وأنهم لا يُقلعون عنه أزمعَ على استدعائها واستنزالها وأراد أن يُلزِمَهم الحجةَ بكمالها رُوي أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل ولبس المِسْح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصرَه ثم قال {اللهم ربنا} ناداه سبحانه وتعالى مرتين مرةً بوصف الألوهية الجامعةِ لجميع الكمالات ومرةً بوصف الربوبية المُنْبئةِ عن التربية إظهارا لغاية التضرّع ومبالغةً في الاستدعاء {أُنزِلَ عَلَيْنَا} تقديمُ الظرف على قوله {مَائِدَةً} لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقوله {مّنَ السماء} متعلق بأنزل أو بمحذوفٍ هو صفةٌ لمائدة أي كائنةً من السماء نازلةً منها وقوله {تَكُونُ لَنَا عِيداً} في محل النصبُ على أنَّه صفةٌ لمائدة واسم تكون ضمير المائدة وخبرها إما عيدا ولنا حالٌ منه أو من ضمير تكون عند من يجوِّز إعمالَها في الحال وإما لنا وعيداً حال من الضمير في لنا لأنه وقع خبراً فيحمِلُ ضميراً أو من ضمير تكون عند من يرى ذلك أن يكون يومُ نزولها عيداً نعظمه وإنما أُسند ذلك إلى المائدة لأن شرَفَ اليوم مستعار من شرفها وقيل العيدُ السرورُ العائد ولذلك سمِّيَ يومُ العيد عيداً وقرىء تكن بالجزم على جواب الأمر كما في قوله تعالى فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى خلا أن قراءةَ الجزم هناك متواترة وههنا من الشواذ {لأولنا وآخرنا} بدل من لنا بإعادة العامل أي عيداً لمتقدمينا ومتأخرينا رُوي أنها نزلت يوم الأحد ولذلك اتخذخ النصارى عيداً وقيل للرؤساء منا والأتباع وقيل يأكل منها أولُنا وآخرُنا وقرىء لأُولانا وأُخْرانا بمعنى الأمة والطائفة {وآية} عطف على عيجا {منك} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لآية أي كائنةً منك دالةً على كمال قدرتك وصحةِ نبوتي {وارزقنا} أي المائدة أو الشكرعليها {وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين} تذييلٌ جارٍ مَجْرى التعليل أي خيرُ من يرزق لأنه خالقُ الأرزاق ومعطيها بلا عِوَض وفي إقباله عليه السلام على الدعاء بتكرير النداء المُنْبىءِ عن كمال الضراعة والابتهال وزيادته مالم يخطُرْ ببال السائلين من الأمور الدَّاعيةِ إلى الإجابة والقَبول دلالةٌ واضحةٌ على أنهم كانوا مؤمنين وأن سؤالهم كان لتحصيل الطمأنينة كما في قولِ إبراهيمَ عليه السلام رب أرني كيف تحيى الموتى وإلا لما قبل اعتذارهم بما ذكروه ولما اضاف غليه من عنده ما يؤكده ويقربه إلى القبول
{قَالَ الله} استئناف كما سبق {إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ} ورودُ الإجابة منه تعالى بصيغة التفعيل المُنْبئة عن التكثير مع كون الدعاء منه عليه السلام بصيغة الإفعال لإظهار كمال
المائدة آية 115
اللطف والإحسان كما في قوله تعالى قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ الخ بعد قوله تعالى لَّئِنْ أنجانا مِنْ هذه الخ مع ما فيه من مراعاة ما وقعَ في عبارة السائلين وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعلِ خبرِها اسماً تحقيقٌ للوعد وإيذان بأنه تعالى منجزٌ له لا محالة من غير صارفٍ يَثنيه ولا مانعٍ يَلويه وإشعارٌ بالاستمرار أي إني منزلُ المائدة عليكم مراتٍ كثيرة وقرىء بالتخفيف وقيل الإنزالُ والتنزيلُ بمعنى واحد {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ} أي بعد تنزيلها {مّنكُمْ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل يكفرْ {فَإِنّى أُعَذّبُهُ} بسبب كفره بعد معاينة هذه الآيةِ الباهرة {عَذَاباً} اسم مصدرٍ بمعنى التعذيب وقيل مصدر بحذف الزوائد وانتصابه على المصدرية بالتقديرين المذكورين وجَوَّز أن يكون مفعولاً به على الاتساع وقوله تعالى {لَاّ أُعَذّبُهُ} في محل النصبُ على أنَّه صفةٌ لعذاباً والضمير له أي أعذبه تعذيباً لا أعذب مثل ذلك التعذيب {أَحَداً مّن العالمين} أي من عالَمِي زمانِهم أو من العالمين جميعاً قيل لما سمعوا هذا الوعيد الشديد خافوا أن يكفر بعضُهم فاستعفَوْا وقالوا لا نريدها فلم تنزِلْ وبه قال مجاهدٌ والحسن رحمهما الله والصحيحُ الذي عليه جماعير الأمة ومشاهيرُ الأئمة أنها قد نزلت روي أنه عليه السلام لما دعا بما دعا وأُجيب بما أجيب إذا بسفْرةٍ حمراءَ نزلت بين غمامتين غمامةٌ من فوقها وغمامةٌ من تحتها وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمةً للعالمين ولا تجعلها مُثْلةً وعقوبة ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال بسم الله خيرِ الرازقين فإذا سَمَكةٌ مشوية بلا فلوس ولا شَوْك تسيل دسَماً وعند رأسها مِلْحٌ وعند ذنبها خَلٌّ وحولها من ألوان البقول ما خلا الكُرَّاثَ وإذا خمسةُ أرغفةٍ على واحد منها زيتونٌ وعلى الثاني عَسَلٌ وعلى الثالث سَمْنٌ وعلى الرابع جُبْنٌ وعلى الخامس قدَيدٌ فقال شمعون رأس الحوالريين يا روحَ الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة قال ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بالقُدرة العالية كلوا ما سألتم واشكروا يُمدِدْكم الله ويزِدْكم من فضله فقالوا يا روحَ الله لو أَرَيتَنا من هذه الآية آيةً أخرى فقال يا سمكةُ احْيَيْ بإذنِ الله فاضطربت ثم قال لها عُودي كما كنت فعادَتْ مشويةً ثم طارت المائدة ثكم عصو فمسخو قردةً وخنازيرَ وقيل كانت تأتيهم أربعين يوماً غِباً يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظلها ولم يأكل منها فقير إلا غَنِيَ مدةَ عُمُرِه ولا مريضٌ إلا برِىءَ ولم يمرَضْ أبداً ثم أوحى اللَّهُ تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أنِ اجعلْ مائدتي في الفقراء والمرضَى دون الأغنياء والأصحاء فاضطربت الناسُ لذلك فمُسِخَ منهم من مُسِخَ فأصبحوا خنازيرَ يسعَوْن في الطرقات والكُناسات ويأكلون العَذِرة في الحُشوش فلما رأى الناس ذلك فزِعوا إلى عيسى عليه والسلام وبكوا على الممسوخين فلما أبصرت الخنازيرُ عيسى عليه السلام بكتْ وجعلت تطيف به وجعل يدعوهم بأسمائهم واحد بعد واحد فيبكون ويسيرون برءوسهم ولا يقدِرون على الكلام فعاشوا ثلاثةَ أيام ثم هلَكوا ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ عيسى عليه السلام قالا لهم صوموا ثلاثين يوماً ثم سَلوا الله ما شئتم يُعطِكم فصاموا فلما فرَغوا قالوا إنا لو عمِلنا لأحدٍ فقضَيْنا عملَه لأطعَمَنا وسألوا الله تعالى المائدة فأقبلت الملائكةُ بمائدة يحمِلونها عليها سبعةُ أرغفةٍ وسبعةُ أحواتٍ حتى وضعتْها بين أيديهم فأكل منها آخِرُ الناس كما أكل منها أولهم قال طكعب نزلت منكوسةً تطير بها
المائدة آية 1167
الملائكةُ بين السماء والأرض عليها كلُّ الطعام إلا اللحمَ وقال قتادة كان عليها ثمرٌ من ثمار الجنة وقال عطيةُ العوفي نزلت من السماء سمكةٌ فيها طعمُ كل شيء وقال الكلبي نزلت سمكةٌ وخمسةُ أرغفةٍ فأكلوا ما شاء الله تعالى والناس ألفٌ ونيِّفٌ فلما رجعوا إلى قُراهم ونشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهَدْ وقالوا ويحكم إنما سحر أعينك فمن أراد الله به الخيرَ ثبّته على بصيرة ومن أراد فتنته رجَع إلى كفره فمُسخوا خنازيرَ فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يتوالدوا ولم يأكُلوا ولم يشربوا وكذلك كلُّ ممسوخ
{وإذ قال الله يا عيسى ابن مَرْيَمَ} معطوف على إذ قال الحواريون منصوب بما نصبه من المضمر المخاطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أو بمُضمر مستقلَ معطوفٍ على ذلك أي اذكُرْ للناس وقت قولِ اللَّهِ عز وجل له عليه السلام في الآخرة توبيخاً للكَفَرة وتبكيتاً لهم بإقراره عليه السلام على رءوس الأشهاد بالعبودية وأمرُه لهم بعبادته عز وجل وصيغة الماضي لما مرَّ من الدِلالة على التحقق والوقوع {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين} الاتخاذُ إما متعدَ إلى مفعولين فإلهين ثانيهما وإما إلى واحدٍ فهو حالٌ من المفعول وليس مدارُ أصل الكلامِ أن القول متيَقَّنٌ والاستفهامَ لتعيين القائل كما هو المتبادَرُ من إيلاء الهمزو المُبتدأ على الاستعمال الفاشي وعليه قوله تعالى أأنت فعلت هذا بآلهتنا ونظائرُه بل على أن المتيقَّنَ هو الاتخاذُ والاستفهامُ لتعيين أنه بأمره عليه السلام أو من تلقاءِ أنفسِهم كما في قوله تعالى أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أو هُمْ ضَلُّوا السبيل وقوله تعالى {مِن دُونِ الله} متعلق بالاتخاذ ومحله النصب على اية حال من فاعله أي متجاوزين الله أو بمحذوفٍ هو صفة لإلهين أي كائنيْن من دونه تعالى وأيا ما كان فالمرادُ اتخاذُهما بطريق إشراكهما به سبحانه كما في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أندادا وقوله عز وجل وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله إلى قوله سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ إذْ به يتأتّى التوبيخُ ويتسنّى التقريعُ والتبكيت ومَنْ توهم أن ذلك بطريق الاستقلال ثم اعتذر عنه بأن النصارى يعتقدون أن المعجزاتِ التي ظهرت على يد عيسى ومريمَ عليهما الصلاة والسلام لم يخلُقْها الله تعالى بل هم خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلَّيْن ولم يتخذوه تعالى إلها في حق ذلك البعض فقد أبعد عن الحق بمراحِلَ وأما من تعمق فقال إن عبادته تعالى مع عبادة غيره كلا عبادةٍ فمن عبده تعالى مع عبادتهما كأنه عبدهما ولم يعبُده تعالى فقد غفَل عما يجد به واشتغل بما لا يَعْنيه كدأب مَنْ قبلةَ فإن توبيخهم إنما يحصُل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحاً لا بما يلزَمُه بضربٍ من التأويل وإظهارُ الاسم الجليل لكونه في حيِّز القولِ المُسند إلى عيسى عليه السلام {قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فماذا يقول عيسى عليه السلام حينئذ فقيل يقول وإيثارُ صيغة الماضي لما مرّ مراراً {سبحانك} سبحان عَلمٌ للتسبيح وانتصابُه على المصدريّةِ ولا يكاد يذكر ناصبه
المائدة آية 117
وفيهِ من المبالغةِ في التنزيه من حيث الاشتقاقُ من السبْح الذي هو الذهابُ وافبعاد في الأرض ومن جهة النَّقلِ إلى صيغة التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ من المصدر إلى الاسمِ الموضوع له خاصةً المشيرِ إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ ومن جهة إقامتهِ مُقامَ المصدرِ مع الفعل ما لا يخفى أي أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن أقول ذلك أو من أن يقالَ في حقك ذلك وأما تقديرُ مِن أنْ يكونَ لك شريكٌ في الألوهية فلا يساعده سياق النظم الكريم وسياقُه وَقَوْلُه تعالى {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ} استئنافٌ مقرِّر للتنزيه ومبين للمنزه منه وما عبارة عن القول المذكور أي ما يستقيم وما ينبغي لي أن أقول قولاً لا يحِقّ لي أن أقوله وإيثارُ ليس على الفعل المنفيِّ لظهور دلالتِه على استمرار انتفاءِ الحقية وإفادةِ التأكيد بما في حيزه من الباء فإن اسمه ضميرُه العائد إلى ما وخبرَه بحق والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين كما في سُقياً لك ونحوه وقوله تعالى {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} استئناف مقرِّرٌ لعدم صدورَ القولِ المذكورِ عنه عليه السلام بالطريق البرهاني فإن صدورَه عنه مستلزِمٌ لعلمه تعالى به قطعاً فحيثُ انتفى علمُه تعالى به انتفى صدورُه عنه حتماً ضرورةَ أن عدمَ اللازم مستلزِمٌ لعدم الملزوم {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى} استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليلِ لما قبله كأنه قيل لأنك تعلم ما أُخفيه في نفسي فكيف بما أُعلنُه وقوله تعالى {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} بيانٌ للواقع وإظهارٌ لقصوره أي ولا أعلم مات تُخفيه من معلوماتك وقوله فِى نَفْسِكَ للمشاكلة وقيل المرادُ بالنفس هو الذاتُ ونسبةُ المعلومات إليها لما أنها مرجعُ الصفات التي من جملتها العلمُ لمتعلق بها فلم يكن كنسبتها إلى الحقيقة وقوله تعالى {إِنَّكَ أَنتَ علامُ الغيوب} تعليلٌ لمضمون الجملتين منطوقاً ومفهوماً وقوله تعالى
{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَاّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما صدر عنه قد أُدرج فيه عدمَ صدورِ القول المذكورِ عنه على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه حيثُ حكم بانتفاء صدور جميع الأقوالِ المغايِرَةِ للمأمور به فدخل فيه انتفاء صدور القولِ المذكور دخولاً أولياً أي ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به وزإنما قيل ما قلت لهم نزولاً على قضية حسن الأدب ومراعاةً لما ورد في الاستفهام وقولُهُ تعالَى {أَنِ اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ} تفسيرٌ للمأمور به وقيل عطفُ بيانٍ للضمير في به وقيل بدلٌ منه وليس من شرط البدل جوازُ طرحِ المُبْدَل منه مُطلقاً ليلزَمَ بقاءُ الموصول بلا عائد وقيل خبر مضمر او مفعول مثل عو أو أعني {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} رقيباً أراعي أحوالهم وأحمِلُهم على العمل بموجب أمرك وأمنعهم عن المخالفة أو مشاهداً لأحوالهم من كفر وإيمان {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} ما مصدرية ظرفية تقدَّر بمصدرٍ مضافٍ إليه زمانٌ ودمت صلتها أي كنت شهيداً عليهم مدة دوامي فيما بينهم {فَلَمَّا توفيتني} بالرفع إلى السمالء كما في قوله تعالى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ فإن التوفيَ أخذُ الشيء وافياً والموتُ نوع منه قال تعالى الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} لا غيرَك فأنت ضميرُ الفصل أو تأكيدٌ وقرىء الرقيبُ بالرفع على أنه خبرُ أنت والجملة خبرٌ لكان وعليهم
المائدة آية 118 119
متعلق به أي أنت كنت الحافظَ لأعمالهم والمراقبَ فمنعت من أدرت عِصْمتَه عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسل وإنزال الآياتِ وخذَلْتَ من خذلتَ من الضالين قال ما قالوا {وَأَنتَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله وفيهِ إيذانٌ بأنَّه تعالَى كان هو الشهيدَ على الكل حين كونِه عليه السلام فيما بينهم وعلى متعلقةٌ بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة
{إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وقد استحقوا ذلك حيث عبدوا غيرك {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز} أي القويُّ القادرِ على جميع المقدوراتِ ومن جملتهات الثوابُ والعقاب {الحكيم} الذي لا يُريد ولا يفعلُ إلا ما فيهِ حكمةٌ ومصلحةٌ فإن المغفرة مستحسَنة لكل مجرم فإن عذّبت فعدلٌ وإن غفرت ففَضْلٌ وعدمُ غفرانِ الشرك إنما هو بمقتضى الوعيد فلا امتناعَ فيه لذاته ليمنعَ الترديد وقيل الترديدُ بالنسبة إلى فرقتين والمعنى إن تعذبْهم أي مَنْ كفر منهم وإن تغفرْ لهم أي من آمن منهم
{قَالَ الله} كلامٌ مستأنَفٌ خَتَم به حكايةَ ما حُكيَ مما يقعُ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسلَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُشير إلى نتيجته ومآله أي يقولُ الله تعالَى يومئذ عَقيبَ جواب عيسى عليه السلام مشيراً إلى صدقه في ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم وصيغة الماضي لما مر في نظائره مراراً وقوله تعالى {هذا} غشارة إلى ذلك اليوم وهو مبتدأ خبرُه ما بعده أي هذا اليوم الذي حُكيَ بعضُ ما يقع فيه إجمالاً وبعضُه تفصيلاً {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين} بالرفع والإضافة والمراد بالصادقين كما يُنبىء عنه الاسمُ المستمرّون في الدارين على الصدق في الأمور الدينية التي معظمُها التوحيدُ الذي نحن بصدده والشرائعُ والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصُل الشهادةُ بصِدْق عيسى عليه السلام ومن المم المصدِّقين لهم المقتدين بهم عقدا وعملا به يتحقق المقصودُ بالحكاية من ترغيب السامعين في الإيمان برسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا كلِّ من صدَقَ في أي شيء كان ضرورةَ أن الجانِيَ المعترِفَ في الدنيا بجِنايته لا ينفعه يومئذ واعتبارُ استمراره في الدارين مع أنه لا حاجة إليه كما عرفت ولا دخل له في استتباع النفع والجزاء مما لا وجهَ لَهُ وهذه القراءةُ هي التي أطبق عليها الجمهورُ وهي الأليق بسياق النظم الكريم وسياقه وقد قرىء يومَ بالنصب إما على أنه ظرف لقال فهذا حينئذ إشارةٌ إلى قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ الخ وإما على أنه خبرٌ لهذا فهو حينئذ إشارة إلى جواب عيسى عليه السلام أي هذا الجواب منه عليه السلام واقعٌ يوم ينفع الخ أو إلى السؤال والجواب معاً وقيل هو خبر ولكنه بني على الفتح وليس بصحيح عند البصريين لأنه مضافٌ إلى متمكنَ وقرىء يومٌ بالرفع والتنوين كقوله تعالى واتقوا يَوْمًا لَاّ تَجْزِى الآية {لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً} استئناف مَسوقٌ لبيان النفع المذكور كأنه قيل
المائدة آية 120
ما لهم من النفع فقيل لهم نعيمٌ دائم وثوابٌ خالد وقولُه تَعَالى {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} استئنافٌ آخر لبيان انه عز وجل أفاض عليهم غيرَ ما ذُكر من الجنات ما لا قدْرَ لها عنده وهو رضوانُه الذي لا غايةَ وراءَه كما ينبىء عنه قوله تعالى {وَرَضُواْ عَنْهُ} إذ لا شيء أعزُّ منه حتى يمتدَّ إليه أعناقُ الهممِ {وذلك} إشارةٌ إلى نيل رضوانه تعالى وقيل إلى نيل الكل {الفوز العظيم} لما أن عِظَمَ شأنِ الفوز تابعٌ لعِظَم شأن المطلوب الذي تعلّق به الفوز وقد عرفت أن لا مطلبَ وراء ذلك أصلاً وقوله تعالى
{لله ملك السماوات والارض وَمَا فِيهِنَّ} تحقيقٌ للحقِّ وتنبيهٌ على كذِب النصارى وفسادِ ما زعَموا في حق المسيحِ وأمِّه أي له تعالى خاصة مُلْكُ السموات والأرض وما فيهما من العُقلاء وغيرِهم يتصرَّفُ فيها كيف يشاء إيجاد وإعداماً وإحياءً وإماتة وأمراً ونهياً من غير أن يكون لشيء من الأشياء مدخلٌ في ذلك وفي غيثار ما على من المختصة بالعقلاء على تقدير تناولها للكل مراعاةٌ للأصل وإشارةٌ إلى تساوي الفريقين في استحالة الربوبية حسَب تساويهما في تحقيق المربوبية وعلى تقدير اختصاصِها بغير العقلاء تنبيهٌ على كمال قصورهم عن رتبة الألوهية وإهانة بهم بتغليب غيرِهم عليهم {وَهُوَ على كُلّ شَىْء قدير} منَ الأشياءِ {قَدِيرٌ} مبالِغٌ في القُدرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورة المائدة أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسنات ومُحيَ عنه عشرُ سيئات ورُفع له عشرُ درجات بعدد كل يهوديَ ونصرانيَ يتنفس في الدنيا
الأنعام آية {
سورة الأنعام
ممكية غير ست آيات أو ثلاث من قوله تعالى قُل تَعالُوا أَتلُ وهى مائة وخمس وستون آية
{الحمد للَّهِ} تعليقُ الحمدِ المعرَّفِ بلام الحقيقة أولاً باسم الذات الذي عليه يدور كافةُ ما يوجبه من صفات الكمال وإليه يؤُول جميعُ نعوتِ الجلال والجمال للإيذان بأنه عز وجل هو المستحِقُّ له بذاته لما مر من اقاتضاء اختصاصِ الحقيقة به سبحانه لاقتصار جميعِ أفرادِها عليه بالطريق البرهاني ووصفه تعالى ثانياً بما يُنْبىء عن تفصيل بعض موجِباته المنتظمةِ في سلك الإجمالِ من عظائم الآثارِ وجلائلِ الأفعال من قولهِ عز وجل {الذي خلق السماوات والارض} للتنبيه على استحقاقه تعالى لهواستقلاله به باعتبار أفعاله العظائم وآلائِه الجِسام أيضاً وتخصيصُ خلقِهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العُلوية والسُفلية وعامةِ الآلاءِ الجليةِ والخفية التي أجلُها نعمةُ الوجودِ الكافية في إيجاب حمدِه تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرَّع عليها من فنون النعم الأنفسية والآفاقية المنوطِ بها مصالحُ العبادِ في المعاش والمعادِ أي أنشأهما على ما هما عليه من النّمط الفائِق والطراز الرائق منطويَتَيْن من أنواع البدائعِ وأصنافِ الروائع على ما تتحيَّر فيه العقولُ والأفكار من تعاجيب العبر والآثار تبصرةً وذكرى لأولي الأبصار وجمعُ السموات لظهور تعدّدِ طبقاتِها واختلاف آثارها وحركاتِها وتقديمُها لشرفها وعلوِّ مكانها وتقدُّمها وجوداً على الأرض كما هي {وَجَعَلَ الظلمات والنور} عطْفٌ على خَلَق مترتب عليه لكون جعلهما مسبوقاً بخلق مَنْشَئِهما ومحلِّهما داخلٌ معه في حكم الإشعار بعِلَّة الحمد فكما أن خلق السموات والأرض وما بينهما لكونه أثراً عظيماً ونعمةً جليلة موجبٌ لاختصاص الحمد بخالقهما جل وعلا كذلك جعلُ الظلماتِ والنور لكونه أمراً خطيراً ونعمةً عظيمةً مقتضٍ لاختصاصه بجاعلهما والجمل هو الإنشاءُ والإبداعِ كالخلقِ خَلا أن ذلك مختصٌّ بالإنشاءِ التكوينيِّ وفيه مَعنى التقديرِ والتسويةِ وهذا عامٌّ له كَما في الآيةِ الكريمةِ وللتشريعيِّ أيضاً كما في قوله تعالى مَا جَعَلَ الله مِن بحيرة الاية وأما ما كان فهو إنباءٌ عن ملابسةِ مفعولِه بشيءٍ آخر بأن بكون فيهِ أولَهُ أوْ مِنْهُ أو نحوُ ذلكَ ملابسةً نصححة لأنْ يتوسَّطَ بينهُمَا شيءٌ من الظروفِ لغواً كانَ أو مستقراً لكنْ لا على أنْ يكونَ عُمدةً في الكلامِ بل قيداً فيهِ كما في قوله عز وجل وجعهل بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وقولُه تعالَى وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وقولِه تعالى واجعل لَّنَا مِن لدنك وليا
الأنعام آية 1
الآيةَ فإنَّ كلَّ واحدٍ من هذهِ الظروفِ إمَّا متعلقٌ بنفسِ الجعلِ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعولِه تقدمتْ عليه لكونِه نكرةً وأياً ما كانَ فهو قيدٌ في الكلامِ حتَّى إذا اقتضَى الحالُ وقوعَه عمدةً فيه يكونُ الجعلُ متعدياً إلى اثنينِ هُو ثانيهما كما في قولِه تعالى يَجْعَلُونَ أصابعهم في آذانهم ورُبَّما يَشتبِهُ الأمرُ فيُظن أنا عمدةٌ فيهِ وهو في الحقيقة قيدٌ بأحدِ الوجهينِ كما سلفَ في قولِه تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً حيث قيل إن الظرف مفعولٌ ثان لجاعل وقد أشير هناك إلى أالذي يقضي به الذوق السليم وتقتضيه جزالةُ النظم الكريم أنه متعلقٌ بجاعل أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المفعول وأن المفعولَ الثانيَ هو خليفة وأن الأول محذوف على ما مر تفصيله وجمعُ الظلمات لظهور كثرةِ أسبابها ومَحالِّها عند الناس ومشاهدتهم لها على التَّفصيلِ وتقديمُها على النور لتقدم الإعدام على المَلَكات مع ما فيه من رعاية حسن المقابلة بين القرينتين وقوله تعالى {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} معطوفٌ على الجملة السابقة الناطقةِ بما مر من موجبات اختصاصِه تعالى بالحمد المستدعي لاقتصار العبادة عليه كما حُقِّق في تفسير الفاتحة الكريمة مَسوقٌ لإنكار ما عليه الكفرة واستبعادِه من مخالفتهم لمضمونها واجترائِهم على ما يَقْضي ببُطلانِه بديهةُ العقولِ والمعنى أنه تعالى كمختص باستحقاق الحمدِ والعبادةِ باعتبار ذاتِه وباعتبار ما فصَّل من شئونه العظيمة الخاصة به الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ثم هؤلاء الكفرةُ لا يعملون بموجبه ويعدِلون به سبحانه أي يسوُّون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر الذي رأسُه الحمدُ مع كون كا ما سواه مخلوقاً له غيرَ متّصفٍ بشيء من مبادىء الحمد وكلمة ثم لاستبعاد الشرك بعد وضوحِ ما ذُكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه لا بعد بيانه بالآيات التنويلية والموصولُ عبارةٌ عن طائفةِ الكفار جارٍ مَجرى الاسمِ لهام من غير أن يُجعلَ كفرُهم بما يجبُ أنْ يُؤْمَنَ به كلاًّ أو بعضاً عنواناً للموضوع فإن ذلك مُخِلٌّ باستبعاد ما أُسند إليهم من الإشراك والباء متعلقة بيعدلون ووضعُ الربِّ موضعَ ضميرِه تعالى لزيادة التشنيع والتقبيح والتقديم لمزيد الاهتمامِ والمسارعةِ إلى تحقيق مدارِ الإنكار والاستبعادِ والمحافظةِ على الفواصل وتركُ المفعولِ لظهوره أو لتوجيه الإنكارِ إلى نفس الفعل يتنزيله منزلةَ اللازم إيذاناً بأنه المدارُ في الاستبعاد والاستنكار لا خصوصيةُ المفعول هذا هو الحقيقُ بجزالة التنزيل والخليقُ بفخامة شأنه الجليل وأما جعلُ الباء صلةً لكفروا على أنّ يعدلون من العدول والمعنى أن الله حقيقٌ بالحمد على ما خلقه نعمةً على العباد ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمتَه فيردّه أن كفرهم به تعالى لا سيَّما باعتبار ربوبيته تعالى لهم أشدُّ شناعةً وأعظمُ جنايةً من عدولهم عن حمده عز وجل ولتحققه مع إغفاله أيضاً فجعلُ أهونَ الشرَّيْن عُمدةً في الكلام مقصودُ الإفادة وإخراجُ أعظمِهما مُخرجَ القيدِ المفروغِ عنه مما لا عهدَ له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي هَذا وقد قيلَ إنَّه معطوفٌ على خلق اتلسموات والمعنى أنه تعالى خلق ما خلق مما لا يقدِر عليه أحدٌ سواه ثم هم يعدلون به سبحانه ما لا يقدِر على شيءٍ منه لكن لا على قصد أنه صلةٌ مستقلة ليكونَ بمنزلة أن يقالَ الحمدُ لله الذي عدَلوا به بل على أنه داخلٌ تحت الصلة بحيث يكون الكلُّ صلةً واحدة كأنه قيل الحمد لله الذي كان منه تلك النعمُ العظامُ ثم من الكفرة والكفر وأنت خبير بأن ما ينتظِمُ في سلك الصلة المنبئةِ عن موجبات حمده عز
الأنعام آية 2 جل حقُّه أن يكونَ له دخلٌ في ذلك الإنباء ولو في الجملة ولا ريب في أن كفرهم بمعزلٍ منه وادعاءُ أن له دَخْلاً فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعمِ العِظام على من لا يحمَده تعسّفٌ لا يساعده النظام وتعكيسٌ يأباه المقام كيف لا ومَساقُ النظم الكريم كما تُفصِحُ عنه الآياتُ الآتية تشنيعُ الكفرة وتوبيخُهم ببيانِ غايةِ إساءتِهم مع نهاية إحسانه تعالى إليهم لا بيانِ نهايةِ إحسانه تعالى غليهم مع غاية إساءتهم في حقه تعالى كما يقتضيه الادعاءُ المذكور وبهذا اتضح أنه لا سبيلَ إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه لما أن حقَّ الصلة أن تكون غيرَ مقصودةِ الإفادة فما ظنُّك بما هو من روادفها وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام فتأمل وكن على الحق المبين
{هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان بطلان كفرهم بالبعث مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمانَ به إثرَ بيانِ بطلانِ إشراكِهم به تعالى مع معاينتهم لموجِبات توحيدِه وتخصيصُ خلقِهم بالذكر من بين سائر دلائل صِحةِ البعث مع أن ما كر من خلقِ السمواتِ والأرضِ من أوضحها وأظهرها كما ورد في قولِه تعالى أَوَلَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم لما أن محل النزاعِ بعثُهم فدلالةُ بدءِ خلقهم على ذلك أظهروهم بشئون أنفسهم أعرفُ والتعامي عن الحجة النيِّرة أقبح والالتفاتُ لمزيد التشنيع والتوبيخ أي ابتدأ خلقَكم منه فإنه المادة الأولى للكل لما أنه منشأ آدم الذي هو ابو البشر وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطَبين لا إلى آدمَ عليه السلام وهو المخلوقُ منه حقيقةً بأن يقال هو الذي خلق أباكم الخ مع كقاية علمهم بخلقه عليهالسلام منه في إيجاب الإيمانِ بالبعثِ وبطلانِ الامتراءِ لتوضيحِ منهاجِ القياس وللمبالغة في إزاحةِ الاشتباه والالتباس مع ما فيه من تحقيق الحق والتنبيه على حكمةٍ خفية هي أن كلَّ فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من إنشائه عليه السلام منه حيث لم تكن فطرتُه البديعةُ مقصورة على لا نفسه بل كانت أُنموذَجاً منطوياً على فطرة سائرِ آحادِ الجنس انطواءً إجمالياً مستتبِعاً لجَرَيان آثارِها على الكل فكان خلقَه عليه السلام من الطين خلقا لكل أحد من فروعه منه ولمّا كان خلقُه على هذا النمطِ الساري إلى جميع أفراد ذريتِه أبدعَ من أن يكون ذلك مقصوراً على نفسه كما هو المفهومُ من نسبة الخق المذكورِ إليه وأدلَّ على عِظَم قُدرة الخلاق العليم وكمالِ علمِه وحكمتِه وكان ابتداءُ حال المخاطَبين أولى بأن يكون معيار لانتهائها فَعلَ ما فعل ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وعلى هذا السرِّ مدارُ قوله تعالى وَلَقَدْ خلقناكم ثو صورناكم الخ وقوله تعالى وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً كما سيأتي وقيل المعنى خلق أباكم منه على حذف المضاف وقيل معنى خلقهم منه خلقهم من النطفة الحاصلةِ من الأغذية المتكوِّنة من الأرض وأيا ما كان ففيه من وضوحِ الدلالةِ على كمال قدرتِه تعالى على البعثِ ما لا يخفَى فإنَّ من قدَرَ على غحياء ما لم يشَمَّ رائحةَ الحياة قط كان على إحياءِ ما قارنها مدةً أظهرَ قدرة {ثُمَّ قَضَى} أي كتب لموتِ كلِّ واحد منكم أَجَلاً خاصاً له أي أحدا معيناً من الزمان يفنى عند حلولِه لا محالة وكلمة ثم للإيذان بتفاوزت ما بين خلقِهم وبين تقديرِ آجالِهم حسبما تقتضيه الحِكَم البالغة {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أي حدٌّ معينٌ لبعثكم جميعاً وهو مبتدأ لتخصُّصه بالصفة كما في قوله تعالى وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ ولوقوعِه
الأنعام آية 3
في موقع التفصيل كما في قول من قال إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وشقٌ عنْدنا لم يُحَوَّلِ وتنوينُه لتفخيم شأنه وتهويلِ أمره لذلك أُوثر تقديمُه على الخبر الذي هو {عِندَهُ} مع أن الشائعَ المستفيضَ هو التأخير كما في قولك عندي كلامٌ حقٌّ ولي كتابٌ نفيسٌ كأنه قيل وأيُّ أجلٍ مسمى مُثْبتٍ معينٍ في علمه لا يتغيرُ ولا يقفُ على وقت حلولِه أحدٌ لا مجملاً ولا مفصّلاً وأما أجلُ الموت فمعلومٌ إجمالاً وتقريباً بناءً على ظهور أَماراتِه أو على ما هو المعتادُ في أعمار الإنسان وتسميتُه أجلاً إنما هي باعتبار كونِه غايةً لمدة لُبْثهم في القبور لا باعتبار كونِه مبدأً لمدةِ القيامة كما أن مدار التسمية في الأجل الأول هو كونُه آخِرُ مدة الحياةَ لا كونُه أولِ مدةِ الممات لِما أن الأجلَ في اللغة عبارةٌ عن آخِرِ المدة لا عن أولها وقيل الأجلُ الأول ما بين الخلق والموت الثاني ما بين الموت والبعث مكن البرزخ فإن الأجل كما يُطلق على آخِرِ المدة يُطلق على كلِّها وهو الأوفق لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ الله تعالى قضى لكل أحدٍ أجلين أجلاً من مولده إلى موته وأجلاً من موته إلى مبعثه فإن كان بَرّاً تقياً وَصولاً للرحِم زيد له من أجل البعث في أجَل العمر وإن كان فاجراً قاطعاً نُقِصَ من أجل العُمُر وزيد في أجلى البعث وذلك قوله تعالى وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَاّ فِى كتاب فمعنى عدم تغير الأجل حينئذ عدمُ تغيُّر آخره والأولُ هو الأشهرُ الأليقُ بتفخيم الأجل الثاني المنوطِ باختصاصه بعلمه تعالى والأنسبُ بتهويله المبنيِّ على مقارنته للطامّة الكبرى فإن كونَ بعضِه معلوماً للخلق ومُضِيِّه من غير أن يقعَ فيه شيءٌ من الدواهي كما يستلزمه الحملُ على المعنى الثاني مُخِلٌّ بذلك قطعاً ومعنى زيادةِ الأجل ونقصِه فيما رُوي تأخيرُ الأجل الأول وتقديمُه {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} استبعادٌ واستنكارٌ لامترائهم في البعث بعد معابنتهم لما ذُكر من الحُجج الباهرة الدالةِ عليه أي تمترون في وقوعه وتحقّقِه في نفسه مع مشاهدتكم في أنفسِكم من الشواهدِ ما يقطع مادةَ الامتراءِ بالكلية فإن مَنْ قدَر على إفاضة الحياة وما يتفرَّع عليها من العلم والقدرة وسائِرِ الكمالاتِ البشرية على مادةٍ غيرِ مستعدّةٍ لشيء منها أصلاً كان أوضح اقتدار على إفاضتها على مادةٍ قد استعدت لها وقارنَتْها مدة ومن ههنا تبين أن ما قيل من أن الأجلَ الأولَ هو النومُ والثانيَ هو الموتُ أو أن الأول أجل الماضيين والثاني أجل الباقيين أو أن الأول مقدارُ ما مضى من عُمُر كلِّ أحدٍ والثانيَ مقدارُ ما بقِيَ منه مما لا وجهَ لَهُ أصلاً لما رأيتَ مِنْ أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ استبعادُ امترائهم في البعث الذي عبَّر عن وقته بالأجل المسمّى فحيثُ أُريد به أحد ما ذُكِرَ منَ الأمورِ الثلاثة ففي أيِّ شيء يمترون ووصْفُهم بالامتراء الذي هو الشكُّ وتوجيهُ الاستبعاد إليه مع أنهم جازمون بانتفاءِ البعث مُصِرّون على إنكاره كما يُنْبىء عنه قولهم أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أئنا لمبعوثوتن ونظائرُه للدلالة على أن جزمَهم المذكورَ في أقصى مراتبِ الاستبعاد والاستنكار وقوله تعالى
{وَهُوَ الله} جملةٌ من مبتدإٍ وخبر معطوفةٌ على ما قبلها مَسوقةٌ لبيان شمول أحكام الهيته تعالى لجميع المخبوقات وإحاطةِ علمِه بتفاصيلِ أحوال العباد وأعمالِهم المؤديةِ إلى الجزاء غثر الإشارةِ إلى تحقّق المعادِ في تضاعيفِ بيانِ كيفية خلقهم وتقدير آجالهم قوله تعالى {في السماوات وَفِى الارض} متعلقٌ بالمعنى
الأنعام آية 4
الوصفيِّ الذي يُنبىء عنْهُ الاسم الجليل إما باعتبار أصلِ اشتقاقِه وكونِه علماً للمعبودِ بالحق كأنه قيل وهو لمعبود فيهما وإما باعتبار أنه اسمٌ اشتهر بما اشتهرَتْ به الذاتُ من صفات الكمال فلو حظ معه منها ما يقتضيه المقامُ من المالكية الكليةِ والتصرُّفِ الكامل حسبما تقتضيه المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم البالغة فعُلّق به الظرفُ من تلك الحيثية فصار كأنه قبل وهو المالكُ أو المتصرفُ المدبِّرُ فيهما كما في قوله تعالى وَهُوَ الذى فِى السماء إله وَفِى الأرض إله وليس المرادَ بما ذُكر مَن الاعتبارَيْن أن الاسمَ الجليلَ يُحملُ على معناه اللغويِّ أو على معنى المالك أو المتصرِّف أو نحوِ ذلك بل مجردُ ملاحظة أحدِ المعاني المذكورة في ضمنه كما لوحظ معَ اسْم الأسد في قوله أسدٌ عليَّ الخ ما اشتهرَ به من وصف الجَراءة التي اشتهر بها مُسمَّاه فجرى مجرى جرىءعلى وبهذا تبين أن ما قيل بصدد التصوير والتفسير أي هو المعروفُ بذلك في السموات وفى الارض أو هو المعروفُ المشتهرُ بالصفات الكمالية أو هو المعروف بالإلهية فيهما أو نحوُ ذلك بمعزلٍ من التحقيق فإن المعتبرَ مع الاسم هو نفس الوصف البذي اشتهر به غذ هو الذي يقتضيه المقامُ حسبما بيّن آنفاً لاشتهاره به ألا يُرى أن كلمة عليّ في المثال المذكور لا يمكن تعليقُها باشتهار الاسم بالجَراءة قطعاً وقيل هو متعلِّقٌ بما يفيده التركيبُ الحَصْريُّ من التوحّد والتفرّد كأنه قيل وهو المتوحِّدُ بالإلهية فيهما وقيل بما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه خاصة كأنَّه قيلَ وهُو الذي يقال له الله فيهما لا يُشرك به شيءٌ في هذا الاسم على الوجه الذي سبق من اعتبار معنى التوحّد أو القول في فحوى الكلام بطريق الاستتباع لا على حمل الاسم الجليل على معنى المتوحِّد بالإلهية أو على تقدير القول وقد جوَّز أن يكون الظرفُ خبراً ثانياً على أن كونَه سبحانه فيهما عبارةٌ عن كونه تعالى مبالِغاً في العلم بما فيهما بناءً على تنزيل علمِه المقدس عن حصول الصور والأشباح لكونه حضورياً منزلةَ كونِه تعالى فيهما وتصويرُه به على طريقة التمثيل المبنيِّ على تشبيه حالةِ علمه تعالى بما فيهما بحالة كونه تعالى فيهما فإن العالَم إذا كان في مكانٍ كان عالِماً به وبما فيه على وجهٍ لا يخفى عليه منه شيء فعلى هذا يكون قوله عز وجل {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} أي ما أسرَرْتُموه وما جهرتم به من الأقوال وما أسررتموه وما أعلنتموه كائناً ما كانَ منْ الأقوال والأعمال بياناً وتقريراً لمضمونه وتحقيقاً للمعنى المراد منه وتعليق علمه عز وجل بما ذُكر خاصةً مع شموله لجميع ما فيهما حسبما تفيدُه الجملةُ السابقة لانسياق النظمِ الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا على الوجه الثاني فإن ملاحظةَ الاسم الجليلِ من حيث المالكيةُ الكلية والتصرفُ الكاملُ الجاري على النمط المذكور مستتبعةٌ لملاحظة علمِه المحيطِ حتماً فيكونُ هذا بياناً وتقريراً له بلا ريب وأما على الأوجه الثلاثة الباقية فلا سبيل إلى كونه بياناً لكن لا لِما قيلَ من أنه لا دلالةَ لاستواء السرِّ والجهر في علمه تعالى على ما اعتُبر فيهما من المعبودية والاختصاص بهذا الاسم إذ ربما يُعبد ويُختصّ به من ليس له كمالُ العلم فإنه باطل قطعاً إذ المراد بمال ذكر هو المعبوديةُ بالحق والاختصاصُ بالاسم الجليل ولا ريبَ في أنَّهما مما لا يتصور فيمن ليس له كمالُ العلم بديهةً لأن ما ذُكر من العلمِ غيرُ معتبرٍ في مدلول شيءٍ من المعبودية بالحق والاختصاصِ بالاسم حتى يكونَ هذا بياناً له وبهذا تبين أنه ليس ببيانٍ على الوجه الثالث أيضاً لما أن التوحدَ بالإلهية لا يُعتبر في مفهومه العلمَ الكاملَ ليكون هذا بياناً له بل هو معتبرٌ فيما صدَق عليه المتوحِّد وذلك غيرُ كاف
الأنعام آية 4 5
في البيانية وقيل هو خبرٌ بعد خبرٍ عند من يجوز كون الخبر الثاني جملةً كما في قوله تعالى فغذا هي حية تسعة وقيل هو الخبر والاسمُ الجليل بدلٌ من هو وبه يتعلق الظرف المتقدم ويكفي في ذلك كونُ المعلوم فيهما كما في قولك رميتُ الصيدَ في الحرَم إذا كان هو فيه وأنت خارجَه ولعل جعْلَ سرهم جهرهم فيهما لتوسيع الدائرة وتصويرِ أنه لَا يعزُب عنْ علمِه شيءٌ منهما في أي مكان كان لا لأنهما قد يكونان في السموات أيضاً وتعميمُ الخطاب لأهلها تعسُّفٌ لا يخفى {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي ما تفعلونه لجلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ من الأعمال المكتسَبةِ بالقلوب أو بالجوارح سراً أو علانية وتخصيصُها بالذِّكرِ مع اندراجها فيما سبق على التفسير الثاني للسر والجهر لإظهار كمال الاعتناء بها لأنها التي يتعلق بها الجزاءُ وهو السرُّ في إعادة يعلم
{وما تأتيُهم من آيةٍ من آيات رَبّهِمْ} كلام مستأنَفٌ واردٌ لبيان كفرهم بآيات الله وإعراضِهم عنها بالكلية بعد ما بيّن في الآية الأولى إشراكهم باللخه سبحانه وإعراضَهم عن بعض آيات التوحيد وفي الآية الاثنية امتراؤهم في البعث وإعراضَهم عن بعض ى ياته والالتفاتُ للإشعار بأن ذكْرَ قبائحِهم قد اقتضى أن يضرِبَ عنهم الخطابَ صفحاً وتعددُ جناياتهم لغيرهم ذماً لهم وتقبيحاً لحالهم فما نافية وصيغة المضارع لحطكاية الحال الماضية أو للدلالة على الاستمرار التجددي ومِنْ الأُولى مزيدةٌ للاستغراقِ والثاني تبعيضيةٌ واقعةٌ مع مجرورِها صفةً لآيةٍ وإضافةُ الآيات إلى اسم الرب المضافِ إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتْبِعِ لتهويل ما اجترُءوا عليه في حقِّها والمراد بها إمَّا الآياتُ التنزيليةُ فإتيانها نزولا والمعنى ما ينزِلُ إليهم آيةٌ من الآيات القرآنيةَ التي من جملتها هاتيك الآياتُ الناطقةُ بما فُصِّل من بدائعِ صنعِ الله عز وجل المُنْبئةِ عن جَرَيان أحكام ألوهيتِه تعالى على كافة الكائنات وإحاطةِ علمه بجميع أحوال الخق وأعمالهم الموجبةِ للإقبال عليها والإيمانِ بها {إِلَاّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي على وجه التكذيبِ والاستهزاء كما ستقف عليه وأما الآياتُ التكوينيةُ الشاملةُ للمعجزات وغيرِها من تعاجيبِ المصنوعاتِ فإتيانُها ظهورُها لهم والمعنى ما يظهر لهم ى ية من الآيات التكوينيةِ التي من جملتها ما ذكر من جلائل شئونه تعالى الشاهة بوحدانيته إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيحِ فيها المؤدِّي إلى الإيمان بمُكوِّنها وإيثارُه على أن يقال إلَاّ أعرضُوا عنها كما وقع مثلُه في قوله تعالى وَإِن يَرَوْاْ آية يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ للدلالة على استمرارهم على الإعراضِ حسَبَ استمرارِ إتيانِ الآياتِ وعن متعلقةٌ بمعرضين قُدِّمت عليه مراعاة للفاواصل والجملة في محل النصب على أنَّها حالٌ من مفعولِ تأتي أو من فاعلِه المتخحصص بالوصف لاشتمالِها على ضمير كل منهما وأياً ما كان ففيها دلالة بينةٌ على كمال مسارعتهم إلى الإعراض وإيقاعهم له في آنِ الإتيان كما يُفصح عنه كلمةُ لما في قولِهِ تعالَى
{فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ} فإن الحق عبارةٌ عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية آية منه عبر بذلك إبانةً لكمال قُبح ما فعلوا به فإن تكذيب الحقِّ مما لا يتصور صدوره
الأنعام آية 6
عن أح والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكنْ لَا على أنَّها شيءٌ مغايِرٌ له في الحقيقة واقعٌ عَقيبَه أو حاصلٌ بسببه بل على أنَّ الأول وهو عينُ الثاني حقيقة وإنَّما الترتيبُ بحسَب التغايُرِ الاعتباريِّ وقد لتحقيقِ ذلك المعنى كما في قوله تعالى فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً بعد قوله تعالى وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلَاّ إِفْكٌ افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فإن ما جاءوه أي فعلوه من الظلم والزور عينُ قولِهم المَحْكِيّ لكنه لما كان مُغايراً له مفهوماً وأشنَعَ منه حالاً رُتِّبَ عليه بالفاء ترتيبَ اللازم على الملزوم تَهويلاً لأمره كذلك مفهومُ التكذيب بالحق حيث كان أشنعَ من مفهوم الإعراضِ المذكورِ أُخرِجَ مُخرَجَ اللازم البيِّنِ البُطلان فرُتِّبَ عليه بالفاء إظهاراً لغاية بُطلانه ثم قُيد ذلك بكونه بلا تأمل تأكيداً لشناعته وتمهيداً لبيان أن ما كذبوا به إثر ذي أثير عواقبُ جليلةٌ ستبدو لهم البتة والمعنى أنهم حيث أعرضوا عن تلك الآيات عند إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن تكذيبُه أصلاً من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ويقِفوا على ما في تضاعيفِه من الشواهد الموجبةِ لتصديقه كقوله تعالى بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بعلمه ولما يأتهم تَأْوِيلِهِ كما يُنْبىء عنه قوله تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون} فإن ما عبارةٌ عن الحق المذكور عبر عنه بذلك تهويلاً لأمره بإبهامه وتعليلاً للحكم بما في حيز الصلة وإنباؤه عبارةٌ عما سيَحيقُ بهم من العقوبات العاجلة التي نطَقت بها آياتُ الوعيد وفي لفظ الأنباء إيذانٌ بغاية العِظَم لِما أن النَّبأَ لا يُطلق إلا على خبرٍ عظيمِ الوقع وحملُها على العقوبات الآجلةِ أو على ظهور الإسلام وعلو كلمته يأباه الآيات الآتية وسوف لتأكيد مضمونِ الجملة وتقريرهِ أي فسيأتيهم البتةَ وإن تأخرَ مِصْداقُ أنباء الشيءِ الذي كانُوا يكذِّبون بهِ قَبلُ مِنْ غير أن يتدبروا في عواقبه وإنما قيل يستهزءون إيذانا بأن تكذيهم كان مقروناً بالاستهزاء كما أشير إليه هذا على أن يراد بالآيات القرآنيةُ وهو الأظهر وأما إنْ أُريد بها الآياتُ التكوينيةُ فالفاءُ داخلةٌ على عِلَّة جوابِ شرطٍ محذوف والإعراضُ على حقيقته كأنه قيل إن كانوا معرضين عن تلك الآيات فلا تعجبْ فقد فعلوا بما هو أعظمُ منها ما هو أعظمُ من الإعراض حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات ولا مَساغَ لحمل الآيات في هذا الوجه على كلها أصلاً وأما ما قيل من أن المعنى أنهم لمّا كانوا معرِضين عن الآيات كلِّها كذبوا بالقرآن فمِمّا ينبغِي تنزيهُ التنزيلِ عن أمثاله
{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ} استئنافٌ مَسوقٌ لتعيين ما هو المرادُ بالإنباء التي سبق بها الوعيد وتقرير إتيانِها بطريق الاستشهاد وهمزةُ الإنكار لتقرير الرؤية وهي عِرْفانية مستدعيةٌ لمفعول واحد وكم استفهاميةً كانت أو خبريةً معلِّقةٌ لها عن العمل مفيدة للتكثير سادّةٌ معَ ما في حيزها مسد مفعولهات منصوبةٌ بأهلكنا على المفعولية على أنَّها عبارةٌ عن الأشخاص ومن قرن مميِّزٌ لها على أنه عبارةٌ عن أهل عصر من الأعصار سمو بذلك لاقترانهم برهة
الأنعام آية 6
من الدهر كما في قولِه عليه الصلاة والسلام خيرُ القرون قَرني ثم الذين يلونهم الحديث وقيل هو عبارة عن مدة من الزمان والمضافُ محذوف أي من أهلَ قرن وأما انتصابها على المصدرية أو على الظرفية على أنَّها عبارةٌ عن المصدر أو عن الزمان فتعسفٌ ظاهر ومن الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا أي ألم يعرِفوا بمعايَنةِ الآثارِ وسَماعِ الأخبار كم أمةٍ أهلكنا من قبلِ أهل مكة أي من قبلِ خلقِهم أو من قبل زمانهم على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه كعادٍ وثمودَ وأضرابِهم وقوله تعالى {مكناهم فِى الارض} استئناف لبيان كيفيةِ الإهلاك وتفصيلِ مباديه مبنيٌّ على سؤال نشأ من صدر الكلامِ كأنَّه قيلَ كيفَ كان ذلك فقيل مكانهم الخ وقيل هو صفةٌ لقرنٍ لِما أن النكرةَ مفتقرةٌ إلى مخصص فإذا وَلِيهَا ما يصلُح مخصِّصاً لها تعين وصيفته لها وأنتَ خبيرٌ بأنَّ تنوينَه التفخيميَّ مُغنٍ له عن استدعاء الصفة على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونُه ومضمونُ ما عُطف عليه من الجمل الأربع أمراً مفروغاً عنه غيرَ مقصودِ بسياق النظم مؤدَ إلى اختلاف النَّظمُ الكريمُ كيفَ لا والمعنى حينئذٍ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قرنٍ موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا إياهم بذنوبهم وأنه بيِّنُ الفساد وتمكينُ الشيء في الأرض جعلُه قارّاً فيها ولمّا لزِمه جعلُها مقراً له ورد الاستعمالُ بكلَ منهما فقيل تارةً مكّنه في الأرض ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ وأخرى مكَّن له في الأرضِ ومنه قولُه تعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض حتى أُجرِيَ كلٌّ منهما مُجرَى الآخرَ ومنه قوله تعالى {مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} بعد قوله تعالى مكناهم فِى الأرض كأنَّه قيلَ في الأول مكنا لهم أو في الثاني ما لم نمكنْكم وما نكرةٌ موصوفةٌ بما بعدها من الجملة المنفية والعائد محذوف محلها على النصب على المكصدرية أي مكناهم تمكيناً لم نمكنْه لكم والالتفاتُ لما في مواجهتهم بضَعف الحال مزيدُ بيانٍ لشأن الفريقين ولدفعِ الاشتباه من أول الأمر عن مرجِعَي الضميرين {وَأَرْسَلْنَا السماء} أي المطرَ أو السحاب أو المظلة لأنها مبدأ المطر {عَلَيْهِمْ} متعلق بأرسلنا {مُّدْرَاراً} أي مِغزاراً حال من السماء {وَجَعَلْنَا الانهار} أي صيّرناها فقوله تعالى {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ} مفعولٌ ثانٍ لجعلنا أو أنشأناها فهو حالٌ من مفعولِه ومن تحتهم متعلق بتجري وفيه من الدلالة على كونها مسخّرةً لهم مستمرةً على الجريان على الوجه المذكور ما ليس في أن يقالَ وأجرينا الأنهارَ من تحتهم وليس المرادُ بتَعدادِ هاتيك النعم العظامِ الفائضةِ عليهم بعد ذكر تمكينهم بيانَ عِظَم جنايتهم في كفرانها واستحقاقَهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيانَ حيازتهم لجميعه اأسباب نيل المآرب ومبادىء الأمن والنجاة من المكاره والمعاطب وعدمَ إغناءِ ذلك عنهم شيئاً والمعنى أعطيناهم من البطة في الأجسام وزالامتداد في الأعمار والسَّعةِ من الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا في استجلاب المنافع واستدفاع المضارِّ ما لم نُعط أهلَ مكةَ ففعلوا ما فعلوا {فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكنا كلَّ قرن من تلك القرون بسبب ما يخُصّهم من الذنوب فما أغنى عنهم تلك العُدَدُ والأسباب فسيحِلُّ بهؤلاء مثلُ ما حلَّ بهم من العذاب وهذا كما ترى آخِرُ ما به الاستشهادُ والاعتبار وأما قولُه سبحانه {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ} أي أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن {قَرْناً آخَرِين} بدلاً من الهالكين فلبيان كمالِ قدرتِه تعالى وسَعة سُلطانه وأن ما ذُكر من إهلاك الأمم الكثيرة
الأنعام آية 7 8
لم يَنْقُصْ من ملكه شيئاً بل كلما أهلك أمةً أنشأ بدلها أخرى
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} جملةٌ مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب لبيان شدةِ شكيمتِهم في المُكابرة وما يتفرَّع عليها من الأقاويل الباطلةِ إثر بيان إعراضهم عن آياتِ الله تعالى وتكذيبِهم بالحق واستحقاقِهم بذلك لنزولِ العذاب ونسبة التنزيل ههنا إليه عليه السلام مع نسبة إتيانِ الآياتِ ومجيءِ الحقِّ فيما سبق إليهم للإشعار بقَدْحهم في نبوته عليه السلام في ضمن قدحِهم فيما نزل عليه صريحاً وقال الكلبي ومقاتل نزلت في النضرين الحرث وعبدِ اللَّه بنِ أبي أمية ونوفل ابن خويلد حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لن نؤمن لك حتى تأتيَنا بكتاب مّنْ عِندِ الله ومعه أربعةٌ من الملائكة يشهدون أنَّه من عندِ الله تعالى وأنك رسولُه {كتابا} إن جُعل اسما كالإمام فقوله تعالى {فِى قِرْطَاسٍ} متعلقٌ بمحذوف وقع صفة له أي كتاباً كائناً في صحيفة وإن جعل مصدراً بمعنى المكتوب فهو متعلِّق بنفسه {فلمسوه} 6 أي لكتاب وقيل القرطاس وقوله تعالى {بِأَيْدِيهِمْ} مع ظهور أن اللمس لا يكون عادة إلا بالأيدي لزيادة التعين ودفع احتمالِ التجوُّز الواقعِ في قوله تعالى وأما لَمَسْنَا السماء أي تفحّصنا أي فمسوه بأيدهم بع ما رأَوْه بأعينهم بحيث لم يبقَ لهم في شأنه اشتباه ولم يقدِروا على الاعتذار بتسكير الأبصار {لقالوا} وإنما وضع الموصولُ موضعَ الضمير للتنصيص على اتِّصافُهم بما في حِّيزِ الصلة من الكفر الذي لا يخفى حسنُ موقعِه باعتبار مفهومه اللغوي أيضاً {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا مشيرين إلى ذلك الكتاب {إِلَاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي بيِّنٌ كونُه سحراً تعننا وعناداً للحق بعد ظهوره كما هو دأْبُ المُفحَمِ المجوج وديدان المكابِرِ اللَّجوج
{وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} شروع في قدحهم في نوبته عليه السلام صريحاً بعد ما أُشير إلى قدحهم فيهما ضِمناً وقيل هو معطوفٌ على جواب لو وليس بذاك لما أن تلك المقالةَ الشنعاءَ ليست مما يُقدَّر صدورُه عنهم على تقدير تنزيلِ الكتابِ المذكور بل هي من أباطيلهم المُحقّقة وخُرافاتهم المُلفّقة التي يتعللون بها كلما ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العلل أي هلا أُنزل عليه عليه السلام مَلكٌ بحيث نراه ويكلمنا أنه نبيٌّ حسبما نُقل عنهم فيما رُويَ عن الكلبي ومقاتل ونظيرُه قولهم لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ولما كان مدارُ هذا الاقتراح على شيئين إنوال الملَك كما هو وجعلِه معه عليه السلام نذيراً أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكادُ يدخُل تحتَ الوجود أصلاً لاشتماله على أمرين متباينين لا يجتمعان في الوجود لِما أن إنزالَ الملَك على صورته يقتضي انتفاءَ جعلِه نذيراً وجعلُه نذيراً يستدعي عدمَ إنزاله على صورته لا مَحالة وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الامر} أي لو أنزلنا ملكا عللا هيئاته حسْبما اقترحوه والحالُ أنه مِن هِوْل المنظر بحيث لا تُطيقُ بمشاهدته قوى الآحاد البشرية ألا يرى أن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكةَ ويفاوضونهم على الصور
الأنعام آية 9
البشرية كضيف غبراهيم ولوطٍ وخصْمِ داودَ عليهم السلام وغير ذلك وحيث كان شأنُهم كذلك وهم مؤيَّدون بالقُوى القدُسية فما ظنُّك بمن عداهم من العوام فلو شاهدوه كذلطك لقُضِيَ أمرُ هلاكهم بالكلية واستحال جعلُه نذيراً وهو مع كونه خلافَ مطلوبِهم مستلزِمٌ لإخلاءِ العالم عما عليه يدور نظامُ الدنيا والآخرةِ من إرسال الرُّسل وتأسيسِ الشرائع وقد قال سبحانه وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً وفيه كما ترى إيذانٌ بأنهم في ذلك الاقتراحِ كالباحثِ عن حَتْفه بظِلْفه وأن عدم الإجابة إليه للبُقيا عليهم وبناءالفعل الأول في الجواب للفاعل الذي هو نونُ العَظمة مع كونه في السؤال مبنياً للمفعول لتهويلِ الأمر وتربية المهابة وبناء الثاني للمفعولِ للجَريِ على سَنَنِ الكِبرياء وكلمةُ ثم في قوله تعالى {ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ} أي لا يُمْهَلون بعد نزوله طرفةَ عينٍ فضلاً عن أن يُنْذَروا به كما هو المقصودُ بالإنذار للتنبيه على تفاوت ما بين قضاءِ الأمر وعدمِ الإنظار فإن مفاجأة العذابِ أشدُّ من نفس العذاب وأشق وقيل في سبب إهلاكهم أنهم إذا عاينوا الملَك قد نزل على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في صورته وهي آيةٌ لا شيءَ أبينُ منها ثم لم يؤمنوا لم يكنْ بدٌّ من إهلاكهم وقيل إنهم إذا رأَوه يزول الاختيارُ الذي هو قاعدةُ التكليف فيجبُ إهلاكُهم وإلى الثاني بقوله تعالى
{وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} على أن الضميرَ الأول للنذير المفهومِ من فحوى الكلام بمعونة المقام وإنما لم يجعل للملك المذكور قبله بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال لو جعلناه نذيراً لجعلناه رجلاً مع فهم المراد منه أيضاً لتحقيق أن مناطَ إبرازِ الجعل الأول في معرِض الفرض والتقدير ومدارَ استلزامه للثاني إنما هو مَلَكيةُ النذير لا ذيرية المللك وذلك لأن الجعل حقُّه أن يكون مفعولُه الأولُ مبتدأ والثاني خبراً لكونه بمعنى التصييرِ المنقول من صار الداخِلِ على المبتدأ والخبر ولا ريب في أن مصَبّ الفائدة ومدارَ اللزوم بين الشرطية هو محمولُ المقدَّمِ لا موضوعُه فحيث كانت امتناعيةً أريد بها بيانُ انتفاءِ الجعْلِ الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يُجعلَ مدارُ الاستلزام في الأول مفعولاً ثانياً لا محالة ولذلك جَعَل مُقابِلَه في الجعل الثاني كذلك إبانةً لكمال التنافي بينهما الموجبِ لانتفاء الملزوم والضمير الثاني للملك لا لما رجع إليه الأول والمعنى لو جعلنا النذيرَ الذي اقترحوه ملكاً لمثّلنا ذلك المَلكَ رجلاً لما مر من عدم استطاعةِ الآحاد لمُعاينَةِ الملك على هيكله وفي إيثار رجلاً على بشراً إيذانٌ بأن الجعلَ بطريقِ التَّمثيلِ لا بطريقِ قلب الحقيقة وتعيينٌ لما يقع به التمثيل وقوله تعالى {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم} عطفٌ على جواب لو مبنيّ على الجواب الأول وقرىء بحذف لام الجواب اكتفاءً بما في المعطوف عليه يقال لَبَستُ الأمرَ على القوم ألبِسُه إذا شبّهتُه وجعلته مشكلا وأصله الستر بالثوب وقرىء الفعلان بالتشديد للمبالغة أي ولَخلّطنا عليهم بتمثيله رجلاً {ما يلبسون} على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له إنما أنت بشرٌ ولست بمَلَك ولو استُدل على مَلَكيته بالقرآن المعجزِ الناطقِ بها أو بمعجزاتٍ أُخَرَ غيرِ مُلجئةٍ إلى التصديق لكذّبوه كما كذبوا النبي عليه الصلاة والسلام ولو أظهر لهم صورته الأصلية لزم الأمر الأول والتعبير عن تمثيله تعالى رجلاً باللَّبْس إما لكونه في سوء اللبس
الأنعام آية 10 12
أو لكونه سبباً لِلَبْسِهم أو لوقوعه في صُحبته بطريق المشاكلة وفيه تأكيدٌ لاستحالة جعل النذيرِ مَلَكاً كأنه قيل لو فعلناع لفعلنا ما لا يليق بشأننا من لَبْس الأمر عليهم وقد جُوِّز أن يكونَ المعنى وللبسنا عليهم حينئذ مثلَ ما يلبِسون على أنفسهم الساعةَ في كفرهم بآيات الله البينة
{ولقد استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ} تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه وفي تصدير الجملة بلام القسم وحرفِ التحقيق من الاعتناء بها ما لا يخفى وتنوينُ رسل للتفخيم والتكثير ومن ابتدائيةٌ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لرسل أي وبالله لقد استُهزىء برسل أولي شأنٍ خطيرٍ وذوي عدد كبير كائنين من زمانٍ قبلَ زمانك على حذف المضافِ وإقامةِ امضاف إليه مُقامَه {فَحَاقَ} عَقيبه أي أحاط أو نزل أو حلَّ أو نحوُ ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يُستعمل إلا في الشر والحيقُ مايشتمل على الإنسان من مكروهِ فِعْلِه وقوله تعالى {بالذين سخروا منهم} أي استهزؤا بهم من أولئك الرسلِ عليهم السلام متعلق بحاق وتقديمُه على فاعله الذي هو قوله تعالى {مَّا كانوا به يستهزؤون} للمسارعة إلى بيان لحوقِ الشرّ بهم وما إما موصولةٌ مفيدةٌ للتهويل أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزءون به حيث أُهلكوا لأجله وإما مصدريةٌ أي فنزل بهم وَبالُ استهزائهم وتقديم الجار والمجرور على الفعل لرعاية الفواصل
{قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض} بعد بيانِ ما فعلت الأممُ الخالية وما فُعل به خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنذار قومه وتذكيرِهم بأحوالهم الفظيعة تحذيراً لهم عمَّا هم عليه وتملة للتسلية بما في ضِمْنه من العدة الالطيفة بأنه سيَحيقُ بهم مثلُ ما حاق بأضرابهم الأولين ولقد أنجَز ذلك يومَ بدرٍ أيَّ إنجازٍ أي سيرو في الأرض لتعرف أحوال أولئك الأمم {ثُمَّ انظروا} أي تفكروا {كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} وكلمة ثم إما لأن النظر في آثار الهالكين لا يتسنى إلا بعد انتهاءالسير إلى أماكنهم وإما لإبانةِ ما بينهما من التفاوت في مراتب الوجوب وهو الأظهر فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلةً إلى النظر كما يفصح عنه العطف بالفاء في قولِه عز وجل فانظروا الآية وإما أن الأول الأول لإباحة السير للتجارة ونحوها والثاني لإيجاب النظر في آثارهم وثم لتُباعِدَ ما بين الواجب والمباح فلا يناسب المقام وكيفَ معلِّقةٌ لفعلِ النظرِ ومحلُ الجملةِ النصبُ بنزعِ الخافض أي تفكروا في أنهم كيف أُهلكوا بعذاب الاستئصال والعاقبة مصد كالعافية ونظائرِها وهي منتهى الأمرِ ومآلُه ووضعُ المكذبين موضعَ المستهزئين لتحقيق أن مدارَ إصابةِ ما أصابهم هو التكذيبُ لينزجِرَ السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط مع بقاء التكذيب بحاله بناءً على توهُّم أنه المدار في ذلك
{قُلْ} لهم بطريق الإلجاء
الأنعامآيه 10 11 12
والتبكيت {لّمَن مَّا فِى السماوات والارض} من العقلاء وغيرِهم أي لمن الكائناتُ جميعاً خالقا ومُلكاً وتصرّفاً وقوله تعالى {قُل لِلَّهِ} تقريرٌ لهم وتنبيهٌ على أنه المتعيَّنُ للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتّى لأحد أن يُجيب بغيره كما نطق به قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خلقِ السمواتِ والأرضِ لَيَقُولُنَّ الله وقوله تعالى {كتب على نفسه الرحمة} جملةٌ مستقلةٌ داخلةٌ تحتَ الأمر ناطقةٌ بشمول رحمتِه الواسعةِ لجميع الخلق شمولَ مُلكِه وقدرته للكلِّ مَسوقةٌ لبيان أنه تعالى رءوف بعباده لا يعدل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة وافنابة وأن ما سبق ذكرُه وما لحِقَ من أحكام الغضب ليس من مقتَضيَات ذاتِه تعالى بل من جهة الخَلْق كيف لا ومن رحمتِه أن خلقَهم على الفطرة السليمةِ وهداهم إلى معرفته وتوحيدِه بنَصْب الآياتِ الأنفسية والآفاقية وإرسالِ الرسل وإنزالِ الكُتب المشحونة بالدعوة إلى موجباتِ رِضوانِه والتحذير عن مقتضيان سُخْطِه وقد بدّلوا فطرةَ الله تبديلاً وأعرَضوا عن الآياتِ بالمرة وكذّبوا بالكتب واستهزءوا بالرسل وما ظلمهم الله ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين ولولا شمولُ رحمتِه لسلك بهؤلاءِ أيضاً مَسلكَ الغابرين ومعنى كتب الرحمة على نفسه أنه تعالى قضاها وأوجبها بطريق التفضُّل والإحسانِ على ذاته المقدّسةِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ أصلاً وقيل ما رُوي عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لمَّا قضى الله تعالى الخلقَ كتَبَ في كتابٍ فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي وعنه في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لمَّا قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إنَّ رحمتي غلبتْ غضبي وعن عمر رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب ما أولُ شيءٍ ابتدأه الله تعالى مِنْ خلقه فقال كعب كتب الله كتاباً لم يكتبْه بقلم ولا مِدادٍ كتابةَ الزَّبَرْجد واللؤلؤ والياقوت إني أَنَا الله لَا إله إِلا أَنَاْ سبقت رحمتي غضبي ومعنى سبْقِ الرحمةِ وغَلَبتِها أنها أقدمُ تعلُّقاً بالخلق وأكثرُ وصولاً إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير وفي التعبير عن الذات بالنفس حجةٌ على من ادّعى أن لفظَ النفسِ لا يُطلق على الله تعالى وإن أريد به الذاتُ إلا مشاكلةً لِما ترَى من انتفاءِ المشاكلة ههنا بنَوْعَيْها وقوله تعالى {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} جوابُ قسمٍ محذوف والجملة استئنافٌ مسوقٌ للوعيد على إشراكهم وإغفالِهم النظرَ أي والله ليجمعنّكم في القبور مبعوثين أو محشورين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شركك وسائرِ معاصيكم وإن أمهلكم بموجَب رحمتِه ولم يعاجِلْكم بالعقوبة الدنيوية وقيل إلى بمعنى اللام أي ليجمعنك ليوم القيامة كقوله تعالى إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لا ريبَ فيه وقيل هي بمعنى في أي ليجمعنكم يوم القيامة {لَا رَيْبَ فِيهِ} أي في اليوم أو في الجمع وقوله تعالى {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} أي بتضييع رأسِ مالهم وهو الفطرةُ الأصليةُ والعقلُ السليم والاستعدادُ القريبُ الحاصلُ من مشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم واستماعِ الوحْي وغيرِ ذلك من آثار الرحمة في موضع النصْب أو الرفعِ على الذم أي أعني الذين الخ وهم مبتدأ والخبر قوله تعالى {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرط والإشعارُ بأن عدمَ إيمانهم بسبب خُسرانهم فإن إبطالَ العقل باتباع الحواسِّ والوهم والانهماك في تلقليد وإغفالِ النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناعِ من الإيمان والجملةُ تذييلٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى لهم لتقبيح حا غير داخل
الأنعام 13 15
تحت الأمر
{وَلَهُ} أي لله عز وجل خاصةً {مَا سَكَنَ فِى الليل والنهار} نزال الملوان منزلةَ المكان فعبّر عن نسبة الأشياء الزمانية إليهما بالسُكنى فيهما وتعديتُه بكلمة في كَما في قولِه تعالى وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ أو السكونِ مقابلَ الحركة والمرادُ ما سكن فيهما أو تحرّك فاكتفي بأحد الضدَّيْن عن الآخر {وَهُوَ السميع} المبالغُ في سماع كلِّ مسموع {العليم} المبالغُ في العلمِ بكلّ معلوم فلا يَخْفى عليه شيءٌ من الأقوال والأفعال
{قُلْ} لهم بعد ما بكّتهم بما سبق من الخطاب {أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} أي معبوداً بطريق الاستقلالِ أو الاشتراك وإنما سُلِّطت الهمزةُ على المفعول الأول لا على الفعل إيذاناً بأن المنكرَ هو اتخاذُ غيرِ الله ولياً لا اتخاذُ الوليِّ مطلقاً كما في قوله تعالى أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا وقولُه تعالى أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ الخ {فَاطِرِ السماوات والارض} أي مُبدعِهما بالجرِّ صفةٌ للجَلالة مؤكِّدةٌ للإنكار لأنه بمعنى الماضي ولذلك قُرىء فطَرَ ولا يضرّ الفصلُ بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملةٌ في عامل الموصوف أو بدلٌ فإن الفصلَ بينه وبين المبدل منه أسهلُ لأن البدلَ على نية تكرير العامل وقرىء بالرفع والنصب على المدح وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما عرفتُ معنى الفاطرِ حتى اختصم إليَّ أعرابيانِ في بشر فقال أحدهما أنا فَطَرْتُها أي ابتدأتها {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} أي يرزُق الخلق ولا يُرْزَق وتخصيصُ الطعام بالذكر لشدة الحاجة إليه أو لأنه معظمُ ما يصل إلى المرزوق من الرزق ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحالية فإن مضمونها مقرر لوجوب اتخاذه سبحانه وتعالى وليا وقرىء ولا يطعم بفتح الياء وبعكس القراءةِ الأُولى أيضاً على أن الضميرَ لغير الله والمعنى أأُشرِك بمن هو فاطرُ السموات والأرض ما هو نازلٌ عن رتبة الحيوانية وببنائهما للفاعل على أن الثانيَ بمعنى يستطعم أو على معنى أنه يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله تعالى يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ {قُلْ} بعد بيان أن اتخاذِ غيرِه تعالى ولياً ممَّا يَقْضي ببُطلانِه بديهةُ العقول {إِنّى أُمِرْتُ} من جنابِه عز وجل {أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} وجهَه لله مخلِصاً له لأن النبيَّ إمامُ أمته في الإسلام كقوله تعالى وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين وقوله تعالى سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين {وَلَا تَكُونَنَّ} أي وقيل لي وَلَا تَكُونَنَّ {مِنَ المشركين} أي في أمرٍ من أمورِ الدِّينِ ومعناه أُمرت بالإسلام ونُهيتُ عن الشرك وقد جوَّزَ عطفَه على الأمر
{قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى} أي بمخالفة أمرِه ونهيه أيَّ عصيانٍ كان فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً وفيه بيانٌ لكما اجتنابه صلى الله عليه وسلم عن المعاصي على الإطلاق وقولُه تعالى {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} أي عذابَ يوم القيامة مفعول خاف
الأنعام آية 16 19
والشرطية معترِضةٌ بينهما والجوابُ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه وفيه قطعٌ لأطماعهم الفارغة وتعريضٌ بأنهم عصاةٌ مستوجبون للعذاب العظبم
{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ} على البناء المفعول أي العذاب وقرىء على البناء للفاعل والضمير لله سبحانه وقد قرىء بالإظهار والمفعولُ محذوفٌ وقوله تعالى {يومئذ} للصرف أيْ في ذلكَ اليومِ العظيم وقد جوز أن يكون هو المفعول على قراءة البناء للفاعل بحذف المضاف أي عذاب يومئذ {فَقَدْ رَحِمَهُ} أي نجاه وأنعم عليه وقيل فقد أدخله الجنة كما في قوله تعالى فمن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ والجملة مستأنفةٌ مؤكِّدةٌ لتهويل العذاب وضميرُ عنه ورَحمه لمن هو عبارة عن غيرالعاصي {وَذَلِكَ} إشارة إلى الصرف أو الرحمة لأنها مؤوّلة بأن مع الفعل وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ درجتِه وبعد مكانه في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى {الفوز المبين} أي الظاهرُ كونُه فوزاً وهو الظَفَر بالبُغية والألف واللام لقصره على ذلك
{وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ} أي ببليةٍ كمرَض وفقر ونحو ذلك {فَلَا كاشف لَهُ} أي فلا قادرَ على كشفه عند {إِلَاّ هُوَ} وحده {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} من صِحةٍ ونعمةٍ ونحو ذلك {فَهُوَ على كل شىء قدير} ومن جملته ذلك فيقدِرُ عليه فيمسك به ويحفَظْه عليك من غير أنيقدر علي دفعه أو على رفعه أحدٌ كقوله تعالى فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ وحملُه على تأكيد الجوابين يأبه الفاء تذكرة روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها كسرى فركِبها بحبْل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي ميلاً ثم التفت إلي فقال يا غلام فقلت لبيك يا رسول الله فقال أحفَظِ الله يحفَظْك احفظ الله تجدْه أمامك تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرِفْك في الشدة وإذا سألت فاسألِ الله وإذا استعنت فاستعنْ بالله فقد مضى القلمُ بما هو كائنٌ فلو جَهَدَ الخلائقُ أن ينفعوك بما لم يقضِه الله لك لم يقدِروا عليه ولو جَهَدوا أن يضروك بما لم يكتُبِ الله عليك ما قدَروا عليه فإن استطعتَ أن تعملَ بالصبر مع اليقين فافعل فإن لم تستطِعْ فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً واعلم أن النصر مع الصبر وأن مع الكرْب فرَجاً وأن مع العسر يسراً
{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} تصويرٌ لقهره وعلوِّه بالغَلَبة والقُدرة {وَهُوَ الحكيم} في كلِّ ما يفعله ويأمر به {الخبير} بأحوال عبادِه وخفايا أمورِهم واللام في المواضع الثلاثة للقصر
{قل} أي
الأنعام آية 20 21
{شَىْء أَكْبَرُ شهادة} رُوِيَ أنَّ قريشاً قالُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد لقد سألنا عنك اليهودَ والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكرٌ ولا صفةٌ فأرنا من يشهد لك أنك رسولُ الله فنزلت فأي ممبتدأ وأكبر خبره وشهادة نصبعلى التمييز وقوله تعالى {قُلِ الله} امر له صلى الله عليه وسلم بأن يتولَّى الجواب بنفسه إما للإيذان بتعيُّنه وعدمِ قدرتهم على أن يجيبوا بغيره أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه لا لتردُّدهم في أنه أكبرُ من كل شيء بل في كونه شهيداً في هذا الشا قوله تعالى {شهيد} خبر ميتدأ محذوف أي هو شهيد {بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} ويجوز أن يكون الله شهيد بيني وبينكم هو الجواب لأنه إذا كان هو الشهيدَ بينه وبينهم كان أكبرُ شيءٍ شهادةً شهيداً له صلى الله عليه وسلم وتكريرُ البين لتحقيق المقابلة {وَأُوحِىَ إِلَىَّ} أي من جهتِه تعالَى {هذا القرآن} الشاهدُ بصِحة رسالتي {لاِنذِرَكُمْ بِهِ} بما فيه من الوعيد والاقتصارُ على ذكر الأنذار لما أن الكلام مع الكفرة {وَمَن بَلَغَ} عطفٌ على ضمير المخاطَبين أي لأنذركم به يا أهلَ مكةَ وسائرَ مَنْ بلغه من الأسودِ والأحمرِ أو من الثقلَيْن أو لأنذركم به أيها الموجودون ومَنْ سيوجد إلى يوم القيامة وهو دليلٌ على أن أحكام القرآن تعمُّ الموجودين يوم نزولِه ومن سيوجد بَعْدُ إلى يوم القيامة خلا أن ذلك بطريق العبارة في الكل عند الحنابلة بالإجماع عندنا في غير الموجودين وفي غير المكلفين يومئذ كما مر في أول سورة النساء {أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى} تقرير لهم مع إنكارواستبعاد {قُل لَاّ أَشْهَدُ} بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صِرْف {قُلْ} تكرير للأمر للتأكيد {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أي بل إنما أشهد أنه تعالى لَا إله إِلَاّ هو
{وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ} مِن الأصنام أو من إشراككم {الذين آتيناهم الكتاب} جواب عما سبق من قولهم لقد سألنا عنك اليهود والنصارى أُخِّر عن تعيين الشهيد مسارعةً إلى إلزامهم بالجواب عن تحكّمهم بقولهم فأرنا من يشهد لك الخ والمرادُ بالموصول اليهودُ والنصارى وبالكتاب الجنسُ المنتظمُ للتوراة والإنجيل وإيرادُهم بعنوان إيتاءِ الكتابِ للإيذان بمدار ما أسند غليهم بقوله تعالى {يَعْرِفُونَهُ} أي يعرفون رسول الله صه من جهة الكتابَيْن بحِلْيته ونُعوتِه المذكورة فيهما {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ} بحِلاهم بحيث لا يشكون في ذلك أصلاً رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قال عمر رضي الله عنه لعبدِ اللَّه بنِ سَلامٍ أنزل الله تعالى علي نبيه هذه الآيةَ وكيف هذه المعرفة فقال يا عمر لقد عرفتُه فيكم حين رأيته كما أعرِف ابني ولأنا أشدُّ معرفةً بمحمدٍ مني بابني لأني لا أدري ما صنع النساء وأشهد أنه حقٌّ من الله تعالى {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} من أهل الكتابين والمشركين بأن ضيعوه فطرة الله التي فطرَ النَّاسَ عليها وأعرضوا عن البينات الموجبةِ للإيمان بالكلية {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} لما أنهم مطبوعٌ على قلوبهم ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على الابتداء وخبرُه الجملة المصدرةُ بالفاء لِشَبَه الموصول بالشرط وقيل على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هم الذين خسروا الخ وقيل على أنَّه نعتٌ للموصولِ الأول وقيل النصبُ على الذم فقوله تعالى فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ على الوجوه الأخيرة عطفٌ على جملة الذين آتيناهم الكتاب الخ
بوصفهم النبيَّ الموعودَ في الكتابين بخلاف أوصافه صلى الله عليه وسلم فإنه افتراءٌ على الله سبحانه وبقولهم الملائكةُ بناتُ الله وقولِهم هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله ونحو ذلك وهو إنكارٌ واستبعادٌ لأن يكون أحدٌ أظلمَ ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإنْ كانَ سبكُ التَّركيبِ غيرَ متعرِّض لإنكار المساواة ونفيُها يشهد به العرف الفاشي والاستعمال المطرد فإنه إذا قيل مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضلَ من فلان فالمراد حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضل ألا يُرى إلى قوله عز وجل لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون بعد قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً الخ والسرُّ في ذلك أن النسبةَ بين الشيئين إنما تُتصوَّر غالباً لا سيما في باب المغالبة بالتفاوُت زيادةً ونُقصاناً فإذا لم يكن أحدُهما أزيدَ يتحقق النُقصانُ لا محالة {أو كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} كأن كذّبوا بالقرآن الذي من جملته الآيةُ الناطقةُ بأنهم يعرفونه صلى الله عليه وسلم كما يعرِفون أبناءهم وبالمُعجزات وسمَّوْها سحراً وحرفوا التوراة وغيروا نعوته صلى الله عليه وسلم فإن ذلك تكذيبٌ بآياته تعالى وكلمةُ أو للإيذانِ بأنَّ كلاً منَ الافتراء والتكذيب وحدَه بالغٌ غايةَ الإفراط في الظلم فكيف وهم قد جمعوا بينهما فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ونفَوْا ما أثبته قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون {إِنَّهُ} الضميرُ للشأنِ ومدارُ وضعِهِ موضعَه ادِّعاءُ شهرتِه المُغْنية عن ذكره وفائدته تصديرِ الجملة به الإيذانُ بفخامة مضممونها مع ما فيه من زيادة تقريرِه في الذهن فإنَّ الضميرَ لا يُفهمُ منه من أولِ الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقُبه فيتمكنُ عندَ ورودِه لَهُ فضلُ تمكُّنٍ فكأنه قيل إن الشأنَ الخطيرَ هذا هو {لَا يُفْلِحُ الظالمون} أي لا ينجُون من مكروهٍ ولا يفوزون بمطلوب وإذا كان حالُ الظالمين هذا فما ظنُّك بمن في الغايةِ القاصيةِ من الظلم
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} منصوبٌ على الظرفية بمُضمر مؤخَّرٍ قد حُذف إيذاناً بضيق العبارة عن شرحه وبيانه وإيماءً إلى عدم استطاعة السامعين لسماعِه لكمال فظاعةِ ما يقع فيه من الطَّامةِ والدَّاهيةِ التامة كأنه قيل ويوم نحشرُهم جميعاً {ثُمَّ نَقُولُ} لهم ما نقول كانَ من الأحوالُ والأهوالُ ما لا يحيطُ بهِ دائرةُ المقال وتقديرُ صيغةِ الماضِي للدَلالة على التحققِ ولحُسنِ موقَعِ عطفِ قوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ الخ عليه وقيل منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ مقدّم أي واذكر لهم للتخويف والتحذير ويوم نحشرهم الخ وقيل وليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم الخ والضمير للكل وجميعاً حال منه وقرىء يَحشرُهم جميعاً ثم يقول بالياء فيهما {لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أي نقول لهم خاصة للتوبيخ والتقريع على رءوس الأشهاد {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ} أي آلهتُكم التي جعلتموها شركاءَ لله سبحانه وإضافتُها إليهم لما أن شِرْكتَها ليست إلا بسميتهم وتقوُّلهم الكاذب كما ينبىء عنه قوله تعالى {الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي تزعُمونها شركاءَ فحُذِف المفعولان معاً وهذا السؤالُ المُنبِىءُ عن غَيْبة الشركاءِ مع عموم الحشر لها لقوله تعالى احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وغيرِ ذلك من النصوص إنما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبرُّؤ من الجانبين وتقطَّع ما بينهم من الأسباب والعلائقِ حسبما سحكيه قوله تعالى فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ الخ ونحوذلك من الآيات الكريمة إما بعدم حضورِها حينئذٍ في الحقيقة بإبعادها من ذلك الموقف وإما بتنزيل
0 -
الأنعام آية 23 24
عدمِ حضورها بعُنوان الشِرْكة والشفاعة منزلةَ عدم حضورها في الحقيقة إذ ليس السؤالُ عنها من حيث ذواتها إنما هو من حيث إنها شركاءُ كما يُعرب عنه الوصفُ بالموصول ولا ريب في أن عدم الوصفِ يوجب عدمَ الموصوف من حيث هو موصوف فهي من حيث هي شركاءُ غائبةٌ لا محالة وإن كانت حاضرةً من حيث ذواتُها أصناماً كانت أو غيرها وأما ما يقال من أنه يُحال بينها وبينهم في وقت التة وبيخ ليفقِدوهم في الساعة التي علقوا بها الرجاءَ فيها فيرَوْا مكان خِزْيهم وحسرتِهم فربما يُشعِر بعدم شعورِهم بحقيقة الحال وعدمِ انقطاع حبالِ رجائهم عنها بعدُ وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عُروةُ أطماعهم عنها بالكلية على أنها معلومةً لهم من حين الموتِ والابتلاءِ بالعذاب في البرزخ وإنما الذي يحصُل يوم الحشر الانكشافُ الجليُّ واليقين القويُّ المترتبُ على المحاضَرة والمحاوَرة
{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} بتأنيث الفعلِ ورفع فتنتُهم على أنه اسمٌ له والخبرُ {إِلَاّ أَن قَالُواْ} وقُرىء بنصب فتنتَهم على أنها الخبرُ والاسمُ إلا أن قالوا والتأنيث للخبر كما في قولهم من كانت أمَّك وقرىء بالتذكير مع رفع الفتنة ونصبها ورفعُها أنسبُ بحسب المعنى والجملة عطفٌ على ما قُدّر عاملاً في يوم نحشرهم كما أُشيرَ إليهِ فيما سلف والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعم الأشياء وفتنتُهم إما كفرُهم مراداً به عاقبتُه أي لم تكن عاقبةُ كفرِهم الذي لزِموه مدةَ أعمارِهم وافتخروا به شيئاً من الأشياءِ إلا جحدوه والتبرؤَ منه بأن يقولوا 6 {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مشركين} وأما جواتبهم عبّر عنه بالفتنة لأنه كذِب ووصفُه تعالى بربوبيته لهم للمبالغة في التبرّؤ من الإشراك وقرىء بنا على النداء فهو لإظهار الضراعة والابتهال في استدعاء قبول المعذرة وإنما يقولون ذلك مع علمهم بأنه بمعزِلٍ من النفع رأساً من فرط الحَيْرة والدهَش وحملُه على معنى ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا في الدنيا أنا على خطأ غي معتقَدِنا مما لا ينبغي أن يُتوهّم أصلاً فإنه يُوهِم أن لهم عذراً أما وأن لهم قدرةً على الاعتذار في الجملة وذلك مُخِلٌّ بكمال هَوْل اليوم قطعاً على أنه قد قضى ببطلانه قوله تعالى
{انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} فإنه تعجيبٌ من كذبهم الصريح بإنكار صدورِ الإشراك عنهم في الدنيا أي انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أنفسهم في قولهم ذلك فإنَّه أمرٌ عجيبٌ في الغاية وأما حملُه على كِذْبهم في الدنيا فتمحُّلٌ يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عنه وقوله تعالى {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} عطفٌ على كذَبوا داخلٌ معه في حكم التعجيب وما مصدريةٌ أو موصولةٌ قد حُذف عائدُها والمعنى انظر كيف كذَبوا باليمين الفاجرةِ المغلَّظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر عنهم وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفَوا صدوره عنهم بالكلية وتبرءوا منه بالمرة وقيل ما عبارةٌ عن الشركاء وإيقاعُ الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقعٌ على أحوالها من الإلهية والشِرْكة والشفاعة ونحوِها للمبالغة في أمرها كأنها نفسالمفترى وقيل الجملة كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ في حيز التعجيب
الأنعام آية 25
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} كلامٌ مبتدأ مَسوقٌ لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ثم بيانِ ما سيصدر عنهم يوم الحشر تقريراً لما قبله وتحقيقاً لمضمونه والضميرُ للذين أشركوا ومحلُ الظرفِ الرفعُ على أنه مبتدأ باعتبارِ مضمونِه أو بتقديرِ الموصوف كما في قوله تعالى ومنادون ذَلِكَ أي وجمعٌ منا الخ ومَن موصولةٌ أو موصوفةٌ محلُها الرَّفعُ على الخبرَّيةِ والمعنى وبعضهم أو وبعضٌ منهم الذي يستمع إليك أو فريق يستمع إليك على أنَّ مناطَ الإفادةِ اتصافُهم بما في حِّيزِ الصِّلةِ أو الصِّفةِ لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورينَ وقد مرَّ في تفسيرِ قوله تعالى ومن الماس مَن يَقُولُ الخ رُوي أنه اجتمع أبو سفيانَ والوليدُ والنضْرُ وعُتبةُ وشيبةُ وأبو جهل وأضرا بهم يستمعون تلاوةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر وكان صاحبَ أخبار يا ابا قتيلة ما يقول محمد فقال والذي جعلها بيتَه ما أدري ما يقول إلا أنه يحرِّك لسانه ويقول أساطيرَ الأولين مثلَ ما حدثتُكم من القرون الماضية فقال أبو سفيان إني لأراه حقاً فقال أبو جهل كلا فنزلت {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} من الجَعْل بمعنى الإنشاء وعلى متعلقةٌ به وضمير قلوبهم راجعٌ إلى مَنْ وجمعيتُه بالنظر إلى معناها كما أن إفرادَ ضميرِ يستمعُ بالنظر إلى لفظها وقد رُوعيَ جانب المعنى في قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ الآية والأكنة جمع كِنان وهو ما يُستر به الشيءُ وتنوينُها للتفخيم والجملة إما مستأنفةٌ للإخبار بما تضمنه من الخَتْم أو حالٌ من فاعل يستمع بإضمار قد عند من يقدِّرها قبل الماضي الواقعِ حالاً أي يستمعون إليك وقد ألقينا على قلوبهم أغطية كثيرةً لا يُقَادر قدرُها خارجةً عما يتعارفه الناس {أَن يَفْقَهُوهُ} أي كراهةَ أن يفقهوا ما يستمعونه من القرآن المدلولِ عليه بذكر الاستماع ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً لما يُنبىء عنه الكلامُ أي منعناهم أن يفقهوه {وَفِي آذَانِهِم وَقْراً} صَمماً وثِقَلاً مانعاً من سماعه والكلام فيهِ كما في قوله تعالى على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وهذا تمثيلٌ مُعرِبٌ عن كمال جهلهم بشئون النبي عليه الصلاة والسلام وفرطِ نُبُوَّة قلوبهم عن فهم القرآنِ الكريم ومجِّ أسماعِهم له وقد مرَّ تحقيقُه في أول سورة البقرة وقيل هو حطكاية لما قالوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى آذاننا وَقْرٌ الآية وأنت خبيرٌ بأن مرادهم بذلك الإخبارُ بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم جهلاً وكفراً من اتصافهما بأوصافٍ مانعةٍ من التصديق والإيمانِ ككون القرآنِ سِحراً وشعراً وأساطيرَ الأولين وقسْ على ما تخيلوه في حق النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا الإخبارُ بأن هناك أمراً وراء ذلك قد حال بينهم وبين إدراكه حائلٌ من قِبَلِهم حتى يُمكِنَ حملُ النظم الكريم على ذلك {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ} من الآيات القرآنيةِ أي يشاهدوهما بسماعها {لَاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} على عمومِ النفي لا على نفي العُموم أي كفروا بكل واحدى ة منها لعدم اجتلائهم غياها كما هي لما مر من حالهم {حتى إِذَا جاؤوك يجادلونك} هي حتى التي تقع بعدها الجمل والجملة هي قوله تعالى إِذَا جَاءوكَ {يَقُولُ الذين كَفَرُواْ} وما بينهما حالٌ من فاعل جاءوك وإنما وضع الموصولُ موضعَ الضمير ذمًّا لهم بما في حيِّز الصلةِ وإشعاراً لعلة الحكم أي بلَغوا من
الأنعام آية 26 27
التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاءوك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد عدم افيمان بما سمعوا من الآياتِ الكريمة بل يقولون {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا {إِلَاّ أساطير الأولين} فإنّ عدأ حسن الحديث وأصدقِه الذي لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا منْ خلفه من قبيل الأباطيلِ والخرافاتِ رتبةٌ من الكفر لا غاية وراءها ويجوز أن تكون حتى جارة وإذا ظرفيةً بمعنى وقتِ مجيئهم ويجادلونك حالٌ كما سبق وقوله تعالى يَقُولُ الذين كَفَرُواْ الخ تفسيرٌ للمجادلة والأساطيرُ جمع أُسطورة أو اسطارة أم جمع أسطار وهو جمع سَطَر بالتحريك وأصل الكل السَّطْر بمعنى الخط
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} الضمير المرفوع للمذكورين والمجرورُ للقرآن أي لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه وعدِّه من قبيل الأساطير بل ينهَوْن الناسَ عن استماعه لئلا يقِفوا على حقّيته فيؤمنوا به {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي يتباعدون عنه بأنفسهم إظهاراً لغاية نفورهم عنه وتأكيداً لنهيهم عنه فإن اجتنابَ الناهي عن المنهيِّ عنه من متمّمات النهْي ولعل ذلك هو السرُّ في تأخير النأْي عن النهْي وقيل الضميرُ المجرور للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل المرفوعُ لأبي طالب ولعل جمعيته باعتبار استتباعه لأتباعه فإنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينآى عنه فلا يؤمن به وروي أنهم اجتمعوا إليه وأرادوا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم سوءاً فقال
…
والله لن يَصِلوا إليك بجمعِهم حتى أُوسَّدَ في التراب دفينا
…
فاصدَعْ بأمرك ما عليك غضاضة وابشُرْ بذاك وقَرَّ منه عيونا
…
ودعوتني وزعمتَ أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينا
…
وعرضتَ ديناً لا محالةَ إنه من خيرِ أديان البرية دينا
…
لولا الملامةُ أو حِذاري سُبّة لوجدتني سَمْحاً بذاك مبينا فنزلت {وَإِن يُهْلِكُونَ} أي ما يهلكون بما فعلوا من النهي والنأي {إِلَاّ أَنفُسُهُمْ} بتعريضها لأشد العذاب وأفظعِه عاجلاً وآجلاً وهو عذابُ الضلال والإضلال وقوله تعالى {وَمَا يَشْعُرُونَ} حال من ضمير يُهلكون أي يقصُرون الإهلاكَ على أنفسهم والحالُ أنهم ما يشعُرون أي لا بإهلاكهم أنفسَهم ولا باقتصار ذلك عليها من غير أن يُضِروا بذلك شيئاً من القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنما عبّر عنه بالإهلاك مع أن المنفي عن غيرهم مطلقُ الضرر إذ غعاية ما يؤدي إليه ما فعلوا من القدح في القرآن الكريم الممانعةُ في تمشّي أحكامِه وظهورِ أمر الدين للإيذان بأن ما يَحيق بهم هو الهلاكُ لا الضررُ المطلقُ على أن مقصِدهم لم يكن مطلق الممانعة فيما ذُكر بل كانوا يبغون الغوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويجوز أن يكون الإهلاكُ معتبراً بالنسبة إلى الذين يُضِلونهم بالنهي فقصْرُه على أنسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبنيٌّ على تنزيلِ عذاب الضلال عند عذاب افضلال منزلةَ العدم
{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} شروعٌ في حكاية ما سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقضِ لما صدر عنهم في الدنيا من القبائحِ المَحْكيّة مع كونه كِذْباً في نفسه والخطابُ إمَّا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد
الأنعام آية 28
من أهل المشاهَدة والعِيانِ قصداً إلى بيانُ كمالِ سوءِ حالِهم وبلوغِها من الشناعة والفظاعةِ إلى حيثُ لا يختصُّ استغرابُها براءٍ دونَ راءٍ ممَّن اعتاد مشاهدةَ الأمورِ العجيبة بل كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ يتعجبُ من هولها وفظاعتِها وجوابُ لو محذوف ثقةً بظهوره وإيذاناً بقصور العبارة عن تفصيله وكذا مفعولُ ترى لدِلالة ما في حيِّز الظرْفِ عليه لو تراهم حين يوقَفون على النار حتى يعاينوها لرأيتَ ما لا يسعه التعبيرُ وصيغةُ الماضِي للدَلالة على التحقق أو حين يطّلعون عليها اطّلاعاً وهي تحتَهم أو يدخُلونها فيعرِفون مقدارَ عذابها من قولهم وقفتُه على كذا إذا فهَّمتُه وعرَّفته وقرىء وقَفوا على البناءِ للفاعلِ منْ وقَف عليه وقوفاً {فَقَالُواْ يا ليتنا} أي إلى الدنيا تمنياً للرجوع والخلاص وهيهاتَ ولاتَ حينَ مناصٍ {وَلَا نُكَذّبَ بآيات رَبّنَا} أي بآياته الناطقةِ بأحوال النار وأهوالها الآمرةِ باتقائها إذ هي التي تخطُر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرّطوا في حقها أو بجميع ى ياته المنتظمةِ لتلك الآياتِ انتظاماً أولياً {وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} بهَا العاملين بمقتضاها حتى لا تنرى هذا الموقفَ الهائلَ أو نكونَ من فريق المؤمنين الناجين من العذاب الفائزين بحُسن المآب ونصبُ الفعلين على جواب التمني بإضمار أنْ بعد الواو وإجرائها مجرى الفاء ويؤيده قراءةُ ابن مسعوج وابن إسحق فلا نكذبَ والمعنى إنْ رُدِدْنا لم نكذبْ ونكنْ من المؤمنين وقيل ينسَبِكُ من أن المصدرية ومن الفعل بعجها مصدرٌ متوهِّم فيُعطَف هذا عليه كأنه قيل ليت لنا رداً وانتفاءَ تكذيبٍ وكوناً من المؤمنين وقرىء برفعهما على أنه كلامٌ مستأنف كقوله دعني ولا أعودُ أي وأنا لا أعود تركتَني أو لم تترُكْني أو عطفٌ على نرد أو حال من ضميره فيكون داخلاً في حكم التمني كالوجه الخير للنصب وتعلقُ التكذيب الآتي به لما تضمّنه من العِدَة بالإيمان وعدمِ التكذيب كمن قال ليتني رُزقتُ مالاً فأكافئك هـ = على صنيعك فإنه متمنَ في معنى الواعد فلو رزق مالاً ولم يكافىءْ صاحبه يكون مكذِّباً لا محالة وقرىء برفع الأول ونصب الثاني وقد مر وجههما
{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} إضرابهما يُنْبىءُ عنه التمني من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزيمة صادقةٍ ناشئة عن رغبةٍ في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصافِ به بل لأنه ظهرَ لهم في موقفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من الداهيةِ الدهياء وظنوا أنهم مُواقِعوها فلِخَوْفها وهول مطلعها قالوا ما قالوا والمراد بها النارُ التي وُقفوا عليها إذ هي التي سيق الكلامُ لتهويل أمرها والتعجيب من فظاعة حالِ الموقوفين عليها وبإخفائها تكذيبُهم بها فإن التكذيبَ بالشيء كفر به وإخفاءٌ له لا محالة وإيثاره على صريح التكذيب الوارد في قولِه عز وجل هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بها المجرمون وقوله تعالة هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ مع كونه أنسبَ بما قبله من قولهم ولا نكذب بآيات رَبّنَا لمراعاة ما في مقابلته من البُدُوّ هذا هُو الذي تستدعيهِ جزالةُ النظمِ الكريم وأما ما قيل من أن المراد بما يُخفون كفرُهم ومعاصيهم أو قبائحُهم وفضائحُهم التي كانوا يكتُمونها من الناس فتظهر في صحفهم وبشهادجة جوارحِهم عليهم أو شركِهم الذي يجحدون به في بعض مواقف القيامة بقولهم والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ثم يظهر بما ذُكر من شهادة الجوارحِ عليهم أو ما أخفاه رؤساء
الأنعام آية 29 30
الكفرة عن أتباعهم من أمر البعث والتنشور أو ما كتمه علماءُ أهل الكتابين من صحة نبوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ونُعوته الشريفة عن عوامِّهم على أن الضميرَ المجرورَ للعوام والمرفوعَ للخواص أو كفرُهم الذي أخفَوْه عن المؤمنين والضميرُ المجرور للمؤمنين والمرفوع للمنافقين فبعدج الإغضاءِ عما في كلَ منها من الاعتساف والاختلال لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلاً لما عرفتَ من أنَّ سَوْق النظم الشريف لتهويل أمر النار وتفظيعِ حال أهلها وقد ذُكر وقوفُهم عليها وأُشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحَيْرة والدهشة ما لا يحبط به الوصفُ ورُتّب عليه تمنِّيهم المذكورُ بالفاء القاضيةِ بسببية ما قبلَها لما بعدَها فإسقاطُ النار بعد ذلك من تلك السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجرُ الزواجر وإسنادُها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر مع عدم جَرَيانِ ذكرها ثَمةَ أمرٌ يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثاله وأما ما قيل من أن المراد جزاءُ ما كانوا يُخفون فمن قبيل دخولِ البيوت من ظهورِها وأبوابُها مفتوحة فتأمل {وَلَوْ رُدُّواْ} أي من موقفهم ذلك إلى الدنيا حسبما تمنَّوْه وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال {لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} من فنون القبائح التي من جملتها التكذيبُ المذكورُ ونسُوا ما عاينوه بالكلية لاقتصار أنظارِهم على الشاهدِ دون الغائب {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} أي لقومٌ ديدَنُهم الكذِبُ في كلِّ ما يأتُون وما يذرون
{وَقَالُواْ} عطفٌ على عادوا داخلٌ في حيز الجواب وتوسيطُ قولِه تعالى وَإِنَّهُمْ لكاذبون بينهما لأنه اعتراضٌ مسوقلتقرير ما أفاده الشرطيةُ من كذبهم المخصوصِ ولو أُخِّر لأَوْهم أن المراد تكذيبُهم في إنكارهم البعثَ والمعنى لوردوا إلى الدنيا لعادجوا لما نُهوا عنه وقالوا {إِنْ هِىَ} أيْ ما الحَيَاةُ {إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعد ما فارقنا هذه الحياةَ كأن لم يرَوا ما رأَوا من الأحوال التي أولُها البعثُ والنشور
{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ} الكلامُ فيه كالذي مر في نظيره خلا أن الوقوف ههنا مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقَفُ العبدُ الجاني بين يدَيْ سيده للعقاب وقيل عرَفوا ربهم حق التعريف وقل وُقفوا على جزاءِ ربهم وقولُه تعالى {قَالَ} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من الكلامِ السابقِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ لهم ربهم إذ ذاك فقيل قال {أَلَيْسَ هذا} مشيراً إلى ما شاهدُوه من البهث وما يتبعه من الأمور العظام {بالحق} تقريعاً لهم على تكذيبهم لذلك وقولِهم عند سماعِ ما يتعلق به ما هو بحقَ وما هو إلا باطلٌ {قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق {بلى وربنا} أكدوا اعتبرافهم باليمين إظهاراً لكمال يقينهم بحقِّيته وإيذاناً بصدور ذلك عنهم بالرغبة والنشاط معا في نفعه {قَالَ} استئناف كما مر {فَذُوقُواْ العذاب} الذي عاينتموه والفاءُ لترتيب التعذيب على اعترافهم بحقية ما كفروا به في الدنيا لكن لا على أن مدارَ التعذيب هو اعترافُهم بذلك بل هو كفرُهم السابقُ بما اعترفوا بحقيته الآن كما نطق به قوله عز وجل {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بسبب كفركم في الدنيا بذلك أو
الأنعام 31 32
بكلِّ ما يجبُ الإيمانُ به فيدخل كفرُهم به دخولاً أولياً ولعل هذا التوبيخ والتقريع وإنما يقع بعد ما وُقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذِ الظاهرُ أنه لا يبقى بعد هذا الأمر إلا العذاب
{قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله} هم الذين حُكِيت أحوالُهم لكنْ وْضع الموصولُ موضعَ الضمير للإيذان بتسبب خسرانهم بما في حيز الصلة من التكذيب بلقائه تعالى بقيام الساعة وما يترتبُ عليهِ من البعث وأحكامه المتفرعةِ عليه واستمرارِهم على ذلك فإن كلمةَ حتى في قولِه تعالى {حتى إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة} غايةٌ لتكذيبهم لا لخُسرانهم فإنه أبديٌّ لا حدَّ له {بغتة} البغت والبغت مفاجأة للشيء بسرعة من ير شعور به يقال بغة بغْتاً وبغتةً أي فجأةً وانتصابُها إما على أنها مصدرٌ واقعٍ موقعَ الحالِ من فاعلِ جاءتهم أي مباغتة أو من مفعول أي مبغوتين وإما على أنَّها مصدرٌ مؤكِّدٌ على غير الصدر فإنّ جاءتهم في معنى بغتتهم كقولهم أتيته ركضاً أو مصدرٌ مؤكِّد لفعل محذوف وقع حالاً من فاعل جاءتهم أي جاءتهم الساعة تبغتهم بغتة {قَالُواْ} جواب إذا {يا حسرتنا} تعالَيْ فهذا أوانُك والحسرةُ شدة الندم وهذا التحسرُ وإن كان يعتريهم عند الموت لكنْ لما كان ذلك من مبادىء الساعة يمي باسمها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام من مات فقد قامت قيامتُه أو جُعل مجيءُ الساعة بعد الموت كالواقع بغير فترةٍ لسرعته {على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي على تفريطنا في شأن الساعة وتقصيرنا في مراعاة حقها والاستعداد لها بالإيمان بها واكتسابِ الأعمالِ الصَّالحةِ كما في قوله تعالى على مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ الله وقيل الضميرُ للحياة الدنيا وإن لم يجْرِ لها ذكرٌ لكونها معلومة والتفريطُ التقصيرُ في الشيء مع القدرة على ما فعله وقيل هو التضييعُ وقيل الفَرَط السبق ومنه الفارط أي السابق ومعنى فرطلى السبْقَ لغيره فالتضعيف فيه للسلب كما في جلّدتُ البعير وقوله تعالى {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} حالٌ من فاعل قالوا فائدتُه الأيذان بأن عذابَهم ليس مقصُوراً على ما ذكِر من الحسرة على ما فات وزال بل يقاسون مع ذلك تحمُّلَ الأوزار الثِقال والإيماءُ إلى أن تلك الحسرةَ من الشدة بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من فنون العقوبات والسرُّ في ذلك أن العذابَ الروحانيَّ أشدُّ من الجُسمانيِّ نعوذ برحمة الله عز وجل منهما والوِزر في الأصل الحِملُ الثقيل سُمِّي به الإثمُ والذنبُ لغاية ثِقَلِه على صاحبه وذكرُ الظهور كذكر الأيدي في قوله تعالى فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فإن المعتاد حملُ الأثقالِ على الظهور كما أن المألوفَ هو الكسبُ بالأيدي والمعنى أنهم يتحسرون على ما لم يعملوا من الحسنات والحال أنعهم يحمِلون أوزارَ ما عملوا من السيئات {أَلَا سَاء مَا يَزِرُونَ} تذييلٌ مقرِّرٌ لمَا قبلَهُ وتكملةٌ له أي بئس شيئاً يَزِرُونه وِزْرُهم
{وَمَا الحياة الدنيا إِلَاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} لمّا حقَّق فيما سبق أن وراءَ الحياة الدنيا حياةً أخرى يلقَوْن فيها من الخطوب ما يلقون بَيَّن بعدَه حالَ تينِك الحياتين في أنفسهما واللعب
6 -
الأنعام آية 33
عمل يشغل النفس ويفطرها عما تنتفع به واللهوُ صرفُها عن الجدّ إلى الهزل والمعنى إما على حذف الماف أو على جعل الحياة الدنيا نفسَ اللعِب واللهوِ مبالغةً كما في قول الخنساء فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ أي وما أعمالُ الدنيا أي الأعمالُ المتعلقةُ بها من حيث هي هي أو وما هي من حيث إنها محلٌ لكسب تلك الأعمال إلا لعبٌ يشغَل الناسَ ويلهيهم بما فيه من منفعةٍ سريعة الزوال ولة وشيكة الاضمحلال عما يعقُبهم منفعة جليلة باقية ولذة حقيقية غير متناهية من الإيمان والعملِ الصالحِ {وَلَلدَّارُ الاخرة} التي هي محلُ الحياة الأخرى {خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الكفرَ والمعاصِيَ لأن منافعها خالصةٌ عن المضارِّ ولذاتِها غيرُ مُنغّصةٍ بالآلام مستمرةٌ على الدوام {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان والفاء للعطف على مقدار أي تغفلون فلا تعقِلون أو ألا تتفكرون فتعقِلون وقرىء يعقلون على الغَيْبة
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذى يَقُولُونَ} استئنافٌ مَسوقٌ لتسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه مما حُكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة فيه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام بمكانة من الله عز وجل وأن ما يفعلونه في حقه فهو راجعٌ إليه تعالى في الحقيقة وأنه ينتقم منهم لا محالة أشدَّ انتقام وكلمةُ قد لتأكيد العلم بما ذكر المفيدِ لتأكيد الوعيدِ كما في قوله تعالى ما أنتم عليهخ وقوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين ونحوِهما بإخراجها إلى معنى التكثير حسبما يُخْرجُ إليه ربما في مثل قوله
…
وإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناء فربما أقام به بعد الوفود وفودُ جرياً على سَننِ العرب عند قصد الإفراط في التكثير تقول لبعض قُوادِ العساكر كم عندك من الفرسان فيقول رُبَّ فارسٍ عندِي وعندُه مقانبُ جَمةٌ يريد بذلكَ التماديَ في تكثير فُرسانه ولكنه يروم إظهارَ براءته عن التزيُّد وإبرازَ أنه ممَّن يقللُ كثيرَ مَا عنده فضلاً عن تكثير القلل وعليه قوله عز وجل رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ وهذه طريقةٌ إنما تُسلك عند كون الأمر من الوضوح بحيث لا تحو حوله شائبةُ ريبٍ حقيقةً كما في الآيات الكريمة المذكورة أو ادعاءً كما في البيت وقولِه
…
قَدْ أتركَ القِرْنَ مُصفرّاً أناملُهُ وقولِه ولكنه قد يُهلك المالَ نائِلُهْ والمراد بكثرة علمه تعالى كثرةُ تعلقِه وهو متعدَ إلى اثنين وما بعده ساد مسدهما واسمُ إن ضمير الشأن وخبرُها الجملة المفسرة له والموصولُ فاعل يحزنك وعائدُه محذوف أي الذي يقولونه وهو ما حُكي عنهم من قولهم إِنْ هذا إِلَاّ أساطير الاولين ونحوُ ذلك وقرىء لَيُحزِنُك من أحزن المنقول من حزن اللام وقوله تعالى {فَإِنَّهُمْ لَا يكذبونك} تعليل لما يشعرون به الكلامُ السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا لكن لا بطريق التشاغل عنه وعدِّه هيناً والإقبالِ التام على ما هو أهمُّ منه من استعظام جحودهم بآيات الله عز وجل كما قيل فإنه مع كونِه بمعزلٍ من التسلية بالكلية مما يوهم كونَ حزنه عليه الصلاة والسلام لخاصة نفسه بل بطريق التسلِّي بما يفيده من بلوغه عليه الصلاة والسلام في جلالة القَدْرِ ورِفعة المحل والزُلفى من الله عز وجل إلى حيث لا غايةَ وراءَه حيثُ لم يقتصر على جعل تكذيبه صلى الله عليه وسلم تكذيباً لآياته سبحانه على طريقة قوله تعالى مَّنْ يطع الرسول
الأنعام آية 34
فَقَدْ أَطَاعَ الله بل نفى تكذيبهم عنه صلى الله عليه وسلم وأثبت لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا ينعون الله أيذاناً بكمال القرب واضمحلال شئونه صلى الله عليه وسلم في شأن الله عز وجل نعم فيه استعظام لجنايتاهم مُنْبىءٌ عن عظم عقوبتهم كأنه قيل لا تعتدَّ به وكِلْه إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة {ولكن الظالمين بآيات الله يَجْحَدُونَ} أي ولكنهم بآياته تعالى يكذّبون فوضَعَ المُظهرَ موضعَ المُضمر تسجيلاً عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابة واستعظام ما أقدَموا عليه من جحود آياته تعالى وإيرادُ الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياتِه تعالى من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كلُّ أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود الذي هو عبارةٌ عن الإنكار مع العلم بخلافه كما في قوله تعالى وَجَحَدُواْ بها واستيقنها أَنفُسُهُمْ وهو المعنيُّ بقول من قال إنه نفْيُ ما في القلب إثباتُه أو إثباتُ ما في القلب نفيُه والباء متعلقة بيجحدون يقال جحد حقَّه وبحقِّه إذا أنكره وهو يعلمه وقيل هو لتضمين الجحود معنى التكذيب وأيًّا ما كان فتقديمُ الجارِّ والمجرور للقَصْر وقيل المعنى فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم ويعضُده ما رُوي من أن الأخْنَسَ بنَ شُرَيْقٍ قال لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادقٌ هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحدٌ غيرُنا فقال له والله إن محمداً لصادقٌ وما كذَب قطُّ ولكن إذا ذهب بنو قُصيَ باللواءِ والسِّقاية والحِجابة والنبوّة فماذا يكونُ لسائر قريش فنزلت وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمَّى الأمينَ فعرَفوا أنه لا يكذِب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون وقيل فإنهم لا يكذبونك لأنهم عندهم الصادقُ الموسومُ بالصدق ولكنهم يجحدون بآيات الله كما يروى أن أبا جهل كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما نُكذِّبُك وإنك عندنا لصادقٌ ولكنا نكذِّبُ ما جئتنا به فنزلت وكأن صدقَ المُخبرِ عند الخبيث بمطابقةِ خبرِه لاعتقادِه والأولُ هو الذي تستدعيهِ الجزالة التنزيلية وقرىء لا يُكْذِبونك من الإكذاب فقيل كلاهما بمعنى واحدٍ كأكثرَ وكثُر وأنزل نزل وهو الأظهر وقيل معنى أكذبه وجده كاذباً ونُقل عن الكسائيِّ أن العربَ تقول كذبتُ الرجلَ أي نسبتُ الكذب إليه وأكذبته أي نسبت الكذب إلى ما جاءَ به لا إليه وقوله تعالى
{وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} افتنانٌ في تسليته عليه الصلاة والسلام فإن عمومَ البلية ربما يهوِّنُ أمرَها بعضَ تهوين وإرشادٌ له عليه الصلاة والسلام إلا الاقتداءِ بمن قبلَه من الرسلِ الكرام عليهم الصلاة والسلام في الصبر على ما أصابهُم من أممهم من فنون الأَذِيَّة وعِدَةٌ ضمنية له عليه الصلاة والسلام بمثل ما مُنِحوه من النصر وتصديرُ الكلام بالقسم لتأكيد التسلية وتنوينُ رسلٌ للتفخيم والتكثر ومن إما متعلقةٌ بكُذِّبت أو بمحذوف وقع صفة لرسل أي وبالله لقد كذِّبت من قبل تكذيبك رسلٌ أول شأنٍ خطير وذوُو عددٍ كثير أو كُذبت رسل كانوا من زمان قبلَ زمانك {فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ} ما مصدرية وقوله
الأنعام آية 35
تعالى {وَأُوذُواْ} عطفٌ على كُذبوا داخلٌ في حكمه فأنسبك منهما مصدران من المبنيِّ للمفعول أي فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم فتأسَّ بهم واصطبِرْ على ما نالكَ من قولمك والمرادُ بإيذائهم إما عينُ تكذيبهم وإما ما يقارنه من فنون الإيذاء لم يُصرَّحْ به ثقةً باستلزام التكذيب إياه غالبا وأياما كان ففيه تأكيدٌ للتسلية وقيل عطفٌ على صبروا وقيل على كذبت وقيل هو استئناف وقوله تعالى {حتى أتاهم نَصْرُنَا} غايةٌ للصير وفيه إيذانٌ بأن نَصره تعالى إياهم أمرٌ مقرَّر لا مرد له وأنه متوجه إليهم لا بد من إتيانه البتةَ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبراز الاعتناء بشأن النصر وقوله تعالى {وَلَا مُبَدّلَ لكلمات الله} اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله من إتيان نصرِه إياهم والمراد بكلماته تعالى ما ينبىء عنه قوله تعالى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون وقولُه تعالى كَتَبَ الله لَاغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى من المواعيد السابقة للرسلِ عليهمْ الصلاةُ والسلامُ الدالة على نُصرة رسول الله أيضاً لا نفسُ الآياتِ المذكورة ونظائرُها فإن الإخبارَ بعدم تبدّلِها إنما يفيد عدمَ تبدلِ المواعيدِ الواردةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة جون المواعيد السابقة للرسلِ عليهمْ الصلاةُ والسلامُ ويجوزُ أن يُرادَ بكلماته تعالى جميعُ كلماته التي من جُملتِها تلك المواعيدُ الكريمةُ ويدخل فيها المواعيدُ الواردة في حقِّه عليه الصلاة والسلام دخولاً أولياً والالتفاتُ إلى الإسم الجليل للإشعارِ بعلَّةِ الحُكم فإنَّ الألوهية من موجبات أن لا يغالبه أحدٌ في فعلٍ من الأفعال ولا يقعَ منه تعالى خُلْفٌ في قول من الأقوال وقوله تعالى {وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} جملة قَسَمية جيءَ بها لتحقيق ما مُنحوا من النصر وتأكيدِ ما في ضِمْنه من الوعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لتقرير جميعَ ما ذكِر من تكذيب الأمم وما ترتب عليه من الأمور والجارُّ والمجرور في محلِ الرفعِ على أنه فاعل إما باعتبار مضمونِه أي بعضُ نبأ المرسلين أو بتقدير الموصوف أي بعضٌ من نبأ المرسلين كما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمنا بالله الآية وأياما كان فالمرادُ بنَبَئِهم عليهم السلام على الأول نصرُه تعالى إياهم بعد اللُّتيا والتي وعلى الثاني جميعُ ما جرى بينهم وبين أممهم على ما ينبىءُ عنه قوله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء وَزُلْزِلُواْ الآية وقيل في محل النصب على الحالية من المستسكن في جاء العائدِ إلى ما يُفهم من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر كائناً من نبأ المرسلين
{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لتأكيد إيجاب الصبر المستفاد من التسلية ببيان أنه أمرٌ لا محيدَ عنه أصلاً أي إن كان عظُم عليك وشقَّ إعراضُهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن الكريم حسبما يُفصح عنه ما حُكي عنهم من تسميتهم له أساطيرَ الأولين وتنائيهم عنه ونهْيِهمُ الناسَ عنه وقيل إن الحرث بن عامر بنِ نوفلِ بنِ عبدِ منافٍ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في محضر من قريش فقال يا محمدُ ائتنا بآيةٍ من عند الله كما كانت الأنبياءُ تفعل وأنا أصدقك فأبى الله أن يأتي بآية مما اقترحوا فأعرضوا عن رسول
الأنعام 36
الله فشق ذلك عليه لما أنَّه عليه الصَّلاةُ السلام كان شديدَ الحِرْص على إيمان قومه فكان إذا سألوا آيةً يودّ أن يُنزِلها الله تعالى طمعاً في إيمانهم فنزلت فقوله تعالى إِعْرَاضُهُمْ مرتفعٌ بكبُرَ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عليهِ لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخرة والجملة في محل النصب على أنها خبر لكان مفسرة لاسمها الذي هو ضميرُ الشأنِ ولا حاجة إلى تقدير قد وقيل اسم كان إعراضُهم وكبر جملة فعلية في محل النصب على أنها خبر لها مقدم على اسمها لأنه فعلٌ رافع لضميرٍ مستتركا هو المشهور وعلى التقديرين فقوله تعالى {فَإِن استطعت} الخ شرطيةٌ أخرى محذوفةُ الجواب وقعتْ جواباً للشرط الأول والمعنى إن شق عليك إعراضُهم عن الإيمان بما جئت به من البينات وعدمُ عدِّهم لها من قبيل الآيات وأحببتَ أن تجيبهم إلى ما سألوه اقتراحاً فإن استطعت {أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً} أي سَرَباً ومنفَذاً {فِى الارض} تنفُذ فيه إلى جَوفها {أَوْ سُلَّماً} أي مصعداً {فِى السماء} تعرج به فيها {فتأتيهم} منهما {بآية} مما اقترحوه فافعلْ وقد جُوِّز أن يكون ابتغاؤهما نفسَ الإتيان بالآية فالفاء في فتأتيَهم حينئذ تفسيرية وتنوينُ آية للتفخيم أي فإن استطعت أن تبتغيَهما فتجعلَ ذلك آيةً لهم فافعل والظرفان متعلقان بمحذوفين هما نعتات لِنفقاً وسلماً والأول لمجرد التأكيد إذ النفقُ لا يكون إلا في الأرض أو تبتغي وقد جُوِّز تعلقُهما بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل تبتغي أي أن تبتغي نفقاً كائناً أنت في الأرض أو سلماً كائناً في السماء وفيه من الدلالة على تبالُغِ حِرْصِه عليه الصلاة والسلام على إسلام قومه وتراميه إلى حيث لو قدَر على أن يأتيَ بآيةٍ من تحت الأرض أو من فوق السماء لفعل رجاء لإيمائهم ما لا يخفى وإيثار الابتغاءِ على الاتخاذ ونحوه للإيذانِ بأنَّ ما ذُكر من النفق والسُلّم مما لا يُستطاع ابتغاؤه فكيف باتخاه {وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ على الهدى} أي ولو شاء الله تعالى أن يجمعهم على ما أنتُم عليهِ من الهدى لفعله بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ لعد صَرفِ اختيارِهم إلى جانب الهُدى مع تمكنِّهم التامِّ منه في مشاهدتهم للآياتِ الداعية إليه لا أنه تعالى لم يوفقهم له مع توجُّهِهِم إلى تحصيله وقيل لو شاء الله لجمعهم عليه بأن يأتيَهم بآيةٍ ملجئةٍ إليه ولكن لم يفعلْه لخروجه عن الحِكْمة وقوله تعالى {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من الحرصِ الشديدِ على إسلامِهم والميل إلى إتيان ما يقترحونه من الآيات طمعاً في إيمائهم مرتَّبٌ على بيان عدمِ تعلقِ مشيئتِه تعالى بهدايتهم والمعنى وإذا عرفت أنه تعالى لم يشأ هدايتهم وإيمائهم بأحد الوجهين فلا تكونَنَّ بالحرص الشديدِ على إسلامهم أو الميلِ إلى نزول مقترحاتِهم من الجاهلين بدقائق شئونه تعالى التي من حملتها مَا ذُكر من عدمِ تعلقِ مشيئتِه تعالى بإيمائهم أما اختياراً فلعدم توجُّههم إليه وأما اضطراراً فلخُروجه عن الحكمة التشريعيةِ المؤسسةِ على الاختيار ويجوز أن يُرادَ بالجاهلين على الوجه الثاني المقترِحون ويُراد بالنهْي منعه عليه الصلاة والسلام من المساعدة على اقتراحهم وإيرادُهم بعُنوان الجهل دون الكفر ونحوِه لتحقيق مَناطِ النهْي الذي هو الوصفُ الجامع بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم
تقريرٌ لما مرَّ منْ أنَّ على قلوبهم أكنةً مانعة من الفقه وفي آذانهم وَقراً حاجزاً من السماع وتحقيقٌ لكونهم بذلك من قبيل الموتى لا يُتصور منهم الإيمانُ البتةَ والاستجابةُ الإجابةُ المقارنة للقَبول أي إنما يَقبلُ دعوتَك إلى الإيمان اللذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع تفهم وتدبر جون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الموتى وقوله تعالى {والموتى يَبْعَثُهُمُ الله} تمثيلٌ لاختصاصه تعالى بالقدرة على توفيقهم للإيمان باختصاصه تعالى بالقدرة على بعث الموتى من القبور وقيل بيانٌ لاستمرارهم على الكفر وعدمِ إقلاعهم عنه أصلاً أن الموتى من القبور وقيل بيان مستعارٌ للكفرة بناءً على تشبيه جهلهم بموتهم أي وهؤلاء الكفرة يبعثهم الله تعالى من قبورهم {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} للجزاء فحينئذ يستجيبون وأما قبل ذلك فلا سبيل إليه وقرىء يَرْجِعون على البناءِ للفاعلِ منْ رجَع من رجوعا والمشهورة أو في بحق المقام لإنبائه عن كون مرجِعِهم إليه تعالى بطريق الاضطرار
{وَقَالُواْ لَوْلَا نُزّلَ عَلَيْهِ آية مّن رَّبّهِ} حكايةٌ لبعضٍ آخَرَ من أباطيلهم بعد حكايةِ ما قالُوا في حقِّ القرآن الكريم وبيانِ ما يتعلّق به والقائلون رؤساء قريش وقيل الحرث بن عامر بن نوفل وأصحابُه ولقد بلغت بهم الضلالةُ والطغيان إلى حيث لم يقتنعوا بما شاهدوا من البينات التي تخِرُّ لها صمُّ الجبال حتى اجترءوا على ادِّعاء أنها ليست من قبيل الآياتِ وإنما هي ما اقترحواه من الخوارقِ الملجئةِ أو المُعْقِبة للعذاب كما قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هَذا هُوَ الحقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ الآية والتنزيل بمعنى الإنزال كما ينبىءُ عنْهُ القراءةُ بالتخفيف فيما سيأتي وما يفيده التعرضَ لعنوان ربوبيتِه تعالى له عليه الصلاة والسلام من الإشعار بالعلّية إنما هو بطريق التعريض بالتهكّم من جهتهم وإطلاق الآيةِ في قوله تعالى {قل إِنَّ الله قَادِرٌ على أن ينزل آية} مع أن المرادَ بها ما هو من الخوارق المذكورةِ لا آيةٌ ما من الآيات لفساد المعنى مجاراةً معهم على زعمهم ويجوزُ أنْ يُرادَ بها آيةٌ مُوجبةٌ لهلاكهم كإنزال ملائكةِ العذاب ونحوه على أن تنوينها للتفخيم والتهويل كما أن إظهارَ الاسمِ الجليل لتربية المهابةِ مع ما فيه من الإشعار بعِلّة القُدرة الباهرةِ والاقتصار في الجواب على بيانِ قدرتِهِ تعالَى على تنزيلِها مع أنها ليست في حيز الإنكار للإيذان بأن عدم تنزيله تعالى إياها مع قدوته عليه لحكمةٍ بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون كما ينبىء عنه الاستدراكُ بقوله تعالى {ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي ليسوا من أهل العلم على أن المفعول مطروحٌ بالكلية أو لا يعلمونَ شيئاً على أنه محذوفٌ مدلولٌ عليه بقرينةِ المقام والمعنى أنَّه تعالى قادرٌ على أن ينزل آيةً من ذلك أو آيةً أيَّ آية ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فلا يدرون أن عدمَ تنزيلِها مع ظهور قدرته عليه لما أفي تنزيلها قلْعاً لأساسِ التكليف المبنيِّ على قاعدة الاختيار أو استئصالاً لهم بالكلية فيقترحونها جهلاً ويتخذون عدم تنزيلها ذريعةً إلى التكذيب وتخصيصُ عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضَهم واقفون على حقيقة
الأنعام آية 38 39
الحال وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرةً وعناداً وقوله تعالى
{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض} إلخ كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لبيان كمال قدرتِه عز وجل وشمول علمه وسعةِ تدبيرِه ليكون كالدليل على أنَّه تعالى قادرٌ على تنزيل الآية وإنما لا يُنزِّلُها محافظةً على الحِكَم البالغةِ وزيادةُ من لتأكيد الاستغراق وفي متعلقةٌ بمحذوفٍ هو وصفٌ لدابة مفيد لزيادة التعميم كأنه قيل وكا فردٌ من أفراد الدوابِّ يستقرّ في قُطر من أقطارِ الأرضوكذا زيادةُ الوصف في قوله تعالى {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} مع ما فيه من زيادة التقرير أي ولا طائرٍ من الطيور يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه كما هو المشاهَدُ المعتاد وقرىء ولا طائرٌ بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِّ الجار والمجرور كأنه قيل وما مِنْ دابة ولا طائر {إِلَاّ أُمَمٌ} أي طوائفُ متخالفةٌ والجمع باعتبارِ المَعْنى كأنَّه قيلَ وما مِنْ دوابَّ ولا طيرٍ إلا أممِ {أمثالكم} أي كلُّ أمة منها مثلُكم في أن أحوالها محفوظةٌ وأمورَها مقنَّنة ومصالحَها مرعيةٌ جاريةٌ على سَنن السَّداد ومنتظمةٌ في سلك التقديرات الإلهية والتدبيراتِ الربانية {مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء} يقال فرط الشيء ألأي ضيَّعه وتركه قال ساعدة بن حُوَية معه سِقاءٌ لا يُفرِّط حملَه أي لا يتركه ولا يفارقه ويقال فرّط في الشيء أي أهمل ما ينبغي أن يكون فيه وأغفله فقوله تعالى فِى الكتاب أي في الرقى ن على الأول ظرفُ لغوٍ وقوله تعالى مِن شَىْء مفعول لفرطنا ومن مزيدة للاستغراق أي ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المُهمّة التي من جُملتِها بيانُ أنه تعالى مراعٍ لمصالحِ جميعِ مخلوقاته على ما ينبغي وعلى الثاني مفعول للفعل ومن شيء في موضع المصدر أي ما جعلنا الكتاب مفرَّطاً فيه شيئاً من التفريط بل ذكرنا فيه كلَّ ما لا بد من ذكره وأيا ما كان فالجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبلها وقيل الكتابُ اللوْح فالمراد بالاعتراضِ الإشارة إلى أن أحوالَ الأمم مستقصاةٌ في اللوح المحفوظ غيرُ مقصورة على هذا القدر المُجمل وقرىء فَرَطنا بالتخفيف وقوله تعالى {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} بيانٌ لأحوال الأمم المذكورة في الآخرةِ بعد بيانِ أحوالها في الدنيا وإيرادُ ضميرها على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مُجراهم والتعبير عنها بالأمم أي إلى مالك أمورهم يحشرون يوم القيامة كدأبكم لا إلى غيره فيجازيهم فيُنصِفُ بعضَهم من بعض حتى يبلُغ من عدله أن يأخذ للجّماءِ من القَرْناء وقيل حشرُها موتها ويأباه مقامُ تهويل الخطب وتفظيع الحال وقوله تعالى
{والذين كذبوا بآياتنا} متعلق بقوله تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء والموصول عبارةٌ عن المعهودِين في قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ الايات ومحلُه الرفعُ على الابتداء خبرُه ما بعده أي أوردنا في القرآن جميعَ الأمور المهمة وأزَحْنا به العلل ة والأعذارَ والذين كذبوا بآياتنا
الأنعام آية 40 41
التي هي منه {صُمٌّ} لا يسمعونها سمعَ تدبرٍ وفهمٍ فلذلك يسمّونها أساطيرَ الأولين ولا يعدّونها من الآيات ويقترحون غيرها {وَبُكْمٌ} لا يقدِرون على أن ينطِقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون دعوتك بهَا وقولُهُ تعالَى {فِى الظلمات} أي في ظلمات الكفر أو ظلمات الجهل والعناد والتقليد إما خبر ثان للمبتدأ على أنه عبارةٌ عن العمى كما في قوله تعالى صم بكم عمي وإما متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المستكنِّ في الخبر كأنه قيل ضالون كائنين في الظلمات أو صفةً لبكْم أي بُكم كائنون في الظلمات والمراد به بيانُ كمالِ عراقتهم في الجهل وسوء الحال فإن الأصمَّ الأبكمَ إذا كان بصيراً ربما يَفهم شيئاً بإشارةِ غيرِه وإن لم يفهَمْه بعبارته وكذا يُشعِرُ غيرَه بما في ضميره بالإشارة وإن كان معزولاً عن العبارة وأما إذا كان مع ذلك أعمى أو كان في الظلمات فينسدّ عليه بابُ الفهم والتفهيم بالكلية وقوله تعالى {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} تحقيقٌ للحق وتقريرٌ لما سبق ممن حالهم ببيانِ أنهم من أهل الطبْعِ لا يتأتَّى منهمْ الإيمانُ أصلاً فمَنْ مبتدأ خبره ما بعد ومفعولُ المشيئة محذوفٌ على القاعدة المستمرَّة من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ وانتفاءِ الغرابةِ في تعلقها به أي من يشأ الله إضلالَه أي أن يخلُق فيه الضلالَ يضلِلْه أي يخلُقه فيه لكن لا ابتداءً بطريق الجَبْرِ من غير أن يكونَ له دخلٌ ما في ذلك بل عند صَرْفِ اختياره إلى كَسْبه وتحصيلِه وقِسْ عليه قولُه تعالَى {وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا يضِلُّ من ذهب إليه ولا يزِلُّ من ثبَت قدمُه عليه
{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُبكِّتَهم ويُلقِمَهم الحجرَ بما لا سبيلَ لهم إلى النكير والكاف حرف جيء به لتأكيد الخطاب لا محلَّ له من الإعراب ومبنى التركيب وإن كان على الاستخبار عن الرؤية قلبية كانت أو بصَرية لكنّ المرادَ به الاستخبارُ عن مُتعلَّقِها أي أخبروني {إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} حسبما أتى الأممَ السابقةَ من أنواع العذاب الدنيوي {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} التي لا محيصَ عنها البتة {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} هذا مناطُ الاستخبار ومحطّ التبكيت وقوله تعالى {إِن كُنتُمْ صادقين} متعلق بأرأيتكم مؤكِّد للتبكيت كاشفٌ عن كذبهم وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقة بدِلالة المذكورِ عليهِ أيْ إِن كُنتُمْ صادقين في أن أصنامكم آلهةٌ كما أنها دعواكم المعروفةُ أو إن كنتم قوماً صادقين فأخبروني أغيرَ الله تدعون إن أتاكم عذابُ الله الخ فإن صدقهم بأيِّ معنى كان من موجبات إخبارِهم بدعائهم غيرَه سبحانه وأما جعلُ الجواب ما يدلُّ عليه قولُه تعالى أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ أعني فادعوه على أن الضميرَ لغير الله فمُخِلٌّ بجزالة النظمِ الكريم كيف لا والمطلوبُ منهم إنما هو الإخبارُ بدعائهم غيرَه تعالى عند إتيانِ ما يتأتى لا نفسُ دعائهم إياه وقوله تعالى
{بَلْ إياه تَدْعُونَ} عطفٌ على جملة منفيةٍ ينْبىء عنها الجملةُ التي تعلقَ بها الاستخبارُ إنباءً جلياً كأنه قيل لا غيرَه تعالى تدعون بل غياه تدعون وقوله تعالى {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} أي إلى كشفه عطفٌ على تدعون أي فيكشفه إثرَ دعائِكم وقولُه تعالَى {إِن شَاء الله} أي أنْ شاء كشفَه لبيانِ أن قبولَ دعائِهم غيرُ مطَّردٍ بل هو تابع
الأنعام آية 42 44
لمشيئته المبنيةِ على حِكَمٍ خفية وقد استأثر الله تعالى بعلمها فقد يقبلُه كما في بعض دعواتهم المتعلقةِ بكشف العذاب الدنيوي وقد لا يقبله كما في بعض آخَرَ منها وفي جميع ما يتعلق بكشف العذابِ الأخرويِّ الذي من جملته الساعةُ وقوله تعالى {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} أي تتركون ما تشركونه به تعالى من الأصنامِ تركاً كلياً عطفٌ على تدعون أيضاً وتوسيطُ الكشفِ بينهما مع تقارنهما وتأخُرِ الكشف عنهما لإظهار كمال العناية بشأن الكشفِ والأيذان بترتّبه على الدعاء خاصةً وقولُه تعالى
{ولقد أرسلنا} مكلام مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أن منهم ة من لا يدعو الله تعالى عند إتيانِ العذاب أيضاً لتماديهم في الغيِّ والضلال لا يتأثرون بالزواجر التنزيلة وتصديرُه بالجملة القَسَمية لإظهار مزيدِ الاهتمام بمضمونه ومفعول أرسلنا محذوف لما أنَّ مُقتضى المقام بيانُ حال المرسَل إليهم لا حالِ المرسلين أي وبالله لقد أرسلنا رسلاً {إلى أُمَمٍ} كثيرة {مِن قَبْلِكَ} أي كائنة من زمان قبلَ زمانك {فأخذناهم} أي فكذبوا رسلهم فأخذناهم {بالبأساء} أي بالشدة والفقر {والضراء} أي الضر والآفات وهما صيغنا تأنيثٍ لا مذكر لهما {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي لكي يدعوا الله تعالة في كشفها بالتضرّع والتذلل ويتوبوا إليه من كفرهم ومعاصيهم
{فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} أي فلم يتضرعوا حينئذ مع تحقق ما يستدعيه {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} استدراكٌ عما قبله أي فلم يتضرعوا إليه تعالى برقةِ القلب والخضوع مع تحقق ما يدعوهم إليه ولكن ظهر منهم نقيضُه حيث قستْ قلوبُهم أي استمرتْ على ما هي عليه من القساوة أو ازدادَتْ قساوةً كقولك لم يُكرِمْني إذ جئتُه ولكن أهانني {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان ما كانوا يعملون} من الكفر والمعاصي فلم يُخْطِروا ببالهم أنّ ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله وقيل الاستدراك لبيان أنَّه لم يكُن لهم في ترك التضرُّع عذرٌ سوى قسوةِ قلوبهم والإعجابِ بأعمالهم التي زيَّنها الشيطانُ لهم وقوله تعالى
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ به} عطف على مقدَّرٍ ينساقُ إليه النظمُ الكريمُ أي فانهمَكوا فيه ونسُوا ما ذُكَّروا به من البأساء والضّراء فلما نسوه {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء} من فنون النَّعْماء على منهاج الاستدراج لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال مُكِر بالقوم ورب الكعبة وقرىء فتّحنا بالتشديد للتكثير وفي ترتيب الفتح على النسيان المذكور إشعارٌ بأن التذكر في الجملة غير خالٍ عن النفع وحتى في قولِه تعالى {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} هي التي يُبتدأ بها الكلامُ دخلتْ على الجملةِ الشرطية كما في قوله تعالى حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا الآية ونظائرِه وهي
الأنعام آية 45 47
مع ذلك غاية لقوله تعالى فَتَحْنَا أو لما يدل هو عليه كأنه قيل ففعلوا ما فعلوا حتى إذا اطمأنوا بما أتيح لهم وبطِروا وأشِروا {أخذناهم بَغْتَةً} أي نزل بهم عذابنا فجأةً ليكون أشدَّ عليهم وقعا وأفظع هو لا {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} متحسِّرون غاية الحسرة آيسون من كل هير واجمون وفي الجملة الاسميةِ دلالة على استقرارهم على تلك الحالة الفظيعة
{فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} أي آخِرُهم بحيث لم يبقَ منهم أحد من دبره دبرا ودبورا أي تبعه ووضعُ الظاهر موضعَ الضميرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكم فإن هلاكهم بسبب زلمهم الذي هو وضعُ الكفر موضعَ الشكر وإقامةُ المعاصي مُقامَ الطاعات {والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} على ما جرى عليهم من النَّكال فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث أنه تخليصٌ لأهل الأرض من شؤم عقائدِهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمةٌ جليلة مستجلِبةٌ للحمد لا سيما مع ما فيه من إعلاءِ كلمةِ الحق التي نطقَت بها رسلُهم عليهم السلام
{قل أرأيتم} أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتكرير التبكيت عليهم وتثنيةِ الإلزامِ بعد تكملةِ الإلزامِ الأولِ ببيان أنه أمرٌ مستمرٌ لم يزَلْ جارياً في الأمم وهذا أيضاً استخبارٌ عن متعلَّق الرؤية وإن كان بحسب الظاهر استخباراً عن نفسِ الرؤية {إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم} بأن أصَمّكم وأعماكم بالكلية {وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ} بأن غطى عليها بما لا يبقى لكم معه عقلٌ وفهمٌ أصلاً وتصيرون مجانين ويجوز أن يكون الختمُ عطفاً تفسيرياً للأخذ المذكور فإن السمعَ والبصر طريقان للقلب منهما يرِدُ ما يرِدُه من المدرَكات فأخذهما سد لبابه وهو السرُّ في تقديم أخذِهما على ختمها وأما تقديمُ السمع على الإبصار فلأنه مورِدُ الآياتِ القرآنية وإفرادُه لما أن أصله مصدَرٌ وقوله تعالى {مِنْ إله} مبتدأ وخبر ومن استفهامية وقوله تعالى {غَيْرُ الله} صفةٌ للخبر وقوله تعالى {يَأْتِيكُمْ بِهِ} أي بذاك على أن الضميرَ مستعارٌ لاسم الإشارة أو بما أَخَذ وخَتَم عليه صفةٌ أخرى له والجملة متعلَّقُ الرؤية ومناطُ الاستخبار أي أخبروني إنْ سلب الله مشاعرَكم من إله غيرُه تعالى يأتيكم بها وقوله تعالى {انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم تأثُّرِهم بما عاينوا من الآيات الباهرةِ أي انظر كيف نكرِّرها ونقرِّرها مصروفةً من أسلوب إلى أسلوب تارةً بترتيب المقدِّمات العقلية وتارةً بطريق الترغيب والترهيب وتارةً بالتنبيه والتذكير {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} عطفٌ على نصرِّف داخلٌ في حُكمه وهو العُمدة في التعجيب وثم لاستبعاد صدوفهم أي إعراضِهم عن تلك الآيات بعد تصريفها على هذا النمط البديعِ الموجبِ للإقبال عليها
{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} تبكيتٌ آخَرُ لهم بإلجائهم إلى الاعترافِ باختصاص للعذاب بهم {إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} أي
الأنعام آية 48
عذابُه العاجلُ الخاصُّ بكم كما أتى مَنْ قبلكم من الأممِ {بَغْتَةً} أي فجأةً من غير أن يظهرَ منه مخايِلُ الإتيان وحيثُ تضمّن هذا معنى الخُفية قوبل بقوله تعالى {أَوْ جَهْرَةً} أي بعد ظهورِ أماراتِه وعلائمه وقيل ليلاً أو نهاراً كما في قوله تعالى بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا لما أن الغالبَ فيما أتى ليلاً البغتةُ وفيما أتى نهاراً الجهرةُ وقرىء بغتة أو جهرة وهما في موضع المصدر أي إتيانَ بغتةٍ أو إتيانَ جهرة وتقديمُ البغتة لكونها أهولَ وأفظعَ وقوله تعالى {هَلْ يُهْلَكُ} متعلَّق الاستخبار والاستفهام للتقرير أي قل لهم تقريراً لهم باختصاص الهلاكِ بهم أخبروني إن أتاكم عذابه تعالى حسبما تستحقونه هل يُهلك بذلك العذاب إلا أنتم أي هل يُهلك غيرُكم ممن لا يستحقه وإنما وُضع موضعَه {إِلَاّ القوم الظالمون} تسجيلاً عليهم بالظلم وإيذاناً بأن مناطَ إهلاكهم ظلمُهم الذي هو وضعُهم الكفرَ موضعَ الإيمان وقيل المرادُ بالظالمين الجنسُ وهو داخلون في الحكم دجخولا أولياً قال الزجاج هل يُهلك إلا أنتم ومن اشبهكم ويأباه تخصيص افتيان بهم وقيل الاستفهامُ بمعنى النفي فمتعلَّق الاستخبارِ حينئذ محذوفٌ كأنه قيل أخبروني إن أتاكم عذابه تعالى بغتة أو جهرة مذا يكون الحال ثم قيل بياناً لذلك ما يُهلك إلا القومُ الظالمون أي ما يُهلك بذلك العذاب الخاصِّ بكم إلا أنتم فمن قيَّد الهلاكَ بهلاك التعذيب والسُخط لتحقيق الحصْرِ بإخراج غيرِ الظالمين لِما أنه ليس بطريقِ التعذيب والسَّخَطِ بل بطريق الإثابة ورفع الدرجة فقد أهمل ما يُجْديه واشتغل بما لا يعينه وأخلَّ بجزالة النظم الكريم وقرىء هل يَهلِك من الثلاثي
{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيانِ وظائفِ منْصِبِ الرسالة على الإطلاق وتحقيقِ ما في عُهدة الرسلِ عليهم السلام وإظهارُ أن ما يقترحه الكفرةُ عليه عليه السلام ليس مما يتعلقُ بالرسالة أصلاً وصيغةُ المضارع لبيانِ أن ذلك أمرٌ مستمرٌّ جرتْ عليه العادةُ الإلهية وقوله تعالى {إِلَاّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} حالات مقدّرتان من المُرْسلين أي ما نرسِلُهم إلا مقدَّراً تبشيرُهم وإنذارُهم ففيهما معنى العلة الغائبة قطعاً أي ليبشروا قومَهم بالثواب على الطاعة وينذروهم بالعذاب على المعصية أي ليُخبروهم بالخبر السار والخبرِ الضارّ دنيويا كان أو أخرويا من غير أن يكون لهم دخلٌ ما في وقوع المخبَر به أصلاً وعليه يدور القصر والإ لزم أن لا يكون بيان الشرائع والأحكام من وظائف الرسالة والفاء في قوله تعالى {فمن آمن وَأَصْلَحَ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها ومن موصوله والفاء في قوله تعالى {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} لشَبَه الموصول بالشرط أي لا خوف عليهم من العذاب الذي أُنذِروه دنيوياً كان أو أخروياً ولا هم يحزنون بفوات ما بُشِّروا به من الثواب العاجل والآجل وتقديمُ نفْيِ الخوفِ على نفْيِ الحُزْن لمراعاة حقِّ المقام وجمعُ الضمائر الثلاثة الراجعة إلى مَنْ باعتبارِ معناها كما أنَّ إفرادَ الضميرَيْن السابقين باعتبار لفظها أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون والمرادُ بيانُ دوام انتفاءِ دوامِهما كما يُوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانية مضارعا
الأنعام آية 49 50
لما تقرر في موضعه من أن النفيَ وإن دخل على نفس المضارع يُفيد الدوام والاستمرارَ بحسب المقام ألا يُرى أن الجملةَ الاسميةَ تدلُّ بمعونة المقام على استمرار الثبوت فإذا دخل عليها حرفُ النفي دلت على استمرار الانتفاءِ لا على انتفاء الاستمرار كذلك المضارعُ الخاليَ عن حرف النفي يفيد استمرار الثبوت فإذا دخل عليه حرفُ النفي يفيد استمرارَ الانتفاء لا انتفاء الاستمرار ولا بُعْد في ذلكَ فإن قولك ما زيداً ضربت مفيدٌ لاختصاص النفي لا نفي الاختصاص كما بُيّن في محله وقوله عز وجل
{الذين كانوا} عطفٌ على مَنْ آمن دالخل في حكمه قوله تعالى {بآياتنا} إشارى ة إلى أن ما ينطِقُ به الرسلُ عليهم السلام عند التبشير والإنذار ويبلّغونه إلى الأمم ى ياته تعالى وأن من آمن به فقد آمن بآياته تعالى ومن كذب به فقد كذب بها وفيهِ من الترغيبِ في الإيمان به والتحذيرِ عن تكذيبه ما لا يخفى والمعنى ما نرسل المرسلين إلا ليُخبروا أممهم من جهتنا بما سيقع منا من الأمور السارّة والضارّة لا ليُوقعوها استقلالاً من تلقاء أنفسهم أو استدعاءً من قِبَلِنا حتى يقترحوا عليهم ما يقترحون فإذا كان الأمرُ كذلك فمن ى من بما أَخبروا به من قبلنا تبشيراً أو إنذاراً في ضمن آياتنا وأصلح ما يجب إصلاحُه من أعماله أو دخل في الصلاح فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا التي بُلِّغوها عند التبشير والإنذار {يَمَسُّهُمُ العذاب} أي العذاب الذي أُنذِروه عاجلاً أو آجلاً أو حقيقةُ العذاب وجنسُه المنتظمُ له انتظاماً أولياً {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي بسبب فسقهم المستمر الذي هو الإصرارُ على الخروج عن التصديق والطاعة
{قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله} استئنافٌ مبنيٌّ على ما أسِّسَ من السنة الإلهية في شأنِ إرسالِ الرسل وإنزالِ الكتب مسوق لإظهار تبرئه صلى الله عليه وسلم عما يدورُ عليه مقترحاتُهم أي قل للكفرة الذين يقترحون عليك تارةً تنزيلَ الآياتِ وأخرى غيرَ ذلك لا أدَّعي أن خزائنَ مقدوراتِه تعالى مُفوَّضةٌ إلي أتصرف فيهما كيفما شاء استقلالاً أو استدعاءً حتى تقترحوا عليّ تنزيلَ الآياتِ أو إنزالَ العذاب أو قلبَ الجبال ذهباً أو غير ذلك مما لا يليق بشأني وجعلُ هذا تبرُّؤاً عن دعوى الإلهية مما لا وجهَ لَهُ قطعاً وقوله تعالى {وَلَا أَعْلَمُ الغيب} عطفٌ على محلَّ عندي خزائنُ الله أي ولا أدّعي أيضاً أني أعلم الغيبَ من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت نزول العذاب أو نحوهما {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ} حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقةِ للعادات ما لا يطيق به البشرُ من الرُقيِّ في السماء ونحوه أو تعدوا عدمَ اتّصافي بصفاتهم قادحاً في أمري كما ينبىء عنه قولهم مال هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الاسواق والمعنى إني لا أدعي شيئا من هذه الأشياء الثلاثة حتنى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها وتجعلوا عدمَ إجابتي إلى ذلك دليلا على عد صحةِ ما أدَّعيه من الرسالة التي لا تعلُّقَ لها بشيء مما ذُكر قطعاً بل إنما هي
الأنعام آية 51
عبارةٌ عن تلقِّي الوحْي من جهةِ الله عز وجل والعملِ بمقتضاه فحسْب حسْبما ينبيء عنه قوله تعالى {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يوحى إِلَىَّ} لا على معنى تخصيص اتباعه صلى الله عليه وسلم بما يوحى إليه دون غيرِه بتوجيِه القَصْر إلى المفعول بالقياس إلى مفعولٍ آخرَ كما هو الاستعمالُ الشائعُ الواردُ على توجيه القصْر إلى ما يتعلَّق بالفعلِ باعتبار النفي في الأصل والإثبات في القيد بل على معنى تخصيص حاله صلى الله عليه وسلم باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصرِ إلى نفسِ الفعلِ بالقياس إلى ما يغرّه من الأفعالِ لكن لا باعتبار النَّفي والإثباتِ معاً في خصوصية فإن ذلك غيرُ ممكنٍ قطعاً بل باعتبار النفي فيما يتضمنه من مطلق القعل والإثباتِ فيما يقارنه من المعنى المخصُوص فإنَّ كلَّ فعلٍ من الأفعال الخاصَّةِ كنصر مثلاً ينحلُّ عند التَّحقيقِ إلى معنى مطلقٍ هو مدلولُ لفظِ الفعلِ وإلى معنى خاص يقومه فإن معناه فصل النصْرَ يُرشدك إلى ذلك قولُهم معنى فلانٌ يُعطي ويَمنعُ يفعلُ الإعطاءَ والمنعَ فموردُ القصرِ في الحقيقةِ ما يتعلق بتوجيه النفي إلى الأصل والإثباتِ إلى القيد كأنه قيل ما أفعلُ إلا اتباعَ ما يُوحَى إليَّ من غير أن يكون لي مدخَلٌ ما في الوحي أو في الموحى بطريق الاستدعاء أو بوجهٍ آخرَ من الوجوه أصلاً {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} مثل للضال والمهتدي على الإطلاق والاستفهام إنكاري والمراد إنكاري استواءِ مَنْ لا يعلم ما ذُكر من الحقائق ومن يعلمُها وفيه من الإشعار بكمالِ ظهورِها ومن التنفير عن الضلالِ والترغيب في الاهتداء ما لا يَخْفى وتكريرُ الأمر لتثنية التبكيتِ وتأكيدِ الإلزام وقوله تعالى {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} تقريعٌ وتوبيخٌ داخلٌ تحت الأمر والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي لا تَسْمَعُونَ هذا الكلامَ الحقَّ فلا تتفكرون فيم أو أتسمعون فلا تتفكرون فيه فمناطُ التوبيخِ في الأول عدمُ الأمرَيْنِ معاً وفي الثَّانِي عدمُ التفكر مع تحقق ما يوجيه
{وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ} بعد ما حكَى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن من الكفرة قوماً لا يتعظون بتصريف الآيات الباهرة ولا يتأثرون بمشاهدة المعجزات القاهرة قد إيفت مشاعرُهم بالكلية والتحقوا بالأموات وقرَّر ذلك بأن كرَّر عليهم من فنون التبكيت والإلزام ما يُلقِمُهم الحجرَ أي غلقام فأبَوا إلا الإباءَ والنكيرَ وما نجَع فيهم عِظةٌ ولا تذكير ة وما أفادهم الإنذارُ إلا افصرار على الإنكار أُمرَ عليه الصلاة والسلام بتوجيه الإنذار إلى مَنْ يتوقعُ منهم التأثرَ في الجملة وهم المحجوزون منهم للحشر على الوجه الآتي سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعضِ المشركين المعترفين بالبعث المتردِّدين في شفاعة آبائهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالأولين أو في شفاعة الأصنام كالآخِرين أو متردّدين فيهما معاً كبعض الكفرة الذين يُعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقاً وأما المنكرون للحشر رأساً والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم وقد قيل هم المفرِّطون في الأعمال من المؤمنين ولا يساعدُه سِباقُ النَّظم الكريمِ ولا سياقه بل فيه ما يقضي باستحالة صحته كما ستقف عليه
الأنعام آية 52
والضميرُ المجرورُ لما يوحى أو لما دَلَّ هو عليهِ من القرآن والمفعولُ الثاني للإنذار إما العذابَ الأخرويَّ المدلولَ عليه بما في حيز الصلة وإما مطلقَ العذابَ الذي وردَ به الوعيدُ والتعرّضُ لعنوان الربوبية المنبشة عن المالكية المطلقة والتصرف اكلي لتربية المهابة وتحقيق المخافة وقوله تعالى {لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلَا شفيع} في حين النصب على الحالية من ضمير يحشروا ومن متنعلقة بمحذوفٍ وقعَ حالاً من اسم ليس لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له فلما قد عليه انتصب حالاً خلا أن الحال الأولى لإخراج الحشر الذي لم يقيد بها عن حيز الخوف وتحقيقِ أن ما نيط به الخوفُ هو الحشر على تلك الحالة لا الحشرُ كيفما كان ضرورةَ أن المعترفين به الجازمين بنُصرة غيرِه تعالى بمنزلةِ المنكرين له في عدم الخوفِ الذي عليه يدورُ أمرُ الإنذار وأما الحالُ الثانية فليست لإخراج الوليِّ الذي لم يقيد بها عن حيز الانتفاء لفساد المعنى لاستلزام ثبوتِ ولايتِه تعالى لهم كما في قوله تعالى ومالكم من دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلَا نَصِيرٍ بل لتحقيق مدارِ خوفهم وهو فُقدان ما علّقوا به رجاءَهم وذلك إنما هو ولايةُ غيرِه سبحانه وتعالى في قوله تعالى وَمَن لَاّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارض وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء والمعنى أنذر به الذين يخافون أن يحشروا غيرَ منصورين من جهة أنصارهم على زعمهم ومن هذا اتضح أن لا سبيلَ إلى كون المرادِ بالخائفين المفرِّطين من المؤمنين غذ ليس لهم والي سواه تعالى ليخافوا الحشرَ بدون نصرته وإنما الذي يخافونه الحشرَ بدون نُصرته وإنما الذي يخافونه الحشر بدون نصرته عز وجل وقولُه تعالَى {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} تعليل للأمر أي أنذرهم مرجواً منهم التقوى
{وَلَا تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى} لما أمر صلى الله عليه وسلم بإنذار المذكورين لينتظموا في سلك المتقين نهي صلى الله عليه وسلم عن كون ذلك بحيث يؤدي إلى طردهم رُوي أن رؤساءَ من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو طردتَ هؤلاء الأعبُدَ وأرواحَ جبابهم يعنون فقراءَ المسلمين كعمارٍ وصهيبٍ وخبابٍ وسَلمانَ وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم جلسنا إليك وحادثناك فقال صلى الله عليه وسلم ما أنا بطارد المؤمنين فقالوا فأقِمْهم عنا إذا جئنا فإذا قُمنا فأقعِدْهم معك إن شئت قال صلى الله عليه وسلم نعم طمعاً في إيمانهم ورُوي أن عُمر رضي الله تعالى عنه قالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام لو فعلتَ حتى تنظرَ إلى ما يصيرون وقيل إن عُتبةَ بنَ ربيعةَ وشيبةَ بنَ ربيعةَ ومُطعِمَ بن عدي والحرث بنَ نوفل وقرصةَ بنَ عبيد وعمروَ بنَ نوفل وأشرافَ بني عبد مناف من أهل الكفر أتَوا أبا طالب فقالوا يا أبا طالب لو أن ابنَ أخيك محمداً يطرُد موالينا وحلفاءناوهم عبيدنا وتقاؤنا كان أعظمَ في صدورنا وأدنى لاتّباعنا إياه فأتى أبو طالب إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه فقال عمرُ رضي الله عنه لو فعلتَ ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون إلى ما يصيرون وقال سلمان وخباب فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرعُ بنُ حابسٍ التميميث وعُيَيْنةُ بنُ حِصْنٍ الفزاريُّ وعباس بن مرداس وذو وهم من المؤلفة قلوبهم
الأنعام آية 53
فوجدوا النبيِّ صلى الله عليه وسلم جالساً مع أناسٍ من ضعفاءِ المؤمنين فلما رأوهم حوله صلى الله عليه وسلم حقروهم فأتوه عليه الصلاة والسلام فقالُوا يا رسولَ الله لو جلستَ في صدر المجلس ونفَيْتَ عنا هؤلاء وأرواحَ جبابهم فجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك فقال صلى الله عليه وسلم ما أنا بطارد المؤمنين قالوا فإنا نحب أن تجعل لنا معك مجلساً تعرِفْ لنا به العربُ فضلَنا فإن وفودَ العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبُد فإذا نجحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فعد معهم إن شئت قال صلى الله عليه وسلم نعم قالوا فاطكتب لنا كتاباً فدعا بالصحيفة وبعليَ رضي الله تعالى عنه ليكتبَ ونحن قعود ي ناحية فنزلَ جبريلُ عليه السلام بالآية فرمى عليه السلام بالصحيفة ودعانا فأتيناه وجلسنا عنده وكنا ندنو منه حتى تمس ركبتنا رُكبتَه وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال الحمد لله الذي لم يتمنى حتى أمرني أن أصبِرَ نفسي مع قومٍ من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات والمرادُ بذكر الوقتين الدوامُ وقيل صلاةُ الفجر والعصر وقرىء بالغُدوة وقوله تعالى {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} حال من ضمير يدعون أي يدعونه تعالى مخلصين له فيه وتقييدُه به لتأكيد علِّيتِه للنهي فإن الإخلاصَ من أقوى موجبات الإكرام المضادِّ للطرد وقوله تعالى {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء} اعتراضٌ وُسِّط بين النهي وجوابه تقريراً له ودفعاً لما عسى يُتوَهم كونُه مسوِّغاً لطردهم من أقاويلِ الطاعنين في دينهم كدأب قوم نوحٍ حيث قالوا مَا نَرَاكَ اتبعك إِلَاّ الذين هُمْ أراذلنا بادجى الرأى أي ما عليك شيءٌ ما مِنْ حساب إيمانهم وأعمالِهم الباطنة حتى تتصدى له وتبنى على ذلك ما تراه من الأحكام وإنما وظيفتُك حسبما هو شأنُ منصِبِ النبوة اعتبارُ ظواهرِ الأعمال وإجراءُ الأحكام على موجبها وأما بواطنُ الأمور فحسابُها على العليم بذات الصدور كقوله تعالى إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَاّ على رَبّى وذكرُ قوله تعالى {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء} مع أن الجوابَ قد تم بما قبله للمبالغةِ في بيانِ انتفاءِ كون حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم بنظمه في سلك ما لا شُبهة فيه أصلاً وهو انتفاءُ كونِ حسابه صلى الله عليه وسلم عليهم على طريقة قولِه تعالى لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ وأما ما قيل من أن ذلك لتنزيل الجملتين منزلةَ جملةٍ واحدةٍ لتأدية معنى واحدٍ على نهج قوله تعالى وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى فغيرُ حقيقٍ بجلالة شأن التنزيل وتقديم عليك في الجملة الأولى للقصدج إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به صلى الله عليه وسلم إذ هو الجاعي إلى تصدية صلى الله عليه وسلم لحسابهم وقيل الضميرُ للمشركين والمعنى أنك لا تؤاخَذُ بحسابهم حتى يُهمَّك إيمانُهم ويدعُوَك الحِرْصُ عليه إلى أن تطرُدَ المؤمنين وقوله تعالى {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي وقوله تعالى {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} جواب النهي وقد جُوِّز عطفُه على فتطردَهم على طكريقة التسبيب وليس بذاك
{وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} استئنافٌ مبينٌ لما نشأ عنه ما سبق من النهي وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ ما بعده من الفعل الذي هو عبارةٌ عن تقديمه لفقراء المؤمنين في أمر الدين بتوفيقهم للإيمان
الأنعام آية 54
مع ما هم عليه في أمر الدنيا من كمال سوء الحال وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ درجتِه المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الكمال والكاف مُقحَمَةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُها في الأصلِ النصبُ على أنه نعتٌ لمصدرٍ مؤكّدٍ محذوف والتقدير فتنا بعضَهم ببعض فتوناً كائناً مثلَ ذلك الفتون ثم قُدّم على الفعلِ لإفادة القصِر المفيدِ لعدم القصور فقط واعتُبرت الكافُ مُقحَمةً فصار نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له والمعنى ذلك الفتونَ الكاملَ البديعَ فتنّا أي ابتلَينا بعضَ الناس ببعضهم لا فتوناً غيره حيث قدمنا الآخِرين في أمر الدينِ على الأولين المتقدَّمين عليهم في أمر الدنيا تقدماً كلياً واللام في قوله تعالى {لّيَقُولواْ} للعاقبة أي ليقول البعضُ الأولين مُشيرين إلى الآخِرين محقِّرين لهم نظراً إلى ما بينهما من التفاوت الفاحشِ الدنيوي وتعامياً عما هو مَناطُ التفضيلِ حقيقةً {أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا} بأن وفّقهم لإصابة الحق ولما يصعجهم عنده تعالى من دوننا ونحن المقدَّمون والرؤساء وهم العبيدُ والفقراء وغرضُهم بذلك إنكارُ وقوعِ المنِّ رأساً على طريقة قولِهم لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ لا تحقيرُ الممنونِ عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراضِ عليه تعالى وقولُه تعالى {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} ردٌّ لقولهم ذلك وإبطال له وإشارةٌ إلى أن مدارَ استحقاقِ الإنعامِ معرفةُ شأنِ النعمةِ والاعترافُ بحق المُنعِم والاستفهامُ لتقرير علمه البالغِ بذلك أي أليس الله بأعلمَ بالشاكرين لِنِعَمِه حتى تستبعِدوا إنعامَه عليهم وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاءَ عارفون بحقِّ نِعَم الله تعالى في تنزيل القرآنِ والتوفيقِ للإيمان شاكرون له تعالى على ذلك مع التعريض بأن القائلين بمعزلٍ من ذلك كله ما لا يخفى
{وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بآياتنا} هم الذين نُهيَ عن طردهم وُصِفوا بالإيمان بآيات الله عز وجل كما وُصفوا بالمداومة على عبادته تعالى بالإخلاص تنبيهاً على إحرازهم لفضيلتَي العلم والعمل وتأخيرُ هذا الوصفِ مع تقدمه على الوصف الأولِ لما أن مدارَ الوعدِ بالرحمة والمغفرة هو الإيمانُ بها كما أن مناطَ النهْي عن الطرد فيما سبق هو المداومةُ على العبادة وقوله تعالى {فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} أمرٌ بتبشيرهم بالسلام عن كل مكروهٍ بعد إنذارِ مُقابليهم وقيل بتبليغ سلامِه تعالى إليهم وقيل بأن يبدأَهم بالسلام وقوله تعالى {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} أي قضاها وأوجبَها على ذاته المقدسةِ بطريق التفضّل والإحسانِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ ما أصلا تبشير لهم بسَعَة رحمتِه تعالى وبنيل المطالبِ إثرَ تبشيرِهم بالسلامة عن المكاره وقبولِه التوبة منهم وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافةِ إلى ضميرِهم إظهارُ اللطفِ بهم والإشعارُ بعلّة الحُكْم وقيل إن قوماً جاءوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا أصبْنا ذُنوباً عظاما فلم يرد على أنه تفسيرٌ للرحمة بطريق الاستئناف وقوله تعالى {بِجَهَالَةٍ} حال من فاعل عمل أي عمله وهو جاهلٌ بحقيقة ما يتبعه من المضارِّ والتقييدُ بذلك للإيذان بأن المؤمنَ لا يباشر ما يعلمُ أنه
الأنعام آية 55 57
يؤدي إلى الضرر أو عمله ملتبسا بجهالة {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} أي من بعد مله أو من بعد سَفَهِه {وَأَصْلَحَ} أي ما أفسده تدارُكاً وعزْماً على أن لا يعودَ إليه أبداً {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي فأمرُه أنه غفور رحيم أو فله أنه غفور رحيم وقُرىء فإنَّه بالكسرِ على أنه استئنافٌ وقع في صدر الجملة الواقعةِ خبراً لمن على أنَّها موصولةٌ أو جوابا لها على أنها شرطية
{وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الايات} قد مر آنفاً ما فيه من الكلام أي هذا التفصيلِ البديعِ نُفَصّلُ الآيات في صفة أهل الطاعةِ وأهل الإجرام المُصرِّين منهم والأوابين {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} بتأنيث الفعلِ بناءً على تأنيث الفاعل وقرىء بالتذكير بناءً على تذكيره فإن السبيلَ ممَّا يُذكِّرُ ويُؤنَّثُ وهو عطفٌ على علة محذوفةٍ للفعل المذكورِ لم يُقصَدْ تعليلُه بها بعينها وإنما قُصد الإشعارُ بأن له فوائدَ جمّةً مِنْ جُمْلتها ما ذُكر أو علةٌ لفعل مقدرٍ هو عبارة عن المذكور فيكون مستأنَفاً أي ولتستبين سبيلَهم نفعلُ ما نفعل من التفصيل وقرىء بنصب السبيلَ على أن العف متعدَ وتاؤُه للخطاب أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيلَ المجرمين فتعامِلَهم بما يليق بهم
{قُلْ إِنّى نُهِيتُ} أُمر صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مخاطبة المُصِرّين على الشرك إثرَ ما أُمر بمعاملة مَنْ عداهُم من أهلِ الإنذار والتبشيرِ بما يليق بحالهم أي قل لهم قطعاً لأطماعهم الفارغة عن ركونه صلى الله عليه وسلم إليهم وبياناً لكون ما هم عليه من الدين هوىً محضاً وضلالاً بحتاً إني صُرفتُ وزُجِرْت بما نُصب لي من الأدلة وأُنزل علي من الآيات في أمر التوحيد {أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ} أي عن عبادة ما تعبدونه {مِن دُونِ الله} كائناً ما كان {قُلْ} كَرر الأمرَ مع قرب العهد اعتناء بشأن المأمور به أو غيذانا باختلاف المَقولَيْن من حيث إن الأولَ حكايةٌ لِما منْ جهتِه تعالَى منْ النهي والثاني حكايةٌ لما من جهته صلى الله عليه وسلم من الانتهاء عما ذُكر من عبادة ما يعبدونه وإنما قيل {لَاّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ} استجهالاً لهم وتنصيصاً على أنهم فيما هم فيه تابعون لأهواءَ باطلةٍ وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلاً وإشعاراً بما يوجب النهيَ والانتهاءَ وقوله تعالى {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} استئنافٌ مؤكِّد لانتهائه عما نهي عنه مقرِّر لكونهم في غاية الضلال والغَواية أي إن اتبعتُ أهواءكم فقد ضللت وقولُه تعالَى {وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين} عطفٌ على ما قبله والعدولُ إلى الجُملةِ الاسميَّةِ للدلالة على الدوام والاستمرار رأي دوامِ النفْي واستمرارِه لا نفْيِ الدوام والاستمرار كما مرَّ مراراً أي ما أنا في شيء من الهدى حين أكون في عِدادهم وقوله تعالى
{قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ} تحقيقٌ للحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان لاتباعه غياه إثر إبطال الباطل الذي عليهالكفرة وبيان عدم
2 -
الأنعام آية 58
اتباعه والبينةُ الحجةُ الواضحةُ التي تفصِلُ بين الحق والباطل والمرادُ بها القرآنُ والوحْيُ وقيل هو الحججُ العقلية أو ما يعمُّها ولا يساعدُه المقامُ والتنوينُ للتفخيم وقولُه تعالى {مّن رَّبّى} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لبينة مؤكدة لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التشريفِ ورفعِ المنزلة ما لا يخفى وقوله تعالى {وَكَذَّبْتُم بِهِ} إما جملةٌ مستأنفة أو حاليةٌ بتقدير قد أو بدونه جىء بها الاستقباح مضمونها واستيعاد وقوعِه مع تحقق ما يقتضي عدمَه من غاية وضوحِ البينة والضميرُ المجرورُ اللبينة والتذكير باعتبار المعنى لمراد والمعنى إني على بينةٍ عظيمة كائنةٍ من ربي وكذبتم بها وبما فيها من الأخبار التي من جملتها الوعيدُ بمجيء العذاب وقولُه تعالى {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} استئنافٌ مبينٌ لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بها وهو عدمُ مجيءِ ما وَعد فيها من العذابِ الذي كانُوا يستعجلونه بقولهم متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين بطريق الاستهزاءِ أو بطريق الإلزامِ على زعمهم أي ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعودِ في القرآنِ وتجعلون تأخُّرَه ذريعةً إلى تكذيبه في حُكمي وقدرتي حتى أَجيءَ به وأُظهرَ لكم صِدْقَه أو ليس أمرُه بمُفوَّضٍ إلي {إِنِ الحكم} أي ما الحكمُ في ذلك تعجيلاً وتأخيراً أو ما الحكمُ في جميع الأشياء فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً {إِلَا لِلَّهِ} وحده من غير أن يكون لغيره دخْلٌ ما فيه بوجه من الوجوه وقولُه تعالى {يَقُصُّ الحق} أي يتبعه بيان لشئونه تعالى في حكم المعهودِ أو في جميع أحكامِه المنتظمةِ له انتظاماً أولياً أي لا يَحكُم إلا بما هو حقٌّ فيُثبتُ حقيقة التأخير وقرىء يقضي فانتصابُ الحقَّ حينئذٍ على المصدية أي يقضي القضاءَ الحقَّ أو على المفعولية أي يصنعُ الحقَّ ويدبرُه من قولهم قضى الدِّرعَ إذا صنعها وأصلُ القضاءِ الفصلُ بتمام الأمرِ وأصلُ الحُكمِ المنعُ فكأنه يمنعُ الباطل عن معارَضةِ الحقِّ أو الخصمِ عن التعدِّي على صاحبه {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشيرٌ إلى أن قص الحق ههنا بطريق خاصَ هو الفصلُ بين الحقِّ والباطلِ هذا هُو الذي تستدعيهِ جزالة التنزيلِ وقد قيل إن المعنى إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه على حجةٍ واضحةٍ وشاهدِ صدقٍ وكذبتم به أنتم حيث أشركتم به تعالى غيرَه وأنت خبيرٌ بأن مساق النظم الكرين فيما سبقَ وما لحقَ على وصفهم بتكذيب آياتِ الله تعالى بسبب عدمِ مجيءِ العذاب الموعودِ فيها فتكذيبُهم به سبحانه في أمر التوحيد مما لا تعلُّقَ له بالمقامِ أصلاً
{قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى} أي في قدرتي ومِكْنتي {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذابَ الذي وردَ به الوعيد بأن يكون أمرُه مفوّضاً إلي من جهته تعالى {لَقُضِىَ الامر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} أي بأن ينزِلَ ذلك عليكم إثرَ استعجالِكم بقولكم متى هذا الوعد ونظائرِه وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعيُّن الفاعِلِ الذي هو الله تعالى وتهويلِ الأمر ومراعاةِ حسنِ الأدب ما لا يخفى فما قيل في تفسيره لأهلكتُكم عاجلاً غضباً لربي ولتخلصْتُ منكم سريعاً بمعزلٍ من تَوْفِيةِ المقام حقَّه وقولُه تعالى {والله أَعْلَمُ بالظالمين} اعتراضٌ مقرِّرٌ لِما أفادتْه الجملةُ الامتناعية من انتفاءِ كونِ أمرِ العذاب مفوضا إليه صلى الله عليه وسلم المستتبِع لانتفاء قضاءِ الأمر وتعليل له والمعنى
الأنعام 59 60
والله تعالى أعلم بحال الظالمين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب ولذلك لم يفوِّضِ الأمرَ إليّ فلم يقضِ الأمرَ بتعجيل العذاب والله أعلم
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} بيانٌ لاختصاص المقدوراتِ الغيبية به تعالى من حيثُ العلم غثر بيانِ اختصاصِ كلِّها به تعالى من حيثُ القدرةُ والمفاتحُ إما جمعُ مفتَح بفتح الميم وهو المخزَن فهو مستعارٌ لمكان الغيب كأنها مخازِنُ خُزِنت فيها الأمورُ الغيبيةُ يُغلق عليها ويُفْتَح وإما جمعُ مفتِح بكسرها وهو المفتاح ويُؤيده قراءةُ مَنْ قرأَ مفاتيحُ الغيب فهو مستعارٌ لما يُتوصَّلُ به إلى تلك الأمورِ بناءً على الاستعارة الأولى أي عنده تعالى خاصةُ خزائنِ غُيوبِه أو ما يُتوصّل به إليها وقولُه عز وجل {لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ} تأكيدٌ لمضمونِ ما قبله وإيذانٌ بأن المرادَ هو الاختصاصُ من حيث العلمُ لا من حيث القدرةُ والمعنى أن ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدوراً لي حتى أُلزِمَكم بتعجيله ولا معلوماً لديّ لأُخبرَكم وقتَ نزولِه بل هو مما يَختصُّ به تعالى قدرة وعلما فينزله حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَم والمصالح وقولُه تعالى {وَيَعْلَمُ مَا فِى البر والبحر} بيان لتعلّق علمِه تعالى بالمشاهَدات إثرَ بيان تعلُّقِه بالمغيَّباتِ تكملةً له وتنبيهاً على أن الكلَّ بالنسبة إلى علمِه المحيطِ سواءٌ في الجَلاءِ أي يعلمُ مَا فِيهمَا مِنَ الموجودات مُفصّلةً على اختلاف أجناسِها وأنواعِها وتكثُّرِ أفرادِها وقولُه تعالى {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا} بيانٌ لتعلُّقه بأحوالها المتغيَّرةِ بعد بيانِ تعلقِه بذواتها فإن تخصيصَ حالِ السقوطِ بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاءِ بذكرها عن ذكر سائر الأحوال كما أن ذكرَ حالِ الورقةِ وما عُطفَ عليها خاصةً دون أحوالِ سائرِ ما فيهما من فنونِ الموجودات الفائتة للحصر باعتبارِ أنها أُنموذَجٌ لأحوال سائرِها وقولُه تعالى {وَلَا حَبَّةٍ} عطفٌ على ورقةٍ وقولُه تعالى {فِى ظلمات الارض} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لحبة مفيدة لكما نفوذِ علمِه تعالى أي ولا حبةٍ كائنةٍ في بطونِ الأرض إلا يعلمها وكذا قوله تعالة {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} معطوفان عليها داخلان في حُكمها وقولُه تعالى {إِلَاّ فِى كتاب مُّبِينٍ} بدلٌ من الاستثناءِ الأول بدلَ الكلِّ على أن الكتابَ المُبِينَ عبارةٌ عن علمه تعالى أو بدلَ الاشتمالِ على أنه عبارةٌ عن اللوحِ المحفوظ وقرىء الأخيران بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِّ من ورقة وقيل رفعُهما بالابتداء والخبرُ إِلَاّ فِى كتاب مُّبِينٍ وهو الأنسبُ بالمقام لشمول الرطبِ واليابس حينئذ لِما ليس من شأنه السقوطُ وقد نُقل قراءةُ الرفعِ في ولا حبةٌ أيضاً
{وهو الذي يتوفاكم بالليل} أي يُنيمُكم فيه على استعارة التوفِّي من الإماتة للإنامة لما بين الموتِ والنومِ من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز وأصله قبضُ الشيء بتمامه {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} أي ما كسبتم
الأنعام آية 61
فيه المراد بالليل والنهار الجنسُ المتحقِّق في كل فردٍ من أفرادهما بالتوفي والبعث الوجدين فيها يتحققُ قضاءُ الأجلِ المسمَّى المترتبِ عليها لا في بعضِها والمرادُ بعلمه تعالى ذلك علمُه قبل الجَرْحِ كما يلوحُ به تقديمُ ذكره على البعث أي يعلم ما تجرَحون بالنهار وصيغة الماضي الجلالة على التحقّق وتخصيصُ التوفي بالليل والجَرْحِ بالنهار مع تحقّق كلَ منهما فيما خُصَّ بالآخر للجَرْي على سَنن العادة {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي يوقظكم في النهار عطفٌ على يتوفاكم وتوسيطُ قوله تعالى وَيَعْلَمَ الخ بينهما لبيان ما في بعثهم من عظيمِ الإحسانِ إليهم بالتنبيه على أن ما يكتسبونه من السيئات مع كونها موجبةً لإبقائهم على التوفّي بل لإهلاكهم بالمرة يُفيض عليهم الحياة ويُمهلُهم كما ينبىء عنه كلمةُ التراخي كأنه قيل هو الذي يتوفاكم في جنس الليالي ثم يبعثكم في جنس النهر مع علمه بما ستجرَحون فيها {ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى} معين لكل فرد بحيث لايكاد يتخطى أحدٌ ما عُيِّن له طرفةَ عينٍ {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي رجوعُكم بالموت لا إلى غيره أصلاً {ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بالمجازاة بأعمالكم التي كنتم تعملونها في تلكَ الليالِي والأيامِ وقيل الخطابُ مخصوصٌ بالكفرة والمعنى أنكم مُلقَوْن كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار وأنه تعالى مطّلعٌ على أعمالكم يبعثكم الله من القبور في شأن ما قطعتم به أعمارَكم من النوم بالليل وكسْبِ الآثامِ بالنهار ليقضى الأجلُ الذي سماه وضَرَبه لبعث الموتى وجزائِهم على أعمالهم وفيه ما لا يَخفْى من التكلف والإخلالِ لإفضائه إلى كون البعث معلَّلاً بقضاء الأجلِ المضروب له
{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} أي هو المتصرِّفُ في أمورهم لاغيره يفعل بهم ما ييشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وتعذيباً وإثابةً إلى غير ذلك {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم} خاصة أيها المكلفون {حَفَظَةً} من الملائكة وهم الكرام الكاتبون وعليكم متعلقٌ بيُرسل لما فيه من معنى الاستيلاء وتقديمُه على المفعولِ الصريحِ لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقيل متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من حفظة إذ لو تأخر لكان صفة أي كائنين عليكم وقيل متعلق بحفظةً والمحفوظُ محذوفٌ على كل حال أي يرسل عليكم ملائكةً يحفظون أعمالَكم كائنةً ما كانت وفي ذلك حكمةٌ جميلةٌ ونعمةٌ جليلة لما أن المكلفَ إذا عَلم أن أعماله تحفظ وتعرض على رءوس الأشهادِ كان ذلك أزجرَ له عن تعاطي المعاصي والقبائحِ وأن العبد إذا وثِقَ بلُطف سيّدِه واعتمد على عفوه وسَترِه لم يحتشمه احتشامه من خدمه الواقفين على أحواله وحتى في قولِه تعالى {حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت} هي التي يُبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تَجعلُ ما بعدها من الجملة الشرطية غايةً لما قبلها كأنه قيل ويُرسلُ عليكم حفظة يحفَظون أعمالَكم مدةَ حياتكم حتى إذا انتهت مدة أحدم كائناً مَنْ كان وجاءه أسبابُ الموت ومباديه {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} الآخرون المفوَّضُ إليهم ذلك وهم ملكُ الموتِ وأعوانُه وانتهى هناك حِفظُ الحفظة وقرىء توفاه ماضياً أو مضارعاً بطرح إحدى التامين {وَهُمْ} أي الرسل {لَا يُفَرّطُونَ} أي بالتواني والتأخير وقرىء مخففاً من الإفراط أي
الأنعام آية 62 64
لا يجاوزون ما حدا بهم بزيادة أو نقصان والجملة حال من رسلنا وقيل مستأنَفةٌ سيقت لبيان اعتنائِهم بما أُمروا به وقوله تعالى
{ثُمَّ رُدُّواْ} عطفٌ على توفته والضمير للكلِّ المدلول عليه بأحدكم وهو السرُّ في مجيئه بطريق الالتفات تغليباً والإفرادُ أولاً والجمعُ ى خرا لوقوع التوفِّي على الانفراد والردِّ على الاجتماع أي ثم ردوا بعد البعث بالحشر {إِلَى الله} 6 أي إلى حُكمه وجزائه في موقف الحساب {مولاهم} أي مالكُهم الذي يلي أمورَهم على الإطلاق لا ناصرُهم كما في قوله تعالى وَأَنَّ الكافرين لَا مولى لَهُمْ {الحق} الذي لا يقضي إلا بالعدل وقرى بالنصب على المدح {أَلَا لَهُ الحكم} يومئذ صورةً ومعنى لا لأحد غيرِه بوجهٍ من الوجوه {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} يحاسب جميعَ الخلائق في أسرعِ زمانٍ وأقصره لا يشغَله حسابٌ عن حسابٌ ولا شأنٌ عن شأنٍ وَفِي الحديثِ إِنَّ الله تعالى يحاسب الكلَّ في مقدار حلْبِ شاة
{قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظلمات البر والبحر} أي قل تقريراً لهم بانحطاط شركائِهم عن رتبةِ الإلهية مَنْ ينجِّيكم من شدائدهما الهائلةِ التي تُبطل الحواسَّ وتدهش العقولَ ولذلك استُعير لها الظلماتُ المبطلةُ لحاسةِ البصَر يقال لليوم الشديد يومٌ مظلم ويومٌ ذو كواكبَ أو من الخسف في البر والغرقِ في البحر وقرىء ينْجيكم من الإنجاء والمعنى واحد وقوله تعالى {تَدْعُونَهُ} نصبٌ على الحالية من مفعول ينجِّيكم والضميرُ لمن أي مَن ينجّيكم منها حال كونكم داعين له أو من فاعلِه أي من ينجيكم منها حال كونه مدعواً من جهتكم وقوله تعالى {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} إما حالٌ من فاعل تدعونه أو مصدرٌ مؤكِّد له أي تدعونه متضرعين جِهاراً ومُسِرِّين أو تدعونه دعاءَ إعلانٍ وإخفاء وقرىء خفية بكسر الخاس وقوله تعالى {لئن أنجيتنا} حال من الفاعل أيضاً على تقدير القولِ أي تدعونه قائلين لئن أنجيتنا {مِنْ هذه} الشدة والورطة االتي عبر عنها بالظلمات {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} أي الراسخين في الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمةِ أو جميع النعماءِ التي من جُمْلتِها هذهِ وقرىء لئن أنجانا مراعاة لقوله تعالى تَدْعُونَهُ
{قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ} أُمر صلى الله عليه وسلم بتقرير الجواب مع كونه من وظائفهم للإيذان بأنه متعيِّنٌ عندهم ولبناءِ قولِه تعالى {ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} عليه أي الله تعالى وحده ينجيكم مما تدعونه إلى كشفه من الشدائد المذكورةِ وغيرِها من الغموم والكُرَبِ ثم أنتم بعد ما تشاهدون هذه النعمَ الجليلةَ تشركون بعبادته تعالى غيرَه وقرىء يُنْجيكم بالتخفيف
الأنعام آية 65 66
وقوله تعالى {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُم عَذَاباً} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أنه تعالى هو القادرُ على إلقائهم في المهالك إثرَ بيانِ أنه هو المُنْجي لهم منها وفيه وعيدٌ ضمنيٌّ بالعذاب لإشراكهم المذكورِ على طريقة قوله عز وجل أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر إلى قوله تعالى أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى الآية وعليكم متعلقٌ بيبعثَ وتقديمُه على مفعوله الصريح للاعتناء به والمسارعةِ إلى بيان كون المبعوثِ مما يضرُّهم ولتهويل أمْرِ المؤخرِ وقوله تعالى {مّن فَوْقِكُمْ} متعلقٌ به أيضاً أو بمحذوف وقع صفةٌ لعذاباً أي عذاباً كائناً من جهة الفوق كما فَعَل بمن فَعَل من قومِ لوطٍ وأصحابِ الفيلِ وأضرابِهم {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} أو من جهة السُفلِ كما فعل بفِرْعونَ وقارونَ وقيل مِنْ فوقكم أكابركم ورؤسائكم ومن تحت أرجلِكم سفلتُكم وعبيدُكم وكلمة أَوْ لمنعِ الخُلوّ دونَ الجمع فلا منْعَ لما كان من الجهتين معاً كما فُعل بقوم نوحٍ {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي يخلطَكم فِرَقاً متحزّبين على أهواءَ شتّى كلُّ فرقةٍ مشايعةٌ لإمامٍ فينشَبُ بينكم القتالُ فتختلطوا في الملاحم كقول الحَماسي
…
وكتيبةٍ لبَّستُها بكتيبة حتى إذا التَبَسَتْ نفضْتُ لها يدي {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} عطفٌ على يبعثَ وقرىء بنون العظمةِ على طريقة الالتفات لتهويل الأمرِ والمبالغةِ في التحذير والبعضُ الأولُ الكفارُ والآخَرُ المؤمنون ففيه وعدٌ ووعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عند قوله تعالى عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أعوذ بوجهك وعند قوله تعالى أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أعوذ بوجهك وعند قوله تعالى أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ هذا أهونُ أو هذا ايسر وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال سألتربي أن لا يبعثَ على أمتي عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلِهم فأعطاني ذلك وسألته أن لا يجعلَ بأسهم بينهم فمنعني ذلك {انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات} من حال إلى حال {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} كي يفقَهوا ويقِفوا على جلية الأمر فيرجعوا عمَّا هُم عليهِ من المكابرة والعِناد
{وَكَذَّبَ بِهِ} أي بالعذاب الموعود أو القرآنِ المجيد الناطقِ بمجيئه {قَوْمِكَ} أي المعاندون منهم ولعل إيرادَهم بهذا العنوانِ للإيذان بكمالِ سوءِ حالِهم فإن تكذيبَهم بذلك مع كونهم من قومه صلى الله عليه وسلم مما يقضي بغاية عَتُوِّهم ومكابرتهم وتقديم الجار والمجرور على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من إظهار الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخرة وقوله تعالى {وَهُوَ الحق} حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ أي كذبوا به والحال أنه الواقعُ لا محالة أو إ هـ الكتابُ الصادقُ في كل ما نطقَ به وقيل هو استئنافٌ وأيا ما كان ففيه دلالة على عظيم جنايتِهم ونهاية قُبْحِها {قُلْ} لهم منبِّهاً على ما يئول إليه أمرُهم وعلى أنك قد أديتَ ما عليك من وظائف الرسالة {لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بحفيظٍ وُكِّلَ إلى أمركم لا منعكم من التكذيب وأُجبِرَكم على التصديق إنما أنا منذرٌ وقد خرجتُ عن العُهدة حيث أخبرتُكم بما سترَونه
الأنعام ى ية 67 69
{لّكُلّ نَبَإٍ} أي لكل شيءٍ يُنبَأُ به من الأنباء التي من جملتها عذابُكم أو لكلِّ خبرٍ من الأخبار التي من جملتها خبرُ مجيئِه {مُّسْتَقِرٌّ} أي وقتُ استقرارٍ ووقوعٍ البتة ووقت استقرارٍ بوقوعِ مدلولِه {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي حالَ نَبئِكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً وسوف للتأكيد كما في قوله تعالى وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ
{وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آياتنا} أي بالتكذيب والاستهزاءِ بها والطعنِ فيها كما هو دأْبُ قريشٍ ودَيدَنُهم {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} بترك مُجالستهم والقيامِ عنهم وقولُه تعالى {حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ} غايةٌ للإعراض أي استمِرَّ على الإعراضِ إلى أن يخوضوا في حديثٍ غيرِ ى ياتنا والتذكيرُ باعتبار كونها حديثاً فإن وصفَ الحديثِ بمغايرتها مشيرٌ إلى اعتبارها بعُنوان الحديثية وقيل باعتبار كونِها قرآناً {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان} بأن يشغَلَك فتنسى النهْيَ فتُجالِسَهم ابتداءً أو بقاءً وقرىء يُنَسِّينَّك من التَنْسِية {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى} أي بعد تذكُّرِ النهي {مَعَ القوم الظالمين} أي معهم فوضَعَ المُظهرَ موضعَ المُضمر نعياً عليهم أنهم بذلك الخوضِ ظالمون واضعون للتكذيب والاستهزاءِ موضِعَ التصديق والتعظيم راسخون في ذلك
{وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ} روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ المسلمين حين نُهوا عن مجالستهم عند خوضِهم في الآيات قالوا لئن كنا نقول كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطِعْ أن نجلِسَ في المسجد الحرام ونطوفَ بالبيت فنزلت أي ما على الذين يتقون قبائحَ أعمالِ الخائضين وأحوالَهم {مِنْ حِسَابِهِم} أي مما يُحاسَبون عليه من الجرائر {من شىء} أي شيء ما على أنه في محلِ الرفعِ على أنه مبتدأ وما تميمية أو اسم لها وهي حجازية ومن مزيدة للاستغراق ومن حسابهم حال منه وعلى الذين يتقون في محلِ الرفعِ على أنه خبر للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي مَن لا يُجيز إعمالَها في الخبر المقدَّم مطلقاً أو في محلِّ النصبِ على رأي من يجوِّز إعمالَها في الخبر المقدّم عند كونه ظرفاً أو حرفَ جر {ولكن ذكرى} استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكِّروهم ويمنعوهم عمَّا هُم عليهِ من القبائح بما أمكن من العِظة والتذكير ويُظهروا لهم الكراهَةَ والنكيرَ ومحل ذكرى إما النصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكِّد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكّروهم تذكيراً أو الرفعُ عَلى أنَّه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أيْ ولكن عليهم ذكرى {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي يجتنبون الخوضَ حياءً أو كراهةً لمسَاءتهم وقد جُوِّز كونُ الضمير للموصول أي يذكّروهم رجاءَ أن يثبُتوا على تقواهم أو يزدادوها
الأنعام آية 70
{وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ} الذين كُلِّفوه وأُمروا بإقامة مواجبِه {لَعِباً وَلَهْواً} حيث سخِروا به واستهزءوا أو بنَوْا أمرَ دينهم على ما لا يكاد يتعاطاه العاقلُ بطريق الجِدّ وإنما يصدُر عنه لو صدَر بطريق اللعِبِ واللهوِ كعبادة الأصنام وتحريمِ البحائرِ والسوائبِ ونحوِ ذلك والمعنى أعرضْ عنهم ولا تُبالِ بأفعالهم وأقوالهم وقيل هو تهديدٌ لهم كقوله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ الآية {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} واطمأنوا بها حتى زعموا أنْ لا حياةَ بعدها أبداً {وَذَكّرْ بِهِ} أي بالقرآنِ من يصلُح للتذكير {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي لئلا تُبْسَلَ كقوله تعالى أَن تَضِلُّواْ الآية أو مخافةَ أن تُبسَل أو كراهةَ أن تبسل نفوسٌ كثيرة كما في قوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ وتُرتَهنَ لسوء عملِها وأصلُ الإبسالِ والبَسْل المنعُ ومنه أسد باسلٌ لأن فريستَه لا تُفلت منه أو لأنه ممتنَعٌ والباسل الشجاع لامتناعه من قِرْنه وهذا بَسْلٌ عليك أي حرام ممنواع وقد جوز أن يكون الضمير المجرور في به راجعها إلى الإبسال مع عدم جرَيانِ ذكرِه كما في ضمير الشأن وتكون الجملةُ بدلاً منه مفسِّراً له في الإبهام أولاً والتفسيرِ ثانياً من التفخيم وزيادةِ التَّقريرِ كما في قولِه
…
على جودِه لَضَنَّ بالماء حانم بجر حانم على أنه بدل من ضمير جوده فالمعنى وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت وقوله تعالى {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِىٌّ وَلَا شَفِيعٌ} استئنافٌ مَسوقٌ للإخبار بذلك وقيل في محل النصب على أنه حالٌ من ضمير كسبت وقيل في محلِ الرفعِ عَلى أنَّه وصفٌ لنفسٌ والأظهرُ أنَّه حالٌ من ف = نفسٌ فإنه في قوة نفسٌ كافرةٌ أو نفوسٌ كثيرة كما في قوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ومن دون الله متعلقٌ بمحذوف هو حال من وليٌّ كما بُيّن في تفسيرِ قولِه تعالى وَأَنذِرْ بِهِ الآية وقيل هو خبرٌ لليس فيكون لها حينئذٍ متعلقاً بمحذوفٍ على البيان {وَإِن تَعْدِلْ} أي إن تَفْدِ تلك النفسُ {كُلَّ عَدْلٍ} أي كلَّ فِداءٍ على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ {لَاّ يُؤْخَذْ مِنْهَا} على إسنادِ الفعلِ إلى الجار والمجرور لا إلى ضمير العدل كما في قوله تعالى وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فإنه المَفْدِيُّ به لا المصدرُ كما نحن فيه {أولئك} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيزِ الصلةِ وما فيهِ من معنى البعد للإيذان ببعدِ درجتِهم في سُوءِ الحال ومحلُه الرفعُ على الابتداء والخبر في قوله تعالى {الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} والجملةُ مستأنفةٌ سيقت إثرَ تحذيرِهم من الإبسال المذكور لبيان أنهم المبتَلَوْن بذلك أي أولئك المتخِذون دينَهم لعباً ولهواً المغترون بالحياة الدنيا هم الذين أُبسِلوا بما كسبوا وقولُه تعالى {لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ} استئناف آخَرُ مُبينٌ لكيفية الإبسال المذكور وعاقبتِه مبنيٌّ على سوء نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل ماذا لهم حين أُبسلوا بما كسبوا فقيل لهم شرابٌ من ماءٍ مغليَ يتجَرْجَرُ في بطونهم وتتقطَّعُ به أمعاؤهم {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} بنار تشتعل بأبدانهم {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا وقد جُوِّز أن يكون لهم شراب الخ حالاً من ضمير أبسلوا وترتيب
الأنعام آية 71
ما ذُكر من العذابَيْن على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضاً حسبما ينطِق به قوله تعالى بِمَا كَسَبُواْ لأنه العُمدةُ في إيجاب العذاب والأهمُ في باب التحذير أو أريد بكفرهم ما هو أعمُّ منه ومن مستتْبِعاته من المعاصي والسيئات هذا وقد جوِّز أنْ يكون أولئك إشارةً إلى النفوس المدلولِ عليها بنفسٌ محلُه الرفعُ بالابتداء والموصولُ الثاني صفتُه أو بدلٌ منه ولهم شراب الخ خبرُه والجملة مَسوقةٌ لبيان تبعة الإبسال
{قل أندعو مِن دُونِ الله مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} قيلَ نزلتْ في أبي بكرٍ رضي الله عنه حين دعاه ابنه عبدُ الرحمن إلى عبادة الأصنام فتوجيهُ الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للإيذان بما بينهما من الاتصال والاتحادِ تنويهاً لشأن الصديقَ رضي الله تعالى عنه أي أنعبد متجاوزين عبادةَ الله الجامعِ لجميعِ صفاتِ الألوهيةِ التي من جملتها القدرةُ على النفع والضر ما لا يقدر على نفعنا إذا عبدناه ولا على ضَرِّنا إذا تركناه وأدنى مراتبِ المعبوديةِ القُدرةُ على ذلك وقوله تعالى {وَنُرَدُّ على أعقابنا} عطفٌ على ندعوا إذا حل في حكم الإنكارِ والنفْي أي ونُرَدّ إلى الشرك والتعبير عنه بالرد غعلى الأعقاب لزيادة تقبيحِه بتصويره بصورةِ ما هو عَلَمٌ في القُبح مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشركِ حالةً قد تُركت ونُبذتْ وراءَ الظهر وإيثارُ نرد على نرتد لتوجيه الإنكار إلى الارتداد بردِّ الغير تصريحاً بمخالفة المُضلِّين وقطعاً لأطماعهم الفارغةِ وإيذاناً بأن الارتدادَ من غير رادَ ليس في حيِّزِ الاحتمال ليُحتاجَ إلى نفيه وإنكاره وقولُه تعالى {بَعْدَ إِذْ هدانا الله} أي إلى الإسلام وأنقذنا من الشرك متعلقٌ بنرُدّ مَسوقٌ لتأكيد النكيرِ لا لتحقيق معنى الرد وتصويرِه فقط وإلا لكفى أن يقالَ بعد إذ اهتدينا كأنه قيل ونُرَدّ إلى الشرك بإضلال المضِلّ بعد إذ هدانا الله الذي لا هاديَ سواه وقوله تعالى {كالذى استهوته الشياطين} في محل النصب على أنه حالٌ من مرفوع نرد أي نُرد أي أنرد على أعقابنا مشبَّهين بالذي استهوته مَرَدةُ الجن واستغوته إلى المهامه أو المهالك أو على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أي أنُرد رداً مثلَ ردِّ الذي استهوته الخ والاستهواءُ استفعال من هَوَى في الأرض إذا ذهَب فيها كأنها طلبت هُويَّه وحرصت عليه وقرىء استهواه بألف مما له وقوله تعالى {فِي الأرض} إما متعلق باستهوته أو بمحذوفٍ هو حالٌ من مفعوله أي كائناً في الأرضَ وكذا قوله تعالى {حَيْرَانَ} حال منه على أنها بدلٌ من الأولى أو حال الثنية عند من يجيزها أو من الذي أو من المستكنّ في الظرف أي تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري ما يصنع وقوله تعالى {لَهُ أصحاب} جملة في محل النصب على أنها صفةٌ لحيران أو حال من الضمير فيه أو مستأنفةٌ سيقت لبيان حالِه وقوله تعالى {يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى} صفةٌ لأصحاب أي لذلك المستهوى رفقةٌ يهدونه إلى الطريق المستقيم تسميةٌ له بالمصدر مبالغةً كأنه نفس الهدى {ائتنا} على إرادةِ القولِ على أنه بدل ممن يدونه أو حالٌ من فاعلِه أي يقولون ائتنا وفيه إشارة
الأنعهام آية 72 73
إلى أنهم مهتدون على الطريق المستقيم وأن من يدعونه ليس ممن يعرف الطريق المستقيم ليدعى إلى إتيانه وإنما يُدرك سمتَ الداعي ومورِدَ النعيق فقط {قُلْ إِنَّ هُدَى الله} الذي هدانا إليه وهخو الإسلام {هُوَ الهدى} وحدَه وما عداه ضلال محضٌ وغيٌّ بحتٌ كقوله تعالى فَمَاذَا بَعْدَ الحقِّ إِلَاّ الضلال ونحوِه وتكريرُ الأمر للاعتناء بشأن المأمورِ به ولأن ما سبق للزجْرِ عن الشرك وهذا حثٌّ على الإسلام وهو توطِئةٌ لما بعده فإن اختصاصَ الهُدى بهُداه تعالى مما يوجبُ الامتثالَ بالأوامر الواردةِ بعده {وَأُمِرْنَا} عطفٌ على إن هُدى الله هو الهدى داخلٌ تحت القول واللام في {لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين} لتعليل الأمر المَحْكيِّ وتعيينِ ما أريد به كمن الأوامر الثلاثة كما في قوله تعالى قُل لّعِبَادِىَ الذين آمنوا يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ الآية كأنه قيل أمرنا وقيل لنا اسلموا لأجل أنم نسلَمَ وقيل هي بمعنى الباء أي أمرنا بأن نُسلم وقيل زائدة أي أُمرنا أن نُسلم على حذف الباء وقوله تعالى
{وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه} أي الله تعالى في مخالفةِ أمرهِ عطفٌ على نُسلم على الوجوه الثلاثة على أنّ أنْ المصدريةَ إذا وصلت بالأمر بتجرد هو عن معنى الأمر نحوُ تجردِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضي والاستقبال فالمعنى على الأول أمرنا أي قيل لنا أسلموا وأقيموا الصلاة واتقوا الله لأجل أن نُسلمَ ونُقيمَ الصلاة ونتّقِيَه تعالى وعلى الأخيرين أمرنا بأن نسلمَ ونقيم الصلاة ونتقيه تعالى والتعرضُ لوصف ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمرِ وتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ به كما أن قوله تعالى
{وَهُوَ الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} جملةٌ مستأنفةٌ موجِبةٌ للامتثال بما أُمر به من الأمور الثلاثة {وَهُوَ الذى خلق السماوات والارض} أُريد بخلقهما خلقُ ما فيهما أيضاً وعدمُ التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العُلويات والسُفليات وقوله تعالى {بالحق} متعلقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من فاعلِ خلقَ أوْ منْ مفعولِه أو صفةٌ لمصدرِه المؤكِّد له أي قائماً بالحق أو متلبسه بالحق أو خلقا متلبساً به وقوله تعالى {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق} استئنافٌ لبيانِ أنّ خلقَه تعالى لِما ذُكر من السمواتِ والأرضِ ليس مما يَتوقَّفُ على مادّةٍ أو مُدّة بل يتَمّ بمحض الأمرِ التكوينيِّ من غير توقفٍ على شيءٍ آخَرَ أصلاً وأن ذلك الأمرَ المتعلِّقَ بكل فردٍ فردٌ من أفراد المخلوقات في حينٍ معينٍ من أفراد الأحيان حقٌّ في نفسه متضمنٌ للحكمة ويومَ ظرفٌ لمضمون جملةِ قولُه الحقُّ والواو بحسب المعنى داخلٌ عليها وتقديمُه عليها للاعتناءِ به من حيث إنه مدارُ الحقّيةِ وتركُ ذكرِ المقولِ له للثقةِ بغاية ظهوره والمرادُ باالقول كلمةُ كن تحقيقاً أو تمثيلاً كما هو المشهورُ فالمعنى وأمرُه المتعلقُ بكل شيءٍ يريد خلقَه من الأشياء في حينِ تعلّقِه به لا قبلَه ولا بعده من أفراد الأحيان الحقُّ أي المشهودُ له بالحقّية المعروفُ بها هذا وقد قيلَ قولُه مبتدأ والحق صفته ويوم يقول خبره مقدما عليه كقولك يومَ الجمعةِ القتالُ وانتصابه بمعنى الاستقرار وحاصلُ المعنى قولُه الحقُّ كائنٌ
الأنعام آية 74 75
حينَ يقول لشيءٍ من الأشياء كنْ فيكونُ ذلك الشيءُ وقيل يوم منصوبٌ بالعطف على السمواتِ أو على الضمير في واتقوه أو بمحذوف دل عليه بالحق وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعلُ يكون على معنى حين يقول لقوله الحق أي لقضائه الحقِّ كن فيكون والمرادُ حين يكوِّن الأشياءَ ويُحدِثُها أو حين تقومُ القيامةُ فيكونُ التكوينُ حشرَ الأجساد وإحياءَها فتأملْ حقَّ التأمل {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور} تقييدُ اختصاصِ المُلك بهِ تعالَى بذلك اليومِ مع عموم الاختصاصِ لجميع الأوقات لغاية ظهورِ ذلك بانقطاعِ العلائقِ المجازيةِ الكائنةِ في الدنيا المصحِّحة للمالكيةِ المجازية في الجملة كقوله تعالى لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الواحد القهار {عالم الغيب والشهادة} أي هو عالمُهما {وَهُوَ الحكيم} في كلِّ ما يفعله {الخبير} بجميعِ الأمور الجليّة والخفيّة
{وَإِذْ قَالَ إبراهيم} منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطب به النبي عليه الصلاة والسلام معطوف على قل أندعو لا على أقيموا كما قيل لفساد المعنى أي واذكر لهم بعد ما أنكرتَ عليهم عبادةَ ما لا يقدِرُ على نفعٍ وضُرَ وحققتَ أن الهدى هو هدى الله وما يتبعه من شئونه تعالى وقتَ قولِ إبراهيمَ الذي يدّعون أنهم على ملته موبخا {لأبيه آزر} على عبادة الأصنام فإن ذلك مما يبكِّتُهم وينادي بفساد طريقتِهم وتوجيهُ الأمرِ بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ لما مر مرارا من المبالغة في إيجاب ذكرِها وآزرُ بزنةِ آدم وعابَر وعازَر وفالَغ وكذلك تارَحُ ذكره محمد بن إسحق والضحاكُ والكلبيُّ وكان من قريةٍ من سَواد الكوفة ومُنعَ صَرْفُه للعُجمة والعَلَمية وقيل اسمُه بالسريانية تارَحُ وآزَرُ لقبُه المشهورُ وقيل اسمُ صنمٍ لُقِّب هو به للزومه عبادتَه فهو عطف بيان لأبيه وبدل منه وقال الضحاك معناه الشيخ الهرم وقال الزجاج المُخطىء وقال الفراءُ وسليمانُ التيمي المعوَجُّ فهو نعتٌ له كما إذا جُعل مشتقاً من الأزْرِ أو الوز وأريد به عابدُ آزرَ على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه وقرىء آزرُ على النداء وهو دليلُ العَلَمية إذ لا يُحذف حرفُ النداء إلا من الأعلام {أَتَتَّخِذُ} متعدَ إلى مفعولين هما {أَصْنَاماً آلِهَة} أي أتجعلُها لنفسك آلهةً على توجيه الإنكارِ إلى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية وإنما إيرادُ صيغةِ الجمع باعتبار الوقوعِ وقرىء أاَزْراً بفتح الهمزة وكسرها بعج همزة الاستفهام وزاءٍ ساكنةٍ وراءٍ منونةٍ منصوبةٍ وهو اسمُ صنم ومعناه أتعبدُ آزرا ثم قيل تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً وهو داخل تحت الإنكار لكونه بيانا له وقيل الأزرُ القوة والمعنى ألأجل القوة والمظاهَرَةِ تتخذ أصناماً آلهة إنكاراً لتعزُّزِه بها على طريقة قوله تعالى أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة {إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ} الذين يتبعونك في عبادتها {فِى ضلال} عن الحق {مُّبِينٌ} أي بيِّنٌ كونُه ضلالاً لا اشتباهَ فيه أصلاً والرؤيةُ إما علميةٌ فالظرفُ مفعولُها الثاني وإما بصَرية فهو حال من المفعول والجملة تعليلٌ للإنكار والتوبيخ
{وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم} هذه الإرادة من الرؤية البصَريةِ المستعارةِ للمعرفة ونظرِ البصيرة أي عرفاناه
2 -
الأنعام آية 76
وبصَّرناه وصيغةُ الاستقبال حكايةٌ للحال الماضيةِ لاستحضار صورتِها وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ نُري لا إلى إراءةٍ أخرى مفهومةٍ من قوله إني أراك وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المُشَارِ إليهِ وبُعدِ منزلتِه في الفضل وكمال تميزه بذلك وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهَدة والكافُ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُها في الأصلِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير نُري إبراهيم إراءةً كائنة مثلَ تلك الإراءة فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصار المشارُ إليه نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له أي ذلك التبصيرَ البديعَ نبصِّره عليه السلام {مَلَكُوتَ السماوات والارض} أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما وسلطانَه القاهرَ عليهما وكونَهما بما فيهما مربوباً ومملوكاً له تعالى لا تبصيراً آخَرَ أدنى منه والملكوتُ مصدرٌ على زنة المبالغة كالرَهَبوت والجَبَروت ومعناه الملك العظيم والسلطان القاهرُ ثم هل هو مختصٌّ بمُلك الله عزَّ سلطانه أو لا فقد قيل وقيل والأول هو الأظهر وبه قال الراغب وقيل ملكوتهما وعجائبهما وبدائعهما روي أنه كُشف لع عليه السلام عن السموات والأرض حتى العرشُ وأسفلُ الأرضين وقبل ى ياتهما وقيل ملكوتُ السموات الشمسُ والقمرُ والنجومُ وملكوتُ الأرض الجبالُ والأشجار والبحارُ وهذه الأقوالُ لا تقتضي أن تكون الإراءَةُ بصَريةً إذ ليس المرادُ بإراءةِ ما ذُكر منَ الأمورِ الحسية مجردَ تمكينِه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بل إطلاعه عليه السلام على حقائقها وتعريفَها من حيث دلالتها على شئونه عز وجل لا ريبَ في أن ذلك ليس مما يُدرَك حسا كما يُنبىء عنه اسمُ الإشارة المُفصِحُ عن كون المشار إليه أمراً بديعاً فإن الإراءة البصرية المعتادو بمعزلٍ من تلك المثابة وقرىء تُري بالتاء وإسنادُ الفعل إلى الملكوت أي تُبصِره عليه السلام دلائل الربوبية واللام في قوله تعالى {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} متعلقةٌ بمحذوفٍ مؤخر والجملةُ مقرِّر لما قبلها أي وليكون من زُمرة الرَّاسخين في الإيقان البالغين درجةَ عينِ اليقين من معرفة الله تعالى فعلنَا مَا فعلنَا منْ التبصير البديعِ المذكورِ لا لأمرٍ آخرَ فإن الوصولَ إلى تلك الغاية القاصيةِ كمالٌ مترتبٌ على ذلك التبصير لا ينه وليس القصرُ لبيان انحصار فائدتِه في ذلك كيف لا وإرشادُ الخلق وإلزامُ المشركين كما سيأتي من فوائده بلا مرْية بل لبيان أنه الأصلُ الأصيلُ والباقي من مستَتْبِعاته وقيل هي متعلقة بالفعل السابق والجملةُ معطوفةٌ على علةٍ أخرى محذوفةٍ ينسحبُ عليها الكلام أي يستدل بها وليكونَ الخ فينبغي أن يُرادَ بملكوتهما بدائعُهما وآياتُهما لأن الاستدلالَ من غاياتِ إراءَتِها لا من غايات إراءةِ نفسِ الربوبية وقوله تعالى
{فلما جن عليه الليل} على الأول وهو الحق المبين عطفٌ على قال إبراهيم دجاخل تحت ما أُمر بذكره بالأمرِ بذكرِ وقتِه وما بينهما اعتراض مقررلما سبق وما لحِق فإن تعريفَه عليه السلام ربوبيتَه ومالكيتَه للسمواتِ والأرض وما فيهما وكونَ الكلِّ مقهوراً تحت ملكوتِه مفتقِراً إليه في الوجود وسائرِ ما يترتبُ عليه من الكمالات وكونَه من الراسخين في معرفة شئونه تعالى الواصلين إلى ذُروة عينِ اليقين مما يقضي بأن يَحكُم عليه السلام باستحالة إلهية ما سواه
الأنعام آية 77 78
سبحانه من الأصنام والكواكب وعلى الثاني هو تفصيلٌ لما ذُكر من إراء ملكوتِ السموات والأرض وبيانٌ لكيفية استدلالِه عليه السلام ووصولِه إلى رتبة الإيقان ومعنى جبن عليه الليل ستره بظلامهوقوله تعالى {رَأَى كَوْكَباً} جوابُ لمّا فإن رؤيتَه إنما تتحقق بزوال نورِ الشمس عن الحسّ وهذا صريحٌ في أنه لم يكن في ابتداءِ الطلوع بل كان غَيبتُه عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس والتحقيقُ أنه كان قريباً من الغروب كما ستعرفه قيل كان ذلك الكوكبُ هو الزُّهُرَة وقيل هو المشتري وقوله تعالى {قَالَ هذا ربي} اسئناف مبني على سؤال نشأ من الشرطيةِ السابقةِ المتفرعة على بيان إراءتِه عليه السلام ملكوتَ السمواتِ والأرض فإن ذلك مما يحمِلُ السامعَ على استكشاف ماظهر منه عليه السلام من آثار تلك الإراءةِ وأحكامِها كأنه قيل فماذا صنعَ عليه السلام حين رأى الكوكب فقيل قال على سبيل الوضْع والفرضِ هذا ربي مجاراةً مع أبيه وقومِه الذين كانوا يعبُدون الأصنامَ والكواكب فإن المستدِلَّ على فساد قولٍ يحكيه على رأي خصمِه ثم يَكُرُّ عليه بالإبطال ولعل سلوكَ هذه الطريقة في بيان استحالةِ ربوبيةِ الكواكب دون بيانِ استحالةِ إلهية الأصنام لما أن هذا أخفى بُطلاناً واستحالةً من الأول فلو صدَعَ بالحق من أول الأمرِ كما فعله في حقّ عبادةِ الأصنام لتمادَوْا في المكابرة والعِناد ولجُّوا في طُغيانهم يعمهونوقيل قال عليه السلام على وجه النظر والاستدلال وكان ذلك في زمان مراهقتِه وأولِ أوانِ بلوغه وهو مبنيٌّ على تفسير الملكوتِ بآياتهما وعطف قوله تعالى لكون على ما ذكر من العلة المقدرة وجَعْلِ قوله تعالى فَلَمَّا جَنَّ الخ تفصيلاً لما ذُكر من الإراءة وبياناً لكيفية الاستدلال وأنت خبير بأن كلَّ ذلك مما يُخِلُّ بجزالة النظمِ الجليل وجلالةِ منصِبِ الخليل عليه الصلاة والسلام {فَلَمَّا أَفَلَ} أي غرٍب {قَالَ لا أُحِبُّ الافلين} أي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغير من حال إلى حال المحتجبين بالأستار فإنهم بمعزل من استحقاق الربوبية
{فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغاً} أي مبتدئاً في الطلوعِ إثرَ غروبِ الكوكب {قَالَ هذا رَبّى} على الأسلوب السابق {فَلَمَّا أَفَلَ} كما أفل النجم {قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى} إلى جناابه الذي هو الحق لا محيدَ عنه {لَاكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين} فإن شيئاً مما رأيته لا يليق بالربوبية وهذا مبالغةٌ منه عليه السلام في إظهار النَّصَفة ولعله عليه السلام كان إذ ذاك فيموضع كان في جانبه الغربيِّ جبلٌ شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعدجه بقليل وكان الكوكب قريباً منه وأُفقُه الشرقيُّ مكشوفٌ أولاً وإلا فطلوعُ القمر بعد أفولِ الكوكب ثم أفوله قل طلوع الشمس كما ينبىء عنه قوله تعالَى
{فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً} أي مبتدئةً في الطلوع مما لا يكاد يُتصور {قَالَ} أي على النهج السابق
الأنعام آية 79 80
{هذا رَبّى} وإنما لم يؤنِّثْ لَمَا أنَّ المشارَ إليهِ والمحكومَ عليه بالربوبية هو الجِرمُ المشاهَدُ من حيث هو لا من حيث هو مسمّىً باسمٍ من الأسامي فضلاً عن حيثيةِ تسميتِه بالشمس أو لتذكير الخبر وصيانةِ الربِّ عن وَصْمة التأنيث وقوله تعالى {هذا أَكْبَرُ} تأكيدٌ لما رامه عليه السلام من إظهار النَّصَفة مع إشارةٍ خفيةٍ إلى فساد دينهم من جهة أخرى ببيان أن الأكبرَ أحقُّ بالربوبية من الأصغر {فَلَمَّا أَفَلَتْ} هي أيضاً كما أفل اكوكب والقمرُ {قَالَ} مخاطباً للكلِّ صادِعاً بالحق بين أظهُرِهم {يا قوم إنى برىء مما تشركون} أي من الذي تشركونه من الأجرام المُحْدَثةِ المتغيرةِ من حالة إلى أخرى المسخَّرة لمحدِثها أو من إشراككم وترتيبُ هذا الحكمِ ونظيرَيْه على الأفول دون البزوغِ والظهور من ضروريات سَوْق الاحتجاجِ على هذا المَساق الحكيم فإن كلاًّ منهما وإن كان في نفسه انتقالاً منافياً لاستحقاق معروضِه للربوبية قطعاً لكن لما كان الأولُ حالةً موجبةً لظهور الآثارِ والأحكامِ ملائمةً لتوهُّم الاستحقاقِ في الجملة رتب عليها الحمكم الأول على الطريقة الم 1 كورة وحيث كان الثاني حالة مقتضِيةً لانطماس الآثار وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاةً بيّنةً يكاد يعترف بها كلُّ مكابرٍ عنيدٍ رُتّب عليها ما رتب ثم تبرأ عليه السلام منهم توجَّه إلى مبدعِ هذي المصنوعات ومُنشئها فقال
{إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فطر السماوات والأرض} التي هي الأجرامُ التي تعبدونها من أجزائها {والارض} التي تغيب هي فيها {حَنِيفاً} أي مائلا عن الأديان الباطلة والعقائدِ الزائغة كلِّها {وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} في شيء من الأفعال والأقوال
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} أي شرَعوا في مغالبته في أمر التوحيد {قَالَ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ مُحاجَّتهم كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عليه السلام حين حاجّوه فقيل قال منكرا لما اجترءوا عليه من مُحاجَّته مع قصورهم عن تلك الرُتبة وعِزّةِ المطلب وقوةِ الخصم {أَتُحَاجُّونّى فِى الله} بإدغام نون الجمع في نون الوقاية وقرىء بحذف الأولى وقوله تعالى {وَقَدْ هَدَانِ} حال من ضمير المتكلم مؤكِّدة للإنكار فإن كونه عليه السلام مَهدِياً من جهة الله تعالى ومؤيَّداً من عنده مما يوجب استحالةَ مُحاجَّتِه عليه السلام أي أتجادلونني في شأنه تعالى ووحدانيّتِه والحال أنه تعالى هداني إلى الحق بعد ما سلكت طريقتك بالفرض والتقدير وتبيَّن بُطلانُها تبيناً تاماً كما شاهدتموه وقوله تعالى {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} جوابٌ عما خوّفوه عليه السلام في أثناء المُحاجّة من إصابة مكروهٍ من جهة أصنامِهم كما قال لهودٍ عليه السلام قومُه إِن نَّقُولُ إِلَاّ اعتراك بَعْضُ آلهتنا بِسُوء ولعلهم فعلوا ذلك حين فعل عليه السلام بآلهتهم ما فعل وما موصولةٌ اسميةٌ حُذف عائدُها وقوله تعالى {إَّلا أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً} استثناءٌ مفرغ من أعم الأوقات أي لا أخاف ما تشركونه به سبحانه من معبوداتكم في وقتٍ من الأوقاتِ إلا في وقتِ مشيئته
4 -
الأنعام آية 81
تعالى شيئاً من إصابة مكروه من جهتها وذلك إنما هو منْ جهتِه تعالَى منْ غير دَخْلٍ لآلهتكم فيه أصلاً وفي التعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام إظهارٌ منه لانقيادِه لحُكمه سبحانه وتعالى واستسلام لأمره واعتراف بكَوْنه تحتَ ملَكوتِه ورُبوبيتِه وقوله تعالى {وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْماً} كأنه تعليلٌ للاستثناء أي أَحَاطَ بِكُلّ شيءٍ عِلْمَا فلا يبعُد أنْ يكونَ في علمه تعالى أنْ يَحيقَ بي مكروهٌ مِنْ قِبَلها بسببٍ من الأسباب وفي الإظهار في موضع الإضمار تأكيدٌ للمعنى المذكور واستلذاذٌ بذكره تعالى {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} أي أتُعرضون عن التأمل في أن آلهتَكم جماداتٌ غيرُ قادرةٍ على شيء ما من نفه ولا ضر فلا تتذكرون أنها غيرُ قادرة على إضراري وفي إيراد التذكّرِ دون التفكر ونظائره غشارة إلى أن أمرَ أصنامِهم مركوزٌ في العقول لا يتوقف إلى على التذكر وقوله تعالى
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ لنفي الخوفِ عنه عليه السلام بحسَب زعمِ الكفَرةِ بالطريق الإلزاميِّ كما سيأت بعد نفيه عنه بسبب الواقع ونفسِ الأمر والاستفهامُ لإنكار الوقوعِ ونفيِه بالكليةِ كما في قولِه تعالى كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عند الله الآية لإنكار الواقعِ واستبعادِه مع وقوعِه كما في قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله إلخ في توجيه الإنكارِ إلى كيفية الخوفِ من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقالَ أأخافُ لِما أن كلَّ موجودٍ يجب أن يكون وجودُه على حال من الأحوال وكيفيةٍ من الكيفيات قطعاً فإذا انتفى جميعُ أحواله وكيفياتِه فقد انتفى وجودُه من جميع الجهات بالطريق البرهاني وقوله تعالى {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله} حال من ضمير أخاف بتقدير مبتدأ والواوُ كافة في الربط منْ غيرِ حاجةٍ إلى الضميرالعائد إلى ذي الحال وهو مقرِّرٌ لإنكار الخوفِ ونفيِه عنه عليه السلام ومُفيدٌ لاعترافهم بذلك فإنهم حيث لم يخافوا في محلِّ الخوف فلأَنْ لا يَخافُ عليه السلام في محل الأمنِ أولى وأحرى أي وكيف أخافُ أنا ما ليس في حيز الخوفِ أصلاً وأنتم لا تخافون غائلةَ ما هو أعظم المخوفات وأهولُها وهو إشراكُكم بالله الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ في الأرض ولا في السماء ما هو من جملة مخلوقاته وإنما عبّر عنه بقوله تعالى {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ} أي بإشراكه {عَلَيْكُمْ سلطانا} على طريقة التهكّم مع الإيذان بأن الأمورَ الدينية لا يُعوَّل فيها إلا على الحُجة المنزلةِ من عند الله تعالى وفي تعليق الخوفِ الثاني بإشراكهم من المبالغة مراعاة حسنِ الأدب ما لا يخفى هذا وأمَّا مَا قيلَ مِنْ أنَّ قولَه تعالى وَلَا تَخَافُونَ الخ معطوفٌ على أخاف داخل معه في حكم الإنكار والتعجيب فمما لا سبيلَ إليه أصلاً لإفضائه إلى فساد المعنى قطعاً كيف لا وقد عرفت أن الإنكارَ بمعنى النفي بالكلية فيؤول المعنى إلى نفي الخوف عنه عليه الصلاة والسلام ونفي نفيه عنهم وأنه بيِّنُ الفساد وحملُ الإنكارِ في الأول على معنى نفي الوقوعِ وفي الثاني على استبعاد الواقع مما لا مَساغَ له على أنَّ قولَه تعالى {فَأَىُّ الفريقين أَحَقُّ بالامن} ناطقٌ ببُطلانه حتماً فإنه كلام مرتَّبٌ على إنكار خوفِه عليه الصلاة
الأنعام آية 82 83
والسلام في محل الأمن مع تحقق عدم خوفهم في محل الخوف مَسوقٌ لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه الصلاة والسلام لما هو عليه من الأمن وبعدم استحقاقِهم لما هم عليه وإنما جيءَ بصيغة التفضيلِ المُشعِرَةِ باستحقاقهم له في الجملة لْاستنزالهم عن رُتبة المكابرةِ والاعتسافِ بسَوْق الكلام على سَنن الإنصاف والمرادُ بالفريقين الفريقُ الآمنُ في محل الأمن والفريقُ الآمنُ في محلِّ الخوف فإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ على أن يُقال فأيُّنا أحقُّ بالأمن أنا أم أنتم لتأكيد الإلجاءِ إلى الجواب الحقِّ بالتنبيه على علّة الحُكم والتفادي عن التصريح بتخطئتهم لا لمجردِ الاحترازِ عن تزكية النفس {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} المفعولُ إما محذوفٌ تعويلاً على ظهوره بمعونه المقام أي إن كنتم تعملون من أحقُّ بذلك أو قصداً إلى التعميم أي إنْ كنتُم تعلمون شيئاً وإما متروكٌ بالمرة أي إن كنتم مِنْ أوُلي العلم وجوابُ الشرطِ محذوفٌ أي فأخبروني
{الذين آمَنُواْ} استئنافٌ من جهتِه تعالى للجواب الحقِّ الذي لا محيد عنه أي الفريقين الذين آمنوا {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم} ذلك أي لم يخلِطوه {بِظُلْمٍ} أي بشركٍ كما يفعله الفريق المشكون حيث يزعُمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل وأن عبادتَهم للأصنام من تتماتِ إيمانهم وأحكامِه لكونها لأجْل التقريبِ والشفاعة كما قالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى وهذا معنى الخلْطِ {أولئك} إشارةٌ إلى الموصول من حيثُ اتصافُه بما في حيز الصلة وفي الإشارة إليه بعدَ وصْفِه بما ذُكر إيذانٌ بأنهم تميَّزوا بذلك عن غيرهم وانتظموا في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلوّ درجتِهم وبُعد منزلتِهم في الشرف وهو مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالى {لَهُمُ الامن} جملةٌ من خبرٍ مقدمٍ ومبتدأ مؤخَّرٍ وقعت خبراً لأولئك وهو مع خبره للمبتدأ الأول الذي هو الموصول ويجوز أن يكونَ أولئك بدلاً من الموصول أو عطفُ بيان له خبراً للموصول والأمنُ فاعلاً للظرف لاعتماده على المبتدأ ويجوزُ أن يكون لهم خبراً مقدماً والأمنُ مبتدأً والجملةُ خبراً للموصول ويجوز أن يكون أولئك مبتدأً ثانيا ولهم خبره والأمن فاعلاً له والجملة خبر للموصولِ أي أولئك الموصوفينَ بما ذُكر من الإيمان الخالصِ عو شَوْب الشرك لهم الأمنُ فقط {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} إلى الحق ومَنْ عداهم في ضلال مبين رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ الآيةُ شقَّ ذلك على الصحابة رضوانُ الله علهم وقالوا أينا لم يظْلِمْ نفسه فقال عليه الصلاة والسلام ليس ما تظنون إنما هو قال لقمانُ لابنه يا بني لا تُشرِكْ بالله إِنَّ الشرْكَ لظُلم عَظِيمٌ وليس الإيمانُ به أن يُصَدِّقَ بوجود الصانعِ الحكيم ويخلِطَ بهذا التصديق الإشراكَ به وليس من قضية الخلطِ بقاءُ الأصلِ بعد الخلطِ حقيقةً وقيل المرادُ بالظلم المعصيةُ التي تُفسِّق صاحبَها والظاهرُ هو الأولُ لوروده موردَ الجواب عن حالة الفريقين
{وَتِلْكَ} إشارةٌ إلى ما احتج به إبراهيمُ عليه السلام من قوله تعالى فَلَمَّا جَنَّ وقيل من قوله أتحاجونيإلى قوله مُّهْتَدُونَ وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد لتفخيم شأن المُشار إليه والإشعارِ بعلو طبقته وسمو منزلته
الأنعام آية 84
في الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى {حُجَّتُنَا} خبرُه وفي إضافتها إلى نونِ العظمةِ من التفخيم ما لا يخفى وقوله تعالى {آتَيْنَاهَا إبراهيم} أي أرشدناه إليها وعلمناه إياها في محل النصب على أنه حال من حجتُنا والعاملُ فيها معنى الإشارةِ كما في قوله تعالى فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بماظلموا أو في محلِ الرفعِ على أنه خبرٌ ثانٍ أو هو الخبر وحدجبتنا بدل أو بيان المبتدأ وإبراهيم مفعولٌ أولٌ لآتينا قُدِّم عليه الثاني لكونه ضميراً وقوله تعالى {على قَوْمِهِ} متعلِّقٌ بحجتُنا إن جُعل خبراً لتلك أو بمحذوفٍ إن جُعل بدلاً أي آتينا إبراهيمَ حجةً على قومه وقيل بقوله آتينا {نَرْفَعُ} بنون العظمةِ وقرىء بالباء على طريق الالتفات وكذا الفعل الآتي {درجات} أي رتباً عظيمةً عالية من العلم والحكمة وانتصابُها على المصدرية أو الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات أو على التمييز والمفعولُ قوله تعالى {من نشاء} وتأخيرُه على الوجوه الثلاثةِ الأخيرةِ لما مرَّ من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخَّر ومفعولُ المشيئة محذوفٌ أي من نشاء رفعَه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحةُ وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ للدلالةِ عَلى أنَّ ذلكَ سُنةٌ مستمرَّة جاريةٌ فيما بين المُصطَفَيْنَ الأخيارِ غيرُ مختصةٍ بإبراهيمَ عليه السلام وقرىء بالإضافة إلى من والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها لا محلَّ لها من الإعراب وقيل هي في محل النصب على أنها حالٌ من فاعل آتينا أي حال كوننا رافعين الخ {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في كلِّ ما فعل من رفْعٍ وخفضٍ {عَلِيمٌ} بحال من يرفعُه واستعدادِه له على مراتبَ متفاوتة والجملةُ تعليلٌ لما قبلها وفي وضع الرَّبِّ مُضافاً إلى ضميرِه عليه السلام موضِعَ نونِ العظمةِ بطريق الالتفاتِ في تضاعيف بيان أحوال غبراهيم عليه السلام إظهارٌ لمزيد لُطفٍ وعنايةٍ به عليه السلام
{وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} عطف على قوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا الخ فإن عطفَ كلَ من الجملة الفعلية والاسميةِ على الأخرى مما لا نزاعَ في جوازه ولا مساغَ لعطفه على آتيناها لأن له محلاً من الإعراب نصْباً ورفعاً حسبما بُيِّن من قبلُ فلو عُطف هذا عليه لكان في حُكمه من الحالية والخبرية المستدعيتين للرابط ولا سبيلَ إليه ههنا {كَلَاّ} مفعولٌ لِمَا بعده وتقديمه للقصر لكن لا بالنسبة إلى غيرهما مطلقاً بل بالنسبة إلى أحدهما أي كلُّ واحدٍ منهما {هَدَيْنَا} لا أحدَهما دون الآخَر وتركُ ذكر المهدى إليه لظهور أنه الذي أوتيَ إبراهيمُ وأنهما مقتدِيان به {وَنُوحاً} منصوبٌ بمضمر يفسِّره {هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} أي من قبلِ إبراهيمَ عليه السلام عَدَّ هُداه نعمةً على إبراهيمَ عليه السلام لأن شرفَ الوالدِ سارٍ إلى الولد {وَمِن ذُرّيَّتِهِ} الضمير لإبراهيمَ لأن مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيانِ شئونه العظيمةِ من إيتاءِ الحجةِ ورفع الدرحات وهبةِ الأولادِ الأنبياءِ وإبقاءِ هذه الكرامةِ في نسله إلى يوم القيامة كلُّ ذلك الإلزام مَنْ ينتمي إلى ملتِه عليه السلام من المشركين واليهود وقيل لنوحٍ لأنه أقربُ ولأن يونُسَ ولوطاً ليسا من ذرِّية إبراهيمَ فلو كان الضميرُ له لاختصَّ بالمعدودين في هذه الآية التي بعدها وأما المذكورون في الآية الثالثةِ فعطفٌ على نوحاً ورُوي عن ابن عبَّاسٍ أن هؤلاءِ الأنبياءَ كلَّهم مُضافون إلى ذرِّية إبراهيم وإن كان
الأنعام آية 85 86
منهم من لم يلْحَقه بولادةٍ من قِبَلِ أمَ ولا أب لأن لوطاً ابنُ أخي إبراهيم والعربُ تجعل العمَّ أباً كما أخبر الله تعالى عن أبناءِ يعقوبَ أنهم قالوا نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ غبراهيم وغسماعيل وأسحق مع إن إسمعيل عم يعقوب {داود وسليمان} منصوبان بمُضمرٍ مفهومٍ مما سبق وكذا ما عكف عليهما وبه يتعلق من ذريته وتقديمه على المفعول في الصريح للاهتمام بشأنه مع ما في المفاعيلِ من نوع طكول ربما يُخلُّ تأخيرُه بتجاوب النظم الكريم أي وهدينا من ذريته داودَ وسليمان {وَأَيُّوبَ} هو ابنُ أموصَ من أسباطِ عيصِ بنِ إسحاقَ {وَيُوسُفَ وموسى وهارون} أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المذكورين أي وهديناهم حال كونهم من ذريته {وكذلك} إشارةٌ إلى ما يُفهم من النظم الكريم من جزاءِ إبراهيمَ عليه السلام ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنه تعت لمصدر محذوف وأصل التقدير {نَجْزِى المحسنين} جزاءً مثلَ ذلك الجزاءِ والتقديمُ للقصر وقد مرَّ تحقيقُه مراراً والمراد بالمحسنين لجنس وبمماثلة جزائِهم لجزائه عليه السلام مطلقُ المشابهةِ في مقابلةِ الإحسانِ بالإحسان والمكافأةِ بين ألعمال والأجْزِية من غير بخسٍ لا المماثلةُ من كل وجه ضرورةَ أن الجزاءَ بكثرةِ الأولاد الأنبياءِ مما اختص به إبراهيمُ عليه السلام والأقربُ أن لامَ المحسنين للعهد وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ الفعل الذي بعده وهو عبارةٌ عما أوتيَ المذكورون من فنُون الكرامات وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو صفته للإيذان بعلو طبقته والطاف لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلها في الأصلِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير ونجزي المحسنين المذكورين جزاء كائناً مثل ذلك الجزاء فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصار المشارإليه نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له أي وذلك الجزاءَ البديعَ نجزي المحسنين المذكورين لا جزاءً آخرَ أدنى منه والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ للثناء عليهم بالإحسان الذي هو عبارةٌ عن الإتيان بالأعمال الحسنة على لا الوجه اللائقِ الذي هو حسنهال الوصفيُّ المقارِنُ لحُسنها الذاتي وقد فسَّره عليه الصلاة والسلام بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكرن تراهُ فإنَّهُ يَرَاكَ والجملةُ اعتراض لما قبلها
{وزكريا} هو ابنُ آذَنَ {ويحيى} ابنُه {وَعِيسَى} هو ابنُ مريم وفيه دليلٌ على أنَّ الذرية تتناول أولادَ البنات {وَإِلْيَاسَ} قيل هو إدريسُ جدُّ نوحٍ فيكونُ البيانُ مخصوصاً بمِنْ في الآية الأولى وقيل هو من اسباط هرون أخِي مُوسى عليهما السلام {كُلٌّ} أي كلَّ واحدٍ من أولئك المذكورين {مّنَ الصالحين} أي من الكاملينَ في الصلاحِ الذي هو عبارةٌ عن الإتيان بما ينبغي والتحرُّز عما لا ينبغي والجملةُ اعتراضٌ جيءَ به للثناءِ عليهم بالصلاح
{وإسماعيل واليسع} هو ابنُ أخطوبَ بنِ العجوز وقرىء واليسع وهو على القراءتين على أعجميٌّ أُدخل عليه اللام ولا اشتقاق له ويقال إنه يوشَعُ بنُ نون وقيل إنه منقولٌ من مضارعِ وسِعَ واللام كما في يزيد في قول من قال أرأيت الوليدَ بنَ اليزيدَ مُبارَكاً شديداً بأعباءِ الخِلافة كاهلُه {ويونس}
الأنعام آية 87 89
هو ابن متى {وَلُوطاً} هو ابن هاران بنِ أخي إبراهيمَ عليه السلام {وَكُلاًّ} أي وكلَّ واحدٍ من أولئك المذكورين {فضلنا} بالن لا بعضهم دون أخي {عَلَى العالمين} على عالَمي عصرهم والجملة اعتراض كأختها وقوله تعالى
{ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم} إما متعلقٌ بما تعلقَ بهِ من ذريته ومن ابتدائية والمفعول محذوف أي وهدجينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعاتٍ كثيرةً وإما معطوف على كلاًّ ومن تبعيضية أي وفضلنا بعضَ آبائهم الخ {واجتبيناهم} عطفٌ على فضلنا أي اصطفيناهم {وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} تكريرٌ للتأكيدِ وتمهيدٌ لبيان ما هُدوا إليه
{ذلك} إشارة إلى ما يُفهم من النظم الكريم من مصادرِ الأفعال المذكورة وقيل إلى ما دانوا به وما في ذلك من معنى البُعد لما مر مراراً {هدى الله} الإضافة للشريف {يَهْدِى بِهِ مَن يشاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وهم المستعدّون للهداية وافرشاد وفيه إشارةٌ إلى أنَّه تعالى متفضِّلٌ بالهداية {وَلَوْ أَشْرَكُواْ} أي هؤلاءِ المذكورون {لَحَبِطَ عَنْهُمْ} مع فضلهم وعلوِّ طبقاتِهم {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الأعمال المَرْضيّة الصالحة فكيف بمَنْ عداهم وهم هم وأعمالهم أعمالهم
{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين من الأنبياء الثمانيةَ عشَرَ والمعطوفين عليهم عليهم السلام باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرِها من النعوت الجليلةِ الثابتةِ لهم وما فيه من معنى البُعد لما مرَّ غيرَ مرة من الإيذان بعلوِّ طبقتهم وبُعد منزلَتهِم في الفضلِ والشرف وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {الذين آتيناهم الكتاب} أي جنسَ الكتابِ المتحقِّقِ في ضمن أيِّ فردٍ كان من أفراد الكتب السماوية والمراد بإيتائه التفهيمُ التام بما فيه من الحقائق والتمكينُ من الإحاطةِ بالجلائلِ والدقائق أعمُّ من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداءً أو بالإيراث بقاءً فإن المذكورين لم يُنْزَلْ على كلِّ واحدٍ منهم كتاب معين {الحكم} أي الحِكمةَ أو فصلَ الأمر على ما يقتضيه الحقُّ والصواب {والنبوة} أي الرسالة {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} أي بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة للباقين {هَؤُلاء} أي كفارُ قريشٍ فإنهم بكفرهم برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن كافرون بما يصدِّقه حميعا وتقديم الجار والمجرور على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخّر {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي أمَرْنا بمراعاتها ووفَّقْنا للإيمان بها والقيامِ بحقوقها {قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} أي في وقتٍ من الأوقاتِ بل مستمرون على الإيمان بها فإن الجملةَ الاسميةَ الإيجابية كما تفيد دوامَ الثبوت كذلك السلبيةُ تُفيدُ دوامَ النَّفيِ بمعونةِ المقامِ لا نفْيِ الدوام كما حقق مقامه قال ابنُ عباس ومجاهدٌ رضي الله تعالى عنهما الأنصارُ وأهلُ المدينة وقيل أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقيل كل مؤمن من بني آدمَ وقيل الفرس فإن
الأنعام 90 91
كلاًّ من هؤلاء الطوائف موَفّقون للإيمان بالأنبياء وبالكتب المُنْزَلة إليهم عاملون بما فيها من أصول الشرائعِ وفروعِها الباقية في شريعتنا وبه يتحقق الخروجُ عن عهدة التوكيل دون المنسوخة منها فإنها بانتساخها خادة عن كونها من أحكامها وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير سورة المائدة وقيل هم الأنبياءُ المذكورون فالمرادُ بالتوكيل الأمرُ بما هو أعمُّ من إجراء أحكامِها كما هو شأنهم في حق كتابهم ومِنِ اعتقاد حقِّيتِها كما هو في شأنهم في حق سائرِ الكتبِ التي من جملتها القرآنُ الكريم وقيل هم الملائكةُ فالتوكيل هو الأمرُ بإنزالها وحفظها واعتقاد حقيتها وأياً ما كان فتنكيرُ قوماً للتفخيم والباء الأولى صلة لكافرين قدمت عليه محافظةً على الفواصل والثانية لتأكيد النفي وأما تقديم صلة وكلنا على مفعوله الصريح فلِما ذكر آنفاً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوعَ طولٍ ربما يؤدِّي تقديمُه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم أو إلى الفصلِ بين الصفةِ والموصوف وجوابُ الشرط محذوفٌ يدلُّ عليه المذكور أي فإن يكفُرْ بها هؤلاءِ فلا اعتدادَ به أصلاً فقد وفّقنا للإيمان بها قوماً فِخاماً ليسوا بكافرين بها قطعاً بل مستمرون على الإيمان بها والعملِ بما فيها ففي إيمانهم بها مندوحةٌ عن إيمان هؤلاء ومن هذا تبيّن أن الوجه أن يكونَ المرادُ بالقوم إحدى الطوائف المذطورة إذْ بإيمانهم بالقرآن والعملِ بأحكامه تتحقّقُ الغُنية عن إيمان الكَفَرة به والعملِ بأحكامه وأما الأنبياءُ والملائكةُ عليهم السلام فإنما به ليس من قبيل إيمانِ آحادِ الأمةِ كما أشير إليه
{أولئك} إشارة إلى ألنبياء المذكورين وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ رُتبتهم وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {الذين هَدَى الله} أي إلى الحق والنهج المستقيم والالتفاتُ إلى الإسم الجليل للإشعار بعلة الهداية {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} أي فاختصَّ هداهم بالاقتداء ولا تقتَدِ بغيرهم والمرادُ بهداهم طريقتُهم في الأيمان بالله تعالى وتوحيدِه وأصولِ الدين دون الشرائعِ القابلةِ للنسخ فإنها بعد النسخ لا تبقى هُدىً والهاء في اقتده للوقف حقها أنم تسقط في الدّرْج واستُحسن إثباتُها فيه أيضاً إجراءً له مُجرى الوقفِ واقتداءً بالإمام وقرىء بإشباعها على أنها كناية المصدر {قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على القُرآنِ أو على التبليغ فإن مَساقَ الكلامِ يدل عليهما وإن لم يجْرِ ذكرُهما {أَجْراً} من جهتكم كما لم يسألْه مَنْ قبلي من الأنبياءِ عليهم السلام وهذا من جملة ما أمر صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم فيه {إِنْ هُوَ} أي مَا القرآنُ {إِلَاّ ذكرى للعالمين} أي عظةٌ وتذكيرٌ لهم كافةً من جهته سبحانه فلا يختَصُّ بقوم دون آخرين
لما بيَّن شأنَ القرآنِ العظيم وأنه نعمةٌ جليلةٌ منه تعالى على كافة الأمم حسبما يتعلق به قولُه تعالى وَمَا أرسلناك إِلَاّ رَحْمَةً للعالمين عقّب ذلك ببيان غمْطِهم إياها وكفرِهم بها على وجْهٍ سرَى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية وأصلُ القدْر السبْرُ والحزْرُ يقال قدَر الشيء يقدرُه بالم قدْراً إذا سبَره وحزَره ليعرِف مقداره ثم استُعمل في معرفة الشيء في مقداره وأحوالِه وأوصافِه وقوله تعالى {حَقَّ قَدْرِهِ} نُصب على المصدرية وهو في الأصل صفةٌ للمصدر أي قدْرَه الحقَّ فلما أضيف إلى موصوفه انتصبَ على ما كان ينتصبُ عليه موصوفُه أي ما عرفوه تعالى حقَّ معرفتِه في اللُطف بعباده والرحمةِ عليهم ولم يُراعوا حقوقَه تعالى في ذلك بل أخلّوا بها إخلالاً {إِذْ قَالُواْ} منكرين لبِعثة الرسلِ وإنزالِ الكتُب كافرين بنعمته الجليلةِ فيهما {مَا أَنزَلَ الله على بشر من شىء} فنفي معرفتهم لقره سبحانه كنايةً عن حطِّهم لقدرة الجليل ووصفهو له تعالى بنقيضِ نعتِه الجميل كما أنَّ نفيَ المحبةِ في مثل إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الكافرين كنايةٌ عن البغضِ والسُّخطِ وإلا فنفيُ معرفةِ قدرِه تعالى يتحقق مع عدم التعرُّض لحطِه بل مع السعْي في تحصيل المعرفةِ كما في قول من يناجي مستقصِراً لمعرفته وعبادته سبحانك ما عرَفناك حقَّ معرفتِك وما عبدناك حقَّ عبادتك وما عرفوه حقَّ معرفتِه في السخط على لكفار وشدّةِ بطشِه تعالى بهم حسبما نطقَ به القرآنُ حين اجترءوا على التفوُّه بهذه العظيمةِ الشنعاءِ فالنفيُ بمعناه الحقيقي والقائلون هم اليهودُ وقد قالوه مبالغةً في إنكار إنزالِ القرآنِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأُلزِموا بما لا سبيلَ لهم في إنكاره أصلاً حيث قيل {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جاءَ به موسَى} أي قل لهم ذلك على طريقة التبكيت وإلقامِ الحجر وروي أن مالكَ بنَ الصيف من أحبار اليهودِ ورؤسائِهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشُدُك الله الذي أنزل التوراةَ على موسى هل تجد فيها أن الله يُبغض الحِبرَ السمين فأنت الحِبرُ السمين قد سمِنْتَ من مالك الذي تُطعمُك اليهود فضحك القومُ فغضبَ ثم التفت إلى عمرَ رضي الله عنه فقال ما أنزل الله على بشر من شىء فنزعوه وجعلوا مكانه كعبَ بن الأرشف وقيل هم المشركون وإلزامُهم إنزالُ التوراة لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعةِ ولذلك كانوا يقولون لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ ووصفُ الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقريعِ وتشديدِ التبكيت وكذا تقييدُه بقوله تعالى {نُوراً وَهُدًى} فإن كونَه بيّناً بنفسه ومبيِّناً لغيره مما يؤكد الإلزامَ أيَّ تأكيدٍ وانتصابُهما على الحاليَّةِ من الكتابِ والعامل أَنزل أو من الضميرِ في به والعامل جاء واللام في قوله تعالى {لِلنَّاسِ} إما متعلقٌ بهدىً أو بمحذوف هو صفةٌ له أي هدى كائناً للناس وليس المرادُ بهذا مجردَ إلزامِهم بالاعتراف بإنزال التوراةِ فقط بل بإنزال القرآنِ أيضاً فإن الاعترافَ بإنزالها مستلزِمٌ للاعتراف بإنزاله قطعاً لما فيها من الشواهد الناطقةِ به وقد نعى عليهم ما فعلوا بها من التحريف والتغييرِ حيث قيل {تَجْعَلُونَهُ قراطيس} أي تضعونه في قراطيسَ مقطعة وورقات مفرقة بحذ الجارِّ بناءً على تشبيه القراطيس بالظرف المُبْهم أو تجعلونه نفسَ القراطيس المقطعة وفيه زيادةُ توبيخٍ لهم بسوء سنيعهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزّلوه منزلةَ القراطيسِ الخاليةِ عن الكتابة والجملة حالٌ كما سبق وقوله تعالى {تُبْدُونَهَا} صفةٌ لقراطيسَ وقوله تعالى {وَتُخْفُونَ كَثِيراً}
الأنعام آيو 92
معطوفٌ عليه والعائدُ إلى الموصول محذوفٌ أي كثيراً منهم وقيل كلامٌ مبتدأ لا محلَّ له من الإعراب والمرادُ بالكثير نعوتُ النبيِّ عليه الصلاة والسلام وسائرُ ما كتموه من أحكام التوراة وقرىء الأفعالُ الثلاثةُ بالياء حملاً على قالوا وما قدروا وقوله تعالى {وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أنتم ولا آباؤكم} قيل هو حالٌ من فاعل تجعلونه بإضمار أو بدونِه على اختلافِ الرأيين قلت فينبغي أن يجعل ما عبارةً عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائعِ ليكون التقييدُ بالحال مفيداً لتأكيد التوبيخِ وتشديدِ التشنيع فإن ما فعلوه بالكتاب من التفريق والتقطيعِ لما ذُكر من الإبداءِ والإخفاءِ شناعةٌ عظيمة في نفسها ومع ملاحظة كونه مأخذاً لعلومهم ومعارفِهم أشنعَ وأعظمَ لا عما تلقَّوْه من جهة النبيِّ صلى الله عليه وسلم زيادةٍ على ما في التوراة وبياناً لما التَبَس عليهم وعلى ى بائهم من مشكلاتها حسْبما ينطِق به قوله تعالى إن هذا القرآن يقص على بني غسرائل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ كما قالوا لأنّ تلقَّيَهم لذلك من القرآن الكريم ليس مما يزجُرهم عما صنعوا بالتوراة أما ما ورد فيه زيادةً على ما فيها فلأنه لا تعلّقَ له بها نفياً ولا إثباتاً وأما ما ورد بطريق البيانِ فلأن مدارَ ما فعلوا بها من التبديل والتحريفِ ليس ما وقع فيها من التباس الأمرِ واشتباهِ الحال حتى يُقلِعوا عن ذلك بإيضاحه وبيانِه فتكونَ الجملةُ حينئذ خاليةً عن تأكيد التوبيخ فلا تستحق أن تقعَ موقع الحال بل الوجهُ حينئذٍ أن تكون استئنافاً مقرِّراً لما قبلها من مجيءِ الكتابِ بطريق التكملةِ والاستطراد والتمهيدِ لما يعقُبه من مجيءِ القرآن ولا سبيل إلى جعل ما عبارةً عما كتموه من أحكام التوراةِ كما يفصحُ عنه قولُه تعالى قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب فإن ظهورَه وإن كان مزْجَرةً لهم عن الكتم مخافةَ الافتضاح ومصحِّحاً لوقوعِ الجملة في موقع الحالِ لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتماً هذا وقد قيل الخطابُ لمن آمن من قريش كما في قوله تعالى لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آباؤهم وقوله تعالى {قُلِ الله} أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُجيبَ عنهم إشعاراً بتعيُّن الجوابِ بحيث لا محيدَ عنه وإيذاناً بأنهم أُفحموا ولم يقدِروا على التكلم أصلاً {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ} في باطلهم الذي يخوضون فيه ولا عليك بعد إلزامِ الحجة وإلقامِ الحجر {يَلْعَبُونَ} حال من الضمير الأول والظرفُ صلة للفعل المقدّم أو المؤخر أو متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من مفعولِ الأولِ أو من فاعل الثاني أو الضمير الثاني لأنه فاعلٌ في الحقيقة والظرفُ متَّصل بالأول
{وهذا كتاب أنزلناه} تحقيقٌ لنزول القرآن الكريم بعدج تقرير إنزال ما بَشَّر به من التوراة وتكذيبٌ لهم في كلمتهم الشنعاءِ إثرَ تكذيبٍ {مُّبَارَكٌ} أي كثيرُ الفوائد وجمُّ المنافع {مُّصَدّقُ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ} من التوراة لنزوله حسبما وُصِف فيها أو الكتُبِ التي قبله فإنه مصدِّقٌ للكل في إثبات التوحيد والأمرِ به ونفي الشرْك والنهي عنه وفي سائر أصولِ الشرائعِ التي لا تُنسخ {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى} عطفٌ على ما دل عليه مبارك أي للبركات وإنذارك أهل مكة إنما ذُكرت باسمها المُنبىءِ عن كونها أعظم القرآ شأناً وقِبْلةً لأهلها قاطبةً إيذاناً بأن إنذارَ أهلِها أصلٌ مستتبِعٌ لإنذار أهلِ الأرض كافة وقرىء
الأنعام آية 93 94
لينذرَ بالياءِ على أنَّ الضمير للكتاب {وَمَنْ حَوْلَهَا} من أهل المدَر والوبَر في المشارق والمغارب {والذين يُؤْمِنُونَ بالأخرة} وبما فيها من أفانين العذاب {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بالكتاب لأنهم يخافون العاقبةَ ولا يزال الخوف يحملهم على النظرة والتأمُّل حتى يؤمنوا به {وَهُمْ على صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} تخصيصُ محافظتِهم على الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات التي لا بد للمؤمنين من أدائها للإيذان بإنافتِها من بين سائر الطاعات وكونِها أشرفَ العباداتِ بعد الإيمان
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} فزعَم أنه تعالى بعثه نبياً كمسيلِمةَ الكذابِ والأسودِ العنسيِّ أو اختلق عليه أحكاماً من الحِلِّ والحُرمة كعَمْرِو بنِ لُحَيَ ومتابعيه أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالم وإنْ كانَ سبكُ التركيبِ على نفيِ الأظلمِ منه وإنكارِه من غيرِ تعرضٍ لنفْي المساوي وإنكارِه فإن الاستعمالَ الفاشيَ في قولك مَنْ أفضلُ من زيدٍ أو لا أكرمَ منه على أنه أفضلُ من كل فاضلٍ وأكرمُ من كل كريم وقد مرَّ تمامُ الكلامِ فيه {أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ} من جهته تعالى {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ} أي والحال أنه لم يوح إليه {شَىْء} أصلاً كعبد اللَّه بنِ سعدِ بنِ أبي سَرْح كان يكتُب للنبي صلى الله عليه وسلم فلما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طكين فلما بلغ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقَاً آخَر قال عبد اللَّه تبارك الله أحسنُ الخالقين تعجباً من تفصيل خلقِ الإنسان ثم قال صلى الله عليه وسلم اكتُبها كذلك فشك عبدُ اللَّه وقال لئن كان محمد صادقاً فقد أُوحيَ إلي كما أوحيَ إليه ولئن كان كاذباً فقد قلت كما قال {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله} كالذين قالوا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون} حُذف مفعولُ ترى لدِلالة الظرفِ عليه أي ولو ترى الظالمين إذ هم {فِى غَمَرَاتِ الموت} أي شدائده من غَمَره إذا غشيه {والملائكة بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} بقبض أرواحِهم كالمتقاضي الملظ المُلِحّ يبسُط يدَه إلى من عليه الحقُّ ويعنِّف عليه في المطالبة من غير إمهالٍ وتنفيسٍ أو باسطوها بالعذاب قائلين {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} أي أخرجوا أرواحَكم إلينا من أجسادكم وخلصوا أنفسكم من العذاب {اليوم} أي وقتَ الإماتة أو الوقتَ الممتدّ بعده إلى ما لا نهاية له {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أيْ العذابَ المتضمِّنَ لشدةٍ وإهانةٍ فإضافتُه إلى الهون وهو الهوانُ لعراقته فيه {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق} كاتخاذ الولد له ونسبةِ الشريك إليه وادعاء انبوة والوحيِ كاذباً {وَكُنتُمْ عَنْ آياته تَسْتَكْبِرُونَ} فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون بها
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} للحساب {فرادى}
الأنعام آية 95 96
منفردين عن الأموال والأولاد وغير ذلك مما ى ثرتموه من الدنيا أو عن الأعوان والأصنامِ التي كنتم تزعمون أنها شفعاؤكم وهم جمع فَرْد والألفُ للتأنيث ككسالى وقرىء فرادا كرخال وفَرادَ كثلاثَ وفَرْدَى كسَكْرى {كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} بدل من فرادى أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد أو حال ثانية عند من يجوِّزُ تعددَها أو حال من الضمير في فرادى أي مشبهن ابتداءَ خلقِكم عُراةً حُفاة غر لابهما أو صفةُ مصدرِ جئتمونا أي مجيئاً كخلقنا لكم أَوَّلَ مَرَّةٍ {وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم} تفضّلناه عليكم في الدنيا فشُغِلتم به عن الآخرة {وَرَاء ظُهُورِكُمْ} ما قدمتم منه شيئاً ولم تحملو نقيراً {وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء} أي شركاءُ الله تعالى في الربوبية واستحقاقِ العبادة {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي وقع التقطعُ بينكم كما يقال جمع بين الشيئين أي أوقع الجمع بينهما وقرىء بينكمك بالرفع على إسنادِ الفعلِ إلى الظرف كما يقال قوتل أمامُكم وخلفُكم أو على أن البينَ اسمٌ للفصل والوصل أي تقطع وصلُكم وقرىء ما بينَكم {وَضَلَّ عَنكُم} أي ضاع أو غاب {مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أنها شفعاؤكم أو أنْ لا بعثَ ولا جزاء
{إِِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} شروعٌ في تقرير بعضِ أفاعيلِه تعالى الدالةِ على كمال علمه وقدرته ولطفِ صُنعِه وحِكمتِه إثرَ تقريرِ أدلةِ التوحيد والفَلْقُ الشَقُّ بإبانةٍ أي شاقُّ الحبِّ بالنبات والنوى بالشجر وقيل المرادُ به الشِقُّ الذي في الحبوب والنَّوى أي خالقُهما كذلك كما في قولُك ضَيِّقْ فمَ الرَّكِيةِ ووسِّعْ أسفلَها وقيل الفلْقُ بمعنى الخلق قال الواحدي ذهبوا بفالقُ مذهبَ فاطر {يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} أي يُخرج ما ينمومن الحيوان والنبات مما لا ينمو من النطفة والحبِّ والجملة مستأنفة مبنية لما قبلَها وقيلَ خبرٌ ثان لأن وقوله تعالى {وَمُخْرِجُ الميت} كالنطفة والحب {مِنَ الحى} كالحيوان والنبات عطفٌ على فالقُ الحب لا على يُخرج على الوجه الأول لأن إخراج الميِّتِ من الحيِّ ليس من قبيل فلقِ الحب والنوى {ذلكم} القادرُ العظيمُ الشأنِ هو {الله} المستحِقّ للعبادة وحده {فأنى تُؤْفَكُونَ} فكيفَ تُصرَفون عن عبادتِه إلى غيره ولا سبيل إليه أصلاً
{فَالِقُ الإصباح} خبرٌ آخَرُ لأنَّ أو لمبتدإٍ محذوفٍ والإصباحُ مصدرٌ سمِّي به الصبحُ وقُرِىءَ بفتح الهمزة على أنه جمعُ صُبْح أي فالقُ عمودِ الفجر عن بياضِ النهار وإسفارِه أو فالق ظلمةِ الإصباحِ وهي الغَبَشُ الذي يلي الصبحَ وقرىء فالقَ بالنصب على المد {وجعل الليل سَكَناً} يسكُن إليه التعِبُ بالنهار لاستراحته فيه من سَكَن إليه إذا اطمأن إليه استئناساً به أو يسكن فيه الخلقُ من قوله تعالى لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وقرىء جاعلُ الليل فانتصابُ سكناً بفعل دل عليه جاعل وقيل بنفسه على أن المرادَ به الجعلُ المستمرُّ في الأزمنة المتجددة حسَب تجدّدِها لا الجعلُ الماضي فقط وقيل اسمُ الفاعل من الفعل المتعدِّي إلى اثنينِ يعملُ في الثاني وإن كان بمعنى الماضي لأنه لما أُضيف إلى الأول تعيّن نصبُه للثاني لتعذّر الإضافة بعد ذلك
الأنعام آية 97 98
{والشمس والقمر} معطوفان على الليل وعلى القراءة الأخيرة قيل هما معطوفان على محله والأحسنُ نصبُهما حينئذ بفعل مقدرٍ وقد قُرئا بالجرِّ وبالرفعِ أيضاً على الابتداء والخبرُ محذوفٌ أي مجعولان {حُسْبَاناً} أي على أدوار مختلفة يُحسبُ بها الأوقاتُ التي نيط بها العباداتُ والمعاملاتُ أو محسوبان حُسباناً والحُسبانُ بالضم مصدرُ حسَب كما أن الحسابَ بالكسر مصدر حسَب {ذلك} إشارة إلى جعلهما كذلك وما فيه من معنى البُعْدِ للإيذان بعلوِّ رُتبةِ المُشار إليهِ وبُعْدِ منزلتِه أي ذلك التيسير البديع {تقدير} البديع تَقْدِيرُ {العزيز} الغالب القاهرِ الذي لا يستعصي عليه شيءٌ من الأشياء التي من جملتها تسييرُهما على الوجه المخصوص {العليم} بجميعِ المعلوماتِ التي مِنْ جملتها ما في ذلك التسييرِ من المنافعِ والمصالحِ المتعلقةِ بمعاش الخلق ومَعادِهم
{وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النجوم} شروعٌ في بيان نعمتِه تعالى في الكواكب إثرَ بيانِ نعمتِه تعالى في النَّيِّرَيْنِ والجَعلُ متعدٍ إلى واحد واللامُ متعلقةٌ به وتأخيرُ المفعول الصريح عن الجار والمجرور لما مرَّ غيرَ مرَّةٍ من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أي أنشأها وأبدعها لأجلكم فقوله تعالى {لِتَهْتَدُواْ بِهَا} بدلٌ من المجرور بإعادة العامل بدلَ اشتمال كما قي قوله تعالى لجعلنا لمكن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً والتقدير جعلَ لكم النجومَ لاهتدائكم لكن لا على أن غايةَ خلقِها اهتداؤُهم فقط بل على طريقة إفراد بعضِ منافعِها وغاياتها بالذكر حسبما يقتضيه المقام وقد جوز أن يكون مفعولاً ثانياً للجعل وهو بمعنى التصييرِ أي جعلها كائنةً لاهتدائكم في أسفاركم عند دخولكم المافوز أو البحارَ كما ينبىء عنه قولُه تعالى {فِى ظلمات البر والبحر} أي في ظلمات الليل في البر والبحر وإضافتُها إليهما للملابسة فإن الحاجة إلى الاهتداء بها إنما يتحقق عند ذلك أو في مشتَبِهات الطرقِ عبّر عنها بالظلمات على طريق الاستعارة {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} أي بيّنا الآياتِ المتلُوَّةَ المذكِّرةَ لنِعَمه التي هذه النعمةُ من جملتها أو الآياتِ التكوينيةِ الدالةِ على شئونه تعالى مفصّلةً {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي معانِيَ الآياتِ المذكورةِ ويعلمون بموجبها أو يتفكرون في الآيات التكوينية فيعلمون حقيقةَ الحال وتخصيصُ التفصيل بهم مع عمة ومه للكلِّ لأنَّهم المنتفعونَ بِه
{وَهُوَ الذى أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ واحدة} تذكيرٌ لنعمةٍ أخرى من نعمه تعالى دالة على عظم قدرتِه ولطيفِ صُنعه وحكمتِه أي أنشأكم مع كثرتكم من نفسُ آدمَ عليه السلام {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أي فلكم استقرارٌ في الأصلاب أو فوق الأرض واستيداعٌ في الأرحام أو تحت الأرض أو موضعُ استقرارٍ واستيداعٍ فيما ذكر والتعبيرُ عن كة ونهم ي الأصلاب أو فوق الأرض بالاستقرار لأنهما مقرُّهم الطبيعيُّ كما أنَّ التعبيرَ عن كونهم في الأرحام أو تحت الأرض بالاستيداع لِما أنَّ كلاً منهُمَا ليس ليس بمقرِّهم الطبيعيِّ وقد حُمل الاستيداعُ على كونهم في الأصلاب وليس بواضح وقرىء فمستقِر بكسر القاف أي فمنكم مستقِرٌ ومنكم مستوْدَعٌ فإن الاستقرارَ منّا
الأنعام آية 99
بخلاف الاستيداع {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} المبينةَ لتفاصيل خلقِ البشرِ من هذه الآية ونظائرِها {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} غوامضَ الدقائقِ باستعمال الفِطنة وتدقيقِ النظر في لطائف صنع الله عز وجل في أطوار تخليقِ بني آدمَ مما تحارُ في فهمه الألبابُ وهو السرُّ في إيثارِ يفقهون على يعلمون كما ورد في شأن النجوم
{وَهُوَ الذى أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} تذكيرٌ لنعمةٍ أخرى من نعمه تعالى مُنَبِّئةٍ عن كمالِ قدرتِه تعالى وسَعة رحمتِه أي أنزل من السحاب أو من سَمْتِ السماء ماءً خاصاً هو المطر وتقديمُ الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا {فأخرجنا به} التفت إلى التكلم إظهاراً لكمال العناية بشأن ما أُنزل الماءُ لأجله أي فأخرجنا بعظمتِنا بذلك الماءِ مع وِحْدته {نَبَاتَ كُلّ شَىْء} من الأشياء التي من شأنها النمو من أصنافالنجم والشجر وأنواعهما المختلفة في الكم والكيف والخواص والآثار اختلافا متفاوتها في مراتبِ الزيادة والنقصان حسبما يُفصح عنه قولُه تعالى يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الاكل وقولُه تعالى {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} شروعٌ في تفصيل ما أجمل من الإخراج وقد بُدِىء بتفصيل حال النجم أي فأخرجنا من النبات الذي لا ساقَ له شيئاً غضّاً أخضرَ يقال شيءٌ أخضَرٌ وخضِرٌ كأعوَرَ وعَوِرٍ وأكثرُ ما يُستعمل الخضِرُ فيمال تكون خُضرتُه خَلْقية وهو ما تشعّب من أصل النبات الخارج من الحبة وقوله تعالى {نُّخْرِجُ مِنْهُ} صفة لخضرا أو صيغة المضارع لاستحضار الصور لما فيها من الغرابة أي نخرج من ذلك الخضِرِ {حَبّاً مُّتَرَاكِباً} هو السنبل المنتظم الحبوب المتراكبة بعضُها فوق بعض على هيئة مخصوصةٍ وقرىء يخرج منه حب متراكب وقوله تعالى {وَمِنَ النخل} شروع في تفصيل حال الشجر إثرَ بيانِ حال النجم فقوله تعالى مِنْ النخل خبرٌ مقدم وقوله تعالى {مِن طَلْعِهَا} بدلٌ منه بإعادة العامل كما في قوله تعالى لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله الخ والطَّلْعُ شيء يخرُج من النخل كأنه نعلانِ مُطبَقانِ والحِمْلُ بينهما منضود وقوله تعالى {قنوان} مبتدأ أي وحاصلةٌ من طلع النخل قنوانٌ ويجوز أن يكون الخبرُ محذوفاً لدلالة أخرجنا عليه أي ومُخرِجةٌ من طلع النخل قنوانٌ ومَنْ قرأ يخرُجُ منه حبٌّ متراكبٌ كان قنوانٌ عنده معطوفاً على حبٌّ وقيل المعنى وأخرجنا من النخل نخلاً من طلعها قنوانٌ أو ومن النخل شيءٌ من طلعها قنوان وهو جمع قِنْوٍ وهو عنقودُ النخلة كصِنْوٍ وصِنْوان وقرىء بضم القاف كذِئبٍ وذؤبان وبفتحها أيضاً على أنه اسمُ جمعٍ لأن فَعلان ليس من أبنية الجمع {دَانِيَةٌ} سهلةُ المُجتَنى قريبةٌ من القاطففإنها وإن كانت صغيرةً ينالها القاعدُ تأتي بالثمر لا يُنتظَرُ الطولُ أو ملتفةٌ متقاربة والاقتصارُ على ذكرها لدلالتها على مقابلتها كقولِه تعالى سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ولزيادة النعمة فيها {وجنات مّنْ أعناب} عطفٌ على نباتَ كل شيء أي وأخرجنا به جناتٍ كائنةً من أعناب وقرىء جناتٌ بالرَّفعِ على الابتداءِ أي ولكم
الأنعام آية 100
أو ثَمةَ جناتٌ وقد جوِّز عطفُه على قنوان كأنه قيل وحاصلةٌ أو مخجة من النخل قنوانٌ وجناتٌ من نباتٍ وأعناب ولعل زيادة الجنات ههنا من غير اكتفاءٍ بذكر اسمِ الجنس كما فيما تقدم وما تأخر لما أن الانتفاعَ بهذا الجنس لا يتأتى غالباً إلا عند اجتماع طائفةٍ من أفراده {والزيتون والرمان} منصوبان على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم أو على العطف على نباتَ وقوله تعالى {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه} حال من الزيتون اكتُفي به عن حال ما عطف عليه كما يكتفى بخبر المعطوف عليه عن خبر لمعطوف في نحوِ قولِه تعالى والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ وتقديرُه والزيتونَ مشتبهاً وغيرَ متشابه والرمانَ كذلك وقد جوز أن يكون حالاً من الرمان لقُربه ويكون المحذوفُ حالَ الأول والمعنى بعضُه متشابهاً وبعضُه غير مكتشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم وغيرِ ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعِها وحكمةِ مُنشئِها ومبدعِها {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أي انظروا إليه نظرَ اعتبارٍ واستبصارٍ إذا أخرج ثمرَه كيف يُخرجه ضئيلاً لا يكاد يُنتفعُ به وقرىء إلى ثمره {وَيَنْعِهِ} أي وإلى حال نضجه كيف يصر إلى كماله اللائق به ويكون شيئاً جامعاً لمنافِعَ جمّةٍ واليَنْعُ في الأصل مصدر ينعت الثمر إذا أدركت وقيل جمعُ يانع كتاجر وتجْرٍ وقرىء بالضمِّ وهي لغةٌ فيه وقرىء يانِعِهِ {إِنَّ فِى ذلكم} إشارةٌ إلى ما أُمر بالنظر إليه وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإيذان بعلوِّ رُتبةِ المُشار إليهِ وبعد منزلته {لايات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي لآيات عظيمة أوثيرة دالةً على وجود القادر الحكيم ووحدته فإن حدوت هاتيك الأجناسِ المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحدٍ وانتقالَها من حال إلى حال على نمط بديع يحار في فهمه الألباب لا يكاد يكون إلا بإحداث صانعٍ يعلم تفاصيلَها ويرجّح ما تقتضيه حكمتُه من الوجوه الممكنة على غيره ولا يَعوُقه عن ذلك ضد يناويه أو ند يفاويه ولذلك عقّب بتوبيخِ من أشرك به والردِّ عليه حيث قيل
{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء} أي جعلوا في اعتقادهم لله الذي شأنُه ما فُصّل في تضاعيفِ هذه الآياتِ الجليلةِ شركاءَ {الجن} أي الملائكةَ حيث عبدوهم وقالوا الملائكةُ بناتُ الله وسُمُّوا جنا لاجتنابهم تحقير لشأنهم بالنسبة إلى مَقام الألوهية أو الشياطينَ حيث أطاعوهم كما أطاعوا الله تعالى أو عبدوا الأوثانَ بتسويلهم وتحريضِهم أو قالوا الله خالقُ الخير وكلِّ نافعٍ والشيطانُ خالقُ الشرِّ وكلِّ ضارَ كما هو رأي التنويه ومفعولا جعلوا قوله تعالى شُرَكَاء الجن قُدِّم ثانيهما على الأول لاستعظام أن يتخذ الله سبحانه شريكٌ ما كائناً ما كان ولله متعلق بشركاء قدم عليه للنكتة المذكورة وقيل هما لله شركاء والجنَّ بدلٌ من شركاءَ مفسِّرٌ له نَصَّ عليه الفراءُ وأبو إسحاقَ أو منصوبٌ بمضمرٍ وقعَ جوابا على سؤالٍ مقدَّرٍ نشأ من قوله تعالى وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء كأنه قيل مَنْ جعلوه شركاءَ لله تعالى فقيل الجنَّ أي جعلوا الجن ويؤيده قراءةُ أبي حيوة ويزيدَ بن قطيب الجن بالرفع على تقديرهم الجنُّ في جواب من قال مَن الذين جعلوهم شركاءَ لله تعالى وقد قرىء بالجر على أن الإضافة للتبيين
الأنعام آية 101
{وَخَلَقَهُمْ} حالٌ من فاعل جعلوا بتقدير قد أو بدونه على اختلاف الرأيين مؤكدةٌ لما في جَعْلهم ذلك من كمال القباحة والبُطلان باعتبار علمِهم بمضمونها أي وقد علموا أنه تعالى خالقُهم خاصة وقيل الضميرُ للشركاءِ أي والحالُ أنَّه تعالى خلق الجنَّ فكيف يجعلون مخلوقَه شريكاً له تعالى وقرىء خَلْقَهم عطفاً على الجنَّ أي وما يخلقونه من الأصنام أو على شركاءَ أي وجعلوا له اختلافهم الإفكَ حيث نسبوه إليه تعالى {وَخَرَقُواْ لَهُ} أي افتعلوا وافترَوْا له يقال خلقَ الإفكَ واختلقه وخَرَقه واخترقه بمعنى وقرىء خرّقوا بالتشديد للتكثير وقرىء وحرّفوا له أي زوّروا {بَنِينَ وَبَنَاتٍ} فقالت اليهودُ عزيرٌ ابنُ الله وَقَالَتِ النصارى المسيحُ ابنُ الله وقالت طائفة من العربِ الملائكةُ بناتُ الله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بحقيقة ما قالوه من خطأ أو صوابٍ بل رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكرٍ ورويّة أو بغير علم بمرتية ما قالوه وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادَرُ قدرُه والباءُ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من فاعل خرقوا أو نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ لهُ أي خرقوا ملتبسين بغير علم أو خرقاً كائناً بغير علم {سبحانه} استئناف مسوق لتتنزيهه عز وجل عما نسَبوه إليه وسبحانه علمٌ للتَّسبيحِ الذي هو التبعيدُ عن السُّوءِ اعتقاداً وقولاً أي اعتقادَ البعدِ عنه والحكمَ به مِنْ سبَح في الأرضِ والماءِ إذا أبعدَ فيهما وأمعنَ ومنه فرسٌ سَبُوحٌ أي واسعُ الجرْي وانتصابُه على المصدريّةِ ولا يكاد يُذكر ناصبُه أي أُسبِّحُ سبحانَه أي أنزّهُه عمَّا لا يليقُ به عقْداً وعملاً تنزيها خاصا به حقيقة بشأنِه وفيه مبالغةٌ من جهةِ الاشتقاقِ من السَّبْح ومن جهة النَّقلِ إلى التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ عن المصدرِ الدَّالِ على الجنسِ إلى الاسمِ الموضوع له خاصَّة لا سيِّما العلمُ المشيرُ إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ ومن جهة إقامتهِ مُقامَ المصدرِ مع الفعلِ وقيل هو مصدرٌ كغُفرانٍ لأنه سُمع له فعلٌ من الثلاثي كما ذُكر في القاموس أُريد به التنزُّهُ التامُّ والتباعدُ الكُلي ففيه مبالغةٌ من حيث إسنادُ التنزهِ إلى ذاتِه المقدسةِ أي تنزه بذاته تنزهال لائقاً به وهو الأنسبُ بقوله سبحانه {وتعالى} فإنمه معطوفٌ على الفعل المُضمر لا محالة ولِمَا في السُّبحان والتعالي من معنى التباعُد قيل {عَمَّا يَصِفُونَ} أي تباعد عما يصفونه من أن له شريكاً أو ولدا
{بديع السماوات والارض} أي مُبدِعُهما ومخترِعُهما بلا مثالٍ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيه فإن البديعَ كما يطلق على المُبدِع نصَّ عليه أئمة اللغة كالصريخ بمعنى المُصرِخ وقد جاء بَدَعَه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه على ما ذُكر في القاموس وغيرِه ونظيرُه السميعُ بمعنى المسمِع في قوله
…
أَمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعي السميعُ وقيل هو من إضافة الصفةِ المشبّهةِ إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبِه تشبيهاً لها باسم الفاعِلِ كما هو المشهورُ أي بديعُ سمواتِه وأرضِه من بَدَع إذا كان على نمطٍ عجيبٍ وشكلٍ فائق وحُسنٍ رائقٍ أو إلى الظرف كما في قولهم ثبت الغدر بمعنى أنه عديم اتلنظير فيهما والأولُ هو الوجه والمعنى أنه تعالى مبدعٌ لقطري العالم العلويِّ والسفليِّ بلا مادة فاعلٍ على الإطلاق منزَّه عن الانفعال بالمرة والوالدُ عنصرُ الولد منفعل
9 -
الأنعام آية 102
بانتقال مادتِه عنه فكيف يمكنُ أن يكونَ له ولد وقرىء بديعَ بالنصبَ على المدح وبالجرِّ على أنه بدلٌ من الاسم الجليل أو منَ الضميرِ المجرورِ في سبحانه على رأي من يُجيزه وارتفاعُه في القراءة المشهورة على أنه خبر مبتدأ محذوف أو فاعلُ تعالى وإظهارُه في موضعِ الإضمارِ لتعليلِ الحكمِ وتوسيطُ الظرفِ بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه أو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} وهو على الأولَيْن جملة مستقلة مسوقة كما قبلها لبيان استحالةِ ما نسبوه إليه تعالى وتقرير تنزُّهِه عنه وقوله تعالى {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} حال مؤكدةٌ للاستحالة المذكورة فإن انتفاءَ أن يكون له تعالى صاحبةٌ مستلزمٌ لانتفاءِ أن يكونَ له ولدٌ ضرورةَ استحالة وجودِ الولدِ بلا والدة وإن أمكن وجودُه بلا والد وانتفاءُ الأولِ مما لا ريبَ فيه لأحد فمن ضرورته انتفاءُ الثاني أي من أين أو كيف يكون له ولد كما زعموا والحالُ أنه ليس له على زعمهم أيضاً صاحبةٌ يكون الولدُ منها وقرىء لم يكنْ بتذكير الفعل للفصل أو لأن الاسمَ ضميرُه تعالى والخبرُ هو الظرفُ وصاحبةٌ مرتفعٌ به على الفاعليةِ لاعتماده على المبتدإ أو الظرفُ خبرٌ مقدمٌ وصاحبةٌ مبتدأٌ مؤخرٌ والجملةُ خبرٌ للكون وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الاسمُ ضميرَ الشأنِ لصلاحية الجملةِ حينئذ لأن تكونَ مفسِّرةً لضمير الشأنِ لا على الوجه الأولِ لما بُيِّن في موضعِه أن ضميرَ الشأنِ لا يفسَّر إلا بجملة صريحةٍ وقوله تعالى {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء} إما جملةٌ مستأنفةٌ أخرى سيقت لتحقيق ما ذُكر من الاستحالة أو حالٌ أخرى مقرِّرةٌ لها أي أنى يَكُونُ لَهُ ولدٌ والحالُ أنه خلق كلَّ شيءٍ انتظمه التكوينُ والإيجادُ من الموجودات التي من جملتها ما سمَّوْه ولداً له تعالى فكيفَ يتُصورُ أن يكونَ المخلوقُ ولداً لخالقه {وَهُوَ بِكُلّ شَىْء} مِنْ شأنه أن يُعلم كائناً ما كان مخلوقاً أو غيرَ مخلوق كما ينبىء عنه ترك افضمار إلى الإظهار {عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلمِ أزلاً وأبداً حسبما يعرب عنه العجول إلى الجملة الاسميةِ فلا يخفى عليه خافيةٌ ممَّا كانَ وما سيكونُ من الذوات والصفاتِ والأحوالِ التي من جملتها ما يجوز عليه تعالى ما لا يجوز من المُحالات التي ما زعموه فردٌ من أفرادها والجملةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالته الشنعاء التي اجترءوا عليها بغير علم
{ذلكم} إشارةٌ إلى المنعوتُ بما ذُكر من جلائل النعوتِ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأنِ المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في العظمة والخطابُ للمشركين المعهودين بطريق الالتفاتِ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {الله رَبُّكُمْ لا إله إِلَاّ هُوَ خالق كُلّ شَىْء} أخبارٌ أربعةٌ مترادفةٌ أي ذلك الموصوفُ بتلك الصفاتِ العظيمةِ هو الله المستحِقُّ للعبادة خاصةً مالكُ أمرِكم لا شريك له أصلاً خالقُ كلِّ شيءٍ مما كانَ ومما سيكون فلا تكرارَ إذ المعتبرُ في عنوان الموضوعِ إنما هو خالقيتُه لما كان فقط كما يُنبىء عنه صيغةُ الماضي وقيل الخبرُ هو الأولُ والبواقي أبدالٌ وقيل الاسمُ الجليلُ بدلٌ من المبتدأ والبواقي أخبارٌ وقيل يقدر لكلَ من الأخبار الثلاثةِ مبتدأٌ وقيل يُجعل الكلُّ بمنزلة اسمٍ واحد وقولُه تعالى {فاعبدوه} حكم مترتبٌ على مضمون الجملة فإن مَنْ جمع هذه الصفاتِ كان هو المستحقُّ للعبادة خاصة وقولُه تعالى {وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ} عطفٌ على الجملة
الأنعام 103 105
المتقدمة أي هو مع ما فُصل من الصفاتِ الجليلةِ متولي أمورِ جميعِ مخلوقاتِه التي أنتم من جملتها فكِلوا أمورَكم إليه وتوسلوا بعبادته إلى نجاح مآربِكم الدنيويةِ والأخروية
{لَاّ تُدْرِكُهُ الابصار} البصرُ حاسةُ النظرِ وقد تطلق على العين من حيث أنها محلُّها وإدراكُ الشيءِ عبارةٌ عن الوصول إليه والإحاطةِ به أي لا تصِل إليه الأبصارُ ولا تُحيط به كما قال سعيدُ بنُ المسيِّب وقال عطاء كانت أبصارُ المخلوقين عن الإحاطة به فلا مُتمسَّك فيه لمنكري الرؤيةِ على الإطلاق وقد رُوي عن ابن عباس ومقاتل رضي الله عنهم لا تدركه الأبصارُ في الدنيا وهو يُرى في الآخرة {وَهُوَ يُدْرِكُ الابصار} أي يحيطُ بها علمُه إذ لا تَخفى عليهِ خافيةٌ {وَهُوَ اللطيف الخبير} فيدركه ما لا تدركه الأبصارُ ويجوز أن يكون تعليلاً للحُكمين السابقين على طريقة االف أي لا تدركه الأبصارُ لأنه اللطيفُ وهو يدرك الأبصارَ لأنه الخبيرُ فيكون اللطيفُ مستفاداً من مقابل الكثيفِ لما لا يُدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها وقولُه تعالى
{قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ} استئنافٌ وارد على لسان النبيِّ صلى الله عليه وسلم والبصائرُ جمعُ بصيرةٍ وهي النورُ الذي به تستبصِرُ النفسُ كما أنَّ البصرَ نورٌ به تبصِرُ العين والمرادُ بها الآيةُ الواردةُ ههنا أو جميع الآيات المنتظمةِ لها انتظاماً أولياً ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً سواءٌ تعلقت بجاء أو بمحذوف هو صفة لبصائر والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لإظهار كمل اللطف بهم أي أي قد جاءكم من جهة مالككم ومبلِّغِكم إلى كمالكم اللائقِ بكم من الوحي الناطقِ بالحق والصوابِ ما هو كالبصائر للقلوب أو قد جاءكم بصائرُ كائنةٌ من ربكم {فَمَنْ أَبْصَرَ} أي الحقَّ بتلك البصائرِ وآمن به {فَلِنَفْسِهِ} أي فلنفسه أبصر أو فإبصارُه لنفسه لأن نفعَه مخصوصٌ بها {وَمَنْ عَمِىَ} أي ومن لم يبصر الحقَّ بعد ما ظهر له بتلك البصائرِ ظهوراً بيِّناً وضلَّ عنه وإنما عبّر عنه بالعمى تقبيحاً له وتنفيراً عنه {فَعَلَيْهَا} أي فعليهات عمِي أو فعَماهُ عليها أو وبال عماه {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} وإنما أنا منذر والله هو الذي يحفظ أعمالَكم ويجازيكم عليها
{وكذلك نُصَرّفُ الايات} أي مثلَ ذلك التصريفِ البديعِ نصرِّف الآياتِ الدالةَ على المعاني الرائقةِ الكاشفةِ عن الحقائق الفائقةِ لا تصريفاً أدنى منه وقوله تعالى {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} علةٌ لفعل قد حُذف تعويلاً على دلالة السباق عليه أي وليقولوا درست نفعلُ ما نفعل من التصريفِ المذكورِ واللامُ للعاقبة والواو اعتراضيةٌ وقيل هي عاطفةٌ على علة محذوفةٍ واللام متعلقةٌ بنُصرِّف أي مثلَ ذلك التصريفِ نصرِّف الآياتِ لنُلزِمَهم الحجةَ وليقولوا الخ وقيل اللام لامُ الأمرِ وتنصُره القراءةُ بسكون اللامِ كأنه قيل وكذلك نصرف الآياتِ وليقولوا هم ما يقولون فإنه لا احتفالَ بهم ولا اعتدادَ بقولهم وهذا أمرٌ معناه الوعيدُ والتهديدُ وعدمُ الاكتراثِ بقولهم ورُدَّ عليه بأن ما بعده يأباه ومعنى درست قرأتَ وتعلمات وقُرىء دارسْتَ أي دارستَ العلماء ودرست أي قدمت
الأنعام آية 106 108
هذه الآياتُ وعفَت كما قالُوا أساطيرُ الأوَّلينَ ودَرُسَت بضم الراءِ مبالغةً في درَست أي اشتد دروسُها ودُرست على البناء للمفعول بمعنى قُرئت أو عُفِيت ودارَسَتْ وفسروها بدارست اليهودُ محمدا صلى الله عليه وسلم وجاز الإضمارُ لاشتهارهم بالدراسة وقد جُوز إسنادُ الفعل إلى الآيات وهو في الحقيقة لأهلها أي دارسَ أهلُ الآيات وحَمَلتُها محمداً صلى الله عليه وسلم وهم أهلُ الكتاب ودرَسَ أي درَسَ محمدٌ ودارِسات أي هي دارساتٌ أي قديمات أو ذاتُ دَرْسٍ كعيشة راضية وقوله تعالى {وَلِنُبَيّنَهُ} عطفٌ على ليقولوا واللام على الأصل لأن التبيينَ غايةُ التصريفِ والضميرُ للآيات باعتبار المعنى أو للقرآن وإن لم يُذكر أو للمصدر أي ولِنفعلَ التبيينَ واللامُ في قوله تعالى {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} متعلقةٌ بالتبيين وتخصيصُه بهم لما أنهم المنتفِعون بِهِ قال ابنُ عبَّاسٍ هم أولياؤُه الذين هداهم إلى سبيل الرشادِ ووصفُهم بالعلم للإيذان بغاية جهلِ الأولين وخلوِّهم عن العلم بالمرة
{اتبع مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ رَّبّكَ} لما حُكي عن المشركين قدحُهم في تصريف الآياتِ عُقِّب ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم بالثبات على ما هو عليه وبعدم الاعتدادِ بهم وبأباطيلهم أي دُمْ على ما أنت عليه من اتباع مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الشرائع والأحكامِ التي عُمدتُها التوحيدُ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من إظهار اللطفِ به ما لا يَخْفى وقوله تعالى {لَا إله إِلَاّ هُوَ} اعتراضٌ بين الأمرين المتعاطفَين مؤكِّدٌ لإيجاب اتباعِ الوحي لا سيِّما في أمرِ التوحيدِ وقد جُوز أن يكون حالاً من ربك أي منفرداً في الألوهية {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} لا تحتفِلْ بهم وبأقاويلهم الباطلةِ التي من جُملتِها ما حُكي عنهم آنفاً ومن جعله منسوخاً بآية السيفِ حَمل الإعراضَ على ما يعُمّ الكفَّ عنهم
{وَلَوْ شَاء الله} أي عدمَ إشراكِهم حسبما هو القاعدةُ المستمرةُ في حذفِ مفعولِ المشيئةِ من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاء {مَا أَشْرَكُواْ} وهذا دليلٌ على أنَّه تعالى لا يريد إيمانَ الكافرِ لكنْ لا بمعنى أنَّه تعالى يمنعه عنه مع توجّهِه إليه بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه لعدم صرفِ اختيارِه الجزئيِّ نحوَ الإيمان وإصرارِه على الكفر والجملةُ اعتراضٌ مؤكد للإعراض وكذا قولُه تعالى {وَمَا جعلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي رقيباً مهيمناً مِنْ قِبلنا تحفظ عليهم أعمالَهم وكذا قولُه تعالى {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} من جهتهم تقوم بأمورهم وتدبر مصالِحَهم وعليهم في الموضعين متعلقٌ بما بعده قد عليه للاهتمام به أو لرعاية الفواصل
{وَلَا تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي لا تشتُموهم من حيث عبادتُهم لآلهتهم كأن تقولوا تباً لكم ولما تعبُدونه مثلاً {فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً} تجاوزاً عن الحق إلى الباطل بأن يقولوا لكم مثلَ قولِكم لهم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بجهالة بالله تعالى وبما يجب أن يذكر
الأنعام آية 109
به وقرىء عُدُوّاً يقال عدا يعدو وعُدُوّاً وعِداء وعُدْواناً روي أنهم قالُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول قوله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ لتنتهِيَنَّ عن سب آلهتِنا ولنهجون إلهك وقيل كان المسلمون يسبّونهم فنُهوا عن ذلك لئلا يستتبِعَ سبُّهم سبَّه سبحانه وتعالى وفيه أن الطاعةَ إذا أدتْ إلى معصية راجحةٍ وجب تركُها فإن ما يؤدي إلى الشر شرٌّ {كذلك} أي مثلَ ذلك التزيينِ القويِّ {زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} من الخير والشر بإحداث ما يُمكّنهم منه ويحمِلُهم عليه توفيقاً أو تخذيلاً ويجوز أن يُراد بكل أمة أمم الكفرة إذا الكلامُ فيهم وبعملهم شرُّهم وفسادُهم والمشبَّه به تزيينُ سبِّ الله تعالى لهم {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ} مالك أمره {مرجعهم} أي رجوعهم بالبعث بعد الموت {فَيُنَبّئُهُمْ} من غير تأخير {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدنيا على الاستمرار من السيئات المزيَّنةِ لهم وهو وعيدٌ بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وفيه نكتةٌ سِرّية مبنيةٌ على حِكمة أبيةٍ وهي أن كلَّ ما يظهر في هذه النشأةِ من الأعيان والأعراضِ فإنما يظهر بصورة مستعارةٍ مخالفةٍ لصورته الحقيقية التي بها يظهر في النشأة الآخرة فإن المعاصي سمون قاتلةٌ قد برزت في الدنيا بصورةٍ ما تستحسنها نفوسُ العصاة كما نطقت به هذه الآيةُ الكريمة وكذا الطاعاتُ فإنها مع كونها أحسن الأحاسن قد ظهرت عندهم بصورة مكروهةٍ لذلك قال صلى الله عليه وسلم حُفّتِ الجنَّةُ بالمكاره وحُفّتِ النارُ بالشهواتِ فأعمال الكفرةِ قد برزت لهم في النشأة بصورة مزيَّنةٍ يستحسنها الغُواةُ ويستحبّها الطغاةُ وستظهر في النشأة الآخرةِ بصورتها الحقيقيةِ المنكرةِ الهائلةِ فعند ذلك يعرِفون أن أعمالهم ماذا عبر عن إظهارها بصورها الحقيقة بالإخبار بها لمَا إنَّ كُلاًّ منهُمَا سببٌ للعلم بحقيقتها كما هي فلْيُتدبر قولِه تعالى
{وَأَقْسَمُواْ بالله} روي أن قريشاً اقترحوا بعضَ آيات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فعلت بعذ ما تقولون أتصدّقونني فقالوا نعم وأقسموا لئن فعلتَه لنؤمنن جميعاً فسأل المسلمون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها طمعاً في إيمانهم فهم صلى الله عليه وسلم بالدعاء فنزلت وقوله تعالى {جَهْدَ أيمانهم} مصدرٌ في موقعِ الحالِ أي أقسمُوا به تعالى جاهدين في أيمانهم {لئن جاءتهم آية} من مقترحاتهم أو من جنس الآياتِ وهو الأنسبُ بحالهم في المكابرة والعناد وترامي أمرِهم في العتو والفساد حيث كانوا لا يعُدّون ما يشاهدونه من المعجزات الباهرةِ من جنس الآيات {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} وما كان مَرْمى غرضِهم في ذلك لا التحكمَ على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في طلب المعجزةِ وعدم الاعتدادِ بما شاهدوا منه من البينات الحقيقةِ بأن تُقطعَ بها الأرضُ وتُسيَّر بها الجبالُ {قُلْ إِنَّمَا الايات} أي كلُّها فيدخُل فيها ما اقترحوه دخولاً أولياً {عَندَ الله} أي أمرُها في حُكمه وقضائِه خاصةً يتصرف فيها حسبَ مشيئتِه المبنيةِ على الحكم البالغةِ لا تتعلق بها ولا بشأن من شئونها قُدرةُ أحدٍ ولا مشيئتُه لا استقلالاً ولا اشتراكاً بوجه من الوجوه حتى يُمكِنَني أن أتصدّى لاستنزالها بالاستدعاء وهذا كما ترى سدٌّ لباب الاقتراحِ على أبلغ وجه وأحسنه
الأنعام آية 110
ببيان علوِّ شأن الآياتِ وصعوبةِ منالِها وتعاليها من أن تكون عُرضةً للسؤال والاقتراحِ وأما ما قيل من أن المعنى إِنَّمَا الآياتُ عِندَ الله تعالَى لَا عندي فكيف أُجيبكم إليها وآتيكم بها وهو القادِرُ عليها لا أنا حتى آتِيَكم بها فلا مناسبةَ له بالمقام كيف لا وليس مقترَحُهم مجيئها بغير قدرةِ الله تعالى وغرادته حتى يجابوا بذلك وقوله تعالى {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذا جاءت لا يؤمنون} كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ تحت الأمرِ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى لبيان الحكمةِ الداعيةِ إلى ما أشعر به الجوابُ السابقُ من عدم مجيءِ الآياتِ خوطب به المسلمون إما خاصةً بطريق التلوينِ لمّا كانوا راغبين في نزولها طمعاً في إسلامهم وإما معه صلى الله عليه وسلم بطريق التعميم لما روي عنه صلى الله عليه وسلم من الهم بالدعاء وقد بُيّن فيه أن أيْمانَهم فاجرةٌ وإيمانُهم مما لا يدخلُ تحتَ الوجودِ وإن أجيب إلى ما سألوه وما استفهاميةٌ إنكاريةٌ لكن لا على أن مرجِعَ الإنكارِ هو وقوعُ المشعَرِ به بل هو نفسُ الإشعارِ مع تحقق المشعَرِ به في نفسه أي وأيُّ شيءٍ يُعلِمُكم أن الآيةَ التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بل يبقَوْن على ما كانُوا عليهِ من الكفر والعناد أي لا تعلمون ذلك فتتمنّون مجيئها طمعاً في إيمانهم فكأنه بسطُ عذرٍ من جهة المسلمين في تمنيهم نزولَ الآياتِ وقيل لا مزيدةٌ فيتوجه الإنكارُ إلى الإشعار والمشعر به جميعاً أي أيُّ شيءٍ يعلمكم إيمانَهم عند مجيءِ الآياتِ حتى تتمنَّوا مجيئها طمعاً في إيمانهم فيكونُ تخطئةً لرأي المسلمين وقيل أنّ بمعنى لعل يقال ادخُل السوقَ أنك تشتري اللحمَ وعنك وعلّك ولعلك كلُّها بمعنى ويؤيده أنه قرىء لعلها إذا جاءت لا يؤمنون على أنَّ الكلامَ قد تمّ قبله والمفعولُ الثاني ليُشعرَكم محذوفٌ كما في قوله تعالى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يُزَكّى والجملة استئنافٌ لتعليل الإنكار وتقريرِه أي أيُّ شيءٍ يعلمكم حالَهم وما سيكون عند مجيءِ الآياتِ لعلها إذا جاءت لا يؤمنون بها فمالكم تتمنون مجيئها فإن تمنيته إنما يليقُ بما إذا كان إيمانُهم بها محقَّقَ الوجودِ عند مجيئِها لا مرجوَّ العدم وقرىء إنها بالكسر على أنه استئنافٌ حسبما سبق مع زيادة تحقيقٍ لعدم إيمانِهم وقرىء لا تؤمنون بالفوقانية فالخطابُ في وما يشعركم للمشركين وقرىء وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون فمرجِعُ الإنكارِ إقدامُ المشركين على الإقسام المذكورِ مع جهلهم بحال قلوبِهم عند مجيءِ الآياتِ وبكونها حينئذٍ كما هي الآن
{وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم} عطفٌ على لا يؤمنون داخلٌ في حكم ما يشعركم مقيدٌ بما قُيِّد به أي وما يُشعرُكم أنا نقلّب أفئدتَهم عن إدراك الحقِّ فلا يفقهونه وأبصارَهم عن اجتلائه فلا يُبصرونه لكن لا مَعَ توجهها إليها واستعدادِها لقبوله بل لكمال نُبوِّها عنه وإعراضِها بالكلية ولذلك أخِّر ذكرُه عن ذكر عدمِ إيمانِهم إشعاراً بأصالتهم في الكفر وحما لتوهُّم أن عدم إيمانِهم ناشىءٌ من تقليبه تعالى مشاعرَهم بطريق الإجبار {كَمَا لم يُؤْمِنُواْ بِهِ} أي بما جاء من الآيات {أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي عند ورودِ الآياتِ السابقةِ والكافُ في محل النصب على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ منصوبٌ بلا يؤمنون وما مصدريةٌ أي لا يؤمنون بل يكفرون كفراً كائناً ككفرهم أولَ مرةٍ وتوسيطُ تقليبِ الأفئدةِ والأبصارِ بينهما لأنه من متمّمات عدمِ إيمانهم {ونذرهم} عكف على لا يؤمنون داخلٌ في حكم الاستفهامِ الإنكاريِّ مقيدٌ بما قُيِّد به مبيِّنٌ لما هو المرادُ بتقليب الأفئدة
الأنعام آية 111
والأبصار ومعْرِبٌ عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره بأن يُقلِّب الله سبحانه مشاعِرَهم عن الحق مع توجههم إليه واستعدادِهم له بطريق الإجبارِ بل بأن يُخلِّيَهم وشأنَهم بعد ما عُلم فسادُ استعدادِهم وفرطُ نفورِهم عن الحق وعدمُ تأثيرِ اللطفِ فيهم أصلاً ويطبَعُ على قلوبهم حسبما يقتضيه استعدادُهم كما أشرنا إليه وقوله تعالى {فِي طغيانهم} متعلِّقٌ بنذرهم وقوله تعالى {يَعْمَهُونَ} حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في نذرهم أي ندعُهم في طغيانهم متحيِّرين لا نهديهم هدايةَ المؤمنين أو مفعولٌ ثانٍ لنذرُهم أي نصيِّرهم عامِهين وقرىء يُقلِّب ويَذَرُ بالياءِ على إسنادِهما إلى ضمير الجلالةِ وقرىء تُقلَّبُ بالتاء والبناءِ للمفعول على إسناده إلى أفئدتهم
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة} تصريحٌ بما أَشعَرَ به قولُه عز وجل وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لَا يُؤْمِنُونَ منَ الحكمةِ الداعيةِ إلى ترك الإجابةِ إلى ما اقترحُوه من الآيات إثرَ بيانِ أنها في حكمه تعالى وقضائه المبنيِّ على الحِكَم البالغةِ لا مدخلَ لأحد في أمرها بوجه من الوجوه وبيانٌ لكذبهم في أيْمانهم الفاجرةِ على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه أي ولو أننا لم نقتصِرْ على إيتاء ما اقترحوه ههنا من آية واحدةٍ من الآيات بل نزلنا إليهم الملائكةَ كما سألوه بقولهم لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ وقولِهم لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة {وَكَلَّمَهُمُ الموتى} وشهدوا بحقية الإيمانِ بعد أن أحييناهم حسبما اقترحوه بقولهم فأتوا بأبائنا {وحشرنا} أي جميعا {عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً} بضمتين وقرىء بسكون الباء أي كفلاء بصحة الأمر وصدق النبيِّ صلى الله عليه وسلم على أنه جمع قبيل بمعنى الكفيل كرغيف ورُغُف وقضيب وقُضُب وهو الأنسبُ بقولِه تعالى أَوْ تَأْتِىَ بالله والملائكة قَبِيلاً أي لو لم نقتصر على ما اقتحوه بل زدنا على ذلك بأ أحضرنا لديهم كلَّ شيءٍ يتأتّى منه الكفالةُ والشهادةُ بما ذُكر لا فرادى بل بطريق المعيةِ أو جماعاتٍ على أنه جمعُ قبيل وهو الأوفق لعموم كلِّ شيءٍ وشمولِه للأنواع والأصنافِ أي حشرنا كلَّ شيء نوعاً نوعاً وصنفاً صنفاً وفوجاً فوجاً وانتصابُه على الحالية وجمعيتُه باعتبار الكل المجموعيِّ اللازمِ للكل الإفراديِّ أو مقابلةً وعِياناً على أنه مصدرٌ كقِبَلا وقد قرىء كذلك وانتصابُه على الوجهين على أنه مصدرٌ في موقعِ الحالِ وقد نقل عن المبرِّد وجماعةٍ من أهل اللغة أن الأخيرَ بمعنى الجهة كما في قولك لي قِبَلَ فلانٍ حقٌّ وأن انتصابَه على الظرفية {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي ما صح وما استقام لهم الإيمانُ لتماديهم في العصيان وغلوِّهم في التمرد والطُّغيانِ وأما سبق القضاءُ عليهم بالكفر فمن الأحكامِ المترتبةِ على ذلك حسبما ينبيء عنه قوله عز وجل وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وقوله تعالى {إَّلا أَن يشاء الله} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوالِ والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة أي ما كانوا ليؤمنوا بعد اجتماعِ ما ذُكِرَ منَ الأمورِ الموجبةِ للإيمان في حالٍ من الأحوالِ الداعيةِ إليه المتمِّمة لموجباته المذكورةِ إلا في حال مشيئتِه تعالى لإيمانهم أو من أعمِّ العللِ أي ما كانوا ليؤمنوا لعلة من العلل المعدودةِ وغيرِها إلا لمشيئته تعالى له وأيا ما كان فليس المرادُ بالاستثناء بيانَ أن إيمانَهم على خطر الوقوعِ بناءً على كون مشيئته
الأنعام آية 112
تعالى أيضاً كذلك بل بيانَ استحالةِ وقوعِه بناءً على استحالة وقوعِها كأنه قيل ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وهيهات ذلك وحالهم حال بدليل ما سبقَ من قولِه تعالى وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ الآية كيف لا وقولُه عز وجل {ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} استدراكٌ من مضمون الشرطيةِ بعد ورودِ الاستثناءِ لا قبله ولا ريب في أن الذي يجهلونه سواءٌ أريد بهم المسلمون وهو الظاهرُ أو المُقسِمون ليس عدمَ إيمانِهم بلا مشيئة الله تعالى كما هو اللازمُ من حمل النظمِ الكريمِ على المعنى الأولِ فإنه ليس مما يعتقده الأولون ولا مما يدّعيه الآخَرون بل إنما هو عدمُ غيمانهم لعدم مشيئته غيمانهم ومرجعه إلى جهلهلم بعدم مشيئته غياه فالعمنى أن حالَهم كما شُرح ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم غيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدمَ مشيئتِه تعالى لإيمانهم فيتمنَّوْن مجيئَها طمعاً فيما لا يكون فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون قوله تعالى وَمَا يُشْعِرُكُمْ الخ على القراءة المشهورة أو ولكن أكثرَ المشركين يجهلون عدمَ إيمانِهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدمَ مشيئتِه تعالى لإيمانهم حينئذ فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكونُ فالجملةُ على القراءة السابقةِ بيانٌ مبتدأٌ لمنشأ خطأ المقسِمين ومناطِ إقسامهم وتقريرٌ له على قراءة لا تؤمنون بالتاء الفوقانية وكذا على قراءة ما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً} كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لتسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عما كان يشاهده من عداوة قريش له عليه الصلاة والسلام وما بنَوْا عليها مما لا خير فيه من الأقاويل والأفاعيلِ ببيان أن ذلك ليس مختصاً بك بل هو أمرٌ ابتُليَ به كلُّ من سبَقك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أشير إليه بذلك منصوب بفعله المحذوف مؤكذا لما بعده وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما يفهم مما قبله أي جَعَلْنَا لِكُلّ نبيَ عَدُوّاً والتقديمُ على الفعل المذكورِ للقصر المفيدِ للمبالغة أي مثلَ ذلك الجعلِ الذي جعلنا في حقك حيث جعلنا لك عدواً يُضادُّونك ويضارُّونك ولا يؤمنون ويبغونك الغوائلويدبرون في إبطال أمرِك مكايدَ جعلنا لكل نبيَ تقدمَك عدواً فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤُك لا جعلاً أنقصَ منه وفيه دليلٌ على أنَّ عداوةَ الكفرةِ للأنبياء عليهم السلام بخلقه تعالى للابتلاء {شياطين الإنس والجن} أي مَرَدةَ الفريقين على أن الإضافةَ بمعنى مِنْ البيانية وقيل هي إضافةُ الصفةِ إلى الموصوف والأصلُ الإنسُ والجنُّ الشياطين وقيل هي بمعنى اللام أي الشياطين التي للإنس والتي للجن وهو بدلٌ من عدواً والجَعلُ متعدٍ إلى واحد أو إلى اثنين وهو أولُ مفعوليْه قُدِّم عليه الثاني مسارعةً إلى بيان العداوةِ واللام على التقديرين متعلقةٌ بالجعل أو بمحذوفٍ هو حالٌ من عدواً وقوله تعالى {يوحى بعضهم إلى بعض} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أحكامِ عداوتِهم وتحقيقُ وجهِ الشبهِ بين المشبهِ والمشبَّه به أو حالٌ من الشياطين أو نعتٌ لعدواً وجمعُ الضميرِ باعتبار المعنى فإنه عبارةٌ عن الأعداء كما في قوله
…
إذَا أنا لم أنفعْ صديقي بودّه فإن عدوِّي لم يضُرَّهمو بغضي والوحيُ عبارةٌ عن الإيماء والقول السريعِ أي يلقى
الأنعام 113 114
ويوسوس شياطينُ الجنِّ إلى شياطينِ الإنسِ أو بعضُ كلَ من الفريقين إلى بعض آخَرَ {زُخْرُفَ القول} أي المموَّهَ منه المزيَّنَ ظاهرُه الباطلَ باطنُه من زخرفه إذ زيّنه {غُرُوراً} مفعول له ليوحي أي ليغرهم أو مصدرٌ في موقعِ الحال أي غارّين أو مصدر مؤكد لفعل مقدر هو حال من فاعل يوحى أي يغرونغرورا {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ} رجوعٌ إلى بيان الشئون الجارية بينه صلى الله عليه وسلم وبين قومِه المفهومةِ من حكايةِ ما جَرَى بينَ الأنبياء عليهم السلام وبيم أُممِهم كما يُنْبىءُ عنه الالتفاتُ والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم المُعرِبة عن كمال اللطفِ في التسلية أي ولو شاء ربُّك عدمَ الأمورِ المذكورةِ لا إيمانَهم كما قيل فإن القاعدةَ المستمرةَ أن مفعولَ المشيئةِ إنما يحذف عند وقوعِها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاء وهو قوله تعالى {مَّا فَعَلُوهُ} أي ما فعلوا ما ذكر من عداوتك وإيحاءِ بعضهم إلى بعض مزخرفاتِ الأقاويلِ الباطلةِ المتعلقةِ بأمرك خاصة لا بما يعمّه وأمورَ الأنبياءِ عليهم السلام أيضاً كما قيلَ فإنَّ قولَه تعالى {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} صريحٌ في أنَّ المرادَ بهم الكفرةُ المعاصرون له عليه الصلاة والسلام أي إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتِك من فنون المفاسد بمشيئته تعالى فاترُكْهم وافتراءَهم أو وما يفترونه من أنواع المكايدِ فإن لهم في ذلك عقوباتٍ شديدةً ولك عواقبُ حميدةٌ لابتناء مشيئتِه تعالى على الحِكَم البالغة البتة
{ولتصغى إِلَيْهِ} أي إلى زُخرُفِ القولِ وهو على الوجه الأولِ علة أخرى للإيحاء معطوفةٌ على غروراً وما بينهما اعتراضٌ وإنما لم ينصَبْ لفقد شرطِه إذ الغرورُ فعلُ الموحي وصغْوُ الأفئدةِ فعلُ الموحى إليه أي يوحي بعضُهم إلى بعض زُخْرفَ القولِ ليغرهم به ولتميل إليه {أَفْئِدَةُ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالأخرة} إنما خصَّ بالذكر عدمُ إيمانِهم بالآخرة دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمانُ بها وهم بها كافرون إشعاراً بما هو المدارُ في صغْو أفئدتِهم إلى ما يُلقى إليهم فإن لذّاتِ الآخرةِ محفوفةٌ في هذه النشأةِ بالمكاره وآلامُها مزينةٌ بالشهوات فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراءَ تلك المكاره لذات ودون الشهواتِ آلاماً وإنما ينظُرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي فهم مضطرون إلى حبّ الشهواتِ التي من جملها مزخْرَفاتُ الأقاويلِ ومُموَّهاتُ الأباطيل وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحالِ ناظرين إلى عواقب الأمورِ لم يُتصوَّر منهم الميلُ إلى تلك المزخرَفاتِ لعلهم ببطلانها ووخامة عاقبتِها وأما على الوجهين الأخيرين فهو علةٌ لفعلٍ محذوف يدلُّ عليه المقامُ أي ولكون ذلك جعلنا ما جعلنا والمعتزلةُ جعلوا اللامَ لامَ العاقبةِ أو لام القسَم أو لامَ الأمر وضعفُه في غاية الظهور {وَلِيَرْضَوْهُ} لأنفسم بعد ما مالت إليه أفئدتهم {وَلِيَقْتَرِفُواْ} أي يكتسبوا بموجب ارتضائِهم له {مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} له من القبائح التي لا يليق ذكرُها
الأنعام آية 114
للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلامُ أي قل لهم أأمِيلُ إلى زخارف الشياطينِ فأبتغيَ حكماً غيرَ الله يحكمُ بيننا ويفصل المحِقَّ منا من المبْطِل وقيل إن مشركي قريشٍ قالُوا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرَنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت وإسنادُ الابتغاءِ المنكرِ إلى نفسه صلى الله عليه وسلم لا إلى المشركين كما في قوله تعالى أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ مع أنهم الباغون لإظهار كمالِ النَّصَفةِ أو لمراعاة قولِهم اجعل بيننا وبينك حكما وغيرَ إما مفعولُ أبتغي وحكَماً حالٌ منه وإما بالعكس وأياً ما كان فتقديمُه على الفعل الذي هو المعطوفُ بالفاء حقيقةً كما أشير إليه للإيذان بأن مدارالإنكار هو ابتغاءُ غيرِه تعالى حكماً لا مطلقُ الابتغاء وقيل حكماً تمييزٌ لما في غيرَ من الإبهام كقولهم إن لنا غيرَها إبلاً قالوا الحكَمُ أبلغُ من الحاكمِ وأدلُّ على الرسوخ لما أنه لا يُطلق إلا على العادل وعلى مَنْ تكرَّر منه الحكمُ بخلاف الحاكم وقوله تعالى {وَهُوَ الذى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} جملةٌ حاليةٌ مؤكدةٌ لإنكارِ ابتغاءِ غيرِه تعالى حكماً ونسبةُ الإنزالِ إليهم خاصةً مع أن مقتضى المقامِ إظهارُ تساوي نسبته إلى المتحاكمين لاستمالتعهم نحوَ المُنْزَل واستنزالِهم إلى قبول حكمه بإبهام قوةِ نسبتِه إليهم أي أغيرَه تعالى أبتغي حكَماً والحالُ أنه هو الذي أنزل غليكم وأنتم أمِّية لا تدرون ما تأتونَ وما تذرونَ القرآنَ الناطقَ بالحق والصوابِ الحقيقُ بأن يُخصَّ به اسمُ الكتاب {مُفَصَّلاً} أي مبيناً فيه الحقُّ والباطلُ والحلالُ والحرامِ وغيرُ ذلك من الأحكام بحيث لم يبْقَ في أمور الدينِ شيءٌ من التخليط والإبهامِ فأيُّ حاجة بعد ذلك إلى الحكم وهذا كما ترى صريحٌ في أن القرآنَ الكريمَ كافٍ في أمر الدينِ مغنٍ عن غيره ببيانه وتفصيلِه وأما أن يكون لإعجازه دخْلٌ في ذلك كما قيل فلا وقوله تعالى {والذين آتيناهم الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بالحق} كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ تحت القولِ المقدَّر مَسوقٌ من جهته سبحانه لتحقيق حقِّيةِ الكتابِ الذي نيط به أمرُ الحَكَمية وتقريرِ كونِه منزلا من عنده عز وجل ببيانِ أنَّ الذين وثِقوا بهم ورضوا بحَكَميّتهم حسبما نُقل آنفاً من علماء اليهودِ والنصارى عالمون بحقيته ونزولِه من عنده تعالى وفي التعبير عن التوراة والإنجيلِ باسم الكتابِ إيماءٌ إلى ما بينهما وبين القرآنِ من المجانسة المقتضيةِ للاشتراك في الحقية والنزولِ من عنده تعالى مع ما فيه من الإيجاز وإيراد الطائفتين بعنون إيتاءِ الكتابِ للإيذان بأنهم علِموه من جهة كتابِهم حيث وجدوه حسبما نُعت فيه وعاينوه موافِقاً له في الأصول ما لا يختف من الفروع ومُخبِراً عن أمور لا طريقَ إلى معرفتها سوى الوحي والمرادُ بالموصول إما علماءُ الفريقين وهو الظاهرُ فالإيتاءُ هو التفهيمُ بالفعل وإما الكلُّ وهم داخلون فيه دخولا أولياً فهو أعمُّ مما ذكر ومن التفهيم بالقوة ولا ريب في أن الكل متمكنون من ذلك وقبل المرادُ مؤمنوا أهلِ الكتاب وقرىء مُنْزلٌ من الإنزال والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه عليه الصلاة والسلام والباء في قوله تعالى بالحق متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الضَّمير المستكنِّ في مُنزّلٌ أي ملتبساً بالحق {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي في أنهم يعلمون ذلك لما لا تشاهِد منهم آثارَ العلم وأحكام المعرفة فالفاء لترتيب النهي على الإخبار بعلم أهل الكتاب بشأن القرآنِ أو في أنه منزلٌ من ربك بالحق فيكونُ منْ بابِ التَّهييج والإلهابِ كقوله تعالى وَلَا تَكُونَنَّ من
الأنعام آية 115 116
المشركين وقيل الخطابُ في الحقيقة للأمة وإن كان له صلى الله عليه وسلم صورةً وقيلَ الخطابُ لكلِّ أحدٍ على معنى أن الأدلةَ قد تعاضدت وتظاهرت فلا ينبغي لأحد أن يمتريَ فيه والفاءُ على هذه الوجوهِ لترتيب النهي على نفس علمِهم بحال القرآن
{وتمت كلمة رَبّكَ} شروعٌ في بيان كمالِ الكتابِ المذكورِ من حيث ذاتُه إثرَ بيانِ كمالِه من حيث إضافتُه إليه تعالى بكونه منزلاً منه بالحق وتحقيقُ ذلك بعلم أهلِ الكتاب به وإنما عبر عنه بالكلمة لأنها الأصلُ في الاتصاف بالصدق والعدلِ وبها تظهر الآثارُ من الحكم وقرىء كلماتُ ربك {صِدْقاً وَعَدْلاً} مصدران نصبا على الحال وقيل على التمييز وقيل على العلة وقوله تعالى {لَا مُبَدّلَ لكلماته} إما استئنافٌ مبينٌ لفضلها على غيرها إثرَ بيانِ فضلِها في نفسها وإما حالٌ أخرى من فاعلِ تمت على أن الظاهرَ مغنٍ عن الضمير الرابطِ والمعنى أنها بلغت القاصيةَ صدقاً في الإخبار والمواعيدِ وعدلاً في الأقضية والأحكامِ لا أحدَ يبدل شيئاً من ذلك بما هو أصدقُ وأعدلُ ولا بما هو مثلُه فكيف يُتصوّر ابتغاءُ حكمٍ غيرِه تعالى {وَهُوَ السميع} لكل ما يتعلق به السميع {العليم} بكل ما يمكن أن يُعلم فيدخُلُ في ذلك أقوالُ المتحاكمين وأحوالُهم الظاهرةُ والباطنةُ دخولاً أولياً هذا وقد قيل المعنى لا أحدَ يقدِر على أن يحرِّفها كما فُعل بالتوراة فيكونُ ضماناً لها من الله عز وجل بالحفظ كقوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون أو لا نبيَّ ولا كتابَ بعدها ينسخها
{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الارض} لما تحقق اختصاصهتعالى بالحكمية لاستقلاله بما يوجبها من إنزال الكتابِ الكاملِ الفاصلِ بين الحقِّ والباطلِ وتمامِ صدقِ كلامِه وكمالِ عدالةِ أحكامِه وامتناعِ وجودِ من يبدل شيئاً منها واستبدادِه تعالى بالإحاطة التامةِ بجميع المسموعات والمعلومات عقّب ذلك ببيان أن الكفرةَ متصفون بنقائض تلك الكمالاتِ من النقائض التي هي الضلالُ والإضلالُ واتباعُ الظنونِ الفاسدةِ الناشىءُ من الجهل والكذبِ على الله سبحانه وتعالى إبانةً لكمال مباينةِ حالِهم لما يرومونه وتحذيراً عن الرّكون إليهم والعملِ بآرائهم والمرادُ بمن في الأرض الناسُ وبأكثرهم الكفارُ وقيل أهلُ مكةَ والأرضُ أرضُها أي إن تُطِعهم بأن جعلتَ منهم حكَماً {يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} عن الطريق الموصلِ إليه أو عن الشريعة التي شرعها لعباده {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظن} وهو ظمنهم أن آباءَهم كانوا على الحق فهم على آثارهم يهتدون أو جهالاتُهم وآراؤهم الباطلةُ على أن المرادَ بالظن ما يقابل العلم والجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الشرطية كأنه قيل كيف يضلون فقيل لا يتبعون في أمور دينِهم إلا الظنَّ وإنّ الظنَّ لَا يُغْنِى مِنَ الحق شيئاً فيضلون ضلالاً مبيناً ولا ريبَ في أن الضالَّ المتصدّيَ للإرشاد إنما يُرشد غيرَه إلى مسلك نفسه فهو ضالون مضِلّون وقوله تعالى {وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} عطف على ما قبله داخلٌ في حُكمهِ أيْ يكذِبون على الله سبحانه فيما ينسُبون إليه تعالى كاتخاذ الولد وجعل
الأنعام آية 117 119
عبادةِ الأوثانِ ذريعةً إليه تعالى وتحليل الميتة زوتحريم البحائرِ ونظائرِها أو يقدّرون أنهم على شيء وأنّى لهم ذلك ودونه مناطُ العَيُّوقِ وحقيقتُه ما يقال عن ظن وتخمين
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} تقريرٌ لمضمون الشرطيةِ وما بعدها وتأكيدٌ لما يفيده من التحذير أي هو أعلمُ بالفريقين فاحذر أن تكون من الأولين ومَن موصولةٌ أو موصوفةٌ في محل النصبِ لا بنفس أعلمُ فإن أفعلَ التفضيلِ لا ينصِبُ الظاهرَ في مثل هذه الصور بل بفعل دلَّ هو عليه أو استفهاميةٌ مرفوعة بالابتداء والخبرُ يَضِلّ والجملةُ معلقٌ عنها الفعلُ المقدر وقرىء يُضِل بضم الياء على أن من فاعلٌ ليُضِل ومفعولُه محذوفٌ ومحلها النصب بما ذكر من الفعل المقدر أي هو أعلم يعلم من يُضِل الناسَ فيكون تأكيد للتحذير عن طاعة الكفرةِ وأما أن الفاعلَ هو الله تعالى ومَنْ منصوبةٌ بما ذكر أي يعلم مَنْ يُضِلّه أو مجرورةٌ بإضافة أعلمإليها أي أعلمُ المُضِلّين مِنْ قوله تعالى مَن يُضْلِلِ الله أو من قولك أضللتُه إذا وجدتُه ضالاً فلا يساعده السباقُ والسياقُ والتفضيلُ في العلم بكثرته وإحاطتِه بالوجوه التي يمكن تعلّقُ العلمِ بها ولزومُه وكونُه بالذات لا بالغير
{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} أمرٌ مترتبٌ على النهي عن اتباع المُضلّين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحلال وتحريم الحرام وذلك أنهم كانوا يقولولن للمسلمين إنكم تعبدون الله فما قتله الله أحقُّ أن تأكُلوه مما قتلتم أنتم فقيل للمسلمين كلوا ممّا ذُكر اسمُه تعالى خاصة على ذبحه لا مما ذكر عليه اسمُ غيرِه فقط أو مع اسمه تعالى أو مات حتفَ أنفِه {إِن كُنتُم بآياته} التي منْ جُملتها الآياتُ الواردةُ في هذا الشأن {مُّؤْمِنِينَ} فإن الإيمانَ بها يقتضي استباحةَ ما أحله الله والاجتنابِ عما حرمه وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه
{وما لكم ألا تأكُلوا مما ذكر اسم الله عَلَيْهِ} إنكارٌ لأنْ يكونَ لهُم شيءٌ يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذُكر عليه اسمُ الله تعالى من البحائر والسوائبِ ونحوِها وقوله تعالى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم} الخ جملةٌ حاليةٌ مؤكدةٌ للإنكار كما في قوله تعالى وَمَا لَنَا أَن لا نقاتل فِى سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وأبناءئنا أي وأيُّ سببٍ حاصلٍ لكُم في أَن لا تَأْكُلُواْ مِمَّا ذكر اسم الله عليه أو وأيُّ غرضٍ يحمِلُكم على أن لا تأكلوا ويمنعُكم من أكله والحالُ أنه قد فصل لكم {مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} بقوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا الخ فبقي ما عدا ذلك على الحِلّ لا بقوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة الخ لأنها مدنية وأما التأخرُ في التلاوة فلا يوجبُ التأخّرَ في النزول وقُرِىءَ الفعلانِ على البناءِ للمفعول وقرىء الأول على البناء للفاعل والثاني للمفعول {إِلَاّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} مما حرّم فإنه أيضاً حلالٌ حينئذ {وَإِنَّ كثيرا} أي من
الأنعام آية 120 122
الكفار {لَّيُضِلُّونَ} الناسَ بتحريم الحلالِ وتحليلِ الحرام كعمرو بن لحى وأضرا به وقرىء {يَضِلّون} بِأَهْوَائِهِم الزائغةِ وشهواتِهم الباطلة {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مقتبسٍ من الشريعة الشريفة مستندٍ إلى الوحي {إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين} المتجاوزين لحدود الحقِّ إلى الباطل والحلالِ إلى الحرام
{وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ} أي ما يُعلن من الذنوب وما يُسَرّ أو ما يعمل منها بالجوارح وما بالقلب وقيل الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان {إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم} أي يكتسبونه من الظاهر والباطن {سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} كائناً ما كان فلا بد من اجتنابهما والجملةُ تعليلٌ للأمر
{وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} ظاهرٌ في تحريم متروكِ التسميةِ عمْداً كان أو نسياناً وإليه ذهب داودُ وعن أحمد بن جنبل مثلُه وقال مالك والشافعي بخلافهلقوله صلى الله عليه وسلم ذبيحةُ المسلم حلالٌ وإن لم يذكر اسم الله عليه وفرق أبو حنيفة بين العمْد والنسيانِ وأوّله بالميتة أو بما ذكر عليه اسمُ غيرِه تعالى لقوله {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فإن الفسقَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله والضميرُ لما ويجوز أن يكون للأكل المدلولِ عليه بلا تأكلوا والجملةُ مستأنفةٌ وقيل حالية {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ} المرادُ بالشياطين إبليسُ وجنودُه فإيحاؤهم وسوستُهم إلى المشركين وقيل مرَدةُ المجوسِ فإيحاؤهم إلى أولياؤهم ما أَنْهَوا إلى قريشٍ بالكتاب أن محمداً وأصحابَه يزعُمون أنهم يتبعون أمرَ الله ثم يزعُمون أن ما يقتلونه حلالٌ وما يقتله الله حرام {ليجادلوكم} أي بالوساوس الشيطانيةِ أو بما نقل من أباطيلِ المجوسوهو يؤيد التأويلَ بالميتة {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في استحلالِ الحرامِ وساعدتموهم على أباطيلهم {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ضرورةَ أن من ترك طاعةَ الله إلى طاعة غيرِه واتبعه في دينه فقد أشركه به تعالى بل آثرَه عليه سبحانه
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا} وقرىء ميِّتاً على الأصل {فأحييناه} تمثيلٌ مَسوقٌ لتنفير المسلمين عن طاعة المشركينإثر تحذريهم عنها بالإشارة إلى أنهم مستضيئون بأنوار الوحي الإلهي والمشركون خابطون في ظلمات الكفرِ والطغيانِ فكيف يُعقل إطاعتُهم لهم والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ لعطف الجملةِ الاسميةِ على مثلها الذي يدل عليه الكلامُ أي أأنتم مثلُهم ومَنْ كان ميتاً فأعطيناه الحياةَ وما يتبعُها منَ القوى المُدْرِكة والمحرِّكة {وَجَعَلْنَا لَهُ} مع ذلك من الخارج {نُوراً} عظيماً {يَمْشِي بِهِ} أي بسببه والجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل فماذا يصنع بذلك النورِ فقيل يَمْشِي بِهِ {فِى الناس} أي فيم بينهم آمِناً من جهتهم أو صفةٌ له {كَمَن مَّثَلُهُ} أي صفتُه العجيبةُ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {فِى الظلمات} خبرُه على أن
الأنعام آية 123
المرادَ بهما اللفظُ لا المعنى كما في قولك زيدٌ صفتُه اسمرُ وهذه الجملةُ صلةٌ لمن وهي مجرورةٌ بالكاف وهي مع مجرورها خبرٌ لمن الأولى وقوله تعالى {لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} حالٌ من المستكن في الظرف وقيل من الموصول أي غيرُ خارجٍ منها بحال وهذا كما ترى مثل ما أريد به من بقي في الضلالة بحيث لا يفارقها أصلاً كما أن الأولَ مثَلٌ أريد به مَنْ خَلقه الله تعالى على فطرة الإسلامِ وهداه بالآيات البينةِ إلى طريق الحقِّ يسلُكه كيف يشاء لكن لا على أن يدل على كل واحدٍ من هذه المعاني بما يليقُ بهِ من الألفاظ الواردةِ في المثَلين بواسطة تشبيهِه بما يناسبه من معانيها فإن ألفاظَ المثَلِ باقيةٌ في معانيها الأصلية بل على أنه قد انتُزعت من الأمور المتعددةِ المعتبرةِ في كلِّ واحدٍ من جانبي الممثلين هيئة على حدة ومن الأمور المتعددة المذكورة في كل كل واحدٍ من جانبي المَثَلين هيئةٌ على حِدَة فشبهت بهما الأوليان زنزلنا منزلتيهما فاستُعمل فيهما ما يدل على الأُخْريين بضرب من التجوّز وقد أشير في تفسيرِ قولِه تعالى خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ الآية إلى أن التمثيلَ قسمٌ برأسه لا سبيل إلى جعله من باب الاستعارةِ حقيقةً وأن الاستعارةَ التمثيليةَ من عبارات المتأخرين نعم قد يجري ذلك على سنن الاستعارةِ بأن لا يُذكرَ المشبّه كهذين التمثيلين ونظائرِهما وقد يجري على منهاج التشبيه كما في قوله
…
وما الناسُ إلا كالديار وأهلُها بها يوم حلوها وغدوابلاقع {كذلك} أي مثلَ ذلك التزيينِ البليغ {زُيّنَ} أي من جهة الله تعالى بطريق الخلق عند إيحاءِ الشياطينِ أو من جهة الشياطين بطريق الزخرفةِ والتسويلِ {للكافرين} التابعين للوساوس الشيطانيةِ الآخذين بالمُزخْرَفات التي يوحونها إليهم {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ما استمرّوا على عمله من فنون الكفر والمعاصي التي من جملتها ما حُكي عنهُم من القبائحِ فإنها لو لم تكن مُزينةً لهم لما أصروا عليها ولما جادلوا بها الحقَّ وقيل الآية نزلت في حمزةَ رضي الله عنه وأبي جهلٍ وقيل في عمر أو عمار رضي الله عنهما وأبي جهل
{وكذلك} قيل معناه كما جعلنا في مكةَ أكابرَ مجرميها ليمكروا فيها {جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ} من سائر القرى {أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} ومفعولا جعلنا أكابرَ مجرميها على تقديم المفعولِ الثاني والظرفُ لغو أو هما الظرف وأكبر على أن مجرميها بدلٌ أو مضافٌ إليه فإنَّ أفعلَ التفضيلِ إذا أُضيف جاز الإفرادُ والمطابقةُ ولذلك قرىء أكبرَ مجرميها وقيل أكابرَ مجرميها مفعولُه الأولُ والثاني ليمكروا فيها ولا يخفى أن أيَّ معنى يراد من هذه المعاني لا بد أن يكون مشهود التحققِ عند الناسِ معهوداً فيما بينهم حتى يصلُحَ أن تُصرَفَ الإشارةُ عن سياق النظمِ الكريمِ وتوجَّهَ إليه ويُجعلَ مقياساً لنظائره بإخراجه مُخرجَ المصدرِ التشبيهيِّ وظاهرٌ أنْ ليس الأمرُ كذلك ولا سبيلَ إلى توجيهها إلى ما يُفهم من قولِه تعالَى كَذَلِكَ زُيّنَ للكافرين مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وإن كان المرادُ بهم أكابرَ مكةَ لأن مآلَ المعنى حينئذ بعد اللتيا والتي كما جعلنا أعمالَ أهل مكة مزينة لهكم جعلنا في كل قرية أكابرَ مجرميها الخ فإذن الأقربُ إِنَّ ذلك إشارةٌ إلى الكفَرة المعهودين باعتبار اتصافِهم بصفاتهم والإفرادُ بتأويل الفريقِ أو المذكور ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنه المفعولُ الثاني لجعلنا قدم
الأنعام آية 124
عليه لإفادة التخصيصِ كما في قوله تعالى كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ الآية والأولُ أكابرَ مجرميها والظرف لغو أي ومثلَ أولئك الكفرةِ الذين هم صناديدُ مكةَ ومجرموها جعلنا في كل قريةٍ أكابرَها المجرمين أي جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزيَّناً لهم أعمالُهم مُصِرّين على الباطل مجادلين به الحقَّ ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكرَ فيها وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَاّ بِأَنفُسِهِمْ} اعتراضٌ على سبيل الوعدِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والوعيدِ للكفرة أي وما تحيقُ غائلةُ مكرِهم إلا بهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} حال من ضمير يمكرون مع اعتبار ورود الاستثناء على النفي أي إنما يمكرون بأنفسهم والحالُ أنهم ما يشعُرون بذلك أصلاً بل يزعُمون أنهم يمكرون بغيرهم وقوله تعالى
{وإذا جاءتهم آية} رجوعٌ إلى بيان حالِ مجرمي أهلِ مكةَ بعد ما بُيِّن بطريق التسليةِ أن حالَ غيرِهم أيضاً كذلك وأن عاقبةَ مكرِ الكلِّ ما ذُكر فإن العظيمةَ المنقولةَ إنما صدَرت عنهم لا عن سائر المجرمين أي إذا جاءتهم آية بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى {مثل ما أوتى رسل الله} قال ابن عباس رضي الله عنهما حتى يوحيَ إلينا ويأتيَنا جبريلُ عليه السلام فيخبرَنا أن محمداً صادق كما قالوا أَوْ تَأْتِىَ بالله والملائكة قَبِيلاً وعن الحسن البصْري مثلُه وهذا كما ترى صريحٌ ي أن ما عُلّق بإيتاء ما أوتيَ الرسلُ عليهم الصلاة والسلام هو إيمانُهم برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه إيماناً حقيقياً كما هُو المتبادَرُ منه عند الإطلاقِ خلا أنه يستدعي أن يُحمل ما أوتى رسل الله على مطلق الوحي ومخاطبةِ جبريلُ عليه السلام في الجملة ة وأن تُصرفَ الرسالةُ في قوله تعالى {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} عن ظاهرها وتُحملَ على رسالة جبريلَ عليه السلام بالوجه المذكور ويُرادَ بجعلها تبليغُها إلى المرسَل إليه لا وضعُها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتّى كونُه جوبا عن اقتراحهم ورداً له بأن يكونَ معنى الاقتراحِ لن نؤمنَ بكون تلك الآيةِ نازلةً من عند الله تعالى إلى الرسول حتى يأتينا بالذات عينانا كما يأتي الرسولُ فيخبرُنا بذلك ومعنى الردّ الله أعلم مَنْ يليقُ بإرسال جبريلَ عليه السلام إليه لأمر من الأمور إيذاناً بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريفِ وفيه من التمحُّل ما لا يخفى وقال مقاتلٌ نزلتْ في أبي جهلٍ حين قال زاحَمْنا بني عبدِ منافٍ في الشرف حتى إذا صِرْنا كفرَسَيْ رهانٍ قالوا أمنا نبيٌّ يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبداً حتى يأتيَنا وحيٌ كما يأتيه وقال الضحاك سأل كلُّ واحد من القوم أن يُخَصّ بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنْهُم فِي قوله بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ولا يخفى أنَّ كلَّ واحدٍ من هذين القولين وإن كان مناسباً للرد المذكورِ لكنه يقتضي أن يراد بالإيمان المُعلَّقِ بإيتاء ما أوتيَ الرسلُ مجردُ تصديقِهم برسالته عليه الصلاة والسلام في الجملة من غير شمولٍ لكافة الناس وأن تكون كلمةُ حتى في قول اللعينِ حتى يأتيَنا وحيٌ كما يأتيه الخ غايةً لعدم الرضا لا لعدم الاتباعِ فإنه مقررٌ على تقديرَيْ إيتاءِ الوحي وعدمِه فالمعنى لن نؤمنَ برسالته أصلاً حتى نؤتى نحن من الوحي والنبوة مثل ما أوتى رسل الله أو
الأنعام آية 125
إيتاءً مثلَ إيتاءِ رسلِ الله وأما ما قيل من أن الوليدَ بنَ المغيرةِ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانت النبوةُ حقاً لكنتُ أولى بها منك لأني أكبرُ منك سناً وأكثرُ منك مالاً وولداً فنزلت فلا تعلُّقَ له بكلامهم المردودِ إلا أن يرادَ بالإيمان المعلَّقِ بما ذكر مجردُ الإيمانِ بكون الآيةِ النازلةِ وحياً صادقاً لا الإيمانِ بكونها نازلةً إليه عليه الصلاة والسلام فيكون المعنى وإذا جاءتهم آيةٌ نازلةٌ إلى الرسول قالوا لن نؤمنَ بنزولها من عند الله حختى يكونَ نزولُها إلينا لا إليه لأنا نحن المستحقون دونه فإن مُلخّصَ معنى قولِه لو كانت النبوةُ حقاً الخ لو كان ما تدّعيه من النبوة حقاً لكنتُ أنا النبيَّ لا أنت وإذ لم يكُنِ الأمرُ كذلكَ فليست بحق وماله تعليقُ الإيمانِ بحقية النبوةِ بكون نفسِه نبياً ومثلَ ما أُوتيَ نُصب على أنه نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي حتنى نؤتاها إيتاءً مثلَ إيتاءِ رسلِ الله وإضافةُ الإيتاءِ إليهم لأنهم منكِرون لإيتائه صلى الله عليه وسلم وحيث نُصب على المفعولية توسعاً لا بنفس أعلمُ لما عرفتَ من أنَّه لا يعمل في الظاهر بل يفعل دلَّ هو عليه أي هو أعلمُ يعلم الموضِعَ الذي يضعها فيه والمعنى أن منصِبَ الرسالةِ ليس مما ينال بكثرة المالِ والولدِ وتعاضُدِ الأسبابِ والعدد وإنما يُنال بفضائلَ نفسانيةٍ يخُصّها الله تعالى بمن يشاء من خُلّص عبادِه وقرىء رسالاتِه {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ} استئنافٌ آخرُ ناعٍ عليهم ما سيلقونه من فنون الشر بعد مانعى عليهم حِرمانَهم مما أمّلوه والسين للتأكيد ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ للإشعار بأن إصابةَ ما يصيبهم لإجرامهم المستتبِعِ لجميع الشرورِ والقبائحِ أي يصيبهم البتةَ مكانَ ما تمنَّوْه وعلّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من عزة النبوة وشرفِ الرسالة {صَغَارٌ} أي ذلة وحقارة بعد كِبْرِهم {عَندَ الله} أي يوم القيامة وقيل من عند الله {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} في الآخرةِ أو في الدنيا {بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} أي بسبب مكرِهم المستمرِّ أو بمقابلته وحيث كان هذا من معظم موادِّ إجرامِهم صُرّح بسببيته
{فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ} أي يُعرِّفه طريقَ الحقِّ ويوفِّقَه للإيمان {يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} فيتسعَ له وينفتح وهو كنايةٌ عن جعل النفس قابلةً للحق مهيئة لحلوله فيها مصفّاةً عما يمنعه وينافيه وإليه أشارَ عليه الصلاة والسلام حين سئل فقال نورٌ يقذِفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفتح فقالوا هل لذلك من أمارة يُعرف بها فقال نعم الإنابةُ إلى دارِ الخُلودِ والإعراضُ عن دار الغرورِ والاستعدادُ للموت قبل نزوله {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} أي يخلُقَ فيه الضلالَ بصرفِ اختيارِه إليه {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً} بحيث ينبو عن قَبول الحقِّ فلا يكاد يدخله الإيمانُ وقرىء ضَيْقاً بالتخفيف وحرِجاً بكسر الراء أي شديد الضيق والأولُ مصدرٌ وُصف به مبالغةً {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ} ما هذه مُهيِّئةٌ لدخول كأنّ على الجمل الفعلية {فِى السماء} شِبْهٌ للمبالغة في ضيق صدرِه بمن يزاول ما لا يكادُ يُقدر عليه فإن صعودَ السماءِ مثلٌ فيما هو خارجٌ عن دائرة الاستطاعة وفيه تنبيه على أن الإيمانَ يمتنع منه كما يمتنع منه الصعودُ وقيل معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبُوّاً عن الحق وتباعداً في الهرب منه وأصلُ يصعّد يتصعّد وقدقرىء به وقرىء يصّاعد وأصله يتصاعد {كذلك} أي مثلَ ذلك الجعلِ الذي هو جعل الصدر حرجا
الأنعام آية 126 128
على الوجه المذكور {يَجْعَلُ الله الرجس} أي العذابَ أو الخِذلانَ قال مجاهدٌ الرجس مالا خيرَ فيه وقال الزجاج الرجسُ اللعنةُ في الدنيا والعذابُ في الآخرة {عَلَى الذين لَا يُؤْمِنُونَ} أي عليهم ووضعُ الموصول موضعَ المضمرِ للإشعار بأن جعلَه تعالى معلَّلٌ بما في حيز الصلة من كمال نبُوِّهم عن الإيمان وإصرارِهم على الكفر
{وهذا} أي البيانُ الذي جاء به القرآنُ أو الإسلامُ أو ما سبق من التوفيق والخذلان {صراط رَبّكَ} أي طريقُه الذي ارتضاه أو عادتُه وطريقتُه التي اقتضتها حِكمتُه وفي التعرض لعنوان الربيوبية إيذانٌ بأن تقويمَ ذلك الصراطِ للتربية وإفاضةِ الكمال {مُّسْتَقِيماً} لا عِوَج فيه أو عادلا مطردا وهو حالٌ مؤكدة كقوله تعالى وَهُوَ الحق مُصَدّقًا والعاملُ فيها معنى الإشارةِ {قَدْ فصلنا الآيات} ببناها مفصلةً {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} يتذكرون ما في تضاعيفها فيعلمون أن كلَّ ما يحدُث من الحوادث خيرا كان أو شرا فإنما يحدُث بقضاء الله تعالى وخلقِه وأنه تعالى عالمٌ بأحوال العبادِ حكيمٌ عادلٌ فيما يفعل بهم وتخصيصُ القومِ المذكورين بالذكر لأنهم المنتفِعون بتفصيل الآيات
{لَهُمْ دَارُ السلام} أي للمتذكرين دارُ السلامة من كل المكاره وهي الجنة {عِندَ رَبّهِمْ} أي في ضمانه أو ذخيرةٌ لهم عنده لا يعلم كُنهَها غيرُه تعالى {وَهُوَ وَلِيُّهُم} أي مولاهم وناصرُهم {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بسبب أعمالِهم الصالحةِ أو متولِّيهم بجزائها يتولى إيصالَه إليهم
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} منصوبٌ بمضمر إما على المفعولية أو الظرفية وقرىء بنون العظمةِ على الالتفاتِ لتهويل الأمرِ والضميرُ المنصوبُ لمن يُحشر من الثقلين أي واذكر يوم الحشر الثقلين قائلاً {يَا مَعْشَرَ الجن} أو ويوم يحشرهم يقول يا معشرَ الجنِّ أو ويوم يحشرهم ويقول يا معشرَ الجن يكونُ من الأحوال والأهوالمال لا يساعده لفظاعته والمعشرُ الجماعةُ والمرادُ بمعشر الجنِّ الشياطينُ {قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس} أي من إغوائهم وإضلالِهم أو منهم بأن جعلتموهم أاتباعكم فحُشِروا معكم كقولهم استكثر الأمير من أي من الجنود وهذا بطريق التوبيخِ والتقريع {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم} أي الذين أطاعوهم ومِنْ في قولِه تعالَى {مّنَ الإنس} إما لبيان الجنسِ أي أولياؤُهم الذين هم الإنسُ أو متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من أولياؤهم أي كاتئنين من الإنس {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} أي انتفع الإنسُ بالجن بأن دلُّوهم على الشهوات وما يُتوصَّل به إليها وقيل بأن ألقوا إليهم من الأراجيف والسِّحر والكهانة والجن بالإنس بأ أطاعوهم وحصّلوا مرادَهم بقَبول ما ألقوه إليهم وقيل استمتاعُ الإنسِ بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز
الأنعام آية 129 ش 30
والمخاوفِ واستمتاعُهم بالإنس اعترافُهم بأنهم قادرون على إجازتهم {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا} وهو يومُ القيامة قالوه اعترافاً بما فعلوه من طاعة الشياطينِ واتباعِ الهوى وتكذيبِ البعث وإظهاراً للندامة عليها وتحسراً على حالهم واستسلاماً لربهم ولعل الاقتصارَ على حكاية كلامِ الضالّين للإيذان بأن المُضلِّين قد أُفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية كلا منهم كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الله تعالى حينئذ فقيل قال {النار مَثْوَاكُمْ} أي منزِلُكم أو ذاتُ ثوُائِكم كما أن دارَ السلام مثوى المؤمنين {خالدين فِيهَا} حال والعاملُ مثواكم إن جُعل مصدراً ومعنى الإضافة إن جُعل مكاناً {إِلَاّ مَا شَاء الله} قال ابن عباس رضي الله عنهما استثنى الله تعالى قوماً قد سبق في علمه أنهم يُسلمون ويصدِّقون النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهذا مبنيٌّ على أن الاستثناءَ ليس من المحكيّ وما بمعنى مَنْ وقيل المعنى إلا الأوقاتَ التي يُنقلون فيها من النار إلى الزمهرير فقد رُوي أنهم يدخُلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميِّزُ بعضَ أوصالِهم من بعض فيتعاوَوْن ويطلُبون الردَّ إلى الجحيم وقيل يفتح لهم وهم في النار بابٌ إلى الجنة فيُسرعون نحوه حتى إذا صاروا إليه سُدَّ عليهم الباب وعلى التقديرين فالاستثناءُ تهكّمٌ بهم وقيل إلا ما شاء الله قبل الدخولِ كأنه قيل النارُ مثواكم أبداً إلا ما أمهلكم ولا يخفى بعدُه {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في أفاعيله {عَلِيمٌ} بأحوال الثقلين وأعمالِهم وبما يليق بها من الجزاء
{وكذلك} أي مثلَ ما سيق من تمكين الجنِّ من إغواء الإنسِ وإضلالِهم {نُوَلّى بَعْضَ الظالمين} من الإنس {بَعْضًا} آخرَ منهم أي نجعلهم بحيث يتولَّوْنهم بالإغواء والإضلالِ أو نجعل بعضَهم قرناءَ بعضٍ في العذاب كما كانوا كذلك في الدنيا عند اقترافِ ما يُؤدِّي إليه من القبائح {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بسبب ما كانوا مستمرِّين على كسبه من الكفر والمعاصي
{يَا مَعْشَرَ الجن والإنس} شروعٌ في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشَرَين وتقريعِهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسِهم إثرَ حكايةِ توبيخِ معشر الجنِّ بإغواء الإنسِ وإضلالِهم وبيانِ مآلِ أمرِهم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أي في الدنيا {رُسُلُ} أيْ مِنْ عندِ الله عز وجل ولكن لا على أن يأتيَ كلُّ رسولٍ كلَّ واحدة من الأمم بل على أن يأتي كلَّ أمة رسولٌ خاصٌّ بها أي ألم يأتِ كلَّ أمة منكم رسولٌ معين وقوله تعالى {مّنكُمْ} متعلقٌ بمحذوف وقع صفةٌ لرسلٌ أي كائنةٌ من جملتكم لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معاً بل من الإنس خاصةً وإنما جُعلوا منهما إما لتأكيد وجوبِ اتباعِهم والإيذانِ بتقاربهما ذاتاً واتحادِهما تكليفاً وخطاباً كأنّهما جنسٌ واحد ولذلك تمكن أحدُهما من إضلال الآخَر وإما لأن المرادَ بالرسل ما يعمُّ رسلَ الرسلِ وقد ثبت أن الجن قد استمعوا القرآن وأنذروا به قومَهم حيث نطق به قوله تعالى وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً من الجن يستمعون الرقآن
الأنعام آية 131
إلى قوله تعالى وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ وقوله تعالى {يقصون عليكم آياتي} صفةٌ أخرى لرسلٌ محققةٌ لما هو المرادُ من إرسال الرسل من التبليغ والإنذارِ وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين {وَيُنذِرُونَكُمْ} بما هو في تضاعيفها من القوارع {لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} يومِ الحشرِ الذي قد عاينوا فيه ما أُعدَّ لهم من أفانين العقوباتِ الهائلة {قالوا} استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابقِ كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك التوبيخِ الشديد فقيل قالوا {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} أي بإتيان الرسلِ وإنذارِهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب وباستحقاقهم بسبب ذلك للعذاب المخلّد حسبما فصل ي حكاية جوابِهم عن سؤال خَزَنةِ النار حيث قالوا بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ فِى ضلال كَبِيرٍ وقد أجمل ههنا في الحكاية كما أُجمل في حكاية جوابِهم حيث قالوا بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين وقوله تعالى {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} معَ ما عُطف عليه اعتراضٌ لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكابهم للقبائح التي ارتكبوها وألجأهم بعد ذلك في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذابِ وذمٌّ لهم بذلك أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئةِ واللذات الخسيسةِ الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسل واجترءوا على ارتكاب ما يجُرّهم إلى العذاب المؤبَّد الذي أنذروهم إياه {وَشَهِدُواْ} في الآخرة {عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ} في الدُّنيا {كافرين} أي بالآيات والنذر التي أتى بها الرسلُ على التفصيل المذكورِ آنفاً واضطُرّوا إلى الاستسلام لأشد العذابِ كما ينبىء عنه ما حُكيَ عنُهم بقولِه تعالى وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أصحاب السعير وفيه من تحسيرهم وتحذيرِ السامعين عن مثل صنيعِهم ما لا مزيدَ عليه
{ذلك} إشارة إلى ما ذُكر من شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {أَن لم يكن ربك مهلك القرى} بحذف اللام ى أَنَّ أنْ مصدريةٌ أو مخففةٌ من أنَّ وضميرُ الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ وقوله تعالى {بِظُلْمٍ} متعلقٌ إما بمهلك أي بسبب ظلمٍ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من القُرى أي ملتبسةً بظلم فإن مكلابسة أهلِها للظلم ملابسةٌ للقرية له بواسطتهم وأما كونُه حالاً من ربك أو من ضميرِه في مُهلكَ كما قيل فيأباه أن غفلةَ أهلِها مأخوذةٌ في معنى الظلمِ وحقيقتِه لا محالة فلا يحسُن تقييدُه بقوله تعالى {وَأَهْلُهَا غافلون} والمعنى ذلك ثابتٌ لانتفاء كونِ ربِّك أو لأن الشأنَ لم يكن ربك مهلك القرى بسبب أي ظلم فعلوه من أفراد الظلم قيل أن يُنْهَوْا عنه ويُنَبَّهوا على بُطلانه برسول وكتابٍ وإن قضَى به بديهةُ العقولِ ويُنذَروا عاقبةَ جناياتِهم أو لولا انتفاءُ كونِه تعالى معذباً لهم قبل إرسالِ الرسلِ وإنزالِ الكتبِ لَما أمكن التوبيخُ بما ذُكر ولَما شهِدوا على أنفسهم بالكفر واستيجابِ العذاب ولا اعتذروا بعدم إتيانِ الرسل كما في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فنتبع آياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى وإنما عُلّل ما ذُكر بانتفاء التعذيبِ الدنيويِّ الذي هو إهلاكُ القرى قبل الإنذارِ مع أن التقريبَ في تعليله بانتفاء مطلقِ التعذيب من غير بعث الرسلِ أتمُّ على ما نطقَ به قولُه تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً لبيان كمال
الأنعام آية 132 134
نزاهتِه سبحانه وتعالى عن كلا التعذيبين الدنيوي والأخروي معاً من غير إنذارٍ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه حيث اقتُصِر على نفي التعذيبِ الدنيوي عنه تعالى ليثبُتَ نفيُ التعذيبِ الأخروي عنه تعالى على الوجه البرهانيّ بطريق الأولوية فإنه تعالى حيث لم يعذِّبهم بعذاب يسيرٍ منقطعٍ بدون إنذارٍ فلأن لا يعذِّبَهم بعذاب شديد مخلدٍ أولي وأجلي ولو عُلل بما ذكر من نفي التعذيبِ لا نصرف بحسب المقام إلى ما فيه الكلامُ من نفي التعذيب الأخروي ونفي التعذيب الدنيوي وغير متعرَّضٍ له لا صريحاً ولا دَلالةً ضرورةَ أن نفي الأعلى لا يدل على نفي الأدنى ولأن ترتب العذاب الدنيويِّ على الإنذار عند عدمِ تأثرِ المنذَرين منه معلومٌ مشاهدٌ عند السامعين فيستدلون بذلك على أن التعذيبَ الأخرويَّ أيضاً كذلك فينزجرون عن الإخلال بمواجب الإنذارِ أشدَّ انزجارٍ هذا هُو الذي تستدعيهِ جزالة النظمِ الكريم وأما جعلُ ذلك إشارةً إلى إرسال الرسلِ عليهم السلام وإنذارِهم وخبرُ المبتدأ محذوفٌ كما أطبقَ عليه الجمهورُ فبمعزل من مقتضى المقامِ والله سبحانه أعلم
{وَلِكُلّ} أي من المكلفين من الثقلين {درجات} متفاوتةٌ وطبقاتٌ متباينة {مّمَّا عَمِلُواْ} من أعمالهم صالحةً كانت أو سيئةً فإن أعمالَهم درجاتٌ في أنفسها أو من جزاء أعمالِهم فإن كلَّ جزاءٍ مرتبةٌ معينةٌ لهم أو من أجل أعمالِهم {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} فيخفى عليه عملٌ من أعمالهم أو قدْرُ ما يستحقون بها من ثواب أو عقاب وقرىء بالتاء تغليباً للخطاب على الغَيْبة
{وَرَبُّكَ الغنى} مبتدأٌ وخبرٌ أي هو المعروفُ بالغني عن كلِّ ما سواهُ كائنا من كان وكا كان فيدخُل فيه غناه عن العباد وعن عبادتهم في التعرُّض لوصف الربوبيةِ في الموضعين لا سيما في الثاني لكونه موقعَ الإضمار مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من إظهار اللطفِ به صلى الله عليه وسلم وتنزيهِ ساحتِه عن توهم شمولِ الوعيدِ الآتي لها أيضاً ما لا يخفى وقوله تعالى {ذُو الرحمة} خبرٌ آخرُ أو هو الخبرُ والغنيُّ صفةٌ أي يترحم عليهم بالتكليف تكميلاً لهم ويُمهلهم على المعاصي وفيه تنبيه على أن ما سلف ذكرُه من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتمهيدٌ لقوله تعالى {إِن يَشَأْ يذهبكم} أي مابه حاجةٌ إليكم إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا العصاةُ وفي تلوين الخطابِ من تشديد الوعيد ما لا يخفى {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم} أي من بعد إذهابِكم {مَا يَشَاء} من الخلق وإيثارُ مَا على مَنْ لإظهار كمالِ الكبرياءِ وإسقاطِهم عن رتبة العقلاءِ {كَمَا أَنشَأَكُمْ من ذرية قوم آخرين} أي من نسل قومٍ آخرين لم يكونوا على مثل صفتِكم وهم أهلُ سفينة نوحٌ عليه الصلاة والسلام لكنه أبقاكم ترحماً عليكم وما في كما مصدريةٌ ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنه مصدر تشبيهي على غير الصدر فإن يستخلف في معنى ينشىء كأنه قيل وينشىء إنشاءً كائناً كإنشائكم الخ أو نعتٌ لمصدر الفعل المذكور أي يستخلف استخلافاً كائناً كإنشائكم الخ والشرطيةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلها من الغنى والرحمة
الأنعام آية 135 136
أي الذي توعدونه من البعث وما يتفرَّع عليه من الأمور الهائلةِ وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على الاستمرار التجددي {لأَتٍ} لواقعٌ لا محالة كقوله تعالى إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لواقع وإيثارُه عليه لبيان كمالِ سرعةِ وقوعِه بتصويره بصورة طالبٍ حثيثٍ لا يفوته هاربٌ حسبما يُعرب عنه قوله تعالى {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين ذلك وإن ركِبتم في الهرب متنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلولٍ كما أن إيثارَ صيغةِ الفاعلِ على المستقبل للإيذان بكمال قربِ الإتيان والمرادُ بيانُ دوامِ انتفاءِ الإعجازِ لا بيانُ انتفاءِ دوامِ الإعجاز فإن الجملة الاسميةَ كما تدل على دوام الثبوتِ تدل بمعونة المقام إذا دخل عليها حرف النفي على دوام الانتفاءِ لا على انتفاء الدوامِ كما حُقّق في موضعه
{قل يا قوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} إثرَ ما بيّن لهم حالَهم ومآلَهم بطريق الخطاب أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التلوينِ بأن يواجِهَهم بتشديد التهديد وتكريرِ الوعيد ويظهر لهم ما هو عليه غاية التصلب في الدين ونهايةِ الوثوقِ بأمره وعدم المبالاةِ بهم أي اعملوا على غاية تمكنكم واستطاعتك يقال نمكن مكانةً إذا تمكّن أبلغَ التمكّن أو على جهتكم وحالتِكم التي أنتمُ عليها من قولهم مكان ومكانة كمقامٌ ومقامة وقرىء مكاناتِكم والمعنى اثبتوا على كفرهم ومعاداتكم {إِنّى عامل} ما أُمرت به من الثبات على الإسلام والاستمرارِ على الأعمال الصالحةِ والمصابرةِ وإيرادُ التهديد بصيغة الأمرِ مبالغةٌ في الوعيد كأن المهددَ يريد تعذيبَه مجمِعاً عليه فيحمِله بالأمر على ما يؤدي إليه وتسجيلٌ بأن المهدِّد لا يتأتّى منه إلا الشرُّ كالذي أُمر به بحيث لا يجد إلى التقصّي عنه سبيلاً {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار} سوف لتأكيد مضمونِ الجملة والعلمُ عرفاني ومن إما استفهامية معلقة لفعل العلم محلُّها الرفعُ على الابتداءِ وتكون باسمها وخبرها خبرٌ لها وهي مع خبرها في محل نصبٍ لسدها مسدَّ مفعول تعلمون أي فسوف تعلمون أيُّنا تكون له العاقبةُ الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الديار لها وإما موصولةٌ فمحلُّها النصبُ على أنَّها مفعولٌ لتعلمة ون أي فسوف تعلمون الذي له عاقبةُ الدارِ وفيه مع الإنذار إنصافٌ في المقال وتنبيهٌ على كمال وثوقِ المنذِرِ بأمره وقرىء بالياء لأن تأنيثَ العاقبةِ غيرُ حقيقي {إِنَّهُ} أي الشأنَ {لَا يُفْلِحُ الظالمون} وُضع الظلمُ موضِعَ الكفرِ إيذاناً بأن امتناعَ الفلاحِ يترتب على أي فردٍ كان من أفراد الظلمِ فما ظنُّك بالكفر الذي هو أعظمُ أفرادِه
{وَجَعَلُواْ} شروعٌ في تقبيح أحوالِهم الفظيعةِ بحكاية أقوالِهم وأفعالهم الشنيعة مشركوا العربِ كانوا يُعيِّنون أشياءَ من حرث ونتاج لله تعالى وأشياءَ منهما لآلهتهم فإذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً رجَعوا فجعلوه لآلهتهم وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم تركوه معتلين بأن اللع تعالى غنيٌّ وما ذاك إلا لحب آلهتِهم وإيثارِهم لها والجعلُ إما متعدَ إلى واحد فالجارّان في قوله تعالى
الأنعام آية 137
{لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} متعلقان به ومِنْ في قولِه تعالَى {مِنَ الحرث والانعام} بيانٌ لما وفيه تنبيهٌ على فرط جهالتِهم حيث أشركوا الخالقَ في خلقه جماداً لا يقدِر على شيءٍ ثم رجّحوه عليه بأن جعلوا الزكيَّ له أي عيَّنوا له تعالى مما خلقه من الحرث والأنعام {نَصِيباً} يصرِفونه إلى الضِيفان والمساكينِ وتأخيرُه عن المجرورَيْن لما مرَّ مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وإما إلى مفعولين أولُهما مما ذرأ على أن من تبعيضية أي جعلوا بعضَ ما خلقه نصيباً له وما قيل من أن الأولَ نصيباً والثاني لله لا يساعده سَدادُ المعنى وحكايةُ جعلِهم له تعالى نصيباً تدل على أنهم جعلوا لشركائهم أيضاً نصيباً ولم يُذْكر اكتفاءً بقوله تعالى {فَقَالُواْ هذا لِلَّهِ} بِزَعْمِهِمْ {وهذا لِشُرَكَائِنَا} وقُرىء بضم الزاءِ وهو لغةٌ فيه وإنما قُيِّد به الأولُ للتنبيه على أنه في الحقيقة ليس يجعل الله تعالى غيرُ مستتبِعٍ لشيء من الثواب كالتطوعات التي يُبتغى بها وجهُ الله تعالى لا لما قيلَ من أنه للتنبيه على أن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به فإن ذلك مستفادٌ من الجعل ولذلك لم يقيَّدْ به الثاني ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ تمهيداً لما بعده على معنى أن قولَهم هذا لله مجرَّدُ زعمٍ منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصُه به تعالى فقوله تعالى {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى الله وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ} بيانٌ وتفصيلٌ له أي فما عيَّنوه لشركائهم لا يُصرَف إلى الوجوه التي يُصرف إليها ما عيّنوه لله تعالى من قِرى الضِيفان والتصدقِ على المساكين وما عيَّنوه لله تعالى إذا وجدوه زاكياً يُصرف إلى الوجوه التي يُصرف إليها ما عيّنوه لآلهتهم من إنفاق عليها وذبحِ نسائِكَ عندها والإجراءِ على سَدَنتها ونحو ذلك {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} فيما فعلوا من إيثار ى لهتهم على الله تعالى وعملهم بما لم يُشرَعْ لهم وما بمعنى الذي والتقديرُ ساء الذي يحكُمون حكمَهم فيكون حكمُهم مبتدأً وما قبله الخبرُ وحُذف لدِلالة يحكُمون عليه
{وكذلك} ومثلَ ذلك التزيينِ وهو تزيينُ الشرك في قسمة القُربانِ بين الله تعالى وبين آلهتهم أو مثل ذلك التزيين البليغ المعهودِ من الشياطين {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم} بوأدهم ونحْرِهم لآلهتهم كان الرجل يحلِف في الجاهلية لئن وُلد له كذا غلاماً لينحَرَنّ أحدهم كما حلف عبدُ المطلب وهو مشهور {شُرَكَاؤُهُمْ} أي أولياؤهم من الجن أو من السَّدَنة وهو فاعلُ زَيَّن أُخِّر عن الظرف والمفعولِ لما مر غيرَ مرةٍ وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ الذي هو القتلُ ونصبِ الأولاد وجرِّ الشركاء بإضافة القتلِ إليه مفصولاً بينهما بمفعوله وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ ورفعِ قتل وجرِّ أولادِهم ورفعِ شركاؤهم بإضمار فعلٍ دلَّ عليه زُيِّن كأنه لما قيل زُيِّن لهم قتلُ أولادِهم قيل مَنْ زيَّنه فقيل زينه شركاؤهم {ليردوهم} أي يهلكوهم بالإغواء {وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} وليخلِطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسمعيل عليه السلام أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به واللامُ للتعليل إن كان التزيينُ من الشياطين وللعاقبة إن كان من السدنة {وَلَوْ شَاء الله} أي عدمَ فعلهم ذلك {مَّا فَعَلُوهُ} أي ما فعل المشركون ما زُيّن لهم من القتل أو الشركاء التزيين أو الإرداء واللبس أو الفريقان جميعَ ذلك على إجراء الضميرِ مُجرى اسمِ الإشارةِ {فَذَرْهُمْ وَمَا يفترون} الفاء
الأنعام آية 138 139
فصيحةٌ أي إذا كان ما فعلوه بمشيئة الله تعالى فدعهم وافتراءَهم أو وما يفترونه من الإفك فإن فيما شاء الله تعالى حِكَماً بالغة إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إثماً ولهم عذاب مهين وفيه من شدة الوعيدِ ما لا يخفى
{وَقَالُواْ} حكايةٌ لنوعٍ آخرَ من أنواع كفرِهم {هذه} غشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم والتأنيثُ للخبر {أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ} أي حرام فِعْلٌ بمعنى مفعول كالذِبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى لأن أصله المصدر ولذلك وقع صفةً لأنعامٌ وحرثٌ وقرىء حُجُر بالضم وبضمتين وحَرَجٌ أي ضيق وأصله حرج وقيل هو مقلوب من حجر {لَاّ يَطْعَمُهَا إِلَاّ مَن نَّشَاء} يعنون خدنم الأوثانِ من الرجال دون النساءِ والجملةُ صفةٌ أخرى لأنعامٌ وحرثٌ بِزَعْمِهِمْ متعلقٌ بمحذوف هو حال من فاعل قالوا أي قالوه ملتبسين بزعمهم الباطلِ من غير حجة {وأنعام} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ معطوفةٌ على قولِه تعالى هذه أنعام الخ أي قالوا مشيرين إلى طائفةٍ أُخرى من أنعامهم وهذه أنعامٌ {حُرّمَتْ ظُهُورُهَا} يعنون بها البحائرَ والسوائبَ والحواميَ {وأنعام} أي وهذه أنعام كما مرَّ وقوله تعالى {لَاّ يذكرون اسم الله عليها} صفةٌ لأنعام لكنه غيرُ واقعٍ في كلامهم المحكيِّ كنظائره بل مَسوقٌ من جهتِه تعالَى تعييناً للموصوف وتمييزاً له عن غيره كما في قوله تعالى وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله على أحد التفاسير كأنه قيل وأنعامٌ ذُبحت على الأصنام فإنها التي لا يُذكر عليها اسمُ الله وإنما يُذكر عليها اسمُ الأصنام وقيل لا يحجّون عليها فإن الحجَّ لا يعرى عن ذكرِ الله تعالى وقال مجاهد كانت لهم طائفة ما أنعامهم لا يذكرون اسمَ الله عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركِبوا ولا إن حلبوا ولا إن ننجوا ولا إن باعوا ولا إن حمَلوا {افتراء عَلَيْهِ} نُصب على المصدر إما على أن ما قالوه تقوُّلٌ على الله تعالى وإما على تقدير عاملٍ من لفظه أي افترَوا افتراءً والجارُّ متعلقٌ بقالوا أو بافترَوا المقدّر أو بمحذوف هو صفة له لا بافتراءً لأن المصدرَ المؤكد لا يعمل أو على الحالِ من فاعل قالوا أي مفترين أو على العلة أي للافتراء فالجارُّ متعلق به {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي بسببه أو بدله وفي غبهام الجزاءِ من التَّهويلِ ما لا يخفى
{وَقَالُواْ} حكايةٌ لفن آخرَ من فنون كفرِهم {مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام} يعنون به أجنة البحائرِ والسوائبِ {خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا} حلالٌ لهم خاصة والناء للنقل إلى الاسمية أو للمبالغة أو لأن الخالصة مصدرٌ كالعافية وقع موقعَ الخالصِ مبالغةً أو بحذف المضاد أي ذو خالصة أو للتأنيث بناء على أنَّ ما عبارةٌ عن الأجنة والتذكير في قوله تعالى {وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} أي جنس أزواجِنا وهن الإناثُ باعتبار اللفظ وفيه كما ترى حملٌ للنظم الكريم على خلاف المعهودِ الذي هو الحملُ على اللفظ ولا على المعنى ثانياً كما في قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ الخ ونظائرِه وإما العكس فقد
الأنعام آية 140 141
قالوا إنمه لا نظيرَ له في القرآن وهذا الحكمُ منهم إن وُلد ذلك حيا وهو الظاهر المعتادُ {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} أي إن ولدت ميتة {فَهُمُ} أي الذكورُ والإناث {فِيهِ} أي فيما في بطون الأنعامِ وقيل المرادُ بالميتة ما يعُمّ الذكرَ والأنثى فغلب الأولُ على الثاني {شُرَكَاء} يأكلون منه جميعاً وقرىء خالصةً بالنصب على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ والخبرُ لذكورنا أو حال من الضمير الذي في الظرف لا من الذي في ذكورنا ولا من الذكور لأنه لا يتقدم على العامل المعنويِّ ولا على صاحبه المجرورِ وقرىء خالصُهُ بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ما أو مبتدأٌ ثانٍ {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي جزاءَ وصفِهم الكذبَ على الله تعالى في أمر التحليل والتحريم من قوله تعالى وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} تعليلٌ للوعيد بالجزاء فإن الحكيمَ العليمَ بما صدر عنهم لا يكاد يترك جزاءَهم الذي هو من مقتضَيات الحكمة
{قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم} جوابُ قسمٍ محذوفٍ وقرىء بالتشديد وهم ربيعةُ ومضرُ وأضرابُهم من العرب الذين كانوا يئِدون بناتِهم مخافةَ السبْي والفقر أي خسِروا دينَهم ودنياهم {سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلقٌ بقتلوا على أنه علة له أي لخِفة عقلهم وجهلِهم بأن الله هو الرزاقُ لهم ولأولادهم أو نُصب على الحال ويؤيده أنه قرىء سفهاءَ أو مصدر {وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله} من البحائر والسوائب ونحوهما {افتراء عَلَى الله} نُصب على أحد الوجوه المذكورة وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لإظهار كمالِ عُتوِّهم وطغيانهم {قَدْ ضَلُّواْ} عن الطريق المستقيم {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} إليه وإن هُدوا بفنون الهدايات أو وما كانوا مهتدين من الأصل لسوء سيرتِهم فالجملةُ حينئذ اعتراضٌ وعلى الأول عطف على ضلوا
{وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات} تمهيدٌ لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعامِ أي هو الذي أنشأهن من غير شركة لأحد في ذلك بوجهٍ من الوجوه والمعروشاتُ من الكروم المرفوعاتُ على ما يحملها {وَغَيْرَ معروشات} وهن المُلْقَياتُ على وجه الأرض وقيل المعروشاتُ ما غرسه الناسُ وعرّشوه وغيرُ المعروشات ما نبت في البوادي والجبال {والنخل والزرع} عطفٌ على جناتٍ أي أنشأهما {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} وقرىء أُكْله بسكون الكاف أي ثمرُه الذي يُؤكل في الهيئة والكيفية والضميرُ إما للنخل والزرعُ داخلٌ في حكمه أو للزرع والباقي مَقيسٌ عليه أو للجميع على تقدير أكل ذلك أو كلِّ واحد منهما ومختلفا مقدرة إذ ليس كذلك وقت الإنشاء {والزيتون والرمان} أي أنشأهما وقوله تعالى {متشابها وَغَيْرَ متشابه} نُصب على الحالية أي يتشابه بعض
الأنعام آية 142 143
أفرادِهما في اللون والهيئةِ أو الطعم ولا يتشابه بعضها {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} أي من ثمر كل واحدٍ من ذلك {إِذَا أَثْمَرَ} وإن لم يدرك ولم يينع بعد وقيل فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أريد به ما كان يُتصدَّق به يوم الحصاد بطريق الوجوب من غير تعيين المقدارِ لا الزكاةُ المقدرةُ فإنها فُرِضت بالمدينة والسورةُ مكية وقيل الزكاةُ والآيةُ مدنيةٌ والأمر بإيتائها يوم الحصادِ لِيُهتمَّ به حينئذ حتى لا يؤخَّر عن وقت الأداء وليعلم أن الوجوبَ بالإدراك لا بالتصفية وقرىء يوم حصاده بمكسر الحاء وهو لغةٌ فيه {وَلَا تُسْرِفُواْ} أي في التصدق كما رُوي عن ثابت بن قيس أنه صرَم خمسَمائة نخلةٍ ففرَّق ثمرَها كلِّها ولم يُدخل منه شيئاً إلى منزله كقوله تعالى وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط الآية {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المسرفين} أي لا يرتضي إسرافَهم
{وَمِنَ الانعام حَمُولَةً وَفَرْشًا} شروع في تفصيل حال الأنعامِ وإبطالِ ما تقوَّلوا على الله تعالى في شأنها بالتحريم والتحليل وهو عطفٌ على مفعول أنشأ ومِنْ متعلقةٌ به أي وأنشأ من الأنعام ما يُحمل عليه الأثقالُ وما يُفرش للذبح أو ما يُفرش المصنوعُ من شعره وصوفِه ووبرِه وقيل الكبارُ الصالحةُ للحمل والصغارُ الدانيةُ من الأرض كأنها فُرشٌ مفروشٌ عليها {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} ما عبارةَ عما ذُكر من الحَمولة والفَرْش ومِنْ تبعيضيةٌ أي كلوا بعضَ ما رزقكم الله تعالى أي حلالَه وفيه تصريحٌ بأن إنشاءَها لأجلهم ومصلحتِهم {وَلَا تَتَّبِعُواْ} في أمر التحليل والتحريم بتقليد أسلافِكم المجازفين في ذلك من تلقاء أنفسِهم المفترين على الله سبحانه {خطوات الشيطان} فإن ذلك منهم بإغوائه واستتباعِه إياهم {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهرُ العداوة
{ثمانية أزواج} الزوجُ ما معه آخَرُ من جنسه يُزاوجُه ويحصُل منهما النسلُ والمرادُ بها الأنواعُ الأربعةُ وإيرادُها بهذا العنوان وهذا العددِ تمهيدٌ لما سيق له الكلامُ من الإنكار المتعلّقِ بتحريم كلِّ واحدٍ من الذكر والأنثى وبما في بطنها وهو بدلٌ من حَمولةً وفرشاً منصوبٌ بما نَصَبهما وجعلُه مفعولاً لكلوا على أنَّ قولَه تعالى وَلَا تَتَّبِعُواْ الآية معترض بينهما أو حالا مِنْ ما بمعنى مختلفةً أو متعددةً يأباه جزالةُ النظمِ الكريم لظهور أنه مَسوقٌ لتوضيح حالِ الأنعام بتفصيلها أولاً إلى حمولةٍ وفرْشٍ ثم بتفصيلها إلى ثمانية أزواجٍ حاصلةٍ من تفصيل الأولى إلى الإبل والبقر وتفصيلِ الثاني إلى الضأن والمَعَز ثم تفصيلِ كلَ من الأقسام الأربعة إلى الذكر والأنثى كلُّ ذلك لتحرير الموادِّ التي تقوّلوا فيها عليه سبحانه وتعالى بالتحليل والتحريم ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم في كل مادة من تلك المواد بتوجيه الإنكار إليها مفصلة واثنين في قوله سبحانه وتعالى {مّنَ الضأن اثنين} بدلٌ من ثمانيةَ أزواج منصوبٌ بناصبه وهو العاملُ في مِنْ أي أنشأ من الضأن زوجين الكبشَ والنعجة
الأنعام آية 144
وقرىء اثنان على الابتداء والضأنُ اسمُ جنس كالإبل وجمعُه ضَئين كأمير أو جنمع ضائن كتاجر وتجْرٍ وقرىء بفتح الهمزة {وَمِنَ المعز اثنين} عطفٌ على مثله شريكْ له في حكمه أي وأنشأ من المعز زوجين التيسَ والعنز وقرىء بفتح العين وهو جمعُ ماعز كصاحب وصحْب وحارس وحرَس وقرىء ومن المِعْزى وهذه الأزواجُ الأربعةُ تفصيلٌ للفَرْش ولعل تقديمَها في التفصيل مع تأخر أصلِها في الإجمال لكون هذين النوعين عرضةً للأكل الذي هو معظمُ ما يتعلق به الحِلُّ والحُرمة وهو السرُّ في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله من غير تعرضٍ للانتفاع بالحمل والركوب وغيرِ ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتِها {قُلْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إثرَ تفصيلِ أنواعِ الأنعامِ التي أنشأها قُلْ تبكيتا لهم وإظهارا لانقطاعهم عن الجواب {آلذكرين} من ذَيْنك النوعين وهما الكبشين والتيسُ {حَرَّمَ} أي الله عز وجل كما تزعُمون أنه هو المحرم {أم الأنثيين} هما النعجة والعنز نصب الذكرين والأنثيين بحَرَّم وهو مؤخر عنهمات بحسب المعنى وإن توسط بينهما صورةً وكذا قوله تعالى {أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين} أي ما حملت إناثُ النوعين حَرَّم ذكراً كان أو أنثى وقوله تعالى {نَبّئُونِي بِعِلْمٍ} الخ تكريرٌ للإلزام وتثنيةٌ للتبكيت والإفحام أي أخبروني بأمر معلومٍ من جهة الله تعالى من الكتاب أو أخبارِ الأنبياءِ يدل على أنه تعالى حرم شيئاً مما ذُكر أو نبئوني تنبئةً ملتبسةً بعلم صادرةً عنه {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في دعوى التحريمِ عليه سبحانه وقوله تعالى
{وَمِنَ الإبل اثنين} عطفٌ على قوله تعالى من الضأن اثنين أي وأنشأ من الإبل اثنين هما الجمل والناقة {وَمِنَ البقر اثنين} ذكر واثنى {قُلْ} إفحاماً لهم في أمر هذين النوعين أيضاً {آلذكرين} منهما {حَرَّمَ أَمِ الانثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثيين} من ذينك النوعين والمعنى إنكارُ أن الله سبحانى حرَّم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة ة إظهار كذبِهم في ذلك وتفصيلُ ما ذكر من الذكور والإناثِ وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكارِ على كل مادةٍ من موادّ افترائِهم كانوا يحرمون من ذكر الأنعام تارة وأولادَها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كلَّه إلى الله سبحانه وإنما عُقّب تفصيلُ كلِّ واحدٍ من نوعي الصغارِ ونوعي الكبارِ بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكارِ مع حصول التبكيتِ بإيراد الأمر عقيب تفصيل أنواع الأربعةِ بأن يقال قل آلذكور حرم أو الإناثَ أم ما اشتملت عليه أرحامُ الإناث لما في التثنية والتكري من المبالغة في التبكيت والإلزام وقوله تعالى {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء} تكريرٌ للإفحام كقوله تعالى نَبّئُونِي بِعِلْمٍ وأمْ منقطعة ومعنى الهمزةِ الإنكارُ والتوبيخُ ومعنى بل الإضراب بما ذُكر إلى التَّوبيخِ بوجه
الأنعام آية 145
أخرى بل كنتم حاضرين مشاهدين {إِذْ وصاكم الله بهذا} أي حين وصاكم بهذا الترحيم إذ أنتم لا تؤمنون بنبيَ فلا طريقَ لكم حسبما يقود إليه مذهبُكم إلى معرفة أمثالِ ذلك إلا المشاهددة والسماعُ وفيه من تركيك عقولِهم والتهكمِ بهم ما لا يَخفْى {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} فنسبَ إليه تحريمَ ما لم يحرم والمرادكبراؤهم والمقررون لذلك أو عمر بنُ لُحيِّ بنِ قُمعةَ وهو المؤسسُ لهذا الشرِّ أو الكلُّ لاشتراكهم في الافتراءعليه سبحانه وتعالى فأي طريق أظلمُ من فريقٍ افتروا الخ ولا يقدح في أظلمية الكلِّ كونُ بعضِهم مخترعينله وبعضِهم مقتدين بهم والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما سبق من تبكيتهم وإظهارِ كذِبهم وافترائِهم أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالمٍ وإن كان المنفيُّ صريحا الأظلمية دون المساواةِ كما مر غيرَ مرة {لِيُضِلَّ الناس} متعلق بالافتراء {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل افترى أي افترى عليه تعالى بصدور التحريم منه تعالى وإنما وصفوا بعد العلمِ بذلك مع أنهم عالمون بعدم صدورِه عنه تعالى إيذانا بخروجهم في الظالم عن الحدود والنهاياتِ فإن من افتلاى عليه تعالى بغير علم بصدوره عنه تعالى مع احتمال الصدورِ عنه إذا كان أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ فما ظنُّك بمن افترى عليه تعالى وهو يعلم أنه لم يصدُرْ عنه ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً من فاعليصل أي ملتبساً بغير علم بما يؤدي بهم إليه {إِنَّ الله لَا يَهْدِى القوم الظالمين} كائناً من كان إلى ما فيه صلاحٌ حالهم عاجلاً أو آجلاً وإذا كان هذا حالُ المتصفين بالظلم في الجملة فما ظنُّك بمن هو في أقصى غاياتِه
{قُلْ} أُمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعد إلزامِ المشركين وتبكيتِهم وبيانِ أن ما يتقوّلونه في أمر التحريمِ افتراءٌ بحتٌ لا أصلَ له قطعاً بأن يُبيِّن لهم ما حرّمه عليهم وفي قوله تعالى {لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا} إيذانٌ بأن مناطَ الحلِّ والحُرمةِ هو الوحيُ وأنه صلى الله عليه وسلم قد تتبع في جميعَ ما أوحيَ إليه وتفحّص عن المحرمات فلم يجد غيرَ ما فُصِّل وفيه مبالغةٌ في بيان انحصارها في ذلك ومحرما صفةٌ لمحذوف أي لا أجد ريثما تصفحْتُ ما أوحي إلي كعاما محرماً من المطاعم التي حرَّموها {على طَاعِمٍ} أي أيِّ طاعمٍ كان من ذَكَرٍ أَوْ أنثى رداً على قولهم مُحَرَّمٌ على أزواجنا وقوله تعالى لزيادة التقريرِ {إِلا أَن يَكُونَ} أي ذلك الطعامُ {ميتة} وقرىء تكون بالتء لتأنيث الخبرِ وقرىء ميتةٌ بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ وقوله تعالى {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} حينئذ عطفٌ على أنْ مع ما في حيزه أي إلا وجودَ ميتةٍ أو دماً مسفوحاً أي مصبوباً كالدماء التي في العروقلا كالطحال والكبِد {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ} أي الخنزيرَ {رِجْسٌ} أي لحمُه قذرٌ لتعوه أكل النجاسات أوخبيث {أَوْ فِسْقًا} عطف على لحمَ خنزيرٍ وما بينهما اعتراضٌ مقرِّر لحرمته {أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} صفةٌ له من ضحة أي ذُبح على اسم الأصنامِ وإنما سُمِّي ذلك فسقاً لتوغله في الفسق ويجوز أن يكون فسقاً مفعولاً له لأُهِلَّ وهو عطف على يكون والمستكن راجعٌ إلى ما رجع إليه المستكن في يكون {فمن اضطر} أي
الأنعام آية 146
أصابه الضَّرورةُ الداعيةُ إلى أكل الميتة بوجه من الوجة وه المضطرة {غَيْرَ بَاغٍ} في ذلك على مضطرمثله {وَلَا عَادٍ} قدرَ الضرورة {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} مبالِغٌ في المغفرةِ والرحمةِ لا يؤاخذه بذلك وليس التقييدُ بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجَد القيدُ لتحققت الحرمة المبحوثُ عنها بل للتحذير من حرام آخر هو آخذخ حقِّ مضطرٍ آخرَ فإن من أخذ لحمَ الميتة من يد مضطرٍ آخرَ فأكله فإن حرمتَه ليست باعتبا كونِه لحمَ الميتة بل باعتبار كونه حقاً للمضطر الآخر وأما الحال الثاني فلتحقيق زوالِ الحرمةِ المبحوثِ عنها قطعاً فإن التجاوزَ عن القدر الذي يُسدّ به الرمقُ حرامٌ من حيث إنه لحمُ الميتة وفي التعرض لوصفي المغفرةِ والرحمةِ إيذانٌ بأن المعصيةَ باقيةٌ لكنه تعالى يغفرُ له ويرحمه والآيةُ محكمةٌ لأنها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحيَ إليه في تلك الغاية غيرَه ولا ينافيه ورودُ التحريمِ بعد ذلك في شيء آخرَ فلا يصِحُّ الاستدلالُ بها على نسخ الكتابِ بخبر الواحدِ ولا على حل الأشياءِ التي هي غيرُها إلا مع الاستصحاب
{وعلى الذين هادوا} خاصة لا على من عجاهم من الأولين والآخِرين {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} أي كلَّ ما له أصبَعٌ من الإبل والسباعِ والطيورِ وقيل كلَّ ذي مِخْلبٍ وحافرٍ وسُمِّيَ الحافرُ ظفُراً مجازاً والمسبَّبُ عن الظلم هو تعميمُ التحريمِ حيث كان بعضُ ذواتِ الظفرِ حلالاً لهم فلما ظلموا عم التحريمُ كلَّها وهذا تحقيقٌ لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بلإبطال ما يخالفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون لسنا أولَ من حُرِّمتْ عليه وإنما كانت محرمةً على نوح وإبراهيم من بعدَهما حتى انتهى الأمرُ إلينا {وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} لا لحومَهما فإنها باقيةٌ على الحل والشحومُ الثروبُ وشحومُ الكلى والإضافةُ لزيادة الربطِ {إِلَاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} استثناء من الشحوم ومخرج لما علِق من الشحم بظهورهما عن حكم التحريم {أَوِ الحوايا} عطفٌ على ظهورهما أي ما حملته الحوايا وهي جمعُ حاوية أو حاوِياء كقاصِعاء وقواصِعَ أو حوية كسفينة وسفائن {أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} عطف على ما حمَلَتْ وهو شحمُ الأَلْيةِ واختلاطُه بالعظم اتصالُه بعُجْب الذنب وقيل هو كلُّ شحمٍ متصلٍ بالعظم من الأضلاع وغيرِها {ذلك} إشارة إلى الجزاء والتحريم فهو على الأول نُصب على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لما بعده وعلى الثَّاني على أنَّه مفعولٌ ثان لهأي ذلك التحريمُ {جزيناهم بِبَغْيِهِمْ} بسبب ظلمِهم وهو قتلُهم الأنبياءَ بغير حق وأكلُهم الربا وقد نهو عنه وَأَكْلِهِمْ أموالَ الناس بالباطل كقوله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ وكانوا كلما أتَوْا بمعصية عُوقبوا بتحريم شيءٍ مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدّعون أنها لم تزَلْ محرمةً على الأمم فرد ذلك عليهم وأكذ بقوله تعالى {وِإِنَّا لصادقون} أي في جميع أخبارِنا التي من حملتها هذا الخبرُ ولقد ألقمهم الحجر قوله تعالى كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسرائيلَ إلا ما حرم إسرائيل على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك بهتوا ولم يجسروا أن
الأنعام آية 147 149
يخرجوا التوراة وكيف وقد بُيِّن فيها جميعُ ما يحذرون وأوضح بيان
{فَإِن كَذَّبُوكَ} قيل الضمير لليهود لأنهم أقربُ ذِكراً ولذكر المشركين بعد ذلك بعنوان الإشراك وقيل للمشركين فالمعنى على الأول إن كذبتْك اليهودُ في الحكم المذكورِ وأصروا على ما كانُوا عليهِ من ادعاء قِدَم التحريم {فَقُلْ} لهم {ربكم ذو رحمة واسعة} لا يؤاخذكم لكل ما تأتونه من المعاصي ويُمهلكم على بعضها {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ} بالكلية {عَنِ القوم المجرمين} فلا تنكروا ما وقع منه تعالى من تحريمِ بعضِ الطيبات عليكم عقوبةً وتشديداً وعلى الثاني فإن كذبك المشركون يما فُصل من أحكام التحليل والتحريمِ فقل لهم ربُكم ذو رحمة واسعة لا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنَّه إمهالٌ لا إهمالٌ وقيل ذو رحمةٍ للمطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فأقيم مُقامَه قوله تعالى وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ الخ لتضمنه التنبيهَ على إنزال البأسِ عليهم مع الدلالة أنه لا حقّ بهم اُلبتةَ منْ غيرِ صارفٍ يصرِفه عنهم أصلاً
{سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ} حكاية لفنَ آخرَ من كُفرِهم وإخبارُه قبل وقوعِه ثم وقوعُه حسبما أُخبر به كما يحكيه قوله تعالى عند وقوعِه وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآء الله ما عبدنا مِن دُونِهِ مِن شَىْء صريحٌ في أنَّه من عندِ الله {لو شآء الله ما أَشْرَكْنَا} أي لو شاء خلافَ ذلك مشيئةَ ارتضاءٍ لما فعلنا الإشراك نحن {ولا آباؤنا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَىْء} أرادوا به أنَّ ما فعلُوه حقٌّ مرضيٌّ عندَ الله تعالَى لَا الاعتذارَ من ارتكاب هذه القبائحِ بإرادة الله تعالى إياها منهم حتى ينتهضَ ذمُّهم به دليلا للمعتزل ألايرى إلى قوله تعالى {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي مثلَ ما كذّبك هؤلاءِ في أنه تعالى منَع من الشرك ولم يحرِّم ما حرموه كذّب متقدموهم الرصل فإنه صريحٌ فيما قلنا وعهطف آباؤنا على الضمير للفصل بلا {حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم {قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ} من أمر معلوم يصِحّ الاحتجاجُ به على ما زعمتم {فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي فتُظهروه لنا {إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظن} أي ما تتبعون في ذلكَ إِلَاّ الظنَّ الباطلَ الذي لَا يُغْنِى مِنَ الحق شيئاً {وَإِنْ أَنتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ} تكذِبون على الله عز وجل وليس فيه دلالةٌ على المنع من اتباع الظنِّ على الإطلاق بل فيما يعارضه قطعي
{قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة} الفاء جواب شرطمحذوف أي قد ظهر أن لا حجةَ لكم فللَّه الحجةُ البالغة أي البينةُ الواضحة التيبلغت غايةَ المتانةِ والثباتِ أو بلغ بها صاحبُها صحةَ دعواه والمرادُ بها الكتابُ والرسولُ والبيانُ وهي من الحجج بمعنى القصدَ كأنها تقصُد إثباتَ الحُكم وتطلُبه {فَلَوْ شَاء} هدايتَكم جميعاً {لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} بالتوفيق لها والحملِ عليها لكن
الأنعام آية 150 151
لم يشأْ هدايةَ الكلِّ بل هدايةَ البعضِ الصارفين هِممَهم إلى سلوك طريقِ الحقِّ وضلالَ آخرين صرفوا اختيارَهم إلى خلاف ذلك من غير صارف يلويهم ولا عاطفٍ يَثْنيهم
{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ} أي أحضِروهم وهو اسمُ فعلٍ لا يتصرَّف على لغة أهلِ الحجاز وفعلٌ يؤنث ويُجمع على لغة بني تميم على رأي الجمهور وقد خالفهم البعض في فعليته وليس بشيء وأصلُه عند البصريين هالُمّ من لَمّ إذا قصَد حُذفت الألفُ لتقدير السكون في اللام فإنه الأصل وعند الكوفيين هلْ أُمَّ فحذفت الهمزةُ بإلقاء حركتِها على اللام وهو بعيد لأن هل تدخل الأمر ويكون متعدياً كما في الآية ولازما كمال في قوله تعالى هَلُمَّ إِلَيْنَا {الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا} وهم قدوتُهم الذين ينصُرون قولَهم وإنما أُمروا باستحضارهم ليُلزِمَهم الحجة ويظهربانقطاعهم ضلالتَهم وأنه لا متمسَّكَ لهم كمن يقلدهم ولذلك قُيّد الشهداءُ بالإضافة ووُصفوا بما يدل على أنهم شهداءُ معروفون بالشهادة لهم وبنُصرة مذهبهم {فَإِن شَهِدُواْ} بعد ما حضَروا بأن الله حرم هذا {فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي فلا تصدقْهم فإنه كذِبٌ بحتٌ وافتراءٌ صِرْفٌ وبيِّنْ لهم فسادَه فإن تسليمَه منهم موافقة لهم في الهادة الباطلة {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين كَذَّبُواْ بآياتنا} من وُضع المُظْهر مقامَ المُضْمَر للدِلالة على أن من كذَّب بآياتِ الله تعالى وعدَل به غيرَه فهو متبع للهوى لا غيرُ وأن من اتبع الحجةَ لا يكون إلا مصدقاً بها {والذين لَا يُؤْمِنُونَ بالاخرة} كعبدة الأوثان عطفٌ على الموصول الأولِ بطريق عطفِ الصفةِ على الصفة مع اتحاد الموصوف كما في قولِه
…
إلى الماجد القَرْمِ وابنِ الهما م وليثِ الكتائبِ في المزْدَحَمْ فإن من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكءس {وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يجعلون له عديلا بلا عطفٌ على لا يؤمنون والمعنى لا تتبع أهواءَ الذين يجمعون بين تكذيبِ آياتِ الله وبين الكفرِ بالآخرة وبين الإشراكِ به سبحانه لكن لا على أن يطكون مدارُ النهي الجمعُ المذكورُ بل على أن أولئك جامعون لها متصفون بكلها
{قُلْ تَعَالَوْاْ} لما ظهر بُطلانُ ما ادعَوْا من أن إشراكَهم وإشراكَ آبائِهم وتحريمَ ما حرموه بأمر الله تعالى ومشيئتِه بظهور عجْزِهم عن إخراج شيءٍ يُتمسّك به في ذلك وإحضارِ شهداءَ يشهدون بما ادعَوْا في أمر التحريم بعد ما كُلّفوه مرةً بعد أخرى عجزاً بيناً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحالُ بيانَه على الأسلوب الحكيم إيذاناً بأن حقَّهم الاجتنابُ عن هذه المحرماتِ وأما الأطعمةُ المحرمةُ فقد بُينت بقوله تعالى قُل لا أجد الآية وتعالى أمرٌ من التعالي والأصلُ فيه أن يقله من في مكان
الأنعام آية 151
عالٍ لمن هو في أسفلَ منه ثم اتُّسع فيه بالتعميم كما أن الغنيمة في الأصل إصابةُ الغَنَم من العدو ثم استعملت في إصابة كلِّ ما يُصاب منهم اتساعاً في الفوز بكل مكلب من غير مشقة {اتل} جوابُ الأمر وقوله تعالى {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} منصوبٌ به على أن ما موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ أي اقرأْ الذي حرمه ربُّكم أي الآياتِ المشتمِلةَ عليه أو مصدريةٌ أي الآياتِ المشتملة على تحريمه أو يحرم على أنها استفهاميةٌ والجملةُ مفعول لأتنل لأتن التلاوةَ من باب القول كأنه قيل أقُلْ أيُّ شيءٍ حرم ربكم {عَلَيْكُمْ} متعلقٌ بحرّم على كل حال وقيل بأتلُ والأول أنسبُ بمقام الاعتناءِ بإيجاب الانتهاءِ عن المحرمات المذكورةِ وهو السر في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم فإن تذكيرَ كونِه تعالى رباً لهم ومالكاً لأمرهم على الإطلاق من أَقْوى الدَّواعي إلى انتهائهم عما نهاهم عنه أشدَّ انتهاءٍ وأنْ في قولِه تعالَى {إِلَاّ تُشْرِكُواْ بِهِ} مفسرةٌ لفعل التلاوةِ المعلَّقِ بما حرم ولا ناهيةٌ كما ينبىء عنه عطفُ ما بعده من الأوامر والنواهي عليه وليس من ضرورة كونِ المعطوفِ عليه تفسير تلاوة المحرمات بحسب منطوقه كونُ المعطوفاتِ أيضاً كذلك حتى يمتنع انتظامُ الأوامر في سلك العطفِ عليه بل يكفي في ذلك كونُها تفسيراً لها باعتبار لوازمِها التي هي النواهي المتعلقةُ بأضداج ما تعلقت به فإن الأمرَ بالشيء مستلزمٌ للنهي عن ضده بل هو عينُه عند البعض كأن الأوامرَ ذُكرت وقُصد لوازمُها فإن عطفَ الأوامرِ على النواهي الواقعةِ بعد أن المفسرة لتلاوة المحرماتِ مع القطع بأن المأمورَ به لا يكون محرماً دليلٌ واضحٌ على أن التحريمَ راجعٌ إلى الأضداد على الوجهالمذكور فكأنه قيل أتلُ ما حرم ربكم أن لا تشركوا ولا تُسيئوا إلى الوالدين خلا أنه قد أُخرج مُخرجَ الأمرِ بالإحسان إليهما بين النهيَين المكتنِفين له للمبالغة في إيجاب مراعاةِ حقوقِهما فإن مجرَّدَ تركِ الإساءةِ إليهما غيرُ كافٍ في قضاء حقوقِهما ولذلك عُقّب به النهيُ عن الإشراك الذي هو أعظمُ المحرماتِ وأكبرُ الكبائرِ ههنا وفي سائر المواقعِ وقيل أن ناصبةٌ ومحلُّها النصبُ بعليكم على أنه للإغراء وقيل النصبُ على البدلية مما حرم وقيل من عائدها المحذوفِ على أن لا زائدة وقيل الجرُّ بتقدير اللام وقيل الرفع بتقدير المتلو أن لا تشركو أو المحرَّمُ أن لا تشركوا بزيادة لا وقيل والذي عليه التعويلُ هو الأول لأمور من جملتها أن في إخراج المفسَّرِ على صورة النهي مبالغةً في بيان التحريمِ وقوله تعالى {شَيْئاً} نُصب على المصدرية أو المفعولية أي لا تشركوا به شيئاً من الإشراك أو شيئاً من الأشياء {وبالوالدين} أي وأحسِنوا بهما {إحسانا} وقد مر تحقيقه {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ} تكليفٌ متعلق بحقوق الأولادِ عقّب به التكليفَ المتعلقَ بحقوق الوالدين أي لا تقتلوهم بالوأد {مّنْ إملاق} أي من أجل فقرٍ كما في قوله تعالى خَشْيَةَ إملاق وقيل هذا في الفقر الناجزِ وذا في المتوقَّع وقوله تعالى {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل النهي وإبطالِ سببيةِ ما اتخذوه سبباً لمباشرة المنهيعنه وضمانٌ منه تعالى لأرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تخافوا الفقرَ بناءً على عجزكم عن تحصيل الرزق وقوله تعالى {وَلَا تَقْرَبُواْ الفواحش} كقوله تعالى وَلَا تَقْرَبُواْ الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً الآية إلا أنه جىء ههنا بصيغة الجمعِ قصداً إلى النهي عن أنواعها ولذلك أُبدل عنها قولُه تعالى {ما ظهرَ منها وما بَطَنَ} أي ما يُفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأَبُ أراذلِهم وما يفعل سراً باتخاذ الأخدانِ كما هو عادةُ أشرافِهم وتعليقُ النهي بقُربانها إما للمبالغة في الزجر
الأنعام آية 152
عنها لقوة الدواعي إليها وإما لأن قربانَها داعٍ إلى مباشرتها وتوسيطُ النهي عنها بين النهي عن قتل الأولادِ والنهي عن القتلِ مطلقاً كما وقعَ في سورةِ بني إسرائيل باعتبار أنها مع كونها في نفسها جنايةً عظيمةً في حكم قتلِ الأولادِ فإن أولادَ الزنا في حكم الأموات وقد قال صلى الله عليه وسلم في حق العزلِ إن ذاك وأدٌ خفيٌّ ومن ههنا تبين أن حملَ الفواحشِ على الكبائر مطلقاً وتفسير ما ظهرَ منها وما بطن بما فُسِّر به ظاهِرُ الإثمِ وباطنُه فيما سلف من قبيل الفصلِ بين الشجر ولِحائِه {وَلَا تقتلوا النفس التى حَرَّمَ الله} أي حرم قتلَها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرُج منها الحربيُّ وقوله تعالى {إِلَاّ بالحق} استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأحوالِ أيْ لا تقتلوها في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ ملابستِكم بالحق الذي هو أمرالشرع بقتلها وذلك بالكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان وقتلِ النفسِ المعصومةِ أو من أعمِّ الأسباب أي لا تقتلوها بسب من السباب إلا بسبب الحقِّ وهو ما ذكر أو من أعمِّ المصادر أي لا تقتُلوها قتلاً ما إلا قتلاً كائناً بالحق وهو القتلُ بأحد الأمور المذكورة {ذلكم} إشارةٌ إلى ما ذكر من التكاليف الخمسةِ وما في ذلك من معنى البعد للإيذان بعلو طبقاتها من بين التكاليف الشرعية وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {وصاكم بِهِ} أي أمركم به ربكم أمراً مؤكداً خبرُه والجملة استئنافٌ جيء به تجديدا للعهد وتأكيدا لإيجا بالمحافزظة على ما كُلِّفوه ولما كانت الأمورُ المنهيُّ عنها مما تقضي بديهةُ العقول بقبيحها فُصِّلت الآيةُ الكريمة بقوله تعالى {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي تستعملون عقولَكم التي تعقِل نفوسَكم وتحبِسُها عن مباشرة القبائحِ المذكورة
{وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} توجيهُ النهي إلى قُربانه لما مر من المبالغةُ في النَّهيِ عن أكله ولإخراج القُربان النافعِ عن حكم النهي بطريق الاستثناء أي لا تتعرضوا له بوجهٍ من الوجوه {إِلَاّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} إلا بالخَصلة التي هي أحسنُ ما يكونُ من الحِفظ والتئمير ونحو ذلك والخطابُ للأولياء والأوصياء لقوله تعالى {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فإنه غايةٌ لما يُفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل احفظوه حتى يصيرَ بالغاً رشيداً فحينئذ سلّموه إليهِ كما في قولِه تعالى فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم والأشُدُّ جمع شِدّة كنعمة وأنعم أو شَدّ ككلب وأكلُب أو شد كصر وآصر وقيل هو مفرد كلآنك {وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط} أي بالعدل والتسوية {لَا نُكَلّفُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} إلا ما يسعُها ولا يعسُر عليها وهو اعتراضٌ جيء به عَقيبَ الأمرِ بالعدل للإيذان بأن مراعاةَ العدلِ كما هو عسيرٌ كأنه قيل عليكم بما في وسعكم وما وراءه معفوٌّ عنكم {وَإِذَا قُلْتُمْ} قولاً في حكومة أو شهادة أو نحوِهما {فاعدلوا} فيه {وَلَوْ كَانَ} أي المقولُ له أو عليه {ذَا قربى} أذ ذا قرابةٍ منكم ولا تميلوا نحوهم أصلاٌ وقد مر تحقيق معنى لو في مثل هذا الموضعِ مراراً {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} أي ما عَهد إليكم من الأمور المعدودةِ أو أيِّ عهدٍ كان فيدخُل فيه ما ذُكر
الأنعام آية 153 154
دخولا أوليا أو منا عاهدتم الله عليه من الإيمان والنذور وتقديمُه للاعتناء بشأنه {ذلكم} إشارةٌ إلى ما فُصِّل من التكاليف ومعنى البُعد لما ذكر فيما قبل {وصاكم بِهِ} أمركم به أمراً مؤكداً {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتذكرون ما في نضاعيفه وتعلمون بمقتضاه وقرىء بمقتضاه وقرىء بتشديد الذالِ وهذه أحكامٌ عشَرةٌ لا تختلف باختلاف الأممِ والأعصار عن ابن عباس رضي الله عنهما هذه آياتٌ محكماتٌ لم ينسَخْهن شيء من جميع الكتُب وهن محرماتٌ على بني آدم كلِّهم وهن أمُّ الكتابِ من عمِل بهن دخلَ الجنة ومن تركهن دخلَ النار وعن كعب الأحبارِ والذي نفسُ كعبٍ بيده إن هذه الآياتِ لأولُ شيءٍ في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالَوا الآيات
{وَأَنَّ هذا صراطي} إشارةٌ إلى ما ذكر في الآيتين من الأمر والنهي قاله مقاتل وقيل إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيدِ والنبوة وبيانِ الشريعة وقرىء صراطيَ بفتح الياء ومعنى إضافتِه إلى ضميره صلى الله عليه وسلم انتسابه إليه صلى الله عليه وسلم من حيث السلوكُ لا من حيث الوضعُ كما في صراط اللهوالمراد بيان أن ما فضل من الأوامر والنواهي غيرُ مختصةٍ بالمتلو عليهم بل متعلقة به صلى الله عليه وسلم أيضا وأنه صلى الله عليه وسلم مستمرٌّ على العمل بها ومراعاتِها وقوله تعالى {مُّسْتَقِيماً} حالٌ مؤكدةٌ ومحل أن مع ما في حيزها بحذف لام العلة أي ولأن هذا صراطي أي مسلكي مستقيماً {فاتبعوه} كقوله تعالى وَأَنَّ المساجدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً وتعليلُ إتباعِه بكونه صراطه صلى الله عليه وسلم لا بكونه صراطَ الله تعالى مع أنه في نفسه كذلك من حيث أن سلوكه صلى الله عليه وسلم فيه داعٍ للخلق إلى الاتّباع إذ بذلك يتضح عندهم كونُه صراطَ الله عز وجل وقُرىء بكسر الهمزة على الاستئناف وقرىء أنْ هذا مخففةً من أنّ على أن اسمَها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ وقرىء سراطي وقرىء هذا صراطي وقرىء هذا صراطُ ربِّكم وهذا صراطُ ربِّك {وَلَا تَتَّبِعُواْ السبل} الأديانَ المختلفةَ أو طرقَ البدع والضلالات {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} بحذف إحدى التاءين والباء للتعدية أي فتفرِّقَكم حسَبَ تفرُّقِها أياديَ سبا فهو كما ترى أبلغُ من تفرقكم كما قيل من أن ذهَبَ به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغُ من أذهبه {عَن سَبِيلِهِ} أي سبيل الله الذي لا عِوَجَ فيهِ ولا حرج وهو دين الإسلام الذي ذُكر بعضُ أحكامه وقيل هو اتباعُ الوحي واقتفاءُ البرهان وفيه تنبيه على أن صراطه صلى الله عليه وسلم عينُ سبيل الله تعالى {ذلكم} غشارة إلى ما مرَّ من اتباع سبيلِه تعالى وتركِ اتباعِ سائر السبل {وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} اتباعَ سبُلِ الكفر والضلالة
{ثم آتينا مُوسَى الكتاب} كلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى تقريراً للوصية وتحقيقاً لها وتمهيداً لما يعقُبه منْ ذكر إنزال القرآنِ المجيد كما ينبىء عنه تغيرر الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوفٌ على مقدر يقتضيه المقامُ ويستدعيهِ النظامُ كأنَّه قيل بعد قوله تعالى ذلكم
الأنعام آية 155 156
وصاكم بِهِ بطريق الاستئنافِ تصديقاً له وتقريراً لمضمونه فعلنا ذلك ثم آتينا الخ كما أن قوله تعالى وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ معطوفٌ على ما يدلُّ عليهِ معنى أَوَ لَمْ يَهْدِ الخ كأنه قيل يغفُلون عن الهداية وتطيع الخ وأما عطفُه على ذلكم وصاكم به ونظمُه معه في سلك الكلامِ الملقّن كما أجمع عليه الجمهورُ فمما لا يليق بجزال النظمِ الكريم فتدبر وثم للتراخي في الإخبار كما في قولك بلغني ما صنعتَ اليوم ثم ما صنعتَ أمسِ أعجبُ أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل ذلكم وصاكم به قديماً وحديثاً ثم أعظمُ من ذلك أنا آتينا موسى التوراةَ فإن إيتاءَها مشتملةً على الوصية المذكورةِ وغيرِها أعظمُ من التوصية بها فقط {تَمَامًا} للكرامة والنعمة أي إتماماً لهما على أنه مصدرٌ من أتمّ بحذف الزوائد {عَلَى الذى أَحْسَنَ} أي على مَنْ أحسن القيامَ به كائناً مَنْ كان ويؤيده أنه قرىء على الذين أحسنوا وتماماً على المحسنين أو على الذي أحسن تبليغَه وهو مُوسى عليه السلام أو تماماً على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائعِ أي زيادةً على علمه على وجه التتميم وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي على الذي هو أحسن دين وأرضاه وآتينا موسى الكتاب تماماً أي تاماً كاملاً على أحسنِ ما يكون عليه الكتُب {وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء} وبياناً مفصلاً لكلِّ مَا يُحتاج إليهِ في الدين وهو عطفٌ على تماماً ونصبُهما إما على العلية وعلى المصدرية كمَا أُشير إليهِ أو على الحالية وكذا قوله تعالى {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} وضمير {لعلهم} لبني إسرائي المدلولِ عليهم بذكر موسى وإيتاءِ الكتاب والباء في قوله تعالى {بِلَقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ} قدمت عليه محافظةً على الفواصل قال ابن عباس رضي الله عنهما كي يؤمنوا بالبعث ويصدّقوا بالثواب والعذاب
{وهذا} أي الذي تُليت عليكم أوامرُه ونواهيه أي القرآن {كِتَابٌ} عظيمُ الشأنِ لا يقادَر قدرُه وقوله تعالى {أنزلناه مُبَارَكٌ} أي كثيرُ المنافع ديناً ودنيا صفتان لكتابٌ وتقديمُ وصفِ الإنزال مع كونه غيرَ صريحٍ لأن الكلام مع منكريه أو خبرانِ آخرانِ لاسمِ الإشارة أي أنزلناه مشتملاً على فنون الفوائدِ الدينية والدنيوية التي فُصِّلت عليكم طائفةٌ منها والفاء في قوله تعالى {فاتبعوه} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن عِظمَ شأنِ الكتابِ في نفسه وكونَه منزلاً من جنابِه عز وجل مستتبعاً للمنافع الدينية والدنيوية موجبٌ لاتباعه أيَّ إيجاب {واتقوا} مخالفتَه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بواسطة اتباعِه والعمل بموجبه
{أَن تَقُولُواْ} علةٌ لأنزلناه المدلولِ عليه بالمذكور لا لنفسه للزوم الفصلِ حينئذ بين العامل والمعمولِ بأجنبيّ هو مباركٌ وصفاً كان أو خبراً أي أنزلناه كذلك كراهةَ أن تقولوا يوم القيام لو لم تُنْزِله {إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب} الناطقُ بتلك الأحكام العامة لكل الأمم {على طائفتين} كمائنتين {مِن قَبْلِنَا} وهما اليهودُ والنصارى وزتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما الذي اشتهر حينئذ فيما بين الكتب السماويةِ بالاشتمال على الأحكام لا سيما الأحكامِ المذكورة {وإن كنا}
الأنعام آية 157
أنْ هيَ المخففةُ منَ إن واللام فارقةٌ بينهما وبين النَّافيةِ وضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ ومرادُهم بذلك دفعُ ما يرد عليهم من أن نزولَه عليهما لا ينافي عمومَ أحكامِه فلمَ لمْ تعملوا بأحكامه العامة أي وإنه كنا {عَن دِرَاسَتِهِمْ لغافلين} لا ندري ما في كتابهم إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقّى منه تلك الأحكامَ العامة ونحافظَ عليها وإن لم يكن منزلاً علينا وبهذا تبيّن أن معذرتَهم هذه مع أنهم غيرُ مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة الأممِ كما أن قطعَ تلك المعذرةِ بإنزال القرآنِ لاشتماله أيضاً عليها لا على سائر الشرائعِ والأحكام فقط
{أَوْ تَقُولُواْ} عطفٌ على تقولوا وقرىء كلاهما بالياء على الالتفات من خطاب فاتبعوه واتقوا {لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب} كما أنزل عليهم {لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ} إلى الحقِّ الذي هو المقصِدُ الأقصى أو إلى ما في تضاعيفِه من جلائل الأحكام والشرائع ودقائقِها لحِدّة أذهانِنا وثَقابةِ أفهامنا ولذلك تلقّفنا من فنون العلم كالقصص والأخبار والخُطب والأشعار ونحوِ ذلك طرفاً صالحاً ونحن أمّيون وقوله تعالى {فَقَدْ جَاءكُمْ} متعلِّق بمحذوفٍ يُنبىء عنه الفاءُ الفصيحةُ إما معللٌ به أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم الخ وإما شرطٌ له أي إن صدقتم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزولِ الكتابِ عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم {بينة} وأي بينة أي حجة واضحة لا يُكتَنهُ كنهها وقوله تعالى {من رَّبّكُمْ} متعلق بجاءكم أو بمحذوف هو صفةٌ لبينة أي بينةٌ كائنا منه تعالى وأيا ما كان ففيه دلالة على فضلها الإضافي كما أن في تنوينها التفخيميِّ دلالةٌ على فضلها الذاتي وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم مزيدُ تأكيدٍ لإيجاب الاتباع {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} عطفٌ على بينةٌ وتنوينُهما أيضاً تفخيميٌّ عبّر عن القرآن بالبينة إيذاناً بكمال تمكنِهم من دراسته ثم بالهدى والرحمة تنبيهاً على أنه مشتملٌ على ما اشتمل عليه التوراةُ من هداية الناس ورحمتِهم بل هو عينُ الهداية والرحمة {فَمَنْ أَظْلَمُ} الفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجيءَ القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجبٌ لغاية أظلمية مَنْ يكذّبه أي وإذَا كانَ الأمرُ كذلك فَمَنْ أَظْلَمُ {مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله} وُضع الموصولُ موضعَ ضميرِهم بطريق الالتفات تنصيصاً على اتصافهم بما في حيزلصلة وإشعارا بعلة التحكيم وإسقاطاً لهم عن رتبة الخطابِ وعبّر عما جاءهم بآيات الله تهويلاً للأمر وتنبيهاً على أن تكذيبَ أي آيةٍ كانت من آياتِ الله تعالى كافٍ في الأظلمية فما ظنكتكذيب القرآن المنطوي على الكل والمعنى إنكارُ أن يكون أحد ظلم ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإن لم يكن سبكُ التركيب متعرضاً لإنكار المساواة أو نفيها فإذا قيل مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضل منه فالمراد به حتماً بحكم العرف الفاشي والاستعمال المطرد أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضل وقد مر مراراً {وَصَدَفَ عَنْهَا}
الأنعام آية 158
أي صرَفَ الناس عنها فجمعَ بين الضلال والإضلالِ {سَنَجْزِى الذين يَصْدِفُونَ} الناسَ {عَنْ آياتنا} وعيدٌ لهم ببيان جزاء إضلالِهم بحيث يُفهم منه جزاءُ ضلالهم ايضا ووضعُ الموصول موضعَ المضمرِ لتحقيق مناطِ الجزاء {سُوء العذاب} أي العذابَ السيءَ الشديدَ النكاية {بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} أي بسببِ ما كانُوا يفعلون الصَّدْف والصرْف على التجدد والاستمرارِ وهذا تصريحٌ بما أَشعَرَ به إجراءُ الحُكم على الموصول من عِلِّيَّةِ مَا في حيزِ الصِّلةِ له
{هَلْ يَنظُرُونَ} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أنَّه لا يتأتَّى منهمْ الإيمانُ بإنزال ما ذكر من اللبينات والهدى وأنهم لا يرعوون عن التمادي في المكابرة واقتراحِ ما ينافي الحكمةَ التشريعية من الآيات المُلجئة وأن الإيمانَ عند إتيانها مما لا فائدةَ له أصلاً مبالغةً في التبليغ والإنذار وإزاحةِ العلل والأعذار أي ما ينتظرونَ {إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} حسبما اقترحوا بقولهم لول أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نرى رَبَّنَا وبقولهم أو تأتي بالله والملائكة قَبِيلاً وبقولهم لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ونحو ذلك أو إلا أن تأتيهم ملائكةُ العذاب أو يأتيَ أمرُ ربك بالعذاب والانتظارُ محمولٌ على التمثيل كما سيجيء وقرىء يأتيَهم بالياء لأن تأنيثَ الملائكة غيرُ حقيقي {أو يأتي بعضُ آيات ربِّكَ} أي غيرُ ما ذكركما اقترحوا بقولهم أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ونحوِ ذلك من عظائمِ الآياتِ التي علّقوا بها إيمانَهم والتعبيرُ عنها بالبعض للتهويل والتفخيم كما أن إضافةَ الآياتِ في الموضعين إلى اسم الربِّ لمنبىء عن المالكية الكليةِ لذلك وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للتشريف وقيل المرادُ بالملائكة ملائطكة الموت وبإتيانه سبحانه وتعالى إتيانُ كل آياتِه بمعنى آياتِ القيامةِ والهلاكُ الكليُّ بقرينة ما بعده من إتيان بعضِ آياتِه تعالى على أن المرادَ به أشراطُ الساعةِ التي هي الدخانُ ودابةُ الأرضِ وخسفٌ بالمشرق وخسف بماغرب وخسف بجزيرة العرب والدجالوطلوع الشمس من مغربها ويأجوجُ ومأجوجُ ونزولُ عيسى عليه السلام ونارٌ تخرج من عَدَنَ كما نطق به الحديثُ الشريفُ المشهورُ وحيث لم يكن إتيانُ هذه الأمورِ مما ينتظرونه كإتيان ما اقترحوه من الآيات فإن تعليقَ إيمانِهم بإتيانها انتظارٌ منهم له ظاهراً حُمل الانتظارُ على التمثيل المبنيِّ على تشبيه حالِهم في الإصرار على الكفر والتمادي في العناد إلى أن تأتيَهم تلك الأمورُ الهائلةُ التي لا بد لهم من الإيمان عند مشاهدتِها البتةَ بحال المنتظرين لها وأنتَ خبيرٌ بأنَّ النظمَ الكريمَ بسباقه المُنبىءِ عن تماديهم في تكذيبِ آياتِ الله تعالى وعدمِ الاعتدادِ بها وسياقِه الناطقِ بعدم نفع الإيمانِ عند إتيان ما ينتظرونه يستدعي أن يُحملَ ذلك على أمور هائلةٍ مخصوصةٍ بهم إما بأن تكونَ عبارةً عما اقترحوه أو عن عقوبات مترتبةٍ على جناياتهم كإتيان ملائكةِ العذاب وإتيانِ أمرِه تعالى بالعذاب وهُو الأنسبُ لما سيأتِي من قوله تعالى قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وأما حملُه على ما ذكر من إتيان ملائكةِ الموتِ وإتيانِ كل آياتِ القيامةِ وظهورِ أشراطِ الساعة مع شمول إتيانها
الأنعام آية 158
لكل ر وفاجر واشتمالِ غائلتِها على كل مؤمن وكافرٍ فمما لا يساعده المقامُ على أن بعضَ أشراطِ الساعةِ ليس مما ينسدّ به بابُ الإيمان والطاعة نعم يجوزُ حملُ بعضِ الآياتِ في قولِه عز وجل {يوم يأتي بعضُ آيات ربِّكَ} على ما يعم مقترحاتِهم وغيرها من الدواهي العاظام السالبةِ للاختيار الذي عليه يدجور فلكُ التكليفِ فإنه بمنزلة الكبرى من الشكل الأولِ فيتم التقريبُ عند وقوعِها جوابَ القسم وقرىء يومُ بالرفع على الابتداء والخبرُ هو الجملةُ والعائدُ محذوفٌ أي لا ينفع فيه {نَفْساً} من النفوس {إيمانها} حينئذ لانكشاف وكون الأمرِ عياناً ومدارُ قَبولِ الإيمان أن يكون بالغيب كقوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رأو بَأْسَنَا وقُرِىءَ لا تنفعُ بالتاءِ القوقانية الاكتساب الإيمانِ من ملابسة المضاف إليه تأنيثاً وقوله تعالى {لم تكن آمنت مِن قَبْلُ} أي من قبل إتيان بعض الآيات صفى ة لنفساً فصل بينهما بالفاعل لاشتماله على ضمير الموصوفِ ولا ضيرَ فيه لأنه غيرُ أجنبيَ منه لاشتراكهما في العامل {أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا} عطفٌ على آمنت بإيراد الترديدِ على النفي المفيدِ لكفاية أحد النفيين في عدم النفعِ والمعنى أنه لا ينفع الإيمانُ حينئذ نفساً لم تقدم إيمانَها أو قدّمتْه ولم تكسِبْ فيه خيراً ومن ضرورته اشتراطُ النفعِ بتحقق الأمرين أي الإيمانِ المقدَّمِ والخير المكسوف فيه معاً بمعنى أن النافعَ هو تحققُهما والإيمانُ المؤخرُ لغوٌ وتحصيلٌ للحاصل لا أنه هو النافعُ وتحققُهما شرطٌ في نفعه كما لو كان المقدَّمُ غيرَ المؤخرِ بالذات فإن قولَك لا ينفع الصومُ والصدقةُ مَنْ لم يؤمِنْ قبلَهما معناه أنهما ينفعانه عند وقوعِهما بعد الإيمان وقد استدل به أهلُ الاعتزالِ على عدم اعتبارِ الإيمانِ المجردِ عن الأعمال وليس بناهض ضرورةَ صحةِ حملِه على نفي الترديدِ المستلزِمِ لعمومه المفيدِ بمنطوقه لاشتراط عدمِ النفع بعدم الأمرين معاً وبمفهومه لاشتراط النفعِ بتحقق أحدِهما بطريق منعِ الخلوِّ دون الانفصالِ الحقيقي فالمعنى أنه لا ينفع الإيمانُ حينئذ نفساً لم يصدُرْ عنها من قبلُ أحدُ الأمرين أما الإيمانُ المجردُ أو الخيرُ المكسوبُ فيه فيتحقق النفعُ بأيهما كان حسبما تنطِقُ به النصوصُ الكريمةُ من الآيات والأحاديث وما قيل من أن عدم افيمان السابقِ مستلزمٌ لعدم كسب الخيرِ فيه بالضرورة فيكون ذكرُه تكراراً بلا فائدة على أن الموجبَ للخلود في النار هو العدمُ الأولُ من غير أن يكون للثاني دخلٌ ما في ذلك قطعاً فيكون ذكرُه بصدد بيانِ ما يوجب الخلودَ لغواً من الكلام لغو من الكلام مبني على توهم أن المقصودَ بوصف النفسِ بالعدمين المذكورين مجرد بيان غيجابهما للخلود فيها وعدمِ نفعِ الإيمان الحادثِ في إنجائها عنه وليس كذلك إلا لكفى في البيان أن يقال لا ينفعُ نفساً إيمانُها الحادثُ بل المقصِدُ الأصليُّ من وصفها بذينك العدمين في أثناء بيانِ عدم نفعِ الإيمان الحادثِ تحقيقُ أن موجبَ النفع إحدى ملكيتهما أعني الإيمانَ السابقَ والخيرَ المكسوبَ فيه بما ذكر من الطريقة والترغيبِ في تحصيلهما في ضمن التحذيرِ من تركهما ولا سبيلَ إلى أن يقال كما أن عدمَ الأولِ مستقلٌّ في إيسجاب الخلود في النار فيلغو ذكرُ عدمِ الثاني كذلك وجوده مستقل في إيجاب الخلاصعنها فيكون ذكرُ الثاني لغواً لما أنه قياسٌ مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمرٌ لا يُتصوَّر فيه تعددُ العللِ وأما الخلاصُ عنها مع دخولِ الجنةِ فله مراتبُ بعضُها مترتبٌ على نفس الإيمان وبعضها على فروعه
الأنعام آية 159
المتفاوته كما وكيفما وإنما لم يقتصِرْ على بيان ما يوجب أصلَ النفع وهو الإيمان السابق مع أنه هو المقابلُ لما لا يوجبه أصلاً أعني الإيمانَ الحادثَ بل قرَنَ به ما يوجب النفع الوائد أيضاً إرشاداً إلى تحرّي الأعلى وتنبيهاً على كفاية الأدنى وإقناطاً للكفرة عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من أعمال البِرّ التي عمِلوها في الكفر من صلة الأرحام وإعتاق الرقاب وفك العُناةِ وإغاثةِ الملهُوفين وقِرى الأضيافِ وغير ذلك ممَّا هو من باب المكارم ببيان أن كل ذلك لغوٌ بحتٌ لابتنائه على غير أساسٍ حسبما نطق به قوله تعالى والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح الآية ونحوُ ذلك من النصوص الكريمة وأن افيمان الحادثَ كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالِهم السابقةِ واللاحقة ولك أن تقول المقصودُ بوصف النفسِ بما ذُكر من العدمين التعريضُ بحال الكفرة في تمردهم وتفريطِهم في كلِّ واحدٍ من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوبُ أحدِهما منوطاً بالآخر كما في قوله عز وجل فلا صدق ولا صلى تسجيلاً بكمال طغيانِهم وإيذاناً بتضاعف عقابِهم لما تقرَّر من أنَّ الكفارَ مخاطَبون بفروع الشرائعِ في حق المؤاخذخ كما ينبىء عنه قوله تعالى فويل لّلْمُشْرِكِينَ الذين لَا يُؤْتُونَ الزكاة إذا تححققت هذا وقفتَ على أن الآيةَ الكريمة أحقُّ بأن تكون حجةً على المعتزلة من أن تكون حجةً لهم هذا وقد قيل إنها من باب اللف التقديريِّ أي لا ينفع نفساً إيمانُها ولا كسبُها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه وليس بواضح فإن مبنى اللفِّ التقديريِّ أن يكون المقدرُ من متمّمات الكلامِ ومقتَضَيات المقام قد ترك ذكرَه تعويلاً على دِلالة الملفوظِ عليه واقتضائِه إياه كما مرَّ في تفسيرِ قولِه عز وجل وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ ويستكبر فيحشرهم إِلَيهِ جَمِيعاً فإنه قد طُوي في المفصل ذكرُ حشر المؤممنين ثقةً بإنباء التفصيل عنه أعني قوله تعالى فَأَمَّا الذين آمنوا الآية ولا ريب في أن ما قدر ههنا ليس مما يستدعيه قوله تعالى أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا ولا هو من مقتضيات المقامِ لأنه ليس ممنا وُعِدوه وعلّقوه بإتيان ما ذُكر من الآيات كالإيمان حتى يرِدَ عليهم ببيان عدمِ نفعِه إذ ذاك على أن ذلك مشعرٌ بأن لهم بعد ما أصابهم من الدواهي ما أصابهم بقاء على السلاة وزماناً يتأتى منهم الكسبُ والعملُ فيه وفيه من الإخلال بمقام تهويلِ الخطبِ وتفظيعِ الحالِ ما لا يخفى وقد أُجيب عن الاستدلال بوجوه أُخَرَ قصارى قصارى أمرِها إسقاطُ الآية الكريمةِ عن رتبة المعارضةِ للنصوص القطعية المنون القويةِ الدلالةِ على ما ذُكر من كفاية الإيمان المجردِ عن العمل في الإنجاء الخالدِ ولو بعد اللتيا والتي لِما تقرَّر من أنَّ الظنيَّ بمعزل من معارضة القطعي {قُلْ} لهم بعد بيانِ حقيقةِ الحالِ على وجه التهديد {انتظروا} ما تنتظرونه من إتيان أحدِ الأمورِ الثلاثةِ لترَوا أيَّ شيء تنتظرون {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} لذلك لنشاهدَ ما يحِلُّ بكم من سوء العاقبة وفيه تأييدٌ لكون المرادِ بما ينتظرونه إتيانَ ملائكةِ العذابِ أو إتيانَ أمرِه تعالى بالعذاب كما اشير غليه وعِدَةٌ ضمنيةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمعاينتهم لما يَحيق بالكفرة من العقاب ولعل ذلك هو الذي شاهدوه يوم بدر والله سبحانه أعلم
الأنعام آية 160 161
لبيان أحوالِ أهلِ الكتابين إثرَ بيانِ حالِ المشركين أي بدّدوه وبعّضوه فتمسك بكل بعضٍ منه فِرقةٌ منهم وقرىء فارقوا أي باينوا فإن تركَ بعضِه وإن كان بأخذ بعضٍ منه تركٌ للكل ومفارقةٌ له {وَكَانُواْ شِيَعاً} أي فِرقاً تشيّع كلُّ فِرقةٍ إماتما لها قال صلى الله عليه وسلم افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقةً كلهم في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقةً كلهم في الهاوية إلا واحدة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقةً كلهم في الهاوية إلا واحدة واستثناء الواحدة من فِرَق كلَ من أهل الكتابين إنما هو باتلنظر إلى العصر الماضي قبل النسخِ وأما بعده فالكلُّ في الهاوية وإن اختلفت أسبابُ دخولِهم فمعنى قوله تعالى {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء} لست من البحث عن تفرقهم والتعرّضِ لمن يعاصرك منهم بالمناقشة والمؤاخذة وقيل من قتالهم في شيء سوى تبليغِ الرسالةِ وإظهارِ شعائرِ الدين الحقِّ الذي أُمرت بالدعوة إليه فيكون منسوخاً بآية السيف وقوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله} تعليلٌ للنفي المذكورِ أي هو يتولى وحده أمر أولاهم وأخراهم ويدبره كيف يشاء حسبما تقتضيه الحكمة يؤاخذهم في الدنيا متى شاء ويأمر بقتالهم إذا أراد وقيل المفرقون أهل البدع والأهواء الزائغة من هذه الأمة ويرده أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بمؤاخذتهم والاعتذار بأن معنى لست منهم في شيء حينئذ أنت بريء منهم ومن مذهبهم وهم برآء منك يأباه التعليل المذكور {ثُمَّ يُنَبّئُهُم} أي يوم القيامة {بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} عبر عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم تنبيهاً على أنهم كانوا جاهليل بحال ما ارتكبوه غافلين عن سوء عاقبته أي يظهر لهم على رءوس الأشهاد ويعلمهم أي شيء شنيع كانوا يفعلونه في الدنيا على الاستمرار ويرتب عليه ما يليقُ به من الجزاء وقوله تعالى
{مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} استئناف مبين لمقادير أجزية العاملين وقد صدر ببيان أجزية المحسنين المدلول عليهم بذكر أضدادهم ال عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم يريد من عمل من المصدقين حسنة كتبت له عشر حسنات أي من دجاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة من المؤمنين إذلا حسنة بغير غيمان فله عشر حسنات أمثالها تفضلا من الله عز وجل وقرىء عشر بالتنوين وأمثالها بالرفع على الوصف وهذا أقل ما وعد من الأضعاف وقد جاء الوعد بسبعين وبسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص {وَمَن جَاء بالسيئة} أي بالأعمال السيئة كائنا من كان من العاملين {فَلا يَجْزِى إِلَاّ مِثْلَهَا} بحكم الوعد واحدة بواحدة {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} بنقصِ الثواب وزيادة العقاب
{قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى} أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم ما هُو عليه من الدين الحق الذين يدعون أنهم عليه وقد فارقوه بالكلية وتصديرُ الجملة بحرفِ التَّحقيقِ لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لمزيد تشريفه أي قل لأولئك المفرقين أرشدني ربي بالوحي وبما نصب في الآفاق والأنفسِ من الآيات التكوينية {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصل إلى الحق
الأنعام آيو 162 164
وقوله تعالى {دِينًا} بدلٌ من إلى صراط فإن محله النصبُ كما في قوله تعالى وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً أو مفعولٌ لفعل مُضمر يدلُّ عليه المذكورُ {قَيِّماً} مصدرٌ نُعت به مبالغة والقياسُ قِوَماً كعِوَض فاعل لإعلال فعلِه كالقيام وقرىء قيما وهو فعيل من قام كسيّد من ساد وهو أبلغُ من المستقيم باعتبار الزنة وإن كان هو أبلغَ منه باعتبار الصيغة {مِلَّةِ إبراهيم} عطفُ بيانٍ لديناً {حَنِيفاً} حال من غبراهيم أي مائلاً عن الأديان الباطلةِ وقوله تعالى {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} اعتراضٌ مقرر لنزاهته صلى الله عليه وسلم عما عليه المفرِّقون لدينه من عقْد وعَمَل أي ما كان منهم في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعا صرح بذلك رداً على الذين يدَّعُون أنَّهم على ملته عليه السلام من أهل مكةَ واليهود والمشركين بقولهم عزيرا ابنُ الله والنصارى المشركين بقولهم المسبح ابنُ الله
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى} أعيد الأمر لماأن المأمور به متعلِّقٌ بفروع الشرائعِ وما سبق أصولها أي عبادتي كلَّها وقيل وذبحي جُمع بينه وبين الصلاة كما في قوله تعالى فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر وقيل صلاتي وحجّي {وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى} أي وما أنا عليه في حياتي وما أكونُ عليه عند موتي من الإيمان والطاعةِ أو طاعات الحياة الخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير وقرىء محيايْ بسكون الياء إجراءً للوصل مُجرى الوقفِ {للَّهِ رَبّ العالمين}
{لَا شَرِيكَ لَهُ} خالصةً له لا أُشرِك فيها غيرَه {وبذلك} إشارةٌ إلى الإخلاص وما فيه من معنى البُعدِ للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعدِ منزلتِه في الفضل أي بذلك الإخلاصِ {أُمِرْتُ} لا بشيء غيرِه وقوله تعالى {وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} لبيان مسارعتِه عليه السلام إلى الامتثال بما أُمر به وأن ما أُمر به ليس من خصائصِه عليه السلام بل الكلُّ مأمورون به ويقتدي به عليه السلام من أسلم منهم
{قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا} فأُشرِكَه في العبادة {وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْء} جملةٌ حالة مؤكدةٌ للإنكار أي والحالُ أنَّ كلَّ ما سواهُ مربوبٌ له مثلي فكيفَ يُتصوّر أن يكونَ شريكاً لي في المعبودية {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا} كانوا يقولون للمسلمين اتبعوا سبيلنا ولتنحمل خطاياكم إما بمعنى لِيُكْتَبْ علينا ما عمِلتم من الخطايا لا عليكم وإما بمعنى لنحمِلْ يوم القيامة ما كُتب عليكم من الخطايا فهذا ردٌّ له بالمعنى الأول أي لا تكونُ جنايةُ نفسٍ من النفوس إلا عليها ومُحالٌ أن يكون صدورُها عن شخص وقرارُها على شخص آخرَ حتى يتأتى ما ذكرتم وقولُه تعالى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} ردٌّ له بالمعنى الثاني أي لا تحمِلُ يومئذ نفسٌ حاملةٌ حِمْلَ نفسٍ أخرى حتى يصِحّ قولُكم {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الكل لتأكيد الوعدِ وتشديد الوعيد أي إلى مالك أمورِكم ورجوعِكم يوم القيامة {فَيُنَبّئُكُمْ} يومئذ {بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} ببيان الرُّشدِ من الغيِّ وتمييزِ الحق من الباطل