المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة محمّد وتسمى سورة القتال، وهي مدنية عند الأكثرين ولم يذكروا - تفسير الألوسي = روح المعاني - جـ ١٣

[الألوسي، شهاب الدين]

الفصل: ‌ ‌سورة محمّد وتسمى سورة القتال، وهي مدنية عند الأكثرين ولم يذكروا

‌سورة محمّد

وتسمى سورة القتال، وهي مدنية عند الأكثرين ولم يذكروا استثناء، وعن ابن عباس وقتادة أنها مدنية إلا قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ [محمد: 13] إلى آخره فإنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إليها

وقال: «أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأنت أحب بلاد الله تعالى إليّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك»

فأنزل الله تعالى ذلك فيكون مكيا بناء على أن ما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغها النبي صلى الله عليه وسلم. أعني ما نزل في سفر الهجرة. من المكي اصطلاحا كما يؤخذ من أثر أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي بسنده إلى يحيى بن سلام، وعدة آيها أربعون في البصري وثمان وثلاثون في الكوفي وتسع بالتاء الفوقية وثلاثون فيما عداهما، والخلاف في قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [محمد: 4] وقوله تعالى: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد: 15] ولا يخفى قوة ارتباط أولها بآخر السورة قبلها واتصاله وتلاحمه بحيث لو سقطت من البين البسملة لكانا متصلا واحدا لا تنافر فيه كالآية الواحدة آخذا بعضه بعنق بعض، وكان صلى الله عليه وسلم على ما أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقرؤها في صلاة المغرب.

وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: نزلت سورة محمد آية فينا وآية في بني أمية

، ولا أظن صحة الخبر. نعم لكفار بني أمية الحظ الأوفر من عمومات الآيات التي في الكفار كما أن لأهل البيت رضي الله تعالى عنهم المعلى والرقيب من عمومات الآيات التي في المؤمنين، وأكثر من هذا لا يقال سوى أني أقول: لعن الله تعالى من قطع الأرحام وآذى الآل.

ص: 193

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا عن الإسلام وسلوك طريقه أو منعوا غيرهم عن ذلك على أن صد لازم أو متعد، قال في الكشف: والأول أظهر لأن الصد عن سبيل الله هو الإعراض عما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يوسف: 108] فيطابق قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وكثير من الآثار تؤيد الثاني، وفسر الضحاك سَبِيلِ اللَّهِ ببيت الله عز وجل، وقال: صدهم عنه منعهم قاصديه وليس بذلك.

والآية عامة لكل من اتصف بعنوان الصلة، وقال ابن عباس: هم أي الذين كفروا وصدوا على الوجه الثاني في صَدُّوا المطعمون يوم بدر الكبرى، وكأنه عنى من يدخل في العموم دخولا أوليا، فإن أولئك كانوا صادين بأموالهم وأنفسهم فصدهم أعظم من صد غيرهم ممن كفر وصد عن السبيل، وأول من أطعم منهم. على ما نقل عن سيرة ابن سيد الناس. أبو جهل عليه اللعنة نحر لكفار قريش حين خرجوا من مكة عشرا من الإبل، ثم صفوان بن أمية نحر تسعا بعسفان، ثم سهل بن عمرو نحر بقديد عشرا ثم شيبة بن ربيعة وقد ضلوا الطريق نحر تسعا ثم عتبة بن ربيعة نحر عشرا، ثم مقيس الجمحي بالأبواء نحر تسعا، ثم العباس نحر عشرا، والحرث بن عامر نحر تسعا، وأبو البختري على ماء بدر نحر عشرا، ومقيس تسعا ثم شغلتهم الحرب فأكلوا من أزوادهم، وقيل: كانوا ستة نفر نبيه ومنبه ابنا الحجاج وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل والحارث ابنا هشام، وضم مقاتل إليهم ستة أخرى وهم عامر بن نوفل. وحكيم بن حزام. وزمعة بن الأسود. والعباس بن عبد المطلب. وصفوان بن أمية. وأبو سفيان بن حرب أطعم كل واحد منهم يوما الأحابيش والجنود يستظهرون بهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينافي عد أبي سفيان إن صحت الرواية من أولئك كونه مع العير لأن المراد بيوم بدر زمن وقعتها فيشمل من أطعم في الطريق وفي مدتها حتى انقضت، وقال مقاتل: هم اثنا عشر رجلا من أهل الشرك كانوا يصدون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر، وقيل: هم شياطين من أهل الكتاب صدوا من أراد منهم أو من غيرهم عن الدخول في الإسلام.

والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا أثر لها ولا نفع أصلا لا بمعنى أنه سبحانه أبطلها وأحبطها بعد أن لم تكن كذلك بل بمعنى أنه عز وجل حكم ببطلانها وضياعها وأريد بها ما كانوا يعملونه من أعمال البر كصلة الأرحام وقرى الأضياف وفك الأسارى وغيرها من المكارم.

وجوز أن يكون المعنى جعلها ضلالا أي غير هدى حيث لم يوفقهم سبحانه لأن يقصدوا بها وجهه سبحانه أو

ص: 194

جعلها ضالة أي غير مهتدية على الإسناد المجازي، ومن قال الآية في المطعمين وأضرابهم قال: المعنى أبطل جلّ وعلا ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم كالإنفاق الذي أنفقوه في سفرهم إلى محاربته عليه الصلاة والسلام وغيره بنصر رسوله صلى الله عليه وسلم وإظهار دينه على الدين كله، ولعله أوفق بما بعده، وكذا بما قيل إن الآية نزلت ببدر.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال ابن عباس فيما أخرجه عنه جماعة منهم الحاكم وصححه هم أهل المدينة الأنصار، وفسر رضي الله تعالى عنه الَّذِينَ كَفَرُوا بأهل مكة قريش، وقال مقاتل: هم ناس من قريش، وقيل:

مؤمنو أهل الكتاب، وقيل: أعم من المذكورين وغيرهم فإن الموصول من صيغ العموم ولا داعي للتخصيص وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ من القرآن، وخص بالذكر الإيمان بذلك مع اندراجه فيما قبله تنويها بشأنه وتنبيها على سمو مكانه من بين سائر ما يجب الإيمان به وانه الأصل في الكل ولذلك أكد بقوله تعالى: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وهو جملة معترضة بين المبتدأ والخبر مفيدة لحصر الحقية فيه على طريقة الحصر في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ وقولك: حاتم الجواد فيراد بالحق ضد الباطل، وجوز أن يكون الحصر على ظاهره والحق الثابت، وحقية ما نزل عليه عليه الصلاة والسلام لكونه ناسخا لا ينسخ وهذا يقتضي الاعتناء به ومنه جاء التأكيد، وأيا ما كان فقوله تعالى مِنْ رَبِّهِمْ حال من ضمير الْحَقُّ وقرأ زيد بن علي. وابن مقسم «نزل» مبنيا للفاعل. والأعمش «أنزل» معدى بالهمزة مبنيا للمفعول، وقرىء «أنزل» بالهمز مبنيا للفاعل «ونزل» بالتخفيف كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي سترها بالإيمان والعمل الصالح، والمراد إزالها ولم يؤاخذهم بها وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد، وتفسير البال بالحال مروي عن قتادة وعنه تفسيره بالشأن وهو الحال أيضا أو ما له خطر، وعليه قول الراغب: البال الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال: ما باليت بكذا بالة أي ما اكترثت به، ومنه

قوله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال» الحديث

ويكون بمعنى الخاطر القلبي ويتجوز به عن القلب كما قال الشهاب. وفي البحر حقيقة البال الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب ومن صلح قلبه صلحت حاله، فكأن اللفظ مشير إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع له، وحكى عن السفاقسي تفسيره هنا بالفكر وكأنه لنحو ما أشير إليه، وهو كما في البحر أيضا مما لا يثنى ولا يجمع وشذ قولهم في جمعه بآلات ذلِكَ إشارة إلى ما مر من الإضلال والتكفير والإصلاح وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي ذلك كائن بسبب اتباع الأولين الباطل واتباع الآخرين الحق والمراد بالحق والباطل معناهما المشهور.

وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد تفسير الْباطِلَ بالشيطان. وفي البحر قال مجاهد: الباطل الشيطان وكل ما يأمر به والْحَقَّ هو الرسول والشرع، وقيل: الباطل ما لا ينتفع به، وجوز الزمخشري كون ذلك خبر مبتدأ محذوف وبِأَنَّ إلخ في محل نصب على الحال، والتقدير الأمر ذلك أي كما ذكر ملتبسا بهذا السبب.

والعامل في الحال إما معنى الإشارة وإما نحو أثبته وأحقه فإن الجملة تدل على ذلك لأنه مضمون كل خبر وتعقبه أبو حيان بأن فيه ارتكابا للحذف من غير داع له، والجار والمجرور أعني مِنْ رَبِّهِمْ في موضع الحال على كل حال، والكلام أعني قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ إلى قوله سبحانه: مِنْ رَبِّهِمْ تصريح بما أشعر به الكلام السابق من السببية لما فيه من البناء على الموصول، ويسميه علماء البيان التفسير، ونظيره ما أنشده الزمخشري لنفسه:

به فجع الفرسان فوق خيولهم

كما فجعت تحت الستور العواتق

تساقط من أيديهم البيض حيرة

وزعزع عن أجيادهن المخانق

فإن فيه تفسيرا على طريق اللف والنشر كما في الآية وهو من محاسن الكلام كَذلِكَ أي مثل ذلك الضرب

ص: 195

البديع يَضْرِبُ اللَّهُ أي يبين لِلنَّاسِ أي لأجلهم أَمْثالَهُمْ أي أحوال الفريقين المؤمنين والكافرين وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال، وهي اتباع المؤمنين الحق وفوزهم وفلاحهم، واتباع الكافرين الباطل وخيبتهم وخسرانهم، وجوز أن يراد بضرب الأمثال التمثيل والتشبيه بأن جعل سبحانه اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار والإضلال مثلا لخيبتهم واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين وتكفير السيئات مثلا لفوزهم والإشارة بذلك لما تضمنه الكلام السابق، وجوز كون ضمير أَمْثالَهُمْ للناس والفاء في قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لترتيب ما في حيزها من الأمر على ما قبلها فإن ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يترتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام أي إذا كان الأمر كذلك فإذا لقيتموهم في المحارب فَضَرْبَ الرِّقابِ وقال الزمخشري: لَقِيتُمُ من اللقاء وهو الحرب و (ضرب) نصب على المصدرية لفعل محذوف والأصل اضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدم المصدرية وأنيب منابه مضافا إلى المفعول، وحذف الفعل الناصب في مثل ذلك بما أضيف إلى معموله واجب، وهو أحد مواضع يجب فيها الحذف ذكرت في مطولات كتب النحو، وليس منها نحو ضربا زيدا على ما نص عليه ابن عصفور.

وذكر غير واحد أن فيما ذكر اختصارا وتأكيدا ولا كلام في الاختصار، وأما التأكيد فظاهر القول به أن المصدر بعد حذف عامله مؤكد، وقال الحمصي في حواشي التصريح: إن المصدر في ذلك مؤكد في الأصل وأما الآن فلا لأنه صار بمنزلة الفعل الذي سد هو مسده فلا يكون مؤكدا بل كل مصدر صار بدلا من اللفظ بالفعل لا يكون مؤكدا ولا مبينا لنوع ولا عدد، وضرب الرِّقابِ مجاز مرسل عن القتل، وعبر به عنه إشعارا بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة حيث أمكن وتصويرا له بأشنع صورة لأن ضرب الرقبة فيه إطارة الرأس الذي هو أشرف أعضاء البدن ومجمع حواسه وبقاء البدن ملقى على هيئة منكرة والعياذ بالله تعالى، وذكر أن في التعبير المذكور تشجيع المؤمنين وأنهم منهم بحيث يتمكنون من القتل بضرب أعناقهم في الحرب حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي أوقعتم القتل بهم بشدة وكثرة على أن ذلك مستعار من ثخن المائعات لمنعه عن الحركة، والمراد حتى إذا أكثرتم قتلهم وتمكنتم من أخذ من لم يقتل فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي فأسروهم واحفظوهم، فالشد وكذا ما بعد في حق من أسر منهم بعد اثخانهم لا للمثخن إذ هو بالمعنى السابق لا يشد ولا يمن عليه ولا يفدى لأنه قد قتل أو المعنى حتى إذا أثقلتموهم بالجراح ونحوه بحيث لا يستطيعون النهوض فأسروهم واحفظوهم فالشد وكذا ما بعد في حق المثخن لأنه بهذا المعنى هو الذي لم يصل إلى حد القتل لكن ثقل عن الحركة فصار كالشيء الثخين الذي لم يسل ولم يستمر في ذهابه، والإثخان عليه مجاز أيضا، والْوَثاقَ في الأصل مصدر كالخلاص وأريد به هنا ما يوثق به. وقرىء «الوثاق» بالكسر وهو اسم لذلك، ومجيء فعال اسم آلة كالحزام والركاب نادر على خلاف القياس، وظاهر كلام البعض أن كلا من المفتوح والمكسور اسم لما يوثق به، ولعل المراد بيان المراد هنا.

فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً أي فإما تمنون منا وإما تفدون فداء، والكلام تفصيل لعاقبة مضمون ما قبله من شد الوثاق، وحذف الفعل الناصب للمصدر في مثل ذلك واجب أيضا، ومنه قوله:

لأجهدن فإما درء واقعة

تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل

وجوز أبو البقاء كون كل من مَنًّا وفِداءً مفعولا به لمحذوف أي أولوهم منّا أو اقبلوا منهم فداء، وليس كما قال أبو حيان إعراب نحوي. وقرأ ابن كثير في رواية شبل «وإمّا فدى» بالفتح والقصر كعصا. وزعم أبو حاتم أنه لا يجوز قصره لأنه مصدر فأديته، قال الشهاب: ولا عبرة به فإن فيه أربع لغات الفتح والكسر مع المد والقصر ولغة

ص: 196

خامسة البناء مع الكسر كما حكاه الثقات انتهى، وفي الكشف نقلا عن الصحاح الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر وإذا فتح فهو مقصور. ومن العرب من يكسر الهمزة أي يبنيه على الكسر إذا جاوز لام الجر خاصة لأنه اسم فعل بمعنى الدعاء، وأنشد الأصمعي بيت النابغة مهلا فداء لك. وهذا الكسر مع التنوين كما صرح به في البحر، وظاهر الآية. على ما ذكره السيوطي في أحكام القرآن العظيم. امتناع القتل بعد الأسر وبه قال الحسن. وأخرج ابن جرير. وابن مردويه عنه أنه قال: أتى الحجاج بأسارى فدفع إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلا يقتله فقال ابن عمر: ليس بهذا أمرنا إنما قال الله تعالى: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً وفي حكم الأسارى خلاف فذهب الأكثرون إلى أن الإمام بالخيار إن شاء قتلهم إن لم يسلموا لأنه صلى الله عليه وسلم قتل صبرا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحرث التي قالت فيه أخته أبياتا منها تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:

ما كان ضرك لو مننت وربما

منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

ولأن في قتلهم حسم مادة فسادهم بالكلية، وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيرا بنفسه فإن فعل بلا ملجىء كخوف شر الأسير كان للإمام أن يعزره إذا وقع على خلاف مقصوده ولكن لا يضمن شيئا، وإن شاء استرقهم لأن فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لأهل الإسلام، وإن شاء تركهم ذمة أحرارا للمسلمين كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه ذلك في أهل السواد إلا أسارى مشركي العرب والمرتدين فإنهم لا تقبل منهم جزية ولا يجوز استرقاقهم بل الحكم فيهم إما الإسلام أو السيف، وإن أسلم الأسارى بعد الأسر لا يقتلهم لاندفاع شرهم بالإسلام، ولكن يجوز استرقاقهم فإن الإسلام لا ينافي الرق جزاء على الكفر الأصلي وقد وجد بعد انعقاد سبب الملك وهو الاستيلاء على الحربي غير المشرك من العرب، بخلاف ما لو أسلموا من قبل الأخذ فإنهم يكونون أحرارا لأنه إسلام قبل انعقاد سبب الملك فيهم، ولا يفادى بالأسارى في إحدى الروايتين عن الإمام أبي جنيفة رضي الله تعالى عنه لما في ذلك من معونة الكفر لأنه يعود الأسير الكافر حربا علينا، ودفع شر حرابته خير من استنقاذ المسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه فقط، والضرر بدفع أسيرهم إليهم يعود على جماعة المسلمين.

والرواية الأخرى عنه أنه يفادى وهو قول محمد وأبي يوسف والإمام الشافعي ومالك وأحمد إلا بالنساء فإنه لا يجوز المفاداة بهن عندهم، ومنع أحمد المفاداة بصبيانهم، وهذه رواية السير الكبير، قيل: وهو أظهر الروايتين عن الإمام أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: تجوز المفاداة بالأسارى قبل القسمة لا بعدها، وعند محمد تجوز بكل حال.

ووجه ما ذكره الأئمة من جواز المفاداة أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر للانتفاع به ولأن حرمته عظيمة وما ذكر من الضرر الذي يعود إلينا بدفعه إليهم يدفعه ظاهرا المسلم الذي يتخلص منهم لأنه ضرر شخص واحد فيقوم بدفعه واحد مثله ظاهرا فيتكافئان وتبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه من عبادة الله تعالى فإن فيها زيادة ترجيح.

ثم إنه قد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج مسلم وأبو داود والترمذي وعبد بن حميد وابن جرير عن عمران ابن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين ويحتج لمحمد بما

أخرجه مسلم أيضا عن إياس بن سلمة عن أبيه سلمة قال: خرجنا مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال: يا سلمة هب لي المرأة يعني التي نفله أبو بكر إياها. فقلت: يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا، ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال:«يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك» فقلت: هي لك يا رسول الله فو الله ما كشفت لها ثوبا فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففدى بها ناسا من المسلمين أسروا بمكة

، ولا يفادى بالأسير إذا أسلم وهو بأيدينا لأنه لا يفيد إلا إذا طابت نفسه وهو مأمون على إسلامه فيجوز لأنه

ص: 197

يفيد تخليص مسلم من غير إضرار بمسلم آخر، وأما المفاداة بمال فلا تجوز في المشهور من مذهب الحنفية لما بين في المفاداة بالمسلمين من ردهم حربا علينا. وفي السير الكبير أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة. قيل: استدلالا بأسارى بدر فإنه لا شك في احتياج المسلمين بل في شدة حاجتهم إذ ذاك فليكن محمل المفاداة الكائنة في بدر بالمال. وأما المن على الأسارى وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز عند أبي حنيفة ومالك وأحمد، وأجازه الإمام الشافعي لأنه صلى الله عليه وسلم من على جماعة من أسرى بدر منهم أبو العاص بن أبي الربيع على ما ذكره ابن اسحق بسنده.

وأبو دواد من طريقه إلى عائشة لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلته بها على أبي العاص حين بنائه عليها فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك رق لها رقة شديدة وقال لأصحابه: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا لها الذي لها» ففعلوا ذلك مغتبطين به، ورواه الحاكم وصححه وزاد «وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يخلي زينب إليه ففعل»

ومنّ صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال ابن النعمان الحنفي سيد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه، وحديثه في صحيح مسلم عن أبي هريرة، ويكفي ما

ثبت في صحيح البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام: «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى- يعني أسارى بدر- لتركتهم له»

فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر وهو الصادق المصدوق بأنه يطلقهم لو سأله المطعم، والإطلاق على ذلك التقدير لا يثبت إلا وهو جائز شرعا لمكان العصمة، وكونه لم يقع لعدم وقوع ما علق عليه لا ينفي جوازه شرعا.

واستدل أيضا بالآية التي تحت فيها فإن الله تعالى خير فيها بين المن والفداء، والظاهر إن المراد بالمن الإطلاق مجانا وكون المراد المن عليهم بترك القتل وإبقاءهم مسترقين أو تخليتهم لقبول الجزية وكونهم من أهل الذمة خلاف الظاهر، وبعض النفوس يجد طعم الالاء أحلى من هذا المن. وأجاب بعض الحنفية بأن الآية منسوحة بقوله تعالى:

فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] من سورة براءة فإنه يقتضي عدم جواز المن وكذا عدم جواز الفداء وهي آخر سورة نزلت في هذا الشأن، وزعم أن ما وقع من المن والفداء إنما كان في قضية بدر وهي سابقة عليها وإن كان شيء من ذلك بعد بدر فهو أيضا قبل السورة.

والقول بالنسخ جاء عن ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد في روايات ذكرها الجلال السيوطي في الدر المنثور، وقال العلامة ابن الهمام: قد يقال إن ذلك- يعني ما في سورة براءة- في حق غير الأسارى بدليل جواز الاسترقاق فيهم فيعلم أن القتل المأمور به في حق غيرهم، وما ذكره في جواز الاسترقاق ليس على إطلاقه إذ لا يجوز كما علمت استرقاق مشركي العرب حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي آلاتها وأثقالها من السلاح وغيره، قال الأعشى:

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

ومن نسج داود موضونة

تساق إلى الحرب عيرا فعيرا

وهي في الأصل الأحمال فاستعيرت لما ذكر استعارة تصريحية، ويجوز أن يكون في الْحَرْبُ استعارة مكنية بأن تشبه بإنسان يحمل حملا على رأسه أو ظهره ويثبت لها ما أثبت تخييلا، وكلام الكشاف أميل إليه، وقيل:

هي أحمال المحارب أضيفت للحرب تجوزا في النسبة الإضافية وتغليبا لها على الكراع، وإسناد الوضع للحرب مجاري أيضا وليس بذاك. وعد بعض الأماثل الكلام تمثيلا، والمراد حتى تنقضي الحرب وقال: يجوز أن يكون إرادة ذلك من باب المجاز المتفرع على الكناية كما في قوله: فألقت عصاها واستقر بها النوى. فإنه كنى به عن انقضاء السفر والإقامة، قيل: الأوزار جمع وز بمعنى إثم وهو هنا الشرك والمعاصي، و «تضع» بمعنى تترك مجازا، وإسناده

ص: 198

للحرب مجاز أو بتقدير مضاف، والمعنى حتى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم، وفيه أنه لا يستحسن إضافة الأوزار بمعنى الآثام إلى الحرب، وحَتَّى عند الشافعي عليه الرحمة ومن قال نحو قوله: غاية للضرب، والمعنى اضربوا أعناقهم حتى تنقضي الحرب، وليس هذا بدلا من الأول ولا تأكيدا له بناء على ما قرروه من أن حتى الداخلة على إذا الشرطية ابتدائية أو غاية للشد أو للمن والفداء معا أو للمجموع من قوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ إلخ بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيهم حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم، وقيل: بنزول عيسى عليه السلام، وروي ذلك عن سعيد بن جبير. والحسن،

وفي الحديث ما يؤيده أخرج أحمد والنسائي وغيرهما عن سلمة بن نفيل قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله إن الخيل قد سيبت ووضع السلاح وزعم أقوام أن لا قتال وإن قد وضعت الحرب أوزارها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبوا فالآن جاء القتال ولا تزال طائفة من أمتي يقاتلون في سبيل الله لا يضرهم من خالفهم يزيغ الله تعالى قلوب قوم ليرزقهم منهم وتقاتلون حتى تقوم الساعة ولا تزال الخيل معقودا في نواصيها الخير حتى تقوم الساعة ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج»

وهي عند من يقول: لا منّ ولا فداء اليوم غاية للمن والفداء إن حمل على الحرب على حرب بدر بجعل تعريفه للعهد، والمعنى المن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها، وغاية للضرب والشد إن حملت على الجنس، والمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب أوزارها بأن لا يبقى للمشركين شوكة، ولا تجعل غاية للمن والفداء مع إرادة الجنس.

وفي زعم جوازه والتزام النسخ كلام فتأمل ذلِكَ أي الأمر ذلك أو افعلوا ذلك فهو في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أو في محل نصب مفعول لفعل كذلك، والإشارة إلى ما دل عليه قوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ إلخ لا إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا لأن افعلوا لا يقع على جميع السالف وعلى الرفع ينفك النظم الجليل إن لم يحمل عليه لأن ما بعد كلام فيهم وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ لانتقم منهم ببعض أسباب الهلاك من خسف أو رجفة أو غرق أو موت جارف وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ولكن أمركم سبحانه بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فينالوا الثواب ويخلد في صحف الدهر ما لهم من الفضل الجسيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم عز وجل ببعض انتقامه سبحانه فيتعظ به بعض منهم ويكون سببا لإسلامه واللام متعلقة بالفعل المقدر الذي ذكرناه وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي استشهدوا.

وقرأ الجمهور «قاتلوا» أي جاهدوا، والجحدري بخلاف عنه «قتلوا» بفتح القاف والتاء بلا ألف، وزيد بن ثابت والحسن وأبو رجاء وعيسى والجحدري أيضا «قتّلوا» بالبناء للمفعول وشد التاء.

فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ فلن يضيعها سبحانه،

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «يضلّ» مبنيا للمفعول

«أعمالهم» بالرفع على النيابة عن الفاعل. وقرىء «يضلّ» بفتح الياء من ضل «أعمالهم» بالرفع على الفاعلية. والآية قال قتادة: كما

أخرجه عنه ابن جرير. وابن أبي حاتم ذكر لنا أنها نزلت في يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون يومئذ أعل هبل ونادى المسلمون الله أعلى وأجل فنادى المشركون يوم بيوم بدر وان الحرب سجال لنا عزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله مولانا ولا مولى لكم إن القتلى مختلفة أما قتلانا فأحياء مرزوقون وأما قتلاكم ففي النار يعذبون»

ومنه يعلم وجه قراءة «قتلوا» بصيغة التفعيل سَيَهْدِيهِمْ سيوصلهم إلى ثواب تلك الأعمال من النعيم المقيم والفضل العظيم، وهذا كالبيان لقوله سبحانه: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ أو سيثبت جلّ شأنه في الدنيا هدايتهم، والمراد الوعد بأن يحفظهم سبحانه ويصونهم عما يورث الضلال وحبط الأعمال، وهو كالتعليل لذلك، ويجوز أن يكون كالبيان له أيضا.

ص: 199

وَيُصْلِحُ بالَهُمْ أي شأنهم، قال الطبرسي: المراد إصلاح ذلك في العقبى فلا يتكرر مع ما تقدم لأن المراد به إصلاح شأنهم في الدين والدنيا فلا تغفل وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه أو استئناف كما قال أبو البقاء، والتعريف في الآخرة. أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أنه قال: يهدي أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم وحيث قسم الله تعالى لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحدا،

وفي الحديث «لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا»

وذلك بإلهام منه عز وجل، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال: بلغنا أن الملك الذي كان وكل بحفظ عمل الشخص في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ويتبعه الشخص حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى في الجنة فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل إلى منزله وأزواجه وانصرف الملك عنه.

وورد في بعض الآثار أن حسناته تكون دليلا إلى منزله فيها، وقيل: إنه تعالى رسم على كل منزل اسم صاحبه وهو نوع من التعريف، وقيل: تعريفها تحديدها يقال: عرف الدار وأرفها أي حددها أي حددها لهم بحيث يكون لكل جنة مفرزة، وقيل: أي شرفها لهم ورفعها وعلاها على أن عرفها من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها، وعن ابن عباس في رواية عطاء. وروي عن مؤرج أي طيبها لهم على أنه من العرف وهو الريح الطيبة هاهنا، ومنه طعام معرف أي مطيب، وعرفت القدر طيبتها بالملح والتابل، وعن الجبائي أن التعريف في الدنيا وهو بذكر أوصافها، والمراد أنه تعالى لم يزل يمدحها لهم حتى عشقوها فاجتهدوا فيما يوصلهم إليها:

والأذن تعشق قبل العين أحيانا وعلى هذا المراد قيل:

اشتقاقه من قبل رؤيته كما

تهوى الجنان بطيّب الأخبار

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم لا على أن الكلام على تقدير مضاف بل على أن نصرة الله فيه تجوز في النسبة فنصرته سبحانه نصرة رسوله ودينه إذ هو جل شأنه وعلا المعين الناصر وغيره سبحانه المعان المنصور يَنْصُرْكُمْ على أعدائكم ويفتح لكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في مواطن الحرب ومواقفها أو على محجة الإسلام، والمراد يقويكم أو يوفقكم للدوام على الطاعة.

وقرأ المفضل عن عاصم «ويثبت» مخففا وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ من تعس الرجل بفتح العين تعسا أي سقط على وجهه، وضده انتعش أي قام من سقوطه. وقال شمر وابن شميل وأبو الهيثم وغيرهم: تعس بكسر العين، ويقال: تعسا له ونكسا على أن الأول. كما قال ابن السكيت. بمعنى السقوط على الوجه والثاني بمعنى السقوط على الرأس، وقال الحمصي في حواشيه على التصريح: تعس تعسا أي لا انتعش من عثرته ونكسا بضم النون وقد تفتح إما في لغة قليلة وإما اتباعا لتعسا، والنكس بالضم عود المرض بعد النقه، ويراد بذلك الدعاء، وكثر في الدعاء على العاثر تعسا له، وفي الدعاء له لعا له أي انتعاشا وإقامة، وأنشدوا قول الأعشى يصف ناقة:

كلفت مجهولة نفسي وشايعني

همي عليها إذا ما آلها لمعا

بذات لوث عفرناة إذا عثرت

فالتعس أولى لها من أن أقول لعا

وقال ثعلب وابن السكيت أيضا: التعس الهلاك، ومنه قول مجمع بن هلال:

تقول وقد أفردتها من حليلها

تعست كما أتعستني يا مجمع

ص: 200

وفي القاموس التعس الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط والفعل كمنع وسمع أو إذا خاطبت قلت:

تعست كمنع وإذا حكيت قلت: تعس كسمع، ويقال: تعسه الله تعالى وأتعسه ورجل تاعس وتعس، وانتصابه على المصدر بفعل من لفظه يجب إضماره لأنه للدعاء كسقيا ورعيا فيجري مجرى الأمثال إذا قصد به ذلك، والجار والمجرور بعده متعلق بمقدر للتبيين عند كثير أي أعني له مثلا فنحو تعسا له جملتان. وذهب الكوفيون إلى أنه كلام واحد، ولابن هشام كلام في هذا الجار مذكور في بحث لام التبيين فلينظر هناك.

واختلفت العبارات في تفسير ما في الآية الكريمة، فقال ابن عباس: أي بعدا لهم. وابن جريج. والسدي أي حزنا لهم، والحسن أي شتما لهم، وابن زيد أي شقاء لهم، والضحاك أي رغما لهم، وحكى النقاش تفسيره بقبحا لهم، وقال غير واحد: أي عثورا وانحطاطا لهم، وما ألطف ذكر ذلك في حقهم بعد ذكر تثبيت الأقدام في حق المؤمنين، وفي رواية عن ابن عباس يريد في الدنيا القتل وفي الآخرة التردي في النار، وأكثر الأقوال ترجع إلى الدعاء عليهم بالهلاك.

وجوز الزمخشري في إعرابه وجهين: الأول كونه مفعولا مطلقا لفعل محذوف كما تقدم. والثاني مفعولا به لمحذوف أي فقضى تعسا لهم، وقدر على الأول القول أي فقال: تعسا لهم، والذي دعاه لذلك على ما قيل جعل الَّذِينَ مبتدأ والجملة المقرونة بالفاء خبرا له وهي لا نشاء الدعاء. والإنشاء لا يقع خبرا بدون تأويل، فإما أن يقدر معها قول أو تجعل خبرا بتقدير قضى، وجعل قوله تعالى: وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ عطفا على ما قدر.

وفي الكشف المراد من قال: تعسا لهم أهلكهم الله لا أن ثم دعاء وقولا، وذلك لأنه لا يدعي على شخص إلا وهو مستحق له فإذا أخبر تعالى أنه يدعو عليه دل على تحقق الهلاك لا سيما وظاهر اللفظ أن الدعاء منه عز وجل، وهذا مجاز على مجاز أعني أن القول مجاز وكذلك الدعاء بالتعس، ولم يجعل العطف على (تعسا) لأنه دعاء، وأَضَلَّ إخبار، ولو جعل دعاء أيضا عطفا على (تعسا) على التجوز المذكور لكان له وجه انتهى. وأنت تعلم أن اعتبار ما اعتبره الزمخشري ليس لأجل أمر العطف فقط بل لأجل أمر الخبرية أيضا، فإن قيل بصحة الأخبار بالجملة الإنشائية من غير تأويل استغنى عما قاله بالكلية، ودخلت الفاء في خبر الموصول لتضمنه معنى الشرط.

وجوز أن يكون الموصول في محل نصب على المفعولية لفعل مقدر يفسره الناصب- لتعسا- أي أتعس الله الذين كفروا أو تعس الله الذين كفروا تعسا لما سمعت عن القاموس وقد حكي عن أبي عبيدة، والفاء زائدة في الكلام كما في قوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] ويزيدها العرب في مثل ذلك على توهم الشرط، وقيل: يقدر الفعل مضارعا معطوفا على قوله تعالى: يُثَبِّتْ أي ويتعس الذين إلخ. والفاء للعطف فالمراد اتعاس بعد اتعاس، ونظيره قوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40] أو لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال، وفيه مقال.

ذلِكَ أي ما ذكر من التعس والإضلال بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمارة بالسوء، وهذا تخصيص وتصريح بسببية الكفر بالقرآن للتعس والإضلال إذ قد علم من قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلخ سببية مطلق الكفر الداخل فيه الكفر بالقرآن دخولا أوليا لذلك فَأَحْبَطَ لأجل ذلك أَعْمالَهُمْ التي لو كانوا عملوها التي لو كانوا عملوها مع الإيمان لأثيبوا عليها، وذكر الإحباط مع ذكر الإضلال المراد هو منه إشعارا بأنه يلزم الكفر بالقرآن ولا ينفك عنه بحال أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي أقعدوا في أماكنهم فلم يسيروا فيها فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبة فإن آثار ديارهم تنبىء عن أخبارهم، وقوله تعالى: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ استئناف بياني كأنه قيل: كيف كانت

ص: 201

عاقبتهم؟ فقيل: أهلك ما يختص بهم من النفس والأهل والمال يقال: دمره أهلكه دمر عليه أهلك ما يختص به فدمر عليه أبلغ من دمره، وجاءت المبالغة من حذف المفعول وجعله نسيا منسيا والإتيان بكلمة الاستعلاء وهي لتضمن التدمير معنى الإيقاع أو الهجوم أو نحوه وَلِلْكافِرِينَ أي لهؤلاء الكافرين السائرين سيرتهم أَمْثالُها أمثال عاقبتهم أو عقوبتهم لدلالة ما سبق عليها لكن لا على أن لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافه بل مثله، وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة حسب تعدد الأمم المعذبة، وقيل: يجوز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين وقد قتلوا وأسروا بأيدي من كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم، والقتل بيد المثل أشد من الهلاك بسبب عام، وقيل: المراد بالكافرين المتقدمون بطريق وضع الظاهر موضع الضمير كأنه قيل: دمر الله تعالى عليهم في الدنيا ولهم الآخرة أمثالها ذلِكَ إشارة إلى ثبوت أمثال عاقبة أو عقوبة الأمم السالفة لهؤلاء، وقيل: إشارة إلى النصر وهو كما ترى بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي ناصرهم على أعدائهم، وقرىء «ولي الذين آمنوا» وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ فيدفع ما حل بهم من العقوبة والعذاب، ولا يناقض هذا قوله تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [يونس: 30] لأن المولى هناك بمعنى المالك فلم يتوارد النفي والإثبات على معنى واحد.

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بيان لحكم ولايته تعالى لهم وثمرتها الأخروية وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ أي ينتفعون بمتاع الدنيا أياما قلائل وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ الكاف في موضع نصب إما على الحال من ضمير المصدر كما يقول سيبويه أي يأكلونه أي الأكل مشبها أكل الأنعام، وإما على أنه نعت لمصدر محذوف كما يقول أكثر المعربين أي أكلا مثل أكل الأنعام، والمعنى أن أكلهم مجرد من الفكر والنظر كما تقول للجاهل تعيش كما تعيش البهيمة لا تريد التشبيه في مطلق العيش ولكن في خواصه ولوازمه، وحاصله أنهم يأكلون غافلين عن عواقبهم ومنتهى أمورهم، وقوله تعالى: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي موضع إقامة لهم، حال مقدر من واو يَأْكُلُونَ.

وجوز أن يكون استئنافا وكان قوله تعالى: يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ في مقابلة قوله سبحانه: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لما فيه من الإيماء إلى أنهم عرفوا أن نعيم الدنيا خيال باطل وظل زائل، فتركوا الشهوات وتفرغوا للصالحات، فكان عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم وهؤلاء غفلوا عن ذلك فرتعوا في دمنهم كالبهائم حتى ساقهم الخذلان إلى مقرهم من درك النيران، وهذا ما ذكره العلامة الطيبي في بيان التقابل بين الآيتين، وقال بعض الأجلة: في الكلام احتباك وذلك أنه ذكر الأعمال الصالحة ودخول الجنة أولا دليلا على حذف الأعمال الفاسدة ودخول النار ثانيا وذكر التمتع والمثوى ثانيا دليلا على حذف التقلل والمأوى أولا والأول أحسن وأدق، وأسند إدخال الجنة إلى الله تعالى ولم يسلك نحو هذا المسلك في قوله تعالى: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وخولف بين الجملتين فعلية واسمية للإيذان بسبق الرحمة والإعلام بمصير المؤمنين والوعد بأن عاقبتهم أن الله سبحانه يدخلهم جنات وأن الكافرين مثواهم النار وهم الآن حاضرون فيها ولا يدرون وكالبهائم يأكلون.

وَكَأَيِّنْ بمعنى كم الخبرية وهي مبتدأ، وقوله تعالى: مِنْ قَرْيَةٍ تمييز لها، وقوله سبحانه: هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ صفة لقرية كما أن قوله عز وجل: الَّتِي أَخْرَجَتْكَ صفة لقريتك، وقد حذف عنهما المضاف وأجري أحكامه عليهما كما يفصح عنه الخبر الذي هو قوله تعالى: أَهْلَكْناهُمْ أي وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك الذين أخرجوك أهلكناهم بأنواع العذاب، وجوز أن لا يكون هناك حذف وإنما أطلق المحل وأريد الحال مجازا، وإسناد الإخراج إلى أهل قريته صلى الله عليه وسلم وهي مكة المكرمة مجاز من باب الإسناد إلى السبب لأنهم عاملوه صلى الله عليه وسلم بما عاملوه

ص: 202

فكانوا بذلك سببا لإخراجه حين أذن الله تعالى عليه الصلاة والسلام بالهجرة منها، ونظير ذلك أقدمني بلدك حق لي عليك. وأنت تعلم أنه على ما حققه الأجلة يحتمل أوجها ثلاثة، مجازا في الإسناد إذا كان الإقدام مستعملا في معناه الذي وضع له وإن كان موهوما. ومجازا في الطرف إذا كان مستعملا في معنى الحمل على القدوم. واستعارة بالكناية إن كان الحق مستعملا في المقدم، والشيخ يقول في مثل ذلك: إن الفعل المتعدي موهوم لا فاعل له ليصير الإسناد إليه حقيقة فلا إقدام مثلا في قصد المتكلم وإنما هو تصوير القدوم بصورة الإقدام، وإسناده إلى الحق المصور بصورة المقدم مبالغة في كونه داعيا للقدوم، وارتضاه السالكوتي في حواشي شرح مختصر التلخيص وذب عنه القال والقيل، وتمام الكلام هناك، والكلام في الآية على طرز ذاك، ووصف القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوتها كما أن وصف الثانية بإخراجه عليه الصلاة والسلام للإيذان بأولويتها به لقوة جنايتها، وعلى طريقته قول النابغة:

كليب لعمري كان أكثر ناصرا

وأيسر جرما منك ضرج بالدم

وقوله تعالى: فَلا ناصِرَ لَهُمْ بيان لعدم خلاصهم بواسطة الأعوان والأنصار إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم، والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات وهو حكاية حال ماضية كما في قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ولا نسلم أن اسم الفاعل إذا لم يعمل حقيقة في الماضية، والآية تسلية له صلى الله عليه وسلم،

فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: «أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأنت أحب بلاد الله تعالى إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك»

فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بدخول أهل الجاهلية فأنزل الله سبحانه وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ إلخ، وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول السورة فتذكر.

أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تقرير لتباين حال الفريقين المؤمنين والكافرين وكون الأولين في أعلى عليين والآخرين في أسفل سافلين وبيان لعلة ما لكل منهما من الحال، والهمزة لإنكار استوائهما أو لإنكار كون الأمر ليس كما ذكر، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقد قرىء بدونها، و (من) عبارة عن المؤمنين المتمسكين بأدلة الدين كما أنها في قوله تعالى: كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ عبارة عن أضدادهم من المشركين.

وأخرج جماعة عن ابن عباس أن من كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ هم المشركون، وروي عن قتادة نحوه وإليه ذهب الزمخشري. وتعقب بأن التخصيص لا يساعده النظم الكريم ولا داعي إليه، قيل: ومثله كون (من) الأول عبارة عنه صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين، والمعنى أيستوي الفريقان أو أليس الأمر كما ذكر فمن كان ثابتا على حجة ظاهرة وبرهان نير من مالك أمره ومربيه وهو القرآن العظيم وسائر المعجزات والحجج العقلية كمن زين له الشيطان عمله السيء من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك مع كون ذلك في نفسه أقبح القبائح وَاتَّبَعُوا في ذلك العمل السيء، وقيل: بسبب ذلك التزيين أَهْواءَهُمْ الزائغة من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه فضلا عن حجة تدلك عليها. وجمع الضميرين الأخيرين باعتبار معنى (من) كما أن افراد الأولين باعتبار لفظها.

ص: 203

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ إلى آخره استئناف مسوق لشرح إيذانا بأن الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى الذي هو عبارة عن فعل الواجبات وترك السيئات، والمثل الوصف العجيب الشأن وهو مبتدأ باتفاق المعربين، واختلف في خبره فقيل محذوف فقال النضر بن شميل: تقديره ما تسمعون، وقوله عز وجل: فِيها أَنْهارٌ إلى آخره مفسر له، وقال سيبويه: تقديره فيما يتلى عليكم أو فيما قصصنا عليك ويقدر مقدما وفِيها أَنْهارٌ إلخ بيان لذلك المثل، وقدره ابن عطية ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف وليس بذاك، ولعل الأنسب بصدر النظم الكريم تقدير النضر، وقيل: هو مذكور فقيل هو قوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ إلخ على معنى مثل الجنة وصفتها مضمون هذا الكلام ولا يحتاج مثل هذا الخير إلى رابط.

وقيل هذه الجملة هي الخبر إلا أن لفظ مَثَلُ زائد زيادة اسم في قول من قال:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما فالمبتدأ في الحقيقة هو المضاف إليه فكأنه قيل: الجنة فيها أنهار إلخ وليس بشيء، وقيل: الخبر قوله تعالى الآتي: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام فيه.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وعبد الله والسلمي «أمثال الجنة»

أي صفاتها، قال ابن جني: وهذا دليل على أن قراءة العامة بالتوحيد معناها الكثرة لما في مثل من معنى المصدرية ولذا جاز مررت برجل مثل رجلين وبرجلين مثل رجال وبامرأة مثل رجل،

وعن علي كرم الله تعالى وجهه أيضا أنه قرىء «مثال الجنة»

ومثال الشيء في الأصل نظيره الذي يقابل به.

مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ أي غير متغير الطعم والريح لطول مكث ونحوه، وماضيه أسن بالفتح من باب ضرب ونصر وبالكسر من باب علم حكى ذلك الخفاجي عن أهل اللغة. وفي البحر أسن الماء تغير ريحه يأسن ويأسن ذكره ثعلب في الفصيح، والمصدر أسون، وأسن بكسر السين يأسن بفتحها لغة أسنا قاله اليزيدي، وأسن الرجل بالكسر لا غير إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة منها فغشي عليه أو دار رأسه ومنه قول الشاعر:

قد أترك القرن مصفرا أنامله

يميد في الريح ميد المائح الأسن

وقرأ ابن كثير. وأهل مكة «أسن» على وزن حذر فهو صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، وقرأ «يسن» بالياء قال أبو علي: وذلك على تخفيف الهمزة وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ لم يحمض ولم يصر قارصا ولا حاذرا كألبان الدنيا وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي لذيذة لهم ليس فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر وخمار كخمور الدنيا فإنها لا لذة في نفس شربها وفيها من المكاره والغوائل ما فيها وهي صفة مشبهة مؤنث لذ وصفت بها الخمر لأنها مؤنثة وقد تذكر أو مصدر نعت به بتقدير مضاف أو بجعلها عين اللذة مبالغة على ما هو المعروف في أمثال ذلك وقرئت بالرفع على أنها صفة أَنْهارٌ وبالنصب على أنها مفعول له أي كائنة لأجل اللذة لا لشيء آخر من الصداع وسائر آفات خمور الدنيا وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى مما يخالفه فلا يخالطه الشمع

ص: 204

وفضلات النحل وغيرها، ووصفه بمصفى لأنه الغالب على العسل التذكير وهو مما يذكر ويؤنث كما نص عليه أبو حيان. وغيره، وهذا على ما قيل تمثيل لما يجري مجرى الأشربة في الجنة بأنواع ما يستطاب منها أو يستلذ في الدنيا بالتخلية عما ينقصها وينغصها والتحلية بما يوجب غزارتها ودوامها.

وبدىء بالماء لأنه في الدنيا مما لا يستغنى عنه ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعم لكثير من العرب في كثير من أوقاتهم ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوفت النفس إلى ما يلتذ به ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم فهو متأخر بالرتبة، وجاء عن ابن عباس أن لبن تلك الأنهار لم يحلب، وقال سعيد بن جبير: إنه لم يخرج من بين فرث ودم وإن خمرها لم تدسها الرجال بأرجلها وإن عسلها لم يخرج من بطون النحل. وأخرج ابن جرير عن سعد قال: سألت أبا إسحق عن قوله تعالى: مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ فقال: سألت عنه الحارث فحدثني أن ذلك الماء تسنيم وقال: بلغني أنه لا تمسه يد وأنه يجيء الماء هكذا حتى يدخل الفم.

وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن الكلبي أن نهر دجلة نهر الخمر في الجنة وأن عليه إبراهيم عليه السلام ونهر جيحون نهر الماء فيها ويقال له نهر الرب ونهر الفرات نهر اللبن وأنه لذرية المؤمنين ونهر النيل نهر العسل.

وأخرج الحرث بن أبي أسامة في مسنده. والبيهقي عن كعب قال: نهر النيل نهر العسل ونهر دجلة نهر اللبن ونهر الفرات نهر الخمر ونهر سيحان نهر الماء في الجنة. وأنت تعلم أن المذكور في الآية لكل أنهار بالجمع والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار ونحوها، ثم إنها إن صحت لا يبعد تأويلها وإن كانت القدرة الإلهية لا يتعاصاها شيء وَلَهُمْ فِيها مع ما ذكر من فنون الأنهار مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي أنواع من كل الثمرات فالجار والمجرور صفة مبتدأ مقدر وقدره بعضهم زوجان وكأنه انتزعه من قوله تعالى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: 52] وقيل:

مِنْ زائدة أي ولهم فيها كل الثمرات وَمَغْفِرَةٌ مبتدأ خبره محذوف والجملة عطف على الجملة السابقة أي ولهم مغفرة، وجوز أن يكون عطفا على المبتدأ قبل بدون قيد فيها لأن المغفرة قبل دخول الجنة أو بالقيد والكلام على حذف مضاف أي ونعيم مغفرة أو جعل المغفرة عبارة عن أثرها وهو النعيم أو مجازا عن رضوان الله عز وجل، وقد يقال: المراد بالمغفرة هنا ستر ذنوبهم وعدم ذكرها لهم لئلا يستحيوا فتتنغص لذتهم والمغفرة السابقة ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها وحينئذ العطف على المبتدأ من غير ارتكاب شيء مما ذكر، وقد رأيت نحو هذا بعد كتابته للطبرسي مقتصرا عليه ولعله أولى مما قالوه، وتنوين مَغْفِرَةٌ للتعظيم أي مغفرة عظيمة لا يقادر قدرها، وقوله تعالى:

مِنْ رَبِّهِمْ متعلق بمحذوف صفة لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائنة من ربهم، وقوله عز وجل: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمن هو خالد في هذه الجنة حسبما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به قوله تعالى: وَالنَّارُ مَثْوىً لهم، وجوز أن يكون بدلا من قوله سبحانه: كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من على بينة في الآخرة تقرير الإنكار المساواة وفيه بعد. وذهب جار الله إلى أنه خبر مَثَلُ الْجَنَّةِ وأن ذاك مرتب على الإنكار السابق أعني قوله تعالى:

أَفَمَنْ كانَ إلخ، والمعنى أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار فالمضافان محذوفان الجزاء بقرينة مقابلة الجنة ولفظ المثل بقرينة تقدمه ومثله كثير، وفائدة التعرية عن حرف الإنكار أن من اشتبه عليه الأول أعني حال المتمسك بالبينة وحال التابع لهواه فالثاني مثله عنده وإذ ذاك لا يستحق الخطاب، ونظير ذلك قول حضرمي بن عامر:

أفرح أن أرزأ الكرام وأن

أورث ذودا شصائصا نبلا

فإنه كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تعريه من حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم من قال له:

ص: 205

أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله وذلك من التسليم الذي يقل تحته كل إنكار، وجعل قوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ كالتكرير للصلة أي صلة بعد صلة يتضمن تفصيلها لأنه كالتفصيل للموعود، ولهذا لم يتخلل العاطفة بينهما، وجوز أن يكون في موضع الحال على أن الظرف في موضع ذلك وأَنْهارٌ فاعله لا على أنه مبتدأ والظرف خبر مقدم والجملة الاسمية حال لعدم الواو فيها، وقد صرحوا بأن الاكتفاء فيها بالضمير غير فصيح، واعتبارها فعلية بتقدير متعلق الظرف استقر لا يخفى حاله، وقيل: في الحال ضعف من حيث المعنى لمجيئه مجيء الفضلات وهي أم الإنكار، وأيضا هو حال من الجنة لا من ضميرها في الصلة وفي العامل تكلف، ثم الحال غير مقيدة وجعلها مؤكدة وقد علم كونها كذلك من إخباره تعالى فيه أيضا تكلف، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف بياني، قال في الكشف:

وهو الوجه، والتقدير هي فيها أنهار وكأنه قيل: أنى يكون صفة الجنة وهي كذا وكذا كصفة النار الاستئناف هاهنا بمنزلة قولك: وهي كذا وكذا اعتراضا لما في لفظ المثل من الأشعار بالوصف العجيب، وليس خبر الجملة السابقة وهو كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ مورد السؤال ليعترض بوقوع الاستئناف قبل مضيه. وأورد أنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ لأن فِيها أَنْهارٌ جملة برأسها، والجواب أن تقدير مثلها فيها أنهار فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعا ثم حذف ولهذا قال في السؤال: كأن قائلا قال: وما مثلها؟ ويجري ما قرر في قراءة الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه أمثال بالجمع فيقال: التقدير أمثال الجنة كأمثال جزاء من هو خالد في النار، ويقدر المضاف الأول جمعا للمطابقة، ولعمري لقد أبعد جار الله المغزى، وقد استحسن ما ذكره كثير من المحققين قال صاحب الكشف بعد تقرير جعل كَمَنْ هُوَ خالِدٌ خبر لمثل الجنة: هذا هو الوجه اللائح المناسب المساق.

وقال ابن المنير: في الانتصاف بعد نقله كم ذكر الناس في تأويل هذه الآية فلم أر أطلى ولا أحلى من هذه النكت التي ذكرها لا يعوزها إلا التنبيه على أن في الكلام محذوفا ليتعادل. والتقدير مثل ساكن الجنة كمن هو خالد في النار، ومن هذا النمط قوله تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التوبة: 19] إلخ، وما قدرناه لتحصيل التعادل أولى وإن كان فيه كثرة حذف فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، والضمير المفرد.

أعني «هو» . راجع إلى «من» لفظها كما إن ضمير الجمع في قوله سبحانه: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً راجع إليها باعتبار معناها، والمراد وسقوا ماء حارا مكان تلك الأشربة وفيه تهكم بهم فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ من فرط الحرارة.

روي أنه إذا أدني منهم شوى وجوههم وامتازت فروة رؤوسهم فإذا شربوه قطع أمعاءهم، وهي جمع معى بالفتح والكسر ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة ويقال له عفاج وهو مذكر وقد يؤنث وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ هم المنافقون، وإفراد الضمير باعتبار اللفظ كما أن جمعه بعد باعتبار المعنى، قال ابن جريج: كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يراعونه حق رعايته تهاونا منهم حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي لأولي العلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقيل: الواعون لكلامه عليه الصلاة والسلام الراعون له حق رعايته من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ماذا قالَ آنِفاً أي ما الذي قال قبيل هذا الوقت ومقصودهم من ذلك الاستهزاء وإن كان بصورة الاستعلام، وجوز أن يكون مرادهم حقيقة الاستعلام إذا لم يلقوا له آذانهم تهاونا به ولذلك ذموا والأول أولى، قيل: ذلك لابن مسعود، وعن ابن عباس أنا منهم وقد سميت فيمن سئل وأراد رضي الله تعالى عنه أنه من الذين أوتوا العلم بنص القرآن. وما أحسن ما عبر عن ذلك، وآنِفاً اسم فاعل على غير القياس أو بتجريد فعله من الزوائد لأنه لم يسمع له فعل ثلاثي بل استأنف وأتنف، وذكر الزجاج أنه من استأنفت الشيء إذا ابتدأته وكان أصل معنى هذا أخذت أنفه أي مبدأه، وأصل الأنف الجارحة المعروفة ثم يسمى به طرف

ص: 206

الشيء ومقدمه وأشرفه، وذكر غير واحد أن آنفا من ذلك قالوا: إنه اسم للساعة التي قبل ساعتك التي أنت فيها من الأنف بمعنى المتقدم وقد استعير من الجارحة لتقدمها على الوقت الحاضر، وقيل: هو بمعنى زمان الحال، وهو على ما ذهب إليه الزمخشري نصب على الظرفية ولا ينافي كونه اسم فاعل كما في بادىء فإنه اسم فاعل غلب على معنى الظرفية في الاستعمال، وقال أبو حيان: الصحيح أنه ليس بظرف ولا نعلم أحدا من النحاة عده في الظروف وأوجب نصبه على الحال من فاعل قالَ أي ماذا قال مبتدئا أي ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه، وإلى ذلك يشير كلام الراغب. وقرأ ابن كثير «أنفا» على وزن فعل أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فعدم توجههم نحو الخير وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ فتوجهوا نحو كل ما لا خير فيه فلذلك كان منهم ما كان.

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا إلى طريق الحق زادَهُمْ أي الله عز وجل هُدىً بالتوفيق والإلهام، والموصول يحتمل الرفع على الابتداء والنصب بفعل محذوف يفسره المذكور وهُدىً مفعول ثاني لأن زاد قد يتعدى لمفعولين، ويحتمل أن يكون تمييزا والأول هو الظاهر، وتنوينه للتعظيم أي هدى عظيما وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ أي أعطاهم تقواهم إياه جل شأنه بأن خلقها فيهم بناء على ما يقوله الأشاعرة في أفعال العباد أو بأن خلق فيهم قدرة عليها مؤثرة في فعلها بإذنه سبحانه على ما نسبه الكوراني إلى الأشعري وسائر المحققين في أفعال العباد من أنها بقدرة خلقها الله تعالى فيهم مؤثرة بإذنه تعالى، وقول بعضهم: بأن جعلهم جل شأنه متقين له سبحانه يمكن تطبيقه على كل من القولين، وقال البيضاوي: أي بين لهم ما يتقون أو أعانهم على تقواهم أو أعطاهم جزاءها فالإيتاء عنده مجاز عن البيان أو الإعانة أو هو على حقيقته والتقوى مجاز عن جزائها لأنها سببه أو فيه مضاف مقدر وليس في شيء من ذلك ما يأباه مذهب أهل الحق، وذكر الزمخشري الثاني والثالث من ذلك، واختار الطيبي الأول من هذين الاثنين وقال: هو أوفق لتأليف النظم الكريم لأن أغلب آيات هذه السورة الكريمة روعي فيها التقابل فقوبل أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ بقوله سبحانه: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً لأن الطبع يحصل من تزايد الرين وترادف ما يزيد في الكفر، وقوله تعالى وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بقوله جل وعلا: وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ فيحمل على كمال التقوى وهو أن يتنزه العارف عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه سبحانه بشر أشره وهو التقوى الحقيقية المعنية بقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] فإن المزيد على مزيد الهدى مزيد لا مزيد عليه، وفي الترفع عن متابعة الهوى النزوع إلى المولى والعزوب عن شهوات الحياة الدنيا، ثم في إسناد إيتاء التقوى إليه تعالى وإسناد متابعة الهوى إليهم إيماء إلى معنى قوله تعالى حكاية: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] وتلويح إلى أن متابعة الهوى مرض روحاني وملازمة التقوى دواء إلهي انتهى. وما ذكره من التقابل جار فيما ذكرناه أيضا، وكذا يجري التقابل على تفسير إيتاء التقوى ببيان ما يتقون لإشعار الكلام عليه بأن ما هم فيه ليس من ارتكاب الهوى والتشهي بل هو أمر حق مبني على أساس قوي، وتفسير ذلك بإعطاء جزاء التقوى مروي عن سعيد بن جبير وذهب إليه الجبائي، والكلام عليه أفيد وأبعد عن التأكيد من غير حاجة إلى حمل التقوى على أعلى مراتبها، وأمر التقابل هين فإنه قد يقال إن قوله تعالى: اهْتَدَوْا في مقابلة اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وقوله سبحانه: زادَهُمْ هُدىً في مقابلة طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فليتدبر، وقيل: فاعل زادَهُمْ ضمير قوله صلى الله عليه وسلم المفهوم من قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وقوله سبحانه: ماذا قالَ آنِفاً وكذا فاعل آتاهُمْ أي أعانهم أو بيّن لهم، والإسناد مجازي، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وأيضا إذا كان قوله تعالى:

زادَهُمْ هُدىً في مقابلة قوله سبحانه: طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فالأولى أن يتحد فاعله مع فاعله ويجري نحو ذلك على ما قاله الطيبي لئلا يلزم التفكيك، وجوز أن يكون ضميرا عائدا على قول المنافقين فإن ذلك مما يعجب منه

ص: 207

المؤمن فيحمد الله تعالى على إيمانه ويزيد بصيرة في دينه، وهو بعيد جدا بل لا يكاد يلتفت إليه.

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أي القيامة، وقوله تعالى: أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي تباغتهم بغتة وهي المفاجأة بدل اشتمال من الساعة أي لا يتذكرون بأحوال الأمم الخالية ولا بالأخبار بإتيان الساعة وما فيها من عظائم الأحوال فما ينتظرون للتذكر إلا إتيان الساعة نفسها، وقوله تعالى: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها أي علاماتها وأماراتها كما في قوله أبي الأسود الدؤلي:

فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا

فقد جعلت أشراط أوله تبدو

وهي جمع شرط بالتحريك تعليل لمفاجأتها على معنى أنه لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذ قد جاء أشراطها فلم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من مبادئ إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة كذا في إرشاد العقل السليم، وظاهر كلام الكشاف أنه تعليل للإتيان مطلقا أي ما ينتظرون إلا إتيان الساعة لأنه قد جاء أشراطها وبعد مجيئها لا بد من وقوع الساعة، وتعليل المقيد دون قيده لا يخلو عن بعد، قيل: ويقربه هنا أن انتظارهم ليس إلا لإتيان الساعة وتقييده ببغتة ليس إلا لبيان الواقع، وقال بعض المحققين: هو تعليل لانتظار الساعة لأن ظهور إمارات الشيء سبب لانتظاره، وفي جعله تعليلا للمفاجأة خفاء لأنها لا تناسب مجيء الأشراط إلا بتأويل، وأنت تعلم أن البدل هو المقصود فالانتظار لاتيان الساعة بغتة فالتعليل المذكور تعليل للمقيد دون قيده أيضا فكان ما في الإرشاد متعين وإن كان فيه نوع تأويل، وقوله تعالى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ على ما أفاده بعض الأجلة تعجيب من نفع الذكرى عند مجيء الساعة وإنكار لعدم تشمرهم لها ولانتظارهم إياها هزؤا وجحودا، وفي الإرشاد وقوله تعالى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ حكم بخطئهم وفساد رأيهم في تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفع التذكر حينئذ كقوله سبحانه: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الفجر: 23] أي فكيف لهم ذكراهم على أن (أنى) خبر مقدم وذِكْراهُمْ مبتدأ وإِذا جاءَتْهُمْ اعتراض وسط بينهما رمزا إلى غاية سرعة مجيئها، وإطلاق المجيء عن قيد البغتة لما أن مدار استحالة نفع التذكر كونه عند مجيئها مطلقا لا مقيدا بقيد البغتة، وقيل:(أنى) خبر مقدم لمبتدأ محذوف أي فأنى لهم الخلاص إذا جاءتهم الذكرى بما يخبرون به فينكرونه منوطة بالعذاب ولا يخفى حاله، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي عن أهل مكة «إن تأتهم» على أنه شرط مستأنف جزاؤه فَأَنَّى لَهُمْ إلخ أي إن تأتهم الساعة بغتة إذ قد جاء أشراطها فأنى تنفعهم الذكرى وقت مجيئها، و (إن) هنا بمعنى إذا لأن إتيان الساعة متيقن، ولعل الإتيان بها للتعريض بهم وأنهم في ريب منها أو لأنها لعدم تعيين زمانها أشبهت المشكوك فيه وإذا جاءتهم باعتبار الواقع فلا تعارض بينهما كما يتوهم في النظرة الحمقاء.

وفي الكشف «إذا» على هذه القراءة لمجرد الظرفية لئلا يلزم التمانع بين إِذا جاءَتْهُمْ و «إن تأتهم» وفي الإتيان بأن مع الجزم بالوقوع تقوية أمر التوبيخ والإنكار كما لا يخفى انتهى، وعلى ما ذكرنا لا يحتاج إلى جعل إذا لمجرد الظرفية.

وقرأ الجعفي. وهارون عن أبي عمرو «بغتّة» بفتح الغين وشد التاء، قال صاحب اللوامح: وهي صفة وانتصابها على الحال ولا نظير لها في المصادر ولا في الصفات بل في الأسماء نحو الجربة وهي القطيع من حمر الوحش، وقد يسمى الأقوياء من الناس إذا كانوا جماعة متساوين جربة، والشربة وهي اسم موضع وكذا قال أبو العباس بن الحاج من أصحاب أبي علي الشلوبين في كتابه المصادر، وقال الزمخشري: وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي عن أبي عمرو وان يكون الصواب بغتة بفتح الغين من غير تشديد كقراءة الحسن فيما تقدم.

ص: 208

وتعقبه أبو حيان بأن هذا على عادته في تغليط الرواة، والظاهر أن المراد بأشراط الساعة هنا علاماتها التي كانت واقعة إذ ذاك وأخبروا أنها علامات لها كبعثة نبينا صلى الله عليه وسلم،

فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال:

«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى»

وأراد عليه الصلاة والسلام مزيد القرب بين مبعثه والساعة فإن السبابة تقرب من الوسطى طولا فينا وهكذا فيه صلى الله عليه وسلم. وزعم بعضهم أن أمر الطول والقصر في وسطاه وسبابته عليه الصلاة والسلام على عكس ما فينا خطأ لا يلتفت إليه إلا أن يكون أراد ذلك في أصابع رجليه الشريفة صلى الله عليه وسلم.

وأخرج أحمد عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعثت أنا والساعة جميعا وإن كادت لتسبقني»

وهذا أبلغ في إفادة القرب وعدوا منها انشقاق القمر الذي وقع له صلى الله عليه وسلم والدخان الذي وقع لأهل مكة وأما أشراطها مطلقا فكثيرة الفت فيها كتب مختصرة ومطولة وهي تنقسم إلى مضيقة لا تبقى الدنيا بعد وقوعها إلا أيسر يسير كخروج المهدي رضي الله تعالى عنه على ما يقول أهل السنة دون ما يقوله الشيعة القائلون بالرجعة فإن الدنيا عندهم بعد ظهوره تبقى مدة معتدا بها وكنزول عيسى عليه السلام وخروج الدجال وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وغير ذلك، وغير مضيقة وهي أكثر الأشراط ككون الحفاة الرعاة رؤوس الناس وتطاولهم في البنيان وفشو الغيبة وأكل الربا وشرب الخمر وتعظيم رب المال وقلة الكرام وكثرة اللئام وتباهي الناس في المساجد واتخاذها طرقا وسوء الجوار وقطيعة الأرحام وقلة العلم وأن يوسد الأمر إلى غير أهله وأن يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع إلى ما يطول ذكره.

ومن وقف على الكتب المؤلفة في هذا الشأن واطلع على أحوال الأزمان رأى أن أكثر هذه العلامات قد برزت للعيان وامتلأت منها البلدان، ومع هذا كله أمر الساعة مجهول ورداء الخفاء عليه مسدول. وقصارى ما ينبغي أن يقال:

إن ما بقي من عمر الدنيا أقل قليل بالنسبة إلى ما مضى، وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام خطب أصحابه بعد العصر حين كادت الشمس تغرب ولم يبق منها إلا أسف. أي شيء.

فقال «والذي نفس محمد بيده ما مثل ما مضى من الدنيا فيما بقي منها إلا مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه وما بقي منه إلا اليسير»

ولا ينبغي أن يقال: إن الألف الثانية بعد الهجرة وهي الألف التي نحن فيها هي ألف مخضرمة أي نصفها من الدنيا ونصفها الآخر من الآخرة، وقال الجلال السيوطي في رسالة سماها الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف: الذي دلت عليه الآثار أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ الزيادة عليها ألف سنة وبني الأمر على ما ورد من أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في آخر الألف السادسة وأن الدجال يخرج على رأس مائة وينزل عيسى عليه السلام فيقتله ثم يمكث في الأرض أربعين سنة وأن الناس يمكثون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة وأن بين النفختين أربعين سنة، وذكر الأحاديث والأخبار في ذلك.

وفي بهجة الناظرين وآيات المستدلين قد احتج كثير من العلماء على تعيين قرب زمانها بأحاديث لا تخلو عن نظر فمنهم من قال: بقي منها كذا، ومنهم من قال: يخرج الدجال على رأس كذا وتطلع الشمس على رأس كذا، وأفرد الحافظ السيوطي رسالة لذلك كله وقال: تقوم الساعة في نحو الألف والخمسمائة، وكل ذلك مردود وليس للمتكلمين في ذلك إلا ظن وحسبان لا يقوم عليه من الوحي برهان انتهى، ونقله السفاريني في البحور الزاخرة في علوم الآخرة، وذكر السيوطي عدة أخبار في كون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، أولها ما

أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بسنده عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ثم ماتوا

ص: 209

عليها فهم في الباب الأول من جهنم»

وساق بقية الحديث،

وفيه «وأطولهم مكثا فيه من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت وذلك سبعة آلاف سنة» الحديث

وتعقبه السفاريني بقوله: ذكر الحافظ ابن رجب في كتابه صفة النار أن هذا الحديث خرجه ابن أبي حاتم. وغيره، وخرجه الاسماعيلي مطولا، وقال الدارقطني في كتاب المختلف:

هو حديث منكر وذكر علله، ومما ذكره السيوطي في ذلك ما نقل هو ضعف إسناد رفعه، وقد يرد عليه بأنه قد مضى من زمن البعثة إلى يومنا هذا ألف ومئتان وثماني وستون سنة وإذا ضم إليها ما ذكره من سني مكث عيسى عليه السلام وبقاء الدنيا بعد طلوع الشمس من مغربها وما بين النفختين وهي مائتا سنة تصير ألفا وأربعمائة وثماني وسبعين فيبقى من المدة التي ذكرها اثنتان وعشرون سنة وإلى الآن لم تطلع الشمس من مغربها ولا خرج الدجال الذي خروجه قبل طلوعها من مغربها بعدة سنين ولا ظهر المهدي الذي ظهوره قبل الدجال بسبع سنين ولا وقعت الأشراط التي قبل ظهور المهدي، ولا يكاد يقال: إنه يظهر بعد خمس عشرة سنة ويظهر الدجال بعدها بسبع سنين على رأس المائة الثالثة من الألف الثانية لأن قبل ذلك مقدمات تكون في سنين كثيرة، فالحق أنه لا يعلم ما بقي من مدة الدنيا إلا الله عز وجل وأنه وإن طال أقصر قصير وما متاع الحياة الدنيا إلا قليل، وكذا فيما أرى مبدأ خلقها لا يعلمه إلا الله تعالى وما يذكرونه في المبدأ لو صح فإنما هو في مبدأ خلق الخليفة آدم عليه السلام لا مبدأ خلق السماء والأرض والجبال ونحوها.

وحكى الشيخ محيي الدين قدس سره عن إدريس عليه السلام وقد اجتمع معه اجتماعا روحانيا وسأله عن العالم أنه قال: نحن معاشر الأنبياء نعلم أن العالم حادث ولا نعلم متى حدث. والفلاسفة على المشهور يزعمون أن من العالم ما هو قديم بالشخص وما هو قديم بالنوع مع قولهم بالحدوث الذاتي ولا يدثر عندهم. وذهب الملا صدر الشيرازي أنهم لا يقولون إلا بقدم العقول المجردة دون عالم الأجسام مطلقا بل هم قائلون بحدوثها ودثورها وأطال الكلام على ذلك في الأسفار وأتى بنصوص أجلتهم كأرسطو وغيره. وحكى البعض عنهم أنه خلق هذا العالم الذي نحن فيه وهو عالم الكون والفساد والطالع السنبلة ويدثر عند مضي ثمانية وسبعين ألف سنة وذلك عند مضي مدة سلطان كل من البروج الاثني عشر ووصول الأمر إلى برج الميزان وزعموا أن مدة سلطان الحمل اثنا عشر ألف سنة ومدة سلطان الثور أقل بألف وهكذا إلى الحوت.

ونقل البكري عن هرمس أنه زعم أنه لم يكن في سلطان الحمل والثور والجوزاء على الأرض حيوان فلما كان سلطان الأسد تكونت دواب الماء وهوام الأرض فلما كان سلطان الأسد تكونت الدواب ذوات الأربع فلما كان سلطان السنبلة تولد الإنسانان الأولان ادمانوس وحوانوس، وزعم بعضهم أن مدة العالم مقدار قطع الكواكب الثابتة لدرج الفلك التي هي ثلاثمائة وستون درجة وقطعها لكل درجة على قول كثير منهم في مائة سنة فتكون مدته ستا وثلاثين ألف سنة وكل ذلك خبط لا دليل عليه. ومن أعجب ما رأيت ما زعمه بعض الإسلاميين من أن الساعة تقوم بعد ألف وأربعمائة وسبع سنين أخذا من قوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وقوله سبحانه لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف: 187] بناء على أن عدة حروف بَغْتَةً بالجمل الكبير ألف وأربعمائة وسبع ويوشك أن يقول قائل: هي ألف وثمانمائة واثنان وبحسب تاء التأنيث أربعمائة لا خمسة فإنه رأى بعض أهل الحساب كما في فتاوى خير الدين الرملي ويجيء آخر ويقول: هي أكثر من ذلك أيضا ويعتبر بسط الحروف على نحو ما قالوا في اسم محمد صلى الله عليه وسلم إنه متضمن عدة المرسلين عليه السلام، وأنت تعلم أن مثل ذلك مما لا ينبغي لعاقل أن يعول عليه أو يلتفت إليه، والحزم الجزم بأنه لا يعلم ذلك إلا اللطيف الخبير فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ مسبب عن مجموع القصة

ص: 210

من مفتتح السورة لا عن قوله تعالى: هل يَنْظُرُونَ كأنه قيل: إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة هؤلاء فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية فهو من موجبات السعادة، وفسر الأمر بالعلم بالثبات عليه لأن علمه صلى الله عليه وسلم بالتوحيد لا يجوز أن يترتب على ما ذكره سبحانه من الأحوال فإنه عليه الصلاة والسلام موحد عن علم حال ما يوحى إليه ولأن المعنى فتمسك بما أنت فيه من موجبات السعادة لا بطلب السعادة، وقال بعض الأفاضل: إن الثبات أيضا حاصل له عليه الصلاة والسلام فأمره بذلك صلى الله عليه وسلم تذكير له بما أنعم الله تعالى عليه توطئة لما بعده، وتعقب بأن المراد بالثبات الاستمرار وهو بالنظر إلى الأزمنة الآتية وذلك وإن كان مما لا بد من حصوله له عليه الصلاة والسلام لمكان العصمة لكن المعصوم يؤمر وينهى فيأتي بالمأمور ويترك المنهي ولا بد للعصمة والأمر في قوله تعالى:

وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ قيل على معنى الثبات أيضا، وجعل الاستغفار كناية عما يلزمه من التواضع وهضم النفس والاعتراف بالتقصير لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم أو مغفور لا مصرّ ذاهل عن الاستغفار، وقيل: التحقيق أنه توطئة لما بعده من الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات ولعل الأولى إبقاؤه على الحقيقة من دون جعله توطئة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الاستغفار،

أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان عن الأغر المزني رضي الله تعالى عنه قال:

«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة»

وأخرج النسائي وابن ماجه وغيرهما عن أبي موسى قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت الله فيها مائة مرة»

وأخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «إنا كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة»

وفي لفظ «التواب الغفور»

إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة.

والذنب بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام ترك ما هو الأولى بمنصبه الجليل ورب شيء حسنة من شخص سيئة من آخر كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين وقد ذكروا أن لنبينا صلى الله عليه وسلم في كل لحظة عروجا إلى مقام أعلى مما كان فيه فيكون ما عرج منه في نظره الشريف ذنبا بالنسبة إلى ما عرج إليه فيستغفر منه، وحملوا على ذلك

قوله عليه الصلاة والسلام: «إنه ليغان على قلبي» الحديث

وفيه أقوال أخر، وقوله تعالى: وَلِلْمُؤْمِنِينَ على حذف مضاف بقرينة ما قبل أي ولذنوب المؤمنين. وأعيد الجار لأن ذنوبهم جنس آخر غير ذنبه عليه الصلاة والسلام فإنها معاص كبائر وصغائر وذنبه صلى الله عليه وسلم ترك الأولى بالنسبة إلى منصبه الجليل، ولا يبعد أن يكون بالنسبة إليهم من أجل حسناتهم، قيل: وفي حذف المضاف وتعليق الاستغفار بذواتهم إشعار بفرط احتياجهم إليه فكأن ذواتهم عين الذنوب وكذا فيه إشعار بكثرتها، وجوز بعضهم كون الاستغفار للمؤمنين بمعنى طلب المغفرة لهم وطلب سببها كأمرهم بالتقوى، وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع أن في صحته كلاما، فالظاهر إبقاء اللفظ على حقيقته.

وفي تقديم الأمر بالتوحيد إيذان بمزيد شرف التوحيد فإنه أساس الطاعات ونبراس العبادات، وفي الكلمة الطيبة أبحاث شريفة ولطائف منيفة لا بأس بذكر بعضها وإن تقدم شيء من ذلك فنقول: المشهور أن إلا للاستثناء والاسم الجليل بدل من محل اسم لا النافية للجنس وخبر لا محذوف، واستشكل الإبدال من جهتين أولاهما أنه بدل بعض وليس معه ضمير يعود على المبدل منه وهو شرط فيه وأجيب بمنع كونه شرطا مطلقا بل هو شرط حيث لا تفهم البعضية بقرينة وهاهنا قد فهمت بقرينة الاستثناء ثانيتهما أن بين المبدل منه والبدل مخالفة فإن الأول منفي والثاني موجب.

وأجاب السيرافي بأنه بدل عن الأول في عمل العامل والتخالف نفيا وإيجابا لا يمنع البدلية لأن مذهب البدل أن

ص: 211

يجعل الأول كأنه لم يذكر والثاني في موضعه وقد تتخالف الصفة والموصوف في ذلك نحو مررت برجل لا كريم ولا لبيب على أنه لو قيل: إن البدل في الاستثناء قسم على حياله مغاير لغيره من الإبدال لكان له وجه.

واستشكل أمر الخبر بأنه ان قدر ممكن يلزم عدم إثبات الوجود بالفعل للواحد الحقيقي تعالى شأنه أو موجود يلزم عدم تنزيهه تعالى عن إمكان الشركة وتقدير خاص مناسب لا قرينة عليه قيل: ولصعوبة هذا الاشكال ذهب صاحب الكشاف وأتباعه إلى أن الكلمة لا غير محتاجة إلى خبر وجعل إِلَّا اللَّهُ مبتدأ ولا إِلهَ خبره والأصل الله إله أي معبود بحق لكن لما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصود هو الواقع في سياق النفي والمبتدأ إذا اقترن بإلا وجب تقديم خبره. وتعقب بأنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه بناء الخبر مع لا وهي لا يبني معها إلا المبتدأ، وأيضا لو كان الأمر كذلك لم يكن لنصب الاسم الواقع بعدها وجه وقد جوزه جماعة.

وقال بعض الأفاضل: إن لا إله إلا الله على هذا المذهب قضية معدولة الطرفين بمنزلة غير الحي لا عالم بمعنى الحي عالم ولا يدفع الاعتراض كما لا يخفى، وقال بعضهم: إن الخبر هو إِلَّا اللَّهُ أعني إلا مع الاسم الجليل وأورد عليه أن الجنس مغاير لكل من أفراده فكيف يصدق حينئذ سلب مغايرة فرد عنه اللهم إلا أن يقال: إن ذلك بناء على تضمين معنى من وإن المفهوم منه أنه انتفى من هذا الجنس غير هذا الفرد، والوجه كما قيل أن يقال: إن المغايرة المنفية هي المغايرة في الوجود لا المغايرة في المفهوم حتى لا يصدق، ولا شك أن المراد من الجنس المنفي بلا هذه هو المفهوم من غير اعتبار حصوله في الأفراد كلها أو بعضها فيكون محمولا لا بمعنى اعتبار عدم حصوله فيها أصلا حتى لا يصح حمله إذ لا يلزم من عدم اعتبار شيء اعتبار عدمه ومتى تحقق الحمل تحقق عدم المغايرة في الوجود فتدبره.

وقال بعضهم: لا خبر للا هذه أصلا على ما قاله بنو تميم فيها، وأورد عليه أنه يلزم حينئذ انتفاء الحكم والعقد وهو باطل قطعا ضرورة اقتضاء التوحيد ذلك ولا يبعد أن يقال: إن القول بعدم احتياج لا إلى الخبر لا يخرج المركب منها ومن اسمها عن العقد وذلك لأن معنى المركب نحو لا رجل على هذا التقدير انتفى هذا الجنس فإذا قلنا: لا رجل إلا حاتم كان معناه انتفى هذا الجنس في غير هذا الفرد ويخدشه ان تركب الكلام من الحرف والاسم مما ليس إليه سبيل، وربما يدفع بما قيل في النداء مثل يا زيد من أنه قائم مقام ادعوه، والشريف العلامة قدس سره صرح في بيان ما نقل عن بني تميم من عدم إثبات خبر لا هذه بأنه يحتمل أن يكون بناء على أن المفهوم من التركيب كما ذكر آنفا انتفاء هذا الجنس ثم إن كلمة الا على هذا التقدير بمعنى غير ولا مجال لكونها للاستثناء لا لما يتوهم من التناقض بناء على أن سلب الجنس عن كل فرد فرد ينافي إثباته لواحد من أفراده فإنه مدفوع بنحو ما اختاره نجم الأئمة في دفع التناقض المتوهم في مثل ما قام القوم إلا زيدا لوجوب شمول القوم المنفي عنهم الفعل لزيد المثبت هو له فيما يتبادر بأن يقال:

إن الجنس الخارج عنه هذا الفرد منتف في ضمن كل ما عداه ولا لما قد يتوهم من عدم تناول الجنس المنفي لما هو بعد إلا وهو شرط الاستثناء لما عرفت من الفرق بين الجنس بدون اعتبار حصوله في الأفراد وبينه مع اعتبار عدم حصوله فيها بل لأنها لو كانت للاستثناء لما أفاد الكلام التوحيد لأنه يكون حاصله حينئذ أن هذا الجنس على تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم انتفائه في افراد غير خارج عنها ذلك الفرد فأين التوحيد، فالواجب حملها على معنى غير وجعلها تابعة لمحل اسم لا بدلا عنه أو صفة كما في قوله:

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان

ص: 212

كذا رأيته في بعض نسخ قديمة وذكره بعض شيوخ مشايخنا العلامة الطبقجلي في رسالته شرح الكلمة الطيبة ولم يتعقبه بشيء، وعندي أن ما ذكر في نفي الكون إلا للاستثناء على ذلك التقدير لا يخلو عن نظر. ثم إنه قيل: إذا كان مضمون المركب على ذلك التقدير إن هذا الجنس منتف فيما عدا هذا الفرد كانت القضية شخصية ولها لازم هو قضية كلية. أعني قولنا كل ما يعتبر فردا له سوى هذا الفرد فهو منتف. ولا استبعاد في شيء من ذلك.

وذهب الكثير إلى تقدير الخبر موجود وأجاب عن الإشكال بأنه يلزم نفي الإمكان العام من جانب الوجود عن الآلهة غير الله تعالى وذلك مبني على مقدمة قطعية معلومة للعقلاء هي أن المعبود بالحق لا يكون إلا واجب الوجود فيصير المعنى لا معبود بحق موجود إلا الله وإذا ليس موجودا ليس ممكنا لأنه لو كان ممكنا لكان واجبا بناء على المقدمة القطعية فيكون موجودا، وقد أفادت الكلمة الطيبة أنه ليس بموجود فليس بممكن لأن نفي اللازم يدل على نفي الملزوم. واعترض بأن المقدمة القطعية وإن كانت صحيحة في نفس الأمر لكنها غير مسلمة عند المشركين لأنهم يعبدون الأصنام ويعتقدونها آلهة مع اعترافهم بأنها ممكنة محتاجة إلى الصانع وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] فيمكن أن يعترف المكلف بالكلمة الطيبة ويعتقد أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فيمكن عنده وجود آلهة غير الله تعالى فلا يكون التلفظ بالكلمة نصا على إيمانه ولو كانت المقدمة المذكورة مسلمة عند الكل لأمكن أن يقدر الخبر من أول الأمر موجود بالذات أي لا إله موجود بالذات إلا الله وإذا لم يكن غيره تعالى موجودا بالذات لم يكن مستحقا للعبادة لأن المستحق لها لا يكون إلا واجبا لذاته.

وقد قرر الجواب بوجهين آخرين: الأول أن لا إله موجود قضية سالبة حملية لا بد لها من جهة وهي الإمكان العام فيكون المعنى أن الجانب المخالف للسلب وهو إثبات الوجود ليس ضروريا للآلهة إلا الله تعالى فإنه موجود بالإمكان العام أي جانب السلب ليس ضروريا له تعالى فيكون الوجود ضروريا له سبحانه تحقيقا للتناقض بين المستثنى والمستثنى منه. الثاني أن لا إله موجود بالإمكان العام سالبة كلية ممكنة عامة فيكون المتحصل بالاستثناء الذي هو نقيض موجبة جزئية ضرورية أي الله موجود بالضرورة. وأورد على التقريرين أنهما إنما يتمان إذا كان كل من طرفي المستثنى والمستثنى منه قضية مستقلة وهو ممنوع، والصحيح عند أهل العربية أنهما كلام واحد مقيد بالاستثناء فلا يجري فيهما أحكام الناقض إلا أن يؤول بالمعنى اللغوي، وأيضا جعل الله موجود بالضرورة قضية جزئية فيه تساهل، وقيل: يمكن أن يقال الخبر المقدر هو الموجود مطلقا سواء كان بالفعل أو بالإمكان على استعمال المشترك في كلا معنييه أو على تأويله بما يطلق عليه اسم الموجود وهو كما ترى، وقيل: يجوز تقديره ممكن ونفي الإمكان يستلزم نفي الوجود لأن الإله واجب الوجود وإمكان اتصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد من الكلمة الطيبة إمكانه يستفاد منه وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود، ويعلم ما فيه مما مر فلا تغفل، وقال بعضهم: الخبر المقدر مستحق للعبادة، فالمعنى لا إله مستحق للعبادة إلا الله، ولا محذور فيه.

واعترض بأن هذا كون خاص ولا بد في حذفه من قرينة ولا قرينة فلا يصح الحذف. وأجيب بأنها كنار على علم لأن الإله بمعنى المعبود فدل على العبادة واستحقاقها، يؤيده ملاحظة المقام واعتبار حال المخاطبين لأن هذه الكلمة الطيبة واردة لرد اعتقاد المشركين الزاعمين أن الأصنام تستحق العبادة.

واعترض أيضا بأنه لا يدل على نفي التعدد مطلقا أي لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة، وأيضا يمكن أن يقال: المراد إما نفي إله مستحق للعبادة غيره تعالى بالفعل أو بالإمكان فعلى الأول لا ينفي إمكان إله مستحق للعبادة أيضا غيره عز وجل وعلى الثاني لا يدل على استحقاقه قال للعبادة بالفعل. ورد بأن

ص: 213

وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات ولذا فرعوا عليه كثيرا منها فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم التبجيل، ولا معنى لاستحقاق العبادة إلا ذلك فإذا لم يستحق غيره تعالى العبادة لم يوجد واجب وجود غيره سبحانه وإلا لاستحق العبادة قطعا، وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا فثبت أن نفي استحقاق العبادة يستلزم نفي التعدد جزما.

وتعقب بأن فيه البناء على أن الإله لا يكون إلا واجب الوجود، وقد سمعت أنها وإن كانت قطعية الصدق في نفس الأمر إلا أنها غير مسلمة عند المشركين. ومن المحققين من قال: إنه لا يلتفت إلى عدم تسليمهم لمكابرتهم ما عسى أن يكون بديهيا. نعم ربما يقال: إن الكلمة الطيبة على ذلك التقدير إنما تدل على نفي المعبود بالفعل بناء على ما قرر في المنطق أن ذات الموضوع يجب اتصافه بالعنوان بالفعل، ويجاب بمنع وجوب ذلك بل يكفي الاتصاف بالإمكان كما صرح به الفارابي، وأما ما نقل عن الشيخ فمعناه كونه بالفعل بحسب الفرض العقلي لا بحسب نفس الأمر كما تدل عليه عبارته في الشفاء والإشارات فيرجع إلى معنى الإمكان.

والفرق بين المذهبين أن في مذهب الشيخ زيادة اعتبار ليست في مذهب الفارابي وهي أن الشيخ اعتبر مع الإمكان بحسب نفس الأمر فرض الاتصاف بالفعل ولم يعتبره الفارابي، وبالجملة إن الاتصاف بالفعل غير لازم فكل ما يمكن اتصافه بالمعبودية داخل في الحكم بأنه لا يستحق العبادة، ولما كانت القضية سالبة صدقت وإن لم يوجد الموضوع، ولعل التحقيق في هذا المقام أن الكلمة الطيبة جارية بين الناس على متفاهم اللغة والعرف لا على الاصطلاحات المنطقية والتدقيقات الفلسفية، وهي كلام ورد في رد اعتقاد المشرك الذي اعتقد أن آلهة غير الله سبحانه تستحق العبادة فإذا اعترف المشرك بمضمونه من أنه لا معبود مستحق للعبادة إلا الله تعالى علم من ظاهر حاله الإيمان، ولهذا اكتفى به الشارع عليه الصلاة والسلام، وأما الكافر الذي يعتقد إمكان وجود ذات تستحق العبادة بعد فلا تكفي هذه الكلمة الطيبة في إيمانه كما لا تكفي في إيمان من أنكر النبوة أو المعاد أو نحو ذلك مما يجب الإيمان به بل لا بد من الاعتراف بالحكم الذي أنكره ولا محذور في ذلك، ولما كان الكفرة الذين يعتقدون أن آلهة غير الله تعالى تستحق العبادة هم المشهورون دون من يعتقد إمكان وجودها بعد اعتبرت الكلمة علما للتوحيد بالنسبة إليهم.

ويعلم من هذا أنه لو قدر الخبر المحذوف من أول الأمر موجود أمكن دفع الإشكال بهذا الطريق أعني متفاهم اللغة وعرف الناس من الأوساط، وأما أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فلا يلزم من الكلمة الطيبة حينئذ نفى إمكان آلهة غير الله تعالى فمما لا يسبق إلى الأفهام ولا يكاد يوجد كافر يعتقد نفي وجود إله غيره تعالى مع اعتقاده إمكان وجود إله غيره سبحانه بعد ذلك، ومن الناس من أيد تقدير الخبر كذلك بأن الظاهر أن لا نافية للجنس ونفي الماهية نفسها بدون اعتبار الوجود واتصافها به كنفي السواد نفسه لا نفي وجوده عنه بعيد، فكما أن جعل الشيء باعتبار الوجود إذ لا معنى لجعل الشيء وتصييره نفسه فكذلك نفيه ورفعه أيضا باعتبار رفع الوجود عنه. وتعقب بأن هذا هو الذي يقتضيه النظر الجليل، وأما النظر الدقيق فقد يحكم بخلافه لأن نفي الماهية باعتبار الوجود ينتهي بالآخرة إلى نفي ماهية ما باعتبار نفسها، وذلك لأن نفي اتصافها بالوجود لا يكون باعتبار اتصاف ذلك الاتصاف به إلى ما لا يتناهى، فلا بد من الانتهاء إلى اتصاف منتف بنفسه لا باعتبار اتصافه بالوجود دفعا للتسلسل، وقيل: الظاهر أن نفي الأعيان كما في الكلمة الطيبة إنما هو باعتبار ذلك، وأما غيرها فتارة وتارة فتدبر، وإِلَّا على التقدير المذكور للاستثناء ورفع الاسم الجليل على ما سمعت من المشهور، وقيل: هي فيه بمعنى غير صفة الاسم لا باعتبار المحل أي لا إله غير الله تعالى موجود.

ص: 214

واعترض بأن المقصود من الكلام أمران: نفي الألوهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه، وهو إنما يتم إذا كانت لا فيه للاستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق أما إن كانت بمعنى غير فلا يفيد بمنطوقه إلا نفي الألوهية عن غيره تعالى سبحانه وفي كون إثباتها له تعالى بالمفهوم ويكتفي به بحث لأن ذلك إن كان مفهوم لقب فلا عبرة عند القائلين بالمفهوم على الصحيح خلافا للدقاق. والصيرفي من الشافعية، وابن خويز منداد من المالكية، ومنصور بن أحمد من الحنابلة، وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجمع عليه بل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لم يقل بشيء من مفاهيم المخالفة أصلا، وأنت تعلم أن ما ذكره من إفادة الكلمة الطيبة إثبات الإلهية لله تعالى ونفيها عما سواه عز وجل على تقدير كون إلا للاستثناء غير مجمع عليه أيضا فإن الاستثناء من النفي ليس بإثبات عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وجعل الإثبات في كلمة التوحيد بعرف الشرع، وفي المفرغ نحو ما قام إلا زيد بالعرف العام، وما له وما عليه في كتب الأصول فلا تغفل، وتمام الكلام فيما يتعلق بإعراب هذه الكلمة الطيبة في كتب العربية، وقد ذكرنا ذلك في تعليقاتنا على شرح السيوطي للألفية، وهي عند السادة الصوفية قدست أسرارهم جامعة لجميع مراتب التوحيد ودالة عليها إما منطوقا أو بالاستلزام، ومراتبه أربع: الأولى توحيد الألوهية. الثانية توحيد الأفعال. الثالثة توحيد الصفات، وإن شئت قلت: توحيد الوجوب الذاتي فإنه يستلزم سائر الصفات الكمالية كما فرعها عليه بعض المحققين. الرابعة توحيد الذات وإن شئت قلت: توحيد الوجود الحقيقي فإن المآل واحد عندهم، وبيان ذلك أن لا إله إلا الله منطوقه. على ما يتبادر إلى الأذهان وذهب إليه المعظم. قصر الألوهية على الله تعالى قصرا حقيقيا أي إثباتها له تعالى بالضرورة ونفيها عن كل ما سواه سبحانه كذلك وهو يستلزم توحيد الأفعال. وتوحيد الصفات. وتوحيد الذات. أما الأول الذي هو قصر الخالقية فيه تعالى فلأن مقتضى قصر الألوهية عليه تعالى قصرا حقيقيا هو أن الله عز وجل هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق فهو النافع الضار على الإطلاق فهو سبحانه وتعالى الخالق لكل شيء فإن كل من لا يكون خالقا لكل شيء لا يكون نافعا ضارا على الإطلاق وكل من لا يكون كذلك لا يستحق أن يعبده كل مخلوق لأن العبادة هي الطاعة والانقياد والخضوع ومن لا يملك نفعا ولا ضرا بالنسبة إلى بعض المخلوقين لا يستحق أن يعبده ذلك البعض ويطيعه وينقاد له، فإن من لا يقدر على إيصال نفع إلى شخص أو دفع ضر عنه لا يرجوه، ومن لا يقدر على إيصال ضر إليه لا يخافه، وكل من لا يخاف ولا يرجى أصلا لا يستحق أن يعبد وهو ظاهر لكن الذي

يقتضيه قصر الألوهية عليه تعالى قصرا حقيقيا هو أن الله تعالى هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق فهو النافع الضار على الإطلاق فهو الخالق لكل شيء وهو المطلوب، وأما الثاني فلأن الكلمة الطيبة تدل على أن الألوهية ثابتة له تعالى ثبوتا مستمرا ممتنع الانفكاك ومنتفية عن غيره انتفاء كذلك، وكل ما كان كذلك فهي دالة على أنه عز وجل واجب الوجود، وأن كل موجود سواه تعالى ممكن الوجود وكل ما كان كذلك كان وجوب الوجود مقصورا عليه تعالى وهو مستلزم لسائر صفات الكمال وهو المطلوب، أما دلالتها على أنه عز وجل واجب الوجود فلأن الألوهية لا تكون إلا لموجود حقيقة اتفاقا، وكل ما لا يكون صفة إلا لموجود إذا دل كلام على أنه ثابت لشيء ثبوتا ممتنع الانفكاك سرمدا فقد دل على أن الوجود ثابت لذلك الشيء ثبوتا ممتنع الانفكاك سرمدا، ولا يكون كذلك إلا إذا كان موجودا لذاته وهو المعني بواجب الوجود لذاته، وحيث دلت على ثبوت الألوهية ثبوتا مستمرا ممتنع الانفكاك فقد دلت على وجوب وجوده تعالى وهو مستلزم لسائر صفات الكمال وهو المطلوب.

وأما دلالتها على أن كل موجود سواه فهو ممكن الوجود فلأن موجودا ما سواه لو كان واجب الوجود لذاته لكان مستحقا أن يعبد لكنها قد دلت على أنه لا يستحق أن يعبد إلا الله فقد دلت على أنه لا واجبا وجوده

ص: 215

لذاته إلا الله تعالى فكل ما سواه فهو ممكن وهو المطلوب، أو يقال: إنها قد دلت على أنه تعالى هو النافع الضار على الإطلاق فهو الجامع لصفات الجلال والإكرام فهو سبحانه المتصف بصفات الكمال كلها وهو المطلوب.

وأما الثالث فقد قال حجة الإسلام الغزالي في باب الصدق من الاحياء: كل ما تقيد العبد به فهو عبد له كما

قال عيسى عليه السلام: يا عبيد الدنيا

،

وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم وعبد الحلة وعبد الخميصة»

سمي كل من تقيد قلبه بشيء عبدا له، وقال في باب الزهد منه: من طلب غير الله تعالى فقد عبده وكل مطلوب معبود، وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه، وقال في الباب الثالث من كتاب العلم منه. كل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبودا قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23]

وقال صلى الله عليه وسلم: «أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى»

انتهى.

ومن المعلوم أنه ما في الوجود شيء إلا وهو مطلوب لطالب ما وقد صح بما مر إطلاق الإله عليه ولا إله إلا الله فما في الوجود حقيقة إلا الله ومنهم من قرر دلالة الكلمة الطيبة على توحيد الذات ونفي وجود أحد سواه عز وجل بوجه آخر، وهو أن إِلَّا بمعنى غير بدل من الإله المنفي فيكون النفي في الحقيقة متوجها إلى الغير ونفي الغير توحيد حقيقي عندهم. وإذا تبين لك دلالتها على جميع مراتل التوحيد لاح لك أن الشارع لأمر ما جعلها مفتاح الإسلام وأساس الدين ومهداة الأنام:

وفي حديث أخرجه أبو نعيم عن عياض الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا إله إلا الله كلمة كريمة ولها عند الله مكان جمعت وسولت (1) من قالها صادقا من قلبه دخل الجنة»

وفي حديث أخرجه ابن النجار عن دينار عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا إله إلا الله كلمة عظيمة كريمة على الله تعالى من قالها مخلصا استوجب الجنة»

وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب بنعليّ هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستقينا بها قلبه فبشره بالجنة»

وحديث البطاقة أشهر من أن يذكر، وكذا الحديث القدسي المروي عن علي الرضا عن آبائه عليهم السلام،

وجاء «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة»

أي بلا حساب وإلا فما الفرق بين ذلك ومن قالها ولم تكن آخر كلامه من الدنيا، وبالجملة إن فضلها لا يحصى وإنها لتوصل قائلها إلى المقام الأقصى، وقد ألفت كتب في فضلها وكيفية النطق بها وآداب استعمالها فلا نطيل الكلام في ذلك.

بقي هاهنا بحث وهو أن المسلمين أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وإن اختلفوا في كونه شرعيا أو عقليا، وأما النظر في معرفته تعالى لأجل حصولها بقدر الطاقة البشرية فقد قال العلامة التفتازاني في شرح المقاصد: لا خلاف بين أهل الإسلام في وجوبه لأنه أمر مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق الذي هو المعرفة، وكل مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق فهو واجب شرعا أن كان وجوب الواجب المطلق شرعيا كما هو رأي الأصحاب وعقلا إن كان عقليا كما هو رأي المعتزلة لئلا يلزم تكليف المحال، أما كون النظر مقدورا فظاهر، وأما توقف المعرفة عليه فلأنها ليست بضرورية بل نظرية، ولا معنى للنظري إلا ما يتوقف على النظر ويتحصل به، وظاهر كلام السند في شرح المواقف إجماع المسلمين كافة على ذلك أيضا. والحق وقوع الخلاف في وجوب النظر كما يدل عليه كلام ابن الحاجب في مختصره، والعضد في شرحه، وكلام التاج السبكي في جمع الجوامع، والجلال المحلي في شرحه، وقول شيخ الإسلام في حاشيته عليه: محل الخلاف في وجوب النظر في أصول الدين وعدم وجوبه في غير معرفة الله تعالى منها أما النظر فيها فواجب إجماعا كما ذكره السعد التفتازاني كغيره اعترضه المحقق ابن قاسم العبادي في حاشيته الآيات

(1) قوله وسولت كذا في غير نسخة بسين مهملة ولام وليراجع مستخرج أبي نعيم. [.....]

ص: 216

البينات بقوله: إن الظاهر أن ما نقله السعد من الإجماع على وجوب النظر في معرفة الله تعالى غير مسلم عند الشارح وغيره، ألا ترى إلى تمثيل الشارح لمحل الخلاف بقول: كحدوث العالم ووجود الباري تعالى وما يجب له جل شأنه وما يمتنع عليه سبحانه من الصفات فإن قوله: ووجود الباري تعالى إلخ يتعلق بمعرفته عز وجل إلى آخر ما قال. نعم قال كثير ورجحه الإمام الرازي. والآمدي: إنه يجب النظر في مسائل الاعتقاد ومعرفة الله تعالى أسها فيجب فيها بالأولى، وقالوا في ذلك. لأن المطلوب اليقين لقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وقد علم ذلك، وقال تعالى للناس: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158] ويقاس غير الوحدانية عليها، ولا يتم الاستدلال إلا بضم توقف حصول اليقين على النظر. وهؤلاء لم يجوزوا التقليد في الأصول وهو أحد أقوال في المسألة. ثانيها قول العنبري. إنه يجوز التقليد فيها بالعقد الجازم ولا يجب النظر لها لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي في الإيمان بالعقد الجازم ويقاس غير الإيمان عليه.

والمراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي بذلك نظرا إلى ظاهر الحال فإن الخبر كما صرح به المحقق عيسى الصفوي في شرحه للفوائد الغياثية على ما نقله عنه تلميذه ابن قاسم العبادي في الآيات البينات دال وضعا على صورة ذهنية على وجه الإذعان تحكي الحال الواقعية، ولا شك أن لا إلا الله محمد رسول الله من قسم الخبر فهما دالان وضعا على أن قائلهما ولو تحت ظلال السيف معتقد لمضمونهما على وجه الإذعان، وعدم كونه معتقدا في نفس الأمر احتمال عقلي، والمطلع على ما في القلوب علام الغيوب. وثالث الأقوال إنه يجب التقليد بالعقد الجازم ويحرك النظر لأنه مظنة الوقوع في الشبه والضلال لاختلاف الأذهان بخلاف التقليد وهذا ليس بشيء أصلا. والذي أوجب النظر من المحققين لم يرد به النظر على طريق المتكلمين بل صرح كما في الجواب العتيد للكوراني بأن المعتبر هو النظر على طريق العامة، والظاهر أنه ليس مظنة الوقوع فيما ذكر، وهل القائل بوجوبه من أولئك جاعل له شرطا لصحة الإيمان أم لا ففيه خلاف. فيفهم من بعض عبارات شرح الأربعين لابن حجر أنه جاعل له كذلك فلا يصح إيمان المقلد عنده، بل يفهم منها أن النظر المعتبر عند ذلك هو النظر على طريق المتكلمين، وكلام الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع صريح في أن القائلين بوجوب النظر غير أبي هاشم ليسوا جاعلين النظر شرطا لصحة الإيمان ولا زاعمين بطلان إيمان المقلد بل هو صحيح عندهم مع الإثم بترك النظر الواجب. نعم سيأتي إن شاء الله تعالى نقل الإمام حجة الإسلام في كتابه فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة نقل الاشتراط عن طائفة من المتكلمين من رده.

وأما ما نقل عن الشيخ الأشعري من الاشتراط وأنه لا يصح إيمان المقلد فكذب عليه كما قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري، وقال التاج السبكي: التحقيق أنه إن كان التقليد أخذا بقول الغير بغير حجة مع احتمال شك أو وهم فلا يكفي، وإن كان جزما فيكفي خلافا لأبي هاشم. والظاهر أن القائل بكفاية التقليد مع الجزم يمنع القول بأن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر ويقول: إنها قد تحصل بالإلهام أو التعليم أو التصفية فمن حصل له العقد الجازم بما يجب عليه اعتقاده فقد صح إيمانه من غير إثم لحصول المقصود، ومن لم يحصل له ذلك ابتداء أو تقليدا أو ضرورة فالنظر عليه متعين وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها [الكهف 57] .

ويكفي دليلا للصحة اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم من عوام العجم كأجلاف العرب وإن أسلم أحدهم تحت ظل السيف بمجرد الإقرار بلا إله إلا الله محمد رسول الله الدال بحسب ظاهر حالهم على أنهم يعتقدون مضمون ذلك ويذعنون له، ولو كان الاستدلال فرضا لأمروا به بعد النطق بالكلمتين أو علموا الدليل ولقنوه كما لقنوهما وكما علموا سائر الواجبات، ولو وقع ذلك لنقل إلينا فإنه من أهم مهمات الدين، ولم ينقل أنهم أمروا أحدا

ص: 217

منهم أسلم بترديد نظر ولا سألوه عن دليل تصديقه ولا أرجؤوا أمره حتى ينظر فلو كان النظر واجبا على الأعيان ولو إجماليا على طريق العامة لما اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك العوام والأجلاف بمجرد الإقرار لأن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يقرون أحدا على ترك فرض العين من غير عذر، فلا يكون تاركه آثما فضلا عن أن يكون بتركه غير صحيح الإيمان، ويشهد لذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد عند اعتذاره عن قتل مرداس بن نهيك من أهل فدك وغيره من الأخبار الكثيرة. وما في المواقف والمقاصد وشرح المختصر العضدي وغيرها من كتب الكلام والأصول من أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعلمون أنهم- أي العوام- واجلاف العرب يعلمون الأدلة إجمالا كما قال الأعرابي: البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدل على اللطيف الخبير أي فلذلك لم يلزموهم النظر ولا سألوهم عنه ولا أرجؤوا أمرهم وكل ما كان كذلك لم يكن اكتفاؤهم بمجرد الإقرار دليلا على أن النظر ليس واجبا على الأعيان ولا على أن تاركه غير آثم دعوى لا دليل عليها، وحكاية الأعرابي إن كانت مسوقة للاستدلال لا تدل غاية ما في الباب أن ذلك الأعرابي كان عالما بدليل إجمالي، ولا يلزم منه أن جميع الأجلاف والعوام كانوا عالمين بالأدلة الإجمالية في عهد النبوة وغيره وإلا لكانت حجة على أنه لا مقلد في الوجود، على أن بعضهم أسند ذلك القول إلى قس بن ساعدة وكان في الفترة. والجلال المحلي ذكره لأعرابي قاله في جواب الأصمعي وكان في زمن الرشيد بل قد يقال: إن ظاهر كثير من الآيات والأخبار يدل على أن كثيرا من المشركين في عهده عليه الصلاة والسلام لم يكونوا عالمين بأدلة التوحيد مطلقا، وذلك كقوله تعالى حكاية عنهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] . إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات: 36] وقول بعضهم في بعض الحروب: أعل هبل أعل هبل وما ذكره المحقق العضد في شرح المختصر من الدليل على عدم جواز التقليد حيث قال: إن الأمة أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وأنها لا تحصل بالتقليد لثلاثة أوجه: أحدها أنه يجوز الكذب على المخبر فلا يحصل بقوله العلم ثانيها أنه لو أفاد العلم لأفاده بنحو حدوث العالم من المسائل المختلف فيها فإذا قلد واحد في الحدوث والآخر في القدم كانا عالمين بهما فيلزم حقيقتهما وأنه محال. ثالثها أن التقليد لو حصل العلم فالعلم بأنه صدق فيما أخبر به إما أن يكون ضروريا أو نظريا لا سبيل إلا الأول بالضرورة فلا بد له من دليل والمفروض إنه لا دليل إذ لو علم صدقه بدليله لم يبق تقليدا تعقبه العلامة الكوراني فقال: فيه بحث، أما في الوجه الأول فلأن من جوز التقليد مثل المقلد بمن نشأ على شاهق جبل ولم ينظر في ملكوت السموات والأرض وأخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وصدقه بمجرد إخباره من غير تفكر وتدبر وهو صريح في أن الكلام في مقلد أخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وما يلزمه اعتقاده لا يكون إلا صدقا فإن الكذب لا يلزم أحدا اعتقاده، وأما من أخبر بالأكاذيب فاعتقدها فهو لم يعتقد إلا أكاذيب والأكاذيب ليس من معرفة الله تعالى في شيء فكيف يحكم عليه أحد من العقلاء بأنه مؤمن بالله تعالى عارف به مع أنه لم يعتقد إلا الأكاذيب وهو ظاهر، وأما في الوجه الثاني فلمثل ما مر لأنا لا نقول: إن كل تقليد مفيد للعلم ولا أن كل مقلد عالم كيف وليس كل نظر مفيدا للعلم ولا كل

ناظر مصيبا، فإذا لم يكن النظر موجبا للعلم مطلقا وإنما الموجب النظر الصحيح فكذلك نقول: ليس كل تقليد مفيدا للعلم وإنما المفيد التقليد الصحيح، وهو أن يقلد عالما بمسائل معرفة الله تعالى صادقا فيما يخبره به فإن الكلام إنما هو في صحة إيمان مثل هذا المقلد لا مطلقا، وأما في الثالث فلأنا نختار أن علمه بأنه صدق فيما أخبر به ضروري قولكم لا سبيل إليه بالضرورة قلنا: ممنوع لقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: 125]

وقد روي مرفوعا أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن شرح الصدر فقال عليه الصلاة والسلام: «نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينفسح»

فصرح صلى الله عليه وسلم بأنه نور لا يحصل من دليل وإنما يقذفه الله تعالى في قلبه فلا يقدر على دفعه من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا

ص: 218

استدلال، وقد صرح بعض أكابر المحققين بأن توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن علم ضروري وجدوه في نفوسهم لم يقدروا على دفعه وبأن من أهل الفترة من وجد كذلك بل قد صرح بأن الإيمان علم ضروري يجده المؤمن في قلبه لا يقدر على دفعه فكم من آمن بلا دليل ومن لم يؤمن مع الدليل، وقلما يوثق بإيمان من آمن عن دليل فإنه معرض للشبه القادحة فيه.

وفي الباب المائة والاثنين والسبعين والمائة والسابع والسبعين والمائتين والسابع والسبعين من الفتوحات المكية ما يؤيد ذلك، وقال الإمام حجة الإسلام في فيصل التفرقة: من أشد الناس غلوا وانحرافا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حررناها فهو كافر فهؤلاء ضيقوا رحمة الله تعالى الواسعة على عباده أولا، وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواترت به السنة ثانيا إذ ظهر من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بتعليم الدلائل ولو اشتغلوا بها لم يفهموها، ومن ظن أن مدرك الإيمان الكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد، لا بل الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلب عبده عطية وهداية من عنده، تارة بتنبه في الباطل لا يمكن التعبير عنه، وتارة بسبب رؤيا في المنام، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته، وتارة بقرينة حال،

فقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاحدا له منكرا فلما وقع بصره على طلعته البهية وغرته الغريرة السنية فرآها يتلألأ منها نور النبوة قال: والله ما هذا وجه كذاب، وسأله أن يعرض عليه الإسلام فأسلم، وجاء آخر فقال: أنشدك الله بعثك الله نبيا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى إني والله الله بعثني نبيا فصدقه بيمينه وأسلم

، فهذا وأمثاله من أن يحصى ولم يشتغل واحد منهم قط بالكلام وتعلم الأدلة بل كان تبدو أنوار الإيمان أولا بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا تزال تزداد وضوحا وإشراقا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة وبتلاوة القرآن وتصفية القلوب، وليت شعري من نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة إحضاره أعرابيا أسلم وقوّله الدليل على أن العالم حادث لأنه لا يخلو عن الأعراض وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وإن الله تعالى عالم بعلم وقادر بقدرة كلاهما زائد على الذات لا هو ولا غيره إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين، ولست أقول: لم تجر هذه الألفاظ بل لم يجر أيضا ما معناه معنى هذه الألفاظ بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف وجماعة من الأسارى يسلمون واحدا واحدا بعد طول الزمان أو على القرب وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة علموا الصلاة والزكاة وردوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم أو غيرها. نعم لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس ولكن ذلك ليس بمقصور عليه وهو نادر أيضا وساق الكلام إلى أن قال: والحق الصريح أن كل من اعتقد أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واشتمل عليه القرآن حق اعتقادا جزما فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلته، فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جدا مشرف على التزلزل بكل شبهة بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع والحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها اهـ.

وفيه فوائد شتى ولذا نقلناه بطوله، ومتى جاز أن يقذف الله تعالى في قلوب العبد نور الإيمان فيؤمن بلا نظر واستدلال جاز أن يقذف سبحانه في قلبه صدق المخبر بحيث لا يقدر على دفعه ولا يدري أنه من أين جاء لا سيما إذا كان المخبر هو النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من لازم قذف نور الإيمان في قلب المؤمن به عليه الصلاة والسلام أن يقذف في قلبه صدقه صلى الله عليه وسلم لأن الإيمان لا يتم إلا بذلك، فقد ظهر أن دعوى الضرورة في أنه لا سبيل إلى العلم بصدق المخبر فيما

ص: 219

أخبر به علما ضروريا إن لم تكن مكابرة فمنعها ليس مكابرة أيضا، فإن الدليل قد قام على جواز حصول العلم الضروري بصدقه بل على وقوعه فليست تلك الدعوى من المقدمات الضرورية التي يكون منعها مكابرة غير مسموعة، وقد اتضح من جميع ما ذكر أن ما قاله السعد في شرح المقاصد من أن الحق أن المعرفة بدليل إجمالي يرفع الناظر من حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لأحد من المكلفين وبدليل تفصيلي يتمكن معه من إزاحة الشبه وإلزام المنكرين وإرشاد المسترشدين فرض كفاية لا بد من أن يقوم به البعض لا يخلو عن نظر على ما قيل، لكن الظاهر عندي أن الحق مع السعد من جهة أن الإيمان بمعنى التصديق مكلف به وشرط المكلف به كونه اختياريا، وقد صرحوا أن التكليف بما ليس باختياري تكليف في الحقيقة بما يتوقف عليه من الأمور الاختيارية وإن التصديق نفسه لكونه غير اختياري كان التكليف به في الحقيقة تكليفا بما يتوقف هو عليه من النظر الاختياري، فالإيمان الذي يحصل بقذفه تعالى النور في القلب من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال ليس اختياريا بنفسه ولا باعتبار ما يحصل هو منه فكيف يكون مكلفا به، وما مراد السعد ومن وافقه بالمعرفة إلا المعرفة من حيث إنها مكلف بها كما يشير إليه قوله: لا مخرج عنه لأحد من المكلفين، وكون ذلك مكلفا به باعتبار أمر اختياري غير النظر كتحصيل الاستعداد لإفاضة النور وخلق العلم الضروري في قلب العبد غير ظاهر. نعم لست أنكر أن من المعرفة ما لا يتوقف على نظر في دليل إجمالي أو غيره كمعرفة الأنبياء عليهم السلام على ما سمعت عن بعضهم، وكمعرفة من شاء الله تعالى من عباده سبحانه غيرهم ولا أسمى نحو هذه المعرفة تقليدية، وكذا لا أنكر أن المعرفة الحاصلة من قذف النور فوق المعرفة الحاصلة من النظر في الدليل فإنها يخشى عليها من عواصف الشبه، وأذهب إلى النظر في الدليل مطلقا واجب على من لم يحصل له العقد الجازم إلا به، وأما من حصل له ذلك بأي طريق كان دونه فلا يجب عليه وكذا لا يأثم بتركه، وحكاية الإجماع على إثمه به لا يخفى ما فيها، وتوجيه ذلك بأن جزم المؤمن حينئذ لا ثقة به إذ لو عرضت له شبهة فات وبقي مترددا بخلاف الجزم الناشئ عن الاستدلال فإنه لا يفوت بذلك غير ظاهر لأنه إذا سلّم أن من تم جزمه من غير نظر فقد أتى بواجب الإيمان فلا وجه لتأثيمه بترك النظر بناء على مجرد احتمال عروض شبهة مشوشة لجزمه لأنه إذا سلّم أن الواجب عليه ليس إلا أن يجزم وقد جزم فقد أدى واجب الوقت وما ترك منه شيئا، وكل من لم يترك واجبا معينا في وقت معين لا معنى لتأثيمه في ذلك الوقت من جهة ذلك الواجب، وكما يحتمل عقلا إن تعرض له شبهة تشوش عليه الجزم لعدم الدليل كذلك يحتمل عقلا أن يحصل له الدليل على ما جزم قبل عروض شبهة ولعل هذا الاحتمال أقوى وأقرب إلى الوقوع.

وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرنا علمت أن الاستدلال بقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ على وجوب النظر فيه نظر لتوقفه على صحة قولهم: إن العلم لا يحصل إلا بالنظر وقد سمعت ما فيه. ويقوي ذلك إذا قلنا: إن علمه صلى الله عليه وسلم بالوحدانية ضروري إذ يكون المراد الأمر بالثبات والاستمرار على ما هو صلى الله عليه وسلم فيه من اجتناب ما يخل بالعلم، وقد يقال: يجوز أن يكون الاستدلال نظرا إلى ظاهر اللفظ من حيث إنه أمر بالعلم بالوحدانية فلا بد أن يكون مقدورا بنفسه أو باعتبار ما يحصل هو منه، وحيث انتفى كونه مقدورا بنفسه تعين كونه مقدورا باعتبار ما يحصل هو منه، والظاهر أنه النظر.

وأنت تعلم أنه إن كان التقليد سببا من أسباب العلم أيضا لم يتم هذا وإن لم يكن سببا تم فتأمل، ثم اعلم أن النظر الذي قالوا به في الأصول الاعتقادية أعم من النظر في الأدلة العقلية والنظر في الأدلة السمعية، فإن منها ما ثبت بالسمع كالأمور الأخروية ومدخل العقل فيها ليس إلا بأنها أمور ممكنة أخبر الصادق بوقوعها وكل ممكن أخبر

ص: 220

الصادق بوقوعه واقع فتلك الأمور واقعة، وأما النظر في معرفة الله تعالى. أعني التصديق بوجوده تعالى وصفاته العلا.

فقيل: يتعين أن يكون المراد به النظر في الأدلة العقلية فقط، ولا يجوز أن يكون النظر في الأدلة السمعية طريقها إليه لاستلزامه الدور. وفي الجواب العتيد الدور لازم لكن لا مطلقا بل بالنسبة إلى كل مطلوب يتوقف العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم على العلم به، وذلك لأن النظر في الأدلة السمعية إنما يكون طريقا إلى المعرفة إذا كانت صادقة عند الناظر فيها وصدقها في علم الناظر موقوف على علمه بأن هذا الذي يدعي أنه رسول الله الذي جاء بها (1) صادقا في دعواه الرسالة. وعلمه بذلك موقوف على العلم بأن الله تعالى قد أظهر المعجزات على يده تصديقا له في دعواه وعلمه بذلك موقوف على العلم بأن ثمت إلها على صفة يمكن بها أن يبعث رسولا ككونه حيا عالما مريدا قادرا وهو من معرفة الإله سبحانه فلو استفدنا العلم بوجود الله تعالى وبتلك الصفات من الدلائل السمعية الموقوفة على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لزم الدور كما ترى. نعم إذا قيل: إن المكلف بعد ما آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم واعتقد اعتقادا جازما بصدقه في جميع ما جاء به من عند الله تعالى بأي وجه كان ذلك الجزم بالضرورة أو بالنظر أو بالتقليد فله أن يأخذ عقيدته من القرآن من غير تأويل ولا ميل من غير أن ينظر في دليل عقلي كان ذلك كلاما صحيحا لا غبار عليه، ولا يلزم منه تحصيل للحاصل بالنسبة إلى ما حصله أولا من المسائل التي يتوقف عليها صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لأن التحصيل الثاني من حيث إن الجائي بدلائلها صادق فيها والتحصيل الأول كان بالنظر العقلي من غير اعتبار صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فاختلفت الحيثية فليفهم والله تعالى أعلم.

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ في الدنيا وَمَثْواكُمْ في الآخرة، وخص المتقلب بالدنيا والمثوى بالآخرة لأن كل أحد متحرك في الدنيا دائما نحو معاده غير قار وفي الآخرة مقيم لا حركة له نحو دار وراءها، والمراد من علمه تعالى بذلك تحذيرهم من جزائه وعقابه سبحانه أو الترغيب في امتثال ما يأمرهم جلّ شأنه به والترهيب عما ينهاهم عز وجل عنه على طريق الكناية. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: متقلبكم تصرفكم في حياتكم الدنيا ومثواكم في قبوركم وآخرتكم، وقال عكرمة: متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم إقامتكم في الأرض وقال الطبري: وغيره: متقلبكم تصرفكم في يقظتكم ومثواكم منامكم، وقيل: متقلبكم في معايشكم ومتاجركم ومثواكم حيث تستقرون من منازلكم، وقيل: متقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار.

واختار أبو حيان عمومهما في كل متقلب وفي كل إقامة، ونحوه ما قيل: المراد يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه سبحانه شيء منها.

وقرأ ابن عباس «منقلبكم» بالنون.

(1) قوله: الذي جاء بها صادقا كذا في النسخ.

ص: 221

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا حرصا على الجهاد لما فيه من الثواب الجزيل فالمراد بهم المؤمنون الصادقون لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ أي هلا أنزلت سورة يؤمر فيها بالجهاد. فلولا: تحضيضية، وعن ابن مالك أن لا زائدة والتقدير لو أنزلت سورة وليس بشيء.

فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي بطريق الأمر به، والمراد. بمحكمة. مبينة لا تشابه ولا احتمال فيها لوجه آخر سوى وجوب القتال، وفسرها الزمخشري بغير منسوخة الأحكام. وعن قتادة كل سورة فيها القتال فهي محكمة وهو أشد القرآن على المنافقين وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن لا بخصوصية هذه الآية والمتحقق أن آيات القتال غير منسوخة وحكمها باق إلى يوم القيامة. وقيل: محكمة بالحلال والحرام.

وقرىء «نزلت» سورة بالبناء للفاعل من نزل الثلاثي المجرد ورفع «سورة» على الفاعل.

وقرأ زيد بن علي «نزلت» كذلك إلا أنه نصب «سورة محكمة» ، وخرج ذلك على كون الفاعل ضمير السورة، و «سورة محكمة» نصب على الحال. وقرأ هو وابن عمير «وذكر» مبنيّا للفاعل وهو ضمير تعالى «القتال» بالنصب على أنه مفعول به رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق، وقيل: ضعف في الدين يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي نظر المحتضر الذي لا يطرف بصره، والمراد تشخص أبصارهم جبنا وهلعا، وقيل: يفعلون ذلك من شدة العداوة له عليه الصلاة والسلام، وقيل: من خشية الفضيحة فإنهم إن تخلفوا عن القتال افتضحوا وبان نفاقهم، وقال الزمخشري: كانوا يدعون الحرص على الجهاد ويتمنونه بألسنتهم ويقولون: لولا أنزلت سورة في معنى

ص: 222

الجهاد فإذا أنزلت وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه كاعوا وشق عليهم وسقط في أيديهم كقوله تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ [النساء: 77] والظاهر ما ذكرناه أولا من أن القائلين هم الذين أخلصوا في إيمانهم وإنما عرا المنافقين ما عرا عند نزول أمير المؤمنين بالجهاد لدخولهم فيهم بحسب ظاهر حالهم، وقد جوز هو أيضا إرادة الخلص من الذين آمنوا لكن كلامه ظاهر في ترجح ما ذكره أولا عنده والظاهر أن في الكلام عليه إقامة الظاهر مقام المضمر، وجوز أن يكون المطلوب في قوله تعالى: لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ إنزال سورة مطلقا حيث كانوا يستأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ، وروي نحوه عن ابن جريج. أخرج ابن المنذر عنه أنه قال في الآية: كان المؤمنون يشتاقون إلى كتاب الله تعالى وإلى بيان ما ينزل عليهم فيه فإذا نزلت السورة يذكر فيها القتال رأيت يا محمد المنافقين ينظرون إليك إلخ.

فَأَوْلى لَهُمْ تهديد ووعيد على ما روي عن غير واحد، وعن أبي علي أن (أولى) فيه علم لعين الويل مبني على زنة أفعل من لفظ الويل على القلب وأصله أويل وهو غير منصرف للعلمية والوزن. فالكلام مبتدأ وخبر.

واعترض بأن الويل غير متصرف فيه، ومثل يوم أيوم مع أنه غير منقاس لا يفرد عن الموصوف البتة، وإن القلب خلاف الأصل لا يرتكب إلا بدليل، وإن علم الجنس شيء خارج عن القياس مشكل التعقل خاصة فيما نحن فيه، ثم قيل: إن الاشتقاق الواضح من الولي بمعنى القرب كما في قوله:

تكلفني ليلى وقد شط وليها

وعادت عواد بيننا وخطوب

يرشد إلى أنه للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء كأنه قيل: هلاكا أولى لهم بمعنى أهلكهم الله تعالى هلاكا أقرب لهم من كل شر وهلاك، وهذا كما غلب بعدا وسحقا في الهلاك، وهو على هذا منصوب على أنه صفة في الأصل لمصدر محذوف وقد أقيم مقامه والجار متعلق به. وفي الصحاح عن الأصمعي أولى له قاربه ما يهلكه أي نزل به وأنشد:

فعادى بين هاديتين منها

وأولى أن يزيد على الثلاث

أي قارب أن يزيد، قال ثعلب: ولم يقل أحد في (أولى) أحسن مما قاله الأصمعي، وعلى هذا هو فعل مستتر فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق، وقريب منه ما قيل: إنه فعل ماض وفاعله ضميره عز وجل واللام مزيدة أي أولاهم الله تعالى ما يكرهون أو غير مزيدة أي أدنى الله عز وجل الهلاك لهم، والظاهر زيادة اللام على ما سمعت عن الأصمعي، ومن فسره بقرب جوز الأمرين، وقيل: هو اسم فعل والمعنى وليهم شر بعد شر. وقيل: هو فعلى من آل بمعنى رجع لا أفعل من الولي فهو في الأصل دعاء عليهم بأن يرجع أمرهم إلى الهلاك، والمراد أهلكهم الله تعالى إلا أن التركيب مبتدأ وخبر، وقال الرضي: هو علم للوعيد من وليه الشر أي قربه، والتركيب مبتدأ وخبر أيضا. واستدل بما حكي أبو زيد من قولهم: أولاة بتاء التأنيث على أنه ليس بأفعل تفضيل ولا أفعل فعلى وإنه علم وليس بفعل ثم قال: بل هو مثل أرمل وأرملة إذا سمي بهما ولذا لم ينصرف، وليس اسم فعل أيضا بدليل أولاة في تأنيثه بالرفع يعني أنه معرب ولو كان اسم فعل كان مبنيا مثله. وتعقب بأنه لا مانع من كون أولاة لفظا آخر بمعناه يرد من ذلك على قائلي ما تقدم أصلا، وجاء أول أفعل تفضيل وظرفا كقبل وسمع فيه أولة كما نقله أبو حيان، وقيل: الأحسن كونه أفعل تفضيل بمعنى أحق وأحرى وهو خبر لمبتدأ محذوف يقدر في كل مقام بما يليق به والتقدير هاهنا العقاب أولى لهم، وروي ذلك عن قتادة ومال إلى هذا القول ابن عطية، وعلى جميع هذه الأقوال قوله تعالى: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ كلام مستقل محذوف منه أحد

ص: 223

الجزأين أما الخبر وتقديره خير لهم أو أمثل، وهو قول مجاهد ومذهب سيبويه والخليل. وأما المبتدأ وتقديره الأمر أو أمرنا طاعة أي الأمر المرضي لله تعالى طاعة، وقيل: أي أمرهم طاعة معروفة وقول معروف أي معلوم حاله أنه خديعة، وقيل: هو حكاية قولهم قبل الأمر بالجهاد أي قالوا أمرنا طاعة ويشهد له قراءة أبي «يقولون طاعة وقول معروف» وذهب بعض إلى أن (أولى) أفعل تفضيل مبتدأ ولَهُمْ صلته واللام بمعنى الباء وطاعَةٌ خبر كأنه قيل فأولى بهم من النظر إليك نظر المغشيّ عليه من الموت طاعة وقول معروف، وعليه لا يكون كلاما مستقلا ولا يوقف على لَهُمْ ومما لا ينبغي أن يلتفت إليه ما قيل: إن طاعَةٌ صفة لسورة في قوله تعالى فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ والمراد ذات طاعة أو مطاعة. وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بشيء لحيلولة الفصل الكثير بين الصفة والموصوف فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي جد والجد أي الاجتهاد لأصحاب الأمر إلا أنه أسند إليه مجازا كما في قوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:

17] ومنه قول الشاعر:

قد جدت الحرب بكم فجدوا والظاهر أن جواب «إذا» قوله تعالى: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ وهو العامل فيها ولا يضر اقترانه بالفاء ولا تمنع من عمل ما بعدها فيما قبلها في مثله كما صرحوا به، وهذا نحو إذا جاء الشتاء فلو جئتني لكسوتك، وقيل: الجواب محذوف تقديره فإذا عزم الأمر كرهوا أو نحو ذلك قاله قتادة. وفي البحر من حمل طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ على أنهم يقولون ذلك خديعة قدر فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا، ولعل من يجعل القول السابق للمؤمنين في ظاهر الحال وهم المنافقون جوز هذا التقدير أيضا، وقدر بعضهم الجواب فاصدق وهو كما ترى، وأيا ما كان فالمراد فلو صدقوا الله فيما زعموا من الحرص على الجهاد ولعلهم أظهروا الحرص عليه كالمؤمنين الصادقين، وقيل: في قوله: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، وقيل: في إيمانهم لَكانَ أي الصدق خَيْراً لَهُمْ مما ارتكبوه وهذا مبني على ما في زعمهم من أن فيه خيرا وإلا فهو في نفس الأمر لا خير فيه.

فَهَلْ عَسَيْتُمْ خطاب لأولئك الذين في قلوبهم مرض بطريق الالتفات لتأكيد التوبيخ وتشديد التقريع، وهل للاستفهام والأصل فيه أن يدخل الخبر للسؤال عن مضمونه والإنشاء الموضوع له عسى ما دل عليه بالخبر أي فهل يتوقع منكم وينتظر إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أمور الناس وتأمرتم عليهم فهو من الولاية والمفعول به محذوف وروي ذلك عن محمد بن كعب وأبي العالية والكلبي أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ تناحرا على الولاية وتكالبا على جيفة الدنيا والمتوقع كل من يقف على حالهم إلا الله عز وجل إذ لا يصح منه سبحانه ذلك والاستفهام أيضا بالنسبة إلى غيره جلّ وعلا فالمعنى إنكم لما عهد منكم من الأحوال الدالة على الحرص على الدنيا حيث أمرتم بالجهاد الذي هو وسيلة إلى ثواب الله تعالى العظيم فكرهتموه وظهر عليكم ما ظهر أحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم وعرف حالكم يا هؤلاء ما ترون هل يتوقع منكم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض إلخ.

وفسر بعضهم التولي بالإعراض عن الإسلام فالفعل لازم أي فهل عسيتم إن ارضتم عن الإسلام أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضا ووأد البنات، وتعقب بأن الواقع في حيز الشرط في مثل هذا المقام لا بد أن تكون محذوريته باعتبار ما يتبعه من المفاسد لا باعتبار ذاته ولا ريب في أن الأعراض عن الإسلام رأس كل شر وفساد فحقه أن يجعل عمدة في التوبيخ لا وسيلة للتوبيخ بما دونه من المفاسد، ويؤيد الأول قراءة بعض «ولّيتم» مبنيا المفعول وكذا قراءته عليه الصلاة والسلام على ما ذكر في الحبر

ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه. ورويس. ويعقوب «تولّيتم» بالبناء للمفعول

أيضا بناء على أن

ص: 224

المعنى تولاكم الناس واجتمعوا على موالاتكم، والمراد كنتم فيهم حكاما، وقيل: المعنى تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم واستظهر أبو حيان تفسيره بالإعراض إلا أنه قال: المعنى إن أعرضتم عن امتثال أمر الله تعالى في القتال أن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإسلام على أعدائهم وتقطعوا أرحامكم لأن من أرحامكم كثيرا من المسلمين فإذا لم تعينوهم قطعتم ما يبينكم وبينهم من الرحم.

وتعقب بأن حمل الإفساد على الإفساد بعدم المعونة فيه خفاء، وكذا الإتيان بأن عليه دون إذا من حيث إن الإعراض عن امتثال أمر الله تعالى في القتال كالمحقق من أولئك المنافقين فتأمل، وأَنْ تُفْسِدُوا خبر عسى. وإِنْ تَوَلَّيْتُمْ اعتراض، وجواب أن محذوف يدل عليه ما قبله، وزعم بعضهم أن الأظهر جعل إِنْ تَوَلَّيْتُمْ حالا مقدرة، وفيه أن الشرط بدون الجواب لم يعهد وقوعه حالا في غير أن الوصلية وهي لا تفارق الواو، والحاق الضمائر بعسى كما في سائر الأفعال المتصرفة لغة أهل الحجاز، وبنو تميم لا يلحقونها به ويلتزمون دخوله على أن والفعل فيقولون الزيدان عسى أن يقوما والزيدون عسى أن يقوموا، وذكر الإمام هاتين اللغتين ثم قال: وأما قول من قال: عسى أنت تقوم وعسى أنا أقوم فدون ما ذكرنا للتطويل الذي فيه فإن كان مقصوده حكاية لغة ثالثة هي انفصال الضمير فنحن لا نعلم أحدا من نقلة اللسان العربي ذكرها وإن كان غير ذلك فليس فيه كثير جدوى.

وقرأ نافع «عسيتم» بكسر السين المهملة، وهو غريب. وقرأ عمرو في رواية. وسلام ويعقوب وأبان وعصمة «تقطعوا» بالتخفيف مضارع قطع، والحسن «تقطّعوا» بفتح التاء والقاف وشد الطاء وأصله تتقطعوا بتاءين حذفت أحدهما ونصبوا «أرحامكم» على إسقاط الحرف أي في أرحامكم لأن تقطع لازم أُولئِكَ إشارة إلى المخاطبين بطريق الالتفات إيذان بأن ذكر هناتهم أوجب إسقاطهم عن درجة الخطاب ولو على جهة التوبيخ وحكاية أقوالهم الفظيعة لغيرهم، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم من رحمته عز وجل فَأَصَمَّهُمْ عن استماع الحق لتصامهم عنه لسوء اختيارهم وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق وجاء التركيب فَأَصَمَّهُمْ ولم يأت فأصم آذانهم كما جاء وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ أو وأعماهم كما جاء فأصمهم، قيل: لأن الأذن لو أصيبت بقطع أو قلع لسمع الكلام فلم يحتج إلى ذكر الأذن والبصر وهو العين لو أصيب لامتنع الإبصار فالعين لها مدخل في الرؤية والأذن لا مدخل لها في السمع انتهى وهو كما ترى.

وقال الخفاجي: لأنه إذا ذكر الصمم لم يبق حاجة إلى ذكر الآذان، وأما العمى فلشيوعه في البصر والبصيرة حتى قيل: إنه حقيقة فيهما وهو ظاهر ما في القاموس فإذا كان المراد أحدهما حسن تقييده.

وقيل في وجه ذلك بناء على كون العمى حقيقة فيما كان في البصر إن نحو أعمى الله أبصارهم بحسب الظاهر من باب أبصرته بعيني وهو يقال في مقام يحتاج إلى التأكيد، ولما كان أولئك الذين حكى حالهم في أمر الجهاد غير ظاهر إعماؤهم ظهور إصمامهم كيف وفي الآيات السابقة ما يؤذن بعدم انتفاعهم بالمسموع من القرآن وهو من آثار إصمامهم وليس فيها ما يؤذن بعدم انتفاعهم بالآيات المرئية المنصوبة في الأنفس والآفاق الذي هو من آثار إعمائهم ناسب أن يسلك في كل من الجملتين ما سلك مع ما في سلوكه في الأخير من رعاية الفواصل وهو أدق مما قبل، هذا والأرحام جمع رحم بفتح الراء وكسر الحاء وهي على ما في القاموس القرابة أو أصلها وأسبابها، وقال الراغب: الرحم رحم المرأة أي بيت منبت ولدها ووعاؤه ومنه استعير الرحم للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة، ويقال للأقارب ذوو رحم كما يقال لهم أرحام، وقد صرح ابن الأثير بأن ذا الرحم يقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب ويطلق في الفرائض على الأقارب من جهة النساء والمذكور في كتبها تفسيره بكل قريب ليس بذي سهم ولا عصبة وعدوا من

ص: 225

ذلك أولاد الأخوات لأبوين أو لأب وعمات الآباء وظاهر كلام الأئمة في قوله عليه الصلاة والسلام من ملك ذا رحم محرم فهو حر دخول الأبوين والولد في ذي الرحم لغة حيث أجمعوا على أنهم يعتقون على من ملكهم لهذا الخبر وإن اختلفوا في عتق غيرهم، وصرح ابن حجر الهيثمي في الزواجر بأن الأولاد من الأرحام وظاهر عطف الأقربين على الوالدين في الآية يقتضي عدم دخولهما في الأقارب فلا يدخلون في الأرحام لأنهم كما قالوا الأقارب، وكلام فقهائنا نص في عدم دخول الوالدين والولد في ذلك حيث قالوا: إذا أوصى لأقاربه أو لذوي قرابته أو لأرحامه فهي للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم محرم ولا يدخل الوالدان والولد، وأما الجد وولد الولد فنقل أبو السعود عن العلامة قاسم عن البدائع أن الصحيح عدم دخولهما، واختاره في الاختيار وعلله بأن القريب من يتقرب إلى غيره بواسطة غيره وتكون الجزئية بينهما منعدمة، وفي شرح الحموي أن دخولهما هو الأصح. وفي متن المواهب وأدخل أي محمد الجد والحفدة وهو الظاهر عنهما، وذكر أن مثل الجد والجدة وقد يقال: إن عدم دخول الوالدين والولد في ذلك وكذا الجد والحفدة عند من يقول بعدم دخولهم ليس لأن اللفظ لا يصدق عليهم لغة بل لأنه لا يصدق عليهم عرفا وهم اعتبروا العرف كما قال الطحطاوي في أكثر مسائل الوصية. وفي جامع الفصولين أن مطلق الكلام فيما بين الناس ينصرف إلى المتعارف، وما ذكره في المعراج من خبر من سمى والده قريبا عقه لا يدل على أنه ليس قريبا لغة بل هو بيان حكم شرعي مبناه أن في ذلك إيذاء للوالد وحطا من قدره عرفا، وهذا كما لو ناداه باسمه وكان يكره ذلك، وأمر العطف في الآية الكريمة سهل لجواز عطف العام على الخاص كعطف الخاص على العام، فالذي يترجح عندي أن الأرحام كما صرحوا به الأقارب بالقرابة الغير السببية والمراد ما يقابل الأجانب ويدخل فيهم الأصول والفروع والحواشي من قبل الأب أو من قبل الأم وحرمة قطع كل لا شك فيها لأنه على ما قلنا رحم، والآية ظاهرة في حرمة قطع الرحم. وحكى القرطبي في تفسيره اتفاق الأمة على حرمة قطعها ووجوب صلتها، ولا ينبغي التوقف في كون القطع كبيرة، والعجب من الرافعي عليه الرحمة كيف توقف في قول صاحب الشامل: إنه من الكبائر، وكذا تقرير النووي قدس سره له على توقفه، واختلف في المراد بالقطيعة فقال أبو زرعة: ينبغي أن تختص بالإساءة، وقال غيره: هي ترك الإحسان ولو بدون إساءة لأن الأحاديث آمرة بالصلة ناهية عن القطيعة ولا واسطة بينهما، والصلة إيصال نوع من أنواع الإحسان كما فسرها بذلك غير واحد فالقطيعة ضدها فهي ترك الإحسان. ونظر فيه الهيثمي بناء على تفسير العقوق بأن يفعل مع أحد أبويه ما لو فعله مع أجنبي كان محرما صغيرة فينتقل بالنسبة إلى أحدهما كبيرة وان الأبوين أعظم من بقية الأقارب ثم قال: فالذي يتجه ليوافق كلامهم وفرقهم بين العقوق وقطع الرحم أن المراد بالأول

أن يفعل مع أحد الأبوين ما يتأذى به فإن كان التأذي ليس بالهين عرفا كان كبيرة وإن لم يكن محرما لو فعله مع الغير وبالثاني قطع ما ألف القريب منه من سابق الوصلة والإحسان بغير عذر شرعي لأن قطع ذلك يؤدي إلى إيحاش القلوب وتأذيها، فلو فرض أن قريبه لم يصل إليه إحسان ولا إساءة قط لم يفسق بذلك لأن الأبوين إذا فرض ذلك في حقهما من غير أن يفعل معهما ما يقتضي التأذي العظيم لغناهما مثلا لم يكن كبيرة فأولى بقية الأقارب ولو فرض أن الإنسان لم يقطع عن قريبه ما ألفه منه من الإحسان لكنه فعل معه محرما صغيرة أو قطب في وجهه أو لم يقم له في ملأ ولا عبأ به لم يكن ذلك فسقا بخلافه مع أحد الأبوين لأن تأكد حقهما اقتضى أن يتميزا على بقية الأقارب بما لا يوجد نظيره فيهم وعلى ضبط الثاني بما ذكرته فلا فرق بين أن يكون الإحسان الذي ألفه منه قريبه مالا أو مكاتبة أو مراسلة أو زيارة أو غير ذلك فقطع ذلك كله بعد فعله لغير عذر كبيرة، وينبغي أن يراد بالعذر في المال فقد ما كان يصله به أو تجدد احتياجه إليه أو أن يندبه الشارع إلى تقديم غير القريب عليه لكونه أحوج أو أصلح، فعدم الإحسان إلى القريب أو تقديم الأجنبي عليه لهذا العذر يرفع عنه وإن انقطع بسبب ذلك ما ألفه منه القريب لأنه إنما راعى أمر الشارع بتقديم الأجنبي عليه، وواضح أن القريب لو ألف

ص: 226

منه قدرا معينا من المال يعطيه إياه كل سنة مثلا فنقصه لا يفسق بذلك بخلاف ما لو قطعه من أصله لغير عذر، وأما عذر الزيارة فينبغي ضبطه بعذر الجمعة لجامع أن كلّا فرض عين وتركه كبيرة وأما عذر ترك المكاتبة والمراسلة فهو أن لا يجد من يثق به في أداء ما يرسله معه، والظاهر أنه إذا ترك الزيارة التي ألفت منه في وقت مخصوص لعذر لا يلزمه قضاؤها في غير ذلك الوقت، والأولاد والأعمام من الأرحام وكذا الخالة فيأتي فيهم وفيها ما تقرر من الفرق بين قطعهم وعقوق الوالدين، وأما قول الزركشي: صح في الحديث أن الخالة بمنزلة الأم وأن عم الرجل صنو أبيه وقضيتهما أنهما مثل الأب والأم حتى في العقوق فبعيد جدا ويكفي مشابهتهما في أمر ما كالحضانة تثبت للخالة كما تثبت للأم وكذا المحرمية وكالإكرام في العم والمحرمية وغيرهما مما ذكر انتهى المراد منه، ولو قيل: إن الصغيرة تعد كبيرة لو فعلت مع القريب لكنها دون ما لو فعلت مع أحد الأبوين لم يبعد عندي لتفاوت قبح السيئات بحسب الإضافات بل لا يبعد على هذا أن يكون قبح قطع الرحم متفاوتا باعتبار الشخص القاطع وباعتبار الشخص المقطوع ومتى سلم التفاوت فليقل به في العقوق ويكون عقوق الأم أقبح من عقوق الأب وكذا عقوق الولد الذي يعبأ به أقبح من عقوق الولد الذي لا يعبأ به ويتفرع من ذلك ما يتفرع مما لا يخفى على فقيه. واستدل بالآية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على منع بيع أم الولد. روى الحاكم في المستدرك وصححه. وابن المنذر عن بريدة قال: كنت جالسا عند عمر إذ سمع صائحا فسأل فقيل: جارية من قريش تباع أمها فأرسل يدعو المهاجرين والأنصار فلم تمض ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فهل تعلمونه كان مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة قالوا: لا قال:

فإنها قد أصبحت فيكم فاشية ثم قرأ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ثم قال:

وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرئ فيكم قالوا فاصنع ما بدا لك فكتب في الآفاق أن لا تباع أم حر فإنها قطيعة رحم وأنه لا يحل واستدل بها أيضا على جواز لعن يزيد عليه من الله تعالى ما يستحق نقل البرزنجي في الإشاعة والهيثمي في الصواعق أن الإمام أحمد لما سأله ولده عبد الله عن لعن يزيد قال كيف لا يلعن من لعنه الله تعالى في كتابه فقال عبد الله قد قرأت كتاب الله عز وجل فلم أجد فيه لعن يزيد فقال الإمام إن الله تعالى يقول: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ الآية وأي فساد وقطيعة أشد مما فعله يزيد انتهى.

وهو مبني على جواز لعن العاصي المعين من جماعة لعنوا بالوصف، وفي ذلك خلاف فالجمهور، على أنه لا يجوز لعن المعين فاسقا كان أو ذميا حيا كان أو ميتا ولم يعلم موته على الكفر لاحتمال أن يختم له أو ختم له بالإسلام بخلاف من علم موته على الكفر كأبي جهل.

وذهب شيخ الإسلام السراج البلقيني إلى جواز لعن العاصي المعين لحديث الصحيحين «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح» وفي رواية «إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح» واحتمال أن يكون لعن الملائكة عليهم السلام إياها ليس بالخصوص بل بالعموم بأن يقولوا: لعن الله من باتت مهاجرة فراش زوجها بعيد وإن بحث به معه ولده الجلال البلقيني.

وفي الزواجر لو استدل لذلك

بخبر مسلم «أنه صلى الله عليه وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال: لعن الله من فعل هذا»

لكان أظهر إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معين إلا أن يؤول بأن المراد الجنس وفيه ما فيه انتهى.

وعلى هذا القول لا توقف في لعن يزيد لكثرة أوصافه الخبيثة وارتكابه الكبائر في جميع أيام تكليفه ويكفي ما فعله أيام استيلائه بأهل المدينة ومكة

فقد روى الطبراني بسند حسن «اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل»

والطامة الكبرى ما فعله بأهل البيت ورضاه بقتل

ص: 227

الحسين على جده وعليه الصلاة والسلام واستبشاره بذلك وإهانته لأهل بيته مما تواتر معناه وإن كانت تفاصيله آحادا،

وفي الحديث «ستة لعنتهم (1) وفي رواية: لعنهم الله وكل نبي مجاب الدعوة المحرف لكتاب الله- وفي رواية-: الزائد في كتاب الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليعز من أذل الله ويذل من أعز الله والمستحل من عترتي والتارك لسنتي»

وقد جزم بكفره وصرح بلعنه جماعة من العلماء منهم الحافظ ناصر السنة ابن الجوزي وسبقه القاضي أبو يعلى، وقال العلامة التفتازاني: لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه لعنة الله تعالى عليه وعلى أنصاره وأعوانه، وممن صرح بلعنه الجلال السيوطي عليه الرحمة وفي تاريخ ابن الوردي. وكتاب الوافي بالوفيات أن السبي لما ورد من العراق على يزيد خرج فلقي الأطفال والنساء من ذرية علي. والحسين رضي الله تعالى عنهما والرؤوس على أطراف الرماح وقد أشرفوا على ثنية جيرون فلما رآهم نعب غراب فأنشأ يقول:

لما بدت تلك الحمول وأشرفت

تلك الرؤوس على شفا جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني

يعني أنه قتل بمن قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر كجده عتبة وخاله ولد عتبة وغيرهما وهذا كفر صريح فإذا صح عنه فقد كفر به ومثله تمثله بقول عبد الله بن الزبعري قبل إسلامه:

ليت أشياخي الأبيات، وأفتى الغزالي عفا الله عنه بحرمة لعنه وتعقب السفاريني من الحنابلة نقل البرزنجي والهيثمي السابق عن أحمد رحمه الله تعالى فقال: المحفوظ عن الإمام أحمد خلاف ما نقلا، ففي الفروع ما نصه ومن أصحابنا من أخرج الحجاج عن الإسلام فيتوجه عليه يزيد ونحوه ونص أحمد خلاف ذلك وعليه الأصحاب، ولا يجوز التخصيص باللعنة خلافا لأبي الحسين وابن الجوزي وغيرهما، وقال شيخ الإسلام: يعني والله تعالى أعلم ابن تيمية ظاهر كلام أحمد الكراهة، قلت: والمختار ما ذهب إليه ابن الجوزي. وأبو حسين القاضي. ومن وافقهما انتهى كلام السفاريني.

وأبو بكر بن العربي المالكي عليه من الله تعالى ما يستحق أعظم الفرية فزعم أن الحسين قتل بسيف جده صلى الله عليه وسلم وله من الجهلة موافقون على ذلك كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف: 5] .

قال ابن الجوزي عليه الرحمة في كتابه السر المصون: من الاعتقادات العامة التي غلبت على جماعة منتسبين إلى السنة أن يقولوا: إن يزيد كان على الصواب وإن الحسين رضي الله تعالى عنه أخطأ في الخروج عليه ولو نظروا في السير لعلموا كيف عقدت له البيعة وألزم الناس بها ولقد فعل في ذلك كل قبيح ثم لو قدرنا صحة عقد البيعة فقد بدت منه بواد كلها توجب فسخ العقد ولا يميل إلى ذلك إلا كل جاهل عامي المذهب يظن أنه يغيظ بذلك الرافضة. هذا ويعلم من جميع ما ذكره اختلاف الناس في أمره فمنهم من يقول: هو مسلم عاص بما صدر منه مع العترة الطاهرة لكن لا يجوز لعنه، ومنهم من يقول: هو كذلك ويجوز لعنه مع الكراهة أو بدونها ومنهم من يقول: هو كافر ملعون، ومنهم من يقول: إنه لم يعص بذلك ولا يجوز لعنه وقائل هذا ينبغي أن ينظم في سلسلة أنصار يزيد وأنا أقول: الذي يغلب على ظني أن الخبيث لم يكن مصدقا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأن مجموع ما فعل مع أهل حرم الله تعالى وأهل حرم نبيه عليه الصلاة والسلام وعترته الطيبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات وما صدر منه من المخازي ليس بأضعف دلالة على

(1) قوله «ستة لعنتهم» كذا في النسخ والمعدود فيها خمس سقط منها «والمستحل لحرم الله» .

ص: 228

عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر، ولا أظن أن أمره كان خافيا على أجلة المسلمين إذا ذاك ولكن كانوا مغلوبين مقهورين لم يسعهم إلا الصبر ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ولو سلّم أن الخبيث كان مسلما فهو مسلم جمع من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان، وأنا أذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين ولو لم يتصور أن يكون له مثل من الفاسقين، والظاهر أنه لم يتب، واحتمال توبته أضعف من إيمانه، ويلحق به ابن زياد وابن سعد وجماعة فلعنة الله عز وجل عليهم أجمعين، وعلى أنصارهم وأعوانهم وشيعتهم ومن مال إليهم إلى يوم الدين ما دمعت عين على أبي عبد الله الحسين، ويعجبني قول شاعر العصر ذو الفضل الجلي عبد الباقي أفندي العمري الموصل وقد سئل عن لعن يزيد اللعين:

يزيد على لعني عريض جنابه

فأغدو به طول المدى ألعن اللعنا

ومن كان يخشى القال والقيل من التصريح بلعن ذلك الضليل فليقل: لعن الله عز وجل من رضي بقتل الحسين ومن آذى عترة النبي صلى الله عليه وسلم بغير حق ومن غصبهم حقهم فإنه يكون لاعنا له لدخوله تحت العموم دخولا أوليا في نفس الأمر، ولا يخالف أحد في جواز اللعن بهذه الألفاظ ونحوها سوى ابن العربي المار ذكره وموافقيه فإنهم على ظاهر ما نقل عنهم لا يجوزون لعن من رضي بقتل الحسين رضي الله تعالى عنه، وذلك لعمري هو الضلال البعيد الذي يكاد يزيد على ضلال يزيد أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أي لا يلاحظونه ولا يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها تمثيل لعدم وصول الذكر إليها وانكشاف الأمر لها فكأنه قيل: أفلا يتدبرون القرآن إذ وصل إلى قلوبهم أم لم يصل إليها فتكون أم متصلة على مذهب سيبويه، وظاهر كلام بعض اختياره.

وذهب أبو حيان وجماعة إلى أنها منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من التوبيخ بترك التدبر إلى التوبيخ بكون قلوبهم مقفلة لا تقبل التدبر والتفكر، والهمزة للتقرير، وتنكير القلوب لتهويل حالها وتفظيع شأنها وأمرها في القساوة والجهالة كأنه قيل: على قلوب منكرة لا يعرف حالها ولا يقادر قدرها في القساوة وقيل: لأن المراد قلوب بعض منهم وهم المنافقون فتنكيرها للتبعيض أو للتنويع كما قيل، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنها أقفال مخصوصة بها مناسبة لها غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة، وقرى «إقفالها» بكسر الهمزة، وهو مصدر من الأفعال و «أقفلها» بالجمع على أفعل.

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، قال ابن عباس، وغيره: نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت قلوبهم، وفي إرشاد العقل السليم هم المنافقون الذين وصفوا فيما سلف بمرض القلوب وغيره من قبائح الأحوال فإنهم قد كفروا به عليه الصلاة والسلام مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بالدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة القاهرة.

وأخرج عبد الرزاق، وجماعة عن قتادة أنه قال: هم أعداء الله تعالى أهل الكتاب يعرفون بعث النبي صلى الله عليه وسلم ويجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل ثم يكفرون به عليه الصلاة والسلام. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال:

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا إلخ اليهود ارتدوا عن الهدى بعد أن عرفوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي، والمختار ما تقدم، وأيّا ما كان فالموصول اسم ان وجملة قوله تعالى: الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ خبرها كقولك: إن زيدا عمرو مر به أي سهل لهم ركوب العظائم من السول بفتحتين وهو الاسترخاء استعير للتسهيل أي لعده سهلا هينا حتى لا يبالى به كأنه شبه بإرخاء ما كان مشدودا، وقيل: أي حملهم على الشهوات من السول وهو التمني، وأصله حملهم على سؤلهم أي ما يشتهونه

ص: 229

ويتمنونه فالتفعيل للحمل على المصدر كغربه إذا حمله على الغربة إلا أنهم جعلوا المصدر بمعنى اسم المفعول، ونقل ذلك عن ابن السكيت.

واعترض بأن السول بمعنى التمني من السؤال فهو مهموز والتسويل واوي ومعناه التزيين فلا مناسبة لا لفظا ولا معنى فالقول باشتقاق سول منه خطأ، ورد بأن السول من السؤال وله استعمالان فيكون مهموزا وهو المعروف ومعتلا يقال سأل يسأل كخاف يخاف وقالوا منه: يتساولان بالواو فيجوز كون التسويل من السول على هذه اللغة أو هو على المشهورة خفف بقلب الهمزة ثم التزم، ونظيره تدير من الدار لاستمرار هذا الذي أظهره سبحانه لتفضيحهم، وقال الإمام: الأظهر أن يقال المراد يعلم سبحانه ما في قلوبهم من العلم بصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه ما لا يخفى، والجملة اعتراض مقرر لما قبله متضمن للوعيد، والفاء في قوله سبحانه: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها، «وكيف» منصوب بفعل محذوف هو العامل في الظرف كأنه قيل: يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيل فكيف يفعلون إذا توفتهم الملائكة، وقيل: مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي فكيف حالهم أو حيلتهم إذا توفتهم إلخ، وزعم الطبري أن التقدير فكيف علمه تعالى بأسرارهم إذا توفتهم إلخ، وليس بشيء، ووقت التوفي هو وقت الموت، والملائكة عليهم السلام ملك الموت وأعوانه. وقرأ الأعمش «توفاهم» بالألف بدل التاء فاحتمل أن يكون ماضيا وأن يكون مضارعا حذف منه أحد تاءيه والأصل تتوفاهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ حال من الملائكة، وجوز كونه حالا من ضمير تَوَفَّتْهُمُ وضعفه أبو حيان، وهو على ما قيل تصوير لتوفيهم على أهول الوجوه وأفظعها وإبراز لما يخافون منه ويجبنون عن القتال لأجله فإن ضرب الوجوه والأدبار في القتال والجهاد مما يتقى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره، والكلام على الحقيقة عنده ولا مانع من ذلك وإن لم يحس بالضرب من حضر وما ذلك إلا كسؤال الملكين وسائر أحوال البرزخ.

والمراد بالوجه والدبر قيل العضوان المعروفان. أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال: يضربون وجوههم وأستاههم ولكن الله سبحانه كريم يكني، وقال الراغب وغيره: المراد القدام والخلف، وقيل: وقت التوفي وقت سوقهم في القيامة إلى النار والملائكة ملائكة العذاب يومئذ، وقيل: هو وقت القتال والملائكة ملائكة النصر تضرب وجوههم إن ثبتوا وأدبارهم إن هربوا نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلا القولين كما ترى ذلِكَ التوفي الهائل بِأَنَّهُمُ أي بسبب أنهم اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الكفر والمعاصي وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ ما يرضاه عز وجل من الإيمان والطاعات حيث كفروا بعد الإيمان وخرجوا عن الطاعة بما صنعوا من المعاملة مع إخوانهم اليهود، وقيل: ما أسخط الله كتمان نعت الرسول صلى الله عليه وسلم ورضوانه ما يرضيه سبحانه من إظهار ذلك، وهو مبني على أن ما تقدم إخبار عن اليهود وقد سمعت ما فيه، ولما كان اتباع ما أسخط الله تعالى مقتضيا للتوجه ناسب ضرب الوجه وكراهة رضوانه سبحانه مقتضيا للاعراض ناسب ضرب الدبر ففي الكلام مقابلة بما يشبه اللف والنشر فَأَحْبَطَ لذلك أَعْمالَهُمْ التي عملوها حال إيمانهم من الطاعات، وجوز أن يراد ما كان بعد من أعمال البر التي لو عملوها حال الإيمان لانتفعوا بها.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم المنافقون الذين فصلت أحوالهم الشنيعة وصفوا بوصفهم السابق لكونه مدارا لما نعى عليهم بقوله تعالى: أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ فأم منقطعة وأن مخففة من أن واسمها ضمير الشأن والجملة بعدها خبرها، والأضغان جمع ضغن وهو الحقد وقيده الراغب بالشديد وقد ضغن بالكسر وتضاغن القوم واضطغنوا أبطنوا الأحقاد، ويقال: اضطغنت الصبي إذا أخذته تحت حضنك وأنشد الأحمر:

كأنه مضطغن صبيا

ص: 230

وفرس ضاغن لا يعطي ما عنده من الجري إلا الضرب، وأصل الكلمة من الضغن وهو الالتواء والاعوجاج في قوائم الدابة والقناة وكل شيء، قال بشر: كذات الضغن تمشي في الرقاق. وأنشد الليث: القلب في ديار وكذلك تحيز لاستمرار القلب في حيز ويكون مآل المعنى على هذا حملهم على الشهوات.

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «سوّل لهم» مبنيا للمفعول وخرج ذلك على تقدير مضاف أي كيد الشيطان سول لهم، وجوز تقديره سول كيده لهم فحذف وقام الضمير المجرور مقامه فارتفع واستتر، قيل: وهو أولى لأنه تقدير في وقت الحاجة ولا يخفى أن الأول أقل تكلفا.

وَأَمْلى لَهُمْ أي ومد لهم الشيطان في الأماني والآمال، ومعنى المد فيها توسيعها وجعلها ممدودة بنفسها أو بزمانها بأن يوسوس لهم بأنكم تنالون في الدنيا كذا وكذا مما لا أصل له حتى يعوقهم عن العمل، وأصل الإملاء الإبقاء ملاوة من الدهر أي برهة، ومنه قيل: المعنى وعدهم بالبقاء الطويل، وجعل بعضهم فاعل «أملى» ضميره تعالى، والمعنى أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة وفيه تفكيك لكن أيد بقراءة مجاهد وابن هرمز والأعمش وسلام ويعقوب «وأملي» بهمزة المتكلم مضارع أملى فإن الفاعل حينئذ ضميره تعالى على الظاهر والأصل توافق القراءتين، وجوز أن يكون ماضيا مجهولا من المزيد سكن آخره للتخفيف كما قالوا في بقي بقي بسكون الياء.

وعلى الظاهر جوز أن تكون الواو للاستئناف وأن تكون للحال ويقدر مبتدأ بعدها أي وأنا أملي لئلا يكون شاذا كقمت وأصك وجهه، وجوزت الحالية في قراءة الجمهور أيضا على جعل الفاعل ضميره تعالى فحينئذ تقدر قد على المشهور. وقرأ ابن سيرين والجحدري وشيبة وأبو عمرو وعيسى «وأملي» بالبناء للمفعول. فلهم: نائب الفاعل أي أمهلوا ومد في أعمارهم، وجوز أن يكون ضمير الشيطان والمعنى أمهل الشيطان لهم أي جعل من المنظرين إلى يوم القيامة لأجلهم ففيه بيان لاستمرار ضلالهم وتقبيح حالهم ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم لا إلى الإملاء كما نقل عن الواحدي ولا إلى التسويل كما قيل لأن شيئا منهما ليس مسببا من القول الآتي، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى:

بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم قالُوا يعني المنافقين لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ هم بنو قريظة. والنضير من اليهود الكارهين لنزول القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام مع علمهم بأنه من عند الله تعالى حسدا وطمعا في نزوله على أحد منهم سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ أي في بعض أموركم وأحوالكم وهو ما حكي عنهم في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر: 11] وقيل: في بعض ما تأمرون به كالتناصر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: القائلون اليهود الكافرون به صلى الله عليه وسلم بعد ما وجدوا نعته الشريف في كتابهم والمقول لهم المنافقون كان اليهود يعدونهم النصرة إذا أعلنوا بعداوة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقيل: القائلون أولئك اليهود والمقول لهم المشركون كانوا يعدونهم النصرة أيضا إذا حاربوا. وتعقب كلا القولين بأن كفر اليهود به عليه الصلاة والسلام ليس بسبب هذا القول ولو فرض صدوره عنهم على رأي القائل بل من حيث إنكارهم بعثه عليه الصلاة والسلام وقد عرفوه كما عرفوا أبناءهم وآباءهم، ومنه يعلم ما في قول بعضهم: إن القائلين هم المنافقون واليهود والمقول لهم المشركون، وما فسرنا به الآية الكريمة مروي عن الحبر رضي الله تعالى عنه وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ أي إخفاءهم ما يقولونه لليهود أو كل قبيح ويدخل ذلك دخولا أوليا. وقرأ الجمهور «أسرارهم» بفتح الهمزة أي يعلم الأشياء التي يسرونها ومنها قولهم:

إن قناتي من صليبات القنا

ما زادها التثقيف إلا ضغنا

والحقد في القلب يشبه به: وقال الليث، وقطرب: الضغن العداوة قال الشاعر:

ص: 231

قل لابن هند ما أردت بمنطق

ساء الصديق وشيد الأضغانا

وهذا لا ينافي الأول لأن الحقد العداوة لأمر يخفيه المرء في قلبه، والإخراج مختص بالأجسام، والمراد به هنا الإبراز أي بل أحسب الذين في قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين انه لن يبرز الله تعالى أحقادهم ويظهرها للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فتبقى مستورة، والمعنى أن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الاحتمال. وَلَوْ نَشاءُ إراءتك إياهم لَأَرَيْناكَهُمْ أي لعرفناكهم على أن الرؤية علمية فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ تفريع لمعرفته صلى الله عليه وسلم على تعريف الله عز وجل، ويجوز أن تكون الرؤية بصرية على أن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم يعرفهم معرفة متفرعة على إراءته إياهم، والالتفات إلى نون العظمة للإيماء إلى العناية بالإراءة، والسيما العلامة، والمعنى هنا على الجمع لعمومها بالإضافة لكنها أفردت للإشارة إلى أن علاماتهم متحدة الجنس فكأنها شيء واحد أي فلعرفتهم بعلامات نسمهم بها ولام فَلَعَرَفْتَهُمْ كلام لأريناكهم الواقعة في جواب لو لأن المعطوف على الجواب جواب، وكررت في المعطوف للتأكيد، وأما التي في قوله، تعالى:

وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ فواقعة في جواب قسم محذوف والجملة معطوفة على الجملة الشرطية ولَحْنِ الْقَوْلِ أسلوب من أساليبه مطلقا، أو المائلة عن الطريق المعروفة كان يعدل عن ظاهره من التصريح إلى التعريض والإبهام، ولذا سمي خطأ الإعراب به لعدوله عن الصواب، وقال الراغب: اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه إما بإزالة الإعراب أو التصحيف وهو المذموم وذلك أكثر استعمالا، وإما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى وهو محمود من حيث البلاغة، وإليه أشار بقوله الشاعر عند أكثر الأدباء:

منطق صائب وتلحن أحيا

نا وخير الحديث ما كان لحنا

وإياه قصد بقوله تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وفي البحر يقال: لحنت له بفتح الحاء ألحن لحنا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره، ولحنه هو بالكسر فهمه والحنته أنا إياه ولاحنت الناس فاطنتهم، وقيل: لحن القول الذهاب عن الصواب، وعن ابن عباس لَحْنِ الْقَوْلِ هنا قولهم ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا من العقاب وكان هذا الذي ينبغي منهم، وقال بعض من فسره بالأسلوب المائل عن الطريق المعروفة: إنهم كانوا يصطلحون فيما بينهم على ألفاظ يخاطبون بها الرسول صلى الله عليه وسلم مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح وكانوا أيضا يتكلمون بما يشعر بالاتباع وهم بخلاف ذلك كقولهم إذا دعاهم المؤمنون إلى نصرهم: انا معكم، وبالجملة أنهم كانوا يتكلمون بكلام ذي دسائس وكان صلى الله عليه وسلم يعرفهم بذلك، وعن أنس رضي الله تعالى عنه ما خفي بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من المنافقين كان عليه الصلاة والسلام يعرفهم بسيماهم ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب هذا منافق. وفي دعواه أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم بسيماهم أشكال فإن لَوْ ظاهرها عدم الوقوع بل المناسب معرفتهم من لحن القول، وكأنه حمله على أنه وعد بالوقوع دال على الامتناع فيما سلف، ولقد صدق وعده واستشهد عليه بما اتفق في بعض الغزوات، ولا تنحصر السيما بالكتابة بل تكون بغيرها أيضا مما يعرفهم به النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرف القائف حال الشخص بعلامات تدل عليه، وكثيرا ما يعرف الإنسان محبه ومبغضه من النظر ويكاد النظر ينطق بما في القلب، وقد شاهدنا غير واحد يعرف السني والشيعي بسمات في الوجه، وإن صح أن بعض الأولياء قدست أسرارهم كان يعرف البر والفاجر والمؤمن والكافر ويقول أشم من فلان رائحة الطاعة ومن فلان رائحة المعصية ومن فلان رائحة الإيمان ومن فلان رائحة الكفر ويظهر الأمر حسبما أشار فرسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المعرفة أولى وأولى ولعلها بعلامات وراء طور عقولنا، والنور المذكور

في خبر «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى»

متفاوت الظهور بحسب القابليات وللنبي صلى الله عليه وسلم أتمه، وذكروا من علامات النفاق بغض علي كرم الله تعالى وجهه.

ص: 232

فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم علي ابن أبي طالب. وأخرج هو وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري ما يؤيده، وعندي أن بغضه رضي الله تعالى عنه من أقوى علامات النفاق فإن آمنت بذلك فيا ليت شعري ماذا تقول في يزيد الطريد أكان يحب عليا كرم الله تعالى وجهه أم كان يبغضه، ولا أظنك في مرية من أنه عليه اللعنة كان يبغضه رضي الله تعالى عنه أشد البغض وكذا يبغض ولديه الحسن والحسين على جدهما وأبويهما وعليهما الصلاة والسلام كما تدل على ذلك الآثار المتواترة معنى، وحينئذ لا مجال لك من القول بأن اللعين كان منافقا، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة علامات النفاق غير ما ذكر

كقوله عليه الصلاة والسلام: «علامات المنافق ثلاث» الحديث

لكن قال العلماء هي علامات للنفاق العملي لا الإيماني، وقيل:

الحديث خارج مخرج التنفير عن اتصاف المؤمن المخلص بشيء منها لما أنها كانت إذ ذاك من علامات المنافقين.

واستدل بقوله تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ من جعل التعريض بالقذف موجبا الحد، ولا يخفى حاله وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ فيجازيكم عليها بحسب قصدكم وهذا على ما قيل وعد للمؤمنين وإيذان بأن حالهم بخلاف حال المنافقين وقيل: وعيد للمنافقين وإيذان لهم بأن المجزى عليه ما يقصدونه لا ما يعرضون أو يورون به، واستظهر أنه خطاب عام فهو وعد ووعيد، وحمل على العموم قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بالأمر بالجهاد ونحوه من التكاليف الشاقة حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ على مشاق التكاليف علما فعليا يتعلق به الجزاء، وفي معناه ما قيل:

أي حتى يظهر علمنا، وقال ابن الحاجب في ذلك: العلم يطلق باعتبار الرؤية والشيء لا يرى حتى يقع يعني على المشهور وهو هنا بمعنى ذلك أو بمعنى المجازاة، والمعنى حتى نجازي المجاهدين منكم والصابرين وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ فيظهر حسنها وقبيحها، والكلام كناية عن بلاء أعمالهم فإن الخبر حسنه وقبيحه على حسب المخبر عنه فإذا تميز الحسن عن الخبر القبيح فقد تميز المخبر عنه وهو العمل كذلك، وهذا أبلغ من نبلو أعمالكم، والظاهر عموم الأخبار، وجوز كون المراد بها اخبارهم عن إيمانهم وموالاتهم للمؤمنين على أن إضافتها للعهد أي ونبلو أخبار إيمانكم وموالاتكم فيظهر صدقها وكذبها. وقرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة المسندة إلى ضمير العظمة بالياء، وقرأ رويس «ونبلو» بالنون وسكون الواو، والأعمش بسكونها وبالياء فالفعل مرفوع بضمة مقدرة بتقدير ونحن نبلو والجملة حالية، وجوز أن يكون منصوبا كما في قراءة الجمهور سكن للتخفيف كما في قوله:

أبى الله أن أسمو بأم ولا أب إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ صاروا في شق غير شقه، والمراد عادوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لما شاهدوا من نعته عليه الصلاة والسلام في التوراة أو بما ظهر على يديه صلى الله عليه وسلم من المعجزات ونزل عليه عليه الصلاة والسلام من الآيات وهم بنو قريظة والنضير أو المطعمون يوم بدر وقد تقدم ذكرهم، وقيل: أناس نافقوا بعد أن آمنوا لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ بكفرهم وصدهم شَيْئاً من الأشياء أو شيئا من الضرر أو لن يضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشاقته شيئا وقد حذف المضاف لتعظيمه عليه الصلاة والسلام بجعل مضرته وما يلحقه كالمنسوب إلى الله تعالى وفيه تفظيع مشاقته صلى الله عليه وسلم.

وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ في مكايدهم التي نصبوها في إبطال دينه تعالى ومشاقة رسوله عليه الصلاة والسلام فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل ولا تثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم ونحو ذلك، وجوز أن يراد أعمالهم التي عملوها في دينهم يرجون بها الثواب.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ قيل: إن بني أسد أسلموا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا كأنهم منوا بذلك فنزلت فيهم هذه وقوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا

ص: 233

[الحجرات: 17] ومن هنا قيل المعنى لا تبطلوا أعمالكم بالمن بالإسلام، وعن ابن عباس بالرياء والسمعة وعنه أيضا بالشك والنفاق، وقيل: بالعجب فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وقيل: المراد بالأعمال الصدقات أي تبطلوها بالمن والأذى، وقيل: لا تبطلوا طاعاتكم بمعاصيكم، أخرج عبد بن حميد وابن جرير. عن قتادة أنه قال في الآية: من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا بعمل سوء فليفعل ولا قوة إلا بالله تعالى، وأخرج عبد بن حميد ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة. وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فخافوا أن يبطل الذنب العمل، ولفظ عبد بن حميد فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالهم، وأخرج ابن نصر وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كنا معاشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبولا حتى نزلت أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا: قد هلك حتى نزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك وكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجونا له، واستدل المعتزلة بالآية على أن الكبائر تحبط الطاعات بل الكبيرة الواحدة تبطل مع الإصرار الأعمال ولو كانت بعدد نجوم السماء، وذكروا في ذلك من الأخبار ما ذكروا. وفي الكشف لا بد في هذا المقام من تحرير البحث بأن يقال: إن أراد المعتزلة أن نحو الزنا إذا عقب الصلاة يبطل ثوابها مثلا فهذا لا دليل عليه نقلا وعقلا بل هما متعادلان على ما دل عليه صحاح الأحاديث، وكفى بقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7- 8] حجة بالغة، وإن أرادوا أن عقابه قد يكبر حتى لا يعادله صغار الحسنات فهذا صحيح والكلام حينئذ في تسميته إحباطا، ولا بأس به لكن عندنا أن هذا الإحباط غير لازم وعندهم لازم، وهو مبني على جواز العفو وهي مسألة أخرى، وأما الكبيرة التي تختص بذلك العمل كالعجب ونحو المن والأذى بعد التصدق فهي محبطة لا محالة اتفاقا، وعليه يحمل ما نقل من الآثار، ومن لا يسميه إحباطا لأنه يجعله شرطا للقبول والإحباط أن يصير الثواب زائلا وهذا لا يتأتى إذا لم يثبت له ثواب فله ذلك، وهو أمر يرجع إلى الاصطلاح انتهى وهو من الحسن بمكان وإعادة الفعل في «وأطيعوا الرسول» للاهتمام بشأن إطاعته عليه الصلاة والسلام إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ امتنعوا عن الدخول في الإسلام وسلوك طريقه أوصدوا الناس عنه ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ نزلت في أهل القليب كما قيل، وحكمها عام كما قال غير واحد في كل من مات على كفره، وهو ظاهر على التفسير الأول لصدوا عن سبيل الله، وأما على التفسير الثاني له فقيل عليه: إن العموم مع تخصيص الكفر بصد الناس عن الإسلام محل نظر ويفهم من كلام بعض الأجلة أن العموم لأن مدار عدم المغفرة هو الاستمرار على الكفر حسبما يشعر اعتباره قيدا في الكلام فتدبر. واستدل بمفهوم الآية بعض القائلين بالمفهوم على أنه تعالى قد يغفر لمن لم يمت على كفره سائر ذنوبه فَلا تَهِنُوا أي إذا علمتم أن الله تعالى مبطل أعمالهم ومعاقبهم فهو خاذلهم في الدنيا والآخرة فلا تبالوا بهم ولا تظهروا ضعفا، فالهاء فصيحة في جواب شرط مفهوم مما قبله، وقيل: هي لترتيب النهي على ما سبق من الأمر بالطاعة وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ عطف على تَهِنُوا داخل في حيز

النهي أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح خورا وإظهارا للعجز فإن ذلك إعطاء الدنية، وجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن فيعطف المصدر المسبوك على مصدر متصيد مما قبله كقوله: لا تنه عن خلق وتأتي مثله. واستدل الكيا بهذا النهي على منع مهادنة الكفار إلا عند الضرورة. وعلى تحريم ترك الجهاد إلا عند العجز، وقرأ السلمي «وتدّعوا» بتشديد الدال من ادعى بمعنى دعا، وفي الكشاف ذكر لا في هذه القراءة، ولعلي ذلك رواية أخرى، وقرأ

ص: 234

الحسن وأبو رجاء والأعمش: وعيسى وطلحة وحمزة وأبو بكر «السلم» بكسر السين وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي الأغلبون، والعلو بمعنى الغلبة مجاز مشهور، والجملة حالية مقررة لمعنى النهي مؤكدة لوجوب الانتهاء وكذا قوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَكُمْ أي ناصركم فإن كونهم الأغلبين وكونه عز وجل ناصرهم من أقوى موجبات الاجتناب عما يوهم الذل والضراعة.

وقال أبو حيان: يجوز أن يكونا جملتين مستأنفتين أخبروا أولا أنهم الأعلون وهو إخبار بمغيب أبرزه الوجود ثم ارتقى إلى رتبة أعلى من التي قبلها وهي كون الله تعالى معهم وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ قال: ولن يظلمكم، وقيل: ولن ينقصكم، وقيل: ولن يضيعها، وهو كما قال أبو عبيد. والمبرد من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم أو سلبته ماله وذهبت به، قال الزمخشري: وحقيقته أفردته من قريبه أو ماله من الوتر وهو الفرد، فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر وهو من فصيح الكلام، وفيه هنا من الدلالة على مزيد لطف الله تعالى ما فيه، ومنه

قوله صلى الله عليه وسلم: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله»

والظاهر على ما ذكره أنه لا بد من تضمين وترته معنى السلب ونحوه ليتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه، وفي الصحاح أنه من الترة وحمله على نزع الخافض أي جعلته موتورا لم يدرك ثاره في ذلك كأنه نقصه فيه وجعله نظير دخلت البيت أي فيه وهو سديد أيضا.

وجوز بعضهم (يتر) هاهنا متعديا لواحد وأَعْمالَكُمْ بدل من ضمير الخطاب أي لن يتر أعمالكم من ثوابها والجملة قيل معطوفة على قوله تعالى: مَعَكُمْ وهي وإن لم تقع حالا استقلالا لتصديرها بحرف الاستقبال المنافي للحال على ما صرح به العلامة التفتازاني وغيره لكنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره، وقيل: المانع من وقوع المصدرة بحرف الاستقبال حالا مخالفته للسماع وإلا فلا مانع من كونها حالا مقدرة مع أنه يجوز أن تكون لَنْ لمجرد تأكيد النفي، والظاهر أن المانعين بنوا المنع على المنافاة وإنها إذا زالت باعتبار أحد الأمرين فلا منع لكن قيل:

إن الحال المقصود منها بيان الهيئة غير الحال الذي هو أحد الأزمنة والمنافاة إنما هي بين هذا الحال والاستقبال. وهذا نظير ما قال مجوزو مجيء الجملة الماضية حالا بدون قد، وما لذلك وما عليه في كتب النحو، وإذا جعلت الجملة قبل مستأنفة لم يكن إشكال في العطف أصلا.

إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لا ثبات لها ولا اعتداد بها وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ أي ثواب إيمانكم وتقواكم من الباقيات الصالحات التي يتنافس فيها المتنافسون وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ عطف على الجزاء والإضافة للاستغراق، والمعنى إن تؤمنوا لا يسألكم جميع أموالكم كما يأخذ من الكافر جميع ماله، وفيه مقابلة حسنة لقوله تعالى: يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ كأنه قيل: يعطكم كل الأجور ويسألكم بعض المال وهو ما شرعه سبحانه من الزكاة، وقول سفيان بن عيينة أي لا يسألكم كثيرا من أموالكم إنما يسألكم ربع العشر فطيبوا أنفسكم بيان لحاصل المعنى، وقيل: أي لا يسألكم ما هو ما لكم حقيقة وإنما يسألكم ماله عز وجل وهو المالك لها حقيقة وهو جل شأنه المنعم عليكم بالانتفاع بها، وقيل: أي لا يسألكم أموالكم لحاجته سبحانه إليها بل ليرجع إنفاقكم إليكم، وقيل: أي لا يسألكم الرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة كما قال تعالى: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] ووجه التعليق عليها غير ظاهر وفي بعضها أيضا ما لا يخفى إِنْ يَسْئَلْكُمُوها أي أموالكم فَيُحْفِكُمْ فيجهدكم بطلب الكل فإن الإحفاء والإلحاف المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء يقال: أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح وأحفى شاربه استأصله وأخذه أخذا متناهيا، وأصل ذلك على ما قال الراغب من أحفيت الدابة جعلته حافيا أي منسحج الحافر والبعير جعلته منسحج الفرسن من المشي حتى يرق تَبْخَلُوا جواب

ص: 235

الشرط، والمراد بالبخل هنا ترك الإعطاء إذ هو على المعنى المشهور أمر طبيعي لا يترتب على السؤال وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أي أحقادكم لمزيد حبكم للمال وضمير يُخْرِجْ لله تعالى ويعضده قراءة يعقوب. ورويت أيضا عن ابن عباس «ونخرج» بالنون مضمومة، وجوز أن يكون للسؤال أو للبخل فإنه سبب إخراج الأضغان والإسناد على ذلك مجازي. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «ويخرج» بالرفع على الاستئناف، وجوز جعل الجملة حالا بتقدير وهو يخرج وحكاها أبو حاتم عن عيسى، وفي اللوامح عن عبد الوارث عن أبي عمرو وَيُخْرِجْ بالياء التحتية وفتحها وضم الراء والجيم «أضغانكم» بالرفع على الفاعلية.

وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن سيرين وابن محيصن وأيوب بن المتوكل واليماني «وتخرج» بتاء التأنيث ورفع «أضغانكم» ، وقرىء «ويخرج» بضم الياء التحتية وفتح الراء «أضغانكم» رفعا على النيابة عن الفاعل وهي كروية عن عيسى إلا أنه فتح الجيم بإضمار أن فالواو عاطفة على مصدر متصيد أي يكن بخلكم وإخراج أضغانكم.

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي أنتم أيها المخاطبون هؤلاء الموصوفون بما تضمنه قوله تعالى: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها إلخ، والجملة مبتدأ وخبر وكررت ها التنبيهية للتأكيد، وقوله سبحانه: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلخ استئناف مقرر ومؤكد لذلك لاتحاد محصل معناهما فإن دعوتهم للإنفاق هو سؤل الأموال منهم وبخل ناس منهم هو معنى عدم الإعطاء المذكور مجملا أولا أو صلة لهؤلاء على أنه بمعنى الذين فإن اسم الإشارة يكون موصولا مطلقا عند الكوفيين وأما البصريون فلم يثبتوا اسم الإشارة موصولا إلا إذا تقدمه ما الاستفهامية باتفاق أو من الاستفهامية باختلاف، والإنفاق في سبيل الله تعالى هو الإنفاق المرضي له تعالى شأنه مطلقا فيشمل النفقة للعيال والأقارب والغزو وإطعام الضيوف والزكاة وغير ذلك وليس مخصوصا بالإنفاق للغزو أو بالزكاة كما قيل.

فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ أي ناس يبخلون وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ فلا يتعدى ضرر بخله إلى غيرها يقال: بخلت عليه وبخلت عنه لأن البخل فيه معنى المنع ومعنى التضييق على من منع عنه المعروف والأضرار فناسب أن يعدى بعن للأول وبعلى للثاني، وظاهر أن من منع المعروف عن نفسه فأضراره عليها فلا فرق بين اللفظين في الحاصل، وقال الطيبي: يمكن أن يقال يبخل عن نفسه على معنى يصدر البخل عن نفسه لأنها مكان البخل ومنبعه كقوله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر: 9، التغابن: 16] وهو كما ترى وَاللَّهُ الْغَنِيُّ لا غيره عز وجل وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ الكاملون في الفقر فما يأمركم به سبحانه فهو لاحتياجكم إلى ما فيه من المنافع التي لا تقتضي الحكمة إيصالها بدون ذلك فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم، وقوله تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عطف على قوله سبحانه:

إِنْ تُؤْمِنُوا أي وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يخلق مكانكم قوما آخرين وهو كقوله تعالى: يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إبراهيم: 19] ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في التولي عن الإيمان والتقوى بل يكونون راغبين فيهما.

وثم للتراخي حقيقة أو لبعد المرتبة عما قبل، والمراد بهؤلاء القوم أهل فارس،

فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط. والبيهقي في الدلائل والترمذي وهو حديث صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وَإِنْ تَتَوَلَّوْا إلخ فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونون أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال: هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس» .

وجاء في رواية ابن مردويه عن جابر الدين بدل الإيمان، وقيل: هم الأنصار، وقيل: أهل اليمن، وقيل: كندة.

ص: 236

والنخع، وقيل: العجم، وقيل: الروم، وقيل: الملائكة وحمل القوم عليهم بعيد في الاستعمال، وحيث صح الحديث فهو مذهبي.

والخطاب لقريش أو لأهل المدينة قولان والظاهر أنه للمخاطبين قبل والشرطية غير واقعة، فعن الكلبي شرط في الاستبدال توليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل سبحانه قوما غيرهم والله تعالى أعلم. ومما قاله بعض أرباب الإشارة في بعض الآيات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ نصرة الله تعالى من العبد على وجهين صورة ومعنى، أما نصرته تعالى في الصورة فنصرة دينه جل شأنه بإيضاح الدليل وتبيينه وشرح فرائضه وسننه وإظهار معانيه وأسراره وحقائقه ثم بالجهاد عليه وإعلاء كلمته وقمع أعدائه وأما نصرته في المعنى فبافناء الناسوت في اللاهوت، ونصرة الله سبحانه للعبد على وجهين أيضا صورة ومعنى، أما نصرته تعالى للعبد في الصورة فبإرسال الرسل وإنزال الكتب وإظهار المعجزات والآيات وتبيين السبل إلى النعيم والجحيم، ثم بالأمر بالجهاد الأصغر والأكبر وتوفيق السعي فيهما طلبا لرضاه عز وجل، وأما نصرته تعالى له في المعنى فبافناء وجوده في وجوده سبحانه بتجلي صفات جماله وجلاله مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ يشير إلى جنة قلوب أرباب الحقائق الذين اتقوا عما سواه جل وعلا فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ هو ماء الحياة الروحانية لم يتغير بطول المكث وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ وهو العلم الحقاني الذي هو غذاء الأرواح أو لبن الفطرة التي فطر الناس عليها لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ بحموضة الشكوك والأوهام أو الأهواء والبدع وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وهي خمر الشوق والمحبة:

يقولون لي صفها فأنت بوصفها

خبير أجل عندي بأوصافها علم

صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى

ونور ولا نار وروح ولا جسم

وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ وهو عسل الوصال مُصَفًّى عن كدر الملال وخوف الزوال وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ اللذائذ الروحانية وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ستر لذنب وجودهم كما قيل:

وجودك ذنب لا يقاس به ذنب كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ نار الجفاء وَسُقُوا ماءً حَمِيماً وهو ماء الخذلان فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ من الحرمان وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وهي ظلمة في وجوههم تدرك بالنظر الإلهي قيل: المؤمن ينظر بنور الفراسة والعارف بنور التحقيق والنبي عليه الصلاة والسلام ينظر بالله عز وجل، وقيل: كل من رزق قرب النوافل ينظر به تعالى

لحديث «لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» الحديث

وحينئذ يبصر كل شيء، ومن هنا كان بعض الأولياء الكاملين يرى على ما حكي عنه أعمال العباد حين يعرج بها وسبحان السميع البصير اللطيف الخبير.

ص: 237