الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأعراف
أخرج أبو الشيخ، وابن حبان، عن قتادة قال: هي مكية إلا آية وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ [الأعراف: 163]، وقال غيره: إن هذا إلى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ [الأعراف: 172] مدني: وأخرج غير واحد عن ابن عباس. وابن الزبير أنها مكية ولم يستثنيا شيئا، وهي مائتان وخمس آيات في البصري والشامي وست في المدني والكوفي- فالمص.
وبدأكم تعودون- كوفي ومُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف: 29] بصري شامي وضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الأعراف:
38] والْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الأعراف: 137] مدني وكلها محكم، وقيل: إلا موضعين، الأول وَأُمْلِي لَهُمْ [الأعراف: 183] فإنه نسخ بآية السيف والثاني خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف: 199] فإنه نسخ بها أيضا عند ابن زيد، وادعى أيضا أن وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] كذلك وفيما ذكر نظر، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. ومناسبتها لما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام: 2] وقال سبحانه في بيان القرون كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام: 6، ص: 3] وأشير إلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم وكان ما ذكر على وجه الإجمال جيء بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحه وتفصيله فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام:
165] ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله في الأرض خليفة، وقال سبحانه في قصة عاد: جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف: 69] وفي قصة ثمود جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الأعراف: 74] وأيضا فقد قال سبحانه فيما تقدم كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 12] وهو كلام موجز وبسطه سبحانه هنا بقوله تعالى:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 156] إلخ، وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه قد تقدم وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 155] وافتتح هذه بالأمر باتباع الكتاب، وأيضا لما تقدم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الأنعام: 108] قال جل شأنه في مفتتح هذه: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف: 6] إلخ وذلك من شرح التنبئة المذكورة. وأيضا لما قال سبحانه مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ [الأنعام:
160] الآية وذلك لا يظهر إلا في الميزان افتتح هذه بذكر الوزن فقال عز من قائل: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ
[الأعراف: 8] ثم من ثقلت موازينه وهو من زادت حسناته على سيئاته ثم من خفت وهو على العكس ثم ذكر سبحانه بعد أصحاب الأعراف وهم في أحد الأقوال من استوت حسناتهم وسيئاته.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. المص سبق الكلام في مثله وبيان ما فيه فلا حاجة إلى الإعادة خلا أنه قيل هنا: إن معنى المصور وروي ذلك عن السدي، وأخرج البيهقي وغيره عن ابن عباس أن المعنى أنا الله أعلم وأفصل واختاره الزجاج وروي عن ابن جبير، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه وكذا نظائره قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه سبحانه. وعن الضحاك أن معناه أنا الله الصادق، وعن محمد بن كعب القرظي أن الألف واللام من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد، وقيل: المراد به أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] .
وذكر بعضهم أنه ما من سورة افتتحت- بالم- إلا وهي مشتملة على ثلاثة أمور: بدء الخلق. والنهاية التي هي المعاد والوسط الذي هو المعاش وإليها الإشارة بالاشتمال على المخارج الثلاثة الحلق واللسان والشفتين. وزيد في هذه الصورة على ذلك الصاد لما فيها مع ما ذكر من شرح القصص وهو كما ترى والله تعالى أعلم بمراده.
وقوله سبحانه: كِتابٌ على بعض الاحتمالات خبر لمبتدأ محذوف أي هو أو ذلك كتاب، وقوله سبحانه:
أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي من عنده تعالى صفة له مشرّفة لقدره وقدر من أنزل إليه صلى الله عليه وسلم. وبني الفعل للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهور تعينه وهو السر في ترك ذكر مبدأ الإنزال، والتوصيف بالماضي إن كان الكتاب عبارة كالقرآن عن القدر المشترك بين الكل والجزء ظاهر. وإن كان المجموع فلتحققه جعل
كالماضي. واختار الزمخشري ومن وافقه أن المراد بالكتاب هنا السورة وفيه من المبالغة ما لا يخفى إن قلنا: إنه لم يطلق على البعض وإذا قلنا بإطلاقه على ذلك كما في قوله: ثبت هذا الحكم بالكتاب فالأمر واضح. ومن الناس من جوز جعل كِتابٌ مبتدأ والجملة بعده خبره على معنى كتاب أي كتاب أنزل إليك. ولا يخفى أن الأول أولى لأن هدا خلاف الأصل. وحذف المبتدأ أكثر من أن يحصى فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي شك كما قال ابن عباس وغيره. وأصله الضيق واستعماله في ذلك مجاز- كما في الأساس- علاقته اللزوم فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر كما أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه. والقرينة المانعة هو امتناع حقيقة الحرج والضيق من الكتاب وإن جوزتها فهو كناية. وعلى التقديرين هو قد صار حقيقة عرفية في ذلك كما قاله بعض المحققين.
وجوز أن يكون باقيا على حقيقته لكن في الكلام مضاف مقدر كخوف عدم القبول والتكذيب فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف قومه وتكذيبهم وإعراضهم عنه وأذاهم له. ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود: 12] الآية. وللأول قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة: 147، الأنعام: 114، يونس: 94] وقد يقال: إنه كناية عن الخوف والخوف كما يقع على المكروه يقع على سببه.
وتوجيه النهي إلى الحرج بمعنى الشرك مع أن المراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك قيل: إما للمبالغة في تنزيه ساحة الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك فإن النهي عن الشيء مما يوهم إمكان صدور المنهي عنه عن المنهي وإما للمبالغة في النهي فإن وقوع الشك في صدره عليه الصلاة والسلام سبب لاتصافه وحاشاه به والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني ونفي له بالمرة كما في قوله سبحانه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [المائدة: 2، 8] وليس هذا من قبيل- لا أرينك هاهنا- فإن النهي هناك وارد على المسبب مرادا به النهي عن السبب فيكون المآل نهيه عليه الصلاة والسلام عن تعاطي ما يورث الحرج فتأمل انتهى.
والذي ذهب إليه بعض المحققين أن المراد نهي المخاطب عن التعرض للحرج بطريق الكناية وأنه من قبيل- لا أرينك هاهنا- في ذلك لما أن عدم كون الحرج في صدره من لوازم عدم كونه متعرضا للحرج كما أن عدم الرؤية من لوازم عدم الكون هاهنا فالنافي لكونه من قبيل ذلك إن أراد الفرق بينهما باعتبار أن المراد في أحدهما النهي عن السبب والمراد المسبب وفي الآخر بالعكس فلا ضير فيه. ولهذا عبر البعض باللزوم دون السببية. وإن أراد أنه ليس من الكناية أصلا فباطل. نعم جوز أن يكون من المجاز. والمشهور أن الداعي لهذا التأويل أن الظاهر يستدعي نهي الحرج عن الكون في الصدر والحرج مما لا ينهى وله وجه وجيه فليفهم.
والجملة على تقدير كون الحرج حقيقة- كما يفهمه كلام الكشاف- كناية عن عدم المبالاة بالأعداء. وأيّا ما كان فالتنوين في حَرَجٌ للتحقير، ومن متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع صفة له أي حرج ما كائن منه. والفاء تحتمل العطف إما على مقدر أي بلغه فلا يكن في صدرك إلخ وإما على ما قبله بتأويل الخبر بالإنشاء أو عكسه أي تحقق إنزاله من الله تعالى إليك أولا ينبغي لك الحرج وتحتمل الجواب كأنه قيل: إذا أنزل إليك فلا يكن إلخ.
وقال الفراء إنها اعتراضية، وقال بعض المشايخ هي لترتيب النهي أو الانتهاء على مضمون الجملة إن كان المراد لا يكن في صدرك شك ما في حقيته فإنه مما يوجب انتفاء الشك فيما ذكر بالكلية وحصول اليقين به قطعا، ولترتيب ما ذكر على الأخبار بذلك لا على نفسه إن كان المراد لا يكن فيه شك في كونه كتابا منزلا إليك. وللترتيب على مضمون الجملة أو على الإخبار به إذا كان المراد لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه مخافة أن يكذبوك أو أن تقصر في
القيام بحقه فإن كلا منهما موجب للإقدام على التبليغ وزوال الخوف قطعا وإن كان إيجاب الثاني بواسطة الأول. ولا يخفى ما في أوسط هذه الشقوق من النظر فتدبر.
لِتُنْذِرَ بِهِ أي بالكتاب المنزل. والفعل قيل إما منزل منزلة اللازم أو أنه حذف مفعوله لإفادة العموم، وقد يقال: إنه حذف المفعول لدلالة ما سيأتي عليه. واللام متعلقة بأنزل عند الفراء وجملة النهي معترضة بين العلة ومعلولها وهو المعنى بما نقل عنه أنه على التقديم والتأخير قيل: وهذا مما ينبغي التنبيه له فإن المتقدمين يجعلون الاعتراض على التقديم والتأخير لتخلله بين أجزاء كلام واحد وليس مرادهم أن في الكلام قلبا. ووجه التوسيط إما أن الترتيب على نفس الإنزال لا على الإنزال للإنذار وإما رعاية الاهتمام مع ما في ذلك- على ما قيل- من الإشارة إلى كفاية كل من الإنزال والإنذار في نفي الحرج. أما كفاية الثاني فظاهرة لأن المخوف لا ينبغي أن يخاف من يخوفه ليتمكن من الإنذار على ما يجب. وأما كفاية الأول فلأن كون الكتاب البالغ غاية الكمال منزلا عليه- عليه الصلاة والسلام خاصة من بين سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام يقتضي كونه رحيب الصدر غير مبال بالباطل وأهله، وعن ابن الأنباري أن اللام متعلقة بمتعلق الخبر أي لا يكن الحرج مستقرا في صدرك لأجل الإنذار. وقيل: إنها متعلقة بفعل النهي وهو الكون بناء على جواز تعلق الجار بكان الناقصة لدلالتها على الحدث على الصحيح، وقيل: يجوز أن يتعلق بحرج على معنى أن الحرج للإنذار والضيق له لا ينبغي أن يكون. وقال العلامة الثاني: إنه معمول للطلب أو المطلوب أعني انتفاء الحرج وهذا أظهر لا للمنهي أي الفعل الداخل عليه النهي- كما قيل- لفساد المعنى. وأطلق الزمخشري تعلقه بالنهي، واعترض بأنه لا يتأتى على التفسير الأول للحرج لأن تعليل النهي عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكير مع إيهامه لإمكان صدوره عنه صلى الله عليه وسلم مشعر بأن المنهي عنه ليس بمحذور لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذار والتذكير لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته ولا ريب في فساده، وأما على التفسير الثاني فإنما يتأتى التعليل بالإنذار لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبة خوف حتى يجعل غاية لانتفائه وأنت خبير بأن كون المنهي عنه محذورا لذاته ظاهر ظهور نار القرى ليلا على علم فلا يكاد يتوهم نقيضه. والقول بأنه لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته لا فساد فيه بناء على ما يقتضيه المقام وإن كان بعض غوائله في نفس الأمر أعظم من ذلك وأن الآية ليست نصا في تعليل النهي بالإنذار والتذكير كما سيتضح لك قريبا إن شاء الله تعالى حتى يتأتى الاعتراض نظرا للتفسير الثاني، سلمنا أنها نص لكنا نقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك من قبيل قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح: 1، 2] الآية وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ نصب بإضمار فعله عطفا على «تنذر» أي وتذكر المؤمنين تذكيرا.
ومنع الزمخشري فيما نقل عنه العطف بالنصب على محل لِتُنْذِرَ معللا بأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل المعلل واحد حتى يجوز حذف اللام منه.
ويمكن- كما في الكشف- أن يقال: لا منع من أن يكون التذكير فعل المنزل الحق تعالى إلا أنه يفوت التقابل بين الإنذار والتذكير. نعم يحتمل الجر بالعطف على المحل أي للإنذار والتذكير. ويحتمل الرفع على أنه معطوف على «كتاب» أو خبر مبتدأ محذوف أي هو ذكرى، والفرق بين الوجهين- على ما في الكشف- أن الأول معناه أن هذا جامع بين الأمرين كونه كتابا كاملا في شأنه بالغا حد الإعجاز في حسن بيانه وكونه ذكرى للمؤمنين يذكرهم المبدأ والمعاد والثاني يفيد أن هذا المقيد بكونه كتابا من شأنه كيت وكيت هو ذكرى للمؤمنين ويكون من عطف الجملة على الجملة فيفيد استقلاله بكل من الأمرين وهذا أولى لفظا ومعنى وتخصيص التذكير بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به أو للإيذان باختصاص الإنذار بالكافرين. وتقديم الإنذار لأنه أهم بحسب المقام اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
خطاب لكافة المكلفين، والمراد بالموصول الكتاب المنزل إليه صلى الله عليه وسلم كما روي عن قتادة إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر وجعل منزلا إليهم لتأكيد وجوب الاتباع وقيل: المراد به ما يعم الكتاب والسنة فليس من وضع المظهر موضع المضمر. وإيثاره لفائدة التعميم وتشميم من أسلوب قول الأنمارية هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها وتتميم لشرح الصدر فإنه لما شجع أمر الجميع باتباع جميع ما يرسمه ليكون ادعى لانشراح صدره عليه الصلاة والسلام ورحب ذراعه.
ولا يخفى أن هذا الحمل بعيد. نعم يعم السنة بأقسامها الحكم بطريق الدلالة لا بطريق العبارة، ومن متعلقة بأنزل على أنها لابتداء الغاية مجازا أو بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من ضميره في الصلة، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين مزيد لطف بهم وترغيب لهم في الامتثال بما أمروا به وتأكيد لوجوبه إثر تأكيد وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ الضمير المجرور عائد إلى رَبِّكُمْ والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل فعل النهي أي لا تتبعوا متجاوزين ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق أولياء من الشياطين والكهان بأن تقبلوا منهم ما يلقونه إليكم من الأباطيل ليضلوكم عن الحق بعد إذ جاءكم ويحملوكم على البدع والأهواء الزائغة.
ويجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع حالا من أَوْلِياءَ قدم عليه لكونه نكرة أي أولياء كائنة غيره تعالى، وأن يكون متعلقا بالفعل قبله أي تعدلوا عنه سبحانه إلى غيره. ولما كان اتباع ما أنزله سبحانه جل وعلا اتباعا له عز شأنه عقب الأمر السابق بهذا النهي، وقيل: الضمير لما أنزل على حذف مضاف في أَوْلِياءَ أي لا تتبعوا من دون ما أنزل أباطيل أولياء، وكأنه قيل: ولا تتبعوا من دون دين ربكم دين أولياء، وذلك التقدير لأنه لا يحسن وصف المنزل بكونه دونهم، وجوز كون الضمير للمصدر أي لا تتبعوا أولياء أتباعا من دون اتباعكم ما أنزل إليكم وفيه بعد.
وقرأ مجاهد «تبتغوا» بالغين المعجمة من الابتغاء قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تذكرون لا كثيرا حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون الحق وتتبعون غيره. فقليلا نعت مصدر أو زمان محذوف أقيم مقامه ونصبه بالفعل بعده وقدم عليه للقصر، و «ما» مزيد لتأكيد القلة لأنها تفيدها في نحو أكلت أكلا ما فهي هاهنا قلة على قلة، والظاهر من القلة معناها، وجوز أن يراد بها العدم كما في قوله تعالى: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ [البقرة:
88] وأجيز أن يكون قَلِيلًا نعت مصدر لتتبعوا أي اتباعا قليلا، قيل: ويضعفه أنه لا معنى حينئذ لقوله سبحانه:
تَذَكَّرُونَ وأما النهي عن الاتباع القليل فلا يضر لأنه يفهم منه غيره بالطريق البرهاني، وأن يكون حالا من فاعل لا تَتَّبِعُوا وما مصدريه أو موصولة فاعل له كما قيل ذلك في قوله تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ [الذاريات: 17] والنهي متوجه إلى القيد والمقيد جميعا واعترض بأنه لا طائل تحت معناه وأن وجه بما وجه، وأن يكون ما مصدرية أو موصولة مبتدأ، وقَلِيلًا على معنى زمانا قليلا خبره، وقيل: إن ما نافية وقَلِيلًا معمول لما بعده، والكوفيون يجوزون عمل ما بعد ما النافية فيما قبلها، والمعنى ما تذكرون قليلا فكيف تذكرون كثيرا وليس بشيء.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص «تذكرون» بحذف إحدى التاءين وذال مخففة. وقرأ ابن عامر «يتذكرون» بياء تحتية ومثناة فوقية وذال مخففة، وفي طريق شاذة عنه بتاءين فوقيتين. وقرأ الباقون بتاء فوقية وذال مشددة على إدغام التاء المهموسة في الذال المجهورة، والجملة- على ما قاله غير واحد- اعتراض تذييلي مسوق لتقبيح حال المخاطبين، والالتفات على القراءة المشهورة عن ابن عامر للإيذان باقتضاء سوء حالهم في عدم الامتثال بالأمر والنهي صرف الخطاب عنهم، وحكاية جناياتهم لغيرهم بطريق المباتة، ولا حجة في الآية لنفاة القياس كما لا يخفى وَكَمْ
مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها
شروع في تذكيرهم وإنذارهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب بسبب إعراضهم عن دين الله تعالى وإصرارهم على أباطيل أوليائهم، وكَمْ خبرية للتكثير في محل رفع على الابتداء والجملة بعدها خبرها ومِنْ سيف خطيب وقَرْيَةٍ تمييز.
ويجوز أن يكون محل كَمْ نصبا على الاشتغال، وضمير أَهْلَكْناها راجع إلى معنى كم فإن المعنى قرى كثيرة أهلكناها، والمراد بإهلاكها إرادة إهلاكها مجازا كما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:
6] الآية فلا إشكال في التعقيب الذي تفهمه الفاء في قوله سبحانه: فَجاءَها بَأْسُنا أي عذابنا، واعترض هذا الجواب بعض المدققين بأن فيه إشكالا أصوليا، وهو أن الإرادة إن كانت باعتبار تعلقها التنجيزي فمجيء البأس مقارن لها لا متعقب لها وبعدها، وإن لم يرد ذلك فهي قديمة فإن كان البأس يعقبها لزم قدم العالم وإن تأخر عنها لزم العطف بثم.
وأجيب بأن المراد التعلق التنجيزي قبل الوقوع أي قصدنا إهلاكها فتدبر، وقيل: إن المراد بالإهلاك الخذلان وعدم التوفيق فهو استعارة أو من إطلاق المسبب على السبب، وإلى هذا يشير كلام ابن عطية. وتعقب بأنه اعتزالي وأن الصواب أن يقال: معناه خلقنا في أهلها الفسق والمخالفة فجاءها بأسنا، وقيل: المراد حكمنا بإهلاكها فجاءها، وقيل:
الفاء تفسيرية نحو توضأ فغسل وجهه إلخ. وقيل: إن الفاء للترتيب الذكري. وقال ابن عصفور: إن المراد أهلكناها هلاكا من غير استئصال فجاءها هلاك الاستئصال، وقال الفراء: الفاء بمعنى الواو أو المراد فظهر مجيء بأسنا واشتهر، وقيل: الكلام على القلب وفيه تقديم وتأخير أي أهلكناها بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ فجاءها بأسنا فالإهلاك في الدنيا ومجيء البأس في الآخرة فيشمل الكلام عذاب الدارين، ويأباه ما بعد إباء ظاهرا فإنه يدل على أن العذاب في الدنيا، وقدر غير واحد في النظم الكريم مضافا أي فجاء أهلها.
وجوز بعضهم الحمل على الاستخدام لأن القرية تطلق على أهلها مجازا، ومن الناس من قدر في الأول المضاف أيضا مع أن القرية تتصف بالهلاك وهو الخراب. والبيات في الأصل مصدر بات يبيت بيتا وبيته وبياتا وبيتوتة، وذكر الراغب: أن البينات وكذا التبييت قصد العدو ليلا. وقال الليث: البيتوتة الدخول في الليل، ونصبه على الحال بتأويله ببائتين.
وجوز أن يكون على الظرفية وهو خلاف الظاهر، واحتمال النصب على المفعولية له- كما زعم أبو البقاء- مما لا يلتفت إليه. وأو للتنويع وما بعدها عطف على الحال وهو في موضع الحال أيضا وأضمرت فيه الواو- كما قال ابن الأنباري- لوضوح المعنى ومن أجل أن أو حرف عطف والواو كذلك فاستثقلوا الجمع بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني، ونقل ذلك عن الفراء أيضا. وتعقب بأن واو الحال مغايرة لواو العطف بكل حال وهي قسم من أقسام الواو كواو القسم بدليل أنها تقع حيث لا يمكن أن يكون ما قبلها حالا وكونها للعطف يقتضي أن لا تقع إلا حيث يكون ما قبلها حالا حتى تعطف حالا على حال. وقال ابن المنير: إن هذه الواو لا بد أن تمتاز عن واو العطف بمزية ألا تراها تصحب الجملة الاسمية بعد الفعلية ولو كانت عاطفة مجردة لاستقبح توسطها بين المتغايرين أو لكان الأفصح خلافه وحيث رأيناها تتوسط والكلام هو الأفصح أو المتعين علمنا امتيازها عن واو العطف وإذا ثبت ذلك فلا غرو في اجتماعهما. وإن كان فيها معنى العطف مضافا إلى تلك الخاصية فإما أن تسلبه حينئذ لغناء العاطفة عنها أو تستمر عليه وتجامع أو كما تجامع الواو لكن في الفصيح لما فيها من زيادة معنى الاستدراك وعلى هذا فالاجتماع ممكن بلا كراهية، فلو قلت: سبح الله تعالى وأنت راكع أو وأنت ساجد لكان فصيحا لا خبث فيه ولا كراهة خلافا لأبي حيان
مدعيا أن النحويين نصوا على أن الجملة الحالية إذا دخل عليها حرف عطف امتنع دخول واو الحال عليها للمشابهة اللفظية فالمثال على هذا غير صحيح، وظاهر كلام الزمخشري أن هذه الواو واو العطف في الأصل ثم استعيرت للحال لما فيها من الربط فقد خرجت عن العطف واستعملت لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها في امتناع مجامعتها لعاطف آخر، وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام ذينك الإمامين وهذا مذهب لهما ولمن اتبعهما.
وقال بعض النحاة: إن الضمير هنا مغن عن إضمار الواو والاكتفاء به غير شاذ كما قيل بل هو أكثر من رمل يبرين ومها فلسطين، وقد نقل عن الزمخشري الرجوع إلى هذا القول والمسألة خلافية وفيها تفصيل. ففي البديع: الاسمية الحالية لا تخلو من أن تكون من سبب ذي الحال أو أجنبية فإن كانت من سببه لزمها العائد والواو تقول: جاء زيد وأبوه منطلق وخرج عمرو ويده على رأسه إلا ما شذ من قولهم: كلمته فوه إلى فيّ وإن كانت أجنبية لزمتها الواو ونابت عن العائد. وقد يجمع بينهما نحو قدم عمرو وبشر قام إليه وقد جاءت بلا واو ولا ضمير كما فيّ قوله:
ثم انتصينا جبال الصفد معرضة
…
عن اليسار وعن إيماننا جدد
فإن جبال الصفد معرضة حال بلا واو ولا ضمير: وعن الشيخ عبد القاهر جعل ذلك على قسمين ما يلزمه الواو مطلقا وهو ما إذا صدر بضمير ذي الحال نحو جاء زيد وهو يسرع لأن إعادة ضميره تقتضي أن الجملة مستأنفة لئلا تلغو الإعادة فإذا لم يقصد الاستئناف فلا بد من الواو وما عداه تلزمه الواو في الفصيح إلا على طريق التشبيه بالمفرد والتأويل فإنه حينئذ قد تترك الواو وجوازا، وقيل- ولم يسلم-: إن الضابط في ذلك أنه إذا كان المبتدأ ضمير ذي الحال تجب الواو وإلا فإن كان الضمير فيما صدر به الجملة سواء كان مبتدأ نحو فوه إلى في و «بعضكم لبعض عدو» أو خبرا نحو وجدته حاضراه الجود والكرم فلا يحكم بضعفه لكونه الرابط في أول الجملة وإلا فضعيف قليل.
وقال ابن مالك وتبعه ابن هشام ونقل عن السكاكي: إنه إذا كانت الجملة الاسمية مؤكدة لزم الضمير وترك الواو نحو هو الحق لا شبهة فيه وذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2]، واختار ابن المنير أن المصحح لوقوع هذه الجملة هنا حالا من غير واو هو العاطف إذ يقتضي مشاركة الجملة الثانية لما عطفت عليه في الحالية فيستغنى عن واو الحال كما أنك تعطف على المقسم به فتدخله في حكم القسم من غير واو نحو وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل: 1، 2] وقوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ [التكوير: 15- 17] ويستغني عن تكرار حرف القسم بنيابة العاطف منابه فليفهم. وأيّا ما كان فحاصل المعنى أتاهم عذابنا تارة ليلا كقوم لوط عليه السلام وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب عليه السلام. والقيلولة من قال يقيل فهو قائل ويقال قيلا وقائلة ومقالا ومقيلا، وهي- كما في القاموس- نصف النهار أو هي الراحة والدعة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم كما في النهاية، واستدل بقوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان: 24] إذ الجنة لا نوم فيها.
وقال الليث: هي نومة نصف النهار، ودفع الاستدلال بأن ذلك مجاز، وإنما خص إنزال العذاب عليهم في هذين الوقتين لما أن نزول المكروه عند الغفلة والدعة أفظع وحكايته للسامعين أزجر وأردع عن الاغترار بأسباب الأمن والراحة، وفي التعبير في الحال الأولى بالمصدر وجعلها عين البيات وفي الحال الثانية بالجملة الاسمية المفيدة في المشهور للثبوت مع تقديم المسند إليه المفيد للتقوى ما لا يخفى من المبالغة، وكذا في وصف الكل بوصف البيات والقيلولة مع أن بعض المهلكين بمعزل منهما إيذان بكمال الأمن والغفلة، وفي هذا ذم لهم بالغفلة عما هم بصدده، وإنما خولف بين العبارتين على ما قيل وبنيت الحال الثانية على تقوى الحكم والدلالة على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لأن
القيلولة أظهر في إرادة الدعة وخفض العيش فإنها من دأب المترفين والمتنعمين دون من اعتاد الكدح والتعب. وفيه إشارة إلى أنهم أرباب أشر وبطر.
فَما كانَ دَعْواهُمْ أي دعاؤهم واستغاثتهم كما في قوله تعالى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ [يونس: 10] وقول بعض العرب: فيما حكاه الخليل. وسيبويه: اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين أو ادعاءهم كما هو المشهور في معنى الدعوى إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا عذابنا وشاهدوا أماراته إِلَّا أَنْ قالُوا جميعا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وشهادتهم ببطلانه تحسرا وندامة وطمعا في الخلاص وهيهات ولات حين نجاة.
وفي جعل هذا الاعتراف عين ذلك مبالغة على حد قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع ودَعْواهُمْ يجوز فيه- كما قال أبو البقاء- أن يكون اسم كان والخبر إِلَّا أَنْ قالُوا وأن يكون هو الخبر وإِلَّا أَنْ قالُوا الاسم، ورجح الثاني بأن جعل الأعرف اسما هو المعروف في كلامهم. والمصدر هنا يشبه المضمر لأنه لا يوصف وهو أعرف من المضاف. وأورد عليه أن الاسم والخبر إذا كانا معرفتين وإعرابهما غير ظاهر لا يجوز تقديم أحدهما على الآخر فتعين الأول. وأجيب عنه بأن ذلك عند عدم القرينة والقرينة هنا كون الثاني أعرف وترك التأنيث، وأيضا ذاك إذا لم يكن حصر فإن كان يلاحظ ما يقتضيه. ورجح في الكشف الثاني بأنه الوجه المطابق لنظائره في القرآن.
والمعنى عليه أشد ملاءمة لأن الفرض أن قولا آخر لم يقع هذا الموقع، فالمقصود الحكم على القول المخصوص بأنه هو الدعاء وزيد تأكيدا بإدخال أداة القصر، وليس من التقديم في شيء لأن حق المقصور عليه التأخير أبدا فتأمل وتذكر فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ- بيان- كما قال الطبرسي- لعذابهم الأخروي إثر بيان عذابهم الدنيوي خلا أنه تعرض كما قيل لبيان مبادئ أحوال المكلفين جميعا لكونه أدخل في التهويل. والفاء عند البعض لترتيب الأحوال الأخروية على الدنيوية ذكرا حسب ترتبها عليها وجودا. وذكر العلامة الطيبي أن الفاء فصيحة على معنى فما كان دعواهم في الدنيا إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا فقطعنا دابرهم ثم لنحشرنهم فلنسألنهم، ووضع على هذا الظاهر موضع الضمير لمزيد التقرير.
وقال في الكشف: لعل الأوجه أن يجعل هذا متعلقا بقوله تعالى: اتَّبِعُوا وَلا تَتَّبِعُوا ويجعل قوله سبحانه: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ إلخ معترضا حثا على الاعتبار بحال السابقين ليتشمروا في الاتباع اه. والأمر عند من جعل الكلام السابق على التقديم والتأخير وادعى أن مجيء البأس في الآخرة سهل كما لا يخفى، أي لنسألن الأمم قاطبة أو هؤلاء قائلين: ماذا أجبتم المرسلين؟ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ماذا أجيبوا، والمراد من هذا السؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم، والمنفي في قوله تعالى: يوم لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ سؤال الاستعلام فلا منافاة بين الآيتين، وجمع آخرون بينهما بأن للمثبت موقفا وللمنفي آخر. وقال الإمام: إنهم لا يسألون عن الأعمال أي ما فعلتم ولكن يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال والصوارف التي صرفتم عنها أي لم كان كذا، وقيل: معنى لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39] لا يعاقب بذنبه غيره، وقيل: المراد من الذين أرسل إليهم الأنبياء ومن المرسلين الملائكة الذين بلغوهم رسالات ربهم.
وروي ذلك عن فرقد وهو كما ترى، وقيل: لا حاجة إلى التوفيق فإن المنفي هو السؤال عن الذنب لا مطلق
السؤال. ورد بأن عدم قبول دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ذنب وأي ذنب فسؤالهم عنه ينافيه وفيه نظر.
وتخصيص سؤال المرسلين عليهم السلام بما ذكرنا هو الذي يشهد به الأخبار وتدل عليه الآثار، وفي القرآن ما يؤيد ذلك فقد قال سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] وتخصيص سؤال الذين أرسل إليهم بما تقدم هو الذي جرى عليه جماعة من المفسرين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه يقال للذين أرسل إليهم: هل بلغكم الرسل؟ ويقال. للمرسلين: ماذا ردوا عليكم. وأخرج أيضا عن القاسم أبي عبد الرحمن أنه تلا هذه الآية فقال: يسئل العبد يوم القيامة عن أربع خصال يقول ربك ألم أجعل لك جسدا ففيم أبليته؟ ألم أجعل لك علما ففيم عملت بما عملت؟ ألم أجعل لك مالا ففيم أنفقته في طاعتي أم في معصيتي؟ ألم أجعل لك عمرا ففيم أفنيته؟. وأخرج هو وغيره عن طاوس أنه قرأ ذلك فقال الإمام: يسئل عن الناس والرجل يسئل عن أهله والمرأة تسئل عن بيت زوجها والعبد يسئل عن مال سيده، ولعل الظاهر أن سؤال كل من المرسل إليهم والمرسلين هنا عن أمر يتعلق بصاحبه، ولا يأبى هذا أن المكلفين يسألون عن أمور أخر والمواقف يوم القيامة شتى ويسأل السيد ذو الجلال عبادة فيها عن مقاصد عديدة فطوبى لمن أخذ بعضده السعد فأجاب بما ينجيه.
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ قيل أي على الرسل حين يكلون الأمر إلى علمه تعالى ويقولون لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة: 109] أو عليهم وعلى المرسل إليهم جميعا جميع أحوالهم. وعن ابن عباس أنه ينطق عليهم كتاب أعمالهم بِعِلْمٍ أي عالمين بظواهرهم وبواطنهم أو بمعلومنا منهم، والباء على الأول للملابسة والجار والمجرور حال من فاعل «نقص» ، وعلى الثاني الباء متعلق بنقص وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم في حال من الأحوال، والمراد الإحاطة التامة بأحوالهم وأفعالهم بحيث لا يشذ منها شيء عن علمه سبحانه، والجملة إما حال أو استئناف لتأكيد ما قبله. وَالْوَزْنُ أي وزن الأعمال والتمييز بين الراجح والتمييز بين الراجح منها والخفيف والجيد والرديء. وهو مبتدأ وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ متعلق بمحذوف خبره، وقوله تعالى الْحَقُّ صفته أي والوزن الحق ثابت يوم إذ يكون السؤال والقص. واختار هذا بعض من المعربين، وقيل: الظاهر أن الْحَقُّ خبر ويَوْمَئِذٍ ظرف للوزن لئلا يقع الفصل بين الصفة والموصوف.
ولعل وجه عدم اختيار هذا أن فيه أعمال المصدر المعرف وهو قليل. وفي الكشف ليس المعنى على أن الوزن هو الحق بل أن الوزن الحق يكون يومئذ ألا يرى إلى قوله سبحانه: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنبياء:
47] . وذكر الأصفهاني في شرح اللمع لابن جني أن الْحَقُّ بدل من الضمير المستتر في الظرف، وهو وجه حسن إلا أن الأول رجح جانب المعنى ولم يبال بالفصل بالخبر لاتحاده من وجه بالمبتدأ لا سيما والظرف يتوسع فيه.
وجوز أبو البقاء أن يكون الْحَقُّ خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل: ما ذلك الوزن؟ فقيل: هو الحق أي العدل السوي. وأن يكون الْوَزْنُ خبر مبتدأ محذوف أيضا أي هذا الوزن. وهو كما ترى. وقرىء الْقِسْطَ والوزن- كما قال الراغب- معرفة قدر الشيء يقال: وزنته وزنا وزنة، والمتعارف فيه عند العامة ما يقدر بالقسطاس والقبان.
واختلف في كيفيته يوم القيامة. والجمهور- كما قال القاضي- على أن صحائف الأعمال هي التي توزن بميزان له لسان وكفتان لينظر إليه الخلائق إظهارا للمعدلة وقطعا للمعذرة كما يسألون من أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وجوارحهم. ولا تعرض لهم لماهية هاتيك الصحائف والله تعالى أعلم بحقيقتها.
ويؤيد ذلك ما
أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم وصححه، والبيهقي، وغيرهم عن عبد الله بن
وهذه الشهادة- على ما قاله القرطبي نقلا عن الحكيم الترمذي- ليست شهادة التوحيد لأن من شأن الميزان أن يوضع في إحدى كفتيه شيء وفي الأخرى ضده فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة ومن المستحيل أن يؤتى لعبد واحد بكفر وإيمان معا فيستحيل أن توضع شهادة التوحيد في الميزان أما بعد الإيمان فإن النطق بهذه الكلمة الطيبة حسنة فتوضع في الميزان كسائر الحسنات. وأيد ذلك بقوله جل وعلا
في الحديث: «إن لك عندنا حسنة»
دون أن يقول سبحانه: إيمانا. وجوز أن يكون المراد هذه الكلمة إذا كانت آخر كلامه في الدنيا. وجوز غيره أن تكون كلمة التوحيد، ومنع لزوم وضع الضد في الكفة الأخرى ليلزم المحال فتدبر. وجاء في خبر آخر أخرجه ابن أبي الدنيا.
والنميري في كتاب الإعلام عن عبد الله أيضا قال: إن لآدم عليه السلام من الله عز وجل موقفا في فسح من العرش عليه ثوبان أخضران كأنه نخلة سحوق ينظر إلى من ينطلق به من ولده إلى الجنة ومن ينطلق به إلى النار فبينا آدم على ذلك إذ نظر إلى رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينطلق به إلى النار فينادي آدم عليه السلام يا أحمد يا أحمد فيقول عليه الصلاة والسلام: لبيك يا أبا البشر فيقول: هذا رجل من أمتك ينطلق به إلى النار قال صلى الله عليه وسلم: فأشد المئزر وأسرع في أثر الملائكة فأقول: يا رسل ربي قفوا فيقولون: نحن الغلاظ الشداد الذين لا نعصي الله تعالى ما أمرنا ونفعل ما نؤمر فإذا أيس النبي صلى الله عليه وسلم قبض على لحيته بيده اليسرى واستقبل العرش بوجهه فيقول: يا رب قد وعدتني أن لا تخزيني في أمتي فيأتي النداء من قبل العرش أطيعوا محمدا وردوا هذا العبد إلى المقام فيخرج صلى الله عليه وسلم بطاقة بيضاء كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى وهو يقول بسم الله فترجح الحسنات على السيئات فينادي المنادي سعد وسعد جده وثقلت موازينه انطلقوا به إلى الجنة فيقول يا رسل ربي. قفوا حتى أسأل هذا العبد الكريم على ربه فيقول: بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك من أنت؟ فقد أقلتني عثرتي ورحمت عبرتي فيقول عليه الصلاة والسلام: أنا نبيك محمد وهذه صلاتك التي كنت تصلي علي وفيتكها أحوج ما تكون إليها
انتهى.
ولعل فعل مثل هذا- إذا صح الخبر- مبالغة في إظهار كرامة النبي صلى الله عليه وسلم على ربه عز وجل بين الأولين والآخرين.
وقيل: توزن الأشخاص، واحتجوا له بما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «إنه ليؤتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة ولا أدري على هذا ما يوضع في الكفة الأخرى من الميزان إذا وضع المذنب في إحداهما، ووضع شخص في مقابلة شخص لا أراه إلا كما ترى، والخبر ليس نصا في الدعوى كما لا يخفى، وقيل: إن هذه الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تظهر في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وصححه غير واحد وقال: إن عليه الاعتقاد، وفي الآثار ما يؤيده.
فقد أخرج ابن عبد البر عن إبراهيم النخعي قال يجاء بعمل الرجل فيوضع بكفة ميزانه يوم القيامة فيخف فيجاء بشيء أمثال الغمام فيوضع في كفة ميزانه فيرجحه فيقال له: أتدري ما هذا؟ فيقول: لا فيقال له: هذا أفضل العلم الذي كنت تعلمه الناس، وأخرج ابن المبارك عن حماد بن أبي سليمان بمعناه.
وقيل: الوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل، واستعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق الكناية وبه قال مجاهد، والأعمش، والضحاك، وإليه ذهب المعتزلة إلا أن منهم من جوز الوزن بالمعنى المتعارف عقلا وإن لم يقض بثبوته كالعلاف. وبشر بن المعتمر، ومنهم من أحاله لأن الأعمال أعراض وهي مما لا تبقى ومما لا يمكن إعادتها، سلمنا بقاءها أو إمكان إعادتها لكنها إعراض والإعراض يمتنع وزنها إذ لا توصف بثقل ولا خفة، سلمنا إمكان وزنها لكن لا فائدة في ذلك إذ المقصود إنما هو العلم بتفاوت الأعمال والله تعالى عالم بذلك وما لا فائدة فيه ففعله قبيح والرب تعالى منزه عن فعل القبيح، وجوابه يعلم مما قدمنا.
وفسر هؤلاء الميزان بالعدل والإنصاف. واعترض الآمدي على ذلك بأن الميزان موصوف بالثقل والخفة والعدل والإنصاف لا يوصفان بذلك، وفي الأخبار ما هو صريح في أن الميزان جسماني
فقد أخرج الحاكم وصححه عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسع فتقول الملائكة: يا رب من يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: من شئت من خلقي فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك» وفي رواية ابن المبارك واللالكائي عنه قال: يوضع الميزان وله كفتان لو وضع في إحداهما السماوات والأرض ومن فيهن لوسعه فتقول الملائكة: من يزن هذا؟ الحديث.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خلق الله تعالى كفتي الميزان مثل السماوات والأرض فقالت الملائكة: يا ربنا من تزن بهذا؟ فقال: أزن به من شئت» وفي بعض الآثار «أن الله تعالى كشف عن بصر داود عليه السلام فرأى من الميزان ما هاله حتى أغمي عليه فلما أفاق قال: يا رب من يملأ كفة هذا حسنات فقال جل شأنه: يا داود إذا رضيت عن عبد ملأتها بشق تمرة تصدق بها»
إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة. فالأولى- كما قال الزجاج- اتباع ما جاء في الأحاديث ولا مقتضى للعدول عن ذلك، فإن قيل: إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات تلك الأعمال بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدة في الوزن؟ أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح وغير ذلك وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها وإن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته ولا يخطر بباله خلاف ذلك قاله بعض المحققين والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ تفصيل للأحكام المترتبة على الوزن. والموازين إما جمع ميزان، وجمعه- مع أن المشهور الصحيح أن الميزان مطلقا واحد- باعتبار تعدد الأوزان أو الموزونات، وكذا إذا قلنا بأن ميزان كل شخص واحد وفي الكلام مضاف مقدر أي كفة موازينه، وإما جمع موزون وإضافته للعهد لترتب الفلاح على ذلك فالمراد الحسنات، والجمع على هذا ظاهر، وكذا لو قلنا إن لكل عمل ميزانا فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، والجمعية باعتبار معناه كما أن إفراد ضمير «موازينه» العائد إليه باعتبار لفظه، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة، وهو مبتدأ وهُمُ إما ضمير فصل يفصل به بين الخبر والصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند إليه والْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بالنجاة والثواب خبر، وإما مبتدأ ثان والْمُفْلِحُونَ خبره والجملة خبر المبتدأ الأول، وتعريف المفلحين للدلالة على أنهم الناس الذين بلغك أنهم مفلحون في الآخرة أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصائصهم.
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع فطرة الإسلام التي ما من مولود إلا يولد عليها أو فطرة الخير الذي هو أصل الجبلة.
وقوله تعالى: بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ متعلق بخسروا، وإما مصدرية وبِآياتِنا متعلق بيظلمون وقدم عليه للفاصلة، وعدي الظلم بالباء لتضمنه معنى التكذيب أو الجحود، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار الظلم في الدنيا. وظاهر النظم الكريم أن الوزن ليس مختصا بالمسلمين بل الكفار أيضا توزن أعمالهم التي لا توقف لها على الإسلام وإلى ذلك ذهب البعض. وادعى القرطبي أن الصحيح أنه يخفف بها عذابهم وإن لم تكن راجحة كما ورد في حق أبي طالب. وذهب الكثير إلى أن الوزن مختص بالمسلمين. وأما الكفار فتحبط أعمالهم كيفما كانت، وهو أحد الوجهين في قوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف: 105] ولا يخفف بها عنهم من العذاب شيء، وما ورد من التخفيف عن أبي طالب فقد قال السخاوي: إن المعتمد أنه مخصوص به، وعلى هذا فلا بد من ارتكاب خلاف الظاهر في الآية، وهي على كلا التقديرين ساكتة عن بيان حال من تساوت حسناته وسيئاته وهم أهل الأعراف على قول. ومن هنا استدل بعضهم على عدم وجود هذا القسم، ورد بأنه قد يدرج في القسم الأول لقوله سبحانه خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة: 102] وعسى من الله تعالى تحقيق كما صرحوا به وفيه نظر وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ترغيب في قبول دعوة النبي عليه الصلاة والسلام بتذكير النعم إثر ترغيب.
وذكر الطيبي أن هذا نوع آخر من الإنذار فإنه جملة قسمية معطوفة على قوله سبحانه: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 3] على تقدير قل اتبعوا وقل والله لقد مكناكم، والمعنى جعلنا لكم في الأرض مكانا وقرارا.
وقيل: أقدرناكم على التصرف فيها فهو حينئذ كناية ورجحت هنا الحقيقة وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أي ما تعيشون به وتحيون من المطاعم والمشارب ونحوها أو ما تتوصلون به إلى ذلك، وهو في الأصل مصدر عاش يعيش عيشا وعيشة ومعاشا ومعيشة بوزن مفعلة، والجمهور على التصريح بالياء فيها، وروي عن نافع معائش بالهمز وغلّطه النحويون ومنهم سيبويه في ذلك لأنه لا يهمز عندهم بعد ألف الجمع إلا الياء الزائدة كصحيفة وصحائف وأما معايش فياؤه أصلية هي عين الكلمة لأنها من العيش وبالغ أبو عثمان فقال: إن نافعا لم يكن يدري بالعربية، وتعقب ذلك بأن هذه القراءة وإن كانت شاذة غير متواترة مأخوذة من الفصحاء الثقات والعرب قد تشبه الأصلي بالزائد لكونه على صورته، وقد سمع هذا عنهم فيما ذكر وفي مصائب ومنائر أيضا.
وقول سيبويه: إنها غلط يمكن أن يراد به أنها خارجة عن الجادة والقياس، وكثيرا ما يستعمل الغلط في كتابه بهذا المعنى، والجعل بمعنى الإنشاء والإبداع وكل واحد من الظرفين متعلق به أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر إذ لو تأخر لكان صفة له وتقديمهما على المفعول مع أن حقهما التأخير عنه- كما قال بعض المحققين- للاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر فإن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما عند كون المقدم منبئا عن منفعة السامع تبقى مترقبة لورود المؤخر فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن، وأما تقديم اللام على في فلما أنه المنبئ عما ذكر من المنفعة والاعتناء بشأنه أتم والمسارعة إلى ذكره أهم، وقيل: إن الجعل متعد إلى مفعولين ثانيهما أحد الظرفين على أنه مستقر قدم على الأول، والظرف الآخر إما لغو متعلق بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالا من المفعول الأول كما مر، واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في الإخبار بجعل المعايش حاصلة لهم أو حاصلة في الأرض قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ تلك النعمة الجسمية، وهو تذييل مسوق لبيان سوء المخاطبين وتحذيرهم. قال الطيبي: والتذييل بذلك
لأن الشكر مناسب لتمكينهم في البلاد والتصرف فيها كما أن التذكر في الجملة السابقة موافق للتمييز بين اتباع دين الحق ودين الباطل، وبقية الكلام في هذه الجملة على طرز ما مر في نظيرها فتذكر.
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ تذكير لنعمة أخرى، وتأخيره عن تذكير ما وقع بعده من نعمة التمكن في الأرض إما لأنها فائضة على المخاطبين بالذات وهذه بالواسطة. وإما للإيذان بأن كلا منهما نعمة مستقلة، والمراد خلق آدم عليه السلام وتصويره كما يقتضيه ظاهر العطف الآتي لكن لما كان مبدأ للمخاطبين جعل خلقه خلقا لهم ونزل منزلته فالتجوز على هذا في ضمير الجمع بجعل آدم عليه السلام كجميع الخلق لتفرعهم عنه أو في الإسناد إذ أسند ما لآدم الذي هو الأصل والسبب إلى ما تفرع عنه وتسبب.
وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف، وذهب الإمام إلى أنه كناية عن خلق آدم عليه السلام، والمعنى خلقنا أباكم آدم عليه السلام طينا غير مصور ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم سار ذلك إليكم. وجوز أن يكون التجوز في الفعل، والمراد ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه، ويعود هذا إلى ابتداء خلق الجنس وابتداء خلق كل جنس بإيجاد أول أفراده. فهو نظير قوله تعالى: خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ [السجن: 7] وعلى هذين الوجهين يظهر وجه العطف بثم في قوله تعالى: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وزعم الأخفش أن ثُمَّ هنا بمعنى الواو، وتعقبه الزجاج بأنه خطأ لا يجيزه الخليل وسيبويه ولا من يوثق بعلمه لأن ثم للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غيره، وإنما المعنى إنا ابتدأنا خلق آدم عليه السلام من تراب ثم صورناه أي هذا أصل خلقكم ثم بعد الفراغ من أصلكم قلنا إلخ، وقيل: إن ثُمَّ لترتيب الأخبار لا للترتيب الزماني حتى يحتاج إلى توجيه، والمعنى خلقناكم يا بني آدم مضغا غير مصورة ثم صورناكم بشق السمع والبصر وسائر الأعضاء كما روي عن يمان أو خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء كما روي عن عكرمة ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة إلخ وإلى هذا ذهب جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى والقاضي أبو سعيد السيرافي. وغيرهما، وقال الطيبي: يمكن أن تحمل ثُمَّ على التراخي في الرتبة لأن مقام الامتنان يقتضي أن يقال: إن كون أبيهم مسجودا للملائكة أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم، وفيه تلويح إلى شرف العلم وتنبيه للمخاطبين على تحصيل ما فاز به أبوهم من تلك الفضيلة. ومن ثم عقب في البقرة الأمر بالسجود مسألة التحدي بالعلم.
وعن ابن عباس، ومجاهد، والربيع، وقتادة، والسدي أن المعنى خلقنا آدم عليه السلام ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا إلخ. وقد تقدم الكلام في المراد بالملائكة المأمورين بالسجود، وكذا الكلام في المراد بالسجود.
وذكر بعض المحققين أن الظاهر أن يقال: ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم إلا أنه عدل عن ذلك لأن الآمر بالسجود كان قبل خلق آدم عليه السلام على ما نطق به قوله تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر: 29] والواقع بعد تصويره إنما هو قوله سبحانه: اسْجُدُوا لِآدَمَ وذلك لتعيين وقت السجدة المأمور بها قبل، والحاصل أنه سبحانه أمرهم أولا أمرا معلقا ثم أمرهم ثانيا أمرا منجزا مطابقا للأمر السابق فلذا جعله حكاية له، وفي ذلك ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام فَسَجَدُوا أي الملائكة عليهم السلام بعد القول من غير تلعثم كلهم أجمعون إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل سواء قلنا إن إبليس من الملائكة حقيقة أم لا، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأنه لما كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة متصفا بغالب صفاتهم غلبوا عليه في «سجدوا» ثم استثنى استثناء واحد منهم. وقيل: منقطع بناء على أنه من الجن وأنهم ليسوا من جنس الملائكة ولا تغليب، والأول هو المختار.
وذكر قوله تعالى: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي ممن سجد لآدم عليه السلام مع أنه علم من الاستثناء عدم السجود لأن المعلوم من الاستثناء عدم العموم لا عموم العدم، والمراد الثاني أي إنه لم يصدر منه السجود مطلقا لا معهم ولا منفردا. وهذا إنما يفيده التنصيص كذا قيل، ونظر فيه بأن التنصيص المذكور لا يفيد عموم الأحوال والأوقات فلا يتم ما ذكر، وتحقيق هذا المقام على ما ذكره المولى سري الدين أن يقال: إن القوم اختلفوا في أن الاستثناء من النفي إثبات أم لا، فقال الشافعي: نعم فيكون نقيض الحكم ثابتا للمستثنى بطريق العبارة، ويوافقه ظاهر عبارة الهداية.
وذهب طائفة من الحنفية إلى أنه بطريق الإشارة. وذهب آخرون إلى أن المستثنى في حكم المسكوت عنه، وإنما يستفاد الحكم بطريق مفهوم المخالفة. واختار صاحب البحر أنه منطوق إشارة تارة وعبارة أخرى.
وإذا تقرر هذا فيمكن أن يقال في الجواب: إن المقام لما كان مقام التسجيل على إبليس بعدم السجود والتشهير والتوبيخ بتلك القبيحة الهائلة كان خليقا بالتصريح جديرا بالاحتياط لضعف التعويل على القرينة لائقا بكمال الإيضاح والتقرير فعدل عن طريق الحذف وإن كان الكلام دالا على المحذوف إلى منهج الذكر والتصريح به، وهذا على رأي الشافعي ومن وافقه ظاهر وإليه أشار السراج الهندي في مباحث الاستثناء من شرح المغني، وأما على باقي المذاهب فالأمر أظهر لأن الحكم على المستثنى بنقيض حكم المستثنى منه إما بطريق الإشارة أو مفهوم المخالفة، وعلى كل فالمقام يا بني الاكتفاء بمثل ذلك ويقتضي التصريح بذكر الحكم.
وادعى مولانا ابن الكمال أن هذه الجملة إنما جيء بها لانقطاع الاستثناء وأنه لو كان الاستثناء متصلا يكون الإتيان بها ضائعا لأن عدم كون إبليس من الساجدين يفهم من الاستثناء على تقدير اتصاله. ولا يخفى ما فيه على من أحاط علما بما ذكرنا. واعترضه البعض أيضا بأنه على تقدير الانقطاع يكون ذلك ضائعا أيضا بناء على ما ظنه فإن ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى غير مختص بالمتصل، ولذا لا نراهم يذكرون مع المستثنى المنقطع أيضا نقيض حكم المستثنى منه إلا قليلا، ولو تم ما ذكره لوجب ذكر الخبر مع كل منقطع فليفهم.
قالَ استئناف مسوق للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدم سجوده كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى حينئذ؟ وبه- كما قيل- يظهر وجه الالتفات إلى الغيبة إذ لا وجه لتقدير السؤال على وجه المخاطبة. وفيه فائدة أخرى هي الإشعار بعدم تعلق المحكي بالمخاطبين كما في حكاية الخلق والتصوير أي قال الله تعالى لإبليس حين لم يكن من الساجدين. ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ المشهور أن لا مزيدة بدليل قوله سبحانه في آية أخرى ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [ص: 75] وقد جاءت كذلك في قوله سبحانه: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29] أي ليعلم، وهي في ذلك- كما قال غير واحد- لتأكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه.
واستشكل بأنها كيف تؤكد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه. قال الشهاب: والذي يظهر لي أنها لا تؤكده مطلقا بل إذا صحب نفيا مقدما أو مؤخرا صريحا أو غير صريح كما في «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ» وكما هنا فإنها تؤكد تعلق المنع به. ومن هنا قالوا: إنها منبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود. وقيل: إنها غير زائدة بأن يكون المنع مجازا عن الإلجاء والاضطرار. فالمعنى ما اضطرك إلى أن لا تسجد. وجعله السكاكي مجازا عن الحمل ولا قرينة للمجاز أي ما حملك ودعاك إلى أن لا تسجد؟ وليس بين الجعلين كثير فرق.
وجوز أن يكون ذلك من باب التضمين، وقال الراغب: المنع يقال في ضد العطية كرجل مانع ومناع أي بخيل ويقال في الحماية، ومنه مكان منيع وقد منع وفلان ذو منعة أي عزيز ممتنع على من يرومه. والمنع في الآية من الثاني أي ما حماك عن عدم السجود إِذْ أَمَرْتُكَ بالسجود، وإِذْ ظرف لتسجد، وهذه الآية أحد أدلة القائلين بأن
الأمر للفور لأنه ذم على ترك المبادرة ولولا أن الأمر للفور لم يتوجه الذم عليه وكان له أن يجيب بأنك ما أمرتني بالبدار وسوف أسجد. وأجيب بأن الفور إنما هو من قوله تعالى: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر: 29] وليس من صيغة الأمر إلا أن بعضهم منع دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ، وقال آخرون: إن الاستدلال إنما هو بترتب اللوم على مخالفة الأمر المطلق حيث قال سبحانه: إِذْ أَمَرْتُكَ ولم يقل جل شأنه إذ قلت فقعوا له ساجدين فتدبر، وفي حكاية التوبيخ هاهنا بهذه العبارة وفي سورة الحجر بقوله تعالى: يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 32] وفي سورة ص بقوله سبحانه: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] إشارة إلى أن اللعين أدمج في معصية واحدة غير واحدة وقد وبخ على كل من ذلك لكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اكتفاء بما ذكر في موطن آخر وإشعارا بأن كل واحدة من هاتيك المعاصي كافية في التوبيخ وبطلان ما ارتكبه، وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في سورة البقرة وسورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه والله تعالى أعلم بحكمة كل.
قالَ استئناف كما تقدم مبني على سؤال نشأ من حكاية التوبيخ كأنه قيل: فماذا قال اللعين عند ذلك؟
فقيل: قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ هو من الأسلوب الأحمق فإن الجواب المطابق للسؤال منعني كذا وهذا جواب عن أيكما خير؟ وفيه دعوى شيء بين الاستلزام المقصود بزعمه ومشعر بأن من هذا شأنه لا يحسن أن يسجد لمن دونه فكيف يحسن أن يؤمر به؟ فاللعين أول من أسس بنيان التكبر واخترع القول بالحسن والقبح العقليين.
وقوله تعالى: حكاية عنه خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ تعليل لما ادعاه عليه اللعنة من فضله عليه، عليه السلام، وحاصله أني مخلوق من عنصر أشرف من عنصره لأن عنصري علوي نير قوي التأثير مناسب لمادة الحياة وعنصره بضد ذلك والمخلوق من الأشراف أشرف لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع فأنا كذلك والأشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه، وقد أخطأ اللعين فإن كون النار أشرف من التراب ممنوع فإن كل عنصر من العناصر الأربع يختص بفوائد ليست لغيره وكل منها ضروري في هذه النشأة ولكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على بعض تطويل بلا طائل، على أن من نظر إلى أن الأرض أكثر منافع للخلق لأنها مستقرهم وفيها معايشهم وأنها متصفة بالرزانة التي هي من مقتضيات الحلم والوقار وإلى أن النار دونها في المنافع وأنها متصفة بالخفة التي هي من مقتضيات الطيش والاستكبار والترفع علم ما في كلام اللعين، وأيضا شرف الأصل لا يوجب شرف الفرع:
إنما الورد من الشوك ولا
…
ينبت النرجس إلا من بصل
ويكفي في ذلك أنه قد يخرج الكافر من المؤمن، وأيضا قد خص الشرف بما هو من جهة المادة والعنصر مع أن الشيء كما يشرّف بمادته وعنصره يشرّف بفاعله وغايته وصورته، وهذا الشرف في آدم عليه السلام دونه فإن الله تعالى خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض كما قص سبحانه لما أودعه فيه، وأيضا أي قبح في خدمة الفاضل للمفضول تواضعا وإسقاط لحظ النفس على أن الخدمة في الحقيقة إنما كانت لله تعالى، وإلى هذا أشار ظافر الإسكندري بقوله:
أنت المراد بنظم كل قصيدة
…
بنيت على الافهام في تبجيله
كسجود أملاك السماء لآدم
…
وسجودهم لله في تأويله
ثم الظاهر أن هذا الجواب من اللعين كان مع تسليم أنه مأمور بالسجود وحينئذ فخطؤه أظهر من نار على علم إذ يعود ذلك إلى الاعتراض على المالك الحكيم. وقال بعضهم: إنه لم يسلم أنه كان مأمورا بل أخرج نفسه من العموم
بالقياس. واستدل أهل هذا القول بهذا التوبيخ على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس. وأجيب بأن هذا ليس من التخصيص بل هو إبطال للنص ورفع له بالكلية وفيه تأمل.
وأخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله تعالى له: اسجد لآدم فقال: أنا خير منه» إلخ.
قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس واستدل بهذا ونحوه من منع القياس مطلقا.
وأجيب عن ذلك بأن المذموم هو القياس والرأي في مقابلة النص أو الذي يعدم فيه شرط من الشروط المعتبرة وتحقيق ذلك في محله. وفي الآية دليل على الكون والفساد لدلالتها على خلق آدم عليه السلام وإبليس عليه اللعنة وإيجادهما، وعلى استحالة الطين والنار عما كانا عليه من الطينية والنارية لما تركب منهما ما تركب، وعلى أن إبليس.
ونحوه أجسام حادثة لا أرواح قديمة، قيل: ولعل إضافة خلق آدم عليه السلام إلى الطين وخلقه إلى النار باعتبار الجزء الغالب، وإلا فقد تقرر أن الأجسام من العناصر الأربعة وبعض الناس من وراء المنع.
قالَ استئناف كما سلف، والفاء في قوله تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها لترتيب الأمر على ما ظهر منه من الباطل، وضمير مِنْها قيل للجنة، وكونه من سكانها مشهور، والمراد بها عند بعض الجنة التي يسكنها المؤمنون يوم القيامة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها روضة بعدن وفيها خلق آدم عليه السلام وكانت على نشز من الأرض في قول. وأصل الهبوط الانحدار على سبيل القهر كما في هبوط الحجر. وإذا استعمل في الإنسان ونحوه فعلى سبيل الاستخفاف كما قال الراغب.
ولم يشترط بعضهم فيه سوى الانتقال من شريف إلى ما دونه لقوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْراً [البقرة: 61] والأمر عليه واضح وإن لم نقل: إن تلك الجنة كانت على نشز، وقيل: الضمير لزمرة الملائكة أي اخرج من زمرة الملائكة المعززين، فإن الخروج من زمرتهم هبوط وأي هبوط. وفي سورة فَاخْرُجْ مِنْها [الحجر: 34] وقيل:
الضمير للسماء، وإليه ذهب جماعة. ورد بأن وسوسته لآدم عليه السلام كانت بعد هذا الطرد فلا بد أن يحمل على أحد الوجهين السابقين قطعا، ويكون وسوسته على الوجه الأول بطريق النداء من باب الجنة كما روي عن الحسن البصري. وأجيب بأنه يحتمل أن يكون المراد من ذلك الجنة أو زمرة الملائكة أيضا بناء على أن الأولى ومعظم الثانية في السماء أو يقال: إن القصة وقعت في الأرض وكانت الجنة فيها وبعد العصيان حجب اللعين من السماء التي هي مقره ومعبده، ومعنى أمره بالخروج منها أمره بقطع علائقه عنها واتخاذها مأوى له بعد. وهذا كما تقول لمن غصب دارك مثلا عند نحو القاضي: أخرج من داري مع أنه إذ ذاك ليس فيها تريد لا تدخلها واقطع علائقك عنها وقيل:
الضمير للأرض.
فقد روي أنه أخرج منها إلى الجزائر وأمر أن لا يدخلها إلا خفية، ويبعده أنه لا يظهر للتخصيص في قوله تعالى:
فَما يَكُونُ لَكَ أي فما يصح ولا يستقيم ولا يليق بشأنك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها على هذا وجه إلا على بعد.
وأما على الأوجه السابقة فالوجه ظاهر وهو مزيد شرافة المخرج منه وعلو شأنه وتقدس ساحته. ومن هنا يعلم أنه لا دلالة في الآية على جواز التكبر في غير ذلك عند القائلين بالمفهوم، والجملة تعليل للأمر بالهبوط ولا يخفى لطافة التعبير به دون الخروج في مقابلة قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ المشير إلى ارتفاع عنصره وعلو محله، والتكبر- على ما قيل- كالكبر وهو الحالة التي يختص بها الشخص من إعجابه بنفسه. وذلك أن يرى نفسه أكبر من
غيره وأعظم، والمراد بالتكبر هاهنا إما التكبر على الله تعالى وهو أعظم التكبر. ويكون بالامتناع من قبول الحق والإذعان له بالعبادة.
وفسره بعضهم بالمعصية. وإما التكبر على آدم عليه السلام بزعمه أنه خير منه وأكبر قدرا. وقيل: المراد ما هو أعم منه ومن التكبر على الملائكة حيث زعم أن له خصوصية ميزته عليهم وأخرجته من عمومهم وفيه تأمل. وزعم البعض أن في الآية تنبيها على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة فكما يمنع من القرار فيها يمنع من دخولها بعد ذلك وأنه تعالى إنما طرده لتكبره لا لمجرد عصيانه، وهو ظاهر على أحد الاحتمالات كما لا يخفى. والظرف إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا. وقوله تعالى: فَاخْرُجْ تأكيد للأمر بالهبوط متفرع عليه. وقوله سبحانه: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ تعليل للأمر بالخروج مشعر بأنه لتكبره أي إنك من أهل الصغار والهوان على الله تعالى وعلى أوليائه لتكبرك.
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تواضع لله رفعه الله تعالى، ومن تكبر وضعه الله عز وجل»
ومن حديثه رضي الله تعالى عنه «من تواضع لله تعالى رفع الله تعالى حكمته وقال: انتعش نعشك الله ومن تكبر وعد أطواره، وهصه الله تعالى إلى الأرض»
وقيل: المراد من الأذلاء في الدنيا بالذم واللعن. وفي الآخرة بالعذاب بسبب ما ارتكبه من المعصية والتكبر، وإذلال الله تعالى المتكبرين يوم القيامة مما نطقت به الأخبار.
أخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صورة الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يقال له: بولس يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار»
وفسر بعضهم الصاغر بالراضي بالذل كما هو المشهور فيه. والمراد وصفه بأنه خسيس الطبع دنيء وأنه رأى نفسه أكبر من غيره وليس بالكبير. ولقد أبدع أبو نواس بقوله خطابا له:
سوأة يا لعين أنت اختلست الن
…
اس غيظا عليهم أجمعينا
تهت لما أمرت في سالف الده
…
ر وفارقت زمرة الساجدينا
عند ما قلت لا أطيق سجودا
…
لمثال خلقته رب طينا
حسدا إذ خلقت من مارج الن
…
ار لمن كان مبتدا العالمينا
ثم صيرت في القيادة تسعى
…
يا مجير الزناة واللائطينا
وله أيضا من أبيات فيه:
تاه على آدم في سجدة
…
وصار قوادا لذريته
قالَ استئناف كما مر مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: فماذا قال اللعين بعد ما سمع ما سمع؟
فقيل: قال: أَنْظِرْنِي أي أمهلني ولا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي آدم عليه السلام وذريته وهو وقت النفخة الثانية، وأراد بذلك أن يجد فسحة في الإغواء وأخذ الثأر ونجاة من الموت إذ لا موت بعد البعث قالَ استئناف كما مر إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ظاهره إلى يوم يبعثون حيث وقع في مقابلة كلامه لكن في سورة الحجر وص التقييد بيوم الوقت المعلوم، واختلف في المراد منه فالمشهور أنه يوم النفخة الأولى دون يوم البعث لأنه ليس بيوم موت، وجوز بعضهم أن يكون المراد منه يوم البعث ولا يلزم أن لا يموت فلعله يموت أول اليوم ويبعث مع الخلق في تضاعيفه:
وفي كتاب العرائس عن كعب الأحبار أن إبليس إنما يذوق طعم الموت يوم الحشر وذكر في كيفية موته وقبض عزرائيل روحه ما يقتضي منه العجب، ولم يرتض ذلك الفاضل السفاريني
وقال في كتابه البحور الزاخرة: أخرج نعيم بن حماد في الفتن والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا يلبثون- يعني الناس- بعد يأجوج وماجوج حتى تطلع الشمس من مغربها فتجف الأقلام وتطوى الصحف فلا يقبل من أحد توبة ويخر إبليس ساجدا ينادي إلهي مرني أن أسجد لمن شئت وتجتمع إليه الشياطين فتقول يا سيدنا إلى من نفزع؟ فيقول: إنما سألت ربي أن ينظرني إلى يوم البعث فانظرني إلى يوم الوقت المعلوم وقد طلعت الشمس من مغربها وهذا يوم الوقت المعلوم وتصير الشياطين ظاهرة في الأرض حتى يقول الرجل: هذا قريني الذي كان فالحمد لله الذي أخزاه ولا يزال إبليس ساجدا باكيا حتى تخرج الدابة فتقتله وهو ساجد
انتهى.
ومنه يعلم أن المراد باليوم المعلوم ما صرح به اللعين وهو قبل يوم النفخة الأولى بكثير، وهذا قول لم نر أحدا من المفسرين ذكره وهو الذي ارتضاه هذا الفاضل وقال: إن الخبر في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي وليس ابن مسعود ككعب الأحبار ممن يتلقى من كتب أهل الكتاب.
وأنت تعلم أنه إن صحت نسبة هذا الخبر إلى ابن مسعود ينبغي أن لا يعدل إلى القول بما يخالفه ولكن في صحة نسبته إليه رضي الله تعالى عنه عندي تردد. وقيل: المراد به وقت يعلم الله تعالى انتهاء أجله فيه وقد أخفى عنا وكذا عن اللعين، وأوجب على هذا أن يكون قبل النفخة الثانية. واستدل له بعضهم بأن اللعين كان مكلفا والمكلف لا يجوز أن يعلم أجله لأنه يقدم على المعصية بقلب فارغ حتى إذا قرب أجله تاب فتقبل توبته وهذا كالإغراء على المعاصي فيكون قبيحا. وأجيب بأن من علم الله تعالى من حاله أنه يموت على الطهارة والعصمة كالأنبياء عليهم السلام أو على الكفر والمعاصي كإبليس وأشياعه فإن إعلامه بوقت أجله لا يكون إغراء على المعصية لأنه لا يتفاوت حاله بسبب ذلك التعريف والإعلام، وظاهر النظم الكريم عند غير واحد أن هذه إجابة لدعائه كلا أو بعضا، وفي ذلك دليل لمن قال: إن دعاء الكافر قد يستجاب وهو الذي ذهب إليه الدبوسي وغيره من الفقهاء خلافا لما نقله في البزازية عن البعض من أنه لا يجوز أن يقال: إن دعاء الكافر مستجاب لأنه لا يعرف الله تعالى ليدعوه، والفتوى على الأول للظاهر
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «دعوة المظلوم مستجابة وإن كان كافرا» .
وحمل الكفر على كفران النعمة لا كفران الدين خلاف الظاهر، ولا يلزم من الاستجابة المحبة والإكرام فإنها قد تكون للاستدراج. وقال بعض المحققين: الجملة إخبار عن كونه من المنظرين في قضاء الله تعالى من غير ترتب على دعائه، وادعى أن ورودها اسمية مع التعرض لشمول ما سأله اللعين الآخرين على وجه يشعر بأن السائل تبع لهم في ذلك صريح في أن ذلك إخبار بأن الإنظار المذكور لهم أزلا لا إنشاء لإنظار خاص به إجابة لدعائه، ويعلم من ذلك أيضا أن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل ولا يخلو عن حسن، والحكمة في أنظاره ذلك الزمن الطويل مع ما هو عليه اللعنة من الإفساد مما ينبغي أن يفوض علمها إلى خالق العباد.
وقد ذكر الشهرستاني عن شارح الأناجيل الأربعة صورة مناظرة جرت بين الملائكة وبين إبليس بعد هذه الحادثة وقد ذكرت في التوراة، وهي أن اللعين قال للملائكة: إني أسلم أن لي إلها هو خالقي وموجدي وهو خالق الخلق لكن لي على حكمه أسئلة، الأول: ما الحكمة في الخلق لا سيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار.
الثاني: ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله
لهم من غير واسطة التكليف. الثالث: هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني بالسجود لآدم. الرابع: لما عصيته في ترك السجود فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه عظم الضرر. الخامس: أنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم. السادس: لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني، ومعلوم أن العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا، قال شارح الأناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادق العظمة والكبرياء يا إبليس أنت ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل انتهى.
وفي السؤال السادس ما يؤيد القول الأول في الجملة. ولا يخفى أن هذه الشبهات يصعب على القائلين بالحسن والقبح العقليين الجواب عنها بل قال الإمام: إنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا وكان الكل لازما. ويعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حمدان خرج يوما على جماعته فقال: قد عملت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا إلا إن كان أبا فراس وكان أبو فراس جالسا فقيل له: ما هو؟ فقال قولي:
لك جسمي تعله
…
فدمي لم تطله
فابتدر أبو فراس قائلا:
قال إن كنت مالكا
…
فلي الأمر كله
وعلل الزمخشري إجابته إلى استنظاره بأن في ذلك ابتلاء العباد وفي مخالفته أعظم الثواب وحكمه حكم ما خلق الله تعالى في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاهي والملاذ وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده. وتعقبه العلامة الثاني كغيره بأنه مبني على تعليل أفعاله تعالى بالأغراض وعدم إسناد خلق القبائح والشرور إليه سبحانه مع أنه ليس بشيء لأن حقيقة الابتلاء في حقه تعالى محال ومجازه لا يدفع السؤال، ولأن ما في متابعته من أليم العقاب أضعاف ما في مخالفته من عظيم الثواب بل لو لم يكن له الإنظار والتمكين لم يكن من العباد إلا الطاعات وترك المعاصي فلم يكن إلا الثواب كالملائكة. ولا يخفى ما فيه إلا أن قوله بعد: والأولى أن لا يخوض العبد في أمثال هذه الأسرار ويفوض حقيقتها إلى الحكيم المختار مما نقول به لأن معرفة ذلك في غاية الصعوبة على أرباب القال وأهل الجدل. هذا وإنما ترك التوقيت في هذه الآية ثقة بما وقع في سورة الحجر وص كما ترك ذكر النداء والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلا على ما ذكر فيهما.
فإن قلت: لا ريب في أن الكلام المحكي له عند صدوره عن المتكلم حالة مخصوصة تقتضي وروده على وجه خاص من وجوه النظم بحيث لو أخل بشيء من ذلك سقط الكلام عن رتبة البلاغة البتة فالكلام الواحد المحكي على وجوه شتى إن اقتضى الحال وروده على وجه معين من تلك الوجوه الواردة عند تلك الحكاية فذلك الوجه هو المطابق لمقتضى الحال والبالغ إلى رتبة البلاغة دون ما عداه من الوجوه ونقول حينئذ: لا نخفي أن استنظار اللعين إنما صدر عنه مرة واحدة لا غير فمقامه إن اقتضى إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على ما حاق به من اللعن والطرد على نهج استدعاء الجبر في مقابلة الكسر كما هو المتبادر من قوله: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الحجر: 36، ص: 79] حسبما حكي عنه في السورتين فما حكي عنه هاهنا يكون بمعزل من المطابقة لمقتضى الحال فضلا عن العروج إلى معارج الإعجاز.
«قلت» : أجاب مولانا شيخ الإسلام عن هذا السؤال بعد أن ساقه بأن مقام استنظاره مقتض لما ذكر من إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على الحرمان المدلول عليه بالطرد والرجم وكذا مقام الإنظار مقتض لترتيب الأخبار بالإنظار على الاستنظار. وقد طبق الكلام عليه في تينك السورتين وفى كل من مقامي الحكاية والمحكي جميعا حظه، وأما هاهنا فحيث اقتضى مقام الحكاية مجرد الإخبار بالاستنظار والإنظار سيقت الحكاية على نهج الإيجاز والاختصار من غير تعرض لكيفية كل منهما عند المخاطبة والجواب. ولا يلزم أن لا يكون ذلك نقلا للكلام على ما هو عليه ولا مطابقا لمقتضى المقام. فالذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله وأما كيفية الإفادة فقد تراعى وقد لا تراعى حسب الاقتضاء. ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد تراعى عند نقله كيفيات لم يراعها المتكلم أصلا بل قد لا يقدر على مراعاتها. وجميع المقالات المحكية في الآيات من ذلك القبيل وإلا لما كان الكثير منها معجزا، وملاك الأمر في المطابقة مقام الحكاية وأما مقام المحكي فإن كان مقتضاه موافقا لذلك وفي كل منهما حقه كما في السورتين وإلا لا كما فيما هنا فليفهم.
قالَ استئناف كنظائره فَبِما أَغْوَيْتَنِي الفاء لترتيب مضمون الجملة التي بعد على الأنظار. والباء أما للقسم أو للسببية. وما على التقديرين مصدرية، والجار والمجرور متعلق بأقسم وقيل: إنه على تقدير السببية متعلق بما بعد اللام، وفيه أن لها الصدد على الصحيح فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وجوز بعضهم كون ما استفهامية لم يحذف ألفها وأن الجار متعلق بأغويتني ولا يخفى ضعفه. والإغواء خلق الغي. وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل وغوى إذا بشم وفسدت معدته، وجاء بمعنى الجهل من اعتقاد فاسد كما في قوله سبحانه: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النجم: 2] وبمعنى الخيبة كما في قوله:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره
…
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
ومنه قوله تعالى: «وعصى آدم ربه فغوى» واستعمل بمعنى العذاب مجازا بعلاقة السببية. ومنه قوله تعالى:
فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ولا مانع عند أهل السنة أن يراد بالإغواء هنا خلق الغي بمعنى الضلال أي بما أضللتني وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ونسبة الإغواء بهذا المعنى إلى الله عز وجل مما يقتضيه عموم قوله سبحانه: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102، الرعد: 16، الزمر: 62] والمعتزلة يأبون نسبة مثل ذلك إليه سبحانه وقالوا في هذا تارة: إنه قول الشيطان فليس بحجة، وأولوه أخرى بأن الإغواء النسبة إلى الغي كأكفره إذا نسبه إلى الكفر أو إنه بمعنى إحداث سبب الغي وإيقاعه وهو الآمر بالسجود.
وقال بعضهم: إن الغي هنا بمعنى الخيبة أي بما خيبته من رحمتك أو الهلاك أي بما أهلكته بلعنك إياه وطردك له، والذي دعاهم إلى هذا كله عدم قولهم بأن الله تعالى خالق كل شيء وأنه سبحانه لا خالق غيره ولم يكفهم ذلك حتى طعنوا بأهل السنة القائلين بذلك. وما الظن بطائفة ترضى لنفسها من خفايا الشرك بما لم يسبق إبليس عليه اللعنة نعوذ بالله سبحانه وتعالى من التعرض لسخطه. نعم الإغواء بمعنى الترغيب بما فيه الغواية والأمر به كما هو مراد اللعين من قوله: لَأُغْوِيَنَّهُمْ مما لا يجوز من الله تعالى شأنه كما لا يخفى، ثم إن كانت الباء للقسم يكون المقسم به صفة من صفات الأفعال وهو مما يقسم به في العرف وإن لم تجر الفقهاء به أحكام اليمين.
ولعل القسم وقع من اللعين بهما جميعا فحكى تارة قسمه بأحدهما وأخرى بالآخر، وإن كانت سببية فالقسم بالعزة أي فبسبب إغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ أي لآدم عليه السلام وذريته ترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ الموصل إلى الجنة وهو الحق الذي فيه رضاك.
أخرج أحمد، والنسائي، وابن حبان، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان عن سبرة بن الفاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم في طرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في طوله؟ فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: هو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد ثم قال صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك منهم فمات أو وقصته دابته فمات كان حقا على الله تعالى أن يدخله الجنة»
ولعل الاقتصار منه صلى الله عليه وسلم على هذه المذكورات للاعتناء بشأنها والتنبيه على عظم قدرها لما أن المقام قد اقتضى ذلك لا للحصر. ونظير ذلك ما روي عن ابن عباس. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما. وغيرهما من تفسير الصراط المستقيم بطريق مكة والكلام من باب الكناية أو التمثيل، ونصب الصراط إما على أنه مفعول به بتضمين «أقعدن» معنى ألزمن أو على نزع الخافض أي على صراطك كقولك ضرب زيد الظهر والبطن أو على الظرفية وجاء نصب ظرف المكان المختص عليها قليلا، ومن ذلك في المشهور قوله:
لدن بهز الكف يعسل متنه
…
فيه كما عسل الطريق الثعلب
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي من الجهات الأربع التي يعتاد هجوم العدو منها، والمراد لأسوّلن لهم ولأضلنهم بقدر الإمكان إلا أنه شبه حال تسويله ووسوسته لهم كذلك بحال إتيان العدو لمن يعاديه من أي جهة أمكنته ولذا لم يذكر الفوق والتحت إذ لا إتيان منهما فالكلام من باب الاستعارة التمثيلية ولَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ على ما قيل ترشيح لها، وبعضهم لم يخرج الكلام على التمثيل واعتذر عن ترك جهة الفوق بأن الرحمة تنزل منها وعن ترك جهة التحت بأن الإتيان منها يوحش، والاعتذار عن الأول بما ذكر أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وروي أيضا عن عكرمة. والشعبي والاعتذار عن الثاني نسبه الطبرسي إلى الحبر أيضا، ولا يبعد على ذلك أن يكون الكلام تمثيلا أيضا ويكون الفرق بين التوجيهين بأن ترك هاتين الجهتين على الأول لعدمهما في الممثل به وعلى الثاني لعدمها في الممثل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قبل الآخرة لأنها مستقبلة آتية وما هو كذلك كأنه بين الأيدي وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبل الدنيا لأنها ماضية بالنسبة إلى الآخرة ولأنها فانية متروكة مخلفة وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من جهة حسناتهم وسيئاتهم، وتفسير الإيمان بالحسنات والشمائل بالسيئات لأنهم يجعلون المحبوب في جهة اليمين وغيره في جهة الشمال كما قال:
بثين أفي يمنى يديك جعلتني
…
فأفرح أم صيرتني في شمالك
وقال الأصمعي: يقال هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال على عكس ذلك، والكلام على هذا يجوز أن يكون فيه مجازات أو استعارات أو كنايات. ونظير هذا ما قيل: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه وَمِنْ خَلْفِهِمْ من حيث لا يعلمون وعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك، وقال بعض حكماء الإسلام: إن في البدن قوى أربعا: القوة الخالية التي تجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ. والقوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: وَمِنْ خَلْفِهِمْ. والقوة الشهوانية ومحلها الكبد وهو عن
يمين الإنسان وإليها الإشارة بقوله: وَعَنْ أَيْمانِهِمْ. والقوة الغضبية ومحلها القلب الذي هو في الشق الأيسر وإليها الإشارة بقوله: وَعَنْ شَمائِلِهِمْ والشيطان ما لم يستعن بشيء من هذه القوى لا يقدر على إلقاء الوسوسة، وهذا عندي نوع من الإشارة كما لا يخفى، وقيل: غير ذلك، وإنما عدي الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم، ونظيره قولهم: جلست عن يمينه، وذكر القطب في بيان وجه ذلك ما بناه على ما قاله بعض حكماء الإسلام وهو أن من للاتصال وعن الانفصال، وأثر الشيطان في قوتي الدماغ حصول العقائد الباطلة كالشرك والتشبيه والتعطيل، وهي مرتسمة في النفس الإنسانية متصلة بها، وفي الشهوة والغضب حصول الأعمال السيئة الشهوانية والغضبية وهي تنفصل عن النفس وتنعدم فلهذا أورد في الجهتين الأوليين مِنْ الاتصالية وفي الآخرين عَنْ الانفصالية، وقيل: خص اليمين والشمال بعن لأن ثمة ملكين يقتضيان التجاوز عن ذلك وفيه نظر لا يخفى، وادعى بعضهم أن الآية كالدليل على أن اللعين لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه إذ لو أمكنه ذلك لذكره في باب المبالغة
وحديث «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»
من باب التمثيل. وقد يجاب بأن التمثيل اقتضى عدم الذكر فتدبر وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ أي مطيعين، وإنما قال ذلك ظنا كما روي عن الحسن. وأبي مسلم لقوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ: 20] لما رأى أن للنفس تسع عشرة قوة الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب. والقوى السبع النباتية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وأنها بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وأن ليس هناك ما يدعو إلى عالم الأرواح إلا قوة واحدة وهي العقل وما يصنع واحد مع متعدد:
أرى ألف بان لا يقوم بهادم
…
فكيف يبان خلفه ألف هادم
وعن الجبائي أنه سمع ذلك من الملائكة فقاله على سبيل القطع، وقيل: إنه رآه قبل في اللوح المحفوظ.
ووجد إما بمعنى صادف فينصب مفعولا واحدا وهو أَكْثَرَهُمْ وشاكرين حال، وإما بمعنى علم فينصب مفعولين ثانيهما شاكِرِينَ والجملة إما معطوفة على المقسم عليه وإما مستأنفة، وإنما لم يفرعها على ما تقدم لأن مضمونها بمقتضى الجبلة أيضا لا بمجرد إغوائه، ووجه التعبير بالأكثر ظاهر قالَ استئناف كما مر غير مرة:
اخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو من زمرة الملائكة أو من السماء الخلاف السابق مَذْؤُماً أي مذموما كما روي عن ابن زيد أو مهانا لعينا كما روي عن ابن عباس وقتادة، وفعله ذأم. وقرأ الزهري «مذوما» بذال مضمومة وواو ساكنة وفيه احتمالان الأول أن يكون مخففا من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها، والثاني أن يكون من ذام بالألف كباع وكان قياسه على هذا مذيم كمبيع إلا أنه أبدلت الواو من الياء على حد قولهم. مكول في مكيل مع أنه من الكيل، ونصبه على الحال وكذا قوله تعالى: مَدْحُوراً وهو من الدحر بمعنى الطرد والإبعاد، وجوز في هذا أن يكون صفة، واللام في قوله سبحانه: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ على ما في الدر المصون موطئة للقسم ومن شرطية في محل رفع مبتدأ. وقوله عز اسمه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ جواب القسم وهو سادّ مسد جواب الشرط، والخلاف في خبر المبتدأ في مثل ذلك مشهور، وجوز أن تكون اللام لام الابتداء ومن موصولة مبتدأ صلتها تَبِعَكَ والجملة القسمية خبر. وقرأ عصمة عن عاصم «لمن» بكسر اللام فقيل: إنها متعلقة بلأملأن. ورد بأن لام القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وقيل: إنها متعلقة بالذأم والدحر على التنازع وأعمال الثاني أي أخرج بهاتين الصفتين لأجل اتباعك، وقيل: إن الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف يقدر مؤخرا أي لمن اتبعك هذا الوعيد. ودل عليه قوله سبحانه: لَأَمْلَأَنَّ إلخ، ولعل ذلك مراد الزمخشري بقوله: أن لَأَمْلَأَنَّ في محل المبتدأ ولَمَنْ تَبِعَكَ
خبره كما يرشد إليه بيان المعنى. ومِنْكُمْ بمعنى منك ومنهم فغلب فيه المخاطب كما في قوله سبحانه: أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] ثم إن الظاهر أن هذه المخاطبات لإبليس عليه اللعنة كانت منه عز وجل من غير واسطة وليس المقصود منها الإكرام والتشريف بل التعذيب والتعنيف، وذهب الجبائي إلى أنها كانت بواسطة بعض الملائكة لأن الله تعالى لا يكلم الكافر وفيه نظر.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: المص الألف إشارة إلى الذات الأحدية واللام إلى الذات مع صفة العلم والميم إلى معنى محمد وهي حقيقته والصاد إلى صورته عليه الصلاة والسلام. وقد يقال: الألف إشارة إلى التوحيد والميم إلى الملك واللام بينهما واسطة لتكون بينهما رابطة والصاد لكونه حرفا كرى الشكل قابلا لجميع الأشكال كما قال الشيخ الأكبر قدس سره: فيه إشارة إلى أن الأمر وإن ظهر بالأشكال المختلفة والصورة المتعددة أوله وآخره سواء، ولا يخفى لطف افتتاح هذه السورة بهذه الأحرف بناء على ما ذكره الشيخ قدس سره في فتوحاته من أن لكل منها ما عدا الألف الأعراف وأما الألف فقد ذكر نفعنا الله تعالى ببركات علومه أنه ليس من الحروف عند من شم رائحة من الحقائق لكن قد سمته العامة حرفا فإذا قال المحقق ذلك فإنما هو على سبيل التجوز في العبادة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي ضيق من حمله فلا تسعه لعظمه فتتلاشى بالفناء والوحدة والاستغراق في عين الجمع لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي ليمكنك الإنذار والتذكير إذ بالاستغراق لا ترى إلا الحق فلا يتأتى منك ذلك وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ من قرى القلوب أَهْلَكْناها أفسدنا استعدادها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أي بائتين على فراش الغفلة في ليل الشباب أَوْ هُمْ قائِلُونَ تحت ظلال الأمل في نهار المشيب وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ هو عند كثير من الصوفية اعتبار الأعمال. وذكروا أن لسان ميزان الحق هو صفة العدل وإحدى كفتيه هو عالم الحس والكفة الأخرى هو عالم العقل فمن كانت مكاسبه من المعقولات الباقية والأخلاق الفاضلة والأعمال الخيرية المقرونة بالنية الصادقة ثقلت أي كانت ذا قدر وأفلح هو أي فاز بالنعيم الدائم ومن كانت مقتنياته من المحسوسات الفانية واللذات الزائلة والشهوات الفاسدة والأخلاق الرديئة خفت ولم يعتن بها وخسر هو نفسه لحرمانه النعيم وهلاكه وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ إذ جعلناكم خلفاء فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ متعددة دون غيركم فإن له معيشة واحدة. وذلك لأن الإنسان فيه ملكية وحيوانية وشيطانية فمعيشة روحه معيشة الملك ومعيشة بدنه الحيوان ومعيشة نفسه الأمارة معيشة الشيطان. وله معايش غير ذلك وهي معيشة القلب بالشهود. ومعيشة السر بالكشوف. ومعيشة سر السر بالوصال قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ولو شكرتم ما رضيتم بالدون.
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي ابتدأنا ذلك بخلق آدم عليه السلام وتصويره ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فإنه المظهر الأعظم،
وفي الخبر خلق الله آدم على صورته وفي رواية على صورة الرحمن
فَسَجَدُوا وانقادوا للحق إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ لنقصان بصيرته قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أراد اللعين أنه من الحضرة الروحانية وأن آدم عليه السلام ليس كذلك قالَ فَاهْبِطْ مِنْها أي من تلك الحضرة فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها لأن الكبر ينافيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الأذلاء بالميل إلى مقتضيات النفس قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي قسم بما هو من صفات الأفعال ولم يكن محجوبا عنها بل كان محجوبا عن الذات الأحدية لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وهو طريق التوحيد ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي لأجتهدن في إضلالهم، وقد تقدم ما قاله بعض حكماء الإسلام في ذلك، وفي تأويلات النيسابوري كلام كثير فيه وما قاله البعض أحسنه في هذا الباب، وذكر بعضهم لعدم التعرض لجهتي
الفوق والتحت وجها وهو أن الإتيان من الجهة الأولى غير ممكن له لأن الجهة العلوية هي التي تلي الروح ويرد منها الإلهامات الحقة والإلقاءات الملكية ونحو ذلك، والجهة السفلية يحصل منها الأحكام الحسية والتدابير الجزئية في باب المصالح الدنيوية وذلك غير موجب للضلالة بل قد ينتفع به في العلوم الطبيعية والرياضية وفيه نظر. وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (1) مستعملين ما خلق لهم لما خلق له. قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً حقيرا مَدْحُوراً مطرودا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ بالأنانية ورؤية غير الله تعالى وارتكاب المعاصي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ فتبقون محبوسين في سجن الطبيعة معذبين بنار الحرمان عن المراد وهو أشد العذاب وكل شيء دون فراق المحبوب سهل وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل.
وَيا آدَمُ اسْكُنْ اي وقلنا كما وقع في سورة البقرة فهذه القصة بتمامها معطوفة على مثلها وهو قوله سبحانه: قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا على ما ذهب إليه غير واحد من المحققين، وإنما لم يعطفوه على ما بعد
(1) الى هنا ربع القرآن ولله الحمد اه منه.
قالَ أي قال يا إبليس اخرج ويا آدم اسكن لأن ذلك في مقام الاستئناف والجزاء لما حلف عليه اللعين وهذا من تتمة الامتنان على بني آدم والكرامة لأبيهم، ولا على ما بعد قُلْنا لأنه يؤول إلى قلنا للملائكة يا آدم.
وادعى بعضهم أن الذي يقتضيه الترتيب العطف على ما بعد قالَ وبينه بماله وجه إلا أنه خلاف الظاهر، وتصدير الكلام بالنداء للتنبيه على الاهتمام بالمأمور به، وتخصيص الخطاب بآدم عليه السلام للإيذان بأصالته بالتلقي وتعاطي المأمور به. واسْكُنْ من السكنى وهو اللبث والإقامة والاستقرار دون السكون الذي هو ضد الحركة، وقد تقدم الكلام في ذلك وفي قوله سبحانه: أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وتوجيه الخطاب إليهما في قوله تعالى:
فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما لتعميم التشريف والإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به فإن حواء أسوة له عليه السلام في حق الأكل بخلاف السكنى فإنها تابعة له فيها ولتعليق النهي الآتي بهما صريحا، والمعنى: فكلا منها حيث شئتما كما في البقرة، ولم يذكر رَغَداً [البقرة: 35، 58] هنا ثقة بما ذكر هناك.
وقوله سبحانه: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ مبالغة في النهي عن الأكل منها وقرىء «هذي» وهو الأصل إلا أنه حذفت الياء وعوض عنها الهاء فهي هاء عوض لا هاء سكت. قال ابن جني: ويدل على أن الأصل هو الياء قولهم في المذكر: ذا والألف بدل من الياء إذ الأصل ذي بالتشديد بدليل تصغيره على ذيا وإنما يصغر الثلاثي دون الثنائي كما ومن فحذفت إحدى اليائين تخفيفا ثم أبدلت الأخرى ألفا كراهة أن يشبه آخره آخر كي.
فَتَكُونا أي فتصيرا مِنَ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم، وتكونا يحتمل الجزم على العطف على تَقْرَبا والنصب على أنه جواب النهي فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أي فعل الوسوسة لأجلهما أو ألقى إليهما الوسوسة وهي في الأصل الصوت الخفي المكرر، ومنه قيل لصوت الحلي: وسوسة، وقد كثرت فعللة في الأصوات كهينمة وهمهمة وخشخشة، وتطلق على حديث النفس أيضا وفعلها وسوس وهو لازم ويقال: رجل موسوس بكسر الواو ولا تفتح على ما قاله ابن الأعرابي. وقال غيره: يقال موسوس بالفتح وموسوس إليه فيكون الأول على الحذف والإيصال والكلام في كيفية وسوسة اللعين قد تقدمت الإشارة إليه في سورة البقرة.
لِيُبْدِيَ لَهُما أي ليظهر لهما، واللام إما للعاقبة لأن الشيطان لم يقصد بوسوسته ذلك ولم يخطر له ببال وإنما آل الأمر إليه. وإما للتعليل على ما هو الأصل فيها، ولا يبعد أنه أراد بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما ولذلك عبر عنهما بالسوأة، ويكون هذا مبينا على الحدس أو العلم بالسماع من الملائكة أو الاطلاع على اللوح. قيل:
وفي ذلك دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع.
ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ما غطي وستر عنهما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وكانت مستورة بالنور على ما أخرجه الحكيم الترمذي وغيره عن وهب بن منبه أو بلباس كالظفر على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، وجمع السوءات على حد صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: 4] واعتبار الاجزاء بعيد، والمتبادر من هذا الكلام حقيقته: وقيل هو كناية عن إزالة الحرمة وإسقاط الجاه، ووُورِيَ بواوين ماضي وارى كضارب وضورب أبدلت ألفه واوا فالواو الأولى فاء الكلمة والثانية زائدة.
وقرأ عبد الله «أورى» بالهمزة لأن القاعدة إذ اجتمع واوان في أول كلمة فإن تحركت الثانية أو كان لها نظيرا متحرك وجب إبدال الأولى همزة تخفيفا مثال الأول أو يصل وأواصل في تصغير واصل وتصغيره ومثال الثاني أولى أصله وولى فأبدلت الأولى لما تحركت الثانية في الجمع وهو أول فإن لم يتحرك بالفعل أو القوة جاز الإبدال وعدمه كما هنا قاله الشهاب نقلا عن النحاة. وقرىء «سوأتهما» بالإفراد والهمزة على الأصل و «سوتهما» بإبدال الهمزة واوا
وإدغام الواو في الواو، وقرىء «سواتهما» بالجمع وطرح حركة الهمزة على ما قبلها وحذفها و «سوأتهما» بالطرح وقلب الهمزة واوا الإدغام وَقالَ عطف على وسوس بطريق البيان ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ أي الأكل منها إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ استثناء مفرغ من المفعول لأجله بتقدير مضاف أو حذف حرف النفي ليكون علة أي كراهية أن تكونا أو لئلا تكونا ملكين أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ أي لا يموتون أصلا أو الذين يخلدون في الجنة.
وقرأ ابن عباس ويحيى بن كثير مَلَكَيْنِ بكسر اللام. قال الزجاج: ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى حكاية عن اللعين هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه: 120] واستدل بالآية على أفضلية الملائكة حيث إن اللعين قال ذلك ولم ينكر عليه، وارتكب آدم عليه السلام المنهي عنه طمعا فيما أشار إليه الشيطان من الصيرورة ملكا فلولا أنه أفضل لم يرتكبه، وأجيب بأن رغبتهما إنما كانت في أن يحصل لهما أوصاف الملائكة من الكمالات الفطرية والاستغناء عن الأطعمة والأشربة ونحو ذلك ونحن لا نمنع أفضلية الملائكة من هذه الأوجه وإنما نمنع أفضليتهم من كل الوجوه والآية لا تدل عليه، وأيضا قد يقال: إن رغبتهما كانت في الخلود فقط وفي آية طه ما يشير إليه حيث عقب فيها الترغيب في الخلود بالأكل، واعترض بأن رغبتهما في الخلود تستلزم الكفر لما يلزم ذلك من إنكار البعث والقيامة، ومن ثم قال الحسن لعمرو بن عبيد لما قال له: إن آدم وحواء هل صدقا قول الشيطان: معاذ الله تعالى لو صدقا لكانا من الكافرين، وأجيب بأن المراد من الخلود طول المكث والتصديق به ليس بكفر ولو سلم أن المراد الدوام الأبدي فلا نسلم أن اعتقاد ذلك إذ ذاك كفر لأن العلم بالموت والبعث بعده يتوقف على الدليل السمعي ولعله لم يصل إليهما وقتئذ.
وادعى بعضهم أن المراد بالخلود الخلود العارض بعد الموت بدخول الجنة وحينئذ لا إشكال إلا أنه خلاف الظاهر. وعن السيد المرتضى في معنى الآية أنه قال: إن اللعين أوهمهما أن المنهي عن تناول الشجرة الملائكة والخالدون خاصة دونهما كما يقول أحدنا لغيره: ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا يريد أن المنهي هو فلان دونك، وهو كما ترى وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أقسم لهما، وإنما عبر بصيغة المفاعلة للمبالغة لأن من يباري أحدا في فعل يجد فيه فاستعمل في لازمه، وقيل: المفاعلة على بابها، والقسم وقع من الجانبين لكنه اختلف متعلقه فهو أقسم لهما على النصح وهما أقسما له على القبول.
وتعقب بأن هذا إنما يتم لوجود المقاسمة عن ذكر المقسم عليه وهو النصيحة أما حيث ذكر فلا يتم إلا أن يقال:
سمي قبول النصيحة نصيحة للمشاكلة والمقابلة كما قيل في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى [الأعراف: 142] أنه سمي التزام موسى عليه السلام الوفاء والحضور للميعاد ميعادا فأسند التعبير بالمفاعلة، وقيل: قالا له أتقسم بالله تعالى إنك لمن الناصحين؟ وأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة. وعلى هذا فيكون- كما قال ابن المنير- في الكلام لف لأن آدم وحواء عليهما السلام لا يقسمان بلفظ التكلم بل بلفظ الخطاب، وقيل: إنه إلى التغليب أقرب، وقيل: إنه لا حاجة إليه بأن يكون المعنى حلفا عليه بأن يقول لهما: إني لكما لمن الناصحين فَدَلَّاهُما أي حطهما عن درجتهما وأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية فهو من دلى الدلو في البئر كما قاله أبو عبيدة وغيره. وعن الأزهري أن معناه أطمعهما. وأصله من تدلية العطشان شيئا في البئر فلا يجد ما يشفي غليله. وقيل: هو من الدالة وهي الجرأة في كما قال:
أظن الحلم دل على قومي
…
وقد يستجهل الرجل الحليم
فأبدل أحد حرفي التضعيف ياء بِغُرُورٍ أي بما غرهما به من القسم أو متلبسين به، فالباء للمصاحبة أو الملابسة. والجار والمجرور حال من الفاعل أو المفعول. وجعل بعضهم الغرور مجازا عن القسم لأنه سبب له ولا حاجة إليه، وسبب غرورهما على ما قاله غير واحد أنهما ظنا أن أحدا لا يقسم بالله تعالى كاذبا ورووا في ذلك خبرا.
وظاهر هذا أنهما صدقا ما قاله فأقدما على ما نهيا عنه.
وذهب كثير من المحققين أن التصديق لم يوجد منهما لا قطعا ولا ظنا. وإنما أقدما على المنهي عنه لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال: ولعل كلام اللعين على هذا من قبيل المقدمات الشعرية أثار الشهوة حتى غلبت ونسي معها النهي فوقع الإقدام من غير روية، وقال القطب: يمكن أن يقال إن اللعين لما وسوس لهما بقوله: ما نَهاكُما إلخ فلم يقبلا منه عدل إلى اليمين على ما قال سبحانه وَقاسَمَهُما فلم يصدقاه أيضا فعدل بعد ذلك إلى شيء آخر وكأنه أشار إليه سبحانه بقوله تعالى:
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات حتى صارا مستغرقين بها فنسي النهي كما يشير إليه قوله تعالى:
فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] وجعل العتاب الآتي عى ترك التحفظ فتدبر فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ أي أكلا منها أكلا يسيرا بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما قال الكلبي: تهافت عنهما لباسهما فأبصر كل منهما عورة صاحبه فاستحيا وَطَفِقا أخذا وجعلا فهو من أفعال الشروع وكسر الفاء فيه أفصح من فتحها وبه قرأ أبو السمال يَخْصِفانِ أي يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة، وأصل معنى الخصف الخرز في طاقات النعال ونحوها بإلصاق بعضها ببعض. وقيل أصله الضم والجمع عَلَيْهِما أي على سوآتها أو على بدنهما ففي الكلام مضاف مقدر.
وقيل: الضمير عائد على «سوءاتهما» .
مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وكان ذلك بعض ورق التين على ما روي عن قتادة. وقيل: الموز وقرأ الزهري يَخْصِفانِ من أخصف، وأصله خصف إلا أنه- كما قال الجاربردي- نقل إلى أخصف للتعدية، وضمن الفعل لذلك معنى التصيير فصار الفاعل في المعنى مفعولا للتصيير علا لأصل الفعل فيكون التقدير يخصفان أنفسهما أي يجعلان أنفسهما خاصفين عليهما من ورق الجنة فحذف مفعول التصيير. وجوز بعضهم كون خصف واخصف بمعنى. وقرأ الحسن «يخصّفان» بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد من الافتعال، وأصله يختصفان سكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وقرأ يعقوب بفتحها وقرىء «يخصّفان» من خصف المشدد بفتح الخاء وقد ضمت اتباعا للياء وهي قراءة عسرة النطق وَناداهُما رَبُّهُما بطريق العتاب والتوبيخ أَلَمْ أَنْهَكُما تفسير للنداء فلا محل له من الإعراب أو معمول لقول محذوف أي وقال أو قائلا: ألم أنهكما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ إشارة إلى الشجرة التي نهيا عن قربانها، والتثنية لتثنية المخاطب.
وَأَقُلْ لَكُما عطف على «أنهكما» أي ألم أقل لكما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة، وهذا- على ما قيل: عتاب وتوبيخ على الاغترار بقول العدو كما أن الأول عتاب على مخالفة النهي. ولم يحك هذا القول هاهنا، وقد حكي في سورة بقوله سبحانه: إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه: 117] الآية ولَكُما متعلق بعدو لما فيه من معنى الفعل أو بمحذوف وقع حالا منه.
واستدل بعضهم بالآية على أن مطلق النهي للتحريم لما فيها من اللوم الشديد مع الندم والاستغفار المفهوم مما يأتي. والأكثرون على أن النهي هنا للتنزيه وندمهما واستغفارهما على ترك الأولى وهو في نظرهما عظيم وقد يلام عليه أشد اللوم إذا كان فاعله من المقربين قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا أي ضررناها بالمعصية، وقيل: نقصناها حظها
بالتعرض للإخراج من الجنة، وحذفا حرف النداء مبالغة في التعظيم لما أن فيه طرفا من معنى الأمر.
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا ذلك بعدم العقاب عليه وَتَرْحَمْنا بالرضا علينا، وقيل: المراد وإن لم تستر علينا بالحفظ عما يتسبب نقصان الحظ وترحمنا بالتفضل علينا بما يكون عوضا عما فاتنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ جواب قسم مقدر دل على جواب الشرط السابق على ما قبل. واستدل بالآية على أن الصغائر يعاقب عليها مع اجتناب الكبائر إن لم يغفر الله تعالى. وذهبت المعتزلة إلى أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر وإن لم يتب العبد منها، وجعلوا لذلك ما ذكر هنا جاريا على عادة الأولياء والصالحين في تعظيمهم الصغير من السيئات وتصغيرهم العظيم من الحسنات فلا ينافي كونهما مغفورا لهما، والكثير من أهل السنة جعلوه من باب هضم النفس بناء على أن ما وقع كان عن نسيان ولا كبيرة ولا صغيرة معه. وادعى الإمام أن ذلك الإقدام كان صغيرة، وكان قبل نبوة آدم عليه السلام إذ لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام بعد النبوة كبيرة ولا صغيرة، والكلام في هذه المسألة مشهور قالَ استئناف كما مر مرارا اهْبِطُوا المأثور عن كثير من السلف أنه خطاب لآدم وحواء عليهما السلام وإبليس عليه اللعنة، وكرر الأمر له تبعا لهما إشارة إلى عدم انفكاكه عن جنسهما في الدنيا أو أن الأمر وقع مفرقا وهذا نقل له بالمعنى وإجمال له كما في قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: 51] وقيل: إن الأمر بالنسبة إلى اللعين غير ما تقدم فإنه أمر له بالهبوط من حيث وسوس.
واختار الفراء كونه خطابا لهما ولذريتهما وفيه خطاب المعدوم، وقيل: إنه لهما فقط لقوله سبحانه: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [طه: 123] والقصة واحدة، وضمير الجمع لكونهما أصل البشر فكأنهم هم ومن الناس من قال: إن مختار الفراء هو هذا، وقيل: إنه لهما ولإبليس والحية. واعترض وأجيب بما مر في سورة البقرة، والظاهر من النظم الكريم أن آدم عليه السلام عاجله ربه سبحانه بالعتاب والتوبيخ على فعله ولم يتخلل هناك شيء، ونقل الأجهوري عن حجة الإسلام الغزالي أنه عليه السلام لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الفضلة ولم يكن ذلك مجعولا في الجنة في شيء من أطعمتها إلا في تلك الشجرة فلذلك نهي عن أكلها فجعل يدور في الجنة فأمر الله تعالى ملكا يخاطبه فقال له: أي شيء تريد يا آدم؟ قال: أريد أن أضع ما في بطني من الأذى فقال له: في أي مكان تضعه أعلى الفرش أم على السرر أم في الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى هاهنا مكانا يصلح لذلك ثم أمره بالهبوط وأنا لا أرى لهذا الخبر صحة، ومثله ما
روي عن محمد بن قيس قال: إنه عليه السلام لما أكل من الشجرة ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال: أطعمتني حواء فقال سبحانه: يا حواء لم أطعمتيه؟ قالت أمرتني الحية فقال للحية: لم أمرتها؟
قالت: أمرني إبليس فقال الله تعالى: أما أنت يا حواء فلأدمينّك كل شهر كما أدميت الشجرة. وأما أنت يا حية فأقطع رجليك فتمشين على وجهك وسيشدخ وجهك كل من لقيك. وأما أنت يا إبليس فملعون.
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ في موضع الحال من فاعل «اهبطوا» وهي حال مقارنة أو مقدرة، واختار بعض المعربين كون الجملة استئنافية كأنهم لما أمروا بالهبوط سألوا كيف يكون حالنا؟ فأجيبوا بأن بعضكم لبعض عدو، وأمر العداوة على تقدير دخول الشيطان في الخطاب ظاهر، وأما على تقدير التخصيص بآدم وحواء عليهما السلام فقد قيل: إنه باعتبار أن يراد بهما ذريتهما إما بالتجوز كإطلاق تميم على أولاده كلهم أو يكتفى بذكرهما عنهم، واختار بعضهم كون العداوة هنا بمعنى الظلم أي يظلم بعضكم بعضا بسبب تضليل الشيطان فليفهم.
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي استقرار أو موضع استقرار فهو إما مصدر ميمي أو اسم مكان. وجوز أن يكون اسم مفعول بمعنى ما استقر ملككم عليه وجاز تصرفكم فيه. ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ومحتاج إلى الحذف
والإيصال، واللفظ في نفسه يحتمل أن يكون اسم زمان إلا أنه غير محتمل هنا لأنه يتكرر مع قوله سبحانه: وَمَتاعٌ أي بلغة إِلى حِينٍ يريد به وقت الموت، وقيل: القيامة وتجعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض أو يقال: معنى «لكم» لجنسكم ولمجموعكم، والظرف قيل: متعلق بمتاع أو به وبمستقر على التنازع إن كان مصدرا، وقيل: إنه متعلق بمحذوف وقع صفة لمتاع.
قالَ أعيد للاستئناف إما للإيذان بعدم اتصال ما بعده بما قبله. وإما لإظهار العناية بما بعده وهو قوله سبحانه: فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ عند البعث يوم القيامة. وقرأ أهل الكوفة غير عاصم تُخْرَجُونَ بفتح التاء وضم الراء على البناء للفاعل يا بَنِي آدَمَ خطاب للناس كافة. واستدل به على دخول أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد. ولا يخفى سر هذا العنوان في هذا المقام.
قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أي خلقنا لكم ذلك بأسباب نازلة من السماء كالمطر الذي ينبت به القطن الذي يجعل لباسا قاله الحسن، وعن أبي مسلم أن المعنى أعطيناكم ذلك ووهبنا لكم وكل ما أعطاه الله تعالى لعبده فقد أنزله عليه من غير أن يكون هناك علو أو سفل بل هو جار مجرى التعظيم كما تقول: رفعت حاجتي إلى فلان وقصتي إلى الأمير وليس هناك نقل من سفل إلى علو، وقيل: المراد قضينا لكم ذلك وقسمناه وقضاياه تعالى وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتب في اللوح المحفوظ. وعلى كل فالكلام لا يخلو عن مجاز. ويحتمل أن يكون في المسند وهو الظاهر. ويحتمل أن يكون في اللباس أو الإسناد.
وقوله سبحانه: يُوارِي أي يستر ترشيح على بعض الاحتمالات. وعن الجبائي أن الكلام على حقيقة مدعيا نزول ذلك مع آدم وحواء من الجنة حين أمرا بالهبوط إلى الأرض ولم نقف في ذلك على خبر كسته الصحة لباسا. نعم
أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أهبط آدم وحواء عليهما السلام عريانين جميعا عليهما ورق الجنة فأصاب آدم الحر حتى قعد يبكي ويقول لها: يا حواء قد آذاني الحر فجاءه جبرائيل عليه السلام بقطن وأمرها أن تغزله وعلمها وعلم آدم وأمره بالحياكة وعلمه.
وجاء في خبر آخر أنه عليه السلام أهبط ومعه البذور فوضع إبليس عليها يده فما أصاب يده ذهب منفعته.
وفي آخر رواه ابن المنذر عن ابن جريج أنه عليه السلام أهبط معه ثمانية أزواج من الإبل والبقر والضأن والمعز وباسنة والعلاة والكلبتان وغريسة عنب وريحان.
وكل ذلك على ما فيه لا يدل على المدعي وإن صلح بعض ما فيه لأن يكون مبدأ لما يواري سَوْآتِكُمْ أي التي قصد إبليس عليه اللعنة إبداءها من أبويكم حتى اضطر إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن ذلك. روي غير واحد أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون: لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها فنزلت هذه الآية، وقيل: إنهم كانوا يطوفون كذلك تفاؤلا بالتعري عن الذنوب والآثام، ولعل ذكر قصة آدم عليه السلام حينئذ للإيذان بأن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من قبل الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما فعل بأبويهم.
وفي الكشاف أن هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدء السوءات وخصف الورق عليها إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى وَرِيشاً أي زينة أخذا من ريش الطير لأنه زينة له. وعطفه على هذا من عطف الصفات فيكون اللباس موصوفا بشيئين مواراة السوأة والزينة. ويحتمل أن يكون من عطف الشيء على غيره.
أنزلنا لباسين لباس مواراة ولباس زينة فيكون مما حذف فيه الموصوف أي لباسا ريشا أي ذا ريش. وتفسير الريش
بالزينة مروي عن ابن زيد. وذكر بعض المحققين أنه مشترك بين الاسم والمصدر. وعن ابن عباس، ومجاهد، والسدي أن المراد به المال ومنه تريش الرجل أي تمول، وعن الأخفش أنه الخصب والمعاش، وقال الطبرسي: إنه جميع ما ويحتاج إليه.
وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه «ورياشا» وهو إما مصدر كاللباس أو جمع ريش كشعب وشعاب.
وَلِباسُ التَّقْوى أي العمل الصالح كما روي عن ابن عباس أو خشية الله تعالى كما روي عن عروة بن الزبير. أو الحياء كما روي عن الحسن أو الإيمان كما روي عن قتادة. والسدي أو ما يستر العورة وهو اللباس الأول كما روي عن ابن زيد أو لباس الحرب الدرع والمغفر والآلات التي يتقى بها من العدو كما روي عن زيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم، واختاره أبو مسلم أو ثياب النسك والتواضع كلباس الصوف والخشن من الثياب كما اختاره الجبائي. فاللفظ إما مشاكلة وإما مجاز وإما حقيقة، ورفعه بالابتداء وخبره جملة ذلِكَ خَيْرٌ والرابط اسم الإشارة لأنه يكون رابطا كالضمير.
وجوز أن يكون الخبر خَيْرٌ وذلِكَ صفة لباس، وإليه ذهب الزجاج وابن الأنباري وغيرهما. واعترض بأن الأسماء المبهمة أعرف من المعرف باللام ومما أضيف إليه والنعت لا بد أن يساوي المنعوت في رتبة التعريف أو يكون أقل منه. ولا يجوز أن يكون أعرف منه فلذا قيل: إن «ذلك» بدل أو بيان لا نعت. وأجيب بأن ذلك غير متفق عليه فإن تعريف اسم الإشارة لكونه بالإشارة الحسية الخارجة عن الوضع قيل: إنه أنقص من ذي اللام، وقيل: إنهما في مرتبة واحدة، وعن أبي علي وهو غريب أن ذلك لا محل له من الإعراب وهو فصل كالضمير. وقرىء «ولباس» التقوى بالنصب عطفا على «لباسا» قال بعض المحققين: وحينئذ يكون اللباس المنزل ثلاثة أو يفسر لِباسُ التَّقْوى بلباس الحرب أو يجعل الإنزال مشاكلة، وذكر على القراءة المشهورة أن «ذلك» إن كان إشارة للباس المواري فلباس التقوى حقيقة والإضافة لأدنى ملابسة، وإن كان للباس التقوى فهو استعارة مكنية تخييلية أو من قبيل- لجين الماء- وعلى كل تكون الإشارة بالبعيد للعظيم بتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحسي فتأمل ولا تغفل.
ذلِكَ أي إنزال اللباس المتقدم كله أو الأخير مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على عظيم فضله وعميم رحمته لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح يا بَنِي آدَمَ تكرير النداء للإيذان بكمال الاعتناء بمضمون ما صدر به لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ أي لا يوقعنكم في الفتنة والمحنة بأن يوسوس لكم بما يمنعكم به عن دخول الجنة فتطيعوه وقرىء «يفتننكم» بضم حرف المضارعة من أفتنه حمله على الفتنة، وقرىء «يفتنكم» بغير توكيد، وهذا نهي للشيطان في الصورة والمراد نهي المخاطبين عن متابعته وفعل ما يقود إلى الفتنة كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أي كما فتن أبويكم ومحنهما بأن أخرجهما منها فوضع السبب موضع المسبب، وجوز أن يكون التقدير لا يفتننكم فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم أو لا يخرجنكم بفتنته إخراجا مثل إخراجه أبويكم، ونسبة الإخراج إليه لأنه كان بسبب إغوائه وكذا نسبه النزع إليه في قوله سبحانه. يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما والجملة حال من أَبَوَيْكُمْ أو من فاعل أَخْرَجَ ولفظ المضارع- على ما قاله القطب لحكاية الحال الماضية لأن النزع السلب وهو ماض بالنسبة إلى الإخراج وإن كان العري باقيا.
وقوله جل شأنه: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ تعليل للنهي كما هو معروف في الجملة المصدرة بأن في أمثاله وتأكيد للتحذير لأن العدو إذا أتى من حيث لا يرى كان أشد وأخوف، والضمير في إِنَّهُ للشيطان.
وجوز أن يكون للشأن وهو تأكيد للضمير المستتر في يَراكُمْ وقبيله عطف عليه لا على البارز لأنه لا
يصلح للتأكيد. وجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر ومِنَ لابتداء الغاية وحَيْثُ ظرف لمكان انتفاء الرؤية وجملة لا تَرَوْنَهُمْ في محل جر بالإضافة: وعن أبي إسحاق أن حَيْثُ موصولة وما بعد صلة لها. ولعل مراده أن ذلك كالموصول وإلا فلا قائل به غيره كما قال أبو علي الفارسي والقبيل الجماعة فإن كانوا من أب واحد فهم قبيلة. والمراد بهم هنا جنوده من الجن. وقرأ اليزيدي «وقبيله» بالنصب وهو عطف على اسم إن، ويتعين كون الضمير للشيطان، ولا يصح كونه للشأن خلافا لمن وهم فيه لأنه لا يصلح العطف عليه ولا يتبع بتابع.
والقضية مطلقة لا دائمة فلا تدل على ما ذهب إليه المعتزلة من أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس أصلا ولا يتمثلون.
ويشهد لما قلنا ما صح من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لمقدّمهم حين رام أن يشغله عليه الصلاة والسلام عن صلاته فأمكنه الله تعالى منه وأراد أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد يلعب به صبيان المدينة فذكر دعوة سليمان عليه السلام فتركه. ورؤية ابن مسعود لجن نصيبين وما نقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن من زعم أنه رآهم ردت شهادته وعزر لمخالفته القرآن محمول- كما قال البعض- على زاعم رؤية صورهم التي خلقوا عليها إذ رؤيتهم بعد التشكل الذي أقدرهم الله تعالى عليه مذهب أهل السنة وهو رضي الله تعالى عنه من ساداتهم. وما نوزع به القول بقدرتهم على التشكل من استلزامه رفع الثقة بشيء فإن من رأى ولو ولده يحتمل أنه رأى جنيا تشكل به مردود بأن الله تعالى تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي لمثل ذلك المترتب عليه الريبة في الدين ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعا الاستلزام المذكور. وقول العلامة البيضاوي بعد تعريف الجن في سورتهم بما عرف. وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله تعالى بذلك ناشىء من عدم الاطلاع على الأحاديث الصحيحة الكثيرة المصرحة برؤيته صلى الله عليه وسلم لهم وقراءته عليهم وسؤالهم منه الزاد لهم ولدوابهم على كيفيات مختلفة. وعندي أنه لا مانع من رؤيته صلى الله عليه وسلم للجن على صورهم التي خلقوا عليها فقد رأى جبرائيل عليه السلام بصورته الأصلية مرتين وليست رؤيتهم بأبعد من رؤيته. ورؤية كل موجود عندنا في حيز الإمكان. واللطافة المانعة من رؤيتهم عند المعتزلة لا توجب الاستحالة ولا تمنع الوقوع خرقا للعادة. وكذا تعليل الأشاعرة عدم الرؤية بأن الله تعالى لم يخلق في عيون الأنس قوة الإدراك لا يقتضي الاستحالة أيضا لجواز أن يخلق الله تعالى في عين رسوله عليه الصلاة والسلام الرائي له جل شأنه بعيني رأسه على الأصح ليلة المعراج تلك القوة فيراهم، بل لا يبعد القول برؤية الأولياء رضي الله تعالى عنهم لهم كذلك لكن لم أجد صريحا ما يدل على وقوع هذه الرؤية. وأما رؤية الأولياء بل سائر الناس لهم متشكلين فكتب القوم مشحونة بها ودفاتر المؤرخين والقصاص ملأى منها. وعلى هذا لا يفسق مدعي رؤيتهم في صورهم الأصلية إذا كان مظنة للكرامة. وليس في الآية أكثر من نفي رؤيتهم كذلك بحسب العادة. على أنه يمكن أن تكون الآية خارجة مخرج التمثيل لدقيق مكرهم وخفي حيلهم وليس المقصود منها نفي الرؤية حقيقة. ومن هذا يعلم أن القول بكفر مدعي تلك الرؤية خارج عن الإنصاف فتدبر.
إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أي قرناء لهم مسلطين عليهم متمكنين من إغوائهم بما أوجدنا بينهم من المناسبة أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم منهم، والجملة إما تعليل آخر للنهي وتأكيد للتحذير إثر تأكيد وإما فذلكة لحكاية السابقة. وقوله سبحانه: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً جملة مبتدأة لا محل لها من الإعراب. وجوز عطفها على الصلة. والفاحشة الفعلة القبيحة المتناهية في القبح. والتاء إما لأنها مجراة على الموصوف المؤنث أي فعلة فاحشة وإما للنقل من الوصفية إلى الاسمية. والمراد بها هنا عبادة الأصنام وكشف العورة في الطواف ونحو ذلك.
وعن الفراء تخصيصها بكشف العورة. وفي الآية- على ما قاله الطبرسي- حذف، أي وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالُوا جواب للناهين وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها محتجين بأمرين: تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه. وتقديم المقدم للإيذان بأنه المعول عليه عندهم أو للإشارة منهم إلى أن آباءهم إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى على أن ضمير أَمَرَنا كما قيل لهم ولآبائهم. وحينئذ يظهر وجه الإعراض عن الأول في رد مقالتهم بقوله تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فإن عادته تعالى جرت على الأمر بمحاسن الأعمال والحث على مكارم الخصال وهو اللائق بالحكمة المقتضية أن لا يتخلف، وقال الإمام: لم يذكر سبحانه جوابا عن حجتهم الأولى لأنها إشارة إلى محض التقليد وقد تقرر في العقول أنه طريقة فاسدة لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التقليد حقا لزم القول بحقية الأديان المتناقضة وأنه محال فلما كان فساد هذا الطريق ظاهرا لم يذكر الله تعالى الجواب عنه، وذكر بعض المحققين أن الاعراض إنما هو عن التصريح برده وإلا فقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ إلخ متضمن للرد لأنه سبحانه إذا أمر بمحاسن الأعمال كيف يترك أمره لمجرد اتباع الآباء فيما هو قبيح عقلا والمراد بالقبح العقلي هنا نفرة الطبع السليم واستنقاص العقل المستقيم لا كون الشيء متعلق الذم قبل ورود النهي عنه وهو المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة دون الأول كما حقق في الأصول فلا دلالة في الآية على ما زعموه، وقيل: إن المذكور جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها لم فعلتم؟ قالوا وجدنا آباءنا فقيل: ومن أين أخذ آباؤكم؟ فقالوا: الله أمرنا بها والكلام حينئذ على تقدير مضاف أي أمر آباءنا وقيل: لا تقدير والعدول عن أمرهم الظاهر حينئذ للإشارة إلى ادعاء أن أمر آبائهم أمر لهم. وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه فلا دلالة في الآية على المنع من التقليد مطلقا.
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من تمام القول المأمور به، والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يكون، وتوجيه الإنكار إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون صدوره منه عز شأنه مع أن منهم من يقول عليه سبحانه ما يعلم عدم صدوره مبالغة في إنكار تلك الصورة، ولا دليل في الآية لمن نفى القياس بناء على أن ما يثبت به مظنون لا معلوم لأن ذلك مخصوص من عمومها بإجماع الصحابة ومن يعتد به أو بدليل آخر، وقيل: المراد بالعلم ما يشمل الظن قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ بيان للمأمور به إثر نفي ما أسند أمره إليه تعالى من الأمور المنهي عنها والقسط على ما قال غير واحد العدل، وهو الوسط من كل شيء المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط.
وقال الراغب: هو النصيب بالعدل كالنصف والنصفة. ويقال: القسط لأخذ قسط غيره وذلك جور والأقساط لإعطاء قسط غيره وذلك إنصاف ولذلك يقال: قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل. وهذا أولى مما قاله الطبرسي من أن أصله الميل فإن كان إلى جهة الحق فعدل. ومنه قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة: 42، الحجرات: 9، الممتحنة: 8] وإن كان إلى جهة الباطل فجور، ومنه قوله تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن: 15] والمراد به هنا- على ما نقل عن أبي مسلم- جميع الطاعات والقرب.
وروي عن ابن عباس، والضحاك أنه التوحيد وقول لا إله إلا الله، ومجاهد، والسدي، وأكثر المفسرين على أنه الاستقامة والعدل في الأمور وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أي توجهوا إلى عبادته تعالى مستقيمين غير عادلين إلى غيرها عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي في وقت كل سجود كما قال الجبائي أو مكانه كما قال غيره فعند بمعنى في والمسجد اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي، وكان حقه فتح العين لضمها في المضارع إلا أنه مما شذ عن القاعدة، وزعم بعضهم أنه مصدر ميمي والوقت مقدر قبله، والسجود مجاز عن الصلاة. وقال غير واحد: المعنى توجهوا إلى الجهة التي أمركم الله تعالى بالتوجه إليها في صلاتكم وهي جهة الكعبة، والأمر على القولين للوجوب.
واختار المغربي أن المعنى إذا أدركتم الصلاة في أي مسجد فصلوا ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم، والأمر على هذا للندب. والمسجد بالمعنى المصطلح ولا يخفى ما فيه من البعد. ومثله ما قيل: إن المعنى اقصد المسجد في وقت كل صلاة على أنه أمر بالجماعة ندبا عند بعض ووجوبا عند آخرين. والواو للعطف وما بعده قيل:
معطوف على الأمر الذي ينحل إليه المصدر مع أن أي أن أقسطوا. والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر، وقال الجرجاني: إنه عطف على الخبر السابق المقول لقل وهو إنشاء معنى. وإن أبيت فالكلام من باب الحكاية.
وجوز أن يكون هناك قل مقدرا معطوفا على نظيره. وأَقِيمُوا مقول له. وأن يكون معطوفا على محذوف تقديره قل أقبلوا وأقيموا وَادْعُوهُ أي اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة فالدعاء بمعنى العبادة لتضمنها له.
والدين بالمعنى اللغوي. وقيل: إن هذا أمر بالدعاء والتضرع إليه سبحانه على وجه الإخلاص أي ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له في الدين كَما بَدَأَكُمْ أي أنشأكم ابتداء تَعُودُونَ إليه سبحانه فيجازيكم على أعمالكم فامتثلوا أوامره أو فأخلصوا له العبادة فهو متصل بالأمر قبله. وقال الزجاج: إنه متصل بقوله تعالى: فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ ولا يخفى بعده. ولم يقل سبحانه: يعيدكم كما هو الملائم لما قبله إشارة إلى أن الإعادة دون البدء من غير مادة بحيث لو تصور الاستغناء عن الفاعل لكان فيها دونه فهو كقوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] سواء كانت الإعادة الإيجاد بعد الإعدام بالكلية أو جمع متفرق الأجزاء. وإنما شبهها سبحانه بالإبداء تقريرا لإمكانها والقدرة عليها. وقال قتادة: المعنى كما بدأكم من التراب تعودون إليه كما قال سبحانه: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه: 55] وقيل: المعنى كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تبعثون يوم القيامة.
وعن محمد بن كعب أن المراد أن من ابتدأ الله تعالى خلقه على الشقوة صار إليها وإن عمل بأعمال أهل السعادة ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بعمل أهل الشقاوة. ويؤيد ذلك ما
وقريب من هذا ما روي عن ابن جبير من أن المعنى: كما كتب عليكم تكونون. وروي عن الحبر أن المعنى كما بدأكم مؤمنا وكافرا يعيدكم يوم القيامة فهو كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: 2] وعليه يكون قوله سبحانه: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ بيانا وتفصيلا لذلك، ونظيره قوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 95] بعد قوله عز شأنه: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم» قيل وهو الأنسب بالسياق.
(1) الظاهر ان هذا صادر عن طريق التمثيل اه منه.
(2)
هو من قولهم: أجمل الحساب إذا تم ورد من التفصيل الى الجملة فاثبت في آخر الورقة مجموع ذلك وجملته وقوله: «فرغ ربكم» فذلكة الكلام ونتيجته.
وذكر الطيبي أن هاهنا نكتة سرية وهي أن يقال: إنه تعالى قدم في قوله سبحانه: «كما بدأكم تعودون» المشبه به على المشبه لينبه العاقل على أن قضاء الشؤون لا يخالف القدر والعلم الأزلي البتة وكما روعي هذه الدقيقة في المفسر روعيت في التفسير. وزيد أخرى عليها وهي أنه سبحانه قدم مفعول هَدى للدلالة على الاختصاص وأن فريقا آخر ما أراد هدايتهم. وقرر ذلك بأن عطف عليه وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ وأبرزه في صورة الإضمار على شريطة التفسير أي أضل فريقا حق عليهم الضلالة وفيه مع الاختصاص التوكيد كما قرره صاحب المفتاح لتنقطع ريبة المخالف ولا يقول: إن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالتهم انتهى.
وكأنه يشير بذلك إلى رد قول الزمخشري في قوله تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به، وهذا دليل على أن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالهم وإنهم هم الضالون باختيارهم وتوليتهم الشياطين دون الله تعالى فجملة إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا على هذا تعليل لقوله سبحانه:«وفريقا حق عليهم الضلالة» ويؤيد ذلك أنه قرىء «أنهم» بالفتح. ويحتمل أن تكون تأكيدا لضلالهم وتحقيقا له وأنا- الحق أحق بالاتباع- مع القائل: إن علم الله تعالى لا يؤثر في المعلوم وأن من علل الجبر به مبطل كيف والمتكلمون عن آخرهم قائلون: إن العلم يتعلق بالشيء على ما هو عليه إنما الكلام في أن قدرة الله تعالى لا أثر لها على زعم الضلّال أصحاب الزمخشري ونحن مانعون لذلك أشد المنع، ولا منع من التعليل بالاتخاذ عند الأشاعرة لثبوت الكسب والاختيار ويكفي هذه المدخلية في التعليل. والزمخشري قدر الفعل في قوله سبحانه وَفَرِيقاً حَقَّ خذل ووافقه بعض الناس وما فعله الطيبي هو المختار عند بعض المحققين لظهور الملاءمة فيه وخلوه عن شبهة الاعتزال.
واختير تقديره مؤخرا لتتناسق الجملتان، وهما عند الكثير في موضع الحال من ضمير تَعُودُونَ بتقدير قد أو مستأنفتان، وجوز نصب فَرِيقاً الأول وفَرِيقاً الثاني على الحال والجملتان بعدهما صفتان لهما، ويؤيد ذلك قراءة أبي «تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا» إلخ، والمنصوب على هذه القراءة إما بدل أو مفعول به لأعني مقدرا. ولم تلحق تاء التأنيث- لحق- للفصل أو لأن التأنيث غير حقيقي، والكلام على تقدير مضاف عند بعض أي حق عليهم كلمة الضلالة وهي قوله سبحانه:«ضلوا» وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ عطف على ما قبله داخل معه في حيز التعليل أو التأكيد.
ولعل الكلام من قبيل- بنو فلان قتلوا فلانا والأول لكونه في مقابلة من هداه الله تعالى شامل للمعاند والمخطئ والثاني مختص بالثاني وهو صادق على المقصر في النظر والباذل غاية الوسع فيه، واختلف في توجه الذم على الأخير وخلوده في النار. ومذهب البعض أنه معذور ولم يفرقوا بين من لا عقل له أصلا ومن له عقل لم يدرك به الحق بعد أن لم يدع في القوس منزعا في طلبه فحيث يعذر الأول لعدم قيام الحجة عليه يعذر الثاني لذلك، ولا يرون مجرد المالكية وإطلاق التصرف حجة ولله تعالى الحجة البالغة، والتزام أن كل كافر معاند بعد البعثة وظهور أمر الحق كنار على علم وأنه ليس في مشارق الأرض ومغاربها اليوم كافر مستدل، إلا يقدم عليه إلا مسلم معاند أو مسلم مستدل بما هو أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت. وادعى بعضهم أن المراد من المعطوف عليه المعاند ومن المعطوف المخطئ والظاهر ما قلنا. وجعل الجملة حالية على معنى اتخذوا الشياطين أولياء وهم يحسبون أنهم مهتدون في ذلك الاتخاذ لا يخفى ما فيه يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ أي ثيابكم لمواراة عوراتكم لأن المستفاد من الأمر الوجوب والواجب إنما هو ستر العورة عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي طواف أو صلاة، وإلى ذلك ذهب مجاهد وأبو الشيخ وغيرهما، وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان أناس من الأعراب
يطوفون بالبيت عراة حتى كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفلها سيورا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر من الذباب وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
…
وما بدا منه فلا أحله
فأنزل الله تعالى هذه الآية: وحمل بعضهم الزينة على لباس التجمل لأنه المتبادر منه ونسب للباقر رضي الله تعالى عنه،
وروي عن الحسن السبط رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فأحب أن ألبس أجمل ثيابي،
ولا يخفى أن الأمر حينئذ لا يحمل على الوجوب لظهور أن هذا التزين مسنون لا واجب، وقيل: إن الآية على الاحتمال الأول تشير إلى سنية التجمل لأنها لما دلت على وجوب أخذ الزينة لستر العورة عند ذلك فهم منه في الجملة حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال عنده، ونسب بيت الكذب إلى الصادق رضي الله عنه تعالى أن أخذ الزينة التمشط كأنه قيل: تمشطوا عند كل صلاة، ولعل ذلك من باب الاقتصار على بعض أنواع الزينة وليس المقصود حصرها فيما ذكر. ومثل ذلك ما
أخرجه ابن عدي وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا زينة الصلاة قالوا: وما زينة الصلاة؟ قال: البسوا نعالكم فصّلوا فيها» .
وأخرج ابن عساكر. وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: في قوله سبحانه: خُذُوا زِينَتَكُمْ إلخ «صلوا في نعالكم»
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا مما طاب لكم.
قال الكلبي: كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: يا رسول الله من أحق بذلك فأنزل الله تعالى الآية،
ومنه يظهر وجه ذكر الأكل والشرب هنا وَلا تُسْرِفُوا بتحريم الحلال كما هو المناسب لسبب النزول أو بالتعدي إلى الحرام كما روي عن ابن زيد أو بالإفراط في الطعام والشره كما ذهب إليه كثير، وأخرج أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: إياكم والبطنة من الطعام والشراب فإنها مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فإنه أصلح للجسد وأبعد من السرف وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
وقيل: المراد الإسراف ومجاوزة الحد بما هو أعم مما ذكر وعد منه أكل الشخص كلما اشتهى وأكله في اليوم مرتين،
فقد أخرج ابن ماجة والبيهقي عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت»
وأخرج الثاني وضعفه عن عائشة قالت: «رآني النبي صلى الله عليه وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين فقال يا عائشة أما تحبين أن يكون لك شغل إلا في جوفك الأكل في اليوم مرتين من الإسراف» .
وعندي أن هذا مما يختلف باختلاف الأشخاص، ولا يبعد أن يكون ما ذكر من الإفراط في الطعام وعد منه طبخ الطعام بماء الورد وطرح نحو المسك فيه مثلا من غير داع إليه سوى الشهوة، وذهب بعضهم إلى أن الإسراف المنهي عنه يعم ما كان في اللباس أيضا، وروي ذلك عن عكرمة، وأخرج ابن أبي شيبة، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. ورواه البخاري عنه تعليقا وهو لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما يشتهيه الناس كما قيل:
نصحته نصيحة قالت بها الأكياس
…
كل ما اشتهيت والبس ما تشتهيه الناس
فإنه لترك ما لم يعتد بين الناس وهذا لإباحة كل ما اعتادوه. وفي العجائب للكرماني قال طبيب نصراني لعلي
ابن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان فقال له: قد جمع الله تعالى الطب كله في نصف آية من كتابه قال: وما هي؟ قال: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فقال النصراني: ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب فقال: قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة قال: وما هي؟
قوله صلى الله عليه وسلم: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته»
فقال: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طلبا انتهى. وما نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
وفي الإحياء مرفوعا «البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء وعود وأكل جسد ما اعتاد» .
وتعقبه العراقي قائلا: لم أجد له أصلا.
وفي شعب الإيمان للبيهقي ولقط المنافع لابن الجوزي عن أبي هريرة مرفوعا أيضا «المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة فإذا صحت المعدة صارت العروق بالصحة وإذا فسدت المعدة صارت العروق بالقسم» .
وتعقبه الدارقطني قائلا: لا نعرف هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام عبد الملك بن سعيد بن أبجر.
وفي الدر المنثور أخرج محمد الخلال عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تشتكي فقال لها: «يا عائشة الأزم دواء والمعدة بيت الأدواء وعودوا البدن ما اعتاد»
ولم أر من تعقبه، نعم رأيت في النهاية لابن الأثير سأل عمرو الحارث بن كلدة ما الدواء؟ قال: الأزم يعني الحمية وإمساك الأسنان بعضها على بعض، نعم الأحاديث الصحيحة متظافرة في ذم الشبع وكثرة الأكل، وفي ذلك إرشاد للأمة إلى كل الحكمة.
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ بل يبغضهم ولا يرضى أفعالهم. والجملة في موضع التعليل للنهي، وقد جمعت هذه الآية- كما قيل- أصول الأحكام الأمر والإباحة والنهي والخبر.
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ من الثياب وكل ما يتجمل به الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ أي خلقها لنفعهم من النبات كالقطن، والكتان، والحيوان كالحرير، والصوف، والمعادن كالخواتم والدروع وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ أي المستلذات، وقيل: المحللات من المآكل والمشارب كلحم الشاة وشحمها ولبنها. واستدل بالآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة لأن الاستفهام في «من» لإنكار تحريمها على أبلغ وجه. ونقل عن ابن الفرس أنه قال: استدل بها من أجاز لبس الحرير والخز للرجال.
وروي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه أنه كان يشتري كساء الخز بخمسين دينارا فإذا أصاف تصدق به لا يرى بذلك بأسا و «يقول» قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده.
وروي أن الحسين رضي الله تعالى عنه أصيب وعليه جبة خز.
وأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما بعثه علي كرم الله تعالى وجهه إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه وتطيب بأطيب طيبه وركب أحسن مراكبه فخرج إليهم فوافقهم فقالوا: يا ابن عباس بينا أنت خير الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم فتلا هذه الآية لكن روي عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال: لم يأمرهم سبحانه بالحرير ولا الديباج ولكنه كان إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت منه فأنكر عليه ذلك، والحق أن كل ما لم يقم الدليل على حرمته داخل في هذه الزينة لا توقف في استعماله ما لم يكن فيه نحو مخيلة كما أشير إليه فيما تقدم.
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم خرج وعليه رداء قيمته ألف درهم،
وكان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يرتدي برداء قيمته أربعمائة دينار وكان يأمر أصحابه بذلك، وكان محمد يلبس الثياب النفيسة ويقول: إن لي نساء وجوار فأزين نفسي كي لا ينظرن إلى غيري. وقد نص الفقهاء على أنه يستحب التجمل
لقوله عليه الصلاة والسلام «إن الله تعالى إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه،
وقيل لبعضهم: أليس عمر رضي الله تعالى عنه كان يلبس قميصا عليه كذا رقعة فقال: فعل ذلك لحكمة هي أنه كان أمير المؤمنين وعماله يقتدون به وربما لا يكون لهم مال فيأخذون من المسلمين.
نعم كره بعض الأئمة لبس المعصفر والمزعفر وكرهوا أيضا أشياء أخر تطلب من محالها.
قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي هي لهم بالأصالة لمزيد كرامتهم على الله تعالى والكفرة وإن شاركوهم فيها فبالتبع فلا إشكال في الاختصاص المستفاد من اللام خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يشاركهم فيها غيرهم. وعن الجبائي أن المعنى: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة من الهموم والأحزان والمشقة وهي خالصة يوم القيامة من ذلك وانتصاب خالِصَةً على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والعامل فيه متعلقه. وقرأ نافع بالرفع على أنه خبر بعد خبر أو هو الخبر ولِلَّذِينَ متعلق به قدم لتأكيد الخلوص والاختصاص كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر احكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة.
وجوز أن يكون هذا التشبيه على حد قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] ونظائره مما تقدم تحقيقه.
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ أي ما تزايد قبحه من المعاصي وقيل: ما يتعلق بالفروج ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ بدل من الْفَواحِشَ أي جهرها وسرها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما ظهر الزنا علانية وما بطن الزنا سرا وقد كانوا يكرهون الأول ويفعلون الثاني فنهوا عن ذلك مطلقا.
وعن مجاهد ما ظهر التعري في الطواف وما بطن الزنا وقيل: الأول طواف الرجال بالنساء. والثاني طواف النساء بالليل عاريات وَالْإِثْمَ أي ما يوجب الإثم. وأصله الذم فأطلق على ما يوجبه من مطلق الذنب. وذكر للتعميم بعد التخصيص بناء على ما تقدم من معنى الفواحش. وقيل: إن الإثم هو الخمر كما نقل عن ابن عباس، والحسن البصري.
وذكره أهل اللغة كالأصمعي وغيره وأنشدوا له قول الشاعر:
نهانا رسول الله أن نقرب الزنا
…
وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا
وقول الآخر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي
…
كذاك الإثم يذهب بالعقول
وزعم ابن الأنباري أن العرب لا تسمي الخمر إثما في جاهلية ولا إسلام وأن الشعر موضوع. والمشهور أن ذلك
من باب المجاز لأن الخمر سبب الإثم. وقال أبو حيان وغيره: إن هذا التفسير غير صحيح هنا لأن السورة مكية ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد وأيضا يحتاج حينئذ إلى دعوى أن الحصر إضافي فتدبر.
وَالْبَغْيَ الظلم والاستطالة على الناس. وأفرد بالذكر بناء على التعميم فيما قبله أو دخوله في الفواحش للمبالغة في الزجر عنه بِغَيْرِ الْحَقِّ متعلق بالبغي لأن البغي لا يكون إلا كذلك.
وجوز أن يكون حالا مؤكدة وقيل: جيء به ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه فإنه يسمى بغيا في الجملة لكنه بحق وهو كما ترى وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي حجة وبرهانا. والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معا على أبلغ وجه كقوله:
لا ترى الضب بها ينجحر وفيه من التهكم بالمشركين ما لا يخفى وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف: 28] ولا يخفى ما في توجيه التحريم إلى قولهم عليه سبحانه ما لا يعلمون وقوعه دون ما يعلمون عدم وقوعه من السر الجليل وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم المهلكة أَجَلٌ أي وقت معين مضروب لاستئصالهم- كما قال الحسن-: وروي ذلك عن ابن عباس ومقاتل، وهذا كما قيل وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله تعالى كما نزل بالأمم قبلهم ورجوع إلى الحث على الاتباع بعد الاستطراد الذي قاله البعض.
وقد روعي نكتة في تعقيبه تحريم الفواحش حيث ناسبه أيضا. وفسر بعضهم الأجل هنا بالمدة المعينة التي أمهلوها لنزول العذاب، وفسره آخرون بوقت الموت وقالوا: التقدير ولكل أحد من أمة، وعلى الأول لا حاجة إلى التقدير فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ الضمير- كما قال بعض المحققين- إما للأمم المدلول عليها بكل أمة وإما لكل أمة، وعلى الأول فإظهار الأجل مضافا إلى ذلك الضمير لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بواسطة اكتساب الأجل بالإضافة عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل: إذا جاء آجالهم بأن يجيء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها. وعلى الثاني وهو الظاهر فالإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير. والإضافة لإفادة أكمل التمييز. وقرأ ابن سيرين «آجالهم» بصيغة الجمع، واستظهرها ابن جني وجعل الأفراد لقصد الجنسية والجنس من قبيل المصدر وحسنه الإضافة إلى الجماعة والفاء قيل: فصيحة وسقطت في آية يونس لما سنذكره إن شاء الله تعالى هناك.
والمراد من مجيء الأجل قربه أو تمامه أي إذا حان وقرب أو انقطع وتم لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً قطعة من الزمن في غاية القلة. وليس المراد بها الساعة في مصطلح المنجمين المنقسمة إلى ساعة مستوية وتسمى فلكية هي زمان مقدار خمس عشرة درجة أبدا ومعوجة وتسمى زمانية هي زمان مقدار نصف سدس النهار أو الليل أبدا. ويستعمل الأول أهل الحساب غالبا. والثانية الفقهاء وأهل الطلاسم ونحوهم. وجملة الليل والنهار عندهم أربع وعشرون ساعة أبدا. سواء كانت الساعة مستوية أو معوجة إلا أن كلا من الليل والنهار لا يزيد على اثنتي عشرة ساعة معوجة أبدا.
ولهذا تطول وتقصر وقد تساوي الساعة المستوية وذلك عند استواء الليل والنهار. والمراد لا يتأخرون أصلا. وصيغة الاستغفار للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك مع طلبهم له وَلا يَسْتَقْدِمُونَ أي ولا يتقدمون عليه.
والظاهر أنه عطف على «لا يستأخرون» كما أعربه الحوفي وغيره. واعترض بأنه لا يتصور الاستقدام عند مجيئه فلا فائدة في نفيه بل هو من باب الأخبار بالضروري كقولك: إذا قمت فيما يأتي لم يتقدم قيامك فما مضى،
وقيل: إنه معطوف على الجملة الشرطية لا الجزائية فلا يتقيد بالشرط. فمعنى الآية لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون عنه ولكل أمة أجل لا يستقدمون عليه. وتعقبه مولانا العلامة السالكوتي بأنه لا يخفى أن فائدة تقييد قوله تعالى: «لا يستأخرون» فقط بالشرط غير ظاهرة وإن صح بل المتبادر إلى الفهم السليم ما تقدم. وفيه تنبيه على أن الأجل كما يمتنع التقدم عليه بأقصر مدة هي الساعة كذلك يمتنع التأخر عنه وإن كان ممكنا عقلا فإن خلاف ما قدره الله تعالى وعلمه محال والجمع بين الأمرين فيما ذكر كالجمع بين من سوّف التوبة إلى حضور الموت ومن مات على الكفر في نفي التوبة عنه في قوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ [النساء: 18] الآية. ولعل هذا مراد من قال: إنه عطف على الجزاء بناء على أن يكون معنى قوله تعالى: لا يَسْتَأْخِرُونَ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ لا يستطيعون تغييره على نمط قوله تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ [الأنعام: 59] وقولهم: كلمته فما رد على سوداء ولا بيضاء فلا يرد ما قيل، أنت خبير بأن هذا المعنى حاصل بذكر الجزاء بدون ذكر وَلا يَسْتَقْدِمُونَ والحق العطف على الجملة الشرطية، وفي شرح المفتاح القيد إذا جعل جزءا من المعطوف عليه لم يشاركه المعطوف فيه ومثل بالآية، وعليه لا محذور في العطف على لا يَسْتَأْخِرُونَ لعدم المشاركة في القيد وأنت تعلم أنهم ذكروا في هذا الباب أنه إذا عطف شيء على شيء وسبقه قيد يشارك المعطوف المعطوف عليه في ذلك القيد لا محالة، وأما إذا عطف على ما لحقه قيد فالشركة محتملة فالعطف على المقيد له اعتباران: الأول أن يكون القيد سابقا في الاعتبار والعطف لاحقا فيه. والثاني أن يكون العطف سابقا والقيد لاحقا، فعلى الأول لا يلزم اشتراك المعطوفين في القيد المذكور إذ القيد جزء من أجزاء المعطوف عليه، وعلى الثاني يجب الاشتراك إذ هو حكم من أحكام الأول يجب فيه الاشتراك وبعضهم بني العطف هنا على أن المراد بالمجيء الدنو بحيث يمكن التقدم في الجملة كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة منه وليس بذاك، وتقديم بيان انتفاء الاستئخار- كما قيل- لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب، وأما في قوله تعالى: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ [الحجر: 5، المؤمنون: 43] من سبق السبق في الذكر فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له حسبما ينبىء عنه قوله سبحانه: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 3] فالأهم هناك بيان انتفاء السبق يا بَنِي آدَمَ خطاب لكافة الناس. ولا يخفى ما فيه من الاهتمام بشأن ما في حيزه. وقد أخرج ابن جرير عن أبي يسار السلمي قال: إن الله تبارك وتعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ- حتى بلغ. فاتقون ثم بثهم. والذي ذهب إليه بعض المحققين أن هذا حكاية لما وقع مع كل قوم. وقيل: المراد ببني آدم أمة نبينا صلى الله عليه وسلم وهو خلاف الظاهر. ويبعده جمع الرسل في قوله سبحانه: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من جنسكم. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لرسل. و «أما» هي إن الشرطية ضمت إليها- ما- لتأكيد معنى الشرط فهي مزيدة للتأكيد فقط، وقيل: إنها تفيد العموم أيضا فمعنى إما تفعلن مثلا إن اتفق منك فعل بوجه من الوجوه.
ولزمت الفعل بعد هذا الضم نون التأكيد فلا تحذف على ما ذهب إليه المبرد والزجاج ومن تبعهما إلا ضرورة.
ومن ذلك قوله:
فأما تريني ولي لمة
…
فإن الحوادث أودى بها
ورد بأن كثرة سماع الحذف تبعد القول بالضرورة. ووجه هذا اللزوم عند بعض حذار انحطاط رتبة فعل الشرط عن حرفه، وقيل: إن نون التوكيد لا تدخل الفعل المستقبل المحض إلا بعد أن يدخل على أول الفعل ما يدل على التأكيد كلام القسم أو ما المزيدة ليكون ذلك توطئة لدخول التأكيد. وعليه فأمر الاستتباع بعكس ما تقدم. وفي الإتيان
بأن تنبيه على أن إرسال الرسل أمر جائز لا واجب وهو الذي ذهب إليه أهل السنة وقالت المعتزلة: إنه واجب على الله تعالى لأنه سبحانه بزعمهم يجب عليه فعل الأصلح.
وقوله سبحانه: يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي صفة أخرى لرسل. وجوز أن يكون في موضع الحال منه أو من الضمير في الظرف أي يعرضون عليكم أحكامي وشرائعي ويخبرونكم بها ويبينونها لكم وقوله تعالى: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ جواب الشرط. ومن إما شرطية أو موصولة ومنكم مقدر في نظم الكلام ليرتبط الجواب بالشرط. والمراد فمن اتقى منكم التكذيب وأصلح عمله فلا خوف إلخ. وتوحيد الضمير وجمعه لمراعاة لفظ من ومعناه وَالَّذِينَ كَذَّبُوا منكم بِآياتِنا التي تقص وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ولم يقبلوها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لتكذيبهم واستكبارهم.
وهذه الجملة عطف على الجملة السابقة. وإيراد الاتقاء فيها للإيذان بأن مدار الفلاح ليس مجرد عدم التكذيب بل هو الاتقاء والاجتناب عنه. وإدخال الفاء في الوعد دون الوعيد للمبالغة في الأول والمسامحة في الثاني فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي تعمد الكذب عليه سبحانه ونسب إليه ما لم يقل أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أو كذب ما قاله جل شأنه. والاستفهام للإنكار وقد مر تحقيق ذلك أُولئِكَ إشارة إلى الموصول. والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد في الضمير المستكن في الفعلين باعتبار اللفظ. وما فيه من معنى البعد للإيذان بتماديهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الافتراء والتكذيب يَنالُهُمْ أي يصيبهم نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال مع ظلمهم وافترائهم لا يحرمون ما قدر لهم من ذلك إلى انقضاء أجلهم فالكتاب بمعنى المكتوب. وتخصيصه بما ذكر مروي عن جماعة من المفسرين. وعن ابن عباس أن المراد ما قدر لهم من خير أو شر ومثله عن مجاهد.
وعن أبي صالح ما قدر من العذاب، وعن الحسن مثله. وبعضهم فسر الكتاب بالمكتوب فيه وهو اللوح المحفوظ ومن لابتداء الغاية. وجوز فيها التبيين والتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من «نصيبهم» أي كائنا من الكتاب حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي ملك الموت وأعوانه يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي حال كونهم متوفين لأزواجهم وحتى غاية نيلهم. وهي حرف ابتداء غير جارة بل داخلة على الجمل كما في قوله:
وحتى الجياد ما يقدن بأرسان وقيل: إنها جارة. وقيل: لا دلالة لها على الغاية وليس بشيء. وعن الحسن أن المراد حتى إذا جاءتهم الملائكة يحشرونهم إلى النار يوم القيامة وهو خلاف الظاهر. وكان الذي دعاه إلى ذلك قوله تعالى: قالُوا أي الرسل لهم أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا وتستعينون بها في المهمات قالُوا ضَلُّوا أي غابوا عَنَّا لا ندري أين مكانهم. فإن هذا السؤال والجواب وكذا ما يترتب عليهما مما سيأتي إنما يكون يوم القيامة لا محالة ولعله على الظاهر أريد بوقت مجيء الرسل وحال التوفي الزمان الممتد من ابتداء المجيء والتوفي إلى نهاية يوم الجزاء بناء على تحقيق المجيء والتوفي في ذلك الزمان بقاء وإن كان حدوثهما في أوله فقط أو قصد بيان غاية سرعة وقوع البعث والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداء التوفي وما وصلت بأين في المصحف العثماني وحقها الفصل لأنها موصولة ولو كانت صلاة لاتصلت.
وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي اعترفوا على أنفسهم. وليس في النظم ما يدل على أن اعترافهم كان بلفظ الشهادة فالشهادة مجاز عن الاعتراف أَنَّهُمْ كانُوا في الدنيا كافِرِينَ عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا
حيث اتضح لهم حاله، والجملة يحتمل أن تكون استئناف إخبار من الله تعالى باعترافهم على أنفسهم بالكفر ويحتمل أن تكون عطفا على قالُوا وعطفها على المقول لا يخفى ما فيه والاستفهام- على ما ذهب إليه غير واحد- غير حقيقي بل للتوبيخ والتقريع وعليه فلا جواب. وما ذكر إنما هو للتحسر والاعتراف بما هم عليه من الخيبة والخسران ولا تعارض بين ما في الآية وقوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] لأن الطوائف مختلفة أو المواقف عديدة أو الأحوال شتى قالَ أي الله عز وجل لأولئك الكاذبين المكذبين يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك:
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ أي مع أمم، والجار والمجرور في موضع الحال أي مصاحبين لأمم قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعني كفار الأمم من النوعين، وقدم الجن لمزيد شرّهم فِي النَّارِ متعلق بادخلوا، وجوز أن يتعلق فِي أُمَمٍ به ويحمل فِي النَّارِ على البدلية أو على أنه صفة أُمَمٍ وجوز بعض المفسرين أن يكون هذا إخبارا عن جعله سبحانه إياهم في جملة أولئك من غير أن يكون هناك قول مطلقا أي إنه تعالى جعلهم كذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ من الأمم تابعة أو متبوعة في النار لَعَنَتْ أُخْتَها أي دعت على نظيرها في الدين فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها وتلعن المتبوعة التابعة التي زادت في ضلالها، وعن أبي مسلم يلعن الاتباع القادة يقولون: أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله تعالى.
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً غاية لما قبله أي يدخلون فوجا فوجا لاعنا بعضهم بعضا إلى انتهاء تلاحقهم باجتماعهم في النار. وأصل ادَّارَكُوا تداركوا فأدغمت التاء في الدال بعد قلبها دالا وتسكينها ثم اجتلبت همزة الوصل.
وعن أبي عمرو أنه قرأ «اداركوا» بقطع ألف الوصل وهو- كما قيل: مبني على أنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع وإلا فلا مساغ لذلك في كلام الله تعالى الجليل، وقرأ «إذا أدركوا» بألف واحدة ساكنة ودال بعدها مشددة وفيه جمع بين ساكنين وجاز لما كان الثاني مدغما ولا فرق بين المتصل والمنفصل قالَتْ أُخْراهُمْ منزلة وهم الاتباع والسفلة لِأُولاهُمْ منزلة وهم القادة والرؤساء أو قالت أخراهم دخولا لأولاهم كذلك، وتقدم أحد الفريقين على الآخر في الدخول مروي عن مقاتل، واللام في لِأُولاهُمْ للتعليل لا للتبليغ كما في قولك: قلت لزيد افعل كذا لأن خطابهم مع الله تعالى لا معهم كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا أي دعونا إلى الضلال وأمرونا به حيث سنوه فاقتدينا بهم فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً أي مضاعفا كما روي عن مجاهد مِنَ النَّارِ والضعف- على ما قال أبو عبيد ونص عليه الشافعي في الوصايا- مثل الشيء مرة واحدة، وعن الأزهري أن هذا معنى عرفي والضعف في كلام العرب وإليه يرد كلام الله تعالى المثل إلى ما زاد ولا يقتصر على مثلين بل هو غير محصور واختاره هنا غير واحد.
وقال الراغب: الضعف بالفتح مصدر وبالكسر اسم كالثني والثني وضعف الشيء هو الذي يثنيه ومتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد مثله نحو أن يقال ضعف عشرة وضعف مائة فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف وعلى ذلك قول الشاعر:
جزيتك ضعف الود لما اشتكيته
…
وما إن جزاك الضعف من أحد قبلي
وإذا قيل: أعطه ضعفي واحد اقتضى ذلك الواحد ومثليه وذلك ثلاثة لأن معناه الواحد واللذان يزاوجانه، هذا إذا كان الضعف مضافا فإذا لم يكن مضافا فقلت: الضعفين فقد قيل: يجري مجرى الزوجين في أن كل واحد منهما يزاوج الآخر فيقتضي ذلك اثنين لأن كل واحد منهما يضاعف الآخر فلا يخرجان منهما اه.
ونصب ضِعْفاً على أنه صفة لعذاب، وجوز أن يكون بدلا منه ومِنَ النَّارِ صفة العذاب أو الضعف قالَ سبحانه وتعالى: لِكُلٍّ منكم ومنهم عذاب ضِعْفٌ من النار، أما القادة فلضلالهم وإضلالهم وذلك سبب الدعاء السابق، وأما الاتباع فلذلك أيضا عند بعض، وكونهم ضالين ظاهر وأما كونهم مضلين فلأن اتخاذهم إياهم رؤساء يصدرون عن أمرهم يزيد في طغيانهم كما قال سبحانه وتعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً [الجن: 6]، واعترض بعدم اطراده فإن اتباع كثير من الاتباع غير معلوم للقادة إلا أن يقال: إنه مخصوص ببعضهم وقيل: الأحسن أن يقال: إن ضعف الاتباع لإعراضهم عن الحق الواضح وتولي الرؤساء لينالوا عرض الدنيا اتباعا للهوى، ويدل عليه قوله تعالى: وقالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ [سبأ: 32] وفيه ما فيه. والأولى أن يقال: إن ذلك في الاتباع لكفرهم وتقليدهم ولا شك أن التقليد في الهدى ضلال يستحق فاعله العذاب، ونقل الراغب عن بعضهم في الآية أن المعنى لكل منكم ومنهم ضعفت ما يرى الآخر فإن من العذاب ظاهرا وباطنا وكل يدرك من الآخر الظاهر دون الباطن فيقدر أن ليس له العذاب الباطن، واختار أن المعنى لكن منهم ضعف ما لكم من العذاب والظاهر ما عولنا عليه.
وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ما لكم أو ما لكل فريق فلذا تكلمتم بما يشعر باعتقادكم استحقاق الرؤساء الضعف دونكم فالخطاب على التقديرين للاتباع كما هو الظاهر.
وقيل: إنه على الأول للاتباع، وعلى الثاني للفريقين بتغليب المخاطبين الذين هم الاتباع على الغيب الذين هم القادة وقرأ عاصم «لا يعلمون» بالياء التحتية على انفصال هذا الكلام عما قبله بأن يكون تذييلا لم يقصد به إدراجه في الجواب، ومن ادعى أن الخطاب للفريقين على سبيل التغليب قال: إن هذه القراءة على انفصال القادة من الاتباع إذ عليها لا يمكن القول بالتغليب إذ لا يغلب الغائب على المخاطب.
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ حين سمعوا جواب الله تعالى لهم، واللام هنا يجوز أن تكون للتبليغ لأن خطابهم لهم بدليل قوله سبحانه وتعالى: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي إنا وإياكم متساوون في استحقاق العذاب وسببه، وهذا مرتب على كلام الله تعالى على وجه التسبب لأن إخباره سبحانه بقوله جل وعلا: لِكُلٍّ ضِعْفٌ سبب لعلمهم بالمساواة فالفاء جوابية لشرط مقدر أي إذا كان كذلك فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا. وقيل: إنها عاطفة على مقدر أي دعوتم الله تعالى فسوى بيننا وبينكم «فما كان» إلخ وليس بشيء.
وأيا ما كان فقد عنوا بالفضل تخفيف العذاب ووحدة السبب، وأما ما قيل من أن المعنى ما كان لكم علينا من فضل في الرأي والعقل وقد بلغكم ما نزل بنا من العذاب فلم اتبعتمونا فكما ترى. وقيل: المعنى ما كان لكم علينا في الدنيا فضل بسبب اتباعكم إيانا بل اتباعكم وعدم اتباعكم سواء عندنا فاتباعكم إيانا كان باختياركم دون حملنا لكم عليه، وعليه فليس مرتبا على كلام الله تعالى وجوابه كما في الوجه الأولى فَذُوقُوا الْعَذابَ والمضاعف بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي بسبب كسبكم أو الذي تكسبونه. والظاهر أن هذا من كلام القادة قالوه لهم على سبيل التشفي.
وترتبه على ما قبله على القول الأخير في معنى الآية في غاية الظهور. وجوز أن يكون من كلام الله تعالى للفريقين على سبيل التوبيخ والوقف على فَضْلٍ: وقيل: هو من مقول الفريقين أي قالت كل فرقة للأخرى ذوقوا إلخ وهو خلاف الظاهر جدا.
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع كالأدلة الدالة على وجود الصانع ووحدته والدالة على النبوة والمعاد ونحو ذلك وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي بالغوا في احتقارها وعدم الاعتناء بها ولم يلتفتوا إليها
وضموا أعينهم عنها ونبذوها وراء ظهورهم ولم يكتسوا بحلل مقتضاها ولم يعملوا به لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أي لأرواحهم إذا ماتوا أَبْوابُ السَّماءِ كما تفتح لأرواح المؤمنين.
أخرج أحمد، والنسائي، والحاكم وصححه، والبيهقي، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان فيقال: مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة وإذا كان الرجل سوأ قالت اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان. فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة لا تفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر»
والأخبار في ذلك كثيرة وقيل: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم أبواب السماء.
وروي ذلك عن الحسن، ومجاهد، وقيل: لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم. وروي ذلك عن ابن جريج. وقيل:
المراد لا يصعد لهم عمل ولا تنزل عليهم البركة. وكون السماء لها أبواب تفتح للأعمال الصالحة والأرواح الطيبة قد تفتحت له أبواب القبول للنصوص الواردة فيه وهو أمر ممكن أخبر به الصادق فلا حاجة إلى تأويله. وكون السماء كروية لا تقبل الخرق والالتئام مما لا يتم له دليل عندنا. وظاهر كلام أهل الهيئة الجديد جواز الخرق والالتئام على الأفلاك. وزعم بعضهم أن القول بالأبواب لا ينافي القول بامتناع الخرق والالتئام وفيه نظر كما لا يخفى. والتاء في تُفَتَّحُ لتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها لا لكثرة الفعل لعدم مناسبة المقام. وقرأ أبو عمرو بالتخفيف، وحمزة، والكسائي به وبالياء التحتية، وروي ذلك عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن التأنيث غير حقيقي والفعل مقدم مع وجود الفاصل.
وقرىء على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء الفوقية على أن الفعل مسند إلى الآيات مجازا لأنها سبب لذلك. وبالياء على أنه مسند إلى الله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يوم القيامة حَتَّى يَلِجَ أي يدخل الْجَمَلُ هو البعير إذا بزل. وجمعه جمال وأجمال وجمالة ويجمع الأخير على جمالات. وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال: هو زوج الناقة.
وعن الحسن أنه قال: ابن الناقة الذي يقوم في المربد على أربع قوائم. وفي ذلك استجهال للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. والعرب تضرب به المثل في عظم الخلقة فكأنه قيل: حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم فِي سَمِّ الْخِياطِ أي ثقبة الإبرة وهو مثل عندهم أيضا في ضيق المسلك وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه بل لا تتعلق به القدرة لعدم إمكانه ما دام العظيم على عظمه والضيق على ضيقه. وهي إنما تتعلق بالممكنات الصرفة. والممكن الولوج بتصغير العظيم أو توسيع الضيق. وقد كثر في كلامهم مثل هذه الغاية فيقولون: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يبيض القار وحتى يؤوب القارظان ومرادهم لا أفعل كذا أبدا. وقرأ ابن عباس وابن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي الْجَمَلُ بضم الجيم وفتح الميم المشددة كالقمل.
وقرأ عبد الكريم، وحنظلة، وابن عباس، وابن جبير في رواية أخرى الْجَمَلُ بالضم والفتح مع التخفيف كنغر.
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ الْجَمَلُ بضم الجيم وسكون الميم كالقفل والْجَمَلُ بضمتين كالنصب، وقرأ أبو السمال «الجمل» بفتح الجيم وسكون الميم كالحبل، وفسر في جميع ذلك بالحبل الغليظ من القنب. وقيل: هو حبل السفينة. وقرىء «في سم» بضم السين وكسرها وهما لغتان فيه والفتح أشهر، ومعناه الثقب الصغير مطلقا. وقيل: أصله ما كان في عضو كأنف وأذن، وقرأ عبد الله «في سم الخياط» بكسر الميم وفتحها وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم والقناع والمقنع وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي جنسهم وأولئك داخلون فيه دخولا أوليا، وأصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة، ويقال:
أجرم صار ذا جرم كأتمر وأثمر، ويستعمل في كلامهم لاكتساب المكروه، ولا يكاد يقال للكسب المحمود.
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي فراش من تحتهم، وتنوينه للتفخيم وهو فاعل الظرف أو مبتدأ، والجملة إما مستأنفة أو حالية، ومن تجريدية، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من مِهادٌ لتقدمه وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي أغطية جمع غاشية، وعن ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي أنها اللحف. والآية- على ما قيل- مثل قوله تعالى لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: 16] والمراد أن النار محيطة به من جميع الجوانب
وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ثم قال: «هي طبقات من فوقه وطبقات من تحته لا يدري ما فوقه أكثر أو ما تحته غير أنه ترفعه الطبقات السفلى وتضعه الطبقات العليا ويضيق فيما بينهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح»
وتنوين غَواشٍ عوض عن الحرف المحذوف أو حركته، والكسرة ليست للإعراب وهو غير منصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع، وبعض العرب يعربه بالحركات الظاهرة على ما قبل الياء لجعلها محذوفة نسيا منسيا، ولذا قرىء «غواش» بالرفع كما في قوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ [الرحمن: 24] في قراءة عبد الله.
وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك الجزاء الشديد نَجْزِي الظَّالِمِينَ عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى للتنبيه على أنهم بتكذيبهم بالآيات واستكبارهم عنها جمعوا الصفتين. وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على أنه أعظم الإجرام. ولا يخفى على المتأمل في لطائف القرآن العظيم ما في إعداد المهاد والغواشي لهؤلاء المستكبرين عن الآيات ومنعهم من العروج إلى الملكوت وتقييد عدم دخولهم الجنة بدخول البعير بخرق الإبرة من اللطافة فليتأمل وَالَّذِينَ آمَنُوا أي بآياتنا ولم يكذبوا بها وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ ولم يستكبروا عنها لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي ما تقدر عليه بسهولة دون ما تضيق به ذرعا، والجملة اعتراض وسط بين المبتدأ وهو الموصول والخبر الذي هو جملة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ للترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله وتيسر تحصيله.
وقيل: المعنى لا نكلف نفسا إلا ما يثمر لها السعة أي جنة عرضها السماوات والأرض وهو خلاف الظاهر وإن كانت الآية عليه لا تخلو عن ترغيب أيضا. وجوز أن يكون اسم الإشارة بدلا من الموصول وما بعده خبر المبتدأ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل والشرف.
وجوز أيضا أن تكون جملة لا نُكَلِّفُ إلخ خبر المبتدأ بتقدير العائد أي منهم وقوله سبحانه: هُمْ فِيها خالِدُونَ حال من أَصْحابُ الْجَنَّةِ، وجوز كونه حالا من الْجَنَّةِ لاشتماله على ضميرها أيضا. والعامل فيها معنى الإضافة أو اللام المقدرة، وقيل. خبر لأولئك على رأي من جوزه. وفِيها متعلق بخالدون قدم عليه رعاية للفاصلة.
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي قلعنا ما في قلوبهم من حقد مخفي فيها وعداوة كانت بمقتضى الطبيعة لأمور جرت بينهم في الدنيا أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي قال: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوها وجدوا عند بابها شجرة أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور ويغتسلون من الأخرى فتجري عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعض على بعض غل»
وقيل: المراد طهرنا قلوبهم وحفظناها من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب بحيث لا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة الرفيعة. وهذا في مقابلة ما ذكره سبحانه من لعن أهل النار بعضهم بعضا. وأيا ما كان فالمراد ننزع لأنه في الآخرة إلا أن صيغة الماضي للإيذان بتحققه.
وقيل: إن هذا النزع إنما كان في الدنيا، والمراد عدم اتصافهم بذلك من أول الأمر إلا أنه عبر عن عدم الاتصاف به مع وجود ما يقتضيه حسب البشرية أحيانا بالنزع مجازا، ولعل هذا بالنظر إلى كمل المؤمنين كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم رحماء بينهم يحب بعضهم بعضا كمحبته لنفسه أو المراد إزالته بتوفيق الله تعالى قبل الموت بعد أن كان بمقتضى الطباع البشرية.
ويحتمل أن يخرج على الوجهين ما
أخرجه غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هذه الآية إني لأرجو أن أكون أنا،
وعثمان، وطلحة، والزبير منهم، ويقال على الثاني فيما وقع مما ينبىء بظاهره عن الغل. إنه لم يكن إلا عن اجتهاد إعلاء لكلمة الله تعالى ولا يخفى بعد هذا المعنى وإن ساعدة ظاهر الصيغة ومِنْ غِلٍّ على سائر الاحتمالات حال من ما وقوله سبحانه: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ حال أيضا إما من الضمير في صُدُورِهِمْ لأن المضاف جزء من المضاف إليه والعامل معنى الإضافة أو العامل في المضاف، وإما من ضمير نَزَعْنا على ما قيل والعامل الفعل. واختار بعضهم أن الجملة مستأنفة للإخبار عن صفة أحوالهم. والمراد تجري من تحت غرفها مياه الأنهار زيادة في لذتهم وسرورهم وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا الفوز العظيم والنعيم المقيم. والمراد الهداية لما أدى إليه من الأعمال القلبية والقالبية مجازا وذلك بالتوفيق لها وصرف الموانع عن الاتصاف بها.
وقيل: المراد من الهداية لما هم فيه من النعيم مجاوزة الصراط إلى أن وصلوا إليه. ومن الناس من جعل الإشارة إلى نزع الغل من الصدور ولا أراه شيئا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ أي لهذا أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ وفقنا له، واللام لتأكيد النفي وهي المسماة بلام الجحود وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه، وليس إياه لامتناع تقدم الجواب على الصحيح ومفعول لِنَهْتَدِيَ وهَدانا الثاني محذوف لظهور المراد أو لإرادة التعميم كما أشير إليه، والجملة حالية أو استئنافية، وفي مصاحف أهل الشام ما كُنَّا بدون واو وهي قراءة ابن عامر فالجملة كالتفسير للأولى، وهذا القول من أهل الجنة لإظهار السرور بما نالوا والتلذذ بالتكلم به لا للتقرب والتعبد فإن الدار ليست لذلك وهذا كما ترى من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو هذا ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقرابة، وقوله سبحانه: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ جملة قسمية لم يقصد بها التقرب أيضا وهي بيان لصدق وعد الرسل عليهم السلام إياهم بالجنة على ما نص عليه بعض الفضلاء، وقيل: تعليل لهدايتهم.
والباء إما للتعدية فهي متعلقة بجاءت أو للملابسة فهي متعلقة بمقدر وقع حالا من الرسل، ولا يخفى ما في هذه الآية من الرد الواضح على القدرية الزاعمين أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى ولم يخلق الله تعالى له ذلك، ودونك
فأعرض قول المعتزلة في الدنيا المهتدي من اهتدى بنفسه على قول الله تعالى حكاية عن قول الموحدين في مقعد صدق وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ واختر لنفسك أي الفريقين تقتدي به ولا أراك أيها العاقل تعدل بما نوه الله تعالى به قول ضال يتذبذب مع هواه وتعصبه. ولما رأى الزمخشري هذه الآية كافحة في وجوه قومه فسر الهدى باللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه، وهو لعمري كلام من حرم اللطف نسأل الله تعالى العفو والعافية وَنُودُوا أي نادتهم الملائكة، وجوز بعضهم احتمال أن المنادي هو الله، والآثار تؤيد الأول.
أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أي أي تلكم على أن أَنْ مفسرة لما في النداء من معنى القول، ويجوز أن تكون مخففة من أن وحرف الجر مقدر واسمها ضمير شأن محذوف أي بأنها أو بأنه تلكم، وأوجب البعض الثاني بناء على أنه يجب أن يؤنث ضمير الشأن إذا كان المسند إليه في الجملة المفسرة مؤنثا، والصحيح عدم الوجوب على ما صرح به ابن الحاجب وابن مالك، ومعنى البعد في اسم الإشارة إما لرفع منزلتها وبعد مرتبتها، وإما لأنهم نودوا عند رؤيتهم إياها من مكان بعيد، وإما للإشعار بأنها تلك الجنة التي وعدوها في الدنيا وإليه يشير كلام الزجاج.
والظاهر أن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ مبتدأ وخبر وقوله سبحانه: أُورِثْتُمُوها حال من الجنة والعامل فيها معنى الإشارة ويجوز أن تكون الْجَنَّةُ نعتا لتلكم أو بدلا وأُورِثْتُمُوها الخبر، ولا يجوز أن يكون حالا من المبتدأ ولا من- كم- كما قاله أبو البقاء وهو ظاهر والتزم بعضهم في توجيه البعد أن تِلْكُمُ خبر مبتدأ محذوف أي هذه تلكم الجنة الموعودة لكم قبل أو مبتدأ حذف خبره أي تلك الجنة التي أخبرتم عنها أو وعدتم بها في الدنيا هي هذه ولا حاجة إليه.
والمنادى له أولا وبالذات كونها موروثة لهم وما قبله توطئة له، والميراث مجاز عن الإعطاء أي أعطيتموها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الأعمال الصالحة، والباء للسببية وتجوز بذلك عن الإعطاء إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجبا وإن كان سببا بحسب الظاهر كما أن الإرث ملك بدون كسب وإن كان النسب مثلا سببا له، والباء
في قوله صلى الله عليه وسلم على ما في بعض الكتب: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله»
وكذا
في قوله عليه الصلاة والسلام على ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وجابر «لن ينجو أحد منكم بعمله»
للسبب التام فلا تعارض، وجوز أن تكون الباء فيما نحن فيه للعوض أي بمقابلة أعمالكم، وقيل: تلك الإشارة إلى منازل في الجنة هي لأهل النار لو كانوا أطاعوا جعلها الله تعالى إرثا للمؤمنين،
فقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال: ما من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة والنار منزل مبين فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله تعالى ثم يقال: يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقتسم أهل الجنة منازلهم،
وأنت تعلم أن القول بهذا الإرث الغريب لا يدفع الحاجة إلى المجاز.
وزعم المعتزلة أن دخول الجنة بسبب الأعمال لا بالتفضل لهذه الآية، ولا يخفى أنه لا محيص لمؤمن عن فضل الله تعالى لأن اقتضاء الأعمال لذاتها دخول الجنة أو إدخال الله تعالى ذويها فيها مما لا يكاد يعقل، وقصارى ما يعقل أن الله تعالى تفضل فرتب عليها دخول الجنة فلولا فضله لم يكن ذلك، وأنا لا أرى أكثر جرأة من المعتزلة في هذا الباب ككثير من الأبواب فإن مآل كلامهم فيه أن الجنة ونعيمها الذي لا يتناهى إقطاعهم بحق مستحق على الله تعالى الذي لا ينتفع بشيء ولا يتضرر بشيء لا تفضل له عليهم في ذلك بل هو بمثابة دين أدي إلى صاحبه سبحانه هذا بهتان عظيم وتكذيب لغير ما خبر صحيح.
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ بعد الاستقرار فيها كما هو الظاهر، وصيغة الماضي لتحقق الوقوع، والمعنى ينادي ولا بد كل فريق من أهل الجنة أَصْحابَ النَّارِ أي من كان يعرفه في الدنيا من أهلها تبجحا بحالهم وشماتة بأعدائهم وتحسيرا لهم لا لمجرد الإخبار والاستخبار أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا على ألسنة رسله عليهم السلام من النعيم والكرامة حَقًّا حيث نلنا ذلك فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ أي ما وعدكم من الخزي والهوان والعذاب حَقًّا وحذف المفعول تخفيفا وإيجازا واستغناء بالأول، وقيل: لأن ما ساءهم من الوعود لم يكن بأسره مخصوصا بهم وعده كالبعث، والحساب ونعيم أهل الجنة فإنهم قد وجدوا جميع ذلك حقا وإن لم يكن وعده مخصوصا بهم.
وتعقب بأنه لا خفاء في كون أصحاب الجنة مصدقين بالكل والكل مما يسرهم فكان ينبغي أن يطلق وعدهم أيضا، فالوجه الحمل على ما تقدم، ونصب حَقًّا في الموضعين على الحالية، وجوز أن يكون على أنه مفعول ثان ويكون وجد بمعنى علم، والتعبير بالوعد قيل: للمشاكلة، وقيل: للتهكم. ومن الناس من جوز أن يكون مفعول وعد المحذوف- نا- وحينئذ فلا مشاكلة ولا تهكم. وأيا ما كان لا يستبعد هذا النداء هناك وأن بعد ما بين الجنة والنار من المسافة كما لا يخفى.
قالُوا في جواب أصحاب الجنة نَعَمْ قد وجدنا ذلك حقا. قرأ الكسائي «نعم» بكسر العين وهي لغة فيه نسبت إلى كنانة وهذيل، ولا عبرة بمن أنكره مع القراءة به وإثبات أهل اللغة له بالنقل الصحيح.
نعم ما روي من أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل قوما عن شيء فقالوا: نعم فقال عمر: أما النعم فالإبل قولوا:
نعم لا أراه صحيحا لما فيه من المخالفة لأصح الفصيح فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ هو على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه صاحب الصور عليه السلام، وقيل: مالك خازن النار. وقيل: ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله تعالى بذلك.
ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنه علي كرم الله تعالى وجهه
مما لم يثبت من طريق أهل السنة وبعيد عن هذا الإمام أن يكون مؤذنا وهو إذ ذاك في حظائر القدس بَيْنَهُمْ أي الفريقين لا بين القائلين نعم كما قيل، ولا يراد أن الظاهر أن يقال: بينهما لأنه غير متعين أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ بأن المخففة أو المفسرة، والمراد الإعلام بلعنة الله تعالى لهم زيادة لسرور أصحاب الجنة وحزن أصحاب النار أو ابتداء لعن.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «أنّ لعنة الله» بالتشديد والنصب: وقرأ الأعمش بكسر الهمزة على إرادة القول بالتضمين أو التقدير أو على الحكاية بإذن لأنه في معنى القول فيجري مجراه.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يصدون بأنفسهم عن دينه سبحانه ويعرضون عنه، فالموصول صفة مقررة للظالمين لأن هذا الإعراض لازم لكل ظالم، وجوز القطع بالرفع أو النصب وكلاهما على الذم وأمر الوقف ظاهر، وفسر الإمام النسفي الصد هنا بمنع الغير وعليه فلا تقرير، والمعنى يمنعون الناس عن دين الله تعالى بالنهي عنه وإدخال الشبه في دلائله وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون اعوجاجها ويذمونها فلا يؤمنون بها أو يطلبون لها تأويلا وإمالة إلى الباطل، فالعوج إما على أصله وهو الميل وإما بمعنى التعويج والإمالة ونصبه قيل: على الحالية. وقيل: على المفعولية.
وجوز الطبرسي أن يكون نصبا على المصدر كرجع القهقرى واشتمل الصماء، وذكر أن العوج بالكسر يكون في الدين والطريق وبالفتح في الخلقة فيقال في ساقه عوج بالفتح وفي دينه عوج بالكسر، وقال الراغب: العوج يقال فيما يدرك بالبصر كالخشب المنتصب ونحوه. والعوج يقال فيما يدرك بفكر وبصيرة كما يكون في أرض بسيط وكالدين والمعاش، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى.
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ أي غير معترفين بالقيامة وما فيها، والجار متعلق بما بعده، والتقديم لرعاية الفواصل، والعدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية للدلالة على الدوام والثبات إشارة إلى رسوخ الكفر فيهم.
وَبَيْنَهُما حِجابٌ أي بين الفريقين كقوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ [الحديد: 13] أو بين الجنة والنار حجاب عظيم ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى وإن لم يمنع وصول النداء وأمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا.
وَعَلَى الْأَعْرافِ أي أعراف الحجاب أي أعاليه، وهو السور المضروب بينهما أجمع عرف مستعار من عرف الدابة والديك. وقيل: العرف ما ارتفع من الشيء أي أعلى موضع منه لأنه أشرف وأعرف مما انخفض منه.
وقيل: ذاك جبل أحد.
فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم «أحد يحبنا ونحبه- وأنه يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحبس عليه أقوام يعرفون كلا بسيماهم وهم إن شاء الله تعالى من أهل الجنة» .
وقيل: هو الصراط. وروي ذلك عن الحسن بن المفضل، وحكي عن بعضهم أنه لم يفسر الأعراف بمكان وأنه قال: المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار رِجالٌ والحق أنه مكان والرجال طائفة من الموحدين قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس فبينما هم كذلك إذا اطلع عليهم ربهم فقال لهم: قوموا ادخلوا الجنة فإني غفرت لكم.
أخرجه أبو الشيخ، والبيهقي، وغيرهما عن حذيفة، وفي رواية أخرى عنه «يجمع الله تعالى الناس ثم يقول لأصحاب الأعراف: ما تنتظرون؟ قالوا: ننتظر أمرك فيقال: إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوها بمغفرتي ورحمتي» .
وإلى هذا ذهب جمع من الصحابة والتابعين. وقيل: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزا لهم على سائر أهل القيامة وإظهارا لشرفهم وعلو مرتبتهم.
وروى الضحاك عن ابن عباس أنهم العباس، وحمزة، وعلي، وجعفر ذو الجناحين رضي الله تعالى عنهم يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسوادها. وقيل: إنهم عدول القيامة الشاهدون على الناس بأعمالهم وهو من كل أمة حكاه الزهري،
وأخرج البيهقي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو الشيخ، والطبراني، وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أصحاب الأعراف فقال:«هم أناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله» .
وقيل: هم أناس رضي عنهم أحد أبويهم دون الآخر.
وقال الحسن البصري: إنهم قوم كان فيهم عجب. وقال مسلم بن يسار: هم قوم كان عليهم دين، وقيل: هم أهل الفترة، وقيل: أولاد المشركين، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أولاد الزنا، وعنه أيضا أنهم مساكين أهل الجنة.
وعن أبي مسلم أنهم ملائكة ويرون في صورة الرجال لا أنهم رجال حقيقة لأن الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة. وقيل وقيل وأرجح الأقوال- كما قال القرطبي- الأول وجمع بعضهم بينها بأنه يجوز أن يجلس الجميع ممن ورد فيهم أنهم أصحاب الأعراف هناك مع تفاوت مراتبهم على أن من هذه الأقوال ما لا يخفى تداخله.
ومن الناس من استظهر القول بأن أصحاب الأعراف قوم علت درجاتهم لأن المقالات الآتية وما تتفرغ هي عليه لا تليق بغيرهم يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة والنار بِسِيماهُمْ بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض
الوجوه بالنسبة إلى أهل الجنة وسوادها بالنسبة إلى أهل النار. ووزنه فعلى من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه فوزنه عفلى، ويقال: سيماء بالمد وسيمياء ككبرياء. وقال الشاعر:
له سيمياء ما تشق على البصر ومعرفتهم أن كذا علامة الجنة وكذا علامة النار تكون بالإلهام أو بتعليم الملائكة. وهذا كما روي عن أبي مجلز رضي الله تعالى عنه قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. واستظهره بعضهم إذ لا حاجة بعد الدخول للعلامة. ويشعر كلام آخرين أنه بعده والباء للملابسة وَنادَوْا أي رجال الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ حين رأوهم وعرفوهم أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بطريق الدعاء والتحية أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره لَمْ يَدْخُلُوها حال من فاعل نادَوْا أو من مفعوله.
وقوله سبحانه: وَهُمْ يَطْمَعُونَ حال من فاعل يَدْخُلُوها أي نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له أي لم يدخلوها وهم في وقت عدم الدخول طامعون قاله بعضهم.
وفسر الطمع باليقين الحسن وأبو علي وبه فسر في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشعراء: 82] . وفي الكشاف أن جملة لَمْ يَدْخُلُوها إلخ لا محل لها لأنها استئناف كأن سائلا سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ. وجوز أن يكون في محل الرفع صفة لرجال وضعف بالفصل.
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ أي إلى جهتهم وهو في الأصل مصدر وليس في المصادر وما هو على وزن تفعال بكسر التاء غيره وغير تبيان وزلزال ثم استعمل ظرف مكان بمعنى جهة اللقاء والمقابلة ويجوز عند السبعة إثبات همزته وهمزة «أصحاب» وحذف الأولى وإثبات الثانية. وفي عدم التعرض لتعلق أنظارهم بأصحاب الجنة والتعبير عن تعلق أبصارهم بأصحاب النار بالصرف إشعار- كما قال غير واحد- بأن التعلق الأول بطريق الرغبة والميل والثاني بخلافه. فمن زعم أن في الكلام الأول شرطا محذوفا لم يأت بشيء قالُوا متعوذين بالله سبحانه من سوء ما رأوا من حالهم رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تجمعنا وإياهم في النار. وفي وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط بل ما يؤدي إليه من الظلم. وفي الآية- على ما قيل- إشارة إلى أنه سبحانه لا يجب عليه شيء. وزعم بعضهم أنه ليس المقصود فيها الدعاء بل مجرد استعظام حال الظالمين. وقرأ الأعمش «وإذا قلبت أبصارهم» . وعن ابن مسعود وسالم مثل ذلك.
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ كرر ذكرهم مع كفاية الإضمار لزيادة التقرير. وقيل: لم يكتف بالإضمار للفرق بين المراد منهم هنا. والمراد منهم فيما تقدم فإن المنادى هناك الكل وهنا البعض. وفي إطلاق أصحاب الأعراف على أولئك الرجال بناء على أن مآلهم إلى الجنة دليل على أن عنوان الصحبة للشيء لا يستدعي الملازمة له كما زعمه البعض رِجالًا من رؤساء الكفرة كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل حتى رأوهم فيما بين أصحاب النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها من سواد الوجه وتشويه الخلق وزرقة العين كما قال الجبائي أو بصورهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا كما قال أبو مسلم أو بعلامتهم الدالة على سوء حالهم يومئذ وعلى رياستهم في الدنيا كما قيل ولعله الأولى. وأيا ما كان فالجار والمجرور متعلق بما عنده- ويفهم من كلام
بعضهم، وفيه بعد، أنه متعلق بنادى. والمعنى نادوا رجالا يعرفونهم في الدنيا بأسمائهم وكناهم وما يدعون به من الصفات.
قالُوا بيان لنادى أو بدل منه ما أَغْنى عَنْكُمْ استفهام للتقريع والتوبيخ ويجوز أن يراد النفي أي ما كفاكم ما أنتم فيه جَمْعُكُمْ أتباعكم وأشياعكم أو جمعكم المال فهو مصدر مفعوله مقدر وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي واستكباركم المستمر عن قبول الحق أو على الخلق وهو الأنسب مما بعده.
وقرىء «تستكثرون» من الكثرة. وما على هذه القراءة تحتمل أن تكون اسم موصول على معنى ما أغنى عنكم أتباعكم والذي كنتم تستكثرونه من الأموال.
ويحتمل عندي أن تكون في القراءة السبعية كذلك. والمراد بها حينئذ الأصنام. ومعنى استكبارهم إياها اعتقادهم عظمها وكبرها أي ما أغنى عنكم جمعكم وأصنامكم التي كنتم تعتقدون كبرها وعظمها.
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ من تتمة قولهم للرجال فهو في محل نصب مفعول القول أيضا أي قالوا: ما أغنى وقالوا: أهؤلاء، والإشارة إلى ضعفاء أهل الجنة الذين كان الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أنهم لا يصيبهم الله تعالى برحمة وخير ولا يدخلهم الجنة كسلمان، وصهيب، وبلال رضي الله تعالى عنهم أو يفعلون ما ينبىء عن ذلك كما قيل ذلك في قوله تعالى: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: 44] .
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ من كلام أصحاب الأعراف أيضا أي فالتفتوا إلى أولئك المشار إليهم من أهل الجنة وقالوا لهم: دوموا في الجنة غير خائفين ولا محزونين على أكمل سرور وأتم كرامة.
وقيل: هو أمر بأصل الدخول بناء على أن يكون كونهم على الأعراف وقولهم هذا قبل دخول بعض أهل الجنة الجنة.
وقال غير واحد: إن قوله سبحانه: أَهؤُلاءِ إلخ استئناف وليس من تتمة قول أصحاب الأعراف، والمشار إليهم أهل الجنة والقائل هو الله تعالى أو بعض الملائكة والمقول له أهل النار في قول، وقيل: المشار إليهم هم أهل الأعراف وهم القائلون أيضا والمقول لهم أهل النار، وادْخُلُوا الْجَنَّةَ من قول أهل الأعراف أيضا أي يرجعون فيخاطب بعضهم بعضا ويقول: ادخلوا الجنة، ولا يخفى بعده، وقيل: لما عير أصحاب الأعراف أصحاب النار أقسم أصحاب النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله تعالى أو بعض الملائكة خطابا لأهل النار: أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة اليوم مشيرا إلى أصحاب الأعراف ثم وجه الخطاب إليهم فقيل: ادخلوا الجنة إلخ وقرىء «ادخلوا» . و «دخلوا» بالمزيد المجهول وبالمجرد المعلوم، وعليها فلا بد أن يكون لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ إلخ مقولا لقول محذوف وقع حالا ليتجه الخطاب ويرتبط الكلام أي ادخلوا أو دخلوا الجنة مقولا لهم لا خوف إلخ.
وقرىء أيضا «ادخلوا» بأمر المزيد للملائكة. والظاهر أنها تحتاج إلى زيادة تقدير.
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ بعد أن استقر بكل من الفريقين القرار واطمأنت به الدار: أَنْ أَفِيضُوا أي صبوا عَلَيْنا شيئا مِنَ الْماءِ نستعين به على ما نحن فيه، وظاهر الآية يدل على أن الجنة فوق النار أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي أو من الذي رزقكموه الله تعالى من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة أو من الأطعمة كما روي عن السدي، وابن زيد، ويقدر في المعطوف عامل يناسبه أو يؤول العامل الأول بما يلائم المتعاطفين أو يضمن ما يعمل في الثاني أو يجعل ذلك من المشاكلة ويكون في الآية دليل على نهاية عطشهم وشدة جوعهم وأن ما هم فيه
من العذاب لا يمنعهم عن طلب أكل وشرب. وبهذا رد موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه- فيما يروي- على هارون الرشيد إنكاره أكل أهل المحشر محتجا بأن ما هم فيه أقوى مانع لهم عن ذلك.
واختلف العلماء في أن هذا السؤال هل كان مع رجاء الحصول أو مع اليأس منه حيث عرفوا دوام ما هم فيه وإلى كل ذهب بعض قالُوا استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قالوا؟ فقيل قالوا: في جوابهم: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ أي منع كلا منهما أو منعهما منع المحرم عن المكلف فلا سبيل إلى ذلك قطعا، ولا يحمل التحريم على معناه الشائع لأن الدار ليست بدار تكليف الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي أمرهم الله تعالى به أو الذي يلزمهم التدين به لَهْواً وَلَعِباً فلم يتدينوا به أو فحرموا ما شاؤوا واستحلوا ما شاؤوا، واللهو- كما قيل- صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب، وقد تقدم تفصيل الكلام فيهما فتذكر وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا شغلتهم بزخارفها العاجلة ومواعيدها الباطلة وهذا شأنها مع أهلها قاتلها الله تعالى تغر وتضر وتمر فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ نفعل بهم فعل الناسي بالمنسي من عدم الاعتداد بهم وتركهم في النار تركا كليا فالكلام خارج مخرج التمثيل، وقد جاء النسيان بمعنى الترك كثيرا ويصح أن يفسر به هنا فيكون استعارة أو مجازا مرسلا، وعن مجاهد أنه قال: المعنى نؤخرهم في النار، وعليه، فالظاهر أن ننساهم من النسء لا من النسيان. والفاء في قوله تعالى فَالْيَوْمَ فصيحة، وقوله عز وعلا.
كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا قيل: في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي ننساهم نسيانا مثل نسيانهم لقاء هذا اليوم العظيم الذي لا ينبغي أن ينسى. وليس الكلام على حقيقته أيضا لأنهم لم يكونوا ذاكري ذلك حتى ينسوه بل شبه عدم إخطارهم يوم القيامة ببالهم وعدم استعدادهم له بحال من عرف شيئا ثم نسيه.
وعن ابن عباس، ومجاهد، والحسن أن المعنى كما نسوا العمل للقاء يومهم هذا وليس هذا التقدير ضروريا كما لا يخفى، وذهب غير واحد إلى أن الكاف للتعليل متعلق بما عنده لا للتشبيه إذ يمنع منه قوله تعالى: وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ لأنه عطف على ما نسوا وهو يستدعي أن يكون مشبها به النسيان مثله.
وتشبيه النسيان بالجحود غير ظاهر، ومن ادعاه قال: المراد نتركهم في النار تركا مستمرا كما كانوا منكرين أن الآيات من عند الله تعالى إنكارا مستمرا. وقال القطب: الجحود في معنى النسيان، وظاهر كلام كثير من المفسرين أن كلام أهل الجنة إلى وغرتهم الحياة الدنيا لا أن الله حرمهما على الكافرين فقط. وقال بعضهم: إنه ذلك لا غير، وعليه فيجوز أن يكون الَّذِينَ مبتدأ وجملة اليوم ننساهم خبره، والفاء فيه مثلها في قولك: الذي يأتيني فله درهم كما قيل.
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ بينا معانيه من العقائد، والأحكام، والمواعظ مفصلة والضمير للكفرة قاطبة، وقيل: لهم وللمؤمنين، والمراد بالكتاب الجنس، وقيل: للمعاصرين من الكفرة أو منهم ومن المؤمنين. والكتاب هو القرآن وتنوينه للتفخيم. وقد نظم بعضهم ما اشتمل عليه من الأنواع بقوله:
حلال حرام محكم متشابه
…
بشير نذير قصة عظة مثل
والمراد منع الخلو كما لا يخفى عَلى عِلْمٍ منا بوجه تفصيله وهو في موضع الحال من فاعل فَصَّلْناهُ وتنكيره للتعظيم أي عالمين على أكمل وجه بذلك حتى جاء حكيما متقنا، وفي هذا- كما قيل- دليل على أنه سبحانه
يعلم بصفة زائدة على الذات وهي صفة العلم وليس علمه سبحانه عين ذاته كما يقوله الفلاسفة ومن ضاهاهم وللمناقشة فيه مجال، ويجوز أن يكون موضع الحال من المفعول أي مشتملا على علم كثير. وقرأ ابن محيصن «فضلناه» بالضاد المعجمة، وظاهر كلام البعض أن الجار والمجرور على هذه القراءة في موضع الحال من الفاعل ولا يجعل حالا من المفعول أي فضلناه على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك، وجوز بعضهم أن يجعل حالا من المفعول على نحو ما مر وقيل: إن عَلى للتعليل كما في قوله سبحانه: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ [البقرة: 185] وهي متعلقة بفضلناه أي فضلناه على سائر الكتب لأجل علم فيه أي لاشتماله على علم يشتمل عليه غيره منها، وقيل: إن عَلى في القراءتين متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول جِئْناهُمْ أي جئناهم بذلك حال كونهم من ذوي العلم القابلين لفهم ما جئناهم به فتأمل.
هُدىً وَرَحْمَةً حال من مفعول فَصَّلْناهُ وجوز أن يكون مفعولا لأجله وأن يكون حالا من الكتاب لتخصيصه بالوصف، والكلام في وقوع مثل ذلك حالا مشهور. وقرىء بالجر على البدلية من عِلْمٍ وبالرفع على إضمار المبتدأ أي هو هدى عظيم ورحمة كذلك لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بنواره هَلْ يَنْظُرُونَ أي ما ينتظر هؤلاء الكفرة بعدم إيمانهم به شيئا إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي عاقبته وما يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد، والمراد أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم من حيث إن ما ذكر يأتيهم لا محالة، وحينئذ فلا يقال: كيف ينتظرونه وهم جاحدون غير متوقعين له؟.
وقيل: إن فيهم أقواما يشكون ويتوقعون فالكلام من قبيل- بنو فلان قتلوا زيدا يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ وهو يوم القيامة، وقيل: هو ويوم بدر يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أي تركوه ترك المنسي فأعرضوا عنه ولم يعملوا به مِنْ قَبْلُ أي من قبل إتيان تأويله قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي قد تبين أنهم قد جاؤوا بالحق، وإنما فسر بذلك لأنه الواقع هناك ولأنه الذي يترتب عليه طلب الشفاعة المفهوم من قوله سبحانه: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا اليوم ويدفعوا عنا ما نحن فيه أَوْ نُرَدُّ عطف على الجملة قبله داخل معه في حكم الاستفهام، ومِنْ مزيدة في المبتدأ.
وجوز أن تكون مزيدة في الفاعل بالظرف كأنه قيل: هل لنا من شفعاء أو هل نرد إلى الدنيا، ورافعه وقوعه موقعا يصلح للاسم كما تقول. ابتداء: هل يضرب زيد، ولا يطلب له فعل آخر يعطف عليه فلا يقدر هل يشفع لنا شافع أو نرد قاله الزمخشري، وأراد- كما في الكشف- لفظا لأن الظرف مقدر بجملة، وهل مما له اختصاص بالفعل، والعدول للدلالة على أن تمني الشفيع أصل وتمني الرد فرع لأن ترك الفعل إلى الاسم مع استدعاء هل للفعل يفيد ذلك فلو قدر لفاتت نكتة العدول معنى مع الغنى عنه لفظا. وقرأ ابن أبي إسحاق أَوْ نُرَدُّ بالنصب عطفا على فَيَشْفَعُوا لَنا المنصوب في جواب الاستفهام أو لأن أَوْ بمعنى إلى أن أو حتى أن على ما اختاره الزمخشري إظهارا لمعنى السببية، قال القاضي: فعلى الرفع المسئول أحد الأمرين الشفاعة. والرد إلى الدنيا، وعلى النصب المسئول أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين من الشفاعة في العفو عنهم والرد إن كانت أَوْ عاطفة وإما لأمر واحد إذا كانت بمعنى إلى أن إذ معناه حينئذ يشفعون إلى الرد، وكذا إذا كانت بمعنى حتى إن أي يشفعون حتى يحصل الرد فَنَعْمَلَ بالنصب جواب الاستفهام الثاني أو معطوف على نُرَدُّ مسبب عنه على قراءة ابن أبي إسحاق.
وقرأ الحسن بنصب «نرّد» ورفع «نعمل» أي فنحن نعمل غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي في الدنيا من الشرك والمعصية قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمارهم التي هي رأس مالهم إلى الشرك والمعاصي وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب وفقد ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي الذي كانوا يفترونه من الأصنام شركاء لله سبحانه وشفعاءهم يوم القيامة، والمراد أنه ظهر بطلانه ولم يفدهم شيئا.
ومن باب الإشارة في الآيات: وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ أي النفس وسميت حواء لملازمتها الجسم الظلماني إذ الحوة اللون الذي يغلب عليه السواد. وبعضهم يجعل آدم إشارة إلى القلب لأنه من الآدمة وهي السمرة وهو لتعلقه بالجسم دون النفس سمي بذلك ولشرف آدم عليه السلام وجه النداء إليه وزوجه تبع له في السكنى الجنة هي عندهم إشارة إلى سماء عالم الأرواح التي هي روضة القدس فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما لا حجر عليكما في تلقي المعاني والمعارف والحكم التي هي الأقوات القلبية والفواكه الروحانية وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ أي شجرة الطبيعة والهوى التي بحضرتكما فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ الواضعين النور في محل الظلمة أو الناقصين من نور استعدادكما. وأول بعضهم الشجرة بشجرة المحبة المورقة بأنواع المحبة أي لا تقرباها فتظلما أنفسكما لما فيها من احتراق أنانية المحب وفناء هويته في هوية المحبوب ثم قال: إن هذه الشجرة غرسها الرحمن بيده لآدم عليه السلام كما خمر طينته بيده لها:
فلم تك تصلح إلا له
…
ولم يك يصلح إلا لها
وأن المنع كان تحريضا على تناولها فالمرء حريص على ما منع، واختار هذا النيسابوري وتكلف في باقي الآية ما تكلف فإن أردته فارجع إليه فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ليظهر لهما بالميل إلى شجرة الطبيعة ما حجب عنهما عند التجرد من الأمور الرذيلة التي هي عورات عند العقل قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ أو همهما أن في الاتصاف بالطبيعة الجسمانية لذات ملكية وخلودا فيها أو ملكا ورياسة على القوى بغير زوال إن قرىء «ملكين» بكسر اللام.
فَدَلَّاهُما فنزلهما من غرف القدس إلى التعلق بها والركون إليها بِغُرُورٍ بما غرهما من كأس القسم الترعة من حميا ذكر الحبيب فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما والقليل منهما بالنسبة إليهما كثير وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يكتمان هاتيك السوءات والفواحش الطبيعية بالآداب الحسنة والعادات الجميلة التي هي من تفاريع الآراء العقلية ومستنبطات القوة العاقلة العلمية ويخفيانها بالحيل العملية وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما بما أودعت في عقولكما من الميل إلى التجرد وإدراك المعقولات عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ
وذلك القول بما ألهم العقل من منافاة أحكام الوهم ومضادة مدركاته والوقوف على مخالفاته ومكابراته إياه قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا بالميل إلى جهة الطبيعة وانطفاء نورها وانكسار قوتها وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا بإلباسنا الأنوار الروحانية وإفاضتها عليها وَتَرْحَمْنا بإفاضة المعارف الحقيقية لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين أتلفوا الاستعداد الذي هو مادة السعادة وحرموا عن الكمال التجردي بملازمة النقص الطبيعي قالَ اهْبِطُوا إلى الجهة السفلى التي هي العالم الجسماني بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لأن مطالب الجهة السفلية جزئية لا تحتمل الشركة فكلما حظي بها أحد حرم منها غيره فيقع بينهما العداوة والبغضاء بخلاف المطالب الكلية.
وجمع الخطاب لأنه في قوة خطاب النوع يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً وهو لباس الشريعة يُوارِي سَوْآتِكُمْ يستر قبائح أوصافكم وفواحش أفعالكم بشعاره ودثاره وَرِيشاً زينة وجمالا في الظاهر والباطن تمتازون به عن سائر الحيوانات وَلِباسُ التَّقْوى أي صفة الورع والحذر من صفات النفس ذلِكَ خَيْرٌ من سائر أركان الشرائع والحمية رأس الدواء. ويقال: لباس التقوى هو لباس القلب والروح والسر والخفي ولباس الأول منها الصدق في طلب المولى ويتوارى به سوءة الطمع في الدنيا وما فيها. ولباس الثاني محبة ذي المجد الأسنى ويتوارى به سوءة التعلق بالسوي. ولباس الثالث رؤية العلي الأعلى ويتوارى به سورة رؤية غيره في الأولى والأخرى. ولباس الرابع بالبقاء بهوية ذي القدس الأسنى ويتوارى به سوءة هوية ما في السماوات وما في الأرض وما تحت الثرى قيل: وهذا إشارة إلى الحقيقة، وربما يقال: اللباس المواري للسوءات إشارة إلى الشريعة والريش إشارة إلى الطريقة لما أن مدارها على حسن الأخلاق وبذلك يتزين الإنسان ولباس التقوى إشارة إلى الحقيقة لما فيها من ترك السوي وهو أكمل أنواع التقوى ذلك أي لباس التقوى من آيات الله أي من أنوار صفاته سبحانه إذ التوقي من صفات النفس لا يتيسر إلا بظهور تجليات صفات الحق أو إنزال الشريعة والحقيقة مما يدل على الله سبحانه وتعالى لعلكم تذكرون (1) عند ظهور تلك الأنوار لباسكم الأصلي النوري أو تذكرون معرفتكم له عند أخذ العهد فتتمسكون بأذيالها اليوم يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ بنزع لباس الشريعة والتقوى فتحرموا من دخول الجنة كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما الفطري النوري إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ وذلك بمقتضى البشرية وقد يرون بواسطة النور الرباني.
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ بالعدل وهو الصراط المستقيم وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أي ذواتكم بمنعها عن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي مقام سجود أو وقته، والسجود عندهم كما قاله البعض أربعة أقسام سجود الانقياد والطاعة وإقامة الوجه عنده بالإخلاص وترك الالتفات إلى السوء ومراعاة موافقة الأمر وصدق النية والامتناع عن المخالفة في جميع الأمور، وسجود الفناء في الأفعال وإقامة الوجه عنده بأن لا يرى مؤثرا غير الله تعالى أصلا. وسجود الفناء في الصفات وإقامة الوجه عنده بأن لا يكره شيئا من غير أن يميل إلى الإفراط بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا التفريط بالتسخط على المخالف والتعبير له والاستخفاف به. وسجود الفناء في الذات وإقامة الوجه عنده بالغيبة عن البقية والانطماس بالكلية والامتناع عن إثبات الآنية فلا يطغى بحجاب الآنية ولا يتزندق بالإباحة وترك الإطاعة.
وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بتخصيص العمل لله سبحانه أو برؤية العمل منه أو به جل شأنه كَما بَدَأَكُمْ أظهركم بإفاضة هذه التعينات عليكم تَعُودُونَ إليه أو كما بدأكم لطفا أو قهرا تعودون إليه فيعاملكم حسبما بدأكم فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ كما ثبت ذلك في علمه إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ من القوى النفسانية الوهمية والتخيلية أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ للمناسبة التامة بين الفريقين وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ لقوة سلطان الوهم يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فأخلصوا العمل لله تعالى وتوكلوا عليه وقوموا بحق الرضا وتمكنوا في التحقق بالحقيقة ومراعاة الاستقامة ولكل مقام مقال وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ولا تسرفوا بالإفراط والتفريط فإن العدالة صراط الله تعالى المستقيم.
(1) قوله لعلكم تذكرون كذا بخطه والتلاوة لعلهم يذكرون اه.
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ أي منع عنها وقال: لا يمكن التزين بها وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ كعلوم الإخلاص. ومقام التوكل، والرضا، والتمكين قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ الكبرى عن التلون وظهور شيء من بقايا الأفعال والصفات والذات قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ رذائل القوة البهيمة ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ رذائل القوة السبعية وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ رذائل القوة النطقية وكل ذلك من موانع الزينة وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ينتهون عنده إلى مبدئهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ لأن وقوع ما يخالف العلم محال يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم، وقيل: هي العقول، وقال النيسابوري: التأويل إما يأتينكم إلهامات من طريق قلوبكم وأسراركم، وفيه أن بني آدم كلهم مستعدون لإشارات الحق وإلهاماته فَمَنِ اتَّقى في الفناء وَأَصْلَحَ بالاستقامة عند البقاء فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لوصولهم إلى مقام الولاية وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أخفوا صفاتنا بصفات أنفسهم وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها بالاتصاف بالرذائل أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ نار الحرمان وهُمْ فِيها خالِدُونَ لسوء ما طبعوا عليه فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن قال: أكرمني الله تعالى بالكرامات وهو الذي بالكرى مات أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ بأن أنكر على أولياء الله سبحانه الفائزين من الله تعالى بالحظ الأوفى أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ مما كتب لهم في لوح القضاء والقدر.
وقيل: الكتاب الإنسان الكامل ونصيبهم منه نصيب الغرض من السهم إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة علينا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ولم يلتفتوا إليها لوقوفهم مع أنفسهم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ فلا تعرج أرواحهم إلى الملكوت وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أي جنة المعرفة والمشاهدة والقربة حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ أي جمل أنفسهم المستكبرة فِي سَمِّ الْخِياطِ أي خياط أحكام الشريعة الذي به يخاط ما شقته يد الشقاق، وسمه آداب الطريقة لأنها دقيقة جدا، وقد يقال: الخياط إشارة إلى خياط الشريعة، والطريقة وسمه ما يلزمه العمل به من ذلك وولوج ذلك الجمل لا يمكن مع الاستكبار بل لا بد من الخضوع والانقياد وترك الحظوظ النفسانية وحينئذ يكون الجمل أقل من البعوضة بل أدق من الشعرة فحينئذ يلج في ذلك السم لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ الحرمان مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي إن الحرمان أحاط بهم، وقيل: لهم من جهنم المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس وقطع الهوى لحاف فتذيبهم وتحرق أنانيتهم. وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ المرحومون أَصْحابَ النَّارِ المحرمون أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا من القرب حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم من البعد حَقًّا فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ وهو مؤذن العزة والعظمة بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الواضعين الشيء في غير موضعه الذين يصدون السالكين عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الطريق الموصلة إليه سبحانه، وقيل: يصدون القلب والروح عن ذلك وَيَبْغُونَها عِوَجاً بأن يصفوها بما ينفر السالك عنها من الزيغ والميل عن الحق، وقيل: يطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها وَهُمْ بِالْآخِرَةِ أي الفناء بالله تعالى أو بالقيامة الكبرى كافِرُونَ لمزيد احتجابهم بما هم فيه وَبَيْنَهُما أي بين أهل الجنة وهي جنة ثواب الأعمال من العباد والزهاد وبين أهل النار حجاب فكل منهم محجوب عن صاحبه وَعَلَى الْأَعْرافِ أي أعالي ذلك الحجاب الذي هو حجاب القلب رِجالٌ وأي رجال وهم العرفاء أهل الله سبحانه وخاصته. قيل: وإنما سموا رجالا لأنهم يتصرفون بإذن الله تعالى فيما سواه عز وجل تصرف الرجل بالنساء ولا يتصرف فيهم شيء من ذلك يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ لما أعطوا من نور الفراسة وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي جنة ثواب الأعمال أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بما من الله تعالى عليكم به من الخلاص من النار، وقيل: إن سلامهم على أهل الجنة
بإمدادهم بأسباب التزكية والتخلية والأنوار القلبية وإفاضة الخيرات والبركات عليهم لَمْ يَدْخُلُوها أي لم يدخل أولئك الرجال الجنة لعدم احتياجهم إليها وَهُمْ يَطْمَعُونَ في كل وقت بما هو أعلى وأغلى، وقيل: هم أي أهل الجنة يطمعون في دخول أولئك الرجال ليقتبسوا من نورهم ويستضيئوا بأشعة وجوههم ويستأنسوا بحضورهم وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ ليعتبروا قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بأن تحفظ قلوبنا من الزيغ وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا من رؤساء أهل النار، وإطلاق الرجال عليهم وعلى أصحاب الأعراف كإطلاق المسيح على الدجال اللعين وعلى عيسى عليه السلام. أَهؤُلاءِ إشارة إلى أهل الجنة وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أي الحياة التي أنتم فيها أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي النعيم الذي من الله تعالى به عليكم أو أفيضوا علينا من العلم أو العمل لننال به ما نلتم قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما في الأزل عَلَى الْكافِرِينَ لسوء استعدادهم، وقيل: إن الكفار لما كانوا عبيد البطون حراصا على الطعام والشراب فماتوا على ما عاشوا وحشروا وأدخلوا النار على ما ماتوا طلبوا الماء أو الطعام وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ وهو النبي صلى الله عليه وسلم الجامع لكل شيء والمظهر الأعظم لنا فَصَّلْناهُ أي أظهرنا منه ما أظهرنا عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المنتفعون منه وإن كان من جهة أخرى رحمة للعالمين هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي ما يؤول إليه عاقبة أمره، وقيل: الكتاب الذي فصل على علم إشارة إلى البدن الإنساني المفصل إلى أعضاء وجوارح وآلات وحواس تصلح للاستكمال على ما يقتضيه العلم الإلهي وتأويله ما يؤول إليه أمره في العاقبة من الانقلاب إلا ما لا يصلح لذلك عند البعث من هيئات وصور وأشكال تناسب صفاتهم وعقائدهم على مقتضى قوله سبحانه «سيجزيهم وصفهم» وكما قال سبحانه: «ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما» انتهى.
ويحتمل أن يكون الكتاب المذكور إشارة إلى الآفاق والأنفس وما يؤول إليه كل ظاهر والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
شروع في بيان مبدأ الفطرة إثر بيان معاد الكفرة، ويحتمل أنه سبحانه لما ذكر حال الكفار وأشار إلى عبادتهم غيره سبحانه احتج عليهم بمقدوراته ومصنوعاته جل شأنه ودلهم بذلك على أنه لا معبود سواه فقال مخاطبا بالخطاب العام إِنَّ رَبَّكُمُ أي خالقكم ومالككم الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ السبع وَالْأَرْضَ بما فيها كما يدل عليه ما في سورة السجدة على ما يأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في ستة أوقات كقوله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال: 16] أو في مقدار ستة أيام كقوله سبحانه لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
فإن المتعارف أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها ولم تكن هي حينئذ، نعم العرش وهو المحدد على المشهور موجود إذ ذاك على ما يدل عليه بعض الآيات، وليس بقديم كما يقوله من ضل عن الصراط المستقيم لكن ذاك ليس نافعا في تحقق اليوم العرفي، وإلى حمل اليوم على المتعارف وتقدير المضاف ذهب جمع من العلماء وادعوا- وهو قول عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، والضحاك، ومجاهد، واختاره ابن جرير الطبري- أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد ولم يكن في السبت خلق أخذا له من السبت بمعنى القطع لقطع الخلق فيه ولتمام الخلق في يوم الجمعة واجتماعه فيه سمي بذلك. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس أنه سمي تلك الأيام بأبو جاد وهواز وحطى وكلمون وسعفص وقريشات. وقال محمد بن إسحاق وغيره: إن ابتداء الخلق في يوم السبت، وسمي سبتا لقطع بعض خلق الأرض فيه على ما قال ابن الأنباري أو لما أن الأمر كأنه قطع وشرع فيه على ما قيل، واستدل لهذا القول بما
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة قال: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وخلق فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق وفي آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين
العصر إلى الليل»
ولا يخفى أن هذا الخبر مخالف للآية الكريمة فهو إما غير صحيح وإن رواه مسلم وأما مؤول، وأنا أرى أن أول يوم وقع فيه الخلق يقال له الأحد وثاني يوم الاثنين وهكذا ويوم جمع فيه الخلق فافهم، وإلى حمله على اللغوي وعدم التقدير ذهب آخرون وقالوا: كان مقدار كل يوم ألف سنة وروي ذلك عن زيد بن أرقم، وفي خلقه سبحانه الأشياء مدرجا على ما روي عن ابن جبير للخلق التثبت والتأني في الأمور كما
في الحديث «التأني من الله تعالى والعجلة من الشيطان»
وقال غير واحد: إن في خلقها مدرجا مع قدرته سبحانه على إبداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبار للنظار. واعترض عليه بأنه يجوز أن يكون الفاعل موجبا ويكون وجود المعلول مشروطا بشرائط توجد وقتا فوقتا، وبأن ذلك يتوقف على ثبوت تقدم خلق الملائكة على خلق السماوات والأرض وليس ذلك بالمحقق.
وأجيب بأن الأول مبني على الغفلة عن قوله مع القدرة على إبداعها دفعه وبيانه أن الفاعل إذا كان مختارا- كما يقوله أهل الحق- يتوقف وجود المعلول على تعلق الإرادة به فهو جزء العلة التامة حينئذ فيجوز أن يتخلف المعلول عن الفاعل لانتفاء تعلق الإرادة فلا يلزم من قدمه قدم المعلول، وأما إذا كان الفاعل موجبا مقتضيا لذاته فيضان الوجود على ما تم استعداده فإن كان المعلول تام الاستعداد في ذاته كالكبريت بالنسبة إلى النار يجب وجوده ويمتنع تخلفه وإلا لزم التخلف عن العلة التامة فيلزم من قدم الفاعل حينئذ قدمه، والأجرام الفلكية من هذا القبيل عند الفلاسفة وإن توقف تمام استعداده على أمر متجدد فما لم يحصل يمتنع إيجاده كالحطب الرطب فإنه ما لم ييبس لم تحرقه النار والحوادث اليومية من هذا القبيل عندهم، ولهذا أثبتوا برزخا بين عالمي القدم والحدوث ليتأتى ربط الحوادث بالمبادىء القديمة ففي صورة كون الفاعل موجبا مشروطا وجود معلوله بشرائط متعاقبة يمتنع الإبداع دفعه. فإمكان وجود هذه الأشياء المنبئ عن عدم التوقف على شيء آخر أصلا دفعة مع الخلق التدريجي المستلزم لتأخر وجود المعلول عن وجود الفاعل لا يجامع الوجوب المستلزم لامتناع التأخر حينئذ ويستلزم الاختيار المصحح لذلك التأخر كما علمت، بأن الإيداع التدريجي للأشياء عبارة عن إيجادات يتعلق كل منها بشيء فيدل على تعلق العلم والإرادة والقدرة بكل منها تفصيلا بخلاف الإيجاد الدفعي لها فإنه إيجاد واحد متعلق بالمجموع فيدل على تعلق ما ذكر بالمجموع من حيث هو مجموع إجمالا، واستوضح ذلك من الفرق بين ضرب الخاتم على نحو القرطاس وبين أن تكتب تلك الكلمات فإنك في الصورة الثانية تتخيلها كلمة فكلمة بل حرفا فحرفا وتريدها كذلك فتوقعها في الصحيفة بخلاف الصورة الأولى وهو ظاهر، فالنظار يعتبرون من الخلق التدريجي ويفهمون شمول علمه سبحانه وإرادته وقدرته للأشياء تفصيلا قائلين:
سبحان من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وأيضا قالوا: إنا إذا فعلنا شيئا تصورناه أولا ثم اعتقدنا له فائدة ثم تحصل لنا حال شوقية ثم ميلان نفساني هي الإرادة ثم تنبعث القوة الباعثة للقوة المحركة للأعضاء نحو إيجاده فيحصل لنا ذلك الشيء فلكل واحد من تلك الأمور دخل في وجود ذلك الشيء، ثم قالوا: فكما لا بد في صدور الأفعال الاختيارية فينا من هذه الأمور كذلك لا بد في صدور الأفعال الاختيارية للواجب من نحو ذلك مما لا يمتنع عليه سبحانه فأثبتوا له تعالى علما، وإرادة، وقدرة، وفائدة لأفعاله، واستدلوا على ذلك من كونه سبحانه مختارا فالخلق التدريجي لما كان دالا على الاختيار الدال على ما ذكر صدق أن فيه اعتبارا للنظار.
وحاصل هذا أن المراد من النظار أصحاب النظر والبصيرة من العقلاء فلا يتوقف ما ذكر على تقدم خلق الملائكة على أن من قال بتقدم خلق العرش والكرسي على خلق الأرض والسماوات قائل بتقدم خلق الملائكة بل قيل: إن من الناس من قال بتقدم خلق نوع من الملائكة قبل العرش والكرسي وسماهم المهيمين.
وأنت تعلم أن هذا لا يفيدنا لأن المهيمين عند هذا القائل لا يشعرون بسماء ولا أرض بل هم مستغرقون فيه
سبحانه على أن ذلك ليس بالمحقق كما يقوله المعترض أيضا، وقيل: إن الشيء إذا حدث دفعة واحدة فلعله يخطر بالبال أن ذلك الشيء إنما وقع على سبيل الاتفاق فإذا أحدث شيئا فشيئا على سبيل المصلحة والحكمة كان ذلك أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة، وقيل: إن التعجيل في الخلق أبلغ في القدرة والتثبت أبلغ في الحكمة فأراد الله تعالى إظهار حكمته في خلق الأشياء بالتثبت كما أظهر قدرته في خلق الأشياء بكن.
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وهو في المشهور الجسم المحيط بسائر الأجسام وهو فلك الأفلاك سمي به إما لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك فإنه يقال له عرش ومنه قوله تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ [يوسف: 100] لأن الأمور والتدبيرات تنزل منه، ويكنى به عن العز والسلطان والملك فيقال: فلان ثل عرشه أي ذهب عزه وملكه وأنشدوا قوله:
إذا ما بنو مروان ثلث عروشهم
…
وأودت كما أودت إياد وحمير
وقوله:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم
…
بعيينة بن الحارث بن شهاب
وذكر الراغب أن العرش مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له تعالى عن ذلك، وليس كما قال قوم. إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب وفيه نظر، والناس في الكلام على هذه الآية ونحوها مختلفون. فمنهم من فسر العرش بالمعنى المشهور، وفسر الاستواء بالاستقرار. وروي ذلك عن الكلبي، ومقاتل، ورواه البيهقي في كتابه: الأسماء والصفات بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها. وما روي عن مالك رضي الله تعالى عنه أنه سئل كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليا حتى علته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الاستواء غير مجهول. والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ثم قال للسائل: وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج ليس نصا في هذا المذهب لاحتمال أن يكون المراد من قوله: غير مجهول أنه ثابت معلوم الثبوت لا أن معناه وهو الاستقرار غير مجهول ومن قوله: والكيف غير معقول أن كل ما هو من صفة الله تعالى لا يدرك العقل له كيفية لتعاليه عن ذلك فكف الكيف عنه مشلولة.
ويدل على هذا ما جاء في رواية أخرى عن عبد الله بن وهب أن مالكا سئل عن الاستواء فأطرق وأخذه الرحضاء ثم قال: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] كما وصف نفسه ولا يقال له: كيف وكيف عنه مرفوع إلى آخر ما قال، ثم إن هذا القول إن كان مع نفي اللوازم فالأمر فيه هين، وإن كان مع القول بها والعياذ بالله تعالى فهو ضلال وأي ضلال وجهل وأي جهل بالملك المتعال، وما أعرف ما قاله بعض العارفين الذين كانوا من تيار المعارف غارفين على لسان حال العرش موجها الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج حين أشرقت شمسه عليه الصلاة والسلام في الملأ الأعلى فتضاءل معها كل نور وسراج كما نقله الإمام القسطلاني معرضا بضلال مثل أهل هذا المذهب الثاني ولفظه مع حذف، ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى العرش تمسك بأذياله وناداه بلسان حاله يا محمد أنت ونصيبي يا حبيبي أن تشهد بالبراءة مما نسبه أهل الزور إلي وتقوله أهل الغرور علي زعموا أني أسمع من لا مثل له وأحيط بمن لا كيفية له يا محمد من لا حد لذاته ولا عد لصفاته كيف يكون مفتقرا إلي ومحمولا علي إذا كان الرحمن اسمه والاستواء صفته وصفته متصلة بذاته كيف يتصل بي أو ينفصل عني؟ يا محمد وعزته لست بالقريب منه وصلا ولا بالبعيد عنه فصلا ولا بالمطبق له حملا أوجدني منه رجمة وفضلا ولو محقني لكان حقا منه وعدلا يا محمد أنا محمول قدرته ومعمول حكمته اه.
وذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين إلى أن العرش على معناه واستوى بمعنى استولى. واحتجوا عليه بقوله:
قد استوى بشر على العراق
…
من غير سيف ودم مهراق
وخص العرش بالأخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات، ورد هذا المذهب بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى وإنما يقال: استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه والله تعالى لم يزل مالكا للأشياء كلها ومستوليا عليها ونسب ذلك للأشعرية. وبالغ ابن القيم في ردهم ثم قال: إن لام الأشعرية كنون اليهودية وهو ليس من الدين القيم عندي. وذهب الفراء واختاره القاضي إلى أن المعنى ثم قصد إلى خلق العرش، ويبعده تعدى الاستواء بعلى، وفيه قول بأن خلق العرش بعد خلق السماوات والأرض وهو كما ترى. وذهب القفال إلى أن المراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة واستقامة الملك لكنه أخرج ذلك على الوجه الذي ألفه الناس من ملوكهم واستقر في قلوبهم، قيل: ويدل على صحة ذلك قوله سبحانه في سورة [يونس: 3] ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فإن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ جرى مجرى التفسير لقوله: اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى، وذكر أن القفال يفسر العرش بالملك ويقول ما يقول، واعترض بأن الله تعالى لم يزل مستقيم الملك مستويا عليه قبل خلق السماوات والأرض وهذا يقتضي أنه سبحانه لم يكن كذلك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأجيب بأن الله تعالى كان قبل خلق السماوات والأرض مالكها لكن لا يصح أن يقال: شبع زيدا إلا بعد أكله الطعام فإذا فسر العرش بالملك صح أن يقال: إنه تعالى إنما استوى ملكه بعد خلق السماوات والأرض، ومنهم من يجعل الإسناد مجازيا ويقدر فاعلا في الكلام أي استوى أمره ولا يضر حذف الفاعل إذا قام ما أضيف إليه مقامه، وعلى هذا لا يكون الاستواء صفة له تعالى وليس بشيء. ومن فسره بالاستيلاء أرجعه إلى صفة القدرة.
ونقل البيهقي عن أبي الحسن الأشعري أن الله تعالى فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة وغيرهما من أفعاله سبحانه لأن ثم للتراخي وهو إنما يكون في الأفعال، وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك عن بعضهم أن اسْتَوى بمعنى علا ولا يراد بذلك العلو بالمسافة والتحيز والكون في المكان متمكنا فيه ولكن يراد معنى يصح نسبته إليه سبحانه. وهو على هذا من صفات الذات وكلمة ثُمَّ تعلقت بالمستوى عليه لا بالاستواء أو أنها للتفاوت في الرتبة وهو قول متين.
وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف في مثل ذلك تفويض المراد منه إلى الله تعالى فهم يقولون: استوى على العرش على الوجه الذي عناه سبحانه منزها عن الاستقرار والتمكن، وأن تفسير الاستواء بالاستيلاء تفسير مرذول إذ القائل به لا يسعه أن يقول كاستيلائنا بل لا بد أن يقول: هو استيلاء لائق به عز وجل فليقل من أول الأمر هو استواء لائق به جل وعلا.
وقد اختار ذلك السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وهو أعلم وأسلم وأحكم خلافا لبعضهم. ولعل لنا عودة إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يغطي سبحانه النهار بالليل، ولما كان المغطى يجتمع مع المغطي وجودا وذلك لا يتصور هنا قالوا: المعنى يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا فيكون التجوز في الإسناد بإسناد ما لمكان الشيء إليه ومكانه هو الجو على معنى أنه مكان للضوء الذي هو لازمه لا أنه مكان لنفس النهار لأن الزمان لا مكان له وجوز أن يكون هناك استعارة بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه فكأنه لف عليه لف الغشاء أو يشبه تغييبه له بطريانه عليه بستر اللباس لملابسة. وجوز أن يكون المعنى يغطي سبحانه الليل بالنهار.
ورجح الوجه الأول بأن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار. وبأنه يلزم على الثاني أن يكون الليل مفعولا ثانيا والنهار مفعولا أولا. وقد ذكر أبو حيان أن المفعولين إذا تعدى إليهما فعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى يلزم أن يكون هو الأول منهما عندهم كما لزم ذلك في ملكت زيدا عمرا، ورتبة التقديم هي الموضحة لأنه الفاعل معنى كما لزم في ضرب موسى عيسى بخلاف أعطيت زيدا درهما فإن تعين المفعول الأول لا يتوقف على التقديم. ورجح الثاني بأن حميد بن قيس قرأ «يغشى الليل النهار» بفتح الياء ونصب «الليل» ورفع «النهار» ، ويلزم عليها أن يكون الطالب النهار والليل ملحق به. وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما.
وبأن قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] يعلم منه- على ما قال المرزوقي- أن الليل قبل النهار لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ فالنهار بالإدراك أولي، وبأن قوله سبحانه: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي محمولا على السرعة ففعيل بمعنى مفعول أوفق بهذا الوجه فإن هذا الطلب من النهار أظهر، وقد قالوا: إن ضوء النهار هو الهاجم على ظلمة الليل. وأنشد بعضهم:
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى
…
نطير غرابا ذا قوادم جون
ولبعض المتأخرين من أبيات:
وكأن الشرق باب للدجى
…
ماله خوف هجوم الصبح فتح
وحديث أن التغشية أنسب بالليل قيل. مسلم لو كان المراد بالتغشية حقيقتها لكن ليس المراد ذلك بل المراد اللحوق والإدراك وهذا أنسب بالنهار كما علمت. والقاعدة المذكورة لا تخلو عن كلام. على أنه لا يبعد على ما نقرر أن يكون الكلام من قبيل أعطيت زيدا درهما. والقول بأن معنى الآية أنه سبحانه يجعل الليل أغشى بالنهار أي مبيضا بنور الفجر بناء على ما في الصحاح من أن الأغشى من الخيل وغيره ما ابيض رأسه كله من بين جسده كالأرخم مما لا يكاد يقدم عليه، وذكر سبحانه أحد الأمرين ولم يذكرهما معا كما في قوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحج: 61، لقمان: 29، فاطر: 13، الحديد: 6] للعلم بالآخر من المذكور لأنه يشير إليه أو لأن اللفظ يحتمله- على ما قيل، وقال بعض المحققين: إن الليل والنهار بمعنى كل ليل ونهار وهو بتعاقب الأمثال مستمر الاستبدال فيدل على تغيير كل منهما بالآخر بأخصر عبارة من غير تكلف ومخالفة لما اشتهر من قواعد العربية.
وجملة يُغْشِي- على ما قاله ابن جني- على قراءة حميد حال من الضمير في قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى والعائد محذوف أي يغشى الليل النهار بأمره أو بإذنه، وقوله جل وعلا: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً بدل من يُغْشِي إلخ للتوكيد. وعلى قراءة الجماعة حال من اللَّيْلَ أي يغشى الليل النهار طالبا له حثيثا، وحَثِيثاً حال من الضمير في يَطْلُبُهُ وجوز غيره أن تكون الجملة حالا من النَّهارَ على تقدير قراءة حميد أيضا.
وجوز أبو البقاء الاستئناف في الجملة الأولى. وقال بعضهم: يجوز في حَثِيثاً أن يكون حالا من الفاعل بمعنى حاثا أو من المفعول أي محثوثا، وأن يكون صفة مصدر محذوف أي طلبا حثيثا، وإنما وصف الطلب بذلك لأن تعاقب الليل والنهار- على ما قال الإمام وغيره- إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وهي أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا كان في أشد عدوة بمقدار رفع رجله ووضعها يتحرك الفلك ثلاثة آلاف ميل وهي ألف فرسخ. واعترض بأن الفلك الأعظم إن كان هو العرش كما قالوا فحركته غير مسلمة عند جمهور المحدثين بل هم لا يسلمون حركة شيء من سائر الأفلاك أيضا وهو الكرسي والسماوات السبع بل ادعوا أن النجوم بأيدي ملائكة تسير بها حيث شاء الله تعالى
وكيف شاء، وقال الشيخ الأكبر قدس سره. إنها تجري في ثخن الأفلاك جري السمك في الماء كل في فلك يسبحون، وفسر- فيما نقل عنه- قوله سبحانه: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ بيجعله غاشيا له غشيان الرجل المرأة وقال:
ذكر سبحانه الغشيان هنا والإيلاج في آية أخرى وهذا هو التناكح المعنوي وجعله ساريا في جميع الموجودات، وإن صح هذا فما أصح قولهم: الليلة حبلى وما ألطفه، وأمر الحث عليه ظاهر لمن ذاق عسيلة النكاح. والحاصل من هذا الغشيان عند من يقول به ما في هذا العالم من معدن وثبات وحيوان وهي المواليد الثلاث أو من الحوادث مطلقا، ويقرب من هذا قوله:
أشاب الصغير وأفنى الكبير
…
كر الغداة ومر العشى
وأنت تعلم أن لا مؤثر في الوجود على الحقيقة إلا الله تعالى، ووجه ذكره سبحانه هذا بعد ذكره الاستواء- على ما نقل عن القفال- إنه جل شأنه لما أخبر العباد باستوائه أخبر عن استمرار أمور المخلوقات على وفق مشيئته وأراهم ذلك فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر وتزول الشبهة من كل الجهات، ولا يخفى أن هذا قد يحسن وجها لذكر ذلك وما بعده بعد ذكر الاستواء وأما لذكره بخصوصه هناك دون تسخير الشمس والقمر فلا، وذكر صاحب الكشف في توجيه اختيار صاحب الكشاف هنا أن الغاشي هو النهار وفي الرعد هو الليل، وتفسيره التغشية هناك بالإلباس وهنا بالإلحاق نظرا إلى الخلاصة ما يفهم منه وجه تقديم التغشية على التسخير الآتي في هذه الآية وعكسه في آية الرعد حيث قال: والنكتة في ذلك أن تسخير الشمس والقمر ذكر هنالك من قبل في تعديد الآيات فلما فرغ ذكر إدخال الليل على النهار ليطابقه ولأنه أظهر في الآية وأن الشمس مسخرة مأمورة وهاهنا جاء به على أسلوب آخر تمهيدا لقوله سبحانه: ادْعُوا رَبَّكُمْ أي من هذه ألطافه وآياته في شأنكم فرجح جانب اللفظ على الأصل، وللجمع بين القراءتين أيضا اه فتدبر ولا تغفل.
وقرىء «يغشّى» بالتشديد للدلالة على التكرار وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أي خلقهن حال كونهن مذللات تابعات لتصرفه سبحانه فيهن بما شاء غير ممتنعات عليه جل شأنه كأنهن مميزات أمرن فانقدن فتسمية ذلك أمرا على سبيل التشبيه والاستعارة، ويصح حمل الأمر على الإرادة كما قيل أي هذه الأجرام العظيمة والمخلوقات البديعة منقادة لإرادته. ومنهم من حمل الأمر على الأمر الكلامي وقال: إنه سبحانه أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة على الوجه المخصص إلى حيث شاء. ولا مانع من أن يعطيها الله تعالى إدراكا وفهما لذلك بل ادعى بعضهم أنها مدركة مطلقا، وفي بعض الأخبار ما يدل على أن لبعضها إدراكا لغير ما ذكر، وإفراد الشمس والقمر بالذكر مع دخولهما في النجوم لإظهار شرفهما عليها لما فيهما من مزيد الإشراق والنور وبسيرهما في المنازل تعرف الأوقات. وقدم الشمس على القمر رعاية للمطابقة مع ما تقدم وهي من البديع ولأنها أسنى من القمر وأسمى مكانة ومكانا بناء على ما قيل من أنها في السماء الرابعة وأنه في السماء الأولى، وليس بمسلم عند المحدثين كالقول بأن نوره مستفاد من نورها لاختلاف تشكلاته على أنحاء متفاوتة بحسب وضعه من الشمس في القرب والبعد عنها مع ما يلحقه من الخسوف لا لاختلاف التشكلات وحده فإنه لا يوجب الحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس قطعا لجواز أن يكون نصفه مضيئا من ذاته ونصفه مظلما ويدور على نفسه بحركة مساوية لحركة فلكه فإذا تحرك بعد المحاق يسيرا رأيناه هلالا ويزداد فنراه بدرا ثم يميل نصفه المظلم شيئا فشيئا إلى أن يؤول إلى المحاق. وفي كونها مسخرات دلالة على أنها لا تأثير لها بنفسها في شيء أصلا. وقرأ جميعها ابن عامر بالرفع على الابتداء والخبر.
والنصب بالعطف على السَّماواتِ والحالية كما أشرنا إليه، وجوز تقدير جعل وجعل الشَّمْسَ مفعولا أولا.
مُسَخَّراتٍ مفعولا ثانيا أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ كالتذييل للكلام السابق أي إنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ويدخل في ذلك السماوات والأرض دخولا أوليا وهو الذي دبرها وصرفها على حسب إرادته ويدخل في ذلك ما أشير إليه بقوله سبحانه: مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ لا أحد غيره كما يؤذن به تقديم الظرف.
وفسر بعضهم الأمر هنا بالإرادة أيضا، وفسر آخرون الأمر بما هو مقابل النهي والخلق بالمخلوق أي له تعالى المخلوقون لأنه خلقهم وله أن يأمرهم بما أراد واستخرج سفيان بن عيينة من هذا أن كلام الله تعالى شأنه ليس بمخلوق فقال: إن الله تعالى فرّق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر يعني من جعل الأمر الذي هو كلامه سبحانه من جملة من خلقه فقد كفر لأن المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق مثله كذا في تفسير الخازن وليس بشيء كما لا يخفى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن الخلق ما دون العرش والأمر ما فوق ذلك، وشاع عند بعضهم إطلاق عالم الأمر على عالم المجردات تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
ففي ذلك إشارة إلى أنهما طبق الحكمة وفي غاية الكمال ولا يقال ذلك في غيره تعالى بل هو صفة خاصة به سبحانه في القاموس. وقال الإمام: إن البركة لها تفسيران: أحدهما البقاء والثبات، والثاني كثرة الآثار الفاضلة. فإن حملته على الأول فالثابت الدائم هو الله تعالى، وإن حملته على الثاني فكل الخيرات والكمالات من الله تعالى فهذا الثناء لا يليق إلا بحضرته جل وعلا. واختار الزجاج أنه من البركة بمعنى الكثرة من كل خير ولم يجىء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل مثلا، وقال البيضاوي: المعنى تعالى بالوحدانية والألوهية وتعظم بالتفرد بالربوبية، وعلى هذا فهو ختام لوحظ فيه مطلعه ثم حقق الآية بما لا يخلو عن دغدغة ومخالفة لما عليه سلف الأمة. ثم إنه تعالى بعد أن بين التوحيد وأخبر أنه المتفرد بالخلق والأمر أمر عباده أن يدعوه مخلصين متذللين فقال عز من قائل: ادْعُوا رَبَّكُمْ الذي عرفتم شؤونه الجليلة والمراد من الدعاء- كما قال غير واحد- السؤال والطلب وهو مخ العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى غير ذلك المطلوب وأنه عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم الحاجة وهو قادر على إيصالها إليه. ولا شك أن معرفة العبد نفسه بالعجز والنقص ومعرفته ربه بالقدرة والكمال من أعظم العبادات.
وقيل: المراد منه هنا العبادة لأنه عطف عليه ادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً والمعطوف يجب أن يكون مغاير للمعطوف عليه وفيه نظر. أما أولا فلأن المغايرة تكفي باعتبار المتعلقات كما تقول ضربت زيدا وضربت عمرا.
وأما ثانيا فلأنها لا تستدعي حمل الدعاء هنا على العبادة بل حمله على ذلك إما هناك أو هنا وأما ثالثا فلأنه خلاف التفسير المأثور كما ستعلمه إن شاء الله تعالى تَضَرُّعاً أي ذوي تضرع أو متضرعين فنصبه على الحال من الفاعل بتقدير أو تأويل، وجوز نصبه على المصدرية. وكذا الكلام فيما بعد وهو من الضراعة وهي الذل والاستكانة يقال ضرع فلان لفلان إذا ذل له واستكان، وقال الزجاج: التضرع التملق وهو قريب مما قالوا أي ادعوه تذللا، وقيل:
التضرع مقابل الخفية. واختاره أبو مسلم أي ادعوه علانية وَخُفْيَةً أي سرا.
أخرج ابن المبارك، وابن جرير، وأبو الشيخ عن الحسن قال: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وأنه سبحانه ذكر عبدا صالحا فرضي له فعله فقال تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم: 3] وفي رواية عنه أنه قال:
بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا.
وجاء من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال لقوم يجهرون: «أيها
الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»
والمعنى ارفقوا بأنفسكم واقصروا من الصياح في الدعاء.
ومن هنا قال جمع بكراهة رفع الصوت به. وفي الانتصاف حسبك في تعين الاسرار فيه اقترانه في الآية بالتضرع فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله تعالى وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا وقار بصحبه، وترى كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد وتستك المسامع وتستد ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين رفع الصوت في الدعاء وكون ذلك في المسجد.
وروى ابن جرير عن ابن جريج أن رفع الصوت بالدعاء من الاعتداء المشار إليه بقوله سبحانه: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن زيد بن أسلم. وذهب بعضهم إلى أنه مما لا بأس به، ودعاء المعتدين الذي لا يحبه الله تعالى هو طلب ما لا يليق بالداعي كرتبة الأنبياء عليهم السلام والصعود إلى السماء. وإن منه ما ذهب جمع إلى أنه كفر كطلب دخول إبليس وأبي جهل وأضرابهما الجنة وطلب نزول الوحي والتبني ونحو ذلك من المستحيلات لما فيه من طلب إكذاب الله تعالى نفسه.
وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
وفصل آخرون فقالوا: الإخفاء أفضل عند خوف الرياء والإظهار أفضل عند عدم خوفه، وأولى منه القول بتقديم الإخفاء على الجهر فيما إذا خيف الرياء أو كان في الجهر تشويش على نحو مصل أو نائم أو قارئ أو مشتغل بعلم شرعي، وبتقديم الجهر على الإخفاء فيما إذا خلا عن ذلك وكان فيه قصد تعليم جاهل أو نحو إزالة وحشة عن مستوحش أو طرد نحو نعاس أو كسل عن الداعي نفسه أو إدخال سرور على قلب مؤمن أو تنفير مبتدع عن بدعة أو نحو ذلك، ومنه الجهر بالترضي عن الصحابة والدعاء لإمام المسلمين في الخطبة. وقد سن الشافعية الجهر بآمين بعد الفاتحة وهو دعاء ويجهر بها الإمام والمأمون عندهم.
وفرق بعضهم بين رفع الصوت جدا كما يفعله المؤذنون في الدعاء بالفرج على المآذن وبين رفعه بحيث يسمعه من عنده فقال: لا بأس في الثاني غالبا ولا كذلك الأول. والظاهر أن المراد بالمعتدين المجاوزون ما أمروا به في كل شيء ويدخل فيها المعتدون في الدعاء دخولا أوليا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى في الآية ادعوا ربكم في كل حاجاتكم من أمر الدنيا والآخرة ولا تعتدوا فتدعوا على مؤمن ومؤمنة بشرّ كالخزي واللعن. وقد اختلف العلماء في كفر من دعا على آخر بسلب الإيمان أو الموت كافرا وهو من أعظم أنواع الاعتداء والمفتي به عدم الكفر. وذكروا للدعاء آدابا كثيرة، منها الكون على طهارة واستقبال القبلة وتخلية القلب من الشواغل وافتتاحه واختتامه بالتصلية على النبي صلى الله عليه وسلم. ورفع اليدين نحو السماء وإشراك المؤمنين فيه، وتحري ساعات الإجابة، ومنها يوم الجمعة عند كثير ساعة الخطبة ويدعو فيها بقلبه كما نص عليه أفضل متأخري مصره الفاضل الطحطاوي في حواشيه على الدر المختار فيما نقله عنه أفقه المعاصرين ابن عابدين الدمشقي. ووقت نزول الغيث والإفطار وثلث الليل الأخير وبعد ختم القرآن، وغير ذلك مما هو مبسوط في محله.
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ نهي عن سائر أنواع الإفساد كإفساد النفوس، والأموال، والأنساب، والعقول،
والأديان بَعْدَ إِصْلاحِها أي إصلاح الله تعالى لها وخلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين وبعث فيها الأنبياء بما شرعه من الأحكام وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أي ذوي خوف من الرد لقصوركم عن أهلية الإجابة وطمع في إجابته تفضلا منه، وقيل: خوفا من عقابه وطمعا في جزيل ثوابه.
وقال ابن جريج: المعنى خوف العدل وطمع الفضل. وعن عطاء خوفا من الميزان وطمعا في الجنان. وأصل الخوف انزعاج القلب لعدم أمن الضرر، وقيل: توقع مكروه يحصل فيما بعد، والطمع توقع محبوب يحصل به، ونصبهما على الحالية كما أشير إليه.
وجوز أن يكون على المفعولية لأجله. قيل: ولما كان الدعاء من الله تعالى بمكان كرره وقيده أولا بالأوصاف الظاهرة وآخرا بالأوصاف الباطنة، وقيل: الأمر السابق من قبيل بيان شرط الدعاء والثاني من قبيل بيان فائدته، وقيل: لا تكرار فما تقدم أمر بالدعاء بمعنى السؤال وهذا أمر بالدعاء بمعنى العبادة، والمعنى اعبدوه جامعين في أنفسكم الخوف والرجاء في عبادتكم القلبية والقالبية وهو كما ترى، ومن الناس من أبقى الدعاء على المعنى الظاهر وعمم في متعلق الخوف والطمع، والمعنى عنده ادعوه وأنتم جامعون في أنفسكم الخوف والرجاء في أعمالكم كلها، وليس بشيء والمختار عند جلة المفسرين ما تقدم.
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أعمالهم، ومن الإحسان في الدعاء أن يكون مقرونا بالخوف والطمع، وقد كثر الكلام في توجيه تذكير قَرِيبٌ مع أنه صفة مخبر بها عن المؤنث، وقد نقل ابن هشام في ذلك وجوها ذاكرا ما لها وما عليها. الأول أن الرحمة في تقدير الزيادة والعرب قد تزيد المضاف قال سبحانه وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] أي سبح ربك ألا ترى أنه يقال في التسبيح سبحان ربي ولا يقال سبحان اسم ربي والتقدير إن الله تعالى قريب فالخبر في الحقيقة عن الاسم الأعظم، وتعقبه بأن هذا لا يصح عند علماء البصرة لأن الأسماء لا تزاد في رأيهم وإنما تزاد الحروف، ومعنى الآية عندهم نزه أسماء ربك عما لا يليق بها فلا تجر عليه سبحانه اسما لا يليق بكماله أو اسما غير مأذون فيه فلا زيادة، والثاني أن ذلك على حذف مضاف أي إن مكان رحمة الله تعالى قريب فالإخبار إنما هو عن المكان وهو مذكر، ونظير ذلك
قوله صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى الذهب والفضة «إن هذين حرام»
فإن الإخبار بالمفرد لأن التقدير أن استعمال هذين. وقول حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم
…
بردى يصفق بالرحيق السلسل
فإنه بتقدير ماء بردى فلذا قال: يصفق بالتذكير مع أن بردى مؤنث. وتعقب بأن هذا المضاف بعيد جدا لا قريب والأصل عدم الحذف والمعنى مع تركه أحسن منه مع وجوده. والثالث أنه على حذف الموصوف أي شيء قريب كما قال الشاعر:
قامت تبكيه على قبره
…
من لي من بعدك يا عامر
تركتني في الدار ذا غربة
…
قد ذل من ليس له ناصر
أي شخصا ذا غربة. وعلى ذلك يخرج قول سيبويه قولهم: امرأة حائض أي شخص ذو حيض. وقول الشاعر أيضا:
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني
…
طلاقك لم أبخل وأنت صديق
وتعقب بأنه أشد ضعفا من سابقه لأن تذكير صفة المؤنث باعتبار إجرائها على موصوف مذكر محذوف شاذ ينزع كلام الله تعالى عنه، على أنه لا فصاحة في قولك: رحمة الله شيء قريب ولا لطافة بل هو عند ذي الذوق كلام
مستهجن، ونحو حائض من الصفات المختصة لا يحتاج إلى العلامة لأنها لدفع اللبس ولا لبس مع الاختصاص وسيبويه وإن كان جوادا في مثل هذا المضمار إلا أن الجواد قد يكبو. وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك. ألا تراه كيف جوز في باب الصفة المشبهة مررت برجل حسن وجهه بإضافة حسن إلى الوجه وإضافة الوجه إلى ضمير الرجل وخالفه في ذلك جميع البصريين والكوفيين لأنه قد أضاف الشيء إلى نفسه وقد علمت أيضا أن الأصل عدم الحذف. الرابع أن العرب تعطي المضاف حكم المضاف إليه في التذكير والتأنيث إذا صح الاستغناء عنه وهو أمر مشهور فالرحمة لإضافتها إلى الاسم الجليل قد اكتسبت ما صحح الأخبار عنها بالمذكر. وتعقبه أبو علي الفارسي في تعاليقه على الكتاب بأن هذا التقدير والتأويل في القرآن بعيد فاسد وإنما يجوز هذا في ضرورة الشعر. وقال الروذراوري: أن اكتساب التأنيث في المؤنث قد صح بكلام من يوثق به. وأما العكس فيحتاج إلى الشواهد. ومن ادعى الجواز فعليه البيان.
الخامس أن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث كرجل جريح وامرأة جريح. وتعقب بأنه خطأ فاحش لأن فعيلا هنا بمعنى فاعل. واعترض أيضا بأن هذا لا ينقاس خصوصا من غير الثاني. السادس أن فعيلا بمعنى فاعل قد يشبه بفعيل بمعنى مفعول فيمنع من التاء في المؤنث كما قد يشبهون فعيلا بمعنى مفعول بفعيل بمعنى فاعل فيلحقونه التاء.
فالأول كقوله تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] ومنه الآية الكريمة. والثاني كقولهم: خصلة ذميمة، وصفة حميدة حملا على قولهم: قبيحة وجميلة ولم يتعقب هذا بشيء. وتعقبه الروذراوري بأنه مجرد دعوى لا دليل عليه وإن قاله النحويون. ويرد عليه أن أحد الفعلين مشتق من لازم والآخر من متعد فلو أجري على أحدهما حكم الآخر لبطل الفرق بين المتعدي واللازم إن كان على وجه العموم وإن كان على وجه الخصوص فأين الدليل عليه. وفيه نظر.
السابع أن العرب قد تخبر عن المضاف إليه وتترك المضاف كقوله تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء:
4] فإن خاضِعِينَ خبر عن الضمير المضاف إليه الأعناق لا عن الأعناق. ألا ترى أنك إذا قلت: الأعناق خاضعون لا يجوز لأن الجمع المذكر السالم إنما يكون من صفات العقلاء فلا يقال أيد طويلون ولا كلاب نابحون. وتعقب بأنه لعل هذا راجع إلى القول بالزيادة وقد علمت ما فيه. وقد قيل: إن المراد بالأعناق الرؤساء والمعظمون. وقيل: الجماعة كما يقال: جاء زيد في عنق من الناس أي في جماعة. وقال الروذراوري: إنه لو ساغ الإعراض عن المضاف والحكم على المضاف إليه لساغ أن يقال: كان صاحب الدرع سابغة. ومالك الدار متسعة وليس فليس. الثامن أن الرحمة والرحم متقاربان لفظا وهو واضح المعنى بدليل النقل عن أئمة اللغة فأعطى أحدهما حكم الآخر. وتعقب بأنه ليس بشيء، لأن الوعظ والموعظة تتقارب أيضا فينبغي أن يجيز هذا القائل أن يقال: موعظة نافع، وعظة حسن. وكذلك الذكر والذكرى فينبغي أن يقال: ذكرى نافع كما يقال: ذكر نافع. التاسع أن فعيلا هنا بمعنى النسب فقريب معناه ذات قرب كما يقول الخليل في حائض: إنه بمعنى ذات حيض. وتعقب بأنه باطل لأن اشتمال الصفات على معنى النسب مقصور على أوزان خاصة. وهي فعال، وفعل، وفاعل.
العاشر: ما قاله الروذراوري: أن فعيلا مطلقا يشترك فيه المؤنث والمذكر. وتعقب بأنه من أفسد ما قيل لأنه خلاف الواقع من كلام العرب فإنهم يقولون: امرأة ظريفة، وعليمة، وحليمة، ورحيمة. ولا يجوز التذكير في شيء من ذلك. ولهذا قال أبو عثمان المازني في قوله تعالى: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم: 28] أن بَغِيًّا فعول والأصل بغوي ثم قلبت الواو ياء والضمة كسرة وأدغمت الياء في الياء، وأما قوله:
فتور القيام قطيع الكلام
…
تفتر عن در عروب حصر
فالجواب عنه من أوجه: أحدها أنه نادر. الثاني أن أصله قطيعة ثم حذف التاء للإضافة كقوله تعالى: وَأَقامَ
الصَّلاةَ
[الأنبياء: 73، النور: 37] والإضافة مجوزة لحذف التاء كما توجب حذف النون والتنوين. وقد نص على ذلك غير واحد من القراء. الثالث أنه إنما جاز ذلك لمناسبة فتور لأنه فعول. وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث. الحادي عشر أنهم يقولون في قرب النسب: قريب وإن أجري على مؤنث نحو فلانة قريب مني ويفرقون بينه وبين قرب المسافة. وتعقب بأنه مبني على أن يقال في القرب النسبي: فلان قرابتي. وقد نص جمع على أن ذلك خطأ وأن الصواب أن يقال فلان ذو قرابتي كما قال:
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه
…
وذو قرابته في الحيّ مسرور
الثاني عشر: من تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى. واختلف القائلون بذلك فمنهم من يقدر أن إحسان الله قريب، ومنهم من يقدر لطف الله قريب. ومن ذلك قوله:
أرى رجلا منهم أسيفا كأنما
…
يضم إلى كشحيه كفا مخضبا
فأول الكف على معنى العضو. وتعقب بأنه باطل لأن ذلك إنما يقع في الشعر. وقد تقدم أنه لا يقال: موعظة حسن مع أن الموعظة بمنزلة الوعظ في المعنى ويقاربه في اللفظ أيضا. وأما البيت فنص النحاة على أنه ضرورة وما هذه سبيله لا يخرج عليه كلام الله سبحانه وتعالى، على أن بعضهم قال: إن الكف قد يذكّر.
الثالث عشر: أن المراد بالرحمة هنا المطر- ونقل ذلك عن الأخفش- والمطر مذكر. وأيد بأن الرحمة فيما بعد بمعنى المطر. واعترض عليه من أوجه، أحدها أنه لو كانت الرحمة الثانية هي الرحمة الأولى لم تذكر ظاهرة على ما هو الظاهر إذ الموضع للضمير. ثانيها أنه إذا أمكن الحمل على العام لا يعدل إلى الخاص ولا ضرورة هنا إلى الحمل كما لا يخفى، ثالثها أن الرحمة التي هي المطر لا تختص بالمحسنين لأن الله سبحانه يرزق الطائع والعاصي. وإنما المختص في عرف الشرع هو الرحمة التي هي الغفران والتجاوز والثواب.
والجواب عن هذا بأنه كما جاز تخصيص الخطاب بالرحمة بالمعنى الشرعي بالمحسنين على سبيل الترغيب كذلك يجوز تخصيص المطر الذي هو سبب الأرزاق بهم ترغيبا في الإحسان ليس بشيء عندي. رابعها أنك لو قلت:
مطر الله قريب لوجدت هذه الإضافة مما تمجها الأسماع وتنبو عنها الطباع بخلاف إن رحمة الله فدل على أنه ليس بمنزلته في المعنى.
وأجيب عنه بأن مجموع رَحْمَةِ اللَّهِ استعمل مرادا به المطر، وبأن الإضافة في مطر الله إنما لم تحسن للعلم بالاختصاص ولا كذلك رحمة الله تعالى، وهذا كما يحسن أن يقال: كلام الله تعالى ولا يحسن أن يقال: قرآن الله سبحانه، والإنصاف أن هذا القول ليس بشيء كما لا يخفى على ذي ذهن طري. وقال ابن هشام: لا بعد في أن يقال: إن التذكير في الآية الكريمة لمجموع أمور من الأمور المذكورة. واختار أنه لما كان المضاف يكتسب من المضاف إليه التذكير وكانت الرحمة مقاربة للرحم في اللفظ وكان قريب على صيغة فعيل وفعيل الذي بمعنى فاعل قد يحمل على فعيل بمعنى مفعول جاء التذكير. وادعى أنه لا يناقض ما قدمه من الاعتراضات لأنه لا يلزم من انتفاء اعتبار شيء من هذه الأمور مستقلا انتفاء اعتباره مع غيره اه. ولا يخلو عن حسن سوى أنه إذا أخذ في المجموع كون الرحمة بمعنى المطر يفسد الزرع، وقد جرى في هذه الآية بحث طويل بين ابن مالك والروذراوري وفي كلام كل حق وصواب، وفي نقل ذلك ما يورث السآمة. وأجاب الجوهري بأن الرحمة مصدر والمصادر لا تجمع ولا تؤنث وهو كما ترى.
وقيل: التذكير لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي ولا يخفى بعده لأن المتضمن لضمير المؤنث ولو كان غير حقيقي لم يحسن تذكيره على المشهور، وقيل: إن فعيلا هنا محمول على فعيل الوارد في المصادر فإنه للمؤنث والمذكر كفعيل بمعنى مفعول كالنقيض بالنون والقاف والضاد المعجمة وهو صوت الرجل ونحوه والضغيب بالضاد والغين المعجمة والياء المثناة من تحت والباء الموحدة صوت الأرنب. وأنت تعلم أن حمله على فعيل بمعنى مفعول أولى من هذا الحمل وهو الذي أميل إليه، نعم ربما يدعي أن في ذلك إشارة ما إلى مزيد قرب الرحمة لكنه بعيد جدا وقد لا يسلم. والذي اختاره أن فعيلا هنا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول كما زعم الكرماني لما مرت الإشارة إليه، ولأن الرحمة صفة ذات عند جمع وصفات الذات سواء قلنا بعينيتها أو بغيريتها أو بأنها لا ولا لا يحسن الإخبار عنها بأنها مقربة، وذلك على القولين الأخيرين ظاهر وعلى الأول أظهر، والقول بأن في ذلك ترغيبا في الإحسان حيث أشير إلى أنه كالفاعل وقد أثر فيما لا يقبل التأثر مما لا يكاد يسلم، وأنه قد حمل على فعيل بمعنى مفعول كما حمل على ذلك في خصوصية قريب في قول جرير:
أتنفعك الحياة وأم عمرو
…
قريب لا تزور ولا تزار
وإنما لم يقل قريبة على الأصل للإشارة لأرباب الأذهان السليم إلى أنها قريبة جدا من المحسنين كما لا يخفى على المتأمل. واختار بعضهم تفسير الرحمة هنا بالإحسان لمكان المحسنين وهَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرحمن: 60] ولعله يعتبر شاملا للإحسان الدنيوي والأخروي. ووجه القرب- على ما قيل- وجود الأهلية بحسب الحكمة مع ارتفاع الموانع بالكلية. وفسرها ابن جبير بالثواب، والمتبادر منه الإحسان الأخروي.
ووجه القرب عليه بأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا وإقبال على الآخرة، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة فلا يكون بين المحسن والثواب في الآخرة إلا الموت وكل آت قريب.
وجعل الزمخشري الآية من قبيل قوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه: 82] إلخ أي علق فيها الرحمة بإحسان الأعمال كما علق الغفران فيه بالتوبة والإيمان والعمل الصالح فكأن «من تاب وآمن» إلخ تفسير للمحسنين وهو إشارة إلى ما يزعمه قومه من أن الآية تدل على أن صاحب الكبيرة لا يخلص من النار لأنه ليس من المحسنين والتخليص من النار بعد الدخول فيها رحمة.
وأجيب بأن صاحب الكبيرة مؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن يكون كذلك فهو محسن بدليل أن الصبي إذا بلغ ضحى وآمن ومات قبل الظهر فقد اجتمعت الأمة على أنه داخل تحت قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يونس: 26] فهو محسن بمجرد الإيمان، والقول بأن المحسنين هم الذين أتوا بجميع أنواع الإحسان على ما يؤذن به الآية الممثل بها أول البحث أول المسألة. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه فسر الْمُحْسِنِينَ بالمؤمنين.
وعن بعضهم تفسيره بالداعين خوفا وطمعا لقرينة السباق على ذلك ونظر فيه وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ عطف على الجملة السابقة أو على حديث خلق السماوات والأرض. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، «الريح» على الوحدة وهو متحمل لمعنى الجنسية فيطلق على الكثير.
وخبر «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا»
مخرج على قراءة الأكثرين بُشْراً بضم الموحدة وسكون الشين مخفف بُشْراً بضمتين جمع بشيء كنذر ونذير أي مبشرات وهي قراءة عاصم. وروي عنه أيضا «بشرا» على الأصل. وقرىء بفتح الباء على أنه مصدر بشره بالتخفيف بمعنى بشره المشدد. والمراد باشرات أو للبشارة. وقرىء «بشرى» كحبلى وهو مصدر أيضا من البشارة. وقرأ أهل
المدينة والبصرة «نشرا» بضم النون والشين جمع نشور بفتح النون بمعنى ناشر، وفعول بمعنى فاعل يطرد جمعه كذلك كصبور وصبر، ولم يجعل جمع ناشر كبازل وبزل لأن جمع فاعل على فعل شاذ.
واختلف في معنى ناشر ففي الحواشي الشهابية قيل: هو على النسب إما إلى النشر ضد الطي وإما إلى النشور بمعنى الإحياء لأن الريح توصف بالموت والحياة كقوله:
إني لأرجو أن تموت الريح
…
فأقعد اليوم وأستريح
كما يصفها المتأخرون بالعلة والمرض. ومما يحكي النسيم من ذلك قول بعضهم في شدة الحر:
أظن نسيم الروض مات لأنه
…
له زمن في الروض وهو عليل
وقيل: هو فاعل من نشر مطاوع أنشر الله تعالى الميت فنشر وهو ناشر كقوله:
حتى يقول الناس مما رأوا
…
يا عجبا للميت الناشر
قيل: ناشر بمعنى أي محيي، وقيل: فعول هنا بمعنى مفعول كرسول ورسل وقد جوز ذلك أبو البقاء إلا أنه نادر مفرده وجمعه. وقرأ ابن عامر «نشرا» بضم النون وسكون الشين حيث وقع. والتخفيف في فعل مطرد، وقرأ حمزة، والكسائي «نشرا» بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام رحمته وهو من المجاز كما نقل عن أبي بكر الأنباري، والمراد بالرحمة كما ذهب إليه غالب المفسرين المطر. وسمي رحمة لما يترتب عليه بحسب جري العادة من المنافع. ولا يخفى أن الرحمة في المشهور عامة فإطلاقها على ذلك إن كان من حيث خصوصه مجاز لكونه استعمال اللفظ في غير ما وضع له إذا اللفظ لم يوضع لذلك الخاص بخصوصه وإن كان إطلاقها عليه لا بخصوصه بل باعتبار عمومه.
وكونه فردا من أفراد ذلك العام فهو حقيقة لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له على ما بين في شرح التلخيص وغيره.
وادعى الشهاب إثبات بعض أهل اللغة كون المطر من معاني الرحمة، وقول ابن هشام في رسالته التي ألفها في بيان وجه تذكير «قريب» المار عن قريب. إنا لا نجد أهل اللغة حيث يتكلمون على الرحمة يقولون: ومن معانيها المطر فلو كانت موضوعة له لذكروه قصارى ما فيه عدم الوجدان وهو لا يستدعي عدم الوجود، ومما اشتهر أن المثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمقام ظاهر في إرادة هذا المعنى، وبيان كون الرياح مرسلة أمام ذلك ما قيل: إن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه وهذه أحد أنواع الريح المشهورة عند العرب، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرياح ثمانية: أربع منها عذاب وهي القاصف، والعاصف، والصرصر، والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات.
والريح من أعظم منن الله تعالى على عباده، وعن كعب الأحبار لو حبس الله تعالى الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض،
وفي بعض الآثار أن الله تعالى خلق العالم وملأه هواء ولو أمسك الهواء ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض،
وذكر غير واحد من العلماء أنه يكره سب الريح،
فقد روى الشافعي عن أبي هريرة قال: أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر رضي الله تعالى عنه حاج فاشتدت فقال عمر لمن حوله: ما بلغكم في الريح؟ فلم يرجعوا إليه شيئا وبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت مؤخر الناس فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله تعالى من خيرها واستعيذوا بالله سبحانه من شرها»
ولا منافاة بين
الآية وهذا الخبر إذ ليس فيها أنه سبحانه لا يرسلها إلا بين يدي الرحمة ولئن سلم فهو خارج مجرى الغالب فإن العذاب بالريح نادر، وقيل: ما في الخبر إنما هو الإيتاء بالرحمة والإيتاء بالعذاب لا الإرسال بين يدي كل حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ غاية لقوله سبحانه يُرْسِلُ والإقلال- كما في مجمع البيان- حمل الشيء بأسره واشتقاقه من القلة وحقيقة أقله- كما قال بعض المحققين- جعله قليلا أو وجده قليلا، والمراد ظنه كذلك كأكذبه إذا جعله كاذبا في زعمه ثم استعمل بمعنى حمله لأن الحامل يستقل ما يحمله أي يعده قليلا، ومن ذلك قولهم: جهد المقل أي الحامل سَحاباً أي غيما سمي بذلك لانسحابه في الهواء وهو اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحدة بالتاء كتمر وتمرة وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع.
وأهل اللغة كالجوهري وغيره تسميه جمعا فلذا روعي فيه الوجهان في وصفه وضميره، وجاء في الجمع سحب وسحائب ثِقالًا من الثقل كعنب ضد الخفة يقال: ثقل ككرم ثقلا وثقالة فهو ثقيل، وثقل السحاب بما فيه من الماء سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أي لأجله ومنفعته أو لإحيائه أو لسقيه كما قيل.
وفي البحر أن اللام للتبليغ كما في قلت لك، وفرق بين سقت لك مالا وسقت لأجلك مالا بأن الأول معناه أوصلت لك ذلك وأبلغتكه. والثاني لا يلزم منه وصوله إليه، والبلد- كما قال الليث- كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منه بلدة والجمع بلاد، وتطلق البلدة على المفازة ومنه قول الأعشى:
وبلدة مثل ظهر الترس موحشة
…
للجن بالليل في حافاتها زجل
فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ أي بالبلد أو السحاب كما قال الزجاج وابن الأنباري أو بالسوق أو الرياح كما قيل، والتذكير بتأويل المذكور. وكذلك قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا بِهِ ويحتمل أن يعود الضمير إلى الماء وهو الظاهر لقربه لفظا ومعنى، ومطابقة النظائر وانفكاك الضمائر لا بأس به إذا قام الدليل عليه وحسن الملاءمة.
وإذا كان للبلد فالباء للظرفية في الثاني وللإلصاق في الأول لأن الإنزال ليس في البلد بل المنزل، وجوز الظرفية أيضا كما في رميت الصيد في الحرم على ما علمت فيما مر، وإذا كان لغيره فهي للسببية وتشمل القريبة والبعيدة.
مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من كل أنواعها لأن الاستغراق غير مراد ولا واقع، وهذا أبلغ في إظهار القدرة المراد، وقيل: إن الاستغراق عرفي والظاهر أن المراد التكثير، وجوز بعضهم أن تكون مِنْ للتبعيض وأن تكون لتبيين الجنس كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى إشارة إلى إخراج الثمرات أو إلى إحياء البلد الميت أي كما نحييه بإحداث القوى النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات نخرج الموتى من الأرض ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس كذا قالوا، وهو إشارة- كما قيل- إلى طريقي القائلين بالمعاد الجسماني وهما إيجاد البدن بعد عدمه ثم إحياؤه وضم بعض أجزائه إلى بعض على النمط السابق بعد تفرقها ثم إحياؤه.
واستظهر الأول بأن المتبادر من الآية كون التشبيه بين الإخراجين من كتم العدم، والثاني يحتاج إلى تمحل تقدير الإحياء واعتبار جمع الأجزاء مع أنه غير معتبر في جانب المشبه به، وجوز أن يرجع ما في الشق الثاني من الإحياء برد النفوس إلخ إلى الأول، وأنت تعلم أنه لا مانع من الإخراج من كتم العدم، وأدلة استحالة ذلك مما لا تقوم على ساق وقدم إلا أن الأدلة النقلية على كل من الطريقين متجاذبة، وإذا صح القول بالمعاد الجسماني فلا بأس بالقول بأي كان منهما، وكون إخراج الثمرات من كتم العدم قد لا يسلم فإن لها أصلا في الجملة على أن إخراج الموتى عند القائلين بالطريق الأول إعادة وليس إخراج الثمرات كذلك إذ لم يكن لها وجود قبل، نعم كون الأظهر أن التشبيه بين الإخراجين
مما لا مرية، فيه، وفي الخازن اختلفوا في وجه التشبيه فقيل: إن الله تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال المطر كذلك يحي الموتى بواسطة إنزال المطر أيضا، فقد روي عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحياة أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع من الماء. وفي رواية أربعين يوما فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم تنفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم النوم فينامون في قبورهم فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عاشوا ثم يحشرون في قبورهم ويجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه فعند ذلك يقولون: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ فيناديهم المنادي: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: 52] .
وأخرج غير واحد عن مجاهد أنه إذا أراد الله تعالى أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تشقق عنهم الأرض ثم يرسل سبحانه الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها، فكذلك يحيي الله تعالى الموتى بالمطر كإحيائه الأرض.
وقيل: إنما وقع التشبيه بأصل الإحياء من غير اعتبار كيفية فيجب الإيمان به ولا يلزمنا البحث عن الكيفية ويفعل الله سبحانه ما يشاء لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلمون أن من قدر على ذلك فهو قادر على هذا من غير شبهة. والأصل «تتذكرون» فطرحت إحدى التاءين، والخطاب قيل: للنظار مطلقا، وقيل: لمنكري البعث.
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ أي الأرض الكريمة التربة التي لا سبخة ولا حرة، واستعمال البلد بمعنى القرية عرف طار، ومن قبيل ذلك إطلاقه على مكة المكرمة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ بمشيئته وتيسيره، وهو في موضع الحال، والمراد بذلك أن يكون حسنا وافيا غزير النفع لكونه واقعا في مقابلة قوله: وَالَّذِي خَبُثَ من البلاد كالسبخة والحرة لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً أي قليلا لا خير فيه، ومن ذلك قوله:
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن
…
أعطيت أعطيت تافها نكدا
ونصبه على الحال أو على أنه صفة مصدر محذوف، وأصل الكلام لا يخرج نباته فحذف المضاف إليه وأقيم المضاف مقامه فصار مرفوعا مستترا، وجوز أن يكون الأصل ونبات الذي خبث، والتعبير أولا بالطيب وثانيا بالذي خبث دون الخبيث للإيذان بأن أصل الأرض أن تكون طيبة منبتة وخلافه طار عارض. وقرىء «يخرج نباته» ببناء «يخرج» لما لم يسم فاعله ورفع «نبات» على النيابة عن الفاعل، و «يخرج نباته» ببناء «يخرج» للفاعل من باب الإخراج، ونصب «نباته» على المفعولية، والفاعل ضمير البلد، وقيل ضمير الله تعالى أو الماء، وكذا قرىء في «يخرج» المنفي ونصب نَكِداً حينئذ على المفعولية. وقرأ أبو جعفر «نكدا» بفتحتين على زنة المصدر، وهو نصب على الحال أو على المصدرية أي ذا نكد أو خروجا نكدا. وقرأ «نكدا» بالإسكان للتخفيف كنزه في قوله:
فقال لي قول ذي رأي ومقدرة
…
مجرب عاقل نزه عن الريب
كَذلِكَ مثل ذلك التصريف البديع نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نردد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها. وأصل التصريف تبديل حال بحال ومنه تصريف الرياح لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ
نعم الله تعالى ومنها تصريف الآيات وشكر ذلك بالتفكر فيها والاعتبار بها، وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك.
وقال الطيبي: ذكر لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ بعد لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ من باب الترقي لأن من تذكر آلاء الله تعالى عرف حق النعمة فشكر، وهذا- كما قال غير واحد- مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك.
أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن قوله سبحانه وتعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ إلخ مثل ضربه الله تعالى
للمؤمنين يقول: هو طيب وعمله طيب والذي خبث إلخ مثل للكافر يقول: هو خبيث وعمله خبيث.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن هذا مثل ضربه الله تعالى لآدم عليه السلام وذريته كلهم إنما خلقوا من نفس واحدة فمنهم من آمن بالله تعالى وكتابه فطاب ومنهم من كفر بالله تعالى وكتابه فخبث.
أخرج أحمد، والشيخان، والنسائي عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به»
وإيثار خصوص التمثيل بالأرض الطيبة والخبيثة استطراد عقيب ذكر المطر وإنزاله بالبلد وموازنة بين الرحمتين كما في الكشف، ولقربه من الاعتراض جيء بالواو في قوله سبحانه وتعالى:
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ وفيه إشارة إلى معنى ما
ورد في صحيح مسلم عن عياض المجاشعي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته عن الله عز وجل: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه»
ووجه الإشارة قد مرت الإشارة إليه، ثم إنه سبحانه وتعالى عقب ذلك بما يحققه ويقرره من قصص الأمم الخالية والقرون الماضية. وفي ذلك أيضا تسلية لرسوله عليه الصلاة والسلام فقال جل شأنه:
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وهو جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا إلخ، واطّرد استعمال هذه اللام مع قد في الماضي- على ما قال الزمخشري- وقل الاكتفاء بها وحدها نحو قوله:
حلفت لها بالله حلفة فاجر
…
لناموا فما إن من حديث ولا صالي
والسر في ذلك أن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة لتوقع المخاطب حصول المقسم عليه لأن القسم دل على الاهتمام فناسب ذلك إدخال قد، ونقل عن النحاة أنهم قالوا: إذا كان جواب القسم ماضيا مثبتا متصرفا فإما أن يكون قريبا من الحال فيؤتى بقد وإلا أثبت باللام وحدها فجوزوا الوجهين باعتبارين، ولم يؤت هنا بعاطف وأتي به في هود والمؤمنين. على ما قال الكرماني. لتقدم ذكر نوح صريحا في هود وضمنا في المؤمنين حيث ذكر فيها قبل عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
[المؤمنون: 22] وهو عليه السلام أول من صنعها بخلاف ما هنا. ونوح بن لمك بفتحتين. وقيل: بفتح فسكون، وقيل: ملكان بميم مفتوحة ولام ساكنة ونون آخره. قيل: لامك كمهاجر بن متوشلخ بضم الميم وفتح التاء الفوقية والواو وسكون الشين المعجمة على وزن المفعول كما ضبطه غير واحد. وقيل: بفتح الميم وضم المثناة الفوقية المشددة وسكون الواو ولام مفتوحة وخاء معجمة- ابن- أخنوخ بهمزة مفتوحة أوله وخاء معجمة ساكنة ونون مضمومة وواو ساكنة وخاء أيضا، ومعناه في تلك اللغة على ما قيل القراء. وقيل: خنوخ بإسقاط الهمزة. وهو إدريس عليه السلام. أخرج ابن إسحاق. وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: بعث نوح عليه السلام في الألف الثاني وإن آدم عليه السلام لم يمت حتى ولد له نوح في آخر الألف الأول. وأخرجا عن مقاتل وجوبير أن آدم عليه السلام حين كبر ودق عظمه قال: يا رب إلى متى أكد وأسعى؟ قال يا آدم حتى يولد لك ولد مختون فولد له نوح بعد عشر أبطن. وهو يومئذ ابن ألف سنة إلا ستين عاما. وبعث على ما روي عن ابن عباس على رأس أربعمائة سنة، وقال مقاتل: وهو ابن مائة سنة. وقيل: وهو ابن
خمسين سنة. وقيل: وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة. وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة.
وبعث- كما روى ابن أبي حاتم وابن عساكر عن قتادة- من الجزيرة. وهو أول نبي عذب الله تعالى قومه. وقد لقي منهم ما لم يلقه نبي من الأنبياء عليهم السلام.
واختلف في عموم بعثته عليه السلام ابتداء مع الاتفاق على عمومها انتهاء حيث لم يبق بعد الطوفان سوى من كان معه في السفينة، ولا يقدح القول بالعموم في كون ذلك من خواص نبينا صلى الله عليه وسلم لأن ما هو من خواصه عليه الصلاة والسلام عموم البعثة لكافة الثقلين الجن والإنس. وذلك مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة فيكفر منكره بل وكذا الملائكة كما رجحه جمع محققون كالسبكي ومن تبعه وردوا على من خالف ذلك وصريح آية لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] إذ العالم ما سوى الله تعالى، وخبر مسلم وأرسلت إلى الخلق كافة يؤيد ذلك بل قال البارزي:
إنه صلى الله عليه وسلم أرسل حتى للجمادات بعد جعلها مدركة.
وفائدة الإرسال للمعصوم وغير المكلف طلب إذعانهما لشرفه ودخولهما تحت دعوته واتباعه تشريفا على سائر المرسلين ولا كذلك بعثة نوح عليه السلام: والفرق مثل الصبح ظاهر. وهو- كما في القاموس- اسم أعجمي صرف لخفته، وجاء عن ابن عباس، وعكرمة، وجوبير، ومقاتل أنه عليه السلام إنما سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه.
واختلف في سبب ذلك فقيل: هو دعوته على قومه بالهلاك. قيل مراجعته ربه في شأن ابنه كنعان: وقيل: إنه مر بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح. فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب. وقيل: هو إصرار قومه على الكفر فكان كلما دعاهم وأعرضوا بكى وناح عليهم. قيل: وكان اسمه قبل السكن لسكون الناس إليه بعد آدم عليه السلام. وقيل: عبد الجبار، وأنا لا أعول على شيء من هذه الأخبار والمعول عليه عندي ما هو الظاهر من أنه اسم وضع له حين ولد، وليس مشتقا من النياحة. وأنه كما قال صاحب القاموس فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحده، وترك التقييد به للإيذان بأنها العبادة حقيقة وأما العبادة مع الإشراك فكلا عبادة ولدلالة قوله سبحانه وتعالى: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ أي مستحق للعبادة غَيْرُهُ عليه، وهو استئناف مسوق لتعليل العبادة المذكورة أو الأمر بها ومِنْ صلة وغَيْرُهُ بالرفع- وهي قراءة الجمهور- صفة إِلهٍ أو بدل منه باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية.
وقرأ الكسائي بالجر باعتبار لفظه، وقرىء شاذا بالنصب على الاستثناء، وحكم غير- كما في المفصل- حكم الاسم الواقع بعد إلا وهو المشهور أي ما لكم إله إلا إياه كقوله: ما في الدار أحد إلا زيدا وغير زيدا، وإِلهٍ أن جعل مبتدأ- فلكم- خبره أو خبره محذوف ولَكُمْ للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود أو في العالم إله غير الله تعالى إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم تعبدوا حسبما أمرت به. وتقدير إن لم تؤمنوا لما أن عبادته سبحانه وتعالى تستلزم الإيمان به وهو أهم أنواعها وإنما قال عليه السلام: أَخافُ ولم يقطع حنوا عليهم واستجلابا لهم بلطف.
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة أو يوم الطوفان لأنه أعلم بوقوعه إن لم يمتثلوا، والجملة- كما قال شيخ الإسلام- تعليل للعبادة ببيان الصارف عن تركها أثر تعليلها ببيان الداعي إليها، ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه وتكميل الإنذار قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية قوله عليه السلام ونصحه لقومه كأنه قيل: فماذا قالوا بعد ما قيل لهم ذلك؟ فقيل: قال إلخ. والملأ- على ما قال الفراء- الجماعة من الرجال خاصة.
وفسره غير واحد بالإشراف الذين يملؤون القلوب بجلالهم والأبصار بجمالهم والمجالس بأتباعهم، وقيل: سموا ملأ
لأنهم مليون قادرون على ما يراد منهم من كفاية الأمور إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ أي ذهاب عن طريق الحق، والرؤية قلبية ومفعولاها الضمير والظرف وقيل: بصرية فيكون الظرف في موضع الحال مُبِينٍ أي بين كونه ضلالا قالَ استئناف على طراز سابقه: يا قَوْمِ ناداهم بإضافتهم إليه استمالة لهم نحو الحق لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ نفي للضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه فإن التاء للمرة لأن مقام المبالغة في الجواب لقولهم الأحمق يقتضي ذلك والوحدة المستفادة منه باعتبار أقل ما ينطلق فيرجع حاصل المعنى ليس بي أقل قليل من الضلال فضلا عن الضلال المبين، وما يتخايل من أن نفي الماهية أبلغ فإن نفي الشيء مع قيد الوحدة قد يكون بانتفاء الوحدة إلى الكثرة مضمحل بما حقق أن الوحدة ليست صفة مقيدة بل اللفظ موضوع للجزء الأقل وهو الواحد المتحقق مع الكثرة ودونها على أن ملاحظة قيد الوحدة في العام في سياق النفي مدفوع، وكفاك لا رجل شاهدا فإنه موضوع للواحد من الجنس وبذلك فرق بينه وبين أسامة فإذا وقع عاما لا يلحظ ذلك. ولو سلم جواز أن يقال ليس به ضلالة أي ضلالة واحدة بل ضلالات متنوعة ابتداء لكن لا يجوز في مقام المقابلة كما نحن فيه قاله في الكشف وبه يندفع ما أورد على الكشاف في هذا المقام.
وفي المثل السائر الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي تكون بينها وبين واحدها تاء التأنيث متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ كما في هذه الآية، ولا يظن أنه لما كان الضلال والضلالة مصدرين من قولك: ضل يضل ضلالا وضلالة كان القولان سواء لأن الضلالة هنا ليست عبارة عن المصدر بل عن المرة والنفي كما علمت، وإنما بالغ عليه السلام في النفي لمبالغتهم في الإثبات حيث جعلوه وحاشاه مستقرا في الضلال الواضع كونه ضلالا، وقوله سبحانه وتعالى: وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ استدراك على ما قبله رافع لما يتوهم منه، وذلك- على ما قيل- أن القوم لما أثبتوا له الضلال أرادوا به ترك دين الآباء ودعوى الرسالة فحين نفى الضلالة توهم منه أنه على دين آبائه وترك دعوى الرسالة فوقع الإخبار بأنه رسول وثابت على الصراط المستقيم استدراكا لذلك، وقيل: هو استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في أقصى مراتب الهداية فإن رسالته من رب العالمين مستلزمة له لا محالة كأنه قيل: ليس بي شيء من الضلالة لكني في الغاية القاصية من الهداية، وحاصل ذلك- على ما قرره الطيبي- أن لكن حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفيا وإثباتا والتغاير هنا حاصل من حيث المعنى كما في قولك: جاءني زيد لكن عمرا غاب، وفائدة العدول عن الظاهر إرادة المبالغة في إثبات الهداية على أقصى ما يمكن كما نفي الضلالة كذلك، وسلك طريق الإطناب لأن هذا الاستدراك زيادة على الجواب إذ قوله: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ كان كافيا فيه فيكون من الأسلوب الحكيم الوارد على التخلص إلى الدعوة على وجه الترجيع المعنوي لأنه بدأ بالدعوة إلى إثبات التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى فلما أراد إثبات الرسالة لم يتمكن لما اعترضوا عليه من قولهم: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فانتهز الفرصة وأدمج مقصوده في الجواب على أحسن وجه حيث أخرجه مخرج الملاطفة والكلام المنصف يعني دعوا نسبة الضلال إلي وانظروا ما هو أهم لكم من متابعة ناصحكم وأمينكم ورسول رب العالمين ألا ترى أن صالحا عليه السلام لما لم يعترضوا عليه عقب بإثبات الرسالة إثبات التوحيد ففي هذه الآية خمسة من أنواع البديع فإذا اقتضى المقام هذا الإطناب كان الاقتصار على العبارة الموجزة تقصيرا انتهى.
ولا يخفى أن هذا الاستدراك غير الاستدراك بالمعنى المشهور. وقد ذكر غير واحد من علماء العربية أن الاستدراك في لكن أن تنسب لما بعدها حكما مخالفا لما قبلها سواء تغاير إثباتا ونفيا أو لا، وفسره صاحب البسيط وجماعة برفع ما توهم ثبوته، وتمام الكلام فيه في المغني، واعتبار اللازم لتحصيل الاستدراك بالمعنى الثاني مما لا يكاد
يقبل لأنه لا يذهب وهم واهم من نفي الضلالة إلى نفي الهداية حتى يحتاج إلى تداركه، ووجهه بعضهم من دون اعتبار اللازم بأنه عليه السلام لما نفى الضلالة عن نفسه فربما يتوهم الخاطب انتفاء الرسالة أيضا كما انتهى الضلالة فاستدركه بلكن كما في قولك: زيد ليس بفقيه لكنه طبيب، وأنت تعلم أن هذا إن لم يرجع إلى ما قرر أولا فليس بشيء، وقيل: إنه إذا انتفى أحد المتقابلين يسبق الوهم إلى انتفاء المقابل الآخر لا إلى انتفاء الأمور التي لا تعلق لها به، ولهذا يؤول ما وقع في معرض الاستدراك بما يقابل الضلال مثلا يقال: زيد ليس بقائم لكنه قاعد ولا يقال: لكنه شارب إلا بعد التأويل بأن الشارب يكون قاعدا، وقال بعض فضلاء الروم: النظر الصائب في هذا الاستدراك أن يكون مثل قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
وقوله:
هو البدر إلا أنه البحر زاخرا
…
سوى أنه الضرغام لكنه الوبل
كأنه قيل: ليس بي ضلالة وعيب سوى أني رسول من رب العالمين، وأنت تعلم أن هذا النوع يقال له عندهم:
تأكيد المدح بما يشبه الذم وهو قسمان ما يستثنى فيه من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح لذلك الشيء بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية. وما يثبت فيه لشيء صفة مدح ويتعقب ذلك بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لذلك، والظاهر أن ما في الآية من القسم الأول إلا أنه غير غني عن التأويل فتأمل.
ومِنْ فيها لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة ما يفيده التنوين من الفخامة الذاتية كأنه قيل: إني رسول وأي رسول كائن من رب العالمين أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي استئناف مسوق لتقرير رسالته وتفصيل أحكامها وأحوالها. وجوز أبو البقاء وغيرها أن يكون صفة أخرى لرسول على المعنى لأنه عبارة عن الضمير في إِنِّي وهذا
كقول علي كرم الله تعالى وجهه حين بارز مرحبا اليهودي يوم خيبر:
أنا الذي سمتني أمي حيدره
…
كليث غابات كريه المنظرة
أو فيهم بالصاع كيل السندره
حيث لم يقل سمته حملا له على المعنى لا من اللبس، وأوجب بعضهم الحمل على الاستئناف زعما منه أن ما ذكر قبيح حتى قال المازني: لولا شهرته لرددته، وتعقب ذلك الشهاب بأن ما ذكره المازني في صلة الموصول لا في وصف النكرة فإنه وارد في القرآن مثل بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] وقد صرح بحسنه في كتب النحو والمعاني، على أن ما ذكره في الصلة أيضا مردود عند المحققين وإن تبعه فيه ابن جني حتى استرذل قول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وفي الانتصاف أنه حسن في الاستعمال وكلام أبي الحسن أصدق شاهد على ما قال وعلى حسن كلام ابن الحسين، وهذا- كما قال الشهاب- إذا لم يكن الضمير مؤخرا نحو الذي قرى الضيوف أنا أو كان للتشبيه نحو أنا في الشجاعة الذي قتل مرحبا.
وقرأ أبو عمرو «أبلغكم» بتسكين الباء وتخفيف اللام من الإبلاغ، وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبي واحدة وهو مصدر والأصل فيه أن لا يجمع رعاية لاختلاف أوقاتها أو تنوع معاني ما أرسل عليه السلام به أو أنه أراد رسالته ورسالة غيره ممن قبله من الأنبياء كإدريس عليه السلام وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة، وشيث عليه السلام وقد أنزل عليه خمسون صحيفة، ووضع الظاهر موضع الضمير وتخصيص ربوبيته تعالى له عليه السلام بعد بيان عمومها
للعالمين للإشعار بعلة الحكم الذي هو تبليغ رسالته تعالى إليهم فإن ربوبيته تعالى له من موجبات امتثاله بأمره تعالى بتبليغ رسالته وَأَنْصَحُ لَكُمْ أي أتحرى ما فيه صلاحكم بناء على أن النصح تحري ذلك قولا أو فعلا، وقيل: هو تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه، والمعنى هنا أبلغكم أوامر الله تعالى ونواهيه وأرغبكم في قبولها وأحذركم عقابه إن عصيتموه، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال: نصحت العسل إذا خلصته من الشمع، ويقال: هو مأخوذ من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوص له بفعل الخياط فيما يسد من خلل الثوب، وقد يستعمل لخلوص المحبة للمصوح له والتحري فيما يستدعيه حقه، وعلى ذلك حمل ما
أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»
ويقال: نصحته ونصحت له كما يقال: شكرته وشكرت له، قيل: وجيء باللام هنا ليدل الكلام على أن الغرض ليس غير النصح وليس النصح لغيرهم بمعنى أن نفعه يعود عليهم لا عليه عليه السلام كقوله: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان: 57، وغيرها] وهذا مبني على أن اللام للاختصاص لا زائدة، وظاهر كلام البعض يشعر بأنها مع ذلك زائدة: وفيه خفاء.
وصيغة المضارع للدلالة على تجدد نصحه عليه السلام لهم كما يفصح عنه قوله: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح: 5] . وقوله تعالى: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ عطف على ما قبله وتقرير لرسالته عليه السلام أي أعلم من قبله تعالى بالوحي أشياء لا علم لكم بها من الأمور الآتية. فمن لابتداء الغاية مجازا أو أعلم من شؤونه عز وجل وقدرته القاهرة وبطشه الشديد على من لم يؤمن به ويصدق برسله ما لا تعلمونه. فمن إما للتبعيض أو بيانية لما، ولا بد في الوجهين من تقدير المضاف، قيل: كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين غافلين لا يعلمون ما علمه نوح عليه السلام فهم أول قوم عذبوا على كفرهم أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ رد لما هو منشأ لقولهم: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ والاستفهام للإنكار أي لم كان ذلك ولا داعي له. والواو للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام، ويقدر عند الزمخشري وأتباعه بين الهمزة وواو العطف كأنه قيل: استبعدتم وعجبتم. ومذهب سيبويه والجمهور أن الهمزة من جملة أجزاء المعطوف إلا أنها قدمت على العاطف تنبيها على أصالتها في التصدير. وضعف قول الأولين بما فيه من التكلف لدعوى حذف الجملة فإن قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال: إنه أسهل منه لأن المتجوز فيه أقل لفظا. وفيه تنبيه على أصالة شيء في شيء وبأنه غير مطرد في نحو «أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت» . وتحقيقه في محله و «أن جاءكم» بتقدير بأن لأن الفعل السابق يتعدى بها، والمراد بالذكر ما أرسل به كما قيل للقرآن ذكر ويفسر بالموعظة. ومن للابتداء والجار والمجرور متعلق بحاء أو بمحذوف وقع صفة لذكر أي ذكر كائن من مالك أموركم ومربيكم.
عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ أي من جملتكم تعرفون مولده ومنشأه أو من جنسكم فمن تبعيضية أو بيانية كما قيل.
و «على» متعلقة بجاء بتقدير مضاف أي على يد أو لسان رجل منكم أي بواسطته، وقيل: على بمعنى مع فلا حاجة إلى التقدير، وقيل: تعلقه به لأن معناه أنزل كما يشير إليه كلام أبي البقاء أو لأنه ضمن معناه. وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من ذِكْرٌ أي نازلا على رجل منكم لِيُنْذِرَكُمْ علة للمجيء أي ليحذركم العذاب والعقاب على الكفر والمعاصي وَلِتَتَّقُوا عطف على «لينذركم» وكذا قوله تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على ما هو الظاهر فالمجيء معلل بثلاثة أشياء وليس من توارد العلل على معلول واحد الممنوع وبينها ترتب في نفس الأمر فإن الإنذار سبب للتقوى والتقوى سبب لتعلق الرحمة بهم، وليس في الكلام دلالة على سببية كل من الثلاثة لما بعده
ولو أريدت السببية لجيء بالفاء. وبعضهم اعتبر عطف لِتَتَّقُوا على لينذركم وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على لتتقوا مع ملاحظة الترتيب أي لتتقوا بسبب الإنذار ولعلكم ترحمون بسبب التقوى والتأمل.
وجيء بحرف الترجي على عادة العظماء في وعدهم أو للتنبيه على عزة المطلب وأن الرحمة منوطة بفضل الله تعالى فلا اعتماد إلا عليه فَكَذَّبُوهُ أي استمروا على تكذيبه وأصروا بعد أن قال لهم ما قال ودعاهم إلى الله تعالى ليلا ونهارا فَأَنْجَيْناهُ من الغرق، والإنجاء في الشعراء من قصد أعداء الله تعالى وشؤم ما أضمروه له عليه السلام وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين. وكانوا على ما قيل: أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل: كانوا عشرة أبناؤه الثلاثة وستة ممن آمن به عليه السلام، والفاء للسببية باعتبار الإغراق لا فصيحة، وقوله سبحانه وتعالى: فِي الْفُلْكِ أي السفينة متعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة أي استقروا معه في الفلك.
وجوز أن يكون هو الصلة مَعَهُ متعلق بما تعلق به. وأن يكون متعلقا بأنجينا وفي ظرفية أو سببية. وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من الَّذِينَ نفسه أو من ضميره وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي استمروا على تكذيبها، والمراد به ما يعم أولئك الملأ وغيرهم من المكذبين المصرّين. وتقديم الإنجاء على الإغراق للمسارعة إلى الإخبارية والإيذان بسبق الرحمة على الغضب إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ أي عمي القلوب عن معرفة التوحيد، والنبوة، والمعاد كما روي عن ابن عباس أو عن نزول العذاب بهم كما نقل عن مقاتل. وقرىء «عامين» والأول أبلغ لأنه صفة مشبهة فتدل على الثبوت وأصله عميين فخفف، وفرق بعضهم بين عم وعام بأن الأول لعمى البصيرة والثاني لعمى البصر. وأنشدوا قول زهير:
واعلم علم اليوم والأمس قبله
…
ولكنني عن علم ما في غد عمي
وقيل: هما سواء فيهما وَإِلى عادٍ متعلق بمضمر معطوف على أَرْسَلْنا فيما سبق وهو الناصب لقوله تعالى: أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم، وقيل: لا إضمار والمجموع معطوف على المجموع السابق والعامل الفعل المتقدم. وغير الأسلوب لأجل ضمير أَخاهُمْ إذ لو أتى به على سنن الأول عاد الضمير على متأخر لفظا ورتبة. وعاد في الأصل اسم لأبي القبيلة ثم سميت به القبيلة أو الحي فيجوز فيه الصرف وعدمه كما ذكره سيبويه، وقوله تعالى: هُوداً بدل من أَخاهُمْ أو عطف بيان له. واشتهر أنه اسم عربي، وظاهر كلام سيبويه أنه أعجمي وأيد بما قيل. إن أول العرب يعرب. وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وعليه محمد بن إسحاق. وبعض القائلين بهذا قالوا: إن نوحا ابن عم أبي عاد، وقيل: ابن عوص بن ارم سام بن نوح، وقيل: ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن أرم به سام بن نوح عليه السلام.
ومعنى كونه عليه السلام أخاهم أنه منهم نسبا وهو قول الكثير من النسابين. ومن لا يقول به يقول: إن المراد صاحبهم وواحد في جملتهم وهو كما يقال يا أخا العرب. وحكمة كون النبي يبعث إلى القوم منهم أنهم أفهم لقوله من قول غيره وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال لهم حين أرسل إليهم؟ فقيل: قال إلخ. ولم يؤت بالفاء كما أتي بها في قصة نوح لأن نوحا كان مواظبا على دعوة قومه غير مؤخر لجواب شبهتهم لحظة واحدة وهود عليه السلام لم يكن مبالغا إلى هذا الحد فلذا جاء التعقيب في كلام نوح ولم يجىء هنا. وذكر صاحب الفرائد في التفرقة بين القصتين أن قصة نوح عليه السلام ابتداء كلام فالسؤال غير مقتضى الحال وأما قصة هود فكانت معطوفة على قصة نوح فيمكن أن يقع في خاطر السامع أقال هود ما قال نوح أم قال غيره؟ فكان مظنة أن يسأل ماذا قال لقومه؟ فقيل: قال إلخ.
وقيل: اختير الفصل هنا لإرادة استقلال كل من الجمل في معناه حيث إن كفر هؤلاء أعظم من كفر قوم نوح من حيث إنهم علموا ما فعل الله تعالى بالكافرين وأصروا وقوم نوح لم يعلموا. ويدل على علمهم بذلك ما سيأتي في ضمن الآيات وفيه نظر.
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وجده كما يدل عليه قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فإنه استئناف جار مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليل لها أو للأمر كأنه قيل: خصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم إله سواه.
وقرىء «غير» بالحركات الثلاث كالذي قبل أَفَلا تَتَّقُونَ إنكار واستبعاد لعدم اتقائهم عذاب الله تعالى بعد ما علموا ما حل بقوم نوح عليه السلام، وقيل: الاستفهام للتقرير والفاء للعطف، وقد تقدم الكلام فيه آنفا وفي سورة أَفَلا تَعْقِلُونَ [هود: 51] ولعله عليه السلام كما قال شيخ الإسلام- خاطبهم بكل منهما واكتفى بحكاية كل منهما في موطن عن حكايته في موطن آخر كما لم يذكر هاهنا ما ذكر هناك من قوله إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ [هود:
50] وقس على ذلك حال بقية ما ذكروا ما لم يذكر من أجزاء القصة بل حال نظائره في سائر القصص لا سيما في المحاورات الجارية في الأوقات المتعددة.
وقال غير واحد: إنما قيل هاهنا: أَفَلا تَتَّقُونَ وفيما تقدم من مخاطبة نوح عليه السلام قومه إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لأن هؤلاء قد علموا بما حل بغيرهم من نظرائهم ولم يكن قبل واقعة قوم نوح عليه السلام واقعة، وقيل: لأن هؤلاء كانوا أقرب إلى الحق وإجابة الدعوة من قوم نوح عليه السلام وهذا دون إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إلخ في التخويف، ويرشد إلى ذلك ما تقدم مع قوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ حيث قيد هنا الملأ المعاند بمن كفر وأطلق هناك، وقد صرحوا بأن هذا الوصف لأنه لم يكن كلهم على الكفر بل من أشرافهم من آمن به عليه السلام كمرثد بن سعد الذي كان يكتم إيمانه ولا كذلك قوم نوح ومن آمن به عليه السلام منهم لم يكن من الأشراف كما هو الغالب في اتباع الرسل عليهم السلام، وقيل: إنه وقت مخاطبة نوح عليه السلام لقومه لم يكونوا آمنوا بخلاف قوم هود ومثله- كما قال الشهاب- يحتاج إلى نقل. واعترض المولى بهاء الدين على تلك التفرقة بين القومين بأنه قد جاء في سورة المؤمنين وصف قوم نوح بما وصف به قوم هود هنا فكيف تتأتى هذه التفرقة، وأجيب بأن الوصف هناك محمول على أنه للذم لا للتمييز وإنما لم يذم هاهنا للإشارة إلى التفرقة. وقال الطيبي:
يمكن أن يقال: إن الوصف هنا للذم أيضا ومقتضى المقام يقتضي ذمهم لشدة عنادهم كما يدل عليه جوابهم بما حكاه الله تعالى من قولهم: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أي متمكنا في خفة عقل راسخا فيها حيث فارقت دين آبائك وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ حيث ادعيت الرسالة وهو أبلغ من كاذبا كما مرت الإشارة إليه. والظن إما على ظاهره كما قال الحسن والزجاج وإما بمعنى العلم كما قيل، وذلك لأنه قالوا ما قالوا ما قالوا مع كونه عليه السلام معروفا بينهم بضد ذلك ولا يقتضي ذم قوم نوح عليه السلام وحيث اقتضى في سورة المؤمنين ذمهم ذمهم لأنهم قالوا كما قصة سبحانه وتعالى هناك ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون: 25] وقال بعضهم: إن الظاهر أن ما نقل هنا عن قوم نوح عليه السلام مقالتهم في مجلس أو مقالة بعضهم وما نقل في سورة المؤمنين مقالتهم في مجلس آخر أو مقالة آخرين فروعي في المقامين مقتضى كل من المقالتين قالَ عليه السلام مستعطفا لهم أو مستميلا لقلوبهم: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ أي شيء منها فضلا عن تمكني فيها كما زعمتم وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ والرسالة من قبله تعالى تقتضي الاتصاف بغاية الرشد والصدق، ولم يصرح عليه السلام بنفي الكذب اكتفاء بما في حيز الاستدراك.
وقيل: الكذب نوع من السفاهة فيلزم من نفيها نفيه، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية. وقوله تعالى: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي على طرز ما في قصة نوح عليه السلام.
وقرأ أبو عمرو «أبلغكم» بالتخفيف من الأفعال وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ معروف بالنصح والأمانة مشهور بين الناس بذلك فما حقي أن أتهم بشيء مما ذكرتموه وعلى هذا لا يقدر للوصفين متعلق، ويحتمل تقديرهما أي ناصح لكم فيما أدعوكم إليه أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه، وعلى الأول- كما قال الطيبي- فالجملة مستأنفة وقعت معترضة، وعلى الثاني حالية، وفي العدول عن الفعلية إلى الاسمية ما لا يخفى. ولعل التعبير بها هنا وبالفعلية فيما تقدم لتجدد النصح من نوح دون هود عليهما السلام.
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ الكلام فيه الكلام في سابقه. وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من يشافههم من الكفرة بالكلمات الحمقاء بما حكي عنهم والإعراض عن مقابلتهم بمثل كلامهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة، وفي حكاية ذلك تعليم للعباد كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيالهم على ما يكون منهم، وفي الآية دلالة على جواز مدح الإنسان نفسه للحاجة إليه.
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ شروع في بيان ترتيب أحكام النصح والأمانة والإنذار وتفصيلها، وإذا على ما يفهم من كلام البعض وصرح به آخرون ظرف منصوب بآلاء المحذوف هنا بقرينة ما بعده لتضمنه معنى الفعل، واختار غير واحد تبعا للزمخشري أنه مفعول لا ذكروا أي اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذا النعم الجسام، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات للمبالغة في إيجاب ذكره ولأنه إذا استحضر الوقت كان هو حاضرا بتفاصيله، وهذا مبني على الاتساع في الظرف أو أنه غير لازم للظرفية على خلاف المشهور عند النحويين، والواو للعطف وما بعده قيل: معطوف على قوله تعالى: اعْبُدُوا ولا يخفى بعده.
وقال شيخ الإسلام: لعله معطوف على مقدر كأنه قيل: لا تعجبوا من ذلك أو تدبروا في أمركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكا فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض فالإسناد على هذا مجاز، وفي ذكر نوح على ما قيل إشارة إلى رفع التعجب يعني هذا الذي جئت به ليس ببدع فاذكروا نوحا وإرساله إلى قومه وإلى الوعيد والتهديد أي اذكروا إهلاك قومه لتكذيبهم رسول ربهم وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ أي الإبداع والتصوير أو في المخلوقين أي زادكم في الناس على أمثالكم بَصْطَةً قوة وزيادة جسم، قال الكلبي: كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعا.
وأخرج ابن عساكر عن وهب أنه قال: كانت هامة الرجل منهم مثل القبة العظيمة وعينه يفرخ فيها السباع، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعا،
وعن الباقر رضي الله تعالى عنه كانوا كأنهم النخل الطوال وكان الرجل منهم يأتي الجبل فيهدم منه بيده القطعة العظيمة.
وأخرج عبد الله بن أحمد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة إن كان الرجل منهم ليتخذ المصراع من الحجارة لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها.
وعن بعضهم أن أحدهم كان أطول من سائر الخلق بمقدار ما يمد الإنسان يده فوق رأسه باسطا لها فطول كل منهم قامة وبسطة وهذا أقرب عند ذوي العقول القصيرة عن إدراك يد القدرة.
وأخرج إسحاق بن بشر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هودا عليه السلام كان أصبحهم وجها وكان في مثل أجسامهم أبيض جعدا بادي العنفقة طويل اللحية صلى الله عليه وسلم،
ونصب بَصْطَةً على أنه مفعول به للفعل قبله، وقيل: تمييز وفِي الْخَلْقِ متعلق بالفعل، وجوز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمه سبحانه وتعالى وهي جمع- إلى- بكسر فسكون كحمل وإحمال أو- ألى- بضم فسكون كقفل وأقفال أو- إلى- بكسر ففتح مقصورا كمعى وأمعاء أو بفتحتين مقصورا كقفا وأقفاء وبهما ينشد قول الأعشى:
أبيض لا يرهب الهزال ولا
…
يقطع رحما ولا يخون إلا
وقيل: إن ما في البيت إلا المشددة لكنها خففت ومعناها العهد وفيه بعد، وهذا تكرير للتذكير لزيادة التقرير وتعميم أثر تخصيص أي اذكروا الآلاء التي من جملتها ما تقدم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها الذي من جملته العمل بالأركان والطاعة المؤدي إلى النجاة من الكروب والفوز بالمطلوب وهذا لأن الفلاح لا يترتب على مجرد الذكر. ومن الناس من فسر ذكر الآلاء بشكرها وأمر الترتب عليه ظاهر.
قالُوا مجيبين عن تلك النصائح العظيمة المتضمنة للإنذار على ما أشير إليه: أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ أي لنخصه بالعبادة وَنَذَرَ أي نترك ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأوثان، وهذا إنكار واستبعاد لمجيئه عليه السلام بذلك ومنشؤه انهماكهم في التقليد والحب لما ألفوه ألفوا عليه أسلافهم، ومعنى المجيء إما مجيئه عليه السلام من مكان كان يتحنث فيه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بحراء قبل المبعث أو مجيئه من السماء أي أنزلت علينا من السماء ومرادهم التهكم والاستهزاء، وجاء ذلك من زعمهم أن المرسل من الله تعالى لا يكون إلا ملكا من السماء أو هو مجاز عن القصد إلى الشيء والشروع فيه فإن جاء، وقام، وقعد، وذهب- كما قال جماعة- تستعملها العرب لذلك تصويرا للحال فتقول قعد يفعل كذا وقام يشتمني وقعد يقرأ وذهب يسبني، ونصب وَحْدَهُ على الحالية، وهو عند جمهور النحويين ومنهم الخليل وسيبويه اسم موضوع موضع المصدر أعني إيحاد الموضوع موضع الحال أعني موحدا. واختلف هؤلاء فيما إذا قلت: رأيت زيدا وحده مثلا فالأكثرون يقدرون في حال إيجاد له بالرؤية فيجعلونه حالا من الفاعل، والمبرد يقدره في حال أنه مفرد بالرؤية فيجعله حالا من المفعول.
ومنع أبو بكر بن طلحة جعله حالا من الفاعل وأوجب كونه حالا من المفعول لا غير لأنهم إذا أرادوا الحال من الفاعل قالوا رأيته وحدي ومررت به وحدي كما قال الشاعر:
والذئب أخشاه إن مررت به
…
وحدي وأخشى الرياح والمطرا
وهذا الذي قاله في البيت صحيح ولا يمتنع من أجله أن يأتي الوجهان المتقدمان في رأيت زيدا وحده فإن المعنى يصح معهما، ومنهم من يقول: إنه مصدر موضوع موضع الحال ولم يوضع له فعل عند بعضهم.
وحكى الأصمعي وحد يحد، وذهب يونس وهشام في أحد قوليه إلى أنه منتصب انتصاب الظروف فجاء زيد وحده في تقدير جاء على وحده ثم حذف الجار وانتصب على الظرف وقد صرح بعلى في كلام بعض العرب، وإذا قيل زيد وحده فالتقدير زيد موضع التفرد، ولعل القائل بما ذكر يقول: إنه مصدر وضع موضع الظرف. وعن البعض أنه في هذا منصوب بفعل مضمر كما يقال: زيد إقبالا وإدبارا هذا خلاصة كلامهم في هذا المقام، وإذا أحطت به خبرا
فاعلم أن لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ في تقدير موحدين إياه بالعبادة عند سيبويه على أنه حال من الفاعل، والحاء في موحدين مكسورة وعلى رأي ابن طلحة موحدا هو والحاء مفتوحة وهو من أوحد الرباعي والتقدير على رأي هشام نعبد الله تعالى على انفراد وهو من وحد الثلاثي، والمعنى في التقادير الثلاثة لا يختلف إلا يسيرا، والكلام الذي هو فيه متضمن للإيجاب والسلب وله احتمالات نفيا وإثباتا وتفصيل ذلك في رسالة في مولانا تقي الدين السبكي المسماة بالرفدة في معنى وحده وفيها يقول الصفدي:
خل عنك الرقدة وانتبه للرفدة
…
تجن منها علما فاق طعم الشهدة
وأراد- بما- في قوله تعالى: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا العذاب المدلول عليه بقوله تعالى: أَفَلا تَتَّقُونَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ بالإخبار بنزوله، وقيل: بالإخبار بأنك رسول الله تعالى إلينا، وجواب «إن» محذوف لدلالة المذكور عليه أي فأت به قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ أي وجب وثبت. وأصل استعمال الوقوع في نزول الأجسام واستعماله هنا فيما ذكر مجاز من إطلاق السبب على المسبب. ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تبعية والمعنى قد نزل عليكم، واختار بعضهم أن وَقَعَ بمعنى قضي وقدر لأن المقدرات تضاف إلى السماء وحرف الاستعلاء على ذلك ظاهر، وفي الكشف أن الوقوع بمعنى الثبوت وحرف الاستعلاء إما لأنه ثبوت قوي آكد ما يكون (1) واجبه أو لأنه ثبوت حسي لأمر نازل من علو وعذاب الله تعالى. موصوف بالنزول من السماء فتدبر. والتعبير بالماضي لتنزيل المتوقع منزلة الواقع كما في قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] مِنْ رَبِّكُمْ أي من قبل مالك أمركم سبحانه وتعالى. والجار والمجرور قيل: متعلق بمحذوف وقع حالا مما بعد، والظاهر أنه متعلق بالفعل قبله، وتقديم الظرف الأول عليه مع أن المبدأ متقدم على المنتهى- كما قال شيخ الإسلام- للمسارعة إلى بيان إصابة المكروه لهم، وكذا تقديمهما على الفاعل وهو قوله تعالى: رِجْسٌ مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما عطف عليه من قوله تعالى: وَغَضَبٌ فربما يخل تقديمهما بتجاوب النظم الكريم، والرجس العذاب وهو بهذا المعنى في كل القرآن عند ابن زيد من الارتجاس وهو الارتجاز بمعنى حتى قيل: إن أصله ذلك فأبدلت الزاي سينا كما أبدلت السين تاء في قوله:
ألا لحى الله بني السعلات
…
عمرو بن يربوع شرار النات
ليسوا بإعفاف ولا أكيات
فإنه أراد الناس وأكياس. وأصل معناه الاضطراب ثم شاع فيما ذكر لاضطراب من حل به، وعليه فالعطف في قوله:
إذا سنة كانت بنجد محيطة
…
وكان عليهم رجسها وعذابها
للتفسير والغضب عند كثير بمعنى إرادة الانتقام. وعن ابن عباس أنه فسر الرجس باللعنة والغضب بالعذاب وأنشد له البيت السابق وفيه خفاء. والذاهبون إلى ما تقدم إنما لم يفسروه بالعذاب لئلا يتكرر مع ما قبله، ولا يبعد أن يفسر «الرجس» بالعذاب والغضب باللعن والطرد على عكس ما نسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويكون في الكلام حينئذ إشارة إلى حالهم في الأولى والأخرى. ويمكن إرجاع ما ذكره الكثير من المفسرين إلى هذا وإلا فالظاهر أنه لا لطافة في قولك: وقع عليهم عذاب وإرادة انتقام على ظاهر كلامهم. وأيا ما كان فالتنوين للتفخيم والتهويل
(1) قوله واجبة كذا بخط المؤلف وتأمل.
أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ إنكار واستقباح لإنكارهم مجيئه عليه السلام داعيا لهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك ما كان يعبد آباؤهم من الأصنام.
والأسماء عبارة عن تلك الأصنام الباطلة. وهذا كما يقال لما لا يليق ما هو إلا مجرد اسم. والمعنى أتخاصمونني في مسميات وضعتم لها أسماء لا تليق بها فسميتموها آلهة من غير أن يكون فيها من مصداق الإلهية شيء ما لأن المستحق للمعبودية ليس إلا من أوجد الكل وهي بمعزل عن إيجاد ذرة وأنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى إما بإنزال آية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل وذلك قوله تعالى: ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي حجة ودليل وحيث لم يكن ذلك في حيز الإمكان تحقق بطلان ما هم عليه. والذم الذي يفهمه الكلام متوجه إلى التسمية الخالية عن المعنى المشحونة بمزيد الضلالة والغواية والافتراء العظيم، وقيل: إنهم سموها خالقة ورازقة ومنزلة المطر ونحو ذلك. والضمير المنصوب في سَمَّيْتُمُوها راجع لأسماء وهو- على ما قيل- المفعول الأول والمفعول الثاني محذوف حسبما أشير إليه. وقيل: المفعول الأول محذوف والضمير هو المفعول الثاني والمراد سميتم أصنامكم بها.
وقيل: المراد من سميتموها وصفتموها فلا حاجة له إلى مفعولين، وحمل الآية على ما ذكر أولا في تفسيرها هو الذي اختاره جمع وجوز بعضهم أن يكون الكلام على حذف مضاف أي أتجادلونني في ذوي أسماء.
وادعى آخرون جواز أن يكون فيه صنعة الاستخدام. واستدل بالآية من قال إن الاسم عين المسمى. ومن قال: إن اللغات توقيفية إذ لو لم تكن كذلك لم يتوجه الإنكار والإبطال بأنها أسماء مخترعة لم ينزل الله تعالى بها سلطانا، ولا يخفى عليك ما في ذلك من الضعف. فَانْتَظِرُوا نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم:«فأتنا بما تعدنا» لما وضح الحق وأنت مصرون على العناد والجهالة إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لنزوله بكم. والفاء في «فانتظروا» للترتيب على ما تقدم وفي قوله تعالى: فَأَنْجَيْناهُ فصيحة أي فوقع ما وقع فأنجيناه وَالَّذِينَ مَعَهُ أي متابعيه في الدين بِرَحْمَةٍ عظيمة لا يقادر قدرها مِنَّا أي من جهتنا والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع نعتا لرحمة مؤكدا لفخامتها على ما تقدم غير مرة وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كناية عن الاستئصال. والدابر الآخر أي أهلكناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم. واستدل به بعضهم على أنه لا عقب لهم.
ما كانُوا مُؤْمِنِينَ عطف على كَذَّبُوا داخل معه في حكم الصلة أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أصلا. وفائدة هذا النفي عند الزمخشري التعريض بمن آمن منهم. وبيانه- على ما قال الطيبي- إنه إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين وعلم أن سبب النجاة هو الإيمان تزيد رغبته فيه ويعظم قدره عنده، ونظيره في اعتبار شرف الإيمان الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ [غافر: 7] الآية، وقال بعضهم: فائدة ذلك بيان أنه كان المعلوم من حالهم أنه سبحانه لو لم يهلكهم ما كانوا ليؤمنوا كما قال جل شأنه في آية أخرى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا [يونس: 13] فهو كالعذر عن عدم إمهالهم والصبر عليهم.
وسر تقديم حكاية الإنجاء على حكاية الإهلاك يعلم مما تقدم. وقصتهم- على ما ذكره السدي ومحمد بن إسحاق. وغيرهما- أن عادا قوم كانوا بالأحقاف وهي رمال بين عمان وحضرموت وكانوا قد فشوا في الأرض كلها وقهروا أهلها وكانت لهم أصنام يعبدونها وهي: صداء، وصمود، والهباء فبعث الله تعالى إليهم هودا عليه السلام نبيا وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فأمرهم بالتوحيد والكف عن الظلم فكذبوه وازدادوا عتوا وتجبرا وقالوا: من أشد
منا قوة فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس إذ ذاك إذا نزل بهم بلاء طلبوا رفعه من الله تعالى عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة يومئذ العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر وكانت أمه كهلدة من عاد فجهزت عاد إلى الحرم من أماثلهم سبعين رجلا منهم قيل بن عنز ولقيم بن هزال، ولقمان بن عاد الأصغر، ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه، وجلهمة خال معاوية بن بكر فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية وكان خارجا من الحرم فأنزلهم وأكرمهم إذ كانوا أحواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم قينتان لمعاوية اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة ويقال لهما: الجرادتان على التغليب فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له شق ذلك عليه وقال: هلك أصهاري وأخوالي وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحي أن يكلمهم خشية أن يظنوا به ثقل مقامهم عنده فشكا ذلك لقينتيه فقالتا: هل شعرا نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك أن يحركهم فقال:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم
…
لعل الله يسقينا غماما
فتسقى أرض عاد إن عادا
…
قد أمسوا ما يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو
…
به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير
…
فقد أمست نساؤهم عياما
وإن الوحش تأتيهم جهارا
…
ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم
…
نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم
…
ولا لقوا التحية والسلاما
فلما غنتا بذلك قال بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إلى ربكم سقيتم فأظهر إسلامه عند ذلك وقال:
عصت عاد رسولهم فأمسوا
…
عطاشا ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود
…
يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد
…
فأبصرنا الهدى وخلا العماء
وإن إله هود هو إلهي
…
على الله التوكل والرجاء
فقالوا لمعاوية: أحبسن عنا مرثدا فلا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة يستسقون فخرج مرثد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا بشيء مما خرجوا له فلما انتهى إليهم قام يدعو الله تعالى ويقول: اللهم سؤلي وحدي فلا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد وكان قيل رأس الوفد فدعا وقال: اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم وقال القوم: اللهم أعط قيلا ما سألك واجعل سؤلنا مع سؤله فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثا بيضاء، وحمراء، وسوداء ثم نادى مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب ما شئت قيل وكذلك يفعل الله تعالى بمن دعاه إذ ذاك فقال قيل: اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء. فناداه مناد اخترت رمادا رمدا لا تبقي من آل عاد أحدا وساق الله تعالى تلك السحابة بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منا ريح عقيم، وأول من رأى ذلك امرأة منهم يقال لها مهدر ولما رأته صفقت فلما أفاقت قالوا: ما رأيت قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها
فسخرها الله تعالى عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فلم تدع منهم أحدا إلا أهلكته واعتزل هود عليه السلام ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين به الجلود وتلتذ به الأنفس، ثم إنه عليه السلام أتى هود ومن معه مكة فعبدوا الله تعالى فيها إلى أن ماتوا وقبره عليه السلام قيل هناك في البقعة التي بين الركن والمقام وزمزم، وفيها- كما أخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن سابط- قبور تسعة وسبعين نبيا منهم أيضا نوح، وشعيب، وصالح، وإسماعيل عليهم السلام،
وأخرج البخاري في تاريخه، وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أن قبره عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة،
وأخرج ابن عساكر عن ابن أبي العاتكة قال: قبلة مسجد دمشق قبر هود عليه السلام، وعمر كما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أربعمائة واثنتين وسبعين سنة والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات: على ما قاله القوم رضي الله تعالى عنهم إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ أي سماوات الأرواح وَالْأَرْضَ أي أرض الأبدان فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وهي ستة آلاف سنة وإن يوما عند ربكم كألف سنة مما تعدون وهي من لدن خلق آدم عليه السلام إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الحقيقة من ابتداء دور الخفاء إلى ابتداء الظهور الذي هو زمان ختم النبوة وظهور الولاية ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وهو القلب المحمدي بالتجلي التام وهو التجلي باسمه تعالى الجامع لجميع الصفات. وللصوفية عدة عروش نبهنا عليها في كتابنا- الطراز المذهب في شرح قصيدة الباز الأشهب-. وتمام الكلام عليها في شمس المعارف للإمام البوني قدس سره يُغْشِي اللَّيْلَ أي ليل البدن النَّهارَ أي نهار الروح يَطْلُبُهُ بالتهيؤ والاستعداد لقبوله باعتدال مزاجه حَثِيثاً أي سريعا وَالشَّمْسَ أي شمس الروح وَالْقَمَرَ أي قمر القلب وَالنُّجُومَ أي نجوم الحواس مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ الذي هو الشأن المذكور في قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ادْعُوا رَبَّكُمْ أي اعبدوه تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إشارة إلى طريق الجلوة والخلوة أو ادعوه بالجوارح والقلب أو بأداء حق العبودية ومطالب حق الربوبية إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عما أمروا به بترك الامتثال أو الذين يطلبون منه سواه وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي أرض البدن بَعْدَ إِصْلاحِها بالاستعداد وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً لئلا يلزم إهمال إحدى صفتي الجلال والجمال وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ أي رياح العناية بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي تجلياته حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ حملت سَحاباً ثِقالًا بأمطار المحبة سُقْناهُ لِبَلَدٍ قلب مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ ماء المحبة فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ من المشاهدات والمكاشفات كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى القلوب الميتة من قبور الصدور لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أيام حياتكم في عالم الأرواح حيث كنتم في رياض القدس وحياض الأنس وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ وهو ما طاب استعداده يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ حسنا غزيرا نفعه وَالَّذِي خَبُثَ وهو ما ساء استعداده لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً لأخير فيه لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً أي نوح الروح إِلى قَوْمِهِ من القلب وأعوانه والنفس وأعوانها فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ كالقلب وأعوانه فِي الْفُلْكِ وهو سفينة الاتباع وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا في بحار الدنيا ومياه الشهوات إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ عن طريق الوصول ورؤية الله تعالى، وعلى هذا المنوال ينسج الكلام في باقي الآيات.
ولمولانا الشيخ الأكبر قدس سره في هؤلاء القوم ونحوهم كلام تقف الأفكار دونه حسرى فمن أراده فليرجع إلى الفصوص يرى العجب العجاب والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد.
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً عطف على ما سبق من قوله تعالى: «وإلى عاد أخاهم» موافق له في تقديم المجرور على المنصوب، وثَمُودَ قبيلة من العرب كانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وسميت باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح، وقيل: ابن عاد بن عوص بن إرم إلخ وهو المنقول عن الثعلبي.
وقال عمرو بن العلاء: إنما سموا بذلك لقلة مائهم فهو من ثمد الماء إذا قل، والثمد الماء القليل وورد فيه
الصرف وعدمه، أما الأول فباعتبار الحي أو لأنه لما كان في الأصل اسما للجد أو للقليل من الماء كان مصروفا لأنه علم مذكر أو اسم جنس فبعد النقل حكى أصله، وأما الثاني فباعتبار أنه اسم القبيلة ففيه العلمية والتأنيث.
وصالح عليه السلام من ثمود فالأخوة نسبية، وهو على ما قال محيي السنة البغوي بن عبيد بن أسف بن ماشح ابن عبيد بن حاذر بن ثمود وهو أخو طسم. وجديس فيما قيل، وقال وهب: هو ابن عبيد بن جابر بن ثمود بن جابر بن سام بن نوح بعث إلى قومه حين راهق الحلم وكان رجلا أحمر إلى البياض سبط الشعر فلبث فيهم أربعين عاما. وقال الشامي: إنه بعث شابا فدعا قومه حتى شمط وكبر، ونقل النووي أنه أقام فيهم عشرين سنة ومات بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قد مر الكلام في نظائره قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي آية ومعجزة ظاهرة الدلالة شاهدة بنبوتي وهي من الألفاظ الجارية مجرى الأبطح والأبرق في الاستغناء عن ذكر موصوفاتها حالة الأفراد والجمع، والتنوين للتفخيم أي بينة عظيمة مِنْ رَبِّكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة لبينة على ما مر غير مرة أو بجاءتكم، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا أو للتبعيض أن قدر من بينات ربكم، والمراد بهذه البينة الناقة وليس هذا الكلام منه عليه السلام أول ما خاطبهم به إثر الدعوة إلى التوحيد بل إنما قاله بعد ما نصحهم وذكرهم بنعم الله تعالى فلم يقبلوا كلامه وكذبوه كما ينبىء عن ذلك ما في سورة هود. وقوله تعالى: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً استئناف نحوي مسوق لبيان البينة والمعجزة وجوز أن يكون استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر تقديره أين هي؟ وعلى التقديرين لا محل للجملة من الإعراب. وجوز أن يكون بدلا من بَيِّنَةٌ بدل جملة من مفرد للتفسير. ولا يخفى بعده، وإضافة الناقة إلى الاسم الجليل لتعظيمها كما يقال: بيت الله للمسجد بيد أن الإضافة فيه لأدنى ملابسة ولا كذلك ما نحن فيه أو لأنها ليست بواسطة نتاج معتاد وأسباب معهودة كما سيتضح إن شاء الله تعالى لك ولذلك كانت آية وأي آية. وقيل:
لأنها لم يملكها أحد سواه سبحانه. وقيل: لأنها كانت حجة الله على قوم صالح. وانتصاب آيَةً على الحالية من ناقَةُ والعامل فيها معنى الإشارة وسماه النحاة العامل المعنوي ولَكُمْ بيان لمن هي آية له كما في سقيا لك فيتعلق بمقدر. وجوز أن يكون ناقَةُ بدل من هذِهِ أو عطف بيان له أو مبتدأ ثانيا ولَكُمْ خبرا فآية حينئذ حال من الضمير المستتر فيه والعامل هو أو متعلقة فَذَرُوها تفريغ على كونها آية من آيات الله تعالى. وقيل: على كونها ناقة له سبحانه فإن ذلك مما يوجب عدم التعرض لها أي فاتركوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ العشب وحذف للعلم به والفعل مجزوم لأنه جواب الأمر.
وقرأ أبو جعفر في رواية عنه تَأْكُلْ بالرفع فالجملة حالية أي أكلة. والجار والمجرور متعلق بما عنده أو بالأمر السابق فهما متنازعان. وأضيفت الأرض إلى الله سبحانه قطعا لعذرهم في التعرض كأنه قيل: الأرض أرض الله تعالى والناقة ناقة الله تعالى فذروا ناقة الله تأكل في أرضه فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من أنباتكم فأي عذر لكم في منعها. وعدم التعرض للشرب للاكتفاء عنه بذكر الأكل. وقيل: لتعميمه له أيضا كما في قوله:
علفتها تبنا وماء باردا وقد ذكر ذلك بقوله سبحانه: لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء: 155] وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ نهي عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالشر الشامل لأنواع الأذى مبالغة في الزجر فهو كقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الأنعام: 152، الإسراء: 34] . والجار والمجرور متعلق بالفعل. والتنكير للتعميم أي لا تتعرضوا لها بشيء مما يسوؤها أصلا كالطرد والعقر وغير ذلك. وقيل: الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل الفعل. والمعنى لا تمسوها مع قصد السوء بها فضلا عن الإصابة فهو كقوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] .
فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ منصوب في جواب النهي. والمعنى لا تجمعوا بين المس وأخذ العذاب إياكم.
والأخير وإن لم يكن من صنيعهم حقيقة لكن لتعاطيهم أسبابه كأنه من صنيعهم.
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ أي خلفاء في الأرض أو خلفاء لهم قيل: ولم يقل: خلفاء عاد مع أنه أخصر إشارة إلى أن بينهما زمانا طويلا وَبَوَّأَكُمْ أي أنزلكم وجعل لكم مباءة فِي الْأَرْضِ أي أرض الحجر بين الحجاز والشام تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تبنون في سهولها مساكن رفيعة. فمن بمعنى في كما في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9] ويجوز أن تكون ابتدائية أو تبعيضية أي تعملون القصور من مادة مأخوذة من السهل كاللبن والآجر المتخذين من الطين- والجار والمجرور- على ما قال أبو البقاء- يجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده. وأن يكون مفعولا ثانيا لتتخذون. وأن يكون متعلقا به وهو متعد لواحد.
والسهل خلاف الحزن وهو موضع الحجارة والجبال. والجملة استئناف مبين لكيفية التبوئة فإن هذا الاتخاذ بأقداره سبحانه وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ أي تنجرونها، والنحت معروف في كل صلب ومضارعه مكسور الحاء.
وقرأ الحسن بالفتح لحرف الحلق، وفي القاموس عنه أنه قرأ «تنحاتون» بالإشباع كينباع، وانتصاب الْجِبالَ على المفعولية، وقوله سبحانه: بُيُوتاً نصب على أنه حال مقدرة منها لأنها لم تكن حال النحت بيوتا كخطت الثوب جبة، والحالية- كما قال الشهاب- باعتبار أنها بمعنى مسكونة إن قيل بالاشتقاق فيها، وقيل:
انتصاب الْجِبالَ ينزع الخافض أي من الجبال، ويرجحه أنه وقع في آية أخرى كذلك، ونصب بُيُوتاً على المفعولية، وجوز أن يضمن النحت معنى الاتخاذ فانتصابهما على المفعولية. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم اتخذوا القصور في السهول ليصيفوا فيها ونحتوا من الجبال بيوتا ليشتّوا فيها، وقيل: إنهم نحتوا الجبال بيوتا لطول أعمارهم وكانت الأبنية تبلى قبل أن تبلى أعمارهم فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمه التي أنعم بها عليكم مما ذكر أو جميع نعمه ويدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا، وليس المراد مجرد الذكر باللسان كما علمت.
وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإن حق آلائه تعالى أن تشكروا ولا يغفل عنها فكيف بالكفر، والعثي الإفساد فمفسدين حال مؤكدة كما في وَلَّوْا مُدْبِرِينَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [النمل: 80، والروم: 52] أي الأشراف الذين عتوا وتكبروا، والجملة استئناف كما مر غيره مرة. وقرأ ابن عامر «وقال» بالواو عطفا على ما قبله من قوله تعالى: قالَ يا قَوْمِ إلخ، واللام في قوله سبحانه: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي عدوا ضعفاء أذلاء للتبليغ كما في أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ [البقرة: 33، يوسف: 96، القلم: 28]، وقوله تعالى: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الموصول بإعادة العامل بدل الكل من الكل كقولك مررت بزيد بأخيك. والضمير المجرور راجع إلى قومه.
وجوز أن يكون بدل بعض من كل على أن الضمير للذين استضعفوا فيكون المستضعفون قسمين مؤمنين وكافرين، ولا يخفى بعده، والاستفهام في قوله جل شأنه. أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ للاستهزاء لأنهم يعلمون أنهم عالمون بذلك ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر كما حكى سبحانه عنهم بقوله: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ فإن الجواب الموافق لسؤالهم نعم أو نعلم أنه مرسل منه تعالى. ومن هنا قال غير واحد إنه من الأسلوب الحكيم فكأنهم قالوا: العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه وإنارته وإنما الكلام في وجوب الإيمان به فنخبركم أنا به مؤمنون.
واختار في الانتصاف أن ذلك ليس إخبارا عن وجوب الإيمان به بل عن امتثال الواجب فإنه أبلغ من ذلك فكأنهم قالوا: العلم بإرساله وبوجوب الإيمان به لا نسئل عنه وإنما الشأن في امتثال الواجب والعمل به ونحن قد امتثلنا قالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
استئناف كما تقدم، وأعيد الموصول مع صلته مع كفاية الضمير إيذانا بأنهم قالوا ما قالوه بطريق العتو والاستكبار إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ عدول عن مقتضى الظاهر أيضا وهو أنا بما أرسل به كافرون، وفائدته- كما قالوا- الرد جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلما كأنهم قالوا: ليس ما جعلتموه معلوما مسلما من ذلك القبيل، وقال في الانتصاف: عدلوا عن ذلك حذرا مما في ظاهره من إثابتهم لرسالته وهم يجحدونها، وليس هذا موضع التهكم ليكون كقول فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون فإن الغرض إخبار كل واحد من المؤمنين والمكذبين عن حاله فلذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الإيمان بالرسالة احتياطا للكفر وغلوا في الإصرار فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أن نحروها. قال الأزهري: أصل العقر عند العرب قطع عرقوب البعير ثم استعمل في النحر لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره وإسناده إلى الكل مع أن المباشر البعض مجاز لملابسة الكل لذلك الفعل لكونه بين أظهرهم وهم متفقون على الضلال والكفر أو لرضا الكل به أو لأمرهم كلهم به كما ينبىء عنه قوله تعالى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر: 29]، وقيل: إن العقر مجاز لغوي عن الرضا بالنسبة إلى غير فاعله وليس بشيء.
وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي استكبروا عن امتثاله وهو ما بلغهم صالح عليه السلام من الأمر السابق فالأمر واحد الأوامر، وجوز أن يكون واحد الأمور أي استكبروا عن شأن الله تعالى ودينه وهو بعيد.
وأوجب بعضهم على الأول أن يضمن عَتَوْا معنى التولي أي تولوا عن امتثال أمره عاتين أو معنى الإصدار أي صدر عتوهم عن أمرهم ربهم وبسببه لأنه تعالى لما أمرهم بقوله: فَذَرُوها إلخ ابتلاهم فما امتثلوا فصاروا عاتين بسببه ولولا الأمر ما ترتب العقر والداعي للتأول بتولوا أو صدر أن عتا لا يتعدى بعن فتعديته به لذلك كما في قوله تعالى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف: 82] وبعضهم لا يقول بالتضمين بناء على أن عتا بمعنى استكبر كما في القاموس وهو يتعدى بعن فافهم وَقالُوا مخاطبين له عليه السلام بطريق التعجيز والإفحام على زعمهم الفاسد: يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب وأطلق للعلم به إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فإن كونك منهم يقتضي صدق ما تقول من الوعد والوعيد فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال الفراء والزجاج: أي الزلزلة الشديدة.
وقال مجاهد والسدي: هي الصيحة، وجمع بين القولين بأنه يحتمل أنه أخذتهم الزلزلة من تحتهم والصيحة من فوقهم، وقال بعضهم: الرجفة خفقان القلب واضطرابه حتى ينقطع، وجاء في موضع آخر الصيحة وفي آخر بالطاغية ولا منافاة بين ذلك كما زعم بعض الملاحدة فإن الصيحة العظيمة الخارقة للعادة حصل منها الرجفة لقلوبهم ولعظمها وخروجها عن الحد المعتاد تسمى الطاغية لأن الطغيان مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ أو يقال: إن الإهلاك بذلك بسبب طغيانهم وهو معنى بالطاغية وهذا الأخذ ليس أثر ما قالوا ما قالوا بل بعد ما جرى عليهم ما جرى من مبادئ العذاب في الأيام الثلاث كما ستعلمه إن شاء الله تعالى والفاء لا تأبى ذلك.
فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ هامدين موتى لا حراك بهم، وأصل الجثوم البروك على الركب.
وقال أبو عبيدة: الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئا بالأرض في حال سكونه بالليل، وأصبح يحتمل أن تكون تامة فجاثمين حال وأن تكون ناقصة فجاثمين خبر، والظرف على التقديرين متعلق به. وقيل: وهو خبر وجاثِمِينَ حال وليس بشيء لإفضائه إلى كون الإخبار بكونهم في دارهم مقصودا بالذات، والمراد من الدار البلد كما في قولك دار الحرب ودار الإسلام وقد جمع في آية آخري بإرادة منزل كل واحد الخاص به، وذكر النيسابوري أنه حيث ذكرت الرجفة وجدت الدار وحيث ذكرت الصيحة جمعت لأن الصيحة كانت من السماء كما في غالب الروايات لا من الأرض كما قبل فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة فقرن كل منهما بما هو أليق به فتدبر.
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ بعد أن جرى عليهم ما جرى على ما هو الظاهر مغتما متحسرا على ما فاتهم من الإيمان متحزنا عليهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ بالترغيب والترهيب ولم آل جهدا فلم يجد نفعا ولم تقبلوا مني. وصيغة المضارع في قوله سبحانه: وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ حكاية حال ماضية أي شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم، وخطابه عليه السلام لهم كخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلى المشركين حين ألقوا في قليب بدر حين نادى يا فلان بأسمائهم إنا وجدنا ما عدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم وذلك مبني على أن الله تعالى برد أرواحهم إليهم فيسمعون وذلك مما خص به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ويحتمل أنه عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التحزن والتحسر كما تخاطب الديار والأطلال، وجوز عطف فَتَوَلَّى على فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك لكنه خلاف الظاهر، وأبعد من ذلك ما قيل إن الآية على التقديم والتأخير فتقديرها: فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
وقصة ثمود على ما ذكر ابن إسحاق. وغيره أن عادا لما هلكوا عمرت ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض وعمروا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا في سعة من معاشهم فعتوا في الأرض وعبدوا غير الله تعالى فبعث الله تعالى إليهم صالحا وكانوا قوما عربا وكان صالح عليه السلام من أوسطهم نسبا وبعث إليهم وهو شاب فدعاهم إلى الله تعالى حتى شمط وكبر ولم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم بالدعاء والتخويف سألوه أن يريهم آية تصدق ما يقول فقال لهم: أية آية تريدون؟
فقالوا: تخرج غدا معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال لهم صالح: نعم فخرجوا وخرج معهم فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيد ثمود: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة- الصخرة منفردة ناحية الحجر يقال لها الكاثبة- ناقة مخترجة أي تشاكل البخت أو مخرجة على خلقة الجمل جوفاء وبراء فإن فعلت صدقناك وآمنا بك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي قالوا: نعم فصلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى عظما وهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشرافهم أن يؤمنوا به فمنعهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صعر كاهنهم فلما خرجت الناقة قال لهم: هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرضهم ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترده غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال له الآن بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها ثم ترفع رأسها وتتفحج لهم فيحلبون ما شاؤوا من اللبن فيشربون ويدخرون ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر تصدر من حيث ترد لضيقه عنها حتى إذا كان الغد يومهم فيشربون ما شاؤوا ويدخرون ما شاؤوا ليوم الناقة ولم يزالوا في سعة ورغد وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم وتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه وتشتو في بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره في برد وجدب فأضر ذلك بمواشيهم للأمر الذي يريده الله تعالى بهم والبلاء والاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود يقال لأحداهما عنيزة بنت غنم بن مجلز وتكنى بأم غنم وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزا مسنة ذات بنات حسان وذات مال من إبل، وبقر، وغنم ويقال للأخرى: صدوق بنت المختار وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة وكانت من أشد الناس عداوة لصالح: عليه السلام وكانتا يحبان عقر الناقة لما
أضرت من مواشيهما فدعت صدوق رجلا يقال له الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى فدعت ابن عم لها يقال له مصدع ابن مهرج وجعلت له نفسها إن هو فعل فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة أم غنم قدار بن سالف وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون إنه لزانية ولم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه فقالت: أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكان عزيزا منيعا في قومه فرضي وانطلق وهو ومصدع فاستغويا غواة ثمود فاتبعهم سبعة فكانوا تسعة رهط فانطلقوا ورصدوا الناقة حتى صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم فأمرت إحدى بناتها وكانت من أحسن الناس وجها فسفرت عن وجهها ليراها قدار ثم حثته على عقرها فشد على الناقة بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فتحدر سقبها من الجبل ثم طعن قدار في لبتها فنحرها فخرج أهل البلدة فاقتسموا لحمها فلما رأى سقبها ذلك انطلق هاربا حتى أتى جبلا منيعا يقال له قارة فرغا ثلاثا وكان صالح عليه السلام قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يدفع عنكم العذاب فخرجوا في طلبه فرأوا على الجبل وراموه فلم ينالوه وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح: لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب.
وعن ابن إسحاق أنه تبع السقب من التسعة أربعة وفيهم مصدع فرماه بسهم فأصاب قلبه ثم جر برجله فأنزله وألقوا لحمه مع لحم أمه وقال لهم صالح: انتهكتم حرمة الله تعالى فأبشروا بعذابه ونقمته فكانوا يهزؤأون به ويقولون متى هو وما آيته؟ فقال: تصبحون غدا وكان يوم الخميس ووجوهكم مصفرة وبعد غد ووجوهكم محمرة واليوم الثالث ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب فهم أولئك الرهط بقتله فأتوه ليلا فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطؤوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح: أنت قتلتهم ثم هموا به فمنع عنه عشيرته ثم لما رأوا العلامات طلبوه ليقتلوه فهرب ولحق بحي من ثمود يقال لهم: بنو غنم فنزل على سيدهم واسمه نفيل ويكنى بأبي هدب فطلبوه منه فقال: ليس لكم إليه سبيل فتركوه وشغلهم ما نزل بهم ثم خرج عليه السلام ومن معه إلى الشام فنزل رملة فلسطين ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وهلكوا جميعا إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سلف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فأطلق الله تعالى رجليها بعد أن عاينت العذاب فخرجت مسرعة حتى أتت وادي القرى فأخبرتهم الخبر ثم استسقت ماء فسقيت فلما شربت ماتت وكان رجل منهم يقال له: أبو رغال وهو أبو ثقيف في حرم الله تعالى فمنعه الحرم من عذاب الله تعالى فلما خرج أصابه ما أصابهم فدفن ومعه غصن من ذهب.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبره فأخبر بخبره فابتدره الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأسيافهم فحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن.
وروي أنه عليه السلام خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعا فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفا وخمسمائة دار.
وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم.
وأخرج أبو الشيخ عن وهب قال: إن صالحا لما نجا هو والذين معه قال: يا قوم إن هذه دار قد سخط الله تعالى عليها وعلى أهلها فأظعنوا وألحقوا بحرم الله تعالى وأمنه فأهلوا من ساعتهم بالحج وانطلقوا حتى وردوا مكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا فتلك قبورهم في غربي الكعبة.
وروى ابن الزبير عن جابر أن نبينا صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: «لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم»
وذكر محيي السنة البغوي أن المؤمنين الذين مع صالح كانوا أربعة آلاف وأنه خرج بهم إلى حضرموت فلما دخلها مات عليه السلام فسميت لذلك حضرموت ثم بني الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاضوراء، ثم نقل عن قوم من أهل العلم أنه توفي بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة ولعله المعول عليه،
وجاء أن أشقى
الأولين عاقر الناقة وأشقى الآخرين قاتل علي كرم الله تعالى وجهه وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك عليا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه.
وعندي أن أشقى الآخرين أشقى من أشقى الأولين. والفرق بينهما كالفرق بين علي كرم الله تعالى وجهه والناقة. وقد أشارت الأخبار بل نطقت بأن قاتل الأمير كان مستحلا قتله بل معتقدا الثواب عليه وقد مدحه أصحابه على ذلك فقال عمران بن حطان غضب الله تعالى عليه:
يا ضربة من تقى ما أراد بها
…
ألا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه
…
أوفى البرية عند الله ميزانا
ولله در من قال:
يا ضربة من شقي أوردته لظى
…
فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأنه لم يرد شيئا بضربته
…
إلا ليصلى غدا في الحشر نيرانا
إني لأذكره يوما فألعنه
…
كذاك ألعن عمران بن حطانا
وكون فعله كان عن شبهة تنجيه مما لا شبهة في كونه ضربا من الهذيان ولو كان مثل تلك الشبهة منجيا من عذاب مثل هذا الذنب فليفعل الشخص ما شاء سبحانك هذا بهتان عظيم. وقد ضربت بقدار عاقر الناقة الأمثال، وما ألطف قول عمارة اليمني:
لا تعجبا لقدار ناقة صالح
…
فلكل عصر ناقة وقدار
وفي هذه القصة روايات أخر تركناها اقتصارا على ما تقدم لأنه أشهر وَلُوطاً نصب بفعل مضمر أي أرسلنا معطوف على ما سبق أو به من غير حاجة إلى تقدير، وإنما لم يذكر المرسل إليهم على طرز ما سبق وما لحق لأن قومه- على ما قيل- لم يعهدوا باسم معروف يقتضي الحال ذكره عليه السلام مضافا إليهم كما في القصص من قبل ومن بعد وهو ابن هاران بن تارخ. وابن إسحاق ذكر بدل تاريخ آزر وأكثر النسابين على أنه عليه السلام ابن أخي إبراهيم صلى الله عليه وسلم ورواه في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج ابن عساكر عن سليمان بن صرد أن أبا لوط عليه السلام عم إبراهيم عليه السلام، وقيل: إن لوطا كان ابن خالة إبراهيم وكانت سارة زوجته أخت لوط وكان في أرض بابل من العراق مع إبراهيم فهاجر إلى الشام ونزل فلسطين وأنزل لوطا الأردن وهو كرة بالشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم وهي بلدة بحمص.
وأخرج إسحاق بن بشر، وابن عساكر عن ابن عباس قال: أرسل لوط إلى المؤتفكات وكانت قرى لوط أربع مدائن سدوم، وأمورا، وعامورا، وصبوير وكان في كل قرية مائة ألف مقاتل وكانت أعظم مدائنهم سدوم وكان لوط يسكنها وهي من بلاد الشام ومن فلسطين مسيرة يوم وليلة، وهذا اللفظ- على ما قال الزجاج- اسم أعجمي غير مشتق ضرورة أن العجمي لا يشتق من العربي وإنما صرف لخفته بسكون وسطه، وقيل: إنه مشتق من لطت الحوض إذا ألزقت عليه الطين، ويقال: هذا لوط بقلبي من ذلك أي ألصق به ولاط الشيء أخفاه. وقوله تعالى: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظرف لأرسلنا كما قال غير واحد. واعترض بأن الإرسال قبل وقت القول لا فيه كما تقتضيه هذه الظرفية، ودفع بأنه يعتبر الظرف ممتدا كما يقال زيد في أرض الروم فهو ظرف غير حقيقي يعتبر وقوع المظروف في بعض أجزائه كما قرره القطب، وجوز أن يكون لُوطاً منصوبا با ذكر محذوفا فيكون من عطف القصة على القصة، وإِذْ بدل من لوط بدل اشتمال بناء على أنها لا تلزم الظرفية، وقال أبو البقاء: إنه ظرف الرسالة محذوفا أي واذكر رسالة لوط إذ قال:
أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ استفهام على سبيل التوبيخ والتقريع أي أتفعلون تلك الفعلة التي بلغت أقصى القبح وغايته
ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي ما عملها أحد قبلكم في زمن من الأزمان فالباء للتعدية كما في الكشاف من قولك: سبقته بالكرة (1) إذا ضربتها قبله، ومنه ما صح من
قوله صلى الله عليه وسلم «سبقك بها عكاشه»
وتعقبه ابن حيان بأن معنى التعدية هنا قلق جدا لأن الباء المعدية في الفعل المعدي إلى واحد تجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة فإذا قلت: صككت الحجر بالحجر كان معناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجر يصك الحجر وكذلك دفعت زيدا بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيدا عمرا عن خالد أي جعلت زيدا يدفع عمرا عن خالد فللمفعول الأول تأثير في الثاني ولا يصح هذا المعنى فيما ذكر إلا بتكلف فالظاهر أن الباء للمصاحبة أي ما سبقكم أحد مصاحبا وملتبسا بها، ودفع بأن المعنى على التعدية، ومعنى سبقته بالكرة أسبقت كرتي كرته لأن السبق بينهما لا بين الشخصين أو الضربين وكذا في الآية ومثله يفهم من غير تكلف، وقال القطب الرازي: إن المعنى سبقت ضربه الكرة بضربي الكرة أي جعلت ضربي الكرة سابقا على ضربه الكرة. ثم استظهر جعل الباء للظرفية لعدم احتياجه إلى ما يحتاجه جعلها للتعدية أي ما سبقكم في فعل الفاحشة أحد ولعل الأمر كما قال، ومِنْ الأولى صلة لتأكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض، والجملة مستأنفة استئنافا نحويا مسوقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع والتوبيخ، وجوز أن يكون بيانا كأنه قيل: لم لا نأتيها؟ فقال: ما سبقكم بها أحد فلا تفعلوا ما لم تسبقوا إليه من المنكرات لأنه أشد، ولا يتوهم أن سبب إنكار الفاحشة كونها مخترعة ولولاه لما أنكرت إذ لا مجال له بعد كونها فاحشة. ووجه كون هذه الجملة مؤكدة للنكير أنها مؤذنة باختراع السوء ولا شك أن اختراعه أسوأ إذ لا مجال للاعتذار عنه كما اعتذروا عن عبادتهم الأصنام مثلا بقولهم: إنا وجدنا آباءنا.
وجوز أبو البقاء كون الجملة في موضع الحال من المفعول أو الفاعل، والنيسابوري جوز كونها صفة للفاحشة على حد:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ورد بأن الفاحشة هنا متعينة دون اللئيم، وكيفما كان فالمراد من نفي سبق أحد بها إياهم كونهم سابقين بها كل أحد ممن عداهم من العالمين لا مساواتهم الغير بها فقد أخرج البيهقي وغيره عن عمرو بن دينار قال ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط، والذي حملهم على ذلك- كما أخرج ابن عساكر. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أنهم كانت لهم ثمار في منازلهم وحوائطهم وثمار خارجة على ظهر الطريق وأنهم أصابهم قحط وقلة من الثمار فقال بعضهم لبعض: إنكم إن منعتم ثماركم هذه الظاهرة من أبناء السبيل كان لكم فيها عيش قالوا: بأي شيء نمنعها؟
قالوا: اجعلوا سنتكم أن تنكحوا من وجدتم في بلادكم غريبا وتغرموه أربعة دراهم فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك ففعلوه واستحكم فيهم. وفي بعض الطرق أن إبليس عليه اللعنة جاءهم عند ذكرهم ما ذكروا في هيئة صبي أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه فنكحوه ثم جرؤوا على ذلك. وجاء من رواية ابن أبي الدنيا عن طاوس أن قوم لوط إنما أتوا أولا النساء في أدبارهن ثم أتوا الرجال. وفي قوله: مِنَ الْعالَمِينَ دون من الناس مبالغة لا تخفى.
وقوله سبحانه: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ يحتمل الاستئناف البياني والنحوي وهو مبين لتلك الفاحشة، والإتيان هنا بمعنى الجماع، وقرأ ابن عامر. وجماعة أإنكم بهمزتين صريحتين، ومنهم من قرأ بتليين الثانية بغير مد، ومنهم من مد وهو حينئذ تأكيدا للإنكار السابق وتشديد للتوبيخ، وفي الإتيان بأن واللام مزيد تقبيح وتقريع كأن ذلك أمر لا
(1) قوله كرة بخطه والصواب كورة وهي معروفة حاكمها الآن الأمير عبد الله بوساطة الانكليز.
يتحقق صدوره عن أحد فيؤكد تأكيدا قويا، وفي إيراد لفظ الرِّجالَ دون الغلمان والمردان ونحوهما- كما قال شيخ الإسلام- مبالغة في التوبيخ كأنه قال: لتأتون أمثالكم شَهْوَةً نصب على أنه مفعول له أي لأجل الاشتهاء لا غير أو على الحالية بتأويل مشتهين، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية وناصبة تأتون لأنه بمعنى تشتهون، وفي تقييد الجماع الذي لا ينفك عن الشهوة بها إيذان بوصفهم بالبهيمية الصرفة وأن ليس غرضهم قضاء الشهوة، وفيه تنبيه على أنه ينبغي للعاقل أن يكون الداعي إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع لإقضاء الشهوة، وجوز أن يكون المراد الإنكار عليهم وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة القذرة الخبيثة كما ينبىء عنه قوله تعالى: مِنْ دُونِ النِّساءِ أي متجاوزين النساء اللاتي هن محل الاشتهاء عند ذوي الطباع السليمة كما يؤذن به قوله سبحانه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ فالجار والمجرور في موضع الحال من ضمير تأتون، وجوز أن يكون حالا من الرجال- على ما قاله أبو البقاء- أي تأتونهم منفردين عن النساء، وأن يكون في موضع الصفة لشهوة- على ما قيل- واستبعد تعلقه به، و «بل» للإضراب وهو إضراب انتقالي عن الإنكار المذكور إلى الإخبار بما أدى إلى ذلك وهو اعتياد الإسراف في كل شيء أو إلى بيان استجماعهم للعيوب كلها.
ويحتمل أن يكون إضرابا عن غير مذكور وهو ما توهموه من العذر في ذلك أي لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإسراف والخروج عن الحدود، وهذا في معنى ذمهم بالجهل كما في سورة النمل إلا أنه عبر بالاسم هنا وبالفعل هناك لموافقة رؤوس الآي المتقدمة في كل والله تعالى أعلم بأسرار كلامه وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي المستكبرين منهم المتصدين للعقد والحل إِلَّا أَنْ قالُوا استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي ما كان جوابهم شيء من الأشياء إلا قولهم أي لبعضهم الآخرين المباشرين للأمور أو ما كان جواب قومه الذين خاطبهم بما خاطبهم شيء من الأشياء إلا قول بعضهم لبعض معرضين عن مخاطبته عليه السلام أَخْرِجُوهُمْ أي لوطا ومن معه مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي بلدتكم التي أجمعتم فيها وسكنتم بها. والنظم الكريم من قبيل:
تحية بينهم ضرب وجيع والقصد منه نفي الجواب على أبلغ وجه لأن ما ذكر في حيز الاستثناء لا تعلق له بكلامه عليه السلام من إنكار الفاحشة وتعظيم أمرها ووسمهم بما هو أصل الشر كله. ولو قيل: وقالوا أخرجوهم لم يكن بهذه المثابة من الإفادة.
وقوله سبحانه: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ تعليل للأمر بالإخراج. ومقصود الأشقياء بهذا الوصف السخرية بلوط ومن معه وبتطهرهم من الفواحش وتباعدهم عنها وتنزههم عما في المحاش والافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أخرجوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد. وقرىء برفع «جواب» على أنه اسم كان، و «إلا أن قالوا» إلخ خبر قيل: وهو أظهر وإن كان الأول أقوى في الصناعة لأن الأعراف أحق بالاسمية. وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر.
وأيا ما كان فليس المراد أنهم لم يصدر عنهم في مقابلة كلام لوط عليه السلام ومواعظه إلا هذه المقالة الباطلة كما ينساق إلى الذهن بل إنه لم يصدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات المحاورات الجارية بينه عليه السلام وبينهم إلا هذه الكلمة الشنيعة، وإلا فقد صدر عنهم قبل ذلك كثير من الترهات كما حكي عنهم في غير موضع من الكتاب الكريم وكذا يقال في نظائره، قيل: وإنما جيء بالواو في وَما كانَ إلخ دون الفاء كما في النمل. والعنكبوت لوقوع الاسم قبل هنا والفعل هناك والتعقيب بالفعل بعد الفعل حسن دون التعقيب به بعد الاسم وفيه تأمل.
ولعل ذكر أَخْرِجُوهُمْ هنا وأَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ في [النمل: 56] إشارة إلى أنهم قالوا مرة هذا وأخرى
ذاك أو أن بعضا قال كذا وآخر قال كذا. وقال النيسابوري: إنما جاء في النمل أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ ليكون تفسيرا لهذه الكناية، وقيل: إن تلك السورة نزلت قبل الأعراف. وقد صرح في الأولى، وكني في الثانية اه. ولعل ما ذكرناه أولى فتأمل فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي من اختص به واتبعه من المؤمنين سواء كانوا من ذوي قرابته عليه السلام أم لا؟. وقيل:
ابنتاه ريثا ويغوثا. وللأهل معان ولكل مقام مقال. وهو عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه في باب الوصية الزوجة للعرف. ولقوله سبحانه: «قال لأهله امكثوا. وسار بأهله» فتدفع الوصية لها إن كانت كتابية أو مسلمة وأجازت الورثة.
وعند الإمامين أهل الرجل كل من في عياله ونفقته غير مماليكه وورثته، وقولهما- كما في شرح التكملة- استحسان.
وأيده ابن الكمال بهذه الآية لأنه لا يصح فيها أن يكون بمعنى الزوجة أصلا لقوله سبحانه: إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنه استثناء من أهله وحينئذ لا يصح الاستثناء، وأنت تعلم أن الكلام في المطلق على القرينة لا في الأهل مطلقا واسم امرأته عليه السلام وأهله. وقيل: وآلهة كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي بعضا منهم فالتذكير للتغليب ولبيان استحقاقهما لما يستحقه المباشرون للفاحشة وكانت تسر الكفر وتوالي أهله فهلكت كما هلكوا.
وجوز أن يكون المعنى كانت مع القوم الغابرين فلا تغليب والغابر بمعنى الباقي ومنه قول الهذلي:
فغبرت بعدهم بعيش ناصب ويجيء بمعنى الماضي والذاهب ومنه قول الأعشى: في الزمن الغابر فهو من الأضداد كما في الصحاح. وغيره، ويكون بمعنى الهالك أيضا. وفي بقاء امرأته مع أولئك القوم روايتان ثانيتهما أنه عليه السلام أخرجها مع أهله ونهاهم عن الالتفات فالتفتت هي فأصابها حجر فهلكت. والآية هنا محتملة للأمرين. والحسن وقتادة يفسران الغبور هنا بالبقاء في عذاب الله تعالى. وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة لهذا الكلام. والجملة استئناف وقع جوابا نشأ عن الاستثناء كأنه قيل:
فما كان حالها؟ فقيل: كانت من الغابرين.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي نوعا من المطر عجيبا وقد بينه قوله سبحانه: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر: 74] . وفي الخازن أن تلك الحجارة كانت معجونة بالكبريت والنار. وظاهر الآية أنه أمطر عليهم كلهم. وجاء في بعض الآثار أنه خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم حتى إن تاجرا منهم كان في الحرم فوقفت له حجر أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه. وفرق بين مطر وأمطر فعن أبي عبيدة أن الثلاثي في الرحمة والرباعي في العذاب ومثله عن الراغب، وفي الصحاح عن أناس أن مطرت السماء وأمطرت بمعنى، وفي القاموس لا يقال أمطرهم الله تعالى إلا في العذاب. وظاهر كلام الكشاف في الأنفال الترادف كما في الصحاح لكنه قال: وقد كثر الإمطار في معنى العذاب وذكر هنا أنه يقال: مطرتهم السماء وواد ممطور ويقال:
أمطرت عليهم كذا أي أرسلته إرسال المطر. وحاصل الفرق- كما في الكشف- ملاحظة معنى الإصابة في الأول والإرسال في الثاني ولهذا عدّي بعلى، وذكر ابن المنير أن مقصود الزمخشري الرد على من يقول: إن مطرت في الخير وأمطرت في الشر ويتوهم أنها تفرقة وضعية فبين أن أمطرت معناه أرسلت شيئا على نحو المطر وإن لم يكن إياه حتى لو أرسل الله تعالى من السماء أنواعا من الخير لجاز أن يقال فيه: أمطرت السماء خيرا أي أرسلته إرسال المطر فليس للشر خصوصية في هذه الصيغة الرباعية ولكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئا سوى المطر إلا وكان عذابا فظن أن الواقع اتفاقا مقصود في الوضع وليس به انتهى. ويعلم منه- كما قال الشهاب- أن كلام أبي عبيدة. وإضرابه مؤول وأن رد بقوله تعالى: عارِضٌ مُمْطِرُنا [الأحقاف: 24] فإنه عنى به الرحمة. ولا يخفى أنه لو قيل: إن التفرقة الاستعمالية إنما هي بين الفعلين دون متصرفاتهما لم يتأت هذا الرد إلا أن كلامهم غير صريح في ذلك، ولعل البعض صرح بما يخالفه ثم إن مطرا إما مفعول به أو مفعول مطلق فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي مآل أولئك الكافرين
المقترفين لتلك الفعلة الشنعاء. وهذا خطاب لكل من يتأتى منه التأمل والنظر تعجيبا من حالهم وتحذيرا من أفعالهم.
وقد مكث لوط عليه السلام فيهم- على ما في بعض الآثار- ثلاثين سنة يدعوهم إلى ما فيه صلاحهم فلم يجيبوه وكان إبراهيم عليه السلام يركب على حماره فيأتيهم وينصحهم فيأبون أن يقبلوا فكان يأتي بعد أن أيس منهم فينظر إلى سدوم ويقول: سدوم أي يوم لك من الله تعالى سدوم حتى بلغ الكتاب أجله فكان ما قص الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم. وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل ذلك.
ثم إن لوطا عليه السلام كما أخرج إسحاق بن بشر. وابن عساكر عن الزهري- لما عذب قومه لحق بإبراهيم عليه السلام فلم يزل معه حتى قبضه الله تعالى إليه. وفي هذه الآيات دليل أن اللواطة من أعظم الفواحش.
وجاء في خبر أخرجه البيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وصححه الحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله تعالى سبعة من خلقه فوق سبع سماوات فردد لعنة على واحد منها ثلاثا ولعن بعد كل واحد لعنة فقال: ملعون ملعون ملعون من عمل عمل قوم لوط» الحديث.
وجاء أيضا أربعون يصبحون في غضب الله تعالى ويمسون في سخط الله تعالى وعد منهم من يأتي الرجل.
وأخرج ابن أبي الدنيا. وغيره عن مجاهد رضي الله تعالى عنه إن الذي يعمل ذلك العمل لو اغتسل بكل قطرة من السماء وكل قطرة من الأرض لم يزل نجسا أي إن الماء لا يزيل عنه ذلك الإثم العظيم الذي بعده عن ربه. والمقصود تهويل أمر تلك الفاحشة.
وألحق بها بعضهم السحاق وبدا أيضا في قوم لوط عليه السلام فكانت المرأة تأتي المرأة فعن حذيفة رضي الله تعالى عنه إنما حق القول على قوم لوط عليه السلام حين استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال.
وعن أبي حمزة رضي الله تعالى عنه قلت لمحمد بن علي: عذب الله تعالى نساء قوم لوط بعمل رجالهم فقال:
الله تعالى أعدل من ذلك استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء. وآخرون إتيان المرأة في عجيزتها واستدل بما
أخرج غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال على المنبر: سلوني؟ فقال ابن الكواء: تؤتى النساء في أعجازهن؟
فقال كرم الله تعالى وجهه: سفلت سفل الله تعالى بك ألم تسمع قوله تعالى: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ الآية.
ولا يخفى أن ذلك لا يتم إلا بطريق القياس وإلا فالفاحشة في الآية مبينة بما علمت. نعم جاء في آثار كثيرة ما يدل على حرمة إتيان الزوجة في عجيزتها والمسألة كما تقدم خلافية والمعتمد فيها الحرمة.
ولا فرق في اللواطة بين أن تكون بمملوك أو تكون بغيره. واختلاف في كفر مستحل وطء الحائض ووطء الدبر.
وفي التتار خانية نقلا عن السراجية اللواطة بمملوكة أو مملوكته أو امرأته حرام إلا أنه لو استحله لا يكفر وهذا بخلاف اللواطة بأجنبي فإنه يكفر مستحلها قولا واحدا. وما ذكر مما يعلم ولا يعلم كما في الشرنبلالية لئلا يتجرأ الفسقة عليهم بظنهم حله.
واختلف في حد اللواطة فقال الإمام: لا حد بوطء الدبر مطلقا وفيه التعزير ويقتل من تكرر منه على المفتى به كما في الأشباه. والظاهر على ما قال البيري أنه يقتل في المرة الثانية لصدق التكرار عليه وقال الإمامان: إن فعل في الأجانب حد كحد الزنا وإن في عبده أو أمته أو زوجته بنكاح صحيح أو فاسد فلا حد إجماعا كما في الكافي وغيره بل يعزر في ذلك كله ويقتل من اعتاده. وفي الحاوي القدسي وتكلموا في هذا التعزير من الجلد ورميه من أعلى موضع وحبسه في أنتن بقعة وغير ذلك الإخصاء والجب والجلد أصح. وفي الفتح يعزر ويسجن حتى يموت أو يتوب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حد اللواطة القتل للفاعل والمفعول ورواه مرفوعا، وفي رواية أخرى عنه أنه سئل ما حد اللوطي فقال: ينظر أعلى بناء في القرية فيلقى منه منكسا ثم يتبع بالحجارة. قال في الفتح: وكأن مأخذ هذا أن قوم لوط أهلكوا بذلك حيث حملت قراهم ونكست بهم ولا شك في اتباع الهدم بهم وهم نازلون. وعن علي كرم الله
تعالى وجهه أنه رجم لوطيا وهو أشبه شيء بما قص الله تعالى من إهلاك قوم لوط عليه السلام بإمطار الحجارة عليهم.
وصححوا أنها لا تكون في الجنة لأنه سبحانه استقبحها وسماها فاحشة والجنة منزهة عن ذلك. وفي الأشباه أن حرمتها عقلية فلا وجود لها في الجنة، وقيل: سمعية فتوجد أي فيمكن أن توجد. وكأنه أراد بالحرمة هنا القبح إطلاقا لاسم السبب على المسبب أي إن قبحها عقلي بمعنى أنه يدرك بالعقل وإن لم يرد به الشرع. وليس هذا مذهب المعتزلة كما لا يخفى ونقل الجلال السيوطي عن ابن عقيل الحنبلي قال: جرت هذه المسألة بين أبي علي ابن الوليد المعتزلي وبين أبي يوسف القزويني فقال ابن الوليد: لا يمنع أن يجعل ذلك من جملة اللذات في الجنة لزوال المفسدة لأنه إنما منع في الدنيا لما فيه من قطع النسل وكونه محلا للأذى وليس في الجنة ذلك ولهذا أبيح شرب الخمر لما ليس فيه من السكر والعربدة وزوال العقل بل اللذة الصرفة فقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه. الميل إلى الذكور عاهة وهو قبيح في نفسه لأنه محل لم يخلق للوطء ولهذا لم يبح في شريعة بخلاف الخمر فقال ابن الوليد: هو قبيح وعاهة للتلويث بالأذى ولا أذى في الجنة فلم يبق إلا مجرد الالتذاذ انتهى. وأنا أرى أن إنكار قبح اللواطة عقلا مكابرة ولهذا كانت الجاهلية تعير بها ويقولون في الذم فلان مصفر استه ولا أدري هل يرضى ابن الوليد لنفسه أن يؤتى في الجنة أم لا فإن رضي اليوم أن يؤتى غدا فغالب الظن أن الرجل مأبون أو قد ألف ذلك وإن لم يرض لزمه الإقرار بالقبح العقلي.
وإن ادعى أن عدم رضائه لأن الناس قد اعتادوا التعبير به وذلك مفقود في الجنة قلنا له: يلزمك الرضا به في الدنيا إذا لم تعيّر ولم يطلع عليك أحد فإن التزمه فهو كما ترى ولا ينفعه ادعاء الفرق بين الفاعل والمفعول كما لا يخفى على الأحرار. وصرحوا بأن حرمة اللواطة أشد من حرمة الزنا لقبحها عقلا وطبعا وشرعا والزنا ليس بحرام كذلك وتزول حرمته بتزويج وشراء بخلافها وعدم الحد عند الإمام لا لخفتها بل للتغليظ لأنه مطهر على قول كثير من العلماء وإن كان خلاف مذهبنا، وبعض الفسقة اليوم دمرهم الله تعالى يهونون أمرها ويتمنون بها ويفتخرون بالإكثار منها. ومنهم من يفعلها أخذا للثأر ولكن من أين، ومنهم يحمد الله سبحانه عليها مبنية للمفعول وذلك لأنهم نالوا الصدارة بإعجازهم نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. واعلم أن للواطة أحكاما أخر فقد قالوا: إنه لا يجب بها المهر ولا العدة في النكاح الفاسد ولا في المأتي بها لشبهة ولا يحصل بها التحليل للزوج الأول ولا تثبت بها الرجعة ولا حرمة المصاهرة عند الأكثر ولا الكفارة في رمضان في رواية ولو قذف بها لا يحد ولا يلاعن خلافا لهما في المسألتين كما في البحر أخذا من المجتبي. وفي الشرنبلالية عن السراج يكفي في الشهادة عليها عدلان لا أربعة خلافا لهما أيضا. هذا ولم أقف للسادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم على ما هو من باب الإشارة في قصة قوم لوط عليه السلام، وذكر بعضهم في قصة قوم صالح عليه السلام بعد الإيمان بالظاهر أن الناقة هي مركب النفس الإنسانية لصالح عليه السلام ونسبتها إليه سبحانه لكونه مأمورة بأمره عز وجل مختصة به في طاعته وقربه. وما قيل: إن الماء قسم بينها وبينهم لها شرب يوم ولهم شرب يوم إشارة إلى أن مشربهم من القوة العاقلة النظرية. وما روي أنها يوم شربها كانت تتفحج فيحلب منها اللبن حتى تملأ الأواني إشارة إلى أن نفسه تستخرج بالفكر من علوم الكلية الفطرية العلوم النافعة للناقصين من علوم الأخلاق والشرائع. وخروجها من الجبل خروجها من بدن صالح عليه السلام.
وقال آخرون: إن الناقة كانت معجزة صالح عليه السلام وذلك أنهم سألوه أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر فخرجت فسقيت سر السر فأعطت بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية ثم قال لهم. ذروها ترتع في رياض القدس وحياض الإنس وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ من مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وهو عذاب الانقطاع عن الوصول إلى الحقيقة وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ أي مستعدين للخلافة وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي أرض القلب تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها وهي المعاملات بالصدق قُصُوراً تسكنون
فيها وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ وهي جبال أطوار القلب بُيُوتاً هي مقامات السائرين إلى الله.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهي الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا من أوصاف القلب والروح أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ليدعو إلى الأوصاف النورانية فَعَقَرُوا النَّاقَةَ بسكاكين المخالفة فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لضعف قلوبهم وعدم قوة علمه فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ موتى لا حراك بهم إلى حظيرة القدس.
وذكر البعض أن الناقة والسقب صورتا الإيمان بالله تعالى والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام وقد ظهرا بالذات وبالواسطة من الحجر الذي تشبهه قلوب القوم وعقرهم للناقه من قبيل ذبح يحيى عليه السلام للموت الظاهر في صورة الكبش يوم القيامة. وفي ذلك دليل على أنهم من أسوأ الناس استعدادا وأتمهم حرمانا. ويدل على سوء حالهم. أن الشيخ الأكبر قدس سره لم ينظمهم في فصوص الحكم في سلك قوم نوح عليه السلام حيث حكم لهم بالنجاة على الوجه الذي ذكره. وكذا لم ينظم في ذلك السلك قوم لوط عليه السلام وكأن ذلك لمزيد جهلهم وبعدهم عن الحكمة وإتيانهم البيوت من غير أبوابها وقذارتهم ودناءة نفوسهم. والذي عليه المتشرعون أن أولئك الأقوام كلهم حصب جهنم لا ناجي فيهم والله تعالى أحكم الحاكمين.
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً عطف على ما مر. والمراد أرسلنا إلى مدين إلخ. ومدين وسمع مديان في الأصل علم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ومنع صرفه للعلمية والعجمة ثم سميت به القبيلة، وقيل: هو عربي اسم لماء كانوا عليه، وقيل: اسم بلد ومنع صرفه للعلمية والتأنيث فلا بد من تقدير مضاف حينئذ أي أهل مدين مثلا أو المجاز. والياء على هذا عند بعض زائدة. وعن ابن بري الميم زائدة إذ ليس في كلامهم فعيل وفيه مفعل.
وقال آخرون: إنه شاذ كمريم إذ القياس إعلاله كمقام. عند المبرد ليس بشاذ قيل وهو الحق لجريانه على الفعل وشعيب قيل تصغير شعب بفتح فسكون اسم جبل أو شعب بكسر فسكون الطريق في الجبل. واختير أنه وضع مرتجلا هكذا. والقول بأن القول بالتصغير باطل لأن أسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز تصغيرها فيه نظر لأن الممنوع التصغير بعد الوضع لا المقارن له ومدعي ذلك قد يدعي هذا وهو على ما وجد بخط النووي في تهذيبه ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام، وقيل: ابن ميكيل بن يشجر بن لاوي بن يعقوب، وبعضهم يقول:
ميكائيل بدل ميكيل، ونقل ذلك عن خط الذهبي في اختصار المستدرك. وآخر يقول ملكاني بدله.
وذكر ابن أم ميكيل بنت لوط عليه السلام. وأخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن الشرقي ابن القطامي- وكان نسابة- أن شعيبا هو يثروب بالعبرانية وهو ابن عيفاء بن يوبب- بمثناة تحتية أوله وواو وموحدتين بوزن جعفر- بن إبراهيم عليه السلام، وقيل في نسبه غير ذلك،
وكان النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذ ذكر شعيب يقول: «ذلك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه»
أي محاورته لهم، وكأنه- كما قيل- عنى عليه الصلاة والسلام ما ذكر في هذه السورة كما يعلم بالتأمل فيه. وبعث رسولا إلى أمتين مدين وأصحاب الأيكة، قال السدس: وعكرمة رضي الله تعالى عنهما. ما بعث الله تعالى نبيا مرتين إلا شعيبا مرة إلى مدين فأخذهم الله تعالى بالصيحة، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة.
وأخرج ابن عساكر في تاريخه من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا أن قوم مدين. وأصحاب الأيكة آيتان بعث الله تعالى إليهما شعيبا. وهو- كما قال ابن كثير- غريب وفي رفعه نظر واختار أنهما أمة واحدة، واحتج له بأن كلا
منهما وعظ بوفاء الميزان والمكيال وهو يدل على أنهما واحدة وفيه ما لا يخفى. ومن الناس من زعم أنه عليه السلام بعث إلى ثلاث أمم، والثالثة أصحاب الرس. والقول بأنه عليه السلام كان أعمى لا عكاز له يعتمد عليه بل قد نص العلماء ذوو البصيرة على أن الرسول لا بد أن يكون سليما من منفر ومثلوه بالعمى، والبرص، والجذام، ولا يرد بلاء أيوب. وعمى يعقوب بناء على أنه حقيقي لطروئه بعد الأنباء والكلام فيما قارنه، والفرق أن هذا منفر بخلافه فيمن استقرت نبوته. وقد يقال: إن صح ذلك فهو من هذا القبيل.
قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية إرساله إليهم كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل قال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ مر تفسيره قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي معجزة عظيمة ظاهرة من مالك أموركم.
ولم تذكر معجزته عليه السلام في القرآن العظيم كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام فيه.
والقول بأنه لم يكن له عليه السلام معجزة غلط لأن الفاء في قوله سبحانه: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ لترتيب الأمر على مجيء البينة، واحتمال كونها عاطفة على اعْبُدُوا بعيد، وإن كانت عبادة الله تعالى موجبة للاجتناب عن المناهي التي معظمها بعد الكفر البخس فكأنه قيل: قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتي أوجبت عليكم الإيمان بها والأخذ بما أمرتكم به فأوفوا إلخ ولو ادعى مدع النبوة بغير معجزة لم تقبل منه لأنها دعوى أمر غير ظاهر وفيه إلزام للغير ومثل ذلك لا يقبل من غير بينة ومن الناس من زعم أن البينة نفس شعيب. ومنهم من زعم أن المراد بالبينة الموعظة وأنها نفس فَأَوْفُوا إلخ وليس بشيء كما لا يخفى. وقال الزمخشري: إن من معجزاته عليه السلام ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه وولادة الغنم. الدرع خاصة حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها ووقوع عصا آدم عليه السلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام فكانت معجزات لشعيب اه.
وفيه نظر لأن ذلك متأخر عن المقاولة فلا يصح تفريع الأمر عليه، ولأنه يحتمل أن يكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصا لنبوته بل في الكشف أن هذا متعين لأن موسى أدرك شعيبا عليه السلام بعد هلاك قومه ولأن ذلك لم يكن معرض التحدي.
وزعم الإمام أن الإرهاص غير جائز عند المعتزلة، ولهذا جعل ذلك معجزة لشعيب عليه السلام نظر فيه الطيبي بأن الزمخشري قال في آل عمران في تكليم الملائكة عليهم السلام لمريم. إنه معجزة لزكريا أو إرهاص لنبوة عيسى عليهما السلام، والمراد بالكيل ما يكاد به مجازا كالعيش بمعنى ما يعاش به. ويؤيده أنه قد وقع في سورة الْمِكْيالَ [هود: 84، 85] ، وكذا عطف الْمِيزانَ عليه هنا، فإن المتبادر منه الآلة وإن جاز كونه مصدرا بمعنى الوزن كالميعاد بمعنى الوعد، وقيل: إن الكيل وما عطف عليه مصدران والكلام على الإضمار أي أوفوا آلة الكيل والوزن وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أي لا تنقصوهم يقال بخسه حقه إذا نقصه إياه ومنه قيل للمكس البخس. وفي أمثالهم تحسبها حمقاء وهي باخس أي ذات بخس. وتعدى إلى مفعولين أولهما النَّاسَ والثاني أَشْياءَهُمْ أي الكائنة في المبايعات من الثمن والمبيع، وفائدة التصريح بالنهي عن النقص بعد الأمر بالإيفاء تأكيد ذلك الأمر وبيان قبح ضده، وقد يراد بالأشياء الحقوق مطلقا فإنهم كانوا مكّاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم وكانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه الجياد ويقولون دارهمك هذه زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس. وروي أنه يعطونه أيضا بدلها زيوفا فكأنه لما نهوا عن البخس في الكيل والوزن نهوا عن البخس والمكس في كل شيء قيل: ويدخل في ذلك بخس الرجل حقه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله على ما هو عليه
للسائل عنه. وكثير ممن انتسب إلى أهل العلم اليوم مبتلون بهذا البخس وليتهم قنعوا به بل جمعوا حشفا وسوء كيلة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبدأ عليه السلام بذكر هذه الواقعة- على ما قال الإمام- لأن عادة الأنبياء عليهم السلام أنهم إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالا أكثر من إقبالهم على سائر الأنواع بدؤوا بمنعهم عن ذلك النوع، وكان قومه عليه السلام مشغولين بالبخس والتطفيف أكثر من غيره، والمراد من الناس ما يعمهم وغيرهم أي لا تبخسوا غيركم ولا يبخس بعضكم بعضا وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالجور أو به وبالكفر بَعْدَ إِصْلاحِها أي إصلاح أمرها أو أهلها بالشرائع، فالإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله بحذف المضاف، والفاعل الأنبياء وأتباعهم.
وجوز أن لا يقدر مضاف ويعتبر التجوز في النسبة الإيقاعية لأن إصلاح من في الأرض إصلاح لها، وأن تكون الإضافة من إضافة المصدر إلى الفاعل على الإسناد المجازي للمكان، وأن تكون على معنى في أي بعد إصلاح الأنبياء فيها. ويأبى الحمل على الظاهر لأن الإصلاح يتعلق بالأرض نفسها كتعميرها وإصلاح طرقها لا تفسدوا في الأرض ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه، وأيا ما كان فإفراد اسم الإشارة وتذكيره ظاهر.
ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقا أو في الإنسانية وحسن الأحدوثة وما يطلبونه من التكسب والتربح لأن الناس إذا عرفوهم بالأمانة رغبوا في معاملتهم ومتاجرتهم، وقيل: ليس المراد من خَيْرٌ هنا معنى الزيادة لأنه ليس للتفضيل بل المعنى ذلكم نافع لكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قيل: المراد بالإيمان معناه اللغوي، وتخص الخيرية بأمر الدينا أي إن كنتم مصدقين لي في قولي، ومثل هذا الشرط- على ما قال الطيبي- إنما يجاء به في آخر الكلام للتأكيد، ويعلم من هذا أن شعيبا عليه السلام كان مشهورا عندهم بالصدق والأمانة كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم مشهورا عند قومه بالأمين، وقال بعض الذاهبين إلى ما ذكر: إن تعليق الخيرية على هذا التصديق بتأويل العلم بها وإلا فهو خير مطلقا.
وقال القطب الرازي: إن ذلك ليس شرطا للخيرية نفسها بل لفعلهم كأنه قيل: فأتوا بهم إن كنتم مصدقين بي فلا يرد أنه لا توقف للخيرية في الإنسانية على تصديقهم به. قيل: المراد به مقابل الكفر وبالخيرية ما يشمل أمر الدنيا والآخرة أي ذلكم خير لكم في الدارين بشرط أن تؤمنوا، وشرط الإيمان لأنّ الفائدة من حصول الثواب مع النجاة من العقاب ظاهرة مع الإيمان خفية مع فقده للانغماس في غمرات الكفر، وبنى بعضهم نفع ترك البخس ونحوه في الآخرة على أن الكفار يعذبون على المعاصي كما يعذبون على الكفر فيكون الترك خيرا لهم بلا شبهة لكن لا يخفى أنه إذا فسر الإفساد في الأرض بالإفساد فيها بالكفر لا يكون لهذا التعليق على الإيمان معنى كما لا يخفى، وإخراجه من حيز الإشارة بعيد جدا.
وزعم الخيالي أن الأظهر أن ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ معترضة والشرط متعلق بما سبق من الأوامر والنواهي، وكأنه التزم ذلك لخفاء أمر الشرطية عليه. وقد فر من هرة وقع في أسد وهرب من القطر ووقف تحت الميزاب فاعتبروا يا أولي الألباب.
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ أي طريق من الطرق الحسية تُوعِدُونَ أي تخوفون من آمن بالقتل كما نقل عن الحسن، وقتادة، ومجاهد، وروي عن ابن عباس أن بلادهم كانت يسيرة وكان الناس يمتارون منهم فكانوا يقعدون على الطريق ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا ويقولون لهم: إنه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم.
ويجوز أن يكون القعود على الصراط خارجا مخرج التمثيل كما فيما حكي عن قول الشيطان: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: 16] أي ولا تقعدوا بكل طريق من طرق الدين كالشيطان، وإليه يشير ما روي عن مجاهد أيضا. والكلية مع أن دين الله الحق واحد باعتبار تشعبه إلى معارف وحدود. وأحكام وكانوا إذا رأوا أحدا يشرع
في شيء منها منعوه بكل ما يمكن من الحيل. وقيل: كانوا يقطعون الطريق فنهوا عن ذلك. وروي عن أبي هريرة. وعبد الرحمن بن زيد. ولعل المراد به ما يرجع إلى أحد القولين الأولين وإلا ففيه خفاء وإن قيل: إن في الآية عليه مبالغة في الوعيد وتغليظ ما كانوا يرومونه من قطع السبيل.
وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الطريق الموصلة إليه وهي الإيمان أو السبيل الذي قعدوا عليه فوضع المظهر موضع المضمر بيانا لكل صراط دلالة على عظم ما تصدق عليه وتقبيحا لما كانوا عليه، وقوله سبحانه: مَنْ آمَنَ بِهِ مفعول تَصُدُّونَ على أعمال الأقرب لا تُوعِدُونَ خلافا لما يوهمه كلام الزمخشري إذ يجب عند الجمهور في مثل ذلك حينئذ إظهار ضمير الثاني. ولا يجوز حذفه إلا في ضرورة الشعر فيلزم أن يقال: تصدونهم وإذا جعل تَصُدُّونَ بمعنى تعرضون يصير لازما ولا يكون مما نحن فيه. وضمير بِهِ لله تعالى أو لكل صراط أو سبيل الله تعالى لأن السبيل يذكر ويؤنث كما قيل، وجملة تُوعِدُونَ وما عطف عليه في موضع الحال من ضمير تَقْعُدُوا أي موعدين وصادين: وقيل: هي على التفسير الأول استئناف بياني، والأظهر ما ذكرنا وَتَبْغُونَها عِوَجاً أي وتطلبون لسبيل الله تعالى عوجا بإلقاء الشبه أو بوصفها للناس بما ينقصها وهي أبعد من شائبة الاعوجاج:
وهذا أخبار فيه معنى التوبيخ وقد يكون تهكما بهم حيث طلبوا ما هو محال إذ طريق الحق لا يعوج. وفي الكلام ترق كأنه قيل: ما كفاكم أنكم توعدون الناس على متابعة الحق وتصدونهم عن سبيل الله تعالى حتى تصفونه بالاعوجاج ليكون الصد بالبرهان والدليل. وعلى ما روي عن أبي هريرة. وابن زيد جاز أن يراد يبتغونها عوجا عيشهم في الأرض واعوجاج الطريق عبارة عن فوات أمنها.
وذكر الطيبي أن معنى هذا الطلب حينئذ معنى اللام في قوله سبحانه: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] سائر الأوجه في الكلام الحذف والإيصال.
وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عددكم فَكَثَّرَكُمْ فوفر عددكم بالبركة في النسل كما روي عن ابن عباس.
وحكي أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله تعالى في نسلها البركة والنماء فكثروا وفشوا.
وجوز الزجاج أن يكون المعنى إذ كنتم مقلين فقراء فجعلكم مكثرين موسرين، أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد. وإِذْ مفعول اذْكُرُوا أو ظرف لمقدر كالحادث أو النعم أي اذكروا ذلك الوقت أو ما فيه وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم كقوم نوح، وعاد، وثمود واعتبروا بهم وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ من الشرائع والأحكام وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا به أو لم يفعلوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا خطاب للكفار ووعيد لهم أي تربصوا لترواحكم الله تعالى بيننا وبينكم فإنه سبحانه سينصر المحق على المبطل ويظهره عليه أو هو خطاب للمؤمنين وموعظة لهم وحث على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله تعالى بينهم وينتقم لهم منهم. ويجوز أن يكون خطابا للفريقين أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوؤهم من إيمان من آمن منهم حتى يحكم فيميز الخبيث من الطيب، والظاهر الاحتمال الأول. وكان المقصود إن أيمان البعض لا ينفعكم في دفع بلاء الله تعالى وعذابه وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه فهو في غاية السداد.