الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة التّوبة
بسم الله الرحمن الرحيم مدنية كما روى ابن عباس وعبد الله بن الزبير وقتادة وخلق كثير، وحكى بعضهم الاتفاق عليه.
وقال ابن الفرس: هي كذلك الا آيتين منها لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] إلخ، وهو مشكل بناء على ما في المستدرك عن أبي بن كعب. وأخرجه أبو الشيخ في تفسيره عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن آخر آية نزلت لَقَدْ جاءَكُمْ إلخ، ولا يتأتى هنا ما قالوه في وجه الجمع بين الأقوال المختلفة في آخر ما نزل، واستثنى آخرون ما كانَ لِلنَّبِيِّ [التوبة: 113] الآية بناء على ما ورد أنها نزلت في
قوله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» .
وقد نزلت كما قال ابن كيسان على تسع من الهجرة ولها عدة أسماء، التوبة لقوله تعالى فيها: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التوبة: 117] إلى قوله سبحانه: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة: 118]، والفاضحة. أخرج أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما عن ابن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما سورة التوبة قال: التوبة هي الفاضحة ما زالت تنزل ومنهم ومنهم حتى ظننا أنه لا يبقى أحد منا إلا ذكر فيها، وسورة العذاب. أخرج الحاكم في مستدركه عن حذيفة قال: التي يسمون سورة التوبة هي سورة العذاب.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن جبير قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا ذكر له سورة براءة وقيل سورة التوبة قال: هي إلى العذاب أقرب ما أقلعت عن الناس حتى ما كادت تدع منهم أحدا، والمقشقشة. أخرج ابن مردويه وغيره عن زيد بن أسلم أن رجلا قال لعبد الله: سورة التوبة فقال ابن عمر: وأيتهن سورة التوبة فقال براءة فقال رضي الله تعالى عنه: وهل فعل بالناس الأفاعيل إلا هي ما كنا ندعوها إلا المقشقشة أي المبرئة ولعله أراد عن النفاق، والمنقرة. أخرج أبو الشيخ عن عبيد بن عمير قال: كانت براءة تسمى المنقرة نقرت عما في قلوب المشركين، والبحوث بفتح الباء صيغة مبالغة من البحث بمعنى اسم الفاعل كما روى ذلك الحاكم عن المقداد، والمبعثرة. أخرج ابن المنذر عن محمد بن إسحاق قال: كانت براءة تسمى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعده المبعثرة لما كشفت من سرائر الناس، وظن أنه تصحيف المنقرة من بعد الظن.
وذكر ابن الفرس أنها تسمى الحافرة أيضا لأنها حفرت عن قلوب المنافقين وروي ذلك عن الحسن، والمثيرة كما روي عن قتادة لأنها أثارت المخازي والقبائح، والمدمدمة كما روي عن سفيان عن عيينة، والمخزية والمنكلة والمشردة كما ذكر ذلك السخاوي وغيره، وسورة براءة. فقد أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب، وغيرهما
عن أبي عطية الهمذاني قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورة النور، وهي مائة وتسع وعشرون عند الكوفيين ومائة وثلاثون عند الباقين.
ووجه مناسبتها للأنفال أن في الأولى قسمة الغنائم وجعل خمسها لخمسة أصناف على ما علمت وفي هذه قيمة الصدقات وجعلها لثمانية أصناف على ما ستعلم إن شاء الله تعالى، وفي الأولى أيضا ذكر العهود وهنا نبذها وأنه تعالى أمر في الأولى بالاعداد فقال سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60] ونعى هنا على المنافقين عدم الاعداد بقوله عز وجل: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة: 46] وأنه سبحانه ختم الأولى بإيجاب أن يوالي المؤمنين بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية وصرح جل شأنه في هذه بهذا المعنى بقوله تبارك وتعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 1] إلخ إلى غير ذلك من وجوه المناسبة.
وعن قتادة، وغيره أنها مع الأنفال سورة واحدة ولهذا لم تكتب بينهما البسملة، وقيل: وفي وجه عدم كتابتها أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في كونها سورة أو بعض سورة ففصلوا بينها وبين الأنفال رعاية لمن يقول هما سورتان ولم يكتبوا البسملة رعاية لمن يقول هما سورة واحدة، والحق أنهما سورتان إلا أنهم لم يكتبوا البسملة بينهما لما
رواه أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن علي كرم الله تعالى وجهه من أن البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف،
ومثله عن محمد بن الحنفية. وسفيان بن عيينة، ومرجع ذلك إلى أنها لم تنزل في هذه السورة كأخواتها لما ذكر، ويؤيد القول بالاستقلال تسميتها بما مر.
واختار الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته أنهما سورة واحدة وأن الترك لذلك قال في الباب الحادي والثلاثمائة بعد كلام: وأما سورة التوبة فاختلف الناس فيها هل هي سورة مستقلة كسائر السور أو هل هي وسورة الأنفال سورة واحدة فإنه لا يعرف كمال السورة إلا بالفصل بالبسملة ولم تجىء هنا فدل على أنها من سورة الأنفال وهو الأوجه وإن كان لتركها وجه وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ولكن ما له تلك القوة بل هو وجه ضعيف.
وسبب ضعفه أنه في الاسم الله من البسملة ما يطلبه والبراءة إنما هي من الشريك لا من المشرك فإن الخالق كيف يتبرأ من المخلوق ولو تبرأ منه من كان يحفظ وجوده عليه والشريك معدوم فتصح البراءة منه في صفة تنزيه، وتنزيه الله تعالى من الشريك والرسول صلى الله عليه وسلم من اعتقاد الجهل، ووجه آخر من ضعف هذا التأويل الذي ذكرناه وهو أن البسملة موجودة في أول سورة وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ [الهمزة: 1] ووَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] وأين الرحمة من الويل انتهى، وقد يقال: كون البراءة من الشريك غير ظاهر من آيتها أصلا وستعلم إن شاء الله تعالى المراد منها، وما ذكره قدس سره في الوجه الآخر من الضعف قد يجاب عنه بأن هذه السورة لا تشبهها سورة فإنها ما تركت أحدا كما قال حذيفة إلا نالت منه وهضمته وبالغت في شأنه، أما المنافقون والكافرون فظاهر، وأما المؤمنون ففي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ إلى الْفاسِقِينَ [التوبة: 23- 24] وهو من أشد ما يخاطب به المخالف فكيف بالموافق، وليس في سورة- ويل- ولا في تبت- ولا ولا، ولو سلّم اشتمال سورة على نوع ما اشتملت عليه لكن الامتياز بالكمية والكيفية مما لا سبيل لإنكاره ولذلك تركت فيها البسملة على ما أقول، والاسم الجليل وإن تضمن القهر الذي يناسب ما تضمنته السورة لكنه متضمن غير ذلك أيضا مع اقترانه صريحا بما لم يتضمنا سوى الرحمة، وليس المقصود إلا إظهار صفة القهر ولا يتأتى ذلك مع الافتتاح بالبسملة، ولو سلّم خلوص الاسم الجليل له. نعم إنه سبحانه لم يترك عادته في افتتاح السور هنا بالكلية حيث افتتح هذه السورة بالباء كما، افتتح غيرها بها في ضمن البسملة وإن كانت باء البسملة كلمة وباء هذه السورة جزء كلمة وذلك لسر دقيق يعرفه أهله، هذا ونقل
عن السخاوي أنه قال في جمال القراء: اشتهر ترك التسمية في أول براءة، وروي عن عاصم التسمية أولها وهو القياس لأن إسقاطها إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة بل من الأنفال، ولا يتم الأول لأنه مخصوص بمن نزلت فيه ونحن إنما نسمي للتبرك، ألا ترى أنه يجوز بالاتفاق بسم الله الرحمن الرحيم وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 36] الآية ونحوها، وإن كان الترك لأنها ليست مستقلة فالتسمية في أول الأجزاء جائزة، وروي ثبوتها في مصحف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وذهب ابن مناذر إلى قراءتها، وفي الاقناع جوازها، والحق استحباب تركها حيث إنها لم تكتب في الامام ولا يقتدى بغيره. وأما القول بحرمتها ووجوب تركها كما قاله بعض المشايخ الشافعية فالظاهر خلافه، ولا أرى في الإتيان بها بأسا لمن شرع في القراءة من أثناء السورة والله تعالى أعلم.
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي هذه براءة والتنوين للتفخيم و «من» ابتدائية كما يؤذن به مقابلتها بإلى متعلقة بمحذوف وقع صفة للخبر لفساد تعلقه به أي واصلة من الله، وقدروه بذلك دون حاصلة لتقليل التقدير لأنه يتعلق به إِلَى الآتي أيضا، وجوز أن تكون مبتدأ لتخصيصها بصفتها وخبره قوله تعالى: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وقرأ عيسى بن عمر «براءة» بالنصب وهي منصوبة باسمعوا أو الزموا على الإغرار، وقرأ أهل نجران «من الله» بكسر النون على أن الأصل في تحريك الساكن الكسر، لكن الوجه الفتح مع لام التعريف هربا من توالي الكسرتين، وإنما لم يذكر ما تعلق به البراءة حسبما ذكر في قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اكتفاء بما في حيز الصلة فإنه منبىء عنه إنباء ظاهرا واحترازا عن تكرار لفظ من، والعهد العقد الموثق باليمين، والخطاب في عاهَدْتُمْ للمسلمين وقد كانوا عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن الله تعالى واتفاق الرسول صلى الله عليه وسلم فنكثوا الا بني ضمرة وبني كنانة، وأمر المسلمون بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهلوا أربعة أشهر ليسيروا حيث شاؤوا.
وإنما نسبت البراءة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مع شمولها للمسلمين في اشتراكهم في حكمها ووجوب العمل بموجبها وعلقت المعاهدة بالمسلمين خاصة مع كونها بإذن الله تعالى واتفاق الرسول عليه الصلاة والسلام للإنباء عن تنجزها وتحتمها من غير توقف على رأي المخاطبين لأنها عبارة عن إنهاء حكم الأمان ورفع الخطر المترتب على العهد السابق عن التعرض للكفرة وذلك منوط بجانب الله تعالى من غير توقف على شيء أصلا، واشتراك المسلمين إنما هو على طريقة الامتثال لا غير، وأما المعاهدة فحيث كانت عقدا كسائر العقود الشرعية لا تتحصل ولا تترتب عليها الأحكام إلا بمباشرة المتعاقدين على وجه لا يتصور صدوره منه تعالى وإنما الصادر عنه سبحانه الإذن في ذلك وإنما المباشر له المسلمون، ولا يخفى أن البراءة إنما تتعلق بالعهد لا بالإذن فيه فنسبت كل واحدة منهما إلى من هو أصل فيها، على أن في ذلك تفخيما لشأن البراءة وتهويلا لأمرها وتسجيلا على الكفرة بغاية الذل والهوان ونهاية الخزي والخذلان، وتنزيها لساحة الكبرياء عما يوهم شائبة النقص والبداء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وادراجه صلى الله عليه وسلم في النسبة الأولى وإخراجه عن الثانية لتنويه شأنه الرفيع صلى الله عليه وسلم في كلا المقامين كذا حرره بعض المحققين وهو توجيه وجيه. وزعم بعضهم أن المعاهدة لما لم تكن واجبة بل مباحة مأذونة نسبت إليه بخلاف البراءة فإنها واجبة بإيجابه تعالى فلذا نسبت للشارع وهو كما ترى. وذكر ابن المنير في سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في مقام نسب فيه النبذ من المشركين لا يحسن أدبا.
ألا ترى إلى
وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا حيث يقول لهم: «إذا نزلتم بحصن فطلبوا النزول على حكم الله تعالى فأنزلوهم على حكمكم فإنكم لا تدرون أصادفتم حكم الله تعالى فيهم أم لا، وإن طلبوا ذمة الله تعالى فأنزلوهم
على ذمتكم فلأن تخفر ذمتكم خير من أن تخفر ذمة الله تعالى»
فانظر إلى أمره صلى الله عليه وسلم بتوقير ذمة الله تعالى مخافة أن تخفر وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع، فتوقير عهد الله تعالى وقد تحقق من المشركين النكث وقد تبرأ منه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بأن لا ينسب العهد المنبوذ إليه سبحانه أحرى وأجدر فلذلك نسب العهد للمسلمين دون البراءة منه ولا يخلو عن حسن إلا أنه غير واف وفاء ما قد سبق، وقيل: إن ذكر الله تعالى للتمهيد كقوله سبحانه: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1] تعظيما لشأنه صلى الله عليه وسلم ولولا قصد التمهيد لأعيدت مِنَ كما في قوله عز وجل: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ [التوبة: 7] وإنما نسبت البراءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والمعاهدة إليهم لشركتهم في الثانية دون الأولى. وتعقب بأنه لا يخفى ما فيه فإن من برأ الرسول عليه الصلاة والسلام منه تبرأ منه المؤمنون، وما ذكر من إعادة الجار ليس بلازم، وما ذكره من التمهيد لا يناسب المقام لضعف التهويل حينئذ، وقيل: ولك أن تقول: إنه أضاف العهد إلى المسلمين لأن الله تعالى علم أن لا عهد لهم وأعلم به رسوله عليه الصلاة والسلام فلذا لم يضف العهد إليه لبراءته منهم ومن عهدهم في الأزل، وهذه نكتة الإتيان بالجملة اسمية خبرية وإن قيل: إنها إنشائية للبراءة منهم ولذا دلت على التجدد.
وفيه أن حديث الأزل لا يتأتى في حق الرسول عليه الصلاة والسلام ظاهرا وبالتأويل لا يبعد اعتبار المسلمين أيضا، ونكتة الإتيان بالجملة الاسمية وهي الدلالة على الدوام والاستمرار لا تتوقف على ذلك على الحديث فقد ذكرها مع ضم نكتة التوسل إلى التهويل بالتنكير التفخيمي من لم يذكره فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أي سيروا فيها حيث شئتم، وأصل السياحة جريان الماء وانبساطه ثم استعملت في السير على مقتضى المشيئة، ومنه قوله:
لو خفت هذا منك ما نلتني
…
حتى ترى خيلا أمامي تسيح
ففي هذا الأمر من الدلالة على كمال التوسعة والتوفية ما ليس في سيروا ونظائره وزيادة فِي الْأَرْضِ زيادة في التعميم، والكلام بتقدير القول أي فقولوا لهم سيحوا، أو بدونه وهو الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والمقصود الإباحة والاعلام بحصول الأمان من القتل والقتال في المدة المضروبة، وذلك ليتفكروا ويحتاطوا ويستعدوا بما شاؤوا ويعلموا أن ليس لهم بعد إلا الإسلام أو السيف ولعل ذلك يحملهم على الإسلام، ولأن المسلمين لو قاتلوهم عقيب إظهار النقض فربما نسبوا إلى الخيانة فأمهلوا سدّا لباب الظن وإظهارا لقوة شوكتهم وعدم اكتراثهم بهم وباستعدادهم، وللمبالغة في ذلك اختيرت صيغة الأمر دون فلكم أن تسيحوا، والفاء لترتيب الأمر بالسياحة وما يعقبه على ما يؤذن به البراءة من الحرب على أن الأول مترتب على نفسه والثاني بكلا متعلقيه على عنوان كونه من الله العزيز جل شأنه، كأنه قيل: هذه براءة موجبة لقتالكم فاسعوا في تحصيل ما ينجيكم وإعداد ما يجديكم أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم عند الزهري لأن الآية نزلت في الشهر الأول، وقيل: إنها وإن نزلت فيه إلا أن قراءتها على الكفار وتبليغها إليهم كان يوم الحج الأكبر فإبتداء المدة عاشر ذي الحجة إلى انقضاء عشر شهر ربيع الآخر، وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي.
وقيل: ابتداء تلك المدة يوم النحر لعشر من ذي القعدة إلى انقضاء عشر من شهر ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي كان فيهم ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع التي
قال فيها صلى الله عليه وسلم: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض»
وإلى ذلك ذهب الجبائي، واستصوب بعض الأفاضل الثاني وادعى أن الأكثر عليه،
روي من عدة أخبار متداخلة بعضها في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ودخلت خزاعة في عهد النبي
صلّى الله عليه وسلّم فدخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها وأعانتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم خرج عمرو الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشد:
لا همّ إني ناشد محمدا
…
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا
…
ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا
…
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا
…
إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا
…
إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
…
وجعلوا لي من كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعوا أحدا
…
وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالحطيم جهدا
…
وقتلونا ركعا وسجدا
فقال عليه الصلاة والسلام: «لا نصرت إن لم أنصرك» ثم تجهز إلى مكة ففتحها سنة ثمان من الهجرة فلما كانت سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج فقال: إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة فبعث عليه الصلاة والسلام تلك السنة أبابكر رضي الله تعالى عنه أميرا على الناس ليقيم لهم الحج وكتب له سننه ثم بعث بعده عليا كرم الله تعالى وجهه على ناقته العضباء ليقرأ على أهل الموسم صدر براءة فلما دناه علي كرم الله تعالى وجهه سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم وقام علي كرم الله تعالى وجهه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: أيها الناس إني رسول رسول الله تعالى إليكم فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية من السورة ثم قال: أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده،
واختلفت الروايات في أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه هل كان مأمورا أولا بالقراءة أم لا والأكثر على أنه كان مأمورا وأن عليا كرم الله تعالى وجهه لما لحقه رضي الله تعالى عنه أخذ منه ما أمر بقراءته،
وجاء في رواية ابن حبان وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه حين أخذ منه ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخله من ذلك مخافة أن يكون قد أنزل فيه شيء فلما أتاه قال: ما لي يا رسول الله؟ قال: خير أنت أخي وصاحبي في الغار وأنت معي على الحوض غير أنه لا يبلغ عني غيري أو رجل مني
وجاء من رواية أحمد والترمذي وحسنه وأبو الشيخ، وغيرهم عن أنس قال:«بعث النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه ثم دعاه فقال: لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا عليّا كرم الله تعالى وجهه فأعطاه إياه»
وهذا ظاهر في أن عليّا لم يأخذ ذلك من أبي بكر في الطريق وأكثر الروايات على خلافه، وجاء في بعضها ما هو ظاهر في عدم عزل أبي بكر رضي الله تعالى عنه عن الأمر بل ضم إليه علي كرم الله تعالى وجهه.
فقد أخرج الترمذي وحسنه، والبيهقي في الدلائل، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس «أن رسول صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليّا وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات فحجا فقام علي رضي الله تعالى عنه في أيام التشريق فنادى أن الله بريء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجنّ بعد العام مشرك ولا يطوفنّ بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فكان علي كرم الله تعالى وجهه ينادي فإذا أعيا قام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فنادى بها»
وأيّا ما كان ليس في شيء من الروايات ما يدل على أن عليّا رضي الله تعالى عنه هو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أبي بكر رضي الله تعالى عنه،
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ عني غيري أو رجل مني سواء كان بوحي أم لا»
جار على عادة العرب أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا رجل من الأقارب لتنقطع الحجة بالكلية، فالتبليغ المنفي ليس عامّا كما يرشد إلى ذلك حديث أحمد والترمذي.
وكيف يمكن إرادة العموم وقد بلغ عنه صلى الله عليه وسلم كثيرا من الأحكام الشرعية في حياته وبعد وفاته كثير ممن لم يكن من أقاربه صلى الله عليه وسلم كعلي كرم الله تعالى وجهه ومنهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه فإنه في تلك السنة حج بالناس وعلمهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سنن الحج وما يلزم فيه وهو أحد الأمور الخمسة التي بني الإسلام عليها، على أن من أنصف من نفسه علم أن في نصب أبي بكر رضي الله تعالى عنه لإقامة مثل هذا الركن العظيم من الدين على ما يشعر به قوله سبحانه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97] الآية إشارة إلى أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة شعائر دينه لا سيما وقد أيد ذلك بإقامته مقامه عليه الصلاة والسلام في الصلاة بالناس في آخر أمره عليه الصلاة والسلام وهي العماد الأعظم والركن الأقوم لدينه عليه الصلاة والسلام في الصلاة بالناس، والقول بأنه رضي الله تعالى عنه عزل في المسألتين كما يزعمه بعض الشيعة لا أصل له وعلى المدعي البيان ودونه الشمّ الراسيات. وبالجملة دلالة «لا ينبغي» إلخ على الخلافة مما لا ينبغي القول بها، وقصارى ما في الخبر الدلالة على فضل الأمير كرم الله تعالى وجهه وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمن لا ينكر ذلك لكنه بمعزل عن اقتضائه التقدم بالخلافة على الصديق رضي الله تعالى عنه.
وقد ذكر بعض أهل السنة نكتة في نصب أبي بكر أميرا للناس في حجهم ونصب الأمير كرم الله تعالى وجهه مبلغا نقض العهد في ذلك المحفل وهي أن الصديق رضي الله تعالى عنه لما كان مظهرا لصفة الرحمة والجمال كما يرشد إليه ما تقدم في حديث الإسراء وما جاء من
قوله صلى الله عليه وسلم أرحم أمتي بأمتي أبو بكر
أحال إليه عليه الصلاة والسلام أمر المسلمين الذين هم مورد الرحمة ولما كان علي كرم الله تعالى وجهه الذي هو أسد الله مظهر جلاله فوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر فكانا كعينين فوارتين يفور من إحداهما صفة الجمال ومن الأخرى صفة الجلال في ذلك المجمع العظيم الذي كان نموذجا للحشر وموردا للمسلم والكافر انتهى. ولا يخفى حسنه لو لم يكن في البين تعليل النبي صلى الله عليه وسلم.
وجعل المدة أربعة أشهر قيل لأنها ثلث السنة والثلث كثير، ونصب العدد على الظرفية لسيحوا أي فسيحوا في أقطار الأرض في أربعة أشهر وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لسياحتكم تلك غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ لا تفوتونه سبحانه بالهرب والتحصن وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالعذاب المهين، وأظهر الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل أمر الاخزاء وهو الإذلال بما فيه فضيحة وعار، والمراد من الكافرين إما المشركون المخاطبون فيما تقدم والعدول عن فخزيكم إلى ذلك لذمهم بالكفر بعد وصفهم بالإشراك وللاشعار بأن علة الاخزاء هي كفرهم وإما الجنس الشامل لهم ولغيرهم ويدخل فيه المخاطبون دخولا أوليا.
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي إعلام وهو فعال بمعنى الإفعال أي إيذان كالأمان والعطاء. ونقل الطبرسي أن أصله من النداء الذي يسمع بالأذن بمعنى أذنته أوصلته إلى أذنه، ورفعه كرفع براءة والجملة معطوفة على مثلها.
وزعم الزجاج أنه عطف على براءة، وتعقب بأنه لا وجه لذلك فإنه لا يقال: إن عمرا معطوف على زيد في قولك: زيد قائم وعمرو قاعد. وذكر العلامة الطيبي أن لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يعطف على براءة على أن يكون من عطف الخبر على الخبر كأنه قيل: هذه السورة براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم خاصة وأذان من الله ورسوله
إِلَى النَّاسِ عامة. نعم الأوجه أن يكون من عطف الجمل لئلا يتخلل بين الخبرين جمل أجنبية ولئلا تفوت المطابقة بين المبتدأ والخبر تذكيرا وتأنيثا، ونظر فيه بعضهم أيضا بأنهم جوزوا في الدار زيد والحجرة عمرو وعدوا ذلك من العطف على معمولي عاملين، وصرحوا بأن نحو زيد قائم وعمرو يحتمل الأمرين. وأجيب بأنه أريد عطف أذان وحده على براءة من غير تعرض لعطف الخبر على الخبر كما في نحو أريد أن يضرب زيد عمرا ويهين بكر خالدا فليس العطف إلا في الفعلين دون معموليهما هذا الذي منعه من منع، وإرادة العموم من النَّاسِ هو الذي ذهب إليه أكثر الناس لأن هذا الأذان ليس كالبراءة المختصة بالناكثين بل هو شامل للكفرة وسائر المؤمنين أيضا، وقال قوم:
المراد بهم أهل العهد، وقوله سبحانه: يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ منصوب بما تعلق به إِلَى النَّاسِ لا بأذان لأن المصدر الموصوف لا يعمل على المشهور، والمراد به يوم العيد لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ولأن الإعلام كان فيه.
ولما
أخرج البخاري تعليقا، وأبو داود، وابن ماجه، وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن جبير وابن زيد ومجاهد وغيرهم،
وقيل: يوم عرفة
لقوله صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة»
ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا، وأخرجه ابن أبي حاتم عن المسور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير عن أبي الصهباء أنه سأل عليا كرم الله تعالى وجهه عن هذا اليوم فقال: هو يوم عرفة،
وعن مجاهد، وسفيان أنه جميع أيام الحج كما يقال: يوم الجمل. ويوم صفين ويراد باليوم الحين والزمان والأول أقوى رواية ودراية، ووصف بالحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر أو لأن المراد بالحج ما وقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبر من باقي الأعمال فالتفضيل نسبي وغير مخصوص بحج تلك السنة. وعن الحسن أنه وصف بذلك لأنه اجتمع فيه المسلمون والمشركون ووافق عيده أعياد أهل الكتاب، وقيل: لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين فالتفضيل مخصوص بتلك السنة وأما تسمية الحج الموافق يوم عرفة فيه ليوم الجمعة بالأكبر فلم يذكروها وإن كان ثواب ذلك الحج زيادة على غيره كما نقله الجلال السيوطي في بعض رسائله أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي من عهودهم. وقرأ الحسن والأعرج «إن» بالكسر لما أن الأذان فيه معنى القول، وقيل: يقدر القول، وعلى قراءة الفتح يكون بتقدير حرف جر وهو مطرد في إن وأن، والجار والمجرور جوز أن يكون عن أذان وأن يكون متعلقا به وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة له، وقوله سبحانه: وَرَسُولِهِ عطف على المستكن في بريء، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف وأن يكون عطفا على محل اسم إن لكن على قراءة الكسر، لأن المكسورة لما لم تغير المعنى جاز أن تقدر كالعدم فيعطف على محل ما عملت فيه أي على محل كان له قبل دخولها فإنه كان إذ ذاك مبتدأ، ووقع في كلامهم محل أن مع اسمها والأمر فيه هين. ولم يجيزوا ذلك على المشهور مع المفتوحة لأن لها موضعا غير الابتداء، وأجاز ابن الحاجب هاهنا العطف على المحل في قراءة الجماعة أيضا بناء على ما ذكر من أن المفتوحة على قسمين ما يجوز فيه العطف على المحل وما لا يجوز، فإن كان بمعنى إن المكسورة كالتي بعد أفعال القلوب نحو علمت أن زيدا قائم وعمرو جاز العطف لأنها لاختصاصها بالدخول على الجمل يكون المعنى معها أن زيدا قائم وعمرو في علمي، ولذا وجب الكسر في علمت إن زيدا لقائم، وإن لم تكن كذلك لا يجوز نحو أعجبني أن زيدا كريم وعمرو ويتعين النصب فيه لأنها حينئذ ليست مكسورة ولا في حكمها، ووجه الجواز بناء على هذا أن الاذن بمعنى العلم فيدخل على الجمل أيضا كعلم.
وقرأ يعقوب برواية روح وزيد «ورسوله» بالنصب وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر، وعليها
فالعطف على اسم أن وهو الظاهر، وجوز أن تكون الواو بمعنى مع ونصب رَسُولِهِ على أنه مفعول معه أي بريء معه منهم.
وعن الحسن أنه قرأ بالجر على أن الواو للقسم وهو كالقسم بعمره صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: لَعَمْرُكَ [الحجر:
72] وقيل: يجوز كون الجر على الجوار وليس بشيء، وهذه القراءة لعمري موهمة جدا وهي في غاية الشذوذ والظاهر أنها لم تصح. يحكى أن أعرابيا سمع رجلا يقرؤها فقال: إن كان الله تعالى بريئا من رسوله فأنا منه بريء فلببه الرجل إلى عمر رضي الله تعالى عنه فحكى الاعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعليم العربية. ونقل أن أبا الأسود الدؤلي سمع ذلك فرفع الأمر إلى علي كرم الله تعالى وجهه فكان ذلك سبب وضع النحو، والله تعالى أعلم.
وفرق الزمخشري بين معنى الجملة الأولى وهذه الجملة بأن تلك إخبار بثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الاعلام بما ثبت. وفي الكشف أن هذا على تقدير رفعهما بالخبرية ظاهر الا أن في قوله إخبار بوجوب الاعلام تجوزا وأراد أن يبين أن المقصود ليس الاخبار بالاعلام بل أعلم سبحانه أنه بريء ليعلموا الناس به، وعلى التقدير الثاني وجهه أن المعنى في الجملة الأولى البراءة الكائنة من الله تعالى حاصلة منتهية إلى المعاهدين من المشركين فهو إخبار بثبوت البراءة كما تقول في زيد موجود مثلا: إنه إخبار بثبوت زيد، وفي الثانية إعلام المخاطبين الكائن من الله تعالى بتلك البراءة ثابت واصل إلى الناس فهو إخبار بثبوت الاعلام الخاص صريحا ووجوب أن يعلم المخاطبون الناس ضمنا، ولما كان المقصود هو المعنى المضمن ذكر أنها إخبار بوجوب الاعلام، وزعم بعضهم لدفع التكرار أن البراءة الأولى لنقض العهد والبراءة الثانية لقطع الموالاة والإحسان وليس بذلك فَإِنْ تُبْتُمْ من الكفر والغدر بنقض العهد فَهُوَ أي التوب خَيْرٌ لَكُمْ في الدارين والالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التهديد والتشديد، والفاء الأولى لترتيب مقدم الشرطية على الاذان المذيل بالوعيد الشديد المؤذن بلين عريكتهم ونكسار شدة شكيمتهم وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن التوبة أو ثبتم على التولي عن الإسلام والوفاء فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ غير سابقيه سبحانه ولا فائتيه وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي في الآخرة على ما هو الظاهر.
ومن هنا قيد بعضهم غير معجزي الله بقوله في الدنيا، والتعبير بالبشارة للتهكم، وصرف الخطاب عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: لأن البشارة إنما تليق بمن يقف على الأسرار الالهية، وقد يقال: لا يبعد كون الخطاب لكل من له حظ فيه وفيه من المبالغة ما لا يخفى إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ استثناء على ما في الكشاف من المقدر في قوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ إلخ لأن الكلام خطاب مع المسلمين على أن المعنى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم فأتموا إليهم عهدهم، وهو بمعنى الاستدراك كأنه قيل: فلا تمهلوا الناكثين غير أربعة أشهر ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجرى الناكثين، واعترض بأنه كيف يصح الاستثناء وقد تخلل بين المستثنى والمستثنى منه جملة أجنبية أعني قوله سبحانه:
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ فإنه كما قرر عطف على براءة، وأجيب بأن تلك الجملة ليست أجنبية من كل وجه لأنها في معنى الأمر بالاعلام كأنه قيل: فقولوا لهم سيحوا واعلموا أن الله تعالى بريء منهم لكن الذين عاهدتهم إلخ، وجعله بعضهم استدراكا من النبذ السابق الذي أخر فيه القتال أربعة أشهر والمآل واحد، وقيل استثناء من المشركين الأول وإليه ذهب الفراء، ورد بأن بقاء التعميم في قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ينافيه، وقيل: هو استثناء من المشركين الثاني. ورد بأن بقاء التعميم في الأول ينافيه، والقول بالرجوع إليهما والمستثنى منهما في الجملتين ليستا على نسق واحد لا يحسن، وجعل الثاني معهودا وهم المشركون المستثنى منهم هؤلاء فقيل مجيء الاستثناء يبعد ارتكابه في
النظم المعجز، وقوله سبحانه: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ حينئذ لا بد من أن يجعل جزاء شرط محذوف وهو أيضا خلاف الظاهر والظاهر الخبرية، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وكون المراد به أناسا بأعيانهم فلا يكون عاما فيشبه الشرط فتدخل الفاء في خبره على تقدير تسليمه غير مضر فقد ذهب الأخفش إلى زيادة الفاء في خبر الموصول من غير اشتراط العموم، واستدل القطب لما في الكشاف بأن هاهنا جملتين يمكن أن يعلق بهما الاستثناء جملة البراءة وجملة الامهال، لكن تعليق الاستثناء بجملة البراءة يستلزم أن لا براءة عن بعض المشركين فتعين تعلقه بجملة الامهال أربعة أشهر، وفيه غفلة عن أن المراد البراءة عن عهود المشركين لا عن أنفسهم، ولا كلام في أن المعاهدين الغير الناكثين ليس الله عالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بريئين من عهودهم وإن برئا عن أنفسهم بضرب من التأويل فافهم، وقال ابن المنير: يجوز أن قوله سبحانه: فَسِيحُوا خطابا للمشركين غير مضمر قبله القول ويكون الاستثناء على هذا من قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ كأنه قيل: براءة من الله تعالى ورسوله إلى المعاهدين إلا الباقين على العهد فأتموا إليهم أيها المسلمون عهدهم، ويكون فيه خروج من خطاب المسلمين في إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ إلى خطاب المشركين في فَسِيحُوا ثم التفات من التكلم إلى الغيبة في فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ والأصل غير معجزيّ وأني، وفي هذا الالتفات بعد الالتفات الأول افتنان في أساليب البلاغة وتفخيم للشأن وتعظيم للأمر، ثم يتلو هذا الالتفات العود إلى الخطاب في قوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ إلخ وكل هذا من حسنات الفصاحة انتهى، ولا يخفى ما فيه من كثرة التعسف ومِنَ قيل بيانية، وقيل: تبعيضية، وثم في قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة وينقصوا بالصاد المهملة كما قرأ الجمهور يجوز أن يتعدى إلى واحد فيكون شيئا منصوبا على المصدرية أي لم ينقصوكم شيئا من النقصان لا قليلا ولا كثيرا، ويجوز أن يتعدى إلى اثنين فيكون شَيْئاً مفعوله الثاني أي لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد وأدوها لكم بتمامها، وقرأ عكرمة وعطاء ينقضوكم بالضاد المعجمة، والكلام حينئذ على حذف مضاف أي لم ينقضوا عهودكم شيئا من النقض وهي قراءة مناسبة للعهد إلا أن قراءة الجمهور أوقع لمقابلة التمام مع استغنائها عن ارتكاب الحذف وَلَمْ يُظاهِرُوا أي لم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم كما عدت بنو بكر على خزاعة فظاهرتهم قريش بالسلاح كما تقدم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ أي أدوه إليهم كملا إِلى مُدَّتِهِمْ أي إلى انقضائها ولا تجروهم مجرى الناكثين قيل: بقي لبني ضمرة، وبني مدلج حيين من كنانة من عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم، وأخرج ابن أبي حاتم أنه قال: هؤلاء قريش عاهدوا نبي الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر فأمر الله تعالى شأنه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم ذلك إلى مدتهم وهو خلاف ما تظافرت به الروايات من أن قريشا نقضوا العهد على ما علمت والمعتمد هو الأول إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تعليل لوجوب الامتثال وتنبيه على أن مراعاة العهد من باب التقوى وأن التسوية بين الغادر والوفي منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أي انقضت، وأصله من السلخ بمعنى الكشط يقال: سلخت الإهاب عن الشاة أي كشطته ونزعته عنها، ويجيء بمعنى الإخراج كما يقال: سلخت الشاة عن الإهاب إذا أخرجتها منه، وذكر أبو الهيثم أنه يقال: أهللنا شهر
كذا أي دخلنا فيه فنحن نزداد كل ليلة لباسا إلى نصفه ثم نسلخه عن أنفسنا جزءا فجزءا حتى ينقضي وأنشد:
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله
…
كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي
والانسلاخ فيما نحن فيه استعارة حسنة وتحقيق ذلك أن الزمان محيط بما فيه من الزمانيات مشتمل عليه اشتمال الجلد على الحيوان وكذا كل جزء من أجزائه الممتدة كالأيام والشهور والسنين، فإذا مضى فكأنه انسلخ عما
فيه، وفي ذلك مزيد لطف لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهر كانت حرزا لأولئك المعاهدين عن غوائل أيدي المسلمين فنيط قتالهم بزوالها، ومن هنا يعلم أن جعله استعارة من المعنى الأولى للسلخ أولى من جعله من المعنى الثاني باعتبار أنه لما انقضى كأنه أخرج من الأشياء الموجودة إذ لا يظهر هذا التلويح عليه ظهوره على الأول «وأل» في الأشهر للعهد فالمراد بها الأشهر الأربعة المتقدمة في قوله سبحانه: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وهو المروي عن مجاهد وغيره. وفي الدر المصون أن العرب إذا ذكرت نكرة ثم أرادت ذكرها ثانيا أتت بالضمير أو باللفظ معرفا بأل ولا يجوز أن تصفه حينئذ بصفة تشعر بالمغايرة فلو قيل رأيت رجلا وأكرمت الرجل الطويل لم ترد بالثاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز كقولك فأكرمت الرجل المذكور والآية من هذا القبيل، فإن الْحُرُمُ صفة مفهومة من فحوى الكلام فلا تقتضي المغايرة، وكأن النكتة في العدول عن الضمير ووضع الظاهر وضعه الإتيان بهذه الصفة لتكون تأكيدا لما ينبىء عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم مع ما في ذلك من مزيد الاعتناء بشأن الموصوف.
وعلى هذا فالمراد بالمشركين في قوله سبحانه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الناكثون فيكون المقصود بيان حكمهم بعد التنبيه على إتمام مدة من لم ينكث ولا يكون حكم الباقين مفهوما من عبارة النص بل من دلالته، وجوز أن يكون المراد بها تلك الأربعة مع ما فهم من قوله سبحانه: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ من تتمة مدة بقيت لغير الناكثين. وعليه يكون حكم الباقين مفهوما من العبارة حيث إن المراد بالمشركين حينئذ ما يعمهم والناكثين إلا أنه يكون الانسلاخ وما نيط به من القتال شيئا فشيئا لا دفعة واحدة، فكأنه قيل: فإذا تم ميقات كل طائفة فاقتلوهم، وقيل:
المراد بها الأشهر المعهودة الدائرة في كل سنة وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وهو مخل بالنظم الكريم لأنه يأباه الترتيب بالفاء وهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر، وقيل: إنه مخالف للاجماع أيضا لأنه قام على أن هذه الأشهر يحل فيها القتال وأن حرمتها نسخت وعلى تفسيره بها يقتضي بقاء حرمتها ولم ينزل بعد ما ينسخها. ورد بأنه لا يلزم أن ينسخ الكتاب بالكتاب بل قد ينسخ بالسنة كما تقرر في الأصول، وعلى تقدير لزومه كما هو رأي البعض يحتمل أن يكون ناسخه من الكتاب منسوخ التلاوة. وتعقب هذا بأنه احتمال لا يفيد ولا يسمع لأنه لو كان كذلك لنقل والنسخ لا يكفي فيه الاحتمال، وقيل: إن الإجماع إذا قام على أنها منسوخة كفى ذلك من غير حاجة إلى نقل سند إلينا،
وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم،
وكما أن ذلك كاف لنسخها يكفي لنسخ ما وقع
في الحديث الصحيح وهو «إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله تعالى السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب»
فلا يقال: إنه يشكل علينا لعدم العلم بما ينسخه كما توهم، وإلى نسخ الكتاب بالإجماع ذهب البعض منا. ففي النهاية شرح الهداية تجوز الزيادة على الكتاب بالإجماع صرح به الإمام السرخسي. وقال فخر الإسلام: إن النسخ بالإجماع جوزه بعض أصحابنا بطريق أن الإجماع يوجب العلم اليقيني كالنص فيجوز أن يثبت به النسخ، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور والنسخ به جائز فبالاجماع أولى. وأما اشتراط حياة النبي صلى الله عليه وسلم في جواز النسخ فغير مشروط على قول ذلك البعض من الأصحاب اهـ. وأنت تعلم أن المسألة خلافية عندنا، على أن في الإجماع كلاما، فقد قيل ببقاء حرمة قتال المسلمين فيها إلا أن يقاتلوا ونقل ذلك عن عطاء لكنه قول لا يعتد به، والقول بأن منع القتال في الأشهر الحرم كان في تلك السنة وهو لا يقتضي منعه في كل ما شابهها بل هو مسكوت عنه فلا يخالف الإجماع، ويكون حله معلوما من دليل آخر ليس بشيء، لأن الظاهر أن من يدعي الإجماع يدعيه في الحل في تلك السنة أيضا، وبالجملة لا معول على هذا التفسير،
وهذه على ما قال الجلال السيوطي هي آية السيف التي نسخت آيات العفو والصفح، والإعراض والمسألة.
وقال العلامة ابن حجر: آية السيف وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: 36] وقيل هما، واستدل الجمهور بعمومها على قتال الترك والحبشة كأنه قيل: فاقتلوا الكفار مطلقا حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من حل وحرم وَخُذُوهُمْ قيل: أي ائتسروهم والأخيذ الأسير، وفسر الأسر بالربط لا لاسترقاق، فإن مشركي العرب لا يسترقون. وقيل: المراد إمهالهم للتخيير بين القتل والإسلام. وقيل: هو عبارة عن أذيتهم بكل طريق ممكن، وقد شاع في العرف الأخذ على الاستيلاء على مال العدو، فيقال: إن بني فلان أخذوا بني فلان أي استولوا على أموالهم بعد أن غلبوهم وَاحْصُرُوهُمْ قيل أي احبسوهم.
ونقل الخازن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد امنعوهم عن الخروج إذا تحصنوا منكم بحصن.
ونقل غيره عنه أن المعنى حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أي كل ممر ومجتاز يجتازون منه في أسفارهم، وانتصابه عند الزجاج ومن تبعه على الظرفية. ورده أبو علي بأن المرصد المكان الذي يرصد فيه العدو فهو مكان مخصوص لا يجوز حذف- في- منه ونصبه على الظرفية إلا سماعا. وتعقبه أبو حيان بأنه لا مانع من انتصابه على الظرفية لأن قوله تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ ليس معناه حقيقة القعود بل المراد ترقبهم وترصدهم، فالمعنى ارصدوهم كل مرصد يرصد فيه، والظرف مطلقا ينصبه بإسقاط- في- فعل من لفظه أو معناه نحو جلست وقعدت مجلس الأمير، والمقصور على السماع ما لم يكن كذلك، وكُلَّ وإن لم يكن ظرفا لكن له حكم ما يضاف إليه لأنه عبارة عنه.
وجوز ابن المنير أن يكون مرصدا مصدرا ميميا فهو مفعول مطلق والعامل فيه الفعل الذي بمعناه، كأنه قيل:
وارصدوهم كل مرصد ولا يخفى بعده. وعن الأخفش أنه منصوب بنزع الخافض والأصل على كل مرصد فلما حذف على انتصب، وأنت تعلم أن النصب بنزع الخافض غير مقيس خصوصا إذا كان الخافض علي فإنه يقل حذفها حتى قيل: إنه مخصوص بالشعر فَإِنْ تابُوا عن الشرك بالإيمان بسبب ما ينالهم منكم وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ تصديقا لتوبتهم وإيمانهم، واكتفى بذكرهما لكونهما رئيسي العبادات البدنية والمالية فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ أي فاتركوهم وشأنهم ولا تتعرضوا لهم بشيء مما ذكر.
وقيل: المراد خلوا بينهم وبين البيت ولا تمنعوهم عنه والأول أولى، وقد جاءت تخلية السبيل في كلام العرب كناية عن الترك كما في قوله:
خل السبيل لمن يبنى المنار به
…
وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر
ثم يراد منها في كل مقام ما يليق به، ونقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه استدل بالآية على قتل تارك الصلاة وقتال مانع الزكاة، وذلك لأنه تعالى أباح دماء الكفار بجميع الطرق والأحوال ثم حرمها عند التوبة عن الكفر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فلما لم يوجد هذا المجموع تبقى إباحة الدم على الأصل، ولعل أبا بكر رضي الله عنه استدل بها على قتال مانعي الزكاة. وفي الحواشي الشهابية أن المزني من جلة الشافعية رضي الله تعالى عنهم أورد على قتل تارك الصلاة تشكيكا تحيروا في دفعه كما قاله السبكي في طبقاته فقال إنه لا يتصور لأنه إما أن يكون على ترك صلاة قد مضت أو لم تأت والأول باطل لأن المقضية لا يقتل بتركها والثاني كذلك لأنه ما لم يخرج الوقت فله التأخير فعلام يقتل؟ وسلكوا في الجواب مسالك.
الأول أن هذا وارد أيضا على القول بالتعزير والضرب والحبس كما هو مذهب الحنفية فالجواب- الجواب-
وهو جدلي. والثاني أنه على الماضية لأنه تركها بلا عذر، ورد بأن القضاء لا يجب على الفور وبأن الشافعي رضي الله تعالى عنه قد نص على أنه لا يقتل بالمقضية مطلقا. والثالث أنه يقتل للمؤداة في آخر وقتها. ويلزمه أن المبادرة إلى قتل تارك الصلاة تكون أحق منها إلى المرتد إذ هو يستتاب وهذا لا يستتاب ولا يمهل إذ لو أمهل صارت مقضية وهو محل كلام فلا حاجة إلى أن يجاب من طرف أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كما قيل: بأن استدلال الشافعية مبني على القول بمفهوم الشرط وهو لا يعول به، ولو سلمه فالتخلية الإطلاق عن جميع ما مر، وحينئذ يقال: تارك الصلاة لا يخلى ويكفي لعدم التخلية أن يحبس، على أن ذلك منقوض بمانع الزكاة عنده، وأيضا يجوز أن يراد بإقامتهما التزامهما وإذا لم يلتزمهما كان كافرا إلا أنه خلاف المتبادر وإن قاله بعض المفسرين.
وأنت تعلم أن مذهب الشافعية أن من ترك صلاة واحدة كسلا بشرط إخراجها عن وقت الضرورة بأن لا يصلي الظهر مثلا حتى تغرب الشمس قتل حدّا، واستدل بعض أجلة متأخريهم بهذه الآية،
وقوله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس» الحديث
وبين ذلك بأنهما شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة الإسلام وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لكن الزكاة يمكن الإمام أخذها ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا منها وقاتلونا فكانت فيها على حقيقتها بخلافها في الصلاة فإنه لا يمكن فعلها بالمقاتلة فكانت فيها بمعنى القتل، ثم قال: فعلم وضوح الفرق بين الصلاة والزكاة وكذا الصوم فإنه إذا علم أنه يحبس طول النهار نواه فأجدى الحبس فيه ولا كذلك الصلاة فتعين القتل في حدها ولا يخفى أن ظاهر هذا قول بالجمع بين الحقيقة والمجاز في الآية والحديث لأن الصلاة والزكاة في كل منهما، وفي الآية القتل وحقيقته لا تجري في مانع الزكاة وفي الحديث المقاتلة وحقيقتها لا تجري في تارك الصلاة فلا بد أن يراد مع القتل المقاتلة في الآية ومع المقاتلة القتل في الحديث ليتأتى جريان ذلك في تارك الصلاة ومانع الزكاة، والجمع بين الحقيقة والمجاز لا يجوز عندنا، على أن حمل الآية والحديث على ذلك مما لا يكاد يتبادر إلى الذهن فالنقض بمانع الزكاة في غاية القوة. وأشار إلى ما نقل عن المزني مع جوابه بقوله: لا يقال: لا قتل بالحاضرة لأنه لم يخرجها عن وقتها ولا بالخارجة عنه لأنه لا قتل بالقضاء وإن وجب فورا لأنا نقول: بل يقتل بالحاضرة إذا أمر بها من جهة الإمام أو نائبه دون غيرهما فيما يظهر في الوقت عند ضيقه وتوعد على إخراجها عنه فامتنع حتى خرج وقتها لأنه حينئذ معاند للشرع عنادا يقتضي مثله القتل فهو ليس لحاضرة فقط ولا لفائتة فقط بل لمجموع الأمرين الأمر والإخراج مع التصميم ثم إنهم قالوا: يستتاب تارك الصلاة فورا ندبا، وفارق الوجوب في المرتد بأن ترك استتابته توجب تخليده في النار إجماعا بخلاف هذا، ولا يضمن عندهم من قتله قبل التوبة مطلقا لكنه يأثم من جهة الافتئات على الإمام، وتمام الكلام في ذلك يطلب من محله.
واستدل بالآية أيضا- كما قال الجلال السيوطي- من ذهب إلى كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة، وليس ذلك بشيء والصحيح أنهما مؤمنان عاصيان وما يشعر بالكفر خارج مخرج التغليظ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم ما قد سلف منهم ويثيبهم بإيمانهم وطاعتهم وهو تعليل للأمر بتخلية السبيل وَإِنْ أَحَدٌ شروع في بيان حكم المتصدين لمبادىء التوبة من سماع كلام الله تعالى والوقوف على شعائر الدين إثر بيان حكم التائبين عن الكفر والمصرين عليه، وفيه إزاحة ما عسى يتوهم من قوله سبحانه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إذ الحجة قد قامت عليهم وأن ما ذكره عليه الصلاة والسلام قبل من الدلائل والبينات كاف في إزالة عذرهم بطلبهم للدليل لا يلتفت إليه بعد وإِنْ شرطية والاسم مرفوع بشرط مضمر يفسره الظاهر لا بالابتداء ومن زعم ذلك فقد أخطأ كما قال الزجاج لأن إن لكونها تعمل العمل المختص بالفعل لفظا أو محلا مختصة به فلا يصح دخولها على الأسماء أي وإن استجارك أحد مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ أي استأمنك وطلب مجاورتك بعد انقضاء الأجل المضروب فَأَجِرْهُ أي فآمنه
حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ويتدبره ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه والاقتصار على ذكر السماع لعدم الحاجة إلى شيء آخر في الفهم لكونهم من أهل اللسن والفصاحة، والمراد بكلام الله تعالى الآيات المشتملة على ما يدل على التوحيد، ونفي الشبه والشبيه، وقيل: سورة براءة، وقيل: جميع القرآن لأن تمام الدلائل والبينات فيه، وحَتَّى للتعليل متعلقة بما عندها، وليست الآية من التنازع على ما صرح به الفاضل ابن العادل حيث قال: ولا يجوز ذلك عند الجمهور لأمر لفظي صناعي لأنا لو جعلناها من ذلك الباب وأعملنا الأول أعني استجارك لزم إثبات الممتنع عندهم وهو إعمال حتى في الضمير فإنهم قالوا: لا يرتكب ذلك إلا في الضرورة كما في قوله:
فلا والله لا يلفى أناس
…
فتى حتاك يا ابن أبي زياد
ضرورة أن القائلين بإعمال الثاني يجوزون إعمال الأول المستدعي لما ذكر سيما على مذهب الكوفيين المبني على رجحان أعماله ومن جوز إعماله في الضمير يصح ذلك عنده لعدم المحذور حينئذ، ويفهم ظاهر كلام بعض الأفاضل جواز التعلق باستجارك حيث قال: لا داعي لتعلقه بأجره سوى الظن أنه يلزم أن يكون التقدير على تقدير التعلق بالأول وإن أحد من المشركين استجارك حتى يسمع كلام الله فأجره حتاه أي حتى السمع وهل يقول عاقل بتوقف تمام قولك إن استأمنك زيد لأمر كذا فآمنه على أن تقول لذلك الأمر كلا فرضنا الاحتياج ولزوم التقدير ولكن ما الموجب لتقدير حتاه الممتنع في غير الضرورة ولم لا يجوز أن يقدر لذلك أوله أو حتى يسمعه أو غير ذلك مما في معناه، وقال آخر: إن لزوم الإضمار الممتنع على تقدير إعمال الأول لا يعين إعمال الثاني فلا يخرج التركيب من باب التنازع بل يعدل حينئذ إلى الحذف فإن تعذر أيضا ذكر مظهرا كما يستفاد من كلام نجم الأئمة وغيره من المحققين.
وقد يقال: إن المانع من كونه من باب التنازع أنه ليس المقصود تعليل الاستجارة بما ذكر كما أن المقصود تعليل الإجارة به. نعم قال شيخ الإسلام إن تعلق الإجارة بسماع كلام الله تعالى يستلزم تعلق الاستجارة أيضا بذلك أو ما في معناه من أمور الدين، وما
روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتاه رجل من المشركين فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله تعالى أو لحاجة قتل قال: لا. لأن الله تعالى يقول:
وإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ إلخ
فالمراد بما فيه من الحاجة هي الحاجة المتعلقة بالدين لا ما يعمها وغيرها من الحاجات الدنيوية كما ينبىء عنه قوله أن يأتي محمدا صلى الله عليه وسلم فإن من يأتيه عليه الصلاة والسلام إنما يأتيه للأمور المتعلقة بالدين انتهى، لكنه ليس بشيء لأن الظاهر من كلام ذلك القائل العموم فيكون جواب الأمير كرم الله تعالى وجهه مؤيدا لما قلناه. ويرد على قوله قدس سره أن يأتيه عليه الصلاة والسلام إنما يأتيه للأمور المتعلقة بالدين منع ظاهر فلا يتم بناء الانباء، وجوز غير واحد كون حتى للغاية والخبر المذكور وجزالة المعنى يشهدان بكونها للتعليل بل قال المولى سري الدين المصري: إن جعلها للغاية يأباه قوله تعالى: ثُمَّ أَبْلِغْهُ بعد سماعه وكلام الله تعالى إن لم يؤمن مَأْمَنَهُ أي مسكنه الذي يأمن فيه أو موضع أمنه وهو ديار قومه على أن المأمن اسم مكان أو مصدر بتقدير مضاف والأول أولى لسلامته من مؤنة التقدير، والجملة الشرطية على ما بينه في الكشف عطف على قوله سبحانه:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ولا حجة في الآية للمعتزلة على نفي الكلام النفسي لأن السماع قد ينسب إليه باعتبار الدال عليه أو يقال: إن الكلام مقول بالاشتراك أو بالحقيقة والمجاز على الكلام النفسي والكلام اللفظي ولا يلزم من تعين أحدهما في مقام نفي ثبوت الآخر في نفس الأمر، وقد تقدم في المقدمات من الكلام ما يتعلق بهذا المقام فتذكر ذلِكَ أي الأمن أو الأمر بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ما الإسلام وما حقيقة ما تدعوهم إليه أو قوم جهلة فلا بد من إعطاء الأمان حتى يفهموا ذلك ولا يبقى لهم معذرة أصلا، والآية كما قال الحسن محكمة.
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن أبي عروبة أنها منسوخة بقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36] وروي ذلك عن السدي. والضحاك أيضا وما قاله الحسن أحسن، واختلف في مقدار مدة الإمهال فقيل: أربعة أشهر وذكر النيسابوري أنه الصحيح من مذهب الشافعي، وقيل: مفوض إلى رأي الإمام ولعله الأشبه.
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ تبيين للحكمة الداعية لما سبق من البراءة ولواحقها والمراد من المشركين الناكثون لأن البراءة إنما هي في شأنهم، والاستفهام لانكار الوقوع، ويكون تامة وكيف في محل النصب على التشبيه بالحال أو الظرف.
وقال غير واحد: ناقصة وكَيْفَ خبرها وهو واجب التقديم لأن الاستفهام له صدر الكلام ولِلْمُشْرِكِينَ متعلق بيكون عند من يجوز عمل الأفعال الناقصة بالظروف أو صفة لعهد قدمت فصارت حالا وعِنْدَ اما متعلق بيكون على ما مر أو بعهد لأنه مصدر أو بمحذوف وقع صفة له، وجوز أن يكون الخبر لِلْمُشْرِكِينَ وعِنْدَ فيها الأوجه المتقدمة، ويجوز أيضا تعلقها بالاستقرار الذي تعلق به لِلْمُشْرِكِينَ أو الخبر عِنْدَ اللَّهِ وللمشركين إما تبيين كما في- سقيا لك- فيتعلق بمقدر مثل أقول هذا الإنكار لهم أو متعلق بيكون وإما حال من عهد أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، ويغتفر تقدم معمول الخبر لكونه جارا ومجرورا، وكَيْفَ على الوجهين الأخيرين شبيهة بالظرف أو بالحال كما في احتمال كون الفعل تاما وهو على ما قاله شيخ الإسلام الأولى لأن في إنكار ثبوت العهد في نفسه من المبالغة ما ليس في إنكار ثبوته للمشركين لأن ثبوته الرابطي فرع ثبوته العيني فانتفاء الأصل يوجب انتفاء الفرع رأسا، وتعقب بأنه غير صحيح لما تقرر أن انتفاء مبدأ المحمول في الخارج لا يوجب انتفاء الحمل الخارجي لاتصاف الأعيان بالاعتبارات والعدميات حتى صرحوا بأن زيدا عمي قضية خارجية مع أنه لا ثبوت عينا للعمى وصرحوا بأن ثبوت الشيء للشيء وإن لم يقتض ثبوت الشيء الثابت في ظرف الاتصاف لكنه يقتضي ثبوته في نفسه ولو في محل انتزاعه، وتحقيق ذلك في محله. نعم في توجيه الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته لأنه إذا انتفى جميع أحوال وجود الشيء وكل موجود يجب أن يكون وجوده على حال فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني أي في أي حال يوجد لهم عهد معتد به عند الله تعالى وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحق أن يراعي حقوقه ويحافظ عليه إلى تمام المدة ولا يتعرض لهم بحسبه قتلا وأخذا.
وتكرير كلمة عند للايذان بعدم الاعتداد عند كل من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام على حدة إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ وهم المستثنون فيما سلف والخلاف هو الخلاف والمعتمد هو المعتمد، والتعرض لكون المعاهدة عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لزيادة بيان أصحابها والاشعار بسبب وكادتها، والاستثناء منقطع وهو بمعنى الاستدراك من النفي المفهوم من الاستفهام الانكاري المتبادر شموله بجميع المعاهدين ومحل الموصول الرفع على الابتداء وخبره مقدر أو هو فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ والفاء لتضمنه معنى الشرط على ما مر وما كما قال غير واحد إما مصدرية منصوبة المحل على الظرفية بتقدير مضاف أي فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم وإما شرطية منصوبة المحل على الظرفية الزمانية أي أي زمان استقاموا لكم فاستقيموا لهم وهو أسلم من القيل صناعة من الاحتمال الأول على التقدير الثاني، ويحتمل أن تكون مرفوعة المحل على الابتداء وفي خبرها الخلاف المشهور واستقيموا جواب الشرط والفاء واقعة في الجواب، وعلى احتمال المصدرية مزيدة للتأكيد.
وجوز أن يكون الاستثناء متصلا ومحل الموصول النصب أو الجر على أنه بدل من المشركين لأن الاستفهام
بمعنى النفي، والمراد بهم الجنس لا المعهودون، وأيّا ما كان فحكم الأمر بالاستقامة ينتهي بانتهاء مدة العهد فيرجع هذا إلى الأمر بالإتمام المار خلا أنه قد صرح هاهنا بما لم يصرح به هناك مع كونه معتبرا فيه قطعا وهو تقييد الإتمام المأمور به ببقائهم على ما كانوا عليه من الوفاء، وعلل سبحانه بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ على طرز ما تقدم حذو القذة بالقذة كَيْفَ تكرير لاستنكار ما مر من أن يكون للمشركين عهد حقيق بالمراعاة عند الله تعالى وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لاستبعاد ثباتهم على العهد وفائدة التكرار التأكيد والتمهيد لتعداد العلل الموجبة لما ذكر لاخلال تخلل ما في البين بالارتباط والتقريب، وحذف الفعل المستنكر للايذان بأن النفس مستحضرة له مترقبة لورود ما يوجب استنكاره، وقد كثر حذف الفعل المستفهم عنه مع كيف ويدل عليه بجملة حالية بعده، ومن ذلك قول كعب الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار:
وخبر تماني أنما الموت في القرى
…
فكيف وهاتا هضبة وقليب
يريد فكيف مات والحال ما ذكر، والمراد هنا كيف يكون لهم عهد معتدّ به عند الله وعند رسوله عليه الصلاة والسلام وَحالهم أنهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يظفروا بكم لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً أي لم يراعوا في شأنكم ذلك، وأصل الرقوب النظر بطريق الحفظ والرعاية ومنه الرقيب ثم استعمل في مطلق الرعاية، والمراقبة أبلغ منه كالمراعاة، وفي نفي الرقوب من المبالغة ما ليس في نفيهما، وما ألطف ذكر الرقوب مع الظهور و «الإل» بكسر الهمزة وقد يفتح على ما روي عن ابن عباس الرحم والقرابة وأنشد قول حسان:
لعمرك إن إلّك من قريش
…
كإلّ السقب من رأل النعام
وإلى ذلك ذهب الضحاك، وروي عن السدي أنه الحلف والعهد، قيل: ولعله بهذا المعنى مشتق من الأل وهو الجوار لأنهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا أصواتهم ثم استعير للقرابة لأن بين القريبين عقد أشد من عقد التحالف، وكونه أشد لا ينافي كونه مشبها لأن الحلف يصرح به ويلفظ فهو أقوى من وجه آخر وليس التشبيه من المقلوب كما توهم، وقيل: مشتق من ألل الشيء إذا حدده أو من أل البرق إذا لمع وظهر ووجه المناسبة ظاهر.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة. ومجاهد أن الإل بمعنى الله عز وجل، ومنه ما روي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قرىء عليه كلام مسيلمة فقال لم يخرج هذا من إل فأين تذهب بكم؟ قيل: ومنه اشتق الإلّ بمعنى القرابة كما اشتقت الرحم من الرحمن، والظاهر أنه ليس بعربي إذ لم يسمع في كلام العرب إل بمعنى اله. ومن هنا قال بعضهم إنه عبري ومنه جبرال: وأيده بأنه قرىء إيلا وهو عندهم بمعنى الله أو الإله أي لا يخافون الله ولا يراعونه فيكم. والذمة الحق الذي يعاب ويذم على إغفاله أو العهد، وسمي به لأن نقضه يوجب الذم، وهي في قولهم في ذمتي كذا محل الالتزام ومن الفقهاء من قال: هو معنى يصير به الآدمي على الخصوص أهلا لوجوب الحقوق عليه، وقد تفسر بالأمان والضمان وهي متقاربة. وزعم بعضهم أن الإلّ والذمة كلاهما هنا بمعنى العهد والعطف للتفسير، ويأباه إعادة لا ظاهرا فليس هو نظير.
فألفي قولها كذبا ومينا فالحق المغايرة بينهما، والمراد من الآية قيل: بيان أنهم أسراء الفرصة فلا عهد لهم، وقيل: الإرشاد إلى أن وجوب مراعاة حقوق العهد على كل من المتعاهدين مشروط بمراعاة الآخر لها فإذا لم يراعها المشركون فكيف تراعونها فهو على منوال قوله:
علام تقبل منهم فدية وهم
…
لا فضة قبلوا منّا ولا ذهبا
ولم أجد لهؤلاء مثلا من هذه الحيثية المشار إليها بقوله سبحانه: وَإِنْ يَظْهَرُوا إلخ إلا أناسا متزينين بزي العلماء وليسوا منهم ولا قلامة ظفر فانهم معي وحسبي الله وكفى على هذا الطرز فرفعهم الله تعالى لا قدرا وحطهم ولا حط عنهم وزرا، وقوله سبحانه: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ استئناف للكشف عن حقيقة شؤونهم الجلية والخفية دافع لما يتوهم من تعليق عدم رعاية العهد بالظفر أنهم يراعونه عند عدم ذلك حيث بين فيه أنهم في حالة العجز أيضا ليسوا من الوفاء في شيء وأن ما يظهرونه أخفاهم الله تعالى مداهنة لا مهادنة، وكيفية ارضائهم المؤمنين أنهم يبدون لهم الوفاء والمصافاة ويعدونهم بالإيمان والطاعة ويؤكدون ذلك بالأيمان الفاجرة والمؤمن غرّ كريم إذا قال صدّق وإذا قيل له صدّق ويتعللون لهم عند ظهور خلاف ذلك بالمعاذير الكاذبة. (1)
وتقييد الإرضاء بالأفواه للايذان بأن كلامهم مجرد ألفاظ يتفوهون بها من غير أن يكون لها مصداق في قلوبهم، وأكد هذا بمضمون الجملة الثانية وزعم بعضهم أن الجملة حالية من فاعل يَرْقُبُوا لا استئنافية، ورد بأن الحال تقتضي المقارنة والإرضاء قبل الظهور الذي هو قبل عدم الرقوب الواقع جزاء فأين المقارنة، وأيضا إن بين الحالتين منافاة ظاهرة فإن الإرضاء بالأفواه حالة إخفاء الكفر والبغض مداراة للمؤمنين وحالة عدم المراعاة والوقوف حالة مجاهرة بالعداوة لهم وحيث تنافيا لا معنى لتقييد إحداهما بالأخرى وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الطاعة متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردهم وتخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التحامي عن العذر والتعفف عما يجر أحدوثة السوء، ووصف الكفرة بالفسق في غاية الذم اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ أي المتضمنة للأمر بإيفاء العهود والاستقامة في كل أمر أو جميع آياته فيدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا، والمراد بالاشتراء الاستبدال، وفي الكلام استعارة تبعية تصريحية ويتبعها مكنية حيث شبهت الآيات بالشيء المبتاع، وقد يكون هناك مجاز مرسل باستعمال المقيد وهو الاشتراء في المطلق وهو الاستبدال على حد ما قالوا في المرسن أي استبدلوا بذلك ثَمَناً قَلِيلًا أي شيئا حقيرا من حطام الدنيا وهو أهواؤهم وشهواتهم التي اتبعوها والجملة كما- قال العلامة الطيبي- مستأنفة كالتعليل لقوله تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ فيه أن من فسق وتمرد كان سببه مجرد اتباع الشهوات والركون إلى اللذات، وفسر بعضهم الثمن القليل بما أنفقه أبو سفيان من الطعام وصرفه إلى الاعراب فَصَدُّوا أي عدلوا وأعرضوا على أنه لازم من صد صدودا أو صرفوا ومنعوا غيرهم على أنه متعدّ من صده عن الأمر صدا، والفاء للدلالة على أن اشتراءهم أداهم إلى الصدود أو الصد عَنْ سَبِيلِهِ أي الدين الحق الموصل إليه تعالى، والإضافة للتشريف، أو سبيل بيته الحرام حيث كانوا يصدون الحجاج والعمار عنه، فالسبيل إما مجاز وإما حقيقة، وحينئذ إما أن يقدر في الكلام مضاف أو تجعل النسبة الإضافية متجوزا فيها إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بئس ما كانوا يعملونه أو عملهم المستمر، والمخصوص بالذم محذوف.
وقد جوز أن يكون كلمة ساء على بابها من التصرف لازمة بمعنى قبح أو معتدية والمفعول محذوف أي ساءهم الذي يعملونه أو عملهم، وإذا كان جارية مجرى بئس تحول إلى فعل بالضم ويمتنع تصرفها كما قرر في محله، وقوله سبحانه: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً نعى عليهم عدم مراعاة حقوق عهد المؤمنين على الإطلاق بخلاف الأول لمكان فِيكُمْ فيه. وفي مُؤْمِنٍ في هذا فلا تكرار كما في المدارك، وقيل: إنه تفسير لما يعملون، وهو مشعر باختصاص الذم والسوء لعملهم هذا دون غيره، وقيل: إن الأول عام في الناقضين وهذا خاص بالذين اشتروا وهم
(1) قوله لأنه إسلام كذا بخطه والظاهر أن لا ساقطة والأصل لأنه لا إسلام إلخ تأمل
فيه وَأُولئِكَ أي الموصوفون بما عدد من الصفات السيئة هُمُ الْمُعْتَدُونَ المجاوزون الغاية القصوى من الظلم والشرارة فَإِنْ تابُوا عما هم عليه من الكفر وسائر العظائم كنقض العهد وغيره، والفاء للايذان بأن تقريعهم بما نعى عليهم من فظائع الأعمال مزجرة عنها ومظنة للتوبة وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ على الوجه المأمور به فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، والجار والمجرور متعلق بإخوانكم- كما قال أبو البقاء- لما فيه من معنى الفعل، قيل: والاختلاف بين جواب هذه الشرطية وجواب الشرطية السابقة مع اتحاد الشرط فيهما لما أن الأولى سيقت إثر الأمر بالقتل ونظائره فوجب أن يكون جوابها أمرا بخلاف هذه، وهذه سيقت بعد الحكم عليهم بالاعتداء وأشباهه فلا بد من كون جوابها حكما البتة، وهذه الآية أجلب لقلوبهم من تلك الآية إذ فرق ظاهر بين تخلية سبيلهم وبين إثبات الأخوة الدينية لهم، وبها استدل على تحريم دماء أهل القبلة، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجاء في رواية ابن جرير وأبي الشيخ عنه أنها حرمت قتال أو دماء أهل الصلاة والمآل واحد، واستدل بها بعضهم على كفر تارك الصلاة إذ مفهومها نفي الاخوة الدينية عنه، وما بعد الحق إلا الضلال، ويلزمه القول بكفر مانع الزكاة أيضا بعين ما ذكره، وبعض من لا يقول بإكفارهما التزم تفسير إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالتزامهما والعزم على إقامتهما ولا شك في كفر من لم يلتزمهما بالاتفاق.
وذكر بعض جلة الأفاضل أنه تعالى علق حصول الأخوة في الدين على مجموع الأمور الثلاثة التوبة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والمعلق على الشيء بكلمة إن ينعدم عند عدم ذلك الشيء فيلزم أنه متى لم توجد هذه الثلاثة لا تحصل الأخوة في الدين وهو مشكل، لأن المكلف المسلم لو كان فقيرا أو كان غنيا لكن لم ينقض عليه الحول لا يلزمه إيتاء الزكاة فإذا لم يؤتها فقد انعدم عنه ما توقف عليه حصول أخوة الدين فيلزم أن لا يكون مؤمنا، إلا أن يقال:
التعليق بكلمة إن إنما يدل على مجرد كون المعلق عليه مستلزما ما علق عليه ولا يدل على انعدام المعلق عليه بانعدامه بل يستفاد ذلك من دليل خارجي لجواز أن يكون المعلق لازما أعم فيتحقق بدون تحقق ما جعل ملزوما له، ولو سلّم أن نفس التعليق يدل على انعدام المعلق عند انعدام المعلق عليه، لكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن لا يكون المسلم الفقير مؤمنا بعدم إيتاء الزكاة وإنما يلزم ذلك أن لو كان المعلق عليه ايتاؤها على جميع التقادير وليس كذلك، بل المعلق عليه هو الإيتاء عند تحقق شرائط مخصوصة مبينة بدلائل شرعية انتهى.
وأنت تعلم ما في القول بمفهوم الشرط من الخلاف والحنفية يقولون به، والظاهر أن هذا البحث كما يجري في إيتاء الزكاة يجري في إقامة الصلاة. واستدل ابن زيد باقترانهما على أنه لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة.
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكّ فلا صلاة له وَنُفَصِّلُ الْآياتِ أي نبينها، والمراد بها إما ما مر من الآيات المتعلقة بأحوال المشركين من الناكثين وغيرهم وأحكامهم حالتي الكفر والإيمان وإما جميع الآيات فيندرج فيها تلك الآيات اندراجا أوليا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما فصلنا أو من ذوي العلم على أن الفعل متعدّ ومفعوله مقدر أو منزل منزلة اللازم، والعلم كما قيل كناية عن التأمل والتفكر أو مجاز مرسل عن ذلك بعلاقة السببية، والجملة معترضة للحث على التأمل في الآيات، وتدبرها، وقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا عطف على قوله سبحانه: فَإِنْ تابُوا أي وإن لم يفعلوا ذلك بل نقضوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ الموثق بها وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر وأخرجوه من القوة إلى الفعل، وجوز أن يكون المراد وإن ثبتوا واستمروا على ما هم عليه من النكث، وفسر بعضهم النكث بالارتداد بقرينة ذكره في مقابلة فَإِنْ تابُوا والأول أولى بالمقام وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ قدحوا فيه بأن أعابوه وقبحوا أحكامه علانية.
وجعل ابن المنير طعن الذمي في ديننا بين أهل دينه إذا بلغنا كذلك، وعد هذا كثير ومنهم الفاضل المذكور نقضا للعهد، فالعطف من عطف الخاص على العام وبه ينحل ما يقال: كان الظاهر أو طعنوا لأن كلّا من الطعن وما قبله كاف في استحقاق القتل والقتال، وكون الواو بمعنى أو بعيد، وقيل: العطف للتفسير كما في قولك: استخف فلان بي وفعل معي كذا، على معني وإن نكثوا أيمانهم بطعنهم في دينكم والأول أولى، ولا فرق بين توجيه الطعن إلى الدين نفسه اجمالا وبين توجيهه إلى بعض تفاصيله كالصلاة والحج مثلا، ومن ذلك الطعن بالقرآن وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحاشاه بسوء فيقتل الذمي به عند جمع مستدلين بالآية سواء شرط انتقاض العهد به أم لا. وبمن قال بقتله إذا أظهر الشتم والعياذ بالله مالك والشافعي وهو قول الليث وأفتى به ابن الهمام، والقول بأن أهل الذمة يقرون على كفرهم الأصلي بالجزية وذا ليس بأعظم منه فيقرون عليه بذلك أيضا وليس هو من الطعن المذكور في شيء ليس من الانصاف في شيء، ويلزم عليه أن لا يعزروا أيضا كما لا يعزرون بعد الجزية على الكفر الأصلي، وفيه لعمري بيع يتيمة الوجود صلى الله عليه وسلم بثمن بخس والدنيا بحذافيرها بل والآخرة بأسرها في جنب جنابه الرفيع جناح بعوضة أو أدنى وقال بعضهم: إن الآية لا تدل على ما ادعاه الجمع بفرد من الدلالات وإنها صريحة في أن اجتماع النكث والطعن يترتب عليه ما يترتب فكيف تدل على القتل بمجرد الطعن وفيه ما فيه، ولا يخفى حسن موقع الطعن مع القتال المدلول عليه بقوله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي فقاتلوهم، ووضع فيه الظاهر موضع الضمير وسموا أئمة لأنهم صاروا بذلك رؤساء متقدمين على غيرهم بزعمهم فهم أحقاء بالقتال والقتل وروي ذلك عن الحسن، وقيل: المراد بأئمتهم رؤساؤهم وصناديدهم مثل أبي سفيان. والحارث بن هشام، وتخصيصهم بالذكر لأن قتلهم أهم لا لأنه لا يقتل غيرهم، وقيل: للمنع من مراقبتهم لكونهم مظنة لها أو للدلالة على استئصالهم فإن قتلهم غالبا يكون بعد قتل من دونهم، وعن مجاهد أنهم فارس والروم وفيه بعد. وأخرج ابن أبي شيبة، وغيره عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد وما أدري ما مراده والله تعالى أعلم بمراده، وقرأ نافع وابن كثير. وأبو عمرو «أئمة» بهمزتين ثانيتهما بين بين أي بين مخرج الهمزة والياء والألف بينهما، والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما من غير إدخال ألف، وهشام كذلك إلا أنه أدخل بينهما الألف هذا هو المشهور عن القراء السبعة. ونقل أبو حيان عن نافع المد بين الهمزتين والياء.
وضعف كما قال بعض المحققين قراءة التحقيق وبين بين جماعة من النحويين كالفارسي، ومنهم من أنكر التسهيل بين بين وقرأ بياء خفيفة الكسرة، وأما القراءة بالياء فارتضاها أبو علي وجماعة، والزمخشري جعلها لحنا، وخطأه أبو حيان في ذلك لأنها قراءة رأس القراء والنحاة أبي عمرو، وقراءة ابن كثير. ونافع وهي صحيحة رواية، وعدم ثبوتها من طريق التيسير يوجب التضييق وكذا دراية فقد ذكر هو في المفصل وسائر الأئمة في كتبهم أنه إذا اجتمعت همزتان في كلمة فالوجه قلب الثانية حرف لين كما في آدم وأئمة فما اعتذر به عنه غير مقبول. والحاصل أن القراءات هنا تحقيق الهمزتين وجعل الثانية بين بين بلا إدخال ألف وبه والخامسة بياء صريحة وكلها صحيحة لا وجه لانكارها، ووزن أئمة أفعلة كحمار وأحمرة، وأصله أئممة فنقلت حركة الميم إلى الهمزة وأدغمت ولما ثقل اجتماع الهمزتين فروا منه ففعلوا ما فعلوا إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي على الحقيقة حيث لا يراعونها ولا يفون بها ولا يرون نقضها نقصا وإن أجروها على ألسنتهم، وإنما علق النفي بها كالنكث فيما سلف لا بالعهد المؤكد بها لأنها العمدة في المواثيق، والجملة في موضع التعليل إما لمضمون الشرط كأنه قيل: وإن نكثوا وطعنوا كما هو المتوقع منهم إذ لا أيمان لهم حقيقة حتى ينكثوها فقاتلوا أو لاستمرار القتال المأمور به المستفاد من السياق فكأنه قيل: فقاتلوهم إلى أن يؤمنوا إنهم لا أيمان لهم حتى يعقد معهم عقد آخر، وجعلها تعليلا للأمر بالقتال لا يساعده تعليقه بالنكث والطعن لأن حالهم في
أن لا أيمان لهم حقيقة بعد ذلك كحالهم قبله، والحمل على معنى عدم بقاء أيمانهم بعد النكث والطعن مع أنه لا حاجة إلى بيانه خلاف الظاهر، وقيل: هو تعليل لما يستفاد من الكلام من الحكم عليهم بأنهم أئمة الكفر أي إنهم رؤساء الكفرة وأعظمهم شرا حيث ضموا إلى كفرهم عدم مراعاة الأيمان وهو كما ترى، والنفي في الآية عند الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة على ما هو المتبادر، فيمين الكافر ليست يمينا عنده معتدا بها شرعا، وعند الشافعي عليه الرحمة هي يمين لأن الله تعالى وصفها بالنكث في صدر الآية وهو لا يكون حيث لا يمين ولا أيمان لهم بما علمت. وأجيب بأن ذلك باعتبار اعتقادهم أنه يمين، ويبعده أن الاخبار من الله تعالى والخطاب للمؤمنين، وقال آخرون: إن الاستدلال بالنكث على اليمين إشارة أو اقتضاء ولا أيمان لهم عبارة فتترجح، والقول بأنها تؤول جمعا بين الأدلة فيه نظر لأنه إذا كان لا بد من التأويل في أحد الجانبين فتأويل غير الصريح أولى، ولعله لا يعتبر في ذلك التقدم والتأخر، وثمرة الخلاف أنه لو أسلم الكافر بعد يمين انعقدت في كفره ثم حنث هل تلزمه الكفارة فعند أبي حنيفة عليه الرحمة لا وعند الشافعي رحمه الله تعالى نعم.
وقرأ ابن عامر «إيمان» بكسر الهمزة على أنه مصدر آمنه إيمانا بمعنى أعطاه الأمان، ويستعمل بمعنى الحاصل بالمصدر وهو الأمان، والمراد أنه لا سبيل إلى أن تعطوهم أمانا بعد ذلك أبدا، قيل: وهذا النفي بناء على أن الآية في مشركي العرب وليس لهم إلا الإسلام أو السيف، ومن الناس من زعم أن المراد لا سبيل إلى أن يعطوكم الأمان بعد، وفيه أنه مشعر بأن معاهدتهم معنا على طريقة أن يكون إعطاء الأمان من قبلهم وهو بين البطلان، أو على أن الايمان بمعنى الإسلام، والجملة على هذا تعليل لمضمون الشرط لا غير على ما بينه شيخ الإسلام كأنه قيل، إن نكثوا وطعنوا كما هو الظاهر من حالهم لأنه إسلام (1) لهم حتى يرتدعوا عن نقض جنس إيمانهم وعن الطعن في دينكم، وتشبث بهذه الآية على هذه القراءة من قال: إن المرتد لا تقبل توبته بناء على أن الناكث هو المرتد وقد نفى الإيمان عنه، ونفيه مع أنه قد يقع منه نفي لصحته والاعتداد به ولا يخفى ضعفه لما علمت من معنى الآية، وقد قالوا: الاحتمال يسقط الاستدلال، وقال القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله في بيان ضعفه: إنه يجوز أن يكون المراد نفي الإيمان عن قوم معينين والإخبار عنهم بأنه طبع على قلوبهم فلا يصدر منهم إيمان أصلا، أو يكون المراد أن المشركين لا إيمان لهم حتى يراقبوا ويمهلوا لأجله، ويفهم من هذا أنه لم يجعل الجملة تعليلا لمضمون الشرط كما ذكرنا والظاهر أنه جعلها تعليلا لقوله سبحانه: فَقاتِلُوا يعني أن المانع من قتلهم أحد أمرين إما العهد وقد نقضوه أو الإيمان وقد حرموه، وربما يؤول ذلك إلى جعلها علة لما يفهم من الكلام كأنه قيل: إن نكثوا وطعنوا فقاتلوهم ولا تتوقفوا لأنه لا مانع أصلا بعد ذلك لأنهم لا إيمان لهم ليكون مانعا ولا يخفى ما فيه.
وإن قيل: إنه سقط به ما قيل: إن وصف أئمة الكفر بأنهم لا إسلام لهم تكرار مستغنى عنه، وجعل الجملة تعليلا لما يستفاد من الكلام من الحكم عليهم بأنهم أئمة الكفر أي رؤساؤه على احتمال أن يراد الإخبار عن قوم مخصوصين بالطبع أظهر من جعلها تعليلا لها على القراءة السابقة. نعم يأبى حديث الإخبار بالطبع قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ إذ مع الطبع لا يتصور الانتهاء وهو متعلق بقوله سبحانه: فَقاتِلُوا أي قاتلوهم إرادة أن ينتهوا، أي ليكن غرضكم من القتال انتهاؤهم عما هم عليه من الكفر وسائر العظائم لا مجرد إيصال الأذية بهم كما هم شنشنة المؤذين، ومما قرر يعلم أن الترجي من المخاطبين لا من الله عزّ شأنه أَلا تُقاتِلُونَ تحريض على القتال لأن الاستفهام فيه للانكار
(1) قوله لأنه إسلام كذا بخطه والظاهر أن لا ساقطة والأصل لأنه لا إسلام إلخ تأمل
والاستفهام الانكاري في معنى النفي وقد دخل النفي ونفي النفي إثبات، وحيث كان الترك مستقبحا منكرا أفاد بطريق برهاني أن إيجاده أمر مطلوب مرغوب فيه فيفيد الحث والتحريض عليه، وقد يقال: وجه التحريض على القتال أنهم حملوا على الإقرار بانتفائه كأنه أمر لا يمكن أن يعترف به طائعا لكمال شناعته فيلجؤون إلى ذلك ولا يقدرون على الإقرار به فيختارون القتال فيقاتلون قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ التي حلفوها عند المعاهدة لكم على أن لا يعاونوا عليكم فعاونوا حلفاءهم بني بكر على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خزاعة، والمراد بهم قريش وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ من مكة مسقط رأسه عليه الصلاة والسلام حين تشاوروا بدار الندوة حسبما ذكر في قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 30] وقال الجبائي: هم اليهود الذين نقضوا العهد وخرجوا مع الأحزاب وهموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة، ولا يخفى أنه يأباه السياق وعدم القرينة عليه، والأول هو المروي عن مجاهد والسدي وغيرهما، واعترض بأن ما وقع في دار الندوة هو الهم بالإخراج أو الحبس أو القتل والذي استقر رأيهم عليه هو القتل لا الإخراج فما وجه التخصيص، وأجيب بأن التخصيص لأنه الذي وقع في الخارج ما يضاهيه مما ترتب على همهم وإن لم يكن بفعل منهم بل من الله تعالى لحكمة وما عداه لغو فخص بالذكر لأنه المقتضى للتحريض لا غيره مما لم يظهر له أثر.
وقيل: إنه سبحانه اقتصر على الأدنى ليعلم غيره بطريق أولى، ولا يرد عليه أنه ليس بأدنى من الحبس كما توهم لأن بقاءه عليه الصلاة والسلام في يد عدوه المقتضي للتبريح بالتهديد ونحوه أشد منه بلا شبهة وَهُمْ بَدَؤُكُمْ بالمقاتلة أَوَّلَ مَرَّةٍ وذلك يوم بدر وقد قالوا بعد أن بلغهم سلامة العير: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا صلى الله عليه وسلم ومن معه، وقال الزجاج: بدؤوا بقتال خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وإليه ذهب الأكثرون، واختار جمع الأول لسلامته من التكرار، وقد ذكر سبحانه ثلاثة أمور كل منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد فكيف بها حال الاجتماع ففي ذلك من الحث على القتال ما فيه ثم زاد ذلك بقوله سبحانه: أَتَخْشَوْنَهُمْ وقد أقيم فيه السبب والعلة مقام المسبب والمعلول، والمراد أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ بمخالفة أمره وترك قتال عدوه، والاسم الجليل مبتدأ وأَحَقُّ خبره وأَنْ تَخْشَوْهُ بدل من الجلالة بدل اشتمال أو بتقدير حرف جر أي بأن تخشوه فمحله النصب أو الجر بعد الحذف على الخلاف، وقيل: إن أَنْ تَخْشَوْهُ مبتدأ خبره أَحَقُّ والجملة خبر الاسم الجليل، أي خشية الله تعالى أحق أو الله أحق من غيره بالخشية والله خشيته أحق، وخير الأمور عندي أوسطها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن مقتضى إيمان المؤمن الذي يتحقق أنه لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى ولا يقدر أحد على مضرة ونفع إلا بمشيئته أن لا يخاف إلا من الله تعالى، ومن خاف الله تعالى منه كل شيء، وفي هذا من التشديد ما لا يخفى قاتِلُوهُمْ تجريد للأمر بالقتال بعد بيان موجبه على أتم وجه والتوبيخ على تركه ووعد بنصرهم وبتعذيب أعدائهم وإخزائهم وتشجيع لهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ بالقتل وَيُخْزِهِمْ ويذلهم بالأسر، وقد يقال: يعذبهم قتلا وأسرا ويذلهم بذلك وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ أي يجعلكم جميعا غالبين أجمعين ولذلك أخر- كما قال بعض المحققين- عن التعذيب والإخزاء وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قد تألموا من جهتهم، والمراد بهم أناس من خزاعة حلفائه عليه الصلاة والسلام كما قال عكرمة. وغيره،
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة وأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال عليه الصلاة والسلام: «أبشروا فإن الفرج قريب» .
وروي عنه رضي الله تعالى عنه أن قوله سبحانه: أَلا تُقاتِلُونَ إلخ ترغيب في فتح مكة وأورد عليه أن هذه السورة نزلت بعد الفتح فكيف يتأتى ما ذكر. وأجيب بأن أولها نزل بعد الفتح وهذا قبله، وفائدة عرض البراءة من
عهدهم مع أنه معلوم من قتال الفتح وما وقع فيه من الدلالة على عمومه لكل المشركين ومنعهم من البيت فتذكر ولا تغفل، قيل: ولا يبعد حمل المؤمنين على العموم لأن كل مؤمن يسر بقتل الكفار وهوانهم وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ بما نالهم منهم من الأذى ولم يكونوا قادرين على دفعه، وقيل: المراد يذهب غيظهم لانتهاك محارم الله تعالى والكفر به عز وجل وتكذيب رسوله عليه الصلاة والسلام.
وظاهر العطف أن إذهاب الغيظ غير شفاء الصدور. ووجه بأن الشفاء بقتل الأعداء وخزيهم واذهاب الغيظ بالنصرة عليهم أجمعين. ولكون النصرة مثير؟ القصد كان أثرها اذهاب الغيظ من القلب الذي هو أخص من الصدر.
وقيل: اذهاب الغيظ كالتأكيد لشفاء الصدر وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمن الله تعالى عليهم من تعذيبه أعداءهم وإخزائهم ونصرته سبحانه لهم عليهم، ولعل اذهاب الغيظ من القلب أبلغ مما عطف عليه فيكون ذكره من باب الترقي ولا يخلو عن حسن. وقيل: إن شفاء الصدور بمجرد الوعد بالفتح واذهاب الغيظ بوقوع الفتح نفسه وليس بشيء، وقد أنجز الله تعالى جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون فالآية من المعجزات لما فيها من الإخبار بالغيب ووقع ما أخبر عنه. واستدل بها على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وقيل: إن إسناد التعذيب إليه سبحانه مجاز باعتبار أنه جل وعلا مكنهم منه وأقدرهم عليه.
وفي الحواشي الشهابية قيل: إن قوله سبحانه: بِأَيْدِيكُمْ كالصريح بأن مثل هذه الأفعال التي تصلح للباري فعل له تعالى وإنما للعبد الكسب بصرف القوى والآلات، وليس الحمل على الإسناد المجازي بمرضيّ عند العارف بأساليب الكلام، ولا الإلزام بالاتفاق على امتناع كتب الله تعالى بأيديكم وامتناع كذب الله تعالى شأنه بألسنة الكفار بوارد لأن مجرد خلق الفعل لا يصحح إسناده إلى الخالق ما لم يصلح محلا له، وامتناع ما ذكر للاحتراز عن شناعة العبارة إذ لا يقال: يا خالق القاذورات ولا المقدر للزنا والممكن منه، ثم قال: ولا يخفى ما فيه فإنه تعالى لا يصلح محلا للقتل ولا للضرب ونحوه مما قصد بالاذلال وإنما هو خالق له، والفعل لا يسند حقيقة إلى خالقه وإن كان هو الفاعل الحقيقي للفرق بينه وبين الفاعل اللغوي إذ لا يقال: كتب الله تعالى بيد زيد على أنه حقيقة بلا شبهة مع أنه لا شناعة فيه لقوله سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ فما ذكره غير مسلم اهـ. وأنا أقول: إن مسألة خلق الأفعال قد قضى العلماء المحققون الوطر منها فلا حاجة إلى بسط الكلام فيها، وقد تكلموا في الآية بما تكلموا ولكن بقي فيها شيء وهو السر في نسبة التعذيب إليه تعالى وذكر الأيدي ولم يذكروه، ولعل ذلك في النسبة إرادة المبالغة فإنه تعذيب الله تعالى القوي العزيز وإن كان بأيدي العباد وفي ذكر الأيدي إما التنصيص على أن ذلك في الدنيا لا في الآخرة وإما لتكون البشارة بالتعذيب على الوجه الأتم الذي يترتب عليه شفاء الصدور ونحوه على الوجه الأكمل إذ فرق بين تعذيب العدو بيد عدوه وتعذيبه لا بيده، ولعمري إن الأول أحلى وأوقع في النفس فافهم. ولا يخفى ما في الآية من الانسجام حيث يخرج منها بيت كامل من الشعر وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ابتداء إخباء بأن بعض هؤلاء الذين أمروا بمقاتلتهم يتوب من كفره فيتوب الله تعالى عليه وقد كان كذلك حيث أسلم منهم أناس وحسن إسلامهم. وقرأ الأعرج وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي وعمرو بن عبيد «ويتوب» بالنصب ورويت عن أبي عمرو. ويعقوب أيضا، واستشكلها الزجاج بأن توبة الله تعالى على من يشاء واقعة قاتلوا أو لم يقاتلوا والمنصوب في جواب الأمر مسبب عنه فلا وجه لإدخال التوبة في جوابه، وقال ابن جني: إن ذلك كقولك: إن تزرني أحسن إليك وأعط زيدا كذا على أن المسبب عن الزيارة جميع الأمرين لا أن كل واحد مسبب بالاستقلال، وقد قالوا بنظير ذلك في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1، 2] إلخ وفيه تعسف.
وقال بعضهم: إنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على البعض فإذا قاتلوا جرى قتالهم مجرى التوبة من تلك الكراهية فيصير المعنى إن تقاتلوهم يعذبهم الله ويتب عليكم من كراهة قتالهم، ولا يخفى أن الظاهر أن التوبة للكفار، وذكر بعض المدققين أن دخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى لأنه يكون منصوبا بالفاء فهو على عكس فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقين: 10] وهو المسمى بعطف التوهم، ووجهه أن القتال سبب لغل شوكتهم وإزالة نخوتهم فيتسبب لذلك لتأملهم ورجوعهم عن الكفر كما كان من أبي سفيان. وعكرمة. وغيرهما، والتقييد بالمشيئة للإشارة إلى أنها السبب الأصلي وأن الأول سبب عادي وللتنبيه إلى أن إفضاء القتال إلى التوبة ليس كافضائه إلى البواقي، وزعم بعض الأجلة أن قراءة الرفع على مراعاة المعنى حيث ذكر مضارع مرفوع بعد مجزوم هو جواب الأمر ففهم منه أن المعنى ويتوب الله على من يشاء على تقدير المقابلة لما يرون من ثباتكم وضعف حالهم.
وأما قراءة النصب فمراعاة اللفظ إذ عطف على المجزوم منصوب بتقدير نصبه وليس بشيء، والحق أنه على الرفع مستأنف كما قدمنا وَاللَّهُ عَلِيمٌ لا تخفى عليه خافية حَكِيمٌ لا يفعل ولا يأمر إلا بما فيه حكمة ومصلحة فامتثلوا أمره عز وجل، وإيثار إظهار الاسم الجليل على الإضمار لتربية المهابة وإدخاله الروعة.
أَمْ حَسِبْتُمْ خطاب لمن شق عليه القتال من المؤمنين أو المنافقين وأَمْ منقطعة جيء بها للانتقال عن أمرهم بالقتال إلى توبيخهم أو من التوبيخ السابق إلى توبيخ آخر، والهمزة المقدرة مع بل للتوبيخ على الحسبان المذكور أي بل أحسبتم وظننتم أَنْ تُتْرَكُوا على ما أنتم عليه ولا تؤمروا بالجهاد ولا تبتلوا بما يمحصكم وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ الواو حالية ولَمَّا للنفي مع التوقع ونفي العلم، والمراد نفي المعلوم وهو الجهاد على أبلغ وجه إذ هو بطريق البرهان إذ لو وقع جهادهم علمه الله تعالى لا محالة فإن وقوع ما لا يعلمه عز وجل محال كما أن عدم وقوع ما يعلمه كذلك وإلا لم يطابق علمه سبحانه الواقع فيكون جهلا وهو من أعظم المحالات، فالكلام من باب الكناية، وقيل: إن العلم مجاز عن التبيين مجازا مرسلا باستعماله في لازم معناه. وفي الكشاف ما يشعر أولا بأن العلم مجاز عما ذكر وثانيا ما يشعر بأنه من باب الكناية. وأجيب عنه بأنه أشار بذلك إلى أنه استعمل لنفي الوجود مبالغة في نفي التبيين، وما ذكره أولا من قوله: إنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين المخلصين منكم وهم الذين جاهدوا في سبيل الله تعالى لوجهه جل شأنه حاصل المعنى، وذلك لأنه خطاب للمؤمنين إلهابا لهم وحثا على ما حضهم عليه بقوله سبحانه: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ فإذا وبخوا على حسبان أن يتركوا ولم يوجد فيما بينهم مجاهد مخلص دل على أنهم إن لم يقاتلوا لم يكونوا مخلصين وأن الإخلاص إذا لم يظهر أثره بالجهاد في سبيل الله تعالى ومضادة الكفار كلا إخلاص، ولو فسر العلم بالتبين لم يفد هذه المبالغة فتدبر، وقوله تعالى: وَلَمْ يَتَّخِذُوا عطف على جاهدوا وداخل في حيز الصلة أو حال من فاعله، أي جاهدوا حال كونهم غير متخذين مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً أي بطانة وصاحب سر كما قال ابن عباس، وهي من الولوج وهو الدخول وكل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة، ويكون للمفرد وغيره بلفظ واحد وقد يجمع على ولائج، ومِنْ دُونِ متعلق بالاتخاذ إن أبقي على حاله أو مفعول ثان له إن جعل بمعنى التصيير وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي بجميع أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقرىء على الغيبة وفي هذا إزاحة لما يتوهم من ظاهر قوله سبحانه: وَلَمَّا يَعْلَمِ إلخ من أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها كما ذهب إليه هشام مستدلا بذلك.
ووجه الازاحة أن تَعْمَلُونَ مستقبل فيدل على خلاف ما ذكره ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أي لا ينبغي لهم ولا يليق وإن وقع أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ الظاهر أن المراد شيئا من المساجد لأنه جمع مضاف فيعم ويدخل فيه
المسجد الحرام دخولا أوليا، وتعميره مناط افتخارهم، ونفي الجمع يدل على النفي عن كل فرد فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية، وعن عكرمة. وغيره أن المراد به المسجد الحرام واختاره بعض المحققين، وعبر عنه بالجمع لأنه قبلة المساجد وإمامها المتوجهة إليه محاريبها فعامره كعامرها، أو لأن كل مسجد ناحية من نواحيه المختلفة مسجد على حياله بخلاف سائر المساجد، ويؤيد ذلك قراءة أبي عمرو ويعقوب وابن كثير وكثير (1)«مسجد» بالتوحيد، وحمل بعضهم ما كانَ على نفي الوجود والتحقق، وقدر بأن يعمروا بحق لأنهم عمروها بدونه ولا حاجة إلى ذلك على ما ذكرنا شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ بإظهارهم ما يدل عليه وإن لم يقولوا نحن كفار، وقيل: بقولهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقيل: بقولهم كفرنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو حال من الضمير في يَعْمُرُوا قيل: أي ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة البيت والكفر بربه سبحانه، وقال بعضهم: إن المراد محال أن يكون ما سموه عمارة بيت الله تعالى مع ملابستهم لما ينافيها ويحبطها من عبادة غيره سبحانه فانها ليست من العمارة في شيء، واعترض على قولهم: إن المعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين متنافين بأنه ليس بمعرب عن كنه المرام، فإن عدم استقامة الجمع بين المتنافيين إنما يستدعى انتفاء أحدهما لا بعينه لا انتفاء العمارة الذي هو المقصود، وظاهره أن النفي في الكلام راجع إلى المقيد، وحينئذ لا مانع من أن يكون المراد من ما كانَ نفي اللياقة على ما ذكرنا، والغرض ابطال افتخار المشركين بذلك لاقترانه بما ينافيه وهو الشرك. وجوز أن يوجه النفي إلى القيد كما هو الشائع وتكلف له بما لا يخلو عن نظر. ولعل من قال في بيان المعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا إلخ جعل محط النظر المقارنة التي أشعر بها الحال، ومع هذا لا يأبى أن يكون المقصود نظرا للمقام نفي صحة الافتخار بالعمارة والسقاية فتدبر جدا.
ومما يدل على أن المقام لنفي الافتخار وما أخرجه أبو الشيخ وابن جرير عن الضحاك لما أسر العباس عيره المسلمون بالشرك وقطيعة الرحم وأغلظ عليه عليّ كرم الله تعالى وجهه في القول، فقال: تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونقري الحجيج ونفك العاني فنزلت: وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحو أُولئِكَ أي المشركون المذكورون حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي يفتخرون بها بما قارنها من الكفر فصارت كلا شيء وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ لعظم ما ارتكبوه، وإيراد الجملة اسمية للمبالغة في الخلود، والظرف متعلق بالخبر قدم عليه للاهتمام به ومراعاة للفاصلة.
وهذه الجملة قيل: عطف على جملة حَبِطَتْ على أنها خبر آخر لأولئك، وقيل: هي مستأنفة كجملة أُولئِكَ حَبِطَتْ وفائدتهما تقرير النفي السابق الأولى من جهة نفي استتباع الثواب والثانية من جهة نفي استدفاع العذاب.
(1) كابن عباس، ومجاهد. وابن جبير اه منه. [.....]
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ اختلف في المراد بالمساجد هنا كما اختلف في المراد بها هناك، خلا أن من قال هناك بأن المراد المسجد الحرام لا غير جوز هنا إرادة جميع المساجد قائلا: إنها غير مخالفة لمقتضى الحال فإن الإيجاب ليس كالسلب وادعى أن المقصود قصر تحقق العمارة على المؤمنين لا قصر لياقتها وجوازها وأنا أرى قصر اللياقة لائقا بلا قصور، وقرىء بالتوحيد أي إنما يليق أن يعمرها مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ على الوجه الذي نطق به الوحي وَأَقامَ
الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ
التي أتى بهما الرسول صلى الله عليه وسلم فيندرج في ذلك الإيمان به عليه الصلاة والسلام حتما إذ لا يتلقى ذلك إلا منه صلى الله عليه وسلم.
وجوز أن يكون ذكر الإيمان به عليه الصلاة والسلام قد طوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى دلالة على أنهما كشيء واحد إذا ذكر أحدهما فهم الآخر، على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى ما يجب الإيمان به أجمع ومن جملته رسالته صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنما لم يذكر عليه الصلاة والسلام لأن المراد «بمن» هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه أي المستحق لعمارة المساجد من هذه صفته كائنا من كان، وليس الكلام في إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام والإيمان به بل فيه نفسه وعمارته المسجد واستحقاقه لها، فالآية على حد قوله سبحانه: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً إلى قوله تعالى:
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ [الأعراف: 158] والوجه الثاني أولى. والمراد بالعمارة ما يعم مرمة ما استرم منها وقمها وتنظيفها وتزيينها بالفرش لا على وجه يشغل قلب المصلى عن الحضور، ولعل ما هو من جنس ما يخرج من الأرض كالقطن والحصر السامانية أولى من نحو الصوف إذ قيل: بكراهة الصلاة عليه، وتنويرها بالسرج ولو لم يكن هناك من يستضيء بها على ما نص عليه جمع، وإدامة العبادة والذكر ودراسة العلوم الشرعية فيها ونحو ذلك، وصيانتها مما لم تبن له في نظر الشارع كحديث الدنيا، ومن ذلك الغناء على مآذنها كما هو معتاد الناس لا سيما بالأبيات التي غالبها هجر من القول.
وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش»
وهذا الحديث في الحديث المباح فما ظنك بالمحرم مطلقا أو المرفوع فوق المآذن.
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن سلمان رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ في بيته ثم أتى المسجد فهو زائر الله تعالى وحق على المزور أن يكرم الزائر»
وأخرج سليم الرازي في الترغيب عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوءه»
وأخرج أبو بكر الشافعي. وغيره عن أبي قرصافة قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين» وسمعته عليه الصلاة والسلام يقول «من بنى لله تعالى مسجدا بنى الله تعالى له بيتا في الجنة فقالوا: يا رسول الله وهذه المساجد التي تبنى في الطرق. فقال عليه الصلاة والسلام: وهذه المساجد التي تبنى في الطرق»
وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الغدو والرواح إلى المسجد من الجهاد في سبيل الله تعالى»
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه وجماعة عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان وتلا صلى الله عليه وسلم إنما يعمر» الآية.
واستشكل ذكر إيتاء الزكاة في الآية بأنه لا تظهر مدخليته في العمارة، وتكلف لذلك بأن الفقراء يحضرون المساجد للزكاة فتعمر بهم وأن من لا يبذل المال للزكاة الواجبة لا يبذله لعمارتها وهو كما ترى. والحق أن المقصود بيان أن من يعمر المساجد هو المؤمن الظاهر إيمانه وهو إنما يظهر بإقامة واجباته، فعطف الإقامة والإيتاء على الإيمان للإشارة إلى ذلك وَلَمْ يَخْشَ أحدا إِلَّا اللَّهَ فعمل بموجب أمره ونهيه غير آخذ له في الله تعالى لومة لائم ولا مانع له خوف ظالم فيندرج فيه عدم الخشية عند القتال الموبخ عليها في قوله سبحانه: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ وأما الخوف الجبليّ من الأمور المخوفة فليس من هذا الباب ولا هو مما يدخل تحت التكليف، والخطاب والنهي في قوله تعالى: خُذْها وَلا تَخَفْ [طه: 21] ليس على حقيقته.
وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفي تلك الخشية عنهم فَعَسى أُولئِكَ المنعوتون بأكمل النعوت أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي إلى الجنة وما أعد الله تعالى فيها لعباده كما روي عن ابن عباس والحسن،
وإبراز اهتدائهم لذلك مع ما بهم من تلك الصفات الجليلة في معرض التوقع لحسم أطماع الكافرين عن الوصول إلى مواقف الاهتداء لأن هؤلاء المؤمنين وهم- هم- إذا كان أمرهم دائرا بين لعل وعسى فما بال الكفرة بيت المخازي والقبائح، وفيه قطع اتكال المؤمنين على أعمالهم وما هم عليه وإرشادهم إلى ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء، وهذا هو المناسب للمقام لا الاطماع وسلوك سنن الملوك مع كون القصد إلى الوجوب، وكون الكفرة يزعمون أنهم محقون وأن غيرهم على الباطل فلا يتأتى حسم أطماعهم لا يلتفت إليه بعد ظهور الحق وهذا لا ريب فيه.
وقيل: إن الأوصاف المذكورة، وإن أوجبت الاهتداء، ولكن الثبات عليها مما لا يعلمه إلا الله تعالى وقد يطرأ ما يوجب ضد ذلك والعبرة للعاقبة، فكلمة التوقع يجوز أن تكون لهذا ولا يخفى ما فيه فإن النظر إلى العاقبة هنا لا يناسب المقام الذي يقتضي تفضيل المؤمنين عليهم في الحال.
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ السقاية والعمارة مصدرا سقي وعمر بالتخفيف إذ عمر المشدد يقال في عمر الإنسان لا في العمارة كما يتوهمه العوام، وصحت الياء في سقاية لأن بعدها هاء التأنيث، وظاهر الآية تشبيه الفعل بالفاعل والصفة بالذات وأنه لا يحسن هنا فلا بد من التقدير، إما في جانب الصفة أي أجعلتم أهل السقاية والعمارة كمن آمن، ويؤيده قراءة محمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنه وابن الزبير وأبي جعفر وأبي وجزة السعدي وهو من القراء وإن اشتهر بالشعر «أجعلتم سقاة الحاج» بضم السين جمع ساق «وعمرة المسجد» بفتحتين جمع عامر، وكذا قراءة الضحاك «سقاية» بالضم أيضا مع الياء والتاء «وعمرة» في القراءة السابقة، ووجه سقاية فيها أن يكون جمعا جاء على فعال ثم أنث كما أنث من الجموع نحو حجارة فإن في كلا القراءتين تشبيه ذات بذات، وإما في جانب الذات أي أجعلتموهما كإيمان من آمن وجهاد من جاهد، وقيل: لا حاجة إلى التقدير في شيء وإنما المصدر بمعنى اسم الفاعل، والمعنى عليه كما في الأول، وأيّا ما كان فالخطاب إما للمشركين على طريقة الالتفات واختاره أكثر المحققين وهو المتبادر من النظم، وتخصيص ذكر الإيمان في جانب المشبه به واستدل له بما أخرجه ابن أبي حاتم. وابن مروديه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين قالوا. عمارة بيت الله تعالى والقيام على السقاية خير من الإيمان والجهاد فذكر الله تعالى خير الإيمان به سبحانه والجهاد مع نبيه صلى الله عليه وسلم على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية، وبما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك قال: أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك، فقال العباس: أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونفكّ الحاني ونحجب البيت ونسقي الحاج فانزل الله تعالى أَجَعَلْتُمْ الآية، وهذا ظاهر في أن الخطاب لهم وهم مشركون.
وإما لبعض المؤمنين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد، واستدل له بما
أخرجه مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وجماعة عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل عملا لله بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله تعالى خير مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله تعالى عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله تعالى الآية إلى قوله سبحانه: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
وبما
روي من طرق أن الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه والعباس، وذلك أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال له: يا عم لو هاجرت إلى المدينة فقال له: أو لست في أفضل من الهجرة وأ لست أسقي الحاج وأعمر البيت،
وهذا ظاهر في أن
العباس رضي الله تعالى عنه كان إذ ذاك مسلما على خلاف ما يقتضيه غيره من الأخبار المتقدم بعضها، وأيد هذا القول بأنه المناسب للاكتفاء في الرد عليهم ببيان عدم مساواتهم عند الله تعالى للفريق الثاني وبيان أعظمية درجتهم عند الله تعالى الظاهر دخوله في الرد على وجه يشعر بعدم حرمان الأولين بالكلية لمكان أفعل التفضيل، وجعل المشتمل على ذلك استطرادا لتفضيل من اتصف بتلك الصفات على غيره من المسلمين خلاف الظاهر، وكذا القول بأنه سيق لتفضيلهم على أهل السقاية والعمارة من الكفرة وهم وإن لم يكن لهم درجة عند الله تعالى جاء على زعمهم ومدعاهم، على أنه قيل عليه: إنه ليس فيه كثير نفع لأنه إن لم يشعر بعدم الحرمان فليس بمشعر بالحرمان، والكلام على الأول توبيخ للمشركين ومداره إنكار تشبيه أنفسهم من حيث اتصافهم بوصفيهم المذكورين مع قطع النظر عما هم عليه من الشرك بالمؤمنين من حيث اتصافهم بالإيمان والجهاد، أو على إنكار تشبيه وصفيهم المذكورين في حد ذاتهما مع الإغماض عن مقارنتهما للشرك بالإيمان والجهاد.
والقول باعتبار المقارنة مما أغمض عنه المحققون لإباء المقام إياه، كيف لا وقد بين حبوط أعمالهم بذلك الاعتبار وكونها بمنزلة العدم، فتوبيخهم بعد على تشبيهها بالإيمان والجهاد، ثم رد ذلك بما يشعر بعدم حرمانهم عن أصل الفضيلة بالكلية مما لا يساعده النظم الكريم، ولو اعتبر لما احتيج إلى تقرير إنكار التشبيه وتأكيده بشيء آخر إذ لا شيء أظهر بطلانا من نسبة المعدوم إلى الموجود، وقيل: لا مانع من اعتبارها ويقطع النظر عما تقدم من بيان الحبوط، وعدم الحرمان المشعور به مبني على ذلك وفيه ما فيه، والمعنى أجعلتم أهل السقاية والعمارة في الفضيلة وعلو الدرجة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما في ذلك كالإيمان والجهاد وشتان ما بينهما فإن السقاية والعمارة وان كانتا في أنفسهما من أعمال البر والخير لكنهما وإن خلتا عن القوادح بمعزل أن يشبه أهلهما بأهل الإيمان والجهاد أو يشبه نفسهما بنفس الإيمان والجهاد وذلك قوله سبحانه: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ أي لا يساوي الفريق الأول الثاني وبظاهره يترجح التقدير الأول، وإذا كان المراد لا يستوون بأوصافهم يرجع إلى نفي المساواة في الأوصاف فيوافق الإنكار على التقدير الثاني، وإسناد عدم الاستواء إلى الموصوفين لأن الأهم بيان تفاوتهم، وتوجيه النفي هاهنا والإنكار فيما سلف إلى الاستواء والتشبيه مع أن دعوى المفتخرين بالسقاية والعمارة من المشركين أو المؤمنين إنما هي الأفضلية دون التساوي والتشابه للمبالغة في الرد عليهم فإن نفي التساوي والتشابه نفي للأفضلية بالطريق الأولى، لكن ينبغي أن يعلم أن الأفضلية التي يدعيها المشركون تشعر بثبوت أصل الفضلية للمفضل عليه وهم بمعزل عن اعتقاد ذلك، وكيف يتصور منهم أن في جهادهم وقتلهم فضيلة أو أن في الإيمان المستلزم لتسفيه رأيهم فيما هم عليه فضيلة، فلا بد أن يكون ذلك من باب المجاراة فلا تغفل.
والجملة استئناف لتقرير الإنكار المذكور وتأكيده، وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من مفعولي الجعل والرابط ضمير الجمع كأنه قيل: سويتم بينهم حال كونهم متفاوتين عند الله وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أريد بهم المشركون وبالظلم الشرك أو وضع الشيء في غير موضعه شركا كان أو غيره فيدخل فيه ظلمهم في ذلك الجعل وهو أبلغ في الذم، والمراد من الهداية الدلالة الموصلة لا مطلق الدلالة لأنه لا يناسب المقام، وهذا حكم منه تعالى أنه سبحانه لا يوفق هؤلاء الظالمين إلى معرفة الحق وتمييز الراجح من المرجوح ولعله سيق لزيادة تقرير عدم التساوي.
وقوله سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ استئناف لبيان مراتب فضلهم زيادة في الرد وتكميلا له، وزيادة الهجرة وتفصيل نوعي الجهاد للايذان بأن ذلك من لوازم الجهاد لا أنه اعتبر بطريق التدارك أمر لم يعتبر فيما سلف، والظاهر من السياق أن المفضل عليه أهل السقاية
والعمارة من المشركين، وقد أشرنا إلى ما له وما عليه حسبما ذكره بعض الفضلاء. وأنا أقول: إذا أريد من- أفعل- المبالغة في الفضل وعلو المرتبة والمنزلة فالأمر هين وإذا أريد به حقيقته فهناك احتمالان الأول أن يقال: حذف المفضل عليه إيذانا بالعموم، أي إن هؤلاء المتصفين بهذه الصفات أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم يتصف بها كائنا من كان ويدخل فيه أهل السقاية والعمارة، ويكفي في تحقيق حقيقة أفعل وجود أصل الفعل في بعض الأفراد المندرجة تحت العموم كما يقال: فلان أعلم الخلق مع أن منهم من لا يتصف بشيء من العلم بل لا يمكن أن يتصف به أصلا، وهذا مما لا ينبغي أن يشك فيه سوى أنه يعكر علينا أن المقصود بالمفضل عليه في المثال من له مشاركة في أصل الفعل ولا كذلك ما نحن فيه، فإن لم يضر هذا فالأمر ذاك وإلا فهو كما ترى. الثاني أن يقال: ما أفهمته الصيغة من أن للسقاة والعمار من المشركين درجة جاء على زعم المشركين وحسن ذلك وقوع مثله في كلامهم مع المؤمنين فانهم قالوا كما دل عليه بعض الأخبار السابقة: السقاية والعمارة خير من الإيمان والجهاد ولا شك أن ما يشعر به- خير- من أن في الإيمان والجهاد خيرا إنما جاء على زعم المؤمنين فما في الآية خارج مخرج المشاكلة مع ما في كلامهم وإن اختلف اللفظ. وما قيل: من أن جعل معنى التفضيل بالنسبة إلى زعم الكفرة ليس فيه كثير نفع ليس فيه كثير ضرر كما لا يخفى على من ذاق طعم البلاغة ولو بطرف اللسان، ويشعر كلام بعضهم أن التفضيل مبني على ما تقدم من قطع النظر وإغماض العين أي المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة أعلى رتبة ممن خلا منها وإن حاز جميع ما عداها مما هو كمال في حد ذاته كالسقاية والعمارة، والمراد بسبيل الله هنا الإخلاص أو نحوه لا الجهاد فالمعنى جاهدوا مخلصين وَأُولئِكَ الموصوفون بما ذكر هُمُ الْفائِزُونَ أي المختصون بالفوز العظيم أو بالفوز المطلق كأن فوز من عداهم ليس بفوز بالنسبة إلى فوزهم.
والكلام على الثاني توبيخ لمن يؤثر السقاية والعمارة من المؤمنين على الهجرة والجهاد، أي أجعلتم أهلهما من المؤمنين في الفضيلة والكرامة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما كالإيمان والجهاد، قالوا:
وإنما لم يذكر الإيمان في جانب المشبه مع كونه معتبرا فيه قطعا تعويلا على ظهور الأمر وإشعارا بأن مدار إنكار التشبيه هو السقاية والعمارة دون الإيمان، وإنما لم يترك ذكره في جانب المشبه به أيضا تقوية للانكار وتذكيرا لأسباب الرجحان ومبادئ الأفضلية وإيذانا بكمال التلازم بين الإيمان وما تلاه. ومعنى عدم الاستواء عند الله تعالى وأعظمية درجة الفريق الثاني على هذا التقرير ظاهر.
والمراد بالظلم الظلم بوضع كل من الراجح والمرجوح في موضع الآخر لا الظلم الأعم، وبعدم الهداية عدم هدايته تعالى للمؤثرين إلى معرفة ذلك لا عدم الهداية مطلقا، والقصر في قوله سبحانه: أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ بالنسبة إلى درجة الفريق الثاني أو إلى الفوز المطلق ادعاء كما مر اهـ. وأنت تعلم أن عدم ذكر الإيمان في جانب المشبه ظاهر لأن المؤمنين ما تنازعوا كما يدل عليه حديث مسلم السابق إلا فيما هو الأفضل بعده فمن قائل السقاية ومن قائل العمارة ومن قائل الجهاد، نعم يحتاج ذكره في جانب المشبه به إلى نكتة، والتوبيخ في الآية على هذا التقدير أبلغ منه على التقدير الأول فتأمل يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ أي في الدنيا على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. وقرأ حمزة يُبَشِّرُهُمْ بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين والتخفيف على أنه من بشر الثلاثي وأخرجها أبو الشيخ عن طلحة ابن مصرف، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم وكونه سبحانه هو المبشر ما لا يخفى من اللطافة واللطف بِرَحْمَةٍ مِنْهُ واسعة وَرِضْوانٍ كبير وَجَنَّاتٍ عالية قطوفها دانية لَهُمْ فِيها أي الجنات وقيل:
الرحمة نَعِيمٌ مُقِيمٌ لا يرتحل ولا يسافر عنهم، وهو استعارة للدائم خالِدِينَ فِيها أي الجنات أَبَداً تأكيد
لما يدل عليه الخلود ودفع احتمال أن يراد منه المكث الطويل إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لا قدر بالنسبة إليه لأجور الدنيا أو للأعمال التي في مقابلته والجملة استئناف وقع تعليلا لما سبق. وذكر أبو حيان أنه تعالى لما وصف المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة: الرحمة، والرضوان، والجنة.
وبدأ سبحانه بالرحمة في مقابلة الإيمان لتوقفها عليه ولأنها أعم النعم وأسبقها كما أن الإيمان هو السابق، وثنى تعالى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي فيه بذل الأنفس والأموال، وثلث عز وجل بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها بدلهم بدار الكفر الجنان الدار التي هي في جواره.
وفي الحديث الصحيح يقول الله سبحانه: «يا أهل الجنة هل رضيتم فيقولون كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك فيقول سبحانه: لكم عندي أفضل من ذلك فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول جل شأنه: أحل لكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا»
ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيم مقيم على هذا التوزيع في غاية اللطافة لما أن في الهجرة السفر الذي هو قطعة من العذاب.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ نهي لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة فرد من المشركين لا عن موالاة طائفة منهم فإن ذلك مفهوم من النظم الكريم دلالة لا عبارة، والآية على ما روى الثعلبي عن ابن عباس نزلت في المهاجرين فإنهم لما أمروا بالهجرة قالوا: إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشيرتنا وذهبت تجاراتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا وبقينا ضائعين فنزلت فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم في ذلك. وروي عن مقاتل أنها نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا مكة نهيا عن موالاتهم.
وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى قريش يخبرهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزم على فتح مكة،
وهذا ونحوه يقتضي أن هذه الآية نزلت قبل الفتح. واستشكل ذلك الإمام الرازي بأن الصحيح أن هذه السورة إنما نزلت بعد فتح مكة فكيف يمكن أن يكون سبب النزول ما ذكر. وأجيب بأن نزولها قبل الفتح لا ينافي كون نزول السورة بعده لأن المراد معظمها وصدرها، وعلى القول بأنها نزلت في حاطب فالمعتبر عموم اللفظ لا خصوص السبب ويدخل حاطب في النهي عن الاتخاذ بلا شبهة إِنِ اسْتَحَبُّوا أي اختاروا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وأصروا عليه اصرارا لا يرجى معه إقلاع أصلا، ولتضمن استحب معنى ما ذكر تعدى بعلى، وتعليق النهي عن الاتخاذ بذلك لما أنه قبل ذلك ربما يؤدي بهم إلى الإسلام بسبب شعورهم بمحاسن الدين وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي واحدا منهم، والضمير في الفعل لمراعاة لفظ الموصول وللايذان باستقلال كل واحد منهم بالاتصاف بالظلم الآتي لأن المراد تولي فرد واحد منهم ومَنْ في قوله سبحانه:
مِنْكُمْ للجنس لا للتبعيض فَأُولئِكَ أي المتولون هُمُ الظَّالِمُونَ بوضعهم الموالاة في غير موضعها فالظلم بمعناه اللغوي، وقد يراد به التجاوز والتعدي عما حد الله تعالى إن كان المراد ومن يتولهم بعد النهي، والحصر ادعائي كأن ظلم غيرهم كلا ظلم عند ظلمهم وفي ذلك من الزجر عن الموالاة ما فيه قُلْ تلوين للخطاب وأمر له صلى الله عليه وسلم بأن يثبت المؤمنين ويقوى عزائمهم على الانتهاء عما نهوا عنه من موالاة الآباء والاخوان ويزهدهم فيهم وفيمن يجري مجراهم ويقطع علائقهم عن زخارف الدنيا الدنية على وجه التوبيخ والترهيب أي قل يا محمد للمؤمنين إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ لم يذكر الأبناء والأزواج فيما سلف وذكرهم هنا لأن ما تقدم في الأولياء وهم أهل الرأي والمشورة والأبناء والأزواج تبع ليسوا كذلك وما هنا في المحبة وهم أحب إلى كل أحد وَعَشِيرَتُكُمْ أي ذووا قرابتكم، وقيل: عشيرة الرجل أهله الأدنون، وأيّا ما كان فذكره للتعميم والشمول وهو من
العشرة أي الصحبة لأنها من شأن القربى، وقيل من العشرة العدد المعروف وسميت العشيرة بذلك على هذا لكمالهم لأن العشيرة كما علمت عدد كامل أو لأن بينهم عقد نسب كعد العشرة فانه عقد من العقود وهو معنى بعيد.
وقرأ أبو بكر عن عاصم «عشيراتكم» ، والحسن «عشائركم» وأنكر أبو الحسن وقوع الجمع الأول في كلامهم وإنما الواقع الجمع الثاني وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها أي اكتسبتموهما، وأصل الاقتراف اقتطاع الشيء من مكانه إلى غيره من قرفت القرحة إذا قشرتها. والقرف القشر، ووصفت الأموال بذلك إيماء إلى عزتها عندهم لحصولها بكد اليمين وعرق الجبين وَتِجارَةٌ أي أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح تَخْشَوْنَ كَسادَها بفوات وقت رواجها بغيبتكم عن مكة المعظمة في أيام المواسم وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها منازل تعجبكم الإقامة فيها، والتعرض للصفات المذكورة للايذان بأن اللوم على محبة ما ذكر من زينة الحياة الدنيا لا ينافي ما فيها من مبادئ المحبة وموجبات الرغبة فيها وأنها مع ما لها من فنون المحاسن بمعزل عن أن تكون كما ذكر سبحانه بقوله: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بالحب الاختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وتقديم الطاعة لا ميل الطبع فإنه أمر جبلي لا يمكن تركه ولا يؤاخذ عليه ولا يكلف الإنسان بالامتناع عنه وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ أي طريق ثوابه ورضاه سبحانه، ولعل المراد به هنا أيضا الإخلاص ونحوه لا الجهاد وإن أطلق عليه أيضا أنه سبيل الله تعالى، ونظم حب هذا في سلك حب الله تعالى شأنه وحب رسوله عليه الصلاة والسلام تنويها بشأنه وتنبيها على أنه مما يجب أن يحب فضلا عن أن يكره وإيذانا بأن محبته راجعة إلى محبة الله عز وجل ومحبة حبيبه صلى الله عليه وسلم فإن الجهاد عبارة عن قتال أعدائهما لأجل عداوتهم فمن يحبهما يجب أن يحب قتال من لا يحبهما فَتَرَبَّصُوا أي انتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أي بعقوبته سبحانه لكم عاجلا أو آجلا على ما روي عن الحسن واختاره الجبائي، وروي عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل أنه فتح مكة.
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين وتقديم محبة من ذكر على محبة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أو القوم الفاسقين كافة ويدخل المذكورون دخولا أوليا، أي لا يهديهم إلى ما هو خير لهم، والآية أشد آية نعت على الناس ما لا يكاد يتخلص منه إلا من تداركه الله سبحانه بلطفه،
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله تعالى ويبغض في الله تعالى حتى يحب في الله سبحانه أبعد الناس ويبغض في الله عز وجل أقرب الناس»
والله تعالى الموفق لأحسن الأعمال.
«ومن باب الإشارة» أنه سبحانه أشار إلى تمكن رسوله عليه الصلاة والسلام ووصول أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلى مقام الوحدة الذاتية بعد أن كانوا محتجبين بالأفعال تارة وبالصفات أخرى وبذلك تحققت الضدية على أكمل وجه بينهم وبين المشركين فنزلت البراءة وأمروا بنبذ العهد ليقع التوافق بين الباطن والظاهر وأمر المشركون بالسياحة في الأرض أربعة أشهر على عدد مواقفهم في الدنيا والآخرة تنبيها لهم فانهم لما وقفوا في الدنيا مع الغير بالشرك حجبوا عن الدين والأفعال والصفات والذات في برزخ الناسوت فلزمهم أن يوقفوا في الآخرة على الله عز وجل ثم على الجبروت ثم على الملكوت ثم على النار في جحيم الآثار فيعذبوا بأنواع العذاب. ومن طبق الآيات على ما في الأنفس ذكر أن هذه المدة هي مدة كمال الأوصاف الأربعة النباتية والحيوانية والشيطانية والإنسانية ثم قال سبحانه لهم: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ إذ لا بد من حبسكم في تلك المواقف بسبب وقوفكم مع الغير بالشرك وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ المحجوبين عن الحق بافتضاحهم عند ظهور رتبة ما عبدوه من دونه ووقوفهم معه على النار وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أي وقت ظهور الجمع الذاتي في صورة التفصيل أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ المراد بذلك كمال المخالفة والتضاد وانقطاع المدد الروحاني، والمراد من قوله
سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً الذين بقيت فيهم مسكة من الاستعداد وأثر من سلامة الفطرة وبقايا من المروءة أمر المؤمنون أن يتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وهي مدة تراكم الدين وتحقق الحجاب إن لم يرجعوا ويتوبوا ثم قال سبحانه بعد أن ذكر ما ذكر: الَّذِينَ آمَنُوا أي علما وَهاجَرُوا أي هجروا الرغائب الحسية والأوطان النفسية وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وهي أموال معلوماتهم ومراداتهم ومقدوراتهم، والجهاد بهذه إشارة إلى محو صفاتهم، والجهاد بالأنفس إشارة إلى فنائهم في الله تعالى أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً في التوحيد عِنْدَ اللَّهِ تعالى يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وهو ثواب الأعمال وَرِضْوانٍ وهو ثواب الصفات وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ وهو مشاهدة المحبوب الذي لا يزول وذلك جزاء الأنفس، ووجه الترتيب على هذا ظاهر وإنما تولى الله تعالى بشارتهم بنفسه عز وجل ليزدادوا حبّا له تبارك وتعالى لأن القلوب مجبولة على حب من يبشرها بالخير. ثم إنه سبحانه بين أن القرابة المعنوية والتناسب المعنوي والوصلة الحقيقية أحق بالمراعاة من الاتصال الصوري مع فقد الاتصال المعنوي واختلاف الوجهة وذم سبحانه التقيد بالمألوفات الحسية وتقديمها على المحبوب الحقيقي والتعين الأول له والسبب الأقوى للوصول إلى الحضرة وتوعد عليه بما توعد نسأل الله تعالى التوفيق إلى ما يقربنا منه إنه ولي ذلك. لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ خطاب للمؤمنين خاصة وامتنان عليهم بالنصرة على الأعداء التي يترك لها الغيور أحب الأشياء إليه، والمواطن جمع موطن وهو الموضع الذي يقيم فيه صاحبه، وأريد بها مواطن الحرب أي مقاماتها ومواقفها ومن ذلك قوله:
كم موطن لولاي طحت كما هوى
…
بأجرامه من قلة النيق منهوي
والمنع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، واللام موطئة للقسم أي أقسم والله لقد نصركم الله في مواقف ووقائع كَثِيرَةٍ منها وقعة بدر التي ظهرت بها شمس الإسلام، ووقعة قريظة والنضير والحديبية وأنهاها بعضهم إلى ثمانين.
وروي أن المتوكل اشتكى شكاية شديدة فنذر أن يتصدق- إن شفاه الله تعالى- بمال كثير فلما شفي سأل العلماء عن حد الكثير فاختلفت أقوالهم فأشير إليه أن يسأل أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم وقد كان حبسه في داره فأمر أن يكتب إليه فكتب رضي الله تعالى عنه يتصدق بثمانين درهما ثم سألوه عن العلة فقرأ هذه الآية وقال: عددنا تلك المواطن فبلغت ثمانين
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عطف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على المكان وعكسه جائز على ما يقتضيه كلام أبي علي ومن تبعه. نعم ظاهر كلام البعض المنع لأن كلا من الظرفين يتعلق بالفعل بلا توسط العاطف، ومتعلقات الفعل إنما يعطف بعضها على بعض إذا كانت من جنس واحد، وقال آخرون: لا منع من نسق زمان على مكان وبالعكس إلا أن الأحسن ترك العاطف في مثله. ومن منع العطف أو استحسن تركه قال: إنه معطوف بحذف المضاف أي وموطن يوم حنين، ولعل التغيير للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثبات من أول الأمر.
وقد يعتبر الحذف في جانب المعطوف عليه، أي في أيام مواطن، والعطف حينئذ من عطف الخاص على العام، ومزية هذا الخاص التي أشار إليها العطف هي كون شأنه عجيبا وما وقع فيه غريبا للظفر بعد اليأس والفرج بعد الشدة إلى غير ذلك، وليس المراد بها كثرة الثواب وعظم النفع ليرد أن يوم حنين ليس بأفضل من يوم بدر الذي نالوا به القدح المعلى وفازوا فيه بالدرجات العلا فلا تتأتى فيه نكتة العطف وقيل: إن موطن اسم زمان كمقتل الحسين فالمعطوفان متجانسان وهو بعيد عن الفهم. وأوجب الزمخشري كون يَوْمَ منصوبا بمضمر والعطف من عطف جملة على جملة أي ونصركم يوم حنين، ولا يصح أن يكون ناصبه نَصَرَكُمُ المذكور لأن قوله سبحانه: إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
بدل من يوم حنين فيلزم كون زمان الاعجاب بالكثرة ظرف النصرة الواقعة في المواطن الكثيرة لاتحاد الفعل ولتقييد المعطوف بما يقيد به المعطوف عليه وبالعكس.
واليوم مقيد بالاعجاب بالكثرة والعامل منسحب على البدل والمبدل منه جميعا، ويلزم من ذلك أن يكون زمان الاعجاب ظرفا وقيدا للنصرة الواقعة في المواطن الكثيرة وهو باطل إذ لا إعجاب في تلك المواطن.
وأجيب بأن الفعل في المتعاطفين لا يلزم أن يكون واحدا بحيث لا يكون له تعدد أفراد كضربت زيدا اليوم وعمرا قبله وأضربه حين يقوم وحين يقعد إلى غير ذلك بل لا بد في نحو قولك: زيد وعمرو من اعتبار الأفراد وإلا لزم قيام العرض الواحد بالشخص بمحلين مختلفين وهو لا يجوز ضرورة فلا يلزم من تقييده في حق المعطوف بقيد تقييده في حق المعطوف عليه بذلك، ولا نسلم أن هذا هو الأصل حتى يفتقر غيره إلى دليل، وقال بعضهم: إن ذلك إنما يلزم لو كان المبدل منه في حكم التنحية مع حرف العطف ليؤول إلى نصركم الله في مواطن كثيرة إذا أعجبتكم وليس كذلك بل يؤول إلى نصركم الله في مواطن كثيرة وإذ أعجبتكم ولا محذور فيه، وفي كون البدل قيدا للمبدل منه نظر، وحنين واد بين مكة والطائف على ثلاثة أميال من مكة حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون هوازن. وثقيفا.
وحشما وفيهم دريد بن الصمة يتيمنون برأيه وأناسا من بني هلال وغيرهم وكانوا أربعة آلاف وكان المسلمون على ما روى الكلبي عشرة آلاف وعلى ما روي عن عطاء ستة عشر ألفا، وقيل: ثمانية آلاف، وصحح أنهم كانوا اثني عشر ألفا العشر الذين حضروا مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء فلما التقوا قال سلمة بن سلامة أو أبو بكر رضي الله تعالى عنهما: لن نغلب اليوم من قلة إعجابا بكثرتهم، وقيل: إن قائل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستبعد ذلك الإمام لانقطاعه صلى الله عليه وسلم عن كل شيء سوى الله عز وجل. ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي في الدلائل عن الربيع أن رجلا قال يوم حنين: لن نغلب من قلة فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن هذه الكلمة إذا لم ينضم إليها أمر آخر لا تنافي التوكل على الله تعالى ولا تستلزم الاعتماد على الأسباب، وإنما شقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انضم إليها من قرائن الأحوال مما يدل على الاعجاب، ولعل القائل أخذها من
قوله عليه الصلاة والسلام: «خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة كلمتهم واحدة»
لكن صحبها ما صحبها من الاعجاب، ثم إن القوم اقتتلوا قتالا شديدا فأدرك المسلمون إعجابهم، والجمع قد يؤخذ بفعل بعضهم فولوا مدبرين وكان أول من انهزم الطلقاء مكرا منهم وكان ذلك سببا لوقوع الخلل وهزيمة غيرهم،
وقيل: إنهم حملوا أولا على المشركين فهزموهم فأقبلوا على الغنائم فتراجعوا عليهم فكان ما كان والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء تزول الجبال ولا يزول ومعه العباس وابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابنه جعفر وعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه وربيعة بن الحارث والفضل بن العباس وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد وقتل رضي الله تعالى عنه بين يديه عليه الصلاة والسلام وهؤلاء من أهل بيته.
وثبت معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فكانوا عشرة رجال، ولذا قال العباس رضي الله تعالى عنه.
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة
…
وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه
…
بما مسه في الله لا يتوجع
وقد ظهر منه صلى الله عليه وسلم من الشجاعة في تلك الوقعة ما أبهر العقول وقطع لأجله أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأنه عليه الصلاة والسلام أشجع الناس، وكان يقول إذ ذاك غير مكترث بأعداء الله تعالى:
أنا النبي لا كذب
…
أنا ابن عبد المطلب
واختار ركوب البغلة إظهارا لثباته الذي لا ينكره إلا الحمار وإنه عليه الصلاة والسلام لم يخطر بباله مفارقة
القتال فقال للعباس وكان صيّتا: «صح بالناس» فناد يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقا واحدا لهم حنين يقولون: لبيك لبيك، ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين،
فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا حين حمي الوطيس» ثم أخذ كفّا من تراب فرماهم ثم قال صلى الله عليه وسلم: «انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا،
وتفصيل القصة على أتم وجه في كتب السير فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ أي لم تنفعكم تلك الكثرة شَيْئاً من النفع في أمر العدو أو لم تعطكم شيئا يدفع حاجتكم وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي برحبها وسعتها على أن «ما» مصدرية والباء للملابسة والمصاحبة أي ضاقت مع سعتها عليكم. وفيه استعارة تبعية إما لعدم وجدان مكان يقرون به مطمئنين أو أنهم لا يجلسون في مكان كما لا يجلس في المكان الضيق ثُمَّ وَلَّيْتُمْ أي الكفار ظهوركم على أن ولى متعدية إلى مفعولين كما في قوله سبحانه: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الأنفال: 15] ويدل عليه كلام الراغب، وزعم بعضهم أنه لا حاجة إلى تقدير مفعولين لما في القاموس ولى تولية أدبر بل لا وجه له عند بعض وليس بشيء، والاعتماد على كلام الراغب في مثل ذلك أرغب عند المحققين بل قيل: إن كلام القاموس ليس بعمدة في مثله، وقوله تعالى: مُدْبِرِينَ حال مؤكدة وهو من الإدبار بمعنى الذهاب إلى خلف والمراد منهزمين.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ أي رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن اطمئنانا كليا مستتبعا للنصر القريب، وأما مطلق السكينة فقد كانت حاصلة له صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ عطف على رسوله وإعادة الجار للايذان بالتفاوت، والمراد بهم الذين انهزموا، وفيه دلالة على أن الكبيرة لا تنافي الإيمان.
وعن الحسن أنهم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد ما يعم الطائفتين ولا يخلو عن حسن، ولا ضير في تحقق أصل السكينة في الثابتين من قبل، وفسر بعضهم السكينة بالأمان وهو له صلى الله عليه وسلم بمعاينة الملائكة عليهم السلام ولمن معه بظهور علامات ذلك وللمنهزمين بزوال قلقهم واضطرابهم باستحضار إن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أو نحو ذلك، والظاهر أن ثُمَّ في محلها للتراخي بين الانهزام وإنزال السكينة على هذا الوجه.
وقيل: إذا أريد من المؤمنين المنهزمون فهي على محلها، وإن أريد الثابتون يكون التراخي في الاخبار أو باعتبار مجموع هذا الانزال وما عطف عليه، وجعلها للتراخي الرتبي بعيد وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها بأبصاركم كما يرى بعضكم بعضا وهم الملائكة عليهم السلام على خيول بلق عليهم البياض، وكون المراد لم تروا مثلها قبل ذلك خلاف الظاهر ولم نر في الآثار ما يساعده، واختلف في عددهم فقيل: ثمانية آلاف لقوله تعالى: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ [آل عمران: 124] مع قوله سبحانه بعد: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ [آل عمران: 125] وقيل: خمسة آلاف للآية الثانية والثلاثة الأولى داخلة في هذه الخمسة، وقيل: ستة عشر ألفا بعدد العسكرين اثنا عشر ألفا عسكر المسلمين وأربعة آلاف عسكر المشركين، وكذا اختلفوا في أنهم قاتلوا في هذه الوقعة أم لا، والجمهور على أن الملائكة لم يقاتلوا إلا يوم بدر. وإنما نزلوا لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطر الحسنة وتأييدهم بذلك وإلقاء الرعب في قلوب المشركين. فعن سعيد بن المسيب قال حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا.
واحتج من قال: إنهم قاتلوا بما
روي أن رجلا من المشركين قال لبعض المؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق والرجال عليهم ثياب بيض؟ ما كنا نراهم فيكم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فقال عليه الصلاة والسلام: «تلك الملائكة»
وليس له سند يعول عليه وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر والسبي وَذلِكَ أي ما فعل بهم مما ذكر جَزاءُ الْكافِرِينَ لكفرهم في الدنيا ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ التعذيب عَلى مَنْ يَشاءُ أن يتوب عليه منهم لحكمة تقتضيه والمراد يوفقه للإسلام وَاللَّهُ غَفُورٌ يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي رَحِيمٌ يتفضل عليهم ويثيبهم بلا وجوب عليه سبحانه.
روى البخاري عن المسور بن مخرمة أن أناسا منهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا، وقد سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى فقال عليه الصلاة والسلام: إن عندي ما ترون إن خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم قالوا: ما كنا نعدل بالاحساب شيئا فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاؤونا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالاحساب شيئا فمن كان بيده شيء وطابت به نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه قالوا: قد رضينا وسلمنا، فقال عليه الصلاة والسلام: إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا فرفعت إليه صلى الله عليه وسلم العرفاء أنهم قد رضوا
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ أخبر عنهم بالمصدر للمبالغة كأنهم عين النجاسة، أو المراد ذوو نجس لخبث بواطنهم وفساد عقائدهم أو لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم، وجوز أن يكون نَجَسٌ صفة مشبهة وإليه ذهب الجوهري، ولا بد حينئذ من تقدير موصوف مفرد لفظا مجموع معنى ليصح الاخبار به عن الجمع أي جنس نجس ونحوه، وتخريج الآية على أحد الأوجه المذكورة هو الذي يقتضيه كلام أكثر الفقهاء حيث ذهبوا إلى أن أعيان المشركين طاهرة ولا فرق بين عبدة الأصنام وغيرهم من أصناف الكفار في ذلك.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صافح مشركا فليتوضأ أو ليغسل كفيه» .
وأخرج ابن مردويه عن هشام بن عروة عن أبيه عن جده قال: «استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام فناوله يده فأبى أن يتناولها فقال: يا جبريل ما منعك أن تأخذ بيدي؟ فقال: إنك أخذت بيد يهودي فكرهت أن تمس يدي يدا قد مستها يد كافر فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ فناوله يده فتناولها»
وإلى ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مال الإمام الرازي وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا بدليل منفصل. قيل: وعلى ذلك فلا يحل الشرب من أوانيهم ولا مؤاكلتهم ولا لبس ثيابهم لكن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلف خلافه، واحتمال كونه قبل نزول الآية فهو منسوخ بعيد، والاحتياط لا يخفى. والاستدلال على طهارتهم بأن أعيانهم لو كانت نجسة ما أمكن بالإيمان طهارتها إذ لا يعقل كون الإيمان مطهرا، ألا ترى أن الخنزير لو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله لا يطهر، وإنما يطهر نجس العين بالاستحالة على قول من يرى ذلك وعين الكافر لم تستحل بالإيمان عينا أخرى ليس بشيء وإن ظنه من تهوله القعقعة شيئا، لأن الطهارة والنجاسة أمران تابعان لما يفهم من كلام الشارع عليه الصلاة والسلام وليستا مربوطتين بالاستحالة وعدمها فإذا فهم منه نجاسة شيء في وقت وطهارته في وقت آخر أو ما بالعكس كما في الخمر اتبع وإن لم يكن هناك استحالة وذلك ظاهر. وقرأ ابن السميفع «أنجاس» على صيغة الجمع. وقرأ أبو حيوة «نجس» بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف نجس ككبد في كبد، ويقدر حينئذ موصوف كما قررناه آنفا فيما قاله الجوهري، وأكثر ما جاء هذا اللفظ تابعا لرجس، وقول الفراء وتبعه الحريري في درته إنه لا يجوز ذلك بغير إتباع ترده هذه القراءة إذ لا إتباع فيها فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ تفريع على نجاستهم والمراد النهي عن الدخول إلا أنه نهى عن القرب للمبالغة. وأخرج عبد الرزاق والنحاس عن عطاء أنهم نهوا عن دخول الحرم كله فيكون المنع من قرب نفس المسجد على ظاهره، وبالظاهر أخذ
أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ صرف المنع عن دخول الحرم إلى المنع من الحج والعمرة، ويؤيده قوله تعالى: بَعْدَ عامِهِمْ هذا فإن تقييد النهي بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسعة من الهجرة حين أمر أبو بكر رضي الله تعالى عنه على الموسم ويدل عليه نداء علي كرم الله تعالى وجهه يوم نادى ببراءة ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك وكذا قوله سبحانه: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرا بسبب منعهم لما أنهم كانوا يأتون في الموسم بالمتاجر فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم كما لا يخفى.
والحاصل أن الإمام الأعظم يقول بالمنع عن الحج والعمرة ويحمل النهي عليه ولا يمنعون من دخول المسجد الحرام وسائر المساجد عنده، ومذهب الشافعي وأحمد ومالك رضي الله تعالى عنه- كما قال الخازن- أنه لا يجوز للكافر ذميا كان أو مستأمنا أن يدخل المسجد الحرام بحال من الأحوال فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام فيه لم يأذن له في دخوله بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارجه، ويجوز دخوله سائر المساجد عند الشافعي عليه الرحمة، وعن مالك كل المساجد سواء في منع الكافر عن دخولها وزعم بعضهم أن المنع في الآية إنما هو عن تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه وهو خلاف الظاهر جدا والظاهر النهي على ما علمت، وكون العلة فيه نجاستهم إن لم نقل بأنها ذاتية لا يقتضي جواز الفعل ممن اغتسل ولبس ثيابا طاهرة لأن خصوص العلة لا يخصص الحكم كما في الاستبراء، والكلام على حد- لا أرينك هنا- فهو كناية عن نهي المؤمنين عن تمكينهم مما ذكر بدليل أن ما قبل وما بعد خطاب للمؤمنين، ومن حمله على ظاهره استدل به على أن الكفار مخاطبون بالفروع حيث إنهم نهوا فيه والنهي من الأحكام وكونهم لا ينزجرون به لا يضر بعد معرفة معنى مخاطبتهم بها.
يروى أنه لما جاء النهي شق ذلك على المؤمنين وقالوا: من يأتينا بطعامنا وبالمتاع فأنزل الله سبحانه وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي عطائه أو تفضيله بوجه آخر فمن على الأول ابتدائية أو تبعيضية وعلى الثاني سببية، وقد أنجز الله تعالى وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا ووفق أهل نجد وتبالة وجرش فأسلموا وحملوا إليهم الطعام وما يحتاجون إليه في معاشهم ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من كل فج عميق، وعن ابن جبير أنه فسر الفضل بالجزية، ويؤيد بأن الأمر الآتي شاهد له وما ذكرناه أولى وأمر الشهادة هين وقرىء «عائلة» على أنه إما مصدر كالعاقبة والعافية أو اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدرا أي حالا عائلة أي مفتقرة وتقييد الإغناء بقوله سبحانه: إِنْ شاءَ ليس للتردد ليشكل بأنه لا يناسب المقام وسبب النزول بل لبيان أن ذلك بإرادته لا سبب له غيرها حتى ينقطعوا إليه سبحانه ويقطعوا النظر عن غيره، وفيه تنبيه على أنه سبحانه متفضل بذلك الإغناء لا واجب عليه عز وجل لأنه لو كان بالإيجاب لم يوكل إلى المشيئة، وجوز أن يكون التقييد لأن الإغناء ليس مطردا بحسب الافراد والأحوال والأوقات إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوالكم ومصالحكم حَكِيمٌ فيما يعطى ويمنع قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
أمر بقتال أهل الكتابين إثر أمرهم بقتال المشركين ومنعهم من أن يحوموا حول المسجد الحرام، وفي تضاعيفه تنبيه لهم على بعض طرق الإغناء الموعود، والتعبير عنهم بالموصول للايذان بعلية ما في حيز الصلة للأمر بالقتال وبانتظامهم بسبب ذلك في سلك المشركين وإيمانهم الذي يزعمونه ليس على ما ينبغي فهو كلا إيمان وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي ما ثبت تحريمه بالوحي متلو وغير متلو، فالمراد بالرسول نبينا صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد به رسولهم الذي يزعمون اتباعه فانهم بدلوا شريعته وأحلوا وحرموا من عند أنفسهم اتباعا لأهوائهم فيكون المراد لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم وإن كان التحريف بعد
النسخ ليس علة مستقلة وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي الدين الثابت فالإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف.
والمراد به دين الإسلام الذي لا ينسخ بدين كما نسخ كل دين به، وعن قتادة أن المراد بالحق هو الله تعالى وبدينه الإسلام، وقيل: ما يعمه وغيره أي لا يدينون بدين من الأديان التي أنزلها سبحانه على أنبيائه وشرعها لعباده والإضافة على هذا على ظاهرها مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي جنسه الشامل للتوراة والإنجيل ومِنَ بيانية لا تبعيضية حتى يكون بعضهم على خلاف ما نعت حَتَّى يُعْطُوا أي يقبلوا أن يعطوا الْجِزْيَةَ أي ما تقرر عليهم أن يعطوه، وهي مشتقة من جزى دينه أي قضاه أو من جزيته بما فعل أي جازيته لأنهم يجزون بها من عليهم بالعفو عن القتل. وفي الهداية أنها جزاء الكفر فهي من المجازاة، وقيل: أصلها الهمز من الجزء والتجزئة لأنها طائفة من المال يعطى، وقال الخوارزمي: إنها معرب- كزيت- وهو الخراج بالفارسية وجمعها جزى كلحية ولحى عَنْ يَدٍ يحتمل أن يكون حالا من الضمير في يُعْطُوا وأن يكون حالا من الجزية، واليد تحتمل أن تكون اليد المعطية وأن تكون اليد الآخذة وعَنْ تحتمل السببية وغيرها أي يعطوا الجزية عن يد مؤاتية أي منقادين أو مقرونة بالانقياد أو عن يدهم أي مسلمين أو مسلمة بأيديهم لا بأيدي غيرهم من وكيل أو رسول لأن القصد فيها التحقير وهذا ينافيه ولذا منع من التوكيل شرعا أو عن غنى أي أغنياء أو صادرة عنه ولذلك لا تؤخذ من الفقير العاجز أو عن قهر وقوة أي أذلاء عاجزين. أو مقرونة بالذل أو عن إنعام عليهم فإن إبقاء مهجهم بما بذلوا من الجزية نعمة عظيمة أي منعما عليهم أو كائنة عن إنعام عليهم أو نقدا أي مسلمة عن يد إلى يد أو مسلمين نقدا، واستعمال اليد بمعنى الانقياد إما حقيقة أو كناية، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه، هذي يدي لعمار أي أنا منقاد مطيع له، واستعمالها بمعنى الغنى لأنها تكون مجازا عن القدرة المستلزمة له، واستعمالها بمعنى الانعام وكذا النعمة شائع ذائع، وأما معنى النقدية فلشهرة يدا بيد في ذلك، ومنه حديث أبي سعيد الخدري في الربا، وما في الآية يؤول إليه كما لا يخفى على من له اليد الطولى في المعاني والبيان.
وتفسير اليد هنا بالقهر والقوة أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة، وأخرج عن سفيان بن عيينة ما يدل على أنه حملها على ما يتبادر منها طرز ما ذكرناه في الوجه الثاني، وسائر الأوجه ذكرها غير واحد من المفسرين، وغاية القتال ليس نفس هذا الإعطاء بل قبوله كما أشير إليه وبذلك صرح جمع من الفقهاء حيث قالوا: إنهم يقاتلون إلى أن يقبلوا الجزية، وإنما عبروا بالإعطاء لأنه المقصود من القبول وَهُمْ صاغِرُونَ أي أذلاء وذلك بأن يعطوها قائمين والقابض منهم قاعد قاله عكرمة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تؤخذ الجزية من الذمي ويوجأ عنقه، وفي رواية أنه يؤخذ بتلبيبه ويهز هزا ويقال: أعط الجزية يا ذمي، وقيل: هو أن يؤخذ بلحيته وتضرب لهزمته، ويقال: أد حق الله تعالى يا عدو الله. ونقل عن الشافعي أن الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم، وكل الأقوال لم نر اليوم لها أثرا لأن أهل الذمة فيه قد امتازوا على المسلمين والأمر لله عز وجل بكثير حتى إنه قبل منهم إرسال الجزية على يد نائب منهم، وأصح الروايات أنه لا يقبل ذلك منهم بل يكلفون أن يأتوا بها بأنفسهم مشاة غير راكبين وكل ذلك من ضعف الإسلام عامل الله تعالى من كان سببا له بعدله، وهي تؤخذ عند أبي حنيفة من أهل الكتاب مطلقا ومن مشركي العجم والمجوس لا من مشركي العرب لأن كفرهم قد تغلظ لما أن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم وأرسل إليهم وهو عليه الصلاة والسلام من أنفسهم ونزل القرآن بلغتهم وذلك من أقوى البواعث على إيمانهم فلا يقبل منهم إلا السيف أو الإسلام زيادة في العقوبة عليهم مع اتباع الوارد في ذلك، فلا يرد أن أهل الكتاب قد تغلظ كفرهم أيضا لأنهم عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم معرفة تامة ومع ذلك أنكروه وغيروا اسمه ونعته من الكتاب، وعند أبي يوسف لا تؤخذ من العربي كتابيا
كان أو مشركا وتؤخذ من العجمي كتابيا كان أو مشركا. وأخذها من المجوس إنما ثبت بالسنة، فقد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يأخذها منهم حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، وقال الشافعي: رضي الله تعالى عنه إنها تؤخذ من أهل الكتاب عربيا كان أو عجميا ولا تؤخذ من أهل الأوثان مطلقا لثبوتها في أهل الكتاب بالكتاب وفي المجوس بالخبر فبقي من وراءهم على الأصل.
ولنا أنه يجوز استرقاقهم وكل من يجوز استرقاقه يجوز ضرب الجزية عليه إذا كان من أهل النصرة لأن كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس أما الاسترقاق فظاهر لأن نفع الرقيق يعود إلينا جملة. وأما الجزية فلأن الكافر يؤديها من كسبه والحال أن نفقته في كسبه فكان أداء كسبه الذي هو سبب حياته إلى المسلمين راتبة في معنى أخذ النفس منه حكما، وذهب مالك والأوزاعي إلى أنها تؤخذ من جميع الكفار ولا تؤخذ عندنا من امرأة ولا صبي ولا زمن ولا أعمى، وكذلك المفلوج والشيخ، وعن أبي يوسف أنها تؤخذ منه إذا كان له مال ولا من فقير غير معتمل خلافا للشافعي ولا من مملوك ومكاتب ومدبر، ولا تؤخذ من الراهبين الذين لا يخالطون الناس كما ذكره بعض أصحابنا، وذكر محمد عن أبي حنيفة أنها تؤخذ منهم إذا كانوا يقدرون على العمل وهو قول أبي يوسف.
ثم إنها على ضربين جزية توضع بالتراضي والصلح فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق كما صالح صلى الله عليه وسلم بني نجران على ألف ومائتي حلة ولأن الموجب التراضي فلا يجوز التعدي إلى غير ما وقع عليه.
وجزية يبتدىء الإمام بوضعها إذا غلب على الكفار وأقرهم على أملاكهم فيضع على الغني الظاهر الغنى في كل سنة ثمانية وأربعين درهما يؤخذ في كل شهر منه أربعة دراهم، وعلى الوسط الحال أربعة وعشرين في كل شهر درهمين وعلى الفقير المعتمل وهو الذي يقدر على العمل وإن لم يحسن حرفة اثني عشر درهما في كل شهر درهما، والظاهر أن مرجع الغنى وغيره إلى عرف البلد.
وبذلك صرح به الفقيه أبو جعفر، وإلى ما ذهبنا إليه من اختلافها غنى وفقرا وتوسطا ذهب عمر وعلي وعثمان رضي الله تعالى عنهم. ونقل عن الشافعي أن الإمام يضع على كل حالم دينارا أو ما يعدله والغني والفقير في ذلك سواء، لما
أخرجه ابن أبي شيبة عن مسروق أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر ولم يفصل عليه الصلاة والسلام،
وأجيب عنه بأنه محمول على أنه كان صلحا. ويؤيده ما في بعض الروايات من كل حالم وحالمة لأن الجزية لا تجب على النساء، والأصح عندنا أن الوجوب أول الحول لأن ما وجب بدلا عنه لا يتحقق إلا في المستقبل فتعذر إيجابه بعد مضي الحول فأوجبناها في أوله، وعن الشافعي أنها تجب في آخره اعتبارا بالزكاة. وتعقبه الزيلعي بأنه لا يلزمنا الزكاة لأنها وجبت في آخر الحول ليتحقق النماء فهي لا تجب إلا في المال النامي ولا كذلك الجزية فالقياس غير صحيح، واقتضى- كما قال الجصاص- في أحكام القرآن وجوب قتل من ذكر في الآية إلى أن تؤخذ منهم الجزية على وجه الصغار والذلة أنه لا يكون لهم ذمة إذا تسلطوا على المسلمين بالولاية ونفاذ الأمر والنهي لأن الله سبحانه إنما جعل لهم الذمة بإعطاء الجزية وكونهم صاغرين فواجب على هذا قتل من تسلط على المسلمين بالغضب وأخذ الضرائب بالظلم وإن كان السلطان ولاه ذلك وإن فعله بغير إذنه وأمره فهو أولى وهذا يدل على أن هؤلاء اليهود والنصارى الذين يتولون أعمال السلطان وأمرائه ويظهر منهم الظلم والاستعلاء وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة ولو قصد مسلم مسلما لأخذ ماله أبيح قتله في بعض الوجوه فما بالك بهؤلاء الكفرة أعداء الدين.
وقد أفتى فقهاؤنا بحرمة توليتهم الأعمال لثبوت ذلك بالنص، وقد ابتلي الحكام بذلك حتى احتاج الناس إلى
مراجعتهم بل تقبيل أيديهم كما شاهدناه مرارا، وما كل ما يعلم يقال فإنا لله وإنا إليه راجعون. هذا وقد استشكل أخذ الجزية من هؤلاء الكفرة بأن كفرهم من أعظم الكفر فكيف يقرون عليه بأخذ دراهم معدودات.
وأجاب القطب بأن المقصود من أخذ الجزية ليس تقريرهم على الكفر بل امهال الكافر مدة ربما يقف فيها على محاسن الإسلام وقوة دلائله فيسلم، وقال الاتقاني: إن الجزية ليست بدلا عن تقرير الكفر وإنما هي عوض عن القتل والاسترقاق الواجبين فجازت كإسقاط القصاص بعوض، أو هي عقوبة على الكفر كالاسترقاق، والشق الأول أظهر حيث يوهم الثاني جواز وضع الجزية على النساء ونحوهن. وقد يجاب بأنها بدل عن النصرة للمقاتلة منا، ولهذا تفاوتت لأن كل من كان من أهل دار الإسلام يجب عليه النصرة للدار بالنفس والمال، وحيث إن الكافر لا يصلح لها لميله إلى دار الحرب اعتقادا أقيمت الجزية المأخوذة المصروفة إلى الغزاة مقامها، ولا يرد أن النصرة طاعة وهذه عقوبة فكيف تكون العقوبة خلفا عن الطاعة لما في النهاية من أن الخليفة عن النصرة في حق المسلمين لما في ذلك من زيادة القوة لهم وهم يثابون على تلك الزيادة الحاصلة بسبب أموالهم، وهذا بمنزلة ما لو أعاروا دوابهم للغزاة. ومن هنا تعلم أن من قال: إنها بدل عن الإقرار على الكفر فقد توهم وهما عظيما وَقالَتِ الْيَهُودُ استئناف سيق لتقرير ما مر من عدم إيمان أهل الكتابين بالله سبحانه وانتظامهم بذلك في المشركين، والقائل عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ متقدمو اليهود ونسبة الشيء القبيح إذا صدر من بعض القوم إلى الكل مما شاع، وسبب ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عزيرا كان في أهل الكتاب وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله تعالى أن يعملوا ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق وكان التابوت عندهم. فلما رأى الله سبحانه وتعالى أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء رفع عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم فدعا عزير ربه عز وجل وابتهل أن يرد إليه ما نسخ من صدره. فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله عز وجل نزل نور من الله تعالى فدخل جوفه فعاد الذي كان ذهب من جوفه من التوراة فأذن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله تعالى التوراة وردها إلي فطفق يعلمهم فمكثوا ما شاء الله تعالى أن يمكثوا وهو يعلمهم. ثم إن التابوت نزل عليهم بعد ذهابه منهم فعرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم فوجدوه مثله فقالوا: والله ما أوتي عزير هذا إلا لأنه ابن الله سبحانه. وقال الكلبي في سبب ذلك: إن بختنصر غزا بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة وكان عزير إذ ذاك صغيرا فلم يقتله لصغره فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله تعالى عزيرا ليجدد لهم التوراة وليكون آية لهم بعد ما أماته الله تعالى مائة سنة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فشرب منه فمثلت له التوراة في صدره فلما أتاهم قال: أنا عزير فكذبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة فكتبها لهم من صدره. فقال رجل منهم: إن أبي حدثني عن جدي أنه وضعت التوراة في خابية ودفنت في كرم فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر حرفا فقالوا: إن الله تعالى لم يقذف التوراة في قلب عزير إلا لأنه ابنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وروي غير ذلك ومرجع الروايات إلى أن السبب حفظه عليه السلام للتوراة، وقيل: قائل ذلك جماعة من يهود المدينة منهم سلام بن مشكم، ونعمان بن أبي أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف. أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله؟. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أن قائل ذلك فنحاص بن عازوراء وهو على ما جاء في بعض الروايات القائل: «إن الله فقير ونحن أغنياء» .
وبالجملة إن هذا القول كان شائعا فيهم ولا عبرة بإنكارهم له أصلا وبقول بعضهم: إن الواقع قولنا عزير أبان الله
أي أوضح أحكامه وبين دينه أو نحو ذلك بعد أن أخبر الله سبحانه وتعالى بما أخبر. وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب وسهل «عزير» بالتنوين والباقون بتركه أما التنوين فعلى أنه اسم عربي مخبر عنه بابن وقال أبو عبيدة: إنه أعجمي لكنه صرف لخفته بالتصغير كنوح ولوط وإلى هذا ذهب الصغاني وهو مصغر عزار تصغير ترخيم، والقول بأنه أعجمي جاء على هيئة المصغر وليس به فيه نظر. وأما حذف التنوين فقيل لالتقاء الساكنين فإن نون التنوين ساكنة والباء في ابن ساكنة أيضا فالتقى الساكنان فحذفت النون له كما يحذف حروف العلة لذلك، وهو مبني على تشبيه النون بحرف اللين وإلا فكان القياس تحريكها، وهو مبتدأ وابن خبره أيضا ولذا رسم في جميع المصاحف بالألف وقيل: لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا. وتعقب بأنه تمحل عنه مندوحة ورده الشيخ في دلائل الاعجاز بأن الاسم إذا وصف بصفة ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف تكذيبه إلى الخبر وصار ذلك الوصف مسلما، فلو كان المقصود بالإنكار قولهم عزير ابن الله معبودنا لتوجه الإنكار إلى كونه معبودا لهم وحصل تسليم كونه ابنا لله سبحانه وذلك كفر. واعترض عليه الإمام قائلا: إن قوله يتوجه الإنكار إلى الخبر مسلم لكن قوله: يكون ذلك تسليما للوصف ممنوع لأنه لا يلزم من كونه مكذبا لذلك الخبر كونه مصدقا لذلك الوصف إلا أن يقال: ذلك بالخبر يدل على أن ما سواه لا يكذبه وهو مبني على دليل الخطاب وهو ضعيف. وأجاب بعضهم بأن الوصف للعلية فإنكار الحكم يتضمن إنكار علته. وفيه أن إنكار الحكم قد يحتمل أن يكون بواسطة عدم الإفضاء لا لأن الوصف كالأبنية مثلا منتف.
وفي الإيضاح أن القول بمعنى الوصف وأراد أنه لا يحتاج إلى تقدير الخبر كما أن أحدا إذا قال مقالة ينكر منها البعض فحكيت منها المنكر فقط، وهو كما في الكشف وجه حسن في رفع التمحل لكنه خلاف الظاهر كما يشهد له آخر الآية. وقال بعض المحققين: إنه يحتمل أن يكون عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ خبر مبتدأ محذوف أي صاحبنا عزير ابن الله مثلا، والخبر إذا وصف توجه الإنكار إلى وصفه نحو هذا الرجل العاقل وهذا موافق للبلاغة وجاء على وفق العربية من غير تكلف ولا غبار، ولم يظهر لي وجه تركه مع ظهوره، والظاهر أن التركيب خبر ولا حذف هناك، واختلف في عزير هل هو نبي أم لا والأكثرون على الثاني وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ هو أيضا قول بعضهم، ولعلهم إنما قالوه لاستحالة أن يكون ولد من غير أب أو لأنهم رأوا من أفعاله ما رأوا.
ويحتمل- وهو الظاهر عندي- أنهم وجدوا إطلاق الابن عليه عليه السلام وكذا إطلاق الأب على الله تعالى فيما عندهم من الإنجيل فقالوا ما قالوا وأخطأوا في فهم المراد من ذلك. وقد قدمنا من الكلام ما فيه كفاية في هذا المقام.
ومن الغريب- ولا يكاد يصح- ما قيل: إن السبب في قولهم هذا أنهم كانوا على الدين الحق بعد رفع عيسى عليه السلام إحدى وثمانين سنة يصلون ويصومون ويوحدون حتى وقع بينهم وبين اليهود حرب وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولص قتل جماعة منهم ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى عليه السلام فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلنا النار ودخلوا الجنة وإني سأحتال عليهم وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا ثم إنه عمد إلى فرس يقاتل عليه فعقره وأظهر الندامة والتوبة ووضع التراب على رأسه وأتى النصارى فقالوا له من أنت فقال: عدوكم بولص قد نوديت من السماء أنه ليست لك توبة حتى تتنصر وقد تبت وأتيتكم فأدخلوه الكنيسة ونصروه ودخل بيتا فيها فلم يخرج منه سنة حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال: قد نوديت أن الله تعالى قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم، ثم إنه عمد إلى ثلاثة رجال منهم نسطور، ويعقوب، وملكا فعلم نسطور أن الإله ثلاثة: الله، وعيسى، ومريم تعالى
الله عن ذلك، وعلم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان ولكنه ابن الله سبحانه، وعلم ملكا أن عيسى هو الله تعالى لم يزل ولا يزال فلما استمكن ذلك منهم دعا كل واحد منهم في الخلوة وقال له: أنت خالصتي فادع الناس إلى ما علمتك وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد، ثم قال لهم: إني رأيت عيسى عليه السلام في المنام، وقد رضي عني وأنا ذابح نفسي تقربا إليه ثم ذهب إلى المذبح فذبح نفسه، وتفرق أولئك الثلاثة فذهب واحد منهم إلى الروم. وواحد إلى بيت المقدس. والآخر إلى ناحية أخرى وأظهر كل مقالته ودعا الناس إليها فتبعه من تبعه وكان ما كان من الاختلال والضلال ذلِكَ أي ما صدر عنهم من العظيمتين قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ أي أنه قول لا يعضده برهان مماثل للألفاظ المهملة التي لا وجود لها إلا في الأفواه من غير أن يكون لها مصداق في الخارج، وقيل: هو تأكيد لنسبة القول المذكور إليهم ونفي التجوز عنها وهو الشائع في مثل ذلك، وقيل: أريد بالقول الرأي والمذهب، وذكر الأفواه إما للإشارة إلى أنه لا أثر له في قلوبهم وإنما يتكلمون به جهلا وعنادا وإما للاشعار بأنه مختار لهم غير متحاشين عن التصريح به فإن الإنسان ربما ينبه على مذهبه بالكتابة أو بالكناية مثلا فإذا صرح به وذكره بلسانه كان ذلك الغاية في اختياره، وادعى غير واحد أن جعل ذلك من باب التأكيد كما في قولك: رأيته بعيني وسمعته بأذني مثلا مما يأباه المقام، ولو كان المراد به التأكيد مع التعجيب من تصريحهم بتلك المقالة الفاسدة لا ينافيه المقام ولا تزاحم في النكات يُضاهِؤُنَ أي يضاهي قولهم في الكفر والشناعة قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وصير مرفوعا، ويحتمل أن يكون من باب التجوز كما قيل في قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ [يوسف: 52] لا يهديهم في كيدهم، فالمراد يضاهئون في قولهم قول الذين كفروا مِنْ قَبْلُ أي من قبلهم وهم كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة واختاره الفراء: المشركون الذين قالوا: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون، وقيل: المراد بهم قدماؤهم فالمضاهي من كان في زمنه عليه الصلاة والسلام منهم لقدمائهم وأسلافهم، والمراد الإخبار بعراقتهم في الكفر.
وأنت تعلم أنه لا تعدد في القول حتى يتأتى التشبيه، وجعله بين قولي الفريقين ليس فيه مزيد مزية، وقيل:
المراد بهم اليهود على أن الضمير للنصارى، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وإن أخرجه ابن المنذر وغيره عن قتادة مع أن مضاهاتهم قد علمت من صدر الآية، ويستدعي أيضا اختصاص الرد والابطال بقوله تعالى: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ بقول النصارى، وقرأ الأكثر «يضاهون» بهاء مضمومة بعدها واو، وقد جاء ضاهيت وضاهأت بمعنى من المضاهاة وهي المشابهة وبذلك فسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعن الحسن تفسيرها بالموافقة وهما لغتان، وقيل: الياء فرع عن الهمزة كما قالوا قريت وتوضيت، وقيل: الهمزة بدل من الياء لضمها. ورد بأن الياء لا تثبت في مثله حتى تقلب بل تحذف كرامون من الرمي، وقيل: إنه مأخوذ من قولهم: امرأة ضهيا بالقصر وهي لا ثدي لها أو لا تحيض أو لا تحمل لمشابهتها الرجال، ويقال: ضهياء بالمد كحمراء وضهياءة بالمد وتاء التأنيث وشذ فيه الجمع بين علامتي التأنيث، وتعقب بأنه خطأ لاختلاف المادتين فإن الهمزة في ضهياء على لغاتها الثلاث زائدة وفي المضاهاة أصلية ولم يقولوا:
إن همزة ضهياء أصلية وياءها زائدة لأن فعيلاء لم يثبت في أبنيتهم، ولم يقولوا وزنها فعلل كجعفر لأنه ثبت زيادة الهمزة في ضهياء بالمد فتتعين في اللغة الأخرى، وفي هذا المقام كلام مفصل في محله. ومن الناس من جوز الوقف على قَوْلُهُمْ وجعل بِأَفْواهِهِمْ متعلقا بيضاهئون ولا توقف في أنه ليس بشيء، وفي الجملة ذم للذين كفروا على أبلغ وجه وإن لم تسق لذمهم قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم بالإهلاك فإن من قاتل الله تعالى فمقتول ومن غالبه فمغلوب. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن المعنى لعنهم الله وهو معنى مجازي لقاتلهم، ويجوز أن يكون
المراد من هذه الكلمة التعجب من شناعة قولهم فقد شاعت في ذلك حتى صارت تستعمل في المدح فيقال: قاتله الله تعالى ما أفصحه.
وقيل: هي للدعاء والتعجب يفهم من السياق لأنها كلمة لا تقال إلا في موضع التعجب من شناعة فعل قوم أو قولهم ولا يخفى ما فيه مع أن تخصيصها بالشناعة شناعة أيضا أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل بعد وضوح الدليل وسطوح البرهان اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ زيادة تقرير لما سلف من كفرهم بالله تعالى، والأحبار علماء اليهود، واختلف في واحدة فقال الأصمعي: لا أدري أهو حبر أو حبر، وقال أبو الهيثم: هو بالفتح لا غير، وذكر ابن الأثير أنه بالفتح والكسر وعليه أكثر أهل اللغة، والصحيح إطلاقه على العالم ذميا كان أو مسلما فقد كان يقال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما الحبر ويجمع كما في القاموس على حبور أيضا وكأنه مأخوذ من تحبير المعاني بحسن البيان عنها وَرُهْبانَهُمْ وهم علماء النصارى من أصحاب الصوامع، وهو جمع راهب وقد يقع على الواحد ويجمع على رهابين ورهابنة وفي مجمع البيان أو الراهب هو الخاشي الذي تظهر عليه الخشية وكثر إطلاقه على متنسكي النصارى وهو مأخوذ من الرهبة أي الخوف، وكانوا لذلك يتخلون من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب، ومن هنا
قال صلى الله عليه وسلم: «لا رهبانية في الإسلام»
والمراد في الآية اتخذ كل من الفريقين علماءهم لا الكل الكل أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله تعالى وتحليل ما حرمه سبحانه وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد روى الثعلبي وغيره عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فقلت له: يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم فقال عليه الصلاة والسلام. أليس يحرمون ما أحل الله تعالى فيحرمونه ويحلون ما حرم الله فيستحلون؟ فقلت: بلى. قال: ذلك عبادتهم.
وسئل حذيفة رضي الله تعالى عنه عن الآية فأجاب بمثل ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظير ذلك قولهم: فلان يعبد فلانا إذا أفرط في طاعته فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة وهي طاعة مخصوصة على مطلقها والأول أبلغ، وقيل: اتخاذهم أربابا بالسجود لهم لا يصلح إلا للرب عز وجل وحينئذ فلا مجاز إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم. والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام لكلام علمائهم ورؤسائهم والحق أحق بالاتباع فمتى ظهر وجب على المسلم اتباعه وإن أخطأه اجتهاد مقلده وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ عطف على رُهْبانَهُمْ بأن اتخذوه ربا معبودا أو بأن جعلوه ابنا لله كما يقتضيه سياق الآية على ما قيل وفيه نظر. وتخصيص الاتخاذ به عليه السلام يشير إلى أن اليهود ما فعلوا ذلك بعزير، وتأخيره في الذكر مع أن اتخاذهم له كذلك أقوى من مجرد الإطاعة في أمر التحليل والتحريم لأنه مختص بالنصارى، ونسبته عليه السلام إلى أمه للإيذان بكمال ركاكة رأيهم والقضاء عليهم بنهاية الجهل والحماقة.
وَما أُمِرُوا أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في الكتب الإلهية وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً جليل الشأن وهو الله سبحانه ويطيعوا أمره ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه فإن ذلك مناف لعبادته جل شأنه، وأما إطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر من أمر الله بطاعته فهي في الحقيقة إطاعة لله عز وجل، وما أمر الذين اتخذهم الكفرة أربابا من المسيح عليه السلام والأحبار والرهبان إلا ليطيعوا أو ليوحدوا الله تعالى فكيف يصح أن يكونوا أربابا وهم مأمورون مستعبدون مثلهم، ولا يخفى أن تخصيص العبادة به تعالى لا يتحقق إلا بتخصيص الطاعة
أيضا به تعالى ومتى لم يخص به جل شأنه لم تخص العبادة به سبحانه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية لإلها أو استئناف، وهو على الوجهين مقرر للتوحيد وفيه على ما قيل فائدة زائدة وهو أن ما سبق يحتمل غير التوحيد بأن يؤمروا بعبادة إله واحد من بين الآلهة فإذا وصف المأمور بعبادته بأنه هو المنفرد بالألوهية تعين المراد، وجوز أن يكون صفة مفسرة لواحدا سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه له أي تنزيه عن الإشراك به في العبادة والطاعة يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ إطفاء النار على ما في القاموس إذهاب لهبها الموجب لاذهاب نورها لا إذهاب نورها على ما قيل، لكن ما كان الغرض من إطفاء نار لا يراد بها إلا النور كالمصباح إذهاب نورها جعل إطفاءها عبارة عنه ثم شاع ذلك حتى كان عبارة عن مطلق إذهاب النور وإن كان لغير النار، والمراد بنور الله حجته تعالى النيرة المشرقة الدالة على وحدانيته وتنزهه سبحانه عن الشركاء والأولاد أو القرآن العظيم الصادع الصادح بذلك، وقيل: نبوته عليه الصلاة والسلام التي ظهرت بعد أن استطال دجا الكفر صبحا منيرا، وأيا ما كان فالنور استعارة أصلية تصريحية لما ذكر، وإضافته إلى الله تعالى قرينة، والمراد من الإطفاء الرد والتكذيب أي يريد أهل الكتابين أن يردوا ما دل على توحيد الله تعالى وتنزيهه عما نسبوه إليه سبحانه بِأَفْواهِهِمْ أي بأقاويلهم الباطلة الخارجة عنها من غير أن يكون لها مصداق تنطبق عليه أو أصل تستند إليه بل كانت أشبه شيء بالمهملات، قيل: ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن يشبه حالهم في محاولة إبطال نبوته صلى الله عليه وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق ويكون قوله تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ترشيحا للاستعارة لأن إتمام النور زيادة في استنارته وفشو ضوئه فهو تفريع على المشبه به وما بعد من قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي إلخ تجريد وتفريع على الفرع، وروعي في كل من المشبه والمشبه به معنى الافراط والتفريط حيث شبه الابطال بالاطفاء بالفم، ونسب النور إلى الله تعالى العظيم الشأن ومن شأن النور المضاف إليه سبحانه أن يكون عظيما فكيف يطفأ بنفخ الفم، وتمم كلا من الترشيح والتجريد بما تمم لما بين الكفر الذي هو ستر وإزالة للظهور والإطفاء من المناسبة وبين دين الحق الذي هو التوحيد والشرك من المقابلة انتهى. ولا يخلو عن حسن. والظاهر أن المراد بالنور هنا هو الأول إلا أنه أقيم الظاهر مقام الضمير وأضيف إلى ضميره سبحانه لمزيد الاعتناء بشأنه وللاشعار بعلة الحكم، والاستثناء مفرغ فالمصدر منصوب على أنه مفعول به والمصحح للتفريغ عند جمع كون يَأْبَى في معنى النفي، والمراد به إما لا يريد لوقوعه في مقابلة يريدون كما قيل أو لا يرضى كما ارتضاه بعض المحققين بناء على أن المراد بإرادة إتمام نوره سبحانه إرادة خاصة وهي الإرادة على وجه الرضا بقرينة وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ لا الإرادة المجامعة لعدم الرضا كما هو مذهب أهل الحق خلافا لمن يسوي بينهما. وقال الزجاج: إن مصحح التفريغ عموم المستثنى منه وهو محذوف ولا يضركون ذلك نسبيا إذ غالب العمومات كذلك بل قد قيل: ما من عام إلا وقد خص منه البعض، أي يكره كل شيء يتعلق بنوره إلا إتمامه، وقرينة التخصيص السياق.
ولا يجوز تأويل الجماعة عنده إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بالنفي فيلزم جريان التفريغ في كل شيء وهو كما ترى، والحق أنه لا مانع من التأويل إذا اقتضاه المقام، وإتمام النور بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز دين الإسلام وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ جواب لَوْ محذوف لدلالة ما قبله عليه أي يتم نوره.
والجملة معطوفة على جملة قبلها مقدرة أي لو لم يكره الكافرون ولو كره وكلتاهما في موضع الحال، والمراد أنه سبحانه يتم نوره ولا بد هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلى الله عليه وسلم متلبسا بِالْهُدى أي القرآن الذي هو هدى للمتقين وَدِينِ الْحَقِّ أي الثابت، وقيل: دينه تعالى وهو دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ أي الرسول عليه الصلاة والسلام عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي على أهل الأديان كلها فيخذلهم أو ليظهر دين الحق علي سائر الأديان بنسخه إياها
حسبما تقتضيه الحكمة. فأل في الدين سواء كان الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم أم للدين الحق للاستغراق. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام وأل للعهد أي ليعلمه شرائع الدين كلها ويظهره عليها حتى لا يخفى عليه عليه الصلاة والسلام شيء منها، وأكثر المفسرين على الاحتمال الثاني قالوا: وذلك عند نزول عيسى عليه السلام فإنه حينئذ لا يبقى دين سوى دين الإسلام، والجملة بيان وتقرير لمضمون الجملة السابقة لأن مآل الإتمام هو الإظهار وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ على طرز ما قبله خلا أن وصفهم بالشرك بعد وصفهم بالكفر قيل:
للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الشرك بالله تعالى، وظاهر هذا أن المراد بالكفر فيما تقدم الكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبه وبالشرك الكفر بالله سبحانه بقرينة التقابل ولا مانع منه.
وقد علمت ما في هذين المتممين من المناسبة التي يليق أن يكون فلك البلاغة حاويا لها فتدبر.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في بيان حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم إثر بيان سوء حال الأتباع في اتخاذهم لهم أربابا، وفي ذلك تنبيه للمؤمنين حتى لا يحوموا حول ذلك الحمى ولذا وجه الخطاب إليهم إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ يأخذونها بالارتشاء لتغيير الأحكام والشرائع والتخفيف والمسامحة فيها، والتعبير عن الأخذ بالأكل مجاز مرسل والعلامة العلية والمعلولية أو اللازمية والملزومية فإن الأكل ملزوم للأخذ كما قيل.
وجوز أن يكون المراد من الأموال الأطعمة التي تؤكل بها مجازا مرسلا ومن ذلك قوله:
يأكلن كل ليلة إكافا فإنه يريد علفا يشتري بثمن إكاف. واختار هذا العلامة الطيبي وهو أحد وجهين ذكرهما الزمخشري، وثانيهما أن يستعار الأكل للأخذ وذلك على ما قرره العلامة أن يشبه حالة أخذهم أموال الناس من غير تمييز بين الحق والباطل وتفرقة بين الحلال والحرام للتهالك على جمع حطامها بحالة منهمك جائع لا يميز بين طعام وطعام في التناول، ثم ادعى أنه لا طائل تحت هذه الاستعارة وأن استشهاده بأخذ الطعام وتناوله سمج، وأجيب بأن الاستشهاد به على أن بين الأخذ والتناول شبها وإلا فذاك عكس المقصود، وفائدة الاستعارة المبالغة في أنه أخذ بالباطل لأن الأكل غاية الاستيلاء على الشيء ويصير قوله تعالى: بِالْباطِلِ على هذا زيادة مبالغة ولا كذلك لو قيل يأخذون وَيَصُدُّونَ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي دين الإسلام أو عن المسلك المقرر في كتبهم إلى ما افتروه بأخذ الرشا.
ويجوز أن يكون يَصُدُّونَ من الصدود على معنى أنهم يعرضون عن سبيل الله فيحرفون ويفترون بأكلهم أموال الناس بالباطل وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أي يجمعونهما ومنه ناقة كناز اللحم أي مجتمعته، ولا يشترط في الكنز الدفن بل يكفي مطلق الجمع والحفظ، والمراد من الموصول إما الكثير من الأحبار والرهبان لأن الكلام في ذمهم ويكون ذلك مبالغة فيه حيث وصفوا بالحرص بعد وصفهم بما سبق من أخذ البراطيل في الأباطيل وإما المسلمون لجري ذكرهم أيضا وهو الأنسب بقوله تعالى:
وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ لأنه يشعر بأنهم ممن ينفق في سبيله سبحانه لأنه المتبادر من النفي عرفا فيكون نظمهم في قرن المرتشين من أهل الكتاب تغليظا ودلالة على كونهم أسوة لهم في استحقاقه البشارة بالعذاب، واختار بعض المحققين حمله على العموم ويدخل فيه الأحبار والرهبان دخولا أوليا، وفسر غير واحد الانفاق في سبيل الله بالزكاة لما
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى أنه لما نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أنا أفرج عنكم فانطلق فقال: يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم.
وأخرج الطبراني. والبيهقي في سننه. وغيرهما عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدي زكاته فليس بكنز»
أي بكنز أوعد عليه فإن الوعيد عليه مع عدم الانفاق فيما أمر الله تعالى أن ينفق فيه، ولا يعارض ذلك
قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها»
لأن المراد بذلك ما لم يؤد حقه كما يرشد إليه ما
أخرجه الشيخان عن أبي هريرة «ما
من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبينه»
وقيل: إنه كان قبل أن تفرض الزكاة وعليه حمل ما رواه الطبراني عن أبي امامة قال توفي رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي صلى الله عليه وسلم كية ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه الصلاة والسلام كيتان، وقيل: بل هذا لأن الرجلين أظهرا الفقر ومزيد الحاجة بانتظامهما في سلك أهل الصفة الذين هم بتلك الصفة مع أن عندهما فكان جزاؤهما الكية والكيتين لذلك، وأخذ بظاهر الآية فأوجب انفاق جميع المال الفاضل عن الحاجة أبو ذر رضي الله تعالى عنه وجرى بينه لذلك وبين معاوية رضي الله عنه في الشام ما شكاه له إلى عثمان رضي الله تعالى عنه في المدينة فاستدعاه إليها فرآه مصرا على ذلك حتى أن كعب الأحبار رضي الله عنه قال له: يا أبا ذر إن الملة الحنيفية أسهل الملل وأعدلها وحيث لم يجب انفاق كل المال في الملة اليهودية وهي أضيق الملل وأشدها كيف يجب فيها فغضب رضي الله تعالى عنه وكانت فيه حدة وهي التي دعته إلى تعيير بلال رضي الله عنه بأمه وشكايته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله فيه «إنك امرؤ فيك جاهلية» فرفع عصاه ليضربه وقال له: يا يهودي ما ذاك من هذه المسائل فهرب كعب فتبعه حتى استعاذ بظهر عثمان رضي الله تعالى عنه فلم يرجع حتى ضربه. وفي رواية أن الضربة وقعت على عثمان، وكثر المعترضون على أبي ذر في دعواه تلك، وكان الناس يقرؤون له آية المواريث ويقولون: لو وجب انفاق كل المال لم يكن للآية وجه، وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حل مستغربين منه ذلك فاختار العزلة فاستشار عثمان فيها فأشار إليه بالذهاب إلى الربذة فسكن فيها حسبما ورد، وهذا ما يعول عليه في هذه القصة، ورواها الشيعة على وجه جعلوه من مطاعن ذي النورين وغرضهم بذلك إطفاء نوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ خبر الموصول، والفاء لما مر غير مرة.
وجوز أن يكون الموصول في محل نصب بفعل يفسره فَبَشِّرْهُمْ والتعبير بالبشارة للتهكم، وقوله تعالى:
يَوْمَ منصوب بعذاب أليم أو بمضمر يدل عليه ذلك أي يعذبون يوم أو باذكر. وقيل: التقدير عذاب يوم والمقدر بدل من المذكور فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ أي توقد النار ذات حمى وحر شديد عليها، وأصله تحمى بالنار من قولك حميت الميسم وأحميته فجعل الاحماء للنار مبالغة لأن النار في نفسها ذات حمى فإذا وصفت بأنها تحمى دل على شدة توقدها ثم حذفت النار وحول الاسناد إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود بأتم وجه فانتقل من صيغة التأنيث إلى التذكير كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير فإذا طرحت القصة وأسند الفعل إلى الجار والمجرور قلت رفع إلى الأمير. وعن ابن عامر أنه قرأ «تحمى» بالتاء الفوقانية بإسناده إلى النار كأصله وإنما قيل عَلَيْها والمذكور شيئان لأنه ليس المراد بهما مقدارا معينا منهما ولا الجنس الصادق بالقليل والكثير بل المراد الكثير من الدنانير والدراهم لأنه الذي يكون كنزا فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة ولو أتى بضمير التثنية احتمل خلافه، وكذا يقال في قوله سبحانه: وَلا يُنْفِقُونَها وقيل: الضمير لكنوز الأموال المفهومة من الكلام فيكون الحكم عاما ولذا عدل فيه عن الظاهر، وتخصيص الذهب والفضة بالذكر لأنهما الأصل الغالب في الأموال لا للتخصيص أو للفضة، واكتفى بها لأنها أكثر، والناس إليها أحوج، ولأن الذهب يعلم منها بالطريق الأولى مع قربها لفظا فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ خصت بالذكر لأن غرض الكانزين من الكنز والجمع أن يكونوا عند الناس ذوي وجاهة ورياسة بسبب الغنى وأن يتنعموا بالمطاعم الشهية والملابس البهية فلوجاهتهم كان الكي بجباههم ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها ولما لبسوه على ظهورهم كويت، أو لأنهم إذا رأوا الفقير السائل زووا ما بين أعينهم وازوروا عنه وأعرضوا وطووا كشحا وولوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى، أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة
فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد، وقيل: لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخيره وجنبتاه فيكون ما ذكر كناية عن جميع البدن، ويبقى عليه نكتة الاقتصار على هذه الأربع من بين الجهات الست وتكلف لها بعضهم بأن الكانز وقت الكنز لحذره من أن يطلع عليه أحد يلتفت يمينا وشمالا وأماما ووراء ولا يكاد ينظر إلى فوق أو يتخيل أن أحدا يطلع عليه من تحت، فلما كانت تلك الجهات الأربع مطمح نظره ومظنة حذره دون الجهتين الأخريين اقتصر عليها دونهما، وهو مع ابتنائه على اعتبار الدفن في الكنز في حيز المنع كما لا يخفى.
وقيل: إنما خصت هذه المواضع لأن داخلها جوف بخلاف اليد والرجل، وفيه أن البطن كذلك، وفي جمعه مع الظاهر لطافة أيضا، وقيل: لأن الجهة محل الوسم لظهورها والجنب محل الألم والظهر محل الحدود لأن الداعي للكانز على الكنز وعدم الإنفاق خوف الفقر الذي هو الموت الأحمر حيث إنه سبب للكد وعرق الجبين والاضطراب يمينا وشمالا وعدم استقرار الجنب لتحصيل المعاش مع خلو المتصف به عما يستند إليه ويعول في المهمات عليه فلملاحظة الأمن من الكد وعرق الجبين تكوى جبهته ولملاحظة الأمن من الاضطراب والطمع في استقرار الجنب يكوى جنبه لملاحظة استناد الظهر والاتكال على ما يزعم أنه الركن الأقوى والوزر الأوقى يكوى ظهره، وقيل غير ذلك وهي أقوال يشبه بعضها بعضا والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وأيا ما كان فليس المراد أنه يوضع دينار على دينار أو درهم على درهم فيكوى بها ولا أنه يكون بكل بأن يرفع واحد ويوضع بدله آخر حتى يؤتى على آخرها بل إنه يوسع جلد الكانز فيوضع كل دينار ودرهم على حدته كما نطقت بذلك الآثار وتظافرت به الأخبار هذا ما كَنَزْتُمْ على إرادة القول وبه يتعلق الظرف السابق في قول أي يقال لهم يوم يحمى عليها هذا ما كنزتم لِأَنْفُسِكُمْ أي لمنفعتها فكان عين مضرتها وسبب تعذيبها، فاللام للتعليل، وأنت في تقرير المضاف في النظم بالخيار، ولم تجعل اللام للملك لعدم جدواه وما في قوله سبحانه فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ يحتمل أن تكون مصدرية أي وبال كنزكم أو وبال كونكم كانزين ورجح الأول بأن في كون كان الناقصة لها مصدر كلاما وبأن المقصود الخبر وكان إنما ذكرت لاستحضار الصورة الماضية، ويحتمل أن تكون موصولة أي وبال الذي تكنزونه، وفي الكلام استعارة مكنية وتخييلية أو تبعية. وقرىء «تكنزون» بضم النون فالماضي كنز كضرب وقعد إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ أي مبلغ عدد شهور السنة عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه اثْنا عَشَرَ شَهْراً وهي الشهور القمرية المعلومة إذ عليها يدور فلك الأحكام الشرعية فِي كِتابِ اللَّهِ أي في اللوح المحفوظ.
وقيل: فيما أثبته وأوجب على عباده الأخذ به، وقيل: القرآن فيه آيات تدل على الحساب ومنازل القمر وليس بشيء يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي في ابتداء إيجاد هذا العالم، وهذا الظرف متعلق بما في كتاب الله من معنى الثبوت الدال عليه بمنطوقه أو بمتعلقه أو بالكتاب إن كان مصدرا بمعنى الكتابة، والمراد أنه في ابتداء ذلك كانت عدتها ما ذكر وهي الآن على ما كانت عليه، وفِي كِتابِ اللَّهِ صفة اثْنا عَشَرَ وهي خبر إِنَّ وعِنْدَ معمول عِدَّةَ لأنها مصدر كالشركة وشَهْراً تمييز مؤكد كما في قولك: عندي من الدنانير عشرون دينارا، وما يقال: إنه لرفع الإبهام إذ لو قيل عدة الشهور عند الله اثنا عشر سنة لكان كلاما مستقيما ليس بمستقيم على ما قيل.
وانتصر له بأن مراد القائل إنه يحتمل أن تكون تلك الشهور في ابتداء الدنيا كذلك كما في قوله سبحانه: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ [الحج: 47] ونحوه لا مانع منه فإنه أحسن من الزيادة المحضة، ولم يجوزوا تعلق فِي كِتابِ بعدة لأن المصدر إذا أخبر عنه لا يعمل فيما بعد الخبر. ومن الناس من جعله بدلا من عِنْدَ اللَّهِ وضعفه
أبو البقاء بأن فيه الفصل بين البدل والمبدل منه بخبر العامل في المبدل، وجوز بعض أن يجعل اثْنا عَشَرَ مبتدأ وعِنْدَ خبر مقدم والجملة خبر إن أو إن الظرف لاعتماده عمل الرفع اثْنا عَشَرَ، وقوله سبحانه: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ يجوز أن يكون صفة لاثنا عشر وأن يكون حالا من الضمير في الظرف وأن يكون جملة مستأنفة وضمير مِنْها على كل تقدير لاثنا عشر، وهذه الأربعة ذو القعدة، وذو الحجة. والمحرم. ورجب مضر. واختلف في ترتيبها فقيل: أولها المحرم وآخرها ذو الحجة فهي من شهور عام، وظاهر ما أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه عن ابن عباس يقتضيه.
وقيل: أولها رجب فهي من عامين واستدل له بما
أخرجه ابن جرير. وغيره عن ابن عمر قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمعنى في أوسط أيام التشريق فقال: «يا أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان.
وذو القعدة. وذو الحجة. والمحرم» .
وقيل: أولها ذو القعدة وصححه النووي لتواليها.
وأخرج الشيخان «ألا إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ورجب مضر» الحديث،
وأضيف رجب إليهم لأن ربيعة كانوا يحرمون رمضان ويسمونه رجب ولهذا بين في الحديث بما بين.
وقيل: إن ما ذكر من أنها على الترتيب الأول من شهور عام وعلى الثاني من شهور عامين مما يتمشى على أن أول السنة المحرم وهو إنما حدث في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وكان يؤرخ قبله بعام الفيل وكذا بموت هشام بن المغيرة ثم أرخ بصدر الإسلام بربيع الأول وعلى هذا التاريخ يكون الأمر على عكس ما ذكر ولم يبين هذا القائل ما أول شهور السنة عند العرب قبل الفيل، والذي يفهم من كلام بعضهم أن أول الشهور المحرم عندهم من قبل أيضا إلا أن عندهم في اليمن والحجاز تواريخ كثيرة يتعارفونها خلفا عن سلف ولعلها كانت باعتبار حوادث وقعت في الأيام الخالية، وأنه لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ المسلمون هجرته مبدأ التاريخ وتناسوا ما قبله وسموا كل سنة أتت عليهم باسم حادثة وقعت فيها كسنة الاذن. وسنة الأمر. وسنة الابتلاء وعلى هذا المنوال إلى خلافة عمر رضي الله تعالى عنه فسأله بعض الصحابة في ذلك وقال: هذا يطول وربما يقع في بعض السنين اختلاف وغلط فاختار رضي الله تعالى عنه عام الهجرة مبدأ من غير تسمية السنين بما وقع فيها فاستحسنت الصحابة رأيه في ذلك. وفي بعض شروح البخاري أن أبا موسى الأشعري كتب إليه إنه يأتينا من أمير المؤمنين كتب لا ندري بأيها نعمل، وقد قرأنا صكا محله شعبان فلم ندر أي الشعبانين الماضي أم الآتي.
وقيل: إنه هو رضي الله تعالى عنه رفع صك محله شعبان فقال: أي شعبان هو؟ ثم قال: إن الأموال قد كثرت فينا وما قسمناه غير مؤقت فكيف التوصل إلى ضبطه فقال له ملك الأهواز وكان قد أسر وأسلم على يده: إن للعجم حسابا يسمونه- ماهروز- يسندونه إلى من غلب من الأكاسرة ثم شرحه له وبين كيفيته فقال رضي الله تعالى عنه:
ضعوا للناس تاريخا يتعاملون عليه وتضبط أوقاتهم فذكروا له تاريخ اليهود فما ارتضاه والفرس فما ارتضاه فاستحسنوا الهجرة تاريخا انتهى.
وما ذكر من أنهم كانوا يؤرخون في صدر الإسلام بربيع الأول فيه إجمال ويتضح المراد منه بما في النبراس من أنهم كانوا يؤرخون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بسنة القدوم وبأول شهر منها وهو ربيع الأول على الأصح فليفهم، والشهر عندهم ينقسم إلى شرعي. وحقيقي. واصطلاحي، فالشرعي معتبر برؤية الهلال بالشرط المعروف في الفقه، وكان أول
هلال المحرم في التاريخ الهجري ليلة الخميس كما اعتمده يونس الحاكمي المصري وذكر أن ذلك بالنظر إلى الحساب، وأما باعتبار الرؤية فقد حرر ابن الشاطر أن هلاله رئي بمكة ليلة الجمعة. والحقيقي معتبر من اجتماع القمر مع الشمس في نقطة وعوده بعد المفارقة إلى ذلك ولا دخل للخروج من تحت الشعاع إلا في إمكان الرؤية بحسب العادة الشائعة، قيل: ومدة ما ذكر تسعة وعشرون يوما ومائة وأحد وتسعون جزءا من ثلاثمائة وستين جزءا لليوم بليلته، وتكون السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وخمس يوم وسدسه وثانية وذلك أحد عشر جزءا من ثلاثين جزءا من اليوم بليلته، وإذا اجتمع من هذه الأجزاء أكثر من نصف عدوه يوما كاملا وزادوه في الأيام وتكون تلك السنة حينئذ كبيسة وتكون أيامها ثلاثمائة وخمسين يوما، ولما كانت الأجزاء السابقة أكثر من نصف جبروها بيوم كامل، واصطلحوا على جعل الأشهر شهرا كاملا وشهرا ناقصا فهذا هو الشهر الاصطلاحي، فالمحرم في اصطلاحهم ثلاثون يوما وصفر تسعة وعشرون وهكذا إلى آخر السنة القمرية الأفراد منها ثلاثون وأولها المحرم والأزواج تسعة وعشرون وأولها صفر إلا ذا الحجة من السنة الكبيسة فإنّه يكون ثلاثين يوما لاصطلاحهم على جعل ما زادوه في أيام السنة الكبيسة في ذي الحجة آخر السنة.
وحيث كان مدار الشهر الشرعي على الروية اختلفت الأشهر فكان بعضها ثلاثين وبعضها تسعة وعشرين ولا يتعين شهر للكمال وشهر للنقصان بل قد يكون الشهر ثلاثين في بعض السنين وتسعا وعشرين في بعض آخر منها. وما
أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي بكرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة»
محمول على معنى لا ينقص أجرهما والثواب المرتب عليهما وإن نقص عددهما، وقيل: معناه لا ينقصان جميعا في سنة واحدة غالبا، وقيل: لا ينقص ثواب ذي الحجة عن ثواب رمضان حكاه الخطابي وهو ضعيف، والأول كما قال النووي هو الصواب المعتمد ذلِكَ أي تحريم الأشهر الأربعة وما فيه من معنى البعد لتفخيم المشار إليه، وقيل: هو إشارة لكون العدة كذلك ورجحه الإمام بأنه كونها أربعة محرمة مسلم عند الكفار وإنما القصد الرد عليهم في النسيء والزيادة على العدة، ورجح الأول بأن التفريع الآتي يقتضيه، ولا يبعد أن تكون الإشارة إلى مجموع ما دل عليه الكلام السابق والتفريع لا يأبى ذلك الدِّينُ الْقَيِّمُ أي المستقيم دين إبراهيم: وإسماعيل عليهما السلام، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما. وكانوا يعظمون الأشهر الحرم حتى ان الرجل يلقى فيها قاتل أبيه وأخيه فلا يهيجه ويسمون رجب الأصم ومنصل الأسنة حتى أحدثوا النسيء فغيروا، وقيل: المراد من الدِّينُ الحكم والقضاء ومن الْقَيِّمُ الدائم الذي لا يزول أي ذلك الحكم الذي لا يبدل ولا يغير ونسب ذلك إلى الكلبي، وقيل: الدين هنا بمعنى الحساب ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم. «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت»
أي ذلك الحساب المستقيم والعدد الصحيح المستوي لا ما تفعله العرب من النسيء واختار ذلك الطبرسي، وعليه فتكون الإشارة لما رجحه الإمام فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بهتك حرمتهن وارتكاب ما حرم فيهن، والضمير راجع إلى الأشهر الحرم وهو المروي عن قتادة واختاره الفراء وأكثر المفسرين، وقيل: هو راجع إلى الشهور كلها أي فلا تظلموا أنفسكم في جميع شهور السنة بفعل المعاصي وترك الطاعات أو لا تجعلوا حلالها حراما وحرامها حلالا كما فعل أهل الشرك ونسب هذا القول لابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والعدول عن فيها الأوفق بمنها إلى فِيهِنَّ مؤيد لما عليه الأكثر، والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيهن منسوخة وأن الظلم مؤول بارتكاب المعاصي، وتخصيصها بالنهي عن ارتكاب ذلك فيها مع أن الارتكاب منهى عنه مطلقا لتعظيمها ولله سبحانه أن يميز الأوقات على بعض فارتكاب المعصية فيهن أعظم وزرا كارتكابها في الحرم وحال الإحرام. وعن عطاء بن أبي رباح أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم والأشهر الحرم إلا أن
يقاتلوا، واستثنى هذا لأنه للدفع فلا يمنع منه بالاتفاق أو لأن هتك الحرمة في ذلك ليس منهم بل من البادي.
ويؤيد القول بالنسخ أنه عليه الصلاة والسلام حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة سنة ثمان وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً جميعا، واشتهر أنه لا بد من تنكيره ونصبه على الحال وكون ذي الحال من العقلاء، وخطأوا الزمخشري في قوله في خطبة المفصل: محيطا بكافة الأبواب ومخطئه هو المخطئ لأنا إذا علمنا وضع لفظ لمعنى عام بنقل من السلف وتتبع لموارد استعماله في كلام من يعتد به ورأيناهم استعملوه على حالة مخصوصة من الاعراب والتعريف والتنكير ونحو ذلك جاز لنا على ما هو الظاهر أن نخرجه عن تلك الحالة لأنا لو اقتصرنا في الألفاظ على ما استعملته العرب العاربة والمستعربة نكون قد حجرنا الواسع وعسر التكلم بالعربية على من بعدهم ولما لم يخرج بذلك عما وضع له فهو حقيقة، فكافة- وإن استعملته العرب منكرا منصوبا في الناس خاصة- يجوز أن يستعمل معرفا ومنكرا بوجوه الإعراب في الناس وغيرهم وهو في كل ذلك حقيقة حيث لم يخرج عن معناه الذي وضعوه له وهو معنى الجميع، ومقتضى الوضع أنه لا يلزمه ما ذكر ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابر، على أنه ورد في كلام البلغاء على ما ادعوه، ففي كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لآل بني كاكلة قد جعلت لآل بني كاكلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مائتي مثقال عينا ذهبا إبريزا، وهذا كما في شرح المقاصد مما صح، والخط كان موجودا في آل بني كاكلة إلى قريب هذا الزمان بديار العراق،
ولما آلت الخلافة إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه عرض عليه فنفذ ما فيه لهم وكتب عليه بخطه لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون أنا أول من اتبع أمر من الإسلام (1)
ونصر الدين والأحكام عمر بن الخطاب ورسمت بمثل ما رسم لآل بني كاكلة في كل عام مائتي دينار ذهبا إبريزا واتبعت أثره وجعلت لهم مثل ما رسم عمر إذ وجب علي وعلى جميع المسلمين اتباع ذلك كتبه علي بن أبي طالب، فانظر كيف استعمله عمر بن الخطاب معرفة غير منصوبة لغير العقلاء وهو من هو في الفصاحة وقد سمعه مثل علي كرم الله تعالى وجهه ولم ينكره وهو واحد الأحدين، فأي إنكار واستهجان يقبل بعد.
فقوله في المغني- كافة مختص بمن يعقل ووهم الزمخشري في تفسير قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ: 28] إذ قدر كافة نعتا لمصدر محذوف أي رسالة كافة لأنه أضاف إلى استعماله فيما لا يعقل إخراجه عما التزم فيه من الحال كوهمه في خطبة المفصل مما لا يلتفت إليه، وإذا جاز تعريفه بالإضافة جاز بالألف واللام أيضا ولا عبرة بمن خطأ فيه كصاحب القاموس وابن الخشاب، وهو عند الأزهري مصدر على فاعلة كالعافية والعاقبة ولا يثنى ولا يجمع، وقيل: هو اسم فاعل والتاء فيه للمبالغة كتاء راوية وعلامة وإليه ذهب الراغب، ونقل أن المعنى هنا قاتلوهم كافين لهم كما يقاتلونكم كافين لكم، وقيل: معناه جماعة، وقيل للجماعة الكافة كما يقال لهم الوزعة لقوتهم باجتماعهم، وتاؤه كتاء جماعة. والحاصل أنهم رواية ودراية لم يصيبوا فيما التزموه من تنكيره ونصبه واختصاصه بالعقلاء، وأنهم اختلفوا في أصله هل هو مصدر أو اسم فاعل من الكف وأن تاءه هل هي للمبالغة أو للتأنيث، ثم إنهم تصرفوا فيه واستعملوه للتعميم بمعنى جميعا وعلى ذلك حمل الأكثرون ما في الآية قالوا: وهو مصدر كف عن الشيء، وإطلاقه على الجميع باعتبار أنه مكفوف عن الزيادة أو باعتبار أنه يكف عن التعرض له أو التخلف عنه، وهو حال إما من الفاعل أو من المفعول، فمعنى قاتلوا المشركين كافة لا يتخلف أحد منكم عن قتالهم أو لا تتركوا قتال واحد منهم، وكذا في جانب المشبه به، واستدل بالآية على الاحتمال الأول على أن القتال فرض عين.
(1) قوله من اتبع أمر من الإسلام كذا بخطه وتأمله اهـ
وقيل: وهو كذلك في صدر الإسلام ثم نسخ وأنكره ابن عطية وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالولاية والنصر فاتقوا لتفوزوا بولايته ونصره سبحانه فهو إرشاد لهم إلى ما ينفعهم في قتالهم بعد أمرهم به، وقيل: المراد إن الله معكم بالنصر والامداد فيما تباشرونه من القتال، وإنما وضع المظهر موضع المضمر مدحا لهم بالتقوى وحثا للقاصرين على ذلك وإيذانا بأنه المدار في النصر، وقيل: هي بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم كما يشعر بذلك التعليق بالمشتق، وما ذكرناه نحن لا يخلو عن حسن إلا أن الأمر بالتقوى فيه أعم من الأحداث والدوام ومثله كثير في الكلام إِنَّمَا النَّسِيءُ هو مصدر نسأه إذا أخره وجاء النسي كالنهي والنسء كالبدء والنساء كالنداء وثلاثتها مصادر نسأه كالنسيء، وقيل: هو وصف كقتيل وجريح، واختير الأول لأنه لا يحتاج معه إلى تقدير بخلاف ما إذا كان صفة فإنه لا يخبر عنه بزيادة إلا بتأويل ذو زيادة أو إنساء النسيء زيادة، وقد قرىء بجميع ذلك.
وقرأ نافع «النسي» بإبدال الهمزة ياء وادغامها في الياء، والمراد به تأخير حرمة شهر إلى آخر، وذلك أن العرب كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر فيستحلون المحرم ويحرمون صفرا فإن احتاجوا أيضا أحلوه وحرموا ربيعا الأول وهكذا كانوا يفعلون حتى استدار التحريم على شهور السنة كلها، وكانوا يعتبرون في التحريم مجرد العدد لا خصوصية الأشهر المعلومة، وربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت ويجعلوا أربعة أشهر من السنة حراما أيضا، ولذلك نص على العدد المعين في الكتاب والسنة، وكان يختلف وقت حجهم لذلك، وكان في السنة التاسعة من الهجرة التي حج بها أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالناس في ذي القعدة وفي حجة الوداع في ذي الحجة وهو الذي كان على عهد إبراهيم عليه السلام ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام. ولذا
قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إن الزمان قد استدار» الحديث،
وفي رواية أنهم كانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين وهكذا، ووافقت حجة الصديق في ذي القعدة من سنتهم الثانية، وكانت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي كان من قبل ولذا قال ما قال، أي إنما ذلك التأخير زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ الذي هم عليه لأنه تحريم ما أحل الله تعالى وقد استحلوه واتخذوه شريعة وذلك كفر ضموه إلى كفرهم.
وقيل: إنه معصية ضمت إلى الكفر وكما يزداد الإيمان بالطاعة يزداد الكفر بالمعصية.
وأورد عليه بأن المعصية ليست من الكفر بخلاف الطاعة فانها من الإيمان على رأي. وأجيب عنه بما لا يصفو عن الكدر يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا إضلالا على إضلالهم القديم، وقرىء «يضل» على البناء للفاعل من الأفعال على أن الفاعل هو الله تعالى، أي يخلق فيهم الضلال عند مباشرتهم لمباديه وأسبابه وهو المعنى على قراءة الأولى أيضا، وقيل الفاعل في القراءتين الشيطان، وجوز على القراءة الثانية أن يكون الموصول فاعلا والمفعول محذوف أي أتباعهم، وقيل: الفاعل الرؤساء والمفعول الموصول. وقرىء «يضلّ» بفتح الياء والضاد من ضلل يضلل، و «نضل» بنون العظمة يُحِلُّونَهُ أي الشهر المؤخر، وقيل: الضمير للنسيء على أنه فعيل بمعنى مفعول عاماً من الأعوام ويحرمون مكانه شهرا آخر مما ليس بحرام وَيُحَرِّمُونَهُ أي يحافظون على حرمته كما كانت، والتعبير عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالهم في العام الماضي أو لإسنادهم له إلى آلهتهم كما سيجيء إن شاء الله تعالى عاماً آخر إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم، قال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان إذا هم الناس بالصدور من الموسم يقوم فيخطب ويقول لا مردّ لما قضيت أنا الذي لا أعاب ولا أخاب فيقول له المشركون: لبيك ثم يسألونه أن ينسئهم شهرا يغزون فيه فيقول: إن صفر العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة وإن قال حلال عقدوا الأوتار وركبوا الأزجة وأغاروا. وعن الضحاك أنه جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعا في الجاهلية
وكان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوته إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم يقوم في العام القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت النساءة حيّ من بني مالك بن كنانة وكان آخرهم رجلا يقال له القلمس وهو الذي أنسأ المحرم وكان ملكا في قومه وأنشد شاعرهم:
ومنا ناسىء الشهر القلمس وقال الكميت:
ونحن الناسئون على معد
…
شهور الحل نجعلها حراما
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف. والجملتان تفسير للضلال فلا محل لهما من الاعراب، وجوز أن تكونا في محل نصب على أنهما حال من الموصول والعامل عامله لِيُواطِؤُا أي ليوافقوا، وقرأ الزهري «ليوطّئوا» بالتشديد عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ من الأشهر الأربعة، واللام متعلقة بيحرمونه أي يحرمونه لأجل موافقة ذلك أو بما دل عليه مجموع الفعلين أي فعلوا ما فعلوا لأجل الموافقة، وجعله بعضهم من التنازع فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ بخصوصه من الأشهر المعينة، والحاصل أنه كان الواجب عليهم العدة والتخصيص فحيث تركوا التخصيص فقد استحلوا ما حرم الله تعالى زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وقرىء على البناء للفاعل وهو الله تعالى أي جعل أعمالهم مشتهاة للطبع محبوبة للنفس، وقيل: خذلهم حتى رأوا حسنا ما ليس بالحسن، وقيل: المزين هو الشيطان وذلك بالوسوسة والإغواء بالمقدمات الشعرية وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ هداية موصلة للمطلوب البتة وإنما يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكه وهم قد صدوا عنه بسوء اختيارهم فتاهوا في تيه الضلال، والمراد من الكافرين إما المتقدمون ففيه وضع الظاهر موضع الضمير أو الأعم ويدخلون فيه دخولا أوليا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عود إلى ترغيب المؤمنين وحثهم على المقاتلة بعد ذكر طرف من فضائح أعدائهم ما لَكُمْ استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي اخرجوا للجهاد، وأصل النفر على ما قيل الخروج لأمر أوجب ذلك اثَّاقَلْتُمْ أي تباطأتم ولم تسرعوا وأصله تثاقلتم وبه قرأ الأعمش فادغمت التاء في الثاء واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن ونظيره قول الشاعر:
تؤتي الضجيع إذا ما اشتاقها خفرا
…
عذب المذاق إذا ما أتابع القبل
وبه تتعلق إِذا والجملة في موضع الحال، والفعل ماض لفظا مضارع معنى أي ما لكم متثاقلين حين قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم انفروا، وجوز أن يكون العامل في إِذا الاستقرار المقدر في لَكُمْ أو معنى الفعل المدلول عليه بذلك أي أي شيء حاصل أو حصل لكم أو ما تصنعون حين قيل لكم انفروا، وقرىء «أثاقلتم» بفتح الهمزة على أنها للاستفهام الانكاري التوبيخي وهمزة الوصل سقطت في الدرج، وعلى هذه القراءة لا يصلح تعلق إِذا بهذا الفعل لأن الاستفهام له الصدارة فلا يتقدم معموله عليه، ولعل من يقول يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره يجوز ذلك، وقوله سبحانه: إِلَى الْأَرْضِ متعلق باثاقلتم على تضمينه معنى الميل والإخلاد ولولاه لم يعدّ بإلى، أي اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه المستتبعة للراحة الخالدة والحياة الباقية أو إلى الإقامة بأرضكم ودياركم والأول أبلغ في الإنكار والتوبيخ ورجح الثاني بأنه أبعد عن توهم شائبة التكرار في الآية، وكان هذا التثاقل في غزوة تبوك وكانت في رجب سنة تسع فإنه صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من الطائف أقام بالمدينة قليلا ثم
استنفر الناس في وقت عسرة وشدة من الحر وجدب من البلاد وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليه الشخوص لذلك.
وذكر ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه عليه الصلاة والسلام بينها للناس ليتأهبوا لذلك أهبته أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا وغرورها مِنَ الْآخِرَةِ أي بدل الآخرة ونعيمها الدائم فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي فما فوائدها ومقاصدها أو فما التمتع بها وبلذائذها فِي الْآخِرَةِ أي في جنب الآخرة إِلَّا قَلِيلٌ مستحقر لا يعبأ به، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير، وفِي هذه تسمى القياسية لأن المقيس يوضع في جنب ما يقاس به، وفي ترشح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها ويستدعي الرغبة فيها وتجريد الآخرة عن مثل ذلك مبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخرة ورفعتها.
وقد أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المسور قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثم يرفعها فلينظر بم ترجع» .
وأخرج الحاكم وصححه عن سهل قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فرأى شاة شائلة برجلها فقال: أترون هذه الشاة هينة على صاحبها؟ قالوا: نعم. قال عليه الصلاة والسلام «والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله تعالى من هذه على صاحبها ولو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء»
ولا أرى الاستدلال على رداءة الدنيا إلا استدلالا في مقام الضرورة. نعم هي نعمت الدار لمن تزود منها لآخرته.
إِلَّا تَنْفِرُوا أي الا تخرجوا إلى ما دعاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج له يُعَذِّبْكُمْ أي الله عز وجل عَذاباً أَلِيماً بالإهلاك بسبب فظيع لقحط. وظهور عدو، وخص بعضهم التعذيب بالآخرة وليس بشيء، وعممه آخرون واعتبروا فيه الإهلاك ليصح عطف قوله سبحانه: وَيَسْتَبْدِلْ عليه أي ويستبدل بكم بعد إهلاككم قَوْماً غَيْرَكُمْ وصفهم بالمغايرة لهم لتأكيد الوعيد والتشديد في التهديد بالدلالة على المغايرة الوصفية والذاتية المستلزمة للاستئصال، أي قوما مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا ليسوا من أولادكم ولا أرحامكم وهم أبناء فارس كما قال سعيد بن جبير أو أهل اليمن كما روي عن أبي روق أو ما يعم الفريقين كما اختاره بعض المحققين وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً من الأشياء من الضرر، والضمير لله عز وجل أي لا يقدح تثاقلكم في نصرة دينه أصلا فانه سبحانه الغني عن كل شيء وفي كل أمر، وقيل: الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل وعده العصمة والنصر وكان وعده سبحانه مفعولا لا محالة، والأول هو المروي عن الحسن واختاره أبو علي الجبائي وغيره، ويقرب الثاني رجوع الضمير الآتي إليه عليه الصلاة والسلام اتفاقا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على إهلاكهم والإتيان بقوم آخرين، وقيل: على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مدد فتكون الجملة تتميما لما قبل وتوطئة لما بعد.
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من مكة، وإسناد الإخراج إليهم إسناد إلى السبب البعيد فإن الله تعالى أذن له عليه الصلاة والسلام بالخروج حين كان منهم ما كان فخرج صلى الله عليه وسلم بنفسه ثانِيَ اثْنَيْنِ حال من ضميره عليه الصلاة والسلام. أي أحد اثنين من غير اعتبار كونه صلى الله عليه وسلم ثانيا، فإن معنى قولهم ثالث ثلاثة ورابع أربعة ونحو ذلك أحد هذه الاعداد مطلقا لا الثالث والرابع خاصة، ولذا منع الجمهور أن ينصب ما بعد بأن يقال ثالث ثلاثة ورابع أربعة، فلا حاجة إلى تكلف توجيه كونه عليه الصلاة والسلام ثانيهما كما فعله بعضهم. وقرىء «ثاني» بسكون الياء على لغة من يجري الناقص مجرى المقصور في الاعراب، وليس بضرورة خلافا لمن زعمه وقال: إنه من أحسن
الضرورة في الشعر. واستشكلت الشرطية بأن الجواب فيها ماض ويشترط فيه أن يكون مستقبلا حتى إذا كان ماضيا قلب مستقبلا وهنا لم ينقلب، وأجيب بأن الجواب محذوف أقيم سببه مقامه وهو مستقبل أي إن لم تنصروه فسينصره الله تعالى الذي قد نصره في وقت ضرورة أشد من هذه المرة وإلى هذا يشير كلام مجاهد، وجوز أن يكون المراد إن لم تنصروه فقد أوجب له النصرة حين نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره، وفرق بين الوجهين بعد اشتراكهما في أن جواب الشرط محذوف بأن الدال عليه على الوجه الأول النصرة المقيدة بزمان الضعف والقلة في السالف وعلى الوجه الثاني معرفتهم بأنه صلى الله عليه وسلم من المنصورين، وقال القطب: الوجهان متقاربان إلا أن الأول مبني على القياس والثاني على الاستصحاب فإن النصرة ثابتة في تلك الحالة فتكون ثابتة في الاستقبال إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان، وقيل: إنه على الوجه الأول يقدر الجواب وعلى الثاني هو نصر مستمر فيصح ترتيبه على المستقبل لشموله له إِذْ هُما فِي الْغارِ بدل من إِذْ أَخْرَجَهُ بدل البعض إذ المراد به زمان متسع فلا يتوهم التغاير المانع من البدلية، وقيل: إنه ظرف لثاني اثنين والمراد بالغار ثقب في أعلى ثور وهو جبل في الجهة اليمنى لمكة على مسير ساعة، مكثا فيه كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثلاثة أيام يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة وعلي كرم الله تعالى وجهه يجهزهما فاشترى ثلاثة أباعر من إبل البحرين واستأجر لهما دليلا، فلما كانا في بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم علي كرم الله وجهه بالإبل والدليل فركبوا وتوجهوا نحو المدينة، ولاختفائه عليه الصلاة والسلام في الغار ثلاثة اختفى الإمام أحمد فيما يروى زمن فتنة القرآن كذلك لكن لا في الغار، واختفى هذا العبد الحقير زمن فتح بغداد بعد المحاصرة سنة سبع وأربعين بعد الألف والمائتين خوفا من العامة وبعض الخاصة لأمور نسبت إليّ وافتراها بعض المنافقين علي في سرداب عند بعض الأحبة ثلاثة أيام أيضا لذلك ثم أخرجني منه بالعز أمين وأيدني الله تعالى بعد ذلك بالغر الميامين إِذْ يَقُولُ بدل ثان، وقيل: أول لِصاحِبِهِ وهو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
وقد أخرج الدارقطني وابن شاهين وابن مردويه وغيرهم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: أنت صاحبي في الغار، وأنت معي على الحوض» وأخرج ابن عساكر من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأبي هريرة مثله،
وأخرج هو. وابن عدي من طريق الزهري عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: هل قلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه شيئا؟ قال: نعم. قال: قل وأنا أسمع. فقال حسان رضي الله تعالى عنه.
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد
…
طاف العدو به إذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا
…
من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: «صدقت يا حسان هو كما قلت» ،
ولم يخالف في ذلك أحد حتى الشيعة فيما أعلم لكنهم يقولون ما استعمله ورده إن شاء الله تعالى لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا بالعصمة والمعونة فهي معية مخصوصة وإلا فهو تعالى مع كل واحد من خلقه.
روى الشيخان وغيرهما عن أنس قال: حدثني أبو بكر قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه. فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله تعالى ثالثهما» .
وجاء في
رواية قال بعضهم (1) : إن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم فانصرفوا، وأول من دخل الغار أبو بكر رضي الله تعالى عنه،
فقد أخرج ابن مردويه عن جندب بن سفيان قال: لما انطلق أبو بكر رضي الله تعالى عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار قال أبو بكر: لا تدخل يا رسول الله حتى أستبرئه فدخل الغار فأصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن أصبعه وهو يقول:
ما أنت إلا أصبع دميت
…
وفي سبيل الله ما لقيت
. روى البيهقي في الدلائل، وابن عساكر «أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا تبعه أبو بكر فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا أبا بكر؟ فقال: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك واذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه فلما رأى ذلك أبو بكر حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى أتى فم الغار فأنزله ثم قال: والذي بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخل فلم ير شيئا فحمله فأدخله وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاعي فخشى أبو بكر أن يخرج منهن شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقمه قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه وجعلت دموعه تتحدر وهو لا يرفع قدمه حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم» . وفي رواية «أنه سد كل خرق في الغار بثوبه قطعه لذلك قطعا وبقي خرق سده بعقبه»
رضي الله تعالى عنه فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ وهي الطمأنينة التي تسكن عندها القلوب عَلَيْهِ أي على النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للصاحب. وأخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت نحوه، وقيل: وهو الأظهر لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينزعج حتى يسكن ولا ينافيه تعين ضمير وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها له عليه الصلاة والسلام لعطفه على نَصَرَهُ اللَّهُ لا على أنزل حتى تتفكك الضمائر على أنه إذا كان العطف عليه كما قيل به يجوز أن يكون الضمير للصاحب أيضا كما يدل عليه ما
أخرجه ابن مروديه من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: «يا أبا بكر إن الله تعالى أنزل سكينته عليك وأيدك» إلخ
وأن أبيت فأي ضرر في التفكيك إذا كان الأمر ظاهرا» .
واستظهر بعضهم الأول وادعى أنه المناسب للمقام، وإنزال السكينة لا يلزم أن يكون لدفع الانزعاج بل قد يكون لرفعته ونصره صلى الله عليه وسلم، والفاء للتعقيب الذكري وفيه بعد، وفسرها بعضهم على ذلك الاحتمال بما لا يحوم حوله شائبة خوف أصلا، والمراد بالجنود الملائكة النازلون يوم بدر، والأحزاب، وحنين، وقيل: هم ملائكة أنزلهم الله تبارك وتعالى ليحرسوه في الغار. ويؤيده ما
أخرجه أبو نعيم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه «أن أبا بكر رأى رجلا يواجه الغار فقال: يا رسول الله إنه لرآنا قال: كلا إن الملائكة تستره الآن بأجنحتها فلم ينشب الرجل أن قعد يبول مستقبلهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر لو كان يرانا ما فعل هذا» ،
والظاهر أنهما على هذا كانا في الغار بحيث يمكن رؤيتهما عادة ممن هو خارج الغار، واعترض هذا القول بأنه يأباه وصف الجنود بعد رؤية المخاطبين لهم إلا أن يقال: المراد من هذا الوصف مجرد تعظيم أمر الجنود، ومن جعل العطف على أنزل التزم القول المذكور لاقتضائه لظاهر حال الفاء أن يكون ذلك الانزال متعقبا على ما قبله وذلك مما لا يتأتى على القول الأول في الجنود وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ
(1) هو كما في بعض الروايات أمية بن خلف اهـ منه
كَفَرُوا السُّفْلى أي كلمتهم التي اجتمعوا عليها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة حيث نجاه ربه سبحانه على رغم أنوفهم وحفظه من كيدهم مع أنهم لم يدعوا في القوس منزعا في إيصال الشر إليه، وجعلوا الدية لمن يقتله أو يأسره عليه الصلاة والسلام، وخرجوا في طلبه عليه الصلاة والسلام رجالا وركبانا فرجعوا صفر الأكف سود الوجوه، وصار له بعض من كان عليه عليه الصلاة والسلام.
فقد أخرج ابن سعد وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر التفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال: يا نبي الله هذا فارس قد لحق بنا فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اصرعه فصرع عن فرسه فقال: يا نبي الله مرني بما شئت قال: فقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر النهار مسلحة»
وكان هذا الفارس سراقة، وفي ذلك يقول لأبي جهل:
أبا حكم والله لو كنت شاهدا
…
لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا
…
رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
ويجوز تفسير الكلمة بالشرك وهو الذي أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فهي مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به، وفسرها بعضهم بدعوة الكفر فهي بمعنى الكلام مطلقا، وزعم شيخ الإسلام بأن الجعل المذكور على التفسيرين آب عن حمل الجنود على الملائكة الحارسين لأنه ولا يتحقق بمجرد الانجاء بل بالقتل والأسر ونحو ذلك، وأنت تعلم أنه لا إباء على التفسير الذي ذكرناه نحن على أن كون الانجاء مبدأ للجعل بتفسيريه كاف في دفع الإباء بلا امتراء وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا يحتمل أن يراد بها وعده سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم المشار إليه بقوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال: 30] وإما كلمة التوحيد كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإما دعوة الإسلام كما قيل، ولا يخفى ما في تغيير الأسلوب من المبالغة لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت مع الإيذان بأن الجعل لم يتطرق لتلك الكلمة وأنها في نفسها عالية بخلاف علو غيرها فإنه غير ذاتي بل بجعل وتكلف فهو عرض زائل وأمر غير قار ولذلك وسط ضمير الفصل.
وقرأ يعقوب «كلمة الله» بالنصب عطفا على كَلِمَةَ الَّذِينَ وهو دون الرفع في البلاغة، وليس الكلام عليه كأعتق زيد غلام زيد كما لا يخفى وَاللَّهُ عَزِيزٌ لا يغالب في أمره حَكِيمٌ لا قصور في تدبيره هذا. واستدل بالآية على فضل أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو لعمري مما يدع الرافضي في جحر ضب أو مهامه قفر فانها خرجت مخرج العتاب للمؤمنين ما عدا أبا بكر رضي الله تعالى عنه. فقد أخرج ابن عساكر عن سفيان بن عيينة قال:
عاتب الله سبحانه المسلمين جميعا في نبيه صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر وحده فانه خرج من المعاتبة ثم قرأ إِلَّا تَنْصُرُوهُ الآية. بل أخرج الحكيم الترمذي عن الحسن قال: عاتب الله تعالى جميع أهل الأرض غير أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: إِلَّا تَنْصُرُوهُ إلخ.
وأخرج ابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه بلفظ إن الله تعالى ذم الناس كلهم ومدح أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: إِلَّا تَنْصُرُوهُ إلخ،
وفيها النص على صحبته رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يثبت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام سواه، وكونه المراد من الصاحب مما وقع عليه الإجماع ككون المراد من العبد في قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا قالوا: إن انكار صحبته كفر، مع ما تضمنته من تسلية النبي عليه الصلاة والسلام له بقوله: لا تَحْزَنْ وتعليل ذلك بمعية الله سبحانه الخاصة المفادة بقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا ولم يثبت مثل ذلك في غيره بل لم يثبت نبي معية الله سبحانه له ولآخر من أصحابه وكأن في ذلك إشارة إلى أنه ليس فيهم كأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وفي إنزال السكينة عليه بناء على عود الضمير إليه ما يفيد السكينة في أنه هو- هو- رضي الله تعالى عنه ولعن باغضيه، وكذا في انزالها على الرسول عليه الصلاة والسلام مع أن المنزعج صاحبه ما يرشد المنصف إلى أنهما كالشخص الواحد، وأظهر من ذلك إشارة ما ذكر إلى أن الحزن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهد لذلك ما مر في حديث الشيخين. وأنكر الرافضة دلالة الآية على شيء من الفضل في حق الصديق رضي الله تعالى عنه قالوا: إن الدال على الفضل إن كان ثانِيَ اثْنَيْنِ فليس فيه أكثر من كون أبي بكر متما للعدد، وإن كان إِذْ هُما فِي الْغارِ فلا يدل على أكثر من اجتماع شخصين في مكان وكثيرا ما يجتمع فيه الصالح والطالح، وإن كان لِصاحِبِهِ فالصحبة تكون بين المؤمن والكافر كما في قوله تعالى: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ [الكهف: 34] وقوله سبحانه: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22] ويا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يوسف: 39] بل قد تكون بين من يعقل وغيره كقوله:
إن الحمار مع الحمير مطية
…
وإذا خلوت به فبئس الصاحب
وإن كان لا تَحْزَنْ فيقال: لا يخلو إما أن يكون الحزن طاعة أو معصية لا جائز أن يكون طاعة وإلا لما نهى عنه صلى الله عليه وسلم فتعين أن يكون معصية لمكان النهي وذلك مثبت خلاف مقصودكم على أن فيه من الدلالة على الجبن ما فيه، وإن كان إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فيحتمل أن يكون المراد إثبات معية الله تعالى الخاصة له صلى الله عليه وسلم وحده لكن أتى- بنا- سدّا لباب الإيحاش، ونظير ذلك الإتيان بأو في قوله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] وإن كان فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ فالضمير فيه للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يلزم تفكيك الضمائر، وحينئذ يكون في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بالسكينة هنا مع عدم التخصيص في قوله سبحانه: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 26] إشارة إلى ضد ما ادعيتموه، وإن كان ما دلت عليه الآية من خروجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت فهو عليه الصلاة والسلام لم يخرجه معه إلا حذرا من كيده لو بقي مع المشركين بمكة، وفي كون المجهز لهم بشراء الإبل عليا كرم الله تعالى وجهه إشارة لذلك، وإن كان شيئا وراء ذلك فبينوه لنتكلم عليه انتهى كلامهم.
ولعمري إنه أشبه شيء بهذيان المحموم أو عربدة السكران ولولا أن الله سبحانه حكى في كتابه الجليل عن إخوانهم اليهود والنصارى ما هو مثل ذلك ورده رحمة بضعفاء المؤمنين ما كنا نفتح في رده فما أو نجري في ميدان
تزييفه قلما لكني لذلك أقول: لا يخفى أن ثانِيَ اثْنَيْنِ وكذا إِذْ هُما فِي الْغارِ إنما يدلان بمعونة المقام على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ولا ندعي دلالتهما مطلقا ومعونة المقام أظهر من نار على علم ولا يكاد ينتطح كبشان في أن الرجل لا يكون ثانيا باختياره لآخر ولا معه في مكان إذا فر من عدو ما لم يكن معولا عليه متحققا صدقه لديه لا سيما وقد ترك الآخر لأجله أرضا حلت فيها قوابله وحلت عنه بها تمائمه وفارق أحبابه وجفا أترابه وامتطى غارب سبسب يضل به القطا وتقصر فيه الخطا. ومما يدل على فضل تلك الاثنينية
قوله صلى الله عليه وسلم مسكنا جأش أبي بكر:
«ما ظنك باثنين الله تعالى ثالثهما» ،
والصحبة اللغوية وإن لم تدل بنفسها على المدعى لكنها تدل عليه بمعونة المقام أيضا فإضافة صاحب إلى الضمير للعهد أي صاحبه الذي كان معه في وقت يجفو فيه الخليل خليله ورفيقه الذي فارق لمرافقته أهله وقبيله، وأن لا تَحْزَنْ ليس المقصود منه حقيقة النهي عن الحزن فانه من الأمور التي لا تدخل تحت التكليف بل المقصود منه التسلية للصديق رضي الله تعالى عنه أو نحوها. وما ذكروه من الترديد يجري مثله في قوله تعالى خطابا لموسى وهارون عليهما السلام: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما [طه: 46] وكذا في قوله سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [يونس: 65] إلى غير ذلك، افترى أن الله سبحانه نهى عن طاعته؟
أو أن أحدا من أولئك المعصومين عليهم الصلاة والسلام ارتكب معصية سبحانك هذا بهتان عظيم، ولا ينافي كون الحزن من الأمور التي لا تدخل تحت التكليف بالنظر إلى نفسه أنه قد يكون موردا للمدح والذم كالحزن على فوات طاعة فانه ممدوح والحزن على فوات معصية فانه مذموم لأن ذلك باعتبار آخر كما لا يخفى، وما ذكر في حيز العلاوة من أن فيه من الدلالة على الجبن ما فيه فيه من ارتكاب الباطل ما فيه فإنا لا نسلم أن الخوف يدل على الجبن وإلا لزم جبن موسى وأخيه عليهما السلام فما ظنك بالحزن؟ وليس حزن الصديق رضي الله تعالى عنه بأعظم من الاختفاء بالغار، ولا يظن مسلم أنه كان عن جبن أو يتصف بالجبن أشجع الخلق على الإطلاق صلى الله عليه وسلم، ومن أنصف رأى أن تسليته عليه الصلاة والسلام لأبي بكر بقوله: لا تَحْزَنْ كما سلاه ربه سبحانه بقوله: لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ مشيرة إلى أن الصديق رضي الله تعالى عنه عنده عليه الصلاة والسلام بمنزلته عند ربه جل شأنه فهو حبيب حبيب الله تعالى بل لو قطع النظر عن وقوع مثل هذه التسلية من الله تعالى لنبيه النبيه صلى الله عليه وسلم كان نفس الخطاب ب لا- تحزن- كافيا في الدلالة على أنه رضي الله تعالى عنه حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فكيف تكون محاورة الأحباء وهذا ظاهر إلا عند الأعداء. وما ذكر من أن المعية الخاصة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده والإتيان- بنا- لسد باب الايحاش من باب المكابرة الصرفة كما يدل الخبر المار آنفا، على أنه إذا كان ذلك الحزن إشفاقا على رسول الله عليه الصلاة والسلام لا غير فأي إيحاش في قوله لا تحزن على أن الله معي، وإن كان إشفاقا على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى نفسه رضي الله تعالى عنه لم يقع التعليل موقعه والجملة مسوقة له ولو سلمنا الايحاش على الأول ووقوع التعليل موقعه على الثاني يكون ذلك الحزن دليلا واضحا على مدح الصديق، وإن كان على نفسه فقط كما يزعمه ذو النفس الخبيثة لم يكن للتعليل معنى أصلا، وأي معنى في لا تحزن على نفسك إن الله معي لا معك» .
على أنه يقال للرافضي هل فهم الصديق رضي الله تعالى عنه من الآية ما فهمت من التخصيص وأن التعبير بنا كان سدا لباب الايحاش أم لا؟ فإن كان الأول يحصل الايحاش ولا بد فنكون قد وقعنا فيما فررنا عنه، وإن كان الثاني فقد زعمت لنفسك رتبة لم تكن بالغها ولو زهقت روحك، ولو زعمت المساواة في فهم عبارات القرآن الجليل وإشاراته لمصاقع أولئك العرب المشاهدين للوحي ما سلم لك أو تموت فكيف يسلم لك الامتياز على الصديق وهو- هو- وقد فهم من إشارته صلى الله عليه وسلم في حديث التخيير ما خفي على سائر الصحابة حتى علي كرم الله وجهه فاستغربوا
بكاءه رضي الله تعالى يومئذ، وما ذكر من التنظير في الآية مشير إلى التقية التي اتخذها الرافضة دينا وحرفوا لها الكلم عن مواضعها، وقد أسلفنا لك الكلام في ذلك على أتم وجه فتذكره، وما ذكر في أمر السكينة فجوابه يعلم مما ذكرناه، وكون التخصيص مشيرا إلى إخراج الصديق رضي الله تعالى عنه عن زمرة المؤمنين كما رمز إليه الكلب عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لو كان- ما خفي على أولئك المشاهدين للوحي الذين من جملتهم الأمير كرم الله تعالى وجهه فكيف مكنوه من الخلافة التي هي أخت النبوة عند الشيعة وهم الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم، وكون الصحابة قد اجتمعوا في ذلك على ضلالة، والأمير كان مستضعفا فيما بينهم أو أو مأمورا وغمد السيف إذ ذاك كما زعمه المخالف قد طوى بساط رده وعاد شذر مذر فلا حاجة إلى إتعاب القلم في تسويد وجه زاعمه، وما ذكر من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرجه إلا حذرا من كيده فيه أن الآية ليس فيها شائبة دلالة على إخراجه له أصلا فضلا عن كون ذلك حذرا من الكيد، على أن الحذر- لو كان- في معيته له عليه الصلاة والسلام وأي فرصة تكون مثل الفرصة التي حصلت حين جاء الطلب لباب الغار؟ فلو كان عند أبي بكر رضي الله تعالى عنه وحاشاه أدنى ما يقال لقال: هلموا فههنا الغرض، ولا يقال: إنه خاف على نفسه أيضا لأنه يمكن أن يخلصها منهم بأمور ولا أقل من أن يقول لهم: خرجت لهذه المكيدة، وأيضا لو كان الصديق كما يزعم الزنديق فأي شيء منعه من أن يقول لابنه عبد الرحمن أو ابنته أسماء أو مولاه عامر بن فهيرة فقد كانوا يترددون إليه في الغار كما أخرج ابن مردويه عن عائشة فيخبر أحدهم الكفار بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أنه على هذا الزعم يجيء حديث التمكين وهو أقوى شاهد على أنه هو- هو- وأيضا إذا انفتح باب هذا الهذيان أمكن للناصبي أن يقول والعياذ بالله تعالى في علي كرم الله تعالى وجهه: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالبيتوتة على فراشه الشريف ليلة هاجر إلا ليقتله المشركون ظنا منهم أنه النبي صلى الله عليه وسلم فيستريح منه، وليس هذا القول بأعجب ولا أبطل من قول الشيعي: إن إخراج الصديق إنما كان حذرا من شره فليتق الله سبحانه من فتح هذا الباب المستهجن عند ذوي الألباب، وزعم أن تجهيز الأمير كرم الله تعالى وجهه لهم بشراء الأباعر إشارة إلى ذلك لا يشير بوجه من الوجوه، على أن ذلك وإن ذكرناه فيما قبل إنما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمعول عليه عند المحدثين غير ذلك، ولا بأس بايرادة تكميلا للفائدة وتنويرا لفضل الصديق رضي الله تعالى عنه فنقول:
أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمرر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية ولما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال ابن الدغنة: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدغنة: مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلدك فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف ابن الدغنة في كفار قريش فقال: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصلّ فيه ما شاء وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره ففعل ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ فيتقصف (1) عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه
(1) أي يزدحم اهـ منه
وينظرون إليه وكان رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك اشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنما أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وأنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن بالصلاة والقراءة وإنا خشينا أن يفتتن نساؤنا وأبناؤنا فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: يا أبا بكر قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إليّ ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في عقد رجل عقدت له فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم بمكة يومئذ قال للمسلمين: قد أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما حرمان فهاجر من هاجر قبل المدينة إلى أرض الحبشة من المسلمين وتجهز أبو بكر مهاجرا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال أبو بكر: وترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحبته وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر فبينما نحن جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر: فداه أبي وأمي إن جاء به في هذه الساعة إلا أمر فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن من عندك؟ فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنه قد أذن لي بالخروج. فقال أبو بكر: فالصحابة بأبي أنت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: بالثمن قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها فأوكت به الجراب فلذلك كانت تسمى ذات النطاق. ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل يقال له ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيخرج من عندهما سحرا فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حتى يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى لأبي بكر منيحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب بغلس ساعة من الليل فيبيتان في رسلها حتى ينعق بها عامر بغلس يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الدئل من بني عبد بن عدي هاديا خريتا قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعها لهما راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث ليال فأخذ بهم طريق إذاخر وهو طريق الساحل» الحديث بطوله،
وفيه من الدلالة على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ما فيه، وهو نص في أن تجهيزهما كان في بيت أبي بكر وأن الراحلتين كانتا له، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل إحداهما إلا بالثمن يرد على الرافضي زعم تهمة الصديقة وحاشاها في الحديث.
هذا ومن أحاط خبرا بأطراف ما ذكرناه من الكلام في هذا المقام علم أن قوله: وإن كان شيئا وراء ذلك فبينوه لنا حتى نتكلم عليه ناشىء عن محض الجهل أو العناد وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد: 33] وبالجملة إن الشيعة قد اجتمعت كلمتهم على الكفر بدلالة الآية على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ويأبى الله تعالى إلا أن يكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا انْفِرُوا تجريد للأمر بالنفور بعد التوبيخ على تركه والإنكار على المساهلة فيه، وقوله سبحانه: خِفافاً وَثِقالًا حالان من ضمير المخاطبين أي على كل حال من يسر أو عسر حاصلين بأي سبب كان من الصحة والمرض أو الغنى والفقر أو قلة العيال وكثرتهم أو الكبر والحداثة أو السمن والهزال أو غير ذلك مما ينتظم في مساعدة الأسباب وعدمها بعد الإمكان والقدرة في الجملة. أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي يزيد المديني قال: كان أبو أيوب الأنصاري والمقداد بن الأسود يقولان: أمرنا أن ننفر على كل حال ويتأولان
الآية. وأخرجا عن مجاهد قال: قالوا إن فينا الثقيل وذا الحاجة والصنعة والشغل والمنتشر به أمره فأنزل الله تعالى انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافا وثقالا وعلى ما كان منهم، فما روي في تفسيرهما من قولهم: خفافا من السلاح وثقالا منه أو ركبانا ومشاة أو شبانا وشيوخا أو أصحاء ومراضا إلى غير ذلك ليس تخصيصا للأمرين المتقابلين بالإرادة من غير مقارنة للباقي.
وعن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعليّ أن أنفر؟ قال: نعم.
حتى نزل لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [الفتح: 17] وأخرج ابن أبي حاتم. وغيره عن السدي قال: لما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله تعالى فقال: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة: 91] الآية.
وقيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] وهو خلاف الظاهر، ويفهم من بعض الروايات أن لا نسخ فقد أخرج ابن جرير والطبراني والحاكم وصححه عن أبي راشد قال: رأيت المقداد فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص يريد الغزو فقلت: لقد أعذر الله تعالى إليك قال: أبت علينا سورة البحوث يعني هذه الآية منها.
وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما والجهاد بالمال إنفاقه على السلاح وتزويد الغزاة ونحو ذلك ذلِكُمْ أي ما ذكر من النفير والجهاد، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة خَيْرٌ عظيم في نفسه لَكُمْ في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، ويجوز أن يكون المراد خير لكم مما يبتغى بتركه من الراحة والدعة وسعة العيش والتمتع بالأموال والأولاد.
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم تعلمون الخير علمتم أنه خير أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ لا احتمال لغير الصدق في إخباره تعالى فبادروا إليه، فجواب إن مقدر. وعلم اما متعدية لواحد بمعنى عرف تقليلا للتقدير أو متعدية لاثنين على بابها هذا.
«ومن باب الإشارة في الآيات» أن قوله سبحانه لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ إلخ إشارة إلى أنه لا ينبغي للعبد أن يحتجب بشيء عن مشاهدة الله تعالى والتوكل عليه ومن احتجب بشيء وكل إليه، ومن هنا قالوا: استجلاب النصر في الذلة والافتقار والعجز، ولما رأى سبحانه ندم القوم على عجبهم بكثرتهم ردهم إلى ساعة جوده وألبسهم أنوار قربه وأمدهم بجنوده وإليه الإشارة بقوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الآية، وكانت سكينته عليه الصلاة والسلام كما قال بعض العارفين- من مشاهدة الذات وسكينة المؤمنين من معاينة الصفات، ولهم في تعريف السكينة عبارات كثيرة متقاربة المعنى فقيل: هي استحكام القلب عند جريان حكم الرب بنعت الطمأنينة بخمود آثار البشرية بالكلية والرضا بالبادي من الغيب من غير معارضة واختيار، وقيل: هي القرار على بساط الشهود وبشواهد الصحو والتأدب بإقامة صفاء العبودية من غير لحوق مشقة ولا تحرك عرق بمعارضة حكم، وقيل: هي المقام مع الله تعالى بفناء الحظوظ. والجنود روادف آثار قوة تجلي الحق سبحانه، ويقال: هي وفود اليقين وزوائد الاستبصار.
والإشارة في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ إلخ إلى أن من تدنس بالميل إلى السوي وأشرك بعبادة الهوى لا يصلح للحضرة وهل يصلح لبساط القدس إلا المقدس. وذكر أبو صالح حمدون أن المشرك في عمله من يحسن ظاهره لملاقاة الناس ومخالطتهم ويظهر للخلق أحسن ما عنده وينظر إلى نفسه بعين الرضا عنه وينجس باطنه بنحو الرياء والسمعة والعجب والحقد ونحو ذلك فالحرم الإلهي حرام على هذا وهيهات هيهات أن يلج الملكوت أو يلج الجمل في سم الخياط، وقال بعض العارفين: من فقد طهارة الاسرار بماء التوحيد وبقي في قاذورات الظنون والأوهام فذلك هو المشرك وهو ممنوع عن قربان المساجد التي هي مشاهد القرب. وفي الآية إشارة إلى منع
الاختلاط مع المشركين، وقاس الصوفية أهل الدنيا بهم، ومن هنا قال الجنيد: الصوفية أهل غيب لا يدخل فيهم غيرهم. وقال بعضهم: من بقي في قلبه نظر إلى غير خالقه لا يجوز أن يجوز أن يدنو إلى مجالس الأولياء غير مستشف بهم فإن صحبته تشوش خواطرهم وينجس بنفسه أنفاسهم، وصحبة المنكر على أولياء الله تعالى تورث فتقا يصعب على الخياط رتقه وتؤثر خرقا يعيي الواعظ رقعه، ومن الغريب ما يحكى أن الجنيد قدس سره جلس يوما مع خاصة أصحابه وقد أغلق باب المجلس حذرا من الأغيار وشرعوا يذكرون الله تعالى فلم يتم لهم الحضور ولا فتح لهم باب التجلي الذي يعهدونه عند الذكر فتعجبوا من ذلك فقال الجنيد. هل معكم منكر حرمنا بسببه؟ فقالوا: لا. ثم اجتهدوا في معرفة المانع فلم يجدوا إلا نعلا لمنكر فقال الجنيد: من هنا أوتينا، فانظر يرحمك الله تعالى إذا كان هذا حال نعل المنكر فما ظنك به إذا حضر بلحيته؟. ثم إنه سبحانه ذم أهل الكتابين بالاحتجاب عن رؤية الحق سبحانه حيث قال جل شأنه:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وفيه إشارة إلى ذم التقليد الصرف وذم البخلاء بقوله سبحانه:
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الآية، ولعمري إنهم أحقاء بالذم، وقد قال بعضهم: من بخل بالقليل من ملكه فقد سد على نفسه باب نجاته وفتح عليها طريق هلاكه.
ولا يخفى أن جمع المال وكنزه وعدم الانفاق لا يكون إلا لاستحكام رذيلة الشح وكل رذيلة كية يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا. ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال كان هو الذي يحمى عليه في نار جهنم الطبيعة وهاوية الهوى فيكوى صاحبه به، وخصت هذه الأعضاء لأن الشح مركوز في النفس والنفس تغلب القلب من هذه الجهات لا من جهة العلو التي هي جهة استيلاء الروح وممد الحقائق والأنوار ولا من جهة السفلى التي هي جهة الطبيعة الجسمانية لعدم تمكن الطبيعة من ذلك فبقيت سائر الجهات فيؤذى بذلك من الجهات الأربع ويعذب، وهذا كما تراه يعاب في الدنيا ويخزى من هذه الجهات فيواجه بالذم جهرا فيفضح أو يسار في جنبه أو يغتاب من وراء ظهره قاله بعض العارفين. ولهم في قوله سبحانه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً تأويل بعيد يطل من محله، وقوله سبحانه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ إلخ عتاب للمتثاقلين أو لأهل الأرض كافة وارشاد إلى أنه عليه الصلاة والسلام مستغن بنصرة الله عن نصرة المخلوقين. وفيه إشارة إلى رتبة الصديق رضي الله تعالى عنه فقد انفرد برسول الله صلى الله عليه وسلم انفراده عليه الصلاة والسلام بربه سبحانه في مقام قاب قوسين، ومعنى إِنَّ اللَّهَ مَعَنا على ما قال ابن عطاء إنه معنا في الأزل حيث وصل بيننا بوصلة الصحبة وأثر هذه المعية قد ظهر في الدنيا والآخر فلم يفارقه حيا ولا ميتا، وقيل: معنا بظهور عنايته ومشاهدته وقربه الذي لا يكيف، ولله تعالى در من قال:
يا طالب الله في العرش الرفيع به
…
لا تطلب العرش إن المجد للغار
ولا يخفى ما بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا وقول موسى عليه السلام: إِنَّ مَعِي رَبِّي [الشعراء: 62] من الفرق الظاهر لأرباب الأذواق حيث قدم نبينا صلى الله عليه وسلم اسمه تعالى عليه وعكس موسى عليه السلام، وأتى صلى الله عليه وسلم بالاسم الجامع وأتى الكليم باسم الرب، وأتى عليه الصلاة والسلام بنا- في مَعَنا وأتى موسى عليه السلام بياء المتكلم لأن نبينا صلى الله عليه وسلم على خلق لم يكن عليه موسى عليه الصلاة والسلام. والضمير في قوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ إن كان للصاحب فالأمر ظاهر وإن كان للنبي عليه الصلاة والسلام فيقال: في ذلك إشارة إلى مقام الفناء في الشيخ إذ ذاك.
وقال بعض الأكابر: أنزلت السكينة عليه عليه الصلاة والسلام لتسكين قلب الصديق رضي الله تعالى عنه وإذهاب الحزن عنه بطريق الانعكاس والاشراق ولو أنزلت على الصديق بغير واسطة لذاب لها ولعظمها فكأنه قيل: أنزل
سكينة صاحبه عليه. انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا أي انفروا إلى طاعة مولاكم خفافا بالأرواح ثقالا بالقلوب، أو خفافا بالقلوب وثقالا بالأجسام بأن يطيعوه بالأعمال القلبية والقالبية، أو خفافا بأنوار المودة وثقالا بأمانات المعرفة، أو خفافا بالبسط وثقالا بالقبض، وقيل: خفافا بالطاعة وثقالا عن المخالفة. وقيل غير ذلك وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ بأن تنفقوها للفقراء وَأَنْفُسِكُمْ بأن تجودوا بها لله تعالى ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ في الدارين إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك والله تعالى الموفق للرشاد. لَوْ كانَ أي ما دعوا إليه كما يدل عليه ما تقدم عَرَضاً قَرِيباً أي غنما سهل المأخذ قريب المنال، وأصل العرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومتاعها.
وفي الحديث «الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر»
وَسَفَراً قاصِداً أي متوسطا بين القرب والبعد وهو من باب تامر ولابن لَاتَّبَعُوكَ أي لوافقوك في النفير طمعا في الفوز بالغنيمة، وهذا شروع في تعديد ما صدر عنهم من الهنات قولا وفعلا وبيان قصور همهم وما هم عليه من غير ذلك، وقيل: هو تقرير لكونهم متثاقلين مائلين إلى الإقامة بأرضهم، وتعليق الاتباع بكلا الأمرين يدل على عدم تحققه عند توسط السفر فقط وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي المسافة التي تقطع بمشقة. وقرأ عيسى بن عمر «بعدت» بكسر العين «والشّقة» بكسر الشين، وبعد يبعد كعلم يعلم لغة واختص ببعد الموت غالبا، وجاء لا تبعد للتفجع والتحسر في المصائب كما قال:
لا يبعد الله إخوانا لنا ذهبوا
…
أفناهم حدثان الدهر والأبد
وَسَيَحْلِفُونَ أي المتخلفون عن الغزو بِاللَّهِ متعلق بسيحلفون، وجور أن يكون من جملة كلامهم ولا بد من تقدير القول في الوجهين أي سيحلفون عند رجوعك من غزوة تبوك بالله قائلين لَوِ اسْتَطَعْنا أو سيحلفون قائلين بالله لو استطعنا إلخ، وقيل: لا حاجة إلى تقدير القول لأن الحلف من جنس القول وهو أحد المذهبين المشهورين، والمعنى لو كان لنا استطاعة من جهة العدة أو من جهة الصحة أو من جهتيهما معا حسبما عنّ لهم من التعلل والكذب لَخَرَجْنا مَعَكُمْ لما دعوتمونا إليه وهذا جواب القسم وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم وهو اختيار ابن عصفور، واختار ابن مالك أنه جواب لَوْ ولو جوابها جواب القسم، وقيل: إنه ساد مسد جوابي القسم والشرط جميعا، والقسم على الاحتمال الأول ظاهر وأما على الثاني فلأن لَوِ اسْتَطَعْنا في قوة بالله لو استطعنا لأنه بيان لسيحلفون بالله وتصديق له كما قيل.
واعترض القول الأخير بأنه لم يذهب إليه أحد من أهل العربية. وأجيب بأن مراد القائل أنه لما حذف جواب لَوْ دل عليه جواب القسم جعل كأنه ساد مسد الجوابين. وقرأ الحسن والأعمش «لو استطعنا» بضم الواو تشبيها لها بواو الجمع كما في قوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [البقرة: 94، الجمعة: 6] واشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [البقرة:
16، 175] وقرىء بالفتح أيضا يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بايقاعها في العذاب، قيل: وهو بدل من سَيَحْلِفُونَ واعترض بأن الهلاك ليس مرادفا للحلف ولا هو نوع منه، ولا يجوز أن يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفا له أو نوعا منه. وأجيب بأن الحلف الكاذب إهلاك للنفس ولذلك
قال صلى الله عليه وسلم: «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع»
وحاصله أنهما ترادفان ادعاء فيكون بدل كل من كل، وقيل إنه بدل اشتمال إذ الحلف سبب للاهلاك والمسبب يبدل من السبب لاشتماله عليه، وجوز أن يكون حالا من فاعله أي سيحلفون مهلكين أنفسهم، وأن يكون حالا من فاعل لَخَرَجْنا جيء به على طريقة الاخبار عنهم كأنه قيل: نهلك أنفسنا أي لخرجنا مهلكين أنفسنا كما في قولك: حلف ليفعلن مكان لأفعلن ولكن فيه بعد. وجوز أبو البقاء الاستئناف وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في مضمون الشرطية وفيما ادعوا ضمنا من انتفاء تحقق المقدم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا.
واستدل بالآية على أن القدرة قبل الفعل عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أي لأن سبب أذنت لهؤلاء الحالفين المتخلفين في التخلف حين استأذنوا فيه معتذرين بعدم الاستطاعة، وهذا عتاب لطيف من اللطيف الخبير سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم على ترك الأولى وهو التوقف عن الاذن إلى انجلاء الأمر وانكشاف الحال المشار إليه بقوله سبحانه:
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي فيما أخبروا به عند الاعتذار من عدم الاستطاعة وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ أي في ذلك، فحتى سواء كانت بمعنى اللام أو إلى متعلقة بما يدل عليه لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ كأنه قيل: لم سارعت إلى الإذن لهم ولم تتوقف حتى ينجلي الأمر كما هو قضية الحزم اللائق بشأنك الرفيع يا سيد أولي العزم.
ولا يجوز أن تتعلق بالمذكور نفسه مطلقا لاستلزامه أن يكون إذنه عليه الصلاة والسلام لهم معللا أو مغيّا بالتبين والعلم ويكون توجه الاستفهام إليه من تلك الحيثية وهو بين الفساد، وكلتا اللامين متعلقة بالاذن وهما مختلفتان معنى فإن الأولى للتعليل والثانية للتبليغ والضمير المجرور لجميع من أشير إليه.
وتوجيه الإنكار إلى الإذن باعتبار شموله للكل لا باعتبار تعلقه بكل فرد فرد لتحقق عدم استطاعة البعض على ما ينبىء عنه ما في حيز حَتَّى والتعبير عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام للايذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين وأن ما صدر من الآخرين وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص لكنه جار على عادتهم المستمرة ناشىء عن رسوخهم في الكذب، والتعبير عن ظهور الصدق بالتبين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما اشتهر من أن مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي وإسناد العلم له صلى الله عليه وسلم دون المعلومين بأن يبنى الفعل للمفعول مع إسناد التبين للأولين أن المقصود هاهنا علمه عليه الصلاة والسلام بهم ومؤاخذتهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذة عليهم وإسناد التبين إليهم وتعليق العلم بالآخرين مع أن مدار الاستناد والتعلق أولا وبالذات هو وصف الصدق والكذب كما أشير إليه لما أن القصد هو العلم بكلا الفريقين باعتبار اتصافهما بوصفيهما المذكورين ومعاملتهما بحسب استحقاقهما لا العلم بالوصفين بذاتيهما أو باعتبار قيامهما بموصوفيهما قاله شيخ الإسلام ولا يخفى حسنه. وفي تصدير الخطاب بما صدر به تعظيم لقدر النبي صلى الله عليه وسلم وتوقير له وتوفير لحرمته عليه الصلاة والسلام، وكثيرا ما يصدر الخطاب بنحو ما ذكر لتعظيم المخاطب فيقال: عفا الله تعالى عنك ما صنعت في أمري؟، ورضي الله سبحانه عنك ما جوابك عن كلامي؟ والغرض التعظيم، ومن ذلك قول علي بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه:
عفا الله عنك ألا حرمة
…
تجود بفضلك يا ابن العلا
ألم تر عبدا عدا طوره
…
ومولى عفا ورشدا هدى
أقلني أقالك من لم يزل
…
يقيك ويصرف عنك الردى
ومما ينظم في هذا السلك ما
روي من قوله صلى الله عليه وسلم: «لقد عجبت من يوسف عليه السلام وكرمه وصبره والله تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني» .
وأخرج ابن المنذر. وغيره عن عون بن عبد الله قال: سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا بدأ بالعفو قبل المعاتبة. وقال السجاوندي:
إن فيه تعليم تعظيم النبي صلوات الله سبحانه عليه وسلامه ولولا تصدير العفو في العتاب لما قام بصولة الخطاب. وعن سفيان بن عيينة أنه قال: انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو. ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب صاحب الكشاف كشف الله تعالى عنه ستره ولا أذن له ليذكر عذره حيث زعم أن الكلام كناية عن الجناية
وأن معناه أخطأت وبئسما فعلت. وفي الانتصاف ليس له أن يفسر هذه الآية بهذا التفسير وهو بين أحد الأمرين إما أن لا يكون هو المراد أو يكون ولكن قد أجل الله تعالى نبيه الكريم عن مخاطبته بذلك ولطف به في الكناية عنه أفلا يتأدب بآداب الله خصوصا في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعلى التقديرين هو ذاهل عما يجب من حقه عليه الصلاة والسلام.
ويا سبحان الله من أين أخذ عامله الله تعالى بعدله ما عبر عنه ببئسما، والعفو لو سلم مستلزم للخطأ فهو غير مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء ويسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة بئسما المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها، واعتذر عنه صاحب الكشف حيث قال: أراد أن الأصل ذلك وأبدل بالعفو تعظيما لشأنه صلى الله عليه وسلم وتنبيها على لطف مكانه ولذلك قدم العفو على ذكر ما يوجب الجناية، وليس تفسيره هذا بناء على أن العدول إلى عفا الله لا للتعظيم حتى يخطأ.
وأما المستعمل لمجرد التعظيم فهو إذا كان دعاء لا خبرا، على أن الدعاء قد يستعمل للتعريض بالاستقصاء
كقوله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله تعالى أخي لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد»
وتحقيقه أنه لا يخلو عن حقارة بشأن المخاطب أو الغائب حسب اختلاف الصيغة، وأما التعظيم أو التعريض فقد وقد انتهى، ولا يخفى ما فيه فهو اعتذار غير مقبول عند ذوي العقول. وكم لهذه السقطة في الكشاف نظائر، ولذلك امتنع من إقرائه بعض الأكابر كالإمام السبكي عليه الرحمة، وليت العلامة البيضاوي لم يتابعه في شيء من ذلك، وهذا، واستدل بالآية من زعم صدور الذنب منه عليه الصلاة والسلام، وذلك من وجهين:
الأول: أن العفو يستدعي سابقة الذنب، الثاني: أن الاستفهام الإنكاري بقوله سبحانه: لِمَ أَذِنْتَ يدل على أن ذلك الإذن كان معصية، والمحققون على أنها خارجة مخرج العتاب كما علمت على ترك الأولى والأكمل قالوا:
لا يخفى أنه لم يكن كما في خروجهم مصلحة للدين أو منفعة للمسلمين بل كان فيه فساد وخبال حسبما نطق به قوله تعالى: لَوْ خَرَجُوا إلخ، وقد كرهه سبحانه وتعالى كما يفصح عنه قوله جل وعلا: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ الآية، نعم كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم ويفتضحوا على رؤوس الأشهاد، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم بأنهم غروه صلى الله عليه وسلم وأرضوه بالأكاذيب على أنهم لم ينهأ لهم عيش ولا قرت لهم عين إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان.
ومن الناس من ضعف الاستدلال بالآية على ما ذكر بأنا لو نسلم أن عَفَا اللَّهُ يستدعي سابقة الذنب والسند ما أشرنا إليه فيما مر سلمنا لكن لا نسلم أن قوله سبحانه: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ مقول على سبيل الإنكار عليه عليه الصلاة والسلام لأنه لا يخلو إما أن يكون صدر منه صلى الله عليه وسلم ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر وعلى التقديرين يمتنع أن يكون ما ذكر إنكارا، أما على الأول فلأنه إذا لم يصدر عنه ذنب فكيف يتأتى الإنكار عليه، وأما على الثاني فلأن صدر الآية يدل على حصول العفو وبعد حصوله يستحيل توجه الإنكار فافهم.
واستدل بها جمع على أن له صلى الله عليه وسلم اجتهادا وأنه قد يناله منه أجر واحد والوجه فيه ظاهر، وما فعله صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة أحد أمرين فعلهما ولم يؤمر يفعلهما كما أخرج ابن جرير وغيره عن عمرو بن ميمون، ثانيهما أخذه صلى الله عليه وسلم الفداء من الأسارى وقد تقدم. وادعى بعضهم الحصر في هذين الأمرين، واعترض بأنه غير صحيح فإن لهما ثالثا وهو المذكور في سورة التحريم وغير ذلك كالمذكور في سورة عبس، وأجيب بأنه يمكن تقييد الأمرين بما يتعلق بأمر الجهاد والله تعالى ولي الرشاد.
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تنبيه على أنه ينبغي أن يستدل عليه الصلاة والسلام باستئذانهم على حالهم ولا يأذن لهم أي ليس من شأن المؤمنين وعادتهم أن يستأذنوك في أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فإن الخلص منهم يبادرون إليه من غير توقف على الإذن فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف عنه،
أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعا طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه»
ونفي العادة مستفاد من نفي الفعل المستقبل الدال على الاستمرار نحو فلان يقري الضيف ويحمي الحريم، فالكلام محمول على الاستمرار، ولو حمل على استمرار النفي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فيكون المعنى عادتهم عدم الاستئذان لم يبعد، ومثل هذا قول الحماسي:
لا يسألون أخاهم بين يندبهم
…
في النائبات على ما قال برهانا
قيل: وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي إليه معروفا ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما فإن الاستئذان في مثل هذه المواطن أمارة التكلف والتكره، ولقد بلغ من كرم الخليل صلوات الله تعالى وسلامه عليه وأدبه مع ضيوفه أنه لا يتعاطى شيئا من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة فقال سبحانه: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات: 26] أي ذهب على خفاء منهم كيلا يشعروا به، وجوز أن يكون متعلق الاستئذان محذوفا وأَنْ يُجاهِدُوا بتقدير كراهة أن يجاهدوا، والمحذوف قيل: التخلف عليه، والمعنى لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد، والنفي متوجه للاستئذان والكراهة معا، وقال بعض: إنه متوجه إلى القيد وبه ويمتاز المؤمن من المنافق وهو وإن كان في نفسه أمرا خفيا لا يوقف عليه بادىء الأمر لكن عامة أحوالهم لما كانت منبئة عن ذلك جعل أمرا ظاهرا مقررا.
وقيل: الجهاد أي لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد كراهة أن يجاهدوا، وتعقب بأنه مبني على أن الاستئذان في الجهاد ربما يكون لكراهة، ولا يخفى أن الاستئذان في الشيء لكراهته مما لا يقع بل لا يعقل، ولو سلم وقوعه فالاستئذان لعلة الكراهة مما لا يمتاز بحسب الظاهر من الاستئذان لعلة الرغبة، لو سلم فالذي نفي عن المؤمنين يجب أن يثبت للمنافقين وظاهر أنهم لم يستأذنوا في الجهاد لكراهتهم له بل إنما استأذنوا في التخلف فتدبر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ شهادة لهم بالتقوى لوضع المظهر فيه موضع المضمر أو إرادة جنس المتقين ودخولهم فيه دخولا أوليا وعدة لهم بالثواب الجزيل، فإن قولنا: أحسنت إلي فأنا أعلم بالمحسن وعد بأجزل الثواب وأسأت إلي فأنا أعلم بالمسيء وعيد بأشد العقاب، قيل: وفي ذلك تقرير لمضمون ما سبق كأنه قيل: والله عليم بأنهم كذلك وإشعار بأن ما صدر عنهم معلل بالتقوى إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ أي في التخلف الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تخصيص الإيمان
بهما في الموضعين للايذان بأن الباعث على الجهاد والمانع عنه الإيمان بهما وعدم الإيمان بهما فمن آمن بهما قاتل في سبيل دينه وتوحيده وهان عليه القتل فيه لما يرجوه في اليوم الآخر من النعيم المقيم ومن لم يؤمن بمعزل عن ذلك، على أن الإيمان بهما مستلزم للإيمان بسائر ما يجب الإيمان به وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ عطف على الصلة، وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الريب وتقرره فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ وشكهم المستمر في قلوبهم يَتَرَدَّدُونَ أي يتحيرون، وأصل معنى التردد الذهاب والمجيء وأريد به هنا التحير مجازا أو كناية لأن المتحير لا يقر في مكان.
والآية نزلت كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في المنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر وكانوا على ما في بعض الروايات تسعة وثلاثين رجلا. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما عنه أن قوله تعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ إلخ نسخته الآية التي في [النور: 62] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فجعل الله النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى النظرين في ذلك من غزا غزا في فضيلة ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء.
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً أي أهبة من الزاد والراحلة وسائر ما يحتاج إليه المسافر في السفر الذي يريده.
وقرىء «عدّة» بضم العين وتشديد الدال والإضافة إلى ضمير الخروج، قال ابن جني: سمع محمد بن عبد الملك يقرأ بها، وخرجت على أن الأصل عدته إلا أن التاء سقطت كما في اقام الصلاة وهو سماعي وإلى هذا ذهب الفراء، والضمير على ما صرح به غير واحد عوض عن التاء المحذوفة، قيل: ولا تحذف بغير عوض وقد فعلوا مثل ذلك في عدة بالتخفيف بمعنى الوعد كما في قول زهير:
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا
…
وأخلفوك عدى الأمر الذي وعدوا
وقرىء «عده» بكسر العين بإضافة وغيرها وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أي خروجهم كما روي عن الضحاك أو نهوضهم للخروج كما قال غير واحد فَثَبَّطَهُمْ أي حبسهم وعوقهم عن ذلك: والاستدراك قيل عما يفهم من مقدم الشرطية فإن انتفاء إرادة الخروج يستلزم انتفاء خروجهم وكراهة الله تعالى انبعاثهم يستلزم تثبطهم عن الخروج فكأنه قيل: ما خرجوا لكن تثبطوا عن الخروج، فهو استدراك نفي الشيء بإثبات ضده كما يستدرك نفي الإحسان بإثبات الإساءة في قولك: ما أحسن إليّ لكن أساء، والاتفاق في المعنى لا يمنع الوقوع بين طرفي لكن بعد تحقق الاختلاف نفيا وإثباتا في اللفظ، وبحث فيه بعضهم بأن لكِنْ تقع بين ضدين أو نقيضين أو مختلفين على قول ووقعت فيما نحن فيه بين متفقين على هذا التقرير فالظاهر أنها للتأكيد كما أثبتوا مجيئها لذلك وفيه نظر: واستظهر بعض المحققين كون الاستدراك من نفس المقدم على نهج ما في الاقيسة الاستثنائية، والمعنى لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن ما أرادوه لما أنه تعالى كره انبعاثهم من المفاسد فحبسهم بالجبن والكسل فتثبطوا عنه ولم يستعدوا له.
وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ تمثيل لخلق الله تعالى داعية القعود فيهم وإلقائه سبحانه كراهة الخروج في قلوبهم بالأمر بالقعود أو تمثيل لوسوسة الشيطان بذلك فليس هناك قول حقيقة، ونظير ذلك قوله سبحانه: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [البقرة: 243] أي أماتهم، ويجوز أن يكون حكاية قول بعضهم لبعض أو اذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في القعود فالقول على حقيقته، والمراد بالقاعدين الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت كالنساء والصبيان والزمنى أو الرجال الذين يكون لهم عذر يمنعهم عن الخروج، وفيه على بعض الاحتمالات من الذم ما لا يخفى فتدبر لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ بيان لكراهة الله تعالى انبعاثهم أي لو خرجوا مخالطين لكم ما زادُوكُمْ شيئا من الأشياء إِلَّا خَبالًا أي شرا وفسادا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عجزا وجبنا. وعن الضحاك غدرا ومكرا، وأصل
الخبال كما قال الخازن: اضطراب ومرض يؤثر في العقل كالجنون، وفي مجمع البيان أنه الاضطراب في الرأي، والاستثناء مفرغ متصل والمستثنى منه ما علمت ولا يستلزم أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء.
وقال بعضهم: توهما منه لزوم ما ذكر هو مفرغ منقطع والتقدير ما زادوكم قوة وخيرا لكن شرا وخبالا.
واعترض بأن المنقطع لا يكون مفرغا وفيه بحث لأنه مانع منه إذا دلت القرينة عليه كما إذا قيل: ما أنيسك في البادية فقلت: ما لي بها إلا اليعافير أي ما لي بها أنيس إلا ذلك، وأنت تعلم أن في وجود القرينة هاهنا مقالا.
وقال أبو حيان: إنه كان في تلك الغزوة منافقون لهم خبال فلو خرج هؤلاء أيضا واجتمعوا بهم زاد الخبال فلا فساد في ذلك الاستلزام لو ترتب وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ الإيضاع سير الإبل يقال: أوضعت الناقة تضع إذا أسرعت وأوضعتها أنا إذا حملتها على الاسراع، والخلال جمع خلل وهو الفرجة استعمل ظرفا بمعنى بين ومفعول الإيضاع مقدر أي النمائم بقرينة السياق، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبهت النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها وأثبت لها الإيضاع على سبيل التخييل، والمعنى ولسعوا بينكم بالنميمة وإفساد ذات البين.
وقال العلامة الطيبي: فيه استعارة تبعية حيث شبه سرعة افسادهم ذات البين بالنمائم بسرعة سير الراكب ثم استعير لها الإيضاع وهو للإبل والأصل ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم ثم حذف النمائم وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل لأوضعوا ركائبهم ثم حذفت الركائب. ومنع الأخفش في كتاب الغايات أن يقال: أوضعت الركائب ووضع البعير بمعنى أسرع وإنما يستعمل ذلك بدون قيد، وجوز ذلك غيره واستدل له بقوله:
فلم أر سعدى بعد يوم لقيتها
…
غداة بها أجمالها صاح توضع
وقرىء «ولأرقصوا» من رقصت الناقة إذا أسرعت وأرقصتها ومنه قوله:
يا عام لو قدرت عليك رماحنا
…
والراقصات إلى منى فالغبغب
وقرىء «لأوفضوا» والمراد لأسرعوا أيضا يقال: أوفض واستوفض إذا استعجل وأسرع والوفض العجلة، وكتب قوله تعالى: لَأَوْضَعُوا في الامام بألفين الثانية منهما هي فتحة الهمزة والفتحة ترسم لها ألف كما ذكره الداني، وفي الكشاف كانت الفتحة تكتب ألفا قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحتها ألفا أخرى ومثل ذلك أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [النمل: 21] يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يطلبون أن يفتنوكم بايقاع الخلاف فيما بينكم وتهويل أمر العدو عليكم وإلقاء الرعب في قلوبكم وهذا هو المروي عن الضحاك. وعن الحسن أن الفتنة بمعنى الشرك أي يريدون أن تكونوا مشركين، والجملة في موضع الحال من ضمير أوضعوا أي باغين لكم الفتنة، ويجوز أن تكون استئنافا وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي نمامون يسمعون حديثكم لأجل نقله إليهم كما روي عن مجاهد وابن زيد أو فيكم أناس من المسلمين ضعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم كما روي عن قتادة وابن إسحاق وجماعة، واللام على التفسير الأول للتعليل وعلى الثاني للتقوية كما في قوله تعالى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود: 107، البروج: 16] ، والجملة حال من مفعول يَبْغُونَكُمُ أو من فاعله لاشتمالها على ضميرهما أو مستأنفة.
قال بعض المحققين: ولعل هؤلاء لم يكونوا في كمية العدد وكيفية الفساد بحيث يخل مكانهم فيما بين المؤمنين بأمر الجهاد إخلالا عظيما ولم يكن فساد خروجهم معادلا لمنفعته ولذلك لم تقتض الحكمة عدم خروجهم
فخرجوا مع المؤمنين، ولكن حيث كان انضمام المنافقين القاعدين إليهم مستتبعا لخلل كليّ كره الله تعالى انبعاثهم فلم يتسن اجتماعهم فاندفع فسادهم انتهى، والاحتياج إليه على التفسير الأول أظهر منه على التفسير الثاني لأن الظاهر عليه أن القوم لم يكونوا منافقين، ووجه العتاب على الإذن في قعودهم مع ما قص الله تعالى فيهم أنهم لو قعدوا بغير إذن منه عليه الصلاة والسلام لظهر نفاقهم فيما بين المسلمين من أول الأمر ولم يقدروا على مخالطتهم والسعي فيما بينهم بالأراجيف ولم يتسنّ لهم التمتع بالعيش إلى أن يظهر حالهم بقوارع الآيات النازلة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ علما محيطا بظواهرهم وبواطنهم وأفعالهم الماضية والمستقبلة فيجازيهم على ذلك، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والاشعار بترتبه على الظلم، ويجوز أن يراد بالظالمين الجنس ويدخل المذكورون دخولا أوليا، والمراد منهم إما القاعدون أو هم والسماعون لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ تشتيت شملك وتفرق أصحابك مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه الغزوة، وذلك كما روي عن الحسن يوم أحد حين انصرف عبد الله بن أبي ابن سلول بأصحابه المنافقين، وقد تخلف بهم عن هذه الغزوة أيضا بعد أن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريب من ثنية الوداع، وروي عن سعيد بن جبير وابن جريج أن المراد بالفتنة الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وذلك أنه اجتمع اثنا عشر رجلا من المنافقين ووقفوا على الثنية ليفتكوا به عليه الصلاة والسلام فردهم الله تعالى خاسئين وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أي المكايد وتقليبها مجاز عن تدبيرها أو الآراء وهو مجاز عن تفتيشها، أي دبروا لك المكايد والحيل أو دوروا الآراء في إبطال أمرك. وقرىء «وقلبوا» بالتخفيف حَتَّى جاءَ الْحَقُّ أي النظر والظفر الذي وعده الله تعالى وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ أي غلب دينه وعلا شرعه سبحانه وَهُمْ كارِهُونَ أي في حال كراهتهم لذلك أي على رغم منهم، والإتيان كما قالوا لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن تخلف المتخلفين وبيان ما ثبطهم الله تعالى لأجله وهتك أستارهم وإزاحة أعذارهم تداركا لما عسى يفوت بالمبادرة إلى الاذن وإيذانا بأن ما فات بها ليس مما لا يمكن تلافيه تهويلا للخطب وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي في القعود عن الجهاد وَلا تَفْتِنِّي أي لا توقعني في الفتنة بنساء الروم.
أخرج ابن المنذر والطبراني وابن مروديه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجد بن قيس: يا جد بن قيس ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله إن امرؤ صاحب نساء ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن فائذن لي ولا تفتني فنزلت، وروي نحوه عن عائشة وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما،
أو لا توقعني في المعصية والإثم بمخالفة أمرك في الخروج إلى الجهاد، وروي هذا عن الحسن وقتادة.
واختاره الجبائي، وفي الكلام على هذا اشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له أو لم يأذن. وفسر بعضهم الفتنة بالضرر أي لا توقعني في ذلك فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي لعدم من يقوم بمصالحهم، وقال أبو مسلم: أي لا تعذبني بتكليف الخروج في شدة الحر، وقرىء «ولا تفتني» من أفتنه بمعنى فتنه أَلا فِي الْفِتْنَةِ أي في نفسها وعينها وأكمل أفرادها الغنيّ عن الوصف بالكمال الحقيق باختصاص اسم الجنس به سَقَطُوا لا في شيء مغاير لها فضلا عن أن يكون مهربا ومخلصا عنها، وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءة على هذا الاستئذان والقعود بالإذن المبني عليه وعلى الاعتذارات الكاذبة، وفي مصحف أبيّ «سقط» بالإفراد مراعاة للفظ مَنْ ولا يخفى ما في تصدير الجملة بأداة التنبيه من التحقيق، وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في دركات الردى أسفل سافلين، وتقديم الجار والمجرور لا يخفى وجهه وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ وعيد لهم على ما فعلوا وهو عطف على الجملة السابقة داخل تحت التنبيه، أي جامعة لهم من كل جانب لا محالة وذلك يوم القيامة، فالمجاز في اسم الفاعل حيث استعمل في الاستقبال بناء على أنه حقيقة في
الحال، ويحتمل أن يكون المراد أنها محيطة بهم الآن بأن يراد من جهنم أسبابها من الكفر والفتنة التي سقطوا فيها ونحو ذلك مجازا.
وقد يجعل الكلام تمثيلا بأن تشبه حالهم في إحاطة الأسباب بحالهم عند إحاطة النار، وكون الأعمال التي هم فيها هي النار بعينها لكنها ظهرت بصورة الأعمال في هذه النشأة وتظهر بالصورة النارية في النشأة الأخرى كما قيل نظيره في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] منزع صوفي، والمراد بالكافرين إما المنافقون المبحوث عنهم، وإيثار وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر والإشعار بأنه معظم أسباب الإحاطة المذكورة وإما جميع الكافرين ويدخل هؤلاء دخولا أوليا إِنْ تُصِبْكَ في بعض مغازيك حَسَنَةٌ من الظفر والغنيمة تَسُؤْهُمْ تلك الحسنة أي تورثهم مساءة وحزنا لفرط حسدهم لعنهم الله تعالى وعداوتهم وَإِنْ تُصِبْكَ في بعضها مُصِيبَةٌ كانكسار جيش وشدة يَقُولُوا متبجحين بما صنعوا حامدين لآرائهم قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا أي تلافينا ما يهمنا من الأمر يعنون به التخلف والقعود عن الحرب والمداراة مع الكفرة وغير ذلك من أمور الكفر والنفاق قولا وفعلا مِنْ قَبْلُ أي من قبل إصابة المصيبة حيث ينفع التدارك، يشيرون بذلك إلى أن نحو ما صنعوه إنما يروج عند الكفرة بوقوعه حال قوة الإسلام لا بعد إصابة المصيبة وَيَتَوَلَّوْا أي وينصرفوا عن متحدثهم ومحل اجتماعهم إلى أهليهم وخاصتهم أو يتفرقوا وينصرفوا عنك يا رسول الله وَهُمْ فَرِحُونَ بما صنعوا وبما أصابك من السيئة، والجملة في موضع الحال من الضمير في «يقولوا ويتولوا» فإن الفرح مقارن للأمرين معا، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على دوام السرور، وإنما لم يؤت بالشرطية الثانية على طرز الأولى بأن يقال:
وإن تصبك مصيبة تسرهم بل أقيم ما يدل على ذلك مقامه مبالغة في فرط سرورهم مع الإيذان بأنهم في معزل عن إدراك سوء صنيعهم لاقتضاء المقام ذلك، وقيل: إن إسناد المساءة إلى الحسنة والمسرة إلى أنفسهم للايذان باختلاف حالهم حالتي عروض المساءة والمسرة بأنهم في الأولى مضطرون وفي الثانية مختارون، وقوبل هنا الحسنة بالمصيبة ولم تقابل بالسيئة كما قال سبحانه في سورة [آل عمران: 120] وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها لأن الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو هناك للمؤمنين وفرق بين المخاطبين فإن الشدة لا تزيده صلى الله عليه وسلم إلا ثوابا فإنه المعصوم في جميع أحواله عليه الصلاة والسلام، وتقييد الإصابة في بعض الغزوات لدلالة السياق عليه، وليس المراد به بعضا معينا هو هذه الغزوة التي استأذنوا في التخلف عنها وهو ظاهر. نعم سبب النزول يوهم ذلك، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا في المدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار السوء يقولون: إن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه فأنزل الله تعالى الآية فتأمل.
قُلْ تبكيتا لهم لَنْ يُصِيبَنا أبدا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا أي ما اختصنا بإثباته وإيجابه من المصلحة الدنيوية أو الأخروية كالنصرة أو الشهادة المؤدية للنعيم الدائم، فالكتب بمعنى التقدير، واللام للاختصاص، وجوز أن يكون المراد بالكتب الخط في اللوح واللام للتعليل والأجل، أي لن يصيبنا إلا ما خط الله تعالى لأجلنا في اللوح ولا يتغير بموافقتكم ومخالفتكم، فتدل الآية على أن الحوادث كلها بقضاء الله تعالى وروي هذا عن الحسن. وادعى بعضهم أنه غير مناسب للمقام وأن قوله تعالى: هُوَ مَوْلانا أي ناصرنا ومتولي أمورنا يعين الأول لأنه يبين أن معنى اللام الاختصاص ويخصص الموصول بالنصر والشهادة أي لن يصيبنا إلا ذلك دون الخذلان والشقاوة كما هو مصير حالكم لأنا مؤمنون وأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم، وقد يقال: هو تعليل لما يستفاد من القول
السابق من الرضا أي لن يصيبنا إلا ما كتب من خير أو شر فلا يضرنا ما أنتم عليه ونحن بما فعل الله تعالى راضون لأنه سبحانه مالكنا ونحن عبيده. وقرأ ابن مسعود «هل يصيبنا» وطلحة «هل يصيبنا» بتشديد الياء من صيب الذي وزنه فيعل لا فعل بالتضعيف لأن قياسه صوب لأنه من الواوي فلا وجه لقلبها ياء بخلاف ما إذا كان صيوب على وزن فيعل لأنه إذا اجتمعت الواو والياء والأول منهما ساكن قلبت الواو ياء وهو قياس مطرد، وجوز الزمخشري كونه من التفعيل على لغة من قال صاب يصيب، ومنه قول الكميت:
وأستبي الكاعب العقيلة إذ
…
أسهمي الصائبات والصيب
وَعَلَى اللَّهِ وحده فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بأن يفوضوا الأمر إليه سبحانه، ولا ينافي ذلك التشبث بالأسباب العادية إذا لم يعتمد عليها، وظاهر كلام جمع أن الجملة من تمام الكلام المأمور به، وتقديم المعمول لإفادة التخصيص كما أشرنا إليه، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لإظهار التبرك والاستلذاذ به.
ووضع المؤمنين موضع ضمير المتكلم ليؤذن بأن شأن المؤمنين اختصاص التوكل بالله تعالى، وجيء بالفاء الجزائية لتشعر بالترتب أي إذا كان لن يصيبنا إلا ما كتب الله أي خصنا الله سبحانه به من النصر أو الشهادة وأنه متولي أمرنا فلنفعل ما هو حقنا من اختصاصه جل شأنه بالتوكل، قال الطيبي: وكأنه قوبل قول المنافقين قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا بهذه الفاصلة، والمعنى دأب المؤمنين أن لا يتكلوا على حزمهم وتيقظ أنفسهم كما أن دأب المنافقين ذلك بل أن يتكلوا على الله تعالى وحده ويفوضوا أمورهم إليه، ولا يبعد تفرع الكلام على قوله سبحانه: هُوَ مَوْلانا كما لا يخفى، ويجوز أن تكون هذه الجملة مسوقة من قبله تعالى أمرا للمؤمنين بالتوكل إثر أمره صلى الله عليه وسلم بما ذكر، وأمر وضع الظاهر موضع الضمير في الموضعين حينئذ ظاهر وكذا إعادة الأمر في قوله تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا لانقطاع حكم الأمر الأول بالثاني وإن كان أمرا لغائب، وأما على كلام الجماعة فالإعادة لابراز كمال العناية بشأن المأمور به، والتربص الانتظار والتمهل وإحدى التاءين محذوفة، والباء للتعدية أي ما تنتظرون بنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أي إحدى العاقبتين اللتين كل منهما أحسن من جميع العواقب غير الأخرى أو أحسن من جميع عواقب الكفرة أو كل منهما أحسن مما عداه من جهة، والمراد بهما النصرة والشهادة، والحاصل أن ما تنتظرونه لا يخلو من أحد هذين الأمرين وكل منهما عاقبته حسنى لا كما تزعمون من أن ما يصنيبنا من القتل في الغزو سوء ولذلك سررتم به.
وصح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكفل الله تعالى لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة»
وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ إحدى السوأيين من العواقب إما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ فيهلككم كما فعل بالأمم الخالية قبلكم، والظرف صفة «عذاب» وكونه من عنده تعالى كناية عن كونه منه جل شأنه بلا مباشرة البشر، ويظهر ذلك المقابلة بقوله سبحانه: أَوْ بِأَيْدِينا أي أو بعذاب كائن بأيدينا كالقتل على الكفر، والعطف على صفة عذاب فهو صفة أيضا لا أن هناك عذابا مقدرا، وتقييد القتل بكونه على الكفر لأنه بدونه شهادة، وفيه إشارة إلى أنهم لا يقتلون حتى يظهروا الكفر ويصروا عليه لأنهم منافقون والمنافق لا يقتل ابتداء فَتَرَبَّصُوا الفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ما هو عاقبتكم فإذا لقي كل منا ومنكم ما يتربصه لا نشاهد إلا ما يسوءكم ولا تشاهدون إلا ما يسرنا، وما ذكرناه من مفعول التربص هو الظاهر، ولعله يرجع إليه ما روي عن الحسن أي فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعد الله تعالى من إظهار دينه واستئصال من خالفه، والمراد من
الأمر التهديد قُلْ أَنْفِقُوا أموالكم في مصالح الغزاة طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي طائعين أو كارهين، فهما مصدران وقعا موقع الحال وصيغة أَنْفِقُوا وإن كانت للأمر إلا أن المراد به الخبر، وكثيرا ما يستعمل الأمر بمعنى الخبر كعكسه، ومنه قول كثير عزة:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
…
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وهو كما قال الفراء والزجاج في معنى الشرط أي إن أنفقتم على أي حال ف لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ.
وأخرج الكلام مخرج الأمر للمبالغة في تساوي الأمرين في عدم القبول، كأنهم أمروا أن يجربوا فينفقوا في الحالين فينظروا هل يتقبل منهم فيشاهدوا عدم القبول، وفيه كما قال بعض المحققين: استعارة تمثيلية شبهت حالهم في النفقة وعدم قبولها بوجه من الوجوه بحال من يؤمر بفعل ليجربه فيظهر له عدم جدواه، فلا يتوهم أنه إذا أمر بالإنفاق كيف لا يقبل. والآية نزلت كما
أخرج ابن جرير عن عباس رضي الله تعالى عنهما جوابا عما في قول الجد بن قيس حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل لك في جلاد بني الأصفر؟ إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن لكن أعينك بمالي» ،
ونفي التقبل يحتمل أن يكون بمعنى عدم الأخذ منهم، ويحتمل أن يكون بمعنى عدم الاثابة عليه، وكل من المعنيين واقع في الاستعمال، فقبول الناس له أخذه وقبول الله تعالى ثوابه عليه ويجوز الجمع بينهما، وقوله سبحانه:
إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ تعليل لرد إنفاقهم، والمراد بالفسق العتو والتمرد فلا يقال: كيف علل مع الكفر بالفسق الذي هو دونه وكيف صح ذلك مع التصريح بتعليله بالكفر في قوله تعالى:
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وقد يراد به ما هو الكامل وهو الكفر ويكون هذا منه تعالى بيانا وتقريرا لذلك، والاستثناء من أعم الأشياء أي ما منعهم أن تقبل نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم، ومنع يتعدى إلى مفعولين بنفسه وقد يتعدى إلى الثاني بحرف الجر وهو- من- أو- عن.، وإذا عدي بحرف صح أن يقال: منعه من حقه ومنع حقه منه لأنه يكون بمعنى الحيلولة بينهما والحماية، ولا قلب فيه كما يتوهم، وجاز فيما نحن فيه أن يكون متعديا للثاني بنفسه وأن يقدر حرف وحذف حرف الجر مع إن وأن مقيس مطرد.
وجوز أبو البقاء أن يكون أَنْ تُقْبَلَ بدل اشتمال من- هم- في مَنَعَهُمْ وهو خلاف الظاهر، وفاعل منع ما في حيز الاستثناء، وجوز أن يكون ضمير الله تعالى وأَنَّهُمْ كَفَرُوا بتقدير لأنهم كفروا.
وقرأ حمزة والكسائي «يقبل» بالتحتانية لأن تأنيث النفقات غير حقيقي مع كونه مفصولا عن الفعل بالجار والمجرور. وقرىء «نفقتهم» على التوحيد.
وقرأ السلمي «أن يقبل منهم نفقاتهم» ببناء «يقبل» للفاعل ونصب النفقات، والفاعل إما ضمير الله تعالى أو ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام بناء على أن القبول بمعنى الأخذ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ المفروضة في حال من الأحوال إِلَّا وَهُمْ كُسالى أي إلا حال كونهم متثاقلين وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ الإنفاق لأنهم لا يرجون بهما ثوابا ولا يخافون على تركهما عقابا، وهاتان الجملتان داخلتان في حيز التعليل. واستشكل بأن الكفر سبب مستقل لعدم القبول فما وجه التعليل بمجموع الأمور الثلاثة وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر. وأجاب الإمام بأنه إنما يتوجه على المعتزلة القائلين بأن الكفر لكونه كفرا يؤثر في هذا الحكم وأما على أهل السنة فلا لأنهم يقولون: هذه الأسباب معرفات غير موجبة للثواب ولا للعقاب واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز، والقول بأنه إنما جيء بهما لمجرد الذم وليستا داخلتين في حيز التعليل وإن كان يندفع به الإشكال على رأي المعتزلة خلاف الظاهر كما لا يخفى فإن قيل: الكراهية خلاف الطواعية وقد جعل هؤلاء المنافقون فيما تقدم طائعين ووصفوا هاهنا بأنهم لا
ينفقون إلا وهم كارهون وظاهر ذلك المنافاة. أجيب بأن المراد بطوعهم أنهم يبذلون من غير الزام من رسول الله لا أنهم يبذلون رغبة فلا منافاة. وقال بعض المحققين في ذلك: إن قوله سبحانه: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لا يدل على أنهم ينفقون طائعين بل غايته أنه ردد حالهم بين الأمرين وكون الترديد ينافي القطع محل نظر، كما إذا قلت: إن أحسنت أو أسأت لا أزورك مع أنه لا يحسن قطعا، ويكون الترديد لتوسع الدائرة وهو متسع الدائرة.
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ أي لا يروقك شيء من ذلك فإنه استدراج لهم وبال عليهم حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا والخطاب يحتمل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون لكل من يصلح له على حد ما قيل في نحو قوله تعالى: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان: 13] ومفعول الإرادة قيل:
التعذيب واللام زائدة وقيل: محذوف واللام تعليلية. أي يريد إعطاءهم لتعذيبهم، وتعذيبهم بالأموال والأولاد في الدنيا لما أنهم يكابدون بجمعها وحفظها المتاعب ويقاسون فيها الشدائد والمصائب وليس عندهم من الاعتقاد بثواب الله تعالى ما يهون عليهم ما يجدونه، وقيل: تعذيبهم في الدنيا بالأموال لأخذ الزكاة منهم والنفقة في سبيل الله تعالى مع عدم اعتقادهم الثواب على ذلك، وتعذيبهم فيها بالأولاد أنهم قد يقتلون في الغزو فيجزعون لذلك أشد الجزع حيث لا يعتقدون شهادتهم وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وأن الاجتماع بهم قريب ولا كذلك المؤمنون فيما ذكر، وقيل:
تعذيبهم بالأموال بأن تكون غنيمة للمسلمين وبالأولاد بأن يكونوا سببا لهم إذا أظهروا الكفر وتمكنوا منهم.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة أن في الآية تقديما وتأخيرا أي لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ أي يموتون وأصل الزهوق الخروج بصعوبة وَهُمْ كافِرُونَ في موضع الحال أي حال كونهم كافرين، والفعل عطف على ما قبله داخل معه في حيز الإرادة. واستدل بتعليق الموت على الكفر بإرادته تعالى على أن كفر الكافر بإرادته سبحانه وفي ذلك رد على المعتزلة.
وأجاب الزمخشري بأن المراد إنما هو إمهالهم وإدامة النعم عليهم إلى أن يموتوا على الكفر مشتغلين بما هم فيه عن النظر في العاقبة، والإمهال والإدامة المذكورة مما يصح أن يكون مرادا له تعالى. واعترضه الطيبي بأن ذلك لا يجديه شيئا لأن سبب السبب سبب في الحقيقة، وحاصله أن ما يؤدي إلى القبح ويكون سببا له حكمه حكمه في القبح وهو في حيز المنع، وأجاب الجبائي بأن معنى الآية أن الله تعالى أراد زهوق أنفسهم في حال الكفر وهو لا يقتضي كونه سبحانه مريدا للكفر فإن المريض يريد المعالجة في وقت المرض ولا يريد المرض والسلطان يقول لعسكره: اقتلوا البغاة حال هجومهم ولا يريد هجومهم. ورده الإمام بأنه لا معنى لما ذكر من المثال إلا إرادة إزالة المرض وطلب إزالة هجوم البغاة وإذا كان المراد إعدام الشيء امتنع أن يكون وجوده مرادا بخلاف إرادة زهوق نفس الكافر فإنها ليست عبارة عن إرادة إزالة الكفر فلما أراد الله تعالى زهوق أنفسهم حال كونهم كافرين وجب أن يكون مريدا لكفرهم، وكيف لا يكون كذلك والزهوق حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر، وإرادة الشيء تقتضي إرادة ما هو من ضرورياته فيلزم كونه تعالى مريدا للكفر.
وفيه أن الظاهر أن إرادة المعالجة شيء غير إرادة إزالة المرض وكذا إرادة القتل غير إرادة إزالة الهجوم ولهذا يعلل إحدى الإرادتين بالأخرى فكيف تكون نفسها، وأما أن كون إرادة ضروريات الشيء من لوازم إرادته فغير مسلم، فكم من ضروري لشيء لا يخطر بالبال عند إرادته فضلا عما ادعاه. فالاستدلال بالآية على ما ذكر غير تام وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي في الدين والمراد أنهم يحلفون أنهم مؤمنون مثلكم وَما هُمْ مِنْكُمْ في ذلك لكفر قلوبهم وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ أي يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلوا بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية ويؤيدونه بالأيمان
الفاجرة، وأصل الفرق انزعاج النفس بتوقع الضرر، قيل: وهو من مفارقة الأمن إلى حال الخوف لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أي حصنا يلجؤون إليه كما قال قتادة أَوْ مَغاراتٍ أي غيران يخفون فيها أنفسهم وهو جمع مغارة بمعنى الغار، ومنهم من فرق بينهما بأن الغار في الجبل والمغارة في الأرض. وقرىء «مغارات» بضم الميم من أغار الرجل إذا دخل الغور، وقيل: هو تعدية غار الشيء وأغرته أنا أي أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم، ويجوز أن تكون من أغار الثعلب إذا أسرع بمعنى مهارب ومغار أَوْ مُدَّخَلًا أي نفقا كنفق اليربوع ينجحرون فيه، وهو مفتعل من الدخول فأدغم بعد قلب تائه دالا. وقرأ يعقوب وسهل «مدخلا» بفتح الميم اسم مكان من دخل الثلاثي وهي قراءة ابن أبي إسحاق والحسن، وقرأ سلمة بن محارب «مدخلا» بضم الميم وفتح الخاء من أدخل المزيد أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم أو يدخلهم الخوف فيه، وقرأ أبي بن كعب «متدخلا» اسم مكان من تدخل تفعل من الدخول، وقرىء «مندخلا» من اندخل، وقد ورد في شعر الكميت:
ولا يدي في حميت السمن تندخل (1) وأنكر أبو حاتم هذه القراءة وقال: إنما هي بالتاء بناء على إنكار هذه اللغة وليس بذاك لَوَلَّوْا أي لصرفوا وجوههم وأقبلوا. وقرىء «لوالوا» أي لالتجؤوا إِلَيْهِ أي إلى أحد ما ذكر وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي يسرعون في الذهاب إليه بحيث لا يردهم شيء كالفرس الجموح وهو النفور الذي لا يرده لجام، وروى الأعمش عن أنس بن مالك أنه قرأ «يجمزون» بالزاي وهو بمعنى يجمحون ويشتدون، ومنه الجمازة الناقة الشديدة العدو، وأنكر بعضهم كون ما ذكر قراءة وزعم أنه تفسير وهو مردود.
والجملة الشرطية استئناف مقرر لمضمون ما سبق من أنهم ليسوا من المسلمين وأن التجاءهم إلى الانتماء إليهم إنما هو للتقية اضطرارا، وإيثار صيغة الاستقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم الوجدان حسبما يقتضيه المقام، ونظير ذلك- لو تحسن إلي لشكرتك- نعم كثيرا ما يكون المضارع المنفي الواقع موقع الماضي لإفادة انتفاء استمرار الفعل لكن ذلك غير مراد هاهنا وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ أي يعيبك في شأنها. وقرأ يعقوب «يلمزك» بضم الميم وهي قراءة الحسن والأعرج، وقرأ ابن كثير «يلامزك» هو من الملامزة بمعنى اللمز، والمشهور أنه مطلق العيب كالهمز، ومنهم من فرق بينهما بأن اللمز في الوجه والهمز في الغيب وهو المحكي عن الليث وقد عكس أيضا وأصل معناه الدفع فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها بيان لفساد لمزهم وأنه لا منشأ له إلا حرصهم على حطام الدنيا أي إن أعطيتهم من تلك الصدقات قدر ما يريدون رَضُوا بما وقع في القسمة واستحسنوا فعلك وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها ذلك المقدار إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ أي يفاجئون السخط، وإِذا نابت مناب فاء الجزاء وشرط لنيابتها عنه كون الجزاء جملة اسمية، ووجه دلالتها على التعقيب كالفاء، وغاير سبحانه بين جوابي الجملتين إشارة إلى أن سخطهم ثابت لا يزول ولا يفنى بخلاف رضاهم. وقرأ إياد بن لقيط «إذا هم ساخطون»
والآية نزلت في ذي الخويصرة واسمه حرقوص بن زهير التميمي جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم هوازن يوم حنين فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعدل. فقال عليه الصلاة والسلام: «ومن يعدل إذا لم أعدل» فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» الحديث.
وأخرج ابن مروديه عن ابن مسعود قال: لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين سمعت رجلا
(1) هو ظرف الدهن الذي له شعر اهـ منه
يقول: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله تعالى فأتيت النبي عليه الصلاة والسلام فذكرت ذلك له فقال: «رحمة الله تعالى على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» ونزلت الآية.
وأخرج ابن جرير وغيره عن داود بن أبي عاصم قال: «أوتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت ووراءه رجل من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل فنزلت» ،
وعن الكلبي أنها نزلت في أبي الجواظ المنافق قال: ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاء الغنم ويزعم أنه يعدل.
وتعقب هذا ولي الدين العراقي بأنه ليس في شيء من كتب الحديث، وأنت تعلم أن أصح الروايات الأولى إلا أن كون سبب النزول قسمته صلى الله عليه وسلم للصدقة على الوجه الذي فعله أوفق بالآية من كون ذلك قسمته للغنيمة فتأمل وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي ما أعطاهم الرسول الله من الصدقات طيبي النفوس به وإن قل- فما- وإن كانت من صيغ العموم إلا أن ما قبل وما بعد قرينة على التخصيص، وبعض أبقاها على العموم أي ما أعطاهم من الصدقة أو الغنيمة قيل لأنه الأنسب، وذكر الله عز وجل للتعظيم وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام كان بأمره سبحانه وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي كفانا فضله وما قسمه لنا كما يقتضيه المعنى سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ بعد هذا حسبما نرجو ونأمل إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ في أن يخولنا فضله جل شأنه، والآية بأسرها في حيز الشرط والجواب محذوف بناء على ظهوره أي لكان خيرا لهم وأعود عليهم، وقيل: إن جواب الشرط قالُوا والواو زائدة وليس بذاك، ثم إنه سبحانه لما ذكر المنافقين وطعنهم وسخطهم بين أن فعله عليه الصلاة والسلام لإصلاح الدين وأهله لا لأغراض نفسانية كأغراضهم فقال جل وعلا: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ إلخ يعني أن الذي ينبغي أن يقسم مال الله عليه من اتصف بإحدى هذه الصفات دون غيره إذ القصد الصلاح والمنافقون ليس فيهم سوى الفساد فلا يستحقونه وفي ذلك حسم لأطماعهم الفارغة ورد لمقالتهم الباطلة، والمراد من الصدقات الزكوات فيخرج غيرها من التطوع، والفقير على ما روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب أو قدر نصاب غير نام وهو مستغرق في الحاجة، والمسكين من لا شيء له فيحتاج للمسألة لقوته وما يواري بدنه ويحل له ذلك بخلاف الأول حيث لا تحل له المسألة فإنها لا تحل لمن يملك قوت يومه بعد ستر بدنه، وعند بعضهم لا تحل لمن كان كسوبا أو يملك خمسين درهما.
فقد أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن ابن مسعود قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سألنا وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب»
وإلى هذا ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق، وقيل: من ملك أربعين درهما حرم عليه السؤال لما
أخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف»
وكان الأوقية في ذلك الزمان أربعين درهما. ويجوز صرف الزكاة لمن لا تحل له المسألة بعد كونه فقيرا، ولا يخرجه عن الفقر ملك نصب كثيرة غير نامية إذا كانت مستغرقة للحاجة، ولذا قالوا: يجوز للعالم وإن كانت له كتب تساوي نصبا كثيرة إذا كان محتاجا إليها للتدريس ونحوه أخذ الزكاة بخلاف العامي وعلى هذا جميع آلات المحترفين.
وعلى ما نقل عن الإمام يكون المسكين أسوأ حالا من الفقير، واستدل بقوله تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: 16] أي ألصق جلده بالتراب في حفرة استتر بها مكان الإزار وألصق بطنه به لفرط الجوع فإنه يدل على غاية الضرر والشدة ولم يوصف الفقير بذلك، وبأن الأصمعي وأبا عمرو بن العلاء وغيرهما من أهل اللغة فسروا المسكين بمن لا شيء له، والفقير بمن له بلغة من العيش. وأجيب بأن تمام الاستدلال بالآية موقوف على أن الصفة كاشفة وهو خلاف
الظاهر، وأن النقل عن بعض أهل اللغة معارض بالنقل عن البعض الآخر. وقال الشافعي عليه الرحمة: الفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته، والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه، فالفقير عنده أسوأ حالا من المسكين، واستدل له بقوله تعالى: وأَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ [الكهف: 79] فأثبت للمسكين سفينة، وبما
رواه الترمذي عن أنس وابن ماجة والحاكم عن أبي سعيد قالا: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين»
مع ما
رواه أبو داود عن أبي بكرة أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو بقوله: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر»
وخبر «الفقر فخري»
كذب لا أصل له. وبأن الله تعالى قدم الفقير في الآية ولو لم تكن حاجته أشد لما بدأ به، وبأن الفقير بمعنى المفقور أي مكسور الفقار أي عظام الصلب فكان أسوأ. وأجيب عن الأول بأن السفينة لم تكن ملكا لهم بل هم أجراء فيها أو كانت عارية معهم أو قيل لهم مساكين ترحما كما
في الحديث «مساكين أهل النار»
وقوله:
مساكين أهل الحب حتى قبورهم
…
عليها تراب الذل بين المقابر
وهذا أولى، وعن الثاني بأن الفقر المتعوذ منه ليس إلا فقر النفس لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل العفاف والغنى
والمراد به غنى النفس لا كثرة الدنيا، وعن الثالث بأن التقديم لا دليل فيه إذ له اعتبارات كثيرة في كلامهم، وعن الرابع بأنا لا نسلم أن الفقير مأخوذ من الفقار لجواز كونه من فقرت له فقرة من مالي إذا قطعتها فيكون له شيء، وأيا ما كان فهما صنفان، وقال الجبائي: إنهما صنف واحد والعطف للاختلاف في المفهوم، وروي ذلك عن محمد وأبي يوسف، وفائدة الخلاف تظهر فيهما إذا أوصى بثلث ماله مثلا لفلان وللفقراء والمساكين فمن قال: إنهما صنف واحد جعل لفلان النصف ومن قال: إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم الذين يبعثهم الإمام لجبايتها، وفي البحر أن العامل يشمل العاشر والساعي. والأول من نصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار المارين بأموالهم عليه.
والثاني هو الذي يسعى في القبائل ليأخذ صدقة المواشي في أماكنها، ويعطى العامل ما يكفيه وأعوانه بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم ما دام المال باقيا إلا إذا استغرقت كفايته الزكاة فلا يزاد على النصف لأن التنصيف عين الانصاف.
وعن الشافعي أنه يعطى الثمن لأن القسمة تقتضيه وفيه نظر، وقيد بالوسط لأنه لا يجوز أن يتبع شهوته في المأكل والمشرب والملبس لكونه إسرافا محضا، وعلى الإمام أن يبعث من يرضى بالوسط من غير إسراف ولا تقتير، وببقاء المال لأنه لو أخذ الصدقة وضاعت من يده بطلت عمالته ولا يعطى من بيت المال شيئا وما يأخذه صدقة، ومن هنا قالوا: لا تحل العمالة لهاشمي لشرفه، وإنما حلت للغني مع حرمة الصدقة عليه لأنه فرغ نفسه لهذا العمل فيحتاج إلى الكفاية، والغنى لا يمنع من تناولها عند الحاجة كابن السبيل كذا في البدائع، والتحقيق أن في ذلك شبها بالأجرة وشبها بالصدقة، فبالاعتبار الأول حلت للغني ولذا لا يعطى لو أداها صاحب المال إلى الإمام، وبالاعتبار الثاني لا تحل للهاشمي. وفي النهاية رجل من بني هاشم استعمل على الصدقة فأجري له منها رزق فإنه لا ينبغي له أن يأخذ من ذلك، وإن عمل فيها ورزق من غيرها فلا بأس به، وهو يفيد صحة توليته وأن أخذه منها مكروه لا حرام، وصرح في الغاية بعدم صحة كون العامل هاشميا أو عبدا أو كافرا، ومنه يعلم حرمة تولية اليهود على بعض الأعمال وقد تقدمت نبذة من الكلام على ذلك وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم كانوا ثلاثة أصناف. صنف كان يؤلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا. وصنف أسلموا لكن على ضعف كعيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس السلمي فكان عليه الصلاة والسلام يعطيهم لتقوى نيتهم في الإسلام. وصنف كانوا يعطون لدفع شرهم عن المؤمنين، وعد منهم من يؤلف قلبه بإعطاء
شيء من الصدقات على قتال الكفار ومانعي الزكاة. وفي الهداية أن هذا الصنف من الأصناف الثمانية قد سقط وانعقد إجماع الصحابة على ذلك في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه. روي أن عيينة والأقرع جاءا يطلبان أرضا من أبي بكر فكتب بذلك خطأ فمزقه عمر رضي الله تعالى عنه وقال: هذا شيء يعطيكموه رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليفا لكم فأما اليوم فقد أعز الله تعالى الإسلام وأغنى عنكم فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف. فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا:
أنت الخليفة أم عمر؟ بذلت لنا الخط ومزقه عمر، فقال رضي الله تعالى عنه: هو إن شاء ووافقه، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع احتمال أن فيه مفسدة كارتداد بعض منهم وإثارة ثائرة. واختلف كلام القوم في وجه سقوطه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثبوته بالكتاب إلى حين وفاته- بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام فمنهم من ارتكب جواز نسخ ما ثبت بالكتاب بالإجماع بناء على أن الإجماع حجة قطعية كالكتاب وليس بصحيح من المذهب ومنهم من قال: هو من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار. ورد بأن الحكم في البقاء لا يحتاج إلى علة كما في الرمل والاضطباع في الطواف فانتهاؤها لا يستلزم انتهاءه وفيه بحث. وقال علاء الدين عبد العزيز: والأحسن أن يقال: هذا تقرير لما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث المعنى، وذلك أن المقصود بالدفع إليهم كان إعزاز الإسلام لضعفه في ذلك الوقت لغلبة أهل الكفر وكان الإعزاز بالدفع، ولما تبدلت الحال بغلبة أهل الإسلام صار الإعزاز في المنع، وكان الإعطاء في ذلك الزمان والمنع في هذا الزمان بمنزلة الآلة لإعزاز الدين والإعزاز هو المقصود وهو باق على حاله فلم يكن ذلك نسخا، كالمتيمم وجب عليه استعمال التراب للتطهير لأنه آلة متعينة لحصول التطهير عند عدم الماء فإذا تبدلت حاله فوجد الماء سقط الأول ووجب استعمال الماء لأنه صار متعينا لحصول المقصود ولا يكون هذا نسخا للأول فكذا هذا وهو نظير إيجاب الدية على العاقلة فإنها كانت واجبة على العشيرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده على أهل الديوان لأن الإيجاب على العاقلة بسبب النصرة والاستنصار في زمنه صلى الله عليه وسلم كان بالعشيرة وبعده عليه الصلاة والسلام بأهل الديوان، فإيجابها عليهم لم يكن نسخا بل كان تقريرا للمعنى الذي وجبت الدية لأجله وهو الاستنصار اهـ. واستحسنه في النهاية.
وتعقبه ابن الهمام بأن هذا لا ينفي النسخ لأن إباحة الدفع إليهم حكم شرعي كان ثابتا وقد ارتفع، وقال بعض المحققين: إن ذلك نسخ ولا يقال: نسخ الكتاب بالإجماع لا يجوز على الصحيح لأن الناسخ دليل الإجماع لا هو بناء على أنه لا إجماع إلا عن مستند فإن ظهر وإلا وجب الحكم بأنه ثابت، على أن الآية التي أشار إليها عمر رضي الله تعالى عنه وهي قوله سبحانه: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] يصلح لذلك وفيه نظر، فإنه إنما يتم لو ثبت نزول هذه الآية بعد هذه ولم يثبت، وقال قوم: لم يسقط سهم هذا الصنف، وهو قول الزهري وأبي جعفر محمد بن علي وأبي ثور، وروي ذلك عن الحسن، وقال أحمد: يعطون ان احتاج المسلمون إلى ذلك.
وقال البعض: إن المؤلفة قلوبهم مسلمون وكفار والساقط سهم الكفار فقط. وصحح أنه عليه الصلاة والسلام كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله صلى الله عليه وسلم وَفِي الرِّقابِ أي للصرف في فك الرقاب بأن يعان المكاتبون بشيء منها على أداء نجومهم، وقيل: بأن يبتاع منها الرقاب فتعتق، وقيل: بأن يفدي الأسارى، وإلى الأول ذهب النخعي والليث والزهري والشافعي، وهو المروي عن سعيد بن جبير وعليه أكثر الفقهاء، وإلى الثاني ذهب مالك وأحمد وإسحاق، وعزاه الطيبي إلى الحسن، وفي تفسير الطبري أن الأول هو المنقول عنه وَالْغارِمِينَ أي الذين عليهم دين، والدفع إليهم كما في الظهيرية أولى من الدفع إلى الفقير وقيدوا الدين بكونه في غير معصية كالخمر
والإسراف فيما لا يعنيه، لكن قال النووي في المنهاج قلت: والأصح أن من استدان للمعصية يعطى إذا تاب وصححه في الروضة، والمانع مطلقا قال: إنه قد يظهر التوبة للأخذ، واشترط أن لا يكون لهم ما يوفون به دينهم فاضلا عن حوائجهم ومن يعولونه، وإلا فمجرد الوفاء لا يمنع من الاستحقاق، وهو أحد قولين عند الشافعية وهو الأظهر.
وقيل: لا يشترط لعموم الآية. وأطلق القدوري وصاحب الكنز من أصحابنا المديون في باب المصرف، وقيده في الكافي بأن لا يملك نصابا فضلا عن دينه وذكر في البحر أنه المراد بالغارم في الآية إذ هو في اللغة من عليه دين ولا يجد قضاء كما ذكره العتبي. واعتذر عن عدم التقييد بأن الفقر شرط في الأصناف كلها إلا العامل وابن السبيل إذا كان له في وطنه مال فهو بمنزلة الفقير، وهل يشترط حلول الدين أو لا قولان للشافعية. ويعطى عندهم من استدان لإصلاح ذات البين كأن يخاف فتنة بين قبيلتين تنازعتا في قتيل لم يظهر قاتله أو ظهر فأعطى الدية تسكينا للفتنة، ويعطى مع الغنى مطلقا، وقيل: إن كان غنيا بنقد لا يعطى وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ.
أريد بذلك عند أبي يوسف منقطعو الغزاة، وعند محمد منقطعو الحجيج. وقيل: المراد طلبة العلم واقتصر عليه في الفتاوى الظهيرية، وفسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله تعالى وسبل الخيرات.
قال في البحر: ولا يخفى أن قيد الفقر لا بد منه على الوجوه كلها فحينئذ لا تظهر ثمرته في الزكاة. وإنما تظهر في الوصايا والأوقاف انتهى. وفي النهاية فإن قيل: إن قوله سبحانه وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مكرر سواء أريد منقطع الغزاة أو غيره لأنه إما أن يكون له في وطنه مال أم لا فإن كان فهو ابن السبيل وإن لم يكن فهو فقير، فمن أين يكون العدد سبعة على ما يقول الأصحاب أو ثمانية على ما يقول غيرهم. أجيب بأنه فقير إلا أنه ازداد فيه شيء آخر سوى الفقر وهو الانقطاع في عبادة الله تعالى من جهاد أو حج فلذا غاير الفقير المطلق فإن المقيد يغاير المطلق لا محالة، ويظهر أثر التغاير في حكم آخر أيضا وهو زيادة التحريض والترغيب في رعاية جانبه وإذا كان كذلك لم تنقص المصارف عن سبعة وفيه تأمل انتهى، ولا يخفى وجهه. وذكر بعضهم أن التحقيق ما ذكره الجصاص في الأحكام أن من كان غنيا في بلده بداره وخدمه وفرسه وله فضل دراهم حتى لا تحل له الصدقة فإذا عزم على سفر جهاد احتاج لعدة وسلاح لم يكن محتاجا له في إقامته فيجوز أن يعطى من الصدقة وإن كان غنيا في مصره وهذا معنى
قوله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة تحل للغازي الغني»
فافهم ولا تغفل وَابْنِ السَّبِيلِ وهو المسافر المنقطع عن ماله. والاستقراض له خير من قبول الصدقة على ما في الظهيرية. وفي فتح القدير أنه لا يحل له أن يأخذ أكثر من حاجته، وألحق به كل من هو غائب عن ماله وإن كان في بلده. وفي المحيط وإن كان تاجرا له دين على الناس لا يقدر على أخذه ولا يجد شيئا يحل له أخذ الزكاة لأنه فقير يدا كابن السبيل. وفي الخانية تفصيل في هذا المقام قال: والذي له دين مؤجل على إنسان إذا احتاج إلى النفقة يجوز له أن يأخذ من الزكاة قدر كفايته إلى حلول الأجل، وإن كان الدين غير مؤجل فإن كان من عليه الدين معسرا يجوز له أن يأخذ الزكاة في أصح الأقاويل لأنه بمنزلة ابن السبيل، وإن كان المديون موسرا معترفا لا يحل له أخذ الزكاة وكذا إذا كان جاحدا وله عليه بينة عادلة، وإن لم تكن عادلة لا يحل له الأخذ أيضا ما لم يرفع الأمر إلى القاضي فيحلفه فإذا حلفه يحل له الأخذ بعد ذلك اهـ، والمراد من الدين ما يبلغ نصابا كما لا يخفى. وفي فتح القدير ولو دفع إلى فقيرة لها مهر دين على زوجها يبلغ نصابا وهو موسر بحيث لو طلبت أعطاها لا يجوز، وإن كان بحيث لا يعطي لو طلبت جاز اهـ. وهو مقيد لعموم ما في الخانية، والمراد من المهر ما تعورف تعجيله لأن ما تعورف تأجيله فهو دين مؤجل لا يمنع أخذ الزكاة، ويكون في الأول عدم إعطائه بمنزلة إعساره، ويفرق بينه وبين سائر الديون بأن رفع الزوج للقاضي مما ينبغي للمرأة بخلاف غيره، لكن في البزازية دفع الزكاة إلى أخته وهي تحت زوج إن كان مهرها المعجل
أقل من النصاب أو أكثر لكن الزوج معسر له أن يدفع إليها الزكاة وإن كان موسرا والمعجل قدر النصاب لا يجوز عندهما وبه يفتى للاحتياط، وعند الإمام يجوز مطلقا هذا، والعدول عن اللام إلى فِي في الأربعة الأخيرة على ما قاله الزمخشري للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق الصدقة ممن سبق ذكره لما أن فِي للظرفية المنبئة عن إحاطتهم بها وكونهم محلها ومركزها وعليه فاللام لمجرد الاختصاص، وفي الانتصاف أن ثم سرا آخر هو أظهر وأقرب وذلك أن الأصناف الأوائل ملاك لما عساه أن يدفع إليهم وإنما يأخذونه تملكا فكان دخول اللام لائقا بهم، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون لما يصرف نحوهم بل ولا يصرف إليهم ولكن يصرف في مصالح تتعلق بهم، فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون أو البائعون فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بملكهم لما يصرف نحوهم وإنما هم محال لهذا الصرف ولمصالحه المتعلقة به، وكذلك الغارمون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم، وأما في سبيل الله فواضح فيه ذلك، وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعا.
وعطفه على المجرور باللام ممكن ولكن عطفه على القريب أقرب، وما أشار إليه من أن المكاتب لا يملك وإنما يملك المكاتب هو الذي أشار إليه بعض أصحابنا. ففي المحيط قالوا: إنه لا يجوز إعطاء الزكاة لمكاتب هاشمي لأن الملك يقع للمولى من وجه والشبهة ملحقة بالحقيقة في حقهم وفي البدائع ما هو ظاهر في أن الملك يقع للمكاتب وحينئذ فبقية الأربعة بالطريق الأولى.
والمشهور أن اللام للملك عند الشافعية وهو الذي يقتضيه مذهبهم حيث قالوا: لا بد من صرف الزكاة إلى جميع الأصناف إذا وجدت ولا تصرف إلى صنف مثلا ولا إلى أقل من ثلاثة من كل صنف بل إلى ثلاثة أو أكثر إذا وجد ذلك، وعندنا يجوز للمالك أن يدفع الزكاة إلى كل واحد منهم وله أن يقتصر على صنف واحد لأن المراد بالآية بيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا تعيين الدفع لهم، ويدل له قوله تعالى: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 271] وأنه صلى الله عليه وسلم أتاه مال من الصدقة فجعله في صنف واحد وهو المؤلفة قلوبهم ثم أتاه مال آخر فجعله في الغارمين فدل ذلك على أنه يجوز الاقتصار على صنف واحد، ودليل جواز الاقتصار على شخص واحد منه أن الجمع المعرف بأل مجاز عن الجنس، فلو حلف لا يتزوج النساء ولا يشتري العبيد يحنث بالواحد فالمعنى في الآية أن جنس الصدقة لجنس الفقير، فيجوز الصرف إلى واحد لأن الاستغراق ليس بمستقيم، إذ يصير المعنى أن كل صدقة لكل فقير وهو ظاهر الفساد، وليس هناك معهود ليرتكب العهد، ولا يرد- خالعني على ما في يدي من الدراهم ولا شيء في يدها- فإنه يلزمها ثلاثة، ولو حلف لا يكلمه الأيام أو الشهور فإنه يقع على العشرة عند الإمام وعلى الأسبوع والسنة عند الإمامين لأنه أمكن العهد فلا يحمل على الجنس. فالحاصل أن حمل الجمع على الجنس مجاز وعلى العهد أو الاستغراق حقيقة، ولا مساغ للخلف إلا عند تعذر الأصل، وعلى هذا ينصف الموصى به لزيد والفقراء كالوصية لزيد وفقير.
وما ذهبنا إليه هو المروي عن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل ومالك عليهم الرحمة وذكر ابن المنير أن جده أبا العباس أحمد بن فارس كان يستنبط من تغاير الحرفين المذكورين دليلا على أن الغرض بيان المصرف واللام لذلك فيقول: متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوف فإما أن يكون التقدير إنما الصدقات مصروفة للفقراء كما يقول مالك ومن معه أو مملوكة للفقراء كما يقول الشافعي لكن الأول متعين لأنه تقدير يكتفى به في الحرفين جميعا ويصح تعلق اللام وَفِي معا به فيصح
أن يقال: هذا الشيء مصروف في كذا ولكذا بخلاف تقدير مملوكة فإنه إنما يلتئم مع اللام وعند الانتهاء إلى فِي يحتاج إلى تقدير مصروفة ليلتئم بها فتقديره من الأول عام التعلق شامل الصحة متعين اهـ. وبالجملة لا يخفى قوة منزع الأئمة الثلاثة في الأخذ.
ولذا اختار بعض الشافعية ما ذهبوا إليه، وكان والد العلامة البيضاوي عمر بن محمد- وهو مفتي الشافعية في عصره- يفتي به فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمقدر مأخوذ من معنى الكلام أي فرض لهم الصدقات فريضة، ونقل عن سيبويه أنه منصوب بفعله مقدرا أي فرض الله تعالى ذلك فريضة، واختار أبو البقاء كونه حالا من الضمير المستكن في قوله تعالى لِلْفُقَراءِ أي إنما الصدقات كائنة لهم حال كونها فريضة أي مفروضة، قيل: ودخلته التاء لإلحاقه بالأسماء كنطيحة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم حَكِيمٌ لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي من جملتها سوق الحقوق إلى مستحقيها وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد بن صامت ورفاعة بن عبد المنذر ووديعة بن ثابت وغيرهم قالوا ما لا ينبغي في حقه عليه الصلاة والسلام فقال رجل منهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغ محمدا صلى الله عليه وسلم ما تقولون فيقع بنا. فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإن محمدا صلى الله عليه وسلم أذن، وفي رواية أذن سامعة، وعن محمد بن إسحاق أنها نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحارث، وكان رجلا آدم أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة وكان ينم حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل. فقال: إنما محمد صلى الله عليه وسلم أذن من حدثه شيئا صدقه نقول شيئا ثم نأتيه ونحلف له فيصدقنا، وهو الذي
قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث»
وأرادوا سوّد الله وجوههم وأصمهم وأعمى أبصارهم بقولهم أذن أنه عليه الصلاة والسلام يسمع ما يقال له ويصدقه فيكون وصف أُذُنٌ بما يفيد ذلك في كلامهم كشفا له، وهي في الأصل اسم للجارحة، وإطلاقها على الشخص بالمعنى المذكور- كما يؤيده بعض الروايات- من باب المجاز المرسل على ما في المفتاح كإطلاق العين على ربيئة القوم حيث كانت العين هي المقصودة منه، وصرح غير واحد أن ذلك من إطلاق الجزء على الكل للمبالغة كقوله:
إذا ما بدت ليلى فكلي أعين
…
وإن هي ناجتني فكلي مسامع
وقيل: إنه مجاز عقلي كرجل عدل وفيه نظر، والمبالغة هنا على ما قيل في أنه يسمع كل قول باعتبار أنه يصدقه لا في مجرد السماع، وما قيل: إن مرادهم بكونه عليه الصلاة والسلام أذنا تصديقه بكل ما يسمع من غير فرق بين ما يليق بالقبول لمساعدة أمارات الصدق له وبين ما لا يليق به فليس من قبيل إطلاق العين على الربيئة. ولذا جعله بعضهم من قبيل التشبيه بالأذن في أنه ليس فيه وراء الاستماع تمييز حق عن باطل ليس بشيء يعتد به وقيل: إنه على تقدير مضاف أي ذو أذن ولا يخفى أنه مذهب لرونقه، وجوز أن يكون أُذُنٌ صفة مشبهة من أذن يأذن إذنا إذا استمع وأنشد الجوهري لقعنب:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا
…
مني وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به
…
وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
وعلى هذا هو صفة بمعنى سميع ولا تجوز فيه وما تأذى به النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون ما قالوه في حقه عليه الصلاة والسلام من سائر الأقوال الباطلة فيكون قوله سبحانه: وَيَقُولُونَ إلخ غير ما تأذى به. ويحتمل أن يكون
نفس قولهم «هو أذن» فيكون عطف تفسير ويُؤْذُونَ مضارع آذاه والمشهور في مصدره أذى وأذاة وأذية وجاء أيضا الإيذاء كما أثبته الراغب وقول صاحب القاموس ولا تقل إيذاء خطأ منه.
قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ من قبيل رجل صدق فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الجودة والصلاح كأنه قيل: نعم هو أذن ولكن نعم الأذن، ويجوز أن تكون الإضافة على معنى في أي هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بأذن في غير ذلك، ويدل عليه قراءة حمزة «ورحمة» فيما يأتي بالجر عطفا على خير فإنه لا يحسن وصف الأذن بالرحمة ويحسن أن يقال أذن في الخير والرحمة، وهذا كما قال ابن المنير أبلغ أسلوب في الرد عليهم لأن فيه أطماعا لهم بالموافقة على مدعاهم ثم كر عليهم بحسم طمعهم وبت أمنيتهم وهو كالقول الموجب.
وقرأ نافع «أذن» بالتخفيف في الموضعين وقرأ «أذن» بالتنوين- فخير- صفة له بمعنى خير المشدد أو أفعل تفضيل أو مصدر وصف به للمبالغة أو بالتأويل المشهور، وقوله سبحانه: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ تفسير لكونه عليه الصلاة والسلام أذن خير لهم، أي يصدق بالله تعالى لما قام عنده من الأدلة والآيات الموجبة لذلك، وكون ذلك صفة خير للمخاطبين كما أنه خير للعالمين مما لا يخفى وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي يصدقهم لما علم فيهم من الخلوص، والظاهر أن هذا مندرج في حيز التفسير لكن الغالب من المفسرين لم يبينوا وجهه كونه صفة خير للمخاطبين، نعم قال مولانا الشهاب:
إن المعنى هو أذن خير يسمع آيات الله تعالى ودلائله فيصدقها ويسمع قول المؤمنين فيسلمه لهم ويصدقهم به، وهو تعريض بأن المنافقين أذن شر يسمعون آيات الله تعالى ولا ينتفعون بها ويسمعون قول المؤمنين ولا يقبلونه، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع قولهم إلا شفقة عليهم لا أنه يقبله لعدم تمييزه عليه الصلاة والسلام كما زعموا، وبهذا يصح وجه التفسير فتدبر انتهى، ولا يخفى أن في إرادة هذا المعنى من هذا المقدار من الآية بعدا، وربما يقال: إن المراد أنه عليه الصلاة والسلام يسمع قول المؤمنين الخلص ويصدقهم ولا يصدق المنافقين وإن سمع قولهم، وكون ذلك صفة خير للمخاطبين إما باعتبار أنه قد ينجر إلى إخلاصهم لما أن فيه انحطاط مرتبتهم عن مرتبة المخلصين وإما باعتبار أن تصديقه صلى الله عليه وسلم للمؤمنين الخلص فيما يقولونه من الحق من متممات تصديقه آيات الله تعالى ولا شك في خيرية ذلك للمخاطبين بل ولغيرهم أيضا فليفهم.
والإيمان في قوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ بمعنى الاعتراف والتصديق كما أشرنا إليه ولذا عدي بالباء، وأما في قوله سبحانه: وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فهو بمعنى جعلهم في أمان من التكذيب فاللام فيه مزيدة للتقوية لأنه بذلك المعنى متعد بنفسه كذا قيل، وفيه أن الزيادة لتقوية الفعل المتقدم على معموله قليلة. وقال الزمخشري: إنه قصد من الإيمان في الأول التصديق بالله تعالى الذي هو نقيض الكفر فعدي بالباء الذي يتعدى بها الكفر حملا للنقيض على النقيض، وقصد من الإيمان في الثاني السماع من المؤمنين وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقهم لكونهم صادقين عنده فعدي باللام ألا ترى إلى قوله سبحانه: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ [يوسف: 17] حيث عدي الإيمان فيه باللام لأنه بمعنى التسليم لهم، وظاهر هذا أن اللام ليست مزيدة للتقوية كما في الأول، وكلام بعضهم يشعر ظاهره بزيادتها، وقوله سبحانه: وَرَحْمَةٌ عطف على أُذُنُ خَيْرٍ أي وهو رحمة، وفيه الاخبار بالمصدر والكلام في ذلك معلوم لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي للذين أظهروا الإيمان حيث يقبله منهم لكن لا تصديقا لهم في ذلك بل رفقا بهم وترحما عليهم ولا يكشف أسرارهم ولا يهتك أستارهم.
وظاهر كلام الخازن أن المراد من الذين آمنوا المخلصون وذكر مِنْكُمْ باعتبار أن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون والحق حمل ذلك على المنافقين وإسناد الإيمان إليهم بصيغة الفعل بعد نسبته إلى المؤمنين
المخلصين بصيغة الفاعل المنبئة عن الرسوخ والاستمرار للإيذان بأن إيمانهم أمر حادث ما له من قرار ولعل العدول عن- رحمة- لكم إلى ما ذكر للإشارة إلى ذلك. وقرأ ابن أبي عبلة «رحمة» بالنصب على أنه مفعول له لفعل مقدر دل عليه أُذُنُ خَيْرٍ أي يأذن لكم ويسمع رحمة وجوز عطفه على آخر مقدر أي تصديقا لهم ورحمة لكم وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ أي بأي نوع من الإيذاء كان وفي صيغة الاستقبال المشعرة بترتب الوعيد على الاستمرار على ما هم عليه إشعار بقبول توبتهم لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي بسبب ذلك كما ينبىء عنه بناء الحكم على الموصول وجملة الموصول وخبره مسوق من قبله عز وجل على نهج الوعيد غير داخل تحت الخطاب وفي تكرير الإسناد بإثبات العذاب الأليم لهم ثم جعل الجملة خبرا ما لا يخفى من المبالغة وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة مع الإضافة إلى الاسم الجليل لغاية التعظيم والتنبيه على أن أذيته عليه الصلاة والسلام راجعة إلى جنابه عز وجل موجبة لكمال السخط والغضب منه سبحانه. وذكر بعضهم أن الإيذاء لا يختص بحال حياته صلى الله عليه وسلم بل يكون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أيضا وعدوا من ذلك التكلم في أبويه صلى الله عليه وسلم بما لا يليق وكذا إيذاء أهل بيته رضي الله تعالى عنهم كإيذاء يزيد عليه ما يستحق لهم وليس بالبعيد يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الخطاب للمؤمنين وكان المنافقون يتكلمون بما لا يليق ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالأيمان ليعذروهم ويرضوا عنهم. أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال:
ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ولئن كان ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم حقا لهم شر من الحمر، فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم لحق ولأنت شر من الحمار، فسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال: ما حملك على الذي قلت؟ فجعل يلتعن ويحلف بالله تعالى ما قال ذلك وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل سبحانه في ذلك: يَحْلِفُونَ إلخ أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا ما نقل عنهم مما يورث أذاة النبي صلى الله عليه وسلم ليرضوكم بذلك. وعن مقاتل والكلبي أنها نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم منها أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلفهم ويعتلون ويحلفون.
وأنكر بعضهم هذا مقتصرا على الأول ولعله رأى ذلك أوفق بالمقام، وإنما أفرد إرضاءهم بالتعليل مع أن عمدة أغراضهم إرضاء الرسول لله للإيذان بأن ذلك بمعزل عن أن يكون وسيلة لإرضائه عليه الصلاة والسلام وأنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يكذبهم رفقا بهم وسترا لعيوبهم لا عن رضى بما فعلوا وقبول قلبي لما قالوا وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أي أحق بالإرضاء من غيره ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والموافقة لأمره وإيفاء حقوقه عليه الصلاة والسلام في باب الإجلال والإعظام حضورا وغيبة، وأما الأيمان فإنما يرضى بها من انحصر طريق علمه في الأخبار إلى أن يجيء الحق ويزهق الباطل، والجملة في موضع الحال من ضمير يَحْلِفُونَ والمراد ذمهم بالاشتغال فيما لا يعنيهم والإعراض عما يهمهم ويجديهم.
وتوحيد الضمير في يُرْضُوهُ مع أن الظاهر بعد العطف بالواو التثنية لأن إرضاء الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينفك عن إرضاء الله تعالى ومَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 89] فلتلازمهما جعلا كشيء واحد فعاد إليهما الضمير المفرد، أو لأن الضمير مستعار لاسم الإشارة الذي يشار به إلى الواحد والمتعدد بتأويل المذكور، وإنما لم يثن تأدبا لئلا يجمع بين الله تعالى وغيره في ضمير تثنية: وقد نهي عنه على كلام فيه، أو لأنه عائد إلى رسوله والكلام جملتان حذف خبر الأولى لدلالة خبر الثانية عليه كما في قوله:
نحن بما عندنا وأنت بما
…
عندك راض والرأي مختلف
أو إلى الله تعالى على أن المذكور خبر الجملة الأولى وخبر الجملة الثانية محذوف، واختار الأول في مثل ذلك التركيب سيبويه لقرب ما جعل المذكور خبرا له مع السلامة من الفصل بين المبتدأ والخبر، واختار الثاني المبرد للسبق، وقيل: إن الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام والخبر له لا غير ولا حذف في الكلام لأن الكلام في إيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام وإرضائه فيكون ذكر الله تعالى تعظيما له عليه الصلاة والسلام وتمهيدا فلذا لم يخبر عنه وخص الخبر بالرسول صلى الله عليه وسلم، ونظيره قوله تعالى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ [النور: 51] ولا يخفى أن اعتبار الأخبار عن المعطوف وعدم اعتبار خبر للمبتدأ المعطوف عليه أصلا مع أنه المستقل في الابتداء في غاية الغرابة، والفرق بين الآيتين مثل الشمس ظاهر إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كانوا مؤمنين إيمانا صادقا في الظاهر والباطن فليرضوا الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بما ذكر فإنهما أحق بالإرضاء أَلَمْ يَعْلَمُوا أي أولئك المنافقون، والاستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من العظيمة مع علمهم بما سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم بوخامة عاقبتها. وقرىء «تعلموا» بالتاء على الالتفات لزيادة التقريع والتوبيخ إذا كان الخطاب للمنافقين لا للمؤمنين كما قيل به. وفي قراءة «ألم تعلم» والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل واقف عليه، والعلم يحتمل أن يكون المتعدي لمفعولين وأن يكون المتعدي لواحد أَنَّهُ أي الشأن مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يخالف أمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، وأصل المحادة مفاعلة من الحد بمعنى الجهة والجانب كالمشاقة من الشق والمعاداة من العدوة بمعناه أيضا فإن كل واحد من مباشري كل من الأفعال المذكورة في حد وشق وعدوة غير ما عليه صاحبه، ويحتمل أن تكون من الحد بمعنى المنع، ومَنْ شرطية جوابها قوله سبحانه: فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ على أن خبره محذوف أي فحق أن له نار جهنم، وقدر ذلك لأن جواب الشرط لا يكون إلا جملة وأن المفتوحة مع ما في حيزها مفرد تأويلا. وقدر مقدما لأنها لا تقع في ابتداء الكلام كالمكسورة، وجوز أن يكون المقدر خبرا أي الأمر أن له إلخ، وقيل: المراد فله نار جهنم وأن تكرير أن في قوله سبحانه: أَنَّهُ توكيدا قيل: وفيه بحث (1) لأنه لو كان المراد فله وأن توكيدا لكان نار جهنم مرفوعا ولم يعمل أن فيه، ولما فصل بين المؤكد والمؤكد بجملة الشرط، ولما وقع أجنبي بين فاء الجزاء وما في حيزه. وأجيب بأنه ليس من باب التوكيد اللفظي بل التكرير لبعد العهد وهو من باب التطرية ومثل ذلك لا يمنع العمل ودخول الفاء. ونظيره قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وقوله:
لقد علم الحي اليمانون أنني
…
إذا قلت أما بعد أني خطيبها
وكم وكم وجعل الآية من هذا الباب نقله سيبويه في الكتاب عن الخليل وهو- هو- وليس «زعم» في كلامه تمريضا له لأنه عادته في كل ما نقله كما بينه شراحه وجوز أن يكون معطوفا على أَنَّهُ وجواب الشرط محذوف أي ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فإن له إلخ. وحاصله ألم يعلموا هذا وهذا عقيبه ولا يخفى بعده مع أن أبا حيان قال: إنه لا يصح لأنهم نصوا على أن حذف الجواب إنما يكون إذا كان فعل الشرط ماضيا أو مضارعا مجزوما بلم وما هنا ليس كذلك. وتعقبه بعضهم بأن ما ذكره ليس متفقا عليه فقد نص ابن هشام على خلافه فكأنه شرط للأكثرية، والقول بأن حق العطف فيما ذكر أن يكون بالواو قال فيه الشهاب ليس بشيء إلا أن استحقاقه النار بسبب المحادة بلا شبهة، وقرىء «فإن» بالكسر ولا يحتاج إلى توجيه لظهوره، وقوله سبحانه: خالِداً فِيها حال مقدرة
(1) هو لصاحب التقريب اهـ منه
من الضمير المجرور إن اعتبر في الظرف ابتداء الاستقرار وحدوثه وأنه اعتبر مطلق الاستقرار فالأمر واضح ذلِكَ أي ما ذكر من العذاب الْخِزْيُ الْعَظِيمُ أي الذل والهوان المقارن للفضيحة، ولا يخفى ما في الحمل من المبالغة، والجملة تذييل لما سبق يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ أي من أن تنزل. ويجوز أن يكون يحذر متعديا بنفسه كما يدل عليه ما أنشد سيبويه من قوله:
حذر أمورا لا تضير وآمن
…
ما ليس ينجيه من الأقدار
وأنكر المبرد كونه متعديا لأن الحذر من هيئات النفس كالفزع، والبيت قيل: إنه مصنوع، ورد ما قاله المبرد بأن من الهيئات ما يتعدى كخاف وخشي فما ذكره غير لازم عَلَيْهِمْ أي في شأنهم فإن ما نزل في حقهم نازل عليهم، وهذا إنما يحتاج إليه إذا كان الجار والمجرور متعلقا بتنزل، وأما إذا كان متعلقا بمقدور وقع صفة لقوله سبحانه:
سُورَةٌ كما قيل أي تنزل سورة كائنة عليهم من قولهم: هذا لك وهذا عليك فلا كما لا يخفى إلا أنه خلاف الظاهر جدا. والظاهر تعلق الجار بما عنده، وصفة سورة بقوله تعالى شأنه: تُنَبِّئُهُمْ أي المنافقين بِما فِي قُلُوبِهِمْ من الأسرار الخفية فضلا عما كانوا يظهرونه فيما بينهم خاصة من أقاويل الكفر والنفاق، والمراد أنها تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم فينتشر فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة فكأنها تخبرهم بها وإلا فما في قلوبهم معلوم لهم والمحذور عندهم إطلاع المؤمنين عليه لهم، وقيل: المراد تخبرهم بما في قلوبهم على وجه يكون المقصود منه لازم فائدة الخبر وهو علم الرسول عليه الصلاة والسلام به، وقيل: المراد بالتنبئة المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه فتنبئهم بها وتنعى عليهم قبائحهم، وجوز أن يكون الضميران الأولان للمؤمنين والثالث للمنافقين، وتفكيك الضمائر ليس بممنوع مطلقا بل هو جائز عند قوة القرينة وظهور الدلالة عليه كما هنا، أي يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوب المنافقين وتهتك عليهم أستارهم وتفشي أسرارهم، وفي الأخبار عنهم بأنهم يحذرون ذلك إشعار بأنهم لم يكونوا على بت في أمر الرسول عليه الصلاة والسلام. وقال أبو مسلم: كان إظهار الحذر بطريق الاستهزاء فإنهم كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر كل شيء ويقول: إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهزئون به لقوله سبحانه: قُلِ اسْتَهْزِؤُا فإنه يدل على أنه وقع منهم استهزاء بهذه المقالة. والأمر للتهديد والقائلون بما تقدم قالوا: المراد نافقوا لأن المنافق مستهزىء وكما جعل قولهم: آمنا وما هم بمؤمنين مخادعة في البقرة جعل هنا استهزاء، وقيل: إن يَحْذَرُ خبر في معنى الأمر أي ليحذر. وتعقب بأن قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ ينبو عنه نبوة إلا أن يراد ما يحذرون بموجب هذا الأمر وهو خلاف الظاهر، وكان الظاهر أن يقول: إن الله منزل سورة كذلك أو منزل ما تحذرون لكن عدل منه إلى ما في النظم الكريم للمبالغة إذ معناه مبرز ما تحذرونه من إنزال السورة، أو لأنه أعم إذ المراد مظهر كل ما تحذرون ظهوره من القبائح، وإسناد الإخراج إلى الله تعالى للإشارة إلى أنه سبحانه يخرجه إخراجا لا مزيد عليه، والتأكيد لدفع التردد أو رد الإنكار وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عما قالوه لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك إذ نظر إلى أناس بين يديه من المنافقين يقولون: أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على ذلك فقال: احبسوا على هؤلاء الركب فأتاهم فقال صلى الله عليه وسلم:
قلتم كذا وكذا قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب. فنزلت»
وأخرج ابن جرير وابن مردويه وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رجل في غزوة تبوك ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، قال
عبد الله: فأنا رأيت الرجل متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكيه وهو يقول: يا رسول الله إنا كنا نخوض ونلعب ورسول الله عليه الصلاة والسلام يقول ما أمره الله تعالى به في قوله سبحانه: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ
وجاء في بعض الروايات أن هذا المتعلق عبد الله بن أبي رأس المنافقين وهل أنكروا ما قالوه واعتذروا بهذا العذر الباطل أو لم ينكروه وقالوا ما قالوا فيه خلاف والإمام على الثاني وهو أوفق بظاهر النظم الجليل.
وأصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ثم كثر حتى صار اسما لكل دخول فيه تلويث وإذاء وأرادوا إنما نلعب ونتلهى لتقصر مسافة السفر بالحديث والمداعبة كما يفعل الركب ذلك لقطع الطريق ولم يكن ذلك منا على طريق الجد، والاستفهام للتوبيخ، وأولى المتعلق إيذانا بأن الاستهزاء واقع لا محالة لكن الخطاب في المستهزأ به، أي قل لهم غير ملتفت إلى اعتذارهم ناعيا عليهم جناياتهم قد استهزأتم بمن لا يصح الاستهزاء به وأخطأتم مواقع فعلكم الشنيع الذي طالما ارتكبتموه، ومن تأمل علم أن قولهم السابق في سبب النزول متضمن للاستهزاء المذكور لا تَعْتَذِرُوا أي لا تشتغلوا بالاعتذار وتستمروا عليه فليس النهي عن أصله لأنه قد وقع، وإنما نهوا عن ذلك لأن ما يزعمونه معلوم الكذب بين البطلان، والاعتذار قيل: إنه عبارة عن محو أثر الذنب من قولهم: اعتذرت المنازل إذا درست لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه واندراسه.
وقيل: هو القطع ومنه يقال للقلفة عذرة لأنها تعذر أي تقطع وللبكارة عذرة لأنها تقطع بالافتراع، ويقال:
اعتذرت المياه إذا انقطعت فالعذر لما كان سببا لقطع اللوم سمي عذرا، والقولان منقولان عن أهل اللغة وهما على ما قال الواحدي متقاربان قَدْ كَفَرْتُمْ أي أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن فيه بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي إظهاركم الإيمان وهذا وما قبله لأن القوم منافقون فأصل الكفر في باطنهم ولا إيمان في نفس الأمر لهم.
واستدل بعضهم بالآية على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء ولا خلاف بين الأئمة في ذلك إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ لتوبتهم وإخلاصهم على أن الخطاب لجميع المنافقين أو لتجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء على أن الخطاب للمؤذين والمستهزئين منهم، والعفو في ذلك عن عقوبة الدنيا العاجلة نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي مصرين على النفاق وهم غير التائبين أو مباشرين له وهم غير المجتنبين.
أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال من خبر فيه طول: كان الذي عفي عنه مخشي بن حمير الأشجعي فتسمى عبد الرحمن وسأل الله تعالى أن يقتل شهيدا لا يعلم مقتله فقتل يوم اليمامة فلم يعلم مقتله ولا قاتله ولم ير له عين ولا أثر.
وفي بعض الروايات أنه لما نزلت هذه الآية تاب عن نفاقه وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة واستجيب دعاؤه رضي الله تعالى عنه. ومن هنا قال مجاهد: إن الطائفة تطلق على الواحد إلى الألف، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الطائفة الواحد والنفر، وقرىء «يعف» و «يعذب» بالياء وبناء الفاعل فيهما وهو الله تعالى.
وقرىء «إن تعف» و «تعذب» بالتاء والبناء للمفعول. واستشكلت هذه القراءة بأن الفعل الأول مسند فيها إلى الجار والمجرور ومثله يلزم تذكيره ولا يجوز تأنيثه إذا كان المجرور مؤنثا فيقال سير على الدابة ولا يقال سيرت عليها.
وأجيب بأن ذلك من الميل مع المعنى والرعاية له فلذا أنث لتأنيث المجرور إذ معنى نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ ترحم طائفة وهو من غرائب العربية، وقيل: لو قيل بالمشاكلة لم يبعد، وقيل: إن نائب الفاعل ضمير الذنوب والتقدير إن تعف هي أي الذنوب، ومن الناس من استشكل الشرطية من حيث هي بأنه كيف يصح أن يكون نُعَذِّبْ طائِفَةً جوابا للشرط
السابق ومن شرط الشرط والجزاء الاتصال بطريق السببية أو اللزوم في الجملة وكلاهما مفقود في الجملة، وقد ذكر ذلك العز بن عبد السلام في أماليه ونقله عنه العلامة ابن حجر في ذيل الفتاوي وذكر أنه لم ير أحدا نبه على الجواب عنه لكنه يعلم من سبب النزول، وتكلم بعد أن ساق الخبر بما لا يخلو عن غموض، ولقد ذكرت السؤال وأنا في عنفوان الشباب مع جوابه للعلامة المذكور لدى شيخ من أهل العلم قد حلب الدهر أشطره وطلبت منه حل ذلك فأعرض عن تقرير الجواب الذي في الذيل وأظن أن ذلك لجهله به وشمر الذيل وكشف عن ساق الجواب من تلقاء نفسه فقال: إن الشرطية اتفاقية نحو قولك: إن كان الإنسان ناطقا فالحمار ناهق وشرع في تقرير ذلك بما تضحك منه الثكلى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأجاب مولانا سري الدين: بأن الجزاء محذوف مسبب عن المذكور أي فلا ينبغي أن يفتروا أو فلا يفتروا فلا بد من تعذيب طائفة، ثم قال: فإن قيل هذا التقدير لا يفيد سببية مضمون الشرط لمضمون الجزاء. قلت: يحمل على سببيته للاخبار بمضمون الجزاء أو سببيته للأمر بعدم الاغترار قياسا على الاخبار، وقد حقق الكلام في ذلك العلامة التفتازاني عند قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ من سورة [البقرة: 97] في حاشية الكشاف.
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي متشابهون في النفاق كتشابه أبعاض الشيء الواحد والمراد الاتحاد في الحقيقة والصورة كالماء والتراب، والآية متصلة بجميع ما ذكر من قبائحهم، وقيل: هي متصلة بقوله
تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ [التوبة: 56] والمراد منها تكذيب قولهم المذكور وإبطال له وتقرير لقوله سبحانه: وَما هُمْ مِنْكُمْ وما بعد من تغاير صفاتهم وصفات المؤمنين كالدليل على ذلك، ومن على التقريرين اتصالية كما في
قوله عليه الصلاة والسلام: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ،
والتعرض لأحوال الإناث للإيذان بكمال عراقتهم في الكفر والنفاق يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ أي بالتكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ أي شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما أنزل الله تعالى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج عن أبي العالية أنه قال: كل منكر ذكر في القرآن المراد منه عبادة الأوثان والشيطان، ولا يبعد أن يراد بالمنكر والمعروف ما يعم ما ذكر وغيره ويدخل فيه المذكور دخولا أوليا، والجملة استئناف مقرر لمضمون ما سبق مفصح عن مضادة حالهم لحال المؤمنين أو خبر ثان وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن الإنفاق في طاعة الله ومرضاته كما روي عن قتادة والحسن، وقبض اليد كناية عن الشح والبخل كما أن بسطها كناية عن الجود لأن من يعطي يمد يده بخلاف من يمنع، وعن الجبائي أن المراد يمسكون أيديهم عن الجهاد في سبيل الله تعالى وهو خلاف الشائع في هذه الكلمة نَسُوا اللَّهَ النسيان مجاز عن الترك وهو كناية عن ترك الطاعة فالمراد لم يطيعوه سبحانه فَنَسِيَهُمْ منع لطفه وفضله عنهم، والتعبير بالنسيان للمشاكلة إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الكاملون في التمرد والفسق الذي هو الخروج عن الطاعة والانسلاخ عن كل حتى كأنهم الجنس كله، ومن هنا صح الحصر المستفاد من الفصل وتعريف الخبر وإلا فكم فاسق سواهم.
والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير، ولعله لم يذكر المنافقات اكتفاء بقرب العهد، ومثله في نكتة الإظهار قوله سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ أي المجاهرين فهو من عطف المغاير، وقد يكون من عطف العام على الخاص نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من مفعول وَعَدَ أي مقدرين الخلود، قيل:
والمراد دخولهم وتعذيبهم بنار جهنم في تلك الحال لما يلوح لهم يقدرون الخلود في أنفسهم فلا حاجة لما قاله بعضهم من أن التقدير مقدري الخلود بصيغة المفعول.
والإضافة إلى الخلود لأنهم لم يقدروه وإنما قدره الله تعالى لهم، وقيل: إذا كان المراد يعذبهم الله سبحانه بنار جهنم خالدين لا يحتاج إلى التقدير، والتعبير بالوعد للتهكم نحو قول سبحانه: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:
21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] هِيَ حَسْبُهُمْ عقابا وجزاء أي فيها ما يكفي من ذلك، وفيه ما يدل على عظم عقابها وعذابها فإنه إذا قيل للمعذب كفى هذا دل على أنه بلغ غاية النكاية وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم من رحمته وخيره وأهانهم وفي إظهار الاسم الجليل من الإيذان بشدة السخط ما لا يخفى وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أي نوع من العذاب غير عذاب النار دائم لا ينقطع أبدا فلا تكرار مع ما تقدم، ولا ينافي ذلك هِيَ حَسْبُهُمْ لأنه بالنظر إلى تعذيبهم بالنار، وقيل في دفع التكرار إن ما تقدم وعيد وهذا بيان لوقوع ما وعدوا به على أنه لا مانع من التأكيد، وقيل:
إن الأول عذاب الآخرة وهذا عذاب ما يقاسونه في الدنيا من التعب والخوف من الفضيحة والقتل ونحوه، وفسرت الإقامة بعدم الانقطاع لأنها من صفات العقلاء فلا يوصف بها العذاب فهي مجاز عما ذكر.
وجوز أن يكون وصف العذاب بها كما في قوله تعالى: عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21، القارعة: 7] فالمجاز حينئذ عقلي كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ التفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد، والكاف في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم مثل الذين من قبلكم من الأمم المهلكة أو في حيز النصب بفعل مقدر أي فعلتم مثل الذين من قبلكم، ونحوه قول النمر يصف ثور وحش وكلابا:
حتى إذا الكلاب قال لها
…
كاليوم مطلوبا ولا طالبا
فإن أصله لم أر مطلوبا كمطلوب رأيته اليوم ولا طلبة كطلبة رأيتها اليوم فاختصر الكلام فقيل لم أر مطلوبا كمطلوب اليوم لملابسته له ثم حذف المضاف اتساعا وعدم البأس، وقيل: كاليوم وقدم على الموصوف فصار حالا للاعتناء والمبالغة وحذف الفعل للقرينة الحالية ووجه الشبه المعمولية لفعل محذوف، وقوله سبحانه: كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً إلخ تفسير للتشبيه وبيان لوجه الشبه بين المخاطبين ومن قبلهم فلا محل لها من الإعراب، وفيه إيذان بأن المخاطبين أولى وأحق بأن يصيبهم ما أصابهم فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ أي تمتعوا بنصيبهم من ملاذ الدنيا، وفي صيغة الاستفعال ما ليس في التفعل من الاستفادة والاستدامة في التمتع، واشتقاق الخلاق من الخلق بمعنى التقدير وهو أصل معناه لغة فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ذم الأولين باستمتاعهم بحظوظهم الخسيسة من الشهوات الفانية والتهائهم فيها عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقية تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم، ولذلك اختير الإطناب بزيادة فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ وهذا كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثله، ومحل الكاف النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي استمتعتم استمتاعا كاستمتاع الذين وَخُضْتُمْ أي دخلتم في الباطل كَالَّذِي خاضُوا أي كالذين فحذفت نونه تخفيفا كما في قوله:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم
…
هم القوم كل القوم يا أم خالد
ويجوز أن يكون الذي صفة لمفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق فلوحظ في الصفة اللفظ وفي الضمير المعنى أو هو صفة مصدر محذوف أي كالخوض الذي خاضوه ورجح بعدم التكلف فيه، وقال الفراء: إن الذي تكون مصدرية وخرج هذا عليه أي كخوضهم وهو كما قال أبو البقاء نادر، وهذه الجملة عطف على ما قبلها وحينئذ إما أن يقدر فيها ما يجعلها على طرزه لعطفها عليه أولا يقدر إشارة إلى الاعتناء بالأول أُولئِكَ إشارة إلى المتصفين بالصفات المعدودة من المشبهين والمشبه بهم، وكونه إشارة إلى الأخير يقتضي أن يكون حكم المشبهين مفهوما ضمنا ويؤدي إلى خلو تلوين الخطاب عن الفائدة إذ الظاهر حينئذ أولئكم والخطاب لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام أو لكل من يصلح له أي أولئك المتصفون بما ذكر من القبائح حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي التي كانوا يستحقون بها أجورا حسنة لو قارنت الإيمان، والحبط السقوط والبطلان والاضمحلال والمراد لم يستحقوا عليها ثوابا وكرامة فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أما في الآخرة فظاهر وأما في الدنيا فلأن ما حصل لهم من الصحة والسعة ونحوهما ليس إلا بطريق الاستدراج كما نطقت به الآيات دون الكرامة وَأُولئِكَ الموصوفون بحبط الأعمال في الدارين هُمُ الْخاسِرُونَ أي الكاملون في الخسران الجامعون لمباديه وأسبابه طرا.
وإيراد اسم الإشارة في الموضعين للإشعار بعلية الأوصاف المشار إليها للحبط والخسران أَلَمْ يَأْتِهِمْ أي المنافقين نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي خبرهم الذي له شأن والاستفهام للتقرير والتحذير قَوْمِ نُوحٍ أغرقوا بالطوفان وَعادٍ أهلكوا بالريح وَثَمُودَ أهلكوا بالرجفة، وغير الأسلوب في القومين لأنهم لم يشتهروا بنبيهم، وقيل: لأن الكثير منهم آمن وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ أهلك نمروذ رئيسهم ببعوض وأبيدوا بعده لكن لا بسبب سماوي كغيرهم ووَ أَصْحابِ مَدْيَنَ أي أهلها وهم قوم شعيب عليه السلام أهلكوا بالنار يوم الظلة أو بالصيحة والرجفة أو بالنار والرجفة على اختلاف الروايات وَالْمُؤْتَفِكاتِ مؤتفكة من الائتفاك وهو الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفل بالخسف، والمراد بها إما قريات قوم لوط عليه السلام فالائتفاك على حقيقته فإنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها
وأمطر على من فيها حجارة من سجيل وإما قريات المكذبين المتمردين مطلقا فالائتفاك مجاز عن انقلاب حالها من الخير إلى الشر على طريق الاستعارة كقول ابن الرومي:
وما الخسف أن تلقى أسافل بلدة
…
أعاليها بل أن تسود الأراذل
لأنها لم يصبها كلها الائتفاك الحقيقي أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ استئناف لبيان نبئهم، وضمير الجمع للجميع لا للمؤتفكات فقط فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى فما كان إلخ، فالفاء للعطف على ذلك المقدر الذي ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام، أي لم يكن من عادته سبحانه ما يشبه ظلم الناس كالعقوبة بلا جرم، وقد يحمل على استمرار النفي أي لا يصدر منه سبحانه ذلك أصلا بل هو أبلغ كما لا يخفى. وقول الزمخشري: أي فما صح منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح مبني على الاعتزال.
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عرضوها بمقتضى استعدادهم للعقاب بالكفر والتكذيب، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار، وتقديم المفعول على ما قرره بعض الأفاضل لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجبا للقصر كابن الأثير فيما قيل وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بيان لحسن حال المؤمنين والمؤمنات حالا ومالا بعد بيان حال أضدادهم عاجلا وآجلا، وقوله سبحانه: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يقابل قوله تعالى فيما مر: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وتغيير الأسلوب للإشارة إلى تناصرهم وتعاضدهم بخلاف أولئك وقوله عز وجل: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ظاهر المقابلة «ليأمرون بالمنكر» إلخ الكلام في المنكر والمعروف معروف، وقوله جل وعلا: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ في مقابلة نَسُوا اللَّهَ وقوله تعالى جده: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ في مقابلة يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ وقوله تبارك وتعالى: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في سائر الأمور في مقابلة وصف المنافقين بكمال الفسق والخروج عن الطاعة، وقيل: هو في مقابلة نَسُوا اللَّهَ، وقوله سبحانه: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ زيادة مدح، وقوله تعالى شأنه: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ في مقابلة فَنَسِيَهُمْ المفسر بمنع لطفه ورحمته سبحانه، وقيل: في مقابلة أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ لأنه بمعنى المتقين المرحومين، والإشارة إلى المؤمنين والمؤمنات باعتبار اتصافهم بما سلف من الصفات الجليلة، والإتيان بما يدل على البعد لما مر غير مرة.
والسين على ما قال الزمخشري وتبعه غير واحد لتأكيد الوعد وهي كما تفيد ذلك تفيد تأكيد الوعيد، ونظر فيه صاحب التقريب ووجه ذلك بأن السين في الإثبات في مقابلة لن في النفي فتكون بهذا الاعتبار تأكيدا لما دخلت عليه ولا فرق في ذلك بين أن يكون وعدا أو وعيدا أو غيرهما. وقال العلامة ابن حجر: ما زعمه الزمخشري من أن السين تفيد القطع بمدخولها مردود بأن القطع إنما فهم من المقام لا من الوضع وهو توطئة لمذهبه الفاسد في تحتم الجزاء ومن غفل عن هذه الدسيسة وجهه، وتعقبه الفهامة ابن قاسم بأن هذا لا وجه له لأنه أمر نقلي لا يدفعه ما ذكر ونسبه الغفلة للأئمة إنما أوجبه حب الاعتراض، وحينئذ فالمعنى أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة يرحمهم الله تعالى لا محالة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ قوي قادر على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريده حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها ومن ذلك النعمة والنقمة والجملة تعليل للوعد، وقوله تعالى:
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها في مقابلة الوعيد السابق للمنافقين المعبر عنه بالوعد تهكما كما مر، ويفهم من كلام البعض أن قوله سبحانه: سَيَرْحَمُهُمُ بيان لإفاضة آثار الرحمة الدنيوية من التأييد والنصر وهذا تفصيل لآثار رحمته سبحانه الأخروية، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير
والاشعار بعلية الإيمان لما تعلق به الوعد، ولم يضم إليه باقي الأوصاف للإيذان بأنه من لوازمه ومستتبعاته، والكلام في- خالدين- هنا كالكلام فيما مر وَمَساكِنَ طَيِّبَةً أي تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش فالإسناد إما حقيقي أو مجازي.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال: سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن تفسير وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فقالا: على الخبير سقطت سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة في كل مائدة سبعون لونا من كل طعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة فيعطى المؤمن من القوة في كل غداة ما يأتي على ذلك كله»
فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ قيل: هو علم لمكان مخصوص بدليل قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ [مريم: 61] حيث وصف فيه بالمعرفة، ولما
أخرجه البزار والدارقطني في المختلف والمؤتلف. وابن مردويه من حديث أبي الدرداء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عدن دار الله تعالى لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون والصديقون والشهداء يقول الله سبحانه طوبى لمن دخلك»
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وعن ابن مسعود أنها بطنان الجنة وسرتها. وقال عطاء بن السائب: عدن نهر في الجنة جناته على حافاته. وقيل: العدن في الأصل الاستقرار والثبات ويقال: عدن بالمكان إذا أقام. والمراد به هنا الإقامة على وجه الخلود لأنه الفرد الكامل المناسب لمقام المدح أي في جنات إقامة وخلود، وعلى هذا الجنات كلها جنات عدن لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا [الكهف: 108] والتغاير بين المساكن والجنات المشعر به العطف إما ذاتي بناء على أن يراد بالجنات غير عدن وهي لعامة المؤمنين وعدن للنبيين عليهم الصلاة والسلام والصديقين والشهداء أو يراد بها البساتين أنفسها وهي غير المساكن كما هو ظاهر، فالوعد حينئذ صريحا بشيئين البساتين والمساكن فلكل أحد جنة ومسكن وإما تغاير وصفي فيكون كل منهما عاما ولكن الأول باعتبار اشتمالها على الأنهار والبساتين والثاني لا بهذا الاعتبار، وكأنه وصف ما وعدوا به أولا بأنه من جنس ما هو أشرف الأماكن المعروف عندهم من الجنات ذات الأنهار الجارية لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا تكاد تخلو عنها أماكن الدنيا وأهلها وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ثم وصف بأنه دار إقامة بلا ارتحال وثبات بلا زوال ولا يعد هذا تكرارا لقوله سبحانه: خالِدِينَ فِيها كما لا يخفى ثم وعدهم جل شأنه كما يفهم من الكلام هو ما أجل وأعلى من ذلك كله بقوله تبارك وتعالى:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أي وقدر يسير من رضوانه سبحانه أَكْبَرُ ولقصد إفادة ذلك عدل عن رضوان الله الأخصر إلى ما في النظم الجليل، وقيل: إفادة العدول كون ما ذكر أظهر في توجه الرضوان إليهم، ولعله إنما لم يعبر بالرضا تعظيما لشأن الله تعالى في نفسه لأن في الرضوان من المبالغة ما لا يخفى ولذلك لم يستعمل في القرآن إلا في رضاء الله سبحانه، وإنما كان ذلك أكبر لأنه مبدأ لحلول دار الإقامة ووصول كل سعادة وكرامة وهو غاية أرب المحبين ومنتهى أمنية الراغبين.
وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول لأهل الجنة:
يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك يا ربنا؟
فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا»
ولعل عدم عدم نظم هذا الرضوان في سلك الوعد على طرز ما تقدم مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موجود ولأنه مستمر في الدارين ذلِكَ أي جميع ما ذكر هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ دون ما يعده الناس فوزا من حظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظر عن فنائها وتغيرها وتنغصها بالآلام ليست بالنسبة إلى أدنى شيء من نعيم الآخرة إلا بمثابة جناح البعوض،
وفي الحديث «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء»
ولله در من قال:
تالله لو كانت الدنيا بأجمعها
…
تبقى علينا وما من رزقها رغدا
ما كان من حق حر أن يذل بها
…
فكيف وهي متاع يضحمل غدا
وجوز أن تكون الإشارة إلى الرضوان فهو فوز عظيم يستحقر عنده نعيم الدنيا وحظوظها أيضا أو الدنيا ونعيمها والجنة وما فيها، وعلى الاحتمالين لا ينافي قوله سبحانه: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 89] فقد فسر فيه- العظيم- بما يستحقر عنده نعيم الدنيا فتدبر.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ظاهره يقتضي مقاتلة المنافقين وهم غير مظهرين للكفر ولا نحكم بالظاهر لأنا نحكم بالظاهر كما في الخبر ولذا فسر ابن عباس والسدي ومجاهد جهاد الأولين بالسيف والآخرين باللسان وذلك بنحو الوعظ وإلزام الحجة بناء على أن الجهاد بذل الجهد في دفع ما لا يرضى وهو أعم من أن يكون بالقتال أو بغيره فإن كان حقيقة فظاهر وإلا حمل على عموم المجاز. وروي عن الحسن وقتادة أن جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم. واستشكل بأن إقامتها واجبة على غيرهم أيضا فلا يختص ذلك بهم. وأشار في الأحكام إلى دفعه بأن أسباب الحد في زمنه صلى الله عليه وسلم أكثر ما صدرت عنهم، وأما القول بأن المنافق بمعنى الفاسق عند الحسن فغير حسن.
وروي- والعهدة على الراوي- أن قراءة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم «جاهد الكفار بالمنافقين»
والظاهر أنها لم تثبت ولم يروها إلا الشيعة وهم بيت الكذب وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي على الفريقين في الجهاد بقسميه ولا ترفق بهم.
عن عطاء نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ استئناف لبيان آجل أمرهم إثر بيان عاجله.
وذكر أبو البقاء في هذه ثلاثة أوجه: أحدها أنها واو الحال والتقدير افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنم وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم، والثاني أنها جيء بها تنبيها على إرادة فعل محذوف أي واعلم أن مأواهم جهنم، والثالث أن الكلام محمول على المعنى وهو أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة وعذاب الآخرة بجعل جهنم مأواهم وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تذييل لما قبله والمخصوص بالذم محذوف أي مصيره يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا استئناف لبيان ما صدر منهم من الجرائم الموجبة لما مر.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهيني فقال عبد الله بن أبي للأوس انصروا أخاكم والله ما مثلنا ومثل محمد صلى الله عليه وسلم وحاشاه مما يقول هذا المنافق إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فجعل يحلف بالله تعالى ما قاله فنزلت. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال: لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين قال الجلاس (1) بن سويد: والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير فسمعهما عمير بن سعد فقال: والله يا
(1) بوزن غراب اهـ منه
جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم عندي أثرا ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن سكت عنها لتهلكني ولإحداهما أشد علي من الأخرى فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس فحلف بالله تعالى ما قال ولقد كذب عليّ عمير فنزلت.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين أنها لما نزلت أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذن عمير فقال: وفت أذنك يا غلام وصدقك ربك وكان يدعو حين حلف الجلاس اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب.
وأخرج عن عروة أن الجلاس تاب بعد نزولها وقبل منه.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاء فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟
فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله تعالى ما قالوا حتى تجاوز عنهم وأنزل الله تعالى الآية،
وإسناد الحلف إلى ضمير الجمع على هذه الرواية ظاهر وأما على الروايتين الأوليين فقيل: لأنهم رضوا بذلك واتفقوا عليه فهو من إسناد الفعل إلى سببه أو لأنه جعل الكلام لرضاهم به كأنهم فعلوه ولا حاجة إلى عموم المجاز لأن الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز في المجاز العقلي وليس محلا للخلاف، وإيثار صيغة الاستقبال في يَحْلِفُونَ على سائر الروايات لاستحضار الصورة أو للدلالة على تكرير الفعل وهو قائم مقام القسم، وما قالُوا جوابه وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ هي ما حكي من قولهم والله ما مثلنا إلخ أو والله لئن كان هذا الرجل صادقا إلخ أو الشتم الذي وبخ عليه عليه الصلاة والسلام، والجملة مع ما عطف عليها اعتراض وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أظهروا ما في قلوبهم من الكفر بعد إظهار الإسلام وإلا فكفرهم الباطن كان ثابتا قبل والإسلام الحقيقي لا وجود له وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا من الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من غزوة تبوك.
أخرج البيهقي في الدلائل عن حذيفة بن اليمان قال كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به وعمار يسوق أو أنا أسوق وعمار يقود حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوا فيها فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ بهم فولوا مدبرين فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عرفتم القوم؟ قلنا: لا يا رسول الله كانوا متلثمين ولكن قد عرفنا الركاب قال: هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة. هل تدرون ما أرادوا؟ قلنا: لا. قال: أرادوا أن يزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة فيلقوه منها قلنا: يا رسول الله أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث لك كل قوم برأس صاحبهم قال:
أكره أن يتحدث العرب عنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم يقتلهم، ثم قال: اللهم ارمهم بالدبيلة، قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك وكانوا كلهم كما أخرج ابن سعد عن نافع بن جبير من الأنصار أو من حلفائهم ليس فيهم قرشي، ونقل الطبرسي عن الباقر رضي الله تعالى عنه أن ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب لا يعول عليه.
وقد ذكر البيهقي من رواية ابن إسحاق أسماءهم وعد منهم الجلاس بن سويد، ويشكل عليه رواية أنه تاب وحسنت توبته مع
قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر «هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة»
إلا أن يقال: إن ذلك باعتبار الغالب، وقيل: المراد بالموصول إخراج المؤمنين من المدينة على ما تضمنه الخبر المار عن قتادة، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي وأبو الشيخ عنه وعن أبي صالح أنهم أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي بتاج ويجعلوه حكما ورئيسا بينهم وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: أرادوا أن يقتلوا عميرا لرده على الجلاس كما مر.
وَما نَقَمُوا أي ما كرهوا وعابوا شيئا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فالاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي وما نقموا الإيمان لأجل شيء إلا لإغناء الله تعالى إياهم فيكون الاستثناء مفرغا من أعم العلل وهو على حد
قولهم: ما لي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك، وقوله:
ما نقم الناس من أمية إلا
…
أنهم يحلمون إن غضبوا (1)
وهو متصل على ادعاء دخوله بناء على القول بأن الاستثناء المفرغ لا يكون منقطعا، وفيه تهكم وتأكيد الشيء بخلافه كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم البيت، وأصل النقمة كما قال الراغب الإنكار باللسان والعقوبة والأمر على الأول ظاهر وأما على الثاني فيحتاج إلى ارتكاب المجاز بأن يراد وجدان ما يورث النقمة ويقتضيه، وضمير أَغْناهُمُ للمنافقين على ما هو الظاهر، وكان إغناؤهم بأخذ الدية،
فقد روي أنه كان للجلاس مولى قتل وقد غلب على ديته فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها اثني عشر ألفا فأخذها واستغنى،
وعن قتادة أن الدية كانت لعبد الله بن أبي وزيادة الألفين كانت على عادتهم في الزيادة على الدية تكرما وكانوا يسمونها شنقا كما في الصحاح.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال: كان جلاس تحمل حمالة أو كان عليه دين فأدى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وذلك قوله سبحانه: وَما نَقَمُوا الآية، ولا يخفى أن الإغناء على الأول أظهر، وقيل: كان إغناؤهم بما من الله تعالى به من الغنائم فقد كانوا كما قال الكلبي قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة محاويج في ضنك من العيش فلما قدم عليه الصلاة والسلام أثروا بها، والضمير على هذا يجوز أن يكون للمؤمنين فيكون الكلام متضمنا ذم المنافقين بالحسد كما أنه على الأول متضمن لذمهم بالكفر وترك الشكر، وتوحيد ضمير فضله لا يخفى وجهه فَإِنْ يَتُوبُوا عمّا هم عليه من القبائح يَكُ أي التوب، وقيل: أي التوبة ويغتفر مثل ذلك في المصادر.
وقد يقال: التذكير باعتبار الخبر أعني قوله سبحانه: خَيْراً لَهُمْ أي في الدارين، وهذه الآية على ما في بعض الروايات كانت سببا لتوبته وحسن إسلامه لطفا من الله تعالى به وكرما وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أي استمروا على ما كانوا عليه من التولي والإعراض عن إخلاص الإيمان أو أعرضوا عن التوبة.
يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بمتاعب النفاق وسوء الذكر ونحو ذلك، وقيل: المراد بعذاب الدنيا عذاب القبر أو ما يشاهدونه عند الموت، وقيل: المراد به القتل ونحوه على معنى أنهم يقتلون إن أظهروا الكفر بناء على أن التولي مظنة الإظهار فلا ينافي ما تقدم من أنهم لا يقتلون وأن الجهاد في حقهم غير ما هو المتبادر.
وَالْآخِرَةِ وعذابهم فيها بالنار وغيرها من أفانين العقاب وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي في الدنيا، والتعبير بذلك للتعميم أي ما لهم في جميع بقاعها وسائر أقطارها مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة، وخص ذلك في الدنيا لأنه لا ولي ولا نصير لهم في الآخرة قطعا فلا حاجة لنفيه.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ إلخ فيه إشارة إلى علو مقامه صلى الله عليه وسلم ورفعة شأنه على سائر الأحباب حيث آذنه بالعفو قبل العتاب، ولو قال له: لم أذنت لهم عفى الله عنك لذاب، وعبر سبحانه بالماضي المشير إلى سبق الاصطفاء لئلا يوحشه عليه الصلاة والسلام الانتظار ويشتغل قلبه الشريف باستمطار العفو من سحاب ذلك الوعد المدرار، وانظر كم بين عتابه جل شأنه لحبيبه عليه الصلاة والسلام على الإذن لأولئك المنافقين وبين رده تعالى على نوح عليه السلام قوله: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود: 45] بقوله سبحانه: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 46] إلى قوله تبارك وتعالى: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 46] ومن ذلك يعلم
(1) نسخة ما نقموا من بني أمية إلخ اهـ منه
الفرق- وهو لعمري غير خفي- بين مقام الحبيب ورتبة الصفي، وقد قيل: إن المحب يعتذر عن حبيبه ولا ينقصه عنده كلام معيبه، وأنشد:
ما حطك الواشون عن رتبة
…
كلا وما ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا ولم يعلموا
…
عليك عندي بالذي عابوا
وقال الآخر:
في وجهه شافع يمحو إساءته
…
عن القلوب ويأتي بالمعاذير
وقال:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد
…
جاءت محاسنه بألف شفيع
وقوله سبحانه: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فيه إشارة إلى أن المؤمن إذا سمع بخبر خير طار إليه وأتاه ولو مشيا على رأسه ويديه ولا يفتح فيه فاه بالاستئذان، وهل يستأذن في شرب الماء ظمآن؟.
وقال الواسطي: إن المؤمن الكامل مأذون في سائر أحواله إن قام قام بإذن وإن قعد قعد بإذن وإن لله سبحانه عبادا به يقومون وبه يقعدون، ومن شأن المحبة امتثال أمر المحبوب كيفما كان:
لو قال تيها قف على جمر الغضى
…
لوقفت ممتثلا ولم أتوقف
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إلخ أي إنما يستأذنك المنافقون رجاء أن لا تأذن لهم بالخروج فيستريحوا من نصب الجهاد وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً فقد قيل:
لو صح منك الهوى أرشدت للحيل وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ إشارة إلى خذلانهم لسوء استعدادهم وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ لأن الأخلاق السيئة والأعمال القبيحة محيطة بهم وهي النار بعينها غاية الأمر أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة الأخلاق والأعمال وستظهر في النشأة الأخرى بالصورة الأخرى، وقوله تعالى: وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى فيه إشارة إلى حرمانهم لذة طعم العبودية واحتجابهم عن مشاهدة جمال معبودهم وأنهم لم يعلموا أن المصلي يناجي ربه وأن الصلاة معراج العبد إلى مولاه، ومن هنا
قال صلى الله عليه وسلم «وجعلت قرة عيني في الصلاة» .
وقال محمد بن الفضل: من لم يعرف الآمر قام إلى الأمر على حد الكسل ومن عرف الآمر قام إلى الأمر على حد الاستغنام والاسترواح، ولذا
كان عليه الصلاة والسلام يقول لبلال: «أرحنا يا بلال»
وقوله تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ فيه تحذير للمؤمنين أن يستحسنوا ما مع أهل الدنيا من الأموال والزينة فيحتجبوا بذلك عن عمل الآخرة ورؤيتها، وقد ذكروا أن الناظر إلى الدنيا بعين الاستحسان من حيث الشهوة والنفس والهوى يسقط في ساعته عن مشاهدة أسرار الملكوت وأنوار الجبروت، وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلخ فيه ارشاد إلى آداب الصادقين والعارفين والمريدين، وعلامة الراضي النشاط بما استقبله من الله تعالى والتلذذ بالبلاء، فكل ما فعل المحبوب محبوب.
رئي أعمى أقطع مطروح على التراب يحمد الله تعالى ويشكره، فقيل له في ذلك فقال: وعزته وجلاله لو قطعني إربا إربا ما ازددت له إلا حبا، ولله تعالى در من قال:
أنا راض بالذي ترضونه
…
لكم المنة عفوا وانتقاما
ثم إنه سبحانه قسم جوائز فضله على ثمانية أصناف من عباده فقال سبحانه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ إلخ، والفقراء في قول المتجردون بقلوبهم وأبدانهم عن الكونين وَالْمَساكِينِ هم الذين سكنوا إلى جمال الأنس ونور
القدس حاضرين في العبودية بنفوسهم غائبين في أنوار الربوبية بقلوبهم فمن رآهم ظنهم بلا قلوب ولم يدر أنها تسرح في رياض جمال المحبوب، وأنشد:
مساكين أهل العشق ضاعت قلوبهم
…
فهم أنفس عاشوا بغير قلوب
والْعامِلِينَ هم أهل التمكين من العارفين وأهل الاستقامة من الموحدين الذين وقعوا في نور البقاء فأورثهم البسط والانبساط، فيأخذون منه سبحانه ويعطون له، وهم خزان خزائن جوده المنفقون على أوليائه، قلوبهم معلقة بالله سبحانه لا بغيره من العرش إلى الثرى وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ هم المريدون السالكون طريق محبته تعالى برقة قلوبهم وصفاء نياتهم وبذلوا مهجهم في سوق شوقه وهم عند الأقوياء ضعفاء الأحوال وَفِي الرِّقابِ هم الذين رهنت قلوبهم بلذة محبة الله تعالى وبقيت نفوسهم في المجاهدة في طريقه سبحانه لم يبلغوا بالكلية إلى الشهود فتارة تراهم في لجج بحر الإرادة، وأخرى في سواحل بحر القرب، وطورا هدف سهام القهر، ومرة مشرق أنوار اللطف ولا يصلون إلى الحقيقة ما دام عليهم بقية من المجاهدة والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم والأحرار ما وراء ذلك وقليل ما هم.
أتمنى على الزمان محالا
…
أن ترى مقلتاي طلعة حر
وَالْغارِمِينَ هم الذين ما قضوا حقوق معارفهم في العبودية وما أدركوا في إيقانهم حقائق الربوبية والمعرفة غريم لا يقضي دينه وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ هم المحاربون نفوسهم بالمجاهدات والمرابطون بقلوبهم في شهود الغيب لكشف المشاهدات وَابْنِ السَّبِيلِ هم المسافرون بقلوبهم في بوادي الأزل وبأرواحهم في قفار الأبد وبعقولهم في طرق الآيات وبنفوسهم في طلب أهل الولاية فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ على أهل الإيمان أن يعطوا هؤلاء الأصناف من مال الله سبحانه لدفع احتياجهم الطبيعي وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال هؤلاء وغيبتهم عن الدنيا حَكِيمٌ حيث أوجب لهم ما أوجب، ومن الناس من فسر هذه الأصناف بغير ما ذكر ولا أرى التفاسير بأسرها متكلفة بالجمع والمنع وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ عابوه عليه الصلاة والسلام وحاشاه من العيب بسلامة القلب وسرعة القبول والتصديق لما يسمع، فصدقهم جل شأنه ورد عليهم بقوله سبحانه: قُلْ هو أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي هو كذلك لكن بالنسبة إلى الخير، وهذا من غاية المدح فإن النفس القدسية الخيرية تتأثر بما يناسبها، أي إنه عليه الصلاة والسلام يسمع ما ينفعكم وما فيه صلاحكم دون غيره، ثم بين ذلك بقوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إلخ، وقد غرهم- قاتلهم الله تعالى حتى قالوا ما قالوا- كرم النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يشافههم برد ما يقولون رحمة منه بهم، وهو عليه الصلاة والسلام الرحمة الواسعة، وعن بعضهم أنه سئل عن العاقل فقال: الفطن المتغافل وأنشد:
وإذا الكريم أتيته بخديعة
…
فرأيته فيما تروم يسارع
فاعلم بأنك لم تخادع جاهلا
…
إن الكريم لفضله متخادع
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي هم متشابهون في القبح والرداءة وسوء الاستعداد يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ أي يبخلون أو يبغضون المؤمنين فهو إشارة إلى معنى قوله سبحانه: وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران: 119] أو لا ينصرون المؤمنين أو لا يخشون لربهم ويرفعون أيديهم في الدعوات نَسُوا اللَّهَ لاحتجابهم بما هم فيه فَنَسِيَهُمْ من رحمته وفضله وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ وهو عذاب الاحتجاب بالسوى وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ هي جنات النفوس وَمَساكِنَ طَيِّبَةً مقامات أرباب التوكل في جنات الأفعال وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ إشارة إلى
جنات الصفات ذلِكَ أي الرضوان هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لكرامة أهله عند الله تعالى وشدة قربهم ولا بأس بإبقاء الكلام على ظاهره ويكون في قوله سبحانه: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً إشارة إلى الرؤية فإن المحب لا تطيب له الدار من غير رؤية محبوبه:
أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم
…
إذا غبتم عنها ونحن حضور
ولكون الرضوان هو المدار لكل خير وسعادة والمناط لكل شرف وسيادة كان أكبر من هاتيك الجنات والمساكن.
إذا كنت عني يا منى القلب راضيا
…
أرى كل من في الكون لي يتبسم
نسأل الله رضوانه وأن يسكننا جنانه وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ بيان لقبائح بعض آخر من المنافقين، والآية نزلت في ثعلبة بن حاطب ويقال له ابن أبي حاطب وهو من بني أمية بن زيد، وليس هو البدري لأنه قد استشهد بأحد رضي الله تعالى عنه.
أخرج الطبراني والبيهقي في الدلائل وابن المنذر وغيرهم عن أبي أمامة الباهلي قال: جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يرزقني مالا. فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك يا ثعلبة أما تحب أن تكون مثلي فلو شئت أن يسير الله تعالى ربي هذه الجبال معي ذهبا لسارت. قال: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يرزقني مالا فو الذي بعثك بالحق إن آتاني الله سبحانه مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تطيق شكره خير من كثير لا تطيقه. قال: يا رسول الله ادع الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزقه مالا فاتخذ غنما فبورك له فيها ونمت كما ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشهدها بالليل ثم نمت كما ينمو الدود فضاق به مكانه فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشهدها بالليل ثم نمت كما ينمو الدود فتنحى وكان لا يشهد الصلاة بالليل ولا بالنهار إلا من جمعة إلى جمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نمت كما ينمو الدود فضاق به مكانه فتنحى بها فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يتلقى الركبان ويسألهم عن الاخبار وفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فأخبروه أنه اشترى غنما وأن المدينة ضاقت به فقال عليه الصلاة والسلام: ويح ثعلبة بن حاطب ويح ثعلبة بن حاطب. ثم إن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الصدقات وأنزل خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [التوبة: 103] الآية فبعث رجلين رجلا من جهينة ورجلا من بني سلمة يأخذان الصدقات وكتب لهما أسنان الإبل والغنم وكيف يأخذانها وأمرهما أن يمرا على ثعلبة ورجل من بني سليم فخرجا فمرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال: أرياني كتابكما؟ فنظر فيه فقال: ما هذا إلا جزية انطلقا حتى تفرغا ثم مرا بي فانطلقا وسمع بهما السليمي فاستقبلهما بخيار إبله فقالا: إنما عليك دون هذا فقال: ما كنت أتقرب إلى الله تعالى إلا بخير مالي فقبلا فلما فرغا مرا بثعلبة فقال: أرياني كتابكما؟ فنظر فيه فقال: ما هذا إلا جزية انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى قدما المدينة فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يكلمهما: ويح ثعلبة بن حاطب ودعا للسليمي بالبركة وأنزل الله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ الآيات الثلاث فسمع بعض من أقاربه فأتاه فقال: ويحك يا ثعلبة أنزل فيك كذا وكذا فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه صدقة مالي. فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله قد منعني أن أقبل منك فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك بنفسك أمرتك فلم تطعني فلم يقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى، ثم أتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا بكر اقبل مني صدقتي فقد عرفت منزلتي من الأنصار. فقال أبو بكر: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلها فلم يقبلها أبو بكر، ثم ولي عمر رضي الله تعالى
عنه فأتاه فقال: يا أبا حفص يا أمير المؤمنين اقبل من صدقتي فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر أقبلها أنا فأبى أن يقبلها، ثم ولي عثمان رضي الله تعالى عنه فلم يقبلها منه وهلك في خلافته.
وفي بعض الروايات أن ثعلبة هذا كان قبل ذلك ملازما لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم حتى لقب حمامة المسجد ثم رآه النبي صلى الله عليه وسلم يسرع الخروج منه عقيب الصلاة فقال عليه الصلاة والسلام له: ما لك تعمل عمل المنافقين؟ فقال: إني افتقرت ولي ولامرأتي ثوب واحد أجيء به للصلاة ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي به فادع الله تعالى أن يوسع علي رزقي إلى آخر ما في الخبر.
والظاهر أن منع الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام عن القبول منه كان بوحي منه تعالى له بأنه منافق والصدقة لا تؤخذ منهم وإن لم يقتلوا لعدم الإظهار، وحثوه للتراب ليس للتوبة من نفاقه بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين.
ومعنى هذا عملك هذا جزاء عملك وما قلته، وقيل: المراد بعمله طلبه زيادة رزقه وهذا إشارة إلى المنع أي هو عاقبة عملك، وقيل: المراد بالعمل عدم إعطائه للمصدقين. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ثعلبة أتى مجلسا من مجالس الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله تعالى من فضله تصدقت منه وآتيت كل ذي حق حقه فمات ابن عم له فورث منه مالا فلم يف بما عاهد الله تعالى عليه فأنزل الله تعالى فيه هذه الآيات. وقال الحسن: إنها نزلت في ثعلبة ومعتب بن قشير خرجا على ملأ قعود فحلفا بالله تعالى لئن آتانا من فضله لنصدقن فلما آتاهما بخلا. وقال السائب: إن حاطب بن أبي بلتعة كان له مال بالشام فأبطأ عليه فجهد لذلك جهدا شديدا فحلف بالله لئن آتانا الله من فضله- يعني ذلك المال- لأصدقن ولأصلن فلما آتاه ذلك لم يف بما عاهد الله تعالى عليه وحكي ذلك عن الكلبي، والأول أشهر وهو الصحيح في سبب النزول، والمراد بالتصديق قيل: إعطاء الزكاة الواجبة وما بعده إشارة إلى فعل سائر أعمال البر من صلة الأرحام ونحوها. وقيل: المراد بالتصديق إعطاء الزكاة وغيرها من الصدقات وما بعده إشارة إلى الحج على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو إلى ما يعمه والنفقة في الغزو كما قيل. وقرىء «لنصدقن ولنكونن» بالنون الخفيفة فيهما.
فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ أي منعوا حق الله تعالى منه وَتَوَلَّوْا أي أعرضوا عن طاعة الله سبحانه وَهُمْ مُعْرِضُونَ أي وهم قوم عادتهم الإعراض عن الطاعات فلا ينكر منهم هذا، والجملة مستأنفة أو حالية والاستمرار المقتضي للتقدم لا ينافي ذلك، والمراد على ما قيل: تولوا بإجرامهم وهم معرضون بقلوبهم فَأَعْقَبَهُمْ أي جعل الله تعالى عاقبة فعلهم ذلك نِفاقاً أي سوء عقيدة وكفرا مضمرا. فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي الله تعالى، والمراد بذلك اليوم وقت الموت، فالضمير المستتر في أعقب لله تعالى وكذا الضمير المنصوب في يَلْقَوْنَهُ، والكلام على حذف مضاف، والمراد بالنفاق بعض معناه وتمامه إظهار الإسلام وإضمار الكفر، وليس بمراد كما أشرنا إلى ذلك كله، ونقل الزمخشري عن الحسن وقتادة أن الضمير الأول للبخل وهو خلاف الظاهر بل قال بعض المحققين: إنه يأباه قوله تعالى:
بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ إذ ليس لقولنا أعقبهم البخل نفاقا بسبب إخلافهم إلخ كثير معنى، ولا يتصور على ما قيل أن يعلل النفاق بالبخل أولا ثم يعلل بأمرين غيره بغير عطف، ألا ترى لو قلت: حملني على إكرام زيد علمه لأجل أنه شجاع وجواد كان خلفا حتى تقول حملني على إكرام زيد علمه وشجاعته وجوده.
وقال الإمام: ولأن غاية البخل ترك بعض الواجبات وهو لا يوجب حصول النفاق الذي هو كفر وجهل في القلب كما في حق كثير من الفساق، وكون هذا البخل بخصوصه يعقب النفاق والكفر لما فيه من عدم إطاعة الله
تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وخلف وعده كما قيل لا يقتضي الأرجحية بل الصحة ولعلها لا تنكر، واختيار الزمخشري كان لنزعة اعتزالية هي أنه تعالى لا يقضي بالنفاق ولا يخلقه لقاعدة التحسين والتقبيح، وجوز أن يكون الضمير المنصوب للبخل أيضا، والمراد باليوم يوم القيامة، وهناك مضاف محذوف أي يلقون جزاءه وما مصدرية.
والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للإيذان بالاستمرار أي بسبب اخلافهم ما وعدوه تعالى من التصدق والصلاح وبسبب كونهم مستمرين على الكذب في جميع المقالات التي من جملتها وعدهم المذكور، وقيل: المراد كذبهم فيما تضمنه خلف الوعد فإن الوعد وإن كان إنشاء لكنه متضمن للخبر فإذا تخلف كان قبيحا من وجهين الخلف والكذب الضمني، وفيه نظر لأن تخصيص الكذب بذلك يؤدي إلى تخلية الجمع بين الصيغتين عن المزية، وقد اشتملت الآية على خصلتين من خصال المنافقين،
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان»
ويستفاد من الصحاح آية أخرى له «إذا خاصم فجر» . واستشكل ذلك بأن الخصال قد توجد في المسلم الذي لا شك فيه ولا شبهة تعتريه بل كثير من علمائنا اليوم متصفون بأكثرها أو بها كلها، وأجيب بأن المعنى أن هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها يشبه المنافقين في التخلق بها، والمراد
بقوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات الصحيحة «أربع من كن فيه منافقا خالصا»
أنه كان شديد الشبه بالمنافقين لا أنه كان منافقا حقيقة.
وقيل: إن الأخبار الواردة في هذا الباب إنما هي فيمن كانت تلك الخصال غالبة عليه غير مكترث بها ولا نادم على ارتكابها ومثله لا يبعد أن يكون منافقا حقيقة، وقيل: هي في المنافقين الذين كانوا في زمنه عليه الصلاة والسلام فإنهم حدثوا في أيمانهم فكذبوا واؤتمنوا على دينهم فخانوا ووعدوا في النصرة للحق فأخلفوا أو خاصموا ففجروا، وروي هذا عن ابن عباس وابن عمر، وهو قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح، وإليه رجع الحسن بعد أن كان على خلافه، قال القاضي عياض: وإليه مال أكثر أئمتنا، وقيل: كان ذلك في رجل بعينه وهو خارج مخرج
قوله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يفعلون كذا»
لأناس مخصوصين منعه كرمه عليه الصلاة والسلام أن يواجههم بصريح القول، وحكى الخطابي عن بعضهم أن المقصود من الإخبار تحذير المسلم أن يعتاد هذه الخصال ولعله راجع إلى ما أجيب به أولا، وبالجملة يجب على المؤمن اجتناب هذه الخصال فإنها في غاية القبح عند ذوي الكمال.
مساو لو قسمن على الغواني
…
لما أمهرن إلا بالطلاق
وقرىء «يكذّبون» بتشديد الذال أَلَمْ يَعْلَمُوا أي المنافقون أو من عاهد الله تعالى،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ بالتاء على أنه خطاب للمؤمنين،
وقيل: للأولين على الالتفات ويأباه قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وجعله التفاتا آخر تكلف، والمراد من السر على تقدير أن يكون الضمير للمنافقين ما أسروه في أنفسهم من النفاق ومن النجوى ما يتناجون به من المطاعن، وعلى التقدير الآخر المراد من الأول العزم على الإخلاف ومن الثاني تسمية الزكاة جزية، وتقديم السر على النجوى لأن العلم به أعظم في الشاهد من العلم بها مع ما في تقديمه وتعليق العلم به من تعجيل إدخال الروعة أو السرور على اختلاف القراءتين وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ينفعك هنا أيضا وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فلا يخفى عليه سبحانه شيء من الأشياء. والهمزة إما للإنكار والتوبيخ والتهديد أي ألم يعلموا ذلك حتى اجترءوا على ما اجترءوا عليه من العظائم أو للتقرير والتنبيه على أن الله سبحانه مؤاخذهم ومجازيهم بما علم من أعمالهم، وإظهار الاسم الجليل لإلقاء الروعة وتربية المهابة أو لتعظيم أمر المؤاخذة والمجازاة، وفي إيراد العلم المتعلق بسرهم ونجواهم الحادثين شيئا فشيئا بصيغة الفعل الدال على الحدوث والتجدد والعلم المتعلق بالغيوب
الكثيرة بصيغة الاسم الدال على الدوام والمبالغة من الفخامة والجزالة ما لا يخفى الَّذِينَ يَلْمِزُونَ مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين وقيل: أي منهم الذين، وقيل: مبتدأ خبره فَيَسْخَرُونَ والفاء لما في الموصول من شبه الشرط أو سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أو منصوب بفعل محذوف أعني- أعني- أو أذم أو مجرور على البدلية من ضمير سِرَّهُمْ على أنه للمنافقين مطلقا. وقرىء بضم الميم وهو لغة كما علمت أي يعيبون الْمُطَّوِّعِينَ أي المتطوعين، والمراد بهم من يعطي تطوعا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حال من الضمير، وقوله سبحانه: فِي الصَّدَقاتِ متعلق بيلمزون، ولا يجوز كما قال أبو البقاء تعلقه بالمطوعين للفصل،
أخرج البغوي في معجمه وأبو الشيخ عن الحسن قال «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما للناس فقال: يا أيها الناس تصدقوا يا أيها الناس تصدقوا أشهد لكم بها يوم القيامة ألا لعل أحدكم أن يبيت فصاله رواء وابن له طاو إلى جنبه ألا لعل أحدكم أن يثمر ماله وجاره مسكين لا يقدر على شيء ألا رجل منح ناقة من إبله يغدو برفد ويروح برفد يغدو بصبوح أهل بيته ويروح بغبوقهم ألا إن أجرها لعظيم فقام رجل فقال:
يا رسول الله عندي أبعرة عندي أربعة ذود فقام آخر قصير القامة قبيح الشبه يقود ناقة له حسناء جملاء فقال له رجل من المنافقين كلمة خفية لا يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعها ناقته خير منه فسمعها عليه الصلاة والسلام فقال: كذبت هو خير منك ومنها، ثم قام عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله عندي ثمانية آلاف تركت منها أربعة لعيالي وجئت بأربعة أقدمها إلى الله تعالى فتكاثر المنافقون ما جاء به ثم قام عاصم بن عدي الأنصاري فقال: يا رسول الله عندي سبعون وسقا من تمر فتكاثر المنافقون ما جاء به وقالوا: جاء هذا بأربعة آلاف وجاء هذا بسبعين وسقا للرياء والسمعة فهلا أخفياها فهلا فرقاها، ثم قام رجل من الأنصار اسمه الحبحاب يكنى أبا عقيل فقال: يا رسول الله ما لي من مال غير أني آجرت نفسي البارحة من بني فلان أجر الجرير في عنقي على صاعين من تمر فتركت صاعا لعيالي وجئت بصاع أقربه إلى الله تعالى فلمزه المنافقون وقالوا: جاء أهل الإبل بالإبل وجاء أهل الفضة بالفضة وجاء هذا بتميرات يحملها فأنزل الله تعالى الآية،
ولم يبين الآلاف التي ذكرها عبد الرحمن في هذه الرواية وكانت على ما
أخرجه ابن المنذر عن مجاهد- دنانير- وفي رواية أنها دراهم، وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن عبد الرحمن جاء بأربعمائة أوقية من ذهب وهي نصف ما كان عنده وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك له فيما أعطى وبارك له فيما أمسك، وجاء في رواية الطبراني أن الله بارك حتى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم،
وفي الكشاف وعزاه الطيبي للاستيعاب أن زوجته تماضر صولحت عن ربع الثمن على ثمانين ألفا، فعلى الأول يكون له زوجتان وعلى الثاني يكون له أربع زوجات، ويختلف مجموع المالين على الروايتين اختلافا كثيرا، وفي رواية ابن أبي حاتم عن ابن زيد أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان أحد المطوعين وأنه جاء بمال كثير يحمله فقال له رجل من المنافقين: أترائي يا عمر؟ فقال: نعم أرائي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فأما غيرهما فلا. وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ عطف على الْمُطَّوِّعِينَ وهو من عطف الخاص على العام، وقيل: عطف على المؤمنين. وتعقبه الأجهوري بأن فيه إيهام أن المعطوف ليس من المؤمنين.
وقال أبو البقاء: هو عطف على الَّذِينَ يَلْمِزُونَ وأراه خطأ صرفا. والجهد بالضم الطاقة أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا طاقتهم وما تبلغه قوتهم وهم الفقراء كأبي عقيل واسمه مر آنفا، وعن ابن إسحاق أن اسمه سهل بن رافع، وعن مجاهد أنه فسر الموصول برفاعة بن سعد، ولعل الجمع حينئذ للتعظيم، ويحتمل أن يكون على ظاهره والمذكور سبب النزول، وقرأ ابن هرمز جُهْدَهُمْ بالفتح وهو إحدى لغتين في الجهد فمعنى المضموم والمفتوح واحد، وقيل: المفتوح بمعنى المشقة والمضموم بمعنى الطاقة قاله القتبي، وقيل: المضموم شيء قليل يعاش به والمفتوح
العمل، وقوله تعالى: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ عطف على يَلْمِزُونَ أو خبر على ما علمت أي يستهزئون بهم، والمراد بهم على ما قيل الفريق الأخير سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أي جازاهم على سخريتهم، فالجملة خبرية والتعبير بذلك للمشاكلة وليست انشائية للدعاء عليهم لأن يصيروا ضحكة لأن قوله تعالى جده:
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جملة خبرية معطوفة عليها فلو كانت دعاء لزم عطف الاخبارية على الإنشائية في ذلك كلام، وإنما اختلفتا فعلية واسمية لأن السخرية في الدنيا وهي متجددة والعذاب في الآخرة وهو دائم ثابت، والتنوين في العذاب للتهويل والتفخيم اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الظاهر أن المراد به وبمثله التخيير، ويؤيد إرادته هنا فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ستعلم إن شاء الله تعالى ذلك منه فكأنه قال سبحانه له عليه الصلاة والسلام: إن شئت فاستغفر لهم وإن شئت فلا، وكلام النسفي تنسفه صحة الأخبار نسفا. واختار غير واحد أن المراد التسوية بين الأمرين كما في قوله تعالى: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [التوبة: 53] والبيت المار:
أسيئي بنا أو أحسني إلخ، والمقصود الإخبار بعدم الفائدة في ذلك وفيه من المبالغة ما فيه، وقال بعض المحققين بعد اختياره للتسوية في مثل ذلك: إنها لا تنافي التخيير فإن ثبت فهو بطريق الاقتضاء لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما فلا بد من أحدهما ويختلف الحال فتارة يكون الإثبات كما في قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6، يس: 10] وأخرى النفي كما هنا وفي قوله سبحانه: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [المنافقون: 6] إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ بيان لعدم المغفرة وإن استغفر لهم حسبما أريد إثر التخيير أو بيان لاستحالة المغفرة بعد المبالغة في الاستغفار إثر بيان الاستواء بين الاستغفار وعدمه.
وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله سبحانه: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ إلخ سأله عليه الصلاة والسلام اللامزون الاستغفار لهم فهم أن يفعل فنزلت فلم يفعل. وقيل: نزلت بعد أن فعل، واختار الإمام عدمه وقال: إنه لا يجوز الاستغفار للكافر فكيف يصدر عنه صلى الله عليه وسلم. ورد بأنه يجوز لأحيائهم بمعنى طلب سبب الغفران، والقول بأن الاستغفار للمصر لا ينفع لا ينفع لأنه لا قطع بعدم نفعه إلا أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام بأنه لا يؤمن كأبي لهب، والقول بأن الاستغفار للمنافق إغراء له على النفاق لا نفاق له أصلا وإلا لامتناع الاستغفار لعصاة المؤمنين ولا قائل به، وقال بعضهم: إنه على تقدير وقوع الاستغفار منه عليه الصلاة والسلام والقول بتقديم النهي المفاد بقوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] لا إشكال فيه إذ النهي ليس للتحريم بل لبيان عدم الفائدة وهو كلام واه لأن قصارى ما تدل عليه الآية المنع من الاستغفار للكفار وهو لا يقتضي المنع عن الاستغفار لمن ظاهر حاله الإسلام، والقول بأنه حيث لم يستجب يكون نقصا في منصب النبوة ممنوع لأنه عليه الصلاة والسلام قد لا يجاب دعاؤه لحكمة كما لم يجب دعاء بعض إخوانه الأنبياء عليهم السلام ولا يعد ذلك نقصا كما لا يخفى، ومناسبة الآية لما قبلها على هذه الرواية في غاية الوضوح إلا أنه قيل: إن الصحيح المعول عليه في ذلك
أن عبد الله وكان اسمه الحباب وكان من المخلصين ابن عبد الله بن أبي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام: لأزيدن على السبعين فنزلت سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ [المنافقون: 6] إلخ،
وفيه رد على الإمام أيضا في اختياره عدم الاستغفار وكذا في إنكاره كون مفهوم العدد حجة كما نقله عنه الأسنوي في التمهيد مخالفا في ذلك الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه قائل بحجيته كما نقله الغزالي عنه في المنخول وشيخه إمام الحرمين في البرهان وصرح بأن ذلك قول الجمهور.
وفي المطلب لابن الرفعة أن مفهوم العدد هو العمدة عندنا في عدم تنقيص الحجارة في الاستنجاء على الثلاثة والزيادة على ثلاثة أيام في الخيار، وما نقل عن النووي من أن مفهوم العدد باطل عند الأصوليين محمول على أن المراد باطل عند جمع من الأصوليين كما يدل عليه كلامه في شرح مسلم في باب الجنائز وإلا فهو عجيب منه.
وكلام العلامة البيضاوي مضطرب، ففي المنهاج التخصيص بالعدد لا يدل على الزائد والناقص أي إنه نص في مدلوله لا يحتمل الزيادة والنقصان، وفي التفسير عند هذه الآية بعد سوق خبر سبب النزول أنه عليه الصلاة والسلام فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل فجاز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه فبين له عليه الصلاة والسلام أن المراد به التكثير لا التحديد، وذكر في تفسير سورة البقرة عند قوله سبحانه: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة:
29] أنه ليس في الآية نفي الزائد، وإرادة التكثير من السبعين شائع في كلامهم وكذا إرادته من السبعة والسبعمائة، وعلل في شرح المصابيح ذلك بأن السبعة مشتملة على جملة أقسام العدد فإنه ينقسم إلى فرد وزوج وكل منهما إلى أول ومركب فالفرد الأول ثلاثة والمركب من خمسة والزوج الأول اثنان والمركب أربعة، وينقسم أيضا إلى منطق كالأربعة وأصم كالستة والسبعة تشتمل على جميع هذه الأقسام، ثم إن أريد المبالغة جعلت آحادها أعشارا وأعشارها مئات، وأريد بالفرد الأول الذي لا يكون مسبوقا بفرد آخر عددي كالثلاثة إذ الواحد ليس بعدد بناء على أنه ما ساوى نصف مجموع حاشيتيه الصحيحتين، وبالفرد المركب الذي يكون مسبوقا بفرد آخر فإن الخمسة مسبوقة بثلاثة، وأريد بالزوج الأول الغير مسبوق بزوج آخر كالاثنين وبالمركب ما يكون مسبوقا به كالأربعة المسبوقة بالاثنين، وقد يقسم العدد ابتداء إلى أول ومركب ويراد بالأول ما لا يعده إلا الواحد كالثلاثة والخمسة والسبعة وبالمركب ما يعده غير الواحد كالأربعة فإنه يعدها الاثنان والتسعة فإنه يعدها الثلاثة، وللمنطق إطلاقان فيطلق ويراد به ما له كسر صحيح من الكسور التسعة، والأصم الذي يقابله ما لا يكون كذلك كأحد عشر، ويطلق ويراد به المجذور وهو ما يكون حاصلا من ضرب عدد في نفسه كالأربعة الحاصلة من ضرب الاثنين في نفسها والتسعة الحاصلة من ضرب الثلاثة في نفسها والأصم الذي يقابله ما لا يكون كذلك كالاثنين والثلاثة وهذا مراد شارح المصابيح حيث مثل الأصم بالستة مع أن لها كسرا صحيحا بل كسران النصف والسدس لكنها ليست حاصلة من ضرب عدد في نفسه، ومعنى اشتمال السبعة على هذه الأقسام أنه إذا جمع الفرد الأول مع الزوج المركب أو الفرد المركب مع الزوج الأول كان سبعة، وكذا إذا جمع المنطق كالأربعة مع الأصم كالثلاثة كان الحاصل سبعة وهذه الخاصة لا توجد في العدد قبل السبعة، فمن ظن أن الأنسب بالاعتبار بحسب هذا الاشتمال هو الستة لا السبعة لأنها المشتملة على ما ذكر فهو لم يحصل معنى الاشتمال أو لم يعرف هذه الاصطلاحات لكونها من وظيفة علم الارتماطيقي.
ومما ذكرنا من معنى الاشتمال يندفع أيضا ما يتوهم من أن التحقيق أن كل عدد مركب من الوحدات لا من الأعداد التي تحته إذ ليس المراد من الاشتمال التركيب على أن في هذا التحقيق مقالا مذكورا في محله.
وقال ابن عيسى الربعي: إن السبعة أكمل الأعداد لأن الستة أول عدد تام وهي مع الواحد سبعة فكانت كاملة إذ ليس بعد التمام إلا الكمال، ولذا سمي الأسد سبعا لكمال قوته، وفسر العدد التام بما يساوي مجموع كسوره وكون الستة كذلك ظاهر فإن كسورها سدس وهو واحد وثلث وهو اثنان ونصف وهو ثلاثة ومجموعها ستة، لكن استبعد عدم فهم من هو أفصح الناس وأعرفهم باللسان صلى الله عليه وسلم إرادة التكثير من السبعين هنا، ولذا قال البعض: إنه عليه الصلاة والسلام لم يخف عليه ذلك لكنه خيل بما قال إظهارا لغاية رأفته ورحمته لمن بعث إليه كقول إبراهيم عليه السلام:
وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: 36] يعني أنه صلى الله عليه وسلم أوقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص
دون التكثير فجوز الإجابة بالزيادة قصدا إلى إظهار الرأفة والرحمة كما جعل إبراهيم عليه السلام جزاء من عصاني أي لم يمتثل أمر ترك عبادة الأصنام قوله: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دون إنك شديد العقاب مثلا فخيل أنه سبحانه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم وحثا على الاتباع، وتعقب بأن ذكره للتمويه والتخييل بعد ما فهم عليه الصلاة والسلام منه التكثير لا يليق بمقامه الرفيع، وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه لا ينافي الفصاحة والمعرفة باللسان فإنه لا خطأ فيه ولا بعد إذ هو الأصل، ورجحه عنده عليه الصلاة والسلام شغفه بهدايتهم ورأفته بهم واستعطاف من عداهم، ولعل هذا أولى من القول بالتمويه بلا تمويه، وأنكر إمام الحرمين صحة ما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام فهم على أن حكم ما زاد على السبعين بخلافه وهو غريب منه، فقد جاء ذلك من رواية البخاري ومسلم وابن ماجة والنسائي وكفى بهم، وقول الطبرسي:«إن خبر «لأزيدن» إلخ خبر واحد لا يعول عليه» لا يعول عليه، وتمسك في ذلك بما هو كحبل الشمس وهو عند القائلين بالمفهوم كجبال القمر، وأجاب المنكرون له بمنع فهم ذلك لأن ذكر السبعين للمبالغة وما زاد عليه مثله في الحكم وهو مبادرة عدم المغفرة فكيف يفهم منه المخالفة، ولعله علم صلى الله عليه وسلم أنه غير مراد هاهنا بخصوصه سلمناه لكن لا نسلم فهمه منه، ولعله باق على أصله في الجواز إذ لم يتعرض له بنفي ولا إثبات والأصل جواز الاستغفار للرسول عليه الصلاة والسلام وكونه مظنة الإجابة ففهم من حيث إنه الأصل لا من التخصيص بالذكر، وحاصل الأول منع فهمه منه مطلقا بل إنما فهم من الخارج، وحاصل الثاني تسليم فهمه منه في الجملة لكن لا بطريق المفهوم بل من جهة الأصل.
وأنت تعلم أن ظاهر الخبر مع القائلين بالمفهوم غاية الأمر أن الله سبحانه أعلم نبيه عليه الصلاة والسلام بآية المنافقين أن المراد بالعدد هنا التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفا لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحدا وهو عدم المغفرة لهم مطلقا، لكن في دعوى نزول آية المنافقين بعد هذه الآية إشكال، أما على القول بأن براءة آخر ما نزل فظاهر وأما على القول بأن أكثرها أو صدرها كذلك وحينئذ لا مانع من تأخر نزول بعض الآيات منها عن نزول بعض من غيرها فلأن صدر ما في سورة المنافقين يقتضي أنها نزلت في غير قصة هذه التي سلفت آنفا، وظاهر الأخبار كما ستعلم إن شاء الله تعالى يقتضي أنها نزلت في ابن أبي ولم يكن مريضا، وما تقدم في سبب نزول ما هنا نص في أنه نزل وهو مريض، والقول بأن تلك نزلت مرتين يحتاج إلى النقل ولا يكتفي في مثله بالرأي وأنى به، على أنه يشكل حينئذ قوله عليه الصلاة والسلام «لأزيدن على السبعين» مع تقدم نزول المبين للمراد منه، والقول بالغفلة لا أراه إلّا ناشئا من الغفلة عن قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بل الجهل بمقامه الرفيع عليه الصلاة والسلام ومزيد اعتنائه بكلام ربه سبحانه، ولم أر من تعرض لدفع هذا الإشكال، ولا سبيل إلى دفعه إلا بمنع نزول ما في سورة المنافقين في قصة أخرى ومنع دلالة الصدر على ذلك. نعم ذكروا أن الصدر نزل في ابن أبي ولم يكن مريضا إذ ذاك ولم نقف على نص في أن العجز نزل فيه كذلك، والظاهر نزوله بعد قوله سبحانه: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ إلخ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يؤيد ذلك عند تفسير الآية فافهم ذلِكَ أي امتناع المغفرة لهم ولو بعد ذلك الاستغفار بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني ليس الامتناع لعدم الاعتداد باستغفارك بل بسبب عدم قابليتهم لأنهم كفروا كفرا متجاوزا للحد كما يشير إليه وصفهم بالفسق في قوله سبحانه:
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ فإن الفسق في كل شيء عبارة عن التمرد والتجاوز عن حدوده، والمراد بالهداية الدلالة الموصلة لا الدلالة على ما يوصل لأنها واقعة لكن لم يقبلوها لسوء اختيارهم، والجملة تذييل مؤكد لما قبله من الحكم فإن مغفرة الكفار بالإقلاع عن الكفر والإقبال إلى الحق والمنهمك فيه المطبوع عليه بمعزل من ذلك، وفيه تنبيه
على عذر النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لهم وهو عدم يأسه من إيمانهم حيث لم يعلم إذ ذاك أنهم مطبوعون على الغي لا ينجع فيهم العلاج ولا يفيدهم الإرشاد، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم بموتهم كفارا كما يشهد له قوله سبحانه:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة: 113] ولعل نزول قوله سبحانه: بِأَنَّهُمْ إلخ متراخ عن نزول قوله سبحانه: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ إلخ كما قيل وإلا لم يكن له صلى الله عليه وسلم عذر في الاستغفار بعد النزول.
والقول بأن هذا العذر إنما يصح لو كان الاستغفار للحي كما مر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيه نظر فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ أي الذين خلفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأذن لهم في التخلف أو خلفهم الله تعالى بتثبيطه إياهم لحكمة علمها أو خلفهم الشيطان بإغرائه أو خلفهم الكسل والنفاق بِمَقْعَدِهِمْ متعلق بفرح وهو مصدر ميمي بمعنى القعود.
وقيل: اسم مكان، والمراد منه المدينة، والأكثرون على الأول أي فرحوا بقعودهم عن الغزو خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي خلفه عليه الصلاة والسلام وبعد خروجه حيث خرج ولم يخرجوا فهو نصب على الظرفية بمعنى بعد وخلف وقد استعملته العرب في ذلك، والعامل فيه كما قال أبو البقاء «مقعد» وجوز أن يكون فَرِحَ. وقيل: هو بمعنى المخالفة فيكون مصدر خالف كالقتال وحينئذ يصح أن يكون حالا بمعنى مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يكون مفعولا له والعامل إما فَرِحَ أي فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود وإما «مقعدهم» أي فرحوا بقعودهم لأجل المخالفة، وجعل المخالفة علة باعتبار أن قصدهم ذلك لنفاقهم ولا حاجة إلى أن يقال قصدهم الاستراحة ولكن لما آل أمرهم إلى ذلك جعل علة كما قالوا في لام العاقبة وجوز أن يكون نصبا على المصدر بفعل دل عليه الكلام.
وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إيثارا للراحة والتنعم بالمآكل والمشارب مع ما في قلوبهم من الكفر والنفاق، وبين الفرح والكراهة مقابلة معنوية لأن الفرح بما يحب.
وإيثار ما في النظم على أن يقال وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذان بأن الجهاد في سبيل الله تعالى مع كونه من أجل الرغائب التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه كما فرحوا بأقبح القبائح وهو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الكلام تعريض بالمؤمنين الذين آثروا ذلك وأحبوه ابتغاء لرضا الله تعالى ورسوله وَقالُوا أي لإخوانهم تثبيتا لهم على القعود وتواصيا بينهم بالفساد أو للمؤمنين تثبيتا لهم على الجهاد ونهيا عن المعروف وإظهارا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به، والقائل رجال من المنافقين كما روي عن جابر بن عبد الله وهو الذي يقتضيه الظاهر.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي أن القائل رجل من بني سلمة، ووجه ضمير الجمع على هذا يعلم بما مر غير مرة لا تَنْفِرُوا لا تخرجوا إلى الغزو فِي الْحَرِّ فإنه لا يستطاع شدته قُلْ يا محمد ردا عليهم وتجهيلا لهم نارُ جَهَنَّمَ التي هي مصيركم بما فعلتم أَشَدُّ حَرًّا من هذا الحر الذي ترونه مانعا من النفير فما لكم لا تحذرونها وتعرضون أنفسكم لها بإيثار القعود والمخالفة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ تذييل من جهته تعالى غير داخل على القول المأمور به مؤكد لمضمونه، وجواب لَوْ مقدر وكذا مفعول يَفْقَهُونَ أي لو كانوا يعلمون أنها كذلك أو أحوالها وأهوالها أو أن مرجعهم إليها لما آثروا راحة زمن قليل على عذاب الأبد، وأجهل الناس من صان نفسه عن أمر يسير يوقعه في ورطة عظيمة، وأنشد الزمخشري لابن أخت خالته:
مسرة أحقاب تلقيت بعدها
…
مساءة يوم أريها شبه الصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة
…
وراء تقضيها مساءة أحقاب (1)
وقدر بعضهم الجواب لتأثروا بهذا الإلزام وهو خلاف الظاهر، وجوز أن تكون لَوْ لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها، وينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم فلا جواب ولا مفعول ويؤول المعنى إلى أنهم ما كانوا من أهل الفطانة والفقه، ويكون الكلام نظير قوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101] وهو خلاف الظاهر أيضا.
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً اخبار عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل في الدنيا والبكاء الكثير في الأخرى، وإخراجه في صورة الأمر للدلالة على تحتم وقوع المخبر به وذلك لأن صيغة الأمر للوجوب في الأصل والأكثر فاستعمل في لازم معناه أو لأنه لا يحتمل الصدق والكذب بخلاف الخبر كذا قرره الشهاب ثم قال:
فإن قلت: الوجوب لا يقتضي الوجود وقد قالوا: إنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة لاقتضائه تحقق المأمور به فالخبر آكد وقد مر مثله فما باله عكس. قلت: لا منافاة بينهما كما قيل لأن لكل مقام مقالا والنكت لا تتزاحم فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة أن المأمور لشدة امتثاله كأنه وقع منه ذلك وتحقق قبل الأمر كان أبلغ، وإذا عبر عن الخبر بالأمر لإفادة لزومه ووجوبه كأنه مأمور به أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى، وقيل: الأمر هنا تكويني كما في قوله تعالى: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] ولا يخفى ما فيه.
والفاء لسببية ما سبق للإخبار بما ذكر من الضحك والبكاء لا لنفسهما إذ لا يتصور في الأول أصلا، وجعل ذلك سببا لاجتماع الأمرين بعيد، ونصب قَلِيلًا وكَثِيراً على المصدرية أو الظرفية أي ضحكا أو زمانا قليلا وبكاء أو زمانا كثيرا، والمقصود بإفادته في الأول على ما قيل هو وصف القلة فقط وفي الثاني هو وصف الكثرة مع الموصوف،
فيروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم.
وجوز أن يكون الضحك كناية عن الفرح والبكاء كناية عن الغم والأول في الدنيا والثاني في الأخرى أيضا، والقلة على ما يتبادر منها، ولا حاجة إلى حملها على العدم كما حملت الكثرة على الدوام. نعم إذا اعتبر كل من الأمرين في الآخرة احتجنا إلى ذلك إذ لا سرور فيها لهم أصلا، ويفهم من كلام ابن عطية أن البكاء والضحك في الدنيا كما
في حديث الشيخين وغيرهما «لو تعلمون لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا»
أي إنهم بلغوا في سوء الحال والخطر مع الله تعالى إلى حيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلا وبكاؤهم من أجل ذلك كثيرا.
جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي من فنون المعاصي، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددي، وجَزاءً مفعول له للفعل الثاني ولك أن تجعله مفعولا له للفعلين أو مصدر من المبني للمفعول حذف ناصبه أي يجزون مما ذكر من البكاء الكثير أو منه ومن الضحك القليل جزاء بما استمروا عليه من المعاصي فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ أي من سفرك، والفاء لتفريع الأمر الآتي على ما بين من أمرهم ورجع هنا متعد بمعنى رد ومصدره الرجع وقد يكون لازما ومصدره الرجوع، وأوثر استعمال المتعدي وإن كان استعمال اللازم كثيرا إشارة إلى أن ذلك السفر لما فيه من الخطر يحتاج الرجوع منه لتأييد إلهي ولذا أوثرت كلمة إن على إذا أي فإن ردك الله سبحانه إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ أي إلى المنافقين من المتخلفين بناء على أن منهم من لم يكن منافقا أو إلى من
(1)«مسرة أحقاب» مبتدأ خبره أريها شبه الصاب، والأحقاب الأزمان الكثيرة واحدها حقب، والأري العسل. والشبه المثل، والصاب نبت مر وقيل الحنظل.
بقي من المنافقين المتخلفين بأن ذهب بعضهم بالموت أو بالغيبة عن البلد أو بأن لم يستأذنك البعض، وقيل: المراد بتلك الطائفة من بقي من المنافقين على نفاقه ولم يتب وليس بذاك.
أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين وفيهم قيل ما قيل.
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك إلى غزوة أخرى بعد غزوتك هذه التي ردك الله منها بتأييده فَقُلْ لهم إهانة لهم على أتم وجه لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ما دمت ودمتم وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا من الأعداء، وهو اخبار في معنى النهي للمبالغة.
وذكر القتال كما قال بعض المحققين لأنه المقصود من الخروج فلو اقتصر على أحدهما لكفى إسقاطا لهم عن مقام الصحبة ومقام الجهاد أو عن ديوان الغزاة وديوان المجاهدين وإظهارا لكراهة صحبتهم وعدم الحاجة إلى عدهم من الجند أو ذكر الثاني للتأكيد لأنه أصرح في المراد والأول لمطابقته للسؤال، ونظير ذلك:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا فإن الثاني أدل على الكراهة إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ عن الخروج معي وفرحتم به أَوَّلَ مَرَّةٍ أي من الخروج فنصب أفعل المضاف على المصدرية، وقيل: على الظرفية الزمانية واستبعده أبو حيان، والظاهر أن هذا الاختلاف للاختلاف في مَرَّةٍ ونقل عن أبي البقاء أنها في الأصل مصدر مر يمر ثم استعملت ظرفا، واختار القاضي البيضاوي بيض الله غرة أحواله النصب على المصدرية وأشار إلى تأنيث الموصوف حيث قال: وأول مرة هي الخرجة إلى غزوة تبوك وذكر أفعل لأن التذكير هو الأكثر في مثل ذلك. وفي الكشاف أن مَرَّةٍ نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل، وذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات لأن أكثر اللغتين- هند أكبر النساء وهي أكبرهن، وهي كبرى مرأة لا تكاد تعثر عليه ولكن هي أكبر امرأة وأول مرة وآخر مرة، وعلل في الكشف عدم العثور على نحو هي كبرى امرأة بأن أفعل فيه مضاف إلى غير المفضل عليه بل إلى العدد المتلبس هو به بيانا له فكأنه قيل: هي امرأة أكبر من كل واحدة من النساء، وفي مثله لا يختلف أفعل التفضيل، فالتحقيق أنه لا يشبه ما فيه اللام وإنما المطابقة بين موصوفه وما أضيف إليه ولا مدخل لطباقه في اللفظ والمعنى فتدبر، والجملة في موضع التعليل لما سلف فهي مستأنفة استئنافا بيانيا أي لأنكم رضيتم فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي المتخلفين لعدم لياقتهم كالنساء والصبيان والرجال العاجزين، وجمع المذكر للتغليب، واقتصر ابن عباس على الأخير، وتفسير الخالف بالمتخلف هو المأثور عن أكثر المفسرين السلف، وقيل: إنه من خلف بمعنى فسد. ومنه خلوف فم الصائم لتغير رائحته، والظرف متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا من ضمير الجمع، والفاء لتفريع الأمر بالقعود بطريق العقوبة على ما صدر منهم من الرضا بالقعود أي إذا رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا من بعد.
وقرأ عكرمة «الخلفين» بوزن حذرين ولعله صفة مشبهة مثله، وقيل: هو مقصور من الخالفين إذا لم يثبت استعماله كذلك على أنه صفة مشبهة وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً إشارة إلى إهانتهم بعد الموت.
أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [المنافقين: 6] وسأزيده
على السبعين قال: إنه منافق قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله سبحانه: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ الآية.
وفي رواية أخرى له عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أنه لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فلما قام وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أخر عني يا عمر» فلما أكثرت عليه قال: «أخر عني لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها» قال فصلى عليه عليه الصلاة والسلام ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ إلى قوله: وَهُمْ فاسِقُونَ فعجبت من جراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وظاهر هذين الخبرين أنه لم ينزل بين اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وقوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ شيء ينفع عمر رضي الله تعالى عنه وإلا لذكر، والظاهر أن مراده بالنهي في الخبر الأول ما فهمه من الآية الأولى لا ما يفهم كما قيل من قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] لعدم مطابقة الجواب حينئذ كما لا يخفى،
وأخرج أبو يعلي وغيره عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على ابن أبي فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال: وَلا تُصَلِّ الآية،
وأكثر الروايات أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه وأن عمر رضي الله تعالى عنه أحب عدم الصلاة عليه وعد ذلك أحد موافقاته للوحي وإنما لم ينه صلى الله عليه وسلم عن التكفين بقميصه ونهى عن الصلاة عليه لأن الضنة بالقميص كانت مظنة الإخلال بالكرم على أنه كان مكافأة لقميصه الذي ألبسه العباس رضي الله تعالى عنه حين أسر ببدر فإنه جيء به رضي الله تعالى عنه ولا ثوب عليه وكان طويلا جسيما فلم يكن ثوب بقدر قامته غير ثوب ابن أبي فكساه إياه،
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أنهم ذكروا القميص بعد نزول الآية فقال عليه الصلاة والسلام: «وما يغني عنه قميصي والله إني لأرجو أن يسلم به أكثر من ألف من بني الخزرج»
وقد حقق الله تعالى رجاء نبيه كما في بعض الآثار والاخبار فيما كان منه عليه الصلاة والسلام مع ابن أبي من الصلاة عليه وغيرها لا تخلو عن التعارض، وقد جمع بينهما حسبما أمكن علماء الحديث، وفي لباب التأويل نبذة من ذلك فليراجع.
والمراد من الصلاة المنهي عنها صلاة الميت المعروفة وهي متضمنة للدعاء والاستغفار والاستشفاع له قيل:
والمنع عنها لمنعه عليه الصلاة والسلام من الدعاء للمنافقين المفهوم من الآية السابقة أو من قوله سبحانه: ما كانَ لِلنَّبِيِّ إلخ، وقيل: هي هنا بمعنى الدعاء، وليس بذاك، وأَبَداً ظرف متعلق بالنهي، وقيل: متعلق بمات، والموت الأبدي كناية عن الموت على الكفر لأن المسلم يبعث ويحيا حياة طيبة، والكافر وإن بعث لكنه للتعذيب فكأنه لم يحي، وزعم بعضهم أنه لو تعلق بالنهي لزم أن لا تجوز الصلاة على من تاب منهم ومات على الإيمان مع أنه لا حاجة للنهي عن الصلاة عليهم إلى قيد التأييد، ولا يخفى أنه أخطأ ولم يشعر أن مِنْهُمْ حال من الضمير في مات أي مات حال كونه منهم أي متصفا بصفتهم وهي النفاق كقولهم: أنت مني يعني على طريقتي وصفتي كما صرحوا به على أنه لو جعل الجار والمجرور صفة لأحد لا يكاد يتوهم ما ذكر وكيف يتوهم مع قوله تعالى الآتي إِنَّهُمْ كَفَرُوا إلخ، وقوله: مع أنه لا حاجة إلى النهي إلخ لظهور ما فيه لا حاجة إلى ذكره، وماتَ ماض باعتبار سبب النزول وزمان النهي ولا ينافي عمومه وشموله لمن سيموت، وقيل: إنه بمعنى المستقبل وعبر به لتحققه، والجملة في موضع الصفة لأحد وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أي لا تقف عليه ولا تتول دفنه من قولهم: قام فلان بأمر فلان إذا كفاه إياه وناب عنه فيه، ويفهم من كلام بعضهم أن عَلى بمعنى عند، والمراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة، والقبر في المشهور مدفن الميت ويكون بمعنى الدفن وجوزوا إرادته هنا أيضا.
وفي فتاوى الجلال السيوطي هل يفسر القيام هنا بزيارة القبور وهل يستدل بذلك على أن الحكمة في زيارته
صلّى الله عليه وسلّم قبر أمه أنه لإحيائها لتؤمن به بدليل أن تاريخ الزيارة كان بعد النهي؟
الجواب المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة، ويحتمل أن يعم الزيارة أيضا أخذا من الإطلاق وتاريخ الزيارة كان قبل النهي لا بعده فإن الذي صح في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم زارها عام الحديبية والآية نازلة بعد غزوة تبوك، ثم الضمير في مِنْهُمْ خاص بالمنافقين وإن كان بقية المشركين يلحقون بهم قياسا، وقد صح في حديث الزيارة أنه استأذن ربه في ذلك فأذن له وهذا الإذن عندي يستدل به على أنها من الموحدين لا من المشركين كما هو اختياري، ووجه الاستدلال به أنه نهاه عن القيام على قبور الكفار وأذن له في القيام على قبر أمه فدل على أنها ليست منهم وإلا لما كان يأذن له فيه، واحتمال التخصيص خلاف الظاهر ويحتاج إلى دليل صريح، ولعله عليه الصلاة والسلام كان عنده وقفة في صحة توحيد من كان في الجاهلية حتى أوحي إليه صلى الله عليه وسلم بصحة ذلك، فلا يرد أن استئذانه يدل على خلاف ذلك وإلا لزارها من غير استئذان اهـ وفي كون المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة خفاء إذ المتبادر من القيام على القبر ما هو أعم من ذلك. نعم كان الوقوف بعد الدفن قدر نحر جزور مندوبا ولعله لشيوع ذلك إذ ذاك أخذ في مفهوم القيام على القبر ما أخذ.
وفي جواز زيارة قبر الكفار خلاف وكثير من القائلين بعدم الجواز حمل القيام على ما يعم الزيارة ومن أجاز استدل
بقوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة»
فإنه عليه الصلاة والسلام علل الزيارة بتذكير الآخرة ولا فرق في ذلك بين زيارة قبور المسلمين وقبور غيرهم، وتمام البحث في موضعه والاحتياط عندي عدم زيارة قبور الكفار إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ جملة مستأنفة سيقت لتعليل النهي على معنى أن الصلاة على الميت والاحتفال به إنما يكون لحرمته وهم بمعزل عن ذلك لأنهم استمروا على الكفر بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مدة حياتهم وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ أي متمردون في الكفر خارجون عن حدوده.
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ تأكيد لما تقدم من نظيره والأمر حقيق بذلك لعموم البلوى بمحبة ما ذكر والاعجاب به، وقال الفارسي: إن ما تقدم في قوم وهذا في آخرين فلا تأكيد، وجيء بالواو هنا لمناسبة عطف نهي على نهي قبله أعني قوله سبحانه: وَلا تُصَلِّ إلخ، وبالفاء هناك لمناسبة التعقيب لقوله تعالى: قبل وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ [التوبة: 54] فإن حاصله لا ينفقون إلا وهم كارهون للإنفاق فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد فنهى عن الإعجاب المتعقب له.
وقيل: هنا وَأَوْلادُهُمْ دون- لا- لأنه نهي عن الإعجاب بهما مجتمعين وهناك بزيادة لا لأنه نهي عن كل واحد واحد فدل مجموع الآيتين على النهي عن الاعجاب بهما مجتمعين ومنفردين وهنا أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وهناك «ليعذبهم» للإشارة إلى أن إرادة شيء لشيء راجعة إلى إرادة ذلك الشيء بناء على أن متعلق الإرادة هناك الإعطاء واللام للتعليل أي إنما يريد اعطاءهم للتعذيب، وأما إذا قلنا: إن اللام فيما تقدم زائدة فالتغاير يحتمل أن يكون لأن التأكيد هناك لتقدم ما يصلح سببا للتعذيب بالأموال أوقع منه هنا لعدم تقدم ذلك وجاء هناك فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهنا فِي الدُّنْيا تنبيها على أن حياتهم كلا حياة فيها ويشير ذلك هنا إلى أنهم بمنزلة الأموات.
وبين ابن الخازن سر تغاير النظمين الكريمين بما لا يخفى ما فيه، وتقديم الأموال على الأولاد مع أنهم أعز منها لعموم مساس الحاجة إليها دون الأولاد، وقيل: لأنها أقدم في الوجود منهم وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن والمراد بها على ما قيل: سورة معينة وهي براءة، وقيل المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد وهو أولى وأفيد لأن استئذانهم عند نزول آيات براءة علم مما مر، وإِذا تفيد التكرار بقرينة المقام وإن لم تفده بالوضع كما نص عليه
بعض المحققين، وجوز أن يراد بالسورة بعضها مجازا من باب إطلاق الجزء على الكل، ويوهم كلام الكشاف أن إطلاق السورة على بعضها بطريق الاشتراك كإطلاق القرآن على بعضه وليس بذاك، والتنوين للتفخيم أي سورة جليلة الشأن أَنْ آمِنُوا أي بأن آمنوا ف «أن» مصدرية حذف عنها الجار وجوز أن تكون مفسرة لتقدم الانزال وفيه معنى القول دون حروفه، والخطاب للمنافقين، والمراد أخلصوا الايمان بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ لإعزاز دينه وإعلاء كلمته، وأما التعميم أو إرادة المؤمنين بمعنى دوموا على الايمان بالله إلخ كما ذهب إليه الطبرسي وغيره فلا يناسب المقام ويحتاج فيه ارتباط الشرط والجزاء إلى تكلف ما لا حاجة إليه كاعتبار ما هو من حال المؤمنين الخلص في النظم الجليل اسْتَأْذَنَكَ أي طلب الإذن منك وفيه التفات أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ أي أصحاب الفضل والسعة من المنافقين وهم من له قدرة مالية ويعلم من ذلك البدنية بالقياس وخصوا بالذكر لأنهم الملومون وَقالُوا ذَرْنا أي دعنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ أي الذين لم يجاهدوا لعذر من الرجال والنساء ففيه تغليب، والعطف على استأذنك للتفسير مغن عن ذكر ما استأذنوا فيه وهو القعود.
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ أي النساء كما روي عن ابن عباس وقتادة وهو جمع خالفة وأطلق على المرأة لتخلفها عن أعمال الرجال كالجهاد وغيره، والمراد ذمهم وإلحاقهم بالنساء في التخلف عن الجهاد، ويطلق الخالفة على من لا خير فيه، والتاء فيه للنقل للاسمية، وحمل بعضهم الآية على ذلك فالمقصود حينئذ من لا فائدة فيه للجهاد وجمعه على فواعل على الأول ظاهر وأما على الثاني فلتأنيث لفظه لأن فاعلا لا يجمع على فواعل في العقلاء الذكور إلا شذوذا وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ بسبب ذلك لا يَفْقَهُونَ ما ينفعهم وما يضرهم في الدارين لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ استدراك لما فهم من الكلام، والمعنى إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فلا ضير لأنه قد نهض على أتم وجه من هو خير منهم فهو على حد قوله تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الأنعام: 89] وفي الآية تعريض بأن القوم ليسوا من الايمان بالله تعالى في شيء وإن لم يعرضوا عنه صريحا اعراضهم عن الجهاد باستئذانهم في القعود وَأُولئِكَ أي المنعوتون بالنعوت الجليلة لَهُمُ بواسطة ذلك الْخَيْراتُ أي المنافع التي تسكن النفس إليها وترتاح لها، وظاهر اللفظ عمومها هنا لمنافع الدارين كالنصر والغنيمة في الدنيا والجنة ونعيمها في الأخرى، وقيل. المراد بها الحور لقوله تعالى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن: 7] فإنها فيه بمعنى الحور فتحمل عليه هنا أيضا. ونص المبرد على أن الخيرات تطلق على الجواري الفاضلات وهي جمع خيرة بسكون الياء مخفف خيرة المشددة تأنيث خير وهو الفاضل من كل شيء المستحسن منه وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بالمطالب دون من حاز بعضا بفني عما قليل، وكرر اسم الإشارة تنويها بشأنهم أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ استئناف لبيان كونهم مفلحين، وقيل: يجوز أن يكون بيانا لما لهم من المنافع الأخروية ويخص ما قبل بمنافع الدنيا بقرينة المقابلة، والاعداد التهيئة أي هيأ لهم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من الضمير في لَهُمْ والعامل أَعَدَّ ذلِكَ إشارة إلى ما فهم من الكلام من نيل الكرامة العظمى الْفَوْزُ أي الظفر الْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ شروع في بيان أحوال منافقي الاعراب إثر بيان أحوال منافقي أهل المدينة، والمعذرون من عذر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد، وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له، ويحتمل أن يكون من اعتذر والأصل المعتذرون فأدغمت التاء في الذال بعد نقل حركتها إلى العين، ويجوز كسرها لالتقاء الساكنين وضمها اتباعا للميم لكن لم يقرأ بهما، وقرأ يعقوب «المعذرون» بالتخفيف وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فهو من أعذر إذا كان له
عذر. وعن مسلمة أنه قرأ «المعذرون» بتشديد العين والذال من تعذر بمعنى اعتذر.
وتعقب ذلك أبو حيان فقال: هذه القراءة إما غلط من القارئ أو عليه لأن التاء لا يجوز إدغامها في العين لتضادهما، وأما تنزيل التضاد منزلة التناسب فلم يقله أحد من النحاة ولا القراء فالاشتغال بمثله عيب، ثم إن هؤلاء الجائين كاذبون على أول احتمالي القراءة الأولى، ويحتمل أن يكونوا كاذبين وأن يكونوا صادقين على الثاني منهما وكذا على القراءة الأخيرة، وصادقون على القراءة الثانية. واختلفوا في المراد بهم
فعن الضحاك أنهم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله إنا غزونا معك أغارت طيىء على أهالينا ومواشينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله سبحانه عنكم.
وقيل: هم أسد وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال. وأخرج أبو الشيخ عن ابن إسحاق أنه قال: ذكر لي أنهم نفر من بني غفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أهل العذر ولم يبين من هم ومما ذكرنا يعلم وقوع الاختلاف في أن هؤلاء الجائين هل كانوا صادقين في الاعتذار أم لا، وعلى القول بصدقهم يكون المراد بالموصول في قوله سبحانه: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ غيرهم وهم أناس من الأعراب أيضا منافقون والأولون لانفاق فيهم، وعلى القول بكذبهم يكون المراد به الأولين، والعدول عن الإضمار إلى الإظهار لذمهم بعنوان الصلة والكذب على الأول بادعاء الايمان وعلى الثاني بالاعتذار، ولعل القعود مختلف أيضا. وقرأ أبي «كذّبوا» بالتشديد سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي من الاعراب مطلقا وهم منافقوهم أو من المعتذرين، ووجه التبعيض أن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره أي سيصيب المعتذرين لكفرهم عَذابٌ أَلِيمٌ وهو عذاب النار في الآخرة ولا ينافي استحقاق من تخلف لكسل، ذلك عندنا لعدم قولنا بالمفهوم ومن قال به فسر العذاب الأليم بمجموع القتل والنار والأول منتف في المؤمن المتخلف للكسل فينتفي المجموع، وقيل: المراد بالموصول المصرون على الكفر.
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ كالشيوخ ومن فيه نحافة خلقية لا يقوى على الخروج معها وهو جمع ضعيف ويقال: ضعوف وضعفان وجاء في الجمع ضعاف وضعفة وضعفي وضعافي وَلا عَلَى الْمَرْضى جمع مريض ويجمع أيضا على مراض ومراضى وهو من عراة سقم واضطراب طبيعة سواء كان مما يزول بسرعة ككثير من الأمراض أولا كالزمانة وعدوا منه ما لا يزول كالعمى والعرج الخلقيين فالأعمى والأعرج داخلان في المرضى وإن أبيت فلا يبعد دخولهما في الضعفاء، ويدل لدخول الأعمى في أحد المتعاطفين ما
أخرجه ابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت براءة فإني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما عليه إذ جاءه أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى.
وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ أي الفقراء العاجزين عن أهبة السفر والجهاد قيل هم مزينة وجهينة وبنو عذرة حَرَجٌ أي ذنب في التخلف وأصله الضيق وقد تقدم الكلام فيه إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بالايمان والطاعة ظاهرا وباطنا كما يفعل الموالي الناصح فالنصح مستعار لذلك، وقد يراد بنصحهم المذكور بذل جهدهم لنفع الإسلام والمسلمين بأن يتعهدوا أمورهم وأهلهم وإيصال خبرهم إليهم ولا يكونوا كالمنافقين الذين يشيعون الأراجيف إذا تخلفوا، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال: نصحته ونصحت له، وفي النهاية النصيحة يعبر بها عن جملة هي
إرادة الخير للمنصوح له وليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة يجمعه غيرها، والعامل في الظرف على ما قال أبو البقاء معنى الكلام أي لا يخرجون حينئذ.
ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي ما عليهم سبيل فالإحسان النصح لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ووضع الظاهر موضع ضميرهم اعتناء بشأنهم ووصفا لهم بهذا العنوان الجليل، وزيدت «من» للتأكيد، والجملة استئناف مقرر لمضمون ما سبق على أبلغ وجه وألطف سبك وهو من بليغ الكلام لأن معناه لا سبيل لعاتب عليهم أي لا يمر بهم العاتب ولا يجوز في أرضهم فما أبعد العتاب عنهم وهو جار مجرى المثل، ويحتمل أن يكون تعليلا لنفي الحرج عنهم والْمُحْسِنِينَ على عمومه أي ليس عليهم حرج لأنه ما على جنس المحسنين سبيل وهم من جملتهم، قال ابن الفرس: ويستدل بالآية على أن قاتل البهيمة الصائلة لا يضمنها وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل مؤيد لمضمون ما ذكر وفيه إشارة إلى أن كل أحد عاجز محتاج للمغفرة والرحمة إذ الإنسان لا يخلو من تفريط ما فلا يقال: إنه نفى عنهم الإثم أولا فما الاحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب فإن أريد ما تقدم من ذنوبهم دخلوا بذلك الاعتبار في المسيء وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ عطف على المحسنين كما يؤذن به قوله تعالى الآتي إن شاء الله تعالى إِنَّمَا السَّبِيلُ إلخ، وهو من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنهم وجعلهم كأنهم لتميزهم جنس آخر. وقيل:
عطف على الضعفاء وهم- كما قال ابن إسحاق وغيره- البكاءون وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير وعلية بن زيد أخو بني حارث وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار.
وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة وعبد الله بن معقل المزني وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف. وعرباض بن سارية الفزاري أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحملوه وكانوا أهل حاجة فقال لهم عليه الصلاة والسلام ما قصه الله تعالى بقوله سبحانه: قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ فتولوا وهم يبكون كما أخبر سبحانه، والظاهر أنه لم يخرج منهم أحد للغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن قال ابن إسحاق: أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى وابن معقل وهم يبكيان فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحا له فارتحلا وزودهما شيئا من تمر فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أن الباقين أعينوا على الخروج فخرجوا. وعن مجاهد انهم بنو مقرن: معقل وسويد والنعمان، وقيل: هم أبو موسى الأشعري وأصحابه من أهل اليمن وقيل وقيل: وظاهر الآية يقتضي أنهم طلبوا ما يركبون من الدواب وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأخرج ابن المنذر عن علي بن صالح قال: حدثني مشيخة من جهينة قالول: أدركنا الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان فقالوا: ما سألناه إلا الحملان على النعال، ومثل هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم بن أدهم عمن حدثه أنه قال: ما سألوه الدواب ما سألوه إلا النعال، وجاء في بعض الروايات أنهم قالوا: احملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو معك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، ومن مال إلى الظاهر المؤيد بما روي عن الحبر قال: تجوز بالجفاف المرقوعة والنعال المخصوفة عن ذي الخف والحافر فكأنهم قالوا:
احملنا على ما يتيسر أو المراد احملنا ولو على نعالنا وأخفافنا مبالغة في القناعة ومحبة للذهاب معه عليه الصلاة والسلام.
وأنت تعلم أن ظاهر الخبرين السابقين يبعد ذلك على أنه في نفسه خلاف الظاهر نعم الاخبار المخالفة لظاهر الآية لا يخفى ما فيها من له اطلاع على مصطلح الحديث ومغايرة هذا الصنف بناء على ما يقتضيه الظاهر من أنهم واجدون لما عدا المركب للذين لا يجدون ما ينفقون إذا كان المراد بهم الفقراء الفاقدين للزاد والمركب وغيره ظاهرة
وبينهما عموم وخصوص إذا أريد بمن لا يجد النفقة من عدم شيئا لا يطيق السفر لفقده وإلى الأول ذهب الإمام واختاره كثير من المحققين، واختلف في جواب إِذا فاختار بعض المحققين أنه قُلْتَ إلخ فيكون قوله سبحانه:
تَوَلَّوْا إلخ مستأنفا استئنافا بيانيا، وقيل: هو الجواب وقُلْتَ مستأنف أو على حذف حرف العطف أي وقلت أو فقلت وهو معطوف على أَتَوْكَ أو في موضع الحال من الكاف في أَتَوْكَ- وقد- مضمرة كما في جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء: 90] وزمان الإتيان يعتبر واسعا كيومه وشهره فيكون مع التولي في زمان واحد ويكفي تسببه له وإن اختلف زمانهما كما ذكره الرضي في قولك: إذا جئتني اليوم أكرمتك غدا أي كان مجيئك سببا لإكرامك غدا، وفي إيثار «لا أجد» على ليس عندي من تلطيف الكلام وتطييب قول السائلين ما لا يخفى كأنه عليه الصلاة والسلام يطلب ما يسألونه على الاستمرار فلا يجده وذلك هو اللائق بمن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم صلى الله عليه وسلم وقوله سبحانه: وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ في موضع الحال من ضمير تَوَلَّوْا والفيض انصباب عن امتلاء وهو هنا مجاز عن الامتلاء بعلاقة السببية، والدمع الماء المخصوص ويجوز إبقاء الفيض على حقيقته ويكون إسناده إلى العين مجازا كجري النهر والدمع مصدر دمعت العين دمعا ومِنَ للأجل والسبب، وقيل: إنها للبيان وهي مع المجرور في محل نصب على التمييز وهو محول عن الفاعل. وتعقبه أبو حيان بأن التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن وأيضا لا يجيز تعريف التمييز إلا الكوفيون. وأجيب عن الأول بأنه منقوض بنحو قوله: عز من قائل وعن الثاني بأنه كفى إجازة الكوفيين، وذكر القطب أن أصل الكلام أعينهم يفيض دمعها ثم أعينهم تفيض دمعا وهو أبلغ لإسناد الفعل إلى غير الفاعل وجعله تمييزا سلوكا لطريق التبيين بعد الإبهام ولأن العين جعلت كأنها دمع فائض ثم أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أبلغ مما قبله بواسطة- من- التجريدية فإنه جعل أعينهم فائضة ثم جرد الأعين الفائضة من الدمع باعتبار الفيض. وتعقب بأن مِنَ هنا للبيان لما قد أبهم مما قد يبين بمجرد التمييز لأن معنى تفيض العين يفيض شيء من أشياء العين كما أن معنى قولك: طاب زيد طاب شيء من أشياء زيد والتمييز رفع إبهام ذلك الشيء فكذا من الدمع فهو في محل نصب على التمييز وحديث التجريد لا ينبغي أن يصدر ممن له معرفة بأساليب الكلام وقد مر بعض الكلام في المائدة على هذه الجملة فتذكر.
وقوله تعالى: حَزَناً نصب على العلية والحزن يستند إلى العين كالفيض فلا يقال: كيف ذاك وفاعل الفيض مغاير لفاعل الحزن ومع مغايرة الفاعل لا نصب، وقيل: جاز ذلك نظرا إلى المعنى إذ حاصله تولوا وهم يبكون حزنا وجوز نصبه على الحال من ضمير تَفِيضُ أي حزينة وعلى المصدرية لفعل دال عليه ما قبله أي لا تحزن حزنا والجملة حال أيضا من الضمير المشار إليه وقد يكون تعلق ذلك على احتمالات بتولوا أي تولوا للحزن أو حزنين أو يحزنون حزنا أَلَّا يَجِدُوا على حذف اللام وحذف الجار في مثل ذلك مطرد وهو متعلق بحزنا كيفما كان، وقيل:
لا يجوز تعلقه به إذا كان نصبا على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل ولعل من قال بالأول يمنع ذلك ويقول:
يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره وجوز تعلقه بتفيض وقيل: وهذا إذا لم يكن حَزَناً علة له وإلا فلا يجوز لأنه لا يكون لفعل واحد مفعولان لأجله والإبدال خلاف الظاهر أي لئلا يجدوا ما يُنْفِقُونَ في شراء ما يحتاجون إليه في الخروج معك إذا لم يجدوه عندك وهذا بحسب الظاهر يؤيد كون هذا الصنف مندرجا تحت قوله سبحانه:
وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ.