الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- أ -
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد جلس فضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله للتدريس -بفضل الله تعالى- فترة طيبة مباركة تجاوزت خمسين عامًا، تناول فيها الشيخ مختلف علوم الشريعة واللغة العربية.
ولقد أولى رحمه الله تفسير القرآن الكريم عناية خاصة، فوفّقه الله تعالى لاتباع منهج متميّز في بيان المعاني، وعرض المسائل العلمية وتأصيلها، وانتقاء القول الراجح المبني على الدليل ووجاهة التعليل، واستنباط الأحكام والفوائد من آيات القرآن الكريم.
وإنَّ من الدروس المسجلة صوتيًا لفضيلته، تفسيره سورة آل عمران، وقد كان ضمن سائر الدروس العلمية الأخرى التي عقدها رحمه الله في الجامع الكبير بمدينة عنيزة، ابتداءً من شهر رجب عام 1409 هـ وحتى شهر شوال عام 1412 هـ.
- ب -
وإنفاذًا للقواعد والتوجيهات التي قررها رحمه الله لإخراج مؤلفاته ودروسه، أُعِدَّ تفسير هذه السورة للطباعة والنشر.
وفي هذا المقام تود "مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية" أن تخص بالشكر أولئك الذين شاركوا في إخراج هذا الكتاب، وهم من طلبة الشيخ رحمه الله فجزاهم الله خيرًا وأجزل لهم المثوبة والأجر.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، موافقًا لمرضاته، نافعًا لعباده، وأن يجزي فضيلة شيخنا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ويضاعف له المثوبة والأجر، ويعلي درجته في المهديين، إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، خاتم النبيّين، وإمام المتقين، وسيّد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللجنة العلمية
في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
20/ 3/ 1426 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {الم} :
تقدَّم الكلام على ما يتعلق بالبسملة، وتقدَّم الكلام أيضًا على الحروف الهجائية التي ابتدأت بها بعض السور
(1)
.
وقوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} :
هذه جملة مكونة من مبتدأ وخبر. فـ {اللَّهُ} : مبتدأ، وجملة {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر المبتدأ. وجملة الخبر تسمى عند النحويين جملة صغرى؛ لأن الخبر إذا وقع جملة فهو جملة صغرى، والجملة الكبرى هي مجموع المبتدأ وجملة الخبر.
وقوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} خبران آخران؛ {الْحَيُّ} خبر لـ {اللهُ} ثانٍ، {الْقَيُّومُ} خبر ثالث.
و {اللهُ} عَلَمٌ على الذات المقدسة، علمٌ على الربِّ عز وجل، وأصله الإله بمعنى المألوه، وحذفت الهمزة تخفيفًا كما حذفت الهمزة من (خير) و (شر) في مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "خير
(1)
ينظر تفسير سورة الفاتحة والبقرة (ص 16).
صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها"
(1)
، أي: أخيرها وأشرها. وكما حذفت الهمزة من (الناس)، وأصلها أناس.
وهو أعرف المعارف على الإطلاق. ومعناه: المعبود حبًّا وتعظيمًا، فهو فِعال بمعنى مفعول، وما أكثر ما يأتي فعال بمعنى مفعول، كغِراس بمعنى مغروس، وبناء بمعنى مبني.
وقوله {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : أي لا معبود حقٌّ إلا هو. فـ (إله): اسم لَا النافية للجنس، وخبرها محذوف، تقديره: حق، وهناك آلهة باطلة ولكنها آلهة وُضِعَت عليها الأسماء بدون حق، كما قال الله تعالى:{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40]، وقال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 19 - 23]. وبهذا التقدير للخبر في {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، يزول الإشكال، وهو أنه كيف يُنفى الإله في مثل هذه الجملة، ويُثْبَتُ في مثل قوله:{وَفَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود: 101]؟ .
والجمع بينهما: أن تلك الآلهة باطلة، والإله في قوله:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إله حق، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62].
وقوله: {هُوَ} ، (هو) ضمير وليس اسمًا لله تعالى، بخلاف قوله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]. فلفظ {اللَّهُ} هنا عَلَم، وأما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، رقم (440).
مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. فـ (أنا) هنا ضمير.
فعلى هذا نقول: (أنا) و (هو) في قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} كلاهما ضمير رفع منفصل. فكما أن الذاكر لا يجعل (أنا) اسمًا لله، فلا يجوز أن يجعل (هو) اسمًا لله، وبهذا نعرف بطلان ذكر الصوفية الذين يذكرون الله بلفظ: هُوْ هُوْ. ويرون أن هذا الذكر أفضل الأذكار، وهو ذكر باطل.
وقوله: {الْحَيُّ} : (أل) هنا للاستغراق، أي الكامل الحياة، وحياة الله عز وجل كاملة في وجودها، وكاملة في زمنها، فهو حي لا أول له، ولا نهاية له. حياته لم تُسْبَقْ بِعَدَمٍ، ولا يلحقها زوال، وهي أيضًا كاملة حال وجودها، لا يدخلها نقص بوجه من الوجوه، فهو كامل في سمعه وعلمه وقدرته وجميع صفاته، إذا رأينا الآدمي بل إذا رأينا غير الله عز وجل وجدنا أنه ناقص في حياته زمنًا ووجودًا. حياته مسبوقة بعدم، ملحوقة بزوال وفناء، وهي أيضًا ناقصة في وجودها، ليس كامل السمع ولا البصر ولا العلم ولا القدرة، فكلُّ حي سوى الله ناقص.
وقوله: {الْقَيُّومُ} على وزن فَيْعُول، وهو مأخوذ من القيام، ومعناه: القائم بنفسه، القائم على غيره، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى أحد، والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه.
وفي الجمع بين الاسمين الكريمين {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} استغراق لجميع ما يوصف الله به بجميع الكمالات. ففي "الحي" كمال الصفات، وفي "القيوم" كمال الأفعال، وفيهما جميعًا كمال الذات، فهو كامل الصفات والأفعال والذات.
وقوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} :
{نَزَّلَ} : التنزيل يكون من أعلى إلى أسفل، ويكون بالتدريج شيئًا فشيئًا، كما قال الله تعالى:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]. وقال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32].
فقوله: {نَزَّلَ} يفيد أن هذا القرآن من عند الله، وأنه نزل بالتدريج ليس مرة واحدة.
وقوله: {عَلَيْكَ} الضمير يعود على الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد بيّن الله تعالى في آية أخرى أنه نزل على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليكون أدل على وعيه لهذا القرآن الذي نزل عليه؛ كما قال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 193 - 194].
وأما التعبير بـ {إِلَيْكَ} في نحو قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر: 2]، فهو يفيد الغاية، يعني نهاية الإنزال إلى الرسول.
{الْكِتَابَ} هو هذا القرآن، وهو فِعال بمعنى مفعول، فهو كتاب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78] أي اللوح المحفوظ، وهو كتاب في الصحف التي بأيدي الملائكة:{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس: 12 - 15]، وهو كتاب في الصحف التي بأيدينا، فهو مكتوب بأيدينا، ونقرؤه من هذه الكتب.
وقوله: {بِالْحَقِّ} الباء يجوز أن تكون بمعنى أنه متلبس
بالحق أي مشتمل على الحق، فهو نازل بحق لا بباطل، ويحتمل أن تكون متعلقة بالتنزيل، يعني أنه نزول حقّ ليس بباطل. قال تعالى:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210 - 211] بعد: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 192 - 193]، فيكون {بِالْحَقِّ} يعني أنه نازل عليك نزولًا حقًا ليس بباطل، فهو لم يكذب عليه الصلاة والسلام بهذا القرآن. ويحتمل أن يكون نازلًا بالحق يعني مشتملًا عليه ومتلبسًا به، والمعنيان صحيحان لا يتنافيان. والقاعدة: أن النص إذا دلَّ على معنيين صحيحين لا يتنافيان حُمل عليهما جميعًا.
وقوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} :
{مُصَدِّقًا} حال من الكتاب، ولا يصح أن نجعلها صفة، لأنَّ مصدقًا نكرة، والكتاب معرفة، والصفة يجب أن تتبع الموصوف في التعريف والتنكير.
وقوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني للذي بين يديه من الكتب السابقة، وتصديقه لما بين يديه له وجهان:
الوجه الأول: أنه صدقها لأنها أخبرت به فوقع مصدقًا لها.
الوجه الثاني: مصدقًا لما بين يديه أي حاكمًا عليها بالصدق.
فهو مصدق لما سبق من الكتب بالوجهين المذكورين؛ لأن الكتب أخبرت به فوقع، وإذا وقع صار تصديقًا لها. الوجه الثاني: أنه حكم بأنها صدق من عند الله عز وجل، وهذا التصديق لما بين يديه يشمل الوجهين جميعًا. فالقرآن شاهد بأن التوراة حق، والإنجيل حق، والزبور حق، وصحف إبراهيم حق، وأن الله أنزل على كل رسول كتابًا، كذلك مصدقًا للكتب التي
أخبرت به، فإن الكتب السابقة أخبرت بهذا القرآن، أنه سينزل، ووصفت النبي صلى الله عليه وسلم الذي سينزل عليه بأوصافه التي كانوا يعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم.
وقوله: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي لما سبقه؛ لأنَّ الذي بين يديك سابق عليك، لأنه أمامك فهو متقدم عليك.
وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} :
قال: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} ، {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} اختلاف التعبير يدل على اختلاف المعنى.
قال أهل العلم: إن التوراة والإنجيل نزلتا دفعة واحدة بدون تدريج بخلاف القرآن، فإنه نزل بالتدريج، وهذا من رحمة الله عز وجل على هذه الأمة، لأنه إذا نزل بالتدريج صارت أحكامه أيضًا بالتدريج، لكن لو نزل دفعة واحدة لزم الأمة أن تعمل به جميعًا بدون تدريج، وهذه من الآصار التي كتبت على من سبقنا، إذا نزلت عليهم الكتب مرة واحدة ألزموا بالعمل بها من حين أن تنزل فيما ألفوه وفيما لم يألفوه، بخلاف القرآن الكريم.
وقوله: {التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} .
التوراة: هي الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه الصلاة والسلام.
والإنجيل: هو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى عليه الصلاة والسلام.
وهذان اسمان، قيل: إنهما غير عربيين، وقيل: بل هما عربيان، ولكن الذي يظهر أنهما ليسا بعربيين، ولكنه إذا نزل القرآن بشيء صار اللفظ الذي نزل به القرآن عربيًا بالتعريب.
قال تعالى: {مِنْ قَبْلُ} :
بضم اللام مبنيًا، على القاعدة المعروفة فيها وفي أخواتها: أنه إذا حذف المضاف، وَنُوي معناه بُنيت على الضم.
وقوله تعالى: {هُدًى لِلنَّاسِ} :
{هُدًى} : مفعول لأجله متعلق بـ (نزل) و (أنزل)، أي: نزَّل عليك الكتاب هدى للناس، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، فهي مفعول من أجله، أي: من أجل هداية الناس. والمراد بالهداية هنا هداية الدلالة التي يترتب عليها هداية التوفيق.
لكن الأصل في هذه الكتب أنها هداية دلالة، ولهذا قال:{هُدًى لِلنَّاسِ} عمومًا، حتى الكفار تهديهم وتدلهم، وتبيِّن لهم الحق من الباطل، لكن قد يُوفَّقون لقبول الحق والعمل به، وقد لا يُوفَّقون.
والهدى ضد الضلال، واهتدى بمعنى سار على الطريق الصواب، وضلَّ بمعنى انحرف وتاهَ وضاع، ومنه سميت (الضالة) يعني البعير التائه الضائع.
وقوله: {هُدًى لِلنَّاسِ} والمراد بالناس: البشر وهم بنو آدم.
وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} :
ليس المراد بالفرقان هنا القرآن، بل المراد: أنزل ما يبيِّن به الفرق بين الحق والباطل. وإنما قلنا ذلك لأننا لو خصصناه بالقرآن لكان في ذلك تكرار مع قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} ، مع أن التوراة والإنجيل فيهما أيضًا فرقان، أي: فيهما تفريق بين الحق والباطل. إذن أنزل الفرقان الذي تضمنته هذه الكتب الثلاث وهي القرآن والتوراة والإنجيل.
وكلمة "الفرقان" كلمة واسعة تشمل كل ما به الفرق من جميع الوجوه بين أهل الحق وأهل الباطل، وبين النافع والضار، وبين الأنفع والنافع، وبين الأضر والضار وغير ذلك.
ولما ذكر الله سبحانه وتعالى منَّتَه على عباده بإنزال هذه الكتب العظيمة قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} يعني بعد إنزال هذه الكتب الواضحة الهادية المفرقة انقسم الناس إلى قسمين: قسم آمن، وقسم كفر. فَذَكر الله حكم الكافر، وبذكره يتبين حكم المؤمن.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} :
كفروا: يقال: إن أصل الكفر من الستر، ويطلق على الجحود؛ لأن الجاحد ساتر، و {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} أي جحدوها وأنكروها، وقلنا: إن الكفر من الستر لأن منه الكُفُرَّى. والكُفُرَّى: وعاء طلع النخل؛ لأنه يستر الطلع. فالكافر في الحقيقة ساتر، أي: جاحد للحق مخفٍ له.
{كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} : الآيات جمع آية. والآيات هي العلامات الدالة على وجود الله عز وجل، وعلى كماله الذاتي، وعلى كماله الفعلي، والآيات نوعان:
1 -
آيات كونية:
ومنها السموات والأرض، والشمس والقمر والنجوم، والجبال والشجر والدواب والإنسان، واختلاف اللغات، واختلاف الألوان، والنوم واليقظة، وأشياء كثيرة.
2 -
آيات شرعية:
وهي الوحي المنزَّل على الرسل.
ووجه كون الآيات الكونية آية: أنه لا يستطيع أحد أن يفعل مثل فعل الله عز وجل أبدًا. قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73].
ووجه كون الآيات الشرعية من آيات الله: أنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثل شرع الله في هداية الخلق وإصلاحهم أبدًا، لو اجتمع جميع مفكري العالم ليأتوا بدستور يُصلح الخلق كما يُصلحه الوحي، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. قال تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
لكن الآيات الكونية قد يعقلها كثير من الناس؛ لأنها آيات محسوسة مشهودة، حتى الكافر تقول له: هل تستطيع أن تخلق الذباب، يقول: لا أستطيع. أما الآيات الشرعية فليس كل أحد يدركها، قال تعالى:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 7 - 14]، فالإنسان إذا اجتمعت الذنوب على قلبه -نسأل الله أن يطهرنا وإياكم منها- صار لا يرى الحق حقًّا ولا الباطل باطلًا، عمي -والعياذ بالله- يُتلى عليه القرآن فيقول: هذه أساطير الأولين ليس كلام رب العالمين. ولهذا نقول: إن الآيات الشرعية هي التي فيها الامتحان والابتلاء، ومن ثَمَّ لم ينكر أحد ربوبية الله، كلٌّ مُقِرٌّ بأن اللهَ ربُّ العالمين، وأنه الذي خلق السموات والأرض، لكن الآيات الشرعية أُنْكِرَتْ.
فقريش كانوا إذا سُئلوا: مَنْ خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله. لكن قالوا في القرآن: إنه كهانة وشعر وسحر وما أشبه ذلك.
وقوله: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} :
والعذاب هنا بمعنى العقوبة، والشديد: القوي. يعني العقوبة قوية -والعياذ بالله- وقد ذكر الله تعالى في القرآن، وذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم في السنّة أصنافًا وأنواعًا من هذا العذاب تقشعر منه الجلود، وتوجل منه القلوب. قال الله تعالى:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] إن يستغيثوا، ولا يستغيثون إلا لشدة الحر والظمأ، فإذا أغيثوا يؤتون بماء يشوي الوجوه، إذا أقبلوا به إلى أفواههم ليشربوه شوى وجوههم والعياذ بالله.
قال تعالى: {بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29] هذا شرابهم.
وقال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43 - 46] هذا طعامهم.
وأما لباسهم فقال تعالى: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50].
ومقرهم: قال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55].
{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56].
ولأهل هذا العذاب الصراخ والعويل. قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}
فيقال لهم توبيخًا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37].
والسنّة مملوءة بذكر أصناف العقاب الذي يعاقب به هؤلاء، فهو عذاب شديد.
وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} :
عزيز: أي: ذو العزة، وهي ثلاثة أصناف:
1 -
عزة القَدْر.
2 -
عزة القهر.
3 -
عزة الامتناع.
عزة القدر:
بمعنى أن الله ذو قَدْرٍ شريف عظيم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"السيد الله"
(1)
. هذه عزة القدر.
وعزة القهر:
بمعنى أنه القاهر لكل شيء، لا يُغْلَب، بل هو الغالب. قال تعالى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18].
وقال الشاعر الجاهلي:
أين المفر والإله الطالب
…
والأشرم المغلوب ليس الغالب
فالله سبحانه غالب على كل شيء.
وعزة الامتناع:
أي: أنه عز وجل يمتنع أن يناله سوء أو نقص، ومن هذا
(1)
أخرجه أحمد (4/ 24 - 25). والبخاري في الأدب المفرد (211). وأبو داود، كتاب الأدب، باب في كراهية التمادح، رقم (4806). والنسائي في عمل اليوم والليلة (247). قال الحافظ في الفتح (5/ 179): ورجاله ثقات، وقد صححه غير واحد.
المعنى قولهم: هذه أرض عَزَاز، أي: صلبة قوية لا تؤثر فيها المعاول.
وقوله: {ذُو انْتِقَامٍ} : أي صاحب انتقام، والانتقام أخذ المجرم بإجرامه. تقول: انتقمت من زيد. يعني: أخذت بحقي منه. قال الله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22].
وهنا قال: "ذو انتقام" ولم يقل "ذو الانتقام". وفي الرحمة قال: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58] ولم يقل: "ذو رحمة". وإن كان قد قال في آية أخرى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6]؛ لأن الانتقام ليس من أوصاف الله المطلقة، وليس من أسماء الله المنتقم. فـ (المنتقم) لا يوصف الله به إلا مقيدًا؛ فيقال: المنتقم من المجرمين، كما قال تعالى:{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22]. أما {ذُو انْتِقَامٍ} فهي لا تعطي معنى الانتقام المطلق؛ لأن (انتقام) نكرة، فلا تعطي المعنى على الإطلاق، بل له انتقام مقيد بالمجرمين، ونحوهم.
وبهذا نعرف أن الأسماء المسرودة في الحديث الذي رواه الترمذي لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، لأنها ذُكِرَ فيها من أسماء الله المنتقم، وهذا لا يصح، وحُذِفَ من أسماء الله ما ثبتت به الأحاديث فلم يُذكر فيها مثل: الشافي، والرب.
(1)
أخرجه الترمذي في الدعوات، باب ما جاء في عقد التسبيح باليد، رقم (3507)، وقال:"غريب". وابن حبان (2384)، وقال ابن حزم في المحلى (8/ 31): وقد جاءت أحاديث في إحصاء التسعة والتسعين اسمًا مضطربة لا يصح منها شيء أصلًا، فإنما تؤخذ من نص القرآن، ومما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
من فوائد الآيات الكريمة:
1 -
إثبات ألوهية الله عز وجل، لقوله:{اللَّهُ} .
2 -
انفراده بهذه الألوهية، لقوله:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .
3 -
إثبات اسمين من أسماء الله {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . وقد ورد أنهما اسم الله الأعظم، لاشتمالهما على كمال الذات والصفات والأفعال.
4 -
إثبات حياته وقيوميته؛ لأنَّ كل اسم فإنه متضمن للصفة، وقد يتضمن أمرًا زائدًا وهو الحكم الذي يسمى الأثر.
5 -
أن كل شيء مفتقر إلى الله، وأن الله غني عما سواه، ووجه ذلك: أنّ كمال حياته يستلزم غناه عن كل أحد، وكمال قيوميته يستلزم افتقار كل شيء إليه، وهو كذلك. قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]، وقال تعالى:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33].
6 -
إثبات علو الله؛ لقوله: {نَزَّلَ} ، {وَأَنزَلَ} . والنزول لا يكون إلا من أعلى.
7 -
أن القرآن الكريم منزل؛ لقوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ} ، ومجرد كونه منزلًا لا يستلزم ألا يكون مخلوقًا؛ لأن الله قد ينزل المخلوق. قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9]، وقال تعالى:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الرعد: 17] والماء مخلوق. لكن بالنظر لكون القرآن كلامًا يستلزم ألا يكون مخلوقًا؛ لأن الكلام صفة المتكلم، وصفة الخالق غير مخلوقة.
إذن فيؤخذ أن القرآن غير مخلوق لكونه نزل من عند الله وهو كلام، والكلام صفة المتكلم، والصفة تابعة للموصوف.
8 -
فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم وميزته؛ لقوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}، والله سبحانه وتعالى قد يضيف الإنزال إلى الناس كما قال تعالى في سورة البقرة:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136]، وفي سورة آل عمران:{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [آل عمران: 84]، لكنه أنزل إلى الرسول مباشرة وإلينا بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي بلغه إلينا، ومعلوم أن الأصل أشرف من الفرع.
9 -
أن هذا الكتاب الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم مشتمل على الحق، لقوله:{بِالْحَقِّ} . فقد جاء بالحق، ونزل به. قال تعالى:{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105]، فالحق في الأخبار الصدق، والحق في الأحكام العدل، كما قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115].
10 -
أن القرآن نفسه حق. يؤخذ من قوله: {بِالْحَقِّ} يعني: أنه نزل نزولًا بحق ليس نزولًا كذبًا باطلًا.
11 -
فضيلة القرآن لوصفه بالحق نزولًا وتضمنًا، ولوصفه بالتصديق لما بين يديه.
12 -
الإشارة إلى أن هذا القرآن قد أخبرت عنه الكتب السابقة.
13 -
جواز التعبير بما يخالف الظاهر إذا دلّ عليه السياق كما في قوله: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ، لأن الكلمة دلت على معناها في سياقها، وإن كان يخالف أصل الوضع.
14 -
أن التوراة النازلة على موسى، والإنجيل النازل على عيسى عليهما الصلاة والسلام حق؛ لقوله:{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} .
15 -
الإشارة إلى أن التوراة والإنجيل قد نسخا بالقرآن، وقد صرح بذلك في سورة المائدة. قال تعالى:{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
مسألة: المعروف عند السلف أن التوراة والإنجيل من كلام الله، لكن لا أذكر حتى الآن دليلًا على وصفهما بأنهما من كلام الله، إنما وصفهما الله بأنها منزَّلة، وأنها كتب، والله تعالى يقول:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145]، وجاء في الحديث:"إن الله كتب التوراة بيده"
(1)
. فأنا أتوقف في هذا، لكن السلف كلامهم واضح يقولون: إن التوراة والإنجيل من كلام الله. ويكفي أن نؤمن بأنها نازلة من عند الله.
16 -
رحمة الله عز وجل بعباده، وعنايته بهم حيث كان ينزل الكتب على رسله هدى للناس.
17 -
إثبات الحكمة لله تعالى في أحكامه الشرعية كما تثبت في أحكامه الكونية، لقوله:{هُدًى لِلنَّاسِ} .
ومن أسماء الله تعالى الحكيم، وهو ذو الحكمة. والحكمة هي إصابة الصواب، وإن شئت فقل: وضع الشيء في موضعه، وإن شئت فقل: إتقان الشيء وإحكامه. فإذا وقع من أفعال الله أو من شرع الله ما لا نعلم له حكمة فليس ذلك إلا لقصور فهمنا، وعجزنا عن إدراك الحكمة. وإذا وقع ما نظن أنه على خلاف الحكمة فما ذاك إلا لسوء فهمنا، فالذي يظن أنه ليس له حكمة قاصر الفهم،
(1)
أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، رقم (2652).
والذي يظن أنه على خلاف الحكمة سيئ الفهم، أما سليم الفهم الذي يعطيه الله تعالى فهمًا فستتبين له الحكمة، ومع ذلك لا يمكن أن ندرك كل وجوه الحكمة؛ لأن حكمة الله عز وجل لا تدرك غايتها، والإنسان بشر ناقص، وكم من أحكام شرعية تظن أن حكمتها كذا وكذا ثم يتبين لك أن لها حِكَمًا أخرى، أو ربما يتبين لك أن هذه ليست الحكمة بل الحكمة شيء آخر، إنما يجب عليك أن تؤمن بأنه ما من حكم لله كوني أو شرعي إلا وله حكمة.
ولا يلزم على هذا أن تذهب مذهب المعتزلة في وجوب فعل الصلاح، أو وجوب فعل الأصلح، على الله لأمرين:
الأول: قد تظن أن هذا هو الأصلح، وليس الأصلح. ولنضرب لهذا مثلًا: نحن نظن أن الأصلح نزول الغيث، وخصب الأرض، فإذا امتنع المطر وأجدبت الأرض فقد يكون هذا هو المصلحة! ونحن لا نعلم.
إذن لا يمكن أن نقول: يجب على الله كذا لأنه أصلح، إذ قد يكون ما قلنا إنه الأصلح هو الأفسد! .
الثاني: إذا تحققنا أنه الأصلح فإنه يجب بمقتضى الحكمة لا بمقتضى العقل. فنحن لا نوجب على الله بعقولنا، والعقل لا يوجب على الله شيئًا، لأن العقل مخلوق ناقص، فلا يوجب على الكامل الأزلي الأبدي شيئًا، فإذا وجب فعل الأصلح فإنما الذي أوجبه على نفسه الله. قال الله تعالى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] وقال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل: 12]. فأوجب على نفسه أن يهدي الناس ويدلهم، فإذا ثبت أن هذا هو الأصلح فقد وجب على الله بمقتضى حكمته وإيجابه على
نفسه، لا بمقتضى عقولنا وإيجابنا عليه، وبهذا ننفك عن قول المعتزلة الذين يرون أن العقل هو الذي يوجب الشيء أو الذي يمنع الشيء، أو الذي يقبح الشيء أو الذي يحسِّن الشيء. ومن ذلك مثلًا: البيان للخلق، بيان الشرائع للخلق وما يجب عليهم نحو ربهم، وما يجب عليهم نحو عباد الله، واجب على الله بمقتضى الحكمة، {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل: 12].
18 -
أن هداية القرآن نوعان: عامة، وخاصة. فالعامة مثل هذه الآية:{هُدًى لِلنَّاسِ} . والخاصة مثل قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] والفرق بينهما أن الهداية التي بمعنى الدلالة عامة؛ لقوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، والهداية التي بمعنى التوفيق والاهتداء خاصة بالمتقين.
19 -
أن الكتب كلها فرقان تتضمن الفرق بين الحق والباطل، وبين الصدق والكذب، وبين المؤمن والكافر، وبين الضار والنافع، كل ما يمكن أن يكون فيه فرق فإن الكتب تفرقه.
20 -
أنه يمتنع أن تجمع الكتب السماوية بين مختلفين، أو أن تفرق بين متماثلين أبدًا؛ لأن الفرقانَ هو الذي يفرق بين شيئين مختلفين. أما شيئان لا يختلفان فلا تفريق بينهما، ويتفرع على هذه الفائدة إثبات القياس؛ لأن القياس إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة، فهو جمع بين متماثلين، وعدم الأخذ بالقياس تفريق بين متماثلين.
21 -
أنه كلما اهتدى الإنسان للفروق كان أعظم اهتداء بالكتب المنزلة من الله؛ لأن الكتب كلها فرقان. فمثلًا: إذا كان
الإنسان يفرق بين الشرك الأصغر والأكبر، وبين النفاق الاعتقادي والعملي، وبين الكفر الأكبر والأصغر، وبين الحلال والحرام، كان أشد اهتداء بالكتب ممن لا يفرق.
وربما يؤخذ من هذا أيضًا الإشارة إلى أنه ينبغي الاعتناء بمعرفة الفروق بين الأشياء المتشابهة، وهذا فن أخذ به بعض أهل العلم ولاسيما في كتب الفقه، فيذكرون مثلًا: الفروق بين البيع والإجارة، بين الإجارة والجعالة، بين الرهن والضمان، بين الضمان والكفالة، بين الفرض والتطوع، وهذه من فنون العلم الشريفة التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها، كذلك في العقائد والتوحيد يفرق بين الشرك الأكبر والأصغر، فرجل حلف بغير الله نقول: هو مشرك. ورجل عبد صنمًا نقول -أيضًا-: هو مشرك، لكن بينهما فرق عظيم. العابد للصنم شركه أكبر، والحالف بغير الله شركه أصغر إلا أن يضاف إلى حلفه بغير الله جَعْله المحلوف به كالله تعالى في التعظيم، فحينئذ يكون شركًا أكبر لا من حيث القسم، ولكن من حيث إنه جعل رتبة المحلوف به كرتبة الخالق.
22 -
بيان عقوبة الكفار وهي العذاب الشديد، وذكر عقوبة الكافر تستلزم التحذير من الكفر.
23 -
الإشارة إلى أن الناس ينقسمون إلى قسمين:
كافر له العذاب الشديد، ومؤمن له الثواب الجزيل، لأنه إذا ذكر عقوبة الضد، فإن ضده تثبت له ضد تلك العقوبة، ولهذا لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، قال: "أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في
الحلال كان له أجر"
(1)
. وقد يكون هذا من جملة الفرقان الذي يحصل حيث نفرق بين الكفار وبين المؤمنين، فكما اختلفوا وتفرقوا في أعمالهم فإنه يلزم أن يفترقوا في ثواب تلك الأعمال.
24 -
إثبات اسم من أسماء الله وهو: (العزيز) بالمعاني الثلاثة السابقة.
25 -
أن الله تعالى موصوف بالانتقام؛ لقوله: {ذُو انْتِقَامٍ} ولكنه ليس على سبيل الإطلاق كما تقدم بل هو منتقم ممن يستحق ذلك وهم المجرمون كما قال تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22].
* * *
• قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5].
هذه جملة خبرية مؤكدة بـ {إِنَّ} ، وخبرها منفي {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} ، والخفاء ضد الظهور. و {شَيْءٌ} نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء في الأرض والسمماء، وقوله:{وَلَا فِي السَّمَاءِ} متعلقة بـ "يخفى" يعني لا يخفى عليه شيء لا في هذا ولا في هذا. والمراد بالأرض والسماء الجنس، فيشمل الأرضين والسموات جميعًا. وإنما خصَّ الأرض والسماء لأنهما مشهودان لنا، وما عدا ذلك لا نعلمه إلا عن طريق الغيب.
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، رقم (1006).
وفي هذه الآية الكريمة يخبر الله عز وجل أنَّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهي صفة سلبية المراد بها بيان كمال علمه؛ لأن الصفات المنفية لا يراد بها مجرد النفي، وإنما يراد بها بيان كمال ضد ذلك المنفي.
والغرض من هذه الجملة تربية الإنسان نفسه في امتثال أمر الله واجتناب نهيه، وأنك لا تظن أن عملك يخفى على الله، بل هو معلوم له، فعليك أن تقوم بطاعته وتجتنب معصيته. لا تقل: أنا في بيتي أو في غرفتي لا يطلع عليّ أحد، فالله تعالى مطلع عليك:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} .
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
التحذير من مخالفة الله؛ لأنَّ الله يعلم بمخالفتك إياه.
2 -
الرد على غلاة القدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم الشيء الذي يفعله العبد إلا بعد وقوعه.
3 -
أن الله تعالى عالم بالكليات والجزئيات؛ لقوله: {شَيْءٌ} ، لأنَّ النكرة في سياق النفي تعم كل شيء.
4 -
أن صفات الله عز وجل إما مثبتة وإما منفية، فالمثبتة يسمونها ثبوتية، والمنفية يسمونها سلبية، والسلبية متضمنة لثبوت كمال الضد، فلكمال علمه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
* * *
• ثم قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 6].
وهذا من جملة معلوماته التي تخفى على كثير من الناس وهي معلومة له.
وقوله: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ} أي: يجعلكم على صورة معينة يختارها ويريدها.
وقوله: {فِي الْأَرْحَامِ} حال من الضمير "الكاف" في يصوركم، يعني حال كونكم في الأرحام.
{الْأَرْحَامِ} : جمع رحم، وهو وعاء الجنين في بطن أمه. وقد بيّن الله تعالى في آية ثانية أن الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث، وهي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، وهو الوعاء المائي الذي يكون فيه الجنين.
وقوله تعالى: {كَيْفَ يَشَاءُ} هذه حال من فاعل {يَشَاءُ} يعني أنه يصورنا على أي كيفية شاء، فلا خيار لنا في اختيار الصورة المعينة للجنين الذي في البطن.
وقوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :
هذه الجملة خبرية فيها الحصر الذي طريقه النفي والإثبات.
والـ {إِلَهَ} : بمعنى مألوه. وقوله: {إِلَّا هُوَ} الضمير {هُوَ} بدل من الخبر المحذوف، أي لا إله حق إلا هو.
{الْعَزِيزُ} : سبق لنا قريبًا معناه.
{الْحَكِيمُ} : فعيل بمعنى مُفْعِل، وفعيل بمعنى فاعل، أما فعيل بمعنى فاعل فهو كثير في اللغة العربية، مثل: قدير بمعنى قادر، وسميع بمعنى سامع، وأما سميع بمعنى مُسْمِع فهي واردة في اللغة العربية. قال الشاعر:
أمن ريحانة الداعي السميعُ
…
يؤرقني وأصحابي هجوع
(1)
(1)
قاله عمرو بن معد يكرب.
فالسميع: بمعنى المُسمع الذي يُسمعني.
فتكون (حكيم) هنا بمعنى مُحكِم وبمعنى حاكم، فالله عز وجل حاكم محكم لما حكم. وحكم الله تعالى ينقسم إلى قسمين:
1 -
حكم كوني:
وهو ما قضاه الله على عباده كونًا، وهذا يخضع له كل أحد من مؤمن وكافر، وبَرٍ وفاجرٍ، ولا يستطيع أحد أن يهرب منه أبدًا.
2 -
حكم شرعي:
وهو ما قضاه الله على عباده شرعًا، وهذا هو الذي اختلف فيه الناس، فمنهم كافر ومنهم مؤمن، منهم من خضع لهذا الحكم الشرعي وقام بما يجب عليه نحوه، ومنهم من استكبر عنه، وكذب به، ولم يرفع به رأسًا.
وفي الآية هنا يكون (حكيم) بمعنى ذي الحكمة أي متقن لكل ما حكم به. فكل ما حكم الله به من حكم كوني أو شرعي فهو على أتم وجه وأتقنه وأحسنه.
قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3 - 4]. وقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
والحكمة سواء في الحكم الكوني أو في الحكم الشرعي إما صورية؛ بأن يكون الشيء على صورة مطابقة للحكمة، أو غائية بأن تكون الغاية منه غاية حميدة، فإذا نظرنا إلى الشرع فإن جميع
ما شرعه على الصورة المطابقة للحكمة كالصلاة والزكاة والصيام والحج، ثم الغرض منها -وهو إصلاح القلوب وإصلاح الأعمال وإصلاح الفرد وإصلاح المجتمع- أيضًا موافق للحكمة.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان قدرة الله عز وجل حيث يصور المخلوقات في الأرحام.
2 -
أن صور المخلوقات يكون تصويرها بأمر الله وإذنه كيف يشاء، هذا أبيض وهذا أسود، وهذا جميل وهذا قبيح، وهذا طويل وهذا قصير، وهذا غليظ وهذا دقيق وهكذا، بل ويشمل أن هذا ذكر وهذا أنثى؛ لأن صورة الذكر تختلف عن صورة الأنثى.
3 -
بيان رحمة الله عز وجل حيث يتولى شؤون الجنين ويصوره، لا يخرج غير مصور. لو شاء الله لخرج الجنين غير مصور ثم يصور شيئًا فشيئًا، كما ينمو عقله، ولكن من حكمة الله ورحمته أنه لا يخرج إلا على الصورة التي أرادها الله عز وجل.
فإذا قال قائل: {كَيْفَ يَشَاءُ} يستفاد منها أن هذا التصوير لا يرجع إلى فعل العبد وإنما يرجع لمشيئة الله عز وجل وهو كذلك، ولكن هذا لا ينافي أن تكون الصورة قريبة من صورة الأب أو من صورة الأم أو الجد أو الجدة، يعني أن يكون هذا الجنين قد نزعه عرق من آبائه وأمهاته وأقاربه، هذا لا يمنع، لأن الله عز وجل قد جعل لكل شيء سببًا، ويدل لهذا قصة الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود -وكان الرجل وزوجته أبيضين- كأنه يعرِّض بزوجته
ما الذي أتى بالأسود لها؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك من إبل؟ "، قال: نعم، قال:"فما ألوانها؟ " قال: حمر، قال:"هل فيها من أورق؟ (الأورق: الفضي بين البياض والسواد) "، قال: نعم، قال:"أَنَّى لها ذلك؟ "، قال: لعله نزعه عرق، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"فابنك هذا لعله نزعه عرق"
(1)
. فاقتنع الرجل، لأن هذا قياس جلي واضح.
الشاهد قوله: "لعله نزعه عرق"، فيستفاد من ذلك أن هذه الكيفية التي يريدها الله عز وجل في الأرحام لا يمنع أن يكون قد نزعها عرق من آبائه أو أمهاته أو أجداده أو جداته.
4 -
إثبات المشيئة لله تعالى؛ لقوله: {كَيْفَ يَشَاءُ} ، وقد سبق لنا أن المشيئة إذا أطلقت فهي مقرونة بالحكمة، فما من شيء يشاؤه الله إلا لحكمة.
فإن قال قائل: هل في الآية دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يعمل عملية تجميل لقوله: {كَيْفَ يَشَاءُ} ، حيث جعل التصوير راجعًا إلى مشيئته وحده. قد يقال ذلك، وقد لا يقال؛ لأن الله تعالى أخبر في آيات كثيرة بأنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، يعني يضيق، ولا نقول: إن الإنسان ممنوع من أن يفعل الأسباب التي يكون بها بسط الرزق؛ لأن البسط راجع إلى مشيئة الله! ولكن هناك فرق بين مسألة بسط الرزق وطلب البسط وهذه المسألة؛ لأن النصوص وردت بمنع التجميل، فقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه "لعن النَّامصة
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب إذا عرض بِنَفي الولد رقم (5305). ومسلم، كتاب اللعان، رقم (1500).
والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة، والواشمة والمستوشمة"
(1)
. وهذا يدل على أن الإنسان ممنوع من التجميل، والمراد التجميل الذي يكون دائمًا. أما التجميل الطارئ كتجمل المرأة بالحناء وشبهه فلا بأس به.
فإذا قال قائل: هل في الآية ما يدل على منع إزالة العيوب لقوله: {كَيْفَ يَشَاءُ} ، كما إذا خرج صبي له ستة أصابع في كل يد فهل يجوز أن نقطع الإصبع الزائد؟
فهذا ليس من باب التجميل ولكنه من باب إزالة العيب. وإزالة العيب جاءت السنّة بجوازه، فإن الرجل الذي قطع أنفه أذن له الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتخذ أنفًا من وَرِق -يعني من فضة- فأنتن! فأذن له أن يتخذ أنفًا من ذهب
(2)
. فهذا يدل على أن إزالة العيب ليست كجلب الجمال. وعلى هذا فيجوز قطع الإصبع الزائدة، ولكن بعض أهل العلم صرح بالتحريم إلا أنهم علَّلوا ذلك بأنه يُخشى على من قطعت إصبعه أن يموت بنزيف
(1)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب المتفلِّجات للحسن، رقم (5931). ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة، والمتفلجات والمغيرات خلق الله، رقم (2125).
وليس عندهما لعن الواشرة والمستوشرة. وقد أخرج أحمد (1/ 415) لعن الواشرة. وسنده صحيح على شرط مسلم.
(2)
أخرجه أحمد (4/ 342). وأبو داود، كتاب الخاتم، باب ما جاء في ربط الأسنان بالذهب، رقم (4232). والترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء في شد الأسنان بالذهب، رقم (1770)، وقال عنه: هذا حديث حسن غريب.
الدم! وهذه العلة منتفية في الزمن الحاضر، وعليه فيجوز قطع الإصبع الزائدة، ومثله لو فرض أن هناك لحمة زائدة في الأذن أو في الرأس في الرقبة فتجوز إزالتها.
5 -
إثبات انفراد الله عز وجل بالألوهية؛ لقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .
6 -
إثبات الاسمين الكريمين العزيز والحكيم، وما تضمناه من صفة.
وكل اسم من أسماء الله دال على الذات وعلى الوصف المشتق منه، فإن كان متعديًا ففيه دلالة ثالثة وهي الأثر المترتب على ذلك.
فـ {السَّمِيْعُ} مثلًا: فيه إثبات الاسم وهو السميع، والصفة وهي السمع، والأثر وهو أنه يسمع، وهكذا العليم. أما ما لا يتعدى للغير ففيه إثبات الاسم والصفة فقط، مثل: الحي، العظيم، العلي.
* * *
الضمير {هُوَ} يعود على الله، وتأمل هنا ترابط الآيات مع بعضها البعض، لما ذكر الله عز وجل أنه هو المصور -والتصوير ابتداء الخلق- ذكر بعده إنزال الكتاب الذي به الهداية كقوله:
{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4]، فأحيانًا يبيّن الله النعمة الدينية قبل، وأحيانًا يبيِّن الله النعمة الدنيوية قبل، فبدأ الله هنا بالتصوير ثم ذكر إنزال القرآن، وفي سورة الرحمن ذكر تعليم القرآن قبل خلق الإنسان.
{الكِتَابَ} : هو القرآن، ثم قسّم الله هذا الكتاب فقال:{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} ، يعني: ومنه أُخر متشابهات. وهنا يتعين أن نقول: ومنه أُخر ليتم التقسيم.
فـ (أُخَر) مبتدأ خبره محذوف يعني: ومنه أخر متشابهات، نظير قوله تعالى:{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] فـ (سعيد) هنا ليست معطوفة على (شقي) لأنها لو كانت معطوفة عليها لفسد التقسيم، ولكن التقدير: منهم شقي ومنهم سعيد.
والاشتباه قد يكون اشتباه في المعنى، بحيث يكون المعنى غير واضح، أو اشتباه في التعارض، بحيث يظن الظان أن القرآن يعارض بعضه بعضًا، وهذا لا يمكن أن يكون، لأن الله عز وجل قال:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. والقرآن يصدق بعضه بعضًا.
والتعارض الذي يفهمه من قد يفهمه من الناس يكون للأسباب التالية:
1 -
إما لقصور في العلم.
2 -
أو قصور في الفهم.
3 -
أو تقصير في التدبر.
4 -
أو سوء في القصد، بحيث يظن أن القرآن يتعارض، فإذا ظن هذا الظن لم يوفق للجمع بين النصوص، فيحرم الخير لأنه ظن ما لا يليق بالقرآن.
قال تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} :
(الآيات): جمع آية وهي العلامة، وكل آية في القرآن فهي علامة على مُنْزِلها لما فيها من الإعجاز والتحدي، وقوله:{مُحْكَمَاتٌ} أي: متقنات في الدلالة والحكم والخبر، فأخبارها وأحكامها متقنة معلومة ليس فيها إشكال.
وقوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} :
يعني: أن أحكامها غير معلومة، وأخبارها غير معلومة، فصار المحكم هو المتقن في الدلالة سواء كان خبرًا أو حكمًا، والمتشابه هو الذي دلالته غير واضحة سواء كان خبرًا أو حكمًا.
ولهذا نجد أن بعض الآيات لا تدل دلالة صريحة على الحكم الذي اسْتُدِلَّ بها عليه، وبعض الآيات الخبرية أيضًا لا تدل دلالة صريحة على الخبر الذي استدل بها عليه.
قال تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} :
قدَّم وصف هذه المحكمات وبيان حالها ليتبادر إلى الذهن أول ما يتبادر أنه يرد المتشابهات إلى المحكمات لأنها أمٌّ، وأمُّ الشئ مرجعه وأصله. كما قال الله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]: أي المرجع وهو اللوح المحفوظ الذي ترجع الكتابات كلها إليه، ومنه سميت الفاتحة أم الكتاب، لأن مرجع القرآن إليها. فهذه المحكمات يجب أن ترد إليها المتشابهات.
ينقسم الناس بالنسبة إلى هذه المتشابهات إلى قسمين:
1 -
قسم يتبعون المتشابه ويضعونه أمام الناس ويعرضونه عليهم. فيقولون: كيف كذا وكيف كذا؟
2 -
وقسم آخر يقولون: آمنا به كل من عند ربنا، فإذا كان من عند ربنا فلا يمكن أن يتناقض، ولا يمكن أن يتخالف، بل هو متحد متفق، فيرد المتشابه منه إلى المحكم، ويكون جميعه محكمًا.
وقوله: {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الزيغ: بمعنى الميل، من قولهم: زاغت الشمس إذا مالت عن كبد السماء.
أي: في قلوبهم ميل عن الحق، فهم لا يريدون الحق، وإنما يتبعون المتشابه، فتجدهم -والعياذ بالله- يأخذون آيات القرآن التي فيها اشتباه حتى يضربوا بعضها ببعض وما أكثر هؤلاء! ! ليصدوا عن سبيل الله ويشككوا الناس في كلام الله عز وجل، وأما الذين ليس في قلوبهم زيغ وهم الراسخون في العلم الذين عندهم من العلم ما يتمكنون به أن يجمعوا بين الآيات المتشابهة، وأن يعرفوا معناها، فهؤلاء لا يكون عندهم هذا التشابه بل يقولون:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فلا يرون في القرآن شيئًا متعارضًا متناقضًا.
وكل أهل البدع من الرافضة والخوارج والمعتزلة والجهمية وغيرهم كلهم اتبعوا ما تشابه منه، لكن مستقل ومستكثر، فهؤلاء يتبعون ما تشابه لهذين الغرضين أو لأحدهما:
1 -
{ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي: صد الناس عن دين الله، لأن الفتنة بمعنى الصد عن دين الله، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ
الْحَرِيقِ} [البروج: 10]. فتنوهم: يعني صدُّوهم عن دين الله.
2 -
{وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ، أي: طلب تأويله لما يريدون، فهم يفسِّرونه على مرادهم لا على مراد الله تعالى.
اختلف السلف في الوقف عليها، فأكثر السلف وقف على قوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، ثم نبتدئ فنقول:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وعلى هذا تكون الواو في {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} للاستئناف، {وَالرَّاسِخُونَ}: مبتدأ، وجملة {يَقُولُونَ} خبر المبتدأ، ويصبح المعنى أن هذا المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله عز وجل، وأما الراسخون في العلم الذين لم يعلموا تأويله يقولون:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، وليس في كلام ربنا تناقض ولا تضارب، فيسلمون الأمر إلى الله عز وجل؛ لأنه هو العالم بما أراد، وينقسم الناس إذن إلى قسمين:
1 -
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} .
2 -
{الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} .
ووصل بعض السلف ولم يقف، فقرأ:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فتكون الواو للعطف، والراسخون: معطوفة على لفظ الجلالة، أي: لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، بخلاف الذين في قلوبهم زيغ فهؤلاء لا يعلمون. والحقيقة أن ظاهر القراءتين التعارض لأن:
القراءة الأولى: تقتضي أنه لا يعلم تأويل هذا المتشابه إلا الله.
والقراءة الثانية: تقتضي أن هذا المتشابه يعلم تأويله الله والراسخون في العلم.
فيكون ظاهر القولين التعارض، ولكن الصحيح أنه لا تعارض بينهما، وأن هذا الخلاف مبني على الاختلاف في معنى التأويل في قوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، فإن كان المراد بالتأويل التفسير فقراءة الوصل أولى، لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسير القرآن المتشابه، ولا يخفى عليهم؛ لرسوخهم في العلم، وبلوغهم عمقه؛ لأن الراسخ في الشيء هو الثابت فيه المتمكن منه، فهم لتمكنهم وثبوت أقدامهم في العلم وتعمقهم فيه يعلمون ما يخفى على غيرهم.
أما إذا جعلنا التأويل بمعنى العاقبة والغاية المجهولة، فالوقف على {إِلَّا اللَّهُ} أولى؛ لأن عاقبة هذا المتشابه وما يؤول إليه أمره مجهول لكل الخلق.
والتأويل يكون بمعنى التفسير، وبمعنى العاقبة المجهولة التي لا يعلمها إلا الله، وكلا المعنيين موجود في القرآن، فمن الأول: قول أحد صاحبي السجن ليوسف عليه الصلة والسلام: {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36].
أي: بتفسير هذه الرؤية ما معناها؟ ففسرها، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ابن عباس:"اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل"
(1)
أي تفسير الكلام ومعرفة معناه.
(1)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 266) بهذا اللفظ، وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند (2397): إسناده صحيح اهـ. =
ومن الثاني: قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53].
فقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} يعني: عاقبته وهو ما يؤول إليه، {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} بمعنى: تأتي عاقبته التي وعدوا بها. ومنه كذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] يعني: أحسن عاقبة ومآلًا.
واعلم أن كثيرًا من الناس الذين يتكلمون في العقائد فسروا المتشابه بآيات الصفات. قالوا: إن المتشابهات هن آيات الصفات. ولكن لا شك أن تفسير المتشابهات بآيات الصفات على الإطلاق ليس بسديد، لأن آيات الصفات معلومة مجهولة؛ فهي من حيث المعنى معلومة، ولا يمكن أن يخاطبنا الله عز وجل ويحدثنا عن نفسه بأمر مجهول لا نستفيد منه، وليس هو بالنسبة إلينا إلا كنسبة الحروف الهجائية التي ليس فيها معنى، هذا غير ممكن إطلاقًا.
نعم، هي مجهولة من جهة أخرى وهي الحقيقة والكيفية التي هي عليها، فهذا مجهول لنا، لا نعلم كيف يد الله، ولا ندرك حقيقتها، ولا نعلم وجه الله، ولا ندرك حقيقته، ولا ندرك حقيقة علم الله عز وجل، ولا ندرك كل صفاته ولا ندرك
= والجملة الأولى منه أخرجها البخاري، كتاب الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء، رقم (143). ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، رقم (2477). لكن لم يقع عند مسلم:"في الدين".
حقائقها، لأن الله يقول:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، فمن زعم أن آيات الصفات من المتشابه على سبيل الإطلاق فقد أخطأ، والواجب التفصيل فنقول: إن أردت بكونها من المتشابه تشابه الحقيقة التي هي عليها فأنت مصيب، وإن أردت بالمتشابه تشابه المعنى وأن معناها مجهول لنا فأنت مخطئ غاية الخطأ، وقد ذهب إلى هذا من قال: إن آيات الصفات وأحاديثها مجهولة لا نعلمها، لا يعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا ابن مسعود ولا ابن عباس ولا فقهاء الصحابة ولا فقهاء التابعين ولا أئمة الإسلام، كلهم لا يدرون معناها، نقول لهم: ما معنى استوى على العرش؟ فيقول: الله أعلم، ما معنى {يَدُ اللَّهِ} [المائدة: 64]، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}؟ [المائدة: 64] يقول: الله أعلم، ما معنى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}؟ [الرحمن: 27] يقول: الله أعلم. فكل ما يتعلق بصفات الله يقول: الله أعلم. والغريب أن هذا القول في غاية ما يكون من السقوط، وإن كان بعض الناس يظن أنه مذهب أهل السنّة أو أنه مذهب السلف، حتى أدّى بهم الأمر إلى هذه الكلمة الكاذبة:(طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم). وهذه القضية من أكذب القضايا؛ أن تكون طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، لكن نقول: طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم.
فمن الناس من يظن أن مذهب السلف هو التفويض، أي: عدم معرفة المعنى وعدم الكلام به، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على زعمهم يقول: "يضحك الله إلى رجلين أحدهما يقتل الآخر،
كلاهما يدخل الجنة"
(1)
، لو سألته وقلت: يا رسول الله، ما معنى يضحك؟ قال: لا أدري! ! وقوله: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر"
(2)
، لو سألته: ما معنى ينزل؟ قال: لا أدري! ! .
هكذا زعموا! ! وهو أمر يدعو للعجب، وزَعْمٌ بعيدٌ عن الصواب.
إذن نقول: آيات الصفات من المتشابه في الحقيقة والكيفية التي هي عليها؛ لأن الإنسان بشر لا يمكن أن يدرك هذه الصفات العظيمة، لكن في المعنى محكمة معلومة لا تخفى على كل أحد، كلنا يعرف ما معنى العلم، كلنا يعرف ما معنى الاستواء، كلنا يعرف ما معنى الوجه، وما معنى اليد.
لهذا قال الإمام مالك رحمه الله قوله المشهور الذي روي عن شيخه أيضًا قال:
(الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)
(3)
، فمثلًا: نحن نعلم معنى (العين)،
(1)
رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، رقم (1145). ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر من آخر الليل، رقم (758).
(2)
رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء نصف الليل، رقم (6321). ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر من آخر الليل والإجابة فيه، رقم (758).
(3)
رواه اللالكائي في شرح السنة (664). والبيهقي في الأسماء والصفات (867). وقال الحافظ في الفتح (13/ 407): إسناده جيد.
لكن حقيقة عين الله وكيفيتها غير معلومة، عين المخلوق معروفة مكونة من طبقات متعددة، ومن عروق، ومن كذا. . . لكن عين الله لا يمكن أن نقول فيها هكذا لأنها مجهولة لنا. إذن حقيقتها غير معلومة، لكن معنى العين وهي التي يحصل بها النظر والرؤية أمر معلوم.
وكذا يد الله عز وجل، فاليد معروفة، والأصابع معروفة، والقبض باليد معروف، والأخذ باليد معروف؛ لكن حقيقة هذه اليد وكيفيتها لا نستطيع أن نتكلم فيها، ومن ادَّعى العلم بها فهو كاذب.
هذه معنى الحقائق، فالحقائق شيء والمعنى شيء آخر، وثقوا بأننا لو نقول: إننا لا نعلم معاني آيات الصفات أنه سيفوتنا ثلاثون في المائة من معاني القرآن أو أكثر؛ لأننا ما نكاد نجد آية إلا وفيها اسم من أسماء الله أو صفة من صفاته.
وقوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ، أي: صدَّقنا به، بالمحكم وبالمتشابه، أما المحكم: فظاهر، وأنهم عرفوا معناه واطمأنوا إليه، وأما المتشابه: فإيمانهم به هو التسليم، ولهذا قال فيه:{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، ولا يمكن أبدًا أن يكون فيه تعارض أو تناقض.
في هذه الآية قسَّم الله القرآن إلى قسمين، ولكنه في موضع آخر جعله قسمًا واحدًا، فقال الله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]
وقال في آية أخرى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1].
وقال: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]. ولم يذكر التشابه، وهذا أيضًا من المتشابه، فكيف يوصف القرآن بأوصاف ظاهرها التعارض؟ !
فالراسخون في العلم يعلمون أنه لا تعارض، فيقولون: المتشابه الذي وصف به القرآن غير مقرون بالمحكم، فيراد به التشابه في الكمال والجودة والهداية.
فهو متشابه أي: كل آياته متشابهة، كلها كاملة البلاغة، كلها كاملة في الخبر، كاملة في الأمر والنهي، فهي متشابهة من حيث الكمال والجودة والإحكام والإخبار وغير ذلك.
وإذا ذكر محكم بغير ذكر المتشابه فالمعنى: أنه واضح متقن، ليس فيه تناقض ولا تعارض، ولا كذب في خبر، ولا جور في حكم، فيحمل الإحكام على معنىً، والتشابه على معنى آخر.
قال تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} :
{وَمَا} : نافية، {يَذَّكَّرُ}: أصلها يتذكر، لكن قلبت التاء ذالًا وأدغمت في الذال الأخرى، فصارت {يَذَّكَّرُ} أي: لا يتعظ وينتفع بالقرآن إلا أولو الألباب، أي: إلا أصحاب العقول؛ لأن الألباب جمع لب، واللب هو العقل، والمراد بالعقل هنا عقل الإدراك الذي ضده الجنون، وعقل التصرف الذي ضده السَّفه. فالذي يتذكر بالقرآن هو الإنسان الذي أعطاه الله عقلًا يدرك به الأشياء، وأعطاه الله رشدًا يحسن به التصرف. وأما من أعطاه الله
عقلًا يدرك به الأشياء وهو العقل المضاد للجنون ولم يعطه عقلًا يحسن به التصرف وهو العقل المضاد للسفه، فهو لا ينتفع بالقرآن.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن هذا القرآن كلام الله؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} ، ولا يَرِدُ مثل قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25]، وقوله:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام: 99] لأن الكلام صفة لا تقوم بذاتها، لا تقوم إلا بمتكلم، بخلاف الحديد والماء فإنهما عين قائمة بنفسها؛ فتكون مخلوقة، وأما القرآن فليس بمخلوق، لأنه صفة الخالق عز وجل، والمخلوق شيء بائن عن الخالق منفصل عنه.
2 -
إثبات علو الله عز وجل، لقوله:{أَنزَلَ} والإنزال لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل، فإذا كان القرآن كلامه ونزل فالله تعالى فوق، وهو كذلك. ومذهب أهل السنّة والجماعة بل مذهب الرسل كلهم أن الله تعالى فوق كل شيء، ألم تروا إلى فرعون قال:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36 - 37]، وهذا يدل على أن موسى قال له: إن الله فوق. فالعلو لله عز وجل ثابت بخمسة أنواع من الأدلة: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل والفطرة.
أما الكتاب فأدلته أكثر من أن تحصى، أدلة متنوعة تارة بذكر العلو، وتارة بالفوقية، وتارة بنزول الأشياء، وتارة بصعود الأشياء، وتارة بذكر كونه في السماء.
والسنّة كذلك متواترة فى علو الله، ومتنوعة. فتارة بقول الرسول عليه الصلاة والسلام، وتارة بفعله، وتارة بإقراره.
أما قوله: فكان يقول في كل صلاة: "سبحان ربي الأعلى"
(1)
.
وأما فعله: فقد أشار إلى السماء غير مرة، يشير إلى السماء في الدعاء، يرفع يديه إلى السماء
(2)
، وأشار إلى السماء حين أشهد ربه على أمته أنهم أقروا بإبلاغه الرسالة في حجة الوداع في يوم عرفة
(3)
، في أكبر مجمع للمسلمين في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام.
وأما إقراره: فسأل الجارية: "أين الله؟ " قالت: في السماء. قال: "أعتقها فإنها مؤمنة"
(4)
.
وأما الإجماع: فقد أجمع السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى بعدهم على أن الله تعالى فوق كل شيء، ولم يُنقل عن واحد منهم أنه قال: إنَّ الله في كل مكان، ولا أنه قال:
(1)
رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، رقم (772).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ترجعوا بعدي كفارًا"، رقم (7078). ومسلم، كتاب القيامة، باب تغليظ تحريم الدماء، رقم (1679).
(3)
أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث جابر الطويل، رقم (1218).
(4)
قصة الجارية أخرجها مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، رقم (537).
إن الله لا يوصف بأنه فوق العالم ولا تحته، ولا داخله ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا مباين ولا محايث.
وأما العقل: فإننا لو سألنا أي إنسان: ماذا تقول في العلو؟ أهو صفة كمال أو نقص؟ لقال: هو صفة كمال، والعقل يقول: كل صفة كمال فهي ثابتة لله عز وجل، فيثبت العلو لله بدلالة العقل من هذه الناحية.
وأما الفطرة: فحدِّث ولا حرج، الإنسان الذي لم يتعلم ولا يدري عن كلام العلماء في هذا إذا سأل الله يرفع يديه إلى السماء، وما رأينا أحدًا لما أراد أن يدعو ركز يديه إلى الأرض، ولا ذهب يمينًا ولا يسارًا، بل يرفعهما إلى السماء. ولهذا استدل أبو العلاء الهمداني على أبي المعالي الجويني بهذا الدليل الفطري، حتى إن الجويني لم يتمالك أن صرخ وضرب على رأسه وقال: حيرني؛ لأن أبا المعالي الجويني غفر الله لنا وله كان يحدث الناس، ويقول: كان الله ولا شيء -وهذا صحيح؛ لأن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء-، ويقول: وهو الآن على ما كان عليه! ! وهذه الكلمة موهمة.
يعني: غير مستوٍ على العرش؛ لأن العرش لم يكن وقد كان الله ولا شيء، وهو الآن على ما كان عليه، إذن فلم يستو على العرش.
فقال له أبو العلاء الهمداني: يا أستاذ، دعنا من ذكر العرش -لأن الاستواء على العرش دليله غير عقلي بل دليله سمعي، فلولا أن الله أخبرنا أنه استوى على العرش ما علمنا ذلك- أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في نفوسنا، ما قال
عارف قط: يا الله، إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو! !
فصرخ أبو المعالي، وضرب على رأسه، وقال: حيّرني! ! لأنه لا يجد جوابًا عن هذه الفطرة.
فعلوُّ الله -ولله الحمد- دل عليه الكتاب والسنّة والإجماع والعقل والفطرة. ولولا قول من اجتالتهم الشياطين ما كان يفكر الإنسان أن الله تعالى في كل مكان أبدًا! ! ولا يطرأ على باله، ولا يفكر أننا نسلب عنه كل صفة، فنقول: لا فوق العالم ولا تحته، ولا يمين العالم ولا شمال العالم، ولا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم! ! أين يكون! ؟ فهذا هو العدم والعياذ بالله. والغريب أن هؤلاء يرون أنهم نزهوا الله! وهم لو قيل لهم: صفوا لنا العدم ما وجدوا أحسن من هذا الوصف. نسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا.
3 -
أن هذا القرآن ينقسم إلى محكم ومتشابه؛ لقوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} .
4 -
وجوب الرجوع إلى المحكم إزاء المتشابه؛ لقوله: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} يعني: مرجعه، وهذا لا يختص بالقرآن، بل حتى في السنّة، إذا وجدت أحاديث متشابهة وأحاديث واضحة محكمة، فالواجب رد المتشابه إلى المحكم ليكون الجميع محكمًا، سواء كان التشابه في مدلولات الألفاظ، أو كان التشابه في ثبوت الخبر، وهذا الأخير يختص بالسنّة، لأن القرآن ليس فيه اشتباه بالنسبة إلى ثبوته، أو كان الاشتباه بأقوال أهل العلم، بمعنى أن العلماء يكون أكثرهم على قول وهو يكون مشتبه عليك. وأمَّا بالنسبة للأدلة فإن الغالب أن الحق يكون مع من هو أوثق
وأقرب إلى الكتاب والسنّة إما بالعلم أو بالأمانة أو بالكثرة.
5 -
حكمة الله عز وجل في جعل القرآن ينقسم إلى قسمين، ووجه الحكمة أنه بهذا يحصل الابتلاء والامتحان، فالمؤمن لا يضل بهذا الانقسام، والذي في قلبه زيغ يضل، فكما أن الله يمتحن العباد بالأوامر والنواهي فهو يمتحنهم أيضًا بالأدلة؛ فيجعل هذا محكمًا وهذا متشابهًا، ليتبين المؤمن من غير المؤمن، ولو كان القرآن كله محكمًا لم يحصل الابتلاء، ولو كان كله متشابهًا لم يحصل البيان، والله سبحانه وتعالى جعل القرآن بيانًا، وجعله محكمًا متشابهًا للاختبار والامتحان.
6 -
أن من علامة الزيغ أن يتبع الإنسان المتشابه من القرآن سواء تبعه بالنسبة لتصوره فيما بينه وبين نفسه، وصار يورد على نفسه آيات متشابهات، أو كان يتبع ذلك بالنسبة لعرض القرآن على غيره، فيقول للناس مثلًا: ماذا تقولون في كذا وكذا، ويأتي بالآيات المتشابهات بدون أن يحلها. ولهذا من الخطر العظيم أن تورد -سواء للطلبة أو للعامة- آيات متشابهة دون أن تبين حل إشكالها، لأنك إذا فعلت هذا أوقعتهم في الحيرة والشك، وصرت كمن ألقى إنسانًا في بحر لا يستطيع الخلاص منه ولم يخلصه، وهذا يقع من بعض المتحذلقين من طلبة العلم أنه يورد الآيات المتشابهات ثم يقف ولا يبين للناس وجه هذا التشابه، فيوقع الناس في حيرة وهو لا يشعر.
7 -
أن هؤلاء الذين يتبعون المتشابه تارة يبتغون الفتنة، وصدّ الناس عن دينهم، ونزع الثقة من قلوبهم بالنسبة للقرآن، لقوله:{ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} . وتارة يريدون بذلك أن يحرفوه إلى المعنى
الذي يريدون، وذلك لأنهم لو أرادوا أن يحرفوا المحكم، ما قبلوا، لكن يأتون بالمتشابه ليتمكنوا من تحريفه على ما يريدون، لأنه إذا كان متشابهًا فإن المخاطب الذي يخاطبونه يكون قد اشتبه عليه الأمر، فيقبل ما جاءوا به من التحريف، وبهذا يزول الإشكال الذي قد يعرض للإنسان في قوله:{وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ، لأن ابتغاء التأويل على الوجه المراد أمر مطلوب، وليس من شأن ذوي الزيغ، بل هو من شأن أهل الإيمان، لكن ذوي الزيغ يأتون بهذا المتشابه من أجل أن يحرّفوه على ما يريدون، لأنه ليس محكمًا واضحًا حتى يعارضهم الناس، لكنه متشابه، فيحصل بذلك ما يريدون من التحريف.
وهنا مسألة: وهي أن كثيرًا من المتكلمين قالوا: إن آيات الصفات من المتشابه، وقالوا: إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، فصارت النتيجة أن آيات الصفات لا يُعرف معناها، ولهذا قالوا: إن القول الحق في آيات الصفات هو التفويض. فقولهم: إن الحق هو التفويض وأن لا تتكلم فيها بشيء ناتج عن هذين الأمرين:
الأول: أن آيات الصفات من المتشابه.
والثاني: أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله.
فتكون النتيجة أن لا نخوض في معاني آيات الصفات، لأنها من المتشابه، ولا يعلم تأويله إلا الله، وما لا يمكن الوصول إلى علمه لا يجوز الخوض فيه.
ولكن نقول: إن هذا القول قول باطل، فماذا تعنون بالتشابه في آيات الصفات؟ إن قالوا: نريد اشتباه المعنى -وهو الذي
يريدونه- قلنا: هذا خطأ، لأن معاني آيات الصفات واضحة ومعلومة، وليس فيها اشتباه إطلاقًا. كما قال الإمام مالك رحمه الله:(الاستواء غير مجهول)، أي: هو معلوم لكل أحد. {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، يعني علا عليه. وإن أرادوا بالتشابه اشتباه الحقيقة والكيفية، فهم صادقون، ولكنهم لا يريدون هذا، لأنهم لو قالوا: نحن نعلم المعنى ونجهل الكيفية والحقيقة، قلنا: هذا مذهب صحيح. لكنهم يقولون: نحن نجهل المعنى والكيفية والحقيقة، لهذا سموا أهل التفويض، وأهل التجهيل، لأنهم يقولون: كل آيات الصفات وأحاديثها غير معلومة لأحد، وقراءتنا لها بمنزلة قراءة الأعجمي للخطاب العربي، أو بمنزلة قراءة العربي للخطاب العجمي، أو بمنزلة قراءة الحروف الهجائية: أ، ب، ت. . . إلخ، هذا نظرهم بالنسبة لآيات الصفات، وهو نظر -بلا شك- خاطئ. كيف نعلم معنى آيات الوضوء والصلاة والبيع وما أشبهه مما لا تعد شيئًا بالنسبة لصفات الله عز وجل، ونجهل معاني آيات الصفات؟ ! هي أولى بالعلم من غيرها، ولا تكمل العبادة حقًا إلا بمعرفة صفات الله عز وجل.
8 -
فضيلة الرسوخ في العلم، وهو الثبات فيه والتعمق فيه، حتى نصل إلى جذوره؛ لقوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وضد الرسوخ في العلم السطحية في العلم، وما أكثر السطحية اليوم فينا! ! أكثر الناس اليوم علومهم سطحية. ولهذا تجدهم إذا أَلَّفوا أو كتبوا يكثرون من النقول، بسبب أنه ليس عندهم حصيلة علمية، فيجعل نفسه في حل من الكلام. وأما أهل العلم حقًا
فتجدهم يتكلمون بالعلم من صدورهم بدون نقل، ولهذا عباراتهم أحيانًا تخالف عبارات العلماء الآخرين، ومن أوضح ما يكون كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، تجد أنهما يتكلمان عن علم راسخ، وأمثالهما كثير.
9 -
أنه ينبغي للإنسان أن يحرص أن يكون راسخًا في العلم، لا جامعًا كثيرًا منه، لأن العبرة بالرسوخ في العلم، لأن الإنسان إذا كان عنده رسوخ في العلم صار عنده ملكة يستطيع أن يقرب العلم بعضه من بعض، ويقيس ما لم يُنَصَّ عليه على ما نُصَّ عليه، ويكون العلم لديه كالطبيعة الراسخة.
10 -
أن الراسخين في العلم يعلمون أن الذي يكون من عند الله لا يكون فيه تناقض، لقوله:{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} .
11 -
أن مقتضى الربوبية أن الله ينزل على عباده كتابًا لا يكون فيه اختلاف يوقعهم في الشك والاشتباه، لقوله:{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} وما كان من عند الرب المعتني بعباده بربوبيته، فلن يكون فيه شيء يتناقض ويختلف.
12 -
أنه لا يتذكر بهذا القرآن ولا بغيره إلا أصحاب العقول، لقوله:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} .
13 -
أنه كلما ازداد الإنسان عقلًا ازداد تذكرًا بكلام الله عز وجل. وكلما نقص تذكره بالقرآن دلَّ على نقص عقله، لأنه إذا كان الله حصر التذكر بأولي الألباب، فإنه يقتضي انتفاء هذا التذكر عَمَّن ليس عنده لبٌّ.
14 -
أن العقل غير الذكاء، لأننا نجد كثيرًا من الناس
أذكياء، ولكن لا يتذكرون بالقرآن، وهؤلاء لا نسميهم عقلاء، لكن الذي انتفى عنهم من العقل هو عقل التصرف والرشد، أما الإدراك فهم يدركون، ولهذا تقوم عليهم الحجة.
15 -
أن من القرآن ما لا يعلم تأويله إلا الله، على قراءة الوقف:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، والفائدة امتحان العباد بتأدبهم مع الله عز وجل. هل يحاولون أن يصلوا إلى شيء لا تدركه عقولهم، أو يقفون على حدود ما تدركه عقولهم، لأن من الناس من يذهب ويتجرأ على محاولة إدراك ما لا يصل إليه العقل، ومن الناس من يتأدب، فإذا وصل إلى ما لا يبلغه العقل وقف.
16 -
سعة علم الله عز وجل؛ لقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، على قراءة الوقف.
17 -
أن كلام الله عز وجل يختلف؛ منه محكم، ومنه متشابه، ومنه أمر، ومنه نهي، ومنه خبر، ومنه استخبار، إلى أنواع لا يحصيها إلا الله، خلافًا لمن قال: إن كلام الله نوع واحد، وأن اختلاف الصور أو الصيغ لا يدل على تنوعه واختلافه، مثل الأشاعرة الذين يرون أن كلام الله هو المعنى القائم بالنفس، وأنه شيء واحد، إن عُبِّرَ عنه بالعربية صار قرآنًا، وإن عُبِّرَ عنه بالعبرية صار توراة، وإن عُبِّرَ عنه بالسريانية صار إنجيلًا، وإن عُبِّرَ عنه بصيغة النهي صار نهيًا، وإن عُبِّرَ عنه بصيغة الأمر صار أمرًا، وإلا فهو شيء واحد، ولا شك أن هذا قول يبطله العقل والسمع.
• ثم قال عز وجل: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
الظاهر أن هذا من جملة قول الراسخين في العلم. يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ويقولون أيضًا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} . والدعاء غالبًا يُصَدَّر بالربِّ، لأن الدعاء يتطلب الإجابة، والإجابة من الأفعال، والأفعال علاقتها بالربوبية أكثر من علاقتها بالألوهية، ولهذا غالب الأدعية يأتي مُصَدَّرًا بالربِّ {رَبِّنَا} .
وقوله: {رَبِّنَا} : منصوبة بيا النداء المحذوفة. وأصل الكلام (يا ربنا) لكن حذفت يا النداء تخفيفًا، وتيمنًا بالبداءة باسم الله عز وجل.
وقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} :
{لَا تُزِغْ} : هذه جملة دعائية وإن كانت بصيغة النهي؛ لأن النهي لا يمكن أن يرد من المخلوق للخالق. إذ النهي طلب الكف على وجه الاستعلاء، ولا يمكن للمخلوق أن يطلب من ربه أن يكف على وجه الاستعلاء أبدًا. وإذا وُجِّهَ الطلبُ من أدنى إلى أعلى سُمِّيَ دعاءً، فلهذا نقول:(لا): دعائية، ولا نقول:(لا): ناهية، لأنه لا نهي من المخلوق للخالق.
وقوله تعالى: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} :
أي: لا تزغها عن الهداية، بل اهدها هداية دلالة وهداية توفيق.
وقوله: {لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} سلط الفعل على القلب؛ لأن القلب عليه مدار العمل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا
صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"
(1)
، والقلب هو هذا الجزء المستقر في الصدر، لقول الله تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وبهذا القلب يكون العقل؛ لقوله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]، وبناء على هذه الأدلة يتبين أن العقل في القلب وليس في الدماغ، والعلماء اختلفوا قديمًا وحديثًا، هل العقل في الدماغ أو العقل في القلب؟ والذي دلَّ عليه القرآن أنَّه في القلب، والقرآن كلام الخالق، والخالق عز وجل أعلم بما خلق. فالعقل بالقلب لكن عقل القلب هو عقل التصرف والتدبير، ليس عقل الإدراك والتصور، فإن عقل الإدراك والتصور يكون في المخ. فالمخ يتصور ويعقل، وهو بمنزلة المترجم للقلب يشرح ما يريد رفعه إلى القلب، ثم يرفعه إلى القلب، ثم يصدر القلب الأوامر، والذي يبلغ الأوامر الدماغ. ولهذا تنشط العضلات كلها بنشاط الدماغ، فصارت المسألة سلسلة، والذي يتصور ويدرك وفيه عقل الإدراك هو الدماغ، وأما عقل التصرف والتدبير والرشاد والفساد فهو عقل القلب.
وحينئذ يزول الإشكال، وتجتمع الأدلة الحسية والشرعية، فالعقل الإدراكي محله هو الدماغ، والعقل التصرفي الإرشادي الذي به الرشاد والفساد هو القلب.
يقول الله عز وجل: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} وإذا استقامت
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم (52). ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الحرام، رقم (4094).
القلوب ولم تمل، استقامت الجوارح عقيدةً وقولًا وعملًا.
وقوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} : هذه الجملة لا يراد بها الافتخار، وإنَّما يراد بها التوسل بالنعم السابقة إلى النعم اللاحقة، فكأنهم يقولون: ربنا إنك مننت علينا بالهداية أولًا، فنسألك أن تمن علينا بثبوت هذه الهداية فلا تزغها، فيكون في هذا الدعاء ثناء على الله عز وجل بالهداية السابقة، وأنه عز وجل أهل للفضل والإنعام.
وقوله: {هَدَيْتَنَا} : هداية دلالة وتوفيق. فهداية الدلالة أن بيّن لهم الحق، كما في قوله تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]. وكما في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
وهداية التوفيق أن وفَّقهم لسلوك الحق، فمن الناس من يحرم الهدايتين كالنصارى، فهم ضالون لم يعرفوا الحق، ولم يعملوا به. ومن الناس من يحرم الهداية الثانية، هداية التوفيق كاليهود؛ فاليهود علموا لكن لم يعملوا به. ومن الناس من يرزق الهدايتين كالمؤمنين الذين أنعم الله عليهم، فهم هدوا إلى الحق بالدلالة عليه، واهتدوا إلى الحق بالتوفيق.
وقوله تعالى: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} :
(هب): بمعنى أعط، والهبة: هي العطاء بلا عوض، وكمالها بلا منة. والله سبحانه وتعالى له المنة علينا، كما قال تعالى:{بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]. والصيغة هنا للدعاء.
{وَهَبْ لَنَا} : يعني أعطنا {مِن لَّدُنْكَ} أي من عندك،
وأضافوا هذه الهبة إلى الله لئلا يكون لأحد عليهم منّة سواه، هذا من وجه، ولأنها إذا كانت من عند الله وهو أكرم الأكرمين صارت هبة عظيمة، لأن العطاء على قدر المعطي، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر حين سأله أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته قال:"قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلَّا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني"
(1)
.
{رَحْمَةً} : الرحمة صفة من صفات الله عز وجل، وتطلق على نِعَمِه، لأنها من آثار رحمته، كما قال الله:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].
وقال الله تعالى للجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء"
(2)
.
ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107]، فتطلق الرحمة على هذا وهذا. وفي هذه الآية:{وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} هي النعم وهي من آثار رحمته.
والرحمة يحصل بها المطلوب، وينجو بها الإنسان من المرهوب، فإن جمعت مع المغفرة صار بالرحمة حصول المطلوب، وبالمغفرة النجاة من المرهوب.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، رقم (834). ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، رقم (2705).
(2)
حديث قدسي، أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ، رقم (4850). ومسلم، كتاب الجنَّةَ وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، رقم (2846).
وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} :
الجملة هنا استئنافية للتعليل والتوسل. يعني إننا إنما طلبنا منك هبة الرحمة لأنك أنت الوهاب، وأُتي بالضمير (أنت) ويسمى ضمير الفصل لثلاث فوائد:
1 -
الفصل بين الصفة والخبر.
2 -
التوكيد.
3 -
الحصر.
و{الْوَهَّابُ} يعني الكثير العطاء، وهذه صفة لازمة له، والذين يعطيهم الله كثيرون لا يحصون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يد الله ملأى، سحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه"
(1)
.
وقال الله تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنَّكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلَّا كما ينقص المخيط إذا غُمس في البحر"
(2)
. وهذا لا ينقص البحر شيئًا! فالله عز وجل لا يحصي أحد هباته أبدًا حتَّى بالنسبة لك أنت بنفسك لا تحصي هبات الله لك، قال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
(1)
أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، رقم (7411). ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، رقم (993).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، رقم (6572).
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
مشروعية الدعاء بهذه الصيغة، لأنه دعاء الراسخين في العلم وأولي الألباب.
2 -
مشروعية تصدير الدعاء باسم الرب {رَبَّنَا} .
3 -
أن الإنسان لا يملك قلبه، ولهذا تسأل الله أن لا يزيغ قلبك، فلا تغتر بنفسك أنك مؤمن، فكم من إنسان مؤمن زلَّ والعياذ بالله. ولكن اسأل الله دائمًا أن يثبتك، وأن لا يزيغ قلبك. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام:"أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أزاغه وإن شاء هداه، يصرفها كيف يشاء"
(1)
.
4 -
الدلالة على أن في صلاح القلب صلاح جميع الجسد، لأنهم قالوا:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} .
5 -
أن للقلب حالين: حال استقامة، وحال زيغ. والإنسان مضطر إلى أن يسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يزيغ قلبه، حتَّى يكون مستقيمًا.
6 -
التوسل إلى الله تعالى بنعمه؛ لقولهم: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} .
7 -
الثناء على هؤلاء الراسخين حيث اعترفوا لله تعالى بالنعمة في قولهم: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} وهذا داخل في قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11].
8 -
أن التخلية تكون قبل التحلية، يعني يُفرغ المكان من
(1)
أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله القلوب حيث شاء، رقم (9602).
الشوائب والأذى ثم يطهر، من قوله:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} ثم قال: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} .
9 -
أن الإنسان مضطر إلى ربه في الدفع والرفع، وإن شئت فقل في الجلب والدفع، لأنهم سألوا أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم، وسألوا أن يهب لهم منه رحمة. فدعاؤهم أن لا يزيغ قلوبهم دعاء بالرفع، ودعاؤهم بـ {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} دعاء بالدفع، يعني هب لنا من لدنك رحمة ندفع بها السوء، {لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} لا ترفع عنا الهداية بعد أن اهتدينا.
10 -
أن العطاء يكون على قدر المعطي، لقوله:{وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} هذا من باب التوسل بحال المدعو، ومن باب التوسل بصفات الله عز وجل.
11 -
التوسل بأسماء الله؛ لقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} فإنه من مقتضى كونه وهابًا أن يهب لنا من لدنه رحمة.
12 -
أن الإنسان مفتقر إلى رحمة الله عز وجل، ولهذا سأل الله أن يهب له من لدنه رحمة.
* * *
• قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9].
{جَامِعُ} : اسم فاعل. وهنا لم يعمل لأنه أضيف، ولولا الإضافة لكان يقول: ربنا إنك جامعٌ الناسَ، لكن بالإضافة لا يعمل إلَّا الجر. وقوله:{لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} المعنى: أنَّه يجمعهم لهذا الوقت. فاللام هنا للتوقيت، فهي كقوله:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] أي: وقت دلوكها. أو
كقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي: وقت عدتهن.
فالله تعالى جامع الناس لهذا الوقت، ليوم لا ريب فيه، أي لا شك. ولكن الريب أبلغ من الشك، وإن كان معناهما متقاربًا، لأن الريب فيه زيادة قلق واضطراب مع الشك، والشك خال من ذلك. ولهذا جاءت كلمة (ريب) الدالة بمفهومها اللفظي على أن هناك نوعًا من القلق والاضطراب الحاصل بالشك، لأن من الشكوك ما لا يولد همًا، ولا غمًا، ولا اضطرابًا، ولا يهتم به الإنسان، ومن الشكوك ما يهتم به الإنسان، ويضطرب، ويقلق، مثل هذه الأمور العظيمة الواردة في الأخبار باليوم الآخر، فإن الإنسان لابد أن يطمئن اطمئنانًا كاملًا.
و{لَا} : نافية للجنس، و {رَيْبَ} اسمها. و {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبرها، وجملة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} تأكيد لما سبق من كونه تعالى جامع الناس ليوم لا ريب فيه.
في هذه الآية يقول الله تعالى عن هؤلاء الراسخين: إنهم بعد أن يدعوا الله بما سبق يخبروا هذا الخبر المعبر عن إيمانهم ويقينهم بأنهم يؤمنون بأن الله جامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومن ثَمَّ دعوا الله أن لا يزيغ قلوبهم، وأن يهب لهم منه رحمة، لأنهم يؤمنون بأن هناك يوما يجمع الله فيه الناس، فيجازيهم بعملهم، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة: 49 - 50]. وقال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103]. ما أكثر الناس الذين سبقونا! وما أكثر الناس الذين يلحقون بنا! والله أعلم.
ومع هذا كل هؤلاء الناس سوف يجمعون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، يسمعهم الداعي؛ لأنه لا يحول بينهم وبين صوته لا شجر ولا جدر ولا جبال ولا أودية، وكذلك ينفذهم البصر؛ لأنهم في أرض مبسوطة غير كروية، فيكون البصر يرى أقصاهم مثلما يرى أدناهم، وهذا ظاهر، فالأرض كلها مبسوطة بسط الأديم كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، وأخبر الله تعالى أنَّه يجمع الناس كلهم في ذلك اليوم من أولهم إلى آخرهم، ويجمع الجن، بل ويجمع الوحوش والبهائم:{وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير: 4 - 5]، ويجمع الملائكة:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22].
وهذا اليوم العظيم دلَّ عليه السمع، ودلَّ عليه العقل، ودلَّت عليه الفطرة، ودلَّ عليه إجماع المسلمين واليهود والنصارى وكل متدين بدين. فالأدلة مجتمعة على وجوب الإيمان باليوم الآخر؛ ولهذا قال:{لَا رَيْبَ فِيْهِ} .
أما دلالة الكتاب فهي دلالة واضحة في عدة آيات لا تحصى، ودلالة السنّة أيضًا بأحاديث كثيرة لا تحصى.
وأما دلالة العقل فهي ليست على إمكانه فحسب، بل دلَّ العقل على وجوبه.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، إن الذي فرض عليك القرآن، وأوجبه
(1)
أخرجه أحمد (1/ 375). وابن ماجه، تصريف أَبواب الفتن، باب فتنة الدجال، رقم (4081).
عليك، لابد أن يردك إلى معاد، فلا يمكن أن يدعك سدى. إذ لا فائدة في قرآن ينزل، ورسل ترسل، ودماء تراق للمخالفين، والنتيجة لا شيء! ! فالعقل يدل على أنَّه لابد من أن نحشر إلى الله عز وجل، وأن نجازى بعملنا، وأنه لا يمكن أن تخلق السموات والأرض، ويرسل الرسل، وتنزل الكتب، وتكون النتيجة والغاية أن نُرْمَسَ
(1)
في الأرض ولا نعود، لابد من عودة. ولهذا نقول: إن العقل دلَّ على وجود اليوم الآخر ووقوعه.
ودلَّت عليه الفطرة: فإن الإنسان لو ترك وفطرته لعَلِمَ أن له ربًّا يجازيه، وأن الجزاء يكون في الآخرة، ويكون في الدنيا.
ودلَّ عليه الإجماع، فإجماع المسلمين أمر متواتر معلوم بالضرورة من الدين، بل وإجماع اليهود والنصارى؛ ولهذا إلى يومنا هذا إذا مات منهم ميت يصلون عليه ويدعون له بالرحمة والمغفرة؛ لأنهم يؤمنون بيوم الحساب.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} :
هذه الجملة موقعها مما قبلها لتأكيد وقوع ذلك اليوم. ووجه ذلك: أن الله وعد به وهو لا يخلف الميعاد، أي: لا يخلف ما وعد به عز وجل من وقوع هذا اليوم.
وهذه الجملة أيضًا إذا تأملتها وجدتها أنَّها تخالف ما قبلها في السياق؛ لأن ما قبلها السياق فيه للمخاطب: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} ، وأما السياق هنا فهو للغائب:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ، ولم يقل:(إنك لا تخلف الميعاد)، فهل هذا
(1)
أي: ندفن.
من باب الالتفات والكلام من متكلم واحد، أو هذا من باب الاستئناف وهو من الله لا من قول الراسخين في العلم؟ على قولين للمفسرين:
1 -
منهم من قال: إن قوله: {لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} من كلام الله، وليس فيه التفات على هذا التقدير.
2 -
ومنهم من قال: إنه من كلام الراسخين في العلم، وعلى هذا التقدير يكون فيه التفات.
ولكل منهما مرجح، فمن رجَّح الأول قال: إن الالتفات خروج بالكلام عن المألوف، والأصل عدمه، وعليه فيكون الكلام من كلام الله.
ومن قال: إنه من كلام الراسخين وفيه التفات قال: لأن الأصل أن الكلام من متكلم واحد، لاسيما وأن بعضهم مرتبط ببعض {إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ} ، {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} فهو مرتبط بعضه ببعض، وهذا القول عند التأمل أرجح، وتكون فائدة الالتفات:
أولًا: تنبيه المخاطب، لأنه إذا كان الكلام على نسق واحد بقي الإنسان منسجمًا معه لا يتفطن، وتمرُّ به الأشياء، فإذا اختلف أسلوب الكلام وتغيَّر عليه الأسلوب فحينئذ ينتبه.
ثانيًا: أما من حيث المعنى فلأن مجيئه بصيغة الغائب أبلغ في التعظيم، كأنَّ الربَّ عز وجل الذي هو الله، وهو ملك عظيم سبحانه وتعالى يتحدث عنه بصيغة الغائب تعظيمًا وتفخيمًا، كما يقول الملك الذي يعظم نفسه للجنود: إن الملك يأمركم بكذا وكذا، أو يقول القائد: إن القائد يأمركم بكذا وكذا، بدل أن
يقول: إني آمركم. وعلى كل تقدير فالصفة هنا من باب الصفات السلبية، لأنها صفة نفي، ولا يوجد في صفات الله صفة سلبية محضة، والنفي الموجود في صفات الله متضمن لثبوت كمال ضده، وأنه لكمال ضده لا يوجد هذا الشيء، فهنا {لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} لأنَّ إخلاف الميعاد إما أن يكون لكذب الواعد أو لعجزه، والله لا يخلف الميعاد لكمال صدقه، وكمال قدرته عز وجل.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن يوم القيامة آت لا ريب فيه؛ لقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} .
2 -
تمام قدرة الله سبحانه وتعالى بجمع الناس كلهم في هذا اليوم، ومع هذا فإن هذا الجمع لا يحتاج إلى مدة {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13 - 14].
3 -
حكمة الله في جمع الناس لهذا اليوم، لأن هذا الجمع له ما بعده، وهو جزاء كل عامل بما عمل، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر، قال تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التغابن: 9 - 10].
4 -
أنَّه يجب علينا أن نؤمن إيمانًا لا شك فيه بهذا اليوم، فإن شكَّ أحدٌ، أو أنكر، فليس بمؤمن بل هو كافر، والناس في هذا المقام أربعة أقسام: مؤمن إيمانًا لا ريب فيه، وشاك، وكافر منكر، وكافر مجادل، كما هي حال كفار قريش.
5 -
انتفاء صفة خلف الوعد عن الله عز وجل؛ لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} لكمال صدق الله عز وجل، وكمال قدرته.
* * *
• قال تعالي: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل عمران: 10].
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: كفروا بما يجب الإيمان به؛ فكفروا بالله أو باليوم الآخر أو بالملائكة أو بالكتاب أو بالنبيين أو بالقدر، إذا كفروا بأي واحد من هذه الأشياء الستة فهم كفار؛ لأن الإيمان لا يتبعض، كما قال الله تعالى:{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150 - 151]. وقال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة: 85].
فالذين كفروا بما يجب الإيمان به، وهي الأركان الستة التي بيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم جوابًا لجبريل
(1)
حين سأله عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره" إذا كفر بواحد منها فهو كافر.
الكفار لهم أموال ولهم أولاد، وربما يعطيهم الله من
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى، رقم (8).
الأولاد والأموال أكثر مما يعطي المؤمنين، لكن لا ينتفعون بهذا. يِقول الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} .
{تُغْنِيَ} : لها معنيان: تمنع أو تدفع. فهذه الأموال والأولاد لا تمنع عن هؤلاء الكفار شيئًا، ولا تدفع عنهم شيئًا، فهم إن وقع بهم شيء من عذاب الله ما استطاع هؤلاء الأولاد أو هذه الأموال أن ترفعه، وإن قضى الله عليهم بشيء لم يستطيعوا أن يمنعوه ويدفعوه.
ولهذا تجد الواحد منهم عنده من الأموال الشيء الكثير، ولكن لو جاءه ملك الموت ما منعته هذه الأموال، وعنده من الأولاد والحشم والخدم الشيء الكثير ولا تغني عنهم شيئًا، والولد شامل للذكر والأنثى، قال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].
وقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} :
(أولاء): مبتدأ، و {هُمْ}: مبتدأ ثانٍ أو ضمير فصل، {وَقُوُدُ النَّارِ} ، وقود: خبر إما للمبتدأ الثاني وإما للمبتدأ الأول، فإن جعلت (هم) مبتدأً ثانيًا فـ (وقود) خبر للمبتدأ الثاني، وإن جعلت (هم) ضمير فصل، فـ (وقود): خبر للمبتدأ الأول.
والوَقود بفتح الواو، ما يُوقد به كالطَّهور ما يُتطهر به، والسَّحور ما يُتسحر به، والفَطور ما يُفطر به، بخلاف الضم فُطُور، وسُحُور، وطُهُور، ووُضُوء؛ فهذه يراد بها نفس الفعل.
فهؤلاء الكفار هم وقود النار، وللنار وقود آخر وهي الحجارة، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]. فهؤلاء وقود النار، وإذا كانوا -والعياذ بالله- وقودها فإنها تسعر بهم، وفي نفس الوقت تحرقهم.
و{النَّارَ} : اسم من أسماء جهنم، وهي الدار التي أعدها الله تعالى للمكذبين برسله، وحرها شديد، وفيها زمهرير برده شديد، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما فُضِّلت على ناركم هذه بتسعة وستين جزءًا"
(1)
.
* * *
• قال تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 11].
قوله: {كَدَأْبِ} : الكاف للتشبيه، والجار والمجرور: خبر لمبتدأ مقدر، أي: دأب هؤلاء كدأب آل فرعون. والدأب: يطلق على الشأن مثل هذه الآية، أي: كشأن، ويطلق على العادة، فإذا قلت: فلان هذا دأبه أي: هذه عادته.
وقوله: {آلِ فِرْعَوْنَ} أي: أتباعه. وفرعون: اسم علم لكل من ملك مصر كافرًا، كما أن كل من ملك الروم يسمى قيصرًا، ومن ملك الفرس يسمى كسرى.
وقوله: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : وكان قبل آل فرعون أمم، مثل: قوم نوح، وقوم عاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، ثم بيّن الله شأن آل فرعون والذين من قبلهم، بقوله:{كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: كذبوا بالآيات الكونية، والآيات الشرعية. وأكثر ما يكون
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الجنَّةَ، باب جهنم، رقم (2843).
أن يكذبوا بالآيات الشرعية؛ لأن الآيات الكونية قلَّ من يكذب بها.
فالآيات الكونية مخلوقات الله، وقلَّ من ينكر أن يكون الخالق هو الله، ولكن الآيات الشرعية التي هي الوحي الذي جاءت به الرسل هي التي يقع فيها التكذيب، فآل فرعون كذبوا بآيات الله، قال فرعون عن موسى:{إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]. وقال: إنه ساحر، ووصفه بأوصاف بالغة، وهدده:{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]. وكان يذبح أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم، ويقول لقومه:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]. ويقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 52 - 53]. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى قصته في كتابه كثيرًا من أجل اليهود الذين كانوا في المدينة، ومن أجل الأنصار الذين تلقوا من علوم اليهود شيئًا كثيرًا.
وقوله: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} :
(أخذهم): يعني أهلكهم بذنوبهم: أي بسبب ذنوبهم، والذنب: هو المعصية، ومعاصي هؤلاء كلها كفر والعياذ بالله. ولهذا أخذوا بالغرق، فأهلك بما كان يفتخر به، كان يقول لقومه:{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51] فأهلك بالماء الذي كان يجري جنسه من تحته، وكان مفخرة له. فأهلكه الله عز وجل بالماء، والقصة معروفة، فإن فرعون جمع جميع أهل المدائن من أجل الكيد لموسى، فخرج موسى من
مصر هو وقومه، واتجهوا بأمر الله إلى جهة بحر القُلزم، وهو البحر الأحمر المعروف الذي يفصل بين قارة إفريقيا وآسيا من ناحية جدة، فلما وصلوا إلى البحر {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] لأن البحر أمامهم، وفرعون وقومه خلفهم. فهم هالكون على كل حال، إن ذهبوا إلى البحر هلكوا في البحر، وإن بقوا هلكوا بفرعون وجنوده، فقال موسى عليه الصلاة والسلام:{كَلَّا} يعني لستم بمدركين، ثم علل ذلك بقوله:{إِنَّ مَعِيَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، الله أكبر! انظر إلى الإيمان عند الشدائد كيف يكون؟ فأوحى الله إليه:{أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63]، فضرب البحر بعصاه فانفلق في الحال، في لحظة، بدليل قوله:{فَانْفَلَقَ} ، وانظر كيف حذف الله الفعل الذي حصل به الانفلاق؟ لأن هذا البحر لما أمر الله تعالى موسى أن يضربه تهيأ للانفلاق بمجرد هذه الضربة التي وقعت عليه، فكان اثني عشر طريقًا يبسًا، وصاروا يمشون عليه على أقدامهم، وكانت المياه ككتل الجبال، وذكر بعض المفسرين من خبر بني إسرائيل أن الله جعل في هذه الكتل نوافذ يرى بعضهم بعضًا ليطمئن بعضهم على بعض، فلما تكامل موسى وقومه خارجين، وإذا فرعون قد دخل هو وقومه، أمر الرب عز وجل البحر فانطبق عليهم في الحال، فغرقوا عن آخرهم، ولما أدرك فرعون الغرق قال:{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90]، ولكن لم ينفعه ذلك كما قال الله تعالى في أمثاله:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 84 - 85]. ولهذا قيل لفرعون: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]، وهذا الاستفهام
للإنكار عليه، ونفي انتفاعه بذلك الإيمان. ولكن قال الله تعالى:{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92]، لا لمصلحتك لكن {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 92]، والذين خلفه بنو إسرائيل، لأن بني إسرائيل قد أرعبهم فرعون، ولو لم يظهر لهم بدنه على سطح الماء لكانوا يَشُكُّون؛ لعله ما دخل في قومه، أو لعله سَلِمَ، فأبقى الله جسده فقط، لا روحه، حتَّى يعلموا أنَّه قد مات.
وقوله: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} :
والباء هنا للسببية من وجه، وللعوض من وجه آخر، للسببية يعني أنَّه بسبب ذنوبهم، لأن الله لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون، ولم يأخذ الله أحدًا إلَّا بذنب. وللعوض من جهة أخرى أنَّه لم يظلمهم، بل جعل جزاءهم من جنس العمل {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160].
وقوله: {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} :
خَتْم الآية بهذا الوصف مناسب جدًا؛ لأن هؤلاء الذين أخذوا بذنوبهم أخذوا بالعقاب الشديد الذي لا أشد منه.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
أن الكفار لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا.
2 -
أن المؤمنين ينتفعون بأموالهم وأولادهم، فالمؤمن يتصدق بماله فينتفع، ويدعو له ولده في حياته وبعد موته فينتفع. أما الكافر فلا ينتفع ولو دعا له ولده، ولا يحل لولده أن يدعو له إلَّا إذا كان حيًّا، فيحل له أن يدعو له بالهداية.
3 -
أن الكافر يملك؛ لقوله: {أَمْوَالُهُمْ} فأضاف المال إليهم وهو دليل على أن الكافر يملك ماله.
واختلف العلماء في المرتد الذي يكفر بعد إسلامه هل يزول ملكه عمّا تحت يده أو لا؟
فمن العلماء من قال: إنه إذا ارتد الإنسان زال ملكه عمَّا تحت يده، وعلى هذا لا يصح أن يتصرف فيه، ولكن القول الراجح أنَّه لا يزول ملكه إلَّا إذا مات على ردته، فإن ملكه لا ينتقل إلى ورثته بل إلى بيت المال. ومن المعلوم أننا لو قلنا: إن المرتد يزول ملكه لحصل إشكال عظيم في عصرنا هذا، وهو أن بعض الناس لا يصلي، والذي لا يصلي مرتد. فإذا قلنا بزوال ملك المرتد لزم من ذلك أن كل تصرف يتصرف به في ماله فهو تصرف غير صحيح، إن باع شيئًا لم يصح البيع، وإن اشترى شيئًا لم يصح الشراء، وإن استأجر شيئًا لم يصح الاستئجار، وإن أجَّر شيئًا لم يصح التأجير. وهذا وإن قال به بعض العلماء: لكن الراجح أن ملكه باق على ماله حتَّى يموت، فإذا مات فإننا نصرف ماله إلى بيت المال، ولا يرثه أحد من ورثته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"
(1)
.
4 -
بيان قدرة الله عز وجل وأنه لا ينفع مال ولا بنون من الله شيئًا؛ لقوله: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} وأما من غير الله فقد تغني، فيمكن أن يدفع شيئًا من ماله
(1)
أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح، رقم (4283). ومسلم، كتاب الفرائض، رقم (1614).
ويسلم من القتل. ويمكن أن يكون عنده أولاد شجعان إذا أراده أحد بسوء دافعوا عنه، لكن من الله لا يغني عنهم لا مال ولا ولد.
5 -
تشجيع قلوب المؤمنين على الكافرين. ووجهه: أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم من الله شيئًا، فإذا انتصرنا بالله فإنَّ ما عندهم من الأسلحة والذخائر والأموال والأولاد لا يغنيهم من الله شيئًا. ولهذا لو شاء الله عز وجل أن يبطل جميع ما فعلوا لأبطله، وما يحصل من الزلازل التي تدمر كثيرًا مما صنعوا أكبر دليل، وكذلك ما صنعوه قد يفسد بأيديهم. فكم من انفجارات حصلت في مخازن القنابل الذرية والنووية وحصل بذلك شر عليهم وعلى من حولهم، لو شاء الله لأعتم عليهم الجو فقط إعتامًا بالضباب ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقهر قدرتَه وقوتَه شيءٌ، ولهذا قال:{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} .
6 -
إثبات النار؛ لقوله: {وَقُوُد النَّارِ} .
7 -
أن الكفار في النار؛ لقوله: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} ولكن لا نشهد لكل كافر بعينه أنَّه في النار، ولكن نشهد على سبيل العموم، فنقول: كل كافر في النار، كما نقول: كل مؤمن في الجنَّةَ، ولا نشهد لواحد معين بالجنة، ففرق بين العموم وبين الخصوص.
8 -
أن الكافرين قد يرزقون الأموال والأولاد.
9 -
أن الكفار المتأخرين كالكفار السابقين؛ لأن سنّة الله تعالى في الخلق واحدة، فليس بينه وبين الخلق نسب يراعيه
ويحابي من يتصل به، فالناس عنده تعالى سواء، أكرمُهم عند الله أتقاهم؛ لقوله:{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} .
10 -
أن فرعون وآله قد عُذِّبوا في الدنيا كما سيعذبون في الآخرة، لقوله:{فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} .
11 -
الردُّ على من زعم أن فرعون أسلم فنفعه إسلامه؛ لأن الله تعالى ذكر ذلك على وجه المؤاخذة والمعاقبة. ولو كان تائبًا توبة تنفعه ما ذكر ذنبه بدون ذكر توبته؛ لأن الله تعالى عدل لا يذكر أحدًا بذنب تاب منه، إلَّا أن يبين توبته، فآدم عليه الصلاة والسلام لما أكل من الشجرة، وحصل له ما حصل، وتاب إلى الله ذكر الله تعالى معصيته، وذكر أنَّه تاب، فقال تعالى:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، بل ذكر أنَّه بعد التوبة كان خيرًا منه قبلها {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122].
12 -
إثبات الآيات لله، وهي العلامات الدالة على الله عز وجل، على وجوده، وعلى ما تتضمنه هذه الآيات من صفاته، فمثلأ: نزول الغيث آية على وجود الله وعلى رحمته. ونزول العقوبات دليل على وجود الله وعلى غضبه. وهكذا كل آية تدل على وجود الله سبحانه وتعالى وعلى ما تقتضيه تلك الآية من الصفات، سواء كانت آية رحمة أو آية عذاب.
13 -
أن الله لا يظلم الناس شيئًا، وإنَّما يؤاخذهم بالذنوب {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} ونظير ذلك قوله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
14 -
الرد على الجبرية الذين لا ينسبون فعل العبد إليه،
لقوله: {بِذُنُوبِهِمْ} فأضاف الذنوب إليهم. والفعل لا ينسب إلَّا لمن قام به حقيقة، والجبرية يقولون: إن الفعل لا ينسب إلى الإنسان على وجه الحقيقة.
15 -
إثبات صفة شدة العقاب لله؛ لقوله: {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
* * *
• ثم قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 12].
هذه الآية مصدرة بـ {قُلْ} تدل على أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإبلاغها إلى الكفار، فيدل على أهميته، وأنه أمر أن يبلغه أمرًا خاصًا، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أُمر أن يبلغ القرآن كله، لكن هذا يدل على أنَّه معتنى به، مثل قوله تعالى:{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31]، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم تارة يكون شاملًا له وللأمة بالنص المقترن بذلك الخطاب، وتارة يكون خاصًا به، وتارة يكون عامًا له وللأمة بمقتضى كونه إمامًا للأمة. يعني ليس في الخطاب ما يدل على العموم، لكن باعتبار أنَّه إمام الأمة يكون الخطاب له، وحكمُه يشمله ويشمل الأمة.
مثال الأول: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، فقال:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} ثم قال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ} ولم يقل إذا طلقت، فدلَّ هذا على أن هذا الخطاب موجه له ولأمته.
ومثال الثاني: قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشرح: 1]، وقوله:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6]، هذا خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام.
ومثال الثالث: أكثر الخطابات الموجهة للرسول عليه الصلاة والسلام من هذا القسم، مثل هذه الآية:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} ، هذا شامل له وللأمة، حتَّى نحن نقول للذين كفروا: ستغلبون وتحشرون إلى جهنم. على وجه الاقتداء به والتأسي به.
وقوله: {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} ، في قراءة:(سيُغلبون ويُحشرون) قراءة سبعية.
{سَتُغْلَبُونَ} : يغلبهم المؤمنون، كما قال الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقال الله تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]، المؤمن الغالب هو الذي آمن حقًّا، وقام بالعمل الصالح، ليس الإيمان هو مجرد القول باللسان. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]، لابد من إيمان صادق يشهد له العمل، فيكون صالحًا، والله عز وجل يقول:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، فالذين آمنوا إيمانًا حقيقيًا مصدقًا بالعمل سوف يغلبون بلا شك الكفار.
ولكن إذا قال قائل: ماذا تقول في الأمة الإسلامية اليوم، فإنها مغلوبة على أمرها، والكفار يستذلونها غاية الذل، ويحاربونها من كل وجه بكل أنواع السلاح؟
فجوابنا أن نقول: إنَّ الأمة الإسلامية ليس لهم من
الإسلام إلَّا اسمه فقط، ولا من القرآن إلَّا رسمه، ولذلك تجد الواحد منهم يعظِّم القرآن تعظيمًا متعديًا لحدود الشرع، ولكنه تعظيم رسم؛ يُقَبِّل القرآن، يضعه على جبهته، لكن لا يعمل بما فيه إلَّا نادرًا، حتَّى إنه ربما يفعل ذلك وهو يشرك بالله ويدعو غير الله.
أين العمل بالقرآن؟ !
وإذا نظرت نظرة فاحصة في العالم الإسلامي اليوم وجدت أنَّه لا يمثل الإسلام حقيقة، وجدت في العبادة أنواعًا كثيرة من الشرك بالأموات وبالأحياء، ووجدت أنواعًا كثيرة من البدع العقدية والعملية، وجدت أنواعًا كثيرة من نقض العهد والغدر والخيانة والكذب والغش؛ فأين الإسلام؟ ليس هو إلَّا اسم، ومن ثَمَّ لم نغلب الذين كفروا، بل الذين كفروا هم الذين غلبونا في الواقع، وهم الذين لهم الآن السيطرة على العالم اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، فنحن اليوم لم نُصْدِقِ الله حتَّى يكون لنا النصر:{فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21].
وقوله تعالى: {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} : في الدنيا تغلبون، وفي الآخرة تحشرون إلى جهنم -والعياذ بالله- يجمعون إليها، ويدخلونها، ويخلدون فيها، فيكون هؤلاء الكفار قد خسروا الدنيا والآخرة؛ خسروا الدنيا بالغلبة والذل، وخسروا الآخرة، بأنهم يحشرون إلى جهنم، وهذا كقوله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].
وقوله: {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} : هذا ذمّ للنار والعياذ بالله، وأنها بئس المهاد، يعني بئس ما يتمهد به الإنسان، كالذي يتمهد في فراشه، ويلتحف بلحافه، كما قال تعالى:{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16]، وقال:{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)} [العنكبوت: 55]، وقال:{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]، أي شيء يغشيهم ويغطيهم من العذاب، فهم في حال لا يمكن أن يتصورها الإنسان لعظمها ولشدتها، وهم خالدون فيها أبدًا.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدٌ توجَّه إليه الأوامر؛ لقوله: {قُلْ} فهو عبدٌ لا يُعْبَد، ورسولٌ لا يُكَذَّب.
2 -
أهمية هذا الخبر الذي أمر الله نبيه أن يبلغه للكافرين.
3 -
تقوية المؤمنين حيث يقال لأعدائنا الكفار: ستغلبون في الدنيا، وليس لكم عاقبة في الآخرة، فإنكم ستحشرون إلى جهنم.
4 -
إرعاب الكفار وتحذيرهم؛ لقوله: {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} .
5 -
أن الله عز وجل يجمع للكفار بين العقوبتين؛ عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة، أما عقوبة الدنيا ففي قوله:{سَتُغْلَبُونَ} حتَّى وإن بذلوا أموالًا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36]. وأما العقوبة الثانية فهي قوله: {وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} . أما المؤمن فإن الله تعالى إذا عاقبه في
الدنيا لم يعاقبه في الآخرة، لن يجمع الله له بين عقوبتين {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
6 -
البشرى لنا نحن في هذا الزمن؛ وهي أننا لو صدقنا الله تعالى بالإيمان لكان الكفار مغلوبين {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} ، والذي يَغْلِبُ هم مَنْ قال الله فيهم:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51].
فلو أننا رجعنا إلى الإيمان حقًا في العقيدة والقول والعمل والأخلاق والآداب وجميع ما يتعلق بالشريعة الإسلامية لكان الكفار أمامنا مغلوبين، ويشهد لهذا الواقع الذي حصل في سلف هذه الأمة حيث ملكوا مشارق الأرض ومغاربها.
7 -
إثبات عذاب النار؛ لقوله: {وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} وهذا أمر ثابت بالكتاب والسنّة وإجماع المسلمين، ومن أنكره فقد كفر.
8 -
إنشاء الذم بل غاية الذم للنار؛ لقوله: {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} .
* * *
• ثم قال تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13].
{قَدْ كَانَ} : يحتمل أن تكون هذه من جملة مقول القول
السابق، يعني: قل لهم اعتبروا بمَثَلٍ أضربه لكم {آيَةٌ} ، أي علامة على أنكم ستغلبون، لأن الآية في اللغة: العلامة، {فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا}: يعني: لقي بعضهما بعضًا للقتال بينهما، والفئة بمعنى الطائفة. وهل المراد بالفئتين فئتان حقيقيتان واقعتان أو هو على سبيل المثال؟ أكثر المفسرين على أنهما حقيقيتان في أمر واقع.
وقال بعض المفسرين: إن ذلك على ضرب المثل، يعني: ولنفرض أن هناك فئتين على هذا الوجه؛ فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة. وإذا قلنا: إنهما فئتان في قضية واقعة، فقد قال هؤلاء القائلون بهذا القول: إن المراد بهما فئة الكفار والمؤمنين في بدر، فهما فئتان: فئة تقاتل في سبيل الله، وهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وفئة كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت، كما قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]، والخطاب في الآية للمؤمنين، سبحان الله! لو أخذنا بهذه الآية ونحن مؤمنون حقيقة، نقاتل في سبيل الله، لكان هؤلاء بين أيدينا كالفراش!
فئة: مبتدأ، وتقاتل: خبره، وجاز كون المبتدأ نكرة لأنه للتقسيم، فجاز الابتداء بالنكرة. ومنه قول الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا
…
ويوم نُساء ويوم نسر
فبدأ بالنكرة لأن المقام مقام تفصيل.
{تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في طريقه، والقتال في سبيل الله يتضمن أمورًا:
الأول: إخلاص النية لله.
الثاني: أن يكون موافقًا فيه أمر الله.
الثالث: أن تتجنب فيه محارم الله.
الأول: أن يكون مرادًا به وجه الله، وأن تكون كلمته العليا، وهذا الإخلاص، فلا يقاتل للقومية، وللشجاعة. ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعةً، ويقاتل حميةً، ويقاتل ليرى مكانه، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"
(1)
.
الثاني: أن يكون القتال في حدود شريعته، بحيث لا يكون فيه عدوان على أحد، فإن كان فيه عدوان على أحد فإنه ليس في سبيل الله. ومثاله: أن يكون بيننا وبين المشركين عهد، ثم ننقضه ونقاتل، فهذا حرام، وليس هذا قتالًا في سبيل الله، بل هو معصية لله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]. ونهى أن نقاتل في حال العهد، وقال:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، يعني: إذا عاهدت قومًا من الكفار، وخفت أن يخونوا، فلا يجوز أن تنقض العهد، ولكن انبذ إليهم على سواء، يعني قل لهم: لا عهد بيننا وبينكم، حتَّى تكون أنت وهم على سواء، يعني على علم بأن العهد قد نُقض. أما أن تقاتل مع العهد فهذا ليس في سبيل الله.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره، رقم (3126). ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، رقم (1904).
الثالث: أن تجتنب فيه محارم الله، فإن لم تجتنب فيه محارم الله، فإنه وإن كان أصله في سبيل الله لكن لا تتحقق فيه الغلبة والنصر. بدليل ما وقع للمسلمين في غزوة أُحد؛ فإن المسلمين في غزوة أُحد كان الأمر في أول النهار بأيديهم، والغلبة لهم، ولكنهم عصوا الرسول عليه الصلاة والسلام، فخذلوا، فكانت الدائرة للمشركين. يقول الله عز وجل:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].
{مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} : يعني حصلت الهزيمة للمشركين {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أي: صرف الله عز وجل المسلمين عنهم فلم يقاتلوهم.
{لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} : بعد هذا التقريع والتوبيخ الذي يتعظ به من يأتي بعدهم قال بعده: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} ونحن لو فعلنا كما فعلوا، هل نحن ضامنون أن يعفو الله عنا؟ لكن الصحابة عفا الله عنهم، وصار ما فعلوه كأن لم يكن.
وقوله: {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} :
ولم يقل الله عز وجل تقاتل في سبيل كذا. وهذا من باب الاكتفاء بأحد الوصفين عن الآخر، الأولى: قال: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولم يقل: فئة (مؤمنة) تقاتل في سبيل الله. والأخرى قال: {كَافِرَةٌ} ولم يقل: تقاتل في سبيل الطاغوت. فحذف من الأولى مقابل ما ذكر في الثانية. حذف من الأولى
(مؤمنة) التي تقابلها {كَافِرَةٌ} ، وحذف من الثانية ضد ما ذكر في الأولى؛ فحذف (في سبيل الطاغوت)، وقد ذكر في الأولى {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، وهذا من باب الاكتفاء بذكر أحد الوصفين عن الآخر، وهو من البلاغة الإيجازية.
وقوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} :
وفي قراءة سبعية: (ترونهم) والرائي هم المقاتلون في سبيل الله، أو الكفار. فالضمير يصلح لهذا وهذا، لكن (ترونهم) واضح أنَّها تعود إلى الكفار؛ ترون الفئة التي تقاتل في سبيل الله مثلي الكفار، لكن رؤيا فقط ليست حقيقية كما قال تعالى:{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الأنفال: 44].
{يَرَوْنَهُمْ} : يعني يشاهدونهم بأعينهم أنهم مثليهم سواء كانوا مؤمنين أم كفارًا، فإن كانوا مؤمنين يرون الكفار مثليهم. فواضح أن الفئة القليلة هي المؤمنة وإن كان الكفار يرونهم مثليهم رأي العين، ففيها إشكال؛ لأن الكفار إذا كانوا يرون المؤمنين رأي العين مثليهم صارت الغلبة للأكثر! لكنهم قالوا: إن رؤيتهم إياهم مثليهم من باب إراءة الله إياهم كذلك، وإن كانوا في الواقع دون ذلك. والأقرب أن الرائي هم الطائفة المؤمنة، وأن المثلين الطائفة الكافرة، يعني: أن الطائفة المؤمنة ترى الطائفة الكافرة مثليهم، وتحقق أن هؤلاء الكفار يبلغون ضعفيهم، إذا كان المؤمنون مائة فالكفار يكونون مائتين، فإذا قلنا: إن هذه الآية في قضية واقعة وهي في يوم بدر، صار عندنا إشكال كبير في قوله
{مِثْلَيْهِمْ} لأن عدد المؤمنين في بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، وعدد الكفار ما بين تسعمائة إلى الألف، ثلاثة أمثال أو أكثر. فذهب بعض العلماء إلى أنهم يرونهم مثليهم وإن كانوا في الحقيقة أكثر، وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالمثل هنا: الزائد وجعل معنى قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ} أي يرونهم أكثر منهم. أما إذا قلنا: إنها ضرب مثل فلا إشكال فيه، وهذا هو المطابق لقوله تعالى:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66].
ويوجد رأي ثالث وهو أن المراد بمثلين: أي ضعفين، وعليه يكون مطابقًا للواقع، لأن ضعف الشيء مثله مرتين، فإذا كان ضعفين صار ضعفه ثلاث مرات، والمشركون ما بين تسعمائة إلى ألف والمسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر.
وقوله: {رَأْيَ الْعَيْنِ} :
{رَأْيَ} : مصدر مؤكد لقوله: {يَرَوْنَهُمْ} إذا جعلنا الرؤية بصرية. وأما إذا جعلناها علمية، أي: يعلمونهم {مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} ، فهي أيضًا من باب التوكيد المعنوي، يعني: يعلمونهم علمًا يقينيًا كما يرونهم بأعينهم.
وقوله: {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} :
{يُؤَيِّدُ} : يقوي، والباء هنا باء الوسيلة، أي: يؤيد بسبب نصره من يشاء، كما يقال: ذبحت بالسكين وضربت بالعصا، فالنصر إذن وسيلة التأييد، فهو يقوي عز وجل بنصره من يشاء.
{مَنْ يَشَاءُ} : ممن تقتضي الحكمة نصره أو تأييده. ويجب أن نقرن كل آية جاءت بلفظ المشيئة، أو جاءت معلقة بالمشيئة بالحكمة؛ لقوله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30].
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} :
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} : المشار إليه ما سبق من ذكر هذه القضية أي: إن في ذلك المذكور لعبرة، يعني: لاعتبارًا، والاعتبار: مأخوذ من العبور من شيء إلى شيء، يعني: كأن الإنسان يعبر بعقله من المذكور إلى المعقول، فهنا ذكرت لنا قصة نأخذ منها عبرة بأن الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة فيكون تحقيقًا لقوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12]. فإذا افتخر الكفار بكثرتهم، نقول لهم: إن كثرتكم لا تغني عنكم شيئًا، فهذه فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، ومع ذلك صارت الغلبة للتي تقاتل في سبيل الله.
{لِأُولِي الْأَبْصَارِ} : جمع بصر، كأسباب جمع سبب، ويشمل بصر الرؤية الحسية وبصر العقل مادام أنهم يرونهم رأي العين، فيكون فيه عبرة لأولي الأبصار الذين رأوا بأعينهم، وكذلك هو عبرة لأولي الأبصار بعقولهم، ولو كانوا لم يروا ذلك رأي العين، لأنهم إذا سمعوا اعتبروا؛ فكان في ذلك عبرة لهم.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
ضرب الأمثال بالأمور الواقعة؛ لأن ذلك أبلغ في التصديق والطمأنينة، ويتفرع على ذلك أنَّه ينبغي للواعظ والداعي
إلى الله عز وجل أن يضرب المثل للمدعوين بالأمور الواقعة؛ لأن ذلك أبلغ.
2 -
أن الإنسان مهما بلغ من الصدق فإنّ عَرْضَه الأمثال الواقعة تجعل كلامه حق اليقين.
والمراتب ثلاثة: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
علم اليقين: هو خبره الصادق.
وعين اليقين: ما تراه بعينك مشاهدًا.
وحق اليقين: ما تدركه بحسك.
فإذا قال لك قائل: في جيبي تفاحة، وهو رجل صادق، فالذي أدركت من وجود التفاحة علم اليقين، فإذا أخرجها ونظرت إليها فهذا عين اليقين، فإذا أكلتها فهو حق اليقين، لأن هذا هو الواقع.
3 -
أن النصر ليس بكثرة العدد، ولا بقوة العُدد، ولكنه من الله؛ لأن الله لما ضرب هذا المثل قال:{وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} والوسيلة الحقيقية لنصر الله الذي به التأييد ما ذكره الله عز وجل بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} -إلى الآن لم يأت سبب النصر- {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]. هذا واحد، إخلاص العبادة لله عز وجل، هذا من أسباب النصر. وهناك أسباب أخرى ذكرها الله تعالى في قوله:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 40 - 41]
4 -
أن القتال لا يكون سببًا للنصر إلَّا إذا كان في سبيل الله، إخلاصًا، وموافقةً للشرع، واجتنابًا للمحارم، فإذا تمت هذه الأمور الثلاثة فهذا هو الذي في سبيل الله.
5 -
أنَّه لا ألفة بين المؤمنين والكافرين؛ لقوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} فمن حاول أن يجمع بين المؤمنين والكافرين فقد حاول الجمع بين النار والماء. وهذا شيء غير ممكن؛ لا يمكن لأولياء الله أن يكونوا متآلفين مع أعداء الله، ومن حاول أن يؤلف بين أولياء الله وأعداء الله فمعنى ذلك أنَّه سوف يقضي على ولاية الله؛ لقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] واتخاذهم أولياء معناه: أن يتولاهم وينصرهم، لا أن يتقرب إليهم لدعوتهم، وكيف يمكن لشخص يقول إنه من أولياء الله، وإنه مؤمن بالله أن يوالي أعداء الله الكافرين بالله؟ ! هذا لا يمكن. ولهذا نجد أن الصراع بين أتباع الرسل وأعداء الرسل قائم دائم، إما بالقول، وإما بالفعل؛ إما بالقول:{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2]. وإما بالصراع المسلح كما هو معروف.
6 -
أن الله تعالى قد يري المجاهدين الأمر على الواقع، أو على خلاف الواقع؛ لحكمة. كما تشهد بذلك آية الأنفال:{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44]، لأن الإنسان إذا رأى عدوه قليلًا نشط على القتال، وإذا رآه كثيرًا تخاذل، فالله سبحانه وتعالى أرى المؤمنين الكفار
قليلًا، وأرى الكافرين المؤمنين قليلًا، لأجل أن يتقدم كل واحد على القتال.
7 -
إثبات أفعال الله؛ لقوله: {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} .
8 -
الرد على الجبرية في قوله: {تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . فأضاف الفعل إليها، والجبرية يقولون: إنه لا يضاف الفعل إلى الفاعل إلَّا على سبيل المجاز، كما نقول: أكلت النار الحطب.
9 -
إثبات المشيئة لله؛ لقوله: {مَنْ يَشَاءُ} .
10 -
أنَّه لا يعتبر بالأمور إلَّا أولو البصائر؛ لقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} .
11 -
أنك إذا وجدت من نفسك عدم اعتبار واتعاظ بما يجري، فاعلم أنك ضعيف البصيرة؛ لأن الله إذا أثبت العبرة لأولي الأبصار، فإن انتفاء العبرة يدل على ضعف البصيرة أو عدمها بالكلية.
12 -
الثناء على أهل البصيرة؛ لأن السياق فيهم، ويتضمن القدح في عُمْي القلوب.
* * *
• ثم قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].
هذه سبعة: النساء، والبنون، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ} : أي جعلت هذه الأشياء مزيَّنة في قلوبهم.
والمزيِّن هو الله، وقد أضاف الله التزيين إلى نفسه في عدة آيات: قال تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل: 4].
وأضاف التزيين إلى الشيطان، فقال:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل: 24]. لكن تزيين الشيطان إنما كان بالنسبة لأعمال هؤلاء، يعني: زين لهم الأعمال، أما الأشياء المخلوقة فالذي يزينها هو الله عز وجل ابتلاء واختبارًا، لأنه لولا تزيين هذه الأشياء في قلوب الناس ما عرف المؤمن حقًا. لو كان الإنسان لا يهتم بمثل هذه الأمور، لم يكن ما يصده عن دين الله. فإذا ألقي في قلبه حب هذه الشهوات، فإن قَوِيَّ الإيمان لا يقدمها على محبة الله عز وجل. ألم تروا إلى قول الرسول عليه الصلاة والسلام:"رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله"
(1)
. هذا ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلَّا ظله، والمرأة ذات المنصب والجمال هي من أشد ما يتعلق به الإنسان في النساء، ودعته في موضع خال ليس فيه أحد، لكن قال: إني أخاف الله، فالموانع منتفية، وأسباب الفاحشة موجودة متوفرة، ومع ذلك قال: إني أخاف الله. إذن فهذا التزيين ابتلاء واختبار من الله عز وجل.
قال الله تعالى: {حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} ولم يقل حب
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب فضل من ترك الفواحش، رقم (6806). ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، رقم (1031).
النساء، يعني: أن يتزوج الإنسان المرأة لمجرد الشهوة، لا لأمر آخر، ولهذا لا يدخل في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقال: إنه ممن زين له حب الشهوات، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يتزوج المرأة بكرًا سوى عائشة رضي الله عنها، ولو كان يريد الشهوة لاختار الأبكار الجميلات، ولا يمنعه مانع من ذلك. ولكنه قال:"حبَّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب"
(1)
لما في اختيار النساء من قِبَلِه عليه الصلاة والسلام من المصالح العظيمة، كاتصاله بالناس وقبائل العرب، وكذلك نشر العلم عن طريق النساء، لاسيما العلوم البيتية التي لا يطلع عليها إلَّا النساء، إلى غير ذلك من المصالح، لأن تزيين حب النساء إذا كان لغير مجرد الشهوة قد يحمد عليه الإنسان، لكن إذا كان لمجرد الشهوة فهذا من الفتنة، ولهذا قال:{حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} .
وقولى: {وَالْبَنِينَ} : يحب البنين لا ليكونوا عونًا له على طاعة الله، ولكن ليفتخر بهم، وكانوا في الجاهلية يفتخرون بالبنين، ويتشاءمون بالبنات. {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} [النحل: 58 - 59] يختفي منهم مخافة المسبة، ثم يفكر ويقدر {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} يعني: أيمسك هذا المولود وهو أنثى على هون وذل وهضم لحقها أم يدسه في التراب، أي: يدفنها حية في التراب؟ قال تعالى: {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُوُنَ} [النحل: 59].
(1)
أخرجه أحمد (3/ 128). والنَّسائي، كتاب النساء، باب عشرة النساء، رقم (3939). والحاكم (2/ 160) في الصلاة وصححه، وأَبو يعلى (6/ 199). وحسَّن الحافظ في التلخيص (3/ 134) رواية النَّسائي.
ولا شك أن كثيرًا من الناس زيّن لهم حب البنين شهوةً، وليس الشهوة الجنسية، ولكن شهوة الفخر والشرف.
وقال تعالى: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} :
{وَالْقَنَاطِيرِ} جمع قنطار، قيل: المراد به ألف مثقال ذهب، فإذا صارت قناطير تكون آلافًا، و {الْمُقَنْطَرَةِ} أي: المعتنى بها، وقيل: إن القنطار ما يملأ مسك الثور -يعني: جلد الثور- من الذهب، وهذا أكثر من ألف مثقال، وقد ذكر الله تعالى هذه المبالغ من الذهب والفضة لأنه كلما كثر المال في الغالب افتتن به الإنسان، فإذا كانت قناطير مقنطرة من الذهب صارت الفتنة بها أشد.
وقوله: {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} نصَّ عليهما لأنهما أغلى ما يكون من الأموال، ولذلك تتعلق الرغبات بهذين الجوهرين الذهب والفضة، حتَّى لو وجدت جواهر نفيسة لا تجد تعلق القلوب بهذه الجواهر كتعلقها بالذهب والفضة.
وقوله: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} :
{وَالْخَيْلِ} : هي هذه الحيوانات المعروفة، وسميت خيلًا لأن صاحبها غالبًا يبتلى بالخيلاء، لأنها أفخر المراكب، فالراكب لها يكون في قلبه خيلاء، أو لأنها هي تختال في مشيتها، ولهذا ترى الخيل عند مشيتها ليست كغيرها، تشعر بأن فيها ترفعًا واختيالًا. قال بعضهم: أو لأنها يخيل إليها أنَّه لا شيء يساميها، وهذا لا ندري عنه، اللهم إلَّا ما يظهر من أثر ذلك مثل اختيالها في مشيتها، وأصحابها لا شك أنهم يرون أنهم فوق الناس، لأنها أفخر المراكب في ذلك الوقت وإلى الآن، قال النبي عليه الصلاة
والسلام: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"
(1)
.
ومن المعلوم أن الآية هنا في سياق مَنْ أحب شهوة الخيل، يعني: اتخذها شهوة. فهذا هو محل التزيين المذموم، أما من اتخذها ليجاهد بها في سبيل الله فهذا لا شك أنَّه خير له، كما أن من أحب الذهب والفضة لا للشهوة وجمع المال، ولكن لما يترتب على المال من المصالح فهذا محمود. والخيل قسَّمها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أقسام ثلاثة
(2)
:
الأول: من اتخذها فخرًا وخيلاء وليناوئ بها المسلمين، فهذا عليه وزر.
الثاني: من اتخذها ليجاهد عليها في سبيل الله، فهذا له أجر.
الثالث: من اتخذها للركوب والتنمية والاستفادة من ورائها، فهي له ستر.
وقوله: {الْمُسَوَّمَةِ} قيل: معنى المسومة هي التي تسوم، أي: تطلق لترعى كما قال تعالى: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10]، وقيل: المسومة المعلمة التي جعل عليها أعلام للزينة والفخر مثل أن يجعل عليها ريش النعام أو أشياء أخرى تحسنها.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، رقم (2850). ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الخيل وأن الخير معقود بنواصيها، رقم (1872).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب المناقب، رقم (3646). ومسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، رقم (987).
وقال تعالى: {وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} :
قوله {وَالْأَنْعَامِ} : جمع نَعم، كأسباب جمع سبب، وهي الإبل والبقر والغنم، وهذه الأنواع من الحيوانات هي محل رغبة الناس أيضًا، أكثر الناس يقتنون الإبل والبقر والغنم، لا تجدهم يقتنون الظباء أو ما أشبهها من الحيوانات، وإنَّما يعتنون باقتناء هذه الأنواع الثلاثة في البادية وفي الحاضرة، لكنها في البادية أكثر، وأغلى هذه الأنواع هي: الحُمْر من الإبل، ولذلك يضرب بها المثل في الغلاء والمحبة، قال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب وقد وجّهه إلى خيبر قال:"انفذ على رسلك، ثم ادعهم إلى الإسلام، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمْر النَّعَم"
(1)
.
وقوله: {وَالْحَرْثِ} : يعني حرث الأرض للزراعة.
فهذه سبعة أشياء: النساء، والبنون، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث، ولو فتشت عامة رغبات الناس في هذه الدنيا لوجدتها لا تخرج عن هذه الأشياء السبعة في الغالب، وإلا فهناك أشياء أخرى محل رغبة عند الناس مثل: القصور المشيدة، والمنازل الفاخرة.
وقوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} :
{ذَلِكَ} : أعاد اسم الإشارة على مفرد مذكر على تقدير:
(1)
أخرجه البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب علي بنُ أبي طالب رضي الله عنه، رقم (3702). ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رقم (2406).
ذلك المذكور، فطوى ذكر هذه السبعة كلها، وكنَّى عنها بالمذكور، وذلك لاحتقارها بالنسبة لنعيم الآخرة.
وقوله: {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، أي: المتعة التي يتمتع بها الناس في الحياة الدنيا، وغايتها الزوال، فإما أن تزول عنها، وإما أن تزول عنك، أما أن تخلد لك أو تخلد لها، فذلك مستحيل، لابد أن تفارقها أو أن تفارقك هي، وهذا أمر لا يحتاج إلى إقامة برهان، فهذه الأشياء لو اجتمعت كلها للمرء فما هي إلَّا متاع الحياة الدنيا، يتمتع بها الإنسان ثم يفارقها أو تفارقه هي.
وقوله: {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بخلاف الحياة الأخرى، وهي الحياة الحقيقية، قال الله تعالى:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64]، أما الدنيا فهي حياة بسيطة ليست بشيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لموضع سوط أحدكم في الجنَّةَ خير من الدنيا وما فيها"
(1)
، وموضع السوط حوالي متر، و (خير من الدنيا وما فيها) الدنيا منذ خلقت إلى يوم القيامة بكل ما فيها من نعيم، وذلك لأن نعيم الدنيا في الحقيقة كأحلامنا، واعتبر الأمر بما مضى من عمرك.
و(دنيا): مؤنث أدنى، ووصفت بهذا الوصف لدنو مرتبتها بالنسبة للآخرة، فليست بشيء بالنسبة للآخرة. {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4]، وكذلك سميت دنيا لأنها أدنى من الآخرة باعتبار الترتيب الزمني، فهي دنيا، أي: قريبة للناس.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله، رقم (2892).
إذن ما دمنا نعرف أن هذا متاع الحياة الدنيا فلننظر إلى هذه الأشياء نظرة جدٍّ لا نظرة شهوة، فإذا كان ذلك ينفعنا في الآخرة فالنظر إليه طيب ونافع، ويكون من حسنة الدنيا والآخرة. أما إذا نظرنا إليه مجرد نظر الشهوة فإنه يخشى على المرء أن يغلب جانب الشهوة على جانب الحق، ولهذا أدنى الله مرتبة هذه الأشياء ووضعها حيث قال:{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
وقوله: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} :
يعني: حسن المرجع في الدار الآخرة؛ لأن مرجع كل إنسان إلى الآخرة، إما إلى جنة، وإما إلى نار، وليس ثمة دار أخرى ثالثة، كل الناس، بل كل الجن والإنس مآلهم في الآخرة إلى الجنَّةَ أو إلى النار، وليس ثمة دار أخرى.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
حكمة الله عز وجل في ابتلاء الناس بتزيين حب الشهوات لهم في هذه الأمور السبعة.
ووجه الحكمة: أنَّه لولا هذه الشهوات التي تنازع الإنسان في اتجاهه إلى ربه لم يكن للاختبار في الدين فائدة. فلو كان الإنسان لم يغرس في قلبه أو في فطرته هذا الحب لم يكن في الابتلاء في الدين فائدة؛ لأن الانقياد إلى الدين إذا لم يكن له منازع يكون سهلًا ميسرًا، ولهذا أول من يستجيب إلى الرسل الفقراء الذين -غالبًا- حرموا من الدنيا، لأنه ليس لديهم شيء ينازعهم لا مال ولا رئاسة ولا غير ذلك.
2 -
أنَّه لا يذم من أحب هذه الأمور على غير هذا الوجه، وهو محبة الشهوة، وذلك لأنه إذا زينت له محبة هذه الأمور لا
لأجل الشهوة لم يكن ذلك سببًا لصده عن دين الله، لأن أكثر ما يفتن الإنسان الشهوة إذا لم يكن هناك شبهة، فإن كان هناك شبهة واجتمع عليه شبهة وشهوة حصلت له الفتنتان. ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"حبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب"
(1)
، ويدل لذلك أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم رغَّب في النكاح وحثَّ عليه وأمر به الشباب
(2)
، والنبي صلى الله عليه وسلم حثّ على تزوج المرأة الولود
(3)
، والولود كثيرة الولادة، وإذا كانت ولودًا كثر نسلها، ومن نسلها البنون. فالمهم أن محبة هذه الأشياء لا من أجل الشهوة أمر لا يذم عليه الإنسان.
3 -
قوة التعبير القرآني، وأنه أعلى أنواع الكلام في الكمال، ولهذا قال:{حُبُّ الشَّهَوَاتِ} ولم يقل: حبّ النساء، أو حبّ البنين، أو حبّ القناطير المقنطرة، بل قال: حبّ الشهوات من هذه الأشياء، فسلّط الحب على الشهوات، لا على هذه الأشياء، لأن هذه الأشياء حبها قد يكون محمودًا.
4 -
تقديم الأشد فالأشد، ولهذا قدَّم النساء، ففتنة شهوة النساء أعظم فتنة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "ما
(1)
تقدم تخريجه (ص 86).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من استطاع. . ."، رقم (5065). ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، رقم (1400).
(3)
أخرجه أحمد (3/ 158). وأَبو داود، كتاب النكاح، باب النهي من تزوج من لم يلد من النساء، رقم (2050). والنَّسائي، كتاب النكاح، باب كراهية تزويج العقيم، رقم (3227).
تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"
(1)
. ولهذا بدأ بها فقال: {مِنَ النِّسَاءِ} .
5 -
أن البنين قد يكونون فتنة، ويشهد لذلك قوله تعالى:{أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28]، والأولاد أعم من البنين.
6 -
أن الذهب والفضة من أشد الأموال خطرًا على الإنسان، ولهذا قدَّمها على بقية الأموال، فقال:{وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} لأنها أعظم المال فتنة، لاسيما الموصوفة بهذه الصفة، أنَّها قناطير مقنطرة.
7 -
أنَّه كلما كَثُرَ المال ازدادت الفتنة في شهوته؛ لقوله: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} .
ولهذا نجد بعض الفقراء يجود بكل ماله، والغني لا يجود بكل ماله، بل بعض الأغنياء -نسأل الله العافية- يبتلون كلما كَثُر مالهم اشتد بخلهم ومَنْعهم.
8 -
أن الخيل أعظم المركوبات فخرًا، ولاسيما إذا كانت مسومة أي: معلمة معتنى بها، أو مسومة مطلقة في المراعي معتنى بها في رعيها، فإنها تكون أعظم المركوبات فتنة.
9 -
أنَّ فتنة الأنعام -الإبل والبقر والغنم- دون فتنة الخيل بناءً
(1)
أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب ما يتقى من شؤم المرأة وقوله تعالى:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} ، رقم (5096). ومسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنَّةَ الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان فتنة النساء، رقم (2740).
على الترتيب، والترتيب في هذه الآية يكون من الأعلى إلى الأدنى.
10 -
أن من الناس من يفتن في الحرث بالزراعة، فيفتن بها ويزرع على الوجه المشروع وغير المشروع.
11 -
أن هذه الأشياء كلها لا تعدو أن تكون متاع الحياة الدنيا؛ لقوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
12 -
التزهيد في التعلق بهذه الأشياء؛ لقوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وكل ما كان للدنيا فلا ينبغي للإنسان أن يتبعه نفسه لأنه زائل، فلا تتبع نفسك شيئًا من الدنيا إلَّا شيئًا تستعين به على طاعة الله. وأنت سوف تنال منه ما يناله من أتبع نفسه متاع الحياة الدنيا للدنيا، فمثلًا: الطَّعام، من الناس من يأكله لأجل أن يحفظ بدنه امتثالًا لأمر الله، واستعانة به على طاعة الله، فيؤجر على ذلك، ومن الناس من يأكله لمجرد شهوة ليملأ بطنه فيحرم هذا الأجر، لأنه نوى به مجرد الشهوة فقط.
13 -
تنقيص هذه الحياة؛ لقوله: {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، فوالله إنها لناقصة، إن دارًا لا يدري الإنسان مدة إقامته فيها، وإن دارًا لا يكون صفوها إلَّا منغصًا بكدرٍ، وإن دارًا فيها الشحناء والعداوة والبغضاء بين الناس وغير ذلك من المنغصات؛ إنها لدنيا.
14 -
أن ما عند الله خير من هذه الدنيا؛ لقوله: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} .
15 -
ما أشار إليه بعضهم من أن من تعلق بهذه الأشياء تعلُّق شهوة فإن عاقبته لا تكون حميدة؛ لأن الله عندما ذكر التعلق على وجه الشهوة بهذه الأشياء قال: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} فكأنه
يقول: ولا حسن مآب لهذا المتعلِّق بهذه الأشياء أي: إن عاقبته ليست حميدة، هكذا ذكره بعضهم، ولكن في النفس منه شيء.
والذي يظهر لي أن الآية ختمت بهذا: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} من أجل ترغيب الإنسان فيما عند الله عز وجل، وأن لا يتعلق بمتاع الحياة الدنيا، ويدل لما ذكرتُ قوله:{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} [آل عمران: 15].
* * *
• ثم قال الله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15].
قوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} يعني: أَأُخبركم بخير من ذلكم؛ يعني: المشار إليه في الآية السابقة. والاستفهام يفيد تنبيه المخاطب وحضور قلبه لما سيلقَى إليه، فهو كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]، ثم إن في هذا الاستفهام معنى غير التنبيه وهو: التشويق، يعني: بعد أن قصّ الله علينا متاع الحياة الدنيا أمر نبيَّه أن يقول للناس: {أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} ؛ ليشوقهم إلى ذلك الخير.
وقال: {أَؤُنَبِّئُكُمْ} ولم يقل: "أأخبركم"، لأن النبأ إنما يقال في الأمور الهامة، كقوله:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)} [النبأ: 1 - 2]، ولهذا قيل للنبي:"نبي"، ولم يُقَل:"مخبِر". فهذا أمر هام يحتاج إلى الإنباء عنه.
وقوله: {أَؤُنَبِّئُكُمْ} فيها قراءة (أؤنبئكم) بتحقيق الهمزتين
بدون مدٍّ، وفيها قراءة ثانية (آؤنبئكم) أي: بتحقيق الهمزتين بالمد.
وقوله: {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} ، ولم يقل:"من ذلك"، لأن المخاطب جميع الناس، والمشار إليه ما سبق من متاع الحياة الدنيا بأنواعها السبعة، وأشير إليها بلفظ المفرد المذكر من أجل طي ذكره بشيء واحد، كأنه قال: بخير من ذلكم المذكور حتَّى لا يشار إلى التفصيل فيه؛ لأن الدنيا كلها في الواقع ينبغي أن يزهد فيها الإنسان ولا يحتسبها شيئًا، كقوله صلى الله عليه وسلم:"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"
(1)
ولم يذكرها تحقيرًا لها.
وجواب الاستفهام هو مضمون قوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي} ، وقوله {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} خبر مقدم، و {جَنَّاتٌ}: مبتدأ مؤخر، وتقديم الخبر يفيد الحصر؛ لأن من القواعد المعروفة في البلاغة: أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر.
والتقوى أحيانًا توجه لله عز وجل كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278]. وأحيانًا نؤمر باتقاء يوم القيامة كما في قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]. وأحيانًا نؤمر باتقاء النار: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131].
ولكن المعاني وإن اتفقت في أصل الوقاية، فإنها تختلف؛
(1)
أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف بدء الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، رقم (1). ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات"، رقم (1907).
لأن تقوى الله عز وجل تستلزم الخوف منه وتعظيمه. أما النار فإن تقواها تستلزم الخوف منها فقط، لكنها ليست تقوى عبادة وإنابة وتعلق بها، بل تقوى فرار منها، وكذلك تقوى اليوم الذي نرجع فيه إلى الله، وهو يوم القيامة.
فقوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} ينبغي أن نحملها على أعلى أنواع التقوى وأفضلها، وهي تقوى الله عز وجل، لا تقوى اليوم الآخر، ولا تقوى النار؛ لأن تقوى الله تحمِل على تقوى اليوم الآخر، وعلى تقوى النار.
قال بعض العلماء في تقوى الله: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله. وهذا يتضمن الإخلاص والعلم.
(العلم) من قوله: على نور من الله. و (الإخلاص) من قوله: ترجو ثواب الله، وتخشى عقاب الله. يعني: لا يحملك على هذا حب الدنيا أو الجاه أو الرئاسة، أو ما أشبه ذلك.
وقال بعض العلماء: إن تقوى الله أن يخلي الإنسان جميع الذنوب صغيرها وكبيرها. وعلى هذا قول الشاعر
(1)
:
خلِّ الذنوب صغيرها
…
وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماشٍ فوق أر
…
ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة
…
إن الجبال من الحصى
وقال بعض العلماء: تقوى الله عز وجل: اتخاذ وقاية من عذاب الله، بفعل أوامره واجتناب نواهيه. وهذا أجمع ما قيل في التقوى.
(1)
هو عبدِ الله بنُ المعتز - في ديوانه.
ثم اعلم أن التقوى أحيانًا تقرن بالبر، وأحيانًا تفرد، فإن قرنت بالبر صار معناها: اجتناب المعاصي. والبر: فعل الطاعات، وإن أفردت عنه صارت شاملة لفعل الأوامر واجتناب النواهي، ولهذا الاستعمال في الكلمات نظائر كثيرة، كالفقير والمسكين، الفقير والمسكين إن ذكرا جميعًا صار لكل واحد منهما معنى، وإن أفرد أحدهما صارا بمعنى واحد.
كذلك الإيمان والإسلام؛ عند الإفراد يدخل أحدهما في الآخر، وعند الجمع يكون لكل واحد منهما معنى غير الآخر.
قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} : العندية هنا: تفيد فضلًا عظيمًا؛ لأنها هي القرب من الله عز وجل. كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] وكما قال تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19 - 20].
فثواب المتقين عند الله، والعندية تفيد القرب، ولا أقرب من شيء يكون سقفه عرش الله عز وجل، كالفردوس الأعلى. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55]. أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها.
وقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} : الرب كما سبق هو الخالق المالك المدبر، وسبق أيضًا أن ربوبية الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى عامة وخاصة، والربوبية هنا:{عِندَ رَبِّهِمْ} ربوبية خاصة؛ لأن الله وفقهم لما حرمه كثيرًا من عباده.
{جَنَّاتٌ} : كثيرة ومتنوعة ذكر الله تعالى في سورة الرحمن أن أجنانها أربعة، فقال:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، ثم قال:{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62].
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام: أنَّها جنتان من ذهب وجنتان من فضة
(1)
، وهذا باعتبار الجنس. أما الأنواع فكثيرة؛ لأن لكل أمة ما يختص بها من الثواب، ولكل فرد من الأمة ما يختص به من الثواب.
ونحن نعرف الآن أن الفواكه في الدنيا اسمها واحد، ولكنها تختلف؛ فالرمان مثلًا في هذا البستان يكون جيدًا، وفي هذا البستان يكون رديئًا، وكذلك بقية الفواكه.
كذلك الجنَّةَ تختلف حتَّى وإن اشتركت في أن كلها رمان، وكلها فواكه وما أشبه ذلك، فإنها تختلف من شخص لآخر، كما قال تعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132]. وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن أهل الجنَّةَ يتراءون أصحاب الغرف العالية كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق
(2)
.
فهي درجات عظيمة، فهنا قال:{جَنَّاتٌ} بالجمع لتعدد أجناسها وأنواعها وأفرادها.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله:{وَمِنْ دُوْنِهِمَا جَنَّتَانِ} ، رقم (4878). ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، رقم (448).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنَّةَ وأنها مخلوقة، رقم (3256). ومسلم، كتاب الجنَّةَ وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنَّةَ أهل الغرف كما يرى الكواكب في السماء، رقم (7144).
والجنة في الأصل: البستان الكثير الأشجار، ولكن المراد بالجنات التي وعد الله بها المتقين: هي دار النعيم المقيم التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ليس من تحت أرضها، بل من فوق أرضها، لكن من تحت أشجارها وقصورها، أنهار مطردة، وأنهار مختلفة الأنواع، أربعة أنواع: أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى.
هذا الماء لم يخرج من الآبار، ولم يذب من الجليد، وهذا العسل لم يخرج من نحل، وهذا اللبن لم يخرج من بهيمة، ولكن الذي خلق هذا في الدنيا من هذه الأشياء المعلومة قادر على أن يخلقه عز وجل في الآخرة ابتداء.
فهذه الأنواع الأربعة تجري من تحت هذه القصور، والأشجار اليانعة التي تبهج الناظرين وتسر القلب لا يتصور الإنسان ما فيها من النعيم.
وقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} :
هذا أيضًا من كمال النعيم (الخلد)، لا يذوقون فيها الموت، بل يقال لهم:"خلود ولا موت"
(1)
، فيسرون، بل يقال لهم: "إن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدًا، وأن تصحوا فلا تسقموا
(1)
أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} ، رقم (4730). ومسلم، كتاب الجنَّةَ وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، رقم (2849).
أبدًا، وأن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وأن تحيوا فلا تموتوا أبدًا"
(1)
.
كل الآفات المنغصة للنعيم في الدنيا، كلها تنفى عنه ولهذا قال:{خَالِدِينَ فِيهَا} .
وقوله: {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} :
معطوفة على جنات، وعطفها عليها لاختلاف في نوع التلذذ؛ فالتلذذ بالجنات تلذذ شهوة بطن، والتلذذ بالأزواج تلذذ من نوع آخر، والإنسان الذي له زوجة في الدنيا، تبقى زوجةً له في الآخرة، وإذا كانت ذات زوجين، فإنها تخيَّر بينهما، وإذا لم يكن للرجل زوجة، ولا للمرأة زوج في الدنيا، فإنه في الجنة يزوَّج هذا من هذه.
وهناك أزواج أيضًا من نوع آخر، وهن الحور العين، داخلة في قوله:{وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} ، وقوله تعالى:{مُطَهَّرَةٌ} أي: من كل رجس حسي أو معنوي.
فالحسي: مثل البول والغائط والحيض والعرق المنتن والمخاط وما أشبه ذلك.
والمعنوي: مثل الغل والحقد والفجور وكراهية الزوج وما أشبه ذلك.
وذلك لأن الله أطلق فقال: {مُطَهَّرَةٌ} ولم يقل من كذا وكذا، فَدَلَّ على العموم؛ لأن من القواعد المعروفة أن حذف المعمول يؤذن بعموم العامل.
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في دوام نعيم أهل الجنة، رقم (2837).
ولهذا أمثلة كثيرة منها قوله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 6 - 8]. قال: ألم يجدك يتيمًا ولم يقل: فآواك، ووجدك ضالًا ولم يقل: فهداك، مع أن الخطاب له، ووجدك عائلًا ولم يقل: فأغناك، بل حذف المفعول ليؤذن بعموم العامل. فالرسول عليه الصلاة والسلام: وجده ربه يتيمًا فآواه، وآوى به، حتى جعله فئة لكل مؤمن، ووجده ضالًا فهداه وهدى به، وكذا وجده عائلًا فأغناه وأغنى به.
وقال: {مُطَهَّرَةٌ} ولم يقل: مطهرات؛ لأن نعت الجمع يجوز أن يكون مجموعًا ويجوز أن يكون مفردًا، إلا جمع المؤنث السالم فإنه يكون مجموعًا؛ فتقول مثلًا: مررت بنساء مؤمنات، ولا تقول: بنساء مؤمنة، ومررت بمسلمات صالحات، ولا تقول: بمسلمات صالحة.
وقوله: {وَأَزْوَاجٌ} جمع تكسير؛ فيجوز في وصفه الإفراد والجمع، يجوز أزواج مطهرات، وأزواج مطهرة. قال ابن مالك:(والله يقضي بهبات وافرة)، ولو قال: وافرات لصحَّ.
وقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} :
هذا من أعظم شيء؛ أن الله سبحانه وتعالى يحل عليهم رضاه فلا يسخط عليهم بعده أبدًا، كما قال الله تعالى لما عدد نعيم أهل الجنة:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72].
وأعظم من ذلك النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى، كما قال الله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] فلا ألذ ولا أمتع ولا أحسن لأهل الجنة من النظر إلى وجه الله
سبحانه وتعالى، فأعلى شيء هو النظر إلى وجه الله عز وجل، والرضوان يليه، ثم المتع الجسدية في الجنة تلي هذا، ولهذا قال:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} فأفرده بالذكر؛ لأنه نعيم قلب، وما سبقه نعيم بدن وجسد، ولهذا يقول الله عز وجل:"إني أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا"
(1)
.
وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} :
أي: الذين يريدون الدنيا، والذين يريدون الآخرة، فهو بصير بهم بصر نظر وبصر علم، أما بصر النظر فلا يغيب عن نظره شيء، وأما بصر العلم فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
وقوله: {بِالْعِبَادِ} أي: العبودية العامة، فهو بصير بكل العباد، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، متقيهم وعاصيهم، وهو سبحانه وتعالى بصير بمن يستحق أن يكون من المتقين، وبصير بمن يستحق أن يكون من العاصين، المعصية بحكمته وعدله، والطاعة برحمته وفضله.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أهمية هذا النبأ، وذلك من وجهين: الأول: تصديره بـ {قُل} ، فهو أمر بتبليغه على وجه الخصوص، وهذا يدل على العناية به، وإلا فكل القرآن قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله للأمة. والثاني: إتيانه بصيغة الاستفهام الدالة على التشويق.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، رقم (6549). ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة، رقم (2829).
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم عبدٌ يُؤمر ويُنهى؛ لقول الله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} وليس له حقٌّ في الربوبية أبدًا، فهو لا يحيي ولا يميت، ولا يرزق ولا يدفع الضر عن نفسه ولا عن غيره، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110].
3 -
عناية الله سبحانه وتعالى بخلقه؛ فإنه لما ذكر ما زُيِّن لهم من الشهوات في الأمور السبعة، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينبئهم بما هو خير من ذلك.
4 -
حسن أسلوب التعليم والدعوة، وأنه ينبغي للإنسان في مقام الدعوة أن يأتي بالألفاظ التي توجب الانتباه؛ لأن الإنسان إذا قيل له: ألا أنبئك بكذا وكذا، سوف يتشوق وينتبه، بخلاف ما لو جاء الكلام مرسلًا.
5 -
جواز المفاضلة بين شيئين بينهما فرق عظيم؛ لقوله: {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} ؛ ومعلوم أن كل ما ذكر من الشهوات السبع لا يساوي شيئًا أبدًا بالنسبة لثواب الآخرة. ومن ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: "لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها"
(1)
. ومنه قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]، وفي مقام موافقة الخصم بدعواه قال الله:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59].
6 -
أن هذا الخير الذي شوَّق الله العباد إليه ثابت للمتقين؛ لقوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ} وفي ذلك الحث على تقوى الله.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله، رقم (2892).
7 -
أن هذا الخير لهؤلاء المؤمنين في أكرم جوار، وهو جوار رب العالمين؛ لقوله:{عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} .
8 -
عظم هذه الجنات لكونها عند الله بجواره سبحانه وتعالى.
9 -
عناية الله سبحانه وتعالى بهؤلاء القوم، حيث أضافهم إليه بالربوبية الخاصة في قوله:{عِنْدَ رَبِّهِمْ} .
10 -
أن هؤلاء المتقين يتنعمون في ثواب الله بكل أنواع النعيم، بالأكل والشرب والنكاح، وهذه أصول لذائذ البدن.
11 -
فضيلة الأزواج في الجنة بكونهن مطهرات حسًّا ومعنى.
12 -
أن تمام نعيم هؤلاء برضوان الله؛ لقوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} ، وقد بيّن الله سبحانه في سورة التوبة أن هذا الرضوان أكبر النعيم فقال:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72].
13 -
إثبات صفة الرضا لله تعالى، وهو من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته؛ متى وجد سبب الرضا وجد الرضا، وكل صفة تكون معلقة بسبب فإنها من الصفات الفعلية.
14 -
إحاطة الله سبحانه وتعالى بالعباد علمًا ورؤية؛ لقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد} .
15 -
بيان حكمة الله عز وجل؛ حيث قسَّم الناس قسمين: متقين وعصاة، أخذًا من قوله:{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، بعد قوله:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14].
16 -
أن الله سبحانه وتعالى حكيم؛ حيث جعل التقوى في
أهلها؛ لقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} فمن بصره بعباده أن جعل هؤلاء متقين والآخرين عصاة، وهؤلاء ثوابهم الجنة، وأولئك ثوابهم النار.
17 -
أن كل الخلق عباد لله، المتقي منهم وغير المتقي؛ لقوله:{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} ، بعد قوله:{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} .
18 -
التحذير من مخالفة أمره؛ لأنه متى علم الإنسان أن الله بصير به، فسوف يردع نفسه عن مخالفة ربه؛ لأنه إذا خالف ربه فالله بصير به، وسوف يجازيه بحسب مخالفته.
* * *
• ثم قال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 16 - 17].
قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} :
هذا بيان للذين اتقوا ربهم، لا للعباد؛ لأن العباد كلَّهم لا يتصفون بهذه الصفات، لكن المتقين منهم هم الذين يتصفون بهذه الصفات.
وقوله: {يَقُولُونَ} يريد بذلك القول باللسان والاعتقاد بالجنان؛ لأن الله تعالى إذا أطلق القول بالإيمان ولم يتعقبه، كان المراد به القول باللسان، والعقد بالجنان. ودليل ذلك قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]. لما كان المراد بهذا القول، القول باللسان فقط، قال:{وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} . أما إذا أطلق الله قول اللسان
{آمَنَتْ} فإنه يريد به القول باللسان والعقد بالجنان؛ ولهذا قال الله عز وجل: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} ، فلا يريد منا أن نقول ذلك بألسنتنا فقط، بل بألسنتنا وقلوبنا.
وقوله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا} توسلوا إلى الله بربوبيته، للإخبار بحالهم في الإيمان به، كأنهم يقولون: ربنا آمنا، ولكننا لم نصل إلى الإيمان إلا بربوبيتك لنا، تلك الربوبية الخاصة المقتضية للعناية التامة.
وقوله: {إِنَّنَا آمَنَّا} مؤكد بـ (إنَّ) وقد سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟
قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره"
(1)
.
وقال الله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]. فالإيمان هنا يشمل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به، وهو ستة أنواع: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. والإيمان ليس هو مجرد التصديق؛ ولهذا يقال:(آمنا به) ويقال: (آمنا له) وبينهما فرق، والإيمان لابد أن يكون مقرونًا بقبول وإذعان؛ يعني: يصدق، ثم يقبل، ثم يذعن، فهذا هو الإيمان، ولهذا يقال:(آمنت به) ولا يقال: (آمنته).
ولو كان الإيمان مرادفًا للتصديق لصحَّ أن يقال: (آمنته) كما يقال: (صدقته).
(1)
تقدم تخريجه (ص 62).
ولهذا كلنا يعلم أن أبا طالب مصدق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرى أن ما أخبر به مثل الشمس، حتى إنه يقر بذلك في قصائده ويقول:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
…
لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
ويقول:
ولقد علمت بأن دين محمد
…
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة
…
لرأيتني سمحًا بذاك مبينا
إذن هو مصدق، لكن لم يكن تصديقه هذا متضمنًا للقبول والإذعان، فلم يقبل منه.
وقوله: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} :
الفاء هنا للسببية، أي: بسبب إيماننا فاغفر لنا؛ لأن الإيمان لا شك أنه وسيلة للمغفرة، وكلما قوي الإيمان قويت أسباب المغفرة، حتى إنه إذا أخلص الإنسان إيمانه صارت حسناته تذهب سيئاته، ولهذا قال:{فَاغْفِرْ لَنَا} ، أي: بسبب الإيمان اغفر لنا، وهذا من باب التوسل بالطاعة لقبول الدعاء.
وقوله: (اغفر): فعل دعاء وليس فعل أمر؛ لأن العبد لا يأمر الله لكنه يدعوه. إذن كل فعل بصيغة الأمر موجَّه إلى الله، يسمى فعل دعاء، ولا يسمى فعل أمر.
والمغفرة: مأخوذة من الغفر، وهو الستر مع الوقاية، ومنه (المِغْفَر) الذي يلبسه المقاتل في رأسه ليستر الرأس ويقيه السهام، فليست المغفرة مجرد الستر، بل هي ستر ووقاية، ولهذا نقول: مغفرة الذنوب سترها عن الناس، والعفو عن عقوباتها.
ويدل لهذا أن الله سبحانه وتعالى يخلو يوم القيامة بعبده
المؤمن، ويقرره بذنوبه؛ يقول: عملت كذا، وعملت كذا وكذا، وعملت كذا حتى يقر، فيقول الله عز وجل:"قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم"
(1)
. يعني: لا أجازيك عليها.
ويقال: إن بني إسرائيل كان الواحد منهم إذا أذنب ذنبًا أصبح وذنبه مكتوب على بابه -والعياذ بالله- فضيحة. أما هذه الأمة فستر الله عليها ولله الحمد، ولكن فتح لها أبواب التوبة كما قال تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].
والله عز وجل يمهل الإنسان ويحلم عليه، وإذا وفق اتعظ من نفسه بنفسه؛ فيستحي من الله عز وجل، ويخشى أن يفضحه الله؛ لأن الإنسان إذا تجرأ على ربِّه في السر، فربما يفضحه في العلانية إذا لم يتب إلى الله عز وجل، فإن تاب تاب الله عليه، وأبدل سيئاته حسنات.
وقوله: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} :
الذنوب: هي المعاصي، وهي إما كبائر، وإما دون ذلك وهي الصغائر، وكلها تحتاج إلى مغفرة. والصغائر إما أن تكفر بالحسنات أو بالتوبة، فإذا كفرت بالحسنات فإنها تمحى فقط، ولا تبدل بحسنات، وإذا كفرت بتوبة أبدلت بحسنات، كما قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وقال: {إِلَّا
(1)
أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب قول الله تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} رقم (2441). ومسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، رقم (2768).
مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70].
وقوله تعالى: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} :
من الوقاية، والمراد: قنا العذاب عند استحقاقنا له، وقنا العذاب حتى لا نعمل العمل الذي يوصلنا إلى العذاب.
ثم هؤلاء إذا هم عملوا عمل أهل النار، فالله تعالى يقيهم ذلك بأمور متعددة.
وقد ذكر العلماء أسباب مغفرة الذنب فبلغت نحو عشرة أسباب؛ منها: أن يوفّق الإنسان للتوبة، فإن تاب الإنسان من الذنب، وقاه الله تعالى عقاب ذلك الذنب كما قال تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]. ومنها الأعمال الصالحة، والصدقة، ودعاء المؤمنين، ومشيئة الله عز وجل كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وغير ذلك.
وقوله تعالى: {الصَّابِرِينَ} :
نعت لقوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 15] والصابر: اسم فاعل من الصبر، وهو في الأصل: الحبس، والمراد به شرعا: حبس النفس عن محارم الله، وأنواعه ثلاثة:
1 -
صبر على طاعة الله عز وجل.
2 -
صبر عن معصية الله.
3 -
صبر على أقدار الله المؤلمة.
أما الصبر على الطاعة: فإن الإنسان يجد منه معاناة عظيمة عندما يهمُّ بالطاعة؛ لأنه يجد نفسه الأمّارة بالسوء والشيطان
يحاولان أن يصداه عن طاعة الله، حتى إذا أعانه الله على ذلك تغلب على هذين العدوين، وفعل ما أمر الله به.
وأما الصبر عن المعصية، لاسيما مع قوة الداعي لها، وعدم المعارض؛ فإنه لا ينجو منها إلا من عصمه الله؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في جملة من يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال:"رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله"
(1)
. ومن ذلك صبر يوسف عليه الصلاة والسلام، عندما دعته امرأة العزيز، وهي سيدته، لكنه عليه الصلاة والسلام رأى برهان ربه، فعصمه الله عز وجل.
ومن ذلك الرجل الإسرائيلي الذي كان يراود ابنة عمه عن نفسها، وتأبى عليه. فلما ألمّت بها سَنَةٌ جاءت إليه، ومكَّنته من نفسها، فلما جلس منها مجلس الرجل من امرأته، قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام عنها وهي أحب الناس إليه، لكن لما ذكرته بالله عز وجل اتقى الله
(2)
.
وأما الصبر على أقدار الله المؤلمة، وهذا كثير، ومن ذلك صبر أيوب عليه الصلاة والسلام، فإنه صبر صبرًا عظيمًا، قال تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] ومن ذلك أيضًا: الصبر على أقدار الله المؤلمة المترتبة على طاعة الله، كصبر الرسل على أذية الناس من أجل الدعوة إلى الله. فهؤلاء
(1)
تقدم تخريجه (ص 85).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الإجارة، باب من استأجر أجيرًا فترك أجره، رقم (2272). ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، والتوسل بصالح الأعمال، رقم (2743).
صبروا على الأقدار المؤلمة المترتبة على فعل اختياري منهم وهو طاعة الله بتبليغ رسالته.
ونضرب مثلًا بصبر سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، مع الحلم والأناة والعفو والتسامح، كما حصل له مع أهل الطائف
(1)
، وقبل ذلك مع أهل مكة؛ فقد كان ذات يوم عليه الصلاة والسلام يصلي حول الكعبة في آمَنِ مكانٍ على وجه الأرض، ساجدًا لله عز وجل، فجاءه سفهاء قومه، فوضعوا سلا جزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، حتى جاءته ابنته فاطمة رضي الله عنها فأزالت الأذى عن ظهره
(2)
. ومع ذلك صبر وصابر، ولم يخرج من مكة إلا بعد أن أذن الله له.
وقوله تعالى: {وَالصَّادِقِينَ} :
الصدق: هو المطابقة للواقع، والصادق هو الذي يكون خبره مطابقًا للواقع. والكاذب خلاف ذلك.
والصدق: يكون بالقول ويكون بالفعل، ويكون مع الله ويكون مع عباد الله. أما الصدق بالقول: فهو مطابقة القول للواقع؛ فإذا قيل لك: جاء زيد، وكان قد جاء، فهو مطابق للواقع، فيكون صدقًا.
والصدق من صفات المؤمنين، والكذب من صفات المنافقين، وقد حثّ النبي عليه الصلاة والسلام على الصدق،
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، رقم (483).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب إذا ألقي على ظهر المسلم قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته، رقم (240). ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، رقم (1794).
وقال: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا"
(1)
.
والصديقية مرتبة تلي مرتبة النبوة، فهي في المرتبة الثانية {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69].
وأما صدق الفعل: فهو أن لا يظهر خلاف الباطن، فمن يظهر لك المودة وقلبه يبغضك، أو يظهر أنه مؤمن ويصلي ويتصدق ويحضر مجالس العلم، لكن قلبه منطوٍ على الكفر -والعياذ بالله- فهذا كاذب كذبًا فعليًا، حيث أظهر خلاف ما يبطن.
فالأول كاذب مع عباد الله. والثاني كاذب مع الله.
والحاصل: أنَّ الصدق خُلُق عظيم، لا يناله إلا من وفَّقه الله ممن أنعم الله عليهم، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا.
وقوله تعالى: {وَالْقَانِتِينَ} :
القانتون: اسم فاعل من القنوت، والقنوت يطلق على عدة معان، وأنسبها لهذه الآية أن المراد بالقنوت: دوام الطاعة مع الخشوع والخضوع لله عز وجل، بحيث يكون الإنسان مديمًا
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وما ينهى عن الكذب، رقم (6094). ومسلم، كتاب البر والصلة، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، رقم (2607).
لطاعة الله مقبلًا على الله سبحانه وتعالى في طاعته. قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، أي: خاشعين، ولهذا لما نزلت هذه الآية أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام
(1)
.
وقوله: {وَالْمُنْفِقِينَ} :
المنفقون من أنفق أي: بذل النفقة، والنفقة هي إخراج المال، وبيّن سبحانه وتعالى في آيات أخرى الميزان للإنفاق، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وقال سبحانه وتعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]، فلا يكون الإنسان مقترًا ولا مسرفًا، وهذا الميزان يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والبلدان، فقد يكون الإنفاق إسرافًا بالنسبة لشخصٍ وليس بإسراف بالنسبة لآخر. فإنفاق الفقير ليس كإنفاق الغني، ولهذا قال الله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7].
وأما مَنِ الذين يُنْفَقُ فيهمِ؟ فبيّنه الله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 215]، فجهات الإنفاق كل جهة محتاجة، أو يحتاج المسلمون إليها، فالإنفاق في سبيل الله
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يُنهى عنه من الكلام في الصلاة، رقم (1200). ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، رقم (539).
لحاجة المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله؛ لأن الجهاد في سبيل الله إعلاء لكلمة الله عز وجل وحفظ لشريعته، والإنفاق على الفقير لحاجة الفقير، وليس لحاجة المسلمين.
وقوله: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} :
المستغفرون: هم السائلون لمغفرة الله، والمغفرة: هي ستر الذنب والتجاوز عنه.
وقوله: {بِالْأَسْحَارِ} الباء: هنا للظرفية، أي: فيها، والأسحار جمع سحر، وهو آخر الليل، أي: يسألون المغفرة في هذا الوقت من الزمن في آخر الليل؛ لأنه وقت نزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا، فإن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يتبقى ثلث الليل الآخر فيقول:"من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ "
(1)
.
ولأنه وقت فراغهم من التهجد، والإنسان مطلوب منه إذا فرغ من العبادة أن يستغفر الله، ولهذا يشرع لنا أن نستغفر الله تعالى ثلاثًا بعد الصلاة
(2)
. وأمر الله سبحانه وتعالى أن نستغفر في الحج: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]، وسؤال المغفرة بعد الانتهاء من العبادة فيه كمال الذل لله عز وجل، وأن الإنسان لا يعجب بعمله بل يخشى من التقصير فيه.
(1)
تقدم تخريجه (ص 38).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، رقم (591).
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
أن من صفات المتقين إعلانهم الإيمان بالله، واعترافهم بالعبودية؛ لقوله:{الَّذِينَ يَقُولُونَ} ، والقول هنا يكون باللسان ويكون بالقلب.
2 -
أن من صفات المتقين عدم الإعجاب بالنفس، وأنهم يرون أنهم مقصرون لطلبهم المغفرة من الله؛ لقولهم:{فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} .
3 -
أن التقوى لا تعصم العبد من الذنوب، بل قد يكون له ذنوب، لكن المتقي يبادر بالتوبة إلى الله عز وجل.
4 -
جواز التوسل بالإيمان؛ لقوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} فإن الفاء هنا للسببية، تدل على أن ما بعدها مسبب عما قبلها.
5 -
أنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله المغفرة والوقاية من النار؛ لقوله: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} .
وسؤال المغفرة يغني عن سؤال الوقاية من النار، إلا أنه في باب الدعاء ينبغي البسط لأربعة أسباب:
السبب الأول: أن يستحضر الإنسان جميع ما يدعو به بأنواعه.
السبب الثاني: أن الدعاء مخاطبة لله عز وجل، وكلما تبسط الإنسان مع الله في المخاطبة كان ذلك أشوق وأحبّ إليه مما لو دعا على سبيل الاختصار.
السبب الثالث: أنه كلما ازداد دعاءً، ازداد قربه إلى الله عز وجل.
السبب الرابع: أنه كلما ازداد دعاء، كان فيه إظهار لافتقار الإنسان إلى ربِّه؛ ولهذا جاء:"اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقَّه وجلَّه، علانيته وسره، وأوله وآخره"
(1)
، وهذا يغني عنه قوله:"اللهم اغفر لي ذنبي"، بل لو قال:"اللهم اغفر لي" لكان صحيحا لكن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط.
6 -
إثبات عذاب النار؛ لقوله: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . وعذاب النار إما دائم مستمر، وهذا لأصحاب النار الذين هم أصحابها، وإما مؤقت، وهذا لأصحاب المعاصي؛ فإنهم يعذبون بحسب معاصيهم، إذا لم يغفر الله لهم.
7 -
فضيلة هذه الصفات التي أثنى الله عليها، وهي: الصبر، والصدق، والقنوت، والإنفاق، والاستغفار في الأسحار، والحثُّ على الاتصاف بها.
8 -
أن الصبر أفضل هذه الصفات؛ لأن الإنسان إذا حقق الصبر حقق جميع هذه الصفات؛ لأن من أقسام الصبر: الصبر على طاعة الله وعن معصيته.
9 -
ذمُّ الاتصاف بضدِّ هذه الصفات، وهي: الجزع، والكذب، وقلة الطاعة، والبخل والشح، والاستكبار عن الاستغفار.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء. . .، رقم (1496). ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، رقم (121).
• ثم قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
قوله: {شَهِدَ اللَّهُ} :
الشهادة قد تكون بالقول، وقد تكون بالفعل. وشهادة الله سبحانه وتعالى لنفسه بانفراده بالألوهية هنا، كشهادته لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه أنزل عليه الكتاب بقوله:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء: 166]؛ فقد شهد عز وجل هو وملائكته لنفسه بالوحدانية، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، والشهادة في الموضعين قولية.
وأما الشهادة الفعلية ففيما يظهره الله سبحانه وتعالى من آياته؛ فكل الكائنات تشهد لله عز وجل بالوحدانية بلسان الحال، وكذلك تأييده لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر، وجعل العاقبة له، هو شهادة له بأنه رسول الله حقًّا.
وقوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُو} :
أي: لا معبود حق إلا الله، فكل ما عُبد من دون الله فهو باطل، وإن سمي إلهًا؛ فإن ألوهيته مجرد تسمية. كما قال الله تعالى:{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 40]، فلا معبود حق إلا الله. وأما المعبود باطلًا فهو موجود؛ كما سمَّى الله تعالى الأصنام آلهة في قوله تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس: 74]، وقال تعالى:{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 101]، وقال:{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213]،
وقال: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88].
وقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ} :
معطوفة على اسم الجلالة {اللَّهُ} ؛ يعني: وشهدت الملائكة أنه لا إله إلا الله.
وقوله: {وَأُولُو الْعِلْمِ} :
أصحاب العلم الذين رزقهم الله سبحانه وتعالى العلم، يشهدون أيضًا أنه لا إله إلا الله. والمراد بالعلم: العلم بالله عز وجل.
وقوله تعالى: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} :
{قَائِمًا} : حال من لفظ الجلالة، يعني: حال كونه قائمًا بالقسط، أي بالعدل. وذلك في أحكامه التكليفية، وأحكامه القضائية والجزائية، فليس فيها جور، وتتضمن الفضل والعفو والإحسان. ولهذا قال الله عز وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال الله عز وجل:{لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152]، هذا أمر زائد على العدل. ومن ذلك أنه يجزي الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بمثلها أو يعفو، إلا من كان كافرًا فليس أهلًا للعفو، فلا يعفى عنه.
والله سبحانه وتعالى يقتص للمظلوم من الظالم، إما بإجابة دعوة المظلوم إن دعا على ظالمه في الدنيا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل، وقد بعثه إلى اليمن: "إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله
حجاب"
(1)
. وإما بالأخذ من حسناته يوم القيامة. كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "من تغدون المفلس فيكم؟ " قالوا: من لا درهم عنده ولا متاع، أو قالوا: ولا دينار. قال: "المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد ظلم هذا، وضرب هذا، وشتم هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن بقي من حسناته شيء وإلا أخذ من سيئاتهم فطرح عليه وطرح في النار"
(2)
.
فلابد من العدل بين العباد. ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن الحقوق التي بين العباد من الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا، فلابد أن يقتص للمظلوم من الظالم.
فإن قال قائل: إنَّ الناس يصابون بالنكبات من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات؛ ألا يكون هذا ظلمًا؟
فالجواب: كلا، ليس بظلم؛ لأن هذا بما كسبت أيدي الناس، كما قال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
إذن فهذه المصائب فضل؛ لأن المقصود بها تأديب الخلق وردعهم حتى يرجعوا إلى الله عز وجل، فليس هذا من باب الظلم في شيء، بل هو من باب الجزاء بالعمل لغاية حميدة، وهي رجوع الناس عن ظلمهم، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ
(1)
أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، رقم (4347). ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين، رقم (19).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، رقم (2581).
النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النحل: 61].
وقوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو} :
هذا حكم بعد الشهادة. فشهد الله لنفسه أنه لا إله إلا هو، وحكم لنفسه أيضًا بأنْ لا إله إلا هو، فاجتمع في كلامه عز وجل الشهادة والحكم، فكان شاهدًا لنفسه، حاكمًا لها بالألوهية؛ لأن المعروف في المحاكمات والمرافعات أن تؤدى الشهادة أولًا، ثم يأتي الحكم. فالله تعالى شهد أولًا، وأخبر بمن شهد معه، ثم حكم ثانيًا.
والمتكلمون يفسرون هذه الجملة العظيمة بأن المراد بها القادر على الاختراع، ففسروها بما يقر به المشركون، ولم يكونوا موحدين. فالمشركون يقرون بأن الله هو القادر على كل شيء، وأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر للأمر، ومع ذلك هم مشركون قاتلهم الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم لم يحققوا معنى (لا إله إلا الله). وأنت إذا قرأت كتب هؤلاء المتكلمين وجدت كلامهم في الألوهية يدور على تحقيق الربوبية فقط، وهذا نقص عظيم، ومن مات على ذلك دون أن يؤمن بأنه لا معبود حق إلا الله، فإنه لم يمت على التوحيد.
وقوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :
{الْعَزِيزُ} : أي ذو العزة، و {الْحَكِيمُ} مأخوذ من الحكم ومن الإحكام، فهو ذو الحكم وذو الإحكام، وسبق الكلام عليهما مفصلًا في أول السورة.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان فضيلة التوحيد؛ حيث أخبر الله به عباده بلفظ الشهادة.
2 -
فضيلة الملائكة؛ حيث جعلهم الله تعالى في المرتبة الأولى في الشهادة بالتوحيد بعده سبحانه وتعالى.
3 -
فضيلة العلم وأهله، لقوله:{وَأُولُو الْعِلْمِ} .
4 -
تأكيد الشيء الهام، وإن كان المخبِر به من أهل الصدق، حيث صدر الله تعالى وحدانيته بالشهادة، وبيّن أن هذه الشهادة ليست له وحده بل له وللملائكة ولأولي العلم.
5 -
وصف الله تعالى بتمام العدل؛ لقوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} .
6 -
أن الله عز وجل لما شهد لنفسه بانفراده بالألوهية، أكد ذلك بالحكم به لنفسه، فقال:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .
7 -
انفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية؛ فيتفرع على ذلك أن من أشرك مع الله أحدًا في العبادة، فَعَبَدَه كما يعبد الله فإنه مشرك، وعمله مناف للتوحيد.
8 -
إثبات العزة والحكمة لله؛ لقوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، وأن عزة الله مبنية على الحكمة، وتنزيل الأشياء في منازلها، وهذا مأخوذ من ضم الاسمين الكريمين بعضهما إلى بعض، لأن العزيز من المخلوقين قد تأخذه العزة بالإثم فلا يقول الحق، أما الله عز وجل فإنه يقول الحق مع كمال عزته.
• ثم قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19].
{إِنَّ} فيها قراءتان: القراءة الأولى: فتح الهمزة، والثانية: كسر الهمزة؛ فعلى قراءة فتح الهمزة تكون عطف بيان لقوله: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18]، يعني: وشهد أنه لا إله إلا هو، وأن الدين عند الله الإسلام.
و{الدِّينَ} : يراد به العمل، كما في قوله تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، أي: لكم عملكم ولي عملي، وكما في قوله:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، ويراد به الجزاء كما في قوله تعالى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4].
والمراد به في هذه الآية العمل، يعني: إن الدين الذي هو عبادة الله والعمل له، هو الإسلام.
و{الْإِسْلَامُ} : مصدر أسلم يسلم. والإسلام هو التعبد لله تعالى بما شرع، حال قيام الشريعة. وهذا الإسلام بالمعنى العام. أما الإسلام بالمعنى الخاص -وهو المراد هنا- فهو التعبد لله بشرع محمد صلى الله عليه وسلم.
والدليل على هذا التقسيم من القرآن أنَّ الله تعالى وصف إبراهيم بأنه كان حنيفًا مسلمًا. وقال عن ملكة سبأ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]. وقال يعقوب لبنيه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. وقال عن التوراة: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 44]. والآيات في هذا كثيرة.
ولهذا لو سألنا سائل: هل اليهود والنصارى مسلمون؟ فنقول: أما بالمعنى العام فهم مسلمون، يعني: أنه لما كانت شريعة التوراة قائمة، وكانوا يتبعونها، فهم مسلمون بلا شك. وأما بالمعنى الخاص الذي لا يراد سواه بعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، فليسوا بمسلمين، بل هم كفار بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وهنا ننبِّه أن كثيرًا من الكُتَّاب اليوم إذا تكلموا عن اليهودية والنصرانية والإسلام، يقولون: هذه الأديان السماوية. فيظن السامع أن دين اليهود قائم، وأن دين النصارى قائم، كقيام دين الإسلام. وهذا لا يصح، فإن هذه الأديان أديان سماوية بلا شك، لكنها حرِّفت، وبُدِّلت، وغُيِّرت ونسخت ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فليست دينًا يرتضيه الله اليوم، بل المتمسكون بها كفار، لا يعدون من المسلمين.
وربما توهم بعض العامة أن اختلاف هذه الأديان كاختلاف المذاهب الإسلامية، يعني: كاختلاف مذهب الشافعي، ومالك، والإمام أحمد، وأبي حنيفة، وهذا خطأ عظيم؛ لأنه من زعم أن هناك دينًا قائمًا بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر، فإن دينه نسخ جميع الأديان، يقول الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} .
والمراد بالإسلام هنا الدين كله بجميع شرائعه الظاهرة والباطنة، فليس قَسِيم الإيمان المذكور في حديث جبريل عليه السلام
(1)
، بل المراد به ما يعمُّ جميع شرائع
(1)
تقدم تخريجه (ص 62).
الإسلام فالصلاة من الإسلام، والزكاة من الإسلام، والتوكل على الله من الإسلام، والخوف منه من الإسلام، وهكذا جميع شرائع الدين من الإسلام. وقوله:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} يعني: إن المرجع في كون هذا الشيء دينًا أو غير دين، هو الله عز وجل.
يعني: إن الإسلام قد اتفقت عليه الأمة، ولم تختلف فيه، لكن الأمم السابقة جرى منهم الاختلاف، ومع ذلك لم يختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، وعلموا الحق لكنهم اختلفوا فيه بغيًا وعدوانًا، كل واحد منهم يبغي على الآخر؛ كل واحد منهم يقول: إن دينك باطل، فتفرقوا وتمزقوا. وهذا كما وجد في الأمم السابقة، وُجِدَ في هذه الأمة؛ نجد بعض العلماء يخالف الآخرين، ثم يجعل من هذا الخلاف خلاف قَلْبٍ؛ فتتنافر القلوب وتتشتت، فمن كان على ذلك ففيه شبه من اليهود والنصارى.
وقوله: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} أي: العلم بالشريعة، فبعد أن عرفوا الشريعة وفهموها تنازعوا فيها. وقوله:{بَغْيًا بَيْنَهُم} يعني أن الحامل لهم على هذا الاختلاف هو البغي، حيث إن بعضهم يبغي على بعض؛ ولهذا جرى بين اليهود وبين النصارى من الحروب ما هو معلوم.
وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} :
{وَمَنْ يَكْفُر} الجملة هذه شرطية. فعل الشرط: يكفر،
وجوابه جملة {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . وارتبطت جملة الجواب بالفاء لأنها جملة اسمية، كما قيل:
اسمية طلبية وبجامد
…
وبما ولن وبقد وبالتنفيس
والكفر بآيات الله يدور على أمرين: الجحد والتكذيب، والاستكبار والعناد.
فالجحد والتكذيب: كما فعل المشركون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكما فعل أعداء الرسل من قبل.
والاستكبار والعناد: بحيث يعلم الحق ثم يستكبر عنه ويعاند، كما هو كفر إبليس، وبين الكفرين تلازم، فإن المكذب مستكبر، والمستكبر وإن لم يكذب بلسانه، فهو مكذب بعمله، لأنه لم ينقد لأمر الله.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ} الآيات نوعان: كونية، وشرعية.
فالكفر بالآيات الكونية: أن ينكر أن الله عز وجل هو الذي خلقها، أو أن يعتقد بأن لله تعالى شريكًا فيها، أو أن يعتقد بأن لله تعالى معينًا فيها. كل هذا كفر بالآيات الكونية، كما قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22].
فنفى الله في الآية ثلاثة أشياء:
1 -
لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض على سبيل الاستقلال.
2 -
ما لهم فيهما من شرك على سبيل المشاركة.
3 -
{وَمَا لَهُ} أي: لله {مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} أي: من معين.
ثم قال في الرابع: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، لكمال سلطانه، لا أحد يشفع إلا من أذن الله له.
ثم قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} :
وهذه الجملة خبرية يقصد بها التهديد، أي: سيحاسبه، وهو سريع الحساب عز وجل.
والسرعة في الزمن والتقرير. أما في الزمن فإن الدنيا مهما طالت فهي سريعة الزوال، وكذلك أيضًا سريع الحساب يوم القيامة فإن الله تعالى يفرغ من الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم، ودليل ذلك قوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]، والقيلولة تكون في نصف النهار. وهذه سرعة الحساب. وقد سأل أبو رزين العقيلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يحاسبنا الله في يوم القيامة وهو واحد ونحن جميع -الجماعة الكثيرة-؟ ، فقال:"ألا أخبرك -أو أنبئك- على شيء من آلاء الله؟ " -يعني تستدل به على إمكان ذلك-، قال: بلى، قال:"هذا القمر واحد، والذي يشاهده كل من على وجه الأرض"
(1)
.
أما السرعة في التقرير في قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} :
الحساب: أن يحاسب الإنسان ويناقش، لكن لكلٍّ صفة، فالمؤمن لا يناقشه الله عز وجل، ولكنه سبحانه وتعالى يقرره بذنوبه، ويقول: عملت كذا في يوم كذا في يوم كذا فيقر
(2)
. وأما
(1)
رواه الإمام أحمد في المسند، رقم (15773).
(2)
تقدم تخريجه (ص 109).
حساب الكفار: يحاسبون فيقفون على أعمالهم، ويخزون بها والعياذ بالله، ويقال:{هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أنَّ الدين الذي يُعتد به، ويكون مقبولًا عند الله هو الإسلام، وكل دين يخالف الإسلام في أي زمان فليس بمقبول ولا مرضي عند الله. والإسلام بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما جاء به الرسول، وعلى هذا فدين اليهودية والنصرانية دين باطل غير مقبول عند الله، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه "ما من يهودي ولا نصراني من هذه الأمة -يعني أمة الدعوة- يسمع به -يعني بالرسول صلى الله عليه وسلم ثم لا يتبع ما جاء به إلا كان من أهل النار، أو من أصحاب النار"
(1)
، فمن ادعى أن دين اليهودية أو النصرانية أو غيرهما من الأديان مقبول عند الله الآن فهو كافر؛ لأنه مكذب بالقرآن:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} .
2 -
بيان ضلال أولئك القوم الذين إذا تكلموا عن الديانات، قرنوا بين دين الإسلام، واليهودية، والنصرانية، وقالوا: هذه هي الأديان السماوية؛ حتى إن الجاهل ليظن أن اختلاف الأديان الثلاثة كاختلاف المذاهب الفقهية في الأمة الإسلامية. وهذا ضلال عظيم ومداهنة لليهود والنصارى، بل نقول: إن الأديان السماوية، اليهودية والنصرانية، كانت أديانًا
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، رقم (386).
مقبولة عند الله. أما الآن فقد نسخها الله عز وجل، وصار الدين السماوي المقبول الذي لا يمكن أن يشركه دين آخر، هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
3 -
أن اختلاف اليهود والنصارى كان عن علم، وبعد أن جاءهم العلم اختلفوا، ولهذا قال:{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} .
4 -
أن اختلاف هؤلاء ليس لقصد الحق، بل لقصد البغي والعدوان، بعضهم على بعض، حتى يضلل بعضهم بعضًا، بل ويكفر بعضهم بعضًا.
5 -
الإشارة إلى التحذير مما وقع فيه هؤلاء الكفار الذين أوتوا الكتاب. ووجه ذلك قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} ، والبغي معلوم أنه محذر منه، غير مرغوب فيه.
6 -
الإشارة إلى أنه يجب على الإنسان إذا خالفه غيره، ألا يتطاول عليه، وألا يقصد بسوق الأدلة المؤيدة لقوله البغي على غيره، والتطاول عليه، بل يقصد إظهار الحق، لينتفع هو وينفع غيره. أما أن يأتي بالأدلة من أجل أن يعلو على أخيه، ويكون قوله هو الأعلى، فهذا خطأ عظيم.
7 -
التحذير من الكفر بآيات الله، لقوله:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .
8 -
أنه إذا كان التحذير من الكفر بآيات الله؛ فعلى العكس من ذلك الحثُّ على الإيمان بآيات الله؛ لأن القدح في الشيء مدح لضده.
9 -
بيان قدرة الله عز وجل بكونه سريع الحساب.
10 -
أنه لابد أن يحاسب الإنسان على عمله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. والحكمة تقتضي ذلك، وإلا فما الفائدة أن تُخْلَق هذه الخليقة العظيمة، وتُنَزَّل عليها الكتبُ، وتُرسل إليها الرسلُ، وتؤمر وتُنهى، ثم في النهاية ينتهون إلى تراب! !
11 -
بيان أنه ينبغي للعاقل أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب. كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا. فكون الإنسان يحاسب نفسه ليصلح ما عساه فسد، أولى من سكوته وإهماله وعدم حساب نفسه، لأن الذنوب تتراكم عليه ثم يهلك.
12 -
يستفاد من الآية الرد على الجبرية. ووجه ذلك: أن الله عز وجل أسند هذه الأفعال إلى فاعليها {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ} ، {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} ، وما أشبه ذلك. كل ذلك يفيد أن للإنسان إرادة وفعلًا اختياريًا، خلافًا للجبرية الذين قالوا: إن أفعال العباد يجبر عليها الإنسان.
* * *
• ثم قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20].
{فَإِنْ حَاجُّوكَ} : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والضمير في {حَاجُّوكَ} وهو الواو، قيل: لليهود، وقيل: للنصارى؛ لأن الآيات التي نزلت في أول سورة آل عمران كلها في النصارى،
وقيل: للمشركين؛ لأنهم كانوا يحاجون الرسول عليه الصلاة والسلام لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، ويقولون: يا محمد، إنك تزعم أن الذي يدعو أحدًا غير الله يكون هو ومن يدعوه في النار، إذن عيسى في النار، لأنه يعبد من دون الله، فأنزل الله تعالى بعد الآية مباشرة:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ}
(1)
[الأنبياء: 101 - 102].
والمهم أنَّ الله عز وجل يقول: إن حاجُّوك فقل لهم قولًا تخلص به منهم: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} ، وإذا أسلم الإنسان وجهه لله، قبل كل ما يخبر الله به، وامتثل كل ما يأمر به، وانتهى عن كل ما نهى عنه؛ فهو مسلِّم وجهه لله.
والمراد بالوجه هنا ليس الوجه الذي هو الجارحة التي في الرأس، وإنما المراد: القصد، ووجهة القلب، كما قيل:
رب العباد إليه الوجه والعمل
وربما نقول: إنه يشمل هذا وهذا؛ لأن الإنسان يسلم وجهه لله، فتجده يضع وجهه الذي هو أشرف أعضائه على التراب ذلًّا لله، واستسلامًا له.
وإذا قلت: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} يترتب عليه تصديق خبر الله، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، فهذه طريقتي، وأمرت أن أبلغكم، وقد بلغتكم، وليس عليَّ أكثر من ذلك:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272].
(1)
انظر: ابن كثير (3/ 119)، والدر المنثور (5/ 679).
وبهذا نعرف وجه مطابقة الجواب للشرط، وإلا فإن الإنسان قد يتوقع جوابًا غير هذا. كأنْ يقال مثلًا: فإن حاجوك فحاججهم.
وقوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} :
(من) معطوفة على الضمير في (أسلمت)، ولا يجوز أن تكون معطوفة على لفظ الجلالة؛ لأن الرسول لا يسلم وجهه لمن اتبعه، وإنما يسلم وجهه لله. ومثل ذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]، فإن بعض المعربين قالوا: إن (مَنْ) معطوفة على لفظ الجلالة يعني: حسبك الله وحسبك من اتبعك من المؤمنين، وهذا غلط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حسبه الله وحده، وحسب من اتبعه من المؤمنين.
وكأن الذين قالوا: إن "من اتبعك من المؤمنين" معطوف على (الله) استندوا إلى قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]، وبينهما فرق عظيم؛ لأن {أَيَّدَكَ} أسند التأييد إلى الله، فالمؤيِّدُ هو الله، وجعل النصر والمؤمنين وسيلة.
وقوله: {وَجْهِيَ لِلَّهِ} فيها قراءتان، بسكون الياء وفتحها.
وقوله تعالى: {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أي: على ما جئتُ به، من العقيدة والقول والعمل، وعلامة المتبع للرسول عليه الصلاة والسلام حقًّا، هو الذي إذا قيل له: قال رسول الله، صار كقول من يقال له: قال الله. وإذا قيل له: فعل رسول الله، لم يعدل بفعله فعل أحد من الناس. هذه حقيقة الإتباع. أما من قال شيئًا، أو فعل شيئًا، أو اعتقد شيئًا، ثم حاول أن يصرف كلام الرسول
عليه الصلاة والسلام إليه، فهذا حقيقةً ليس بمتبع؛ لأنه لم يذعن لما جاء به الرسول، إنما اتبع هواه، ثم حاول أن يلوي أعناق النصوص إلى ما يوافق هواه.
وهذه مسألة خطيرة، ومحنة عظيمة، أن تجعل الهدى تابعًا لهواك. والواجب أن يكون الهوى تابعًا للهدى! ! تتعجب إذا قرأت في بعض الأحيان في كتب العلماء الأجلّاء في باب المناقشة، كيف يبنون الأدلة على ما يعتقدون من الأحكام أو من العقائد القلبية، ويحاولون أن يعطفوا هذه النصوص إلى ما يعتقدون؟ !
وقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} :
هذا مما يدل على أن الواو في {حَاجُّوكَ} يشمل: اليهود، والنصارى، والمشركين. يعني: وقل هل أنتم تفعلون مثل فعلي؟
{وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وهم اليهود والنصارى {وَالْأُمِّيِّينَ} وهم العرب، وسموا أميين نسبة إلى الأم؛ لأن عامتهم جهال، إذ لم يأتهم رسول بعد إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ومنهم من أخذ العلم -أي علم الرسالات الإلهية- عن النصارى مثل ورقة بن نوفل.
{أَأَسْلَمْتُمْ} فيها قراءتان، آأسلمتم، وأأسلمتم، أي: بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما. والاستفهام هنا يراد به الأمر، يعني: قل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلموا، فهو مثل قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء: 108] يعني: فأسلموا.
وقيل: بل المراد أنه ينادي عليهم بالبلاهة، يعني: أأسلمتم
بعد هذا البيان وهذا الوضوح، أم أنكم بلهاء لم تفقهوا حتى الآن، ولم تسلموا مع ظهور المعنى ووضوحه، وهذا المعنى أبلغ من المعنى الأول.
وقوله: {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} :
إن أسلموا بالإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اهتدوا هداية التوفيق، وسلكوا طريق الهداية؛ لأن الهداية نوعان: هداية دلالة، وهذه شاملة لكل أحد. قال الله تعالى:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] لابد أن يهدي الله سبحانه وتعالى كل أمة. وهداية التوفيق: وهذه خاصة بمن هدي بالإسلام في كل زمان ومكان بحسبه. فمن اهتدى هداية التوفيق فهو محل المدح والثناء، وأما الأول الذي اهتدى هداية الدلالة فمعناه علم الحق، فهذا إذا خالف الحق كان أشد ذمًّا ممن لم يعلم الحق.
وقوله: {فَإِنْ أَسْلَمُوا} : يعني استسلموا لله ظاهرًا وباطنًا.
أما باطنًا: فالإيمان بما يجب الإيمان به، وهي الأركان الستة التي بيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم.
وظاهرًا: بعمل الجوارح، وهو الإسلام المبني على خمسة أركان: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت.
{فَقَدِ اهْتَدَوْا} : اهتدوا هداية توفيق، كما قد هدوا هداية دلالة.
{وَإِنْ تَوَلَّوْا} يعني: أعرضوا عن الإسلام فلم ينقادوا بظواهرهم ولا ببواطنهم، فقد أديت ما عليك، ولهذا قال:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} . وهذه الجملة جواب الشرط في قوله:
{وَإِنْ تَوَلَّوْا} وهي تفيد الحصر، يعني: ما عليك نحوهم إلا البلاغ، وقد بلغ البلاغ المبين عليه الصلاة والسلام، أما الهداية فهي بيد الله سبحانه وتعالى، ولو كان بيد النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الهداية -هداية التوفيق- لكان أول من يهتدي على يديه عمه أبو طالب.
وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} :
بصير بهم: أي عليم بأحوالهم، وعليم بأهلية من يصلح للهداية ومن لا يصلح.
والبصر هنا: بصر الرؤية، وبصر العلم. فالله تعالى بصير بالعباد (بالرؤية)، لا يخفى عليه شيء منهم. و (بالعلم): لا يخفى عليه شيء من أحوالهم.
والعباد هنا: يشمل جميع الخلق؛ لأنه ما من أحد في السموات ولا في الأرض إلا آتي الرحمن عبدًا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].
فإذا كان الله بصيرًا بالعباد، وأنت قد أديت ما عليك من البلاغ فالحساب على الله، كما قال الله تعالى:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40].
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
في هذه الآية دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم له من يحاجه من أعدائه، وهو كذلك فإنهم حاجوه في أصل الدين، وفي فروع الدين، وسخروا منه، وأوجدوا الشبهات الكثيرة.
2 -
أن هؤلاء الذين يحاجون الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحتاجون إلى كبير عناء؛ لأنهم يحاجون على أمر واضح،
ولهذا أمره الله أن يقول: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} ، فإن أسلمتم فهو لكم، وإن لم تسلموا فعليكم.
ويتفرع على ذلك أنَّ من علمت أنه إنما يحاجك لقصد نصر قول، ولو كان باطلًا، فلك أن تعرض عنه؛ ولتقل: هذا ما أدين الله به، وهذا ما أستسلم له وتدعه؛ لأنه معاند مكابر، وليس أهلًا لأن تدخل معه في محاجة أو خصومة.
3 -
أن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذون حذوه في إسلامهم لله، وتفويض الأمر إليه؛ لقوله:{أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} .
4 -
أن الوجه أشرف الأعضاء، وهو الذي يكون به الانقياد وعدمه؛ لقوله:{أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} . ولهذا كان أقرب ما يكون العبد من ربِّه إذا كان ساجدًا؛ لأنه يضع أشرف أعضائه على موطئ الأقدام.
5 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم متبوع لا تابع؛ لقوله: {. . . وَمَنِ اتَّبَعَنِ} ، ويتفرع على ذلك أن الواجب على من تبين له الحق أن يأخذ به، إذا كان يريد أن يكون من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، أما من يلوي أعناق النصوص إلى قوله، فهذا ليس بمتبع حقيقة؛ لأن بعض الناس إذا قال قولًا، وجاء في النص القرآني أو النبوي ما يخالف قوله، حاول أن يلوي عنق النص، ويحرف النص من أجل أن يكون موافقًا لقوله، وهذا حرام؛ لأنك أنت تابع، ولست بمتبوع.
6 -
أنه لا يمكن أن يكون قول أحد من أهل العلم حجة على الآخرين؛ لأن الكل تابعون لا متبوعون.
7 -
النداء بالسفه والبلاهة على من جادل وعارض دون أن
يستسلم لله؛ لقوله: {أَأَسْلَمْتُمْ} ، وإن جعلناها أمرًا فالأمر واضح.
8 -
بيان عظيم منة الله عز وجل على العرب ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك: أنه قال {لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ} وفرق بين الوصفين، بين من أوتي الكتاب، وبين الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، لكنهم ببعثة الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا هم أهل الكتاب حقًّا؛ لأن هذا الكتاب الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفه الله بأنه:{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه} [المائدة: 48].
9 -
وجوب الإسلام لله سواء قلنا إن الاستفهام للإنكار على هؤلاء، أو قلنا إنه للأمر؛ فإنه يدل على وجوب الإسلام والاستسلام لله عز وجل.
10 -
أن أهل الهدى هم المسلمون؛ لقوله: {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} .
11 -
أن من لم يسلم فهو ضال؛ فإن كان قد علم بالحق كان من الضالين المغضوب عليهم؛ لأن كل من علم الحق ولم يتبعه فهو مغضوب عليه.
قال الله عز وجل: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} .
12 -
في هذه الجملة تحذير من تولى بعد أن دعي؛ لقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} .
13 -
أنه لا يجب على الداعية إلا البلاغ، أما الهداية فإلى الله {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} .
14 -
وجوب البلاغ على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} ، وكذا من آتاه الله علمًا بهذا الوحي وجب عليه البلاغ، خلفًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
15 -
الإشارة إلى أن الإنسان لا يُسْأَلُ عن عمل غيره، فيقوم بما يجب عليه، وأما غيره فأمره إلى الله؛ لقوله:{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} ، ولم يقل: فإنما عليك إثمهم. وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى ذلك حين قال له قوم: يا رسول الله، إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال لهم:"سموا أنتم وكلوا"
(1)
، تنبيه إلى أنك إنما تطالب بفعلك، أما فعل غيرك فلست منه في شيء.
16 -
عموم علم الله عز وجل، لقوله:{بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أي: بجميع أحوالهم، ويتضمن التحذير من مخالفة الله.
* * *
• ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21].
في هذه الآية قراءتان في كلمتين:
الأولى: {النَّبِيِّينَ} فيها قراءة: النبيئين.
الثانية: {وَيَقْتُلُونَ} فيها قراءة: ويقاتلون.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} :
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب ذبيحة الأعرابي ونحوهم، رقم (5507).
الآيات: جمع آية، وهي في اللغة العلامة، وهي كونية وشرعية، فالآيات الكونية هي التي نشاهدها مما لا يستطيع البشر أن يخلقوا مثلها. وهي تدل على أن الخالق واحد لا شريك له، وعلى أنه لا يشبهه شيء.
والآيات الشرعية أيضًا لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثلها: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]
وهي دالة على أن الذي أنزل هذه الآيات إله واحد وأنه كامل الحكمة.
والكفر بالآيات الكونية أن يجحد أن الخالق سبحانه وتعالى خلقها، فيدَّعي أنَّ الذي خلقها غير الله، أو أن له شريكًا في خلقه، أو أن له معينًا في خلقه.
والكفر بالآيات الشرعية إما بجحودها وبتكذيبها، أو بالاستكبار والعناد، ومن تكذيبها أو الاستكبار عنها: تحريف النصوص، فإن تحريف النصوص نوع من الكفر بلا شك.
وقوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} :
يقتلون النبيين الذين أرسلهم الله إليهم بغير حق. والنبيون هنا تشمل: الرسل ومن لم يرسل من النبيين، وما أكثر ما توجد هذه الصفة في اليهود؛ لأن اليهود هم أعتى المخالفين للرسل وأشدهم غلظة والعياذ بالله، فصار منهم من قتل الأنبياء بغير حق، وعبد الطاغوت.
وقوله: {بِغَيْرِ حَقٍّ} هذه الصفة لا يراد بها إخراج ما
خالفها، وإنما يراد بها بيان الواقع. والدلالة على أن هذا القتل كان عدوانًا وظلمًا.
وقوله: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} :
والذين يأمرون بالقسط من الناس يشمل الرسل وغير الرسل من أهل العلم والخلفاء الراشدين، فحينئذ عطفه على النبيين من باب عطف العام على الخاص، ولكنه خصَّ الأنبياء؛ لأن قتلهم أعظم من قتل غيرهم.
وذكر الخاص بعد العام من باب ذكره مرتين: مرة بطريقة العموم، ومرة بطريقة الخصوص. ولكن خصّ من بين سائر الأفراد، وأعيد الحكم عليه من بين سائر الأفراد للاعتناء به والاهتمام به.
{بِالْقِسْطِ} : أي بالعدل.
وقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} :
الخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى خطابه.
وبشرهم: أي أخبرهم بعذاب أليم.
والعذاب: العقوبة.
والأليم: بمعنى المؤلم، وهذه البشارة هل هي على سبيل التهكم بهؤلاء أو هي من باب تشبيه البشارة بما يسوء بالبشارة بما يسر، بجامع أن كلًا منهما تتأثر فيه البشرة وتتغير؟
يحتمل هذا وهذا، ولكن إذا قلنا إنها من باب التهكم، استفيد بذلك زيادة الألم على هؤلاء المبشرين؛ كقوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ
الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 47 - 49].
{ذُقْ} : يعني قولوا له: ذق، إنك أنت العزيز الكريم. وهذه الجملة لا شك أنها ستبلغ في قلبه كل مبلغ، لأنه سيتذكر: أين العزة وأين الكرم، أين العزة التي بها أغلب، وأين الكرم الذي به أجود، فيكون أشد وقعًا وأشد تحسرًا.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أنه ينبغي أن يعلن لهؤلاء الكفار بما أمر الله تعالى أن نبشرهم به: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، والنبي عليه الصلاة والسلام لا شك أنه كلما كانت الحكمة في تبشير هؤلاء بالعذاب الأليم بشرهم. وهكذا من ورث النبي صلى الله عليه وسلم في العلم والدعوة، ينبغي أن يبشر كل كافر بآيات الله بالعذاب الأليم، لكن يجب أن يكون هذا تابعًا للحكمة.
2 -
وجوب الإيمان بآيات الله الشرعية والكونية، لأن الله تعالى توعد هؤلاء الكافرين بالعذاب الأليم.
3 -
تحريم قتل النبيين وأنه بغير حق وهو من جملة الكفر، لكن نصّ عليه لشدة شناعته.
4 -
شناعة كل من يقتل أو يقاتل من يأمر بالقسط من الناس.
5 -
ثبوت العذاب على هؤلاء المتصفين بهذه الصفات؛ لقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
6 -
أن العذاب الذي يبشرون به ليس عذابًا هينًا يتحمل، ولكنه عذاب مؤلم.
• ثم قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 22].
{أُولَئِكَ} : المشار إليهم هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس؛ فهؤلاء الذين قامت بهم هذه الصفات، هم الذين حبطت أعمالهم.
وحبوط الشيء: يعني ذهابه وزواله وعدم الاستفادة منه. فهؤلاء حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة؛ فأما في الآخرة فظاهر؛ لأنهم لن يستفيدوا من أعمالهم، وإن كانت خيرًا كالإحسان إلى الناس، فإن ذلك لا ينفعه في الآخرة؛ لقوله تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].
وأما في الدنيا فلأنهم لما لم يستفيدوا منها، صاروا كأنهم لم يعملوها، فأعمالهم لم تنفعهم. وشاهد هذا قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].
وقوله: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} :
يعني: هؤلاء الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، ليس لهم أحد ينصرهم. وأكد سبحانه وتعالى النفي هنا بـ {مِنْ} الزائدة، يعني: ما لهم أحد ينصرهم، لا على سبيل الاجتماع، ولا على سبيل الانفراد، لأن (مِن) الزائدة إذا دخلت تجعل النفي نصًّا في العموم، كـ (لا) النافية للجنس.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
حبوط عمل هؤلاء الذين كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه، وقتلوا الآمرين بالقسط من الناس.
2 -
أن الكفر محبط للأعمال؛ لقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ، ويدل لذلك أيضًا قوله تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].
3 -
أن هؤلاء الكفار ليس لهم ناصر في الآخرة، أما في الدنيا فقد ينصرهم من كان على شاكلتهم، ولكن هم ومن نصرهم مآلهم إلى الذل والخذلان؛ لأن الله تعالى يقول:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
* * *
• ثم قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23].
{أَلَمْ تَرَ} : الاستفهام هنا للتعجب، فإن هذه الحال يتعجب منها كل عاقل.
"وترى": يحتمل أن يكون رؤية عين، ويحتمل أن يكون رؤية علم. والثاني أولى؛ لأنه أشمل، ولأنه يتعلق بالحال، والحال تُعْلَم وليست ترى بالعين؛ يعني: ألم تعلم إلى هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، أي: العلم، والذي آتاهم النصيب هو الله عز وجل، وحذف لفظ الجلالة للعلم به؛ لأن الله تعالى
هو الذي يؤتي العلم. قال الله تعالي: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. وقال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65].
وقوله: {نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} : يحتمل أنه يفيد التقليل، أو التكثير، فيكون المراد أنهم أوتوا نصيبًا كبيرًا من الكتاب، بحيث يكون حاملًا لهم على الاهتداء، ولكنهم -والعياذ بالله- استكبروا. ويحتمل أنه ليس عندهم إلا علم قليل، وأنه لو فرض أن عندهم علمًا كثيرًا، فإن هذا العلم لم ينفعهم، فصاروا كالذي أوتي نصيبًا قليلًا من العلم.
وقوله: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} : هذا محل التعجب؛ يعني: أنهم مع ما عندهم من العلم يدعون إلى كتاب الله. والداعي لهم: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دعا بدعوته إلى يوم القيامة، هؤلاء يدعون إلى كتاب الله.
{لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} : إسناد الحكم هنا يحتمل أن يكون إلى الله عز وجل ليحكم الله بينهم بكتابه، ويحتمل أن يكون إلى الكتاب، وأسند الحكم إليه لأن الحكم صار به، ويضاف الشيء إلى سببه كثيرًا. ولكنهم لا يقبلون هذا؛ ولهذا قال:{ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} .
يتولى فريق منهم لا كلهم؛ لأن بعضهم قد هدي. بعض هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب قد هداهم الله، وهم كثير. لكن تولى فريق منهم، ومع توليهم فإنهم معرضون، والعياذ بالله، ليس عندهم إقبال، لا في الظاهر ولا في الباطن، بل هم متولون معرضون. وإنما قال:{وَهُمْ مُعْرِضُونَ} الآية -وهي جملة حالية
من {فَرِيقٌ} وصحَّ مجيء الحال منها لأنها وصفت- إنما قال ذلك لأن الإنسان قد يتولى لسبب طارئ، لكن في قلبه شيء من الإقبال. أما هؤلاء فإنهم متولون، وهم قد امتلؤوا إعراضًا عن كتاب الله.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أنه ليس كل من أعطي علمًا يوفَّق للعمل به؛ لقوله: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى} .
2 -
التعجب من حال هؤلاء؛ حيث إنَّ عندهم العلم، ثم بعد ذلك لا يُقبلون على كتاب الله عز وجل.
3 -
أن هؤلاء قد قامت عليهم الحجة، لكونهم دُعوا، وهذا هو محط الذم، أما لو لم يدعوا، ولم يعلموا بالحق، فإنهم لا يذمون على ذلك إذا لم يفرطوا بطلب الحق.
4 -
أن الواجب التحاكم إلى كتاب الله؛ لقوله: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} .
5 -
أنه لا حكم إلا لله، بما جاء في كتابه، فلا أحد من الحكام يستطيع أن يشرِّع أحكامًا مخالفة لأحكام الله، بل من شرَّع أحكامًا مخالفة لأحكام الله، وألزم العباد بها فهو كافر بالله عز وجل. اللهم إلا أن يعذر بتأويل سائغ، فهذا قد يخرجه من الكفر، لكن فِعْلُه من حيث هو فعل يؤدي إلى كفره.
6 -
أن الحكم في كتاب الله يكون في كل شيء؛ في العبادات والمعاملات والأخلاق والأعمال؛ لأنه لم يخصص منها شيء.
ويتفرع على هذه الفائدة: الردُّ على من قال: إن الشرع إنما
جاء في تنظيم العبادات فقط. أما المعاملات فهي إلى الخلق، واستدلوا لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ورأى الناس يؤبرون النخل -أي يلقحونها- فقال الرسول عليه الصلاة والسلام:"ما أرى ذلك يغني شيئًا" هذا أو معناه، فتركوا التأبير، ففسد الثمر؛ لأن النخل إذا لم يؤبر فسد، فلما حصلت الثمار جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبرونه، فقال:"أنتم أعلم بأمور دنياكم"
(1)
.
قالوا: فوكَّل علم أمور الدنيا إليهم، بل جعلهم أعلم منه بهذا؛ وعلى هذا فأمور الدنيا لا يتدخل فيها الشرع. ولكن هذا فهم خاطئ، بل باطل؛ وذلك لأن أمور الدنيا إما أحكام شرعية، كالتحليل والتحريم، فهذه مرجعها إلى الشرع، وإما أمور فنية تدرك بالتجارب والتعلم، فهذه مرجعها إلى أهل الخبرة. فكم من عالم عنده علم واسع غزير في أمور الشرع لا يستطيع أن يصنع بابًا ولا إبرة، ويأتي رجل جاهل من أجهل الناس ويستطيع أن يصنع بابًا من أحسن الأبواب، وإبرة من أحسن الإبر.
ومسألة الصحابة رضي الله عنهم في التأبير مسألة فنية بلا شك، تدرك بالتجارب. والنبي عليه الصلاة والسلام كما نعلم ولد بمكة، ومكة ليست ذات نخل، ولا يعلم عن هذا شيئًا، فأهل المدينة الذين مارسوا التجارب في هذه الأمور، كانوا أعلم منه بذلك.
ولا يعارض هذا أننا نرجع إلى العرف فى أمور كثيرة؛ لأنَّ
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي، رقم (2363).
وقوله: "ما أرى ذلك يغني شيئًا" ليس في رواية مسلم، وإنما ورد عند ابن ماجه، رقم (2470) بلفظ:"ما أظن. . .".
الشرع هو الذي ردَّنا إلى العرف، كما قال تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2].
7 -
أن هؤلاء الذين دعوا إلى كتاب الله، ممن أوتوا نصيبًا من الكتاب، لم يتولوا جميعًا، بل تولى فريق معهم. والأمر كذلك فإن كثيرًا من اليهود والنصاوى أسلموا وحسن إسلامهم، وكان لهم قدم صدق في الإسلام.
8 -
ذَمُّ من يتولى بإعراض؛ لقوله: {يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} لأن التولي كما ذكرنا في التفسير، قد يكون عن إعراض وقد يكون عن غير إعراض. والتولي مذموم كله، ولكن إذا كان عن إعراض وعدم مبالاة كان أشد.
* * *
• ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24].
{ذَلِكَ} : المشار إليه التولي والإعراض بأنهم خدعوا أنفسهم وقالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا} أي: لن تصيبنا إلا أيامًا معدودات، أياما قلائل؛ لأن كل معدود فهو قليل. ودليل ذلك قوله تعالى:{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود: 104]، وقال:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77]. فكل شيء معدود فهو قليل؛ لأن شيئًا يمضي بالعدد واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة، لابد أن ينتهي.
فهؤلاء يقولون: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} . ثم يدعون أن الذي يخلفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقوله: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} :
غرهم: الغرور والخداع بمعنى واحد متقارب، يعني: أن هؤلاء خدعوا، أو انخدعوا في دينهم؛ حيث ظنوا أنهم على حق، وبعضهم عاند الحق عالمًا به مفتريًا كاذبًا، ومما كانوا يفترونه قولهم:{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} .
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بطلان الأماني وأن النفس قد تُمني الإنسان ما لا يكون، لأن هؤلاء منتهم أنفسهم حيث قالوا:{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} .
2 -
تحذير الإنسان أن يتكل على الأماني؛ لأن هذا من صنع اليهود والنصارى. وكثير من العامة الآن يقعون في المعاصي، ويمنون أنفسهم بالمغفرة إذا وقعوا في المعصية.
صحيح أن الله غفور رحيم، لكن الله قال أيضًا:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50]. وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98].
فلما أمر نبيه أن ينبئ بدأ بالمغفرة، ولما أخبر عن نفسه بدأ بالعقوبة، لأن المقام مقام سلطان وعلو.
يتمنى بعض العاصين الأماني ويقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، فهو يريد أن يزني ويسرق ويشرب الخمر ويعمل كل شيء دون الشرك، ثم يقول: إن الله يقول: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وهذا خبر من الله عز وجل وهو أصدق القائلين! !
فنقول: اقرأ الآية، لا تكن أعمى، أو أعور لا تنظر إلا
بعين واحدة. فالله يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن لا يشاء لا يغفر له، وأنت لا تجزم بأنك ممن شاء الله أن يغفر له، إذن أنت على خطر. على أن الذي يستخف بالمعصية، ويُلَبِّس على نفسه وعلى الناس، قد يكون ممن لا يشاء الله أن يغفر له -والعياذ بالله- لأن هذا مستهتر مستهين.
3 -
أن هؤلاء يؤمنون بالبعث، ولكن لم ينفعهم الإيمان؛ لقوله:{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} . ويتفرع على هذا أنه لا يكفي في الإيمان أن يؤمن الإنسان بوجود الله، وباليوم الآخر، دون أن يستلزم هذا الإيمان قبولًا وإذعانًا، فمجرد التصديق لا يعتبر إيمانًا، ودليل هذا نصوص كثيرة، منها: أن أبا طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، ويقول:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
…
لدينا ولا يعني بقول الأباطل
ويقول:
ولقد علمت بأن دين محمد
…
من خير أديان البرية دينا
ومع ذلك: لم ينفعه هذا الإقرار؛ لأنه لم يصحبه قبول وإذعان. وختم له في الآخر -والعياذ بالله- بأنه قال: هو على ملة عبد المطلب
(1)
، ولكن نظرًا لما حصل منه من دفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم أذن الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يشفع له، فشفع، فكان في ضحضاحٍ من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه أبد
(1)
أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، رقم (4772). ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، رقم (24).
الآبدين
(1)
، وهذا أهون أهل النار عذابًا -أجارني الله وإياكم منها- ولم نعلم أن كافرًا نفعت فيه الشفاعة على الإطلاق، بمعنى أنه سلم من العذاب أبدا، ولم نعلم أن كافرًا خفف عنه العذاب بالشفاعة إلا أبا طالب.
4 -
أن الإنسان قد يغره ما هو عليه من الدين؛ لقوله: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ، فيغتر بأنه يصلي ويزكي ويصوم ويحج، ثم يقول في نفسه: لن أعذب. وهذا قصور في النظر؛ لأنه ليس الشأن أن تصلي أو تزكي أو تصوم أو تحج، الشأن كل الشأن أن يقبل منك هذ العمل. كم من عامل ليس له من عمله إلا التعب لوجود مبطل سابق أو لاحق.
فالسابق كعدم الإخلاص مثلًا، واللاحق: كالإعجاب بالعمل، والإدلال به على الله عز وجل، وأن يرى الإنسان لنفسه حقًّا على ربِّه.
وقد يبتلى الإنسان بالبدعة! ! كم من أناس يحبون الخير وعندهم رغبة ومحبة لله ورسوله، ولكن لجهلهم يبتدعون في دين الله ما ليس منه، فيكون عملهم مردودًا؛ لأن من شرط قبول العمل أن يكون موافقًا لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، رقم (3883). ومسلم، كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه، رقم (209).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ومحدثات الأمور، رقم (1718).
• قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 25].
أي: كيف تكون حالهم في هذا الوقت {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} ؟ والاستفهام للتعظيم؛ أي: ما أعظم ما تكون حالهم في ذلك اليوم، وما أشد حسرتهم إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه، أي: جمعناهم في يوم لا ريب فيه. واللام تأتي بمعنى في، ويسمونها لام التوقيت. ومنها قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي: في قبل عدتهن، أي: في استقبال عدتهن {لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} ، أي: جمعوا لهذا اليوم، أي: فيه، وهو يوم القيامة.
وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} إما أنه خبر بمعنى النهي، والمعنى: لا ترتابوا فيه، أو أنه خبر على حقيقته، والمعنى أن الله عز وجل يخبر عن هذا اليوم بأنه لا ريب فيه، أي: لا ريب في وقوعه. وهذا اليوم قد دلَّ عليه الكتاب والسنّة والعقل.
أما الكتاب فما أكثر الآيات التي فيها إثبات اليوم الآخر، وما أكثر الأمثال التي يضربها الله عز وجل لإثبات هذا اليوم ببعث الخلائق، وأما في السنّة فكثير أيضًا إثبات هذا اليوم.
وأما في العقل، فلأن العقل يدل بالضرورة على أن هذه الخليقة لابد أن يكون لها معاد تحاسب فيه على ما أمرت به؛ لأنه ليس من المعقول أن ينشئ الله الخليقة، يأمرها وينهاها، ويبعث إليها الرسل، وينزل عليها الكتب، وتستباح دماء من لم ينفذ هذه الكتب، ويتبع هؤلاء الرسل، ثم تكون النتيجة أن تموت هذه البشرية ولا تبعث، وتكون ترابًا. لو
وقع هذا الفعل من أي أحد لقيل هذا سفه، من أسفه السفه. ولو أن الإنسان صنع ثوبًا وخاطه وأتقنه، ثم في النهاية أحرقه، فتلف ولم يبق له أثر، لعدَّ الناس كلهم هذا سفهًا، فكيف بهذه الخليقة التي خلقها الله عز وجل وأنزل عليها الكتب وأرسل إليها الرسل؟ !
وقوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} :
{وَوُفِّيَتْ} : يعني أعطيت. ومنه قولهم: وفَّاه حقَّه، أي: أعطاه حقَّه وافيًا. وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ} كل نفس من البشر والجن، يعني: من المكلفين الذين أمروا ونهوا، فهم الذين يوفون أجورهم. أما من لم يتوجه إليه أمر ولا نهي، فإنهم يجمعون يوم القيامة، ولكن ليس لهم أعمال يجازون عليها، فلا يشملهم قوله:{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} .
وقوله: {مَا كَسَبَتْ} ، يعني: من خير أو شر، بدليل العموم في كلمة {مَا} .
وتُوَفى الخير: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. وأما في الشر فتوفى السيئة بمثلها إن لم يعف الله، أو تكن لها أعمالٌ صالحة تكفر عنها هذه السيئات. فجزاء الله عز وجل وتوفيته للأعمال دائر بين الفضل والعدل، فالفضل لأهل الخير، والعدل لأهل السوء.
وقوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} :
أي: لا ينقص أحد من حسناته، ولا يزاد في سيئاته. ونحن نعلم أن من أوفى غيره حقَّه فإما أن يوفيه بالفضل أو بالعدل أو بالجور، والجور -وهو الظلم- ممتنع على الله؛ لقوله تعالى:
{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112].
وفي الحديث القدسي أن الله تعالى قال: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا"
(1)
.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
في هذه الآية دليل على عِظَم ذلك اليوم؛ لقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} .
2 -
وفيها دليل أيضًا على النداء بالنعي على هؤلاء الذين ليس لهم في ذلك اليوم إلا الخيبة والخسران، حيث خسروا دينهم ودنياهم.
3 -
إثبات اليوم الآخر؛ لقوله: {لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} .
4 -
أن من كفر باليوم الآخر أو شكَّ فيه فهو كافر؛ لأنه مكذب لقوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} .
5 -
أن يوم التوفية الكاملة هو يوم القيامة؛ لقوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} . والإنسان قد يوفى شيئًا من عمله في الدنيا، كما قال الله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] مخرجًا من كل ضيق، وسعة في الرزق، ويرزقه من حيث لا يحتسب، هذا في الدنيا، وهذا جزاء. وهناك جزاء آخر أعظم وأنفع وهو الهدى. قال الله
(1)
أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم (2577).
تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]. الهدى والعمل الصالح أفضل من المال؛ لأن الهدى إذا زاد الله الإنسان منه انشرح صدره، واستنار قلبه، واطمأن، ثم صارت التقوى عنده أسهل من كل شيء، وصارت الأعمال الصالحة رياض قلبه، وسرور نفسه، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"جعلت قرة عيني في الصلاة"
(1)
، والمؤمن كل الأعمال الصالحة قرة عينه؛ لأنه يشعر في كل عمل صالح بأمرين عظيمين:
الأمر الأول: أنه يتعبد لله بالعمل الصالح، فيزداد ذلًّا لربه ومحبة له، وإنابة إليه.
الأمر الثاني: أنه بذلك متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يشعر حين فعل العبادة أن إمامه محمَّد صلى الله عليه وسلم، فيزداد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا لقوله، وتعظيمًا لهديه وسنته. وهذا أعظم كسب؛ أن يحصل لك هذا الأمر في العبادة والتقوى.
6 -
انتفاء الظلم عن الله عز وجل؛ لأن قوله: {وَوُفِّيَتْ} وقوله: {لَا يُظْلَمُونَ} فاعلهما معروف، فالموفي الله، والذي لا يظلم الله، وانتفاء الظلم عن الله سبحانه وتعالى هو من الصفات التي يسمونها بالسلبية، ويكون نفي الظلم لكمال العدل، فنأخذ من هذا قاعدة مفيدة في باب الصفات، وهي:(أن كل صفة نفاها الله عن نفسه فإنما يراد بها ثبوت كمال الضد).
(1)
أخرجه أحمد، رقم (11884). والنسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، رقم (3939).
• ثم قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم تولوا، يريدون أن تكون السيادة لهم، لا لغيرهم. فأمر الله نبيه أن يبتهل إلى الله بهذا الدعاء المتضمن قدرة الله على نقل النبوة التي يَتْبعُها المُلك من بني إسرائيل إلى العرب.
فقال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} :
{اللَّهُمَّ} : أصلها (يا الله)، منادى حذفت منه ياء النداء، وعوض عنها الميم، ولهذا لا يجمع بينهما إلا في حال الشذوذ. كما قال ابن مالك:
وشذ يا اللهم في قريض -أي في النظم-
وقوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ} . مالك: اسم فاعل، والملك: يحتمل أن يكون بمعنى المملوك؛ أي: مالك المملوكات كلها. ويحتمل أن يكون المراد به: التدبير؛ أي مالك تدبير الخلائق كلها. والأمران ثابتان لله عز وجل، فهو مالك المملوكات كلها بأعيانها، وهو مالك التصرف فيها، لا يشاركه في ذلك أحد، هو الذي يدبر الأمر ويملك المأمور، وقوله:{مَالِكَ الْمُلْكِ} قيل: إنه بدل من الله، ولكنه نصب لأنه مضاف، والبدل: يكون على نية إعادة العامل. وقيل: إنها منادى حذف منه حرف النداء.
{تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} ، والأصح أن {تُؤْتِي} هذه جملة استئنافية لبيان كيف يكون ملك الله عز وجل لهذا المملوك فقال:
{تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} ، وقال:{تُؤْتِي} أي: تعطي، ولم يقل: تُمَلِّك؛ لأن ما يكون للعبد من الملك إنما هو من إعطاء الله تعالى إياه، وتسليطه عليه، ولهذا لا يتصرف المالك من المخلوقين فيما ملك، إلا على حسب الشريعة التي شرعها الله عز وجل.
وقوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} :
الفعل تؤتي من الأفعال التي تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر، ومفعوله الأول: الملك، ومفعوله الثاني: مَنْ تشاء.
وكل شيء له سبب إما شرعي، وإما كوني؛ لأن هذا مقتضى حكمة الله سبحانه وتعالى، وإذا كان كذلك فإن إتيان الله الملك لمن يشاء مقيد بسببه، فلابد أن يكون له سبب. فالملك قد يكون مستقلًا عن الرسالة، وقد يكون تابعًا للرسالة. فإذا كان مبنيًا على الشريعة صار تابعًا للرسالة، وإذا كان غير مبني على الشريعة كان مستقلًا. قال:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258].
فهذا ملك مستقل عن الرسالة؛ لأن الذي حاج إبراهيم كافر. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها"
(1)
. فالمراد بذلك هنا: ملك تابع للرسالة.
والمشيئة هنا ككثير من الآيات معلقة بالحكمة.
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، رقم (2889).
وقوله: {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} :
قوله: {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ} : يحتمل وجهين:
الوجه الأول: نزع بعد ثبوت.
والوجه الثاني: نزع بمعنى المنع.
فعلى الأول: يكون فيه إشارة إلى أن الله تعالى يملك من شاء من خلقه، ثم ينزع عنه الملك. وكم من مَلِكٍ مَلَكَ ثم زال ملكه، إما بالغلبة له، أو بموته أو بغير ذلك. ويحتمل أن تكون بمعنى المنع؛ أي: تُمَلِّك من شئت، ولا تُمَلِّك من شئت. وكذا المعنيين صحيح.
وقوله: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} :
والإعزاز هنا: يعني التقوية، أي: تجعله عزيزًا قويًا غالبًا على غيره، وكذلك تذل من تشاء. وهذا عام، قد يعز الله الإنسان بدينه وعلمه وإيمانه، وإن لم يكن ملكًا، وقد يعزه بملكه. وكذلك في الذل قد يذله بالمعصية، وبالغلبة؛ فالذل بالمعصية في مقابل العز بالإيمان، والذل بالغلبة في مقابل العز بالملك، والذين يعزهم الله هم من ذكرهم الله بقوله:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. فالله يعز الرسل وأتباعهم، كما قال الله تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
ومن أسباب العزة: الإيمان، سواء كان الإنسان ملكًا أم غير ملك. ومن أسباب العزة: الاستعداد والحذر والحزم والقوة والنشاط.
ومن أسباب الذل: أن يُعجب الإنسان بنفسه، وأن يتعرض لما
لا يمكنه دفعه. ولهذا جاء في الأثر: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه" قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: "يتعرض من البلاء لما لا يطيق"
(1)
.
وقوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} :
{الْخَيْرُ} : بيد الله عز وجل، والخير كل ما فيه مصلحة ومنفعة للعبد، سواء كان ذلك في أمور الدنيا أو في أمور الآخرة. فالرزق والصحة والعلم خير، والعمل الصالح أيضًا خير. وهذا كله بيد الله، كما قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].
وهنا قد يقال: لماذا ذكر أن الخير بيده، ولم يذكر الشر، مع أن الخير من الله والشر من الله؟ ! فقال بعض المفسرين: إن هذا من باب حذف المقابل المعلوم. كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]. وزعموا أن تقدير الآية: بيده الخير والشر.
ولكن هذا وَهْمٌ باطل، وليس المقام مقام حذف واقتصار، بل المقام مقام ثناء، والثناء ينبغي فيه البسط والتوسع في الكلام. فالحذف غير مناسب لفظًا، وهو باطل معنى؛ لأن الله لا يضاف إليه الشر، ولا يجوز أن نقول: بيده الشر؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والشر ليس إليك"
(2)
فلا ينسب إلى الله الشر قولًا ولا
(1)
أخرجه أحمد، رقم (22934). والترمذي، كتاب الفتن، رقم (2254)، وقال عنه: هذا حديث حسن غريب. وابن ماجه، كتاب الفتن، باب قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، رقم (4016).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالليل، رقم (1812).
فعلًا. فالله يقول الحق وهو يهدي السبيل، ويفعل الخير ولا يفعل الشر، وإذا وجد شر في المفعولات فهو شر من وجه، وخير من وجه آخر، لكن إيجاد الله لهذه الأشياء الشريرة ليس شرًّا، بل هو خير محض. والشر إنما هو في المفعولات لا في الأفعال. أما الخير فهو في المفعولات والأفعال، ولهذا ينسب إلى الله فيقال: بيده الخير. ولنضرب لهذا مثلًا بالسباع والهوام، فالسباع: فيها شر، والهوام اللاسعة واللاذعة فيها شرّ بلا شك، والشياطين كلها شر، لكن إيجاد الله لهذه الأشياء خير، والحكمة توجبه؛ لأنه لا يمكن أن تعرف تمام قدرة الله إلا بخلق الأشياء المتضادة، ثم في خلق هذه الأشياء من إصلاح العبد، واللجوء إلى ربه، والاستعاذة به من هذه الأمور الشريرة، خير كثير، والخير لا يعرف إلا بضده.
إذن يجب أن نبقي الآية على ظاهرها بدون تقدير.
وقوله: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} :
ومن قدرتك تغيير هذه الأشياء العظيمة: إيتاء الملك ونزعه، والإعزاز والإذلال، كل هذه أمور عظيمة لا يقوم بها إلا القادر عليها، سبحانه وتعالى.
والآية عامة؛ فهو قدير على كل شيء، على ما شاءه وما لم يشأه. وبهذا نعرف أن تقييد بعض الناس القدرة بالمشيئة خطأ؛ لأن الله قادر على ما يشاء وعلى ما لا يشاء. وأما قوله تعالى:{وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29]. فالمشيئة هنا ليست عائدة على القدرة، ولكنها عائدة على الجمع؛ يعني: إذا أراد جمعهم، وشاء جمعهم، فهو قدير عليه، لا يعجز عنه.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
تعليم الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يفوض الأمر إليه في قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} ، والخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم موجه لأمته، إما عن طريق التأسي، وإما لأنه الإِمام، والخطاب للإمام خطاب له ولمن اتبعه، إلا إذا دلَّ الدليل على أنه خاص به، فيكون خاصًّا به.
2 -
بيان تمام ملك الله سبحانه وتعالى وسلطانه؛ لقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} .
3 -
أن الله سبحانه وتعالى يؤتي الملك من يشاء؛ لقوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ} .
4 -
أن ملك المخلوقين ليس ملكًا استقلاليًا، بل هو بإعطاء؛ لقوله:{تُؤْتِي الْمُلْكَ} ، والملك الذي بإعطاء لا شك أنه ناقص عن ملك المعطي. وقد جاء في الحديث الصحيح:"اليد العليا خير من اليد السفلى"
(1)
.
5 -
إثبات المشيئة لله في قوله: {مَنْ تَشَاءُ} ، وكل أمر قرنه الله بالمشيئة، فإنه مبني على الحكمة؛ متى اقتضته شاءه الله. ودليل ذلك قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30].
6 -
تمام ملك الله وسلطانه أيضًا، في كونه يحرم الملك من يشاء، وينزعه بعد ثبوته ممن يشاء؛ لقوله:{وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} .
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلَّا عن ظهر غنى، رقم (1427). ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، رقم (2386).
7 -
بيان تمام ملك الله وسلطانه، لكون العزة من عنده {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} .
8 -
أن الله سبحانه وتعالى تام الملك والسلطان لكونه يذل من يشاء، ولو بلغ ما بلغ من العزة البشرية، فإن يد الله فوقه مهما بلغ الإنسان من العز. فالله قادر على إذلاله. ولذلك أمثلة كثيرة، منها: قصة فرعون، فإن فرعون طغى وقال: أنا ربكم الأعلى، وافتخر بما عنده من الأنهار، فأهلكه الله بمثل ما افتخر به، فأغرقه بالماء. وعاد استكبروا في الأرض وقالوا: من أشد منا قوة، فأهلكهم الله تعالى بالريح، وهي من ألطف الأشياء، لكنها من أشد الأشياء مع لطافتها، فالله عز وجل يذل من يشاء.
ويتفرع على هذه الفائدة: أننا متى علمنا أن الإعزاز والإذلال بيد الله، فإننا لا نطلب العزة إلا به عز وجل. ولهذا نقول: من ابتغى العزة من غير الله فهو ذليل.
وكذلك يتفرع على هذا: أنه ينبغي للإنسان أن يستعيذ بالله دائمًا من الذل الحسي والمعنوي؛ لأن الله تعالى هو الذي بيده الإذلال؛ من شاء أذله، ومن شاء أعزه.
9 -
أن الله سبحانه وتعالى بيده الخير.
ويتفرع على هذه الفائدة: أنه إذا كان الخير بيده، فلا يطلب الخير إلا منه؛ لأنه لا أحد بيده الخير إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يطلب منه الخير.
10 -
أن الشر لا يضاف إلى الله، وإن كان عز وجل هو الذي خلق كل شيء؛ لأن أفعاله كلها خير، والشر في
المفعولات. ثم هذا الشر في المفعولات قد يكون خيرًا؛ فكم من مرض صار سببًا لصحة الجسم، وكم من آفات في الزروع وغيرها، صارت أسبابًا للنمو الاقتصادي من جهة أخرى.
11 -
عموم قدرة الله؛ لقوله: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وهذا يشمل ما كان من أفعاله، وما كان من أفعال الخلق، فيكون في ذلك رد على القدرية الذين يقولون: إن الله لا يخلق أعمال العباد ولا يريدها، وأن الإنسان مستقل بإرادته وعمله، فإذا كانت بقدرة الله قلنا: يلزم أن يكون مرادًا ومخلوقًا لله؛ لأنه مادام الأمر بقدرته، فلابد أن يكون مخلوقًا له، ومرادًا له.
12 -
الرد على كلمة وقعت من بعض المفسرين، ومنهم الجلال السيوطي رحمه الله، في قوله تعالى:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120]، حيث قال: خص العقل ذاته فليس عليها بقادر، فإن هذه كلمة باطلة؛ هو أراد معنى حقًّا والله أعلم، لكن التعبير بهذا خطأ. فنقول: إن الله قادر على كل شيء يتعلق بفعله أو بفعل عباده، فكل شيء يفعله الله فهو بقدرته سبحانه وتعالى، وكل شيء يفعله العباد فهو أيضًا بقدرته. وهذا التخصيص غير صحيح بل العقل يشهد لله تعالى بكمال القدرة وعمومها، وأنه على كل شيء قدير.
13 -
الاستغناء بالثناء عن الدعاء؛ لأنك إذا تأملت الآية هذه لم تجد فيها دعاء أي طلبًا، لكن الثناء مما يتوسل به إلى الله. فهنا الثناء يتضمن ما تدل عليه هذه الجملة؛ فإذا قلت: أنت الذي تعز، وأنت الذي تذل؛ فمعنى هذا، أو فمقتضى هذا: أنك تسأل الله أن يعزك ولا يذلك، ولهذا قال الشاعر:
إذا أثنى عليك المرء يومًا
…
كفاه من تعرضه الثناء
أي: ثناؤه عليك يكفي عن تعرضه وسؤاله.
* * *
• قال تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27].
أي: تدخل الليل في النهار، وتدخل النهار في الليل، بمعنى: أن الليل يدخل على النهار، فيزيد الليل وينقص النهار.
وقوله: {وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} :
بالعكس؛ يدخل النهار على الليل، فيطول النهار ويقصر الليل، وهذا الفعل من الأفعال التي لا يقدر عليها إلا الله وحده. هو الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ومع هذا فإن هذا الإيلاج إيلاج بحكمة؛ بتدرج، يأتي قليلًا قليلًا حتى ينتهي ثم يعود، ولو أن الليل قفز من أقصر الليل إلى أطوله لاختلَّ نظام العالم، وفسدت مواقيته، ولكن الله عز وجل يجعله بالتدريج ليعرف الناس أوقاتهم، وينبني أيضًا على هذا الإيلاج تغير الفصول؛ فإنه إذا طال النهار طال زمن وجود الشمس على سطح الأرض فاحترَّ الجو، وأيضًا يكون شعاع الشمس عموديًا فيكون أشد تأثيرًا في الحرارة مما إذا كان غير عمودي، والعكس بالعكس بالنسبة للشتاء، فيترتب على هذا الإيلاج زمن الفصول.
ومن رحمة الله عز وجل أن هذا الزمن الفصلي لا يأتي أيضًا دفعة واحدة، ولو انتقل الناس من أحر يوم في السنة إلى
أبرد يوم، لحصل ضرر عظيم، وبالعكس كذلك، لكن الربَّ الرحيم عز وجل الحكيم يأتي بهذا الشيء بتدرج. فمن الذي يستطيع أن يزيد في الليل ساعة، أو في النهار ساعة، لا أحد يستطيع، لو اجتمعت كل الخلائق على أن يزيدوا ساعة في الليل أو ساعة في النهار، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
وقوله: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} :
الميت في الموضعين فيها قراءتان: الميْت والميِّت يعني: بالتشديد والتخفيف.
والمراد بالحيِّ: الحي حياة حسية ومعنوية، وذلك لأن اللفظ صالح للمعنيين، وإذا صلح اللفظ للمعنيين بدون تنافٍ بينهما، فالواجب حمله عليهما.
الحي حياة حسية أمثلته كثيرة، فالإنسان مخلوق من نطفة، وهي ميتة بالمعنى اللغوي، فصار حيًّا من ميت. ولهذا قال الله تعالى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28] ، كنتم في أرحام أمهاتكم أمواتًا، ليس فيكم أرواح، ثم نفخ في الإنسان الروح فصار حيًّا. إذن يخرج الحي من الميت؛ أي: يجعل الميت حيًّا، كما قال تعالى:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] ، أو يخرج حيًّا ناميًا متحركًا من شيء لا ينمو، فهو ميت؛ كإخراج الفرخ من البيضة؛ فإن البيضة ميتة يخرج منها فرخ حي. هذا الموت الحسي.
أما المعنوي: يخرج الحي من الميت أي: المؤمن من الكافر؛ لأن المؤمن حي حياة قلبية والكافر ميت، يخرج الحي العالم من الميت الجاهل، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. الأول: هو العالم، والثاني: هو الجاهل. هذه الحياة المعنوية والحسية.
وقوله: {وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} :
الميت من الحي: بالنسبة للحياة الحسية، مثل: البيضة من الدجاجة، وربما يتناول الميت إذا سقط من حي، أعني: المرأة إذا أجهضت جنينًا ميتًا.
وقوله: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} :
ترزق: أي تعطي. بغير حساب: أي بغير عوض؛ لأن المحاسبة إنما تكون مع المعاوضة؛ فإن من لا يريد العوض لا يحاسب، لكن من يريد العوض هو الذي يحاسب، حتى يعلم هل ما أخذه مقابل لما أعطاه أو لا. وما أكثر النعم التي أنعم الله بها علينا، لكن لا يحاسبنا، يعطينا منه سبحانه وتعالى تفضلًا وكرمًا، وإن أمرنا بالشكر فشكرناه، فهذا عطاء ثانٍ، فشكر الإنسان ربَّه على نعمته هو من نعمته أيضًا. ولهذا يقول الشاعر:
إذا كان شكري نعمةَ الله نعمةٌ
…
عليَّ له في مثلها يجب الشكرُ
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله
…
وإن طالت الأيام واتصل العمرُ
والمعنى: أن الله إذا وفَّقك لشكر نعمته، فهذه نعمة تحتاج إلى شكر، فإذا شكرتها يحتاج الشكر إلى شكر آخر، وإذا شكرت الثالث يحتاج إلى رابع وهكذا، ولهذا قال:
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله
…
وإن طالت الأيام واتصل العمر
واعلم أن رزق الله عز وجل نوعان: رزق به قوام البدن، ورزق به قوام القلب والروح.
أما الأول: فيشمل المؤمن والكافر، والبَرَّ والفاجر، والمطيع والفاسق، حتى البهائم. ويدخل فيه الحرام؛ فالذي لا يأكل ولا يشرب إلا حرامًا، فهو برزقٍ من الله رزق، لكنه رزق يقوم به البدن.
والثاني: ما يقوم به القلب والروح، وهذا خاص بأهل الإيمان والعلم. فالعلم والإيمان للقلب بمنزلة الماء للشجرة، لا يمكن أن تنمو بدونه.
وكلمة {مَنْ تَشَاءُ} أي: من اقتضت حكمتك أن ترزقه. وأسباب الرزق كثيرة؛ إما حركة من الإنسان، وإما إمداد من الله. والحركة أيضًا لا تنفع إلا بإمداد من الله، لكن أحيانًا يرزق الإنسان بدون كسب، وبدون عمل؛ مثل أن يموت له قريب فيرث منه.
ومن أسباب الرزق: تقوى الله، وليس معنى التقوى أن تعكف في المسجد وتتعبد، بل التقوى أعم من ذلك؛ فالساعي على الأرملة والمسكين، الذي يذهب ويطلب لهم الرزق ويقوم عليهم "كالمجاهد في سبيل الله" كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
. والمسكين: كل من لا يكتسب، حتى ولو كان من أولادك؛ فلو أنت غني، وولدك لا يكتسب فهو مسكين، فأنت إذا سعيت عليه كالمجاهد في سبيل الله، قال: وأحسبه قال: "كالصائم لا يفطر، وكالقائم لا يفتر".
(1)
أخرجه البخاري، كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، رقم (5353). ومسلم، كتاب الزهد، باب الإحسان إلى الأرملة، رقم (2982).
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
تمام قدرة الله عز وجل وسلطانه في كونه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل.
2 -
إثبات حكمة الله؛ لأن هذا الإيلاج له حكمة عظيمة لا تقوم مصالح الخلق إلا بها؛ لأنه يترتب على هذا الإيلاج كما قلنا اختلاف فصول السنة التي يترتب على اختلافها نمو الأجساد والنبات، من النبات ما يكون شتويًا، ومن النبات ما يكون صيفيًا.
3 -
أن الإنسان يعرف به ضَعفه وافتقاره إلى ربِّه، إن جاء البرد صار يتطلب ما يدفئه، وإن جاء الحر صار يتطلب ما يبرده، فهو محتاج إلى ربّه في الحالين. وهذا من فوائد اختلاف الحر والبرد.
4 -
أن هناك أشياء مؤذية، وهي ما يُعَبَّر عنه في علم الطب بالجراثيم، لا يقتلها إلا شدة البرد، وأخرى لا يقتلها إلا شدة الحر، وهذا شيء مشاهد. وهو أيضًا من حكمة الله عز وجل المترتبة على إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل.
5 -
أن هذا الإيلاج يدل على كمال القدرة كما أسلفنا أولًا، إذ إنه لا أحد يستطيع أن يزيد ساعة من الليل في النهار أو بالعكس، ولكن الله تعالى هو الذي يقدر على هذا.
6 -
تمام قدرة الله وسلطانه بإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي.
ووجه ذلك ظاهر: فإن إخراج الشيء من ضده دليل على أن قدرته تامة، وسلطانه نافذ سبحانه وتعالى.
7 -
أن الرزق بيد الله؛ لقوله: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ} ، ويترتب على هذا أنه ينبغي للعاقل فضلًا عن المؤمن، ألا يطلب الرزق من أيدي الناس، وإنما يطلبه من الله عز وجل.
ولهذا جاءت النصوص بفضيلة العفة عمَّا في أيدي الناس، وكان من جملة ما بايع الصحابة رضي الله عنهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا يسألوا الناس شيئًا. فكان سوط أحدهم يسقط من يده وهو على بعيره، فينزل إلى الأرض ليأخذه ولا يقول: ناولني إياه؛ لأنهم بايعوا على أن لا يسألوا الناس شيئًا
(1)
. وهذا لا شك يجعل الإنسان يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى. ولكن لا بأس أن يسأل الإنسان ما يباح له سؤاله، إنما تمام العفة أن لا يسأل الناس شيئًا، بل يجعل الأمر موكولًا إلى الله سبحانه وتعالى.
8 -
أن عطاء الله بلا عوض؛ لقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
9 -
إثبات المشيئة لله عز وجل في قوله: {مَنْ تَشَاءُ} .
* * *
• ثم قال الله عز وجل: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].
قوله: {لَا يَتَّخِذِ} : لا: ناهية، والفعل بعدها مجزوم، وَكُسِرَ لالتقاء الساكنين. وكلمة (اتخذ) تدل على اصطناع الشيء،
(1)
كما في حديث عوف بن مالك الأشجعي، أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب كراهة مسألة الناس، رقم (1043).
والركون إليه والالتجاء إليه. مثل قولك: اتخذت هذا صاحبي أي: جعلته واصطنعته واخترته. فالمعنى: لا يختار المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
{الْكَافِرِينَ} : مفعول (اتخذ) الأول. و {أَوْلِيَاءَ} : مفعول ثانٍ. وقوله: (أولياء) أي: لا ينصروهم، ولا ينتصروا بهم؛ فلا يتولون الكفار، ولا يجعلون الولاية للكفار عليهم. فالنهي عن الأمرين، فإذا كان الأمر في سعة والمؤمنون في قوة، فإنهم لا يجوز لهم أن يتخذوا من الكفار من ينصرهم؛ لأن الكفار مهما كانوا أعداءُ المسلمين:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].
فليس لنا حق أن نستعين بالكفار، إلا إذا دعت الحاجة، فلنا أن ننتصر بهم بأخذ السلاح، وما أشبه ذلك، بل وبالعهد معهم أيضًا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية دروعًا فقال له: أغصبًا يا محمَّد؟ قال: "بل عارية مضمونة"
(1)
، فدلَّ هذا على جواز الاستعانة بالمشرك بأخذ سلاحه.
كذلك حالف النبي صلى الله عليه وسلم خزاعة في صلح الحديبية
(2)
، والناس
(1)
أخرجه أحمد (3/ 401). وأبو داود، كتاب البيوع، باب تضمين العارية، رقم (3562).
(2)
رواه أحمد (1/ 353)، وابن أبي شيبة (8/ 517)، وابن ماجه، رقم (3045)، والبيهقي في الدلائل (4/ 151) من طريق ابن إسحاق، وهذا سند حسن وشاهده في الصحيح من حديث المسور ومروان الذي ساقه ابن إسحاق.
في ذلك الوقت ليسوا على قوة. فيجوز أيضًا أن يحالف المسلمون الكفار إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأنه قد يكون هذا من مصلحة المسلمين. فإن المسلمين إذا كانوا ضعفاء تسلط عليهم كفار آخرون، فإذا حالفوا كفارًا أقوياء انتصروا بهم؛ فصار في ذلك مصلحة.
ولكن مع ذلك لا يجوز أن نجعل هذا الانتصار بهم على حساب ديننا؛ يعني: أن نداهنهم ونمكِّنهم من أفعالهم القبيحة في بلادنا، بلاد الإِسلام؛ لأنَّ المداهنة في دين الله حرام.
وأصل النهي عن ولاية الكفار، هو من أجل أن لا يذل الإِسلام بين أيديهم؛ فإذا كان في مثل هذه الأمور مصلحة للمسلمين وقوة، صار ذلك جائزًا. هذا بالنسبة للانتصار بهم.
أما بالنسبة للانتصار لهم فهذا لا يجوز أبدًا. لا يجوز أن ننصر كافرًا على مؤمن بأي حال من الأحوال، ولكن هل يجوز أن ننصر كافرًا على كافر إذا اقتضت المصلحة ذلك؟
نقول: إن المؤمنين فرحوا حين غلبت الروم الفرس، وهم كفار علي كفار؛ كما قال تعالى:{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم: 4 - 5]. فإذا كان هناك عدو مشترك لنا ولهذهِ الطائفة من الكفار، ونحن نعلم أننا إن لم ننصر الكفار على هذا الكافر غلبه ثم استأصلنا، فحينئذ يكون عونه للحاجة جائزًا؛ لأننا نعينه لا لذاته، ولكن لمصلحة المسلمين، وهذا كله يعود إلى المصلحة. أما لو رأينا كافرًا يطلب منا العون على مسلم، فهذا لا يجوز بأي حال من الأحوال. ولهذا قال:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، يعني: مِنْ سوى
المؤمنين؛ يعادون المؤمنين، ويوالون الكفار. وجاءت هذه الآية:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ} . ولم يقل: "لا تتخذوا"؛ لأن الله فرق بين قوله: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، وبين ما إذا اتخذ المؤمنون الكافرين أولياء لا من دون المؤمنين، فوجَّه الخطاب إلى المؤمنين مباشرة في الثانية دون الأولى؛ فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]. فخاطبهم خطابًا مباشرًا.
قال بعض العلماء المعاصرين: إن الله لم يخاطب المؤمنين خطابًا مباشرًا؛ لأن هذا أمر مُشين. والأمر المشين تكون المخاطبة المباشرة فيه صدمة عظيمة، ولهذا قال الله تعالى لرسوله:{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1 - 2]، ولم يقل: عَبِست.
وهذا القول أول ما يطالعه الإنسان يظنه جيدًا؛ لكن يشكل على هذا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144] فهنا واجههم بالخطاب مباشرة، مع أنه قال:{مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .
وعلى هذا فيكون التوجيه الذي ذكره بعض المعاصرين فيه نظر. ونقول: إن الله عبَّر بصيغة الغائب هنا: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ} دون الخطاب، لبلاغة يعلمها الله عز وجل، قد نعلمها وقد لا نعلمها.
ثم قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} ، المشار إليه: الاتخاذ، وعادت
الإشارة هنا على المفهوم من الفعل؛ لأن الفعل يدل على حدث وفاعله. فعاد الضمير هنا على الاتخاذ المفهوم من {يَتَّخِذِ} ، مثل قوله تعالى:{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، فعاد الضمير إلى العدل المفهوم من كلمة {اعْدِلُوا} .
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} :
أي: يتخذهم أولياء من دون المؤمنين {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} يعني: فالله بريء منه؛ لأن الله تعالى لا يرضى أن يتولى أحدٌ من المؤمنين أحدًا من الكافرين؛ لأن الكافر عدو لله بل هو عدو لك أيضًا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] ، مهما كان، فإن الكافر لا يمكن أن يضمر لك المحبة أو الولاية أبدًا، ولا يمكن أبدًا أن يناصرك إلا لمصلحته هو؛ لأنه عدو، والعدو لا يمكن أن يريد منفعة عدوه.
ثم قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} :
و{إِلَّا} : هنا حرف استثناء. والصواب أنه منقطع، بل يتعين؛ لأنه في حال التقاة لا نتخذهم أولياء، ولكن نوافقهم في الظاهر، ونخالفهم في الباطن. والمعنى: أن هؤلاء الكفار لهم سيطرة وقوة وقدرة نخشاهم، فنتقي منهم؛ أي: نتخذ وقاية من بطشهم وتنكيلهم بنا. لكن في الظاهر دون الباطن، ولا يجوز إلا في حال الخوف على النفس لضعف المسلمين وقوة الكفار.
ولابد أن تكون هذه الموالاة في الظاهر، باللسان فقط. أما في الباطن فيجب أن نضمر لهم العداوة والبغضاء وعدم الولاية.
وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} ، في هذا التفات
من الغيبة إلى الحضور. ولولا الالتفات لقال: "إلا أن يتقوا منهم تقاة".
وقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} :
{وَيُحَذِّرُكُمُ} : فيها فعل ومفعول به، ولفظ الجلالة (الله) فاعل. {نَفْسَهُ}: مفعول ثانٍ.
{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} : أي: يخوفكم من نفسه عز وجل، ويحذركم من عقابه إذا اتخذتموهم أولياء، إلا في الحال التي تكون موالاتهم تقاة، وليس عن قصد واختيار.
{وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} : أي: المرجع. والجملة اسمية قُدِّم فيها الخبر لفائدة الحصر؛ يعني: إلى الله لا إلى غيره المصير. والمراد المرجع في جميع الأمور، كما قال الله تعالى:{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210].
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
تحريم اتخاذ الكفار أولياء؛ لقوله: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .
2 -
أن مقتضى الإيمان الحقيقي أن يتخذ الإنسان الكافرين أعداء؛ لقوله: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ} ، فعلَّق هذا الحكم بالمؤمنين، وهو دليل على أن مقتضى إيمانهم أن لا يتخذوهم أولياء، بل أن يتخذوهم أعداء؛ لأن هؤلاء الكفار شيعة الشيطان وأولياؤه. فقد قال الله عز وجل:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].
3 -
أن اتخاذ الكافرين أولياء ينافي أصل الإيمان، أو كمال الإيمان؛ لأن الحكم إذا عُلِّق بوصف، فإنه يتبع ذلك الوصف قوة
وضعفًا. فكلما كمل الإيمان كملت المعاداة وانتفت الموالاة، وإذا وجدت الموالاة ضعف الإيمان، وإذا ضعف الإيمان أيضًا وجدت الموالاة.
4 -
الإشارة إلى أنه يجب أن يتخذ المؤمنون أولياء من المؤمنين، وهذا هو مقتضى الإيمان. قال الله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] ، فالواجب على المؤمن أن يتخذ له أولياء من المؤمنين.
5 -
أن اتخاذ الكافرين أولياء من كبائر الذنوب.
ووجه الدلالة: أن الله تبرأ منهم؛ وتعليق الحكم، أو تعليق البراءة بحكم من الأحكام يدل على أنه من كبائر الذنوب.
6 -
أن الله سبحانه وتعالى ولي المؤمنين؛ ووجهه: أن الذي يتخذ الكافرين أولياء ويدع المؤمنين يتبرأ الله منه؛ لأنه ليس من المؤمنين في شيء، فلم يكن الله منه في شيء. وهذا له شاهد من القرآن، مثل قوله تعالى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55]. وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]. وقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]. والآيات في هذا المعنى كثيرة. وقد صحَّ في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربِّه أن الله سبحانه وتعالى قال: "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب"
(1)
.
7 -
سهولة الإِسلام ويسره حيث رفع الحرج عن الأمة؛
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (6502).
وذلك بما أباح من اتخاذ التقاة عند الضرورة إليها؛ لقوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} .
8 -
أنه لا تجوز المداهنة لأعداء الله، وإظهار الرضا بما هم عليه؛ لقوله:{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} . ومعلوم أن التقاة لا تجوز إلا عند الضرورة، ومع ذلك ينوي بها الإنسان أنها وقاية مما يخاف منهم، لا رضى بما فعلوا، أو اطمئنانًا إليه.
9 -
أن الله عز وجل مع كمال رحمته ومحبته للتوبة، إلا أنه في مقام الوعيد يذكر الآيات والكلمات الشديدةَ القويةَ؛ لأن المقام يقتضي ذلك؛ فإنه من أعظم الأشياء أن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ولهذا قال:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} .
10 -
إطلاق النفس على الذات؛ لأن المراد بقوله {نَفْسَهُ} أي ذاته. يحذركم الله نفسه: أي ذاته. والتعبير بالنفس أولى من التعبير بالذات، وإن كان التعبير بالذات هو المشهور عند العلماء. لكن التعبير بالذات عن النفس ليس من اللغة العربية الفصحى كما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية، وإنما هو متلقى من اصطلاح عرفي. وأصله: أن "ذات" تستعمل مضافة فيقال: ذات جمال، ذات دين، ذات مال، وما أشبه ذلك، فيعبرون بالذات عن العين المتصفة بصفات، ثم سلبوها من الإضافة وعبروا بكلمة ذات مجردة عن الإضافة.
11 -
وجوب رد الأشياء إلى الله عز وجل، لقوله:{وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} .
12 -
تكرار التحذير إذا كان المقام يقتضي ذلك من أعلى
أنواع البلاغة؛ لأن قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} ، هذا أيضًا تحذير آخر؛ لأنه تهديد ووعيد لمن خالف ما حذر الله منه.
* * *
• ثم قال تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 29].
{قُلْ} : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن لا بأس أن يقوله من يحتاج إليه، وإن كان غير الرسول عليه الصلاة والسلام.
{تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ} :
والذي في الصدور هو ما تُكِنُّه القلوب، وجعله في الصدور لأن القلوب في الصدور، كما قال الله تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
وقوله: {إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} عام في كل شيء، من الخير أو من الشر، أو العداوة أو الولاية، أو غير ذلك.
وقوله تعالى: {يَعْلَمْهُ اللَّهُ} :
{يَعْلَمْهُ} : بالجزم؛ جوابًا للشرط في قوله: {إِنْ تُخْفُوا} يعلمه الله عز وجل، وهو سبحانه وتعالى عالم به قبل أن تخلق الصدور وما فيها، ولكن يعلمه أيضًا بعد أن يقع في الصدور عِلمَ وقوع، وأما علمه السابق فهو علم بما سيكون. وأما بعد وقوع الشيء فهو علم بالشيء بعد كونه. فلله سبحانه وتعالى فيما يكون بالنسبة للعلم اعتباران:
الاعتبار الأول: باعتبار ما سيكون.
والاعتبار الثاني: باعتبار ما كان. وبهذا التقرير يزول الإشكال الذي يرد على النفس، ويورده كثير من الناس، في مثل قوله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31]. فيقول: أليس الله عز وجل قد علم المجاهدين والصابرين من غيرهم في الأزل؟ فالجواب: بلى؛ لكن علمه في الأزل علم بما سيكون، وعلمه بعد كون الشيء علم به كائنًا، وفرق بين الأمرين. هذا من وجه.
ومن وجه آخر: أن علمه الأزلي لا يترتب عليه عقاب ولا ثواب، وعلمه بالشيء بعد كونه هو الذي يترتب عليه الثواب والعقاب؛ فيكون معنى:{حَتَّى نَعْلَمَ} أي: علمًا يترتب عليه الثواب والعقاب.
وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} :
{يَعْلَمُ} : بالرفع على الاستئناف؛ والتقدير: وهو يعلمُ. ولا يجوز في مثل هذا الجزمُ عطفًا على {يَعْلَمْهُ اللَّهُ} ، بخلاف قوله تعالى:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ} [البقرة: 284] ، فإنه يجوز، (فيغفرْ) لمن يشاء، ويجوز:(فيغْفِرُ)، ويجوز (فيغفرَ)، ثلاثة أوجه. لكن في هذه الآية لا يجوز سوى الرفع؛ لأننا لو جعلناه بالجزم، صار علم الله بما في السموات وما في الأرض مقيدًا بقوله:{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} ، لأن المعطوف على جواب الشرط له حكم جواب الشرط، وجواب الشرط معلق بفعل الشرط. وعلى هذا فيتعين في قوله:{وَيَعْلَمُ} الاستئناف والرفع، ولا يجوز الجزم.
وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} :
{مَا} : من الأسماء الموصولة، وكل اسم موصول فإنه يفيد العموم، سواء كان من صيغ الجمع كالذين واللائي، أو من صيغ المفرد كالذي والتي، أو من الصيغ المشتركة كـ (ما)، و (من) وعليه فجميع الأسماء الموصولة بأصنافها الثلاثة كلها تفيد العموم. ألم تروا إلى قوله تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]، أين الخبر:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ؛ فجعل الخبر جمعًا، مع أن المبتدأ مفرد؛ لأنه مفرد في اللفظ، لكنه عام في المعنى. فكل ما في السموات فهو معلوم لله عز وجل، وكل ما في الأرض فهو معلوم لله عز وجل، بعلمه الأزلي القديم.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5]، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم:"أن الله كتب مقادير كل شيء قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة"
(1)
، ولا يكتب إلا ما كان معلومًا عنده عز وجل.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} :
ختم الآية ببيان عموم قدرته، إشارة إلى أن الله تعالى قد وسع كل شيء علمًا وقدرة، وأنه قادر على الانتقام منكم فيما إذا أخفيتم ما لا يرضاه، ولكنه لحكمته قد يؤخر الانتقام.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، الصيغة عامة في القدرة، فنقول: هو قادر على كل شيء. فكل ما شاءه الله فهو
(1)
رواه البيهقي (1/ 101 رقم 17) في كتاب القدر.
قادر عليه، كما جاء في الحديث القدسي:"إني على ما أشاء قادر"
(1)
.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
وجوب إبلاغ الناس بعلم الله تعالى بما في صدورهم؛ لقوله: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} .
2 -
عموم علم الله عز وجل بما أخفاه الإنسان وما أبداه.
3 -
أن العقل في القلب، والتدبير في القلب، والإرادة في القلب؛ لأنه قال:{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} . وهذه المسألة اختلف فيها أهل الكلام. هل العقل في القلب أو في الدماغ؟ ولكن من تأمل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وجد أن العقل في القلب.
قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ، وهذه الآية نصٌّ صريح على أن العقل في القلب، ونصٌّ صريح على أنه ليس المراد بالعقل القوة المعنوية التي في المخ، وإنما المراد بالقلب القلب الحقيقي، قطعة اللحم التي في الصدر؛ ولهذا قال:{الَّتِي فِي الصُّدُورِ} والخالق أعلم بما خلق. ولكن الدماغ لا شك أن له تأثيرًا؛ لأن الدماغ يتصور الشيء ويرتبه ويجهزه، ثم يرسله إلى القلب، وينتظر الأوامر، ثم يصدر القلب الأوامر إلى المخ، والمح يوجه الأوامر إلى الجوارح. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "ألا وإن في
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجًا، رقم (187).
الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"
(1)
.
وأما ما اشتهر عند الأطباء الآن أن القلب مضخة فقط، مضخة يصفي الدم ويرسل، ويستقبل الدم الفاسد وينظفه ويرسله إلى العروق والشرايين، فهذا ليس بصحيح. نوافقهم على أن للدماغ تأثيرًا، ولكن وجه التأثير فيه أنه -بإذن الله- قابل لكل ما يأمر به القلب.
4 -
في هذه الآية أيضًا ردٌّ على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله وليس له فيه إرادة. ووجه الرد عليهم: أن الله أضاف الفعل إلى الإنسان فقال: {إِنْ تُخْفُوا} ، إن تبدوا.
5 -
أن الله محيط بكل شيء علمًا، حتى ما بين جوانح الإنسان؛ لقوله:{إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} ، فلا يخفى عليه شيء مما في نفس الإنسان؛ بل زد على ذلك أنه يعلم ما لم يحدث به الإنسان نفسه، بأنه سيحدث به نفسه، في الوقت والمكان المعين.
6 -
التحذير من أن يُسِرَّ الإنسان في نفسه ما لا يرضي الله؛ لأن الله إنما أخبرنا عن علمه بذلك تحذيرًا لنا من أن نخفي في صدورنا ما لا يَرضَى.
7 -
عموم علم الله في قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، والآيات في العلم متنوعة؛ تارة تكون مجملة، وتارة
(1)
تقدم تخريجه (ص 51).
تكون مفصلة، وتارة تكون فيما يتعلق بفعل الإنسان، وتارة تكون فيما يتعلق بفعل الله عز وجل؛ لأن صفة العلم متى آمن بها الإنسان أوجب له ذلك أمرين:
الأمر الأول: الهروب من معصية الله، فلا يجده الله عز وجل حيث نهاه.
الأمر الثاني: الرغبة في طاعة الله، فلا يفقده حيث أمره؛ لأنه يؤمن بأن الله تعالى يعلمه.
8 -
إثبات السموات، وأنها جمع، وقد صرح الله في كتابه أنها سبع؛ فقال:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86]. وأما الأرض فإنها تأتي مفردة، ولم تأت في القرآن مجموعة، لكن جاءت في السنة مجموعة، وفي القرآن إشارة إلى أنها سبع في قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] ، فإن المثلية هنا بالكيفية متعذرة، وإذا تعذرت المثلية في الكيفية، لزم أن تكون المثلية في العدد؛ كما نقول:"سبحان الله عدد خلقه، والحمد لله مثل ذلك" يعني عدد خلقه.
9 -
إثبات قدرة الله عز وجل؛ لقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وعموم هذه القدرة لقوله:{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} .
10 -
إرشاد الإنسان إلى أن يتعلق بربِّه؛ لأنك متى علمت أن الله على كل شيء قدير، فإنه لن يمنعك مانع من أن تلتجئ إليه سبحانه وتعالى بسؤال ما تريد. لا يستبعد شيئًا، ولهذا قال الله تعالى منبهًا على هذا الأمر:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة: 7] ،ومعلوم أن العداوة بين المؤمنين
والكافرين أمر ثابت، وأن الإنسان قد يستبعد أن يجعل الله في قلبه مودة لهذا الكافر، فقال الله تعالى:{وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7]، {قَدِيرٌ}: بالنسبة لتقليب القلوب. {غَفُورٌ} : بأن ييسر هؤلاء الكفار إلى الإِسلام، فيغفر لهم. وقد وقع؛ فإنه أسلم عام الفتح، وقبل عام الفتح، أمة من الكفار، وصارت العداوة في قلوب المؤمنين لهم مودة.
* * *
• ثم قال الله عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].
{يَوْمَ} : ظرف زمان. تقديره: "اذكر يوم تجد" اذكر للناس وذكرهم بهذا اليوم العظيم.
{كُلُّ نَفْسٍ} والمراد بالكلية هنا: كلية النفوس المكلفة، وهم الإنس والجن؛ فإن هؤلاء مكلفون بعبادة الله؛ لقول الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، أما البهائم فإنها لا تجد ما عملت، لكن يوفى لها الظلم إن ظلمت، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم:"بأنه يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء يوم القيامة"
(1)
.
و{وَمَا} : هنا اسم موصول مفعول أول. و {مُحْضَرًا} : مفعول ثانٍ. و {مِنْ خَيْرٍ} : جار ومجرور بيان لـ {مَا} في قوله: {وَمَا عَمِلَتْ} .
(1)
أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، رقم (2582).
وجملة {عَمِلَتْ} صلة الموصول، وعائد الموصول محذوف، والتقدير: ما عملته من خير محضرًا.
وقوله: {وَمَا عَمِلَتْ} يشمل كل ما عملت، قلّ أو كَثُرَ. قال الله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وقوله: {مُحْضَرًا} الذي يحضره الله عز وجل، إما بقوله، وإما بملائكته، أو هو عز وجل يأمر فيحكم.
وقوله: {مُحْضَرًا} قد يتبادر للذهن أن هذا العمل يكون جسمًا، فيحضر كما تحضر الدراهم لمن يستوفيها، وإذا كان هذا مراد الله عز وجل، فليس بغريب أن تجعل الأعمال وهي أمر معنوي أجسامًا. وهذا هو ظاهر القرآن الكريم أن الأعمال توزن، والوزن لا يكون إلا لجسم كثيف، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، وليس هذا بغريب على قدرة الله سبحانه وتعالى. فهاهو الموت -وهو زوال الحياة- يمثل يوم القيامة بكبش، ويوقف بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل النار، ويا أهل الجنة، فيطلعون فيقال لهم: تعرفون هذا؟ فيقال: هذا الموت، فيذبح ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت
(1)
، وحينئذ يزداد أهل الجنة سرورًا إلى سرورهم، ويزداد أهل النار حزنًا إلى حزنهم، والعياذ بالله.
وقوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ} :
الواو: هذه يحتمل أن تكون استئنافية؛ فتكون (ما) مبتدأ،
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، رقم (6548). ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها "الضعفاء" رقم (2849).
ويحتمل أن تكون عاطفة، فتكون (ما) معطوفة على (ما) الأولى، يعني: ما عملت من خير محضرًا، وما عملت من سوء محضرًا كذلك.
فعلى الأول: تكون جملة {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} ، خبر (ما).
وعلى الثاني: يكون في الكلام حذف، تقديره:(وما عملت من سوء محضرًا).
ولكن المعنى الأول أظهر؛ لأن الأصل عدم الحذف. والاستئناف كثير وارد في اللغة العربية، وهو هنا أبلغ؛ لأن ما عملت من سوء قد يحضر، وقد يقرر به الإنسان ولا يحضر. والكلام هنا عام يشمل المؤمنين والكافرين، والمؤمن في حسابه لا يحضر له عمله السيئ، إنما يقرر بذنوبه؛ يخلو به الله عز وجل فيقرره، ويقول: عملت كذا، عملت كذا، عملت كذا، فيقول: نعم، فيقول الله له: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. أما الكفار فيحضر عملهم.
قال الله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]. لأن سيئات الكفار لا تمحى، بل تحضر ويحاسبون عليها.
وبهذا يتبين أن إعراب الواو استئنافية و (ما) مبتدأ، أظهر من أن تكون عاطفة و (ما) معطوفة على ما سبق.
وقوله: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} :
يعني: زمنًا طويلًا أو مكانًا بعيدًا، وتود أنها لم تعمله،
وتَذْكُره، ولم يحضر لها، إن كانت ممن يحضر لها العمل السيئ.
والودُّ: خالص المحبة، أي: تحب محبة شديدة من كل قلبها، لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا.
و{لَوْ} : مصدرية لأنها إذا وقعت بعد (ودَّ) تكون مصدرية، كما في قوله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، يعني: ودوا أن تدهن، وقوله:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} [البقرة: 109]، أي: أن يردوكم.
و{لَوْ} داخلة على فعل محذوف، تقديره: تود لو حصل أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا. ويصح أن نقول {لَوْ} زائدة. والتقدير: تود أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا.
وقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} :
كرر ذلك لأن المقام يقتضيه، يقتضى التحذير؛ أي: احذر الله عز وجل، احذر الله أن يصيبك بعقابه إذا عصيته وخالفت أمره.
والأول: يحذركم الله نفسه العمل في موالاة الكفار. والثاني: في الجزاء؛ لأنه ذكره بعد أن ذكر الجزاء الذي يكون يوم القيامة.
ثم قال: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} :
فيها قراءتان: القراءة الأولى: رؤوف، والقراءة الثانية: رؤف بدون واو. والرؤوف: مفعول من الرأفة وهي أشد الرحمة، وأرق الرحمة؛ لأن الرأفة فيها شيء من الرقة واللين أكثر مما في الرحمة. وقوله:{بِالْعِبَادِ} . جمع عبد، والمراد بهم: الخلق، فهو من العبودية العامة.
استشكل بعض العلماء إتيان قوله: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} ،
بعد قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} . وقال: كان مقتضى الحال أن يقال: (ويحذركم الله نفسه والله شديد العقاب) لأن مقام التحذير يقتضي الوعيد.
فأجيب عن ذلك: بأن من رأفته عز وجل بالعباد أن حذرهم نفسه، وأخبرهم بأن الأمر عظيم؛ لأن إخبار الإنسان بحقيقة الحال لا شك أنه من الرأفة به.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
التحذير والتذكير لهذا اليوم العظيم الذي يجد فيه الإنسان ما عمل من خير أو سوء.
2 -
وجوب أو على الأقل استحباب تذكر الإنسان لهذا اليوم؛ لأن التقدير بـ (اذكر) يشمل الذكر الخبري والذكر الفكري؛ يعني: التدبر في القلب.
3 -
ثبوت الجزاء لكل نفس. وهل هذا على عمومه، أو مستثنى منه من لا يكلف؟ يحتمل؛ إن نظرنا إلى عموم اللفظ قلنا: إنه شامل، وغير المكلف يكتب له ولا يكتب عليه؛ فيكون ما عمل من خير محضرًا، وما عمل من سوء فهو مرفوع عنه. ويحتمل أن يراد بها النفوس التي يلحقها الجزاء عقوبة وكرامة، وهي الأنفس المكلفة. ولا شك أنه ليس على عمومه فيما يتعلق بالبهائم، فإن البهائم لا تجد هذا.
4 -
كمال قدرة الله عز وجل بإحضار ما عمله الإنسان من قليل وكثير؛ لقوله: {مَا} الموصولة التي تفيد العموم.
5 -
كمال رقابته عز وجل، وأنه لا يفوته شيء، فما عمل الإنسان فسوف يجده.
6 -
إثبات اليوم الآخر الذي هو يوم الجزاء.
7 -
أن الشر يسوء صاحبه، {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} .
8 -
إثبات الشعور في ذلك اليوم، لقوله:{تَوَدُّ} لأن المودة خالص المحبة، وهي فرع عن الشعور بالشيء.
9 -
كراهة المسيء لما عمله في ذلك اليوم، وأنه يحب أن يكون بينه وبينه كما بين المشرق والمغرب؛ لقوله:{تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} .
وهكذا يود الإنسان أن يكون بينه وبين عمله السيئ الأمدُ البعيد، وبينه وبين قرين السوء الأمد البعيد. قال تعالى {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 36 - 38] فهم في الدنيا أصدقاء، لكن في الآخرة أعداء.
10 -
رحمة الله تعالى بعباده بتحذيرهم نفسه، لئلا يقعوا في عقوبته ونقمته؛ لقوله:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} .
11 -
أنه ينبغي استعمال الأسلوب المناسب للحال. فالله عز وجل قال في هذه الآية: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، وفي آيات كثيرة يتحبب إلى عباده عز وجل ويتودد إليهم؛ لأن هذا المقام الذي نحن فيه مقام تحذير وتهديد.
12 -
إثبات الرأفة لله عز وجل، بل إثبات الاسم والصفة في قوله:{رَءُوفٌ} والرأفة أشد الرحمة وأرقها. وتأمل قول الله تعالى عن نفسه: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} . وقوله عن نبيه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] ، فإن رأفة الله عامة، أما رأفة
النبي صلى الله عليه وسلم فهي خاصة بالمؤمنين. أما الكفار والمنافقون فلا يرأف بهبم. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73] هذه وصية الله لنبيه في الكفار والمنافقين، وفي جلد الزاني قال الله تعالى:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]. لكن الرب عز وجل رءوف بعباده، يسعهم حلمه ورحمته وعافيته ورزقه.
13 -
أنه ينبغي للإنسان أن يعرف قدر نفسه بالنسبة إلى ربِّه أنه عبد، والعبد يجب أن يكون منقادًا لأمر الربِّ، وأن يكون ذليلًا له سبحانه وتعالى شرعًا كما أنه ذليل له قدرًا. فكل الناس أذلاء لله قدرًا، لا يستطيعون أن يخالفوا قَدَرَهُ. وأكبر واحد في الدنيا، وأشدهم عتوًا، يمرض ويموت، وهذا خضوع للربوبية القدرية. لكن من ليس بمؤمن ليس بخاضع للربوبية الشرعية.
* * *
• ثم قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
هذه الآية يسميها بعض السلف آية المحنة، يعني: آية الاختبار والامتحان؛ وذلك أن قومًا ادعوا أنهم يحبون الله، فأمر الله نبيه أن يتحداهم بهذا الميزان، وهو: إن كانوا صادقين فليتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كانوا من اليهود أو من النصارى أو من المنافقين. المهم: أي واحد يدعي أنه يحب الله فهذا الميزان {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، إذا كانوا صادقين فليتبعوا الرسول. أما مجرد دعوى:
فكل يدعي وصلًا لليلى
…
وليلى لا تقر لهم بذاكَ
كل يدعي أنه يحب الله؛ لأن الدعوى سهلة. لكن الكلام على البينة، والبينة على المدعي، فإذا كانوا يحبون الله حقًّا فليتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم، لينالوا ما هو أعظم من دعواهم، وهو محبة الله لهم. ولهذا قال:{إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، فالشأن ليس أن تُحِب بل الشأن أن تُحَب، أما أن تُحِب ولا تُحَب، فهذا عذاب. انظروا إلى بريرة ومغيث: بريرة تبغض مغيثًا، ومغيثٌ يحبها، فعذِّب بحبها لما عتقت، خيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اختاري لنفسك"، قالت: لا أريد الرجل، تعني: زوجها، فطلبت الخيار لنفسها والشرع يمكِّنها من ذلك، فكان زوجها يبكي وراءها في السوق، في أزقة المدينة، يطلب ألا تختار نفسها، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: اشفع لي يا رسول الله عندها. فكلَّمها النبي صلى الله عليه وسلم، قال لها:"ارجعي إلى مغيث". قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت تأمرني، فسمعًا وطاعة، وإن كنت تشير علي فلا حاجة لي فيه".
قال: بل أشير، قالت: لا حاجة لي فيه
(1)
. يعني أنها لم تقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ترحم الرجل الذي يمشي وراءها يبكي في الأسواق، والخطاب في الآية للرسول صلى الله عليه وسلم، إذا وجه إليه بـ {قُلْ} في القرآن فهو دليل على العناية بهذا القول الذي أمر أن يقوله؛ لأن هذا أمر بالتبليغ الخاص لهذا القول. أما القرآن كله فقد أمر أن يقوله كله لكن بعض الأشياء يُخص بـ (قل) مثل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
(1)
رواه البخاري، كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة، رقم (5283).
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] و {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31]، {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]. وما أشبه ذلك، فهذا أمر بتبليغ هذا الشيء الخاص بعينه فيكون في ذلك توكيد ودليل على العناية به، وهذه لا شك يجب الاعتناء بها. فلا يكفي أن يأتي إنسان ويقول: أنا أحب الله، أنا حبيب الله. كما يدعي أناس أنهم أولياء لله. ولكن الذي يزعم أنه من أولياء الله نمتحنه، ننظر هل هو مؤمن تقي فهو صادق، أو هو عاصٍ فاسق دجال يريد أن يُشرَك به مع الله في المحبة والطاعة، فهو عدو وليس بولي؛ لأن الله قال في ميزان الأولياء:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63].
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} ، إن الخطاب هنا غير معلوم بالشخص المخاطب، لكنه معلوم بالمعنى. يستفاد من معناه مما بعد؛ أي قل لمن ادعى أنه يحب الله:{إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} والجملة هنا شرطية، وفعل الشرط:{كُنْتُمْ} وجوابه {فَاتَّبِعُونِي} . وجاءت الفاء في الجواب لأن الجملة طلبية؛ وإذا كانت جملة الجواب طلبية وجب اقترانها بالفاء.
وقوله: {فَاتَّبِعُونِي} أي: على ما أنا عليه من الشريعة، عقيدة وقولًا وفعلًا وتركًا، فمن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأربعة صدق في اتباعه، ومن خالف فهو غير صادق.
عقيدةً: بحيث تكون عقيدته على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولا شك ولا تردد؛ بل إيمان كامل خال من جميع الشوائب.
وقولًا: لا يزيد ولا ينقص عمَّا جاءت به الشريعة من الأقوال.
وفعلًا: كذلك لا يزيد ولا ينقص.
وتركًا: بحيث يترك ما لم يعمله الرسول عليه الصلاة والسلام، فكل ما لم يتعبد به الرسول يجب عليه أن لا يتعبد به. فإن تعبد به ولو أنه يقول إنه يحب الرسول فإن دعواه كاذبة، لو كنت تحبه حقًّا لاتبعته حقًّا، ولذا نجد الإنسان من بني آدم إذا أحب شخصًا غير الرسول. تجده يترسم خطاه، يعجب به وينظر ماذا يفعل ويفعله.
وقوله: {يُحْبِبْكُمُ} : هذه فُك إدغامها، ولذلك ظهر السكون فيها، وفي غير القرآن لو قيل يحبكم الله لكان صحيحًا؛ لأن الإدغام هنا وفكه يجوز.
قال تعالى: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} .
هذه الثمرة الأولى، والنتيجة التي يسعى إليها كل إنسان، أن يكون محبوبًا لدى الله سبحانه وتعالى، والثانية:{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، فائدتان عظيمتان: محبة الله لك ومغفرة ذنوبك. وقوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي كل ما عملتم من الذنوب يغفرها لكم، ولكن هل نقول: إنه يغفر وإن لم يستغفر الإنسان منه؛ لأن حسنة الاتباع تمحو هذا الذنب، ومحبة الله للإنسان توجب عدم عقوبته. أو نقول:{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} بأن ييسر لكم أسباب المغفرة إن لم يغفر لكم بدون سبب، يحتمل أنه سبحانه وتعالى أراد أنه يغفر الذنوب بسبب هذا الاتباع والمحبة، أو أنه وإن فعل الإنسان ما فعل فإنه ييسر له أسباب المغفرة بأن يعود من معصية الله إلى
طاعته. والله أعلم. لكن على كل حال الوعد هنا محقق، وهو مغفرة الذنوب إما بسبب من العبد أو لمجرد فضل الله.
وقوله: {ذُنُوبَكُمْ} : الذنب هو المعصية، وهو كما ترون جمع مضاف لمعرفة، والجمع المضاف إلى معرفة يفيد العموم.
قال تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
الجملة اسمية اشتملت على ثلاثة أسماء من أسماء الله: الله، والغفور، والرحيم، فأما معنى "الله" فقد سبق بأنه: المألوه أي المعبود حبًّا وتعظيمًا، وأن أصل (الله) الإله، فحذفت الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال كما حذفت من الناس ومن شر وخير.
وأما الغفور: فالغفور هنا يَحتمل أن تكون صيغة مبالغة، ويحتمل أن تكون صفة مشبهة، والمعنيان لا يتنافيان فتكون صفة مشبهة وصيغة مبالغة، صفة مشبهة؛ لأن الله لم يزل ولا يزال غفورًا، وصيغة مبالغة لكثرة من يغفر له وكثرة ما يغفره من الذنوب.
والمغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه، وليست مجرد الستر، لوجهين: لُغوي وسمعي.
أما اللُّغوي: فلأن المغفرة مأخوذة من المِغْفَر الذي يستر به المقاتل رأسه ويتقي به السهام، والمغفر جامع للستر والوقاية. وأما السمعي فلما ورد في كيفية محاسبة الله لعبده المؤمن أنه يخلو به ويقرره بذنوبه، فيقول:"قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم"
(1)
.
(1)
تقدم تخريجه (ص 109).
وأما الرحيم: فهو ذو الرحمة وهو صالح أيضًا لأن يكون صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، والرحمة: صفة تقتضي العطف والإحسان على المرحوم، والجمع بينهما، بين الغفور والرحيم، لفائدة عظيمة: وهي الجمع بين الوقاية والعناية، بين الوقاية بالمغفرة يقيك الله سبحانه وتعالى شر الذنوب، والعناية بالرحمة، يعتني الله بك فييسرك لليسرى ويجنبك العسرى.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن الله أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتحدى هؤلاء المدعين لمحبته بهذا الميزان القسط، وهو اتباعهم للرسول عليه الصلاة والسلام.
2 -
جواز مخاطبة المدعي بالتحدي لأن هذا هو الحق، لأنه لو كان يعرف نفسه ما ادعى اتصافه بشيء لم يتصف به، فهو الذي أذل نفسه في الواقع، فلا تخش من تحديه ليقم الدليل والبرهان على دعواه.
3 -
أنها مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي"
(1)
، وهذه وإن كانت في دعوى الناس بعضهم مع بعض لكنها في الحقيقة قاعدة عامة، فكل مدَّعٍ لابد أن يقيم بينة على دعواه.
4 -
أن محبة الله تعالى غاية لكل الناس حتى من غير المؤمن؛ لقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} .
(1)
رواه الترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، رقم (1341، 1342).
5 -
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله حقًا، وجه ذلك: أن الله جعل اتباعه سببًا لمحبة الله للعبد.
6 -
أنه كلما قوي اتباع الإنسان للرسول صلى الله عليه وسلم كان أقوى برهانًا على صدق محبته لله، فهذه من علامة محبة الإنسان لربه، فإذا رأيت الإنسان شديد الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه شديد المحبة لله.
7 -
أن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم سبب لمحبة الله للعبد؛ لقوله: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} .
8 -
أنه ينبغي للإنسان أن يجيب غيره بما هو أكثر من سؤاله إذا دعت إليه الحاجة؛ لأنه لم يقل: فاتبعوني تحبوا الله، بل قال: يحببكم، ولا أحد يحبه الله إلا وهو يحب الله، لأنك إذا أحببت الله عملت فأحبك الله. فلهذا أتى بالثمرة المهمة وهي محبة الله للعبد.
9 -
إثبات المحبة بين العبد والرب من الجانبين؛ لأنه قال: {تُحِبُّونَ اللَّهَ} فأثبت أن الإنسان يحب الله، وقال:{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فأثبت أن الله يحب الإنسان، وهي محبة حقيقية خلافًا لمن أوَّلها. قال: تحبون الله: أي تحبون ثوابه، يحببكم الله: أي يثيبكم الله، فإن هذا تحريف. وسبب هذا التحريف القاعدة الباطلة للسمع والعقل؛ وهي تحكيم العقل فيما يثبت وينفي عن الله عز وجل، فإن قومًا ادعوا العقلية قالوا: نحن الذين نحكم على الله بما يجب له أو يجوز أو يمتنع، وليس ما أخبر الله هو الذي يحكم بيننا، هذا لازم قولهم وإن كانوا لا يصرحون بهذا. والله إن الإنسان يجد طعمًا لا شيء يشبهه في محبة الله، ومحبة الله
غير محبة الثواب، فإذا وقع في قلبك محبة الله نسيت كل شيء حتى الجنة، فتحبه حتى إنك ترى أن كل شيء يضمحل ويكون عبدًا لله أمامك. ولهذا جاء في الحديث -وإن كان فيه ما فيه- "أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم"
(1)
، وكل النعم من الله:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وأكبر نعمة على الإنسان هي أن يهديه للإسلام كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ، الإنسان الذي هداه الله للإسلام ليس أحد من الناس مثله في النعمة إلا من أنعم عليه بها، فأنت في الحقيقة تحب الله نفسه لذاته ولما أنعم عليك به من النعم، وليست محبة الله كمحبة الزوجة أو كمحبة الطعام، أو كمحبة الشراب، أو كمحبة اللباس، أو كمحبة السكن، أو كمحبة السيارة؛ كلا فإن محبة الله لا يشبهها شيء، وجرِّب تجد، اجعل قلبك صافيًا يومًا من الدهر وصلِّ وكن متصلًا بالله في صلاتك تجد شيئًا لا يخطر بالبال. وتجد شيئًا يبقى أثره مدة طويلة وأنت تتذكر تلك اللحظة التي كنت فيها متصلا بربك عز وجل.
قالحاصل: أننا نقول: لا أحد ينكر محبة الله نفسِه إلا من حُرمها، والله لو نعتقد أننا نحب ثواب الله دون الله ما حرصنا كل الحرص على الأعمال الصالحة، مع أننا مقصرون لم نعمل شيئًا، لكننا نقول: إن الإنسان يعمل العمل الصالح لله، لا يعني ذلك أننا لا نلاحظ ونحتسب الثواب. لسنا صوفية يقولون: من عمل للثواب فهو للتراب، بل نقول: نحن نحب الله ونحب ثوابه. لكن الأصل
(1)
رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (3789).
هو محبة الله، ولهذا قال الله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، والحسنى: الجنة كلها بما فيها من نعيم، والزيادة: هي النظر لوجه الله. فجعل النظر لوجه الله أمرًا زائدًا على النعيم؛ لأن الإنسان -جعلني الله وإياكم ممن ينظر إليه- إذا نظر إلى ربه جل وعلا فهذا أكمل ما يجد من النعيم واللذة. فلهذا نقول: إن محبة الله عز وجل حقيقة ولا مانع منها.
أما قولهم: إن المحبة لا تكون إلا بين متلائمين ولا ملاءمة بين الخالق والمخلوق.
فالجواب عنها أن نقول لهم: إن هذه دعوى باطلة يبطلها الواقع، ألستم تحبون منازلكم وثيابكم ومركوباتكم، ولو أن إنسانًا عنده بعير صلف شديد لا يحجزه اللجام، وبعير سهل الانقياد سلس المشي فأيهما أحب إليه؟ الثاني أحب إليه، ثم على فرض أن هذا يكون بين المخلوقات، وليس بين الخالق والمخلوق، فيقال: إن الله أثبت وهو أعلم أنه يُحِب وُيحَب. إذن في هذه الآية رد على من ينكر محبة الله، المحبة بين الإنسان وبين الرب. والناس في هذا ثلاثة أقسام:
قسم قال: لا محبة بين العبد والرب من الجانبين، وقسم قال: لا، بل تثبت المحبة بين العبد والرب من الجانبين. والثالث قال: إن الله يُحَب ولا يُحِب. والقرآن والسنة يرد على طائفتين ويؤيد طائفة، من نفى المحبة بين الطرفين فقوله باطل، ومن تناقض فأثبتها من جانب العبد دون الرب فقوله باطل أيضًا، فالأول قوله باطل وإن كان قوله مطردًا، فقوله مطرد لكنه باطل. والثاني قوله متناقض وهو باطل أيضًا، ومن أثبتها بين العبد
والرب فهذا هو الذي على الحق؛ لأن الله أثبت ذلك.
10 -
الثمرة الجليلة باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بمحبة الله للعبد.
11 -
أنه ينبغي للإنسان إذا عمل العمل أن يستشعر أنه متبع بذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
12 -
أن الجزاء من جنس العمل لقوله: {فَاتَّبِعُونِي} ، حيث جعل الاتباع برهانًا على صدق دعوى المحبة، وجعل الجزاء من جنسها، أن الله يحب العبد.
13 -
أن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب لمغفرة الله للذنب؛ لقوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} .
14 -
كمال إحسان الله سبحانه وتعالى لجزائه على العمل أكثر منه؛ لأن الذي يتبع الرسول له محبة الله ومغفرة الذنوب.
15 -
إثبات هذين الاسمين وما تضمناه من صفة في قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، ففيهما إثبات الاسمية لله في هذين الاسمين، والثاني إثبات الصفة التى تضمناها. ومن المعلوم أن كل اسم من أسماء الله يدل على معناه الخاص به، لكن اجتماع الاسمين يدل على معنى ثالث؛ هو: الجمع بين مغفرة المعائب والرحمة بالعناية بالفضائل؛ لأن المغفرة مقابل الذنوب، والرحمة مقابل العناية بالإنسان، إن الله تعالى يرحم الإنسان، فيحصل من اجتماع هذين الاسمين صفة ثالثة، وهي جمع الرب سبحانه وتعالى بين الإحسان والوقاية من الذنوب وآثارها بالمغفرة.
• ثم قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} الخطاب في قوله: {قُلْ} للرسول صلى الله عليه وسلم.
والطاعة هي عبارة عن الانقياد والموافقة سواء كانت في فعل أو في ترك؛ فإن كانت أمرًا فالطاعة فعل المأمور به، وإن كانت نهيًا فالطاعة اجتناب المنهي عنه.
وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} ، أتى بالواو الدالة على التشريك لأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به من الشريعة من طاعة الله، وأما فيما لا يأمر به من الشريعة فلا شك أنه أعظم الناس حقًّا علينا. ولكن قد يشير بالشيء أو قد يشفع بالشيء ولا يلزم طاعته في الشفاعة، كما في قصة بريرة.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59]. ولم يقل: ثم رسوله؛ لأن هذا إتيان شرعي لا قدري؛ لأن الأمور القدرية لا يمكن أن يشرك فيها الرسول مع الله بـ (الواو).
وقوله {وَالرَّسُولَ} : (أن) فيها للعهد وليست للاستغراق، والمعهود رسول الله صلى الله عليه وسلم محمَّد بن عبد الله.
والرسول: عند عامة العلماء من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي: من أوحي إليه بشرع يتعبد به ولكن لم يكلف بتبليغه.
فآدم عليه السلام نبي؛ لأنه أوحي إليه بشرع لكنه ليس برسول لأنه لم يلزم بتبليغه، لكن ذريته في ذلك الوقت كانوا
يتبعونه، لأنهم قلة ولم يكثروا النزاع بينهم ولم تفتنهم الدنيا، كانوا يتبعون أباهم فيما يتعبد به من شريعة الله. فلما كثر الناس واختلفوا بعث الله النبيين، قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213]، فصار الرسول أخص من النبي. وعليه فنقول: كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا، لكن الأنبياء الذين ذكروا في القرآن بلفظ النبوة هم أنبياء ورسل؛ لقوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] ، فأفادت الآية الكريمة أن كل من قصَّه الله في القرآن فهو رسول وإن كان لم يرد ذكره إلا بلفظ النبوة.
وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} يعني فإن أعرضوا عن الطاعة ولم يمتثلوا لها ولم ينقادوا، وهذا كفر منهم، ولكنه قد يكون مخرجًا من الإسلام وقد لا يكون مخرجًا، فإنْ كان كفرًا مطلقًا بكل ما أمروا به فهو كفر مخرج عن الإِسلام، وإن كان كفرًا مقيدًا ببعض الأوامر فهو كفر دون كفر لا يخرج من الإِسلام، والميزان في ذلك النصوص، فما دلَّت النصوص على أنه كفر كان التولي عنه كفرًا مخرجًا عن الملة، وما دلَّت النصوص على أنه معصية فهو كفر يخرج من الملة.
وفي قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} فسَّر بعضهم نفي المحبة بأن المعنى لا يثيبهم ولكن هذا تحريف، والصواب أنه لا يحبهم، وهو إذا لم يحبهم لن يثيبهم، فهذا انتفاء محبة الله عنهم. وقوله:{الْكَافِرِينَ} هو إظهار في محل الإضمار. ومقتضى السياق أن يقال: (فإن تولوا فإن الله لا يحبهم)، ولكنه أظهر في موضع
الإضمار لفائدتين: إحداهما لفظية، والثانية: معنوية. والمعنوية، تتضمن ثلاث فوائد:
الفائدة اللفظية: مراعاة الفواصل، فواصل الآيات، فإن قال:(فإن تولوا فإن الله لا يحبهم) لم تتناسب هذه الفاصلة مع الفواصل التي قبلها وبعدها. ومراعاة الفواصل من البلاغة؛ ألم تروا إلى قوله تعالى من سورة طه: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70] ، مع أنه في الآية الأخرى يقدم موسى، وموسى أفضل من هارون -لا شك-، وأحق بالتقديم، لكنه قدم هارون على موسى في هذه الآية من سورة طه من أجل مراعاة الفواصل، ولا شك أن القرآن في قمة البلاغة، فمراعاة الفواصل من البلاغة.
أما الفائدة المعنوية: فنقول: إن قوله: {لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} إظهار في موضع الإضمار، وله ثلاث فوائد معنوية:
الأولى: التسجيل على هؤلاء بالكفر؛ يعني الحكم عليهم بأنهم كفار، ولو قال: فإنه لا يحبهم لم تحصل هذه الفائدة أنهم كفار.
الثانية: التعميم، بحيث تكون محبة الله منتفية عن كل كافر، ولو قال: لا يحبهم لاختصَّ نفي المحبة بهؤلاء فقط.
الثالثة: التعليل، وذلك لأن الحكم إذا عُلِّق بوصف دلَّ على عِلِّيَّةِ ذلك الوصف فيه، فإذا قلت: أكرِم المجتهد، أي: لاجتهاده، فدلَّ ذلك على أن الاجتهاد هو العلة.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
عناية الله سبحانه وتعالى بطاعته وطاعة رسوله؛ لأن الآية صدرت بـ {قُلْ} ، والقرآن كله قد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله.
2 -
وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: {وَالرَّسُولَ} وهذا مكرر في آيات متعددة.
3 -
الرد على من قال: إن السنة لا يعمل بها إلا ما وافق القرآن. وجهه أن الله قال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} ، ومن المعلوم لو قلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يطاع إلا فيما أمر الله به لم يكن للأمر بطاعته فائدة؛ لأن كل من أمر بما أمر الله به فإنه مطاع لا لأمره ولكن لأمر الله، فطاعة أمر الرسول طاعة مستقلة. على أننا نقول: إن الذي يقول إنه لا يعمل بالسنة إلا ما وافق القرآن متناقض، وجهه أن قوله: إلا ما وافق القرآن يرد عليه بأنه ليس في السنة ما يخالف القرآن؛ لأن القرآن أمر بالعمل بالسنة، فالعمل بها موافقة للقرآن وليس بمخالفة، سمعت أن بعض الناس أنكر على من استدل بقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال: إن هذا قسم الفيء وهذا صحيح، ولكن إذا كان يجب علينا أن نقبل ما قسمه الرسول عليه الصلاة والسلام في الفيء، وأن ننتهي عما نهى عنه؛ فما بالك بالأمور الشرعية، فقبولنا لما جاء به شرعًا أولى من قبولنا بما قسمه مالًا.
4 -
إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} .
5 -
وجوب الطاعة؛ لقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} ، واعلم أن ترك امتثال الطاعة إن كان سببه كراهة ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا كفر مخرج عن الملة كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]، وإن كان تكاسلًا وكراهة لهذا العمل نفسه لا لأن الرسول جاء به، فهذا لا يخرج من الملة، وهذه مسألة يجب التفطن لها
والتنبه؛ لأن بعض الناس إذا رأى أن شخصًا كره فلانًا لتطبيقه السنة قال: هذا كره ما أنزل الله، فهذا كافر، وهذا خطأ عظيم. والكفر ليس نقدًا سهلًا تعطيه من شئت وتمنعه عمن شئت، الكفر أمره صعب جدًا، لا يجوز أن نكفر إلا من تيقَّنا أنه صدق عليه أنه كافر. ولهذا ربما يكره الإنسان هذا العمل من شخص ولا يكرهه من شخص آخر، إذن هو لا يكره العمل لأنه سنة، لكن قد يكره هذا الرجل نفسه لأنه عمل به، لو أن أحدًا من الناس الموثوقين عند العامة فعل هذا الفعل لوجدتهم يأخذون به، أو على الأقل لا ينكرونه، لكن لو فعله واحد غير موثوق به ينتقدونه ويكرهونه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه"
(1)
، ومعنى (حار عليه) أي: أنه سيكفر إلا أن يمن الله عليه بتوبة؛ لأنه قال: (إلا حار عليه) ولم يقل: إلا أوشك أن يحور عليه. كل هذا من أجل حماية أديان الناس، فإذا كان الشرع يحمي أعراض الناس بأن من قذف شخصًا وجب عليه الحد ثمانين جلدة، فأديان الناس حماها أيضًا. فالواجب ألا نتسرع في هذه الأمور، وأن نعلم أن الأمر عظيم، ويسعك ما دلَّ عليه شرع الله عز وجل، فمن كفَّره الله ورسوله فكفِّره. ومع ذلك إذا جاء نصٌّ يقول: من فعل كذا فهو كافر، فلا نطبق هذا الحكم على كل من فعله بعينه، كما أننا لا نشهد بالجنة لكل مؤمن بعينه إلا لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم. فكذلك أحكام الكفر كأحكام الإيمان تمامًا، واعلم أنك إذا
(1)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم، رقم (61).
حكمت عليه بالكفر فقد أبحت دمه وماله، وحرمته الجنة وأوجبت له النار، وأوجبت فسخ نكاح زوجاته منه، وألا يرثه أحد من أقاربه، وألا يصلى عليه، وألا يدفن مع المسلمين. فأحكام الكفر ليست هينة حتى تكون على ألسنة كل أحد.
* * *
• قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 33 - 34].
قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} هذه الجملة مؤكدة (بإن) لأن المقام يقتضي ذلك، إذ إن المقصود بيان أن الله تعالى يصطفي من الناس من شاء:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]، يعني ومن الناس رسلًا.
وآدم عليه السلام هو أبو البشر، خلقه الله تعالى خلقًا مستقلًا وليس متطورًا من جنس آخر أو من نوع آخر قبله كما يقول أهل الإلحاد. ومن ادعى ذلك فقد كفر بالله؛ لأن الله تعالى أخبر في كتابه في عدة مواضع أن الله خلق آدم من تراب، من صلصال كالفخار، من طين، خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته. فمن زعم غير ذلك فهو كافر مصدق لغير الله مكذب لله -والعياذ بالله- مع العلم بأنه لن يأتى أحد بكلام عن آدم وابتداء خلقه وكيفية خلقه غير مستند في ذلك إلى الوحي فإن قوله غير مقبول، لأنه لم يشاهده، قال الله تعالى:{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51]، وقال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9]، فمن ادعى علم شيء ممن سبق فهو كاذب إلا ببرهان، وآدم كما نعلم بيننا وبينه أزمنة طويلة جدًّا، فلا يمكن أن نقبل قولًا فيه إلا عن طريق الوحي الصحيح.
وسمي آدم: قيل لأُدمته، يعني لونه ليس الأبيض الباهق ولا الأسود الحالك، لكنه بين ذلك. وخلقه الله عز وجل على صورته أي على صورة الله عز وجل تكريمًا له، ولا يلزم من كونه على صورة الله أن يكون مماثلًا له؛ لأن الله تعالى يقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فعلينا أن نؤمن بالنصوص كلها، نؤمن بأنه خلقه على صورته، ونؤمن بأنه ليس كمثله.
فإن قلت: كيف يكون على صورته وليس مثله؟
فالجواب: يمكن هذا في المخلوق فما بالك في الخالق، فلقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام:"أن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر"
(1)
. ومن المعلوم أنه لا يلزم التماثل؛ يعني ليس صورتهم كصورة البدر تمامًا، بل من حيث الجمال والبهاء والنور كالقمر ليلة البدر. ثم إن القرآن والسنة لا يكذب بعضهما بعضًا. وآدم عليه الصلاة والسلام أوحي إليه كما في القرآن الكريم. ولا شك أنه أوحي إليه أيضًا من الناحية العقلية، وذلك لأنه لا يستقل بعبادة الله؛ أي لا يمكن أن يعرف كيف يعبد الله إلا بوحي من الله وهو مخلوق للعبادة. {وَمَا خَلَقْتُ
(1)
رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم (3246).
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فدلَّ السمع والعقل على أنه موحىً إليه، ولكن هل كان رسولًا؟ لا، ليس برسول بدلالة الكتاب والسنة. أما الكتاب ففي قوله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]، فجعل النبيين من بعد نوح. وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26]، وفي الحديث الصحيح حديث الشفاعة الطويل: أن الناس يأتون إلى نوح ويقولون له: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض
(1)
.
وعليه فآدم نبي أوحي إليه بشرع وتعبد الله به، وبقي الناس على هذا الشرع لأنهم قلة، ولم يحصل منهم اختلاف، فلما اختلفوا بعث الله النبيين كما قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
وقوله: {وَنُوحًا} ، ذكره الله عز وجل بعد ذكر آدم؛ لأنه الأب الثاني للبشرية، فإن نوحًا لما كذبه قومه إلا القليل أهلكهم الله تعالى بالغرق، فجعل الله ذريته هم الباقين كما في سورة الصافات:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77]، فصار الأب الثاني للبشرية.
وقوله: {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} .
آل إبراهيم: لا شك أنه يدخل فيهم إبراهيم بالأولى، لكن
(1)
رواه البخاري، في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} ، رقم (3340) ورواه مسلم، في كتاب الإيمان، باب أول أهل الجنة منزلة فيها، رقم (194).
نصَّ على آله لكثرة الرسل فيهم ولاسيما أن فيهم أفضل الرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم.
وآل عمران: آل عمران اختلفوا في المراد بهم، فقيل: آل عمران أبي موسى؛ لأن موسى أفضل أنبياء بني إسرائيل. وقيل: آل عمران أبي مريم، ومريم ابنة عمران، فذكر آل عمران لأن فيهم آخر الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم وهو: عيسي ابن مريم الذي ينتمي إليه النصارى، وخص آل عمران بذلك لأن المقام يقتضيه أيضًا، فإن هذه السورة نزل أولها في وفد نجران وهم من النصارى. وسواء كان هذا أم ذاك فإنه يدل على أن الله اصطفى هذه القبيلة، قبيلة إبراهيم، فهو مصطفى من مصطفى. اصطفى آدم، وهذا الاصطفاء الأول، ونوحًا، وهذا الاصطفاء الثاني، وآل إبراهيم الثالث، وآل عمران الرابع. فكان هؤلاء السادة من البشر هم الذين اصطفاهم. ومعنى الاصطفاء: أن الله اختارهم وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلًا، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، ليس على كل من خلقنا، بل على كثير ممن خلقنا تفضيلًا. والاصطفاء بمعنى الاختيار؛ لأن أصله مأخوذ من الصفوة، وصفوة الشيء خياره، واصطفى أي أخذ صفوته.
وقوله: {عَلَى الْعَالَمِينَ} ، المراد بالعالمين مَنْ سِوى الله؛ لقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2].
وقوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} .
ذريةً: بالنصب بدل من {آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ
عِمْرَانَ}، يعني هؤلاء الأربعة الأصناف ذرية بعضها من بعض، وذرية: مأخوذة من (ذرأ) بمعنى خلق؛ لقوله تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] أي يخلقكم. وقيل: من (وذر) بمعنى ترك، فعلى الأول: تكون الذرية شاملة للأصول والفروع؛ لأن الأصول مخلوقون والفروع كذلك مخلوقون، أما إذا جعلناها من (وذر): بمعنى ترك فهي للفروع فقط، وهذا هو المعروف عند عامة الناس أن الذرية هم الفروع، يعني من نشؤوا عن الإنسان وتركهم بعده. ومما يدل على إطلاق الذرية على الأصول قوله تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41]، فإن الذين حملوا في الفلك هم الذين آمنوا مع نوح وهم سابقون.
وقوله: {بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} .
بعضُها من بعض في جنس الخلقة، أو بعضها من بعض في الآداب والأخلاق والديانات، والظاهر الشمول، يعني أن الآدميين كلهم من جنس واحد، ليس فيه آدمي كان بالأول قردًا كما يقوله إخوان القردة ومن أقروا على أنفسهم بأنهم قردة، فالآدمي أصله آدمي، خلق الله أباه بيده ابتداء، لكن هؤلاء أبوا إلا أن يجعلوا أنفسهم من القرود. فبعضها من بعض في الخلقة من آدم إلى يومنا هذا، لم تتغير الخلقة إلا في قوة الجسم؛ لأن آدم عليه السلام خلق طوله في السماء ستون ذراعًا وعرضه أيضًا -على ما في أحاديث كثيرة حسان- سبعة أذرع
(1)
، وهذا الخلق
(1)
رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، رقم (3326). ورواه مسلم، في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب أول زمرة تدخل الجنة علي صورة القمر، رقم (2834).
قد نقص حتى وصل إلى هذه الأمة وانتهى؛ لأن هذه الأمة هي آخر الأمم. ولا يرد على ذلك أنه في بعض المناطق يكون الجنس البشري ضخمًا وفي بعض المناطق يكون دون ذلك؛ لأن هذا من تغير المناخ والوراثة. كذلك بعضها من بعض: في الآداب والأخلاق والديانات إلا من كان منهم ظالمًا خارجًا عن هذا الأصل؛ فإنه يكون خارجًا بما خرج به.
ختمها بالسمع والعلم، إشارة إلى أن كل ما يقوله هؤلاء المصطفون أو يفعلونه فإنه معلوم عند الله، فهو يسمع ما يقولون، ويعلم ما يفعلون، بل هو يعلم ما لا يفعلون مما يكون في قلوبهم، بل يعلم ما سيفعلونه وإن لم يكن في قلوبهم؛ لأن الله يعلم ما كان وما يكون لو كان كيف يكون.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
بيان أن الله اصطفى هؤلاء المخلوقات على بقية المخلوقات.
2 -
أن الله يختار من خلقه ما شاء كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68].
3 -
أن التفاضل كما يكون في الأعمال يكون في الأعيان، وكما يكون في الأعمال والأوصاف يكون كذلك في الأشخاص، ولهذا نقول: إن جنس العرب أفضل من غيرهم من الأجناس، لكن هذا الجنس الفاضل إذا اجتمع معه التقوى صار له الفضل المطلق، وإن تخلفت التقوى صار معدنه طيبًا وعمله خبيثًا؛ فيزداد
خبثًا لكون أصله طيبًا ثم ارتد بنفسه إلى الخبث؛ لأن من كان أصله طيبًا ثم نزل بنفسه إلى المستوى الأدنى صار أكثر لومًا ممن لم يكن كذلك. ولذلك لو زنت الحرة لجلدت مائة جلدة إن كانت غير محصنة، ورجمت إن كانت محصنة، ولو زنت الأمة لم ترجم ولو كانت متزوجة، ولم تجلد مائة جلدة بل تجلد خمسين؛ لأن هناك فرقًا بين إنسان أصله كريم وشريف ثم يضع نفسه موضع الوضيع، وبين شخص كان في الأصل على خلاف ذلك، ويدل لهذا أي: أن الناس يختلفون في أجناسهم قول الله في كتابه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وقد جعلها الله تعالى في العرب؛ في محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان محمد أطيب الخلق وأشرفهم لزم أن يكون جنس العرب أطيب الأجناس وأفضلها وأشرفها، وهو كذلك. وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:"خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا"
(1)
.
فإن قال قائل: ما الجواب عن قوله تعالي: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
فالجواب: أن نقول: إن الله تعالى أراد أن يمحو ما كان أهل الجاهلية يعتادونه من الفخر بالأحساب، حيث يقول: أنا من القبيلة الفلانية، أنا من القبيلة الفلانية. فبيَّن الله أن هذه الشعوب والقبائل. جعلها الله من أجل التعارف لا التفاخر، وأن فخركم لا يقربكم إلى الله، فالذي يقربكم إلى الله هو التقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
(1)
رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} ، رقم (3374).
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وهذا لا ينافي أن يكون جنس العرب أفضل من غيرهم كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) وأدلته ما سبق.
4 -
ما ذكره بعض أهل العلم من أن الصالحين من البشر أفضل من الملائكة، لقوله:{عَلَى الْعَالَمِينَ} . والملائكة عالم فيكون المصطفون من هؤلاء أفضل من الملائكة، واستدلوا بأدلة أخرى، كأمر الله للملائكة بالسجود لآدم وغير ذلك. وعندي أن البحث في هذه المسألة من فضول العلم؛ لأنه أيُّ فائدة لنا إذا قلنا: إن فلانًا أفضل من جبريل أو جبريل أفضل من فلان، أو إن الصالحين من بني آدم أفضل من الملائكة أو الملائكة أفضل من الصالحين؟ نحن نعلم أن الملائكة مقربون عند الله {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]، وأنهم كرام {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11]، {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11 - 16]، أما أنهم أفضل من الصالحين من بني آدم أو الصالحون من بني آدم أفضل منهم فهذا شيء لم نكلف به. ولذلك لم تأتِ السنة بالتمييز بين هؤلاء وهؤلاء أو بالتفضيل، أعطت لهؤلاء فضلهم ولهؤلاء فضلهم، ولو كان هذا من الأمور التي لابد من اعتقادها ولا يتم الإيمان إلا بها لكان الله ورسوله قد بيَّناه. ولكن إذا ابتلينا بمن يقول: بيِّن أيهما أفضل؟ فنقول: العلماء في ذلك اختلفوا، وجمع شيخ الإسلام رحمه الله بين هذين القولين؛ فقال: إن الملائكة أفضل باعتبار البداية، وصالح
البشر أفضل باعتبار النهاية. كيف هذا؟ نقول: نعم لأن النور أفضل من الطين، والملائكة خلقوا من النور من مادة مشعة مضيئة محبوبة بخلاف الطين، وأما في النهاية فإن الجنة تكون للصالحين من بني آدم ومن الجن على القول الراجح، وقد ذكر الله عز وجل أن الملائكة يدخلون على أهل الجنة من كل باب {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24]، يهنئونهم ويبشرونهم. ومع ذلك فإني أرى أن الإمساك عن هذا أولى.
5 -
بيان أن البشر جنس واحد بعضه من بعض؛ لقوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} .
6 -
الرد على من زعم أن البشر متطور من جنس لآخر، من القردة إلى الآدميين إلى البشر، وجدير بأن نسمي هذا القائل قردًا؛ لأنه رضي لنفسه أن يكون أصله القرد، أما نحن فنقول: إن أصلنا آدم عليه الصلاة والسلام الذي خلقه الله بيده من تراب، وأنه جنس مستقل بنفسه لا متطور.
7 -
إثبات اسمين من أسماء الله وهما: السميع، والعليم، فالسميع يتعلق بالأصوات، والعليم يتعلق بكل شيء بالأصوات والأحوال والأعيان. وأسماء الله عز وجل يتضمن الإيمان بها ثلاثة أشياء إن كانت متعدية، وشيئين إن كانت لازمة. إن كانت متعدية يتضمن الإيمان بها:
الأول: إثباتها اسمًا من أسماء الله.
الثاني: إثبات ما تضمنته من صفة أو استلزمته.
الثالث: إثبات الحكم الناتج عن هذه الصفة.
فمثلًا: الاسم (الخالق)، والصفة المتضمنة:(الخلق)
والمستلزمة: العلم والقدرة، والحكم: أنه يخلق، فهو خالق بخلق.
وكذلك اسم (الرحمن): تضمن الرحمة: صفة، وكونه يرحم: حكم أو أثر.
أما إذا كان لازمًا فإنه لا يتم الإيمان به إلا بإثباته اسمًا من أسماء الله، وإثبات ما تضمنه من صفة، فالحي مثلًا: لا يتعدى لغير الله نثبته اسمًا من أسماء الله، ونثبت ما تضمنه من الصفة وهي: الحياة. هذه هي القاعدة في إثبات أسماء الله وصفاته، إذا طبقنا هذه القاعدة على الاسمين الموجودين معنا. فالسميع يتضمن الإيمان به على أنه اسم من أسماء الله، والإيمان بالصفة التي يدل عليها وهي السمع، والأثر أو الحكم أنه يسمع. وكذلك نقول في (العليم).
* * *
قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} .
يعني: اذكر إذ قالت، وهذا التركيب موجود في القرآن كثيرًا، وإنما حذف العامل لدلالة السياق عليه، وتلك قاعدة
مشهورة عند النحويين أشار إليها ابن مالك في الألفية فقال:
وحذف ما يُعلمُ جائز كما
…
تقول زيد بعد مَنْ عندكما؟
فهنا العامل المحذوف معلوم بالسياق. (اذكر إذ قالت)، اذكر هذه الحال التي صدر فيها هذا القول من امرأة عمران. {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} ، وهي أم مريم يعني جدة عيسى ابن مريم.
وقوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي} .
{رَبِّ} : منادى حذفت منه ياء النداء، وأصله: يا رب، ولكن تحذف ياء النداء فى مثل هذا التركيب اختصارًا لكثرة استعماله، وحذف منه ضمير المتكلم (الياء) تخفيفًا، وأصله:(ربي).
قولها: {نَذَرْتُ} : بمعنى التزمت أن يكون ما في بطني محررًا من خدمتي ليكون خادمًا للمسجد الأقصى، وكان من عادتهم أن يفعلوا ذلك؛ أي أن الإنسان منهم ينذر ولده ليكون قائمًا بخدمة المسجد الأقصى تعظيمًا له.
وقولها: {مَا فِي بَطْنِي} ، (ما) اسم موصول يفيد العموم، فيشمل ما لو وضعت واحدًا أو اثنين ذكرًا أو أنثى.
فإذا قال قائل: كيف تقول: إنه يشمل ما لو وضعت اثنين وهي تقول: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} ، ومحررًا واحد، ولم تقل: محررَيْن.
فالجواب: أن الأسماء الموصولة المشتركة: أي التي تصلح للمفرد وغيره يجوز فيها مراعاة بالإفراد، ومراعاة معناها بالإفراد إن كان المراد بها المفرد، والتثنية إن كان المراد بها
المثنى، والجمع إن كان المراد بها الجمع، مذكرًا كان أو مؤنثًا. وعليه فلا يمنع أن يكون قولها:{مُحَرَّرًا} ، شاملًا لما تضعه ولو كانوا أكثر من واحد؛ لأنه أفرد باعتبار اللفظ.
وقولها: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي} ، يعني تقبل مني هذا التقرب إليك، بنذر هذا الحمل الذي نذرته ليقوم بخدمة بيتك.
{إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
هذه الجملة استئنافية للتعليل؛ يعني أني سألتك أن تتقبل مني لأنك السميع العليم.
{السَّمِيعُ} يشمل هنا سمع الإدراك وسمع الإجابة؛ يعني أنك تسمع دعائي وتستجيبه، و (سمع) تأتي بمعنى استجاب كما في قول المصلي:"سمع الله لمن حمده" أي استجاب.
وقولها: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يعني السامع لدعائي المستجيب له، العليم بما يكون صالحًا، وبكل شيء. لكن ذكر العلم هنا لأن الإنسان قد يسأل الشيء وليس من صالحه حصوله، فيسند الأمر إلى علم الله عز وجل. ومن المعلوم أن الداعي إذا دعا فإنه يحصل له واحد من أمور ثلاثة: إما أن يستجيب الله له الدعاء، وإما أن يدَّخر ذلك له يوم القيامة فيعطيه مثل ما دعا به، وإما أن يصرف عنه من السوء ما هو أعظم. هذا بالإضافة إلى أن الدعاء نفسه عبادة يثاب عليها الإنسان.
وقوله: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} .
ولم يقل: فلما وضعته؛ مراعاة للمعنى؛ لأنها وضعت أنثى، فلما وضعتها وكانت قد نذرته محررًا بناءً على أنه ذكر، لما وضعتها اعتذرت لربها.
{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} .
وهذا اعتذار منها إلى الله أنها وضعتها أنثى، والأنثى ليس من العادة أن تخدم المسجد، فكأنها تعتذر إلى الله عز وجل من هذا النذر.
قال: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} .
وفي قراءة سبعية: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ} .
فعلى قراءة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ} بضم التاء تكون الجملة من باب الاحتراس، حتى لا يظن أنها تعتقد أن الله لم يعلم. فقالت:{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} ، فلستُ أخبر الله بأمر يخفى عنه، بل إني أؤمن بأنه عالم بما وضعتُ، أما على قراءة (السكون){وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} فالكلام من الله، وفيه دفاع عن هذه المرأة بأن الله تعالى يعلم أنها لم تقل:{إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} إخبارًا منها لله؛ لأنه سبحانه وتعالي زكاها بقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} ، هذا من وجه، ومن وجه آخر ليبيِّن عز وجل أن قولها:{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} لا يعني أن الله لا يعلم بما وضعت بل هو عالم.
و{أَعْلَمُ} اسم تفضيل يدل علي أن المفضل زائد على المفضل عليه في هذا الوصف، كما لو قلت: فلان أكرم من فلان؛ معناه أن هذا المفضل وهو فلان زائد في الكرم على المفضل عليه. فـ (أعلم) هنا يعني: أعلم من كل أحد بما وضعت، ففيه إثبات العلم لله عز وجل مع الزيادة، وبهذا التقرير نعلم ضعف قول من قال: إن اسم التفضيل هنا بمعنى اسم الفاعل، وأن معنى قوله:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} أي: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
وضعت)، فإن هذا القول لا شك قصور في تفسير كلام الله؛ لأن إثبات العلم بلا تفضيل أنقص من إثبات العلم مع التفضيل؛ لأنك إذا قلت: فلان عالم لا يمنع أن يكون غيره مساويًا له في العلم. لكن إذا قلت: فلان أعلم من فلان صار فاضلًا غيره في العلم وغيره مفضول. ولا أعلم -سبحان الله- كيف يفر بعض العلماء من إثبات المفاضلة بين الله سبحانه وتعالى وبين خلقه، مع أن المفاضلة لا تدل على أي نقص، بل اللفظ الذي يقتضي المشاركة هو الذي قد يحتمل النقص والمماثلة، لكن اللفظ الدال على المفاضلة ليس فيه نقص بوجه من الوجوه، فالله أعلم من كل أحد سواء كان هذا العلم مقيدًا أو مطلقًا.
وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (ما): اسم موصول، والعائد ضمير مفعول به محذوف، أي: بما وَضَعَتْهُ أو بما وَضَعْتُهُ على القراءتين.
قال الله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} .
ليس الذكر كالأنثى، هل هذا من كلامها أو من كلام الله؟
أما على قراءة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} فالظاهر أن كونه من كلام الله أرجح؛ لأن قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} من كلام الله، أما على قراءة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ} فإن كونه من كلامها أرجح لئلا تتشتت الجمل.
وفي هذه الجملة بيان أن الذكر لا يماثل الأنثى، وكأن الإنسان يحدث نفسه ويقول: إن مقتضى الحال أن تكون العبارة: (وليس الأنثى كالذكر)؛ لأن العادة أن الأدنى هو الذي يشبه بالأعلى، فهنا:(ليس الأنثى كالذكر) أقرب إلى بادي الرأي من
{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} ، ولهذا ادعى بعض العلماء أن في التشبيه قلبًا؛ والتشبيه المقلوب أسلوب من أساليب اللغة العربية، ولاسيما عند الشعراء في العصور الوسطي، حتى بالغ بعضهم في التشبيه المقلوب فيقول:
وبدا الصباح كأن غرته
…
وجه الخليفة حين يمتدح
فالصباح الذي يملأ الأفق ويضيء الدنيا، كأنَّ غرته -بياضه- وجه الخليفة إذا امتدح، هذا من المبالغة الكريهة في الواقع. وقال بعضهم: إنه تشبيه على أصله ووضعه: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} وشرف الذكر على الأنثى يعلم من أدلة أخرى، ومن قرائن أخرى، ولكن ليس الذكر في خدمته لبيت المقدس كالأنثى.
وإذا انتفت مساواة الذكر للأنثى انتفت مساواة الأنثى للذكر؛ لأن التساوي يكون بين شيئين، فإذا انتفت المساواة في أحدهما لزم أن تكون منتفية في الآخر. فلا مساواة بين الذكر والأنثى بل لكل واحد منهما ميزاته وخصائصه، فالأنثى تفوق الرجل في شيء، والرجل يفوق الأنثي في شيء. لكن الغالب أن الصالح لخدمة المساجد هو الرجل؛ لأنه أقوى وأذكى وأعقل وأدوم في العمل. والأنثى إذا حاضت مثلًا لا تستطيع أن تخدم المسجد؛ لأنها سوف تخرج منه ولا تجلس، هذا إذا كانت شريعتهم كشريعتنا، وأيضًا الأنثى لا تتحمل من الأعمال ما هو شاق بل هي أضعف من الرجل، وإن كانت قد يكون عندها من الجلد والصبر أكثر مما عند الرجل في معاناة الأشغال لا في معاناة المصائب، فإن المرأة في معاناة المصائب أدنى بكثير من الرجل كما هو معروف.
وقوله: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} .
تقولها أمها، وهذا الاسم إما أن يكون مشهورًا عندهم أو أنها اختارته لأمر يريده الله عز وجل، وهذه قضية عين، والله أعلم ما هو السبب أنها اختارت هذا الاسم.
قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} .
{أُعِيذُهَا} : أي أستجير بك لها؛ لأن الاستعاذة معناها الاستجارة من أمر مكروه، ولهذا نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ونستعيذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال. قالوا -أي أهل اللغة-:(العياذ من المكروه، واللياذ في رجاء المحبوب) وأنشدوا على ذلك قول الشاعر:
يا من ألوذ به فيما أؤمله
…
ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره
…
ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
وهو يخاطب ملكًا من الملوك، وهذا الوصف لا يليق إلا بالله عز وجل. لكن الشعراء يتبعهم الغاوون.
إذن {أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ، يعني أستجير بك لها من الشيطان الرجيم، والشيطان هو أبو الجن كما قال الله تعالى:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50]، وهنا نقول: شيطان من شطن أو من شاط، قولان: فمنهم من قال: إنه من شطن أي بَعُدَ، ومنهم من قال: من شاط أي غضب؛ لأن طبيعة الشيطان الغضب والسرعة وعدم التأني، وهو أيضًا قد بَعُدَ من رحمة الله، ولكن الظاهر أنه من شطن، وأن النون أصلية، ولذلك لا يمنع من الصرف.
وقولها: {الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ، الرجيم: بمعنى المرجوم، وأصل الرجم القذف بالحجارة؛ ومنه: رجم الزاني، وعلى هذا فيكون في الكلام استعارة، أي أننا استعرنا الرجم بالحجارة الدال على إبعاد المرجوم للمُبْعَد المطرود. فالرجيم هنا: فعيل بمعنى مفعول؛ أي مطرود مبعد عن رحمة الله عز وجل، ومن العلماء من قال: إن الرجم يأتي بمعنى الطرد حقيقة لا استعارة، وإنما استعاذت بالله لها من الشيطان الرجيم؛ لأن الشيطان الرجيم مبعد عن رحمة الله، والمبعد عن الرحمة يريد أن يبعد كل إنسان عن الرحمة لاسيما بنو آدم؛ لأن بني آدم أعداء للشيطان، قال تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] فهو عدو، والعدو لا يريد من عدوه إلا ما فيه هلاكه، ولهذا استعاذت بربها عز وجل لهذه الأنثى من الشيطان الرجيم لئلا يغويها ويضلها، قال الله تعالي:{وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60].
وقوله تعالى: {وَذُرِّيَّتَهَا} .
لم يكن لها ذرية إلا عيسى ابن مريم، وهل لعيسى ذرية؟ الله أعلم، قد يكون له ذرية، وقد لا يكون، لكن مهما كان هي قالت:{وَذُرِّيَّتَهَا} بناءً على الأصل والغالب أن الأنثى تتزوج ويكون لها ذرية، ولكن الله عز وجل أراد لهذه المرأة شيئًا آخر.
قال الله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} .
تقبل: قال أهل اللغة: بمعني قَبل، ولهذا قال:(قبول)
والمصدر الموافق لتقبل (تقبلًا)، أما (قبول) فهو في هذا الموضع اسم مصدر وليس بمصدر كقوله:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17]. ولم يقل: إنباتًا، لكن هل تَقَبَّلَ وقَبِل بمعنى واحد أو أن في تقبَّل شدة عناية ومبالغة؟ قولان: قيل: إن تَقَبَّل بمعنى قَبِل كتعجَّب بمعنى عجب، وتبرَّأ بمعنى برئ، تقول: تبرأ من فلان بمعنى برئ منه، والقول الثاني: أن تَقَبّل أبلغ من قَبل، وذلك أن الغالب أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ففيها شدة العناية والمبالغة.
وقوله تعالى: {رَبُّهَا} ، الربُّ: بمعنى الخالق، المالك، المدبر، فإذا أضيفت الربوبية لله فهذا معناها، أنه الخالق فلا خالق غيره، والمالك فلا مالك غيره، والمدبر فلا مدبر غيره، وهذا النفي باعتبار الإطلاق فلا خالق على سبيل الإطلاق إلا الله، وإذا أضيف الخلق إلى غيره فإنما هو باعتبار التغيير والتصيير لا باعتبار الأصل. فخلق الباب من الخشبة ليس أصليًا بل هو تغيير وتصيير، صيَّر الخشبة بابًا فقال: خلقهُ، لكن أصل هذا الخشب إنما خلقه الله عز وجل، ولا يستطيع أحد من الخلق أن يخلق خشبة واحدة ولا غصن شجرة. فالمالك على الإطلاق هو الله، وإضافة الملك لغير الله إضافة جزئية، وإلا فقد قال الله تعالى:{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]، فأضاف الملك إلى الإنسان، وقال تعالى:{أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61]، فأضافه أيضًا إلى الإنسان؛ لكن هذا ملك مقيد غاية التقييد. والمدبر كذلك، فالتدبير على إطلاقه هو لله عز وجل، أما الإنسان فإنه وإن أضيف إليه التدبير فهو تدبير خاص محصور على
كل حال. وربوبية الله نوعان: عامة، وخاصة {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم: 65] هذه عامة، الخاصة مثل:{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 122]، وهنا {رَبُّهَا} من الخاصة. واعلم أن كل خاص من الربوبية والمعية والسمع والبصر وما أشبه ذلك مما قال العلماء إنه ينقسم إلى عام وخاص، أن الخاص يتضمن العام ولا عكس. فكل من كان الله ربه وجه الخصوص فهو ربه على وجه العموم، وكل من كان الله معه على وجه الخصوص فهو معه على وجه العموم، وكل من سمعه الله على وجه الخصوص فقد سمعه على وجه العموم، وهلم جرًّا. وهنا أضاف الربوبية إلى مريم؛ لأنه عز وجل تقبلها هذا القبول الحسن.
وقوله تعالى: {بِقَبُولٍ حَسَنٍ} .
والقبول الحسن من الله أنه سبحانه وتعالى يسَّرها لليسرى وسهَّل أمرها وجعلها من خيرة نساء العالمين، حتى ألحقها بالرجال في صلاحها، فقال:{فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12]، وتأمل أنه قال: من القانتين، ولم يقل: من القانتات؛ لأنه كما جاء في الحديث: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا قليل"
(1)
.
وقوله: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} ، يعود إلى المعنى، وقد يعود إلى الحس، فالمعنى: أنبتها نباتًا حسنًا يعني في كمال
(1)
رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا
…
} رقم (3411). ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، رقم (2431).
الآداب والعفة والحشمة وغير ذلك، وقد يكون أنبتها نباتًا حسنًا باعتبار الجسم؛ يعني أنه نماها تنمية جيدة، لم يتعثر فيها جسمها، حتى إن بعضهم -ولعلها من الإسرائيليات- قال: إنها تنمو في العام ما ينموه غيرها في عامين، والله أعلم.
{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} .
هذا أيضًا من التيسير أن الله يسَّر لها من يكفلها من الرسل، ولا شك أن الإنسان إذا كان عنده كافل مستقيم صالح كان هذا من أسباب صلاحه واستقامته، وإذا كان عند فاسق كان بالعكس. ولهذا قال العلماء: لا يجوز أن يترك الطفل المحضون بيد شخص لا يصونه ولا يصلحه.
وقوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ، هذه القراءة المعروفة التي في المصحف. وتكون (كفَّل) ناصبة لمفعولين. أحدهما: هاء، والثاني: زكريا، وهذا الفعل من أخوات (كسا).
وفيه قراءة (كَفَّلَها زكرياءَ) والفرق بينهما أن القراءة الأولى بألف مقصورة، والثانية: بألف ممدودة. وفيها قراءة ثالثة (وكَفَلَهَا زكريا)، (كَفَلَهَا) على أن زكريا فاعل، وفيه قراءة رابعة (وكَفَلَهَا زكرياءُ) على أنه فاعل أيضًا، لكن الفرق بين هذه والتي قبلها القصر والمد، فصارت زكريا تمد وتقصر، وكَفَل تخفف وتشدد، والإعراب على حسب الوضع.
ومعنى (كَفَلَها) أي صار كافلًا لها؛ وكَفَّلها: أي جعل كفيلها زكريا.
وقوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} فيها القراءتان في زكريا.
و {الْمِحْرَابَ} المحراب مِفْعال من الحرب، وهو مكان العبادة، وليس المحراب هو طاق القبلة كما هو عند الناس، ورأيت في بعض المساجد مكتوب على طاق القبلة على القوس {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} ، يجعلون الإمام مريم وهم لا يشعرون، ويخطئون أيضًا في المعنى؛ لأن المحراب مكان العبادة سواء كان طاقًا أو مربعًا أو حجرة، ولهذا قال الله تعالى فى قصة داود:{إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] وسمي بذلك لأن المتعبد فيه يحارب الشيطان.
وهي امرأة منقطعة للعبادة دائمًا في محرابها ويجد عندها رزقًا؛ والرزق هنا ما يقوم به البدن، يعني رزقًا تأكله ليقوم بدنها وتحفظ حياتها. قال بعض المفسرين -وهو من الإسرائيليات- يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، وهذا لا داعي له، فإنه إذا وجد عند فاكهة الصيف في الصيف، وفاكهة الشتاء في الشتاء وهي امرأة متعبدة منقطعة للعبادة؛ فهو آية.
{قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} .
أي: من أين لك هذا؟ وخاطبها بقوله: يا مريم، إشارة إلى أنها في حال لا تقتضي أن يكون عندها ذلك؛ لأنها امرأة لا تكتسب منقطعة للعبادة، والمنقطع للعبادة ولو كان ذكرًا لا يتيسر له الرزق. ولهذا نادها باسمها قال: يا مريم؛ يعني انتبهي أيتها الأنثى كيف يجيئك هذا الرزق {أَنَّى لَكِ هَذَا} ، فكان جوابها جوابًا عجيبًا {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، وكلمة {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لا
يلزم أن يكون الله تعالى ينزلها من السماء إليها، بل قد يكون ذلك بتسخير الله لها من يأتي لها بذلك الرزق، ولا يلزم أن يكون ينزل من السماء أو يأتي به جبريل.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
الرزق: بمعنى العطاء؛ والعطاء ينقسم إلى قسمين: عطاء كوني، وعطاء شرعي.
فالعطاء الكوني: ما يرزق الله به الإنسان والحيوان، الحلال والحرام، لا يختص بالمؤمنين ولا بالطيب من الرزق.
والعطاء الشرعي: وهو ما يعطاه المؤمن من الرزق الحلال، فهو الرزق الخاص الذي ليس فيه تبعة، ويشمل أيضًا العطاء الشرعي ما ثبت إعطاؤه بمقتضى الشرع كإعطاء الفقراء من الزكاة مثلًا، وإعطاء الغانمين من الغنيمة، فهذا عطاء وإيتاء شرعي، ودليله قوله تعالى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 59 - 60].
وقوله: {مَنْ يَشَاءُ} ، فالرزق لا يكون إلا بمشيئة الله، وهي مربوطة بالحكمة، يعطي من يشاء لحكمة، ويمنع من يشاء لحكمة، والدليل على أن كل ما أثبت الله فيه المشيئة فهو مقرون بحكمة، قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30].
وقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، أي بغير مكافأة، يُطعِم ولا يُطْعَم، يَرزُق ولا يُرْزَق، {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 57، 58]، بخلاف غيره، فإنه قد يُعْطي ليُعْطى، أما الله عز وجل فإنه يعطي لا ليعطى بل يرزق بغير حساب. وأما الحساب ما أعطاه الله من الرزق من أين اكتسبه وفيم أنفقه وما أشبه ذلك، فإن هذا سوف يكون، قال الله تعالى:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، يعني لا يحاسب خلقه ليكافئوه، ولكن يحاسبهم لينظر أو ليعلم عز وجل ماذا أنفقوا فيما أعطاهم.
من فوائد الآيات الكريمة:
من فوائد قوله عز وجل: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
1 -
تعظيم هذه القصة؛ لأن الله أمر رسوله أن يبيِّنها للناس إذ إن التقدير (اذكر إذ قالت امرأة عمران).
2 -
جواز النذر في الأمر المجهول؛ لقولها: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} ، ينبني على ذلك أن يقول القائل: لله علي نذر أن أتصدق بما في بطن هذه الشاة أو هذه الناقة، وينفذ النذر.
3 -
جواز تصدق المرأة بدون إذن زوجها، ووجهه: أنها نذرت تحرير هذا الولد بدون إذن الزوج.
فإن قال قائل: ما دليلكم أنه بدون إذن زوجها، أفلا يمكن أن تكون استأذنت؟
الجواب: بلى، لكنه لم يذكر.
فإن قال قائل: عدم الذكر ليس ذكرًا للعدم، فرق بين أن أسكت عن الشيء وبين أن أنفي الشيء، نفي الشيء ذكر لعدمه، لكن السكوت عنه ليس ذكرًا لعدمه.
قلنا: نقول: هذا ليس في كل مكان، بل نقول: هذا فيما إذا كان هناك نصوص عامة ثم ادعى أحدٌ إخراجها أو تقييدها أو ما أشبه ذلك. هذا هو الذي نقول له: عدم الذكر ليس ذكرًا للعدم، وأما إذا جاءت قصة مرسلة ولم يذكر فيها قيود فالأصل عدم القيد. وقد جاءت الشريعة الإسلامية مؤيدة لهذا؛ أي أن المرأة تتصرف في مالها، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما خطب النساء يوم العيد وقال:"يا معشر النساء، تصدقن"، فجعلن يلقين من الخواتم والخروص في ثوب بلال
(1)
. ومن القرآن قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]، طبن: أي: النساء. إذن المرأة حرة تتصرف وليس لزوجها أن يمنعها من أي تصرف شاءت، اللهم إلا في مسألة واحدة قد يقال إنه يمنعها من التصرف مثل أن يشتري لها حليًّا وثياب زينة تتجمل بها له، فهنا ربما نقول: إن له أن يمنعها من التصرف في هذه الثياب وهذا الحلي من بيع أو هبة؛ لأن ذلك يضر بمقصوده.
4 -
أن الولد يخدم والده من أم أو أب؛ لأنها قالت: {مُحَرَّرًا} يعني محررًا من الخدمة بحيث لا أستخدمه ولا أستغل حياته.
(1)
رواه البخاري، في كتاب الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، رقم (1466).
5 -
طرد الإعجاب بالنفس؛ وذلك بأن الإنسان إذا عمل عملًا لا يُدِلُّ به على الله يقول: أنا عملت وأنا عملت، بل يعمل ويشعر أنه مفتقر إلى الله عز وجل في قبول ذلك العمل، ولهذا قالت:{فَتَقَبَّلْ مِنِّي} ، وقال إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]، والإنسان إذا علم أنه مفتقر إلى ربه عز وجل في العمل وفي قبول العمل زال عنه الإعجاب، وإذا زال عنه الإعجاب صار حريًّا بأن الله تعالى يقبل منه ويثيبه.
6 -
إثبات اسمين من أسماء الله وهما: السميع، والعليم، والسميع يكون بمعنى استجابة الدعاء وبمعنى إدراك المسموع، والعليم هو: إدراك الشيء على ما هو عليه.
1 -
أن الأم تتكلف الحمل كما يشعر به كلمة (وضعتها) أنها حاملة لها، وهو كذلك لا شك أنها تتكلف الحمل، وإذا قدَّرنا أن هذا الطفل الذي في بطنها سيبقى تسعة شهور وهي حاملة له في بطنها، في أرق ما يكون من البدن، قائمة وقاعدة ومستيقظة ونائمة، فماذا نتصور من التعب؟ ولهذا قال الله تعالى:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15]، وقال:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14]، ثم مع ذلك هذا الطفل فى البطن يتحرك وهي تحس به، ولولا لطف الله بعباده ما استطاعت أن تحمل هذا ولكن الله عز وجل يعينها. فيتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى وهي:
2 -
عظم حق الأم على ولدها؛ لأن من أحسن إليك وأتعبته كان أحق الناس ببِرك، ولهذا جعلها النبي عليه الصلاة والسلام أحق الناس بحسن الصحبة.
3 -
اعتذار الإنسان عند ربِّه إذا وقع الأمر خلاف ما أراد؛ لقوله: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} ، فإن هذا شبه اعتذار لقولها:{إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} ، والأنثى لا تخدم المساجد عندهم فلهذا اعتذرت.
4 -
التوسل إلى الله تعالى بربوبيته.
5 -
أنه من تمام البلاغة الاحتراز عن كل موهم لأمر خطأ، سواء كان في المقال أو في الفعل؛ لقوله:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ} على قراءة الضم.
والمقال كما هنا، وفي الفعال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بصفية رضي الله عنها يقابلها حين جاءت إليه وهو معتكف وتحدثت معه، فقامت لتخرج بالليل فخرج بها عليه الصلاة والسلام وإذا برجلين من الأنصار يمران فأسرعا، فقال لهما عليه الصلاة والسلام:"على رسلكما إنها صفية بنت حيي"، فقالا: سبحان الله، ثم قال:"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خفت أن يقذف في قلوبكما شرًّا -أو قال: شيئًا-"
(1)
. لا شك أن أبعد الناس عن سوء الظن هو الرسول صلى الله عليه وسلم ولاسيما من أصحابه، لا يمكن أن يظنوا به سوء الظن، ومع ذلك خاف
(1)
رواه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد، رقم (2035). ورواه مسلم، كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رُئي خاليًا بامرأة، رقم (2175).
أن الشيطان يلقي في قلوبهما شرًّا أو شيئًا. ولهذا ينبغي للإنسان أيضًا أن يدرأ الغيبة عن نفسه ما استطاع، لا يقول: أنا لا أبالي بالناس "حسبنا الله ونعم الوكيل" هذا طيب، لكن افعل الأسباب التي تدرأ عنك الشر حتى لا يظن الناس بك سوءًا.
6 -
إثبات التفضيل في أوصاف الله من قوله: {أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} خلافًا لمن منع ذلك وفسَّر أعلم بـ (عالم).
7 -
أنه لا يستوي الذكور والإناث {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} لا في الطبيعة ولا في الأخلاق ولا في المعاملة، بل ولا في الأحكام في بعض الأحيان؛ فالذكر ليس كالأنثى، وإذا كان الذكر ليس كالأنثى، فالأنثى أيضًا ليست كالذكر.
8 -
تسمية المولود حين يولد؛ لقولها: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} وهذا هو السنة، أن يسمّى الإنسان حين يولد إلا إذا لم يتهيأ الاسم فإنه يسمى في اليوم السابع، وبهذا تجتمع الأدلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ولد إبراهيم قال:"ولد لي الليلة ولد وسميته إبراهيم"
(1)
. وفي حديث العقيقة قال: "تذبح يوم سابعه، ويحلق ويسمى"
(2)
فيكون الجمع أن من كان مهيأ الاسم قبل الولادة فالأفضل أن يسميه حال الولادة، ومن لم يهيأ فالأفضل أن يؤجله إلى اليوم السابع.
(1)
رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال، رقم (2315).
(2)
رواه أبو داود، كتاب الضحايا، باب في العقيقة، رقم (2837، 2838). ورواه الترمذي، كتاب الأضاحي، باب العقيقة بشاة، رقم (1522). ورواه النسائي، كتاب العقيقة، باب متى يعق، رقم (4220).
9 -
في قوله: {سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} دليل على التصدق الفضولي.
10 -
مشروعية إعاذة الإنسان أبناءه بالله عز وجل من الشيطان الرجيم ومن شر الخلق؛ لقولها: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .
11 -
جواز الدعاء للمعدوم من قوله: {وَذُرِّيَّتَهَا} ؛ لأن ذريتها لم تأتِ بعد، فيجوز أن يقول:(أصلحك الله وذريتك)(وغفر الله لك ولذريتك) وما أشبه ذلك.
12 -
أن الشيطان عدو لبني آدم حيث يطلب الإنسان من الله عز وجل أن يعيذه منه.
13 -
بيان قدرة الله سبحانه وتعالى على كل شيء، ومن ذلك الإجارة من الشيطان وإلا لكان الاستعاذة به من الشيطان عبثًا.
1 -
أن الله عز وجل سميع، قريب، مجيب؛ لأنها دعت فسمعها الله، ولأنها دعت فأجابها الله، وفي القرآن الكريم:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
2 -
أن الله عز وجل منَّ على هذه الطفلة بشيئين: بالقبول
الحسن، والنبات الحسن؛ فصار في ذلك تنمية لأخلاقها ولجسمها وبدنها.
3 -
أن تطور الإنسان في حياته بأمر الله؛ لقوله: {وَأَنْبَتَهَا} ، وما الغذاء والعناية بالطفل إلا سبب، والله تعالى هو المسبب، وهو المكوِّن للإنسان والمنُبت له.
4 -
أن الله عز وجل قد ييسر للإنسان من يكفله من أهل الخير، فيكون ذلك من أسباب إعاذته من الشيطان الرجيم، لقوله:{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} .
5 -
إثبات الحضانة للطفل؛ لقوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} .
6 -
أن هذه الطفلة صارت من العابدات القانتات؛ لقوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} .
7 -
أن الله عز وجل قد ييسر للإنسان من الرزق ما لا يكون في حسبانه؛ لقوله: {قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} .
8 -
أن لكل ضعف لطفًا، فهذه المرأة الضعيفة التي منَّ الله عليها بالاشتغال بالعبادة يسَّر الله لها من يأتيها بالرزق.
9 -
أن الأشياء تضاف إلى الله وإن كان لها سبب؛ لقوله: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
10 -
أن الأنبياء لا يعلمون الغيب؛ لقوله: {يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} .
11 -
إثبات أن الله عز وجل يرزق بغير مكافأة ولا انتظار لمكافأة؛ لقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
• ثم قال عز وجل: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 38 - 39].
{هُنَالِكَ} : هذا اسم إشارة إلى المكان. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب؛ يعني في ذلك الزمن، والإشارة هنا يحتمل أن تكون للزمن أي في ذلك الزمن، ويحتمل أن تكون للمكان، أي في المكان الذي هو محراب مريم.
{دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} ، وزكريا: فيها قراءتان، المد والقصر على ما سبق.
{قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} .
{هَبْ لِي} : أي أعطني، والهبة: هي التبرع بالشيء بلا عوض، لكن قال العلماء: إن هناك هبة، وهدية، وصدقة.
فالصدقة: ما أريد به ثواب الآخرة.
والهدية: ما أريد به التودد والتقرب بين المهدي والمهدى إليه.
والهبة: ما قصد به مجرد انتفاع الموهوب له.
وهنا قال: {رَبِّ هَبْ لِي} ، أي أعطني عطاء بلا ثمن.
{مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَة} .
{مِنْ لَدُنْكَ} : أي من عندك، وأضاف العندية إلى الله عز وجل ليكون أبلغ وأعظم، لأن هدية الكريم أكرِم. وقوله:{ذُرِّيَّةً} بمعنى مذروءة، أي: مخلوقة، وقوله:{طَيِّبَةً} أي طيبة في أقوالها وأفعالها، وكذلك في أجسامها، فهو متناول للطيب الحسي والطيب المعنوي.
{إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} .
أي مجيبه، والدعاء: هو سؤال العبد ربَّه حاجته إما بجلب منفعة وإما بدفع مضرة.
قال: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} .
وفي قراءة: فناداه الملائكة؛ لأن الملائكة جمع تكسير، وجمع التكسير يجوز فيه التذكير والتأنيث.
ويمكن أن يراد بالملائكة واحد وهو جبريل (ناداه)، وعبر عنه بالجمع باعتبار الجنس؛ لأنه واحد منهم.
وقوله: {وَهُوَ قَائِمٌ} .
جملة في محل نصب على الحال، من الضمير:(الهاء) في قوله: (نادته)، وقوله:{يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} ، المحراب: مكان الصلاة أو مكان العبادة، وسمي بذلك؛ لأنه مكان حرب الشياطين، فإن العبادة حرب للشياطين كما سبق.
{أَنَّ} فيها قراءتان: قراءة بالفتح، وقراءة بالكسر، فأما على قراءة الكسر (إن الله). فلأن النداء قول، ومقول القول إذا صُدّر (بإن) يجب فيه كسر إن، كقوله تعالي:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30]. وأما على قراءة الفتح فهي على تقدير حرف الجر: (فنادته الملائكة بأن الله يبشرك)، ببشري الله تعالي بهذا الابن (يحيى).
أيضًا في قوله تعالى: {يُبَشِّرُكَ} قراءتان: يبْشُرُك، يُبَشِّرُك. وكلاهما سبعيتان. والبشارة هي الإخبار بما يسر، وسميت بذلك لتأثر البشرة بالخبر؛ لأن الإنسان إذا بُشِّر بما يسره يفرح ويظهر
ذلك على وجهه، ألم تر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل مجزز المدلجي على أسامة بن زيد وزيد بن حارثة وعليهما كساء لم يبد منه إلا أقدامهما، فنظر إلى أقدامهما وقال: ان هذه الأقدام بعضها من بعض، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام على عائشة تبرق أسارير وجهه، تأثر بالخبر السار
(1)
. ولهذا الإخبار بما يسوء بشرى؛ لأن البشرة تتأثر بذلك، ومنه قوله تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]، وقوله تعالى:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 138].
قال الله تعالى: {بِيَحْيَى} .
(بيحيى) هذا المبشر به، ويحيى: قيل إنه من الحياة والله سماه بذلك إشارة إلى أنه سيحيا ويبقى، وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل.
وقوله: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا} .
{مُصَدِّقًا} : حال من يحيى. {بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} : هو عيسى ابن مريم يعني مصدقًا بعيسى؛ لأن عيسى كلمة من الله، وسمي بذلك لأنه كان بكلمة الله ولم يكن من أب كما يكون البشر، قال الله تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]. خلقه: أي آدم من تراب، ثم قال له: كن فيكون، ولهذا سمي عيسى بالكلمة؛ لأنه كان بكلمة الله وليس هو كلمةَ الله؛ لأن كلمة الله وصف لله عز وجل، فالكلام وصف للموصوف، ولا يمكن أن يكون
(1)
رواه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (3555). ورواه مسلم، كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد، رقم (1459).
وصف الله عينًا بائنة منه
(1)
.
وقوله: {مِنَ اللَّهِ} ، بيان لابتداء الأمر وليست للتبعيض، فالكلمة هنا ليست بعضًا من الله بل منشؤها منه.
{وَسَيِّدًا} معطوفة على {مُصَدِّقًا} فتكون منصوبة على الحال، والسيد مَنْ ساد غيره وشرف عَليه بالعلم والدين والخلُق والمعاملة، وقولنا الخلق: يشمل كل خلق يسود به الإنسان غيره من الجود والشجاعة والإيثار وغير ذلك، فيكون جامعا لصفات الكمال الممكنة في المخلوق. وكذلك أيضًا قال في وصفه {وَحَصُورًا} حصورًا معطوفة على {مُصَدِّقًا} فهي منصوبة على الحال، (حصورًا) فعول بمعنى فاعل أي حاصرًا نفسه عن أراذل الأخلاق، فيكون هذا المبشر به موصوفًا بصفات الكمال الدال عليها قوله:{سَيِّدًا} ومبرَّأً من النقص وسوء الأخلاق الدال عليه قوله: (حصورًا)، فيكون جمع له بين النفي والإثبات، وذلك لأن الإنسان لا يكمل إلا بوجود صفات الكمال وانتفاء صفات النقص، وهو أمر نسبي.
وأما من قال من المفسرين: إن الحصور هو الممنوع عن إتيان النساء يعني لا يستطيع على النساء؛ فإن في هذا نظرًا واضحًا؛ لأن عدم قدرة الإنسان علي النساء ليس كمالًا إذ إن ذلك ليس منه بتخلق ولكنه عيب. وفيها قول آخر: أنه لا يأتي من النساء من لا تحل له فيكون وصفًا له بكمال العفة، وهذا يمدح عليه الإنسان. لكن ما قلناه أشمل من هذا القول. ومعلوم أنه إذا وجد معنى أشمل فهو مقدم على المعنى الأقل؛ لأن الأقل داخل في الأشمل لا العكس.
(1)
انظر كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد 1/ 73.
{وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} .
هذه معطوفة أيضًا على {مُصَدِّقًا} ، فهو مصدق ونبي، ولا يلزم من تصديقه بعيسى أن يكون تابعًا له، فهاهو محمد عليه الصلاة والسلام مصدق بجميع الأنبياء وهم يتبعونه ولا يتبعهم، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:"لو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتِّباعي"
(1)
، ولهذا صار إمامًا لهم ليلة المعراج، وإذا نزل عيسى في آخر الزمان يحكم بشريعة النبي عليه الصلاة والسلام. المهم أن تصديقه لعيسى ابن مريم لا ينافي أن يكون نبيًّا، فهو نبي مصدق بالأنبياء، ولهذا قال:{وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} ، وقوله:{مِنَ الصَّالِحِينَ} أي: من جملتهم، وإنما قلنا ذلك لأن النبوة وصف أعلى من الصلاح، لكن هو في جملة الصالحين، فالنبوة صلاح وزيادة. والدليل على ذلك قوله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، فالصالحون في المرتبة الرابعة.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
من فوائد قوله عز وجل: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} .
1 -
أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله، حتى الأنبياء لا يستغنون عن دعاء الله؛ لقوله:{دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} .
(1)
رواه أحمد في مسنده (14220) بلفظ: "لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني".
2 -
إثبات القياس؛ لأنه لما رأى أن الله يرزق هذه المرأة بدون سبب معلوم علم أن الذي يسوق لها الرزق وهي امرأة منقطعة عن التكسب في محرابها قادر أن يرزقه، فيكون الانتقال من الشيء إلى نظيره، وهذا هو نفس القياس؛ إذن هو استدل أو أخذ من هذه القصة عبرة وهو أن يسأل الله أمرًا وإن كان مستبعدًا.
3 -
أن الصيغة التي يتوسل بها غالبًا في الدعاء هي اسم الرب لقوله (ربه)، ولم يقل:(الله)، ولهذا تجدون أكثر الأدعية مصدرة بالرب؛ لأن إجابة الداعي من مقتضى الربوبية لأنها فِعل، وكل الأفعال من مقتضى الربوبية، فلهذا يتوسل الداعي دائمًا باسم الرب، قال النبي عليه الصلاة والسلام:"يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، يا رب"
(1)
.
4 -
أن زكريا عليه الصلاة والسلام بلغ سنًّا بعيدًا دون أن يأتيه الولد، يؤخذ من قوله:{وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} [آل عمران: 40]
5 -
يستفاد من قوله: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} أن الشيء من الكريم يكون عظيمًا، حيث أضاف الهبة إلي الله عز وجل، وهبة الكريم تكون كبيرة، ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم فيما علمه أبا بكر، الدعاء الذي يدعو به في صلاته، قال:"فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني"
(2)
.
(1)
رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، رقم (1015).
(2)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، رقم (834). ورواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، رقم (2705).
6 -
أنه لا ينبغي للإنسان أن يسأل مطلق الذرية؛ لأن الذرية قد يكونون نكدًا وفتنة، وإنما يسأل الذرية الطيبة.
7 -
أنه ينبغي للإنسان أن يفعل الأسباب التي تكون بها ذريته طيبة، ومنها الدعاء؛ دعاء الله، وهو من أكبر الأسباب، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن الرجل يبلغ أشده أنه يقول:{وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]، ولا شك أن صلاح الذرية أمر مطلوب؛ لأن الذرية الصالحة تنفعك في الحياة وفي الممات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"
(1)
.
8 -
التوسل إلى الله تعالى بأسمائه المناسبة للحاجة؛ لقوله: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} ، أي مجيبه، وهكذا ينبغي أن تكون الأسماء التي يتوسل بها الإنسان في دعائه مناسبة للمدعو به، فالداعي بالمغفرة يتوسل باسم الغفور وبالرحمة، والداعي بالرزق يتوسل باسم الرزاق وهكذا، ويدل لهذا أيضًا قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وقوله:{فَادْعُوهُ بِهَا} ، يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة؛ دعاء المسألة أن تجعلها وسيلة لدعائك، ودعاء العبادة أن تتعبد لله تعالى بمقتضاها، فإذا علمت أنه سبحانه (غفور) فتعرَّض لمغفرته، وإذا علمت أنه (رحيم) كذلك وهكذا.
9 -
إثبات سمع الله وكرم الله وقدرته.
(1)
رواه الترمذي، كتاب الأحكام، باب في الوقف، رقم (1376). ورواه النسائي، كتاب الوصايا، باب فضل الصدقة عن الميت، رقم (3651).
وجه ذلك: أنه يسمع الدعاء، ويجيب من دعاه، وقادر على الإجابة.
فإن قال قائل: أحيانًا يدعو المرء ولا يستجيب الله دعاءه، وهنا زكريا صلى الله عليه وسلم يقول:{إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} ، وقال إبراهيم:{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39].
فالجواب: أن يقال: إن عدم إجابة الله الدعاء؛ إما أن تكون لوجود مانع، وإما أن تكون لمصلحة الداعي أو لفوات شرط، فأما إذا تمت الشروط وانتفت الموانع ولم تقتضِ المصلحة خلاف ما دعا به الداعي، فإن الله تعالى يستجيب الدعاء قطعًا؛ لأن الله تعالى يقول:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].فإذا دعا الإنسان ربَّه وقلبه لاهٍ يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل، لكن قلبه مشغول بشيء آخر، فهذا فيه سوء أدب مع الله، فهنا قد تتخلف إجابة الدعوة لعدم وجود الشرط.
ومن الموانع: أن يكون الإنسان آكلًا للحرام والعياذ بالله، فإن أكل الحرام من أكبر موانعِ إجابة الدعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، وقال تعالي {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البقرة: 172]، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب -أربعة أسباب من أسباب إجابة الدعاء- ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأني يستجاب لذلك"
(1)
-والعياذ
(1)
تقدم تخريجه (ص 237).
بالله- أستبعد أن الله يجيب هذا الداعي، فهنا قد تخلفت إجابة الدعاء لوجود مانع. وقد تكون لمصلحة الداعي يدخر الله له عنده أعظم مما سأل، أو يعلم الله سبحانه وتعالى أنه لو أجابه لحصل عليه مضرة في دينه مثل أن تكون إجابته سبب لفتنته عن دينه، فبرحمة الله وحكمته لا يستجيب له هذا الدعاء لمصلحة الداعي، ولهذا ينبغي للإنسان أن لا يضجر إذا دعا الله فلم يستجب له، وأن لا يسأم ويستحسر؛ فيقول: دعوت ثم دعوت فلم يستجب لي، فإنه إذا قال ذلك: لم يستجب له، فزال الإشكال الذي قد يرد على قوله:{إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} .
وبقي أيضًا إشكال آخر: وهو أن يقال: لا فائدة من الدعاء؛ لأن المدعو به إن كان قد كتب لك فسوف يأتيك بلا دعاء، وإن لم يكتب لك فلن يأتيك ولو دعوت، فنجيب أولًا: أن هذا قول باطل من أصله، لأنه يقتضي تسفيه الرسل والأنبياء والصالحين، بل يقتضي أن الله عز وجل يأمر بما لا فائدة فيه، فإن الله قال:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي} [غافر: 60]، فكيف يأمر الله عز وجل بأمر لا فائدة منه؟ هذا مستحيل! ثم نقول: الشيء يكتب لك لكن بسبب، فإذا كان الله قد كتب لك ذرية طيبة بسبب دعائك فإنه إذا انتفى الدعاء انتفت الذرية الطيبة؛ لأن الله قدرها -أي الذرية الطيبة- مقرونة بالدعاء.
وهل يقول عاقل: أنا لا أتزوج إن كان الله قد أراد لي ولدًا جاء بلا نكاح، وإن لم يرد لي ولدًا لم يأت ولو تزوجت، هذا لا يقوله عاقل، بل نقول: إن الله قدر الولد بالنكاح، فتزوج يأتك الولد، وهكذا الدعاء. إذن فالدعاء لا شك أنه من أقوى الأسباب في حصول المطلوب وزوال المكروه، وهذا أمر معلوم، ويكون الله
تعالى قد قدر هذا الشيء الذي هو حصول مطلوبك أو زوال مكروهك مقرونًا بهذا السبب -أي بالدعاء- فيكون الدعاء مقدرًا والمدعو به مقدرًا من عند الله عز وجل، لكن أنت لا تدري فعليك فعل السبب، ثم إننا نقول: إن الدعاء نفسه عبادة، فإذا رفعت يديك إلى ربك يا رب، هذا ذلٌّ وخضوع لله عز وجل، وهو من أجلِّ العبادات.
ومن فوائد قوله عز وجل: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} .
1 -
إثبات الملائكة، وأنهم عالم غيبي مخلوقون من نور، خلقهم الله عز وجل لما أعدَّهم له، فقاموا به على حسب ما أراد خالقهم عز وجل، يسبحون الليل والنهار لا يفترون. وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله:"أطَّت السماء وحُق لها أن تئط -الأطيط: ما يسمع من صرير الرحل على البعير المحمل حملًا ثقيلًا- ما من موضع أربع أصابع إلا وفيه مَلَك قائم لله أو راكع أو ساجد"
(1)
. وإنكارُ الملائكةِ حكْمُهُ الكفر؛ لأنه تكذيب للقرآن.
لو قال قائل: أنا لا أنكرهم وأقول فيهم ملائكة، لكن الملائكة هي قوى الخير، والشياطين هي قوى الشر، فأجعلهم معانٍ لا ذوات.
نقول: هذا أيضًا إنكار لهم؛ لأن الله قال: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ
(1)
رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو تعلمون ما أعلم"، رقم (2312). ورواه أحمد، في مسنده، رقم (21005).
رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر: 1] كيف تكون قوى {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} ؟ !
2 -
أن الملائكة تتكلم بصوت مسموع؛ لقوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} .
3 -
جواز تكليم المصلي من قوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} ، لكن المكلَّم وهو يصلي لا يخاطب الآخر وإنما يجيبه بالإشارة.
والأفضل تركه إلا لحاجة، وذلك لأنك إذا كلمته وهو يصلي فإنك تشوش عليه وربما ينسى ويخاطبك.
4 -
مشروعية تبشير الإنسان بما يسره؛ لقوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} ، وهذا أمر مشروع في نوعه وجنسه؛ ففي النوع سبق أن الله تعالى أخبر عن الملائكة أنها بشرت إبراهيم بإسماعيل وبإسحاق، قال الله في إسماعيل:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] وفي إسحاق {بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53].
5 -
يستفاد من هذأ أَيضًا جواز تقديم التسمية على اليوم السابع، وهذا إذا كان الاسم مُهيَّأ، أما إذا كان غير مهيأ فإنه ينبغي أن يؤخر إلى اليوم السابع.
6 -
الثناء على من صدَّق المرسلين؛ لقوله: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} فإن الله قال ذلك على سبيل الثناء على يحيى، ولا شك أن من صدَّق من قامت البينات على صدقه فإنه محمود حتى في الأمور الدنيوية، وأما إذا صدقت من لم تقم البينة على صدقه فهذا استعجال، وأما إذا صدقت من قامت البينة على كذبه فهذا خبال وسفه في العقل وضلال في الدين.
7 -
أن يحيى عليه الصلاة والسلام سيكون سيدًا، وذلك لأنه أحد الأنبياء، والأنبياء هم سادة الخلق وأفضل الخلق.
8 -
أن يحيى عليه الصلاة والسلام مع توافر صفات الكمال في حقه بالسيادة فإنه كان ممنوعًا من مساوئ الأخلاق؛ لقوله: {وَحَصُورًا} فإن أصح وأعم ما قيل فيه أنه ممنوع عن مساوئ الأخلاق.
9 -
أن يحيى من الأنبياء؛ لقوله: {وَنَبِيًّا} وكل من وصف بالنبوة في القرآن الكريم فإنه رسول، قال الله تعالي:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء: 163]، وقال تعالي:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ} [غافر: 78] وما قصهم الله علينا يقصه بلفظ النبوة في الأكثر، فيكون كل من ذكر في القرآن بوصف النبوة فهو رسول.
10 -
أن الأنبياء من الصالحين بل هم في أعلى مراتب الصلاح، فإن مراتب الصلاح أربعة: وهي النبوة، والصديقية، والشهادة، والصلاح، هذا إذا ذكرت جميعًا صارت مراتب، وإن لم تذكر جميعًا صار الصلاح عامًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا قلتم: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقد سلمتم علي كل عبد صالح في السماء والأرض"
(1)
.
(1)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب التشهد في الآخرة، رقم (831، 835). ورواه مسلم، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، رقم (402).
• ثم قال تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 40 - 41].
قال لما بشره الله عز وجل: أنى يكون لي غلام وقد بلغني، يعني كيف؟ ليس استبعادًا ولا استنكارًا ولكن تثبتًا، وإلا فإنا نعلم أن زكريا عليه الصلاة والسلام قد آمن بما بشره الله به ولا يمكن أن يستبعده، ولكنه قال ذلك من أجل التثبت، ذلك أن الإنسان ناقص في الإدراك والعلم، يحتاج إلى شيء يثبت له الأمور.
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لا شك أنَّه يؤمن إيمانًا كاملًا بأن الله يحيي الموتى ومع ذلك قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، لأنه ليس الخبر كالمعاينة.
وقوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} .
قال: {غُلَامٌ} مع أنه لم يولد بعد، لكن هذا باعتبار ما سيكون، والتعبير بما سيكون أمر سائغ في اللغة وارد في القرآن {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، يعني أعصر عنبًا يكون خمرًا؛ لأن الخمر لا يعصر، فعبَّر عن الشيء بما يؤول إليه.
ثم قال: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} .
الواو هذه يسميها العلماء واو الحال؛ يعني أنها تدل على أن الجملة التي بعدها في موضع نصب على الحال، يعني والحال أنه قد بلغني الكبر، فهي حال من الياء في قوله:(لي).
{بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} ، يعني وصل إلي الكبر، والحقيقة أنه قد يتراءى للإنسان أن في المعنى قلبًا، هل الكبر بلغك أو أنت بلغت الكبر؟
قال الله تعالى: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8]، فصار هو الذي بلغ الكبر.
وهنا يقول: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} إذن فالتعبير صحيح في هذا وهذا، فأنت إن بلغت الكبر فقد بلغك الكبر، وإذا بلغك الكبر فقد بلغته، {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} ؛ يعني أصابني. وعادةً أن الكبير إذا لم يولد له في سن الشباب فإنه لن يرى الأولاد؛ لأن الإنجاب والإخصاب إنما يكون في حال الشباب، وكلما تقدمت السن بالإنسان من رجل أو امرأة قلَّ إنجابه؛ فيقول: كيف لما كنت شابًا لا يأتيني ولد والآن يأتيني الولد.
قوله: {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} .
امرأته عاقر؛ عاقر يعني لا تحمل، وعاقر لفظة مذكر لكن معناها هنا مؤنث، وتطلق على الذكر والأنثى، يقال: رجل عاقر، وامرأة عاقر، وهو الذي لا يولد له، فالآن كل من الزوجين ليس بصدد الولادة، ولكن الله على كل شيء قدير، إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، ولهذا قال:{كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} .
{كَذَلِكَ اللَّهُ} .
يجوز عندي فيها وجهان:
الوجه الأول: أنها خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: الأمر كذلك؛ يعني أنك بلغك الكبر وامرأتك عاقر ولكن الله يفعل ما يشاء.
والوجه الثاني: أن تكون في موضع نصب على المفعولية المطلقة؛ أي: مثل ذلك الفعل ليفعله الله، لأنه يفعل ما يشاء، وكلا الوجهين صحيح، فإنه سيكون له ولد ولو كان بلغه الكبر ولو كانت امرأته عاقرًا؛ لأن الله يفعل ما يشاء. فكل ما شاءه فعله؛ لأنه عز وجل لا يمنعه مانع كما نقول نحن في دبر كل صلاة:"اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت"
(1)
، فالله عز وجل يفعل ما يشاء؛ لأن له الملك المطلق في خلقه، فلا أحد يمنعه ولا أحد يسأله لمَ فعلت؟ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} .
فلما أيقن بأن الله تعالى سيهب له الولد {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} ، أي صيّر لي علامة تدل على هذا الولد، وأنه بدأ ينشأ ليزداد طمأنينة فيما بشره الله به. والآية في اللغة: العلامة، وآيات الله عز وجل كونية وشرعية، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام أيدوا بالآيات الدالة على صدقهم، الآيات الكونية والآيات الشرعية. وكثير من الناس يسمي آيات الأنبياء معجزات، وهذه التسمية وإن اشتهرت على الألسن لكنَّ فيها قصورًا، والتعبير الصحيح السليم أن نسميها آيات كما سمَّاها الله، نسمي ما يحصل من خوارق العادات على أيدي الأنبياء؛ نسميها آيات، ولهذا لا تجد آية في القرآن سمى الله فيها هذه الخوارق معجزات أبدًا، بل كان يسميها آيات.
(1)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، رقم (844). ورواه مسلم، كتاب الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام، رقم (471).
والمعجزات لو أخذناها على ظاهرها لشملت ما يأتي به السحرة وما تأتي به الجن؛ لأن ما يأتي به السحرة أو الجن معجز.
{قَالَ آيَتُكَ} .
يعني الآية التي تدلك، فأضافها إلى زكريا مع أنه ليس هو الذي أوجدها، لكن لأنها علامة له.
{أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} .
آيتك: يعني العلامة التي أعطيك إياها ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا، يعني لا تخاطبهم إلا رمزًا ثلاثة أيام بلياليها، بدليل قوله تعالى في سورة مريم:{أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10]، وقوله:{إِلَّا رَمْزًا} إلا: هذه أداة استثناء.
والمفسرون قد اختلفوا، فبعضهم قال: الاستثناء هنا متصل فتكون الإشارة من الكلام؛ لأن الكلام هو ما يعبر عما في النفس من قول أو إشارة أو كتابة، وبعض المفسرين يقول: إن الاستثناء منقطع؛ لأن الرمز ليس بكلام، ولذلك لو رمز الإنسان في الصلاة لم تبطل صلاته، ولو كانت كلامًا لبطلت؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام:"إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس"
(1)
. فمن نظر إلى المعنى قال: إن الرمز كلام؛ لأنه ينبئ عما في النفس، وقد اعتبر الشارع الإشارة، أليس النبي عليه الصلاة والسلام قتل اليهودي بإشارة الجارية الأنصارية التي قالت حينما قالوا لها: من قتلك؟ فلان؟ فلان؟ فلان؟ فأشارت:
(1)
رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، رقم (537).
نعم
(1)
، فاعتبر الإشارة. ولا شك أن الإشارة تعبر عما في النفس لكنها ليست القول الذي هو الصوت، فمن لاحظ المعنى قال: الاستثناء متصل، ومن لاحظ اللفظ وأن الكلام هو الصوت قال: الاستثناء منقطع، ولكن على القولين المعنى واحد، لن يستطيع أن ينطق بلسانه مع الناس ولكن يشير إليهم إشارة، ووجه كون هذه آية: أنه عجز عن النطق مع أنه سليم، وأنه عجز عن النطق مع الناس لا مع الله، وهذا الشيء غريب، يعني إنسان يتكلم يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لم تأته آفة ولا علة في لسانه، ثم لا يستطيع أن يكلم الناس، هذه آية.
قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا} .
أمره الله تعالى بأن يذكر ربَّه كثيرًا؛ لأنه بذكر الله تطمئن القلوب ويزداد الإيمان ويستنير القلب، فلهذا أمره الله أن يذكر ربه كثيرًا، وفائدة الأمر بالذكر كثيرًا أن الله لما أخبره بأنه سيمنعه من مكالمة الناس، بشَّره بأنه لن يَمْتنع من ذكر الله الذي هو أجل وأشرف من مخاطبة الناس وكلامهم. فأراد الله تعالى أن يسري عنه وأن يذهب عنه ما قد يقع في قلبه، فقال له:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا} ، وهنا لم يقل له: وإنك ستذكر ربك، بل قال: واذكر ربك، فأمره بذكر الله ليكون ذكره لله تعالى في حال امتناع مكالمة الناس عبادة خاصة مأمورًا بها.
وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا} هل (كثيرًا) صفة لزمن محذوف، أي زمانًا كثيرًا، أو لمصدر محذوف أي ذكرًا كثيرًا؟
(1)
رواه البخاري، كتاب الطلاق، باب الإشارة في الطلاق والأمور، رقم (5295).
الثاني كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42]، وهنا قال:{وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} ، العشي: آخر النهار، والإبكار: أول النهار وهذان الوقتان قد أمر الله بذكره فيهما فقال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] وقال تعالى: {بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18]، وهنا قال:{وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} والآيات في هذا كثيرة؛ لأن في الإشراق مستقبل النهار، وفي العشي مستدبر النهار، فيكون الإنسان شاغلًا وقته -أوله وآخره- بذكر الله.
والعشي يبتدئ من زوال الشمس بدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي
(1)
وهي: إما الظهر واما العصر؛ وقيل: العشي ما بعد صلاة العصر إلى منتصف الليل، ولكن الأول أصح. نعم المساء يطلق من صلاة العصر إلى منتصف الليل. وأما العشي فهو آخر النهار.
وقوله تعالى: {وَالْإِبْكَارِ} الإبكار ليست جميعًا لبكر؛ لأن جمع بكر أبكار كسبب وأسباب، لكنها مصدر أو اسم لهذا الوقت المعين الذي هو أول النهار، وقوله {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} يشمل تنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق به. وتسبيح الله يكون عن أمور ثلاثة: عن صفة الغيب، وعن نقص في كمال، وعن
(1)
رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، رقم (482). ورواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، رقم (573).
مماثلة المخلوقين؛ والمماثلة: هو اللفظ الذي جاء به القرآن، فالنقص كقوله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]، والنقص في الكمال مثل قوله:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وقوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، ومماثلة المخلوقين مثل قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4].
والتسبيح: يكون بالقول ويكون بالفعل؛ فكل من عبد الله فقد سبَّحه بالقول وبالفعل وإن لم يكن فيها كلمة: "سبحان" إلا أن العابد تستلزم عبادته المعبود أن يكون كاملًا؛ لأن الناقص لا يمكن للعاقل أن يعبده، فكونه يعبد الله يستلزم أن يكون مقرًّا له بالكمال مسبحًا له عن النقص.
{وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} .
الباء في قوله: {بِالْعَشِيِّ} يحتمل أن تكون للاستيعاب؛ يعني في كل الوقت، وأن تكون للظرفية أي في العشي، فإن جعلناها للظرفية لم يلزم أن يستوعب الوقت بالتسبيح؛ لقوله تعالى:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137، 138]، فهم لا يمرون عليهم كل الليل بل يمرون في أوله أو في آخره أو في وسطه، وإذا كانت للاستيعاب فالمعنى أن الله أمره أن يستوعب هذين الوقتين كليهما بالتسبيح.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
من فوائد قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ
الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}.
1 -
أنه لا حرج على الإنسان في طلب ما تطمئن به نفسه؛ لأن زكريا عليه الصلاة والسلام لم يشك في خبر الله، لكن أراد أن يتقدم إليه الفرح والاستبشار بقوة البراهين، وخبر الله لا شك أنه برهان، لكن كلما ازدادت البراهين ازدادت قوة اليقين.
2 -
جواز وصف الإنسان بما يكره إذا كان المراد مجرد البيان لا القدح والعيب؛ لقوله: {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} .
ونظيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أما أبو جهم فلا يضع العصى عن عاتقه"
(1)
، وهذا من باب المشورة، ولكن لم يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعيب الرجل، بل قصد أن يبين حاله ليكون الإنسان على بصيرة.
3 -
إثبات فعل الله؛ لقوله: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} ومذهب أهل السنة والجماعة: إثبات أفعال الله الاختيارية المتعلقة به والمتعدية إلى غيره؛ أفعال الله الاختيارية: يعني التي تقع باختياره، ولا شيء يقع من أفعال الله إلا باختياره، لكن منها شيء متعلق به مثل الاستواء والنزول والضحك والفرح، وأشياء متعلقة بغيره مثل الخلق، فإن الخلق يتعدى إلى الغير، فأهل السنة والجماعة يثبتون النوعين، ويقولون بلا شك: إنَّ الرب الذي يفعل ما يشاء أكمل من الرب الذي لا يستطيع الفعل، وغالبُ الأشاعرة إن لم أقل كل الأشاعرة والمعتزلة ومن ضاهاهم يقولون: إن الله ليس له أفعال اختيارية؛ لا يستوي، ولا ينزل، ولا يجيء، ولا يضحك، ولا يفرح، ولا يحب، ولا يكره، إلى آخر ما يقولون في
(1)
رواه مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، رقم (1480).
نفي الأفعال الاختيارية، وعلتهم أوهى من أي علة حيث قالوا: إن الحوادث لا تقوم إلا بحادث، والله عز وجل أزلي أبدي.
فيقال لهم: أولًا: من قال لكم أن الحوادث لا تقوم إلا بحادث، فهذا قياس عقلي فاسد، فإن الحوادث لا يلزم أن لا تقوم إلا بحادث؛ لأنه من المعلوم أن المحدِث سابق عن الحدث، وإذا كان المحدِث سابقًا على الحدث لم يلزم أن يكون المحدِث حادثًا، أنت الآن تأكل الغداء اليوم، والغداء اليوم بالنسبة لك حادث وقت حدوثه وأنت موجود من قبل، فالرب عز وجل يفعل الأفعال هذه في وقت فعلها وهو لم يزل موجودًا. لكن على زعمكم أنتم وعلى مذهبكم الباطل يلزم أن يكون الله سبحانه وتعالى لا يفعل أي فعل، معطل عن الأفعال، وهذا عيب؛ لأن من يفعلُ أكملُ ممن لا يفعلُ باتفاق الناس، وليس يعتري الله عز وجل من إثبات الفعل في حقه أي نقص بأي وجه من الوجوه، والآيات كثيرة في إثبات فعل الله {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]. والنصوص في هذا كثيرة، والحمد لله أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بها.
4 -
إطلاق الجمع على الواحد، على أن قوله:{قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} يدل على أن القائل واحد، وأن قوله:{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ} ، {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} يعني واحدًا منهم، وقد سبق في التفسير الخلاف في ذلك.
5 -
إثبات المشيئة لله عز وجل؛ لقوله: {مَا يَشَاءُ} . وهي مقرونة بالحكمة؛ لقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30].
ومن فوائد قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} .
1 -
جواز البحث عما يزيد به الإيمان، وإن كان الإيمان موجودًا، بل قد نقول: وجوب البحث عما يزيد به الإيمان؛ لأن الإنسان مطلوب منه أن يقوي إيمانه بكل وسيلة.
2 -
تمام قدرة الله سبحانه وتعالى بخوارق العادات، فإن كون زكريا عليه الصلاة والسلام لا يكلم الناس إلا رمزًا، لكن في باب التسبيح ينطلق لسانه، هذا من آيات الله، ولهذا قال:{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} .
3 -
أن الآية قد تكون على عكس ما طلبت له، فهي قد طلبت لتحقق الوجود فيما بشِّر به، والآية كانت على العكس؛ كانت إعدام موجود وهو الكلام.
4 -
أن الإشارة تقوم مقام العبارة؛ لقوله: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} وهذه الفائدة مبنية على أن الإشارة تقوم مقام العبارة عند العجز عن التعبير، ووجه المأخذ: أن الاستثناء هنا منقطع، فلا يكون كلامًا لكنه يقوم مقامه عند العجز، وكلا الأمرين حق، فالإشارة تقوم مقام العبارة في الإفهام ولاسيما عند العجز.
5 -
أن الإنسان ينبغي له إذا انقطع عن الناس أن يشغل وقته بذكر الله عز وجل؛ لأنه لما منع من الكلام مع الناس وصار لا يكلمهم إلا رمزًا، ومعلوم أن الإنسان الذي لا يكلم الناس إلا رمزًا سوف لا يكون حريصًا على مكالمتهم لئلا
يَتعب أو يُتعب، لذا أمره الله فقال:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} .
6 -
فضيلة التسبيح والذكر في هذين الوقتين العشي آخر النهار والإبكار أول النهار، ومنه قوله تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39].
7 -
أن الذكر ينبغي أن يكون مقرونًا بالتسبيح إلا ما ورد النص بإفراد أحدهما عن الآخر، يعني قال: اذكر ربك وسبح، ولكن في الذكر قال: كثيرًا، وفي التسبيح قال: بالعشي والإبكار، فهل نقول: إن الذكر لا يتقيد بالعشي والإبكار؟ أو نقول: إنه متقيد لكن نكثر منه؟ يحتمل هذا وهذا، لكن الآيات الأخرى تدل على أن الإنسان مأمور بأن يذكر الله كثيرًا، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42]، وقال تعالى في وصف أهل الصلاح:{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] وعلى هذا فالذكر يكون أكثر من التسبيح، لكن القرن بينهما أيضًا فيه فائدة، وهي أنه يجمع بين الثناء على الله وتنزيهه من النقائص.
* * *
• ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 42، 43].
الواو حرف عطف، و (إذ) نقول فيها مثل ما قلنا في السابق، في قوله:{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} [آل عمران: 35]، يعني أنها منصوبة بفعل محذوف تقديره: اذكر، وتضمين الجملة لهذا يدل
على العناية بها، وأنه ينبغي إشهارها وإظهارها حتى تتبين وتتضح للناس، وإنما ذكر الله قصة زكريا ومريم هنا وعيسى فيما بعد؛ لأنها نزلت في وفد نجران الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وهم من النصارى، فأراد الله أن يبيِّن لنبيه صلى الله عليه وسلم قصة المسيح ومن حوله كاملة، حتى يتبين له الأمر تمامًا، فإذا احتاج إلى محاجة النصارى كان عنده علم أفضل مما عندهم.
{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} .
الملائكة: المراد بهم الجنس، إذ ليس المراد كل الملائكة بل واحد منهم، وهو في الغالب جبريل.
{يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ} .
ونداؤها باسمها نوع من التكريم، إذ لم يقل: يا هذه باسم الإشارة، بل أتى باسمها -الاسم العَلَم - تكريمًا لها.
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} أي اختارك، وذلك لأن "اصطفى" أصلها "اصتفى" بالتاء، لكن لعلة تصريفية قلبت التاء طاءً، وهي مأخوذة من الصفوة، أي جعلك من صفوة الخلق، واصطفاؤه إياها سبحانه وتعالى من عدة وجوه:
منها: أنه تقبلها بقبول حسن حين قالت أمها: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] ، مع أن المعروف عندهم أنه لا يخدم المساجد إلا الرجال، لكن هي قبلت. ومنه أي مِن اصطفائه لها أنه أنبتها نباتًا حسنًا، وقد سبق الكلام على معنى الكلمتين، وأنهما تتضمنان التربيتين الروحية والجسدية. ومن اصطفائه لها أيضًا أن الله تعالى اختار أن تكون عند نبي من الأنبياء، حتى تتربى في بيت نبوة.
وقوله: {وَطَهَّرَكِ} الظاهر أنه طهرها من الأرجاس المعنوية، وأنها بالنسبة للأرجاس الحسية كالبول والغائط والحيض كغيرها من النساء، لكنه طهرها من الأرجاس المعنوية، فبرأها الله تعالى مما رماها به اليهود، وكذلك طهرها من سفاسف الأخلاق حتى كانت دائمًا في عبادة الله سبحانه وتعالى كما سيتبين إن شاء الله.
ثم قال: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} :
الواو حرف عطف، {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} أي: ميَّزك من بينهن، فالاصطفاء الأول اصطفاء عام، وهذا اصطفاء خاص بالنساء، اصطفاها الله تعالى من بين سائر النساء حيث جعلها من النساء الكمَّل، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مريم عليها الصلاة والسلام خير نساء البشر، هي وخديجة بنت خويلد وآسيا امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام
(1)
.
فهي من النساء الكمَّل رضي الله عنها، ولها قال:{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} وهل المراد نساء العالمين في زمنها؟ لأن النساء اللاتي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنهن في أمة هي خير الأمم، أو المراد العموم؟ فيه قولان للعلماء، منهم من قال: إنه خاص بنساء زمانها، كما ذكر الله عن بني إسرائيل أنه فضلهم على العالمين، فقال:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47]، وهذه الأمة أفضل.
(1)
رواه البخاري، كتاب المناقب، باب فضل عائشة رضي الله عنها، رقم (3769). ورواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، رقم (2431).
ثم قال تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} .
هذا من خطاب الملائكة أيضًا، تقول لها:{يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} ، والقنوت هو دوام الطاعة، واللام في قوله (لربك) للاختصاص: أي قنوتًا خالصًا لله، أي طاعة خالصة له؛ لأن من شرط الطاعة أن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى.
وقوله: {لِرَبِّكِ} الربوبية هنا ربوبية خاصة، تختص بمن خصَّها الله به، وتفيد تربية وأكثر اعتناء واختصاصًا من الربوبية العامة.
وقوله: {وَاسْجُدِي} الواو حرف عطف، واسجدي: يعنى السجود المعروف، وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة أمرت أن تسجد على سبعة أعضاء
(1)
، وعطف السجود على القنوت من باب عطف الخاص على العام.
وذكر الخاص بعد العام يدل على فضله ومزيته، ولا شك أن السجود من أفضل أنواع الطاعة، لذلك كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
وقوله: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} الركوع معروف وهو انحناء الظهر، وقوله:{مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي في جملتهم، وليس المراد أنها تصلي مع الجماعة؛ لأن المرأة لا تخاطب بالصلاة مع الجماعة، لكن: كوني فى جملة الراكعين الذين يركعون لله عز وجل، وفي قوله:{مَعَ الرَّاكِعِينَ} ولم يقل مع الراكعات مع
(1)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب السجود على سبعة أعظم، رقم (809، 810). ورواه مسلم، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب، رقم (490).
أنها امرأة؛ لأنَّ الكُمَّل من الرجال أكثر من الكمَّل من النساء، ولهذا لم يكمل من النساء إلا ثلاث.
وقوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} قدَّم السجود على الركوع؛ لأن هيئة السجود أفضل وأبلغ في الخضوع، فقدَّمها على الركوع، أما من حيث الترتيب الفعلي بالنسبة للصلاة فإن الركوع قبل السجود.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
تعظيم شأن مريم عليها الصلاة والسلام حيث أمر الله نبيه أن يذكر قصتها لهذه الأمة؛ لأنه قلنا: {وَإِذْ قَالَتِ} مفعول لفعل محذوف تقديره (واذكر إذ قالت).
2 -
فضيلة مريم حيث خاطبتها الملائكة بقولها: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} .
3 -
دليل على ما ذهب إليه بعض أهل العلم أن مريم نبية؛ لأن الملائكة أوحت إليها وقالت: إن الله اصطفاك
…
إلخ، ولكن في هذا الاستدلال نظر؛ لأنه ليس بصريح في أنها نبئت، ومجرد خطاب الملائكة لها لا يثبت نبوتها؛ لأن النبوة إنما هي لمن أوحي إليه بشرع لا لمن أوحي إليه بثناء أو بتهيئته لما سيكون، بل لمن أوحي إليه بشرع وهي لم يوحَ إليها بشرع، فالأمر ليس بصريح، ولدينا آية تدل على أنه لا يبعث من النساء نبية، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]، {إِلَّا رِجَالًا} وإلا تفيد الحصر، فتدل على أنه لا يمكن أن تكون امرأة من النساء نبية، وكذلك أيضًا قول النبي عليه الصلاة والسلام حين بلغه أن الفرس أمروا عليهم بنت كسرى قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم
امرأة"
(1)
، فكيف يمكن أن يرسل الله تعالى امرأة ليفلح الناس على يديها. صحيح أن المرأة تكون عالمة، وتكون داعية كما هو الواقع، أما أن تكون نبية يوحى إليها لتتولى السلطة كما يقولون التشريعية والتنفيذية فهذا بعيد، فالصواب أن مريم من الصالحات القانتات، وليست من الأنبياء والرسل.
4 -
أن الله تعالى يصطفي من الناس من يشاء؛ لقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} ، أي اختارك اختيارًا لم يشاركها فيه أحد؛ لأنها صارت خادمة لبيت المقدس مع أنه لا يخدمه عندهم إلا الرجال، فهذا نوع من الاصطفاء.
5 -
براءة مريم مما ادعاه اليهود من كونها بغيًا؛ لقوله: {وَطَهَّرَكِ} ، واليهود -قبَّحهم الله- اعتدوا على مريم وابنها فقالوا في مريم: إنها بغي، وقالوا في ابنها عيسى: إنه ولد زنا وكذبوه وقتلوه إثمًا لا حقيقة، كيف قتلوه إثمًا لا حقيقة؟ لأنهم أمضوا هذا الأمر الذي يظنون أنهم قتلوا به عيسى وصلبوه {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء: 157] ، قال الله تعالى:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] ، فكانوا قتلة إثمًا لا حقيقة؛ لأن عيسى باقٍ إلى الآن.
6 -
أن مريم مفضلة ومصطفاة على نساء العالمين، ولكن هل هذا يتناول نساء العالمين إلى يوم القيامة، أو نساء العالمين في زمنها؟ يحتمل معنيين: إما أن المراد نساء العالمين في زمنها ويكون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من
(1)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، رقم (4425).
النساء إلا آسيا امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد"
(1)
، يكون هذا مما أطلع الله عليه نبيه ولم تطلع الملائكة على هذا، والملائكة بلَّغت مريم ما بُلِّغت به.
7 -
جواز تكرار المناقب؛ لأن أوصاف الكمال كلما كررت ظهر من كمال الموصوف ما لم يكن معلومًا من قبل، ننطلق من هذه الفائدة إلى فائدة تتعلق بصفات الله عز وجل، وهي أن أكثر ما وصف الله به نفسه الصفات الثبوتية التي يثبتها لنفسه، أما الصفات التي ينفيها عن نفسه فوصفه بها قليل بالنسبة لوصفه بصفات الإثبات؛ لأن صفات الإثبات كمالات، وصفات النفي نقائص تُنفى لا لذاتها ولكن لإثبات كمال ضدها مع أنها هي منفية أيضًا حقيقة.
8 -
بيان أنه كلما منَّ الله سبحانه وتعالى على إنسان بشيء كانت مطالبته بالعبادة أكثر؛ لأن الملائكة لما قالت: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} ، أمرتها بالقنوت والسجود والركوع، فدلَّ هذا على أنه ينبغي للإنسان كلما ازدادت عليه نعم الله أن يزداد على ذلك شكرًا بالقنوت لله والركوع والسجود وسائر العبادات.
9 -
فضيلة القنوت لله، ولكن ما هو القنوت؟ دوام الطاعة، والخشوع، والاشتغال بالطاعة عما سواها. ولهذا لما نزلت هذه الآية:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام ليشتغلوا بالطاعة عما سواها، فالقنوت دوام الطاعة مع الاشتغال بها عن غيرها.
(1)
تقدم تخريجه (ص 221).
10 -
فضيلة السجود والركوع؛ لقوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} ، مع أنه من القنوت لكن لفضيلتهما نصَّ عليهما.
11 -
جواز ترك الترتيب للمصلحة أو لمراعاة شيء آخر؛ لقوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} ، ولا يقول قائل: لعل الصلاة في عهدهم يقدّم فيها السجود، وفي هذه الشريعة يقدم فيها الركوع، نقول: الأصل خلاف ذلك، لكن نصَّ على السجود وبدأ به؛ لأنه أبلغ في القنوت من الركوع كما ذكرناه في أثناء التفسير.
12 -
أن العُبَّاد من الرجال أكثر من العباد من النساء؛ لقوله {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} ، ولم يقل: مع الراكعات إشارة إلى أن الكمال في الرجال، وكثرة العمل في الرجال أظهر منها في النساء، ولهذا كانت النساء أكثر أهل النار كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
* * *
• ثم قال الله عز وجل: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44].
{ذَلِكَ} المشار إليه كل ما سبق من ذكر قصة زكريا وقصة مريم.
وقوله: {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} أي: من أخبار الغيب، أي: من أخبار الشيء الغائب الذي لا يعلم، وليس المراد من وقع في زمنه؛ لأن من وقع في زمنه يعلمونه لكن المراد لا يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
رواه البخاري، كتاب النكاح، باب كفران العشير، رقم (5117). ومسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء، رقم (2737).
ولا قومه، كما قال الله تعالى في سورة هود:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] إذن هي غيب نسبي بالنسبة لمن لم تكن في زمنه، أما من كانت في زمنه فهي مشاهد، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام وقومه كانوا أميين لا يعلمون شيئًا عن الأمم السابقة، فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ما أوحى من أخبار السابقين، التي ما كان يعلمها لا هو ولا قومه، وهو دليل على أنه رسول الله حقا، وأن الوحي يأتيه من الله.
وقوله: {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} الوحي في اللغة: الإعلام بسرعة وخفاء، فإذا أعلمك إنسان بسرعة على وجه خفي يسمى في اللغة وحيًا، ولكنه في الشرع: إخبار الله سبحانه وتعالى لنبي من أنبيائه بما يشاءه من شرعه، هذا الوحي، ثم إنْ كلَّفه بتبليغه كان رسولًا، وإلا كان نبيًا.
وقوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} أي: ما كنت عندهم، يعني عند زكريا وقومه.
{إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} إذ: أى حين، وهي متعلقة بقوله:{كُنْتَ} يعني: ما كنت في ذلك الوقت عندهم، إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم، وقوله:{أَقْلَامَهُمْ} اختلف العلماء في تفسيرها، فقيل: إنها على ظاهرها أنهم ألقوا أقلامهم التي يكتبون بها، وقيل: إن المراد بها سهامهم التي تكون في النصل يرمون بها، وسميت قلمًا لأنها تشبهه في الاستطالة، ودقة الرأس، وظاهر القرآن أن المراد بالأقلامِ الأقلامُ حقيقةً التي يكتب بها، ولا نعدل عن ظاهر القرآن إلا بدليل، هذه هي القاعدة
الشرعية في تفسير القرآن، بل وفي تفسير الحديث النبوي، بل وفي كلام الغير حتى كلام الناس يجب أن نعمل بظاهره إلا بدليل، ولكن {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} كيف ألقوا هذه الأقلام، المعروف أنهم ألقوها في النهر، في الماء الذي يمشي، فما انحبس منها فصاحبه الذي يكفل مريم، وما جرى فهو الذي لا يكفلها، والقرآن ليس فيه بيان ذلك، يعني ليس فيه أنهم وضعوا هذه الأقلام في النهر، إنما ألقوا أقلامهم على وجهٍ الله أعلم بكيفيته، من باب الاقتراع -يعنى قرعة-، أيهم يكفل مريم، فخرجت القرعة لزكريا كما قال تعالى في أول القصة {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} .
{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} .
يعني ما كنت عندهم أيضًا في حال اختصامهم، أيهم يكفل مريم، هذا الاختصام الظاهر أنه قبل إلقاء الأقلام، لكن أُخِّر في الذكر لمناسبة رؤوس الآيات {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} على أنه قد يقال: إن الله سبحانه وتعالى ذكر النتيجة قبل المقدمة وقبل السبب؛ لأنها هي الغاية، فإن إلقاء الأقلام والسهام هو غاية الاختصام، فاختصموا أيهم يكفلها، فقالوا: لتُسْهم بإلقاء الأقلام، وقوله:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} هذا كالدليل في قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} يعني فأنت ما قلتها لأنك شاهد، ولكن قلتها لأنها أوحيت إليك، وأيضًا فيه إشارة إلى أن هذا الذي أنبئ به كأنما يراه بعينه، وكأنه حاضر وهو كذلك؛ لأن أخبار الله عز وجل أشد ثبوتًا وحقيقة مما يُرى في العين.
• ثم قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45].
قوله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ} يعني اذكر إذ قالت الملائكة: يا مريم، والمراد جنس الملائكة، والمشهور أنه جبريل.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} سبق أن معنى البشارة في الأصل الإخبار بما يسر، وأنها قد تطلق على الإخبار بما يسوء، بجامع أن كل ما يسر وما يسوء يغير البشرة ويؤثر فيها.
وقوله: {بِكَلِمَةٍ} تحتمل وجهين:
الوجه الأول: أن الكلمة هي المبشر به كما تقول: بشرته بولد، فتكون الكلمة هي المبشر به.
والوجه الثاني: أن المراد بالكلمة هنا الصيغة التي حصلت بها البشارة، أي يبشرك بشارة عن طريق النطق بها، كما تقول: بشرته بالقول لا بالكتابة، أي: أن الوسيلة التي حصلت بها البشارة هي الكلمة، يعني أن الله سبحانه وتعالى قال كلمة فيها البشرى بالمسيح عيسى ابن مريم، فالوجهان محتملان.
أما على الاحتمال الثاني فلا إشكال أن تقع البشارة بالنطق. لكن على الوجه الأول أن الكلمة هي المبشر به، فكيف يكون المبشر به كلمة مع أنه إنسان؟ أجاب العلماء عن ذلك بأنه أطلق عليه الكلمة؛ لأنه كان بالكلمة لا بالوسائل الحسية المعلومة؛ لأن الولد في العادة يأتي بواسطة النكاح، لكنه لم يأتِ بالنكاح بل أتى بالكلمة، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] ، فلهذا صح أن يطلق عليه الكلمة، وفي هذه الآية إشكال آخر إذا قلنا إن الكلمة تعني المبشَّر به، فما معنى (منه) ، فإن (مِنْ) لها معان منها التبعيض، كما قال ابن مالك رحمه الله في الخلاصة.
بَعِّض وبيِّن وابتدأ في الأمكنة
…
بمن وقد تأتي لبدء الأزمنة
الشاهد قوله: (بَعِّض) فإن مِنْ تفيد التبعيض، فهل معنى ذلك أن عيسى بعض من الله كما قالت النصارى، الجواب: لا، ليس بعضًا من الله؛ لأن الله واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ولا يتبع أحد هذه الآية ويدعي البعضية إلا من في قلبه زيغ، {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]، والنصراني كما اتبع المتشابه فى هذه الآية، اتبع المتشابه في قوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] قال: هذا كلام الله يقول: {إِنَّا} ، و {إِنَّا} تفيد الجمع، فاتبع المتشابه، انتصارًا لرأيه الفاسد، ولا يخفى على كل ذي لب أن المراد بقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وما أشبهها التعظيم لا التعدد، كذلك هنا {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}: لا يقتضي أن يكون عيسى بعضًا من الله عز وجل؛ لأنَّك إن ادعيت أنه بعض من الله، فلتدَّع أنه كلمة الله، ومعلوم أنه لا أحد يدعي أن عيسى كلمة، بل هو بشر له جسم وروح يأكل ويشرب، وهل الكلمة كذلك؟ ! لا. إذن فيتعين أن تكون (مِنْ) إما ابتدائية وإما بيانية؛ يعني بكلمة صادرة من الله عز وجل بأن قال: كن فكان، نظير هذه الآية قوله تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] هل يدعي أحد أن ما في السموات وما في
الأرض بعض من الله، لا، حتى النصراني لا يدعي ذلك لكن هنا (مِنْ)، إما للابتداء يعني ابتداء التسخير من الله أو للبيان، بيان مَن المسخِّر، أو مَنْ جاء بهذا التسخير.
قال: {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} .
{اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} ، اسم: مبتدأ، والمسيح: خبر، وعيسى: خبر ثاني، وابن مريم: خبر ثالث، وإنما قلنا ذلك لأنك لو أفردت كل واحد عن الآخر لاستقام الكلام، لو قلت: اسمه ابن مريم صحَّ، اسمه عيسى صحَّ، اسمه المسيح، صح، وعلى هذا فكل واحد منها خبر، وقيل: بل الثلاثة خبر واحد، كقولك: البرتقال حلو حامض، هنا لا يصح أن تقول: حلو خبر وحامض خبر؛ لأنك لو أفردت أحدهما عن الآخر لفسد المعنى، لو قلت: البرتقال حلو، لم يصح، ولو قلت: البرتقال حامض، لم يصح، ولم يؤدِ المعنى الذي يؤديه قوله: البرتقال حلو حامض يعني: جامع بينهما، فلهذا نقول في قول القائل: البرتقال حلو حامض: حلو حامض جميعها خبر، لكن في الآية التي معنا {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} لا يستقيم هذا المعنى فيها، وبناء على ذلك نقول: إن كل واحد منها خبر، مثل قوله تعالى:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 14 - 16] فهذه خمسة أخبار، هذه الأخبار الثلاثة جمعت أنواع العلم، التي أشار إليها ابن مالك بقوله:
واسمًا أتى وكنية ولقبا
…
وأخِّرن ذا إن سواه صحبا
أي: الاسم عيسى، واللقب: المسيح، والكنية: ابن مريم. هذه الكلمات الثلاثة قد جمعت أنواع العلم الثلاثة:
الاسم، واللقب، والكنية، لكن يبقى عندنا إشكال فى قول ابن مالك:(وأخرن ذا) يعني اللقب إن سواه صحبا، فإنه في الآية الكريمة قدَّم اللقب فيبقى إشكال إذن: كيف نجمع بين هذا الكلام من هذا العالم في النحو وبين الآية؟ من المعروف أن علماء النحو رحمهم الله لا تضيق عليهم أبدًا، يقولون: حجج النحاة كبيوت اليرابيع، قالوا: الجواب عن الآية: أن اللقب إذا اشتهر به الإنسان حتى صار كالعلم أو كالاسم جاز أن يقدم، ولهذا نجد فى كلام العلماء: الإمام أحمد بن حنبل، المسيح عيسى ابن مريم على وزن المسيح ابن مريم، الإمام محمد بن إدريس الشافعي، فيقدم الإمام مع أنه لقب، للاشتهار، إذن لا إشكال فيه، قال: إنما {اسْمُهُ الْمَسِيحُ} واختار الله تعالى له اسم المسيح؛ لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ، أو لكثرة مسحه الأرض وسيره فيها، أو من المسحة وهي الجمال، والمعنى الأول أشهر، يعني أنه لا يمسح ذا عاهة إلا برأ، فهو يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى ويخرجهم من قبورهم، وهذه الأمور لا تتم لكل أحد، بل لا تتم لأحد أبدًا إلا بإذن الله عز وجل.
والمسيح فعيل بمعنى فاعل، إلا على قول من يقول: إن المراد بذلك المسح من الجمال، فهذا يكون بمعنى مفعول.
{عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} ولم ينسبه إلى أب، لأنه لا أب له، لكن لماذا نسبه إلى أمه؟ الجواب: إشارة إلى أن لا يقول قائل إنه ينسب إلى كافله زكريا، فبدأت الملائكة وبينت أن هذا الرجل ينسب إلى أمه، عيسى ابن مريم.
قوله: {وَجِيهًا} هذه منصوبة على الحال، حال من المسيح أي: حال كونه وجيهًا في الدنيا، والوجيه هو ذو الجاه؛ وهو الشرف والمكانة والسيادة، وقد كان كذلك عليه الصلاة والسلام، أما وجاهته في الدنيا فلأنه كان أحد الرسل الكرام، بل هو من أولي العزم، وأولو العزم هم أعظم الناس جاهًا في الدنيا والآخرة، كما قال الله تبارك وتعالى عن موسى {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]، وأما وجاهته في الآخرة فلأنه من أولي العزم من الرسل الذين هم بأعلى درجات الجنة، ولهم بالآخرة مقامات لا تكون لغيرهم.
فإن قيل: من هم أولو العزم من الرسل؟ فالجواب: أنهم أولو الحزم في الأمور والصبر عليها.
قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] والمشهور في (من) في هذه الآية أنها للتبعيض، وأن أولو العزم هم الخمسة الذين ذكروا في آيتين من القرآن الكريم، وبعضهم جعل (مِنْ) بيانية، وعلى هذا يكون جميع الرسل من أولي العزم، لكن المشهور الأول.
وهم مذكورون في آيتين من القرآن.
الأولى: في سورة الشورى قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13].
والثانية: في سورة الأحزاب في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7].
وقوله: {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ، هذا وصف ثالث، أنه من المقربين إلى الله عز وجل في الدنيا والآخرة؛ لأن المقرب يكون مقربًا في الدنيا ويكون كذلك مقربًا في الآخرة، فعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام كان وجيهًا في الدنيا والآخرة، وكان من المقربين إلى الله عز وجل. وهل هذا الوصف حاصل لغيره من الأنبياء؟ الجواب: نعم، أولو العزم من الرسل لا شك أن لهم وجاهة في الدنيا والآخرة وأنهم مقربون إلى الله.
* * *
قوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} .
الواو حرف عطف، والجملة معطوفة على ما سبق {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} أي: في حال الصغر، وأصل المهد أو المهاد الفراش يوضع للإنسان فيطؤه ويستريح عليه، وقوله:{فِي الْمَهْدِ} أي: في الفراش وهو صغير، وهذا من آيات الله عز وجل؛ لأن
العادة التي أجرى الله سبحانه وتعالى البشر عليها أن لا يتكلم أحد إلا في سن معين، أما في المهد فلم يتكلم إلا ثلاثة، منهم المسيح عيسى ابن مريم، وتكلم بكلام من أبلغ الكلام لما جاءت به قومها تحمله:{قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 27 - 33]، كلام من أفصح الكلام وأعظمه، وهو في المهد، وهذا من آيات الله عز وجل الدالة على قدرته، ولهذا كانت آيات عيسى كلها تدور حول هذا الأمر حول خوارق العادات في الأمور الكونية؛ فهو نفسه آية خُلِقَ بلا أب، وكلم الناس في المهد، وهذا من الآيات، يصنع من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا، ويبرئ الأكمه والأبرص ولا أحد يبرئهما من الأطباء، ويحيي الموتى ويخرجهم من القبور، قال أهل العلم: لأنه بعث في زمن ترقَّى فيه الطب ترقيًا عظيمًا، فجاء بآيات من جنس الآيات التي فيها إعجازهم، ومن جنس الأعمال التي يعملونها؛ ليكون ذلك أبلغ في الإعجاز، كما جاء موسى عليه الصلاة والسلام بالعصا واليد التي تبطل سحر السحرة، وكان السحر في وقته قد زاد وانتشر، وكما أتى محمد صلى الله عليه وسلم بكلام هو أبلغ الكلام وأفصحه لانتشار الفصاحة في زمنه وعهده، حتى يعجز هؤلاء البلغاء ويتبين أنه ليس من كلام البشر.
قال: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} .
يعني ويكلمهم وهو كهل من الحادية والثلاثين إلى الأربعين، وفي هذه الحال ليس غريبًا أن يكلم الناس، ولكنه أتى بها لفائدة، وهي أن كلامه في المهد ككلامه وهو كهل؛ يعني ليس ككلام الصبي الذي يتكلم في المهد كلام أطفال، بل كلامه فصيح من أبلغ الكلام كما يتكلم به وهو كهل.
قال: {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} .
وهو من الصالحين، وسبق لنا أن الصالح من صلحت سريرته وعلانيته، يعني ظاهره وباطنه، باطنه: بالإخلاص لله والطهارة من كل شرك ونفاق وشك وأحقاد وبغضاء للمؤمنين وما أشبه ذلك.
وظاهره: بالمتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام وعدم الابتداع، فهو عليه الصلاة والسلام من الصالحين الذين صلحت ظواهرهم وبواطنهم، وإن شئت فقل: سرائرهم وعلانيتهم.
{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} .
{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ} هي الآن تخاطب الله، والذي كان يخاطبها الملائكة أو جبريل، لكنها لما قالوا إن الله يبشرك وعلمت أن الأمر من الله وجهت الخطاب إليه سبحانه وتعالى فقالت:{رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} ، وتأمَّل هذا الاستعطاف منها حيث قالت:{رَبِّ} ومعلوم أن كلمة رب هنا مضافة إلى ياء المتكلم التي حذفت للتخفيف وأصلها (ربِّي أنَّى يكون لي ولد).
وقولها: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} هذا استفهام يعني: من أين يكون لي الولد ولم يمسسني بشر، وهذا الاستفهام ليس على
سبيل الشك، وليس على سبيل الاستبعاد، ولكنه على سبيل الاستثبات وزيادة الطمأنينة كقول إبراهيم:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، ولم يكن ذلك عن شك.
وقوله: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} الجملة حالية؛ يعني والحال أنه لم يمسسني بشر، أي: لم يجامعني؛ لأن المس يطلق على الجماع؛ ويكنى به عنه كما قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236]، أي: تجامعوهن، {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} ، فمن أين يكون الولد؟
{قَالَ كَذَلِكِ} ، قال الله عز وجل لأنها نادت الله {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} {. . . قَالَ كَذَلِكِ} ، يعني الأمر كذلك، فالجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف تقديره (الأمر) وعلى هذا فيحسن الوقوف هنا، أي يحسن أن تقف فتقول: كذلك، ثم تبتدئ فتقول:{اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ، وهذا التركيب له نظائر في القرآن، مثل قوله:{كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54]، وإنما تأتي هذه الصيغة للتقرير والتثبيت، يعني الأمر مثلما وقع تمامًا.
وقوله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} .
{اللَّهُ} مبتدأ، وجملة يخلق خبر؛ أي: أن الله سبحانه يخلق ما يشاء سواء كان على وفق العادة أو على خلاف العادة، فعيسى عليه الصلاة والسلام جاء على خلاف العادة، لكن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب -أي خلق آدم من تراب- ثم قال له كن فيكون، فالله على كل شيء قدير.
وقد ذكر أهل العلم أن البشر منهم من خلق بلا أم ولا
أب، ومنهم من خلق من أم بلا أب، ومنهم من خلق من أب بلا أم، وأكثر الخلق من أم وأب.
فالذي خلق من غير أم ولا أب (آدم)، ومن أب بلا أم (حواء) امرأة آدم، ومن أم بلا أب (عيسى) وسائر الناس من أب وأم.
{اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ، أي: الذى يشاء كمًّا وكيفًا وعلى سبب معلوم وعلى سبب غير معلوم، فالله سبحانه لا معقب لحكمه، يخلق ما يشاء، قلنا: بالكمية والكيفية والسبب المعلوم والسبب غير المعلوم وأيضًا النوعية؛ والنوعية ما أكثر أنواع الخلق لا يحصيها الإنسان فضلًا عن أفرادها، وما أكثر الخلق، لو أردت أن تحصي الخلائق ما استطعت، والله تعالى قد أحصاهم ورزقهم وأمدهم وأعدَّ كل مخلوق لما خُلق له، قال فرعون:{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49، 50]، كل شيء أعطاه الله خلقه المناسب له ثم هداه لما خلق له. انظر أحيانًا تفتش الكتاب للمراجعة فتجد فيه حيوانًا لا يدركه البصر إلا بكلفة! مَنْ خلقه؟ الله، ومَنْ أعده للرزق؟ الله. ومن أمده برزقه المناسب له؟ هو الله عز وجل، فما بالك بالخلق الكثير الذي هو أكبر من هذا بكثير؟ ! فالحاصل أن الله يخلق ما يشاء كمًّا وكيفًا ونوعًا، وبسبب معتاد وبسبب غير معتاد، لا حَجْرَ على الله عز وجل، يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء.
{إِذَا قَضَى} ، قضى: أي قضاءً كونيًا؛ لأن القضاء له معنيان
كوني وشرعي، فمن أمثلة الشرعي قوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، ومن أمثلة الكوني قوله تعالى:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4]، قضينا شرعًا أو كونًا؟ الجواب: كونًا، ولا يصح شرعًا؛ لأن الله لا يقضي شرعًا بالفساد أبدًا، فهو لا يحب الفساد لكنه قضاء كوني.
والفرق بين القضاءين الكوني والشرعي:
القضاء الشرعي:
1 -
أن القضاء الشرعي متعلق بما يحبه الله من فعل المأمور أو ترك المحظور.
2 -
القضاء الشرعي قد يقع وقد لا يقع، قد يقع من المقضي عليه وقد لا يقع.
القضاء الكوني:
1 -
القضاء الكوني يتعلق فيما أحبه الله وفيما لا يحبه الله.
2 -
القضاء الكوني لابد أن يقع من المقضي عليه.
فصار الفرق أول شيء وجهين، وعندما نذكر الشيء وضده تكون أربعًا.
ومن أمثلة القضاء الكوني: قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} [سبأ: 14]. وقوله تعالى: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [هود: 44].
أما قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر: 20] فهو شامل للكوني والشرعي. حتى الكوني الذي يقضيه الله وإن كان شرًّا لكنه في المفعولات، أما في نفس القضاء فهو حق.
يقول الله عز وجل: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} "أمرًا" مفرد جمعه أمور أم أوامر؟ .
الجواب: أمور؛ لأن المراد بالأمر هنا الشأن يعني: إذا قضى شأنًا -أي شأن من الشؤون- فإنما يقول له كن فيكون، لا يحتاج إلى عمل ولا إلى آلات ولا إلى أي سبب، كل الخلائق مسلمة لله عز وجل:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 83]، تنتظر الأوامر، إذا صدر الأمر من الله عز وجل كان المأمور.
الأمر الكوني: يقول كن فقط فيكون. قال الله تعالى عن البعث؛ بعث الخلائق كلها: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13 - 14]، وبيَّن الله تعالى في سورة القمر كيف هذا الأمر هل يكرر؟ هل يتأخر المأمور؟ فقال:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر: 50]، لا يوجد تكرار -واحدة- ولا يتأخر المأمور {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، يعني لو شاء ربنا عز وجل لأمر هذه الأرض أن تزول ومن فيها بلحظة {كُنْ فَيَكُونُ} هذه القدرة التامة العظيمة التي لا تنسب قُدرة الخلق إليها. {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، الفاء هذه تفيد الترتيب وإن شئت فقل: تفيد السببية، فإن قلت: إنها تفيد السببية فاقرأها بالنصب، وإن قلت: إنها تفيد الترتيب فاقرأها بالرفع، وكلتا القراءتين سبعية صحيحة (أن يقول له كن فيكونَ)، {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، فعلى قراءة الرفع تكون استئنافية، والفاء عاطفة تفيد الترتيب والتعقيب (كن فهو يكونُ) في الحال، وعلى قراءة النصب تكون الفاء للسببية، فكأن الكون مسبب عن
القول، ومعلوم أن المسبب يأتي مقارنًا للسبب .. على قراءة النصب (كن) سبب، و (فيكون) مسبب، ومن المعلوم أن المسبب يأتي عقب السبب فورًا؛ لأنه سببه، والسبب مقارن للمسبب، وعلى هذا فتكون كل من القراءتين مفيدة لمعنى غير المعنى الثاني، لكنهما متلازمان.
هنا مسألة: إذا قال الله: {كُنْ} فهل يقول: {كُنْ} فقط فيقع الشيء على مراد الله، أو لابد أن يقول كن ويبين ما يكون؟ لننظر في حديث القلم، لما خلق الله القلم قال له: اكتب. هل كتب أم لم يكتب؟ لم يكتب، بل قال: ربِّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة
(1)
، فالظاهر -والله أعلم- أن الشيء إذا قال الله له كن فلابد أن يعين ماذا يكون، بدليل حديث القلم، ولكنه إذا عين ما يكون فلابد أن يكون الشيء على ما عيِّن، فالقلم لا يعلم الغيب، لكن لما قال له الرب عز وجل: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فكتب، يعني أن الله أعلمه فكتب. فهذا هو الظاهر، وإذا كان الله عز وجل إذا أمر فقال كن كان على مراد الله، فليس هذا بغريب على قدرة الله، إن الله تعالى يجعل هذا الشيء يخضع لأمر الله الذي أراده عز وجل، وإن كان لم يطلعه عليه، لكن الذي يترجح عندي بناءً على حديث القلم أن الله عز وجل يأمره أن يكون ويبين ما يكون عليه.
(1)
رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة {ن وَالْقَلَمِ} ، رقم (3319). ورواه أحمد، في مسنده، رقم (22197).
{وَيُعَلِّمُهُ} : الضمير يعود على عيسى، والفاعل هو الله عز وجل يعلمه الكتاب؛ لأن عيسى كغيره من البشر لا يعلم إلا ما علمه الله، قال الله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27].
و{الْكِتَابَ} بمعنى المكتوب، وهل المراد أنه يعلمه الكتابة، يعني يحسن الخط، أو المراد أنه يعلمه الكتب السابقة؟
الجواب: كلاهما لا يتنافيان، علمه الكتابة فكتب، وعلّمه الكتب السابقة وعلّمه التوراة والإنجيل، والتوراة من باب عطف الخاص على العام لشرفه، وأما الإنجيل فإنه لم ينزل على أحد قبل عيسى.
وقوله: {وَالْحِكْمَةَ} يعني الشريعة؛ لأن الشريعة من الله، وكل ما كان من الله فهو متضمن للحكمة، قال الله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، فالحكمة: هي الشرع، وهو موافق لمن فسر ذلك بالسنة؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي شرعه الذي جاء به من الله، فعلمه الله عز وجل الحكمة، و (ال) في (الحكمة) للعهد الذهني، يعني الشرع الذي شرعه الله لعيسى وليس كل الحكمة بل الحكمة التي شرعت له.
{وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} .
التوراة: الكتاب الذي أنزله الله على موسى، والإنجيل الكتاب الذي أنزله الله على عيسى، التوراة كتبها الله تعالى كتابة {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}
[الأعراف: 145]، ولهذا قال أهل العلم من علماء السلف: إن الله تعالى غرس جنة عدن بيده، وخلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده سبحانه وتعالى، ونزلت ألواحًا على موسى وفيها ما تقتضيه المصلحة والحاجة والضرورة في ذلك الوقت.
وأما الإنجيل: فهو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على عيسى، وهو بالنسبة للتوراة كالمكمل لها كما قال تعالى فيما يأتي من الآيات:{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]، فهو كالمتمم للتوراة؛ لأنه في الحقيقة نزل على بني إسرائيل الذين أنزلت عليهم التوراة؛ ومن المعلوم أن حال بني إسرائيل تغيرت من وقت موسى إلى عيسى، فكان في الإنجيل أشياء فيها تعديل أو زيادة، فهو متمم للتوراة.
ثم قال: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} .
{وَرَسُولًا} : الواو حرف عطف، (ورسولًا) منصوب بفعل محذوف تقديره (ويرسله رسولًا) ولا يصح أن يكون معطوفًا على ما قبله، أي: ويرسله رسولًا إلى بني إسرائيل وهم أبناء يعقوب الاثنى عشر، والرسول: هو الذي أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، فإن لم يؤمر بتبليغه فهو نبي. هذا هو المشهور عند عامة العلماء رحمهم الله، وقيل: إن النبي لم يوحَ إليه بشرع وإنما كان مؤيدًا لشريعة قبله، يعني يوحى إليه بتأييد الشريعة التي قبله، فكانت الأنبياء فيما سبق كالعلماء في هذه الأمة، وهذا وإن كان له وجه كما قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]، لكن هذا القول يعكر عليه قضية آدم، فإن آدم نبي ومع ذلك لم يكن مجددًا لشريعة
سابقة، إذ لم تنزل شريعة على البشر قبل آدم عليه الصلاة والسلام، فلهذا يترجح تعريف الجمهور في النبي والرسول. وإذا قلنا: إن النبي من أوحي إليه بشرع فلا يمنع أن يكون هذا الشرع الذي أوحي إلى النبي هو شرع من قبله يوحى إليه تأكيدًا وتثبيتًا.
فإن قال قائل: ورد في صحيح مسلم: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرّ ما يعلمه لهم"
(1)
، فهل يدل ذلك على أن النبي يبين لأمته ما يبينه الرسول، وعليه فلا فرق بين النبى والرسول؟ .
الجواب: لا يدل؛ لأن هذا الحديث إن قلنا إنه يبين بأمر الله فهو رسول، وإن قلنا يبين تطوعًا من غير أن يلزم بذلك لكن لمحبته الخير فهو نبي، مع أن المراد بهذا الحديث الذي ذكرته أن النبي الذي هو الرسول، ولهذا يذكر الله كثيرًا النبيين دون الرسل، ويذكر الرسل دون النبيين، {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]. وفي آية أخرى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253].
قال: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (بنى إسرائيل) ، وهل هذه اسم قبيلة أو اسم أشخاص معينين؟
الجواب: أنه اسم قبيلة، كما يقال: بنو تميم، والعلماء رحمهم الله يفرقون بين ابن وبني إذا كان اسمًا لقبيلة أو اسمًا لشخص معين. وذكروا ذلك في باب الوقف وفرَّعوا عليه مسائل؛ فإذا قلت: هذا وقف على بني فلان وهم قبيلة كبني تميم مثلًا،
(1)
رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، رقم (1844).
فهل يعم الجميع؟ وهل يشمل الذكور والإناث؟ قالوا: نعم. يعم الجميع ويشمل الذكور والإناث، ولكن لا يجب التعميم. فيجوز أن يوزع هذا الوقف على ثلاثة من بني تميم فقط، ويجوز أن يعطى ثلاثة نساء فقط؛ لأنه لا يختص بالرجال بل يشمل الذكور والإناث، ولأنه لا يستلزم التعميم. أما لو قلت: هذا وقف على بني فلان، (واحد معين من الناس) فإنه يجب للذكور دون الإناث؛ لأن الابن غير البنت؛ ولأن بني فلان المعين يمكن حصرهم فيجب تعميمهم، والتساوي بينهم وإخراج النساء منهم. فبنو إسرائيل من أي الصنفين؟ الجواب: من الأول، من القبيلة. وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهم بنو عم لبني إسماعيل، ولهذا لما بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم في بني عمهم -بني إسماعيل- غارت اليهود من ذلك، وأنكروه وكانوا بالأول يستفتحون على الذين كفروا، ويقولون: سيبعث نبي ونتبعه ونكتسحكم ونغلبكم ظنًّا منهم أنه سيكون من بني إسرائيل وليس ظنًّا حقيقيا، بل هو وَهْمٌ؛ لأنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ويعلمون أنه سيبعث في مكة لكن توهموا ذلك، أوهمتهم أنفسهم الكاذبة، فلما بعث في بني إسماعيل أنكروه وكذبوه. ومعنى إسرائيل في السريانية أو في العبرية: عبد الله، والآن تسمى الدولة اليهودية إسرائيل.
وقوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} .
الله يخلق ما يشاء، عبَّر هنا بالخلق وفي قصة زكريا بالفعل (يفعل)، وهنا قال:(يخلق) فهل هناك نكتة أو أنه اختلاف تعبير؟
الجواب: أن هناك نكتة، وهي من وجهين:
الوجه الأول: مما قاله العلماء وهو صحيح أن عيسى عليه الصلاة والسلام خلق من غير ما جرت العادة به، خلق على وجه لم تجرِ العادة بمثله إطلاقًا، فناسب التعبير بالخلق الدال على الإبداع، ولهذا يقال: خلق الله السموات ولا يقال: فعل الله السموات، مع أن الخلق فعله لكن الخلق فيه نوع من الإبداع ولذلك قال:(خلق).
الوجه الثاني: الرد على شبه النصارى الذين يقولون: إن عيسى هو الله، والله ثالث ثلاثة، فيكون فيه التصريح بأنه مخلوق، ويكون هذا قطعًا لدابر قولهم فيه، إذن نكتة كونية ونكتة شرعية، يعني حكمة كونية شرعية.
{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} .
فيها قراءتان: قراءة بكسر الهمزة وفتحها، وبفتح الياء مع فتح الهمزة ثلاث قراءات
…
(أَنِّيَ)(أَنِّي)(إِنِّي).
{فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، يكون هذا الشيء طيرًا.
وقوله: {أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} أي: كمثله وصورته، فينفخ فيه فيكون طيرًا، وفي قراءة سبعية (فيكون طائرًا بإذن الله)، والقراءتان لكل واحدة منهما معنى يكمل الأخرى، فقوله:(يكون طيرًا) الآية، أي طيرًا حيًّا بعد أن كان على صورة الطير وليس فيه روح، وقوله:(يكون طائرًا) أي: يطير، تشاهدونه يطير بالفعل، فعندنا ثلاث مراتب:
1 -
تصوير على هيئة الطير.
2 -
طير فيه روح على قراءة (فيكون طيرًا).
3 -
طير يطير بالفعل على قراءة (طائرًا). بإذن الله.
وعلى هذا فيكون: يخلق شيئًا على هيئة الطير فينفخ فيه فيكون فيه روح ثم يطير.
وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} ، أي: بإذنه الكوني والشرعي؛ لأن كونه يصور مضاهيًا لخلق الله يحتاج إلى إذن شرعي؛ لأن الأصل أنه لا يجوز لأحد أن يصور على تصوير الله عز وجل، قال تعالى في الحديث القدسي:"ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي"
(1)
، لكن الله تعالى أذن لعيسى عليه الصلاة والسلام لحكمة، هذا على تفسير {بِإِذْنِ اللَّهِ} ، الإذن الشرعي، كذلك الإذن الكوني، يعني بإذن الله الإذن الكوني؛ لأن خلق هذا الطير حتى يطير يكون بإذن الله الكوني، فيطير بإذن الله إذنًا كونيًا، فعيسى عليه الصلاة والسلام يخلق كهيئة الطير بإذن الله الشرعي فيكون طيرًا إذا نفخ فيه، ويطير بإذن الله الكوني.
وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} هذا من أجل تحقيق التوحيد حتى لا يظن ظان أنه يخلق استقلالًا، لأنه لولا هذا التقييد {بِإِذْنِ اللَّهِ} لتوهم النصراني وغير النصراني أن عيسى عليه الصلاة والسلام يخلق كما خلق الله آدم من طين على صورته، ثم نفخ فيه الروح فصار بشرًا، فيظن الظان أن عيسى يخلق كخلق الله، فلهذا كان يقول عليه الصلاة والسلام: بإذن الله.
{وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ} .
أبرئ: بمعنى أشفي، والبرء في الأصل من البراءة، والبراءة من الشيء السلامة منه، ومنه برأ من دَينه أي سلم من غائلته أي:
(1)
رواه البخارى، كتاب اللباس، باب نقض الصور، رقم (5953).
من غائلة الدين وضيق الدين، فالبرء من المرض يعني السلامة والشفاء منه.
وقوله: {الْأَكْمَهَ} الأكمه قيل: إنه الذي لا يبصر ليلًا ويبصر نهارًا، وقيل: هو الذي يبصر ليلًا ولا يبصر نهارًا، وقيل: هو الذي لا يبصر إلا بمشقة، وقيل: الذي وُلد بلا عين. فإن كان الأكمه في اللغة العربية يحتمل هذه المعاني كلها، فهو للمعاني كلها، وإن كان لا يحتمل إلا معنى واحدًا، فأقرب الأقوال في ذلك أن الأكمه من وُلِدَ بلا عين؛ لأن هذا أبلغ في القدرة؛ لأنه كلما كان أبلغ في القدرة كان أعظم في الآية، فنحن نقول: إن كانت اللغة العربية تطلق الأكمه على كل ما قيل فلتكن الآية شاملة، وإن لم تحتمل، إلا معنى واحدًا، فأقربها أن الأكمه من ولد بلا عين؛ لأن هذا أبلغ في القدرة.
{وَالْأَبْرَصَ} من به برص، والبرص عيب يخرج في الإنسان من العيوب الجلدية، وهو قد يؤثر على الصحة العامة في البدن وقد لا يؤثر، لكن البرص ليس له دواء، ولهذا قال: أبرئ الأبرص بإذن الله.
وقوله: {وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} .
أحيي الموتى الذين ماتوا، أحييهم بإذن الله، وليس المراد بالموتى هنا موتى معينين بل هو للجنس، فأي واحد من الأموات يمكن أن يقع عليه هذا الأمر، أما قول من قال: إنه أحيا سام بن نوح أو أحيا فلانًا أو أحيا فلانًا، فهذا من الإسرائيليات، لكن الآية أنه يحيي الموتى، أي ميت يقف عليه وهو ميت يأمره فيحيا بإذن الله.
{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} .
(أنبئكم): أي أخبركم بما تأكلونه اليوم وما تدخرونه للغد في بيوتكم من غير أن يأتي أحد يخبره بذلك، وهذا فيه شيء من علم الغيب، فأخبرهم أن من جملة آياته أنه يخبر الإنسان يقول: أكلت اليوم كذا وكذا وكذا، وادخرت لغدٍ أو بعد غدٍ كذا وكذا، مع أنه لم يبعث أحدًا يطَّلع على ما في البيت، وهذا لا يكون إلا بوحي من الله، فإذا لم يكن هناك بشر يطلعه على ما في البيوت، فإنه يكون من وحي الله. وقد يكون بواسطة الجن، فإن الجن ربما تخدم الإنس فتذهب إلى الأمكنة البعيدة أو تتسور الجدران وتخبر بما في البيوت، لكن الجن الذي على هذا الوصف لا يجوز الاستمتاع به أو الاتصال به لماذا؟ لأن إطلاعه على أحوال الناس ظلم وعدوان، ولا يجوز للإنسان أن يستعين بظالم على ظلمه، ولهذا يمتنع هذا التقدير في حقِّ عيسى عليه الصلاة والسلام، يعني لو قال قائل: إن الذين يستعينون بالجن ربما يطلعون على ما يؤكل ويدخر في البيوت، قلنا: لكن هذا لا يرد بالنسبة إلى عيسى، لأن الاستمتاع بالجن على هذا الوجه محرم لما فيه من العدوان والظلم، وعيسى لا يمكن أن يفعل هذا، فتبين أنه يأتيه عن طريق الوحي، والحكمة من إخبارهم بهذا هي:
1 -
إطلاعهم على أنه عليه الصلاة والسلام يأتيه الوحي من الله في أمور خاصة في البيوت.
2 -
تحذيرهم -والله أعلم- من أن يأكلوا شيئًا محرمًا عليهم، ولهذا سيأتي أنه قال لهم:{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]، لأنهم إذا كانوا يعلمون أنه يعلم بما يأكلون وما
يدخرون في بيوتهم؛ فسوف يتوقفون عن الشيء المحرم، وهم إذا توقفوا عن الشيء المحرم ربما ييسر الله لهم فيحله لهم.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
أي: إن في ذلك المشار إليه ما سبق من عدة أمور قوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} ، هذه ثلاث آيات كل آية تدل على صدق عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه رسول الله حقَّا؛ لأن مثل هذا لا يستطيعه البشر، وآيات الأنبياء التي جاءت هى علامات على صدقهم لا يستطيع أن يأتي بمثلها البشر؛ لأن الآية لو أمكن للبشر أن يأتوا بمثلها لم تكن آية، إذ إن كل إنسان يستطيع أن يفعل مثل هذا.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . يعنى أنها آية بهذا القيد؛ أي إن كنتم مؤمنين، وأما غير المؤمن فإنه لا ينتفع بالآيات ولا تكون الآية آية له، قال الله تعالى:{وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، لأن قلوبهم قاسية مطبوع عليها -والعياذ بالله- لا يصل إليها الخير، ولا تلين من أجل العقوبات والنذر؛ لأنها قاسية، فالمؤمن هو الذى ينتفع بالآيات، بل إن غير المؤمن يرى أن هذه الآيات العظيمة أساطير الأولين {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: 15]، وذلك بسبب ما كان على قلبه من ظلمات المعاصي والعياذ بالله؛ لقوله:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
والإيمان سبق لنا معناه كثيرًا بأنه التصديق المستلزم للقبول والإذعان، وليس مجرد التصديق، ودليل ذلك أنه لا يتعدى بما
يتعدى به التصديق، فإنه لا يقال: آمنته، ويقال: صدقته. بل إنه يتضمن الإقرار والاعتراف والانقياد والتسليم، ومن صدَّق ولم يقبل ولم يذعن فليس بمؤمن، فأبو طالب عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم كان مصدقًا برسالته لكنه لم يقبل ولم يذعن فلم يكن مؤمنًا، وإلا فإنه مصدق كما يقول بأشعاره وفي أحواله لكنه -والعياذ بالله- ليس بمؤمن، إذن الإيمان معنى زائد على التصديق وليس هو مجرد التصديق.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن عيسى ابن مريم قد جاء بالبينة من الله؛ لأن كل رسول يرسله الله إلى البشر لابد أن يأتي بآية، يؤخذ من قوله:{أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} .
2 -
الإشارة إلى وجوب قبول رسالته؛ لقوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} ؛ يعني فإذا كان ربكم وجب أن تكونوا له عبيدًا فتتقبلوا ما جاءت به رسله.
3 -
قدرة الله عز وجل حيث جعل عيسى ابن مريم يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله في الحال، بينما في الأحوال العادية لا يكون طيرًا إلا بعد مدة، بعد أن يفقس من البيضة ويترعرع فيطير.
4 -
أن ما فعل بأمر الله فهو حلال مباح وإن كان نظيره بدون أمر حرامًا كقوله: {أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} ،
فلو أن أحدًا أراد أن يصنع تمثالًا من الطين على هيئة الطير لكان ذلك حرامًا، لكن لما كان بأمر الله صار هذا حلالًا، ولهذا نظائر، السجود لغير الله شرك، والسجود لغير الله بأمر الله طاعة، ولهذا سجد الملائكة لآدم فكانوا طائعين، واستكبر عن ذلك إبليس فكان من الكافرين. قتل النفس المحرمة ولاسيما ذو الرحم من كبائر الذنوب، وإذا كان بأمر الله كان مما يقرب إلى الله، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام أمر بذبح ابنه إسماعيل فامتثل، وكان امتثاله لذلك طاعة لله عز وجل. هكذا خلق عيسى كهيئة الطير لينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله، هذا من الأمور التي أبيحت له بأمر الله عز وجل.
5 -
إطلاق وصف الخلق على المخلوق، أي أن المخلوق يكون خالقًا؛ لقوله:{أَخْلُقُ لَكُمْ} وهذا له نظائر، قال تعالى:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في المصورين:"يقال لهم: أحيوا ما خلقتم"
(1)
، لكن خلق غير الخالق جل وعلا ليس خلقًا في الحقيقة، ولكنه تغيير أو تحويل، فالإنسان مثلًا يخلق من الطين صورة لكن الذي خلق الطين هو الله عز وجل، لا يمكن أن يخلق جميع الخلق شيئًا على وجه الاستقلال، وإنما خلقهم الأشياء يعني تغيير صور الأشياء أو تحويلها من شيء إلى شيء أو ما أشبه ذلك.
6 -
هذه المعجزة العظيمة لعيسى ابن مريم وهو أنه ينفخ في هذا التمثال حتى يكون طيرًا، وفي قراءة طائرًا، والفرق بينهما هو أن الطير قد يطير وقد لا يطير، ولكنه يصير طيرًا يطير بإذن الله في الحال.
(1)
تقدم تخريجه (ص 98).
7 -
أنَّ من آيات عيسى عليه الصلاة والسلام أنه يبرئ الأكمه والأبرص لكن لا استقلالًا بل بإذن الله، وإلا فلا أحد يشفي من المرض -أي مرض كان- إلا بإذن الله عز وجل حتى الأشياء التي جعلها الله تعالى بطبيعتها شفاء للأمراض لا تشفي إلا بإذن الله، وكم من دواء كان مفيدًا ونافعًا لهذا المرض المعين ثم يستعمله المريض فلا ينتفع به.
8 -
الآية العظيمة وهي إحياء الموتى، وهذا من آيات الله، وفي الآية الأخرى:{وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، في الآيتين إحياء الموتى وإن كانوا على ظهر الأرض، وإحياء الموتى وإن كانوا في القبور وإخراجهم منها أحياء، يعني إذا ضممت هذه إلى هذه استفدت فائدتين، أنه يحيي الموتى وهم على ظهر الأرض ويحييهم وهم في بطن الأرض فيخرجون {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، وفي هذه الآية الكريمة إثبات الحكمة لله عز وجل، ووجهه أن الله جعل لعيسى من الآيات ما يكون مناسبًا لزمنه وعصره، حيث أوتي من الآيات ما يعجز عنه من كانوا محل تعظيم للناس في ذلك الوقت وهم الأطباء، ففي عهد عيسى عليه السلام ترقَّى الطب ترقيًا عظيمًا ولكن مع ترقي الطب فإنه لم يصل إلى ما وصل إليه عيسى، فإن الأطباء لا يبرئون الأكمه ولا الأبرص ولا يحيون الموتى ولا يخرجونهم من القبور، لكن عيسى يأتي بهذه الآيات بإذن الله عز وجل، قال أهل العلم: وفي عهد موسى عليه السلام ترقى السحر ترقيًا عظيمًا فكانت آياته معجزة تقهر السحرة وذلك بالعصا واليد. ومحمد صلى الله عليه وسلم أتى وبُعث في قوم يفخرون بالبلاغة والفصاحة ويرونها هي محل التقدير
والاحترام، فكانت آياته أن جاء بكلام يعجز عن مثله البشر في بلاغته وفي معانيه وأحكامه. . . إلى آخر وجوه الإعجاز في القرآن.
وفي هذه إشكال، وهو أن الله تعالى قال لعبد الله بن حرام:(إني قضيت إنهم إليها لا يرجعون)
(1)
، وهنا ذكر أنه أحيا الموتى لعيسى في الدنيا، الظاهر والله أعلم أن يقال: إن عبد الله بن حرام طلب الرجوع من أجل العمل، وأما ما وقع آية لعيسى فليسوا يرجعون على أنهم يعملون، على أن المسألة فيها أيضًا نظر من جهة أخرى؛ لأن الله تعالى لما أخذت الصاعقة أصحاب موسى الذين كانوا معه دعا الله عز وجل فبعثهم من بعد موتهم وبقوا وعملوا. فيكون المراد -والله أعلم- أنه إذا لم يكن هناك سبب مثل أن تكون آية فهذا لا مانع، أما عبد الله بن حرام فليس هناك سبب.
9 -
إثبات الإذن لله، لا الأُذُن، الأُذُن هي الجارحة أو العضو الذي يكون في الإنسان لتلقي الأصوات، وأما الإِذْن فهو الإباحة والترخيص وما أشبه ذلك، أما الأُذُن فلا يجوز أن نثبتها لله ولا أن ننفيها عنه؛ لأن الصفات توقيفية، والله عز وجل لم يثبت لنفسه أذنًا ولم ينفِ عنه الأذن، وإنما أثبت لنفسه السمع، والسمع ليس بشرط أن يكون من ذي أذن، فهاهي الأرض تسمع وتحدث أخبارها وليس لها آذان، المهم أن الإِذْن هنا غير الأُذُن. وإذن الله
(1)
رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، رقم (3010). ورواه ابن ماجه، في المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، رقم (190).
عزّ وجل ينقسم إلى قسمين: إذن شرعي، وإذن كوني، فما تعلق بالخلق فهو إذن كوني، وما تعلق بالشرع فهو إذن شرعي، هذا هو الضابط، ففي قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، الإذن هنا شرعيًا وليس كونيًا؛ لأنه قد أذن الله فيه كونًا لكن لم يأذن به شرعًا، وقوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] إذن كوني، وكذلك هنا {فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} .
10 -
أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يملكون شيئًا من الربوبية، وذلك لتقييد فعل عيسى بإذن الله.
11 -
الردُّ على النصارى في زعمهم أن عيسى عليه الصلاة والسلام له حق في الربوبية، وكذبوا في ذلك فعيسى عبدٌ، عبد الله ورسوله، قال لقومه:{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [آل عمران: 51]، وقال الله تعالى عنه:{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59]، فهو عبد لا يملك من الربوبية شيئًا أبدًا؛ لأن الربوبية من حق الله الخاص الذي لا يشركه فيه أحد.
12 -
أن الله تعالى أطلع نبيه عيسى ابن مريم على ما يأكل قومه وما يدخرون مما يخفى على غيره؛ لقوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} .
13 -
إثبات الحكمة لله سبحانه وتعالى في أن الله أطلع نبيه عيسى على ذلك حتى يخافوا أن يخفوا شيئًا لا يرضاه الله ورسوله. يعني إذا كان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم معناه أنه يطلع على أسرارهم البيتية، وهذا يلزمهم أن لا يبيتوا شيئًا لا يرضاه.
14 -
أنه ينبغي التكرار في المقام الهام؛ لقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ} ، مع أنه قال في الأول:{قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} ، وذلك لأن الأمور الهامة ينبغى تكرارها أولًا من أجل أن يتبين للمخاطب أهميتها عند المتكلم وأنه ذو عناية بها، والثاني من أجل أن ترسخ في الذهن؛ لأنه كلما تكرر الشيء ازداد رسوخًا.
15 -
أن الإيمان يحمل صاحبه على قبول الآيات التي جاءت بها الرسل؛ لقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وهذا شيء كثير، قد تعلق الأحكام بالأوصاف إما بأدوات الشرط المعروفة، وإما بغير ذلك، المهم أن تعليق الأحكام بالأوصاف سواء عن طريق الشرط أو عن طريق الصفة المعروفة في النحو أو المبدل أو غير ذلك جار في القرآن والسنة.
* * *
• ثم قال تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 50 - 51].
قوله: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} :
هذه معطوفة على ما سبق، يعني أنها تكون منصوبة على الحال؛ يعني وجئتكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة (وما بين يدي)، هو ما سبقه، ويطلق ما بين اليدين على ما سيأتي، فما بين اليدين يطلق على ما مضى، ويطلق على ما يستقبل، فإن قرن بالخلف فهو للمستقبل، وإلا فإنه صالح للمستقبل والماضي، ففي قوله تعالى:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255]،
المراد المستقبل لقوله: "وما خلفهم"، وفي هذه الآية:{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} ، أي: لما سبقني من التوراة. وتصديقه للتوراة له وجهان:
الوجه الأول: أنه يقرر صدقها ويقول: إنها كتاب حق.
والوجه الثاني: أنه يصدق ما أخبرت به، فإذا كانت أخبرت به ثم بعث كان مصدقًا لما فيها.
وقوله: {مِنَ التَّوْرَاةِ} ، هي الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه الصلاة والسلام، وهي أصل الكتب المنزلة على بني إسرائيل وأعظمها، بل هي أعظم الكتب فيما نعلم بعد القرآن.
{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ} .
أي: وجئتكم أيضًا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم. وقوله: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ، ولم يقل:(كل) والمحرم عليهم ذكره الله في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146]، وقال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، فلما حرمت عليهم هذه الطيبات لظلمهم وعدوانهم، وبعث الله عيسى صلى الله عليه وسلم أحل لهم بعض ما حرم عليهم، ولم يُذكر في القرآن بيان هذا البعض فيكون باقيًا على إطلاقه، ولو كان لنا مصلحة في تعيين ذلك لبيَّنه الله.
وقوله: {بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ، الفعل هنا مبني للمجهول، ولكن فاعله معلوم وهو الله عز وجل كما قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146].
{وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} ، كرَّر هذا مرة أخرى بعد قوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ} [آل عمران: 49] ، تقتصر على تصديقه لما بين يديه من التوراة وعلى إحلاله بعض الذي حرم عليهم، وحينئذٍ لا يكون في الآية تكرار، وإما أن يقال: إن قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} ، يشمل كل ما جاء به من الآيات، ويكون هذا من باب التأكيد وإقامة الحجة عليهم، فكرر مجيئه بالآيات احتجاجًا عليهم بما كذبوا.
قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
(اتقوا الله): يعني اتخذوا وقاية من عذابه؛ لأن التقوى مأخوذة من الوقاية، فبماذا تكون الوقاية من عذابه؟ تكون بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
وهذا هو المعني الشامل للتقوى عند الإطلاق، وإذا قرنت التقوى بالبرِّ صار المراد بها اجتناب المحارم، مثل قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وقد عرَّف أهل العلم التقوى بعدة تعريفات؛ لكن يجمعها ما ذكرناه من أنها اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامراه واجتناب نواهيه.
قال: {وَأَطِيعُونِ} أي: وأطيعونى فيما أمرتكم به وفيما نهيتكم عنه، وطاعته من التقوى بلا شك لكن نصَّ عليها لأنها تقوى خاصة فيما جاء به عيسى؛ لأن التقوى يؤمر بها كل إنسان، فإذا قيل:(أطيعون) صارت تقوى خاصة في طاعة هذا الرسول الذي بعث إلى قومه، والطاعة قال العلماء فى تفسيرها: إنها موافقة الأمر تجنبًا للنهي وفعلًا للمأمور، فمن تجنب النهي ناويًا بذلك امتثال الأمر فهو مطيع، ومن فعل الأمر ناويًا بذلك امتثال الأمر أيضًا فهو مطيع، أما من ترك النهي أو بعبارة أصح المنهي عنه عجزًا عنه،
فإن هذا ليس بمطيع، بل إذا سعى في أسبابه حتى عجز كان كمن فعله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه"
(1)
.
ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} .
لما أمرهم بتقوى الله ذكر ما هو كالسبب في ذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} ، والربُّ هو الخالق المالك المتصرف. وتوحيد الله بالربوبية أن نؤمن بأنه لا خالق ولا مالك ولا مدبر إلا الله سبحانه وتعالى، وما يضاف من الخلق أو الملك أو التدبير لغير الله فإنه على وجه ناقص من حيث الشمول ومن حيث التصرف، فمثلًا الخلق يضاف إلى غير الله وقد مرَّ علينا قريبًا أن عيسى قال:{أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} [آل عمران: 49]، وقال الله تعالى:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، وقال الله في الحديث القدسي:"ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي"
(2)
، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله"
(3)
، وقال عليه الصلاة والسلام: "يقال لهم: أحيوا ما
(1)
رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا} رقم (31). ورواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، رقم (2888).
(2)
تقدم تخريجه (ص 282).
(3)
رواه البخاري، كتاب اللباس، باب ما وطئ من التصاوير، رقم (5954). ورواه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، رقم (2107).
خلقتم"
(1)
، ولكن الخلق المضاف إلى غير الله عز وجل ناقص ليس إيجادًا حقيقة ولكنه تغيير لصورة، فمثلًا الإنسان يخلق من الخشب بابًا، هل هو خَلَق الخشب؟ ومن الحديد سيارة، هل خَلَق الحديد؟ كلا، ولكن حوَّله من حال إلى حال فصار هذا خلقه، لكنه ليس هو الذي أوجد الحديد أو الخشب حتى يقال: إن خلقه كخلق الله. أيضًا: خلق الإنسان أو البشر عمومًا ليس عامًا شاملًا؛ لأن كل إنسان يخلق ما صنع فقط، وما لم يصنعه فليس من خلقه. كذللت الملك {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المائدة: 120]، {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون: 88] ، والآيات في إثبات الملك لله وحده كثيرة، ومع ذلك أضاف الله إلى غيره الملك في قوله تعالى:{أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61]، فهل نقول: إن هذا الملك كملك الله؟ كلا. لا من حيث الشمول ولا من حيث التصرف؛ أما من حيث الشمول فلأن كل إنسان لا يملك أكثر مما تحت يديه، ولذلك لا تملك كتابي ولا أملك كتابك، أما ملك الله فهو عام شامل. وأما من حيث التصرف فملك غير الله قاصر؛ لأن الإنسان لا يملك التصرف المطلق كما يريد، وإنما يتصرف حسب ما تقتضيه شريعة الله وحسب ما يأذن به الله، ولو أراد الإنسان أن يمزِّق كتابه هل يملك ذلك؟ لا يملك ذلك بل هو حرام عليه ويأثم بذلك، ولو أراد أن يمزق كتاب غيره كان حرامًا من وجهين: من وجه إفساد
(1)
رواه البخاري، كتاب البيوع، باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء، رقم (2105). ورواه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، رقم (2108).
المال، ومن وجه العدوان على الغير، فالحاصل أن ملك الإنسان قاصر من ناحيتين.
فأما التدبير الذي هو المعنى الثالث للربوبية، فهو أيضًا يكون لغير الله، لكنه تدبير ناقص من حيث الشمول ومن حيث التصرف أيضًا، فالإنسان لا يدبر كل شيء، لا يدبر إلا ما يملك تدبيره، ومع ذلك فتدبيره له تدبير ناقص على حسب ما يقتضيه الشرع. لو أراد أن يدبّر بعيره على وجه يشق عليه كأن يمشي به على الوحل أو على النار وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز فهو إذن تدبير ناقص. لكن الله عز وجل يملك هذا كله بلا معارض له. المهم أن الربوبية هي انفراد الله بالخلق والملك والتدبير، ولا يعني ذلك أن لا أحد يشاركه في خلقٍ أو ملك أو تدبير، لكن على وجه لا يماثل ما يثبت للخالق من ذلك. فالإنسان قد يخلق، فيقال خلق، ويقال ملك، ويقال دبر، لكنه كما سبق ناقص.
وقوله: {رَبِّي وَرَبُّكُمْ} ، بدأ بنفسه ليكون أول مذعن لهذا الربّ عز وجل؛ لأن الربَّ خالق مالك مدبر، فبدأ بنفسه ليكون هو أول من يذعن وينقاد لهذا الرب، قال:{فَاعْبُدُوهُ} : الفاء هنا عاطفة وتفيد السببية أيضًا أي: بسبب كونه ربًّا اعبدوه، ولهذا نقول: إن الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية، وأن من أقر بتوحيد الربوبية وأنكر توحيد الألوهية فقد تناقض، ولذلك سفَّه الله المشركين الذين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ثم ينكرون توحيد الألوهية فيقول:{أَنَّى يُصْرَفُونَ} [غافر: 69]، {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]، {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75]، وما أشبه ذلك مما يدل على أنه من السفه أن يقرَّ الإنسان بأن الله وحده هو الخالق المالك المدبر ثم يعبد غيره. فنقول مثلًا للمشرك: ألست
تؤمن بالله؟ سيقول: بلى، إنه الخالق، بلى، إنه المالك، بلى، إنه المدبر، بلى، إنه لا خالق معه ولا مالك ولا مدبر، بلى أومن بذلك كله، إذن كيف تجعل معه إلهًا تعبده؟ ومن كان غير الله فهو عابد وليس بمعبود، عابد مربوب، هو عبد مربوب لله عز وجل فكيف تجعله معبودًا مع الله، ولهذا قال الله:{فَاعْبُدُوهُ} فالفاء هنا عاطفة تفيد السببية أى: بسبب كونه ربي وربكم اعبدوه وحده. وما هي العبادة؟ .
العبادة:
مأخوذة من الذل، عَبَدَ بمعنى ذَلَّ. ومنه قولهم: طريق معبد أي: مذلل لسالكيه، فأصلها الذل لكنها بالنسبة لله عز وجل ذلٌّ مقرون بمحبة وتعظيم. فكل من تعبد لله فإن تعبده هذا مقرون بهذين الأمرين المحبة والتعظيم. فبالمحبة يكون الطلب، وبالتعظيم يكون الهرب، فالإنسان إذا أحب شيئًا طلبه، وإذا عظَّم شيئًا هابه وهرب منه وخاف منه. ولهذا كانت العبادة مبنية على الرجاء والخوف. والعبادة تطلق أحيانًا على هذا المعنى الذي ذكرنا باعتبارها مصدرًا، وهو أي التذلل لله مع المحبة والتعظيم، وتطلق أحيانًا على اسم المفعول أو على الشيء المتعبد به وحينئذٍ نقول: إنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. فالصلاة مثلًا عبادة، والزكاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، وبر الوالدين عبادة، وصلة الأرحام عبادة، وهكذا، فأحيانًا تطلق على الفعل، وأحيانًا تطلق على المفعول.
هذا المشار إليه إما أقرب مذكور أو كل ما سبق في قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} ، هذا: أي تقوى الله وطاعة رسوله وتحقيق العبادة له.
{صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، أي طريق، ولا يسمى الطريق صراطًا إلا إذا اجتمع فيه السعة والاعتدال؛ لأنه مأخوذ من (السَّرْط)، وهو الابتلاع بسرعة، وإن شئت فقل: من (الزرط) وهو الابتلاع بسرعة، والطريق الواسع المستقيم يبتلع سالكيه بسرعة؛ لأن الضيق لا يمشي الناس فيه إلا رويدًا رويدًا ببطء، وغير المستقيم لا يوصل للغاية إلا ببطء سواء كان انحرافه على اليمين أو الشمال أو من حيث الصعود والنزول، فإنه إذا كان صاعدًا نازلًا أتعب السالك.
فإن كان الصراط مستقيمًا في الانحرافات يمينًا وشمالًا وكذلك في الصعود والنزول اختصر الطريق، فإذا قدرنا أن هناك غاية تصل إليها بالطريق المستقيم في ثلاثين مترًا، إلا أن فيه تعاريج، كل تعريجة عشرة أمتار، وفيها عشرة تعاريج، فإنك ستصل إلى الغاية بمائة متر، فالحاصل أن الصراط قال العلماء لا يكون صراطًا إلا إذا كان واسعًا مستقيمًا، وهو مأخوذ من السرط أو الزرط.
إذن، هو {مُسْتَقِيمٌ} يعني لا اعوجاج فيه، ووصفه بالاستقامة بعد أن قلنا إن الصراط هو الطريق الواسع المستقيم الذي ليس فيه اعوجاج من باب التوكيد، كما تقول: هو رجل رجل. ما معنى رجل رجل؟ . يعني جامع لمعاني الرجولة، كذلك (طريق مستقيم) يعني جامع لكل معنى الطريق {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} .
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
أن عيسى ابن مريم قد جاء بما يصدق به التوراة؛ لقوله {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ، وقد سبق لنا أن معنى (مصدقًا) أو أن كلمة {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} كلمة ذات وجهين: الوجه الأول: أنه شاهد بصدق التوراة، وأنها حق، والثاني: أنه مطابق لما أخبرت به، وإذا جاء الشيء مطابقًا لما أخبر به، فهذا تصديق شاهد بالصدق.
2 -
جواز النسخ في الشرائع؛ لقوله: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ، وهذا نسخ، والنسخ في الشرائع ثابت منذ نوح إلى محمد عليه الصلاة والسلام، وأنكرت اليهود وجود النسخ، وقالت: لا يمكن أن ينسخ الله الحكم؛ لأن هذا يستلزم نقصًا في حق الله، فيقال لهم: ومتى وصفتم الله بالكمال -أنقصكم الله وأذلكم- ألم تقولوا: إن يد الله مغلولة؟ ألم تقولوا: إن الله فقير؟ ألم تقولوا: إن الله استراح حين خلق السموات والأرض وتعب؟ فكيف تقولون: إن النسخ يستلزم النقص على الله؟ يقولون لأنه يستلزم العلم بعد الجهل، كأن الله إذا نسخ الحكم الأول تبين له أن الصواب في الحكم الثاني، وهذا نقص.
فنقول لهم: نحن نرد عليكم بشريعتكم، قال الله تعالى:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: 93]، وقال:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] ، وأنتم تعتقدون أن التوراة ناسخة للكتب السابقة المنزلة على بني
إسرائيل، وأنه يجب على كل واحد من بني إسرائيل أن يؤمن بها ويتبعها، وهل هذا إلا نسخ؛ ثم إن النسخ في الحقيقة من مقتضى الحكمة لا منافي للحكمة؛ لأن الله عز وجل يشرع الأحكام مناسبة للواقع أو ملائمة لمن شرعت له، فقد يكون هذا الحكم ملائمًا في زمن غير ملائم في زمن آخر، أو ملائمًا لقوم غير ملائم لآخرين. وكون الأحكام تتبع الحِكمة هذا هو الكمال وليس النقص، وهنا عيسى ابن مريم قال:{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} .
3 -
جواز نسبة الحكم إلى من بلَّغه؛ لأنه قال: (أحل لكم) وأصل التحليل والتحريم من عند الله عز وجل، لكن إضافته إلى من أبانه وأظهره لا بأس بها، ولهذا أضاف الله القرآن إلى نفسه وإلى جبريل وإلى محمد، أما إلى نفسه فقال:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، وأما إلى جبريل فقال:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19، 20]، وأما إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40، 41] لكن الكلام يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا، وأما من قاله مبلغًا مؤديًا فإنما يضاف إليه لكونه أظهره وأبانه.
4 -
تكرار الأمور الهامة؛ لقوله في المرة الثالثة: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} .
5 -
أن الطاعة أمر مشترك بين الرسل وبين الله عز وجل، وأما التقوى فهي خاصة بالله؛ لقوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، وطاعة الله هي الأصل، لكن طاعة الرسول طاعة للمرسِل الذي أرسله.
6 -
أن التقوى واجبة في كل شريعة لقوله هنا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ}
ولكن المتقَى به قد يختلف باختلاف الشرائع؛ لقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، هذا الذي يتقى الله به قد يختلف باختلاف الشرائع.
7 -
عموم ربوبية الله للبشر؛ لقوله: {رَبِّي وَرَبِّكُمْ} ، وربوبية الله ثابتة لكل السموات الأرض ومن فيهن {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} [المؤمنون: 84]، {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86]. فالربوبية، ربوبية الله سبحانه وتعالى لكل شيء، لكن عيسى قال:{رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ليقيم عليهم الحجة؛ لأنه إذا كان ربهم سبحانه وتعالى فإنه يشرع فيهم وعليهم ما يشاء ولا أحد يعقب حكمه.
8 -
أنَّ عيسى مربوب وليس ربًّا؛ لقوله: {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} .
9 -
الرد على النصارى في دعواهم أن الله ثالث ثلاثة، وقد كفَّرهم الله بذلك فقال:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، كفَّرهم بهذا، وهم بلا شك كافرون مخلدون في نار جهنم أبد الآبدين.
10 -
وجوب العبادة؛ لقوله: {فَاعْبُدُوهُ} .
11 -
أن الإقرار بالربوبية مستلزم للإقرار بالعبودية، يعني أن من أقر بربوبية الله لزمه أن يقر بعبوديته، ولهذا قال:{فَاعْبُدُوهُ} ، فأتى بالفاء الدالة على السببية، أي: فبسبب اختصاصه بالربوبية يجب أن تخصوه بالعبادة، ومن ثَمَّ نجد الله سبحانه وتعالى في كتابه يقيم الحجة على المشركين الذين يقرون بربوبيته لا بألوهيته، يقولون إنه منفرد بالربوبية لكن في الألوهية لا يفردونه، يتخذون معه آلهة وليس إلهًا واحدًا، كل قوم لهم
رب يعبدونه، وهذا لا شك بالغ في السفه، فإذا كنت تعلم وتعتقد بأن الله وحده هو الرب لزمك أن تعتقد بأنه وحده الإله المعبود وأنه لا إله غيره.
12 -
أن الصراط المستقيم عبادة الله؛ لقوله: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، ولا شك أن أهدى السبل وأقومها عبادة الله، وعبادة الله كما نعلم هي اتباع شرعه المرسل سبحانه وتعالى.
* * *
• ثم قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 52، 53].
وفي قراءة (من أنصارِيَ إلى الله) لأن ياء المتكلم يجوز فيها ثلاث لغات: الفتح بناءً، والسكون بناءً، والحذف تخفيفًا. فتقول: هذا غُلامي، هذا غلامِيَ، هذا غلام، لكن تبين أنه مضاف، يقول هنا:{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} ، أحس بمعنى أدرك بحاسته وتيقن أنهم كفروا، مع هذه الآيات العظيمة التي يشاهدونها ولم يؤمنوا -والعياذ بالله- لأن الله إذا ختم على القلب لا يؤمن صاحبه أبدًا:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7]، {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18]، وقال عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 96، 97]، فهم مع هذه الآيات لم يؤمنوا، فلما أحس منهم الكفر وأدركه وتبين له، لجأ إلى الاختيار وانتخاب الأكْفاء، فقال:{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} ، يعني إذا
كان الإيمان تعذر منكم جميعًا فمن الذي يكون ناصري؟ ! .
وقوله: {إِلَى اللَّهِ} ، (إلى) هنا للغاية، ولم يقل: من أنصاري في الله؛ ليكون النصر مبنيًا على الإخلاص؛ لأن (إلى) للغاية فيريد أن يكون نصرًا موصلًا إلى الله عز وجل.
وقوله: (مَن) هذه مبتدأ (وأنصاري) خبر (وإلى الله) متعلق بأنصار.
{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} .
الحواريون جمع حواريّ -بتشديد الياء- وهو من الحَوَر وهو البياض، وسموا حواريين لسلامة قلوبهم من أثر المعاصي؛ لأن المعاصي -نسأل الله العافية- نكت سوداء تكون في القلب، كلما عصى الإنسان نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب صقل وعاد إلى الاستنارة، وإن لم يتب وأحدث معصية أخرى زادت نكتة أخرى، وهكذا حتى يُطبع على القلب.
وقوله: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} ، يعني لا غيرنا، ووجه قولنا "لا غيرنا" أن الجملة هنا مكونة من مبتدأ وخبر، فهي جملة اسمية طرفاها مَعْرِفة، والجملة الاسمية التي يكون طرفاها معرفة تفيد الحصر، لكن لا شك أن إفادة الحصر فيها ضعيف ليس كإفادة إنما أو النفي والإثبات.
وقوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ} .
{آمَنَّا} : الإيمان في اللغة أخص من التصديق؛ لأنه تصديق بإقرار، ولهذا عُدي بالباء فيقال: آمنت به، ولا يمكن أن نجعله بمعنى التصديق؛ وذلك لأن الشيء إذا كان مرادفًا للشيء أي بمعناه تعدى بتعديته ولزم بلزومه، ومعلوم أن (آمن) تتعدى بما
لا تتعدى به (صدق)، فيقال: صدق بالخبر، ولا يقال: صدق له، ويقال: صدق زيدًا، ولا يقال: آمن زيدًا، بل آمن به -وآمن له- فلما اختلفا في المتعلق وجودًا وعدمًا علم أنهما ليسا بمعنى واحد، مع أن كثيرًا ممن يعرِّفون الإيمان في اللغة يقولون: الإيمان في اللغة: التصديق، وهذا فيه نظر، بل هو أخص من التصديق، أما الإيمان في الشرع فهو: الإقرار المستلزم للقبول والإذعان. لا يكفي التصديق فقط بل لابد من قبول ما جاء به الرسول والإذعان له، وأنتم تعلمون أن أبا طالب كان مصدقًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلن ذلك على الملأ فيقول في لاميته المشهورة:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
…
لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
لا مكذب لدينا، وأنه لا يعني بقول الأباطل ولا يهتم له، ويقول:
ولقد علمت بأن دين محمد
…
من خير أديان البرية دينا
وهذا تصديق، لكن لم يحصل منه القبول والإذعان والعياذ بالله، بل كان آخر كلامه أن قال: إنه على ملة عبد المطلب على الكفر، فشفع له النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أبلى بلاء حسنًا في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لا لأنه عمه، بل لأنه لو كانت العلة الحاملة لشفاعة الرسول هي القرابة، لشفع لأبي لهب، يقول عليه الصلاة والسلام:"فكان في ضحضاح من نار وعليه نعلان يغلي منهما دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"
(1)
.
(1)
رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قصة أبي طالب، رقم (3883). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، رقم (209).
قالوا: {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .
أشهدوا نبيهم عيسى عليه الصلاة والسلام على إسلامهم، مع أنه شهيد عليهم سواء استشهدوه أم لم يستشهدوه، كما قال الله تعالى:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، فكل رسول فهو شهيد على أمته؛ لأن الله تعالى أرسله إليهم وأنه بلغهم الرسالة.
فقولهم: {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ، من باب التوكيد وإعلان الإسلام.
ثم قالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} .
قوله: {رَبَّنَا} منادى حذفت منه ياء النداء لسببين:
1 -
كثرة استعمال هذا الاسم الكريم في الدعاء.
2 -
التبرك بالبداءة باسم الله عز وجل؛ لأن الرب من أسماء الله.
هذا أيضًا من قولهم رضي الله عنهم {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} وهو الإنجيل الذي جاء به عيسى عليه الصلاة والسلام، وما قبله وهي التوراة التي أنزلت على موسى، بل أعم من ذلك تتناول كل ما أخبرهم به نبيهم مما أنزل الله. {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} ، (ال) هنا في الرسول للعهد الذهني، وهو عيسى عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا رسول لهؤلاء القوم من بني إسرائيل إلا عيسى، فالذي عيّن أن يراد بالرسول عيسى هو العهد الذهني الذي كان معلومًا عندهم، ويحتمل أن (ال) للعهد الذكري لقوله فيما سبق {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 49]، ويحتمل أيضًا أن المراد بالرسول الجنس أي: واتبعنا كل من كان رسولًا من عندك، فيكون هذا
إقرارًا بأنهم آمنوا بجميع الرسل، وذلك أنه يجب على كل أمة متأخرة أن تؤمن بجميع الرسل السابقة. فنحن مثلًا آخر الأمم يجب علينا أن نؤمن بجميع الرسل {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]، في أصل الإيمان، وإن كنا نفرق بين الرسل من جهة الاتباع، فإننا لا نتبع إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم وما أذن لنا فيه مِن شرع من سبق، أما الإيمان فيجب الإيمان بجميعهم.
وقوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} ، (مع) هنا للمصاحبة، والمصاحبة لا تقتضي المخالطة أو الموافقة في الزمن، فقد تكون المصاحبة مع قوم سبقوك لكن في النهاية يكونون معك إلى الله.
وقولهم: {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} ، هذا في الحقيقة هو ثمرة الإيمان؛ الاتباع، وكلما كان الإنسان أقوى إيمانًا كان أشد اتباعًا لمن آمن به، وكلما قلَّ الإيمان قلَّ الاتباع، هكذا، ويصح أن نقول: كلما قلَّ الاتباع قلَّ الإيمان، أو نقول: كان علامة على نقص الإيمان؛ لأن المؤمن حقًّا لابد أن يطلب الوصول إلى ما آمن به، وهذا يقتضي أن يَجِدَّ كل الجدِّ في العمل الذي يوصله.
وقوله: {الشَّاهِدِينَ} .
قال بعض العلماء: المراد بالشاهدين أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشهادة المطلقة ليست إلا لهم؛ لأنهم آخر الأمم، فهم شهداء على جميع الرسل وعلى جميع الأمم، والشهداء الذين كانوا من قبلهم ليسوا شهداء إلا على من سبقهم فقط، كما قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143].
والمعنى: اكتبنا مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يرد على هذا التفسير أنهم سبقوا أمة محمد فكيف يطلبون أن يكتبوا معهم؟ والجواب: أن نقول: إن عيسى عليه الصلاة والسلام قد بشرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، فكان عندهم علم بهذه الأمة بواسطة البشارة التي ألقاها إليهم عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.
والقول الثاني: أن المراد (بالشاهدين) الذين شهدوا لرسلك بالحق، وهذا يتناول من سبقهم بلا شك، ويتناول أمة محمد إذا كان بعد أن أخبرهم بذلك وبشرهم به، وهذا القول الثاني أعم من القول الأول وأقل إشكالًا منه.
فالقول الصحيح هو كل من شهد للرسل بالحق.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
عتو بني إسرائيل وأنهم مع هذه الآيات العظيمة التي جاء بها عيسى لم يؤمن منهم أحد؛ لقوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} .
2 -
أنه إذا اشتبه الأمر فينبغي أن ينادي الداعية بالإخلاص فيقول: من المخلص؟ أي: أن ينتدب الصفوة من القوم؛ لقوله: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} ، فهو لما رأى أن القوم تمردوا وأحس منهم الكفر وظهر؛ انتدب من يرى أنه من صفوتهم.
3 -
أن الرسل صلى الله عليهم وسلم دعوتهم إلى الله لا إلى أنفسهم؛ لقوله: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} .
4 -
أن الرسل محتاجون لمن ينصرهم؛ لقوله: {مَنْ
أَنْصَارِي}، وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62].
5 -
فضيلة الحواريين رضي الله عنهم حيث أعلنوا أنهم أنصار الله مع كفر قومهم؛ لقوله: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} ، وهكذا ينبغي للإنسان أن يعلن اتِّباعه للرسول بين أئمة الكفر حتى لا يداهن في دين الله؛ لأن المداهنة في دين الله والتقية نفاق في الواقع، والفرق بين المداهنة والمداراة:
أن المداهنة: أن يقرهم على ما هم عليه من الباطل.
والمداراة: أن ينكر عليهم ولكن يداريهم لئلا يمنعوه من الحق.
6 -
في هذه الآية دليل على أن النصارى مسلمون بقولهم: {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} إلا أنهم مسلمون بالمعنى العام، وذلك أن كل إنسان متبع لرسول شَرْعُه قائمٌ فهو مسلم، وأما إذا وجد ما ينسخه فمن بقي على الدين الأول فهو كافر إذا كان الرسول مرسل إليه. وبناء على ذلك فإنه لا مسلم بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من اتبعه فقط، ومن سواه فهو كافر. وعلى هذا فالنصارى كفار واليهود كفار من أهل النار، ومن قال إنهم مسلمون بالمعنى الخاص الذي يدخلون به الجنة اليوم فهو كافر؛ لأنه مكذب لقول الله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ، ولقوله:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} .
7 -
أن إشهاد الإنسان على نفسه بالإيمان أو بالإسلام أو ما أشبه ذلك لا يعد من الرياء لاسيما في الاتباع؛ لأن في ذلك فائدة وهي تقوية المتبوع، إذا قال: أشهد بأني مسلم أو مؤمن أو
ممن اتبعك أو مما أشبه ذلك، لا شك أن في ذلك فائدة، وهي تقوية المتبوع، ولا يعد هذا من الرياء.
8 -
أن الرسل لا يعلمون الغيب، لقولهم:{وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ، لأنه لو كان عنده علم من ذلك لما احتاج إلى إشهاد، اللهم إلا على سبيل إقرارهم الظاهري.
وهل يؤخذ من الآية الكريمة جواز قول الإنسان: أنا مؤمن؟ لقولهم: {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ، ربما يؤخذ جواز قول الإنسان أنا مؤمن، ولا شك أن هذا جائز، ولكن الذي وقع فيه الخلاف بين أهل العلم: هل يجوز أن يستثني في الإيمان فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله أم لا؟ .
في هذا خلاف بين العلماء؛ منهم من قال: إنه لا يجوز، ومنهم من قال: إنه يجب، ومنهم من قال: إنه يجوز باعتبارين.
أما الذين قالوا إنه لا يجوز، فقالوا: إن هذا الاستثناء يوحي بالشك، أنه شاك وإلا كيف يقول إن شاء الله، فمادام الإيمان قد وقر في قلبه لا يقول إن شاء الله، ثم قالوا مؤيدين لتعليلهم: أرأيت لو صلى شخصًا فقيل له: أصليتَ؟ قال: إن شاء الله لعدَّ ذلك قريبًا من اللغو، ولو قيل له: لبست ثوبك؟ فقال: لبسته إن شاء الله وهو عليه، هذا لغو من القول. فإذا كان جازمًا بإيمانه فلماذا يقول إن شاء الله؟ فالاستثناء على هذا حرام؛ لأنه يؤذن بالشك، وإن لم يكن فهو لغو من القول.
والقول الثاني: أنه يجب أن يقول: إن شاء الله، يجب وجوبًا، فلو قال: إنه مؤمن وسكت، كان ذلك حرامًا عليه، وعللوا لذلك بأن الإيمان النافع هو الذي يموت الإنسان عليه،
والإنسان لا يدري ماذا يموت عليه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها"
(1)
، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يقول: إن شاء الله.
وهذا الوجه ليس بصحيح وليس بعلة؛ لأن الإنسان إنما يتكلم عن حاضره، وحاضره يعلم أنه مؤمن، والمستقبل علمه عند الله، نعم لو قال: سأموت على الإيمان، قلنا له: قل إن شاء الله، لكن المأخذ الصحيح أنه إذا قال: أنا مؤمن وجزم فإن في ذلك نوعًا من تزكية النفس، وقد قال الله تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32]، ولهذا نقول له: مقتضى جزمك بالإيمان، أنك جازم بأنك من أهل الجنة فشهدت لنفسك بأنك من أهل الجنة، ولا يشهد بالجنة لأحد بعينه إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ لابد أن تقول: إن شاء الله، وليس لأجل أنك لا تدري ماذا تموت عليه، لكن من أجل أن لا تزكي نفسك فيلزم من تزكيتك إياها أن تشهد لها بالجنة وهذا ممنوع.
وفصَّل بعض العلماء في هذه المسألة فقال: قد يكون الاستثناء حرامًا، وقد يكون واجبًا، وقد يكون جائزًا باعتبارات، فإذا كان الإنسان يقول أنا مؤمن إن شاء الله يريد بذلك التبرك أو بيان أن ما حصل من الإيمان كان بمشيئة الله فهذا جائز.
(1)
رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم (3208). ورواه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابه، رقم (2643).
والاستثناء بالمشيئة في الأمر الواقع جائز شرعًا، قال الله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: 27]، فقال: إن شاء الله مع أنهم سيدخلونها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب: "إنك آتيه، ومطوف به"
(1)
في صلح الحديبية، وفي زيارة المقابر يقول الإنسان:"وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" مع أن لحوقنا بهم مؤكد لكن هذا من باب بيان أن لحوقنا بهم مقرون بمشيئة الله.
وإن كان الحامل على الاستثناء الشك، حرم أن يستثني، إذا قال: إن شاء الله لأنه متردد، فهذا حرام؛ لأن الشك في الإيمان منافٍ للإيمان، إذ أن الإيمان لابد أن يكون جزمًا، ولكن الحذر الحذر أن يتلاعب الشيطان بالمؤمن في مسألة الوساوس التي كثر الشَّاكُون منها من الذين منَّ الله عليهم بالإقبال إلى الله، فلما أقبل الشباب إلى الله صار الشيطان يأتيهم بالوساوس وبالشكوك؛ لأجل أن يخلخل إيمانهم، ولكن هذا -والحمد لله- كيد كائد لمن كاد به كما جاء في الحديث:"الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة"
(2)
، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا صريح الإيمان، هذا صريح الإيمان: يعني خالصه الذي ليس فيه شبهة، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بعلاج ذلك فقال: "لا يزال الناس يتساءلون: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقولوا: من
(1)
رواه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، رقم (2734).
(2)
رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في رد الوسوسة، رقم (5112). ورواه أحمد في مسنده، رقم (2098).
خلق الله؟ فإذا بلغوا ذلك فليستعذ بالله ولينته"
(1)
، فهذا من جملة ما يوسوس به الشيطان وهذا علاجه.
وإذا كان الإنسان يخشى من تزكية نفسه إذا قال أنا مؤمن، أو يخشى أن يوكل إلى نفسه إن ظهر فيه الإعجاب؛ لأن الإنسان -أعوذ بالله- إذا أعجب بعمله وكل إلى نفسه ونزعت بركته، فإذا كان يخشى من ذلك كان الاستثناء واجبًا.
9 -
فضيلة الحواريين في لجوئهم إلى الله عز وجل حيث قالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} ، فإنهم بعد أن أشهدوا نبيهم لجأوا إلى ربهم عز وجل.
10 -
التوسل إلى الله تعالى بربوبيته؛ لأن الربوبية تدور على ثلاثة أشياء وهي: الخلق، والملك، والتدبير. وإجابة الدعاء داخل في هذه الثلاثة، فلذلك كان كثيرًا ما يتوسل الدعاة -دعاة الله- بالربوبية كما جاء في الحديث الصحيح:"يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب"
(2)
.
11 -
أنه يجب أن يكون الإيمان شاملًا لكل ما أنزل الله {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} .
12 -
حسن الاحتراز في قول الحواريين {بِمَا أَنْزَلْتَ} ، ولم يطلقوا الإيمان مثلًا بالتوراة؛ لأن التوراة التي بأيدي اليهود محرفة مبدلة، يبدون شيئًا ويخفون أشياء، فلهذا قالوا:{بِمَا أَنْزَلْتَ} ،
(1)
رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنده، رقم (3276). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، رقم (134).
(2)
تقدم تخريجه (ص 237).
ونحن نقول: آمنا بما أنزل الله من التوراة والإنجيل؛ لا بالتوراة المحرفة التي بأيدي اليهود، ولا بالإنجيل المحرف الذي بأيدي النصارى.
13 -
أن الإيمان لابد له من اتباع {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} ، ولهذا يقرن الله عز وجل بين الإيمان والعمل الصالح في آيات كثيرة؛ لأن الإيمان المجرد لا ينفع، والعمل الصالح بمنزلة سقي الشجرة، إن لم تسقها ماتت، ولهذا ينبغي لنا عندما نتكلم عن الإسلام أن لا نحاول جعل الإسلام عقيدة فحسب، بل هو عقيدة وعمل. العقيدة لا تكفي؛ لأن العقيدة الآن كل يدعى أنه معتقد، اليهود والنصارى يقولون: نحن نؤمن بالله واليوم الآخر، ونؤمن بأن هناك ربًّا مدبرًا للخلق، وأنه عز وجل خالق، ونؤمن بالبعث، ولكن هذا ليس بإيمان، وإن كان عندهم هذه العقيدة، فهذه عقيدة فاسدة، فلابد من قرن العقيدة بالعمل الصالح، حتى لا يتكل الناس على ما عندهم من العقيدة ويقولون لا حاجة للعمل، ولهذا قال: (آمنا
…
واتبعنا الرسول) لابد من هذا، وتأمل قوله:{آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} ، هل يؤخذ منها وجوب الإيمان بكل ما أنزل الله من كتاب؟ وأما الاتباع فيكون للرسول الخاص؟
الجواب: يمكن هذا لأنهم قالوا: آمنا بما أنزلت، وهذا عام، واتبعنا الرسول، وهذا خاص، وهو كذلك. فالإيمان واجب بجميع ما أنزل الله:{وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، ولكن الاتباع خاص بالرسول الذي أرسل إليك، أما الرسول الذي لم يرسل إليك فلست مأمورًا باتباعه إلا إن دلت شريعتك على اتباعه.
14 -
أنه إذا كان هناك وصفان، وكان أحد الوصفين أخص من الآخر بالعمل أو بالحال التي أنت فيها؛ فإن الأولى أن تأخذ بالأخص لقوله (الرسول)، لأنه رسول مرسل إلينا، ولم يقولوا:(واتبعنا النبي)، اتبعنا الرسول؛ لأن الرسول مرسل إلينا مبعوث، لكن النبي لا يؤمر بالتبليغ على قول جمهور العلماء، وهنا الاتباع الألصق به الرسالة. فلهذا اختاروا وصف الرسول.
فإن قال قائل: في حديث البراء بن عازب في ذكر النوم لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليه ذكر النوم الذي يكون آخر ما يقول الإنسان قال من جملة ما قال: "آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت
(1)
، فلما أعادها البراء قال: وبرسولك الذي أرسلت. فقال: قل: وبنبيك الذي أرسلت". ومعلوم أن المقام مقام اتباع، فلماذا لما قال البراء: ورسولك الذي أرسلت، والرسالة تتضمن النبوة، قال: قل: ونبيك؟ .
فالجواب على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن دلالة الرسالة على النبوة من باب دلالة الالتزام، ودلالة النبوة على النبوة من باب دلالة المطابقة؛ ودلالة المطابقة أقوى بلا شك؛ لأن دلالة الالتزام قد يمانع فيها الخصم، قد يقول: هذا ليس بلازم، فلهذا اختار وصف النبوة مع أن الرسالة جاءت بعده (. . . الذي أرسلت) ولو قال: رسولك الذي أرسلت لدلَّ على النبوة بطريق الإلتزام؛ لأن كل رسول
(1)
رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب إذا بات طاهرًا وفضله، رقم (6311). ورواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقال عند النوم وأخذ المضجع، رقم (2710).
نبي، لكن إذا قال: بنبيك الذي أرسلت دلَّ على النبوة بطريق المطابقة؛ لأنه صرح بها بلفظها، ومعلوم أن الدلالة بالمطابقة أقوى من الدلالة بالالتزام لجواز منع الملازمة.
الوجه الثاني: أنه إذا قال: برسولك الذي أرسلت لم يكن وصفًا مخصصًا لمحمد صلى الله عليه وسلم إذ قد يراد بذلك جبريل مثلًا، جبريل رسول مرسل كما قال تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19، 20]، فجبريل مرسل، فلو قال: برسولك الذي أرسلت لم يحدد أن هذا الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، أما إذا قال: بنبيك الذي أرسلت تحدد الوصف بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن جبريل لا يسمى نبيًا وإنما يسمى رسولًا، وبهذا يزول الإشكال الذي أشرنا إليه، وهو أنه ينبغي أن يذكر الوصف المطابق، للحال التي عليها المتكلم؛ لأن الحديث -حديث البراء- اختير فيه النبوة على الرسالة من أجل هذين الوجهين.
15 -
الحرص على صحبة الأخيار، نأخذه من قوله:{فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} ، ولا شك أن صحبة الأخيار خير، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم مثَّلها بحامل المسك قال:"مثل الجليس الصالح والجليس السَّوءِ كحامل المسك ونافخِ الكير؛ فحامل المسكِ، إما أن يُحْذِيَكَ -يعني يعطيك مجانًا هبة-، وإمّا أن تبتاع منه، وإِمّا أن تجد منه ريحًا طيبة -كل هذا طيب- ونافِخ الكيرِ. ."
(1)
، والكير
(1)
رواه البخاري، كتاب البيوع، باب في العطار وبيع المسك، رقم (2101). ورواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء، رقم (2628).
عبارة عن جلد مثل الغَرْب، والغرب دلو للبعير يرفع به الماء فهو يشبه الغرب وفيه طرف مفتوح، وفيه طرف متصل بأنبوب يتصل بمكان النار فيفتحه ثم يضمه ويكون قد حمل هواء عن طريق هذا الأنبوب يدفعه جهة النار، فتلتهب بشدة، وغالبًا ما يكون اثنين، واحد عن يمين الرجل وآخر عن يساره، فتكون النار دائمًا تلتهب.
"ونافخ الكير إما أن يُحْرِق ثيابَكَ، وَإِمّا أن تجد منه ريحًا خبيثة"، ولهذا ينبغي للإنسان أن يختار من الجلساء أصلحهم؛ لأن الجليس الصالح كله خير، والجليس السوء كله شر.
* * *
قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} .
مكروا: الضمير يعود على الذين كفروا بعيسى، والمكر هو أن يتوصل إلى الانتقام من خصمه بأسباب غير متوقعة، يعني بأسباب خفية ينتقم من خصمه والمضاد له بأسباب خفية، ويشبهه الخداع، فإن الإنسان يتوصل إلى أن ينتقم من خصمه من حيث لا يشعر بأسباب خفية. وقوله:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} ، يعني أن الله سبحانه وتعالى مكر بهم حينما مكروا بعيسى، {وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ}، يعني أقواهم في المكر وأشدهم وأعلمهم بالأسباب التي تحيط بأعدائه.
فإذا قال قائل: ما الذي دلنا على أن الضمير في قوله: (مكروا) يعود على الذين كفروا بعيسى؟
فالجواب على هذا سهل؛ لأن قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} لا يمكن أن يصدر من قوم قالوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52]، وقالوا:{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} [آل عمران: 53]، لا يمكن هذا بل لا يصدر إلا من قوم كفروا، وهو قوله:{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} [آل عمران: 52].
فإن قيل: ما هذا المكر الذي مكروه؟ .
فالجواب على هذا: أنهم مكروا بعيسى حيث تمالأوا على قتله فأنجاه الله منهم ومكر الله بهم، فجعل شبهه في رجل، إما منهم من الذين جاءوا لقتله، وإما من أصحاب عيسى، ألقى الله شبهه على واحدٍ منهم فقتل. المهم أن هؤلاء تمالأوا على القتل وجاءوا إلى عيسى عليه الصلاة والسلام فدخلوا عليه ولم يشعروه أنهم يريدون قتله لئلا يستنجد بأحدٍ أو يدافع عن نفسه، وما أشبه ذلك، ولكن الله عز وجل ألقى شبهه على واحد منهم أو على واحد من أصحابه الحواريين، في هذا قولان للمفسرين:
القول الأول: منهم من قال: إن الله ألقى شبهه على واحد منهم وهو زعيمهم، جعل الله شبه عيسى في هذا الرجل، فلما أرادوا أن يقتلوه قال: أنا صاحبكم، قالوا: كذبت لست صاحبنا بل أنت عيسى فقتلوه وصلبوه، وهذا بلا شك مكر عظيم أعظم من مكرهم؛ لأن هذا الرجل الذي جاء متزعمًا هؤلاء القوم ليقتل
عيسى صار هو القتيل، وهذا القول أقوى من حيث إن فيه مكرًا بهؤلاء عظيمًا.
أما القول الثاني: فيقولون: إن عيسى عليه الصلاة والسلام لما أحسّ بأنهم دخلوا عليه ليقتلوه قال لأحد أصحابه: من يقبل أن يلقي الله عليه شبهي فأضمن له الجنة، فانتدب واحدًا منهم لذلك، وألقى الله شبهه عليه، وقيل: بل ألقى الله شبهه على جميع من كانوا مع عيسى حتى إن هؤلاء القوم لما دخلوا كان كل واحد يقول: أيكم عيسى، أيكم عيسى، أيكم عيسى، لم يعلموه.
هذان قولان رئيسيان، القول الأول: أن الشبه ألقي على زعيم القوم الذين جاءوا ليقتلوه فقتل، والقول الثاني: أنه على رجل من أصحاب عيسى، ثم هل ألقي الشبه على الجمع فاشتبه على الذين دخلوا، أو أنه ألقي على واحد منهم؟ فيه أيضًا قولان، والمسألة ليست فيها نصٌّ عن النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام فالله أعلم، لكن قوله تعالى:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]، قد يؤيد القول الأخير أنه صار كل واحد مِن الذين مع عيسى يشبه عيسى، فاشتبه عليهم من هو عيسى.
المهم أن هذا هو مكرهم أنهم جاءوا إلى عيسى عليه الصلاة والسلام ليقتلوه على وجه لا يشعر بذلك؛ أما مكر الله بهم فهو أنه ألقى الشبه إما على واحد منهم أو من أتباع عيسى فقتلوه، فظنوا أنهم قتلوا عيسى وصاروا يعلنون: قَتَلْنا عيسى وصلبناه، وهم لم يقتلوه ولم يصلبوه.
وفي قول الله عز وجل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} ، فيها من صفات الله إثبات المكر لله عز وجل، والبحث في هذا أولًا: هل
المكر على حقيقته؟ أو هو عبارة عن المجازاة على مكر، فسمي المجازاة على المكر مكرًا من باب المقابلة اللفظية لا المعنوية، فهو كقوله:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194]، والمقتص لنفسه لا يسمى معتديًا لكنه يشبهه في اللفظ من باب المقابلة اللفظية لا المعنوية، أو أنه مكر حقيقي؛ لأن صنيع الله بهم مكر حيث كان القتيل منهم على أحد الأقوال أو اشتبه عليهم الأمر على القول الثاني، والصحيح في هذا أن الله تعالى يوصف بما وصف به نفسه، ولسنا أعلم بالله من نفسه، هو أعلم بنفسه وأصدق قيلًا وأحسن حديثًا، ولكنه يجب أن ينزه عن كل نقص، فالمكر هل هو من صفات النقص على سبيل الإطلاق يعني ليس فيه مدح إطلاقًا أو هو نقص في حال دون حال؟
الجواب: الثاني هو الحقيقة، أن المكر في مقام المكر مدح وصفة كمال، والمكر في غير موضعه صفة نقص؛ لأن المكر في غير موضعه خيانة، والخيانة صفة ذم، ولهذا لم يصف الله بها نفسه حتى في باب المقابلة، {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال: 71]، ولم يقل: فخانه؛ لأن الخيانة صفة ذم مطلقًا بخلاف {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} فقابل الله مكرهم بمكر ولم يقابل خيانتهم بخيانة.
إذن نقول: يجب أن نصف الله بما وصف به نفسه من المكر في الحال التي وصف الله فيها بالمكر، وذلك في مقابلة مكر أعدائه.
فنقول: إن الله يمكر بمن يمكرون به وبرسله وبآياته، أما أن نصف الله بالمكر على الإطلاق فنقول: إن الله ماكر ونطلق،
فهذا لا يجوز، لماذا؟ لاحتمال النقص؛ لأن المكر كما قلنا: ليس كمالًا في كل حال، ولا نقصًا في كل حال، فإذا أطلق صار قابلًا لأن يكون نقصًا، فإذا قيدت بالحال التي يكون فيها كمالًا لم يحتمل أن يكون نقصًا. إذن نقول: المكر يوصف الله به لا على سبيل الإطلاق، ولكن في الحال التي وصف الله نفسه فيها به، ولهذا جاء في الحديث:"الحرب خدعة"
(1)
، وكلٌّ يعرف أن الخدعة في الحرب كمال وليست بنقص، ويذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما خرج إليه عمرو بن ود ليبارزه، ومعروفة هي المبارزة إذا التقى الصفان طلب المتقاتلون المبارزة، من يبرز لفلان؟ والمبارزة سبب للفتح والنصر أو للهزيمة؛ لأنه إذا تبارز الرجلان وانتصر أحدهما قويت نفوس أصحابه وضعفت نفوس الآخرين، لما خرج إلى مبارزة عمرو بن ود صاح علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: ما خرجت لمبارزة رجلين، فظن عمرو بن ود أنه قد تبعه أحد من قومه، فالتفت لينظر هل لحقه أحد، فلما التفت ضربه عليٌّ بالسيف حتى طن رأسه، هذه خدعة أم لا؟ محمودة أو غير محمودة؟ محمودة، لأنه جاء ليقتل عليا، فتخلص منه بهذه الخدعة، هذا يعدُّ منقبة لعلي بن أبي طالب وصفة كمال، وحينئذٍ نقول: المكر في موضعه مدح وكمال.
يقول: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} .
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحرب خدعة، رقم (3029). ورواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز الخِداع في الحرب، رقم (1739).
هذه صفة ثابتة مطلقة، لا تحتاج إلى قيد؛ لأنها وصفت بكمال، ما هو الكمال؟ خير، فالله خير الماكرين، يعني ما من أحد يمكر إلا ومكر الله فوقه وخير منه.
والمكر من الصفات الذاتية أو الفعلية؟ الفعلية؛ لأنها تتعلق بمشيئته، وكل صفة من صفات الله لها سبب فهي متعلقة بالمشيئة؛ لأن مقدّر السبب هو الله، فإذا قدّر السبب فقد شاءه، ويترتب عليه ما يترتب من الصفات.
يحتمل أن تكون (إذ) متعلقة (بمكر الله) يعني ومكر الله (إذ قال الله: يا عيسى إني متوفيك)، ومحتمل أنها متعلقة بمحذوف تقديره: اذكر يا محمد منوّهًا بفضل عيسى إذ قال الله: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} .
أي: إني قابضك، مأخوذة من قولهم: توفى الدائن دَيْنه أي: قبضه، وعيسى قد قبضه الله إليه في السماء ورفعه حتى ينزل في آخر الزمان، هذا قول.
والقول الثاني: متوفيك وفاة نوم، يعني منيّمك؛ لأن النائم متوفى، قال الله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]، وقال:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [الأنعام: 60].
والقول الثالث: أنها وفاة حقيقية، توفاه الله وفاة حقيقية وسيحييه في آخر الزمان وينزل إلى الدنيا، والصحيح أنها وفاة
نوم؛ لأن الله عز وجل لما أراد أن يرفعه إلى السماء أنامه ليسهل عليه الانتقال من الأرض إلى السماء؛ لأن الانتقال من الأرض إلى السماء ليس بالأمر الهين لطول المسافة وبعدها ورؤية الأهوال فيما بين السماء والأرض وفي السموات أيضًا، فأنامه الله ثم رفعه نائمًا حتى وصل إلى السماء، لكن هذا القول لا ينافي القول الأول الذي معناه قابضك؛ لأن نهايتهما واحدة. أما القول الثالث: أنها وفاة موت، فقول ضعيف يضعفه قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159]، قبل موته أي: عيسى، وهذا يدل على أنه لم يمت، ولأن الله تعالى لم يبعث أحدًا بعد الموت فيبقى كما في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان؛ ولأنه -أعني إطلاق الوفاة على النوم- كثير في القرآن، يعني ليس بمعنى غريب حتى نقول: لا يصح حملها عليه، بل هو معنى له كثرة في القرآن.
وقوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} .
(إليّ) إلى أي مكان؟ إلى السماء؛ لأن الرفع يكون من نازل بمعنى رافعك إليّ يعني في السماء، رفعه الله سبحانه وتعالى إلى السماء إلى الله.
{وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
مطهرك منهم: التطهير هنا تطهير معنوي لا تطهير حسّي، وذلك لأن الذين كفروا ليسوا يلطخون عيسى بالقاذورات الحسّية لكنهم يلطخونه بالقاذورات المعنوية، قالوا: إنه كذّاب، وإنه ابن زنا والعياذ باللهِ، وأن أمه زانية، واتهموه بأشياء كثيرة، فطهره الله منهم وذلك بما أنزل من براءته في عهده وفيما بعد عهده.
وقوله: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} كفروا بمن؟ كفروا بعيسى؛ لأن الحواريين آمنوا به كما سبق.
{وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
هذا أيضًا من جملة ما قاله الله له: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، جاعل هنا مضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول؟ إلى المفعول. (فوق) محلها النصب، هي ظرف متعلق بمحذوف على أنه مفعول ثانٍ؛ لأن جاعل اسم فاعل من جعل، وجعل تنصب مفعولين، إذن (فوق): ظرف متعلق بمحذوف وهو المفعول الثاني.
وقوله: {اتَّبَعُوكَ} : أي الذين اتبعوا شريعتك {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، فوق الكفار إلى يوم القيامة، هذه الآية يطبل بها النصارى ويقولون: نحن لنا العلو إلى يوم القيامة، ليس إلى أن بُعث محمد، ولكن إلى يوم القيامة. فنقول: نعم صدق الله العظيم، إن الذين يتبعون عيسى لهم النصر على الكافرين إلى يوم القيامة، ولكن مَنِ الذين اتبعوا عيسى؟ هم الذين ردُّوا بشارته وكذبوا من بشّر به؟ لا أبدًا أنتم لم تتبعوا عيسى ووالله لو خرج عيسى لقاتلكم حتى ترجعوا إلى الإسلام، ولهذا في آخر الزمان لا يقبل إلا الإسلام، لا يقبل الجزية ويكسر الصليب ويقتل الخنزير، في آخر الزمان لا يقبل حتى الجزية التي كانت تقبل قبل نزوله، لا تقبل من شدة كراهته لما عليه النصارى واليهود الآن، نحن نقرّ لليهود والنصارى بالجزية، نقول: ابقوا على دينكم لكن أعطوا الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون، لكن إذا نزل عيسى لا يقبل، يقول: أسلم وإلا فالقتل، لكراهيته لما هم عليه، لا يريد أن يقرهم ولا على هذا. المهم أن نقول: إن الذين اتبعوا عيسى هم
الذين آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام بعد بعثة محمد، أما قبل بعثة محمد نعم لا شك أن أتباع عيسى هم المسلمون، وأنهم على الحق قبل أن يحرّفوا ويبدّلوا. فإذا قالوا: كيف تجيبون عن قوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ؟ قلنا: نعم آمِنُوا بمحمد ولكم النصرة إلى يوم القيامة. فإن قال قائل: أفلا يمكن أن يراد بالذين اتبعوه أي: الذين انتسبوا إليه وتكون لهم الغلبة على الكافرين لا على المسلمين، يعني مثلًا أن النصارى يغلبون اليهود والوثنيين وما أشبه ذلك، ويخرج من هذا المسلمون. ويكون الله تعالى قد وعد عيسى بأن يكون من انتسب إليه فوق الذين كفروا به.
الجواب: لا يمكن هذا، ليس بعيدًا متعذرًا؛ لأن هؤلاء لم يتبعوا عيسى، ألم تسمعوا أن الله يقول يوم القيامة:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 116، 117]، وهل النصارى يقولون بهذا؟ أبدًا، إذن لم يتبعوه، فالآية وإن كان قد يتراءى لبعض الناس أن يقول: إن النصارى يغلبون غيرهم من الكفار لهذه الآية فإنا نقول: لا لأن الله يقول: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} والنصارى الآن لم يتبعوه، ثم إن الآية يعني لو فسرت بهذا التفسير لكان الواقع يخالفه، فالأمة الصليبية لم تظهر على الأمة الشيوعية بل هي خائفة منها فأين الفوقية؟ ليست هناك فوقية الآن، كل دول أوروبا الغربية بأسطولها وحلفها الأطلسي عجزت أن تكون فوق الشيوعية
وحلفها، كل واحدة منهم تخاف الآن من الأخرى، وقد يكون أتى في يوم من الأيام أن أوروبا تخاف من الشيوعية أكثر مما تخاف منها هذا اليوم، فالحاصل أن الآية لا يمكن أن تحمل على النصارى الموجودين اليوم بأي حال من الأحوال.
ثم قال: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} .
{ثُمَّ} : يعني بعد يوم القيامة إليّ مرجعهم، ويوم القيامة هو اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين يجازون على أعمالهم، وسمّي يوم القيامة لثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن الناس فيه يقومون لله رب العالمين كما قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6].
الوجه الثاني: أنه يقوم فيه الأشهاد، فالرسل يشهدون على أممهم، وهذه الأمة تشهد على الأمم السابقة، قال الله تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
الوجه الثالث: أنه يقام فيه العدل، قال الله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47]، فهو يقام فيه العدل، ولهذا أقسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق البار المصدوق عليه الصلاة والسلام قال:"والله لتؤدين الحقوق إلى أهلها حتى إنه ليقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء"
(1)
هذا عدل، أكبر العدل، فلهذا سمي يوم القيامة للوجوه الثلاثة.
ثم قال عز وجل: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} ، يعني ثم بعد هذه
(1)
رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم (2582).
الغلبة في الدنيا أو المغالبة في الدنيا حتى يكون بعضكم فوق بعض، بعد ذلك إليّ مرجعكم أي: مصيركم، وكل المصير إلى الله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة، قال تعالى:{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]، {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، الأمر إلى الله أولًا وآخرًا لكن ظهور هذا الرجوع لا يكون إلا يوم القيامة حيث يتبين فيه للناس جميعًا أن الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى يجازي كل نفس بما عملت، ولهذا قال:{ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} .
الله أكبر، وما أعدل هذا الحكم، أحكم بينكم، بين مَنْ؟ بين الخلائق فيما كانوا فيه يختلفون، وهل الناس يختلفون في شيء؟ نعم، فمنكم كافر ومنكم مؤمن، اختلاف عظيم، فيحكم الله عز وجل بين هؤلاء وهؤلاء، ويحكم كذلك بين الرسل وأتباعهم، فتقيم الرسل البينة على أنها بلغت الرسالة وقد ينكر ذلك أتباع الرسل لكن لا يتم لهم مقصودهم، فالحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه إلى الله.
وقوله: {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} ، أحكم فعل مضارع فهل يشتق منه اسم من أسماء الله؟ القاعدة: أن الفعل لا يشتق منه، لكن قد وُجِدَ اسم من دون الرجوع إلى هذا الفعل وهو "الحكيم"، فإن الحكيم مأخوذ من الحُكْم والحِكْمة، ومن أسماء الله (الحَكَم) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله هو الحَكَم وإليه الحُكْم"
(1)
(1)
رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في تغيير الاسم القبيح، رقم (4955). ورواه النسائي، كتاب آداب القضاة، باب إذا حكموا رجلًا فقضى بينهم، رقم (5387).
وهذا من الحكم، فالله هو الحكم الذي يرجع الناس إليه في تحاكمهم.
{فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} : الحكم لله عز وجل كونًا وشرعًا، فهو الحاكم كونًا وهو الحاكم شرعًا، أما حكمه الكوني فهو نافذ على كل أحد، ولا يستطيع أحد أن يتخلص منه ولا أن يعانده، وأما الحكم الشرعي فإنه باختيار المحكوم عليه، فمن شاء فليؤمن:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، إذن حكم الله ينقسم إلى قسمين: كوني وشرعي.
فالحكم الكوني ما يقدّره الله على عباده، ولا يمكن التخلف عنه، ويتعلق فيما يحبه وما لا يحبه، فيحكم كونًا بوقوع الطاعات وهذا مما يحبه، ويحكم كونًا بوقوع السيئات والمعاصي وهذا لا يحبه، لكنه عز وجل يحكم به كونًا لحكمة ومصالح عظيمة.
وأما الحكم الشرعي فهو ما قضاه بين العباد شرعًا، وهو الذي جاءت به الرسل، وأصله أوامر ونواهٍ، افعلوا كذا، لا تفعلوا كذا، ولا يلزم من الحكم الشرعي وقوع المحكوم به، بل قد يتخلف عنه كثير من الناس، وها هم الرسل يرسلهم الله عز وجل يتبعهم أناس قليلون وأناس كثيرون، بل قد قال النبي عليه الصلاة والسلام:"ورأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد"
(1)
فيتخلف الحكم الشرعي.
(1)
رواه أحمد، في مسنده، رقم (2444).
وقال بعض العلماء: إن هناك قسمًا ثالثًا للحكم وهو الحكم الجزائي الذي يحكم الله فيه بالجزاء على من عمل إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وعليه يتنزل قوله هنا:{فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} .
قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} .
الفاء هذه عاطفة على ما سبق عطف تفريق، أي: أن ما بعدها فرع عمَّا قبلها، يعني هذا الحكم يكون على هذا الوجه. {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ} ، و (أما) هنا شرطية تفصيلية، يعني أنها تفيد التفصيل كما في قوله:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} [الليل: 5]، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} [الليل: 8]، وهنا قال:{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} ، {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 57]. وقوله: فأما الذين كفروا فأعذبهم، كفروا بمن؟ كفروا بالله ورسله. والكفر في اللغة: الستر، ومنه سمي الكُفُرَّى الذي هو غطاء طلع النخل، الذين كفروا ستروا ما أنعم الله به عليهم من نعمة العقل ونعمة المال والصحة وغير ذلك، حيث لم تظهر عليهم آثار هذه الأشياء، فآثار العقل أن الإنسان يفعل ما ينفعه ويدع ما يضره، ومنه سمي العقل حِجْرًا؛ لأنه يحجر صاحبه عما يضره، لكن الذين كفروا ستروا ما يقتضيه العقل من حسن التصرف وذلك بالإيمان بالله ورسله، فلذلك سموا كفارًا، أي: ساترين لما أنعم الله به عليهم من نعمة العقل التي مقتضاها الإيمان بالله ورسله.
قال: {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} .
العذاب: فعل ما به مشقة أو حصول ما به مشقة سواء كان عن ذنب أو غير ذنب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن
السفر قطعة من العذاب"
(1)
، وقال:"إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"
(2)
، يعني هذا عذاب مشقة، ومن عذاب المشقة عذاب العقوبة لأنه شاق على المعاقب، والمراد بالعذاب هنا عذاب مشقة العقوبة.
{فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} ، الشديد يعني القوي العظيم في الدنيا والآخرة، في الدنيا قال العلماء: إن العذاب في الدنيا ما يحصل لقلوبهم من الضيق والضنك والقلق والحسرة وغير ذلك، وما يحصل لهم على أيدي المؤمنين من القتل والأسر والجزية وغير ذلك، فعذابهم يكون بالألم القلبي والألم البدني، ولهذا قال:{فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا} ، أما عذابهم في الآخرة فظاهر يعذبون في الآخرة بماذا؟ بالنار، يعذبون في الآخرة بالنار وهم لا تتخطاهم العقوبتان أو إحداهما، يعني إما أن يحصل لهم هذا وهذا وهو الغالب، وإما أن يحصل لهم عذاب الآخرة ولابد، ولكن ظاهر الآية الكريمة في الدنيا والآخرة أنه يحصل لهم العذاب في الدارين، قال:{فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ، الدنيا هي هذه الحياة التي نحياها ووصفت بذلك لوجهين:
1 -
لدنوّها لأنها سابقة على الآخرة، فهي دانية.
(1)
رواه البخاري، كتاب الحج، باب السفر قطعة من العذاب، رقم (1804). ورواه مسلم، كتاب الإمارة، باب السفر قطعة من العذاب واستحباب تعجيل المسافر، رقم (1927).
(2)
رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"يعذب. . ."، رقم (1288). ورواه مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، رقم (927).
2 -
لنزول مرتبتها كما يقال: دنيا وعليا، فالدنيا نازلة في المرتبة عن الآخرة، مهما بلغ نعيمها فإنها نازلة عن الآخرة؛ لأن نعيم الدنيا إذا حصل فهو مشوب بالكدر كما قال الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا
…
ويوم نُسَاءُ ويوم نسرّ
وقال الثاني:
لا طيب للعيش ما دامت منغصة
…
لذّاته بادِّكار الموت والهرم
فمهما نعم الإنسان في هذه الدنيا فنعيمها دانٍ، ولهذا وصفت بالدنيا، أما نعيم الآخرة فقد قال الله تعالى:{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71]، وقال تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
قال: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} .
(ما) نافية، يعني هذا العذاب الشديد الذي يوقعه الله فيهم لا يجدون مَنْ ينصرهم منه أي: مَنْ يدفع عنهم هذا العذاب لا أهل ولا مال ولا صديق ولا قريب ولا أحد من الناس: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا} [المعارج: 11 - 15].
ثم جاء بالقسم الثاني قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم، والرب عز وجل يكرر هذا دائمًا في القرآن، يجمع بين الإيمان والعمل الصالح، لأنه لا إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان، بل لابد من الأمرين.
{آمَنُوا} : آمنوا بما يجب الإيمان به، وذلك بالإيمان بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، أي: عملوا الأعمال الصالحات، والأعمال الصالحات هي التي تكون لله وفي الله، أي: أنها خالصة لله وفي حدود شريعة الله، يعني خالصة صوابًا كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله، خالصة لله صوابًا يعني على السنة، هذا هو العمل الصالح، فإن لم تكن خالصة فليست عملًا صالحًا بل هى مردودة على صاحبها؛ لقول الله تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وفي الحديث القدسي:"قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"
(1)
، وأما الموافقة أو الصواب كما قال الفضيل فلقوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"
(2)
، فلا يقبل العمل إلا بموافقة الشرع.
{وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} .
{فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي: جزاء أعمالهم، (اللهم لك الحمد)، انظر إلى هذه المنة، كأن هؤلاء عمال يستحقون الأجر ولابد، حيث سمَّى الله جزاءهم أجرًا، والأجر من المستأجَر حق يجب له، ولكن هذا من فضل الله عز وجل وكرمه؛ لأن
(1)
رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، رقم (2985).
(2)
رواه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، رقم (2697). ورواه مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم (1718).
الذي أوجب الأجر على نفسه مَنْ؟ الله عز وجل هو الذي أوجب ذلك على نفسه، لم يوجبه أحد عليه، لو شاء لأمرنا ونهانا ولزمنا أن نطيعه بدون عوض؛ لأنه ربنا وخالقنا وما نعمله من الطاعات فإنه لا يقابل واحدة من نعمه التي لا تحصى سبحانه وتعالى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لن يدخل الجنة أحدٌ بعمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته"
(1)
صلى الله عليه وسلم، فهذه الأجور التي هي جزاء الأعمال التي سماها الله أجرًا كالأجرة المفروضة على المستأجر لم يوجبها أحد على الله بل هو الذي أوجب على نفسه هذا الأجر، قال ابن القيم رحمه الله:
ما للعباد عليه حق واجب
…
هو أوجب الأجر العظيم الشان
كلا ولا عمل لديه ضائع
…
إن كان بالإخلاص والإحسان
إن عذبوا فبعدله أو نُعِّموا
…
فبفضله والفضلُ للمنان
والحاصل: أننا ليس لنا حق على الله واجب {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54]، اللهم لك الحمد.
قال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} .
خَتْمُ الآية بهذا مناسب؛ لأنه لما بيّن أن هؤلاء آمنوا وعملوا الصالحات فيوفون أجورهم بيَّن أن هؤلاء قد قاموا بما يلزمهم وأنهم لم يظلموا أنفسهم، ولذلك أثابهم الله عز وجل هذا
(1)
رواه البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، رقم (5673). ورواه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله، رقم (2818).
الثواب العظيم، وأن الله سبحانه وتعالى لا يحب الظالمين، فلو ظلموا أنفسهم ما استحقوا هذا الثواب كما قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، فلو أشركوا بالله لحبط عنهم ما كانوا يعملون، وبطل عملهم؛ لكنهم أخلصوا لله، ولو ابتدعوا في دين الله ما قبله الله منهم، ولكنهم اتبعوا شريعة الله، فانتفى عنهم الظلم في الإخلاص وفي العمل فكانوا أهلًا لإكرام الله عز وجل. أما الذين كفروا واستحقوا العذاب فإنهم ظلموا أنفسهم فحصلوا على مقت الله وعقابه -والعياذ بالله- وعدم محبته.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} .
{ذَلِكَ} : المشار إليه كل ما سبق من ذكر آل عمران رحمهم الله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]، فكل هذا مما تلاه الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله:{نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} أي: نقرؤه عليك متتاليًا يتلو بعضه بعضًا، ولكنه بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195].
وقوله: {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ} .
{مِنَ الْآيَاتِ} : "من"، قال بعضهم: إنها بيانية تبيِّن المشار إليه في قوله: "ذلك"، وقال بعضهم: إنها تبعيضية، أي: بعض الآيات، ولكن الصواب الأول، وهو أن ما تلاه الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كله الآيات، والآيات جمع آية وهي في اللغة العلامة، العلامة على شيء تسمَّى آية كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ
يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197]، وقال تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37]، يعني علامة على قدرتنا، وما أشبه ذلك من الآيات، ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا إلى عامله في خيبر أن يعطيه ساقًا من التمر قال:"فإن طلب منك آية -أو قال: أمارة- فضع يدك على ترقوته"
(1)
، كأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال للعامل: إذا بعثت إليك مبعوثًا فإن علامة صدقه أن يضع يده على ترقوتك.
قال: {مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ} .
الذكر: يطلق على معانٍ: منها الشرف كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]، أي: شرف عظيم، ومنه قوله تعالى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، أي: شرفك، ويطلق الذكر على ما يحصل به التذكر، فيسمى الكلام الجيد المشتمل على الموعظة ذكرى، قال الله تعالى:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]، أي: التذكرة، ويطلق الذكر على ذكر الله عز وجل كما قال تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا} [النساء: 103]، والمراد به في هذه الآية المعنيان الأولان الشرف وما يحصل به التذكير، فإن هذا القرآن لا شك شرف لمن تمسك به وقام بحقه، فإنه ينال شرف الدنيا والآخرة وسعادة الدنيا والآخرة، ولم يشرّف العرب ولم ينالوا السعادة والنصر والظهور إلا حين تمسكوا به، ولذلك لما تخلوا عنه زال عنهم وصف الشرف والظهور والنصر وصاروا إلى ما ترون. ولن يعود لهم مجدهم السابق مهما طنطنوا بالعروبة والقومية وما أشبه ذلك إلا إذا رجعوا إلى الإسلام، فمهما بلغوا في الدعاية فيما يتعلق
(1)
رواه أبو داود، كتاب الأقضية، باب في الوكالة، رقم (3632).
بالقومية والعروبة وما أشبه ذلك فإنها لن تنفعهم ولن تزيدهم إلا دمارًا كالذين يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقًا، لن تزيدهم إلا ذلًا إلا إذا رجعوا إلى دين الله الذي انتصروا به من قبل.
والقرآن أيضًا ذكر من جهة التذكير؛ لأن كل إنسان يقرأ القرآن بحضور قلب فلابد أن يتأثر به: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] لابد أن نتذكر به فهو موعظة عظيمة حتى لغير المؤمنين إذا سمعوه وهم يعرفون آياته أي: معانيها فسوف يتعظون به، وما وقع لبعض العرب في ذلك أمر مشهور في التاريخ، حتى إنه ذُكِر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ عليهم:{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13]، قالوا: أمسك. أو هم أمسكوا ووضعوا أيديهم على فمه من شدة ما يعلمون من هذه المعاني العظيمة.
وقوله: {الْحَكِيمِ} : يعني ذا الحكمة، فالقرآن كله حكمة، وهو فعيل بمعنى مُفعَل، وفعيل بمعنى فاعل، فهو فعيل بمعنى مُفعل أي: محكم متقن، وهو فعيل بمعنى فاعل أي: حاكم لأن القرآن بلا شك حاكم بين الناس: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105].
من فوائد الآيات الكريمة:
من فوائد قوله عز وجل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} .
1 -
أن أعداء الرسل يكيدون لهم ويمكرون لهم؛ لقوله: {وَمَكَرُوا} وننتقل من هذا إلى:
أ - أن أعداء الرسل أيضًا يمكرون لأتباع الرسل؛ لأن أعداء
الرسل ليسوا يمكرون للرسل أو يمكرون بالرسل من أجل أنهم فلان وفلان لكن من أجل دعوتهم، ودعوتهم إذا ورثها العلماء من بعدهم فإن الذين يمكرون للرسل سيمكرون بأتباع الرسل وورثة الرسل، وينبني على هذه الفائدة:
ب - أنه يجب على أهل العلم أن يتحفظوا تحفظًا كاملًا من أعداء الرسل الذين يتربصون بهم الدوائر، وأن يتقوا شرَّهم بما استطاعوا لئلا يمكروا بهم، والمكر وسائله وطرقه كثيرة، لكن العاقل الذكي ينتبه، ولهذا قال الله عز وجل للرسول عليه الصلاة والسلام في المنافقين، قال:{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4]، فبيّن أنهم هم العدو حقيقة، وأمر بالحذر منهم.
2 -
لا يوصف الله بالمكر على سبيل الإطلاق بل يقال: إن الله ماكر بمن يمكر به؛ ليعود المكر صفة كمال؛ لأن المكر إذا ذكر مطلقًا صار محتملًا للنقص، فإذا ذكر مقيدًا بأن قيل: إن الله ماكر بمن يمكر به وبأوليائه، صار صفة كمال تدل على قوة الله عز وجل وإحاطة علمه، وأن علمه أدق من علم هؤلاء الماكرين الذين يأتون بالأسباب الخفية والطرق الملتوية ليوقعوا عباد الله في الشر، فيكون الله سبحانه وتعالى أقوى منهم في ذلك، فإذا مكروا مكر الله عز وجل، ولا يجوز أن يسمى الله بالماكر مطلقًا، ولا يوصف بالماكر على سبيل الإطلاق، وقد سبق أن الله وصف نفسه بالمكر والكيد والسخرية والخداع والاستهزاء ولم يصف نفسه بالخيانة أبدًا؛ لأن الخيانة صفة ذم بكل حال {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}
[الأنفال: 71]، ولم يقل: فخانهم؛ لأن الخيانة خديعة في مقام الائتمان، والخديعة في مقام الائتمان صفة ذم ونقص.
3 -
جواز المفاضلة بين الخالق والمخلوق في الوصف كما قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ، و (خير) اسم تفضيل التفضيل فيجوز أن يفاضل بين الخالق والمخلوق، لأن هذا مطابق للواقع تمامًا، فالله تعالى أكمل من كل ذي كمال، ومنه تتفرع قاعدة وهي خطأ بعض أهل العلم رحمهم الله حيث يفسرون اسم التفضيل المنسوب إلى الله باسم الفاعل، فيقولون مثلًا في قوله تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، يقولون: الله عالم حيث يجعل رسالته، ولم يتفطنوا أنهم إذا قالوا: الله عالم، لم يمنع مشاركة غيره في العلم مع المساواة، لكن إذا قالوا: الله أعلم، امتنع مشاركة غيره له في العلم الذي هو أعلم به من غيره.
1 -
التنبيه على أنه ينبغي أن نذكّر الناس بأحوال الأنبياء السابقين، وجه ذلك: أننا قدرنا {إِذْ قَالَ اللَّهُ} بـ (اذكر إذ قال الله). فينبغي أن يذكّر الإنسان الناس بأحوال الأنبياء السابقين لما في ذلك من محبتهم والثناء عليهم ومعرفة أحوالهم وإبقاء ذكراهم، وغير ذلك من المصالح العظيمة.
2 -
إثبات القول لله وأنه بحروف وبأصوات مسموعة؛ لقوله: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ، وهذا خطاب من يسمع، ثم هو كلمات من
حروف أو من غير حروف؟ من حروف، ولهذا كان مذهب أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم كلامًا مسموعًا بحرف وصوت.
3 -
الرد على من قال: إن كلام الله هو المعنى النفسي القائم بنفسه، فإن هذا لا يسمى قولًا وإن أطلق عليه القول فلابد أن يقيد كما في قوله:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]، فلما أراد القول النفسي قيَّده (يقولون في أنفسهم) أما إذا جاء القول غير مقيد فالمراد به ما يسمع، ففيه الرد على الأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله هو الكلام النفسي القائم بنفسه، وأنه أزلي لا يحدث ولا يصدق بعضه بعضًا؛ لأنه معنى قائم بالنفس. والحقيقة أن هذا القول مضمونه إنكار كلام الله، ولهذا قال بعض منصفيهم: ليست بيننا وبين المعتزلة فرق؛ لأننا نقول جميعًا: إن هذا القرآن الذي في المصحف مخلوق؛ لأن الأشاعرة يقولون: إن الله تعالى لا يتكلم (بما يسمع) بنفسه لكن يخلق كلامًا يعبر به عما في نفسه، وعلى هذا فالمسموع والمقروء والمكتوب مخلوق، فيتفق المعتزلة والأشاعرة، بل إن المعتزلة خير منهم من جهة النسبة؛ لأنهم يقولون: هذا كلام الله، وأولئك يقولون: هذا عبارة عن كلام الله وليس كلام الله، المهم أن هذه الآية وأمثالها فيها الرد على الأشاعرة.
4 -
فضيلة عيسى ومنقبته بخطاب الله إياه، فإن من خاطبه الله فذلك فخر له بلا شك خصوصًا أنه قال له:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} . . . إلخ.
5 -
أن الله سبحانه وتعالى رفع عيسى بجسمه؛ لقوله: {وَرَافِعُكَ} ، والخطاب لعيسى المكون من بدن وروح فيكون رفعه ببدنه.
6 -
إثبات منقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى السموات السبع حتى اخترقها كلها وهو يقظان، وعيسى لم يُرفع إلا وهو نائم؛ لأن قوله:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي: منيمك على أحد الأقوال وهو أقربها، ومعلوم أن ثبات قلب من يباشر الشيء وهو يقظان أقوى من ثبات من يباشره وهو نائم. ولهذا تجد بعض الناس إذا سمع الرعد الشديد والبرق الخاطف يغمض ويضع إصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع ويقول: ليتني نمت قبل هذا، والإنسان الثابت الذي يقول: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، تجده لا يهتم.
المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به يقظة بروحه وبدنه، وعيسى عندما أراد الله أن يرفعه أنامه.
7 -
منقبة لعيسى أخرى حيث قال: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} ، فأضاف رفعه إلى نفسه عز وجل، وهذا لا شك أنه منقبة أن الله ضمَّه إليه ورفعه إليه، ليكون أقرب إليه مما لو كان في الأرض.
8 -
أن الله عز وجل منع الأذى عن عيسى الذي يمكن أن يلحقه من الكفار حيث قال: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وذلك بالدفاع عنه، فإن الذين كفروا قالوا: إنه ولد زنا، قاتلهم الله، فطهره الله لما قالوا:{قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 27، 28]، من أين جاءك الزنا؟ ! لأن هذا تعريض، يقولون: أبوك ما كان امرأ سوء بل هو نزيه وأمك كذلك فمن أين جاءك الزنا؟ أعوذ بالله. لم تجاوبهم بل أشارت إليه: اسألوا الطفل، قالوا:{كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29] فأجابهم قبل أن يسألوه، ماذا
قال؟ قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30] هذا تطهير عظيم له ولأمه رضي الله عنها.
9 -
أن كلَّ من رمى عيسى بهذا السوء فهو كافر؛ لأنه لم يقل مطهرك من الذين قدحوا فيك، قال: من الذين كفروا، فيستفاد من هذا أولًا كفر هؤلاء، وثانيًا: أن كل من رماه بذلك فهو كافر.
10 -
أن نصرة الأتباع نصرة للمتبوع.
11 -
أن أتباع عيسى منصورون إلى يوم القيامة؛ لقوله: {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، وسبق لنا أن أتباعه بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم هم أمة محمد، ومن كفر بمحمد فإنه لم يتبع عيسى، وذكرنا وجهًا آخر أن النصارى سيكونون فوق غيرهم من ملل الكفر، لكن الإسلام فوق الجميع، ولكن متى يكون الإسلام فوق الجميع؟ إذا رجع المسلمون إلى الإسلام حقيقة، أما إذا لم يرجعوا إلى الإسلام حقيقة فيخشى أن يكون النصارى فوقهم، والواقع الآن مع الأسف الشديد هو هذا.
12 -
إثبات يوم القيامة؛ لقوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، ويوم القيامة هو اليوم الذي يبعث فيه الناس للجزاء إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
13 -
إطلاق الفوقية على الفوقية المعنوية، يعني معناه أنهم يكونون فوق رؤوسهم فوقية معنوية، لا حسية، وفي هذا إثبات للفوقية المعنوية كالفوقية الحسية.
14 -
أن مرجع الخلائق إلى ربهم عز وجل الذي ابتدأ خلقهم وستكون النهاية إليه؛ لقوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} ، ولابد.
ولهذا قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ} [الانشقاق: 6]، الإنسان -كل إنسان- مخاطب وليس فقط المؤمن:{إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} و (إلى) للغاية، أي النهاية إلى الله، ثم أكد هذه النهاية بقوله:{فَمُلَاقِيهِ} يعني فاستعد لهذا اللقاء.
15 -
إثبات حكم الله في الدنيا والآخرة {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} ، هذا في الآخرة، وفي الدنيا:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، فالحكم كله راجع إلى الله عز وجل، والله تعالى هو الحكم في الدنيا وفي الآخرة.
16 -
بشارة المؤمنين بأن خلافهم مع الكفار سوف يجري فيه الحكم على يد الواحد القهار {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} ، وقد أخبرنا الله عز وجل أن الخاصم الغالب هم المؤمنون، قال الله تعالى:{فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، الحمد لله، انظر (سبيلًا) نكرة في سياق النفي.
17 -
ثبوت علو الله تعالى بذاته، لقوله:{وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} ، لأن الرفع معروف أنه الصعود إلى أعلى، فإذا قال:(إلي) علم يقينًا أن الله عز وجل فوق وهو كذلك، هو فوق كل شيء بذاته، ولا ينافي هذا ما ثبت من أنه عز وجل ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر
(1)
، هو النازل وهو عالٍ، ولا ينافي هذا أيضًا أنه مع الخلق كما قال عز وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ
(1)
رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، رقم (1145). ورواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، رقم (758).
مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، فهو مع الخلق وهو عالٍ عليهم كما قال شيخ الإسلام في الواسطية:"عليٌّ في دنوه، قريب في علوه". ولا ينافي هذا أيضًا أنه يأتي يوم القيامة للفصل بين العباد، فهو يأتي ولكنه فوق كل شيء، ولا ينافي هذا أنه يدنو عشية يوم عرفة يباهي بأهل الموقف الملائكة
(1)
.
فإذا قال قائل: كيف لا ينافي هذا، أنا لا أتصور أن شيئًا يكون عاليًا نازلًا أبدًا.
قلنا: تبًّا لك، أنت لا تتصور هذا بالنسبة للمخلوق، أما بالنسبة للخالق فكل ما أخبر الله به عن نفسه فهو حق، حق لا يتناقض وليس فيه غير ممكن أبدًا، إذا قلت: لا يمكن، معناه أنك لن تصدق أخبار الله ورسوله إلا إذا وافقت هواك وإلا فلا، ولهذا ضلَّ مَنْ ضلَّ من الناس في مثل هذه الأمور حيث قالوا: هذا غير ممكن، وهذا غير ممكن، وبنوا عقيدتهم على أهوائهم. إذا كنت تريد أن تبني عقيدتك على هواك فما الفائدة من الرسل؟ لا فائدة من الرسل، إذا كنت أنت تريد أن تبني العقيدة على ما تهوى أنت وإذا جاءت الرسل بكلام يخالف ما عندك ذهبت تحرِّفه، إذن لا فائدة من الرسل. ولهذا أنصح دائمًا وأبدًا وأكرر أن يقبل المسلم كل ما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله عز وجل.
ومن صفات اليوم الآخر أيضًا -لأنه في اليوم الآخر أشياء لا تكون في الدنيا- دُنُوُّ الشمس من الناس قدر ميل يوم القيامة، ولو كان في الدنيا لاحترقت الأرض ومن عليها، لكن أحوال
(1)
رواه أحمد في مسنده، رقم (7049).
الآخرة شيء آخر، وأحوال الناس مختلفة، هذا في نور وهذا في ظلمة والموقف واحد. أما في الدنيا فغير ممكن لو أتيت بأدنى سراج معك لانتفع به مَنْ إلى جانبك، وفي الآخرة الناس يُعرفون على قدر أعمالهم، فمنهم من يلجمه العرق، ومنهم من إلى كعبيه والمقام واحد، فأمور الآخرة وأمور الغيب كلها لا يجوز لك أن تقيسها بما تشاهده في الدنيا؛ لأن القياس هنا ممتنع، فهو قياس مع الفارق لاسيما في صفات الخالق عز وجل، فإن الفارق بعيد بين صفات الخالق وصفات المخلوق، ولذلك حذار أن تقيسَ ما أثبت الله لنفسه من صفات جل وعلا بما تعرفه من صفات المخلوقين؛ فإنك ستضل لا محالة.
18 -
أن مرجع الخلائق إلى الله نهايةً وحكمًا، فإن الناس يبعثون يوم القيامة إلى ربهم حكمًا يحكم بينهم.
19 -
إثبات الجزاء؛ لقوله تعالى: {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} ، وهذا حكم جزائي.
20 -
أن الخصومة تقع بين المؤمنين والكافرين في يوم القيامة؛ لقوله: {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} ، ويحتمل أن يقال: إن هذا حكم سبقت الخصومة فيه في الدنيا حيث كان الكفار والمنافقون يختصمون، ولكن الأول أقرب ويؤيده قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30، 31].
21 -
أن الاختلاف بين المسلمين والكفار اختلاف جوهري يحكم الله فيه بين هؤلاء وهؤلاء يوم القيامة، وأما الاختلاف بين المسلمين فيما مصدره الاجتهاد، فإنه لا يحكم بينهم؛ لأن المجتهدين وان اختلفوا في الحكم فإنهم لم يختلفوا
في الحقيقة؛ لأن كل واحد منهم يعذر الآخر ولا يرى أنه مخالف له، وإن خالفه في القول والرأي لكنه لم يخالفه في المنهج والطريقة، كل واحد منهم يريد الحق ولكن اختلفوا في كيفية الوصول إليه.
22 -
إثبات علم الله؛ لقوله: {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} إذ لا حكم إلا بعد علم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما أقضي بنحو مما أسمع"
(1)
.
ومن فوائد قول الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} .
1 -
إثبات العذاب للكافرين؛ لقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} .
2 -
ومن فوائدها: أن العذاب في الدنيا قد لا يكفي عن العذاب في الآخرة بالنسبة للكفار، أو نقول: إن العذاب في الدنيا لا يغني عن العذاب في الآخرة بالنسبة للكفار؛ لقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ، ولهذا يعذب الكفار في الدنيا ويهزمون ويؤسرون، وتسبى ذريتهم ونساؤهم، وتغنم أموالهم، وهذا عذاب عظيم ومع ذلك لا ينجون من عذاب النار.
3 -
إثبات الجزاء؛ لقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ} .
4 -
أن الجزاء من جنس العمل، فكلما كان العمل أسوأ
(1)
رواه البخاري، كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم، رقم (7169).
كان الجزاء أشد، ولهذا قال:{فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} .
5 -
أن العذاب -عذاب الكافرين- يكون في الدنيا ويكون في الآخرة، فأما عذاب الدنيا فبالأسر والقتل والزلازل والفيضانات وما أشبه ذلك، قال الله تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14]، وهذا يكون بالقتل والأسر، وأما العذاب بالزلازل وشبهها فكقوله تعالى:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 10، 11]، هذا عذاب من الله عز وجل، والأول عذاب بأيدي المؤمنين.
6 -
أن الكفار لا ناصر لهم من عذاب الله، لا أحد يمنعهم؛ لقوله:{وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} ، أما في الآخرة فظاهر؛ لأن الشفاعة لا تنفع فيهم؛ لقوله تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وأما في الدنيا فكذلك لأن هؤلاء الكفار إذا عذبوا بأيدي المؤمنين فالمقاتلة منهم يقتلون، والنساء والذرية يسبون، والأموال والأراضي تغنم، وهذا لا ناصر لهم فيه.
فإذا قال قائل: أليس الإمام يخير في الأسرى بين أمور أربعة: إما القتل أو الفداء بمال أو بأسير مسلم، أو بالاسترقاق يجعله رقيقًا يباع ويشترى، أو بالمنّ مجانًا، ولا إشكال في الأشياء الثلاثة الأولى، وإنما الإشكال في الأخير وهو المن وهذا ليس بعذاب.
فالجواب على ذلك نقول: إنه لا يجوز للإمام أن يختار واحدة من هذه الأربع إلا حيث يرى للمسلمين فيها مصلحة. فالتخيير هنا تخيير مصلحة وليس تخيير تشهٍ واختيار، وإذا كان للمسلمين مصلحة فلابد أن يكون هذا عذابًا على الكافرين، فلأن
كل شيء فيه مصلحة للمسلمين ففيه عذاب للكافرين، وعلى هذا فلا ناصر لهم لا في الدنيا ولا في الآخرة.
7 -
بلاغة القرآن وحكمة القرآن، بلاغته في الإتيان بالمعاني متقابلة، لأن الإتيان بالمعاني المتقابلة توجب نشاط الإنسان حيث ينتقل الذهن من معنى إلى ما يقابله، فيزداد نشاطًا وشغفًا. وأما من جهة كمال البلاغة فلأن المعاني إذا تنوعت على وجوه التقابل ازداد اللفظ حسنًا، وهذا معروف عند علماء البلاغة باسم علم البديع، وفيه أيضًا تربية للنفس؛ لأن النفس إذا سمعت عقاب الكافرين خافت ووجلت وربما يستولي عليها اليأس، فإذا جاء ثواب المؤمنين طمعت ورجت فصار سيرها إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء.
8 -
أن وفاء الأجر مرتبط بوصفين: الإيمان، والعمل الصالح.
فالإيمان وحده لا يكفي، بل لابد من عملٍ صالح ينمّي هذا الإيمان ويشهد بصحته، أما مجرد العقيدة فإنها لا تكفي، على أن العقيدة إذا كانت سليمة استلزمت العمل الصالح؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"
(1)
.
9 -
أن العمل لا ينفع إلا إذا كان صالحًا، والعمل الصالح ما جمع وصفين:
(1)
رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم (52). ورواه مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم (1599).
أ - الإخلاص لله.
ب - المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أي: ما كان خالصًا صوابًا كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله.
10 -
منّة الله سبحانه وتعالى على عباده حيث جعل هذا الجزاء كالأجور اللازم وفاؤها؛ لقوله: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} ، والفرق بين التعبيرين ظاهر هناك قال:{فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} ، وهنا قال:{فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} .
11 -
إثبات المحبة لله؛ لقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ، فإن قال قائل: كيف تستدلون على إثبات المحبة بنفي المحبة لأنه قال: {لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ، فالجواب: أن نفي المحبة عن الظالمين دليل على ثبوتها لغيرهم، ولو كانت منتفية عن الجميع لم يكن لتخصيصها بالظالمين فائدة، ولهذا استدل الشافعي رحمه الله على ثبوت رؤية المؤمنين لله بقول الله تعالى عن الفجار:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، وقال في وجه الاستدلال: ما حجب أعداءه عن رؤيته في الغضب إلا لثبوت رؤية أوليائه له في الرضا، وهذا واضح.
12 -
شؤم الظلم على الإنسان، وأنه سبب لانتفاء محبة الله له، وإذا انتفت محبة الله للعبد فقد هلك.
13 -
أن الظلم من كبائر الذنوب؛ لأنه رتّب عليه وعيد وهو انتفاء محبة الله سبحانه وتعالى، ولكن الظاهر أن هذا ليس على سبيل الإطلاق بل الظلم يكون كبيرة ويكون صغيرة؛ لأن جميع المعاصي ظلم، ومن المعاصي ما هو كبير ومنها ما هو صغير.
14 -
ومن فوائد الآية مع التي قبلها: التنوع في الأسلوب وهو الانتقال من ضمير التكلم إلى ضمير الغيبة {فَأُعَذِّبُهُمْ} وهنا قال: {فَيُوَفِّيهِمْ} فهل هناك فرق من حيث المعنى؟ .
الجواب: نعم هناك فرق من حيث المعنى، أما اللفظ فظاهر، ففيه التفات من ضمير التكلم إلى ضمير الغيبة، لكن نريد الفرق في المعنى.
الفرق في المعنى أن العذاب عقوبة تستدعي سلطة وقهرًا وعزة، فكان الأنسب التعبير بـ (أُعذِّب) الدالة على قوة السلطان، أما هذه فكأن الله سبحانه وتعالى للتودد مع هؤلاء وبيان فضلهم قال:(فيوفيهم أجورهم) ولم يسند الإيفاء إلى نفسه ليعطيهم شيئًا من الشكر على عملهم؛ لأن هناك فرقًا بين أن تخاطب الإنسان بالتعبير عن فعلك به بضمير التكلم وأن تعبر بضمير الغيبة؛ لأن المواجهة أشد من الغيبة، وتأمل قوله تعالى:{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 1 - 3]، فقال:(عبس) ولم يقل: (عبست) وقال: (وما يدريك) ولم يقل: (وما أدراه) أو (وما يدريه) فهذه -والله أعلم- الحكمة من أنه جاء التعبير بالعذاب بالفعل مسندًا إلى ضمير المتكلم بخلافه الجزاء، ويدل لهذا الاعتبار قوله تعالى في سورة الرحمن:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، فجعل فعلهم إحسانًا يشكرون عليه ويحسن إليهم مع أن الإحسان كله من الله، فإن التوفيق للعمل الصالح من إحسان الله إلى العبد، لكن هذا من كمال رحمة الله عز وجل وثوابه وجزائه، قال تعالى في سورة الإنسان:{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 22]، فصار في تغيير
الأسلوب في الآيتين فائدتان: لفظية ومعنوية، اللفظية هو الالتفات الذي يوجب الانتباه، والمعنوية هو إظهار السلطة والعظمة والعزة في باب التعذيب، وإظهار الفضل والإحسان للعاملين في باب المثوبة.
ومن فوائد قوله تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} .
1 -
أن الله عز وجل تكلم في القرآن فقال: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} ، إذ كانت التلاوة لله حقيقة ونقلها جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكون التلاوة لجبريل لكن لما كان جبريل رسولًا لله نسب فعله إلى الله فهو كقوله تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 16 - 18]، ومعلوم أن الذي يقرؤه جبريل.
2 -
أن القرآن الكريم آية بل آيات كما قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]، آيات عظيمة، فآياته كثيرة كل آية فيها عدة آيات، ولكن لا يفهم هذه الآيات إلا من فتح الله له قلبه بالإيمان والعمل، واعتقد أن هذا القرآن كلام الله وأن فيه آيات بينات، أما الذي تمر عليه مثل هذه الجملة من الآيات مرَّ الكرام، ولا يتحرك بها قلبه، ولا يتأمل هذه الآيات؛ فإنه لا ينتفع بما في القرآن من الآيات، لابد أن تؤمن بأن فيه آيات وأن تحاول استخراج هذه الآيات بالتدبر، والإنسان إذا تدبر القرآن وجد فيه آيات عظيمة لا يحصيها البشر.
3 -
أن القرآن ذِكْرٌ، لكن هل هو ذكر يتقرب إلى الله به أو هو ذكر يتذكر به الإنسان؟ ذكرنا أن المعنى شامل لهذا وهذا، فهو ذكر يقرب إلى الله لأن من تلاه فله بكل حرف عشر حسنات،
وهو ذكر يتذكر به الإنسان .. قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، قيل: هو ذكر رفع الله به شأن الذين تمسكوا به كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]، وكقوله تعالى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، أي: شأنك أعلوناه، وعلى هذا فيكون للذكر ثلاثة معان:
أ - ذكر يتقرب به إلى الله بتلاوته.
ب - وذكر يتذكر به الإنسان.
ج - وذكر يعني شرفًا لمن تمسك به.
4 -
وصف القرآن العظيم بهذا الوصف العظيم وهو الحكمة والذكر الحكيم، والحكيم هنا بمعنى الحاكم والمُحْكم؛ لأن القرآن حكم بين الناس {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، أي: إلى كتابه، فهو حَكَم، وهو أيضًا محكم متقن ليس فيه اختلاف ولا اضطراب ولا تناقض.
5 -
أنه لا يوجد حكم دلَّ عليه القرآن إلا وهو في موضعه اللائق به، من أين يؤخذ؟ من الحكيم؛ لأن الحكيم هو الذي يضع الشيء في مواضعه، فكل حُكم حَكم به القرآن فإنه في موضعه لا يقول العاقل: ليته لم يحكم به، أبدًا سواء كان ثبوتيًا أو سلبيًا.
6 -
فضيلة الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} ، فخصه صلى الله عليه وسلم بالتلاوة عليه لأنه صلى الله عليه وسلم أشرف من يتلقى القرآن، وأقوم الناس عملًا به، فكأنه هو المخصوص بالتلاوة عليه {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} .
لقد مرَّ علينا أن هذه الآيات نزلت حين قدم وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نصارى، وكان قدومهم في سنة تسعة من الهجرة؛ لأن تلك السنة كثر فيها الوافدون إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا تسمي سنة الوفود، وهذا أحد الأسباب التي منعت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج في العام التاسع مع أن مكة قد فتحت.
قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} ، يعني شأنه -أي شأن عيسى- عند الله كشأن آدم لا يختلف عنه، فكما أننا متفقون علي أن آدم خلقه الله عز وجل من غير أب ولا أم -والنصاري يؤمنون بهذا- فما بال النصاري يقولون: كيف خلق الله عيسي بلا أب ما هو إلا ابنه، نعوذ بالله .. فقالوا: إنه ابن الله جزء منه، ولم يقولوا: إن آدم ابن الله مع أنه لو كان أحد يدعي البنوة في أحد من البشر لكان الأحق بها آدم؛ لأنه ليس له أم ولا أب .. أما عيسى فله أم، والأم أحد الوالدين، فإذا كنا نقول: لا يمكن أن يوجد أحد من أب بلا أم، أو من أم بلا أب فلنقل: ولا أحد يوجد بدون أم ولا أب، فأنتم أيها النصاري أقررتم بأن آدم ليس ابنًا لله فيلزمكم أن تقروا بأن عيسي ليس ابنًا لله؛ لأن مثل عيسي كمثل آدم. {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} ، خلقه يعني ابتدأ خلقه من تراب، وضمير المفعول في خلقه يعود علي آدم؛
لأنه هو المخلوق من التراب، خلقه أي: خلق آدم من تراب {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
نحن قلنا: ابتدأ خلقه ثم قال: كن، والأمر هذا لتمام الخلق، وإنما قلنا ذلك لئلا يقول قائل: كيف تكون كلمة (كن) بعد الخلق؟ لأن الترتيب العقلي يقتضي أن تكون كلمة (كن) قبل الخلق، كن فكان؟ فنقول: إن معنى خلقه أي: ابتدأ خلقه من تراب ثم قال له: كن بشرًا فكان بشرًا، وهل هذا القول (كن) قول قدري أو شرعي؟ قول قدري، والقول القدري لا يتخلف عنه المقول؛ لأنه أمر حتمي بخلاف القول الشرعي، فإن من الناس من يستكبر عنه، يقول الله:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] فيقول: لا، لا أقيم الصلاة. أما القول الكوني فإنه لا مرد له {كُنْ فَيَكُونُ} ، ولم يقل: فكان، على حكاية الحال يعني لمّا قال: كن فعلًا شرع بالكينونة حتى تمت.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
في هذه الآية بيان إقامة الحجة بمثل ما يحتج به الخصم؛ لأنه أقام الحجة على النصارى بمثل ما احتجوا به، فقال: إذا قلتم: إن عيسى ابن الله؛ لأنه خلق بلا أب، فقولوا: إن آدم ابن الله، وإلا فأنتم متناقضون.
2 -
بيان قدرة الله سبحانه وتعالى حيث خلق آدم من غير أم ولا أب، وخلق عيسى من أم بلا أب، وهناك أيضًا صنفان آخران: من خلق من أب بلا أم وهي حواء، ومن خلق بين أب وأم وهم سائر البشر.
3 -
إثبات القياس، من أين يؤخذ؟ {كَمَثَلِ آدَمَ} ، وكل
مثل مضروب في القرآن فإنه دليل على ثبوت القياس؛ لأنه إلحاق المورد بالمضروب، يعني أنك ألحقت الممثل بالممثل به.
4 -
إثبات القول للرب عز وجل؛ لقوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُ} .
5 -
أن قول الله بصوت مسموع وبحروف مرتبة؛ لقوله: {قَالَ لَهُ كُنْ} ، فسيسمع هذا القول بحرف مرتب.
6 -
إثبات صفة الخلق لله (خلقه) والخلق صفة ذاتية أو فعلية؟ فعلية، من الصفات الفعلية لكن قد مرَّ علينا أن جنس الصفات الفعلية ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال فعّالًا.
* * *
• ثم قال الله عز وجل: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 60].
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} ، الحق: خبر المبتدأ المحذوف والتقدير (ذلك الحق) أي: هذا الذي قصَّ عليك هو الحق، وعلى هذا تكون شبه الجملة وهي {مِنْ رَبِّكَ} تكون في موضع نصب علي الحال من الحق، ويحتمل على بُعدٍ أن يكون {الْحَقُّ} مبتدأ و {مِنْ رَبِّكَ} خبره. وفائدة هذا التركيب علي هذا الإعراب: أنك لا تطلب الحق من غير الله، فكأنه يقول: مصدر الحق من الله فلا تطلبه من غيره، الحق يوصف به الحكم ويوصف به الخبر، فإن وصف به الحكم صار معناه العدل، وإن وصف به الخبر صار معناه الصدق، والصدق والعدل كلاهما ثابت، ولهذا وصفا بالحق، وأصل الحق من حقَّ الشيء إذا ثبت كما قال الله تعالى:{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33]، حقت: يعني ثبتت، إذن في إعرابها وجهان.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن الله تعالى لا يصدر منه إلا الحق {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} .
2 -
فضيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإضافة الربوبية إليه، وذلك لأن الربوبية هذه خاصة، والربوبية الخاصة تفيد معنى أخص من الربوبية العامة.
3 -
النهي عن الشك فيما أخبر الله به؛ لقوله: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} .
4 -
أن الممترين كثيرون؛ لقوله: {مِنَ الْمُمْتَرِينَ} ، وإن كان يحتمل أن يراد به الجنس فيصدق بواحد، لكن الظاهر الأول، ولا شك أن الممترين من بني آدم كثيرون؛ لأن ذرية بني آدم منهم تسعمائة وتسع وتسعون كلهم من أهل النار.
5 -
جواز التعريض، أو جواز المخاطبة بالتعريض؛ لأن قوله:{فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} ، لا يعني أن الرسول يمكن أن يكون منهم، بل هو تعريض بهؤلاء وأنهم ذوو خلق سيئ، فلا تكن منهم وإن كان هو ليس منهم لا باعتبار الواقع ولا المستقبل.
* * *
• ثم قال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61].
{حَاجَّكَ} أي: جادلك، وسميت المجادلة محاجة؛ لأن كل واحد من المتجادلين يدلي بحجته من أجل أن يخصم الآخر ويحجه، ومنه الحديث:"تحاجَّ آدم وموسى"
(1)
، أي: طلب كل
(1)
رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب وفاة موسى وذكره بعد، =
واحد منهما أن يَحُجَّ الآخر، وأيهما الذي حجَّ؟ آدم، حاجك إذن بمعني جادلك، وسميت المجادلة محاجة؛ لأن كل واحد من المتجادلين يدلي بحجته ليغلب الآخر.
وقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ} ، (مَنْ) هذه شرطية، وجواب الشرط {فَقُلْ تَعَالَوْا} .
وقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} ، الضمير يعود علي عيسي والمراد بالمحاجة في عيسي ليس في ذاته؛ لأن عيسي معلوم أنه بشر لكن في شأنه وقضيته.
وقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} مَنْ الذي يمكن أن يحاجَّ النبي صلى الله عليه وسلم في عيسي؟ هم النصاري، وهذه الآية وما قبلها كلها نزلت في وفد نجران من النصاري.
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} : يعني بعد أن علمت قضيته وشأنه وتيقنت، فالذي يحاجك فيه ادعه للمباهلة.
وفي قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} ، أتي بـ (من) الدالة علي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمباهلة بعد أن تروي من العلم؛ لأن {مِنْ بَعْدِ} تدل على أن هناك مهلة بين العلم الذي جاءه وبين المحاجة التي وقعت، بخلاف لو قال:(فمن حاجك فيه بعدما جاءك)، فإنها تفيد البعدية لكن لا تدل علي التراخي والمباعدة، ومعلوم أن الإنسان كلما تمعن في النظر فيما علم ازداد به علمًا ويقينًا.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} ، عن أي طريق؟ عن
= رقم (3409). ورواه مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسي عليهما السلام، رقم (2652).
طريق الله عز وجل، فإن الله تعالي أوحي إلي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في شأن عيسي من العلم ما لم يكن عند غيره، فقال تعالي:{فَقُلْ تَعَالَوْا} ، قلنا: إن (قل) جواب الشرط. (وتعالوا) فعل أمر مبني علي حذف النون، والواو فاعل. وفيه إشكال؛ لأن (تعالوا) جمع و (من حاجك) مفرد فكيف صحَّ أن يكون الجمع عائدًا علي مفرد؟
الجواب: أن الأسماء الموصولة وأسماء الشرط المشتركة التي تصلح للمفرد وغيره يجوز في العائد إليها أن يعود إليها باعتبار اللفظ، وأن يعود إليها باعتبار المعني، فإن عاد إليها باعتبار اللفظ صار مفردًا، وباعتبار المعني صار جمعًا، ولا فرق بين أن يكون هذا الجائز في كلام واحد أو في كلامين، قال تعالي:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الطلاق: 11].
{فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} .
كيف قال: ندع، ولم يقل: أدع؟ نعم لم يقل ذلك لأنهم إذا جاءوا معه صاروا جماعة.
{نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} .
هذه الآية كما ترون بصيغة الجمع {أَبْنَاءَنَا} والرسول واحد عليه الصلاة والسلام {وَأَبْنَاءَكُمْ} هم جماعة لا بأس {وَنِسَاءَنَا} ، الرسول واحد ولم يقل: نسائي {وَنِسَاءَكُمْ} جماعة واضح. {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} الرسول واحد وهم عدة أنفس؟
اختلف المفسرون في ذلك، فقال بعض المفسرين: المراد بقوله: {أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} ، المراد بأبنائنا الحسن والحسين، {وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} ، المراد بنسائنا فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم {وَأَنْفُسَنَا} المراد بالأنفس علي بن أبي طالب، فيكون العدد أربعة
{أَبْنَاءَنَا} الحسن والحسين، {وَنِسَاءَنَا} فاطمة، {وَأَنْفُسَنَا} علي بن أبي طالب، أما هؤلاء النفر الوافدون فليس معهم نساء وليس معهم أولاد، كلهم رجال بالغون عاقلون، إما أربعة عشر أو اثنان، المهم أنهم رجال ليس معهم أحد. وقال بعض أهل العلم: المراد ندع نحن المسلمين أبناءنا، يعني أبناء المسلمين، يعني ننتخب طائفة منا تأتي هي وأبناؤها ونساؤها وأنتم كذلك تنتخبون جماعة يأتون بأبنائهم ونسائهم وأنفسهم نجتمع ونبتهل. وهذا القول لا شك أنه موافق تمامًا لظاهر الآية؛ لأن الآية بصيغة الجمع، والعادة جرت بأن التباهل وكذلك التفاخر وغيره يكون بين جماعات. وقد ذهب إلي هذا محمد رشيد رضا في "تفسيره" وهو لا شك تفسير مطابق لظاهر الآية تمامًا، لكن أكثر المفسرين يختارون القول الأول أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين، ونسائنا فاطمة، وأنفسنا علي بن أبي طالب؛ لحديث ورد في ذلك، والمسألة لا توافق ظاهر الآية، يعني هذا القول لا يوافق ظاهر الآية، أولًا: أن أبناء جمع ونساء جمع، وإذا قلنا: الحسن والحسين صار اثنين، ابنان لجمع أو لواحد؟ لواحد، أيضًا النساء لم يرد في اللغة العربية أن المراد بالنساء: البنات، المراد بالنساء في اللغة العربية الزوجات، وأيضًا أنفسنا كيف يعبر الرسول عليه الصلاة والسلام عن علي بن أبي طالب بنفسه ولا يعبر عن الحسن والحسين بنفسه، أيهما أقرب؟ الحسن والحسين حتى إن الحسن سماه الرسول ابنه فقال:"إن ابني هذا سيد"
(1)
ولهذا ظاهر الآية لا يطابق هذا التفسير، وقد زعم محمد رشيد رضا أن تفسيرها
(1)
رواه البخاري، كتاب الصلح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن، رقم (2704).
بالأربعة من تفسير الرافضة، وقال: إن الآية لا تنطبق عليهم، لكن الحديث الوارد في ذلك يدل علي أن لها أصلًا، ولا شك أن آل البيت يدخل فيهم هؤلاء الأربعة، لكن انطباقه على الآية في النفس منه شيء.
علي كل حال المسألة انتهت، لكن ما المراد بالأنفس والأبناء والنساء؟ المراد أنهم يريدون أن يجمعوا جماعة معهم أبناؤهم ونساؤهم وأنفسهم، وهذا أعز ما يكون عند الإنسان في الدنيا، هذا أعز ما يكون، نفسه، أبناؤه، زوجاته يحضرون، ويحضر الخصم أيضًا نفسه وأبناؤه ونساؤه.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
إثبات أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق، لأن الله أمره أن يلتعن مع هؤلاء.
2 -
أنه لا تجوز المباهلة إلا بعلم يقيني، أما إذا كان الإنسان شاكًّا فلا يجوز له؛ لقوله:{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} .
3 -
جواز طلب المباهلة عند عناد الخصم؛ لقوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} [آل عمران: 64].
4 -
أن من آداب الالتعان إحضار النساء والأولاد؛ لأنه أشد خوفًا للنساء في المباهلة.
5 -
جواز الدعاء بالله على من خالف الحق لكن بالوصف لا بالشخص؛ لأن الكاذبين وصف، أما الشخص فلا يجوز الدعاء عليه حتى لو كان كافرًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا علي أبي جهل وغيره من كبار قريش نهاه الله عن ذلك.
6 -
جواز المباهلة لكن اشترط العلماء لجواز المباهلة شرطين: الشرط الأول: العلم، والثاني: أن تكون في أمر هام، أما الأمور التي ليست بهامة فلا ينبغي للإنسان أن يعرّض نفسه للخطر.
7 -
هل يستفاد من الآية الكريمة جواز انغمار الشخص في العدو في باب المقاتلة؛ لأن هذا الإنسان الذي علم أن الحق معه وجاز أن يلتعن فيما قد يكون سببًا لهلاكه، فلما كان علي حق وأجزنا له أن يدخل في هذا الأمر لأنه يخشي أن يكون كاذبًا فتنطبق عليه اللعنة، ربما يؤخذ لكن مأخذه بعيد.
* * *
• قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 62].
قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} .
هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: المؤكد الأول: (إنَّ)، لأن إنَّ للتوكيد، والمؤكد الثاني:(اللام)، والمؤكد الثالث:(هو)، لأن هو ضمير فصل، وضمير الفصل له ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: الحصر.
الفائدة الثانية: التوكيد.
الفائدة الثالثة: الفرق بين الصفة والخبر.
يتضح ذلك بالمثال، فإذا قلت:(زيد هو الفاضل) هنا (هو) ضميرُ فصل أفادت الفوائد الثلاث، أفادت الحصر، حصر الفضل في زيد، وأفادت التوكيد؛ لأن قولك: زيد الفاضل أقل من
قولك: زيد هو الفاضل في توكيد الأفضلية، وأفادت الفرق بين الصفة والخبر لأنك لو قلت:(زيد الفاضل) تَشَوَّفَ المخاطب إلى خبر، وإذا قلت: زيد هو الفاضل علم أن كلمة الفاضل هي الخبر وهنا لو كانت: (هذا القصص الحق) لاستقام الكلام ولكن تفوت هذه المؤكدات الثلاث.
وقوله عز وجل: {إِنَّ هَذَا} المشار إليه ما ذكره الله في شأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وتعرفون أن الله تعالى تحدث عن عيسي ابن مريم في هذه الآيات حديثًا مسهبًا طويلًا عنه وعن أمه.
وقوله: {لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} ، القصص: مصدر قصَّ يقصُّ قصًّا وقصصًا، ولكنه هنا يحتمل أن يكون مصدرًا بمعني الفعل، ويحتمل أن يكون مصدرًا بمعني اسم المفعول أي: إن هذا لهو المقصوص الحق، وسواء قلنا بهذا أو بهذا فالمؤدي واحد، فإن هذا القصص الحق، والحق هنا صفة للقصص، والحق إن قيل في مقابلة الحكم فهو بمعني العدل، وإن قيل في مقابلة الخبر فهو بمعني الصدق؛ لقوله تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115].
ثم قال تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} .
هذه الجملة أيضًا كما نري فيها حصر وفيها توكيد، أما الحصر فطريقه النفي والإثبات، النفي في قوله:(ما) والإثبات في قوله: {إِلَّا} وأما التوكيد ففي قوله: {مِنْ إِلَهٍ} لأن (من) حرف جر زائد من حيث الإعراب لكنه يزيد المعني، ماذا يزيد المعني؟
يزيد المعنى توكيدًا، ولهذا نقول: إن الحروف الزائدة في
القرآن الكريم هي زائدة، زائدة من حيث الإعراب، زائدة من حيث المعني، أي: أنها تفيد معني زائدًا علي ما لو لم تكن موجودة.
وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} ، إله بمعني: مألوه، والمألوه هو المعبود محبة وتعظيمًا، ولا يصدق هذا حقًّا إلّا علي الله عز وجل، وكلمة (إله) هنا علي وزن فعال ولكنها بمعني مفعول، والكلمة هذه -يعني إله بمعني مألوه أو فعال بمعني مفعول- كثيرة في اللغة العربية؛ كالغراس والبناء والفراش والوطاء وما أشبه ذلك، غراس بمعني: مغروس، وبناء بمعني: مبني، وفراش بمعني: مفروش، وإله بمعني: مألوه، فما معني المألوه؟ قلنا: هو المعبود محبة وتعظيمًا هذا مألوه.
وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} ، (إلا) هذه أداة استثناء، والجملة التي قبلها فيها شيء محذوف تقديره: وما من إلهٍ حقّ إلا الله، وعلي هذا فنعرب كلمة (الله) بدلًا من الخبر المحذوف الذي تقديره (وما من إله حق إلا الله) إلا الله يعني: خالق السموات والأرض عز وجل، فعيسي ليس بإله، وأمه ليست بإله، وجبريل ليس بإله، وميكائيل ليس بإله، ولا أحد يستحق هذا الوصف إلا خالق السموات والأرض عز وجل، ولهذا قال:{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} .
وقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
الحكيم مشتقة من الحكم والإحكام، وكل عزيز إذا اقترن في عزته الحكمة والحكم كملت عزته، وذلك لأن العزيز إذا غلب ولم يكن له حكمة أدته غلبته إلي الطيش وعدم ضبط النفس، فإذا
اجتمعت العزة والحكمة كمل الموصوف بهما. إذن أقول: الحكيم من الحكم والإحكام، فهو سبحانه وتعالى الحاكم ولا حاكم غيره، وهو المحكم أي المتقن لما حكم به سواء كان الحكم كونيًا أو شرعيًا، والحكمة أو الإحكام الذي بمعني الإتقان هو وضع الشيء في موضعه اللائق به بحيث لا يقال: إن هذا غير لائق أو هذا غير موافق، بل يكون موافقًا مطابقًا لما تقتضيه المصلحة، إذن الحكيم مشتق من الحكم والإحكام. ثم نقول:
الحكم نوعان: حكم كوني، وحكم شرعي.
فالحكم الكوني: ما قضي به الله قدرًا.
والحكم الشرعي: ما قضي به شرعًا.
والفرق بينهما ظاهر؛ الحكم الشرعي يتعلق فيما يحبه الله عز وجل فعلًا أو تركًا، فإن نهي عن شيء فهو يحب تركه، وإن أمر بشيء فهو يحب فعله. ويمكن أن يتخلف الحكم الذي حكم الله به، هذا الحكم الشرعي.
أما الحكم الكوني فيتعلق فيما يحبه وما لا يحبه، ولا يمكن أن يتخلف، لابد أن يكون.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
تأكيد أن ما أخبر الله به عن عيسى ابن مريم هو الحق، ويتفرع من هذه القاعدة أن كل ما خالفه مما تكلمت به النصاري في شأن عيسي فهو كذب باطل لا يوافق الواقع.
2 -
أن من بلاغة الكلام أن يكون مطابقًا للواقع أو موافقًا لمقتضي الحال، وجه ذلك أن هذه الجملة {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} ، أكدت بثلاثة مؤكدات؛ لأن المقام يقتضي هذا، إذ إن
دعاية النصاري قوية لا يبطلها إلا كلام مؤكد، إما باللفظ وإما بالحال، يعني إما بالمقال وإما بالحال، وهكذا ينبغي لكل إنسان أن يتكلم بكلام تقتضيه الحال، فإن كانت الحال تقتضي أن يكون الكلام مؤكدًا فإن مقتضى البلاغة أن يؤكد.
3 -
أن القصص قد يكون حقَّا وقد يكون باطلًا، القصص من حيث هو، بِغَضِّ النظر عن القاص، قد يكون حقًّا وقد يكون باطلًا كذبًا، ويؤخذ هذا من وصف القصص بالحق؛ لأن الأصل في الصفة أن تكون لِما عدا الموصوف، هذا هو الأصل، ولهذا لو جاءت صفة غير مخرجة لما سوى الموصوف يسمونها صفة كاشفة لا مانعة.
4 -
أنه لا إله في الوجود إلا الله، ولكن يراد لا إله حق، ويتعين أن يكون ذلك هو المراد لأن هناك آلهة باطلة موجودة تعبد من دون الله وتسمي آلهة، وينكر حصر الآلهة بواحد، قالت قريش في مخاطبتها للنبي عليه الصلاة والسلام:{وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 4، 5]، الله أكبر، العُجاب أن تكون الآلهة إلهًا واحدًا أو تكون آلهة متعددة؟ !
5 -
أن في سلامة العقيدة الراحة التامة؛ لأنك إذا سلمت عقيدتك وآمنت بأنه ما من إله إلا الله، فإنك لن تتجه إلي من سوي الله، ولا شك أن هذا راحة، انحصار الهدف والمقصود من أكبر أسباب راحة الإنسان، وإذا تعددت الأهداف والمقاصد تبلبل الإنسان، ولهذا يذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:(من بورك له في شيء فليلزمه)
(1)
، أي شيء يبارك لك فيه، وتري
(1)
رواه ابن ماجه من حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما.
أنك مطمئن إليه سواء كان سيارة أو بيتًا أو زوجةً أو صاحبًا فالزمه، فإنه خيرٌ مِنْ أن تنتقل إلي غيره، بعض الناس يقول: أقرأ اليوم زاد المستقنع، وغدًا المنتهى، وبعده الإقناع، وبعده المهذب، وبعده المدونة لمالك، كل يوم له كتاب، فهذا يفوت عليه الوقت ولا يستفيد شيئًا لماذا؟ لأن الهدف لم يتحدد، وهكذا هؤلاء المشركون أيضًا، هذا يعبد اللات، فإذا لم تنفع راح للعزي، وإذا لم تنفع لمناة، وإذا لم ينفع عجن عبيطًا من التمر وجعله إلهًا، وإذا لم تنفع راح للشمس أو القمر.
وعلي كل حال إذا كانت العقيدة سليمة بأن لا يتجه الإنسان إلا إلي الله، ولا يعبد إلا الله، فإنه يجد الراحة التامة، ولهذا قال تعالى:{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} ، وفي هذا ردّ علي النصاري الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، لأنه قال:{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} ، والعجيب أنه من سفه النصاري وضلالهم أنهم يقولون: الآلهة ثلاث لكنها واحد، كيف ثلاث وواحد؟ هل يمكن أن يكون الثلاثة واحدًا؟ إذا جعلت الثلاثة واحدًا صار الإله الأول ثُلُثًا، والإله الثاني ثُلُثًا، والإله الثالث ثُلُثًا، أما أن يكون كل واحد مستقلًا ثم نقول: هم واحد، فهذه مكابرة وضلال.
6 -
إثبات العزة بل تمام العزة لله؛ لقوله: {لَهُوَ الْعَزِيزُ} ، و (ال) هنا تفيد الاستغراق، أي: جميع أنواع العزة ثابتة لله سبحانه وتعالى، وفيه إثبات الحكمة لله في قوله:{الْحَكِيمُ} وإثبات الحكم أيضًا، فيتفرع علي هذا أنه لا حاكم إلا الله، الحكومة السلطانية القدرية والحكومة الشرعية هي لله وحده، فمن سيطر علي الخلق بالحكم السلطاني ولم يراقب الرب فقد
شارك الله أو فقد جعل نفسه شريكًا مع الله في هذا الحكم، ومن شرع للناس قوانين مخالفة لشرعه فقد جعل نفسه شريكًا مع الله، واتخذ لنفسه منصبًا لا يستحقه؛ لأن الذي يشرع ويحكم هو الله عز وجل:{وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ} ، لا سواه، {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، ويتفرع علي هذا أيضًا أن واجبنا نحو أحكام الله الكونية والشرعية التسليم والرضا والقناعة وأن لا نطلب سواها؛ لأننا نعلم أنها مبنية علي الحكمة، ولهذا كان السلف الصالح رضي الله عنهم بل كل مؤمن إذا قضي الله ورسوله أمرًا لم يكن لهم الخيرة من أمرهم، حتى إنهم يجيبون إذا سئلوا عن الحكمة بقال الله وقال رسوله، عائشة رضي الله عنها لما سألتها المرأة: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة
(1)
، والمؤمن حقًّا، والعابد حقًّا هو الذي يقتنع بما لا يعرف حكمته كما يقتنع بما يعرف حكمته، هذا هو المؤمن حقًّا، أما الذي لا يقتنع بحكم الله إلا إذا عرف حكمته فهو في الحقيقة ليس عابدًا لله علي وجه الكمال، بل هو عابد لهواه، إن تبينت له الحكمة اقتنع، وإن لم تتبين لم يقتنع، ولهذا نري أن في إيجاب رمي الجمرات -وهي الحصي- في مكان معين نري أن فيها مع إقامة ذكر الله عز وجل الذي نصَّ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم تمام العبودية وكمالها؛ لأن كون الإنسان يحمل حصي يرميها في مكان معين تعبدًا لله هو من كمال العبودية، أما كون الإنسان -مثلًا- يصلي أو يتجنب الزني خوفًا من الله،
(1)
رواه مسلم، كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم علي الحائض دون الصلاة، رقم (335).
ورجاءً لثوابه في الصلاة فهذا واضح الحكمة فيها، لكن كونه يرمي حجرات -حصيات- في مكان معين قد لا تتضح الحكمة فيها لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن أنها لإقامة ذكر الله وفيها تمام العبودية.
فالمهم أنك متى آمنت أن الله له الحكمة في حكمه الكوني والشرعي، ازددت قناعة وحكمة بما حكم به. أما الحكم الكوني فسترضي به أو سينفذ عليك سواء رضيت أو لم ترضَ، لكن الشأن كل الشأن في الحكم الشرعي الذي هو باختيارك، أما الكوني فليس باختيارك، سيكون عليك مهما كان الأمر.
* * *
• ثم قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران: 63].
قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} ، الضمير يعود علي هؤلاء النصاري الذين طلب منهم الرسول صلى الله عليه وسلم المباهلة يقول:{فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]، وسبق أنهم ابتعدوا عن المباهلة؛ لأنهم يعلمون أنهم لو باهلوا لأخذهم العذاب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حق وهم علي باطل، يقول الله عز وجل:{فَإِنْ تَوَلَّوْا} ، يعني عن المباهلة وعن اتباعك يا محمد فإنما هم مفسدون، ولهذا قال:{فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} ، ولم يقل: عليم بهم، بل أظهر في موضع الإضمار، والإظهار في مواضع الإضمار له فوائد:
الفائدة الأولي: التسجيل أو انطباق الوصف في هذا المظهر علي من يعود عليه، يعني هذا الوصف الذي جعل في موضع الضمير ينطبق علي مرجع الضمير، فكأنه قال: فإن تولوا فإن الله عليم بهم، لكن وصفهم بالفساد.
الفائدة الثانية: العموم؛ لأنه لو جاء الضمير هنا حسب السياق، فإن الله عليم بهم، لاختص العلم بهم وحدهم، لكن إذا قال:{بِالْمُفْسِدِينَ} صار عامًا فيهم وفي غيرهم.
الفائدة الثالثة: أن هذا الفعل الذي حصل من هؤلاء الذين جاء الإظهار في موضع الإضمار عنهم مرفوع من هذا الوصف الذي عبر به في موضع الضمير، يعني أن فعلهم فساد وهو التولي والإعراض عن دين الله، ففي هذه الآية الكريمة تهديد من تولي.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
تهديد من تولى عن دين الله عز وجل، ووجه ذلك قوله:{فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} ، لأن المقصود من ذكر علمه بهم تهديدهم، وأنه لا يخفى عليه حالهم، وسيعاقبهم بما تقتضيه حالهم.
2 -
أن التولي عن دين الله فساد كما قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، وهل التولي نفسه فساد أو أنه يسبب الفساد؟ الجواب عن هذا أن نقول: هو فساد وسبب للفساد، ووجه كونه فسادًا أنه إذا تولي عن دين الله حلَّ محله ما سواه، ومعلوم أن دين الله صلاح وما سواه فساد، ولهذا نجد القوانين المحكّمة في عباد الله لا تصلح الخلق، لا يصلح الخلق منه إلا ما وافق الشرع، وأما ما خالف
الشرع، فإنه فساد مهما كان وضع القوانين في الذكاء والفهم لأحوال الناس، فإنهم إذا وضعوا من القوانين ما يخالف شرع الله فإنه فساد بكل حال، إذن نفس التولي فساد، ثم هو أيضًا سبب للفساد؛ لأن الجدب والقحط وضيق الرزق والفتن كلها سببها المعاصي، قال الله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، وقال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، إذن التولي عن دين الله فساد وسبب للفساد.
3 -
أن كل من تولي عن دين الله فهو مفسد، ولو زعم أنه مصلح؛ لقوله:{فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} ، ولهذا قال كثير من المفسرين في قوله تعالى:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]، قال: أي لا تفسدوها بالمعاصي، فكل عاصٍ فهو مفسد شاء أم أبي، وكل مطيعِ فهو مصلح؛ لأن بضدها تتبين الأشياء، فإذا كان العاصي مفسدًا فالطائع مصلحًا، لكن الطائع في الحقيقة قد يكون صالحًا بنفسه غير مصلح لغيره، وقد يكون صالحًا في نفسه مصلحًا لغيره، وإذا كان عابدًا داعيًا إلي الله صار صالحًا مصلحًا، وإذا كان عابدًا غير داعٍ لله صار صالحًا غير مصلح لكنه ليس علي وجه التمام في صلاحه؛ لأنه من تمام الصلاح أن تدعو إلي الله عز وجل.
• ثم قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
الخطاب في قوله: {قُل} للرسول صلى الله عليه وسلم. وقد مرّ بنا قاعدة أن الله تعالى إذا صدر الشيء بقل الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يقتضي زيادة العناية به؛ لأنه أمر بأن يبلغ هذا الشيء بخصوصه وإلا فإن جميع القرآن مأمور النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله.
{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} ، أهل الكتاب يعني بهم اليهود والنصاري، وعلي هذا فالمراد بالكتاب الجنس ليكون شاملًا.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدعو أهل الكتاب إلى هذه الكلمة السواء؛ لقوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} ، وهنا سؤال: هل الرسول قال بذلك؟ نعم قالها حتى كان يكتب بها إلى الملوك، لم يكتب إلي كسري ولكنه كتب إلي غيره: يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم، لكنه يقول:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} ، من كمال أدبه، إذا قال: قل يا أهل الكتاب، فكأنه يقول: إنما كتبت لكم هذه الآية بأمر الله، لكن لو قال: يا أهل الكتاب بدون (قل)، لكان فيها احتمال أنه كتبها من عند نفسه، فالمهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال ذلك، ودعاهم إلي هذه الكلمة، لكنهم أبوا وامتنعوا لأنهم مصرُّون معاندون إلا من هدي الله، فقد هدي الله من النصاري أقوامًا، ومن اليهود أقوامًا، ومن المشركين أقوامًا.
2 -
التنازل مع الخصم لإلزامه بالحق، كيف ذلك؟ لأنه
قال: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} والحق بلا شك مع الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن من أجل إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه تنازل معه.
3 -
وجوب استعمال العدل في المناظرة حتى مع العدو؛ لأن الرسول أمر بأن يعلن هذا، وإذا كان هذا واجبًا في مناظرة المسلمين مع الكفار، فهو في مناظرة المسلمين بعضهم مع بعض أوجب وأوكد، ولهذا نقول: من الخطأ العظيم أن بعض الناس إذا رأي رأيًا قال عما سواه: خطأ، وخطّأ غيره، هو قد يكون خطأ باعتبار اعتقاده لا ننكر عليه، لأنه من المعلوم إذا اختار ضده فهو عندهم خطأ ولا ينكر عليه، لكن الإنكار أن يُخَطِّئ من قال به، وهذا فرق دقيق، فرق بين أن أعتقد أن هذا القول خطأ ولا آخذ به، وبين أن أخطّئ من قال به؛ لأني إذا خطّأته ادعيت العصمة لي والزلل له وهذا خطأ، ولهذا يجب في المناظرة بين المسلمين كما يجب في المناظرة بين المسلمين والكفار أن تكون بالعدل، ومن المعلوم أن الميزان العدل في ذلك كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن المشكل أنه ليس كل أحد يفهم الكتاب والسنة كما ينبغي، يعني من الناس من يكون ظاهريًا محضًا لا ينظر إلي مقاصد الشريعة ومعانيها العظيمة التي يقصد بها إصلاح الخلق، فتجده مثلًا يريد أن ينفذ شيئًا من المسائل التي لا تعتبر ذات شأن كبير في الإسلام وإن فات بذلك مصلحة عظيمة كبيرة، منها مسائل الخلاف التي يظهر فيها النزاع والمباينة بين المسلمين.
ولهذا أمثلة كثيرة، تجد مثلًا بعض الناس يقول: لابد أن ننفذ هذا الشيء وإن كان سنة، وإن كان يلزم علي تنفيذه تفرق المسلمين وعدوانهم وحدوث البغضاء بينهم، لا ينظر إلي أن الشرع في الحقيقة مبني علي الألفة وائتلاف القلوب، فالشرع حرَّم
البيع علي بيع المسلم لأن ذلك يؤدي إلي العداوة والبغضاء، وحرَّم النجش، والخطبة علي خطبة أخيه، أشياء كثيرة إذا تأملتها وجدت أن هذا الشرع يرمي إلي أن يأتلف الناس وتتفق القلوب وتتحد الأهداف. وأن المسائل الجزئية إذا خيف منها فتنة تترك والحمد لله، أنت هل عليك لوم إذا تركت الأدني للأعلي؟ ليس عليك لوم بل لك مدح، اللوم أن تفعل الأدني لتفرط في الأعلي، ولهذا نعلم علم اليقين أن الصحابة أفقه منا بكثير، وأقوم منا في أعمالهم، وأشد منا حبًّا لشريعة الإسلام، ومع ذلك يتوافق بعضهم مع بعض في أمور لا يرونها ولكن من أجل المصلحة وائتلاف الناس واتفاق القلوب، ولا يخفي عليكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع عن هدم الكعبة وبنائها علي قواعد إبراهيم مع أن هذا هو الذي يتمناه، وهو الذي همّ به؛ خوفًا من الفتنة؛ لأن قريشًا كانوا حديثي عهد بكفر
(1)
.
وكان عليه الصلاة والسلام يترك ما يحب لمصلحة الناس، كان يصوم في السفر، فلما قيل: إن الناس قد شق عليهم، أفطر بعد العصر ورفع الماء وهو علي بعيره علي فخذه وشربه والناس ينظرون
(2)
، لم يقل: لم يبق إلا جزء يسير من النهار فأريد أن أكمل.
والصحابة رضي الله عنهم في خلافة عثمان، حيث بقي
(1)
رواه مسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، رقم (1333).
(2)
رواه الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في السفر، رقم (710). والنسائي، كتاب الصيام، باب ذكر اسم الرجل، رقم (2263).
- رضي الله عنه سبع أو ثمان سنوات في خلافته يقصر الصلاة في مني وبعد مضي أكثر خلافته رأي رضي الله عنه لسبب من الأسباب أن يتم الصلاة فأتم، فبلغ ذلك من بلغ من الصحابة فأنكروا عليه قالوا: كيف يقصر الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وأنت في أول خلافتك والآن تتم، حتى إن ابن مسعود رضي الله عنه لما بلغه ذلك استرجع، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون
(1)
، كأنه أمر كبير، ومع ذلك يصلون خلفه، يصلون أربعًا مع اعتقادهم أنها خلاف السنة، وذلك من أجل اتحاد الكلمة وعدم التفرق، ولما سئل ابن مسعود قيل: كيف تنكر فعل عثمان وتصلي خلفه أربعًا، قال:(الخلاف شر). هذا والله هو الفقه، وهذه هي الشريعة.
أما أن يتفرق الناس، ويتخاصمون، ولا يتعاملون بالعدل، ويقول كل واحد للآخر: قولي هو الحق، وقولك الخطأ، وأنت مخطئ، فهذا ليس من طريق الشرع، بل هذا خلاف الشرع، وإن زعم من تمسك به أنه علي الشرع، وأنه هو الذي يصدع بالحق، وأنه هو المعصوم، فإن دعواه هذه هي التي جعلته مخطئًا، من ادعي العصمة فأول زلل زل به ادعاؤه العصمة، وأنه هو الصواب وغيره علي خطأ.
4 -
أن جميع الرسل متفقون علي هذه الكلمة {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} لأنه ما دام أنها كلمة سواء بيننا وبينهم، معناه أنها عندهم كما هي عندنا، وهذا هو الواقع، أن جميع الرسل متفقون علي هذه الكلمة، لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا، بل إن الله تعالى قال في كتابه العظيم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
(1)
رواه أبو داود، كتاب المناسك، باب الصلاة بمني، رقم (1960).
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، الخلق الذين خلقوا من آدم، ومن قبل آدم الجن، ما خلقوا إلا لهذا الأمر العظيم، لعبادة الله. لم يخلقوا ليتمتعوا في الدنيا، ولينالوا الشهوات، لا والله ولكن لعبادة الله وحده لا شريك له. ومع هذا فإنهم إذا عبدوا الله صلحت دنياهم، والغريب -لكن ابن آدم نظره قاصر- أنه إذا صلح الدين صلحت الدنيا، لكن لا يلزم من صلاح الدنيا صلاح الدين. بل إنها ربما إذا اعتني بها أكثر من الدين فسد الدين، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام:"والله ما الفقر أخشي عليكم وإنما أخشي عليكم أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كلما أهلكتهم"
(1)
.
5 -
أن الحكم لله بين الناس، وأنه ليس لأحد أن يشرع من دون الله؛ لقوله:{وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
6 -
أن الحكم بين الناس والعبادة مقترنان؛ لأن الله قرن بينهما، {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، لأنك لن تعبد الله إلا بشريعته، إذن يلزم أن يكون المشرع هو المعبود. ما دمت تعبد الله فلن تعبده إلا بشريعته. فالمشرع هو المعبود الذي يعبد، لأنه سنَّ طريقًا أو وضع طريقًا وقال: اسلكوا هذا لتصلوا إلي، إذن كل طريق يخالفه فلن يوصل إلي الله، وهذا وجه التلازم بين قوله:(أن لا نعبد) وقوله: (ولا يتخذ)، فإن من اتخذ ربًّا من دون الله يتبعه في التحليل والتحريم فإنه لم يعبد الله؛ لأن عبادة الله لا تكون إلا بموافقة الشرع.
(1)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرًا، رقم (4015). ورواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، رقم (2961).
7 -
أن من دعا الناس إلى حل أو حرام، لكن بإذن الله وشرعه، فهو علي حق، تؤخذ من قوله:{مِنْ دُونِ اللَّهِ} فهو سبحانه وتعالى لم يقل: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} فحسب بل قال: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
فائدة:
بعض الناس إذا زلَّ بعض العلماء مثلًا ووقعوا في أخطاء أخذ هؤلاء يكتبون في المجلات والصحف أخطاءهم بحجة أنهم يبينون الحق. وهذا من الغلط، والحقيقة أن هذا الفعل فيه مضرة من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أنها مضرة على الكاتب؛ لأن الذين يثقون بالشخص الآخر يرون أن هذا مخطئ ويقل وزنه عندهم.
الوجه الثاني: أن فيه أيضًا إضعافًا للثاني المردود عليه، ومعلوم أنه إذا ضعفت منازل العلماء في الأمة ضاعت الأمة؛ لأن العلماء هم القادة، فإذا ضعفت منازلهم عند العامة ضاعوا وصاروا كالإبل التي ليس لها راع، أو كالغنم التي ليس لها راعٍ.
الوجه الثالث: أن فيها أيضًا إضعافًا للشرع؛ لأن العالم الذي ردَّ أو المردود عليه إذا قال قولًا غير هذه المسألة شكَّ الناس فيه وقالوا: لعل هذه من خطأ فلان، فصار فيه مضرة من ثلاثة وجوه، والواجب على العلماء فيما بينهم إذا أخطأ أحدهم أن يتصلوا به فيناقشوه، فإن كان الصواب معه تبعوه، وإن كان الصواب معهم يتبعهم، ثم لو فرض أنه أصرَّ على ما هو عليه وله وجه -لأن المسألة مسألة اجتهاد- فلا أري أن يرد عليه أبدًا؛
لأن الرد والأخذ والمناقشة في مسائل الاجتهاد بين العامة -لا شك- أنه ضرر، خصوصًا في هذا الوقت حيث يوجد أناس يدعون إلي التقليل من شأن العلماء، والكلام فيهم في المجالس؛ لأنهم فقدوا الزعامة التي يريدونها فصاروا مثل الزعماء الآخرين الذين عارضوا دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام لما فقدوا الزعامة التي يريدونها، ليس لهم سبيل إلي ما يريدون إلا أن يضعفوا الجانب الآخر. وهذا علي خطر عظيم جدًا، فأنا أري أنه إذا وجد خطأ من أي عالم -والإنسان غير معصوم، فقد يخطئ ولا يتبين له الخطا إلا بالمناقشة- أن يتصل به ويبحث معه، فإن تبين الحق وجب علي من تبين له الحق أن يتبعه، وإن لم يتبين وصارت المسألة فيها مساغ للاجتهاد فالواجب عَدم الرَّدِّ عليه.
8 -
أنه إذا تولي الخصم بعد إقامة الحجة عليه فإنه يعلن له بالبراءة منه، والتزام الحق؛ لقوله:{اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .
9 -
أنه ينبغي للمسلم أن يعتز بدينه، وأن يعلنه، ويشهره، خلافًا للضعفاء الذين عندهم ضعف في الشخصية، وقلة الدين، الذين يتسترون بدينهم مخافة أن يعيروا به، حتى إن بعضهم كما قيل لي يخجل أن يصلي بين الناس، يقول: أخشي أن أنسب إلي الدين، والعياذ بالله. وهذا يدل علي قلة الإيمان، وعلي ضعف الشخصية، وأن الإنسان ليس عنده رصيد يفتخر به ويعتز به.
10 -
إشهاد الخصم علي الحال التي يكون عليها خصمه؛ لقوله: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . لما في ذلك من الغضاضة عليه، وكسر جبروته، وعدم انقياده للحق.
• ثم قال الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 65].
الظاهر أن هذه الآية منفصلة عما قبلها يقول الله عز وجل: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} ويعني بهم اليهود والنصاري. ووصفوا وحْدَهم بذلك لأنهم هم الذين بقيت كتبهم قائمة يهتدي بها إلي أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: {لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} ، الاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ. فقولُه:{لِمَ} "ما" اسم استفهام مجرور باللام، و"ما" الاستفهامية إذا جرت بالحرف فإنها تحذف ألفها كما في قوله تعالى:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1]، ومنه قولهم:[علام تفعل؟ ]، فهذه أيضًا ليس فيها ألف وتغيرت (عَلَي) من أجلها؛ لأن علي تكتب ألفها ياءً لكنها إذا دخلت علي (ما) الاستفهامية كتبت ألفها ألفًا. علامَ مثل (علّام).
قوله: {لِمَ تُحَاجُّونَ} أي: تخاصمون، وسميت المخاصمة محاجة؛ لأن كل واحد من المتخاصمين يدلي بحجته يريد أن يخصم صاحبه.
وقوله: {لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} أي: في شأنه، وفي حاله، وفي دينه. وليس المراد في ذاته؛ لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام بشر متفق عليه، ولا محاجة فيه، لكن المحاجة في شأنه وحاله (لم تحاجون فيه)، وكيفية هذه المحاجة اختلف فيها أهل العلم علي قولين:
القول الأول: ادعاؤهم أنهم على ملة إبراهيم. اليهود يقولون: نحن علي ملة إبراهيم، والنصاري يقولون: نحن علي ملة إبراهيم.
القول الثاني: أن اليهود يقولون: إن إبراهيم يهودي علي دين اليهود، والنصاري يقولون: إن إبراهيم نصراني علي دين النصاري. وهذا الوجه عكس الوجه الذي قبله؛ لأن الوجه الذي قبله يدعون فيه أنهم علي دين إبراهيم، وفي هذا الوجه يدَّعون أن إبراهيم علي دينهم.
كيف تحاجون فيه وتقولون إن إبراهيم علي ديننا أو تقولون إنكم علي دين إبراهيم، كيف المحاجة وكيف يكون إبراهيم علي دينكم والتوراة لم تنزل بعد أيها اليهود؟ ! وكيف يكون إبراهيم علي دينكم والإنجيل لم ينزل بعد أيها النصاري؟ ! أو تقولون إنكم علي دينه وأنتم علي الإنجيل والإنجيل ليس هو دين إبراهيم، أو علي دين التوراة والتوراة ليست هي دين إبراهيم؟ . إبراهيم له شرعة خاصة:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، فكيف تحاجون في هذا؟ ! تدعون أن إبراهيم علي التوراة أو علي الإنجيل، أو تدعون أنكم أيها المتمسكون بالتوراة أو المتمسكون بالإنجيل علي دين إبراهيم مع أن التوراة والإنجيل لم تنزل إلا من بعده، هذا هوس وسخافة كيف يكون إبراهيم علي دين كتاب لم ينزل بعد، التوراة نزلت على موسى، والإنجيل نزل على عيسى، وهما بعد إبراهيم بأزمنة كثيرة، فكيف يكون إبراهيم علي هذا؟ ولهذا قال:{أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
(1)
؟ والاستفهام هنا للتوبيخ يعني أفلا
(1)
قيل في إعراب: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} :
1 -
أن الهمزة للاستفهام والفاء للعطف، لكن قدِّمت همزة الاستفهام لأن لها الصدارة، وعلي هذا فلا حاجة إلي تقدير؛ لأن الجملة تكون معطوفة علي الجملة التي قبلها. =
يكون لكم عقول تعقلون بها ما تقولون؟ وهذا فيه غاية اللوم والتوبيخ.
وقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} المراد بالعقل هنا عقل الرشد وليس عقل الإدراك؛ لأن هؤلاء عندهم عقل إدراك، والفرق بينهما أن عقل الإدراك مناط التكليف، وعقل الرشد مناط التصرف، يعني أن عقل الرشد يكون به حسن التصرف من العاقل، وعقل الإدراك يكون به توجيه التكليف إلي العقل، ولهذا يقال للرجل العاقل الذكي إذا أساء في تصرفه، يقال: هذا مجنون، هذا غير عاقل مع أنه من حيث عقل الإدراك عاقل.
المنفي هنا في حق هؤلاء عقل الرشد، أي أفلا يكون لكم عقل ترشدون به.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
توبيخ أهل الكتاب بكونهم يحاجون ويجادلون في إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
2 -
علو شأن إبراهيم ومنزلته بين جميع الطوائف .. اليهود والنصاري والمسلمين.
3 -
بيان الاحتجاج بالعقل؛ لقوله: {لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} ، فكيف تحاجون به مع أن التوراة والإنجيل لم تنزل إلا من بعده. وهذا خلاف العقل. ويتفرع علي هذه الفائدة:
= 2 - أن الفاء حرف عطف، وأن المعطوف محذوف يقدر بما يناسب السياق، والمناسب هنا أن يقدر أسفهتم مثلًا؛ لأن العقل ضده السفه أفلا تعقلون.
4 -
أنه لا ينبغي إهمال العقل في الاستدلال، كما لا ينبغي الاعتماد عليه وترك النص. فالناس في الاستدلال بالعقل طرفان ووسط: طرف غَلا فيه حتى قدَّمه على السمع، وذلك بالنسبة للفقهاء من أصحاب الرأي والقياسيين الذين يعتمدون على الرأي وإن خالف النص .. وفي باب العقائد جميع أهل البدع يعتمدون علي العقل ويدعون السمع. مع أن العقل الذي يعتمدون عليه ليس إلا شبهات، وليس براهين ودلالات. لكنهم ينظرون أن العقل يقتضي كذا فيثبتونه، ويقتضي نفي كذا فينفونه، ولا يرجعون في هذا إلي السمع، ومن ذلك الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم. كل من نفي صفة أثبتها الله لنفسه بشبهة عقلية فإنه داخل فيمن يغالي في الاستدلال بالعقل ..
الطرف الثاني: من أنكر الاعتماد علي العقل بالكلية، وقال: ليس للعقل مدخل في إثبات أي حكم أو أي خبر. فأنكروا القياس. وهذا مثل أهل الظاهر، أنكروا نهائيًا، وقالوا: لا يمكن أن نرجع للعقل في شيء ..
ومن الناس من هم وسط: رجعوا إلى العقل فيما لا يخالف الشرع؛ لأن العقل إذا لم يخالف الشرع فإن الله تعالى يحيل عليه في مسائل كثيرة مثل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، ومثل هذه الآية:{وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ، واستدلال الله تعالى على إحياء الموتي بإحياء الأرض بعد موتها استدلال عقلي حسي، فهو حسي لأنه مشاهد، وهو عقلي لأنه يستدل به علي نظيره الذي لا يخالفه تمامًا.
فالحاصل أن في هذه الآية اعتبار العقل دليلًا؛ ولكن بشرط أن لا يخالف الشرع، فإن خالف الشرع فالأصح أن نقول: إنه ليس بعقل؛ لأن صحيح المنقول لا يعارض صريح المعقول أبدًا. لكن إذا ظن أن العقل يخالفه فإما أن تكون لا مخالفة، وإما أن يكون السمع غير ثابت، وإما أن يكون العقل غير صحيح، ملوث بالشبهات والشهوات.
5 -
إثبات أن التوراة والإنجيل منزلة من عند الله؛ لقوله: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} ، فإن قال قائل: كيف تستدلون بهذه الآية علي أن التوراة والإنجيل منزل من عند الله؟ مع أن الفعل هنا {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ} ، يعني كيف يستقيم الاستدلال بهذه الآية علي أن التوراة والإنجيل نازلة من عند الله مع أن الفعل مبني للمجهول؟ .
الجواب: أن القرآن يفسر بعضه بعضًا، وفي هذه السورة نفسها، وفي أولها {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 3] فالمنزل للتوراة والإنجيل هو الله، وحينئذٍ نقول: بني الفعل للمجهول للعلم بالمنزل وهو الله، وهذا نظير قوله تعالى:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] الخالق هو الله عز وجل لكن حذف للعلم به، ولكن لما كان الضعف صفة نقص بني الفعل هنا للمجهول كما بني للمجهول في قوله:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] الشر لم يضيفوه إلي الله مباشرة قال: {أَشَرٌّ أُرِيدَ} ، والرشد أضافوه إلي الله مباشرة {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} .
6 -
إثبات علو الله؛ لأن النزول لا يكون إلا من أعلي.
ولا شك أن التوراة منزلة من عند الله، لكن الله كتب التوراة. ولهذا قال بعض أهل العلم: لا نستطيع أن نثبت بأن التوراة من كلام الله، لكن الله كتبها بلا شك، وهي نازلة من عنده، أما الإنجيل فهو كالقرآن، ليس فيه أن الله تعالى كتبه، وإنما قال أنزله وهو كلام فيكون كلامه. أما التوراة فقد قال الله تعالى:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145].
7 -
النداء على بني إسرائيل بالسفه، وأن تصرفاتهم كما هي مخالفة للمنقول فهي مخالفة للمعقول. ومن أراد أن يعرف سفاهة هؤلاء القوم فليرجع إلى كتاب [إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان] لابن القيم رحمه الله، ذكر أشياء عجيبة من سفه الأمة الغضبية والأمة الضالة. الأمة الغضبية هم اليهود، والأمة الضالة هم النصارى. ولو لم يكن إلا أن الله تعالى نعي عليهم عقولهم في هذه الآية، وفي آية:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، فاليهود أمة غضبية جاهلية في أبعد ما يكون عن الرشد.
8 -
الإشادة بالعقل، وأن العقل لا يحمل صاحبه إلا علي السداد والصواب؛ لقوله:{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ، والمراد بالعقل هنا عقل الرشد يعني عقل التصرف الذي به الرشد، لا عقل الإدراك الذي هو مناط التكليف؛ لأن هؤلاء اليهود والنصاري عندهم عقل، العقل الذي هو عقل الإدراك الذي هو مناط التكليف، هذا ثابت عند اليهود والنصاري، ولولا ذلك ما كلفوا.
• ثم قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 66].
قوله: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} الهاء للتنبيه، وأنتم ضمير منفصل مبتدأ {هَؤُلَاءِ} الهاء للتنبيه، و (أولاء) منادي، والتقدير: هأنتم يا هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم. ونقول في قوله: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ} ما قلناه في قوله: (لم تحاجون) من حيث الإعراب.
{هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} أولًا التنبيه هنا حسن، وذلك لأنه يخاطب قومًا لمزهم بعدم العقل، والذي ليس عنده عقل ينبغي أن يصدر الخطاب له بما يقتضي تنبيهه لأنه غافل، والغافل يتصرف تصرف مجنون فاحتيج إلي أن ينبه، فلذلك أتي بهاء التنبيه.
إذن المشار إليه قريب {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} ومع قربهم أتي (بهاء) التنبيه للدلالة علي بلادتهم، فإنهم مع قربهم وقرب الإشارة إليهم علي بلادة عظيمة يحتاجون إلي تنبيه.
{هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ} .
يعني خاصمتم غيركم فيما لكم به علم، وهو التوراة بالنسبة لليهود، والإنجيل بالنسبة للنصاري، يعني أنكم إذا حاججتم في التوراة والإنجيل وكانت المحاجة في التوراة من اليهود وفي الإنجيل من النصاري فهذه محاجة فيما فيه علم لكم، لكن لم تحاجون فيما ليس لكم به علم؟ وهو إبراهيم وما هو عليه من الدين. وقيل: المراد بقوله: {حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} ، أي: في دين الإسلام، يعني حاججتم فيه وخاصمتم، تقولون: ليس
علي دين إبراهيم، دين إبراهيم دين اليهود والنصاري، وأنتم تعلمون أن الإسلام دين الله الحق؛ لأن اليهود والنصاري يعلمون أن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الحق، قال الله تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، فصارت المحاجة الآن إما في الكتابين وإما في دين الإسلام وما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} والمحاجة التي يراد بها إثبات الباطل وإبطال الحق مذمومة، حتى وإن كانت عن علم، بل هي إن كانت عن علم أشد ذمًا، فكيف تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
والله يعلم الأمر علي ما هو عليه في شأن إبراهيم، وفي شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وفي شأن موسي وعيسي، وأنتم لا تعلمون ما يعلمه الله تعالى من هذا وغيره. ولكن نفي العلم عنهم هنا ليس رفعًا للإثم عنهم، ولكنه إيذان بجهلهم وجهالتهم، وأن تصرفهم كتصرف الجاهل. فهو في الأول قال: لا تعقلون، وفي الثاني قال: لا تعلمون، فجمعوا بين السفه في الرأي والتدبير، وبين الجهل في العلم والتصور، ولهذا قال:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
التنزل مع الخصم يعني لو فرضنا أن المحاجة قبلت منكم فيما لكم به علم، فإنها لا تقبل منكم فيما ليس لكم به علم.
2 -
ذم المحاجة بغير علم؛ لقوله: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ
لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وما أكثر هذا الواقع المؤسف المر في زمننا هذا، كثير من الناس اليوم يحاجون فيما ليس لهم به علم، بل بما تقتضيه عقولهم القاصرة، فيقول مثلًا: لم صار كذا؟ ولم صار كذا؟ لماذا كان هذا حرامًا وكان هذا حلالًا؟ لماذا كان هذا واجبًا وكان هذا غير واجب؟ وما أشبه ذلك، فيحاجون فيما ليس لهم به علم. وكثير من العامة الذين عندهم لَسَن وبيان، -وإن من البيان لسحرًا- يجادل طالب العلم في أمر لا يعلمه هو، بل مجرد مجادلة ومراء.
3 -
إقرار الإنسان على المحاجة بالعلم، ولكن بشرط أن يكون قصده حسنًا، بحيث يريد من المجادلة الوصول إلي الحق، فيثبت الحق ويبطل الباطل. أما الذي يجادل ولو فيما له فيه علم إذا كان قصده إبطال الحق وإثبات الباطل فلا شك أنه مذموم {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16].
4 -
إثبات العلم لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
5 -
أن المحاج فيما ليس له به علمٍ ليس عنده علم؛ لقوله: {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} بل ليس عنده عقل أيضًا؛ لأن المحاجة فرع من العلم، فمن حاج بغير علم فلا عقل له كما أنه لا علم عنده.
6 -
إثبات علم الله في الحاضر؛ لأن قوله: {يَعْلَمُ} فعل مضارع. والأصل في المضارع أنه موضوع للحاضر والمستقبل وربما يتمحض للماضي وربما يتمحض للمستقبل. فيتمحض للماضي إذا دخلت عليه (لَمْ). ويتمحض للمستقبل مع السين
وسوف. وإذا خلا فهو صالح للحاضر والمستقبل. فهنا يقول: {يَعْلَمُ} يعني أن علمه عز وجل مستمر دائمًا.
* * *
• ثم ذكر الله عز وجل حال إبراهيم ذكرًا صادرًا عن علم، لا عن جهل، فقال:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67].
يعني ليس على ملتكم أيها اليهود ولا علي ملتكم أيها النصاري. وهذا علي قول من يقول: إن محاجتهم في إبراهيم أن اليهود يقولون: هو منا، والنصاري يقولون: هو منا، فنفي الله ذلك.
وعلي القول الثاني يعني ما كان إبراهيم علي ما أنتم عليه من التعصب والتمسك بدينكم وإن كان منسوخًا باطلًا بدين الإسلام {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} ، فلو أن إبراهيم كان حيًّا لاتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم، ولم يكن كحالكم يبقي علي ما هو عليه في دينه، كما بقيتم أنتم. فالآية تحتمل الوجهين بناءً علي القولين السابقين، أي ما كان إبراهيم يسير سير اليهود فيتعصب، أو يسير سير النصاري فيتعصب، وليس المعني علي القول الثاني، أنه ما كان يهوديًا أي علي دين اليهود، أو علي دين النصاري، بل ما كان علي طريقتهم في التعصب لما هم عليه، وإن تبين أن الحق في خلافه، ولكن كان حنيفًا مسلمًا عليه الصلاة والسلام.
{حَنِيفًا} أي مائلًا عن الشرك؛ لأن الحنف في الأصل الميل فهو مائل عن الشرك، مثبت للتوحيد، ولهذا قال:{مُسْلِمًا} فهو جامع عليه الصلاة والسلام بين البراءة من الشرك
براءة كاملة، وبين تحقيق الإسلام تحقيقًا كاملًا.
وقوله: {مُسْلِمًا} يعني: مسلمًا لله ظاهرًا وباطنًا، فيشمل الإسلام الذي هو عمل بالجوارح والإيمان الذي هو اعتقاد القلوب وأعمال القلوب. وهذه قاعدة مهمة وهي أنه إذا أطلق الإسلام وأفرد شمل الإيمان، وإذا أطلق الإيمان وأفرد شمل الإسلام .. وإذا اقترنا صار الإسلام في الظاهر، والإيمان في الباطن. وهذه هي قاعدة أهل السنة والجماعة، وعليها يدل الكتاب والسنة، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان لوفد عبد قيس بالإسلام بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة
(1)
. ووصف الله الصلاة بالإيمان في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي: صلاتكم إلي بيت المقدس. وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وهو يشمل كل الدين؛ الإيمان وأفعال الجوارح. فمسلمًا هنا: مسلمًا لله ظاهرًا وباطنًا، فيشمل الإيمان والإسلام:{وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هذا تأكيد لقوله: {حَنِيفًا} وإن كانت معطوفة بالواو، ولكنها في المعني مؤكدة لما سبق. يعني ما كان من الذين يشركون بالله، لا شركًا خفيًا ولا شركًا ظاهرًا، بل كان يحارب الشرك، وصبر علي الدعوة إلي التوحيد، إلي أن ألقي في النار عليه الصلاة والسلام. ولكن كان جزاؤه علي ذلك أن قيل للنار:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
(1)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب وفد عبد القيس، رقم (4368). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، رقم (17).
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
تبرئة إبراهيم من دين اليهود والنصاري، أو من طريق اليهود والنصاري. فقد ذكرنا أن الآية لها معنيان؛ فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ليس يتدين بدين اليهود؛ لأن دين اليهود من بعده. ولا بدين النصاري؛ لأن دين النصاري من بعده. كذلك أيضًا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليس كالنصاري واليهود يتعصبون لما هم عليه بحق أو بباطل، بل كان حنيفًا مسلمًا، منقادًا لأمر الله، يأتمر بأمر الله، وينتهي بنهي الله.
2 -
أنه ينبغي لمن لم يتصف بوصف أن يُبيِّن براءته منه، ولو كان هذا الوصف في أصله محمودًا. لكن إذا كان لم يتصف به فالواجب أن يُبَيَّن؛ لأن الله نفي أن يكون إبراهيم يهوديًا أو نصرانيًا. مع أن اليهودية بعد بعثة موسي والنصرانية بعد بعثة عيسي كانتا حقًّا قبل أن تنسخا.
3 -
الثناء علي إبراهيم؛ لقوله: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، وجه الثناء عليه: بأنه وصفه بالتوحيد الخالص الذي لا يشوبه أي نوع من الشرك.
4 -
الإشارة إلي ما اشتهر عند الناس من أن (التخلية قبل التحلية). يعني البداءة بالنفي قبل الإثبات؛ لأن النفي تخلية والإثبات تحلية. فهنا بدأ بالنفي وهو {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا} ثم أثبت بقوله: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} والظاهر أن هذا الترتيب موافق للطبيعة؛ لأنك تخلي الشيء مما يشينه أولًا، ثم تضيف ما يكون به الكمال ثانيًا، وفي حديث الاستفتاح: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق
والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد"
(1)
فالمباعدة أن لا أمارس الذنوب والخطايا، والتنقية أن تزال، أن يزال هذا الأذي، والغسل أن يطهر وينظف. وأضرب مثلًا يتبين به المعني: إنسان معه أذي يريد أن يضعه علي بساط الصلاة فأقول: لا تضعه. هذه مباعدة. وآخر جاء به فوضعه فقلت: انزعه. هذه تنقية. المرتبة الثالثة: لما نزعه قد يكون في مكانه أثر أقول: اغسله.
5 -
أنه لابد في التوحيد من شيئين: نفي وإثبات، النفي في قوله:{وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا} والإثبات في قوله: {مُسْلِمًا} لأن الحنيف هو المائل عن الشرك وعن كل دين يخالف الإسلام. والإسلام هو إثبات الاستسلام لله عز وجل، وأكد ذلك بقوله:{وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، والتوحيد لا يتم إلا بإثبات ونفي .. والتعليل ظاهر جدًّا؛ لأن النفي تعطيل، والإثبات بدون نفي لا يمنع المشاركة، والجمع بينهما إثبات مع نفي المشاركة. نضرب مثلًا: إذا قلت: ليس هنا أحد قائم، هذا نفي، هذا تعطيل. يعني صفة القيام الآن معطلة لم يتصف بها أحد. وإذا قلت: زيد قائم، هذا إثبات أن زيدًا قائم، فأثبت القيام الآن لواحد من الناس. لكن هل هذه العبارة تمنع أن يكون غير زيد قائمًا؟ الجواب: لا تمنع، قد يكون واحد آخر غير زيد قائمًا. ولهذا إذا قلت أنا:
(1)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقال بعد التكبير، رقم (744). ورواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، رقم (598).
زيد قائم. فقلت أنت: وعمرو قائم، لا يعتبر قولك هذا ردًّا علي كلامي. بل إضافة إلي الكلام.
فإذا قلت: لا قائم إلا زيد. هذا فيه نفي وإثبات. حينئذٍ حصل التوحيد. صار المتفرد بالقيام زيدٌ. فتبين أنه لا توحيد إلا بنفي وإثبات. ولهذا قال الله سبحانه وتعالى عن وصف إبراهيم: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
6 -
أن الإسلام إذا أطلق أو أفرد دخل فيه الإيمان. وجهه أن الله وصف إبراهيم بالإسلام، وهو كذلك. فالإسلام إذا أفرد دخل فيه الإيمان، والإيمان إذا أفرد دخل فيه الإسلام، وإذا اقترنا افترقا صار الإسلام علانية والإيمان في القلب .. ففي حديث جبريل
(1)
اجتمعا فافترقا .. ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بشيء وفسر الإيمان بشيء آخر .. وفي قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]، اجتمعا فافترقا .. فصار الإيمان الذي ادعوه غير الإسلام الذي أثبته الله لهم قال:{وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]، وفي قوله تعالى:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} [الذاريات: 35، 36] اجتمعا فافترقا. الإخراج لم يكن إلا للمؤمنين، لوط وأهله إلا زوجته. فصار الذين أخرجوا هم المؤمنين الخلص. البيت يشتمل علي أهله الذين آمنوا إيمانًا خالصًا وعلي امرأته التي خانته فهي مسلمة، وليست مؤمنة. فالبيت كله باعتبار الكل مسلم. ولهذا قال: {فَمَا
(1)
رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (50). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان، رقم (8).
وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، وأما من زعم أن الإسلام هو الإيمان، واستدل بالآية فقد أبعد النجعة للفرق بين التعبيرين {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ولم يقل: من المسلمين .. قال: من المؤمنين {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . فالإسلام الذي هنا في الآية الكريمة: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} يشمل الإيمان؛ لأنه أفرد.
7 -
الثناء علي إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأنه لم يكن فيه صفة من صفات المشركين ولهذا قال: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ولم يقل: لم يكن مشركًا. فليس فيه صفة من صفات المشركين أبدًا، لا الشرك ولا غيره. وهكذا ينبغي لكل مؤمن أن لا يتصف بأي صفة من صفات المشركين. فمثلًا من صفات المشركين كراهتهم للتوحيد، وينكرونه ويقولون:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] فمن كره التوحيد وإن لم يكن مشركًا ففيه من صفات المشركين، بل قد يكون كافرًا.
* * *
• ثم قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَي النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68].
هذا حكم بين هؤلاء الخصوم. الخصوم ثلاثة: اليهود، والنصاري، والمسلمون. من الحكم العدل {إِنَّ أَوْلَي النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} ، قدم هنا ما كان ينبغي أن يكون خبرًا وجعله هو المبتدأ الذي هو ركن الجملة الذي يسند إليه الخبر، فقال {إِنَّ أَوْلَي النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} ولم يقل: إن الذين اتبعوه أولي به؛ لأجل أن يحكم بأن الأولوية لهؤلاء لا لغيرهم {أَوْلَي
النَّاسِ} من اليهود، والنصاري، والمشركين، وأصحاب الأوثان، وغيرهم للذين اتبعوه.
فتكون الجملة مؤكدة بمؤكدين بإن واللام.
قال: {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} .
للذين اتبعوه من بني إسرائيل ممن سبق النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك أنه تبعه كثير من المؤمنين الذين آمنوا به في حياته، والذين اتبعوا طريقته بعد مماته.
{وَهَذَا النَّبِيُّ} المشار إليه محمد عليه الصلاة والسلام، وكفي به فخرًا أن يشير إليه رب العالمين، هذا شرف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون الله يشير إليه بهذه الإشارة المفيدة للقرب، ولم يقل: وذلك النبي، بل قال:{وَهَذَا النَّبِيُّ} إشارة إلي قربه لأنه صلى الله عليه وسلم أقرب الناس منزلة إلي الله سبحانه وتعالى: {وَهَذَا النَّبِيُّ} فيها قراءة النبيء أيضًا .. وعلي هذه القراءة النبيء مشتق من النبأ، فهو فعيل بمعني فاعل وبمعني مفعول .. بمعني فاعل لأنه مُنبِئ مُخْبِر، وبمعني فعيل لأنه مُخْبَر، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه -في وصف الرسول-:[وهو الصادق المصدوق]
(1)
.. فهو فعيل بمعني مفعول، وفعيل بمعني مُفْعِل، وقد جاءت في القرآن، والقرآن حجة، وإذا أردت أن نأتي بحجة من كلام العرب فاسمع إلي قول الشاعر:
أمن ريحانة الداعي السميع
…
يؤرقني وأصحابي هجوع
(1)
رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم (3208). ورواه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابه. . .، رقم (2643).
السميع بمعني المُسْمِع .. فهذه سميع بمعني مُسْمِع في لغة العرب، علي أننا في الحقيقة لا نحتاج إلي استشهاد للقرآن لإثبات أن هذا لغة بل القرآن يُستشهد به، ولا يستشهد عليه، لكن من المعلوم أنه كلما زادت البينات ازداد الإنسان طمأنينة .. أما علي قراءة النبي بدون همزة ففيها وجهان:
الوجه الأول: أنها مسهلة من النبيء بالهمز يعني أن الهمزة جعلت ياءً للتسهيل. وهذا موجود في اللغة العربية. "أئمة" يقال فيها في اللغة العربية: أيمة .. وعلي هذا الوجه يكون النبي في النبأ.
الوجه الثاني: إن الياء أصلية وليست مسهلة من النبيء، وعلي هذا فيكون مشتقًا من النَّبْوَة .. وهي الشيء المرتفع الناتئ. يقال: نبا ينبو. يعني ارتفع. وذلك لارتفاع مرتبة النبي، لأن الرسل ومنهم خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم أرفع الناس قدرًا عند الله، ولهذا بدأ الله بهم في صدر من أنعم عليهم {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء: 69] .. والقول الراجح أنه إذا احتمل اللفظ معنيين بدون تضاد حمل عليهما؛ لأن ذلك أوثق في المعني. أما مع التضاد فإنه ينظر للراجح ويحمل عليه. لكن مع إمكان الجمع يجب أن يحمل علي المعنيين جميعًا.
فإذا قال قائل: هذا استعمال لمشترك في معنييه
(1)
.
(1)
اللفظ المشترك: ما اتحد لفظه وتعدد معناه .. العين تقال للباصرة .. وتقال للعين الجارية، وتقال للعين التي هي الذهب والورِق، ولهذا يقال: عين مورودة، وعين منقودة، وعين مكحولة .. العين المنقودة الذهب، والعين المورودة الماء، والعين المكحولة الباصرة.
يقول بعض العلماء: إن المشترك لا يمكن أن يحمل علي معنييه؛ لأن كل معني منهما يضاد الآخر. ولكن الصحيح الذي عليه أكثر أهل العلم أنه يجوز أن يحمل علي معنييه بشرط عدم التعارض. فإن تعارض وجب طلب المرجح.
قوله: {وَهَذَا النَّبِيُّ} معطوف علي قوله: {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} فهو في محل رفع بل هو مرفوع .. النبي بدل من اسم الإشارة، واسم الإشارة كما نعلم مبني علي السكون. قال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا} آمنوا بهذا النبي. والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم يتضمن الإيمان بكل شريعته. وهذا الإيمان أيضًا يستلزم القبول والإذعان. أن يقبل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأن يذعن له.
ثم قال: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} .
ولي كل مؤمن من هؤلاء وغيرهم، كل مؤمن فالله سبحانه وتعالى وليه. كما في قوله تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]، وهذه الولاية ولاية خاصة تقتضي أن ييسر المؤمن لليسري، ويجنب العسري. وهناك ولاية عامة شاملة لكل أحد. فالله تعالى ولي كل أحد ولهذا قال تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 61 ، 62]، فجعل الله تعالى مولي لهولاء وهم كفار لكن هذا بالولاية العامة، والولاية العامة هي ولاية التصرف .. التصرف في الكون والتدبير، والولاية الخاصة ولاية العناية بالمولي، وعليه فإن الله تعالى يعتني به فييسره لليسري ويجنبه العسري.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
في الآية دليل علي أن الأولويات تختلف، أي أن الناس يتفاضلون بالأولوية والولاية؛ لقوله:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ} و {أَوْلَى} اسم تفضيل، والتفضيل يدل علي المفضل والمفضل عليه. ولا شك أن الولاية درجات .. فأحق الناس بالولاية لإبراهيم من اتبعه، يعني القوم الذي اتبعوه في عهده؛ لأن القوم الذين اتبعوه في عهده اتبعوه في أصل الدين، وفي فروع الدين، يعني في جليل الدين ودقيقه. ولهذا قدم الذين اتبعوه علي النبي والذين آمنوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا لم يتبعوا إبراهيم في فروع الشريعة بل {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] لكن اتبعوه في أصل الدين والاستسلام لله عز وجل. وإلا فلا شك أن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من الذين اتبعوا إبراهيم، بل وأتباع الرسول أفضل من أتباع إبراهيم.
2 -
شرف النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه، لكونهم أولي الناس بإبراهيم الذي تتنازعه الأمم، كل أمة تقول أنا أولي به.
3 -
الرد علي اليهود والنصاري حيث ادعوا أنهم أولي الناس بإبراهيم فكذبهم الله.
4 -
تشريف النبي صلى الله عليه وسلم بالإشارة إليه من رب العالمين في قوله: {وَهَذَا اَلنَّبيُّ} .
5 -
إثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا أمر لا شك فيه، وكل من وصف بالنبوة في القرآن فهو رسول. قال الله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]،
ثم قال في هؤلاء النبيين: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}
[النساء: 165]، فكل من وصف بالنبوة في القرآن فإنه رسول بدليل آية النساء {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ} [النساء: 165].
6 -
إثبات ولاية الله للمؤمنين في قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} وهذه الولاية كما قلنا آنفًا ولاية خاصة تقتضي عناية تامة.
7 -
كل من كان أكمل إيمانًا فولاية الله له أكمل، هذه فائدة أخذناها من قاعدة معروفة عند أهل العلم وهي:[أن الحكم المعلق بوصف يزداد قوة بقوة هذا الوصف فيه] هذه قاعدة مفيدة .. كل حكم معلق بوصف فإن هذا الحكم يزداد قوة بقوة الوصف الذي علق عليه الحكم. فإذا قلت مثلًا: أنا أحب الصالحين معناه كل من كان أصلح فهو أحب إليَّ؛ لأن المحبة علقت بالصلاح، فكلما ازداد الصلاح ازدادت المحبة {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} علقت الولاية بالإيمان، فكلما كان الإنسان أقوي إيمانًا، كانت ولاية الله له أتم وأخص.
ويتفرع علي هذه الفائدة: أنه ينبغي للإنسان أن يحقق إيمانه ويكمله بقدر استطاعته، من أجل أن ينال ولاية الله؛ لأن كل إنسان عاقل يسعي في الحقيقة إلي أن يكون الله له وليًّا، نقول: الأمر سهل .. حقق الإيمان يكون الله لك وليًّا، وكلما ازداد تحقيقك الإيمان ازدادت ولاية الله لك. وإلا فكلنا يطلب ذلك .. ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أوليائه. كلنا يطلب هذا، لكن فقط حقق الإيمان. من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالي في الله، وعادي في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك
(1)
.. هذه من أسباب الولاية أن يكون
(1)
رواه الطبراني في معجم الأوسط (9/ 41)، رقم (9083).
حبك وبغضك وكراهتك وعداوتك وولايتك لله عز وجل لا للدنيا.
8 -
إثبات الأسباب .. وجه ذلك: أن الإيمان جعله الله سببًا لولاية الله، ولا شك أن الأسباب ثابتة، والأسباب شرعية وعقلية وحسية؛ فالأسباب الشرعية: ما جعلها الله تعالى سببًا في القرآن، فمثلًا: الإيمان سبب لدخول الجنة. هذا سبب شرعي، ودخول الوقت سبب لوجوب الصلاة، هذا سبب شرعي .. والعسل سبب للشفاء
(1)
، هذا سبب قدري علمنا به من طريق الشرع يعني من طريق الوحي .. كذلك كون الماء سببًا لنبات الأرض سبب حسي. فما شاهدناه بأنفسنا فهو سبب حسي، الأدوية الطبيعية التي تستخرج بالتجارب أسباب حسية.
أما الأسباب العقلية: فهي كثيرة جدًّا، كل شيء يترتب علي شيء عقلًا فهو سبب عقلي، والأسباب الشرعية والحسية والعقلية كلها مؤثرة بذاتها، حيث أودع الله فيها التأثير. وإنما قلت ذلك لأن بعض الناس غالي في التنزيه فقال: إن الأسباب لا تؤثر بذاتها وإنما يكون الأثر عندها لا بها، فقالوا مثلًا: إن الاحتراق بالنار ليس بالنار لكن حصل الاحتراق عند تماس النار بما يقبل الاحتراق فحصل الاحتراق. أما النار فلا
(1)
قال تعالى في سورة النحل: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. . .} [النحل: 69]. وقال صلى الله عليه وسلم: "الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهي أمتي عن الكي". هذا الحديث رواه البخاري، كتاب الطب، باب الشفاء في ثلاث، رقم (5680).
تحرق! لو جعلت النار تحرق وتقلب الشيء عما كان عليه لأثبت مع الله خالقًا وصرت مشركًا! ! .
لكننا نقول: الأسباب مؤثرة. وقد أودع الله فيها هذا التأثير، ولولا أن الله أودع فيها هذا التأثير ما أثرت، ولهذا لما ألقي إبراهيم في النار فقال الله لها:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَي إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] ما أثرت؟
إذن عرفنا الآن أن الأسباب جعلها الله مؤثرة وليست هي التي تخلق، أو خلقت بذاتها، ولكن الله أودع فيها هذه القوة التي يكون بها المسبب، هذا هو المعقول فنحن لا نغالي في إثبات الأسباب فنقول: إن هذا يكون بدون الله، ولا نغالي في التنزيه فنقول: إن الأسباب لا توثر وإنما يحصل الأثر عندها لا بها، كلا الأمرين خطأ، والوسط في الغالب هو الحق لأنك تجد كلا الطرفين أخذ بجانب من الحق وترك جانبًا، والوسط يأخذ بالجانبين فيكون وسطًا.
* * *
• قال تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران: 69].
{وَدَّتْ} أي: أحبت. والود خالص المحبة. ومن أسماء الله تعالى (الودود) بمعني الواد، والمودود. فهو سبحانه وادٌ لأوليائه وأصفيائه، وهو أيضًا مودود من أوليائه وأصفيائه، فالوُد إذن خالص المحبة، يعني أحب هؤلاء أو هذه الطائفة بكل خالص المحبة.
وقوله: {طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الطائفة يعني الجماعة،
والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود والنصاري. ولكن الأغلب هم اليهود؛ لأنهم أكثر ممارسة للعرب من النصاري. فإن اليهود كانوا في المدينة، قدموا من أذرعات، ومن الشام، ينتظرون النبي الذي بشرت به التوراة. قدموا من بلاد الشام لأنهم علموا أن مهاجر هذا النبي المدينة حسب ما في التوراة من البشارات به، فقالوا: نذهب إلي هناك لنكون معه {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89].
{لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} .. {لَوْ} مصدرية بمعني أَنْ. والقاعدة في (لو) أنها إذا أتت بعد ما يفيد الود والمحبة تكون مصدرية {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] أي: ودوا أن تدهن {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة: 109] أي: ودوا أن يردوكم، فهي هنا مصدرية. وقد علم أنها تأتي شرطية؛ حرف امتناع لامتناع. مثل: لو جاء زيد لأكرمتك. فهنا امتنع إكرامي إياك لامتناع مجيء زيد.
يقول الله عز وجل: {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} يعني ودوا أن يضلوكم. والإضلال: بمعني الإتاهة عن الحق. يعني ودوا أن يخرجوكم من الهدي إلي الضلال. وهذا الضلال الذي أرادوه بالمسلمين يمكن أن يفسر بالآية الثانية التي في سورة البقرة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109].
يقول عز وجل: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} يعني بمحاولتهم وودهم هذا لا يضلون إلا أنفسهم، المعروف عند
أكثر المفسرين أن المعني: وما يهلكون إلا أنفسهم، وذلك لأنهم إذا تمنوا لكم الضلال أثموا علي ذلك فصاروا هم كالضالين. وقيل: بل المعني: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} أنهم إذا اشتغلوا بمحاولة إضلالكم اشتغلوا عما فيه هداهم. كما هو الواقع أن الإنسان إذا أراد أن يرد الحق، وأن يضل غيره اشتغل بمحاولة إضلال غيره عن محاولة هداية نفسه، فيكون المعني: وما يضلون إلا أنفسهم لأنهم اشتغلوا بمحاولة إضلالهم إياكم عن طلب هدايتهم؛ لأن العادة أن الإنسان إذا اشتغل بمحاولة إضلال غيره تجده يطرق كل باب ويسلك كل طريق يحاول به إضلال الغير وينسي نفسه. وهذا واقع كثيرًا، حتى بين طلبة العلم أحيانًا، يريد الإنسان أن ينتصر لنفسه ولقوله، ولو كان علي خطأ، فتجده يحاول أن يلتمس الأعذار والتحريفات والتأويلات وصرف النصوص عن ظاهرها من أجل أن توافق قوله، وينسي أن يكون الواجب عليه إذا عورض أن يطلب الحق، وأن يراجع نفسه، لعل الصواب مع غيره. كما يقع كثيرًا عندما يختار الإنسان قولًا أو يقول قولًا ثم يراجع فيه فيتبين له أن الصواب خلاف ما كان يعتقده أولًا.
إذن {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} فيها رأيان:
الرأي الأول: ما يضلون إلا أنفسهم بالإهلاك وكثرة العقاب حيث حاولوا صد الناس عن دين الله.
الرأي الثاني: ما يضلون إلا أنفسهم بانشغالهم بمحاولة إضلالكم عن طلب هداية أنفسهم. قال بعض المفسرين: وهذا
أولي؛ وذلك لأن الوعيد عليهم بما يكون في الآخرة غير مُجد في هذا المقام؛ لأنهم أصلًا لا يؤمنون بمن أنذر بهذا حتى يقال إنهم لا يهلكون إلا أنفسهم. ولكن الواقع أن هذا غير وارد، يعني بمعني أن الله يتكلم عن الأمر الواقع، فالآية محتملة للمعنيين.
{وَمَا يَشْعُرُونَ} : يعني ما يشعرون أنهم أضاعوا الوقت في محاولة إضلالكم، ونسوا أنفسهم؛ لأن الإنسان في غمرة الغلبة، أو حب الغلبة، وسكرة حب الظهور ينسي، ولا يشعر بالوقت إذا ضاع عليه. فهؤلاء لا يشعرون بأن الوقت ضاع عليهم بانشغالهم بطلب أو بمحاولة إضلالكم. والشعور هو المعني النفسي الذي يشعر به الإنسان في نفسه توبيخًا وتنديمًا أحيانًا، أو عكس ذلك تفريحًا وتفاعلًا.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان عداوة أهل الكتاب للمسلمين حيث يودون لهم الإضلال، والطائفة من القوم، والغالب أن مشرب بقية القوم مشربها، فإذا كانت هذه الطائفة تود هذا فغيرها كذلك.
2 -
التحذير من أهل الكتاب وأنهم يحاولون صد المسلمين عن دينهم كالمشركين، وكل من الطائفتين تودان من المسلمين الضلال، يقول تعالى:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] وقال تعالى عن المشركين من قريش: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2]، فكل المشركين، وكل الملحدين، وكل من ادعي أنه صاحب كتاب، كلهم يودون من المسلمين أن يكفروا ويضلوا بعد هدايتهم وإيمانهم. وإذا كان كذلك فيجب علينا
الحذر منهم، واعتقاد أنهم أعداء ألداء، ويودون أن يقضوا علينا، وعلى ديننا بين عشية وضحاها.
3 -
أن المعتدي يجازى بمثل عدوانه، ويبتلى بمثل ما ابتلى غيره به؛ لقوله:{وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} .
4 -
تعزية المسلمين بما يريده بهم هؤلاء من الإضلال. فكأن الله قال: لا تخافوا منهم فإن الإضلال إنما يعود عليهم، ولكن هذا في حق المؤمنين حقًّا الذين يؤمنون بدينهم تمامًا ويفخرون به، ويعتزون به، دون الذين يجعلون دينهم أقوالًا باللسان، أو حروفًا على الأوراق، وهم في الحقيقة يتبعون غيرهم، ويعظمون غيرهم في نفوسهم، فإن هؤلاء ربما يصابون برجس هؤلاء الكفار الذين يريدون إضلالهم.
5 -
أن الإنسان قد يعمى عن الباطل مع ممارسته له؛ لقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} .
6 -
إحاطة علم الله بما في قلوب الخلق؛ لقوله: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ} فإن الود محله القلب، ولا يعلم ما في القلوب إلا الله.
7 -
أننا نرد على كل شخص يدعي أو يتوهم أن الكفار يريدون الخير بالمسلمين بهذه الآية؛ لأننا نقول له: إنك لا تعلم ما في قلوبهم، واسمع إلى علام الغيوب يقول:{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} فأنت لا تعلم، فلا تغتر بمصانعتهم ومخادعتهم ومكرهم.
• ثم قال الله عز وجل: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 70 - 71].
خطاب من الله لأهل الكتاب على سبيل التوبيخ {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى وبالأخص اليهود.
{لِمَ تَكْفُرُونَ} ، (ما) اسم استفهام حذفت ألفها لدخول حرف الجر عليها، والاستفهام هنا للتوبيخ.
{لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} آيات الله جمع آية وهي العلامة الدَّالة على الله عز وجل. وكل آية من آيات الله تدل على صفة من صفاته؛ فالانتقام آية تدل على الغضب. وبسط الرزق، إذا لم يكن الإنسان على معصية الله، آية تدل على الرضا والرحمة، فالآيات تتنوع بحسب متعلقها، فهؤلاء كفروا بآيات الله الشرعية التي نزلت على رسلهم وعلى محمد صلى الله عليه وسلم، فاليهود كفروا بآيات الله وهي: التوراة. والنصارى كفروا بآيات الله وهي الإنجيل؛ لأن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وقال تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، لم يقل: أبناءَهم وبناتهم؛ لأن معرفة الإنسان لابنه أقوى من معرفته لبنته لشدة تعلقه به فهو لا يجهل شيئًا منه، فهم يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم؛ لأن نعته موجود عندهم في التوراة والإنجيل ولكنهم كفروا بآيات الله:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}
إذن آيات الله تشمل: التوراة والإنجيل والقرآن، كفروا بهذه الثلاثة كلها {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} لم يقل: وأنتم تعلمون؛ لأن الشهادة أقوى لكونها تقتضي أن يكون العالم كالمشاهد للشيء بحسه، والمشاهدة بالحس أقوى من المشاهدة بالذهن، أو من العلم بالذهن. فهم يشهدون الآيات ويعلمونها ومع ذلك يكفرون بهذه الآيات.
{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} .
وهم في كفرهم مخادعون يلبسون الحق بالباطل. ومعنى لبس الحق بالباطل خلط الحق بالباطل، فهم يأتون بالباطل ويموهونه بحق. ووجه ذلك أنهم لو جاءوا بالباطل صراحًا ما قبل منهم لكنهم يأتون به مخلوطًا بحق من أجل أن يكون في ذلك تمويه على من لا يعرف الحقائق. وهذا من المكر والخداع لكل مبطل يموه الحق بالباطل، ومن ذلك أن يأتي بعبارات مجملة تحتمل حقًّا وباطلًا، ولكن هو يريد بها الباطل، ومن سمعها قد يحملها على إرادة الحق، وهذا أيضًا من لبس الحق بالباطل.
{لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} .
تكتمون الحق: أي تخفونه. وهنا قد يقول قائل: كيف قال: تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق، أليس في هذا تناقض؟
الجواب: لا. ليس في هذا تناقض؛ لأنهم يكتمون الحق الصريح ويأتون به مخلوطًا مموهًا بالباطل. وليس قصدهم أيضًا الحق إذا جاءوا بالحق مخلوطًا مع الباطل بل قصدهم الباطل، وهذا الحق الذي جاءوا به كالثوب الذي يخفي العيب.
{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تعلمون الحق، بل وتعلمون حالكم أنكم
لابسو الحق بالباطل. فهم يعلمون الأمرين: يعلمون الحق الصريح، ويعلمون أنهم قد خلطوا الحق بالباطل. ولاسيما اليهود؛ لأن اليهود عصوا الله وهم يعلمون أنهم عصوه، عصوا الله على بصيرة.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
توبيخ أهل الكتاب على كفرهم بآيات الله.
2 -
ومن فوائد الآية الأولى أن هذا التوبيخ واقع موقعه أنهم كفروا بآيات الله وهم يشهدون.
3 -
الحكم الصريح الذي لا يقبل التأويل على أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بالكفر {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} ولا يوبخ إلا على أمر واقع، والكفر بآيات الله كفر بالله. وبه نعلم أنهم وإن زعموا أنهم مؤمنون بالله فهم كافرون به كفرًا صريحًا خالصًا.
4 -
أن هؤلاء الكفار كفروا عن علم وشهادة؛ لقوله: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} .
5 -
أن هؤلاء الكفار من أهل الكتاب كانوا يخادعون ويمكرون بلبس الحق بالباطل. وما أكثر ما يموّهون بالقرآن الكريم على بطلان ما ذهبوا إليه، مثل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69]، فيقول إن الذين آمنوا: أي المسلمين، والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله منهم واليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربهم. فجعلنا نحن وأنتم في صف واحد، المؤمن منا بالله واليوم الآخر له الأجر، ولو كنا مخالفين لكم ما كان لنا أجر! ويقولون: عيسى
ابن مريم بشَّر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد ولم يأتِ بعد! فالذي جاء اسمه محمد. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144]. {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29]، فنحن ننتظر أحمد! فهم يلبسون الحق بالباطل ويمكرون. ولكن من أعطاه الله علمًا وفهمًا تبين له أنهم ملبسون. وقد ألف علماء المسلمين -ولله الحمد- في بيان باطلهم ودحض حججهم ما هو كالشمس إضاءةً ونورًا يخفي ضوؤه كل ساطع.
والجواب عن هاتين الشبهتين أن يقال: في الآيات الأولى قيد الله عز وجل من له الأجر من هؤلاء الأصناف بقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [المائدة: 69] فأنتم ما آمنتم بالله واليوم الآخر بنص هذه الآية: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} . أنتم مؤمنون لما كانت رسالة النبي الذي أرسل إليكم قائمةً، أما وقد نسخت، فإذا بقيتم عليها فأنتم كفار.
وقوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] إذن فأحمد جاءكم ولا نعلم أن نبيًا جاء بعد عيسى إلا محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا فيكون هذا التمويه لا يخفى على الإنسان الذي يعطيه الله تعالى علمًا وبصيرة، وقد ألف شيخ الإسلام رحمه الله كتابًا سماه:"الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" والرد على النصارى من أئمة المسلمين كثير.
6 -
أنه يجب الحذر من أهل الباطل إذا لبسوا الحق بالباطل، وألا نغتر بهم لأنهم يأتون بزخرف القول غرورًا. ومن هذا ما حصل للمبتدعة من هذه الأمة، فإنك إذا سمعت كلامهم قلت: لا أعدل بذلك شيئًا، هذا هو الحق ولن أتجاوزه، ولكنه كما قيل:
حجج تهافت كالزجاج تخالها
…
حقًّا وكل كاسر مكسور
حججهم كلها متهافتة ليس لها ما يقيمها على قدميها فضلًا عن أن تكون مهاجمة، هي لا تدافع عن نفسها فضلًا عن أن تهاجم غيرها، لكن مع ذلك يموهون. فعلى الإنسان أن يحترز من هؤلاء الذين يلبسون الحق بالباطل.
7 -
التوبيخ لمن سلك هذا المسلك. ووجه ذلك: أن تخصيص التوبيخ لأهل الكتاب ليس تخصيصًا للشخص والعين، ولكنه بالجنس والنوع والوصف، فكل من كان على شاكلتهم فإنه يستحق هذا التوبيخ.
8 -
وجوب بيان الحق على من عَلِمَه؛ لقوله: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، أما من لم يعلم فعذره ظاهر، ثم اعلم أن بيان الحق يجب عند السؤال عنه إما بلسان الحال وإما بلسان المقال. السؤال بلسان المقال أن يأتيك شخص ويقول: ما حكم كذا وكذا؟ والسؤال بلسان الحال أن يقع الناس في معصية يحتاجون إلى أن تبيَّن لهم، لا تقل: إن الناس لما لم يأتوا إلي ويسألوني فأنا لست بملزم. أنت ملزم لابد أن تبين لهم الحق ولا تكتم.
* * *
• لما ذكر الله تعالى مكرهم بالقول ذكر مكرهم بالحيل الفعلية فقال: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72].
{آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} يعني القرآن، وإن شئت فقل الشريعة كلها، آمنوا به {وَجْهَ النَّهَارِ} أي: أوله. والدليل على أن المراد بوجه النهار أوله قوله: {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} .
وهذه إحدى الطرق التي يعلم بها معنى الكلمات في القرآن الكريم، أن يعلم معنى الكلمة بذكر مقابلها كقوله تعالى:{فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] ثباتٍ يعني وحدانًا متفرقين.
{لَعَلَّهُمْ} الضمير يعود على المؤمنين.
{يَرْجِعُونَ} أي: يرجعون عن دينهم؛ لأنكم أنتم أهل كتاب، فإذا آمنتم أول النهار ثم رجعتم قال الناس: لولا أنهم علموا أن هذا دين باطل لم يرجعوا.
أرأيتم كيف المكر، ادخلوا معهم في أول النهار وصلوا كما يصلون، واحضروا مجالس الذكر وإن وجد بكاء فابكوا، كونوا معهم تمامًا، فإذا كان في آخر النهار اكفروا، قولوا: كفرنا بهذا الدين؛ لأن الناس إذا فعلتم هكذا قالوا لولا أن هذا الدين باطل ما كفر به هؤلاء بعد إيمانهم؛ لأن الإنسان إذا آمن بدين وكان الدين حقًّا ثبت عليه ولم يرجع .. والدليل على هذا أن هرقل سأل أبا سفيان حينما لاقاه في الشام عن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام: هل يرجع أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه؟ .
قال: لا، لا يرجع أحد .. قال: وَكَذَلِكَ الإيمانُ إذا خَالَطَ بَشَاشَةَ القُلوبِ
…
أو كلمة نحوها
(1)
.
• قال تعالى: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)} [آل عمران: 73].
(1)
رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} ، رقم (4553). ورواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، رقم (1773).
{وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} :
هذا من قول الطائفة أي: لا تظهروا ما أنتم عليه إلا لمن تبع دينكم؛ لأنكم لو أظهرتم للمسلمين أنكم آمنتم ثم رجعتم من أجل إفساد دينهم ما قبلوا منكم هذا، ولا رجعوا. لكن إذا أخبرتم بهذا المكر والخديعة من تبع دينكم سلم لكم الأمر .. كأنهم يقولون: اخفوا هذه الطريقة إلا على من تبع دينكم، فمن تبع دينكم أخبروه، أما غيرهم فلا تخبروهم.
قال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} .
وهذه الجملة معترضة، لكنها في محل موافق تمامًا؛ لأنه لما كان الغرض من هذا العمل الماكر أن يضلوا الناس عن دينهم صار من المناسب تمامًا أن يفسد هذا المكر ببيان أن الهدى هدى الله، والتوفيق بيد الله بأن يقول: لن ينفعكم هذا المكر والخداع، فإن الهدى هدى الله حتى لو عملتم هذه الطريقة الماكرة الخادعة، فإن ذلك لن يضر المسلمين شيئًا؛ لأن الهدى هدى الله.
ثم قال: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} :
هذه أشكلت على المفسرين والمعربين كثيرًا، وأظهر ما نقول فيها أنها متعلقة بقوله:{وَلَا تُؤْمِنُوا} يعني ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، يعني لا تخبروا أحدًا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم لأنكم لو قلتم للناس إنكم ستؤتون مثل ما أوتينا من الكتاب والفضائل وغيرها؛ لأن الله آتى بَني إسرائيل كتبًا بل آتاهم التوراة التي فيها الهدى والنور، وآتاهم فضائل: ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وقتل عدوهم اللدود حتى شاهدوه. يقول: لا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل
ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم؛ لأنكم لو قلتم للناس: إن هذه الأمة الإسلامية ستؤتى مثل ما أوتينا من الفضائل والشرائع لكان في ذلك حثٌّ على تمسكهم بدينهم.
وقيل المعنى: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} أي: لا تخبروا بهذا المكر والخداع أنكم تؤمنون أول النهار وتكفرون آخره من أجل أن يرجع المسلمون عن دينهم، لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم يعني لا تخبروا أحدًا إلا لمن تبع دينكم بأن يؤتى مثل ما أوتيتم من هذا المكر وهذا الخداع.
ثم قال تعالى: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} يعني ولا تؤمنوا أيضًا أن يحاجوكم عند الله؛ لأنكم لو آمنتم بذلك وأنكم يوم القيامة سيحاجكم هؤلاء عند الله ما قبل أحد منكم هذه الحيلة. كما قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 17]. فأنتم لا تخبرون الناس بهذا إلا لمن تبع دينكم .. فهم إذن يؤمنون بأنهم سوف يحاجهم المسلمون يوم القيامة عند الله.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} كما قالوا لا تؤمنوا لأحد أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} حتى لو حاولتم أن تخفوا ما يمنُّ الله به من الفضائل على هذه الأمة، فإن ذلك لن يمنع الأمر الواقع؛ لأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وقد آتى الله هذه الأمة -ولله الحمد- ما يربو بكثير على الفضائل التي أوتيها بنو إسرائيل.
{وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} واسع في كل صفاته، واسع العلم،
واسع الرحمة، واسع الحكمة، واسع القدرة، في كل الصفات. عليم بمن يستحق الفضل سبحانه وتعالى، فهو يؤتي فضله من يشاء عن علم وحكمة.
* * *
• قال تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74].
{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} : يختص بمعنى يخص بالرحمة من يشاء. ولكنه عز وجل يختص برحمته من هو أهل للرحمة كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] كل فعل من أفعال الله قرن بالمشيئة فهو تابع للحكمة؛ لقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30] فهو سبحانه عليم حكيم يؤتي فضله من يشاء ممن يستحق ذلك الفضل.
{وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
{ذُو الْفَضْلِ} : أي صاحب الفضل. {الْعَظِيمِ} : أي الواسع الكثير، فلا فضل أعظم من فضل الله عز وجل، وانظر إلى ما أنعم الله به على العباد من أول الدنيا إلى آخرها، وكل ذلك لم ينقص مما عند الله شيئًا. قال الله تعالى في الحديث القدسي:"لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنَّكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئًا إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر"
(1)
.. اغمس المخيط في البحر وأخرجه، هذا البلل الذي حمله المخيط هل ينقص
(1)
رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم (2577).
البحر شيئًا .. ؟ أبدًا فهكذا كل فضل أعطاه الله عز وجل لو فرض أنه خارج عن ملكه، فإنه لن ينقص ملكَ الله شيئًا إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر، وهذا لا ينقص البحر شيئًا.
من فوائد الآيات الكريمة:
1 -
بيان كيد الكفار للمسلمين، وذلك بسلوك طرق الحيل المتنوعة؛ لأنهم قالوا:{آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
2 -
أن أهل الكتاب قد يكون فيهم منافقون؛ لقوله: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} ، فإن المؤمن حقًّا لابد أن يستقر الإيمان في قلبه ولا يكفر ويرجع.
3 -
أن المؤمن قد يخدع بمثل هذه الخديعة، فيتظاهر عدوه بأنه موافق له ثم يتبرأ منه في النهاية كقوله:{آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، فيريدون أن يرجع المسلمون عن دينهم من أجل أن هؤلاء رجعوا.
4 -
تعصب أهل الكتاب لدينهم على ضلالهم؛ لقوله: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} .
5 -
أن المسلم يرد كيد هؤلاء بإعلان أن الهدى هدى الله، وأنهم مهما حاولوا أن يصدونا عن ديننا وقد أراد الله هدايتنا؛ فإن
ذلك لا يضرنا، ويتفرع على هذه الفائدة أنه ينبغي للعبد أن يعتمد على ربِّه في طلب الهدى، وأن لا يعتمد على نفسه؛ لأنه إذا اعتمد على نفسه خذل مهما كان من الذكاء والحيلة.
6 -
أن هؤلاء الذين صنعوا هذه الخديعة بينوا وأظهروا أن الذي حملهم على ذلك هو الحسد؛ لقوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} ؛ لأن اليهود من أبرز صفاتهم الحسد: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54]، {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109].
7 -
أن أهل الكتاب يؤمنون بالبعث والحساب؛ لقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} ، ولذلك اتفقت اليهودية والنصرانية والدين الإسلامي على الإيمان بالبعث. لكن ليس كل من آمن بالبعث يعمل له، فاليهود والنصارى ما داموا على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنهم لم يعملوا لهذا البعث، إذ لو عملوا له لآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
8 -
إثبات أن العطاء عطاء الله، وأن الله إذا منّ على أحد بفضل فلن يستطيع أحد منعه؛ لقوله:{قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} .
9 -
إثبات اليد لله عز وجل؛ لقوله: {بِيَدِ اللَّهِ} وهذه اليد يد حقيقية يقبضها الله ويقبض بها ويأخذ بها كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله تعالى يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل"
(1)
، وأخبر
(1)
رواه مسلم، كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب، وإن تكررت الذنوب، رقم (2759).
النبي صلى الله عليه وسلم أن "من تصدق بعدل تمرة -أي بما يعادل التمرة- من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلُوَّه"
(1)
.. الحديث.
أهل السنة والجماعة يؤمنون بأن ذلك حق على حقيقته؛ لأن الله أخبر به عن نفسه وهو أعلم بنفسه وأعلم بغيره، وأخبر به عن نفسه بكلام فصيح بيِّن لا يحتمل الشك، قال تعالى:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، وأخبر به عن نفسه بخبر هو أصدق الأخبار؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، فخبر الله أصدق الأخبار، وأخبر به عن نفسه ليهتدي الناس به كما قال تعالى:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، وقال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26]. فهذه أربعة أوصاف اتصف بها خبر الله تعالى عن نفسه:
الوصف الأول: أنه خبر صادر عن علم.
الوصف الثاني: أن كلام الله أحسن حديث في الفصاحة والبيان والوضوح.
الوصف الثالث: أن خبر الله عن نفسه أصدق خبر.
الوصف الرابع: أن الله يريد بما أخبر به عن نفسه أن يهتدي الناس به لئلا يضلوا.
فإذا اجتمعت هذه الأوصاف الأربعة في كلام لم يبقَ فيه
(1)
رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ، رقم (7429). ورواه مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، رقم (1014).
أدنى شك، ولا يمكن أن نقول إنه من المتشابه خلافًا لمن زعم أن آيات الصفات من المتشابه، ولهذا قالوا: إنها من المتشابه وإن فَرْضَنا نحوها أن نمرها دون أن نتعرض لمعناها، وهذا خطأ، بل نقرأ آيات الصفات ونتعرض لمعناها، ونسأل عن معناها، لكن لا نسأل عن الكيفية. نسأل ما معنى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] لكن لا نسأل كيف استوى .. فهنا (يد الله) هذه اليد حسية يأخذ بها ويقبض عز وجل. ولكن لا نسأل عن كيفيتها.
فإن قال قائل: إنه جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم على صورته"
(1)
، وفي رواية:"على صورة الرحمن"
(2)
، وهذا يقتضي أن تكون صفات الله كصفات المخلوق، فوجهه كوجه المخلوق، ويده كيد المخلوق، وعينه كعين المخلوق، وساقه كساق المخلوق، وقدمه كقدم المخلوق، فما الجواب؟
الجواب على ذلك: أن هذا لا يمكن أن يكون مراد الحديث؛ لأنه لو كان هذا مراد الحديث لكان تكذيبًا لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وخبر الله ورسوله لا يتكاذب بل يصدق بعضه بعضًا، فإذا كان كذلك فالجواب أن نقول:
أ - لا يلزم من كون آدم على صورة الله أن يماثله، فقد يكون الشيء على صورة الشيء من حيث العموم لا من حيث التفصيل. ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أول زمرة تدخل الجنة
(1)
رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن ضرب الوجه، رقم (2612).
(2)
أخرجه الهيثمي، في الزوائد، باب النهي عن تقبيح الوجه (2/ 831)، رقم (872). ورواه الطبراني في الكبير (12/ 430)، رقم (13580).
على صورة القمر ليلة البدر
(1)
. وهل يلزم من ذلك أن يكونوا مثل القمر؟ . أبدًا لكن من حيث الإجمال على صورة القمر وإلا فليس للقمر أنف، وليس له عين، وليس له فم، وأهل الجنة لهم أنوف وأعين وأفواه. وهذا وجه قوي جدًّا ويبقي النص على ظاهره.
ب - والوجه الثاني أن نقول: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن أي على الصورة التي اختارها الله عز وجل كما لو قلت: هذا الباب صنعه فلان يعني هو الذي صنعه. فالله هو الذي صور آدم، وإضافة صورة آدم إلى الله تقتضي التشريف، ولذلك جاءت هذه الجملة في بعض الأحاديث تعليلًا للنهي عن ضرب الوجه وتقبيح الوجه لأن آدم خلق على صورة الرحمن
(2)
. فإذا ضربت الوجه الذي خلقه الله عز وجل واختار هذه الصورة له؛ فإن ذلك الضرب قد يخدشه ويغيره، وإذا قبحت الوجه فقلت: ما أقبح هذا الوجه، فإن هذا أيضًا قدح في الصورة التي خلقها الله عز وجل واختارها لهذا الوجه. وعلى هذا فيكون إضافة الصورة إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى خالقه كقوله: ناقة الله، وبيت الله، ومساجد الله وما شابه ذلك .. فحينئذٍ تبقى النصوص -ولله الحمد- سليمة لا تتناقض ولا تتعارض. فاليد ثابتة لله على الوجه اللائق به من غير مماثلة، نجزم ونعلم علم اليقين أنه لا مماثلة بين صفات الخالق وصفات المخلوق.
(1)
رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم (3246). ورواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر، رقم (2834).
(2)
تقدم تخريجه (ص 414).
10 -
أنه ينبغي للإنسان أن يعلق الرجاء بالله خوفًا وطمعًا؛ لقوله: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} . فإذا علمت أن الفضل بيد الله، تسأل الفضل من الله، وإذا علمت أن الفضل بيد الله فالذي تخاف أن يمنع الفضل عنك هو الله. إذن فينبغي بل يجب على المؤمن أن يعلق قلبه بالله تعالى رجاءً وخوفًا.
11 -
إثبات قيام الأفعال الاختيارية بالله عز وجل، وأن الله يوصف بصفات الأفعال المتعلقة بمشيئته؛ لقوله:{يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فالإيتاء فعل عُلِّق بالمشيئة. فنؤمن بأن الله له أفعال يفعلها، ويحدثها تتعلق بمشيئته. ففيه ردٌّ على المعطلة الذين قالوا: إن الله تعالى لا يوصف بالصفات الفعلية الاختيارية؛ لأنه لا يوجد عندهم صفة لله تتعلق بالمشيئة، كل الصفات أزلية، فليس هناك صفات تحدث بمشيئة الله. وهذه الآية ترد عليهم؛ لأنهم يقولون: إن الله لا يفعل. يقولون: إن الله لا يستوي على العرش استواء فعليًا، ولا ينزل للسماء الدنيا، ولا يأتي للفصل بين عباده، قالوا: لأن الحوادث لا تقوم إلا بحادث، والله تعالى ليس بحادث، الله أزلي أبدي سبحانه وتعالى، فإذا أُثبتت له الأفعال الاختيارية المتعلقة بالمشيئة أثبت قيام فعل حادث به، ولا يقوم الحادث إلا بحادث! .
والجواب:
أ - أن هذه القضية أو هذا الحكم حكم عقلي معارض للنص؛ لأنه يتضمن رد كل نص يدل على قيام الأفعال الاختيارية بالله، وما تضمن رد النصوص فهو باطل؛ لأن ما تضمن رد الحق فهو باطل.
ب - أن هذا القضية أو القاعدة التي ذكرتم قاعدة باطلة، فإن الأفعال تأتي بعد الفاعل، ولا يلزم أن تكون قديمة بقدمه، ولا يلزم أن يكون حادثًا بحدوثها، ولذلك نحن نأكل اليوم، وأكلنا بالأمس، وما قبل أمس. فهل يلزم إذا أكلنا اليوم أننا لم نوجد إلا اليوم؟ ! ، إن وجودنا يسبق أفعالنا. فكذلك أفعال الله اختيارية، وجود الله سابق عليها، ولا يلزم أن نقول: إذا أثبتنا الأفعال الحادثة قد أثبتنا حدوث الفاعل أبدًا. فهذه الملازمة العقلية ملازمة باطلة لذاتها. وهي أيضًا ملازمة باطلة لمصادمتها للنصوص.
12 -
إثبات المشيئة لله؛ لقوله: {مَنْ يَشَاءُ} . ولا أحد ينكر إثبات المشيئة لله فيما يتعلق بفعله أنه تابع لمشيئته، ولا يكون إلا بمشيئته، ولكن اختلفت الأمة في فعل العبد هل يكون بمشيئة الله أو لا يكون؟ فأهل السنة والجماعة قالوا: إنه يكون بمشيئة الله مع إثبات إرادة العبد، أي فعل العبد بمشيئة الله مع إثبات إرادة العبد له. وذهبت القدرية مجوس هذه الأمة إلى أن فعل العبد لا يقع بمشيئة الله، وأن العبد حر يفعل ما يشاء، ولا تعلق لإرادة الله ومشيئته بفعله، وبهذا سُمّوا مجوس هذه الأمة؛ لأنهم اعتقدوا أن العبد مستقل بما يحدثه، فجعلوا للحوادث خالقين: الله عز وجل فيما يتعلق بفعل نفسه، والإنسان فيما يتعلق بفعل نفسه أيضًا. فالله خالق لأفعاله والإنسان خالق لأفعاله. والله شاءٍ لأفعاله والإنسان شاءٍ لأفعاله، ولا تعلق لمشيئة الله بفعل العبد.
وهناك طائفة أخرى وهم الجبرية قابلتهم فقالت: أفعال العبد بمشيئة الله ولا إرادة للعبد فيها. إن قام فهو مجبر، وإن جلس فهو مجبر، وإن نزل من السطح على الدرج فهو مجبر، وإن
تدحرج رغمًا عنه فهو مجبر، وإن مات فهو مجبر، وإن شرب فهو مجبر .. كله إجبار ما له اختيار. وهؤلاء أيضًا خالفوا المعقول والمنقول والمحسوس. لو أن أحدًا منهم وقف أمامنا وقال: الإنسان مجبر على فعله فقام أحدنا وضربه كفًّا وقال: أنا مجبر على أن أضربك كفًّا فلن يرضى. ولهذا يذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رُفع إليه سارق فأمر بقطع يده، فقال: مهلًا يا أمير المؤمنين، والله ما سرقت إلا بقدر الله -يعني غصبًا علي- فقال: ونحن لا نقطع يدك إلا بقدر الله. فردَّ عليه بحجته. مع أن أمير المؤمنين يقطع يد السارق بقدر الله وشرع الله.
ومشيئة الله مقيدة بالحكمة، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]، يدل على أن مشيئة الله مقرونة بالعلم والحكمة وهو كذلك، فلا يشاء سبحانه وتعالى شيئًا إلا لحكمة. ولكن الحكمة قد تبين لنا وقد تخفى علينا؛ لأن عقولنا قاصرة. قد نظن مثلًا أن نزول المطر في هذا الوقت ضرر وليس بضرر. وقد نظن أن حبس المطر عنا ضرر وليس بضرر.
13 -
إثبات اسمين من أسماء الله وهما {وَاسِعٌ} والثاني {عَلِيمٌ} واسع في كل صفاته. كل صفاته سبحانه واسعة، رحمته وسعت كل شيء، وعلمه وسع كل شيء، وسلطانه شمل كل شيء، وقدرته على كل شيء {وَاسِعٌ} بكل معناه حتى إن الله قال:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]، أي مكان تولي وجهك له فالله أمامك، إذا كنت في الصلاة فإن الله تعالى يراك وهو أمامك كما قال عليه الصلاة والسلام: "إذا كان
أحدكم يصلي فلا يبصق قِبَلَ وجهه؛ فإن الله قِبَلَ وجهه إذا صلى"
(1)
، الذين يستقبلون المشرق كالذين يقعون غربًا عن مكة، والذين يستقبلون المغرب كالذين يقعون شرقًا عن مكة، والذين يستقبلون الجنوب، كالذين يقعون عنها شمالًا، والذين يستقبلون الشمال كالذين بقعون عنها جنوبًا، كل هؤلاء أينما تولوا فثم وجه الله؛ لأن الله واسع عليم. ولكن لا تظن أن الله في الأرض قبل وجهك وأنت تصلي، فإنه قبل وجهك وهو في السماء؛ لأن الله ليس كمثله شيء في جميع صفاته. وإذا كان المخلوق وهو مخلوق يمكن أن يكون في السماء وقبل وجهك فما بالك بالخالق، لو استقبلت الشمس حين شروقها لكانت قبل وجهك وهي في السماء، وكذلك عند الغروب تكون قبل وجهك وهي في السماء. فالحاصل أن الله تعالى واسع بجميع صفاته وبكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
14 -
إثبات علم الله سبحانه وتعالى في قوله: {عَلِيمٌ} العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه، فمن لم يدرك الشيء فليس بعالم، وإن أدركه على خلاف ما هو عليه فليس بعالم. والأول جاهل بسيط، والثاني جاهل مركب. فلو سألنا سائل: متى كانت غزوة الفتح؟ فقيل له: كانت في السنة الثالثة من الهجرة، فالقائل جاهل جهلًا مركبًا، ولو سألنا سائل: متى كانت غزوة الفتح؟ فقيل له: الله أعلم، فالقائل جاهل لكن جهله بسيط،
(1)
رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب حك البزاق باليد من المسجد، رقم (406). ورواه مسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها، رقم (547).
والأول أشدهما عمى؛ لأنه جاهل وهو جاهل أنه جاهل. ولهذا قيل: إن الجهل المركب أشد قبحًا من الجهل البسيط، فعالم لم ينتفع بعلمه أشد إثمًا من الجاهل؛ لأن العالم الذي لم ينتفع بعلمه علم ولكنه -والعياذ بالله- لم يعمل بعلمه.
ولو سأل سائل: متى كانت غزوة الفتح؟ فقيل له: في السنة الثامنة في رمضان لكان عالمًا. إذن الله تعالى عالم، مدرك للأشياء على ما هي عليه، وعلمه تعالى تام من كل وجه أزلًا وأبدًا، فلم يزل عالمًا يعلم ما سيكون. وإذا علم وهو عالم عز وجل فلن ينسى، كما قال موسى عليه السلام:{فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52].
قال أهل العلم: لا يوصف الله بأنه عارف؛ لأن المعرفة انكشاف بعد لبس وخفاء. ولهذا إذا علمت الصبي تقول له: هل عرفت؟ فيقول: نعم. يعني بعد أن كان خافيًا عليه صار الآن معلومًا له، فمن أجل أنها انكشاف بعد خفاء لم يصح إطلاقها على الله؛ لأن الله لم يزل ولا يزال عالمًا.
ثانيًا: أن المعرفة تطلق على العلم والظن، ولهذا إذا قلنا: العلم معرفة الحق بدليله شمل قولنا: (معرفة الحق بدليله) العلم والظن؛ لأن المعلومات إما علمية وإما ظنية، لهذا لا يصح أن يطلق على الله أنه عارف.
فإن قال قائل: كيف تقولون هذا وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة"
(1)
. (يعرفك) وهذا فعل.
(1)
رواه أحمد في مسنده، بلفظ:"تعرّف إليه. . ."، رقم (2800).
فالجواب عن ذلك: أن هذه معرفة خاصة تستلزم العناية بالذي تعرّف إلى الله من قبل. والدليل على أنها ليست معرفة العلم بل هي معرفة العناية قوله: "تعرف إلى الله" مع أن الله يعرفك سواء قمت، بعبادته أم لم تقم. لكن إذا قمت بعبادته فقد تعرفت إليه، فإذا تعرفت إليه في الرخاء عرفك في الشدة.
ومن فوائد قوله عز وجل: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
1 -
أن الله عز وجل قد يرحم بعض العباد رحمة خاصة؛ لقوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} ، وقد بيَّن الله في آية أخرى أن الله يرحم من يستحق أن يرحم، وهو الذي تعرض لأسباب الرحمة، قال تعالى:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16] .. وأن من كان على العكس لم يأت بما يقتضي الرحمة، فإنه ليس أهلًا لها، قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]. وقال عز وجل: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].
2 -
أنه لا اعتراض على الله في كونه يختص برحمته زيدًا ويمنع رحمته عن عمرو؛ لأن الأمر إليه وهو فضل إن شاء منعه وإن شاء أعطاه. ويتفرع على هذه الفائدة أن من مُنِعوا فضل الله لم يكونوا قد ظُلموا شيئًا؛ لأن فضل الله يؤتيه من يشاء، ويختص برحمته من يشاء. أرأيت لو كان أمامك عشرة رجال فأعطيت واحدًا عشرة، وواحدًا تسعة، وواحدًا ثمانية، وواحدًا سبعة، وواحدًا ستة، وواحدًا خمسة، وواحدًا أربعة، وواحدًا ثلاثة، وواحدًا اثنين، وواحدًا واحدًا. هل ظلمت من لم تعطه إلا درهمًا
واحدًا؟ لا، ما ظلمته لأن هذا فضل منك فلا يقال إنك ظلمت من أعطيته درهمًا واحدًا لأنك أعطيت الأول عشرة دراهم، ولو استأجرت عشرة أجراء على عشرة دراهم كل يوم، فقاموا بالعمل، فأعطيت واحدًا عشرة دراهم؛ والثاني تسعة، والثالث ثمانية، وهكذا تنقص، لعددت ظالمًا؛ لأن هذا ليس من العدل أن يقوم الجميع بما استأجرتهم عليه ثم تعطي بعضهم وتحرم بعضًا. والفرق بين هذه والتي قبلها أن الأولى فضل وإحسان، والثانية عدل. والعدل يجب أن يعطى فيه كل ذي حق حقه.
3 -
جواز وصف غير الله بالعِظَم؛ لقوله: {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، لأن الفضل هنا يحتمل: أن يُراد بها الفضل الذي هو فضل الله أي عطاؤه، أو أن المراد بها المُتفضَّل به وهو المُعطى، فعلى الثاني لا إشكال في استنباط الفائدة التي ذكرناها (أن العِظَم يوصف به غير الله) وعلى الأول إذا قلنا: إن الفضل هو نفس فعل الله فوصفه بالعِظم لا إشكال فيه؛ لأنه من صفات الله، وصفات الله كذاته عظيمة.
فإن قال قائل: ما دام الاحتمالان قائمين فلا دلالة على أنه يوصف بالعِظم من سوى الله. ما دمنا نقول يحتمل أن يكون الفضل هنا صفة لله، وصفة الله عظيمة كذات الله.
فالجواب عن هذا أن يُقال: اقرأ قول الله تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] فوصف العرش بالعِظم مع أن عرشها مخلوق .. إذن يصح أن نقول: هذا الفعل عظيم، وهذا رجل عظيم، هذه سيارة عظيمة، هذا بيت عظيم، وما أشبه ذلك، ولا يضر، كما أنه يصح أن نقول: فلان عزيز، فلان قوي، ولا حرج
في ذلك، ولكن يجب أن نعلم أن ما نصف به المخلوق من صفات الله لا يماثل صفات الله ولا يُدانيها أيضًا؛ لأن الصفة تكون لموصوف تُناسبه.
* * *
لما ذكر الله سبحانه وتعالى خيانة أهل الكتاب في الأمور الدينية ولبسهم الحق بالباطل، وعُتوَّهم وعنادهم ونفاقهم وتغريرهم للمؤمنين، ذكر حالهم في الأمور الدنيوية في المال، فقسَّمهم الله تعالى إلى قسمين:
فقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} فهذا يشمل اليهود والنصارى، وسُموا أهل كتاب لأنهم هم الذين عندهم بقايا من الدين النازل على الأنبياء. فاليهود عندهم بقايا من التوراة، والنصارى عندهم بقايا من الإنجيل.
{مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ} هنا يجب الإظهار؛ لأن الهمزة همزة قطع، فيقال:{مَنْ إِنْ} خلاف لما يصدر من بعض الناس، حتى من أئمة المساجد، بقول:(من ان تأمنه)! وهذا خطأ، لأنه إذا قال:(من ان تأمنه) جعل الهمزة همزة وصل، وهي همزة قطع؛ لأنها (إن) الشرطية {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ} .
والخطاب في قوله: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ} يعود على المُخاطب، يعني {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ} أيها المخاطَب {بِقِنْطَارٍ} يعني على قنطار {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} .
والقنطار عبارة عن المال الكثير من الذهب، حدَّه بعضهم بألف دينار، وبعضهم بملء مسك الثور، يعني جلد الثور، من الدنانير، {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} أي: يرُدُّه إليك من غير تغيير ولا نقص. والأداء هو إبلاغ الشيء، ومنه أداء الحديث، ومنه أداء الأمانات: أي إبلاغها إلى مستحقها، فمن يؤده إليك: أي يُعطه إياك سالمًا من كل نقص، وهذا أمين.
وفي قوله: {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} قراءتان: قراءة بكسر الهاء {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} وأخرى بالسكون "يُؤدِّهْ إِلَيْكَ".
ومنهم القسم الثاني: الخائن الذي لا يؤتمن: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} .
والدينار هو الوحدة من النقد الذهبي، وهو ما يُسمى عندنا بالجنيه.
{لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} أي: لا يرده إليك سالمًا بل يُنقِصه ويخون فيه.
{إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} بمعنى إلا إذا بقيت قائمًا عليه، مراقبًا له، ناظرًا في أحواله. فحينئذٍ تَسلَم من خيانته، أما إذا غفلت أدنى غفلة فإنه سوف يخونك. فقسَّم الله عز وجل أهل الكتاب الآن إلى قسمين:
القسم الأول: أمين إذا ائتمنته على المال الكثير لم يُنقصه شيئًا، وإن ائتمنته على المال القليل لم يُنقص من باب أولى؛ لأنه
إذا كان لا يُنقص المال الكثير شيئًا مع أن المال الكثير إذا أخذ منه الشيء القليل لا يتبين، فائتمانه بالمال القليل من باب أولى.
والقسم الثاني: من هو خائن لو ائتمنته على أقل القليل، على وحدة من النقود، فإنه لا يؤديها إليك إلا إن كنت قائمًا عليه مراقبًا له، فحينئذٍ تسلم من شره، وإلا فإنه يمكن أن ينقص الواحد من الدنانير، وإن ائتمنته على أقل من دينار فكذلك لا يؤده، وعلى أكثر من باب أولى.
ثم قال الله عز وجل معلِّلًا خيانتهم للأمانة: {ذَلِكَ} أي ما ذُكر من خيانتهم.
{بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا} الباء هنا للسببية، أي أن عدم أمانتهم بأنهم قالوا، أي بسبب قولهم: ليس علينا في الأُمِّيّين سبيل .. (الأميون) هم العرب وسُمُّوا أميين نسبة إلى الأم. والإنسان الأمِّي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، قال الله تعالى:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] يعني لا يعلمونه إلا قراءة، أما الأمي في الأصل فهو الذي لا يقرأ ولا يكتب. وبهذا كان العرب لا يقرؤون ولا يكتبون إلا بعد أن بعث الرسول صلى الله عليه وسلم .. فكانت لهم القراءة والكتابة .. الأمية عيب ذكرها الله بصفة القدح، فقال:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] وأشار إليها أيضًا في قوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].
والضلال لا أحد يرى أنه مدح، ولكنها بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم تزكية؛ لأن كونه أميًّا ويأتي بهذا الكتاب العظيم يدل على أنه
صادق؛ لأن الأمي لا يمكن أن يأتي بمثل هذا الكتاب، كما قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] ونحن أمة أمية كما قال النبي عليه الصلاة والسلام
(1)
، ولكن بعد أن فتح الله علينا، وآتانا العلم والحكمة صرنا أمة علمية لا أمة أمية.
وإذا قال قائل: هذا ينتقض عليك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إنا أمة أمية" في المدينة بعد أن نزل عليه الكتاب .. نقول: نعم هو قاله باعتبار الهلال .. ونحن باعتبار الهلال حتى بعد الفتوحات أمة أمية لا ندري عن حساب الأهلة ولا نعرفها.
وقال بعض المفسرين: المراد بالأميين من سوى أهل الكتاب. فيكون المراد بالأمي من ليس له كتاب، ويكون هؤلاء اليهود والنصارى يقولون: كل الناس سوى أهل الكتاب ليس علينا فيهم سبيل؛ لنا أن نظلمهم، نأخذ أموالهم، نقتلهم، نسبي نساءهم، لأننا نحن المختارون عند الله وغيرنا عبيدٌ لنا، والإنسان يفعل في عبيده ما شاء، ولهذا تقول اليهود: إنهم شعب الله المختار. ولكن الله اختارهم على عالَمِي زمانهم، ولم يشكروا هذه النعمة.
{فِي الْأُمِّيِّينَ} من نظر إلى الآية وأنها في سياق الائتمان على المال قيَّد هذا بأنه {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} فيما يتعلق بالمال. ومن نظر إلى العموم قال إنها تشمل أنهم يدعون أنهم لا سبيل عليهم في الأميين في أموالهم ودمائهم .. وهذا المعنى
(1)
رواه البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا نكتب. . ."، رقم (1913). ورواه مسلم، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال، رقم (1080).
أعم. وإذا كان المعنى أعم واللفظ لا يُنافيه فالاختيار أن تأخذ بالأعم؛ لأن الأعم يشمل الأخص، ولا عكس.
وقولهم: {سَبِيلٌ} السبيل في الأصل الطريق، والمراد به هنا اللوم، أي ليس علينا سبيل في اللوم أو سبيل إلى اللوم أي أننا لا نُلام ولا نذم ولا نأثم فيما يتعلق بالأميين.
هذا القول الذي يقولونه ليسوا ينسبونه لأنفسهم، وأنهم هم الذين أباحوا لأنفسهم الاعتداء على الأميين، وإنما يجعلون هذا شرعًا من عند الله، يقولون: إن الله أباح لنا ذلك ولم يجعل علينا سبيلًا فيما يتعلق بالأميين.
ولهذا قال الله عز وجل: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
أي: أنهم يكذبون على الله، ويفترون على الله، ويدَّعون هذا شرعًا من الله، وهم يعلمون أن الله حرم عليهم أكل أموال الناس بالباطل ودماء الناس وأعراضهم، يعلمون هذا لكنهم يكذبون على الله.
{وَيَقُولُونَ} هنا مضمَّنَةٌ معنى يفترون .. فـ (يقولون) أي: يفترون على الله الكذب. والتضمين مختلف فيه، هل تضمِّن الفعل معنى يناسب المعمول، أو أننا نجعل التضمين في الحرف. والقول الراجح أننا نُضمِّن، الفعل معنى يناسب الحرف. ومن أبرز الأمثلة على ذلك قوله تعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6].
{يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} الباء بمعنى (مِن): أي يشرب منها. وعلى هذا القول تكون يشرب على ظاهرها من الشرب. وبعضهم قال: بل إن يشرب بمعنى يروَى، وعلى هذا فالباء للسببية وليست
بمعنى (من) أي يروَى بها عباد الله. وهذا المعنى أصح لأنه إذا ضُمِّنت يشرب معنى يروى فإنه لا ري إلا بعد شرب، وعلى هذا يكون الفعل (يروى) دالًا على معنى الشرب وزيادة. لكن إذا قلت يشرب على ظاهرها والباء بمعنى (من) لم نستفد هذه الفائدة، وهي الرِّيُّ.
وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الجملة حال من الواو في قوله: (يقولون) يعني يقولون وهم يعلمون أنهم كاذبون، فيكون قولهم أشد من قول من يقول الكذب وهو لا يعلم أنه كذب.
ثم قال الله عز وجل: {بَلَى} و"بلى" حرف إبطال -في هذا المقام أو في هذا السياق- لِما قالوه وهو {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أي: بلى عليهم سبيل؛ لأنهم إذا خانوا الأمانة فإن عليهم السبيل، وكل من خان أمانته فعليه السبيل هم أو غيرهم، فتكون (بلى) حرف جيء به لإبطال ما ادَّعوه في قولهم: ليس علينا في الأميين سبيل.
ثم قال: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى} الجملة هذه استئنافية، و {أَوْفَى} بمعنى أتم، فهي فعل ماض، وليست اسم تفضيل من {أَوْفَى} يعني أتم بعهده أي بما عاهد عليه غيره {وَاتَّقَى} الله في هذا الإيفاء، فإن الله يحب المتقين.
والعقد عهد، فإن كلًا من المتعاقدين يُعاهد الآخر على إتمام ما تمَّ العقد عليه، وإن لم يذكرا العهد باللفظ، لكن هذا مقتضى العقد. أني إذا تعاقدت معك أن أفي لك بما تم العقد عليه، فيكون كل عقد عهدًا.
(اتقى) الله بوفائه بالعهد. ومن اتقائه الله أن لا يخون،
والتقوى مأخوذة من الوقاية، وهي اسم جامع لفعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، فإن ذُكرَت مع البر اختصت بالمناهي، واختص البر بالأوامر، كقوله:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] أي: فعل الأوامر واجتناب النواهي، أما إذا ذُكرت التقوى وحدها فهي شاملة لفعل الأوامر واجتناب النواهي، ولفظها يدل على هذا، لأنها مأخوذة من الوقاية، ولا وقاية من عذاب الله إلا بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، هذه هي التقوى، وقال بعض العلماء:(التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله)، فجمع بين العلم والعمل والاحتساب.
أن تعمل بطاعة الله: هذا هو العمل، على نور من الله: وهذا هو العلم، ترجو ثواب الله: وهذا هو الاحتساب.
وأن تترك ما نهى الله عنه على نور من الله، تخشى عقاب الله، أيضًا جمع بين العلم والعمل والاحتساب.
وقال آخرون في تعريف التقوى:
خلِّ الذنوب صغيرها
…
وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماشٍ فوق أر
…
ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرَنَّ صغيرةً
…
إن الجبال من الحصى
وهذا أيضًا لا يُنافي ما سبق، لكن اختلاف في التعبير.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
هنا قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} ولم يقل: (فإن الله يحبه)، ومثل هذا التعبير يُسمى الإظهار في موضع الإضمار. والإظهار في موضع الإضمار له فوائد، منها:
أولًا: تنبيه المخاطب. ووجه ذلك أن الكلام إذا كان على
نسق واحد لم يكن فيه ما يستدعي الانتباه. ولهذا يمشي المخاطب أو المتكلم ولا يوجد في كلامه ما يستدعي الانتباه، فإذا تغير الأسلوب وجاء الاسم مظهرًا بموضع الإضمار فإن الإنسان ينتبه.
ثانيًا: أن في الإظهار في موضع الإضمار التعليل للحكم الذي جاء فيه الإظهار في موضع الإضمار، وذلك أن قوله:(فإن الله يحبه) ليس فيه إظهار العلة، كقوله:{فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} لأنه إذا قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} لتقواهم فأفاد العلة.
ثالثًا: أنها تفيد التعميم أي: كل من يَعُمُّه هذا المظهر، واقرأ قوله تعالى:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]. ولم يقل: (فإن الله عدو له) لأجل أن يشمل كل كافر سواء كان كفره بهذه العداوة، أو بغيرها، فيكون في هذا تعميم الحكم.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
بيان انقسام أهل الكتاب إلى قسمين: أمين وخائن، كما انقسموا إلى قسمين: مؤمن وكافر، فمثلًا عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان من أحبار اليهود فمنَّ الله عليه بالإسلام فأسلم. وكعب بن أشرف من أشراف اليهود ولكنه بقي على كفره فلم يؤمن، فهم كما انقسموا إلى كافر ومؤمن انقسموا أيضًا إلى خائن وأمين، ولقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي
(1)
،
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (2916).
وهذا يدل على أن من اليهود من هو أمين وإلا كيف يرهن الرسول صلى الله عليه وسلم الدرع وهو من آلات الحرب عند هذا الرجل اليهودي؟
2 -
أنه يجب الحذر من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لأنهم ما داموا ينقسمون إلى قسمين، فإننا لا ندري حين نعاملهم من أي القسمين هؤلاء، فيجب علينا الحذر لاسيما إذا تبيَّن لنا أنهم خونة، وأهل غدر، وأنهم لا يسعون لمصالحنا أبدًا كما هو الواقع، فإن الواقع في الوقت الحاضر أن اليهود والنصارى لا يسعون أبدًا لمصالح المسلمين، بل يسعون للإضرار بالمسلمين والإفساد عليهم، حتى إنهم إذا رأوا الدولة متجهة إلى الإسلام من دول المسلمين فإنهم يحاولون إسقاطها، والتضييق عليها من الناحية الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، وهذا شيء يعرفه كل من تدبر وتأمل في الحوادث اليوم. إذن يجب علينا أن نحذر غاية الحذر من اليهود والنصارى، وأن نعلم أن اليهود والنصارى كل واحد منهم وليٌّ للآخر، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]، مهما طال الأمد فهم أولياء ضد عدو مشترك وهم المسلمون.
لكن أعمال الدولة لا ينبغي أن يؤتمنوا فيها، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]، ولهذا لما كتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن عندنا رجلًا نصرانيًا جيدًا في الكتابة والحساب أريد أن أجعله على بيت المال، قال: لا تجعله، كيف تأتمن من خوَّنه الله، فكتب إليه مرة ثانية وقال: يا أمير المؤمنين، إن الرجل جيد،
نحن في حاجة إليه. فردَّ عليه عمر: من عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب السلام عليكم، مات النصراني. والسلام. إذا مات تحييه لأجل أن يكتب لك؟ لا تحييه. قدِّر أنه مات وانتهى. ولهذا ذكر شيخ الإسلام في عدة مواضع من كتبه أنه لا يجوز أن يؤتمن غير المسلمين على أسرار المسلمين، وأن ذلك من الخيانة، وأن ذلك خطر على الدولة الإسلامية، وذكر أشياء عجيبة رحمه الله في خطر هؤلاء على الأمة الإسلامية إذا ولوا أشياء من أسرار الدولة. وهو صادق لا شك في هذا، لا شك أنهم أعداء مهما كان.
3 -
جواز الاقتصار على المثال ليقاس عليه ما يشبهه؛ لأنه قال قنطار ودينار، ولو ائتمنه على سيارة أو لعبة صبي. فكذلك. لكن ذكر الله الدينار والقنطار على سبيل التمثيل.
4 -
إعجاب أهل الكتاب بأنفسهم واحتقارهم لغيرهم؛ لأنهم قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} . وهذا يدل على العُجب بالنفس واحتقار الغير.
5 -
أن أهل الكتاب لا يقتصرون على الظلم والعدوان، ويجعلون ذلك من تلقاء أنفسهم بل ينسبونه إلى شريعة الله. ودليل ذلك قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فهم يقولون على الله الكذب في هذا وفي غيره.
6 -
أن من افترى الكذب على الله فيما يُفتي به أو يحكم به بين الناس ففيه شَبَهٌ باليهود والنصارى. وقد وُجِدَ في هذه الأمة من يفتري الكذب على الله سواء في الحكم بين الناس أو في الفتوى التي ليست بحكم ولكنها إخبار عن الشرع.
7 -
أن من افترى على الله الكذب وهو يعلم، أشد إثمًا وعدوانًا ممن لا يعلم، وإن كان كلٌ منهم على خطأ، لكن ليس المتعمِّد كغير المتعمد. لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من كذب علي متعمِّدًا فليتبوأ مقعده من النار"
(1)
.
8 -
الإشارة إلى أن الجهل المركب أقبح من الجهل البسيط؛ لأن الذي يكذب وهو يعلم أقبح من الذي يكذب ولا يعلم. فالجاهل المركب الذي يتقدم بالشيء وهو يعلم أنه ليس عنده علم، أقبح من الشخص الذي يرى أن هذا هو العلم.
9 -
الثناء على الموفين بالعهد؛ لقوله: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
10 -
أن الوفاء بالعهد من أسباب محبة الله؛ لقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
11 -
أن تقوى الله عمومًا سببٌ لمحبته.
12 -
الرد على الأشاعرة وغيرهم من أهل التعطيل الذين أنكروا محبة الله وقالوا: (إنه لا يجوز أن تثبت أن الله (يُحب) قالوا: إذا أثبتَّ أن الله يحب فقد وصفته بالنقص والعيب؛ لأن هذا من خصائص المحدثات، ولأن المحبة لا تكون إلا بين شيئين متناسبين.
وقالوا: (ليس المراد بإثبات المحبة نفس المحبة، بل المراد بذلك لازِمُها وهو الإثابة، فمعنى (يحب المتقين) يعني يثيب المتقين أما أن يكون يحبهم فكلا.
(1)
رواه البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (110). ورواه مسلم، في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (2).
ولكن نقول: هذا تحريف للكلم عن مواضعه؛ لأن النصوص لا تكاد تحصر في إثبات محبة الله وأنه يُحِب ويُحَب {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] والمحبة غير الثواب، إذا أحب الله العبد أثابه، فالإثابة من لازم المحبة، وقولهم:(إنها لا تكون إلا بين متناسبين) هذا غير صحيح، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أُحُد:"جبل يحبنا ونحبه"
(1)
، ولا مناسبة بين البشر والجبل؟ .
وثبت بالواقع المحسوس أن بعض الحيوان يحب البشر، فالناقة تحب صاحبها، وتأتي إليه من بين الناس، تبرك عنده، ولو جاء أحد غير صاحبها لنفحته برجلها، أو عضته بفمها، لكن صاحبها تحنُّ إليه وتجلس عنده، وإذا سمعت صوته وإن لم تره حنت، وكذلك بقية الحيوانات، شيء مشاهد، وهذه محبة.
الهرة تحب بعض أهل البيت دون بعض، إذا جاء أحد من أهل البيت الذين لا تحبهم هربت، وإذا جاء الذي تحب دنت منه، وجعلت تتمسح به. وهذا الشيء مشاهد، ما الذي جعلها تتمسح بهذا وتهاديه وتجلب ودَّه والثاني تهرب منه وتعاتبه؟ إنها المحبة، فدعواهم بأن المحبة لا تكون إلا بين شيئين متناسبين يكذبها السمع والواقع. السمع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في أُحد "جبل يحبنا ونحبه" والواقع لا يحتاج إلى إقامة بينة؛ لأن كل واحد يعرفه.
(1)
رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب خرص الثمر، رقم (1482). ورواه مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1365).
13 -
ينبغي مراقبة الخائن والقيام عليه. فإذا أعطيت مالك من ليس بأمين فإنه ليس من الحزم ولا من العزم أن تدعه، بل احترز منه، وإذا كان هذا في الائتمان على الأموال، فالائتمان على الأعراض من باب أولى. ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول على النساء فقال:"إياكم والدخول على النساء"، قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ قال:"الحمو الموت"
(1)
.
فكل شيء تخشى منه تضييع الأمانة فاحرص على أن تكون مراقبًا له وقائمًا عليه، ولهذا قال:{إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} .
14 -
أن هؤلاء الخونة من اليهود عندهم ما يُلَبِّسون به باطلهم في قولهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} .
15 -
أن اليهود وغيرهم سواء في أن كل من اعتدى على أحد فعليه السبيل، ولهذا قال الله عز وجل:{وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} ، وهو يدل على أن الأميين وغيرهم سواء في تحريم الاعتداء عليهم.
16 -
أن هؤلاء اليهود عليهم السبيل في الأميين سواء اعتدوا على دمائهم أو أموالهم أو أعراضهم؛ لقوله تعالى: {بَلَى} أي عليهم السبيل في الأميين كما أن عليهم سبيلًا فيما لو اعتدى بعضهم على بعض.
17 -
الحث على تقوى الله؛ لأن كل إنسان يحب أن يحبه الله؛ فإذا أردت ذلك فما عليك إلا أن تقوم بتقوى الله؛ لأن
(1)
رواه البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، رقم (5232). ورواه مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، رقم (2172).
محبة الله متعلقة بالعامل، ومتعلقة بالعمل، ومتعلقة بالزمن، ومتعلقة بالمكان.
فهي متعلقة بالعامل كما في هذه الآية: {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} ، وكما في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]. وكما في قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
ومتعلقة بالعمل: "أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها"
(1)
.
ومتعلقة بالزمن: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر"
(2)
، وقد يقال: إن هذا متعلق بالعمل لا بالزمن.
ومتعلقة بالمكان كمحبة الله لمكة كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيها: "إنك لأحبُّ البقاع إلى الله"
(3)
. فمحبة الله إذن متعلقة بالعامل والعمل والزمان والمكان.
(1)
رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، رقم (527). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، رقم (85).
(2)
رواه الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في العمل في أيام العشر، رقم (757). ورواه أحمد في مسنده، رقم (5423).
(3)
رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب في فضل مكة بلفظ:"وأحب أرض الله إلى الله"، رقم (3925). ورواه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب فضل مكة، رقم (3108). ورواه أحمد، رقم (18240).
• قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].
هذه الآية لها صلة بما قبلها، وهي أن هذا العمل من جنس العمل السابق {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 16]، فهذه الآية فيها أيضًا نوع من أكل أموال الناس بالباطل.
قوله: {يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} يقال: {يَشْتَرُونَ} ويقال: (يشرون).
البائع مُعطي، والمشتري آخذ. الشاهد لهذا من القرآن قوله تعالى:{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74]. يعني يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة.
وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]، أي يبيع نفسه، وأما الاشتراء الذي بمعنى الأخذ ففي مثل هذه الآية:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} ، يعني يأخذون ثمنًا قليلًا بعهد الله، فينكثون عهد الله من بعد ميثاقه، ويحلفون على الكذب بالأيمان من أجل الدنيا.
وقوله: {بِعَهْدِ اللَّهِ} يحتمل أن يكون المراد بما عاهدوا الله عليه، ويحتمل أن يكون المراد بما عاهدوا الخلق عليه، فأما على الأول أي بما عاهدوا الله عليه، فهو ظاهر من الآية؛ لأن الله أضاف العهد إليه، ومثاله: أن يكتم العالم علمه من أجل عرَض من الدنيا، فإن الله عهد إلى العلماء أن يُبيِّنوا العلم
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
فإن قال قائلٌ: كيف أخذ الله العهد على العلماء ونحن لم نعلم أن أحدًا من العلماء أجرى صفقة عهدٍ مع الله؟ .
فالجواب: لمّا أعطى الله العلماء العلم كان إعطاؤهم إياه عهدًا بأن يقوموا بنشره وإعلانه بين الخلق، فإذا لم يقوموا بذلك فإنهم لم يَفُوا بعهد الله.
القول الثاني: يشترون بعهد الله أي بعهدهم مع الناس، وأضافَهُ الله لنفسه {بِعَهْدِ اللَّهِ} لأنه أمر بالوفاء به، قال الله تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، فسمَّى الله معاهدة المؤمنين لغيرهم، سمَّاها عهدًا له {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} مع أنهم ما عاهدوا الله وإنما عاهدوا الخلق، لكنه أضافه إلى نفسه لأنه أمر بالوفاء به، فصحَّ أن يُقال أوفوا بعهد الله.
فقوله: {بِعَهْدِ اللَّهِ} يشمل المعنيين جميعًا؛ أي بما عاهدوا الله عليه أو بما عاهدوا الخلق عليه، فعلى الوجه الأول المعنى ظاهر وواضح ليس فيه إشكال. وعلى الوجه الثاني فيه شيء من الإشكال حيث سمَّى عهد المخلوقين عهدًا لله. ولكن الجواب عنه أن يقال: أضافه الله لنفسه لأنه أمر بوفائه.
وقوله: {وَأَيْمَانِهِمْ} يعني ويشترون أيضًا بأيمانهم ثمنًا قليلًا، والأيمان جمع يمين، وهي الحلفُ بالله عز وجل، فيشترون باليمين ثمنًا قليلًا مثل أن يحلف على جَحْد حقٍّ واجبٍ عليه، أو
يحلف على دعوي حقٍّ له وهو كاذب، وهذه هي اليمين الغموس التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم:"من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان"
(1)
. والعياذ بالله.
وقوله: "هو فيها فاجر" يعني كاذب، فهذا اشترى باليمين ثمنًا قليلًا.
مثال: اليمين في دعوى ما ليس له: أن يدّعي على شخص أن في ذمته له مائة ريال، فيقول الشخص: ليس في ذمتي شيء، فيقول القاضي للمدَّعي: هل لك بينِّة؟ فيقول المدعي: لا، فيقول القاضي للمنكِر: احلف. فيقول: لا أحلف. حلِّفه هو، وإذا حلف هو سأُعطيه. فيحلف المُدَّعي بأن في ذمة فلان له مائة ريال وهو يكذب.
فهذا اشترى باليمين ثمنًا قليلًا.
ومثال الحلف على إنكار ما يجب عليه، مثل أن يدعي على شخص بأن في ذمته له مائة درهم فينكر المُدَّعى عليه وهو يعلم أن في ذمته مائة درهم لفلان، ويحلف على أنه ليس في ذمته له شيء. فهذا حلف، على إنكار ما يجب عليه. فالقاضي في مثل هذه الحال يُبرئ المُدَّعى عليه وُيخلي سبيله؛ لأنه حلف، فكلا الرجلين اشترى بيمينه ثمنًا قليلًا.
قال تعالى: {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} .
(1)
رواه البخاري، كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، رقم (2417). ورواه مسلم، كتاب الأيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، رقم (138).
{أُولَئِكَ} المشار إليهم الذين اشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا.
وقوله: {لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} أي: لا نصيب لهم في الآخرة كما قال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200]، أي من نصيب، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ} [البقرة: 201 - 202]. قال: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ} في مقابل قوله: {لَا خَلَاقَ} فدلَّ ذلك على أن الخلاق هو النصيب.
{فِي الْآخِرَةِ} أي: في الدار الآخرة وذلك يوم القيامة، وسُمِّي يوم القيامة دارًا آخرة؛ لأنه آخر مراحل البشر بل الخلق، فالإنسان له مراحل في هذه الدنيا: في بطن الأم، وفي الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة.
أربعة دور. وفي الدار الأولى له حالان: حال حياة، وحال موت، فهو قبل أن تُنفخ فيه الروح ميت، وبعد أن تنفخ فيه الروح حي، وآخِرُ مرحلة هي الآخرة، إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولهذا قال:{لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} وفي الدنيا يمكن أن يكون لهم خلاق، أي نصيب من هذا الثمن القليل الذي اشتروه، أرأيت لو حلف على دعوى مليون ريال لجاءه مليون ريال - هذا نصيب في الدنيا، لكنه والله بئس النصيب. كل الدنيا ليست بشيء.
لو ساوت الدنيا جناح بعوضةٍ
…
لم يسق منها الرب ذا الكفرانِ
لكنها والله أحقر عنده
…
من ذا الجناح القاصر الطيرانِ
{وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} :
أولئك أيضًا لا يكلِّمهم الله تكليم رضا، ولكنه قد يكلمهم تكليم إهانة. فإن الله سبحانه وتعالى يقول لأهل النار:{قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] وهذا كلام من الله، ولكنه كلام تقريع وتوبيخ وإهانة، والمنفي هو تكليم الرضا.
يعني ولا ينظر إليهم نظر رحمة وعطف ورأفة: وذلك لأنهم ليسوا أهلًا للرحمة. قال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، وأما غيرهم فليس لهم من رحمة الله نصيب في الآخرة.
وقوله: {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} فيها قراءة "إليهُم" ولا ينظر إليهُم، وعندي قاعدة في هذا مكتوبة عندي في المصحف، تقول: هذه ضوابط فى في القراءات عامة في جميع القرآن: ضمير "هو وهي" الأولى بضم الهاء "هُو" والثانية بكسرها "هِي" عند جمهور القراء مطلقًا، وسكَّن الهاء فيهما الكسائي وقالون وأبو عمرو بعد الواو والفاء واللام .. مثل: فَهْو، فَهْي، وَهْو، لَهْي "لهو الغني" "لهى الحيوان" {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64]، يجوز القراءة السبعية ونقول على رأي الجمهور (لهي) بكسر الهاء وسكنها الكسائي وقالون أيضًا في قوله:{ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص: 61].
وضمير (عليهِم)(لديهِم)(إليهِم) مكسور الهاء. وقرأه حمزة بضم الهاء (عليهُم)(إليهُم)(لديهُم)، مكسور الهاء {غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} [آل عمران: 44]، {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} يقول: وقرأه حمزة بضم الهاء ومنه قوله هنا: {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} ، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102].
{يَوْمِ الْقِيَامَةِ} :
يوم القيامة هو يوم البعث، وسُمِّي يوم القيامة لأمور ثلاثة:
الأول: قيام الناس من قبورهم .. والثاني: يوم يقوم الأشهاد، والثالث: يقام فيه العدل. {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
{وَلَا يُزَكِّيهِمْ} :
يعني: ولا يطهرهم من آثار رجسهم التي تلوثوا بها في الدنيا. فآثامهم باقية لا تغفر -والعياذ بالله- فلا زكاء لهم عند الله لأنهم ليسوا أهلًا للتزكية.
ولهذا ينادى يوم القيامة على الظالمين {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] يعني طردهم وإبعادهم عن رحمته.
(العذاب) معناه النكال والعقوبة و (أليم) بمعنى مؤلم، لأن فعيلًا في اللغة العربية تأتي على عدة أوجه: تأتي بمعنى فاعل، وتأتي بمعنى مفعول، وتأتي بمعنى مفعل. مثالها بمعنى فاعل
سميعٌ بصيرٌ رحيمٌ، كلها بمعنى فاعل. ومثالها بمعنى مفعول: قتيلٌ جريحٌ ذبيحٌ وما أشبهها. ومثالها بمعنى مفعِل: هنا في هذه الآية أليم بمعنى مؤلم.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
تهديد هؤلاء الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا، وينصبُّ هذا على العلماء الذين يكتمون ما أنزل الله مداهنة أو مراعاة أو من أجل مال، فإنهم اشتروا بعهد الله ثمنًا قليلًا؛ لأن الله عهد إلى العلماء أن يبيِّنوا العلم. وقد مرَّ بنا أن العلماء ثلاثة أقسام:
عالم أمة، وعالم دولة، وعالم ملة، فعالم الملة لا يشتري بعهد الله ثمنًا قليلًا، بل يبين الملة ولا يبالي. وعالم الدولة يشتري بآيات الله ثمنًا قليلًا ليكون له جاه عند الدولة، وربما ليعطى مالًا، وعالم الأمة هو الذي يراعي الأمة، ينظر ماذا تشتهي الأمة "أي عامة الناس" فيُفتي به أو يقول به، وما لا تشتهيه الأمة يسكت عنه، فإذا رأى الأمة على شيء غير سائغ في الشرع سكت عنه، وإذا طلبوا منه شيئًا غير سائغ في الشرع ولكنه يرى أنه يرضيهم وافقهم عليه.
2 -
تحريم اليمين الغموس؛ لقوله: {وَأَيْمَانِهِمْ} .
3 -
أن اليمين الغموس، وعدم القيام بعهد الله، من كبائر الذنوب. وكون ذلك من كبائر الذنوب أمر زائد على كونه محرمًا؛ لأن الكبيرة أعظم من مطلق التحريم، ووجه كونها كبيرة لأن فيها وعيدًا، وكل ذنب رتِّب عليه وعيد فهو من كبائر الذنوب.
4 -
أن مَنْ وفى بعهد الله، وحلف على صدق، فإنه لا يحرم النصيب في الآخرة. ووجهه أنه إذا كان من اشترى بعهد الله ثمنًا قليلًا أو بيمينه لا خلاق له في الآخرة، فإن ضده له خلاق. وهذا الطريق من الاستدلال أخذناه من قول الشافعي رحمه الله على قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] قال: في هذه الآية دليل على رؤية المؤمنين لله؛ لأنه لما حجب هؤلاء في الغضب كان دليلًا على رؤية الآخرين في حال الرضا.
5 -
إثبات الآخرة؛ لقوله: {لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} .
6 -
أنه ينبغي للإنسان أن تكون الآخرة هي هدفه، ومغزاه، ومراده. ولهذا قال:{لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} ولم يقل في الدنيا؛ لأنه قد يكون لهم نصيب في الدنيا ولكن لا خير فيه.
7 -
إثبات الكلام لله، لقوله:{وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} ووجه ذلك أنه لو كان الله لا يتكلم لم يكن لنفي الكلام مع هؤلاء فائدة. فلولا أنه يكلم ما صار عدم تكليمه لهؤلاء عقوبة.
8 -
أنَّ كلام الله من أفعاله الاختيارية التي يفعلها متى شاء؛ لأن هذا الكلام الذي نفى الله عنهم نفاه في وقت معين، وهو يوم القيامة، فدلَّ ذلك على أن الكلام من أفعال الله الاختيارية التي تكون بمشيئته سبحانه وتعالى.
9 -
أن من عقوبة هؤلاء مع حرمانهم من النصيب في الآخرة أن الله لا يكلمهم. وهذا من أعظم العقوبات -والعياذ بالله- ولهذا كان النظر إلى وجه الله من أفضل
الثواب، وأعظمه، وأعلاه، بل هو غاية الثواب والفضل.
10 -
إثبات نظر الله؛ لقوله: {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} وهل فيه دليل على إثبات العين لله؟ لا لأنه لا يلزم من النظر العين كما قلنا، إننا نثبت سمع الله ولا يلزم أن نثبت الأذن. وهذه مسألة يجب أن نتفطن لها؛ لأنه لا يلزم من الكلام وجود اللسان والشفتين، ولا يلزم من السمع وجود الأذنين، ولا يلزم من النظر وجود العينين.
وهنا مسألة: يوم القيامة تحدث الأرض أخبارها فهل لها لسان وشفتان؟
الجواب: لا. وكان الحصى يسبح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل له لسان وشفتان؟ لا.
وهنا مسألة أخرى: هل تسمع الأرض أو لا تسمع؟
الجواب: تسمع؛ لأنها تحدث أخبارها. فلولا أنها تسمع ما حدثت، ولما قال الله تعالى للسموات والأرض:{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11] خاطبهما فسمعتا أولًا؟ فقالتا: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
فقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]، أي ما عُمل عليها كما قال السلف، ما عُمل عليها من خير وشر. والذي يُعمل على الأرض إما قول يسمع وإما فعل ينظر، إذن فهي ترى ومع ذلك لا نقول لها عينان. فإذن لا يلزم من ثبوت نظر الله ثبوت العين. ولكن العين ثابتة بنصوص أخرى. فإن لله تعالى عينين اثنتين لا تماثلان أعين الخلق؛ ودليل ذلك قوله تعالى:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، وقوله:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، إلا أن إثبات العينين ليس من هذه الآيات ولكن من أدلة أخرى كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن ربكم ليس بأعور"
(1)
.
الجمع في الآيات من أجل التعظيم كقوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71]، مع أن الله ليس له إلا يدان اثنتان.
11 -
أن هؤلاء الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، والمراد به النظر الخاص، أما النظر العام فإن الله تعالى لا يحجب عن بصره شيء.
12 -
إثبات يوم القيامة وأنه حق؛ لقوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
13 -
إثبات ما تضمنه هذا الوصف، وهو أنه يقام فيه العدل، ويقوم فيه الناس من قبورهم لرب العالمين، ويقام فيه الأشهاد.
14 -
أن هؤلاء المشترين بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا لا يزكيهم الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا جاءت الكلمة {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} بعد قوله:{يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فهؤلاء لا يزكيهم الله في الدنيا بل يظهر عُوارهم ويفضحهم في الدنيا حتى يعرفهم العباد ويعرفوا سقوط عدالتهم وزوال زكائهمٍ، كذلك لا يزكيهم الله يوم القيامة، فلا يقبل منهم صرفًا ولا عدلًا.
(1)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، رقم (4403). ورواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، رقم (2933).
15 -
إثبات العذاب؛ لقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والعذاب قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة، والكائن في الدنيا قد يكون بفعل الله، وقد يكون بفعل عباد الله الذين هم حزبه، فمن أمثلة ما يكون على يد عباد الله قوله تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] وما حصل على الكفار في غزوة بدر وغيرها. ومما يكون من فعل الله ما حصل يوم الأحزاب، فإن الأحزاب تفرقوا عن المدينة لا بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولكن بما أرسل الله عليهم من الريح والجنود.
* * *
• ثم قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78].
{وَإِنَّ مِنْهُمْ} الضمير يعود على أهل الكتاب؛ لأن الآيات سياقها واحد، وفي أول الآيات قال:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ} [آل عمران: 75]، وهنا قال:{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} ، اللّي معناه: العطف، ومنه ليّ الحبل. فمعنى يلوون ألسنتهم: أي يعطفونها. و"اللي" هنا يشمل "اللي" اللفظي و"اللي" المعنوي. واللي اللفظي تارة يأتون بكلام من عندهم ويقرأونه قراءة الكتاب المنزل فيتوهم مَن يسمعه من الناس أنه من الكتاب المنزل، يعني يلحن الكلام كما يلحن القرآن، فيظنه السامع أنه من عند الله، هذا نوع. والنوع الثاني من اللي اللفظي التحريف، تحريف الكلم بلفظه كما حرف بعض المبتدعة قول الله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] إلى قوله: "وكلَّم اللهَ موسى تكليمًا" يريد بذلك أن يكون التكليم من موسى إلى الله.
أما التحريف المعنوي فهو تفسير الكلام بغير ما أراد الله، فيقول: معنى الآية كذا وكذا على خلاف ما أرادها الله به، فصار اللي ثلاث أقسام:
الأول: لي باللفظ، لكنه لا يتعلق بنفس الكتاب المنزل، إنما يأتي بكلام من عنده فيأتي به يتغنى به كما يتغنى بالكتاب المنزل، فيظن السامع أنه من عند الله.
والثاني من اللي: ليٌّ لفظي يتعلق بتغيير هيئة الكتاب المنزل وذلك ما يسمى بالتحريف اللفظي.
والثالث: اللي المعنوي، فيقول: معنى الآية كذا وكذا، وهذا لا شك أنه لي باللسان يلوون ألسنتهم بالكتاب؛ لأن الكتاب يريد كذا وهم يقولون المراد كذا.
هؤلاء المحرِّفة الذين يحرِّفون الكلم عن مواضعه.
{لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ} :
اللام هذه يحتمل أن تكون للتعليل، ويحتمل أن تكون للعاقبة. والفرق بينهما أن لام التعليل تحمل على الشيء، ولام العاقبة تكون غاية للشيء. فمثلًا إذا قلت: حضرت لأقرأ، اللام للتعليل، يعني أن الذي حملني على الحضور هو القراءة. وإذا قلت: اصطدت هذا الصيد ليكون غداءً لي، هذه للعاقبة، ومنه قوله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، فإن آل فرعون لم يلتقطوه لهذا السبب أبدًا، ولو علموا أنه يكون عدوًا وحزنًا لهم ما التقطوه. هنا {لِتَحْسَبُوهُ} هل المعنى أنهم يلوون ألسنتهم بالكتاب من أجل أن يضلوكم فتظنوا أنه من عند الله، أو أنهم يلوون ألسنتهم بالكتاب من غير قصد فتظنونه من عند الله؟
الظاهر الأول. أنهم يفعلون هذا ليوهموا الناس أنه من عند الله. {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ} أي لتظنوه من الكتاب المنزل، وهو من الكتاب الملوي الذي حصل به اللي والتبديل.
قال الله تعالى: {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} :
هذا إبطال له لما أرادوه من ليِّهم ألسنتهم بالكتاب فيظن الظان أنه من الكتاب فقال الله: {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} والكتاب الذي أشير إليه هنا التوراة إذا كان هذا اللي واقعًا من اليهود، والإنجيل إذا كان هذا اللي واقعًا من النصارى، و"الكتاب" اسم جنس صالح لهذا وهذا.
{وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} :
الضمير يعود على مَنْ لووا ألسنتهم بالكتاب يقولون: هو من عند الله. فأبطل الله هذه الدعوى بقوله: {وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ولهذا يحسن بالقارئ أن يقف فيقول مثلًا: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ} ثم يقول: {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} .
{وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ويقف، ثم يقول:{وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} :
أيضًا هم يقولون على الله الكذب سواء بالتحريف اللفظي أو بالتحريف المعنوي.
وقوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} يقولون هنا مضمنة معنى يفترون، ولهذا تعدت بعلى "يقولون على الله الكذب" في أحكامه وفي أفعاله وفي أسمائه وفي صفاته، وفي كل ما يتعلق به سبحانه وتعالى، فهم مثلًا قالوا:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وكذبوا، وقالوا:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181]، وكذبوا،
وقالوا: إن الله تعب واستراح، وكذبوا. وكل ما وصفوا الله به مما لا يليق به فهم كاذبون فيه.
وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} :
الجملة حالية حال من الواو في يقولون، يعني يقولون الكذب وهم عالمون بأنه كذب. فيكون هذا أشد إثمًا ممن قال الكذب وهو لا يعلم أنه كذب.
* * *
• ثم قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79].
قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} كلمة "ما كان" تستعمل في الشيء الممتنع شرعًا أو قدرًا.
فقوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ} . هذا ممتنع شرعًا وقدرًا. وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] ممتنع قدرًا، بل ممتنع وصفًا؛ لأنه لا يتصور أن يأتي به القدر، مستحيل أن يكون الله تعالى ناسيًا أو منسيًا. وقوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ممتنع شرعًا، ولو شاء أن يعذبهم وهو فيهم لعذبهم، ولكنه ممتنع شرعًا.
{لِبَشَرٍ} البشر هو الإنسان من بني آدم، وسمي بشرًا لظهور بشرته. فإن بشرة الإنسان ظاهرة بارزة ليمس عليها شعر ولا صوف ولا وبر ولا ريش ولا زعانف بادية. وقيل: سمي بشرًا لظهور أثر البشارة عليه فيما إذا أخبر بما يسره، ولا مانع من أن يكون سمي بشرًا لهذا ولهذا، والحكمة من أن الله تعالى جعل الآدمي بارز
البشرة ليعلم الآدمي أنه مفتقر إلى اللباس الحسي، فينتقل من ذلك إلى العلم بأنه مفتقر إلى اللباس المعنوي وهو التقوى. وأنه بحاجة إلى أن يعمل الأسباب التي تستره معنى كما هو يعمل الأسباب التي تستره حسًّا، وهذا من حكمة الله عز وجل. يقول:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ} أي واحد من البشر، أي إنسان، أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} أي يعطيه إياه إيتاءً شرعيًا، وكذلك إيتاءً قدريًا.
{وَالْحُكْمَ} الحكم أي بما أوحي من الكتاب، كما قال الله تعالى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49].
{وَالنُّبُوَّةَ} يعني الإخبار بالوحي، وإنما قال:"والنبوة" مع قوله: {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} ، قال ذلك لأنه قد يطلق إيتاء الكتاب على من أرسل إليهم به، لا من أرسل به، كما في قوله تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، وقوله:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]، فالذين أوتوا الكتاب هنا ليسوا أنبياء. إذن لا يلزم ممن أوتي الكتاب أن يكون نبيًّا، ولهذا قال:{وَالنُّبُوَّةَ} لئلا يتوهم واهم أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين أرسل إليهم بالكتاب، والمراد بالذين أوتوا الكتاب هنا الذي أرسل بالكتاب لا الذي أرسل إليهم به، بل الذي أرسل بالكتاب إلى غيره.
وقوله: {وَالنُّبُوَّةَ} النبوة بتشديد الواو: إما أنها من النَّبْوَة وهي الارتفاع، وعلى هذا فتكون الواو أصلية؛ لأن رتبة النبي أعلى طبقات الخلق، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] وإما أن تكون الواو مسهلة وأصلها النبوءة فتكون مأخوذة من النبأ، وهو الخبر، وذلك لأن الرسول مُنَبأ ومنبِئ، منبأ من قبل الله عز وجل، ومنبئ لمن أرسل إليهم يخبرهم ويبشرهم وينذرهم.
وقوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، هذا هو الممتنع، وهو الذي انصب عليه النفي، أي ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب بالرسالة والحكم بين الناس بهذا الكتاب والنبوة أي الرفعة ثم بعد ذلك يقول للناس: كونوا عبادًا لي من دون الله. أي: كونوا متعبدين لي، اعبدوني من دون الله، اعبدوني بالطاعة، اسجدوا لي، اركعوا لي، انذروا لي، وما أشبه ذلك، هذا لا يمكن؛ لأن من آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة إنما جاء لضد هذه الأشياء، ليمحق هذا الشيء، لا ليدعو الناس إليه.
وقوله: {كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، إذا قال قائل: هل المراد اعبدوني ولا تعبدوا الله؟ أو المراد اعبدوني وإن عبدتم الله؟ المسألة إما أن يكون الإنسان عابدًا لله وحده أو عابدًا لغيره، أو عابدًا معه غيره .. أما العابد لله وحده، فهذا مخلص، والعابد لغير الله دون الله هذا مشرك، أو نقول: مستكبر عن عبادة الله ومتعبد لغيره .. والعابد لله ولغيره هذا مشرك، فتقول: من دعا الناس إلى عبادته وحده دون الله فهذا قد دعاهم إلى عبادته دون الله، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه ولم ينههم عن عبادة الله فإن حقيقة دعوته أنه دعا الناس ليعبدوه دون الله؛ لأن الله غني عن عبادة هؤلاء. فإذا أشركوا بالله غيره تمحضت العبادة لغير الله؛ لقول الله تعالى في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن
الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"
(1)
، وبهذا يزول الإشكال في قوله:{كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} فنقول: هل أحد قال للناس: اعبدوني ولا تعبدوا الله، أو هل أن المراد بالآية هذه هذا المعنى؟ فنقول: لا، لا يتعين، فالآية تشمل الوجهين جميعًا، تشمل من دعا إلى عبادة نفسه وأن لا يعبد الله، ومن دعا إلى عبادة نفسه وإن عبد معه الله؛ لأن الأول واضح أن يقول: اعبدوني ولا تعبدوا الله .. والثاني من لازم الإشراك أن لا تكون العبادة لله؛ لأن الإنسان إذا أشرك مع الله أحدًا فإن عبادته لله باطلة، يعني سواء وجدت أم لم توجد. ويحتمل أن يكون المراد بالدون هنا معنى سوى، [من دون الله] أي من سواه. وليس المراد منع الجمع بل من سواه أي معه، فإن صحَّ هذا التفسير فلا إشكال، وإن لم يصح فقد تقدم الإشكال وجوابه.
{وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} هذا الاستدراك استدراك واقع في مقابلة النفي الذي صدرت به الآية: "ما كان لبشر أن يؤتيه الله ثم يقول .. ولكن". إذن لابد أن يكون هناك حذف وتقديره: ولكن (يقول) كونوا ربانيين، أي (يقول للناس) كونوا ربانيين، كونًا شرعيًا، لا يملك أن يقول لهم كونوا كونًا قدريًا. لكن يملك أن يأمرهم شرعًا بأن يكونوا ربانيين، {رَبَّانِيِّينَ} نسبة إلى الربِّ، ونسبة إلى التربية، فالرباني هو من كان عبدًا للرب عز وجل، الرباني هو الذي يربي الناس على شريعة الله بالعلم والدعوة والعبادة والمعاملة، فالرباني منسوب إلى التربية وإلى الربوبية، فباعتباره
(1)
رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، رقم (2985).
مضافًا إلى الله ربوبية، وباعتباره مضافًا إلى الإصلاح تربية.
{وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} أي مخلصين للرب متعبدين له.
{كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} أي مربين للخلق على ما تقتضيه الشريعة.
{بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} :
الباء هنا للسببية، أي بسبب تعليمكم الكتاب {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} لأن الذي يعلم الكتاب مربٍّ. ولهذا كلما كثر الطلبة عند شخص كثرت تربيته للناس؛ لأن المفروض في المعلم أن لا يكون معلمًا للناس تعليمًا نظريًا جدليًا؛ لأن هذا يمكن أن يدركوه بالكتب، لكنه ينبغي أن يعلمهم تعليمًا نظريًا وتعليمًا تربويًا. وهذا هو هدي النبي عليه أفضل الصلاة والسلام وأصحابه، إذا نظرنا إلى السيرة النبوية وجدنا كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الناس تعليمًا مقرونًا بالتربية مصحوبًا بها، وإذا تأملنا سيرة الخلفاء الراشدين وجدناها كذلك، فلننظر مثلًا إلى سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد رفع عقوبة الخمر إلى ثمانين ليردع الناس، ومنع المطلق ثلاثًا من الرجوع إلى زوجته من أجل أن يردع الناس. فالحقيقة أن المعلم ليس هو الذي يملأ أذهان الناس علمًا فحسب، ولكن الذي يملأ أفكارهم أو أذهانهم علمًا وأخلاقهم تربية.
قال: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ} الباء هذه للسببية و"ما" مصدرية أي بكونكم، وعلامة (ما) المصدرية أن يحول ما بعدها إلى مصدر، فقوله: بما كنتم أي بكونكم تعلمون. وقوله: {تُعَلِّمُونَ} فيها قراءتان: إحداهما (تعلِّمون) أي تعلمون غيركم، من التعليم، وقراءة أخرى بما كنتم (تعلَمون) أي تعلمون أنتم بأنفسكم.
وقوله: {تُعَلِّمُونَ} أعم، لأنه لن يعلِّم إلا من عَلِم. ولكن مع ذلك نقول: إن القراءتين كل واحدة منهما تدل على معنى لازم للآخر، فيكون المعنى بما كنتم تعلِّمون وتعلَمون.
وقوله: {الْكِتَابَ} هذا مفعول أول على التشديد، أي: تعلِّمون، لكنه مفعول واحد وحذف المفعول الثاني أي بما كنتم تعلمون الناسَ الكتابَ. وأما على قراءة (تعلمون) فالكتاب مفعول واحد فقط ولا تتعدى إلى مفعولين.
وقوله: {الْكِتَابَ} المراد بالكتاب الجنس، يشمل التوراة والإنجيل والبعض منها والكل.
{وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} :
أي: بما كنتم تقرأون أنتم، بما كنتم تعلمون وتدرسون تقرأونه، فيكون عندكم للكتاب علم لفظي وعلم معنوي. فالعلم اللفظي يكون بالدراسة، والمعنوي يكون بالعلم والتعليم، وقوله:{وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} ، نقول فيها ما قلنا فيما سبقها بأن الباء للسببية و"ما" مصدرية.
* * *
• ثم قال الله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80].
قوله: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ} :
فيها قراءتان: قراءة (ولا يأمرْكم) وقراة ولا (يأمرَكم)، أما عن قراءة النصب (ولا يأمرَكم) فهي معطوفة قوله:(ثم يقولَ للناس) يعني وما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يأمركم أن تتخذوا الملائكة .. فتكون معطوفة على قوله: (ثم
يقول للناس). وأما على قراءة التسكين فإن الفتحة تقدر عليها؛ لأن التسكين هنا ليس تسكين إعراب ولكنه تسكين تخفيف، تخفيف اللفظ؛ لأن قول القائل:(ولا يأمرْكم) أخف من قوله: (ولا يأمرَكم) ولهذا نقول هو منصوب على القراءتين لكنه منصوب على قراءة الفتح بالفتحة على الأصل، ومنصوب على قراءة التسكين بفتحة مقدرة على آخره، وسكن للتخفيف.
{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} :
يعني وما كان له أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا، كما أنه لا يقول لكم: كونوا عبادًا لي، فإن هذا مستحيل غاية الاستحالة أن يمنَّ الله على شخص بالكتاب والحكمة، ثم يأمر الناس بعبادته أو يقول: اعبدوا الملائكة والنبيين واتخذوهم أربابًا. هذا شيء مستحيل.
وقوله: {الْمَلَائِكَةَ} الملائكة جمع ملك، وأصله: مألك من الألوكة، وهي الرسالة، فصار قلب على وجه الإعلال الصرفي إلى ملأك، فزحزحت الهمزة إلى مكان اللام، وقدمت اللام إلى مكان الهمزة. وأصل الألوكة الرسالة؛ ولهذا قال الله تعالى:{جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1].
والملائكة هم عالم غيبي خلقهم الله عز وجل من نور، لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتناسلون، وإنما هم عباد لله مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، ولهم أعمال وأوصاف.
ثم قال: {وَالنَّبِيِّينَ} فيها قراءة (والنبيئين) على تحقيق الهمزة.
{أَرْبَابًا} جمع ربٍّ يعني أربابًا تعبد من دون الله، وتقصد
من دون الله. فإن هذا مستحيل أن يقع ممن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة.
قال الله تعالى: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} :
الاستفهام هنا للنفي، يعني لا يمكن أن يأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون، وفي قوله:(يَأمُرُكُم) قراءتان (يأمرْكم) تخفيفًا (ويأمرُكم) على الأصل.
وقوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} يعني بعد أن تقرر إسلامكم وثبت، فإنه لا يمكن أن يأمركم بالكفر.
من فوائد الآيات الكريمة:
1 -
أن فريقًا من أهل الكتاب يحرِّفون الكلم، إما لفظًا، وإما معنى.
2 -
سوء مقصد هؤلاء الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب، وهو إضلال الناس ليحسبوه من الكتاب.
3 -
أن الله عز وجل يحب لعباده الهدى، وأن يهتدوا، ولهذا قال:{وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} حتى لا يغتر الناس بهذا الذي حصل من هؤلاء.
4 -
الحذر من الكفار ومن زخارف القول التي تصدر منهم؛ لأنهم يلبسون الحق بالباطل، ويريدون أن يضلوا الناس.
5 -
الحذر ممن اتصف بصفاتهم من هذه الأمة فصاروا يلوون ألسنتهم بالكتاب. وإنما قلنا ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
"لتركبن سنن من كان قبلكم"
(1)
، فإذا كان في أهل الكتاب من يلوون ألسنتهم بالكتاب فسيوجد في هذه الأمة أيضًا من يلوي لسانه بالكتاب.
6 -
أن أهل الكتاب منهم من يفتري الكذب على الله، ومن ذلك كذبهم في عقوبة الزاني المحصن. فإن عقوبة الزاني المحصن عندهم الرجم، أن يرجم حتى يموت، ولكن لما كثر الزنا في أشرافهم عدلوا عن هذا، وقالوا: نسوِّد وجهه، ونطوف به هو والمرأة التي زنى بها على حمار، يكون دبر أحدهما إلى دبر الآخر. وهما راكبان على الحمار، ونطوف بهم في العشائر بين الناس. فحرَّفوا وكتموا، حرَّفوا حيث ادعوا أن هذا هو حد الزنى للمحصن، وكتموا حيث قالوا: ليس في التوراة الرجم. ولهذا لما أنكروا أن يكون في التوراة الرجم طلب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أن يأتوا بالتوراة فأتوا بها، فجعل القارئ يقرأ، ووضع يده على آية الرجم لأجل أن يخفيها. ولكن أُمِر أن يرفع يده، فلما رفع يده وإذا بآية الرجم تلوح بيّنة واضحة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما
(2)
، أي رجم الزاني والزانية. فالحاصل أنه من طريق أهل الكتاب أنهم يقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
7 -
الرد على النصارى الذين زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسلام له الحق في أن يعبد من دون الله، ولهذا يقول الله له
(1)
رواه أحمد في مسنده، رقم (21390، 22371).
(2)
رواه البخاري، كتاب الحدود، باب الرجم في البلاط، رقم (6819). ورواه مسلم، كتاب الحدود، باب رجم اليهود وأهل الذمة في الزنا، رقم (1699).
يوم القيامة: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] فيقول: {سُبْحَانَكَ} يعني لا يمكن أن أقول هذا، والنصارى يدعون أنَّ من دينهم التثليث، أي أن الله ثالث ثلاثة.
1 -
أن مَن مَنَّ الله عليه بالعلم النافع فإنه لا يمكن أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
2 -
أن من ألزم الناس أو أراد منهم أن يتبعوا قوله مهما كان فإنه قد جعلهم عبادًا له؛ لأن طاعة الشخص من العبادة، كما قال الله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، فقال له عدي بن حاتم: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم، قال:"أليس يحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه، ويحرِّمون ما أحل الله فتحرِّمونه؟ قال: نعم، قال: فتلك عبادتهم"
(1)
، فقد لا يقول الإنسان للناس: اعبدوني، اركعوا لي، واسجدوا، لكنه قد يقول: التزموا بما أقول، وهذا نوع من العبادة.
3 -
أن من منَّ الله عليه بالكتاب والحكمة والنبوة فإنه لا يأمر إلا بخير؛ لقوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} .
4 -
الإشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يكون معلمًا ربانيًا؛ لقوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} ، أما ما يحصل من بعض الناس وهو أن
(1)
رواه الطبراني في المعجم الكبير (17/ 92). ورواه النسائي في السنن الكبرى (10/ 116).
يكون معلمًا لا ربانيًا؛ فإن علمه قاصر جدًّا؛ لأن فائدة العلم وثمرته هي العمل والتأدب بآداب العلم. فإذا كان هذا الرجل يملأ أدمغة الطلاب علمًا ولكن ليس هناك سلوك وأخلاق وأعمال وعبادة، فإن تعليمه ناقص جدًا، ولهذا قال:{وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} .
5 -
الرد على منكري الأسباب؛ لقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} والباء للسببية، ولا شك أن الأسباب ثابتة، ولكنها ليست مستقلة بالإيجاد أو العدم، بل هي مؤثرة بما أودع الله فيها من قوة التأثير. وبهذا ندفع شبهة من قالوا بنفي الأسباب محتجين بأن إثبات الأسباب يستلزم إثبات خالق مع الله. ونحن نقول لهم: إننا نثبت الأسباب، لكنها لا تؤثر بنفسها بل بما أودع الله فيها من القوة. والدليل على هذا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما ألقي في النار قال الله للنار:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فكانت بردًا وسلامًا عليه، لم يتأثر بها مع أنها محرقة. قال أهل العلم: ولو قال الله تعالى: {كُونِي بَرْدًا} ولم يقل: {وَسَلَامًا} لأهلكته من البرد؛ لأنها تمتثل أمر الله عز وجل.
6 -
أن المعلم للناس يصح أن نسميه ربانيًا؛ لأنه قال: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} ولهذا نجد في تراجم العلماء رحمهم الله نجد كثيرًا ما يصفون العالم بأنه العالم الرباني.
ومن فوائد قوله: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} :
1 -
إثبات الملائكة، والإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة، فلا يتم إيمان العبد حتى يؤمن بالملائكة.
2 -
أن الذي مَنَّ الله عليه بالكتاب والحكم والنبوة لا يمكن أن يأمر غيره باتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا، كما أنه لا يدعو الناس إلى عبادة نفسه.
3 -
أن من أمر غيره أن يكون عبدًا له فقد أمر بالكفر، ومن أمر أن تتخذ الملائكة والنبيون أربابًا فقد أمر بالكفر؛ لقوله تعالى:{أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
4 -
أن هذا الكفر مخرج عن الملة؛ لقوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
* * *
• ثم قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].
(إذ) مفعول لفعل محذوف تقديره: (اذكر)، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} يعني: اذكر يا محمد لمن أرسلناك إليهم، اذكر هذا العهد والميثاق. (والميثاق) هو العهد، وسمي الميثاق عهدًا؛ لأن كلًّا من المتعاهدين يتوثق به مع الآخر (كالوثاق) الحبل الذي يشد به الإنسان.
وقوله: {مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} يشمل الرسل؛ لأن كل رسول فهو نبي.
وقوله: {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} فيها ثلاث قراءات (لَمَا آتيتكم)، (لِما أتيتكم)، (لَمَا آتيناكم).
وعلى كل القراءات ففيها التفات من الغيبة إلى الحضور.
وقوله: {لَمَا آتَيْتُكُمْ} في اللام قراءتان الكسر والثانية الفتح.
وقوله: {آتَيْتُكُمْ} يعني أعطيتكم. والإيتاء هنا يراد به ما آتاه الله النبيين من أمور الشريعة، ولهذا قال {مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} الكتاب: معروف كالتوراة والإنجيل. والحكمة: الحكم بين الناس، وإصابة الصواب؛ لأن الحكم بين الناس وإصابة الصواب من تنزيل الأشياء منازلها، وهذا هو الحكمة.
{ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} : يعني ما آتيتكم من الكتاب والحكمة إذا جاءكم رسول مصدق لما معكم فإنكم تؤمنون به وتنصرونه. وقوله: {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} له معنيان:
المعنى الأول: أنه يصدق ما سبقه من الكتب، ويقول مثلًا: إن التوراة حق، والإنجيل حق، وما أشبه ذلك.
والمعنى الثاني: أنه يقع مصداقًا لما سبقه من الكتاب؛ لأن الكتب أخبرت به. فإذا جاء مطابقًا لما أخبرت به صار مصدقًا لها. فيكون على هذا الوجه شهادة لهذا الكتاب بأنه حق، ويكون مع الوجه الأول شهادة بأن الكتب السابقة حق؛ لأن الله تعالى يقول في النبي صلى الله عليه وسلم:{الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] فإذا جاء على الوصف الذي جاءت به التوراة والإنجيل وقع مصداقًا؛ لأنها أخبرت بشيء فجاء هذا الشيء فيكون مصدقًا. أرأيت لو أن أحدًا من الناس قال: إن فلانًا سيقدم اليوم بعد الظهر فقدم، صار هذا الذي قدم مصدقًا لما أخبر به. إذن لما قالت الرسل: إن محمدًا رسول الله يبعث على الوجه الذي ذكر الله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فجاء مطابقًا لما أخبرت به صار مصدقًا لها {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} أي للذي معكم من الكتب السابقة التي جاؤوا بها.
{لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} هذا محل الميثاق يعني إذا جاءكم هذا الرسول المصدق لما معكم فإن ميثاقي عليكم لتؤمنن به ولتنصرنه (تؤمنن به) أي تؤمنن بأنه حق (وتنصرنه) أي تعينونه على نشر رسالته، وعلى قتال أعدائه؛ لأن النصر هنا يشمل النصر بالعلم وبالسلاح.
{قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} :
لما أخبر أنه أخذ عليهم العهد والميثاق قررهم في هذا: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} .
وقوله: {أَأَقْرَرْتُمْ} أي اعترفتم والتزمتم بذلك.
وقوله: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} أي أخذتم العهد الثقيل؛ لأن الإصر الذي جمعه آصار بمعنى الأشياء الثقيلة. فإصري أي العهد الثقيل.
{قَالُوا أَقْرَرْنَا} فيها قراءة (آقررتم) بمد الألف الأولى.
{قَالُوا أَقْرَرْنَا} أي اعترفنا والتزمنا بأن نؤمن به وننصره.
{قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} : اشهدوا يعني ليشهد بعضكم على بعض، ولتشهدوا كلكم على الميثاق الذي بيني وبينكم وأنا معكم من الشاهدين، وكفى بالله شهيدًا، فاستشهدهم على أنفسهم، وشهد عليهم عز وجل بما حصل.
* * *
• ثم قال الله تعالى: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 82 - 83].
{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} :
أي بعدما ذكر من هذا البيان والإيضاح، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد
أُخذ على جميع الأنبياء أن يؤمنوا به، وأن ينصروه، وما أخذ على المتبوع مأخوذ على التابع؛ يعني ما أخذ على الأنبياء مأخوذ على أتباعهم أيضًا. فإذا كان واجبًا على الأنبياء أن يؤمنوا به وينصروه كان واجبًا على أتباعهم أن يؤمنوا به وينصروه. ولهذا لما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم مع عمر بن الخطاب شيئًا من التوراة غضب وقال:"ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي"
(1)
. كيف تأتي بالتوراة؟ القرآن فيه غنى عن كل كتاب، كل ما في الدنيا من الكتب فالنافع منها موجود في القرآن لا حاجة إليها. لاسيما وأنها الآن ليست من الكتب المنزلة من السماء بل فيها من التحريف والتبديل والإخفاء ما الله به عليم.
{فَمَنْ تَوَلَّى} يعني من أُمَمِ هؤلاء الأنبياء، ولا ترد هذه الشرطية على الأنبياء؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام شهدوا على أنفسهم وشهد الله معهم، لكن إنما ترد هذه الشرطية على أتباعهم، يعني: فمن تولى من أتباع الأنبياء بعد ما ذكر من هذا الميثاق العظيم فهو فاسق.
{فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} {هُمُ} ضمير فصل. والفاسقون هم الذين خرجوا عن مستوى العدل، وعن مستوى الرجولة، وعن مستوى الإيمان. خرجوا عن الطاعة، تولوا وأعرضوا، هؤلاء هم الفاسقون. والمراد بالفسق هنا فسق الكفر؛ لأن الفسق يطلق على فسق المعاصي وعلى فسق الكفر؛ فمن الأول قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]. هذا فسق
(1)
رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 312)، باب من كره النظر في كتب أهل الكتاب، رقم (26421).
المعصية. ومن الثاني قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا} [السجدة: 18 - 20] المراد بالفسق: فسق الكفر؛ لأنه جاء في مقابل الإيمان، جاء قسيمًا للإيمان. وقسيم الشيء غير الشيء، فأما قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] فهل هو فسق كفر أو فسق معصية؟ قيل: معصية، وقيل: كفر، وقيل بالتفصيل.
ثم قال: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} :
الدين يطلق على الجزاء وعلى الشرط، يعني على العمل وجزائه.
فمن إطلاقه على الجزاء قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)} [الانفطار: 13 - 19].
وقال تعالى في سورة الفاتحة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4] الدين هنا بمعنى الجزاء.
ومن إتيان الدين بمعنى العمل والشريعة قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 6] وقوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] أي شريعة. وهنا {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} دين الله يعني شريعته التي شرعها لعباده، وأضافها الله لنفسه، بيانًا لأهميتها، وأنها الشريعة العادلة النافعة التي لا يقوم الخلق إلا بها؛ لأنها شريعة الله، فهي أكمل الشرائع. وأضافها
لنفسه أيضًا لأنه الذي شرعها. أحيانًا يضاف الدين إلى العامل مثل قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] أصلها (ولي ديني) فيضاف إلى العامل باعتبار أنه أخذ به وتمسك به، ويضاف إلى الله باعتبار أنه هو الذي شرعه ووضعه لعباده.
وقوله: {يَبْغُونَ} أي يطلبون. وهذا الاستفهام للإنكار والتوبيخ. ينكر على من يطلب غير دين الله ويوبخه. وفيها قراءة "تبغون"(أفغير دين الله تبغون) قراءة سبعية، وعلى هذا يحسن أن نقرأ أحيانًا (أفغير دين الله تبغون) وأحيانًا نقول:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} إلا إذا كنا بحضرة عوام فلا نقرأ القراءتين وإنما نقرأ عندهم ما يعرفون؛ لأنك لو قرأت عند العامة بالقراءتين لتسلطوا عليك من جهة، ولَانْحَطَّ قدر القرآن في أعينهم من جهة أخرى، ولأجلبوا عليك بالخيل والرجل، وقالوا: ما بقي عليك إلا أن تغير القرآن، ولتحسَّبوا عليك ليلًا ونهارًا. فإذن لا تقرأ بغير ما يعرفون. أما فيما بينك وبين الله فاقرأ هذا أحيانًا، وهذا أحيانًا، بشرط أن تكون متيقنًا لهذه القراءة، لأن هذا كلام الله فلابد أن تتيقن.
قال: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} :
الواو هذه للحال، يعني والحال أنه أسلم له من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا "أسلم" إسلامًا كونيًا ليس إسلامًا شرعيًا؛ لأن الإسلام الشرعي ليس فيه إكراه؛ ولأن الإسلام الشرعي لا يعم من في السماء والأرض بل يعم من في السماء، ولا يعم من في الأرض وقوله:{وَلَهُ أَسْلَمَ} أي انقاد انقيادًا كونيًا، وإنما قال:{وَلَهُ أَسْلَمَ} بعد قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} لإقامة الحجة على من لم يسلم لله شرعًا ولم يتبع دينه.
كأنما يقال: لقد أسلمت لله كونًا، فيجب أن تسلم له شرعًا؛ لأن الربَّ الذي يدبر الخلق كما يشاء، شاءوا أم كرهوا، هو الذي يجب أن نتمشى على شرعه. فيكون هذا كالدليل لما سبق.
وقوله: {أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، {مَنْ} أتى بمن الدالة على العاقل تغليبًا لجانب العقلاء؛ لأننا لو قسنا من في السموات والأرض لكان الأكثر العقلاء؛ لأن السموات ما من موضع أربعة أصابع إلا وملكٌ قائم لله أو راكع أو ساجد
(1)
، والسماء واسعة جدًّا، ما يعلم سعتها إلا الله:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]، السماء الدنيا أوسع بكثير من الأرض، والسماء الثانية أوسع بكثير من السماء الدنيا، وهلُمَّ جرًّا .. كل سماء أوسع مما تحتها.
وقوله: {وَالْأَرْضِ} الأرض مفرد لكن المراد بها الجنس فيشمل الأرضين، والأرضون سبع بظاهر القرآن وصريح السنة. ظاهر القرآن قوله:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، فإن المثلية هنا ليست بالكيفية، وليست بالكمية يعني بالثقل، السماء أعظم من الدنيا، لكنها بالعدد مثلهن في العدد.
وصريح السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين"
(2)
، وفي هذا الحديث
(1)
رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو تعلمون ما أعلم"، رقم (2312). ورواه أحمد في مسنده، رقم (21005).
(2)
رواه مسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم (1610).
دليل على أن السبع متطابقة يعني بعضها داخل بعض؛ لأنه يقول طوقه يوم القيامة من سبع أرضين، وهو إنما غصبه من الأرض العليا الظاهرة. فتكون الثانية في جوفها، والثالثة في جوف الثانية، وهلم جرا، تكون متطابقة. وبه نعرف أن من قال: إن المراد بالسبع سبع القارات فقد أخطأ؛ لأنها لو كانت سبع قارات فما هي صلة الأرض الثانية والثالثة وما بعدها بالأرض التي حصل فيها الغصب.
وقوله: {طَوْعًا وَكَرْهًا} طوعًا يحتمل أن يكون مصدرًا منصوبًا على أنه صفة لمصدر محذوف، والتقدير إسلامًا طوعًا. ويحتمل أنه مصدر منصوب على الحال مؤول باسم الفاعل. حال من قوله:{أَسْلَمَ مَنْ} يعني التقدير: وله أسلم من في السموات والأرض طائعين ومكرهين.
والطوع ما فعل بالاختيار، والإكراه ما فعل بغير الاختيار.
قال: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} :
وفي قراءة (ترجعون) بناءً على القراءة في (تبغون). يعني هؤلاء الذين هم مسلمون لله سوف يرجعون إلى الله سبحانه وتعالى، وينبئهم بما عملوا، ويحاسبهم على ما أرسل إليهم من الرسل.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة قالوا مثلًا: لو اختلفت القراءة في آية فهل لك أن تقرأ في أولها بقراءة واحدة وفي آخرها بقراءة أخرى.
أ - فمن العلماء من قال: نعم يصح؛ لأن الكل وارد ولكن الراوي أو القارئ الذي رواها هو الذي يبقي على ما روى، أما
أنا فمنقول إلي، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ أول الآية على هذا الوجه وآخر الآية على هذا الوجه، فلي أن أقرأها بالوجهين، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.
ب - وبعضهم قال: لا، إذا قرأت بقراءة واحدة لا تقرأ بقراءة الثاني في آخر الآية، فمثلًا في الآية التي معنا:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يصح، ويكون المراد {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} من في السموات والأرض.
أما في الإعراب فنقول: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} فيها استفهام يليه حرف عطف، وقد ذكرنا في مثل هذا التركيب للعلماء قولين:
القول الأول: أن الهمزة للاستفهام، وحرف العطف الذي بعدها عاطف لما بعده على مقدر بينه وبين الهمزة يعينه السياق.
والقول الثاني: أن الهمزة للاستفهام، والفاء حرف عطف على ما سبق، لكنها أخرت لتكون الصدارة للاستفهام، وتقدير الكلام على هذا الوجه (فأغير دين الله يبغون)، وهذا الوجه أحسن من الوجه الأول؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير؛ ولأن الأول الذي يحتاج إلى تقدير قد يعييك في بعض الأحيان أن تجد شيئًا تقدره يناسب المقام، مثلًا:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [يوسف: 109]، إذا قلنا إنها معطوف على محذوف قد تقدر أغفلوا فلم يسيروا في الأرض. هنا {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} أضلوا فغير دين الله يبغون؛ لأن من بغى غير دين الله فهو ضال.
وقوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يعني كما أنه له السلطان الكامل عليهم في الدنيا فإنهم أيضًا يرجعون إليه في الآخرة. وتقديم المتعلق يدل على العموم أو يدل على التخصيص؛ لأن المتعلق هو مفعول الفعل، وتقديم المفعول يفيد الحصر يعني يرجعون إلى الله لا إلى غيره، وسوف ينبئهم بما عملوا إذا رجعوا إليه.
من فوائد الآيات الكريمة:
من فوائد قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]:
1 -
أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مربوبون، متعبدون لله عز وجل، كما أن غيرهم كذلك. ووجهه من الآية: أن الله أخذ عليهم الميثاق بالتكليف.
2 -
إثبات أن الميثاق يكون بما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة، بناء على القراءة الثانية (لِمَا آتيتكم من كتاب). أما القراءة التي في المصحف "لَمَا" فإنه يستفاد منها فائدة وهي: أن الله عز وجل أعطاهم العهد أو أخذ منهم العهد والميثاق بما آتاهم من الكتاب والحكمة. يعني لكونهم أوتوا الكتاب والحكمة صاروا أهلًا لهذا الميثاق العظيم، وأنهم مهما أوتوا فلابد أن يؤمنوا بهذا الرسول.
3 -
ما مَنَّ الله به على النبيين من الكتاب والحكمة. ويتفرع على هذه الفائدة أن من ورث هذا الكتاب والحكمة فإنه قد أخذ بحظ وافر مما أنعم الله به على النبيين. ولهذا جاء في الحديث
عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العلماء ورثة الأنبياء"
(1)
، فيجب عليهم إذ ورثهم الله علم الأنبياء أن يقوموا مقام الأنبياء في الدعوة إلى الله، ونشر العلم، والجهاد في سبيله، ومن توانى منهم عن ذلك فقد قصر.
4 -
فضيلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لكون الله أخذ على جميع الأنبياء الميثاق والعهد أن يؤمنوا به.
فإن قال قائل: كلمة {رَسُولٌ} نكرة، فما الذي جعلك تجعلها للنبي صلى الله عليه وسلم والأصل في النكرة أنها اسم جنس شائع لا يختص به واحد دون آخر؟
فالجواب عن ذلك أن يقال: إن هذا الوصف الذي وصف به هذا الرسول ينطبق تمامًا على النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل لذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "لو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي"
(2)
، ويدل لذلك أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جمع الله له الأنبياء ليلة المعراج صار هو إمامهم فصار هو المتبوع، لا التابع عليه الصلاة والسلام.
5 -
أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم جامعة للتصديق بجميع الرسالات؛ لقوله: {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} ، ولهذا كانت هذه الأمة -ولله الحمد- وأسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم -هي المصدقة تمامًا لجميع الرسل، وهذه ميزة ليست لغيرها.
(1)
رواه أحمد في مسنده، رقم (21208). ورواه أبو داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، رقم (3641). ورواه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم (2682). ورواه ابن ماجه، في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم (223).
(2)
تقدم تخريجه (ص 464).
6 -
أنه يجب على الأنبياء أن يؤمنوا بهذا الرسول الذي يأتيهم مصدقًا لما معهم، وأن ينصروه؛ لقوله:{لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} . وإذا كان هذا واجبًا على الأنبياء، كان واجبًا على أممهم؛ لأن ما وجب على الإمام وجب على تابعه. فيجب على جميع الأمم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينصروه. ومن لم يكن كذلك فقد كفر برسوله؛ لأن رسوله قد أعطى الله هذا الميثاق. ومعلوم أنهم إذا كانوا صادقين في اتباع رسولهم أن يتبعوا ما التزم به رسولهم.
7 -
أنه يجوز بل يشرع في الأمور الهامة أن يقرر من أخذ عليه العهد حتى يقر ويعترف زيادة على العقد الأول الذي جرى بينه وبين معاهده؛ لقوله: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} وهذا يرد في الأمور العظيمة العامة، ونظيره من بعض الوجه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرر من اعترف بالزنا سأله: أفعلت كذا، أفعلت كذا حتى قال له: أنكتها ولم يُكَنِّ. قال: نعم، قال: كما يغيب الرشأ في البئر والمرود في المكحلة
(1)
، قال: نعم. كل ذلك من أجل التثبيت.
8 -
إثبات كلام الله عز وجل، وأنه متعلق بمشيئته؛ لقوله: قال: أأقررتم، قالوا: أقررنا، قال: فاشهدوا. وكل هذا يدل على أن كلامه سبحانه وتعالى بصوت مسموع، وأنه متعلق بمشيئته. فيكون فيه الرد على الأشاعرة الذين قالوا: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأنه لا يتعلق بمشيئته؛ لأنه وصف لازم له لزوم العلم والحياة.
9 -
جواز إشهاد الإنسان على نفسه إذا قلنا: إن قوله: {قَالَ
(1)
رواه أبو داود، كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك، رقم (4428).
فَاشْهَدُوا}، خطاب لكل إنسان على حدة. وأما إذا قلنا:(اشهدوا) أي بعضكم على بعض، فليس في الآية دليل على ذلك. لكن الإشهاد على النفس أمر جاءت به الشريعة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135].
10 -
تقوية هذا العهد بهذه التقريرات والإشهادات المختومة بقوله: {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ، وما أعظم شهادة الله عز وجل في أمر من الأمور. وهذا كله مما يزيد فضيلةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يؤخذ مثل هذا العهد المؤكد بهذه المؤكدات من أجل الإيمان به صلى الله عليه وسلم ونصرته.
11 -
أنه إذا كان واجبًا على الأنبياء والأمم السابقين أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وينصرونه، كان إيماننا نحن به ونصرته من باب أولى؛ لأننا ننتسب إليه، وننتمي إليه، ونعتقده إمامنا، عليه الصلاة والسلام، فكان واجبًا علينا أن ننصره. ومن المعلوم أن نصره في حياته هو الجهاد معه جنبًا إلى جنب، وأما نصره بعد وفاته فهو نصر سنته ونشرها، وبيانها للناس، والدفاع عنها، والجهاد في نصرتها، كل هذا واجب على الأمة الإسلامية. وبناء على ذلك يجب على الأمة الإسلامية أن ترفض كل وارد إليها من أعداء الله إذا كان مخالفًا للسنة؛ كل شيء يرد علينا من الكفار من عقائد وأخلاق وأعمال ومعاملات وغيرها إذا كان مخالفًا لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أقل ما يقال في النصرة أن يرفض هذا الشيء، وأن يضرب به وجه مورده، وأن لا يكون له مكان بين الأمة الإسلامية؛ لأنه كيف يكون نصره ونحن نستورد من أعداء هذه النصرة ما يخالف هذه النصرة؟ من ادعى ذلك فهو كاذب. فإن
فعله يكذب قوله، ولو كان قوله صادقًا لكان أول ما يقوم به من نصرة شريعة الله أن يرفض كل ما خالف شريعة الله.
ومن فوائد قوله عز وجل: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 82]:
1 -
أن الفسق يطلق على الكفر. ومن شواهد ذلك قوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة: 18 - 20].
2 -
أن من تولى قبل قيام الحجة عليه، لم يحكم عليه بالفسق؛ لقوله:{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ} ويتفرع على هذا فائدة مهمة وهي: أن الشرائع لا تلزم قبل العلم. وهذه مسألة عظيمة جدًّا، اختلف فيها العلماء اختلافًا طويلًا عريضًا، لكن من تأمل نصوص الكتاب والسنة، وتأمل أيضًا ما لله من صفات عظيمة، تبين له أن الشرائع لا تلزم قبل العلم؛ لأن الله كتب على نفسه أن رحمته سبقت غضبه. ولو قلنا بوجوب الشرائع قبل العلم لكان الغضب سابقًا على الرحمة؛ لأننا نلزم الإنسان بشيء لم يعلمه. لكن ربما يكون من الإنسان تفريط في السؤال، أي لا يسأل، فحينئذٍ قد نلزمه قبل أن يعلم من أجل تفريطه. أما لو لم يكن مفرطًا كإنسان نشأ في بادية، ولا يعلم شيئًا عن الدين، وليس عنده عالم، ولا طرأ على باله، فكان يصلي على جنابة بدون اغتسال، وبقي على ذلك عشر سنوات أو أكثر، فجاء يسأل نقول له: ليس عليك شيء؛ لأنك لم تعلم بوجوب الغسل من الجنابة. لكن لو كان في البلد، ويسمع ويستطيع أن يسأل، فربما نلزمه
بقضاء ما مضى. ومن ذلك ما يحدث لكثير من النساء التي تبلغ بالحيض وهي صغيرة، ولكنها لا تصوم بناء على أنها صغيرة، وأن الصوم لا يلزم إلا من تمَّ لها خمس عشر سنة، ثم تأتي تسأل، فإذا علمنا من حالها أنها معذورة بالجهل فإننا لا نلزمها بقضاء ما فات من الصيام لأنها معذورة. وهذا في الذي ينتسب إلى الإسلام نعذره، ونحكم بإسلامه، ونصلي عليه إذا مات، أمَّا من لا ينتسب إلى الإسلام فهذا كافر، كافر في الدنيا، وأما في الآخرة فعلمه عند الله، فالقوم الذين لم تبلغهم الدعوة وهم كفار، هؤلاء كفار في الدنيا لو ماتوا لا نصلي عليهم، ولا ندعو لهم. لكن في الآخرة، الصحيح أن أمرهم إلى الله، وأن الله تعالى يمتحنهم بما يشاء من تكليف. فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، وهذه مسألة يجب الانتباه إليها.
أما من ينتسب إلى الإسلام ولكنه على حال تكفره؛ من تَرْكِ واجب، أو فِعْلِ محرم، وهو لم يبلغه الشرع فإن القول الراجح أنه لا يحكم بكفره؛ لأنه معذور. ولهذا تجد في نصوص الكتاب والسنة كلها أو غالبها مقيدًا ببلاغ الرسالة بالعلم، أو بالتبين وما أشبه ذلك. وهذا كما قلت لكم هو مقتضى صفة الله عز وجل وهي أن رحمته سبقت غضبه، والحمد لله رب العالمين. ولهذا يقول {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ}. وأما من قال:{بَعْدَ ذَلِكَ} إن هذا القيد من أجل عظم الشناعة عليهم، وأن من تولى وإن لم يتبين له الأمر فهو فاسق، لكن قيده بالبعدية من أجل عظم الشناعة عليهم، فهذا خلاف الأصل؛ لأن الأصل أن ما قيد بوصف فالوصف عائد له نفسه، لا إلى شيء آخر. وهنا الذي قيِّد بالبعدية التولي، فإذا تولى بعد أن بلغه العلم فهو فاسق.
ومن فوائد قوله عز وجل: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]:
1 -
أن من ابتغى غير دين الله، ولو في التنظيم، وما يسمى بالقانون، فإنه مستحق لهذا التوبيخ العظيم. ويدل لذلك قوله تعالى في سورة المائدة، وهي من آخر ما نزل:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وحكم الجاهلية: كل ما خالف حكم الشرع، فهو حكم جاهلية؛ لأن حكم الشرع مبني على علم، وما سواه مبني على جهل. وهذا في غاية ما يكون من التوبيخ والتقريع أن تبتغي حكمًا جاهليًا وتدع حكم العليم الخبير، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، وبه نعرف أن من ابتغى حكمًا غير حكم الله فهو من أضل عباد الله، وأسفه عباد الله، وأخسر عباد الله، وأنه لن تصلح له أمور دينه ولا دنياه والعياذ بالله.
2 -
أن من شرط صحة العمل وقبوله أن يكون موافقًا لشرع الله، وجهه أن الله أنكر على من بغى دينًا غير دين الله، ولهذا كان من شرط العبادة الإخلاص لله، وموافقة شريعة الله.
3 -
تشريف هذا الدين الذي شرعه الله؛ لأن الله أضافهُ إلى نفسه فقال: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} .
4 -
إقامة الحجة على أنه لا يليق بالإنسان أن يبغيَ دينًا غير دين الله وهو مربوب مملوك لله؛ لقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} . وقد تقدم أن هذه الجملة يحتمل أن تكون حالية، ويحتمل أن تكون استئنافية.
5 -
عموم ملك الله وسلطانه. ويؤخذ من قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} ، وهذا تمام السلطان والملك أن كل من في السموات والأرض فهو مستسلم لله، طائعًا كان أم مكرهًا.
ولذلك لا أحد يمكنه أن يشذ أو يقاوم قدر الله. لو جاء أعتى خلق الله يريد أن يقاوم ما أراد الله تعالى قدرًا لا يمكنه ذلك أبدًا. فرعون جبار عنيد أغرق بما كان يفتخر به: {قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51] أُهلك بالماء الذي كان يفتخر به. وعادٌ استكبروا في الأرض وقالوا: من أشد منا قوة، فأهلكوا بالريح، هواء سخره الله عليهم حتى دمرهم، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم. هذا تمام القوة والقدرة. وضعفاء الإيمان اليوم إذا قيل لهم: ارجعوا إلى دينكم، تُنصَروا على أعدائكم، قالوا: كيف ونحن لا نعرف أن نصنع الإبرة، كيف نقاوم أهل الصواريخ، والمدافع، وأهل القنابل الموجهة؟ ! لم يعلموا أن الأمر بيد الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى إذا شاء أطبق عليهم الأرض تطبيقًا وخسف بهم إلى السابعة بكلمة واحدة. لو صدقنا الله لصدقنا الله، ولكننا في الحقيقة ضيعنا أمر الله، فلما نسينا الله نسينا الله عز وجل وتركنا.
سمعت أنا قبل سنوات أن الله أرسل على واشنطن، عاصمة أمريكا، أرسل عليها صواعق من هذا الغمام الذي هو مثل القطن، صواعق دمرتها تقريبًا، حتى قطعت أسلاك الكهرباء، وسكتت المكائن، وصارت هذه العاصمة التي هي من أكبر عواصم الدنيا صارت دامسة، وحصل سطو ونهب عظيم على
الفنادق ومحلات التجارة، وهذه الصواعق من أدنى شيء. الزلزال يضرب الأرض، وفي لحظة واحدة يدمر مئات المدن والقرى. قد حصل هذا الزلزال بكلمة واحدة (كن) انقلب أعلى الأرض أسفلها، وتغيرت معالم الأرض كلها.
فنحن إذا صدقنا الله صدقنا الله. يذكر أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو يطارد الفرس من مدينة إلى مدينة، حتى وصل إلى دجلة، فانتقل الفرس إلى المدائن من وراء دجلة من الشرق، وأغرقوا السفن، وكسروا الجسور، من أجل أن لا يعبر إليهم المسلمون. وقف سعد ليس معه إلا الإبل والخيول والراجلة، لا يستطيع أن يجاوز مكانه، فنادى سلمان الفارسي رضي الله عنه وقال له: يا سلمان، أعطنا من تصميمك للحرب؛ لأنه هو الذي أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق. قال: والله يا سعد لا حيلة إلا ما كان من تقوى الله، ولكن دعني أنظر في القوم -يعني الجند- إن كانوا على تقوى من الله، فإن الذي فلق البحر لموسى سييسر لنا العبور على هذا البحر؛ لأن هذه الأمة خير من أمة موسى -الله أكبر، إنه الإيمان-.
فذهب سلمان فنظر في الجند فوجدهم في الليل يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا، وفي النهار في شأن الحرب، وما يصلح الحرب. فرجع إليه بعد ثلاث وقال: هم على خير ما يرام، ولكن استعن بالله واعبر، فنادى سعد بن أبي وقاص في القوم وقال: إنا عابرون إن شاء الله، ولكن سأقف، وأقول: باسم الله، وأكبر الله ثلاثًا، فإذا كبرت الثالثة فاعبروا. ففعل فقال: بسم الله، ثم كبر، ولما كبر الثالثة عبر الناس يمشون على الماء، والنهر يسير ويقذف بزبده، وليس مثل البحر واقفًا، ولكنه يجري، يقول أهل التاريخ:
حتى إن الفَرَس إذا تعب أنشأ الله له ربوة من الأرض، فوقف الفرس عليها يستريح، حتى عبروا دجلة. فلما رآهم الفرس ضجوا وصاحوا وقالوا: إنكم إنما تقاتلون جنًّا، لا طاقة لكم بهؤلاء، فِرُّوا، ففروا وخرجوا من المدائن، وانكسروا ولله الحمد براية التوحيد والجهاد الذي أْنشئ على التقوى؛ لتكون كلمة الله هي العليا وليس طلبًا للشهرة، وليس من أجل القومية، أو العصبية، أو الوطن، ليس على بالهم إلا أن تكون كلمة الله هي العليا، يكون هذا القرآن هو القانون لأهل الأرض.
أهل المدائن هربوا منها، عاصمة الفرس، فجاء المسلمون وفتحوها، وكسبوا من الأموال ما لا يعلمه إلا رب العباد مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لتنفقن كنوزهما -كنوز كسرى وقيصر- في سبيل الله"
(1)
، وأخذوا التاج -تاج كسرى- وهو الذي يجلس تحته، ويضعه فوق رأسه، مرصع باللآلئ والذهب، وما شاء الله من حلي الدنيا، فأرادوا أن ينقلوه، فلم يجدوا إلا جملين كبيرين يحملانه من المدائن إلى المدينة، فحملوه على جملين، من المدائن إلى المدينة ثم وضعوه بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وما أدراك ما عمر- الذي عدل فعدلوا، وأمن فأمنوا، قال وهو ينظر إليه: والله إن قومًا أدوا هذا لأمناء. قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: نعم يا أمير المؤمنين إنهم أمناء لأنك كنت أمينًا، ولو أنك رتعت لرتعوا؛ -الله أكبر- فهذا تاج كسرى من المدائن يوزع بين المسلمين في المدينة. من الذي
(1)
رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم (3618).
نصرهم حتى عبروا النهر بخيلهم ورجلهم إلا الله عز وجل. لماذا لا نؤمن بهذا؟ والله إننا ضعفاء الإيمان. أليس الرب عز وجل وهو أصدق القائلين وأقدر الفاعلين يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40، 41] تأكيدات لفظية ومعنوية في الآيتين من الله عز وجل، توجب علينا الأخذ بما جاء في هذه الآية الكريمة.
بأي شيء ننصر الله؟ لأن الله شرط: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40].
نرى الآن النكبات تأتي على المسلمين متنوعة وما رأينا أحدًا إلا القليل النادر يقول: يا جماعة، ارجعوا إلى دينكم، البلاء منكم. من الذي يتكلم ويقول: إن الخطأ خطؤنا، والظلم ظلمنا، فلنرجع إلى ربنا، حتى لا يسلط علينا هؤلاء الظالمين؛ لأن الله يقول:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129]، تأتي النكبات وكأنها حوادث مادية، لا علاقة لها بالدين مع أننا مسلمون. هذه الحوادث ما تكون إلا بفعلنا. الكافر ربما يعطى في الدنيا ما يريد لأنهُ عجلت له طيباته في الحياة الدنيا، ينعم في الدنيا أكثر مما ينعم المسلم، حتى إذا انتقل إلى الآخرة صار العذاب عليه أشد؛ لأنه ينتقل من نعيم إلى عذاب. فيفقد هذا الذي يدركه في الدنيا فيكون عليه أشد وأعظم. لهذا وصيتي للمخلصين في مثل هذه الظروف أن يدعُوا الناس ويقولوا: ليس ما أصابنا هو حدث مادي أو خلاف من أجل المال أو الاقتصاد أو الحدود أو الأرض أو ما أشبه ذلك، وإنما هو قدر
إلهي سلط بعضنا على لأننا أضعنا أمر الله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، أما أن نبقى هكذا، كأن شيئًا لم يجرِ، التاجر في كذبه وغشه، والموظف في خيانته وعدم القيام بالعمل، كل إنسان في الذي هو فيه، فهذا لا شك يدل على موت القلوب وقسوتها، وأنها لا تتعظ، وأن الأمور والحوادث يوشك أن تتطور وتتغير إلى أسوأ؛ لأن الله عز وجل يقدر مثل هذه الأمور لعلنا نحدث توبة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الكسوف:". . . ولكنها آيات من آيات الله تبارك وتعالى يعتبر بها عباده، فينظر من يحدث له منهم توبة"
(1)
، ولكن أين القلوب الواعية؟ ! نسأل الله تعالى أن يعيذنا من قسوة القلوب وغفلتها.
الحاصل أن الله ينكر على هؤلاء الذين يبغون دينًا غير دين الله، ويقول: كيف تبغون غير دين الله، والأمر كله لله، وله أسلم من في السموات والأض طوعًا وكرهًا.
6 -
إثبات السموات وأنها عدد، وقد جاءت الأدلة بأنها سبع، وكذلك الأرضين سبع، لكن لم يفصح الله تعالى بها في القرآن، بل قال:{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، وجاء الإفصاح بها في السنة.
7 -
أن الرجوع إلى الله {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يرجعون في الدنيا، ويرجعون في الآخرة. أما في الدنيا فإن المرجع إلى الله في الأحكام؛ الحكم لله، العبادة لله، والأمر كله لله، والنهي كله لله. نرجع إليه، وإلى شرعه، لا إلى رأي فلان وفلان، ولا
(1)
رواه الإمام أحمد في مسنده، رقم (20440).
إلى قانون فلان وفلان، ولا إلى نظام فلان وفلان، إنما نرجع إلى الله. كذلك نرجع إليه في الآخرة، وسوف يحاسب كل إنسان على ما عمل. فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره.
8 -
إثبات البقاء لله؛ لأنه إذا كان مرجع كل الخلق لزم من ذلك أنه سيبقى عز وجل ليكون مرجعًا لجميع الخلق.
* * *
• ثم قال تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84].
الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب له وللأمة، ما لم يقم دليل على أنه خاص به. والمتأمل في الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم يتبين له أنه على ثلاثة أقسام:
قسم دلَّ الدليل على أنه خاص به، وقسم دلَّ الدليل على أنه له وللأمة، وقسم ليس فيه دليل.
أما ما دلَّ الدليل على أنه خاص به فهو له، يختص به، مثل قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} [الإنسان: 23]، وقوله:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1].
وأما ما دلَّ الدليل على العموم، فهو على العموم، مثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1]، وما سوى ذلك فإنه يكون عامًّا له وللأمة، لكن وُجِّه الخطاب إليه باعتباره الإمام لأمته عليه الصلاة والسلام. والخطاب
الموجه للإمام موجه له ولمن كان مؤتمًا به. ولهذا لو وجه الضابط أمرًا إلى القائد لكان هذا الأمر للقائد، ولمن كان تبعًا له. فهنا يقول الله عز وجل:{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ} فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد هو وأمته. بيان أن هذا هو المراد قوله تعالى في سورة البقرة:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136]. فقال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} والإيمان بالله يتضمن أمورًا: الأمر الأول: الإيمان بوجوده، الثاني: الإيمان بربوبيته، الثالث: الإيمان بألوهيته، الرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته. لكن الثلاثة الأخيرة لابد من توحيده بذلك أي توحيده بالربوبية، وبالألوهية، وبالأسماء والصفات. أما الوجود فشامل له ولغيره، وإن كان وجود الخالق يختلف عن وجود المخلوق. فمن لم يؤمن بوجود الله فهو ليس بمؤمن. ومن آمن بوجوده ولم يؤمن بربوبيته على وجه عام شامل، فهو لم يؤمن بالله. ومن آمن بالله وربوبيته ولكن لم يؤمن بالألوهية فليس بمؤمن. ومن آمن بذلك كله ولم يؤمن بأسمائه وصفاته فليس بمؤمن. لكن الأخير فيه تفصيل، قد يخرج من الإيمان بالكلية وقد لا يخرج.
وهو القرآن الكريم، والسنة النبوية، كلاهما منزل. قال الله تعالى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] فيشمل القرآن والسنة.
{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} :
وما أنزل على إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وهو أبو الأنبياء. والذي نعرف مما أنزل إليه الصحف كما ذكر الله ذلك في موضعين من القرآن؛ في سورة النجم، وسورة الأعلى،
فقال تعالى في سورة النجم: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} ، وقال في سورة الأعلى:{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)} .
وإسماعيل، لم يصل إلينا كتابه الذي نزل إليه، ولم نعرف إلا أنه أُنزل إليه، ولكن مع هذا يجب علينا أن نؤمن بما أُنزل على إسماعيل.
وإسماعيل هو الولد الأول لإبراهيم، وهو أبو العرب، وهو الذي صبر ذلك الصبر العظيم حين قال له أبوه:{يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]، فقال هذا الابن الحليم:{قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].
ولله درُّه من ابن، ابن لم يبلغ، ولكنه بلغ مع أبيه السعي، وهو أشد ما تكون النفس تَعلُّقًا به؛ لأن الكبير من الأولاد قد زلت النفس عنه، والصغير لم تتعلق به بعدُ ذلك التعلُّق. ومع ذلك فإن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام نفَّذ ما أمره الله به، قال الله تعالى:{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104، 105]. لكن أرحم الراحمين سبحانه وتعالى نسخ هذا الأمر حين أسلما وتلَّه للجبين.
(أسلما): يعني استسلما وانقادا لأمر الله، وتلَّه للجبين كابًّا له على الأرض، لئلا يرى وجهه حين يذبحه، فلما قارب أن يذبحه جاء الفرج من الله عز وجل. وهكذا يكون الفرج، كلما اشتدت الكرب، فانتظر الفرج. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر
يُسرًا"
(1)
ولن يغلب عسر يُسرين كما قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6].
والحاصل أن إسماعيل هو الولد الأكبر لإبراهيم، وهو الذبيح بلا شك؛ لأن الله ذكر قصَّة الذبح في سورة الصافات قال:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات: 112] بعد هذا.
{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} . "وإسحاق" ذكر بعده للترتيب الزمني، والظاهر -والله أعلم- للترتيب المنزلي أيضًا؛ لأن إسماعيل أفضل من إسحاق؛ لأن إسماعيل أبٌ لأشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان إسحاق أبًا لأكثر الأنبياء، فالأنبياء من ولد إسحاق أكثر من الأنبياء من ولد إسماعيل، لكن العبرة بالأفضلية. محمد صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق من ذرية إسماعيل، فالظاهر -والعلم عند الله- أنه أخره ذِكرًا؛ لأن إسماعيل أفضل منه وأسبق. أفضل منه قدرًا، وأسبق زمنًا .. ومع ذلك فكل منهم في المرتبة الأولى من مراتب الخلق {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] أسأل الله أن يجعلنا من رفقائهم.
قال عز وجل: {وَيَعْقُوبَ} ويعقوب بن إسحاق وهو الملقب بإسرائيل، والذي ينسب إليه بنو إسرائيل. وأخره عن الاثنين؛ لأنه متأخر عنهما زمنًا.
{وَالْأَسْبَاطِ} : جمع سبط. وأصل السبط في اللغة ابن البنت، ولهذا يقال في الحسن والحسين رضي الله عنهما سبطا
(1)
رواه الإمام أحمد في مسنده، رقم (2800)، بدون لفظ "واعلم". ورواه الطبراني في المعجم (11/ 123)، رقم (11243) بلفظه.
رسول الله صلى الله عليه وسلم. وابن الابن يسمى حفيدًا {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] أي أبناء ابن، وفي المراد بهم قولان:
القول الأول: أن المراد بالأسباط أولاد يعقوب وأنهم أنبياء.
القول الثاني: أن المراد بهم شعوب بني إسرائيل الذين فيهم الأنبياء، وعلى هذا فيكون في الآية على هذا المعنى، تقدير: أي وما أنزل على أنبياء الأسباط. ويؤيد القول الأول أنه لا يحتاج إلى تقدير؛ لأن الثاني يحتاج إلى تقدير، وتقديره أنبياء الأسباط. وإذا دار الكلام بين أن يكون ذا تقدير أو خاليًا منه حُمِل على الخالي منه لأنه الأصل، والأصل عدم التقدير. لكن يضعفه أن الأسباط هم أبناء البنات، وهنا لا يتناسب مع الآية؛ لأن أولاد يعقوب أحفادٌ لإسحاق أو أحفادٌ لإبراهيم وليسوا أسباطًا، والقرآن نزل باللغة العربية فيجب أن تحمل الكلمة في القرآن على المعنى اللغوي ما لم تكن حقيقة شرعية تمنع من حمله على المعنى اللغوي، فإذا وجد حقيقة شرعية تمنع من حمله على المعنى اللغوي اتبعنا الحقيقة الشرعية، كالصلاة مثلًا في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: هي التعبد لله تعالى بذات الأقوال والأفعال المعلومة؛ المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم.
يضعفه كذلك أنه لم يقم دليل على نبوة أولاد يعقوب إلا يوسف، ويوسف من الأنبياء لا شك، أما أولاده الآخرون الأحد عشر فإنه لم يقم دليلٌ على كل واحدٍ منهم بخصوصه أنه نبي، والنبوة وصف عظيم يحتاج إلى بينة ودليل وبرهان تدل على أن هذا الشخص متصف بها.
ثم يضعفه أمرٌ ثالث وهو فعل أبناء يعقوب بأخيهم يوسف، وما حصل منهم من الكذب حيث جاءوا على قميصه بدم كذب، وقالوا:{إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17]، ثم اتهامهم لأبيه:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، المهم أن هناك قرائن تدل على ضعف أن يكون المراد بالأسباط أولاد يعقوب، ويخرج منهم يوسف بدلالة الكتاب والسنة على أنه نبي.
إذن يترجح القول الثاني أن المراد بالأسباط الشعوب، يعني وما أنزل على الأسباط بواسطة أنبيائهم؛ لأن المنزل على أنبيائهم منزلٌ عليهم:{وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46].
{وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} العدول عن التعبير بالإنزال إلى الإيتاء.
فقال بعضهم: لأن ما أوتيه موسى وعيسى نوعان: وحي، وآيات كونية محسوسة بقي ذكرها إلى نزول القرآن الكريم، ومعلوم أن الوحي يُسمَّى إيتاءً؛ لقول الله تعالى:{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 2] .. والآيات المؤيِّدة للرسالة هي أيضًا إيتاء. فقوله: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى} يشمل ما نزل من الوحي، وما حصل من الآيات، وذكر هذا لأن ذكر الآيات والعلم بها بقي إلى نزول القرآن الكريم.
{وَمَا أُوتِيَ مُوسَى} : وحي وآيات، أما الوحي فالتوراة التي هي أفضل كتاب بعد القرآن، وأشمل كتاب وأعم كتاب وأهدى كتاب بعد القرآن: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا
أَتَّبِعْهُ} [القصص: 49]. فقرنها الله مع القرآن. هذه التوراة نزلت على موسى، وهذا إيتاء الوحي، وأما إيتاء الآيات، فمن أعظم ما حصل له العصى واليد، وقد حصل في العصا ثلاث آيات عظيمة:
ألقاها على سحرة آل فرعون فالتهم جميع حبالهم وعصيِّهم، فالتهمها التهامًا، وهي ثعبان، والحبال والعصي قد ملأت الأرض، ومع ذلك هذا الثعبان يأكلها، ولا يُدرى أين تذهب؛ لأنها أكبر منه حجمًا، ولكن مع ذلك -قدرة الله فوق كل شيء- ولم يتماسك السحرة لما رأوا هذه الآية العظيمة، حتى خرُّوا ساجدين. {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف: 120]. في كلمة {أُلْقِيَ} انظر كلمة ألقي كأنهم جاءوا وسجدوا من غير عقل، لقوة ما ورد على قلوبهم من الآيات التي يعرفون أنها ليست سحرًا.
والآية الثانية في العصى: أنه ضرب بها البحر فانفلق، صار اثني عشر طريقًا، بين كل طريق وآخر كُتَلٌ من الماء كأنها جبال، كل جبل كالطود العظيم. وقد ذكر بعض العلماء أن الله جعل في هذا الماء فُرجًا من أجل أن يطمئن الناس بعضهم إلى بعض، يُشاهد بعضهم بعضًا مَن هذه الفرج .. هذا الماء الذائب المائع كأنه مسلح، وبلحظة {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه: 77].
لو اجتمعت نيران الدنيا كلها لتيبس أرض البحر في هذه اللحظة ما تمكنت، أو رياح الأرض كلها، أو المخترعات، ما تمكَّنت، ولكن قدرة من يقول للشيء "كن" فيكون، جعلت هذا أمرًا ممكنًا واقعًا.
الثالث من الآيات العظيمة للعصى: أنهم إذ استسقوا، يعني حصل عليهم نقص في الماء، ضرب موسى الحجر بهذه العصا
فتفجَّر اثنتا عشرة عينًا، كل عين لسبطٍ من أسباط بني إسرائيل حتى لا يقع النزاع بينهم والمزاحمة والمشاقة. هذه من الآيات التي أوتيها موسى.
أما عيسى فأوتي أيضًا وحيًا، وآيات؛ الوحي: الإنجيل الذي كان متمِّمًا للتوراة مبنيًا عليها. وآياتٌ حسيَّة منها: أنه يُبرئ الأكمه والأبرص، وُيحيي الموتى، ويُخرجهم من القبور، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرًا يطير.
قال تعالى: {فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا} [آل عمران: 49]، وفي قراءة "طائرًا" .. والفائدة من القراءتين أنه يكون طيرًا ويطير، وقد يكون الشيء على هيئة طير ولكن ما يطير، وقد يطير وليس بطير، كالطائرة -مثلًا- لكن هذا يكون طيرًا يطير، يخلق بإذن الله شيئًا على صورة الطير، والتصوير هنا جائز؛ لأنه بأمر الله، والأصل في الطاعة أمر الله. أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم فسجدوا، فكان سجودهم طاعةً لله، وأمر إبراهيم أن يقتل ابنه فامتثل، فكان امتثاله لهذا الأمر طاعة، المهم من الطاعة طاعة الله إذا أمر بأي شيء، فامتثال هذا الأمر طاعة وإن كان في آنٍ آخر يكون شركًا -مثلًا- أو كبيرة من كبائر الإثم.
{وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ} [آل عمران: 49] الأكمه: الذي خُلق بلا عينٍ، ممسوح العين، يُبرئه.
{وَأُحْيِ الْمَوْتَى} [آل عمران: 49] يقف على الميت جثة فيُحييه؛ يقول له كلمة فيحيا.
أبلغ من هذا: يُخرج الموتى من القبور، يقف على القبر، ويُكلِّم صاحب القبر، ويقوم صاحب القبر حيًّا من القبر! ! هذه آية
من أعظم الآيات الدالة على كمال قدرة الله، وعلى إمكان البعث، كالبعث يوم القيامة يخرج الناس من قبورهم بزجرة واحدة {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13، 14]. هذه الزجرة بلا تريّث ولهذا قال:{فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} (إذا) فجائية، تدل على المفاجأة في الحال، قال تعالى فى سورة القمر كلمة عامة في كل مأموراته. {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] .. (لمح البصر): يُضرب به المثل في السرعة. واحدة فقط، إذا أمر الله بالشيء أمرًا واحدًا .. "كن فيكون" كلمح البصر. سبحان الله. فإذن هذه الآيات التي أُعطيها عيسى فيها دليل على إمكان البعث.
{وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} :
لما جاء الجمع والنبيون دون التخصيص، جاء بالإيتاء دون الإنزال، من أجل أن يشمل الآيات التي قد يكون أُعطيها بعض النبيِّين فجاءت {وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} عطفًا على {مُوسَى وَعِيسَى} ، كما جاء ذلك في سورة البقرة:{وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 136]. {وَالنَّبِيُّونَ} المراد بهم هنا الرسل. وكل من وُصف بالنبوة في القرآن فإنه رسول، وكل من ذُكر في القرآن فإنه رسول؛ لقوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]. إذن فكل من قصَّ الله علينا في القرآن فهو رسول، وإن كان لم يوصف في القرآن إلا بالنبوة، لكنه رسول بدليل هذه الآية.
{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} :
كل هؤلاء نؤمن بهم على سبيل السواء، بدون تفريق،
والإيمان بهؤلاء إيمان مجمل، ولكن كل ما صحَّ عنهم أنهم أخبروا به وجب علينا الإيمان به، ولو تفصيلًا .. هذا في الأخبار، لكن في الأحكام لا نتَّبع إلا ما حكمت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الذي كُلِّفنا به، ووجب علينا اتِّباعه، كما قال الله تعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] فالاتِّباع لمحمد صلى الله عليه وسلم، أما الإيمان فهو عام لجميِع الرسل بدون تفريق. فإذا صحَّ عن موسى أنه أخبر بخبرٍ يتعلّق بالله، أو بخبرٍ يتعلَّق بيوم القيامة، أو بالجنة، أو بالنار، وجب علينا أن نؤمن به إذا صحَّ. أمَّا ما يُروى من الإسرائيليات فقد يكون صحيحًا وقد لا يكون. واعلم أن شريعتنا في الأحكام بالنسبة لمن سبق على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما ردت شريعتنا بخلافه فهذا لا نعمل به؛ لأن شريعتنا ناسخة الأديان، مثال ذلك: القصاص في النفس والأطراف كان في التوراة واجبًا مفروضًا، ولا عفو، لكن في الشريعة الإسلامية كان مخيَّرًا فيه، فَنتْبَع القرآن.
القسم الثاني: ما ورد شرعنا بوفاقه فإننا نعمل به اتِّباعًا لشريعتنا المصدِّقة لما سبق من الشرائع، ولا نخالفه، وهذا كثير، مثل الطيبات، أحل الله الطيبات لنا ولغيرنا، لكن حَرَّم على بني إسرائيل بعض الطيِّبات بسبب ظلمهم.
القسم الثالث: ما لم يرد في شرعنا له وفاق ولا خلاف. هذا محل نزاع بين أهل العلم، وبحثه موجودٌ في أصول الفقه،
فمن العلماء من قال: إنه شرعٌ لنا، ومنهم من قال: إنه ليس بشرع، والصحيح أنه شرع لنا، لدلالة شرعنا عليه. قال الله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13].
وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] .. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا كان يُسند الحكم إلى أنه فعله أخي فلان من الأنبياء، وما أشبه ذلك، والمعنى يقتضي ذلك أيضًا، لأنه لولا أن لنا فائدة من قصص الأنبياء السابقين -ومن الفوائد أن نعتبر ونعمل بما عملوا- لم يكن لذكر هذه القصص شيء من الفائدة كثير.
وقوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} في الإيمان؛ لأنهم رسلٌ صادقون فيما أخبروا به، واجبٌ اتباعهم فيما أمروا به أو نهوا عنه، لكن بالنسبة لنا لا يجب علينا متابعتهم في الأحكام على التفصيل الذي سمعتم.
قال: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} :
الضمير يعود على الله {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ} لأنه الأصل في سياق هذا الكلام، وكل ما بعدها معطوف عليها، فلو قال قائل: لماذا لا تجعل الضمير يعود على (أحد) في قوله {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} لأنه أقرب مذكور، أي ونحن لهذا الأحد مسلمون؟ قلنا: لا يستقيم الكلام؛ لأن أصل الكلام مداره على أول جملة فيه {آمَنَّا بِاللَّهِ} فيكون مرجع الضمير {وَنَحْنُ لَهُ} إلى الله عز وجل. يعني: ونحن لله مسلمون، أي: مستسلمون ظاهرًا وباطنًا،
بالقلب، واللسان، والجوارح. فهو المستحق لذلك وحده لا شريك له، لأن من لم يستسلم لله استسلم لغيره، ولابد أن ننتبه لهذه القاعدة المفيدة: من لم يستسلم لله استسلم لغيره ولابد. إما أن نستسلم لله، وننقاد لأمره، وإلا فإنك سوف تستسلم لهواك وتنقاد لهواك، وهواك تابعٌ للشيطان، فتكون مستسلمًا للشيطان؛ لأن كل إنسان لابد له من إرادة وهمة، ولا يوجد أحد يخلو من إرادة أبدًا، كلٌّ له إرادة، فإما أن يكون مرادك مرضاة الله عز وجل، فتستسلم له أو مرضاة نفسك فتستسلم للهوى والشيطان.
وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} قدم المُتعلِّق على المتعلَّق لإفادة الحصر، يعني ونحن له لا لغيره مسلمون. ولهذا نقول: إن المؤمن إذا تعارض عنده أمر الله وأمر الخلق قدم أمر الله مهما كان الآمر، حتى أبوك وأمك، لو أمراك بخلاف أمر الله فقدِّم أمر الله.
لو قالت لك أمك: يا بني لا تخرج لصلاة الفجر، فالمسجد بعيد، ويُخشى عليك من كلب، لا تذهب للمسجد .. فلا تُطاع.
ولو قال أبوك: يا بُني لا تطلب العلم، فهل الإنسان يمتثل أمر أبيه في هذه الحال؟ . لا.
ومن أحسن ما رأيت في هذا الموضوع ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله: "إنه لا تجب طاعة الوالدين في ترك أمرٍ ينفعك ولا يضرُّهما" .. هذا كلام جيد يُكتب بماء الذهب، فكل شيءٍ ينفعك ولا يضُرُّ والديك فإنه لا تجب طاعتهما فيه. كما لو طلبتَ العلم.
ولا يرد على هذا مسألة الجهاد -أن بر الوالدين أفضل من الجهاد- لأن الجهاد فيه تعريض للنفس بالقتل، والقتل يُقلق راحة الوالدين.
وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} مستسلمون شرعًا وقدَرًا، لكن الاستسلام القدري لا مدح فيه، لأنه سيكون سواء قلته أم لم تقله، لكن يُحمد على الصبر عليها؛ لأن الصبر على المصائب استسلامٌ شرعي.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
وجوب الإقرار بالإيمان باللسان، كما هو واجب بالقلب؛ لأن قوله:{قُلْ} يعني باللسان المعبر عما في القلب، وإن الخطاب الموجَّه للرسول صلى الله عليه وسلم خطابٌ له وللأمة في قوله:{قُلْ آمَنَّا} ولم يقل: (قل آمنت) فهذا له وللأمة.
2 -
أن الإيمان بالله هو أصل كل شيء، مقدّم على كل شيء؛ لقوله:{آمَنَّا بِاللَّهِ} ، وجعل ما بعده معطوفًا عليه.
3 -
وجوب الإيمان بما أنزل علينا، وهو القرآن، يجب الإيمان به تصديقًا بالخبر، وامتثالًا للأمر، واجتنابًا للنهي؛ لأنه شريعة ومنهاج لنا.
4 -
وجوب الإيمان بما أنزل على الرسل السابقين؛ لقوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} إلى آخره. ولكن الإيمان بما أُنزل إليهم هو التصديق بما جاءت به هذه الكتب من الأخبار، وأما الأحكام فإن ما خالف شرعنا ليس شرعًا لنا بالاتِّفاق، وما وافق شرعنا هو شرع لنا بالاتفاق، لثبوته بشرعنا، وما لا هذا ولا هذا، ففيه خلاف بين العلماء، والصواب أنه شرع لنا.
5 -
ثبوت نبوَّة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} .
6 -
وجوب الإيمان بالأسباط، وقد سبق لنا أن القول الراجح أن المراد بهم شعوب بني إسرائيل، أي ما أُنزل عليهم بواسطة رسلهم.
7 -
وجوب الإيمان بما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم، من الآيات الكونية التي يُسميها بعض العلماء (المعجزات)، ومن الآيات الشرعية التي هي الشريعة التي يمشي عليها هؤلاء، فنؤمن بما أتوا، لكن العمل بالشرائع السابقة تقدم حكمها.
8 -
ثبوت نبوَّة موسى وعيسى؛ لقوله: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} .
9 -
أنه يجب علينا أن نؤمن بكل الأنبياء إجمالًا؛ لأنه خصَّص ثم عمَّم.
10 -
أن هذا الدين الإسلامي ليس فيه عصبية، ولا يجوز أن يتخذ الإسلام منه عصبية؛ لقوله:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} .. بخلاف ما يسلكه بنو إسرائيل حيث لا يؤمنون إلا بما جاء عن أنبيائهم فقط. أما هذا الدين الإسلامي فـ {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} ، كلهم عندنا رسل الله، لكن نفرِّق في العبادات، لا نتعبَّد إلا بما أُمرنا بالتعبد به، ويُذكر أن شخصًا حاجَّ عالمًا من علماء المسلمين، فقال له: لماذا تُجيزون لأنفسكم أن تتزوَّجوا ببناتنا، ولا تُجيزون لنا أن نتزوَّج ببناتكم، فقال له العالم: لأننا نؤمن برسولكم ولا تؤمنون برسولنا، فألقمه حجرًا.
11 -
وجوب الاستسلام لله عز وجل وحده؛ لقوله: {وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ}. ووجه التخصيص تقديم المتعلِّق على المتعلَّق. والمتعلِّق معمول للمتعلَّق، وتقديم المعمول يُفيد الحصر. إذن في قوله:{وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139] فائدتان: إخلاص الإسلام لله، ووجوب الإسلام له.
12 -
أن لا نستسلم لأحد استسلامًا يُخالف الاستسلام لله. ووجه الدلالة أن هذا هو فائدة الاختصاص؛ أن لا نستسلم لأحد إلا لله. فإذا جاءنا أمر من مخلوق يخالف أمر الله فإننا لا نستسلم له؛ لأننا لو استسلمنا له لم نكن أخلصنا الاستسلام لله عز وجل.
13 -
أنه ينبغي للإنسان أن يشعر في كل حياته العملية -قولًا كان أو فعلًا أو تركًا- أنه مستسلم لله حتى يستفيد من العمل. عندما أتوضَّأ أشعر بأنني أُنفِّذ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] هل أنت أيها المسلم تستشعر هذا؟ الله أعلم لكن يغيب عن كثير من الناس هذا الأمر، لا يشعر الإنسان حينما يتوضَّأ، ويغسل وجهه ويديه، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه، أنه يمتثل لأمر الله أبدًا.
ولذلك ينبغي أن نستشعر في هذه الحال أمرين: امتثال أمر الله، واتِّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني تشعر وأنت تغسل وجهك كأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمامك يغسل وجهه، لتكون متَّبعًا له، وكذلك نقول في الصلاة والزكاة والصيام والحج، وغيرها. المهم أن نستشعر أو نُشعر أنفسنا أننا نفعل ذلك امتثالًا لأمر الله، واتِّباعًا لرسوله صلى الله عليه وسلم، حتى نحقِّق شرطي العبادة في كل عمل.
• ثم قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
(من) شرطية، و {يَبْتَغِ} مكسورة، مجزومة بحذف حرف الياء؛ لأن أصلها (يبتغي).
وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} :
{غَيْرَ} : مفعول يبتغِ، و {دِينًا}: يصح أن تكون مفعولًا ثانيًا، أي:(من يطلبه دينًا)، أو تكون تمييزًا (لغير) المبهمة؛ لأن (غير) اسم مبهم. و (يبتغي): بمعنى يطلب.
وقوله: {غَيْرَ الْإِسْلَامِ} المراد بالإسلام هنا: الإسلام الخاص وهو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان الإسلام في الأصل يُطلق على: الاستسلام لله في كل زمانٍ ومكان، وكما ذُكِر عن الأنبياء السابقين أنهم يُطلقون الإسلام:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]، والآيات في هذا كثيرة، أن الرسل وأتباعهم مسلمون، ولكن هذا هو الإسلام العام، أما بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل ما يُسمَّى إسلامًا فهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقط.
إذن {غَيْرَ الْإِسْلَامِ} أي: غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأننا نقول: المراد بالإسلام هنا الإسلام الخاص الذي هو شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
{دِينًا} : أي عملًا يَدين به الله، ويرجو أن يُدان به بالثواب من عند الله؛ لأن الدين يُطلق على الجزاء والعمل. ففي قوله تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون] المراد به العمل، وفي قوله:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17، 18] المراد به الجزاء، وفي قوله هنا:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} المراد به العمل.
لكن الدين لا يكون إلّا في عمل يرجو الإنسان ثوابه، أي يرجو أن يُدان به، ولهذا يُقال:"كما تُدين تُدان".
وقوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} :
الفاء رابطة للجواب {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} : أي ذلك الدين.
لم يقل: (فلن يقبل الله منه)، ليعم الرفض والرد من الله عز وجل، ومن الرسول، ومن المسلمين، ولهذا لا يجوز للمسلمين أن يُقِرُّوا أحدًا على دين خلاف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالقبول هنا قبول الصحة، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"
(1)
، أي: مردود.
فمن دان بغير الإسلام، سواء في الأصل أو في الفرع، فإن دينه هذا مرفوض، ومردود، ولن يُقبل منه، ولا يُعطى ثوابًا في الآخرة على عمله.
ولهذا قال: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} : وهذه والله هي الخسارة العظيمة، أن يعيش الإنسان في الدنيا ما شاء الله أن يعيش ثم لا يكتسب ما ينفعه في الآخرة، فإذا قدم إلى ربه لم يجد شيئًا كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39]، (القيعة) يعني: الأرض المستوية الواسعة، هذه الأرض إذا كانت في شدة الحر يتراءى للإنسان من بعيد أن فيها ماء يسمى (السراب)، فإذا جاء الإنسان ظمآنًا رأى هذا السراب
(1)
رواه مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد المحدثات من الأمور، رقم (1718).
الذي كأنه ماء بحر، فرح، وأسرع إليه، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، فصارت خيبة الأمل بعد قوة الرجاء. وهذا أشد ما يكون حسرة على الإنسان، أن تكون خيبة أمله عند قوة رجائه؛ لأن الإنسان لو لم يرجُ من الأصل لهان عليه الأمر، لكن المشكلة كونه يرجو ثم ينتكس، هذا يكون أشد. نسأل الله العافية. {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] .. كل من لم يَدِن بالإسلام فإنه في الآخرة خاسر .. {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].
وقوله: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} يشمل خسارة النفس، وخسارة المال، وخسارة الأهل.
أما خسارة النفس فإنه لن يستفيد من عمله شيئًا، وأما خسارة المال فإنه لو أنفق ماله كله فيما ينفع الخلق، لم ينتفع به في الآخرة، أي لو أصلح الطرق، وبنى المساجد، وبنى المدارس، فإنه لا ينفعه، أظنكم لا تتوقَّعون أن يكون هذا من الكافر الصريح أن يبني المساجد والمدارس، لكن يكون من الكافر المرتد، فرجلٌ مثلًا لا يُصلِّي لكنه صاحب خير، يبني المساجد، ويبني المدارس ويُصلح الطرق، ويُطعم المساكين، لكنه لا يُصلِّي، لا ينتفع بشيء من هذا العمل لأنه كافر، والكافر لن ينفعه عمله يوم القيامة أبدًا.
وخسارة الأهل أنهم لا ينتفع بهم في الدنيا، لو دعَوا له لم ينتفع بذلك؛ لأن الله يقول:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] ولا ينتفعون بالدعاء. كذلك في
الآخرة لا ينتفعون بأهليهم؛ لأن كل واحدٍ منفصلٌ عن الآخر، في نار جهنم، بخلاف المؤمنين:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] .. لو كان لك ذرية وتكون في الدرجة الخامسة، وأنت في الدرجة السابعة، تُرَقَّى الذرية من الخامسة إلى السابعة، ولا تُنقَصُ أنت شيئًا، لا يُقال: انزل درجة وهم يرقون درجة وتكونون في السادسة.
فالله يعامل بالفضل عز وجل، ولهذا قال:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} ، لأنه ربما يتوهم متوهم أنه إذا رُقِيت الذرية نقص ثواب الآباء، فقال:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] ولو أننا نزَّلنا الآباء ما صار العامل رهينًا بما كسب.
قوله: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .. الواو معطوفة على جواب الشرط، يعني: ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فإنه يترتَّب عليه شيئان: الأول الرد وعدم القبول، والثاني أنه خاسر في الآخرة، لأنه يعمل عملًا لن ينفعه.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بطلان كل عمل ليس على دين الإسلام؛ لقوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .
2 -
أن جميع الأديان غير دين الإسلام غير مقبولة عند الله، ولا نافعة للمتدين بها؛ لعموم قوله:{غَيْرَ الْإِسْلَامِ} ، فيشمل دين المسيحية، ودين اليهودية، ودين البوذية، ودين المجوسية، وكل دين، فإن الله لا يقبل غير الإسلام.
3 -
الثناء على دين الإسلام، وأنه هو المقبول المحبوب
إلى الله، ويؤخذ هذا من المفهوم؛ لأن المفهوم من قوله:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ، أن من ابتغى الإسلام دينًا يقبل منه.
4 -
أن هؤلاء الذين يدينون بدين غير الإسلام يُتعبون أبدانهم، ويهلكون أموالهم، وربما يموتون جوعًا وعطشًا وحرًا وبردًا في الدعوة إلى غير دين الإسلام، كالذين يسمونهم المبشرين، وهم في الحقيقة منصِّرون مضلِّلون، هؤلاء ينفقون أموالًا كثيرة، ويتعبون تعبًا عظيمًا، ويتعرضون للهلاك، وكل هذه الأعمال نتيجتها هباء:{وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، قال الله تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، لا يستفيدون منها إطلاقًا لأنها على غير شريعة الله، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]، يغلبون إذا قام المسلمون بما يجب عليهم من نصرة دين الإسلام، ولهذا نأسف أن النصارى لهم هذا النشاط في دعوتهم إلى الضلال، والمسلمون نشاطهم لا يبلغ ولا عشر معشاره مع أنهم على حق. ولكن الحق لابد أن ينتصر ولو بعد حين.
5 -
إثبات الآخرة؛ لقوله: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وفيها أن الآخرة فيها خسارة وربح أعظم من خسارة الدنيا وربحها، قال الله تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9]، ليس التغابن الدنيا أن يكون عند الرجل قصور، وسيارات، ونساء، وأولاد، وحشم، وخدم، والآخر ليس له إلا
ثوب يكسو عورته. هذا ليس بغبن في الحقيقة، الغبن يوم القيامة حينما يُحشَر المتقون إلى الرحمن وفدًا ويُساقُ المجرمون إلى جهنم وردًا، هذا الغبن العظيم، وهذه الخسارة العظيمة. ولهذا يجب أن نعلم أن الخسران المبين هو خسارة يوم القيامة:{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].
* * *
قال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86]:
{كَيْفَ} استفهام بمعنى الاستبعاد، أي: يَبعُد جدًّا -إن لم يمتنع- أن يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم، يعني: ارتدُّوا بعد أن آمنوا، وعرفوا الحق، فإن هدايتهم بعيدة، وذلك لأن من عرف الحق ثم ارتد عنه، فهو أعظم جرمًا ممن لم يعرف الحق، ولم يدخل فيه وبقي على كفره، ولهذا نقول: الكافر المرتد أعظم من الكافر الأصلي في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا يترك الكافر الأصلي على دينه، ولا يُجبر على تركه، لكن المرتد لا يُقرُّ على ردته، بل يُجبر على أن يعود إلى الإسلام أو يُقتل؛ لقول
النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدَّل دينه فاقتلوه"
(1)
.
فالله عز وجل يقول: يبعد أن يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم، أما من كانوا على الكفر أصلًا فما أكثر الذين اهتدوا بعد أن كانوا على الكفر وشهدوا أن الرسول حق.
{الرَّسُولَ} (ال) للعهد الذهني؛ لأنه لم يسبق له ذكر لكنه معلوم ذهنًا، وبالمناسبة نقول: إن (العهدية) تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
فالعهد الذكري: أن تكون داخلة على ما سبق ذكره.
والعهد الحضوري: أن تكون داخلة على شيء حاضر.
والعهد الذهني: أن تكون داخلة على شيء معلوم في الذهن.
فمثلًا: قوله تعالى: {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} المراد به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} معناه: أن يتوقع أن يُهدون، وهذا لا يمكن بعد نزول القرآن إلا أن يكون الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ونقول مثلًا: وأنت في البلد جاء القاضي، أي قاضٍ هو؟ قاضي البلد المعروف.
العهد الذكري: أن تدخل على شيء قد سبق ذكره، مثل: قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16]. المراد بالرسول: الرسول الأول الذي أُرسل إلى فرعون وهو موسى. وهنا العهد ذكريّ.
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله، رقم (3017).
والعهد الحضوري: أن تكون داخلة على شيء حاضر، وهذه أكثر ما تكون في (ال) الواقعة بعد اسم الإشارة للحضور، للعهد الحضوري؛ لأن الإشارة تدل على المشار إليه. والمشار إليه يكون حاضرًا، فنقول:(هذا اليوم شديد الحر) أي اليوم الحاضر.
وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] اليوم يعني اليوم الحاضر. وقسيمة لـ"أل" العهدية هي (ال) الجنسية. (ال) الجنسية تكون لبيان الحقيقة، ولبيان استغراق الحقيقة. فإذا قلت: الرجال أكمل من النساء، هذه لبيان الحقيقة (الجنس)؛ جنس الرجال أفضل من جنس النساء. ولا يعني أن كل واحدٍ من الرجال أكمل من كل امرأة من النساء. ففي النساء من هي خير من كثير الرجال.
وتكون للعموم مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] يعني كل إنسانٍ، وهذه علامتها أن يحل محلها (كل) بتشديد اللام.
{وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} :
حق ثابتٌ صادقٌ فيما أخبر، عادلٌ فيما حكم به صلى الله عليه وسلم.
{وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} :
يعني: الآيات البينات التي تُبيِّن صدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والبينات مؤنث، ولم يؤنَّث فعله لوجهين:
الوجه الأول: أن تأنيثه غير حقيقي.
الوجه الثاني: أنه فصل بينه وبين الفعل.
وقد جاء في القرآن مؤنثًا: {جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 213]، لأنه يجوز هذا وهذا.
وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} :
الجملة استئنافية، وهي كالتعليل لما قبلها من حيث المعنى، كأنه يقول: إنما لا يهديهم الله لأنهم ظلمة. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . الذين ظلموا أنفسهم حيث بان لهم الحق، واتَّضح وجهه، ومع ذلك كفروا.
"وشهدوا" معطوفة على كفروا، ولكن يُحتمل معنى آخر، وهو أن تكون للحال، يعني: وقد شهدوا أن الرسول حق، وكفروا بعد إيمانهم.
ثم قال: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [آل عمران: 87]:
{أُولَئِكَ} : أي المشار إليهم، وهم الذين كفروا بعد إيمانهم، وشهدوا أن الرسول حق، وجاءهم البينات، وأتى بصيغة الإشارة على وجه البعد إشارة إلى انحطاط مرتبتهم؛ لأن الإشارة إلى القريب بصيغة البعد قد تكون إشارة إلى علو المرتبة، وقد تكون إشارة إلى انحطاط المرتبة، وهنا إشارة إلى انحطاط مرتبتهم، فهم لانحطاط مرتبتهم بعيدون، يُشار إليهم إشارة البعد.
{جَزَاؤُهُمْ} : مكافأتهم على عملهم. {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ} : (على) تُفيد أن اللعنة أتتهم على وجه الاستحقاق، ومن أمر عالٍ؛ لأنها لعنة الله، ولعنة الله هي طرده وإبعاده عن رحمته، أي: أنه سبحانه وتعالى طردهم وأبعدهم عن رحمة الله.
و(لعنة الملائكة) الملائكة: جمع مَلَك وأصله (مألك) وهي من (الألوكة) وهي الرسالة، لكن صار فيه إعلال بالقلب، يعني قلب المكان وليس قلب الحرف، وذلك بأن قُدِّمت اللام وأُخرت
الهمزة، وصار (ملأك) .. وجمع (ملأك) ملائكة، ثم سُهِّل وقيل (ملك) بدل (ملأك).
والملائكة هم: جنس من المخلوقات، عالم غيبي، خلقهم الله تعالى من نور وجعلهم صُمْدًا، لا يأكلون ولا يشربون. وإذا لم يأكلوا، ولم يشربوا، فهم لا يبولون ولا يتغوَّطون، ولهذا وصفهم الله بأنهم مطهَّرون، فقال:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79].
{وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} الناس هم بنو آدم وأصلها (أناس) فحُذِفت الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال، وقوله:{أَجْمَعِينَ} توكيد لما قبلها مباشرة، أو لما قبلها وما قبل الذي قبلها؟ للجميع، الملائكة أجمعين، والناس أجمعين.
{خَالِدِينَ فِيهَا} : حال يعني: خالدين في هذه اللعنة، ماكثين فيها، إما على سبيل الأبد، وإما على سبيل المكث الطويل؛ لأن الخلود كما قال أهل اللغة يُستعمل في المكث الطويل ويستعمل في المكث الدائم، ولكن هنا يُراد به (الدائم)، لأن هؤلاء كفرة، والكفرة خالدون خلودًا دائمًا في العذاب "لا يُخفَّف عنهم العذاب" يعني. التخفيف ضد التثقيل، أي: لا يمكن أن يُهوَّن عليهم العذاب يومًا واحدًا، ولهذا قال الذين في النار لخزنة جهنم:{ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49]. طلبوا دعاء الملائكة ليكونوا واسطة بينهم وبين الله، ثم مع ذلك لم يقولوا:(ادعوا ربنا)، قالوا:(ادعوا ربكم) من شدة خجلهم وانكسارهم أمام الله، ثم قالوا:{يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49] ولم يطلبوا الإنقاذ من العذاب مطلقًا، ولم يطلبوا أن
يخفف عنهم العذاب دائمًا؛ لأنهم عارفون أنهم مخطئون بل خاطئون، ولذلك طلبوا أن يُخفف عنهم العذاب يومًا واحدًا، ولكن لن يكون ذلك.
ولهذا قال: {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} العذاب: العقوبة.
{وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} : أي يُمهلون ويؤخرون، بل يُبادرون بالعذاب.
وتأمل قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الزمر: 71]. وقال في أهل الجنة: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73](جاءوها وفتحت) فصار هناك فرق بين هؤلاء وهؤلاء؛ لأن أهل النار يُبَادرون لفتحها فيقابلهم العذاب أول ما يقدمون عليها.
وأما أهل الجنة فإنهم إذا وصلوا إلى الجنة وقفوا على قنطرة بين الجنة وبين النار، فيُقتص لبعضهم من بعض، اقتصاصًا خاصًّا، غير الاقتصاص الأول الذي يكون في عرصات القيامة من أجل أن يزال ما في قلوبهم من الغل والحقد، حتى يدخلوا الجنة وهم على أصفى ما يكونون من المودة، إخوانًا على سررٍ متقابلين.
ولهذا نقول في الواو هنا: إنها (عاطفة على جواب الشرط المحذوف) حتى إذا جاءوها حصل كيت وكيت، وفُتحت أبوابها. وليست زائدة كما قيل به، ولا واو ثمانية كما قيل به أيضًا، بل هي واو عاطفة على الوجه المعتاد والمعطوف عليه محذوف.
{وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي: لا يُمهلون ويؤخر عنهم العذاب،
بل يُبادرون به، بل إنهم يُبادرون به قبل أن تقوم الساعة. كما قال الله تعالى في آل فرعون:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].
بل إنهم يُبادرون بالعذاب قبل أن يموتوا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50] .. ويوبَّخون قبل أن يموتوا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]. وتأمل قوله: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} إنهم والله لأشحاء في هذه الأنفس، أشحاء؛ لأن النفس إذا بُشرت بالعذاب نكصت واشمأزَّت ورجعت في الجسد (أخرجوا أنفسكم) أعطونا إياها إلى العذاب:{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93] .. فما بالكم والعياذ بالله بهذه البشارة السيئة القبيحة في حال الخروج من الدنيا، ومفارقة الأهل، والأموال، والأوطان، إنها لساعة حرجة نعوذ بالله، ونسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، فهم لا يُمهلون، ولا يُنظرون في العذاب من حين أن يأتيهم الأجل إلى أبد الآبدين. نسأل الله لنا ولكم العافية.
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 89]:
اللهم لك الحمد، رحمة الله سبقت غضبه. هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق، وجاءتهم البيِّنات،
وقامت عليهم الحجة من كل وجه، إذا تابوا إلى الله تاب الله عليهم. {الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} .
{تَابُوا} أي: رجعوا إلى الله. فالتوبة هي الرجوع إلى الله من معصيته إلى طاعته. ومن الهرب عنه إلى اللجوء إلى بابه، وللتوبة خمسة شروط:
الشرط الأول: الإخلاص لله. بأن يقصد الإنسان بتوبته وجه الله، وأن يتوب عليه ويتجاوز عنه، لا أن يقصد بتوبته مراءاة الخلق أو شيئًا من أمور الدنيا؛ لأن التائب قد يريد مراءاة الخلق، ليعلم الناس أنه تاب ورجع، فيمدحوه على ذلك. هذا لا تنفعه التوبة ولا تُقبل منه. أو يقصد بتوبته شيئًا من أمور الدنيا، يسمع أن الله يقول:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] وهو يريد زوجة، يقول: لعلي أتَّقي الله حتى يُيسِّر الله لي زوجة، هذه التقوى أو التوبة ضعيفة جدًّا، ولهذا قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد -باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا-:"فهذه إرادة نازلة، لكنها ليست كالأول. الأول يريد أن يتقرَّب إلى الناس بما يتقرب به إلى الله، وهذا شيء عظيم أن يجعل ما لله للخلق، أما هذا فأراد أن يتقرب إلى الله من أجل أن ييسِّر له شيئًا من أمور الدنيا، والآخرة هو في غفلة عنها" .. إذن هذا الذي أراد بالتوبة أحد الأمرين: توبته مردودة عليه بالنسبة للأول الذي أراد الرياء، وضعيفة جدًّا بالنسبة للثاني.
الشرط الثاني: الندم على ما فعل من الذنب، والندم أشكل على بعض الناس، ولكنه في الحقيقة لا إشكال فيه إطلاقًا؛ لأن
معنى الندم أن يشعر الإنسان بالحسرة على ما فعل، لا أن يكون الفعل أو عدمه عنده سواءً.
الشرط الثالث: أن يقلع عن المعصية في الحال، فإن كانت لله، فإمَّا أن تكون ترك واجب أو فعل محرم، فإن كانت فعل محرم أقلع عنه، أي فارقه حتى لو كانت شربة الخمر في فمه، وجب عليه أن يمجَّه، وإن كانت للمخلوق فلابد أن يُعطيه حقه أو يتحلله منه إن كان ماليًا أو بدنيًا أو عرضًا علم صاحبه.
بدنيًا: مثل الضرب، ماليًّا: مثل أخذ المال أو جحد مال يجب عليه لشخص، عرضًا: مثل الغيبة.
هذه إن كان الذي جُنِيَ عليه قد علم بالغيبة، فلابد من استحلاله، وإن لم يعلم فلا حاجة إلى إخباره، ثم استحلاله؛ لأنه ربما إذا علم لا يُحِل، ولكن بدل أن دنَّس سمعته في مجلس من المجالس، يمدحه بما فيه في نفس ذلك المجلس؛ لأن الحسنات يُذهبن السيئات.
وإذا كان لله، إن كان فِعْلَ محرَّم فلابد أن يُقلع عنه، وإن كان ترك واجب وجب عليه أن يتلافاه إن كان يمكن تلافيه، وإن كان لا يمكن سقط.
مثال: رجل غصب أرضًا وجعل فيها زرعًا، وفي أثناء وجوده فيها تاب إلى الله، فمشيه داخلها مشي في معصية، وبقاؤه إن بقي معصية، فماذا يفعل؟
قال العلماء: إن مشيه خارجًا منها ليس بمعصية؛ لأنه خروج للتخلص من المعصية. والتخلص من الشيء لا يعطى حكم الشيء، ولهذا لو أن المُحرم تلطَّخ بطيب وأراد أن يغسله فلابد
أن يُباشره، ومباشرته للطيب عند غسله جائزة؛ لأنه يريد أن يتخلص منه.
كذلك الاستنجاء، الإنسان إذا أراد أن يستنجي يُباشر النجاسة بيده، وهذه المباشَرة مباشرة جائزة؛ لأنها من أجل التخلص من هذه النجاسة وإزالتها.
وكذلك الذي تاب من الأرض المغصوبة وكان في وسط الأرض، ومشى، فنقول: هذا المشي طاعة؛ لأنك إنما مشيت من أجل التخلُّص.
الشرط الرابع: أن يعزم على ألا يعود. فإن تاب وهو لم يعزم على عدم العود فإن توبته لا تصح، كرجل من عادته أن يسهر في شرب الخمر في أماكنها -والعياذ بالله-. وفي ليلة من الليالي صارت السماء ممطرة وجاء إلى المكان، فوجده مغلقًا فقال:"تبت"، لكن من نيته أنه إذا كانت القابلة صحوًا، وفتح المكان، فسيحضر ويشرب الخمر. هذا ليس بتائب، هذا أقرب أن تكون توبته سخرية.
ورجل أراد أن يتوب من الغيبة وهو مع أصحابه الذين يأكلون لحوم عباد الله -والعياذ بالله-، فقال أحدهم:"أستغفر الله وأتوب إليه، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" يا فلان ما تقول بفلان؟ فهذا توبته غير صحيحة لأنه لم يقلع، ولو أقلع في حال قوله: أستغفر الله وأتوب إليه، فهو لم يعزم على ألا يعود بدليل أنه من حين قال هذا الكلام قال: ما تقولون في فلان؟ هذا الرجل لم يتب توبة حقيقية؛ لأنه لم يعزم ألا يعود.
ولو تاب حقًا ثم سوَّلت له نفسه فيما بعد فعاد، هل تبطل التوبة الأولى أو لا؟ لا تبطل التوبة الأولى، لكن يحتاج إلى توبة جديدة للعودة الأخيرة، أما التوبة الأولى فقد تمت. ولهذا نقول الشرط: العزم أن لا يعود، لا أن لا يعود، لو أنه عاد وتاب توبة نصوحًا ثم عاد، يتوب، ثم عاد، يتوب. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا كان يذنب ذنبًا فتاب منه، ثم أذنب ذنبًا فتاب منه، ثم أذنب فتاب، فقال الله تعالى:"علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به، قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء"
(1)
لأن هذا الرجل كان مخلصًا، ولكن هذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لا ينطبق على كل تائب، إنما أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام عن رجل حصل منه هذا الشيء ولكن لا يحصل لكل تائب.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت القبول. فإن انقطع وقت القبول فلا توبة. وانقطاع وقت القبول نوعان: عام، وخاص. فالخاص: حضور الأجل لكل إنسان بعينه. والعام: طلوع الشمس من مغربها، فإذا حضر الأجل فإن التوبة لا تنفع؛ لقول الله تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18] وإذا كان هذا الشرط محققًا، دلَّ هذا على أن التوبة واجبة على الفور؛ لأن أحدًا لا يعلم متى يأتيه الموت. فإذا كنت لا تعلم متى يأتيك الموت، لزم من ذلك أن تبادر بالتوبة، وأن يكون دائمًا على بالك
(1)
رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ. . .} ، رقم (7507). ورواه مسلم، كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، رقم (2758).
أنك تائب إلى ربك، وراجع إليه، حتى إذا قدر أن الأجل أتاك بغتة، إذا أنت على أتم الاستعداد. نسأل الله أن يقينا من غفلة القلوب.
القلوب غافلة لا تحتسب لهذا الشيء حسابًا. والواجب أن الإنسان يحسب لهذا الشيء حسابه، يكون دائمًا على ذكر التوبة، ولهذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يستغفر الله أكثر من سبعين مرة، ويتوب إليه أكثر من سبعين مرة
(1)
.
أما العام فهو طلوع الشمس من مغربها؛ لأن الشمس هذه تدور بإذن الله منذ خلقها الله إلى أن يأذن الله بوقوفها. والعجيب أنها لا تتقدم ولا تتأخر. انظر إلى طلوعها مثلًا اليوم الثاني من برج السنبلة؛ تطلع في الساعة كذا، الدقيقة كذا، هذا اليوم نفسه من مئات السنين السابقة وهي تطلع عليه على هذا القدر من الساعات والدقائق، لو أحصيت منذ علم الناس التاريخ لوجدت أنها لم تختلف إلى يوم القيامة، وهي إذا غربت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى:"إذا غربت تسجد تحت العرش تعظيمًا لله عز وجل، وتستأذن هل تخرج وإلا ترجع، إما أن يؤذن لها وإما أن يقال: ارجعي من حيث جئت، فترجع من حيث جاءت وتخرج من مغربها فإذا رآها الناس آمنوا كلهم"
(2)
كلهم يؤمنون، لأنهم حينئذ يعلمون أن لها ربًّا مدبرًا سبحانه وتعالى وكانوا قبل ذلك يظن بعضهم أن هذا طبيعة تسير العالم على هذا النظام، ولكن كما قال الله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ
(1)
رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة، رقم (6307).
(2)
رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر، رقم (3199).
رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]، لا ينفعهم الإيمان؛ لأن هؤلاء آمنوا كإيمان الذين نزل بهم العذاب، والله تعالى يقول:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 84، 85].
فتبين أن شروط التوبة إذن خمسة، وقد قال بعض العلماء إنها ثلاثة، فأسقطوا الإخلاص، وأسقطوا أن تكون في وقت القبول، ولكن لابد من هذين الشرطين.
قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} (إلا) أداء استثناء، والذين مستثنى. والأصل في المستثنى أن يكون من جنس المستثنى منه. وإن خرج عن جنسه فهو على خلاف الأصل. ولابد من دليل يدل على أنه ليس من الجنس، ويسمى المستثنى الذي من غير الجنس استثناء منقطعًا. لكن الاستثناء هنا متصل قال:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} هذا مستثنى من قوله: {كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} يعني إلا الذين تابوا من بعد الكفر بعد الإيمان، يعني فإن الحكم يختلف فيهم. والتوبة كما أسلفنا الرجوع من معصية الله إلى طاعته.
قال: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} المشار إليه ما سبق من الكفر. وأتي بإشارة البعيد لانحطاط مرتبته؛ لأن البعد قد يكون من عال وقد يكون من نازل، فإن كان البعد من عال، أشير إليه إشارة البعيد لعلوه فهو ثناء، وإن كان أشير إليه إشارة البعيد لدنوه وسفوله فهو قدح.
قال: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} : يعني أصلحوا ما جرى، أو ما كان فعلهم سببًا في فساده، يعني أصلحوا ما أفسدوه مباشرة أو
تسببًا. فمثلًا إذا كان هؤلاء أئمة قادة، لمَّا كفروا كفر من يتبعهم، فإن توبتهم لا تكفي حتى يصلحوا ما فسد على أيديهم، وذلك بمحاولة إرجاع الذين كفروا تبعًا لهم إلى الإيمان. إذا كان الإنسان كفر بكتابة ما يخالف الدين، فلا يكفي أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، ولن أعود إلى كتابة ما يخالف الدين، حتى يصلح ما أفسد بأن يكتب ردًّا على ما كتب أولًا؛ لأن المفاسد المتعدية لابد فيها من إصلاح، ولهذا قال:{مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} والجواب هنا قد يبدو غير مطابق لما سبق؛ لأنه قد يتوقع السامع أن يكون الجواب فإن الله يتوب عليهم، ولكن الجواب كان ثناءً على الله باسمين من أسمائه وهما الغفور والرحيم، قال:{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ولكن يؤخذ من هذين الاسمين أن هؤلاء الذين تابوا وأصلحوا يغفر الله لهم؛ لأن مقتضى هذين الاسمين يعمهم فيغفر الله لهم ويرحمهم، الغفور هو من يغفر الذنوب. ومغفرة الذنوب هو سترها والتجاوز عنها. والرحيم هو من يرحم العباد. والرحمة صفة تقتضي الإحسان والإنعام. وفي الجمع بين الغفور والرحيم زيادة معنى على ما يتضمنه الاسمان، وهو أن الله تعالى قد جمع بين المغفرة التي بها زوال المكروه، وآثار الذنب، والرحمة التي بها حصول المطلوب وهو النعمة والإحسان. إذن إذا تابوا وأصلحوا غفر الله لهم.
من فوائد الآيات الكريمة:
من فوائد قوله عز وجل: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} :
1 -
أن من ضلَّ عن بصيرة فإنه يبعد أن يُهَدَى -نعوذ بالله- لقوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} .
2 -
أن من فسق عن بصيرة فإنه يبعد أن يكون من العدول. فإذا قيل لشخص: هذا حرام وهو مسلم، وبُيِّن له الحق، ثم عصى واستمر على فسقه، فإنه يبعد أن يهدى والعياذ بالله.
3 -
أن الهداية والإضلال بيد الله؛ لقوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ} فنسب الهداية إليه.
وفي آيات أخرى أن الله نسب الإضلال إليه مثل {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]. ولكن يجب أن تعلموا أن هداية الله وإضلاله لحكمة؛ فمن كان أهلًا للهداية هداه الله، ومن كان أهلًا للضلال أضله الله. قال الله تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] والله عز وجل يعلم، إذا علم من المرء أنه لا يريد الهداية أضله الله. وإذا علم أنه يريد الهداية، وأنه حريص عليها يطلبها أينما كانت، ويسلك ما دل عليه الدليل، فإن الله تعالى يهديه ويعينه ويوفقه ويفتح بصيرته حتى يرى الحق كأنما يتلقاه عن فِيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 -
أن الإنسان قد يستكبر ويعاند بعد أن تبين له الحق؛ لقوله: {كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} .
5 -
أن الكفر بعد الإيمان أغلظ من الكفر الأصلي؛ لأن الله تعالى استبعد أن يهتدي هؤلاء. وأما الكافرون فإن الله سبحانه وتعالى ذكر في سورة الممتحنة أن الله تعالى قد يهديهم فقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً}
وذلك بالإيمان، {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7].
6 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم حقٌّ؛ لأن الله لَامَ هؤلاء على الكفر بعد أن شهدوا أن الرسول حق، ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق من عند الله، صادق فيما قال فيما أخبر به عن ربِّه.
7 -
أن الله سبحانه وتعالى لم يدع الخلق هملًا، بل أقام لهم الحجج، وأقام البينات، حتى لا يكون للناس على الله حجة؛ لقوله:{وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} . . هذه البينات تنقسم إلى أقسام: شرعية، وعقلية، وحسية؛ أما السمعية: فهي القرآن، وأما العقلية فهي أن كل عاقل يتدبر ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أنه حق، فإنه ما أمر بشيء فقال العقل ليته لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته لم ينه عنه. وأما الحسية فظاهرة، انتصاراته العظيمة في هذه المدة الوجيزة، وانتصار أصحابه حتى فتحوا مشارق الأرض ومغاربها مع أنهم كانوا أذلة مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس. هذا من أكبر الأدلة على أنه رسول الله حقًّا. إذن فالآيات شرعية وعقلية وحسية.
8 -
أن من أضله الله فإنما ذلك لظلم منه، لقوله:{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، وأما من طلبوا الحق وتحرّوه وتشوَّفوا له فإنهم جديرون بالهداية.
ومن فوائد قوله تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} :
1 -
إثبات الجزاء، وفيها أن الجزاء من جنس العمل. فإن هؤلاء لما ارتكبوا ثلاث جرائم، أو ثلاثة أمور في كفرهم، كان عليهم لعنة الله والملائكة والناس، ثلاث بثلاث.
2 -
أن الملائكة ذو عقول، يفهمون، ويفعلون. وليس كما قال بعضهم: إنهم ليس لهم عقول. وما أغرب هذا القول، وما أبعده عن الصواب؛ لأننا إذا قلنا: إن الملائكة ليس لهم عقول فإننا نطعن في القرآن؛ لأن الوسيط الذي بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين الله ملك، فإذا قلنا: لا عقل له، ما نأمن؛ لأن غير العاقل لا يمكن أن يحتمل قوله ولا نقضه، ونأخذ "أن لهم عقولًا" من إثبات أنهم تصدر منهم اللعنة.
3 -
أن أمثال هؤلاء يلعنهم الناس جميعًا؛ لقوله: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . لكن هذا فيه إشكال، وهو أنه يوجد من الناس من يُزَمِّر وراء الكافرين، ويصفق وراءهم ويفزع معهم، فكيف قال:{وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ؟ نقول: لأنه إذا صفق معهم وزمَّر وراءهم فهو منهم، فيكون هو ملعونًا من الناس أجمعين، من الآخرين؛ لأن من أعان ضالًا فهو ضال، ومن أعان كافرًا فهو كافر. قال الله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
ومن فوائد قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} .
1 -
إثبات أن هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وشهدوا أن الرسول حق، وجاءهم البينات، خالدون في لعنة الله، أي في الطرد والإبعاد عن رحمته. وليس ثمة إلا النار بعد الجنة، وليس بعد الهدى إلا الضلال.
2 -
ومن فوائدها أنهم والعياذ بالله دائمًا في عذاب، لا يخفف أبدًا، ولا ينتظرون الفرج، لا بالتخلص منه، ولا بتخفيفه، لقوله:{لَا يُخَفَّفُ} وهذه جملة خبرية، وخبر الله تعالى لا يخلف.
3 -
أن هؤلاء يبادرون بالعذاب، فهم يبادرون بالعذاب إما في الدنيا، أو عند الموت، وعند دخول النار. ففي الدنيا قال الله تعالى:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21] وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]. وعند الموت تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، وفي يوم القيامة حدِّث ولا حرج.
ومن فوائد قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
1 -
أن التوبة تجبُّ ما قبلها؛ لقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
2 -
أنه لابد مع التوبة من الإصلاح؛ لقوله: {وَأَصْلَحُوا} . وهذا واجب في كل من يتعدى جرمه إلى غيره، أن يقوم بإصلاح ما ترتب على هذا الجرم.
3 -
إثبات اسمين من أسماء الله، وهما: الغفور والرحيم، وإثبات ما تضمناه من الصفة وهي المغفرة والرحمة. ولهذا نقول: كل اسم من أسماء الله فإنه دال على ثلاثة أشياء: على ذات الله، وعلى الصفة، وعلى الأثر الذي يترتب على هذه الصفة. لكن هذا الثالث لا يطرد في كل اسم من أسماء الله؛ لأن الأسماء غير المتعدية لا يدخل فيها إثبات الأثر. فالعلي مثلًا فيه إثبات الاسم، والصفة، والعظيم كذلك، والكبير كذلك، لكن السميع فيه إثبات الاسم والصفة والأثر؛ الاسم: السميع، والصفة: السمع، والأثر: أنه يسمع. ومن هنا نعلم أن كل اسم فلابد أن
يكون متضمنًا لصفة بدون استثناء، وليس كل صفة مستلزمة لاسم. قد يوصف الله بالشيء ولا يسمى بما دلت عليه هذه الصفة. ولهذا نقول: الصفات أوسع من الأسماء، أوسع لأن كل اسم متضمن لصفة، ولا عكس.
4 -
الثناء على المصلحين. ويستلزم الإصلاح أن يكون المصلح صالحًا. هذا هو الأصل: أن كل مصلح فهو صالح. وقد يكون المصلح غير صالح. فإن من الناس مثلًا من ينهى عن المنكر وهو يفعله، ويأمر بالمعروف وهو لا يفعله، لكن الغالب أن المصلح حقًّا يكون صالحًا؛ لأنه لا يمكن أن يسعى لإصلاح غيره وهو مضيع لإصلاح نفسه.
* * *
• ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [آل عمران: 90].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} وهؤلاء المرتدون، لأنهم آمنوا أولًا ثم كفروا.
{ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} يعني أنهم صاروا والعياذ بالله ينحدرون في دركات الكفر.
{لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} إذا تابوا قبل الموت عند حضور الأجل. فإن توبتهم لن تقبل لقول الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18]. إذن يكون قوله: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} إذا حضرهم الموت، أما إذا تابوا من قبل فقد سبق أنهم إذا تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن المرتد إذا بقي على ردته فإنه لا تقبل توبته عند الموت؛ لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} ، وهذا لا يكون إلا بالردة.
2 -
أنه كلما تمادى الإنسان في الكفر، ولم يتب، فإنه يزداد؛ لأن كل وقت عليه يزداد وزرًا إلى وزره، كما أن المؤمن يزداد أيضًا بزيادة الأيام إيمانًا؛ لأن كل يوم يمرُّ عليه وهو مؤمن فإنه يضيف إيمانًا إلى إيمانه.
3 -
أن من تاب قبل أن يحضر أجله فإن الله تعالى يتوب عليه، كما في الآيات السابقة وهي قوله:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} .
4 -
أن من استمر كفره فهو ضال، وذلك لأنه اجتنب طريق الحق. وكل من اجتنب طريق الحق فهو ضال؛ لقول الله تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] فالطرق: إما حق، وإما ضلال. فمن لزم الشريعة فهو مع الحق، ومن خالف الشريعة فهو مع الضلالة.
* * *
• ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 91].
وهذه المرتبة الثالثة: كفروا وبقوا على الكفر إلى الموت، فهؤلاء قال:{فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} ولم يقل: فلن تقبل توبتهم؛ لأنهم لم يتوبوا، بل ماتوا على الكفر، فلم يبق أمامهم إلا الفداء، أن يفتدوا أنفسهم بشيء. يعني
لو جاءوا بملءِ الأرض ذهبًا، وطلبوا أن يكون فداء لهم، فإن ذلك لن يقبل منهم. وحينئذ تكون هذه الآيات قسمت الكفار الذين ارتدوا إلى ثلاثة أقسام:
قسم تاب وأصلح فتقبل توبتهم.
وقسم تاب عند حضور الأجل فلا تقبل توبتهم.
وقسم ثالث مات على الكفر فلن تقبل فديته، ولا نقول: فلا تقبل توبته؛ لأنه لم يتب. وهذا كالذي في سورة النساء تمامًا حيث قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17] يعني قبل حضور الأجل: {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 17، 18] هذا القسم الثاني، {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18] هذا القسم الثالث. فتكون هذه الآيات كالآيات التي في سورة النساء.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} :
{أُولَئِكَ} المشار إليه من مات على الكفر، ومن لم تقبل توبته، وهو من تاب عند حضور الأجل. {أَلِيمٌ} بمعنى مؤلم؛ لأن أليمًا تأتي بمعنى الفاعل، وتأتي بمعنى المُفعِل، وتأتي بمعنى المفعول، فعيل تأتي بمعنى فاعل مثل سميع يعني سامع {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39] وبمعنى مفعول مثل جريح وكسير، وبمعنى مُفعِل مثل أليم بمعنى مؤلِم، ومنه قول الشاعر:
أمن ريحانة الداع السميع
…
يؤرقني وأصحابي هجوع
قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} يعني ما لهؤلاء أحد
ينصرهم، ويمنع العذاب عنهم، أو يرفعه عنهم؛ لأنهم حقّ عليهم العذاب، ولا يجدون لهم ناصرًا.
قوله تعالى: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} هل الواو زائدة؟ يعني فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا لو افتدى به؟ أو إن الواو مؤسسة، يعني غير زائدة؟ نقول: الأصل عدم الزيادة، ولا موجب لقولنا إنها زائدة؛ لأن الكلام مستقيم ولو كانت أصلية. والتقدير: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا إذا بذله من غير أن يصرح بأنه افتداء. وقوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} يعني ولو صرح بأنه افتداء. والفرق بينهما أنه قد يعطي الأول تزلفًا لا معاوضة، وأما إذا أعطاه ابتداء فهو معاوضة. هذا هو الفرق بينهما، إذن:{فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ} سواء أعطاه من باب التودد والتحبب، أو أعطاه على أنه فداء ومعاوضة، لن يقبل منه.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن من مات على الكفر فلن يقبل منه شيء يمنعه من عذاب الله، ولهذا قال:{فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} .
2 -
أن الأمر يسير على المؤمن؛ لأنه يفتدي من عذاب الله بما هو أقل من ملء الأرض ذهبًا. فإذا آمن وقام بالعمل الصالح، وأدى ما يجب عليه من الحقوق المالية نجا من هذا العذاب مع أنه أقل بكثير من ملء الأرض ذهبًا.
3 -
إثبات العذاب لهؤلاء الكفار؛ لقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
4 -
أن هذا العذاب عذاب شديد مؤلم؛ لقوله: {أَلِيمٌ} .
5 -
أن هذا الألم ألم بدني، وألم نفسي؛ لأنهم مع العذاب الشديد العظيم على البدن يعذبون عذابًا نفسيًا، وذلك بالتوبيخ والإهانة.
6 -
أن هؤلاء الكفار الذين ماتوا على الكفر لن يجدوا أحدًا ينصرهم، حتى آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، تلقى في نار جهنم إهانةً لها، وإذلالًا لها، وإهانة لعابديها، وإذلالًا لهم؛ لأنهم إذا كانوا يتعلقون بهذه الآلهة وألقيت في النار صار هذا أشد عليهم حسرة.
* * *
• ثم قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92].
"لن" تفيد النفي، وتحول الفعل من الحال إلى الاستقبال وتعمل، تغير الفعل ظاهرًا وهو النصب، فتغير الفعل شكلًا ومعنى. أما شكلًا فلأنها تنقله من الرفع إلى النصب. وأما معنى فتنقله من الحال إلى الاستقبال. وهناك أيضًا وجه آخر في المعنى وهو أنها تنقله من الإثبات إلى النفي، يقول الله عز وجل:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} أي لن تدركوه. والبر في الأصل هو الخير والعطاء. ومنه بر الوالدين، وذلك بالإحسان إليهما. فالبر في الأصل هو الخير والعطاء، ويقرن أحيانًا بالتقوى. فإذا قرن بالتقوى صار معناه: فعل الطاعات، والتقوى: اجتناب المحرمات؛ لأن الإنسان يتقيها، ويحذرها، ويبتعد عنها، إذن البر هو الخير الكثير والعطاء، فلن تنالوا ذلك {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} "حتى" هذه للغاية، وهي من أدوات النصب، فالفعل بعدها منصوب.
وقوله: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا} ، "من" يحتمل أن تكون لبيان الجنس، ويحتمل أن تكون للتبعيض. والفرق بينهما: أننا إذا جعلناها لبيان الجنس شمل المدح مَنْ تصدق بجميع ماله، وإذا جعلناها للتبعيض صار مختصًا بمن تصدق ببعض ماله. ويمكن أن نقول إنها صالحة للأمرين، فأحيانًا يكون التصدق ببعض المال أفضل من التصدق بكله، وأحيانًا يكون العكس.
وقوله: {مِمَّا تُحِبُّونَ} أي من المال؛ لأن الله تعالى قال: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]، ولكن كلما كان المال أحب كان إنفاقه أقوى إيمانًا، وأدل على محبة الإنسان للخير؛ لأن الشيء الذي تكون الرغبة فيه قليلة يسهل على الإنسان أن ينفقه، لكن الشيء الذي تتعلق به النفس كثيرًا هو الذي تشح النفس في إنفاقه، فإذا أنفقه الإنسان مع قوة تعلق نفسه به كان ذلك دليلًا عَلى قوة إيمانه؛ لأنه لا يدفع القوي إلا بما هو أقوى منه.
لما نزلت هذه الآية قام أبو طلحة رضي الله عنه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن الله تعالى أنزل:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب مالي إلي "بيرحاء"، وكانت نخلًا مستقبلة المسجد، يعني قريبة من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيها ماء عذب طيب، يأتي إليه النبي صلى الله عليه وسلم ويشرب منه ويتطهر به، وهذا مما يزيده رغبة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي إليه ويشرب منه، ويتطهر به، قال: فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"بخ بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح"، ثم قال:"أرى أن تجعلها في الأقربين"
(1)
. فجعلها أبو طلحة في أقاربه،
(1)
رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب من تصدق إلى وكيله ثم رد الوكيل =
في بني عمه، وأقاربه. وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به، يتأول قوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} . أما نحن فإذا أعجبنا شيء من مالنا جعلناه في الصناديق، واستعملنا الرديء، وتركنا الباقي لورثتنا، فلا يكون لنا، ولكن هكذا الشح -نعوذ بالله-.
أما الذين يريدون الآخرة فهم يرون أن مالهم هو الذي يقدمونه. ولهذا لما سأل النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه ذات يوم قال: "أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ "، قالوا: يا رسول الله، ما منَّا أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه، قال:"فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر"
(1)
، يعني معناه أنك إذا بخلت بالمال وأبقيته فإنك سوف تذهب عنه وسوف يورث من بعدك. لكن إذا تصدقت به وأمضيته تجده أمامك. ولهذا ينبغي للإنسان أن يتأول هذه الآية ولو مرة واحدة، إذا أعجبه شيء من ماله فليتصدق به لعله ينال هذا البر.
وقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} :
يعني أي شيء تنفقونه مما تحبون ومما لا تحبون، من قليل أو كثير، من نفائس الأموال أو صغائرها، فإن الله به عليم. وقوله:{مِنْ شَيْءٍ} "من" هذه بيان لـ"ما" وهي نكرة و"ما" اسم شرط، واسم الشرط يدل على العموم، فهو عموم مبين بعموم العموم في "ما" الشرطية والذي بينها "شيء"، وهي أيضًا
= إليه، رقم (2658). ورواه مسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين، رقم (998).
(1)
رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما قدم من ماله فهو له، رقم (6442).
عامة؛ لأنها نكرة في سياق الشرط. وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} "الفاء" هذه في جواب الشرط رابطة {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} . وقوله: {بِهِ عَلِيمٌ} قدم الجار والمجرور على متعلقه. والمعروف أن تقديم المعمول يفيد الحصر. فهنا نقول: إنه قدم المعمول لفائدتين: الفائدة الأولى: لفظية، وهي مراعاة فواصل الآيات. والفائدة الثانية: معنوية، وهي بيان الاعتناء بهذا المقدم حتى كأن الله تعالى حصر علمه به. فتقديم المعمول هنا يدل على العناية والاهتمام بهذا الشيء الذي قدمه الإنسان لنفسه وأن الله به عليم.
إن الله تعالى لم يذكر هذا العلم إلا لما يترتب عليه من المجازاة. فإن الله إذا علمه لا يمكن أبدًا أن يضيعه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] واله تعالى عليم بكل شيء.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
الحث على الإنفاق مما يحبه الإنسان. وفيه أيضًا أن بالإنفاق مما يحب نيل البر الذي يطلبه كل إنسان.
2 -
إثبات الأسباب، حيث إن الله أثبت للبر سببًا وهو الإنفاق مما نحب.
3 -
أنه كلما أنفق الإنسان مما هو أحب إليه، كان أكثر لبره، وذلك لأن من قواعد الأصول أن ما علّق بوصف فإنه يزداد وينقص بحسب ذلك الوصف.
4 -
عموم علم الله عز وجل؛ لقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} .
5 -
إثبات الجزاء، وأن كل إنسان سيجازى بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، يؤخذ من قوله:{فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} لأن المراد من إثبات العلم إثبات ما يترتب عليه.
6 -
جواز إنفاق المرء جميع ماله، بناء على أن (مِن) للجنس. وهذه المسألة اختلف فيها العلماء: هل يثاب الإنسان إذا تصدق بجميع ماله ويمدح، أو نقول: الأفضل أن لا تتصدق بجميع المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"
(1)
، فجعل إبقاء المال للورثة لئلا يتكففوا الناس خيرًا من أن يحرموا من المال فيتكففوا الناس. وإذا كان هذا بالنسبة للورثة فهو بالنسبة للنفس من باب أولى. ولما نذر أبو لبابة أن يتصدق بجميع ماله قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أمسك عليك بعض مالك"
(2)
، فأمره أن يمسك بعض ماله وأن يتصدق بالثلث.
ومن العلماء من قال: بل يمدح الإنسان إذا تصدق بجميع ماله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حثَّ على الصدقة ذات يوم جاء أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله، وجاء عمر بشطر ماله، بنصفه. وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر، قال له:"ماذا تركت لأهلك؟ "، قال: تركت لهم الله ورسوله
(3)
، والصحيح في هذه المسألة أن ذلك
(1)
رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، رقم (1295). وكذلك رواه في كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم أمض لأصحابي هجرتهم"، رقم (3936).
(2)
رواه النسائي، كتاب الأيمان والنذور، باب فيمن نذر أن يتصدق بماله، رقم (3318).
(3)
رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب الرخصة في ذلك، رقم (1678). ورواه =
يختلف، فمن علم من نفسه أنه إذا تصدق بماله لم يخنع لأحد، ولم يذل لأحد، وكان عنده من قوة التوكل على الله والعمل ما يغنيه عن السؤال فهنا يمدح على الصدقة بجميع ماله. وكذلك لو فرض أن الحال تحتاج إلى الصدقة بجميع المال، لكون الناس في ضرورة إلى ذلك، كانت الصدقة بجميع المال أفضل. وأما إذا كان الإنسان يخشى على نفسه أن يتصدق بماله، ويتكفف الناس، فلا يتصدق؛ لأنه لا يمكن أن يفعل شيئًا مستحبًا، ويدع شيئًا واجبًا؛ لأن إعفاف نفسه وأهله واجب، فكونه يتصدق ثم يسأل الناس، لا شك أن هذا إذلال لنفسه. فالصحيح أن المسألة تختلف باختلاف الأحوال واختلاف الأشخاص.
* * *
• قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93].
قوله: {كُلُّ الطَّعَامِ} : {كُلُّ} : مبتدأ، و {كَانَ حِلًّا} الجملة من (كان) واسمها وخبرها في محل رفع خبر المبتدأ.
وقوله: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} مستثنى من كلام تام موجب، إذن يتعين فيه النصب.
وقوله: {فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} : جملة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} شرطية، واختلف المعربون في مثل هذا التركيب، هل
= الترمذي، كتاب المناقب، باب رجاؤه صلى الله عليه وسلم أن يكون أبو بكر ممن يدعى من جميع أبواب الجنة، رقم (3675).
يحتاج الشرط إلى جواب أو لا؟ فمنهم من قال: لا يحتاج إلى جواب؛ لأن المعلوم عقلًا أو حسًا كالمذكور، ومنهم من قال: إن الجواب محذوف يدل عليه ما سبق.
وترتيبه على هذا القول: (فاتلوها إن كنتم صادقين فاتلوها)، فيكون الجواب محذوفًا دلَّ عليه ما قبله، ويحتمل أن يُقال: إن الجواب ما سبق.
وقوله: {كُلُّ الطَّعَامِ} : الطعام: ما يطعم. فإن قرن بالشراب صار المراد به ما يحتاج إلى مضغ، والشراب ما لا يحتاج إلى مضغ، إذا قيل طعام وشراب. وأما إذا أطلق وقيل طعام صار شاملًا لما يؤكل وما يشرب، قال الله تعالى:{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] فسمى شرب الماء طعمًا أو طعامًا.
{كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} :
حلًّا بمعنى حلالًا لبني إسرائيل، سواء كان من النبات، أو من الحيوان، أو من أي شيء كان، يعني أن كل شيء حلال لهم في الأول، وقوله:{لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} بنو إسرائيل هم أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وإسرائيل بمعنى عبد الله، وبنو عمهم هم بنو إسماعيل بن إبراهيم، فإسماعيل وإسحاق أخوان أبوهما إبراهيم، ويعقوب هو ابن إسحاق، وقد بشر الله به جدته على لسان الملائكة:{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71].
{مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} يعني فكان حرامًا. إذن فهناك حلال في أول الأمر، وهناك حَرام في ثاني الأمر:{إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} .
أكثر المفسرين على أن المراد بإسرائيل يعقوب. فهو عَلَمٌ على شخص معين، لا على قبيلة معينة. يعني إلا ما حرم إسرائيل نفسُه على نفسه. وقدم شيئًا من الطعام، وأبهمه الله سبحانه وتعالى علينا؛ لأن (ما) اسم موصول، والاسم الموصول مبهم يحتاج إلى بيان ولم يبين، لم يقل الله عز وجل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من كذا وكذا، فما حرمه مبهمٌ. وقال بعض أهل العلم: إنه حرم على نفسه أكل الإبل؛ لأنه أصيب بعرق النسا، وهو عرق يمتد من القدم الى الورك في الرِّجل، ويؤلم كثيرًا ويتعب. ولكن هذا من أخبار بني إسرائيل، لا تصدق ولا تكذب. وحينئذٍ لا نجزم بالذي حرم إسرائيل على نفسه، بل نقول هو معلوم عند اليهود، ولكننا لا ندري ما هو؛ لأن الله أبهمه. هذا على القول بأن المراد بإسرائيل علم الشخص، يعني إسرائيل نفسه.
وقيل: المراد بإسرائيل القبيلة كما تقول: قريش، فإن قريشًا كان اسمًا لشخص معين، ثم انتقل من اسم الشخص إلى اسم ذريته القبيلة التي تنسب إليه، فيكون المراد بإسرائيل على هذا القول بني إسرائيل. وإلى هذا ذهب صاحب المنار
(1)
، أن المراد بإسرائيل بنو إسرائيل. وعلى هذا القول الذي حرم بنو إسرائيل على أنفسهم هذا مبين في القرآن: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ
(1)
هو الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى.
الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] هذا ما اختاره صاحب المنار، لكن هذا الرأي ضعيف؛ لأن الله فرَّق بين بني إسرائيل وإسرائيل فقال:{حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ} [آل عمران: 93] ولم يقل: إلا ما حرموا على أنفسهم. ثم إنه يرد عليه إشكال آخر، بأن بني إسرائيل لم يحرموا على أنفسهم شيئًا، وإنما حرم عليهم شيء بسبب ظلمهم. والأصل أن الشيء إذا أضيف فهو لما أضيف إليه مباشرة لا تسببًا، فالصحيح أن المراد بإسرائيل علم الشخص. لكن ما الذي حرم؟ هذا الذي نتوقف فيه؛ لأن الله تعالى أبهمه، والواجب أن نبهم ما أبهمه الله، ونقول: إن إسرائيل عليه الصلاة والسلام حرم على نفسه شيئًا أو أشياء ولكن لا نعلمها، حتى يأتينا خبرها عن طريق معصوم.
وقوله: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} معناه أن هذا أمر متقرر من قديم الزمان، وبين إسرائيل وبين نزول التوراة دهور طويلة، وأزمان كثيرة. لكن الله أراد أن يقرر بأن التحريم -أي تحريم ما أحل- كان سابقًا متقدمًا بكثير على التوراة.
وقوله {تُنَزَّلَ} فيها قراءتان: (تُنَزَّل) بتشديد الزاي و (تُنْزَل) بالتخفيف، وكلتا القراءتين سبعيتان، يعني أنه يجوز أن نقرأ بهذه وهذه. والقاعدة في القراءتين أن السنة أن تقرأ بهذه مرة، وبهذه مرة؛ لأن كلتا القراءتين ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قرأت بواحدة، وهجرت الأخرى، لم تأت بالسنة كاملة. بل اقرأ بهذا مرة، وهذا مرة، لكن بشرط أن تكون متأكدًا من القراءة؛ لأن القرآن كلام الله. فلو قرأت شيئًا لم تتأكد، وكان على خلاف ما
أنزل الله، كنت مفتريًا على الله كذبًا. الشرط الثاني: أن لا يحصل في ذلك تشويش. فإن حصل في ذلك تشويش، كما لو قرأت بقراءة ثانية عند العامة الذين لا يعرفون إلا ما في مصاحفهم، فإن ذلك حرام، لا يجوز، لأنه يؤدي إلى تشكك العامة، وإلى رميك أنت بالسوء، تقول: هذا الرجل يحرف كلام الله، يقرأ بغير ما أنزل الله، فتكون عرضة لسبِّ الناس، واغتيابهم، فإياك، ورحم الله امرأ كفَّ الغيبة عن نفسه. أما فيما بينك وبين نفسك فاقرأ بها، اقرأ بالقراءة الثانية إذا كنت متقنًا لها وعارفًا بها. وكذلك إذا كنت بين طلبة علم، حتى يعرفوا القراءات وينتفعوا بها.
أما بالنسبة للفرق بين "تُنَزَّل" و"تُنْزَل" فلا فرق، لأن التوراة نزلت جملة واحدة، سواء قيل تُنَزَّل أو تُنْزَل أما القرآن فإنه نزل مفرقًا، فإذا جاء "نَزَّلْنا عليك" فالمراد نزوله شيئًا فشيئًا، وإذا قيل:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] فالمراد: يعني ابتدأنا إنزاله. وإذا قيل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} [النحل: 44] فباعتبار أنه سيكون تامًا، وبتمامه يكون قد نزل كله.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} . {التَّوْرَاةُ} : هي الكتاب الذي أنزله الله تعالى على موسى. وقد نزلت التوراة مكتوبة، كتب الله تعالى التوراة في الألواح، فأخذها موسى، وتلاها على الناس، وعلَّمهم إياها، وبقيت التوراة إلى أن جاء محمد صلى الله عليه وسلم لكن صار فيها تحريف، كما قال الله تعالى:{تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91].
وقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
هذا من باب التحدي. فالأمر هنا {قُلْ فَأْتُوا} للتحدي وإقامة الحجة على ما ادَّعوه. (ائتوا بالتوراة) يعني هاتوها فاتلوها وانظروا أن ما قلته فهو حق، أي أن الطعام كان حلًّا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، ثم نسخ ما بقي الحل، بل نسخ حل أشياء كثيرة، كما قال عيسى:{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]{بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ} : يعني هناك أشياء كثيرة حُرِّمت فأحل لهم عيسى بعض ما حرِّم.
{فَاتْلُوهَا} أنتم أيضًا لا نحن حتى لا تتهمونا بأننا حذفنا شيئًا وأضفنا شيئًا، اتلوها أنتم بأنفسكم حتى يتبين لكم أن ما جئت به هو الحق.
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعني فيما تدَّعونه من كذب ما جئتُ به، فأتوا بالتوراة فاتلوها. {إِنْ كُنْتُمْ} هذه الشرطية لتمام التحدي، كما أقول لك في الكلام العابر: إن كنت صادقًا فافعل كذا، فهذا من كمال التحدي وتمامه، وكان سبب هذا أن اليهود كانوا ينكرون ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إنك أحللت شيئًا، وحرَّمتَ شيئًا، والشرائع لا تتبدل، ولا تتغيَّر؛ لأنها من عند الله، ولهذا كانوا يُنكرون النسخ، ويقولون: إن النسخ في أحكام الله مستحيل؛ لأن النسخ إما أن يكون لحكمة أو عبثًا، فإن كان عبثًا فالله منزَّه عنه، وإن كان لحكمة لزم منه أن الله تعالى تظهر له الحكمة بعد أن كانت خافية عليه، وهذا يلزم منه الظهور بعد الجهل، وهو أيضًا مستحيل على الله، ولهذا كذَّبوا عيسى، وكذَّبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، لأن هذا نسخ، والنسخ على الله مستحيل، لا يمكن أن تنسخ الشرائع، فقيل لهم: هاتوا التوراة، والتوراة
تُثبت وتُقرِّر أن الطعام كان حلًّا لبني إسرائيل -كل ما يُطعم- ثم حرَّم إسرائيل على نفسه أشياء، وبقي هذا التحريم في ذريته حرام عليهم. إذن هذا نسخ لكنه في الحقيقية ليس النسخ الكامل الذي يأخذ الحكم كله، ولكنه نسخ لبعض أفراده، وهو ما يسمَّى عند بعض الأصوليين بالتخصيص، ويُسمَّى عند السلف بالنسخ.
إذن في هذا إقامة الحجة عليهم بما ادَّعوه من أنه لا يمكن أن تُنسخ الشرائع، وأنكَ يا محمد كاذب، وأن عيسى كاذب. فأراد الله أن يُبَيِّن كذبهم من كتبهم.
* * *
• قال تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [آل عمران: 94].
{فَمَنِ} . (من) عامة، يعني أي إنسان يفتري على الله الكذب، والافتراء معناه: التقوُّل بغير حق، يعني أن تنسب إلى الشخص ما لم يقله، هذا الافتراء.
وقوله: {الْكَذِبَ} أي: الإخبار بخلاف الواقع؛ لأن الإخبار بالواقع يُسمَّى صدقًا، وبما يخالف الواقع يُسمى كذبًا، فمن قال بعد هذا البيان أنه لا يمكن أن تنسخ الشرائع بعضها ببعض فهو ظالم.
يقول الله عز وجل: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
{فَأُولَئِكَ} : المشار إليه من افترى، و {هُمُ الظَّالِمُونَ}: الجملة اسمية، و {هُمُ} ضمير فصل، وليس له محل من الإعراب، وإنما جيء به للفصل بين الخبر والصفة، وقد ذكرنا أنه يُفيد ثلاثة أمور: (التوكيد، والحصر، والفصل بين الخبر
والصفة)، فإذا قُلت:(محمد هو الفاضل) فأنت ترى أن (هو) أكَّدت الجملة، وترى أيضًا أنها حصرت الفضل فيه، ومعلوم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وثالثًا أنها فرَّقت بين الخبر والصفة؛ لأنه لو قيل:(محمد الفاضل) لاحتُمِل أن يكون (الفاضل) صفة لمحمد، وأن الخبر لم يأتِ بعد فإذا قيل:(هو الفاضل) تعيَّن أن تكون (الفاضل) خبرًا.
{الظَّالِمُونَ} يعني: المتصفين بالظلم، والظلم في الأصل النقص، كما قال تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] أي: لم تُنقص منه شيئًا، وهو في الحقيقة إما تفريط في واجب، وإما انتهاك لمُحرَّم، وكلاهما نقص؛ لأن المنتهك للمحرَّم، أو المفرِّط في الواجب قد نقَص الأمانة والرعاية؛ لأنه أمين على نفسه، وراعٍ عليها، فإذا أقدم على فعل المحرم، فقد أخلَّ بما يجب عليه من الرعاية، وخان الأمانة. فإذا فرَّط في الواجب فكذلك.
أما قوله: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} :
فهذا جملة شرطية، وجواب الشرط:{فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} واقترن بالفاء لأنه جملة اسمية، وفيه أن (من) روعي فيها اللفظ والمعنى، وفي الشرط روعي اللفظ، وفي الجواب روعي المعنى. {افْتَرَى}: مصوغ للواحد، روعي فيه اللفظ. {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} للجماعة، روعي فيه المعنى.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
أن لله تعالى أن يُحلَّ ما يشاء، ويحرم ما يشاء؛ لقوله: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى
نَفْسِهِ} ومعلوم أن الله أقره على ذلك، وهذا تشريع من الله.
2 -
الرد على اليهود الذين زعموا أنه لا نسخ في الشرائع.
فإن قال قائلٌ: هم يقولون لا نسخ في الشرائع، ويعللون بعلة تبدو وكأنها صحيحة، يقولون: إن كان لغير حكمة فهو عبثٌ وسفَه منزه الله عنه، وإن كان لحكمة لزم أن تكون هذه الحكمة مجهولة لله في الناسخ أو في المنسوخ، وهذا يستلزم أن يكون الله جاهلًا، ظهر له العلم من بعد أن كان خفيًّا عليه.
وجوابنا عن ذلك: أن نقول: إن النسخ لا يستلزم لا هذا ولا هذا، بل إن النسخ لحكمة، لكن هذه الحكمة تَتْبع مصالح العباد، والعباد مصالحهم تختلف، قد يكون من المصلحة أن يُشرّع لهم الحل في هذا الزمن، والتحريم في زمن آخر، قد تكون هذه الأمة من المصلحة أنْ يُشرَّع لها الحل، والأمة الأخرى من المصلحة أن يُشرَّع لها التحريم، فهنا الحكمة لا تتعلق بفعل الله، ولكن تتعلق بالمخلوق الذي شُرِّع له هذا الحكم، وهذا أمر يختلف بلا شك.
فمثلًا: الناس في بدء الإسلام لا يتحملون جميع شرائع الإسلام، ولهذا جاءت الشرائع بالتدريج، بقي النبي عليه الصلاة والسلام عشر سنوات لا يجب على الناس لا صلاة، ولا زكاة، ولا صوم، ولا حج، عشر سنوات بعد البعثة كل هذا لتقرير التوحيد؛ لأن قلوب الناس في ذلك الوقت لا تحتمل أن يُضاف إلى تحقيق التوحيد شيء آخر، ثم شُرعت الصلاة، ثم شُرعت الزكاة، ثم شُرع الصوم، ثم شُرع الحج في آخر الأمر، كل هذا من أجل مراعاة أحوال الناس، وكذلك في الخمر، كان حلًا، ثم
عُرِّض بتحريمه، ثم حرم في أوقات معينة، ثم حرم إلى الأبد، أربع مراحل؛ لأن الناس كانوا قد ألفوه، قال الله تعالى:{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]، وهذه الآية في سورة النحل، وقد نزلت في مكة، {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا}: العنب والرطب هما مادة الخمر، ثم قال:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، والعاقل إذا علم أن إثمهما أكبر من نفعهما يهديه عقله إلى تركهما، ثم قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، إذن نجتنب الخمر وقت الصلاة؛ لأنه إن لم نجتنبه لزم أن نقرب الصلاة ونحن سكارى، وهذا منهي عنه، إذن نجتنب الخمر خمس أوقات في اليوم والليلة، وهذا يُضعف شربها، ثم جاءت آية المائدة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] انتهى. إذن إن ما ادَّعاه اليهود من أن النسخ يستلزم وصف الله بالنقص إما في الحكمة وإما في العلم فهو كذب.
3 -
إقامة الحجة على الشخص فيما يعتقد صحته أو مما يعتقد صحته، يعني: أن تُقيم الحجة على خصمك من شيء يؤمن به ويعتقد صحته؛ لأن الله تعالى قال: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، التوراة التي أنتم تُقرون بأن ما فيها حق، ائتوا بها اتلوها، يتبين أن النسخ كان موجودًا فيها، ومن قديم الزمان.
4 -
أن التوراة منزلة كالقرآن، وهذا يدل على علو الله جل وعلا، وأنه فوق كل شيء، وهذا هو عقيدة أهل السنة والجماعة،
يقولون: إن الله سبحانه وتعالى -نفسه- فوق كل شيء، ليس الله فوق كل شيء في القدرة والسلطان والقهر فحسب، بل في هذا وفي نفسه فوق كل شيء.
وجه دلالتها على علو الله: أن التوراة من عند الله، والنازل يكون من أعلى إلى أسفل.
5 -
أنه ينبغي للإنسان أن يُقابل الخصم بشيء يقطع نزاعه بالكُلِّية، حيث قال:{فَاتْلُوهَا} ولم يقل (نتلوها)، قال:{فَاتْلُوهَا} أنتم بأنفسكم، حتى تُقيم الحجة على نفسك من نفسك، لو أنا أخذناها نحن وتلوناها ربما تقول: أسقطت آية، أو زدت آية، فإذا تلوتها أنت بنفسك انقطعت حجتك.
6 -
أنه ينبغي للإنسان أن يتحدَّى خصمه بما تَبينُ به الحجة على وجه لا مفر له منه؛ لقوله: {فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وهكذا ينبغي في المناظرة أن الإنسان لا يأتي بحجة واهية؛ لأنه إذا أتى بحجة واهية، ثم كسِّرت أمامه ضعفت عزيمته وبان خلله، وإذا أتى بحجة لا يمكن أن يلحقها نقص، صار هذا أقوى لعزيمته وأنكى لخصمه، أرأيت محاجة إبراهيم عليه السلام للذي حاجه في ربِّه، قال إبراهيم عليه السلام:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]، فقال المحاج الخصم:{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]، لكن هل هذه دعوى أو منزلة على شيء معيَّن؟ فيها خلاف، بعضهم قال: إنها دعوى وهو كاذب، لكن فيها إيهام، وبعضهم قال؛ إنها منزَّلة على شيء معين، وأن قوله:{أَنَا أُحْيِي} يعني أُوتى بالرجل يستحق القتل، فأرفع القتل عنه فيكون في هذا
إحياء، {وَأُمِيتُ} يعني أُوتى بالشخص البريء فآمر بقتله ويقتل.
لكن إبراهيم عليه السلام لم يجادله مجادلة تحتاج إلى طول منازعة، قال له:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]، أي: انقطع، لأنه عاجز عن أن يدَّعي الإتيان بقمر أو بنجم. وهكذا ينبغي أن تكون المخاصمة بحجة دافعة بعيدة عن الأشياء المشتبهة، فإذا أتيت بالشيء المشتبه فقد تكون خاذلًا للحق والحق معك. فلابد أن تأتي بشيء قوي لا يستطيع الخصم أن يقف أمامه. وقد أكَّد ذلك المعنى كثير من العلماء رحمهم الله، حتى ذكر الحافظ ابن القيم رحمه الله في النونية بأن المطلوب أن تورد الحجة ضد أهل الباطل والبدع بقوة وحزم يضعف الخصم كما يصرخ الفارس بعدوِّه إذا التقى الصفَّان. وتأتي بالحجج الدامغة بقوة وعزيمة، وكل مقام له مقال. ولهذا نبَّه الله على ذلك فقال تعالى:{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد: 35]، زد أيضًا:{وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35] .. سبحان الله، أنت فوقه والله معك، أين يكون هو؟ لا شك معه الشيطان.
وفي مقام النزاع والمخاصمة بالحق ينبغي للإنسان أن يكون قوي الحجة، وقوي القول، ليس من أجل أن تنتصر لنفسك، ولكن لأجل أن تنتصر للحق.
{فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} ، إذا أتوا بالتوراة وتلوها وصارت موافقة لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم صاروا يقدمون الحجة لك على أنفسهم.
7 -
أنه متى ظهر الحق فحاد الإنسان عنه صار أشد ظلمًا؛ لقوله: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} كأنه لا ظالم سواه، كأنهم هم الذين أخذوا الظلم كله؛ لأنه إذا قامت الحجة لم يبق للإنسان محجَّة، يعني لم يبق له أي طريق يمكن أن يتوصل إليه، أو أن يفر منه.
8 -
أن من عباد الله من يفتري الكذب على الله، والذي يفتري الكذب على الله سبحانه وتعالى يفتري الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم من باب أولى، والذي يفتري على الرسول صلى الله عليه وسلم يفتري على الناس من باب أولى، إذن: إذا افترى عليك إنسان شيئًا فلا تستغرب، افترى الناس على الله الكذب، وافتروا على الرسول الكذب، أفلا يفترون عليك؟ .
9 -
أنه لا إثم مع الجهل؛ لقوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد أن يتبين الحق فهذا هو الظالم، أما من ارتكب محرمًا قبل أن يتبين له الحق فإنه لا يلحقه إثم ذلك المحرم، لا في الواجبات ولا في المحرمات، من ارتكب شيئًا بغير علمٍ فإنه لا إثم عليه، ما لم يفرِّط في الواجبات، ولا في المحرمات، ولكن بالنسبة للمحرمات لا يترتب عليه شيء من آثارها أبدًا، لا إثم ولا كفارة. فلو أن رجلًا فعل محظورًا من محظورات الإحرام وهو جاهل أنه محظور، فلا شيء عليه، بل لو أن الإنسان جامعَ وهو مُحرم، يظن أنه لا شيء عليه في الجماع، فلا شيء عليه، لا كفارة، ولا فساد حج، ولا غير ذلك.
أما في الواجبات إذا فعل شيئًا محرمًا عليه في الواجب، يعني بأن ترك واجبًا أو فعل ما يُبطل ذلك الواجب وهو جاهل، فلا
إثم عليه، لكن يجب أن يتدارك هذا الواجب ما دام في وقته، مثال ذلك: رجل جاءنا وقال: إنه صلى صلاة الظهر، ولكنه لم يقرأ الفاتحة، لم يعلم أن الفاتحة واجبة، نقول: لا إثم عليك، مع أنك لو تركت الفاتحة وأنت تعلم أنها واجبة لأثمت بلا شك؛ لأن هذا من اتخاذ آيات الله هزوًا، لكن يجب عليه أن يعيد الصلاة؛ لأن ذمته الآن مشغولة بهذه الصلاة .. فلابد أن يُعيدها. أما الصلوات الماضية، فانه لا يجب عليه إعادتها، ولو كان قد ترك الفاتحة فيها، لأنه جاهل، ودليل ذلك حديث المسيء في صلاته، حيث قال الرسول عليه الصلاة والسلام:"ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ"
(1)
ولم يأمره بإعادة أو بقضاء ما سبق من الصلوات.
* * *
• قال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95].
ثم قال الله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} .
{قُلْ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون الخطاب لكل من يصح توجه الخطاب إليه، أي للرسول صلى الله عليه وسلم ولغيره. فعلى القول الثاني: لا إشكال فيه، إذا قلنا: إن كل واحد من الناس يجب عليه أن يصدق الله، فيقول: صدق الله. وعلى القول الأول يكون الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم مرادًا به الخطاب مباشرة للرسول وللأمة بالتبع؛ لأن الخطاب الموجه لإمام القوم خطاب للجميع،
(1)
رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيًا في اليمين، رقم (6667). ورواه مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم (397).
فإنك لو قلت للقائد مثلًا: اذهب إلى الجبهة الفلانية، وتحته جنود يمشون بأمره، صار هذا الأمر له ولمن كان تابعًا به. والرسول صلى الله عليه وسلم قائد الأمة، وإمام الأمة، فإذا وجِّه إليه الخطاب كان موجهًا له ولأمته ما لم يقم دليل على التخصيص.
وقوله: {صَدَقَ اللَّهُ} جملة تتضمن الثناء على الله بالصدق. وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122] فلا أحد أصدق من الله. والصدق مطابقة الخبر للواقع، والكذب مخالفة الخبر للواقع. فاذا قلت: غربت الشمس وقد غربت فعلًا فهذا صدق. وإذا لم تغرب فهذا كذب.
هل يضاف إلى ذلك مع اعتقاد الوقوع، بمعنى أنه لو أن شخصًا أخبر بما يطابق الواقع، ولكنه يعتقد في نفسه أنه كاذب؟ نقول: إن خبره هذا صدق لأنه موافق للواقع، لكن عليه إثم الكاذب إذا كان يعتقد هو أنه كاذب في ذلك. الكذب مخالفة الخبر للواقع، سواء كان موافقًا لاعتقاد المتكلم أو لا، حتى لو اعتقد أنه صدق وقد خالف الواقع فهو كذب. ولهذا نقول: إن اليهود الذين زعموا أنهم صلبوا المسيح ابن مريم عليه السلام، وإن كانوا يعتقدون الصدق، فهم كاذبون. والنصارى الذين قالوا:{إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] هم أيضًا كاذبون، وإن كانوا قد اعتقدوا الصدق. إذن لا يشترط اعتقاد القائل موافقة ما أخبر به للواقع أو مخالفته للواقع. المهم أن هذا الخبر إن وافق الواقع فهو صدق، وإن اعتقد قائله أنه كاذب، وإن خالف الواقع فهو كذب، وإن اعتقد قائله أنه صادق.
{صَدَقَ اللَّهُ} جملة خبرية تتضمن الثناء على الله، وإذا كانت
تتضمن الثناء على الله فهي عبادة. فقول القائل: صدق الله، ثناء على الله بالصدق، لأن كل ثناء على الله فهو ذكر لله وتعبد له. ولم يذكر الخبر الذي حكم عليه بالصدق فيكون ذلك عامًا شاملًا، أي صدق الله في كل شيء، كل ما أخبر الله به فهو صدق، ومن ذلك ما أخبر به مما أحل لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه.
{فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} .
{فَاتَّبِعُوا} الخطاب للأمة، كما أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، فالنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يتبع ملة إبراهيم حنيفًا، وكذلك نحن مأمورون بأن نتبع ملة إبراهيم حنيفًا. والملة هي الشريعة التي يكون عليها الإنسان، فكل شريعة يكون عليها الإنسان فهي ملة؛ فالإسلام ملة، واليهودية ملة، والنصرانية ملة، وقد جاء في الحديث:"لا يتوارث أهل ملتين شتى"
(1)
، أي: مفترقتين.
وقوله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} . المراد هنا اتبعوا ملة إبراهيم في التوحيد، وعدم الشرك، ولهذا قال:{حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، {حَنِيفًا}: أي مائلًا عن كل شرك.
{وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : هذه الجملة معطوفة على ما سبق من باب عطف المترادفين، أو المرادف على مرادفه، فالحنيف
(1)
رواه أبو داود، كتاب الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر؟ رقم (2911). وقال الألباني: حسن صحيح. وكذلك رواه الترمذي، كتاب الفرائض، باب لا يتوارث أهل ملتين، رقم (2108). وقال عنه الألباني: صحيح.
معناه: المائل عن كل شرك، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تأكيد لذلك. وإذا انتفى الشرك في ملة إبراهيم لزم من ذلك أن يكون مخلصًا في التوحيد، وكذلك. ولذلك يسمى إبراهيم عليه الصلاة والسلام إمام الحنفاء. وقوله:{حَنِيفًا} يعني مائلًا عن كل شرك. ثم قال: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، أي: الذين يدخلون الشرك في عبادتهم. {حَنِيفًا} منصوبة على الحال من إبراهيم، يعني حال كونه حنيفًا، وهي حال لازمة وإلا لما صحَّ أن نؤمر باتباعها.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
وجوب تصديق الله عز وجل في كل ما أخبر به؛ لقوله: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} .
2 -
وجوب الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه من الأسماء والصفات. وهذا يستلزم تحريم تغييرها عن المراد بها، أي تغيير النصوص التي أخبر الله بها عن نفسه من الأسماء أو الصفات.
3 -
وجوب اتباع ملة إبراهيم، لكن في أصل الشرائع. فإن قال قائل: ما الدليل على تقييدكم إياها بأصل الشرائع مع أن الآية عامة؟ قلنا: الدليل قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. فدلَّ ذلك على أن الشرائع تختلف بحسب حاجات الناس ومصالحهم، أما أصلها وهو التوحيد فإن جميع الشرائع تتفق فيه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
4 -
الثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأنه حنيف وإمام، ولهذا أمرنا باتباعه.
5 -
أنه يجب على الإنسان أن يتبع الحق أينما كان سواء كان من الرسول الذي أرسل إليه مباشرة أو من الرسل السابقين.
6 -
انتفاء الشرك عن إبراهيم انتفاءً كاملًا، لقوله:{حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ويؤخذ من هذا ذم الشرك والنهي عن اتباعه؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فإذا أمرنا بالإخلاص فهذا يستلزم أننا منهيون عن الإشراك.
* * *
• ثم قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96 - 97].
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} :
أي: وضع لعبادة الناس، وليس أول بيت وضع في الأرض، يعني مما يبنى، ولكنه أول بيت وضع للناس للعبادة والتعبد.
{لَلَّذِي بِبَكَّةَ} :
وهو الكعبة، زاده الله تعالى تشريفًا وتعظيمًا (وبكة) اسم من أسماء مكة، وسميت بذلك قالوا: لأنها تَبُكُّ أعناق الجبابرة أي تقطعها. وقيل: لأنه لا يوصل إليها إلا بمشقة وتعب. وقيل غير ذلك. والمهم أن المراد ببكة مكة. وقد ذكرها الله تعالى في هذه السورة بهذا الاسم، وذكرها في سورة الفتح باسم مكة في قوله:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] فمكة إذن لها اسمان مذكوران في القرآن، وأما القرية فهي اسم
جامع لمكة وغيرها، كما قال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13].
يقول عز وجل: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} :
مباركًا أي أن فيه البركة. وبركاته متعددة، فمن ذلك:
1 -
أن مَنْ حَجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه.
2 -
ومن ذلك أن الحسنات فيه مضاعفة، ولهذا قال أهل العلم: إن العبادة فيه أفضل من العبادة في غيره، سواءً كانت صلاة، أم صدقة، أم صيامًا، أم غير ذلك.
3 -
ومن بركاته أيضًا أنه تجبى إليه ثمرات كل شيء. فإن مكة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان.
4 -
ومن بركته أيضًا أن فيها ماءً من شربه لأي شيء بنية صادقة فإنه يكون له، وهو ماء زمزم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ماء زمزم لما شرب له"
(1)
.
5 -
ومن بركته ما يحصل من المكاسب التي تكون فيه في أيام المواسم، وغير أيام المواسم.
6 -
ومن بركته أنه بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل الله تعالى شريعته أفضل شريعة كانت إلى الخلق.
وقوله: {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} :
هدى أي منارًا يهتدى به؛ لأنه يجتمع فيه المسلمون من
(1)
رواه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الشرب من زمزم، رقم (3062). وقال عنه الألباني: صحيح. ورواه الإمام أحمد في مسنده، رقم (14320).
كل جانب، يأوون إليه من كل فج عميق، فيهتدي الضال منهم بالمهتدي، ويحصل به التعليم والأسوة الحسنة، وكذلك أيضًا هدى للعالمين؛ لأن الأمة الإسلامية كلها تهوي إليه، وتتجه إليه في كل يوم خمس مرات وجوبًا، يعني يجب أن نولي وجوهنا كل يوم خمس مرات على الأقل، ولهذا قال:{وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} .
ومن هدايته للعالمين: أن فيه إقامة الحج، وإقامة العمرة وذلك هدى؛ لأن الأمة تزداد إيمانًا وهدى بالحج والعمرة.
وقوله: {لِلْعَالَمِينَ} المراد بهم الإنس، فهو عام أريد به خاص، وليس المراد بهم من سوى الله. العالمين في بعض المواضع يراد بها من سوى الله، وفي بعض المواضع يراد بها الإنس فقط. وقد يراد بها الإنس والجن مثل قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
وسموا (عالمين) من العلامة؛ لأنهم علم على خالقهم، فإن هؤلاء البشر، بل وهذه المخلوقات كلها تدل على خالقها. ففي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.
{فِيهِ} : الضمير يعود على قوله: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} يعني على البيت الذي بمكة.
{آيَاتٌ} : أي علامات بينات واضحات. هذه الآيات البينات هي ما يشرع فيه من المناسك، والمواضع لهذه المناسك، وهي قائمة لم تزل من عهد إبراهيم إلى يومنا هذا، كلها آيات وعلامات. فعرفة هي عرفة، ومزدلفة هي مزدلفة، ومنى هي منى،
لم تزل بهذا من عهد إبراهيم إلى اليوم. والكعبة هي الكعبة ليس هذا البيت خفيًا لا يعلم الناس به، بل لم يزل مشهورًا بيّنًا واضحًا من عهد إبراهيم إلى يومنا هذا.
وقوله: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} :
بدل من آيات أو عطف بيان. ومقام إبراهيم مكان قيامه، فهل المراد بذلك الحجر المسمى بالمقام؟ لقوله صلى الله عليه وسلم:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"
(1)
حين تقدم إليه بعد انتهاء الطواف، أو المراد بالمقام مقامه في المناسك؟ .
على قولين لأهل العلم. فمنهم من قال: إن المراد به المقام الخاص، وهو الحجر الذي صار يرتفع عليه حين ارتفع بناء الكعبة. ومنهم من قال: إن المراد به كل مقام قامه في مناسك الحج. وإذا دار الأمر بين العموم والخصوص، فالأولى الأخذ بالعموم؛ لأن الأخذ بالعموم يتناول الخاص ولا عكس. وعلى هذا فيقال: مقام إبراهيم مكان قيامه في مناسك الحج. وهذا المقام موجود من إبراهيم إلى أن بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى يومنا هذا، ولم يتغير إلا بحمية الجاهلية، حمية قريش فإنهم غيروا الوقوف بعرفة، وجعلوه في مزدلفة. فغيروا هذا المقام، وقالوا: نحن أهل الحرم، ولا يمكن أن نخرج إلى الحل. والخروج إلى الحل إنما يكون من أهل الحل، ولهذا كانت قريش في يوم عرفة لا تقف بعرفة، تقف في مزدلفة، حتى يأتي الناس إليها. فأمر الله تعالى أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، يعني أن
(1)
رواه أبو داود، في كتاب الحروف والقرآن، رقم (3969)، وقال الألباني: صحيح.
يفيضوا من عرفة. ودلَّ على ذلك حديث جابر رضي الله عنه قال: فأجاز حتى أتى عرفة، قال: ولم تشك قريش أنه واقف بمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهلية
(1)
، لكنه صلى الله عليه وسلم أجاز حتى أتى عرفة فوقف بها؛ لأنها هي التي كانت على زمن إبراهيم.
{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} :
(من دخله) أي: من دخل هذا البيت كان آمنًا. والمراد بالضمير في قوله: (من دخله) جميع الحرم. وإن كان ظاهره أن المراد به نفس البناء الذي هو الكعبة، لكن السنة دلَّت على أن الحكم عام في جميع الحرم.
وقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} على قولين لأهل العلم:
فمنهم من قال: إن هذه جملة تابعة لما سبق، أي تابعة لقوله:{مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} ، فتكون من الآيات البينات، وهي أمن من دخله حتى في زمن الجاهلية.
ومن العلماء من قال: إنها جملة مستأنفة. وهي خبرية لفظًا، إنشائية معنى، أي: من دخله فليكن آمنًا، ولا يُتعرض له. وعلى كل حال فإن المعنيين يتفقان في وجوب تأمين من دخله؛ لأنه إن كان خبرًا عما كان عليه البيت فإنه خبرٌ أقره الله عز وجل، وأتى به للاستدلال على الآيات البينات التي في هذا البيت، وإن كان إنشاء فالأمر واضح.
وقوله: {كَانَ آمِنًا} يعني آمنًا من أبناء جنسه، وليس آمنًا من عذاب الله، ولا آمنًا مما يريه الله منه. لكنه آمن من بني جنسه
(1)
رواه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1218).
حتى لو رأى الإنسان قاتل أبيه في مكة فإنه لا يتعرض له حتى يخرج، هكذا كانت محترمة.
ثم قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} :
فيها قراءتان (حِج) و (حَج) وهما بمعنى واحد.
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} اللام للاستحقاق في قوله: {وَلِلَّهِ} و {عَلَى} للوجوب، أي يجب على الناس حقًّا لله أن يحجوا البيت. وحج البيت أي قصده؛ لأن الحج في اللغة القصد. والمراد به قصده على الوجه الذي شرعه الله، بأن يأتي الإنسان بالمناسك المشروعة.
وقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} :
{مَنِ} هذه بدل من الناس، بدل بعض من كل؛ وذلك لأن الناس قسمان: مستطيع، وغير مستطيع. فالمستطيع بعض من الناس. ولهذا قلنا: إن هذا البدل بدل بعض من كل، وبدل البعض من الكل كثير في اللغة العربية، تقول مثلًا: أكلت الرغيف ثلثه، وقال تعالى:{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 2 - 4]. إذا جعلنا نصفه بدلًا من الليل فهو بدل بعض من كل. وقد يبدل الكل من البعض، لكنه قليل في اللغة، ومنه قول الشاعر:
رحم الله أعظمًا دفنوها
…
بسجستان طلحة الطلحات
(1)
الشاهد هنا قوله: (طلحة) بدل من الأعظم، والأعظم بعض من الإنسان.
(1)
عبيد الله بن قيس الرقيات في ديوانه.
قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} :
{مَنِ اسْتَطَاعَ} طريقًا إلى البيت، ووصولًا إليه. والاستطاعة: يعني بذلك القدرة، فمن لم يستطع فلا حج عليه.
فإن قال قائل: هذا الشرط ثابت في كل عبادة؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فلماذا قيَّد وجوب الحج بالاستطاعة مع أنه شرط مفهوم معلوم؟
فالجواب عن ذلك: أنه لما كان الوصول إلى البيت شاقًّا، أشق بكثير من سائر العبادات، نصَّ على اشتراط الاستطاعة، وإلا فلا شك أن كل العبادات لا تجب إلا بالاستطاعة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، "فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"
(1)
.
وهل المراد بالاستطاعة الاستطاعة بالمال أو بالبدن أو بهما؟ .
نقول: الآية مطلقة، فمن استطاع الوصول ببدنه وجب عليه وإن لم يكن عنده مال، كما لو استطاع أن يمشي إلى مكة ويأتي بأفعال المناسك.
ومن استطاع بماله دون بدنه وجب عليه الحج، لكن عن طريق الاستنابة، ومن كان عنده مال وهو قادر بالبدن، فالحج واجب عليه ولا إشكال.
إذن الاستطاعة لا نقيدها بالبدن أو بالمال، نقول: سواء قدر بماله أو ببدنه أو بهما. فإن عجز بماله وبدنه بأن كان فقيرًا،
(1)
رواه البخاري، كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن الرسول، رقم (7288). ورواه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، رقم (1337).
ولا يمكنه أن يحج، لضعف في بدنه، فهنا ينتفي عنه الوجوب؛ لأنه غير قادر. إذن القادر هو القادر بماله أو بدنه أو بهما. والقدرة هي القدرة الحسية. أما القدرة الشرعية ففيها خلاف؛ فمنهم من قال إنه يشترط أيضًا القدرة الشرعية، الاستطاعة الشرعية، فلو كان هناك امرأة غنية قادرة ببدنها، لكن ليس لها محرم فإن الحج لا يجب عليها؛ لأنها عاجزة شرعًا عن الحج، لعدم وجود المحرم، وسفر المرأة بلا محرم ولو للحج غير جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب وقال:"لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم" سأله رجل وقال: إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال:"انطلق فحجَّ مع امرأتك"
(1)
.
واختلف العلماء في مسألة الاستطاعة الشرعية، هل هي شرط للوجوب أو شرط للأداء؟ ويختلف الحكم باختلاف القولين، فإذا قلنا: إنها شرط للأداء فقط لزم المرأة أن تنيب من يحج عنها إذا كانت قادرة بمالها أو بمالها وبدنها.
وإذا قلنا: إنها -أي الاستطاعة الشرعية- شرط للوجوب، فإن هذه المرأة لا يلزمها أن تنيب من يحج عنها. هذا فرق. الفرق الثاني: لو ماتت هذه المرأة القادرة بمالها وبدنها على الحج لكن ليس لها محرم، فهل يكون الحج دَينًا في تركتها فيلزم الورثة أن يقيموا من يحج عنها أو لا؟ .
إن قلنا بأن الاستطاعة الشرعية شرط للوجوب فإنه لا يلزم
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة، رقم (3006). ورواه مسلم، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره، رقم (1341).
الورثة أن يقيموا من يحج عنها؛ لأن هذه المرأة كالمرأة الفقيرة سواء، ليس عليها حج.
وإن قلنا إنه شرط للأداء لزم الورثة أن ينيبوا من يحج عنها، أو أن يحجوا هم بأنفسهم عنها.
قال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} :
يعني أن من حجَّ البيت عند الاستطاعة فقد أدى فريضته، ومن كفر يعني فلم يحج، فكفر هذه الفريضة، ولم يقم بها، فإن الله غني عن العالمين، أي عن كل أحد؛ لأن المراد بالعالمين هنا من سوى الله، فهي كقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، وقد يطلق العالم على بعض الأفراد مثل قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، فإن المراد بالعالمين هنا الإنس والجن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أرسل إلى الإنس والجن.
فالعالمون تارة يراد بها ما سوى الله، وتارة يراد بها البعض منهم حسب ما يقتضيه السياق والمعنى.
وقوله {وَمَنْ كَفَرَ} {مَنْ} هنا يحتمل أن تكون اسمًا موصولًا، ويحتمل أن تكون شرطية. أما على كونها شرطية فالفاء في قوله:{فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} رابطة وإنما احتيج إليها لأن جواب الشرط جملة اسمية. وأما على كون {مَنْ} اسمًا موصولًا فإنما وقعت الفاء في خبرها؛ لأن الاسم الموصول مُشْبِه للشرط في العموم، فيعطى حكمه، يعني والذين كفروا فإن الله غني عن العالمين.
وفي قوله: {غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} إظهار في موضع الإضمار؛
لأن مقتضى السياق أن يقول: ومن كفر فإن الله غني عنه، كما في قوله تعالى في آية أخرى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] فهنا قال: {غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} والإظهار في موضع الإضمار ذكرنا أنه يفيد عدة فوائد منها:
1 -
إرادة العموم؛ لأنه لو قال: فإن الله غني عنه لم تفد في العموم ما أفاده قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} .
2 -
الإشارة إلى أن هذا الذي وضع فيه الظاهر موضع المضمر من هؤلاء العالمين، يعني أن الله غني عنه كما أنه غني عن جميع العالمين.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
أن أول بيت وضع للعبادة هو الكعبة التي في مكة فيكون سابقًا على بيت المقدس، وآخر بيت وضع للعبادة المسجد النبوي. وهذه هي المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"لا تشد الرحال -إذا قلنا لا تشُدوا الرحالَ فهي بالفتح، وإن قلنا لا تُشدُ الرحالُ فهي بالضم- إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"
(1)
.
2 -
أن تقدم المكان في العبادة له أثر في تفضيله، لقوله:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} . وهذا يراد به التفضيل، ولهذا قال العلماء: إن المسجد الأسبق في إقامة الجماعة فيه
(1)
رواه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة ، رقم (1189). ورواه مسلم، في كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلي ثلاث مساجد، رقم (1397).
أفضل من المسجد الحديث. فإذا كان حول الإنسان مسجدان الأول قديم، والآخر جديد، ولم يتميز أحدهما عن الآخر بفضيلة أخرى، فإن القديم أفضل من الجديد لسبقه من العبادة فيه.
3 -
الرد على بني إسرائيل وهو أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث من البلد الذي فيه أول مسجد وضع للناس، وأنبياء بني إسرائيل بعثوا في بيت المقدس. فيكون في هذا رد على اليهود الذين يقدسون بيت المقدس، وكذلك النصارى الذين يقدسونه، فقيل لهم: إن الكعبة التي بعث منها الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من بيت المقدس.
4 -
أن هذا البيت هدى للعالمين، يعني أن الناس يهتدون به بما يقيمونه من الشعائر، أو يهتدون به حيث يتوجهون إليه في صلواتهم.
5 -
فضيلة هذا البيت بكونه أول بيت وضع للناس.
6 -
أن الكعبة معظمة عند جميع الخلق؛ لأنه إذا كان أول بيت وضع للناس فسوف يعظمه الناس. ولهذا ذهب كثير من أهل العلم إلى أن القبلة هي الكعبة لليهود والنصارى والمسلمين وجميع أهل الأديان، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ولكن اليهود صاروا يتجهون إلى بيت المقدس، والنصارى صاروا يتجهون إلى المشرق، وهو من جملة ما حرفوه من دينهم، وإلا فالأصل أن الكعبة قبلة لجميع الناس.
7 -
أن الناس لابد لهم من بيت يجتمعون عليه، وتهوي قلوبهم إليه، ولهذا وضع الله لهم ما كان بمكة.
8 -
أن من أسماء مكة (بكة). ولها أسماء عديدة أكثر من هذا. ومن أراد الإطلاع عليها فليرجع إلى (الجامع اللطيف في
فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف) لابن ظهيرة، أو يرجع إلى (أخبار مكة) للأزرقي.
9 -
أن هذا البيت مبارك؛ مبارك قَدَرًا، ومبارك شرعًا، وقد مرَّ علينا في التفسير بيان وجوه بركته.
10 -
أنه هدى ومنار للعالمين، يهتدون به، ويهتدون إليه، ويؤمونه في عباداتهم. قد جاء في الحديث:"البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتًا"
(1)
.
11 -
أن في هذا البيت آيات بينات ظاهرة لكل أحد، منها {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} ، ومنها أن من دخله كان آمنًا، ومنها فريضة حجه على جميع الناس. فإن هذه كلها آيات تدل على أن هذا البيت أشرف البيوت كما أنه أول بيت وضع للناس.
12 -
أن الآيات كما تكون شرعية، تكون كذلك حسية كونية، كما في هذه الآيات التى ذكرت للبيت العتيق.
13 -
التنويه بفضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} ، لأن القول الراجح أنه ليس المراد بمقامه الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء الكعبة فحسب، بل كل مقاماته في مكة وما حولها من المناسك.
14 -
وجوب تأمين من دخل المسجد الحرام؛ لقوله {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} . وقد رحم النبي عليه الصلاة والسلام أن يسفك في مكة دم، وأن يقطع فيها شجرة، وأن ينفر صيدها
(2)
فضلًا عن
(1)
رواه أبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء فى التشديد فى أكل مال اليتيم، رقم (2874).
(2)
رواه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب لا يحل القتال بمكة، رقم (1834). =
قتله، إذا رأيت الصيد في مكة على شجرة، أو في فرجة، فإنه لا يجوز لك أن تنفره منها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لا ينفر" كل ذلك من باب توطيد الأمن في مكة.
فإن قال قائل: ما تقولون في قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة؟ .
فالجواب: أن قتال الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل مكة من أجل توطيد أمنها؛ لأن أهل مكة صاروا يتحكمون في البيت، ولهذا منعوا الرسول عليه الصلاة والسلام من أداء العمرة في غزوة الحديبية، فكان في هذا الإحلال الذي أحله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك النهار مصلحة لتوطيد الأمن في البيت، وحمايته من الظلمة، كما قال تعالى:{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34]، وأيضًا فإن هذا الإحلال ليس إحلالًا مطلقًا، بل هو إحلال مقيد، كان ساعة من نهار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما أحلت لي ساعة من نهار وإنها لن تحل لأحد بعدي"
(1)
، فقد كان القتال فيها محرمًا ثم أحل، ثم عاد تحريمه إلى يوم القيامة.
15 -
أن حرمة المسلم أعظم من حرمة البيت. فالذين ينتهكون دماء المسلمين وأموال المسلمين أشد من الذين ينتهكون حرمة البيت عند الله؛ لأن حرمة المسلم أعظم عند الله تعالى. ودليل ذلك أن القتال في مكة محرم ولكن الله قال: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191]، فلما أرادوا سفك دماء المسلمين، وقاتلوا
= ورواه مسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، رقم (1353).
(1)
تقدم تخريجه في الحديث السابق.
المسلمين، أمر الله بقتلهم مع أن في قتلهم انتهاكًا لأمن البيت. لكن لما أرادوا الاعتداء على حرمة المسلم أبيحت دماؤهم. ولهذا نجد الآيات الكريمة على القراءة المشهورة (فاقتلوهم) ولم يقل:(فقاتلوهم) وإن كان فيها قراءة (فقاتلوهم). لكن المراد قاتلوهم حتى تقتلوهم، والقتل أبلغ من المقاتلة، اقتلوهم لأنهم هم الذين انتهكوا حرمة البيت فلم يبق لهم حرمة.
16 -
وجوب حج البيت على من استطاع إليه سبيلًا؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} ووجه الوجوب أن (على) كما قال الأصوليون ظاهرة في الوجوب.
17 -
أن الحج لا يجب على غير المستطيع؛ لقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} . والاستطاعة تكون بالمال أو البدن، أو بهما جميعًا.
18 -
بيان رحمة الله عز وجل حيث لم يفرض على عباده ما كان شاقًا عليهم ولا يستطيعونه؛ لقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} .
19 -
أن من لم يحج فهو كافر؛ لقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . واختلف العلماء رحمهم الله في هذا الكفر، هل هو نوع من الكفر، أو هو الكفر المطلق؟ على قولين لأهل العلم، وهما روايتان عن الإمام أحمد:
الأولى: فعلى القول بأنه الكفر المطلق، يكون من ترك الحج وهو مستطيع مرتدًا خارجًا عن الإسلام، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
الثانية: وعلى القول الثاني، أن المراد بالكفر هنا نوع منه، فإنه
لا يكفر. وهذا القول هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو ظاهر ما روي عن الصحابة. قال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة
(1)
، وعلى هذا فيكون الكفر هنا نوعًا من الكفر، كقوله صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"
(2)
، مع أن قتال المسلم لا يُخرج من الإيمان، كما قال الله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10].
20 -
بيان غنى الله عز وجل عن كل أحد. فهو لم يأمر عباده بالعبادة من أجل أن ينتفع بها، كما جاء في الحديث القدسي، حديث أبي ذر الغفاري الطويل:"يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني"
(3)
. فالله عز وجل غني عنا، إنما أمرنا ونهانا لتستقيم أمورنا، وتصلح أحوالنا، ونسعد في الدنيا والآخرة. أما لو كنا على أفجر قلب رجل من الناس فإن ذلك لا يضر الله شيئًا، لكن لما كان بنو آدم قد أعطوا من
(1)
رواه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، رقم (2622).
(2)
رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، رقم (48). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"، رقم (64).
(3)
رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، رقم (2577).
العقل ما استحقوا به أن توجه إليهم التكاليف بالأمر والنهي، صاروا أهلًا للأمر والنهي، ولهذا لا يوجه الأمر والنهي إلى البهائم؛ لأنها لم تعط عقولًا، فكان إعطاء العقل لبني آدم معناه أو مقتضاه إلزامهم بالتكاليف، حتى ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة، أما البهائم فآخر أمرها أن تكون ترابًا، تبعث يوم القيامة، ويقتص من بعضها لبعض، ثم يقال: كوني ترابًا فتكون ترابًا.
21 -
أنه إذا كان الله غنيًا عن العالمين، لزم أن يكون العالمون مفتقرين إليه، وليس بهم غنى عن الله. وهو كذلك، فإن الخلق مفتقرون إلى الله تعالى غاية الافتقار، ولهذا ينبغي لك أن تسأل ربك بلسان الحال أو لسان المقال، في كل أمورك، واستعن بالله في كل أمورك {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] لا يغفل عن بالك تعلقك بالله سبحانه وتعالى في كل شيء، وقد جاء في الحديث:"ليسأل أحدكم ربَّه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع"
(1)
، أي شراك النعل الزهيد الذي لا يساوي شيئا، لا تغفل عن سؤال الله إياه، إما بلسان الحال، وإما بلسان المقال.
* * *
• قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98].
هنا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوبخ هؤلاء الذين من أهل
(1)
رواه الترمذي، كتاب الدعوات، باب ليسأل الحاجة مهما صغرت، رقم (3973، 3974).
الكتاب، وفي آية سبقت كان الخطاب من الله:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70] وهنا أَمْرٌ من الله للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {قُل يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} "لِمَ": الاستفهام هنا للتوبيخ، واللام حرف جر، و (ما) استفهامية، لكن حذفت ألفها لأن (ما) الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر حذفت ألفها مثل:(لِمَ، عَمَّ، فيمَ، علامَ) وما أشبه ذلك.
يقول الله عز وجل: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} تكفرون؛ أي تجحدونها، وتتغافلون عنها، وتتعامون عنها. والمراد بالآيات هنا الكونية والشرعية، الكفر بالآيات الكونية يتضمن ثلاثة أمور:
الأول: أن ينكر أن الله خلقها.
الثاني: أن يعتقد أن لله تعالى شريكًا في إيجادها.
الثالث: أن يعتقد أن لله معينًا فيها.
أما الكفر بالآيات الشرعية فيتضمن أمرين:
الأول: تكذيبها، بأن يكذب بأنها من عند الله، أو يكذب بأخبارها، والتكذيب إما أن يكون في أصلها بأن يقول: هذه لم تنزل من عند الله، أو يكذب أخبارها، أي خبر فيها إذا كذبه فهو تكذيب بالجميع؛ لأنه لا يمكن أن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض.
الثاني: مخالفتها، ثم إن كانت مخالفة تامة فهو كفر أكبر، وإن كانت غير تامة فهو كفر أصغر. وهو ما يعبر عنه بكفر دون كفر أو بالفسوق.
وقوله: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} ، شهيد: أي شاهد. وأتى
بصيغة المبالغة أو بالصفة المشبهة؛ لأن الله سبحانه وتعالى شهيد على أعمالهم. وأعمالهم كثيرة، وإذا كثُر المشهود عليه كثرت الشهادة.
وقوله: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} يحتمل أنه داخل في ضمن التوبيخ في قوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ} فيكون المعنى: لم تكفرون بآيات الله مع علمكم بأن الله شهيد على ما تعملون. ويحتمل أن تكون الواو استئناف، ويكونُ التوبيخ انتهى عند قوله:{لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ} ، ثم استأنف فقال:{وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} فيكون في ذلكَ تهديد لهؤلاء الذين يكفرون بآيات الله، تهديدٌ بكون الله شهيدًا على ما يعملون. وإذا كان شهيدًا على ما يعملون فسوف يجازيهم عليه في الدنيا وفي الآخرة بما يستحقون.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوبخ أهل الكتاب على كفرهم بآيات الله، ويتعدى هذا الحكم إلى غيرهم، فيتفرع من هذه الفائدة أن كل من كفر بآيات الله فهو مستحق للتوبيخ.
2 -
إثبات شهادة الله سبحانه وتعالى على كل ما يعمل بنو آدم؛ لقوله: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} : و (ما) اسم موصول يفيد العموم.
3 -
تهديد من يكفر بآيات الله، لأن مثل هذه الصيغة:{وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} يراد بها توبيخ من فعل ما لا يرضي الله عز وجل بأن الله شهيد عليه، وسوف يحصي عمله ثم يجازيه على ذلك.
4 -
إحاطة الله تعالى بكل شئ، وأنه وسع كل شيء؛
لقوله: {عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} فمن يحصي بني آدم من أهل الكتاب وغيرهم؟ ومن يحصي أعمالهم؟ الله عز وجل، واسع عليم، يحصي كل شيء، ولا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم.
وربما يستفاد من هذه الآية من قوله: {شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} أنه لا يحاسب العبد على ما حدّث به نفسه، كما صحَّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:"إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم"
(1)
.
فحديث النفس -أي الوساوس التي تكون في الصدر- لا يؤاخذ عليها الإنسان إلا إذا عمل، وركن إليها، واعتقدها، وجعلها من أعمال القلب. فحينئذٍ يحاسب عليها، وكذلك إذا نطق بها لسانه، أو عمل بمقتضاها بجوارحه، فحينئذٍ يحاسب عليها.
* * *
• ثم قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 99].
هذا أمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم من ربّه أن يوبخ أهل الكتاب على عدوانهم على غيرهم؛ لأن التوبيخ الأول: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 98] توبيخ على عملهم القاصر عليهم، والثاني:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} توبيخ على عدوانهم على الغير حيث يصدون عن سبيل الله.
(1)
رواه البخاري، كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والإكراه، رقم (5269). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، رقم (127).
قال: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . يعني لأي شيء وبأي حجة تصدون؟ أي تصرفون {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي عن دينه وشريعته، وسمي الدين سبيلًا لله لأنه موصل إليه، وأضيف إلى الله لوجهين:
الوجه الأول: أن الله هو الذي وضعه سبيلًا للخلق يمشون عليه.
الوجه الثاني: أنه موصل إلي الله، فمن سلك السبيل الذي وضعه الله للعباد فسيصل إلي الله عز وجل. فالمراد بسبيل الله دينه؛ لأنه الطريق الموصل إليه.
وقوله: {مَنْ آمَنَ} .
{مَنْ} مفعول تصدون، يعني تصرفون الذي آمن عن سبيل الله، وهذا شأن بني إسرائيل من اليهود والنصارى، يصدون عن سبيل الله من آمن. وإنما ذكر مَنْ آمن مع أنهم يصدون من آمن حتى يرتد عن إيمانه، ويصدون مَنْ لم يؤمن حتى لا يدخل في الإيمان؛ لأن صدَّ من آمن أشد عدوانًا من صدِّ من لم يؤمن؛ لأن من آمن يصدونه ليكون مرتدًا، ومن لم يؤمن يصدونه عن سبيل الله من أجل أن يبقي علي كفره. والبقاء على الكفر أهون من الردة كما هو ظاهر. وقوله:{مَنْ آمَنَ} يشمل الرجال والنساء، ولكن خطابات القرآن غالبها للرجال؛ لأن الرجل هو الأصل، وهو الأمير على المرأة:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34].
{تَبْغُونَهَا عِوَجًا} :
{تَبْغُونَهَا} الجملة حال من الواو في قوله: {تَصُدُّونَ} ، يعني حال كونكم تبغون سبيل الله، أي تطلبونها {عِوَجًا} أي
لأجل العوج، فتكون مفعولًا من أجله، ويجوز أن تكون مفعولًا به، أي تطلبونها عوجًا أي تصيرونها عِوَجًا. والعوج ضد المستقيم. ويقال عِوَج في المعاني، وعَوَج في الأعيان. فتقول مثلًا: هذه العصا عَوَج؛ لأنه عين. وتقول: هذا القول عِوَج؛ لأنه معنى، ففي المعاني بكسر العين، وفي المحسوسات بفتحها. وأصل العوج: الميل، وضده الاستقامة. والعوج عن شريعة الله يشمل معنيين: المعنى الأول: في الأوامر، والثاني: في النواهي. أما في الأوامر فاعوجاجها إما بالتهاون بها والتفريط، وإما بالإفراط فيها والغلو، فالناس بالنسبة لأوامر الله ثلاثة أقسام: قسم وسط، وقسم مُفرِّط، وقسم مُفرِط، يعني غالٍ متجاوز للحد. فالوسط هو المستقيم. والمفرط عَوج، والزائد عَوج أيضًا. هذا في الأوامر. أما في النواهي فالعوج هو انتهاكها وارتكابها، هذا عوج؛ لأن الصراط المستقيم في النواهي أن تدعها، وأن تتجاوزها. فإذا أنت فعلتها وانتهكتها فهذا هو العوج فيها. فهؤلاء اليهود والنصارى، أهل الكتاب، يريدون من الناس العوج في الأوامر وفي النواهي، في الأوامر بالتفريط، والتهاون، أو بالغلو والإفراط. وفي النواهي بانتهاكها، والتهاون بها.
{تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} الواو هذه للحال. يعني والحال أنكم شهداء على ما تفعلون. فأنتم تعلمون أنكم بفعلكم هذا تصدون عن سبيل الله. تعلمون هذا وتشهدون به. ووجه ذلك أنه يوجد في كتبهم أن محمدَ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم سوف يُبعث، وأنه رسول الله، وأنه الذي بشَّر به عيسى، لكنهم يحرفون الكلم عن مواضعه من أجل صدِّ الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. فصاروا
يصدون عن سبيل الله وهم شهداء، يشهدون بالحق. لكن والعياذ بالله استكبروا عنه، وأنتم شهداء على أنكم تصدون عن سبيل الله؛ لأنكم تعلمون أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو سبيل الله.
{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، نفى الله أن يكون غافلًا عن عملهم القليل والكثير. وهنا نجد أن هذه الصفة من الصفات السلبية؛ لأن صفات الله قسمان: ثبوتية، وسلبية؛ يعني شيء ثابت لله، وشيء منفي عنه. فهنا الصفة سلبية. الذي نفي عن الله: الغفلة. والقاعدة عند أهل السنة: أن الصفات السلبية تتضمن شيئين:
الأول: انتفاء هذه الصفة التي نفاها الله عن نفسه.
والثاني: ثبوت الكمال في ضدها؛ لأنها ما نفيت عنه إلا لأنه كامل، فيكون قوله:{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} متضمنًا لنفي الغفلة عن الله، والثاني ثبوت كمال المراقبة؛ لأن من كان كامل المراقبة فإنه ليس عنده غفلة ،فتكون هذه الآية مثبتة لله تعالى كمال المراقبة كما قال تعالى {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52] وانتفاء الغفلة عنه.
والجملة تفيد التهديد لهؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجًا.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوبخ أهل الكتاب على عدوانهم على الغير، وذلك بالصدِّ عن سبيل الله.
2 -
أن من صدَّ عن سبيل الله من المسلمين ففيه شبه من أهل الكتاب (اليهود والنصاري) فإذا وجد أحد يثبطك عن فعل
الخير أو يرغبك في فعل الشر، ففيه شبه من اليهود والنصارى؛ لأن هذا سبيلهم.
3 -
إثبات أن الشياطين ليست شياطين الجن فقط، فكما أن للجن شياطين يصدون عن سبيل الله، ففي الإنس أيضًا شياطين يصدون عن سبيل الله، وإلى هذا يقول الله تبارك وتعالى في سورة الأنعام:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].
4 -
الحث على لزوم الشرع؛ لأنه سبيل الله، وكل إنسان عاقل فإنه يسعى إلى الوصول إلى الله عز وجل؛ لأنه غاية المطالب، ولا وصول إلى الله إلا بسلوك شرعه وسبيله الذي يوصل إليه.
5 -
أن من صدَّ عن سبيل الله من آمن به فإنه في غاية ما يكون من العدوان، وهو أعظم ممن صدَّ عن سبيل الله من لم يؤمن؛ لأن هذا منع، والأول رفع. والرفع أشد، رفع الخير أشد عقوبة من منعه، وأشد جناية.
6 -
ومن فوائد هذه الآية سوء القصد من أهل الكتاب، حيث يبغون أن تكون سبيل الله عوجًا.
وهذا الوصف لأهل الكتاب لا يزال منطبقًا عليهم إلى اليوم، فللنصارى دعاة يُنَصِّرون الناس ويسعون بكل جهدهم إلى أن يصدوا عن سبيل الله من آمن؛ لأنهم يريدون أن يسلك الناس السبيل العَوَج، لا يريدون أن يسلكوا السبيل السوي، وما زالوا إلى اليوم، ولهم إذاعات خاصة تدعو الناس إلى النصرانية، والعياذ بالله، النصرانية الباطلة التي يحاربها عيسى عليه الصلاة
والسلام، كما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 116، 117] فهم الآن يَدَّعون أن دين عيسى عليه الصلاة والسلام القولُ بالتثليث، ويقولون: إن الله ثالث ثلاثة، ثم يضحكون على أنفسهم وعلى الناس، ويقولون: إنه ثلاثة في واحد، فهل هذا معقول؟ !
لكن هذا من ضلال النصارى؛ لأن النصارى ضالون. حتى الأمور العقلية لا يهتدون إليها فكيف ثلاثة في واحد؟ ! هذا لا يمكن.
على كل حال: هم يريدون أن يضلوا الناس منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا. ومن ثَمَّ يجب على المسلمين الحذر منهم، والتشهير بهم، حتى ينفر الناس منهم، وأن يقابلوا دعوتهم الإلحادية الكفرية بدعوة التوحيد والإخلاص.
والتوحيد والإخلاص موافقان للفطرة السليمة، لو وجد من يعرضهما عرضًا حقيقيًا شقيًّا. لكن -مع الأسف- أن المسلمين في غفلة، فالمسلمون الذين هم على الحق لا تجد منهم الدعاة الذين يدعون إلى الحق إلا قليلًا في بلادهم، أما أولئك النصارى المنصرون، فإنهم يجوبون مشارق الأرض ومغاربها، ويغرون الناس بالمال، وبحسن الخلق، حتى ينخدع الناس بهم.
7 -
أن أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيل الله يعلمون
أنهم على باطل، وأن الحق في خلافهم؛ لقوله:{وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} لكن الذي يمنعهم هو الاستكبار.
8 -
إثبات إحاطة الله سبحانه وتعالى بكل شيء علمًا ورقابة؛ لقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
9 -
أن من صفات الله مَّاَ هو سلبي أي منفي، وهذا كثير في القرآن، قال الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].
* * *
• ثم قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100].
أولًا: هذا الحكم مصدر بالنداء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا} وتصدير الحكم بالنداء يدل على الاهتمام به، والعناية به، وذلك لأن النداء يتضمن تنبيه المخاطب، والتنبيه لا يكون إلا لأمر هام تجب العناية به. ثم صار النداء موجهًا للذين آمنوا من باب الإغراء لقبول ما يأتي تصديقًا به إن كان خبرًا، وامتثالًا له إن كان طلبًا أمرًا ونهيًا، لأن وصفهم بالإيمان يقتضي أن يقوموا بمقتضى هذا الخطاب الموجه لهم. كما لو قلت لشخص: يا رجل افعل كذا، يعني أن مقتضى رجولتك أن تفعل هذا. فإذا قلت: يا مؤمن افعل هذا، فالمعنى أنه من مقتضى إيمانك أن تفعل هذا، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا} يعني من مقتضى إيمانكم أن تنتبهوا لما سيلقى عليكم. ولهذا قال ابن مسعود
(1)
رضي الله عنه: إذا
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه 1/ 211، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 196، وابن كثير في تفسيره 1/ 61.
سمعت الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك، فإما خير تؤمر به، وإما شر تنهى عنه. ثم إن الخطاب بوصف الإيمان يقتضي أن امتثال ذلك من مقتضيات الإيمان، ويقتضي أيضًا أن مخالفته نقص في الإيمان؛ لأن المؤمن يقتضي إيمانه أن يقوم بما أمر به، وأن يدع ما نهي عنه. فالخلاصة أنه يقتضي أمورًا:
الأمر الأول: إذا صدر الخطاب بالنداء فهو دليل على الاعتناء به، وأهميته.
الأمر الثاني: اختيار النداء بوصف الإيمان موجب.
الأمر الثالث: اختيار وصف الإيمان.
الأمر الرابع: الإعراض عنه ورفضه من منقصات الإيمان.
الامتثال إن كان أمرًا، والاجتناب إن كان نهيًا، والتصديق إن كان خبرًا من مقتضيات الإيمان.
يقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} .
{فَرِيقًا} يعني طائفة {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وهم اليهود والنصارى، فالكتاب لليهود هو التوراة، والكتاب للنصارى هو الإنجيل، وقوله:{فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني لا جميعهم؛ لأن بعض أهل الكتاب ليسوا على هذا الوصف، فإن منهم من آمن. فآمن من النصارى النجاشي، وآمن من اليهود عبد الله بن سلام. وهؤلاء من خيار المؤمنين، لكن فريقًا منهم يقول عنهم:{يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} يعني يوجبوا لكم أن ترتدوا بعد الإيمان، سواء كان ذلك بالقتال فيما بينكم، كما يذكر أن رجلًا من اليهود وشى بين الأوس والخزرج، ذكَّرهم أيام الجاهلية،
فثاروا، أي ثار بعضهم على بعض، وغضبوا، وقد يكون هذا السبب أو هذا المعنى الذي ذكر ضعيفًا، لكن مهما كان الأمر فإن أهل الكتاب يريدون منا أن نرتد عن الإيمان. وقد صرح الله بذلك في آيات أُخَر:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة: 109]، {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} [آل عمران: 69].
فأهل الكتاب يودون هذا. وتعلمون أن من ودَّ شيئًا سعى في تحصيله. إذن فنحن نعلم أن أهل الكتاب يسعون بكل ما يستطيعون أن يردوا المسلمين عن دينهم، سواء منعوا الناس عن الدخول في دين الإسلام، أو أخرجوهم من دين الإسلام بعد دخولهم فيه. وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا مطولًا في ذكر الفوائد.
قوله: {يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} :
والردَّة بعد الإيمان أعظم من منع الإيمان من أصله؛ لأنها إخراج من الإيمان إلى الكفر، ومن المعلوم أن الإنسان لن يخرج من الإيمان إلى الكفر إلا بمحاولات شديدة، إذ إن إبعاد من لم يدخل في الشيء أهون ممن دخل فيه، وآمن به، ولهذا قال:{بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .
وقوله: {كَافِرِينَ} المراد به: الكفر المخرج عن الملة، لكنهم قد لا يستطيعون أن يُخرجونا من الإيمان بالكلية، لكن بالتدريج مما يُلقونه أمامنا من معوِّقات كمال الإيمان، حتى ينحل الإيمان شيئًا فشيئًا، ولا يبقى في القلوب شيء، وحينئذٍ يكون الكفر المحض.
• ثم قال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101].
(كيف) استفهامية، لكن تحتمل وجهين:
الوجه الأول: الاستبعاد.
الوجه الثاني: التعجب.
فإذا نظرنا إلى حالهم أنهم تتلي عليهم آيات الله وفيهم رسوله، قلنا: إن ارتدادهم بعيد عن أن يرتدُّوا على أدبارهم وهم يتلى عليهم كتاب الله وفيهم رسوله، {تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} يُشاهدون النبي صلى الله عليه وسلم، مساءً وصباحًا، ويسمعون الآيات التي تُنزَّل عليه، فردَّتهم بعيدة، ولهذا لم تكن الردة إلا بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام. والردَّة في حياته قليلة جدًّا.
والوجه الثاني: أن تكون للتعجب، فيكون هذا تعجبًا من حال من يمكن أن يرتد، فإن الذي يرتد وتُتلى عليه آيات الله وفيه رسوله، لا شك أن حاله عجيبة؛ لأن الإنسان لو ارتد وهو لم يُشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع الآيات تنزل يومًا فيومًا، لكان له شيءٌ من العذر ولكن في الحال التي يسمع فيها آيات الله، ويُشاهد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس له عذر إطلاقًا، فيكون الاستفهام للتعجب. يعني: ما أعجب حالكم لو كفرتم.
إذن يكون في الآية على الوجهين تأييس للذين أوتوا الكتاب أن ينالوا مرادهم من المؤمنين بمحاولة ردتهم.
على الاسبعاد يعني: مهما حاولوا لا يمكن. وعلى الوجه الثاني: يكون توبيخًا لمن حاولوا يرتدوا كيف تفعلون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟
قال: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} .
{تُتْلَى} : أي تُقرأ عليكم، والتلاوة تأتي بمعنى القراءة، أي: تقرأ عليكم، وإذا وقعت من الفاعل فقيل (تلا) صار لها معنيان:
المعنى الأول: القراءة.
والمعنى الثاني: الاتباع.
ففي قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]، يتلونه يعني يقرؤونه، ويتَّبعونه، فهنا تُتلى عليهم آيات الله، أي تُقرأ .. والذي يقرؤها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، السند: رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عن الله:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 192 - 194] فهم يُتلى عليهم بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {آيَاتِ اللَّهِ} جمع آية، وهي العلامة، والمراد بها هنا القرآن، والقرآن آيات، كل آية منه دليل على المتكلم بها وهو الله سبحانه وتعالى، على ما له من الصفات المقتضية لتلك الآيات، ولهذا كل آية من القرآن فإنها معجزة، كما قال الله تعالى:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34](حديث) آية، أو عشر آيات، أو سورة، أو عشر سور، أو القرآن كله .. معجزة.
والمراد بآيات الله هنا الآيات الشرعية؛ لأن الآيات الكونية لا تُتلى لكن يُتلى عنها، أي يُخبر عنها:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37].
{وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} . (في): للظرفية {فِيكُمْ} أي: في مجتمعكم، وليس حالًّا فيهم عليه الصلاة والسلام، لكنه في مجتمعهم كما قال حسان بن ثابت:
وفينا رسول الله يتلو كتابه
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان في مجتمعهم، يُشاهدونه صباحًا ومساءً، ويغشاهم في مجالسهم، ويعودهم إذا مرضوا، ويزورهم صلى الله عليه وسلم في بيوتهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، فمن كان في هذه الحال هل يمكن لشرذمة من أهل الكتاب أن يردُّوه عن دينه؟ لا.
{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
{وَمَنْ يَعْتَصِمْ} : أي يستمسك، العصمة بالله عز وجل فقد هُدِي إلى صراط مستقيم.
وقوله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ باللهِ} يشمل الاعتصام به توكلًا عليه، والاعتصام به تعبُّدًا له؛ لأن في كل منهما عصمة. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فمن اعتصم بالله تعبُّدًا واستعانة، فقد هدي إلى صراطٍ مستقيم .. وأتى هنا بالفعل الماضي (هُدي): إشارة إلى أن هذا قد ثبت له الهدى سابقًا وواقعًا، سابقًا اللوح المحفوظ، في الكتابة حينما تُنفخ فيه الروح في بطن أمه، وواقعًا؛ لأنه اعتصم بالله.
وقوله: {هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} حذف الفاعل وذلك لتعدُّد طرق الهداية، فأعلى الهُداة الله عز وجل ثم الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم العلماء، فهنا حذف الفاعل؛ ليشمل كل الهداة، وأولهم الله عز وجل:{يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]، ثم الرسول صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، ثم ورثة الرسول وهم العلماء:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24].
إذن هُدِي الهداية الأولى من الله، ثم الرسول، ثم أولو العلم، لكن هداية التوفيق خاصة بالله عز وجل، لو اجتمع جميع الخلق على أن يهدوا أحدًا هداية توفيق ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ولكنهم يدُلُّون ويحثُّون ويُرغِّبون.
وقوله: {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . فيها قراءتان: بالسين والصاد، (سراط، وصراط)، لأن الصاد والسين تتناوبان دائمًا.
وقوله: {صِرَاطٍ} هو الطريق الواسع، يسمى سراطًا وأصله من (الزرط) بالزاي الابتلاع بسرعة؛ لأن الطريق الواسع يلجه الناس، ويخرجون منه بسرعة، بخلاف الضيِّق، فإن الناس يزدحمون فيه ولا يكادون يخرجون منه إلا بمشقة.
وقوله: {مُسْتَقِيمٍ} أي غير معوج، بل هو مستقيم، وهو يشمل الاستقامة نزولًا وارتفاعًا، والاستقامة انحرافًا واعتدالًا. إذن هو معتدل وليس فيه نزول ولا ارتفاع؛ لأن الصراط وهو الطريق إذا كان فيه انحراف واعتدال لم يكن مستقيمًا، ويُبطئ الوصول إلى الغاية. كذلك إذا كان مختلفًا نزولًا وارتفاعًا، فإنه ليس بمستقيم؛ لأنه تطول المسافة، ويحصل مشقة عند الارتفاع وعند النزول.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
من فوائد قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} :
1 -
تحذير المؤمنين من طاعة الكفار، لقوله {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ} .
2 -
أن الكفار ولو كانوا أهل كتاب يحاولون غاية المحاولة أن يردُّوا المؤمنين عن إيمانهم إلى الكفر. وقائل هذا هو الله
العالم بما في صدورهم. قد يتظاهرون لنا بالمسالمة والمداهنة، وأنهم أولياء، وأنهم أصدقاء، ولكن في قلوبهم الحقد، والغل، ومحبة أن نرتد أعقابنا كافرين، من أين نعلم هذا الذي في قلوبهم وهم يبدون لنا الود والصداقة والمحبة؟ نعلم هذا من القرآن الكريم.
فإن قال قائل: إن الله يقول: {فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ، والفريق مبهم ما ندري، ربما بعضهم على خلاف ذلك، وإذا وُجد الاحتمال بَطَل الاستدلال، فلا يمكن أن تعين طائفة من أهل الكتاب تقول: هؤلاء يُحبُّون أن نرتد على أعقابنا كافرين، لا يمكن أن تُعيِّن ما دام الله يقول:"فريقًا"، الفريق مبهم، فإذا قلت: إنهم هؤلاء، قلنا لك: بل هؤلاء، بل أولئك، فما هو الميزان إذن؟ لنا على هذا جوابان:
الجواب الأول: أن الله ذكر في آيات أخرى أن جميع الكفَّار يودُّون منا أن نكفر، وهو شامل لأهل الكتاب وغيرهم:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2]. {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109].
إذن هناك آيات تدل على أن جميع الكفار، ومن ضمنهم أهل الكتاب يودُّون منا ذلك.
الجواب الثاني: أن نقول هذا الفريق المبهم، يُبيِّنه الواقع، وهو أن من أهل الكتاب من آمن، ومن آمن لا يمكن أن يُحب من غيره أن يكفر، وحينئذ نقول: المراد بالفريق هنا من لم يؤمن منهم، فكل من لم يؤمن فهو داخلٌ هذا الفريق.
3 -
أن هؤلاء الفريق من أهل الكتاب لا يرضون منا بما دون الكفر، إلا أن يكون وسيلة إلى الكفر؛ لأنه الغاية، قال:{يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُافِرِين} .
وأساليب أهل الكتاب في إضلال المسلمين كثيرة جدًا ومتنوعة، منها: أن يفتحوا عليهم باب الشهوات. فإن باب الشهوات باب واسع، والضيّق من أبواب الشهوات يتَّسع بسرعة، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"
(1)
، ولهذا هم -قبَّحهم الله، ولعنة الله على اليهود والنصارى جميعًا- يسعون جادين على أن يُعطوا المرأة ما يُسمَّى بالحرِّية، وهي في الحقيقة الرق وليست حرِّية؛ لأن المرأة -ومثلها الرجل- إذا خرجت عن حدود الله، خرجت من رقِّ الدين إلى رقِّ الشيطان، تخرج من رقِّ الدين وهو الرق الحقيقي؛ لأنه عبودية لله، إلى رقِّ الشيطان، وإذا خرجت إلى رقِّ الشيطان واسترقَّها الشيطان صارت عبدًا له، هلكت وأهلكت، قال ابن القيم رحمه الله:
هربوا من الرق الذي خلقوا له
…
فبلوا برق النفس والشيطان
(هربوا من الرق الذي خُلقوا له): الرق الذي خُلقنا له هو عبادة الله عز وجل.
(وبُلوا): يعني ابتلاهم الله برقِّ النفس والشيطان، ولهذا
(1)
رواه البخاري، كتاب النكاح، باب ما يتقى من شؤم المرأة، رقم (5096). ورواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء، رقم (2740).
تجدهم يُركِّزون المرأة على أن تتدهور، وتتحرر من عبودية الله لتقع في عبودية الشيطان؛ لأنهم يعلمون أن أشد فتنة على الرجال هي المرأة، فيسعون بكل جهدهم على أن تختلط بالرجال، وتُشاركهم في الأعمال، ويلصق منكبها بمنكبه، وساقها بساقه، ويشم رائحتها، وتشم رائحته، وتصافحه، وربما تُعانقه؛ لأنهم يعلمون أن الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة بقي حيوانيًا بهيميًّا ليس له أي غرض إلا أن يُشبع غريزته -والعياذ بالله- وحينئذٍ ينسى الدين وما وراء الدين، ويرجع بعد ذلك إلى الكفر.
لا يستطيعون أن يقولوا للمسلمين: اكفروا؛ لأنهم لو قالوا: اكفروا، ما كفروا بل لقالوا: نعم نكفر بالطاغوت، ونؤمن بالله، ونضرب هامك، لكنهم يأتون بهذه الأساليب التي توجب أن ينزلق الناس بالفسوق، والفسوق بريد الكفر.
ثانيًا: يلقون الأفكار الرديئة الإلحادية الكفرية بين المسلمين باسم (الناس أحرار - دعوا كل أحد يعتنق ما شاء - دعوا كل أحد يقول ما شاء - لا تستعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا)، وما أشبه ذلك من الكلمات الرنَّانة التي إذا سمعها الإنسان قال: هذا هو الدين، ثم تحلَّل الناس وصار كلٌّ يعمل على ما يُريد، ولكن ما هي الطريق التي يتوصَّلون بها إلى هذا؟ الطريق: أن يضربوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويجعلوا الناس لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر؛ لأنهم يعرفون أنه إذا أُمر بالمعروف قام المعروف، وإذا نهي عن المنكر غاب المنكر، فيحاولون أن يقلِّلوا ويُضعفوا هذه الناحية، حتى يبقى الناس لا آمر ولا ناهي، كلٌ يركب ما شاء.
وهناك شيءٌ آخر يضربون عليه وهو مسألة الحدود والتعزيرات، يشوِّهون الإسلام بأنه يقطع اليد -يد السارق- ويرجم الزاني، يشوِّهون هذا حتى يُضعفوا هذه الناحية، ومن المعلوم أنه إذا ضعف الإيمان فلابد من رادع السلطان، فإن ضعف الإيمان وعُدم رادع السلطان، صارت المسألة فوضى، كل يفعل ما شاء، يكفر، يزني، يسرق، يشرب الخمر .. ؛ لأنه لا توجد حدود رادعة، والإيمان ضعيف بناء على أنهم يقولون: اجعلوا كل إنسان حرًّا في نفسه، ويتحلل الناس من الدين بمثل هذه الطرق، إلقاء الأفكار الرديئة في المسلمين. هذه من أساليب اليهود والنصارى التي يُضللون بها الناس، ويردونهم بعد إيمانهم كافرين.
كذلك أيضًا من أساليبهم التي يردون بها الناس عن الإيمان أن يزيِّنوا للناس محبة المال، وجباية المال، بكل ما يكون بحلال أو حرام، فيزينوا لهم المكاسب الربوية بشتى أنواعها، والمكاسب الميسرية بشتى أنواعها التي تتمثَّل في التأمينات وما أشبهها، فإن التأمينات لا شك أنها من الميسر؛ لأن المؤَمِّن والمؤمَّن له عقدهما دائرٌ بين الغنم والغرم، وهذا هو الميسر تمامًا، والنفس إذا اعتادت ذلك نسيت كل شيء. صار أكبر همِّها أن تكتسب هذا المال بالربا؛ لأن الربا يوجب زيادة المال باطِّراد، وزيادة الظلم باطِّراد، زيادة المال لآخذ الربا، والظلم لموكل الربا، فتأخذ النفس على الجشع، والشح، وحب المال، وتنسى ما خُلقت له. كذلك الميسر وعلى رأسه القمار، يجلس المتقامران في مجلس، كل واحد عنده خمسة ملايين من الأموال مثلا فَتحصل لعبة القمار فإذا بأحدهما يكتسح مال الآخر كله، خمسة ملايين فيصبح هذا
عنده عشرة ملايين، والثاني ما عنده إلا ثيابه يخرج من قاعة المقامرة ليس عليه إلا ثيابه، على كل حال مثل هذه الأساليب التي يُلقيها اليهود والنصارى وأشباههم بين المسلمين يجب على المسلمين الحذر منها؛ لأن الله يقول:{إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} .
يجب على المسلمين أن يستمدُّوا حياتهم ومنهاجهم من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنا واثق كل الثقة، أنهم إذا اعتمدوا في ذلك على الكتاب والسنة، فسيطؤون أعناق هؤلاء الكفار؛ لأن الله يقول:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] هذا كلام الله عز وجل، كلام الله الذي يقدر على كل شيء، هو وعدٌ من الله، من قادر صادق في وعده، فإذا كان كذلك فلماذا لا نتمسَّك بدينه؟ لماذا لا نتمسَّك تمسُّكًا تامًا، ونُظهر الأمة الإسلامية من جديد، تتمسَّك بدينها نصًّا وروحًا، لا نصًّا فقط؛ لأن التمسك بالدين نصًّا فقط لا روحًا، ليس بشيء. هو تمسُّك ظاهري يتلاشى عند حدوث النوازل، وأما التمسُّك نصًّا وروحًا فهو الذي ينتفع به الإنسان في دنياه وآخرته. إذن علينا أن نحذر كيد الذين أوتوا الكتاب وكيد كل كافر، لأن الله يقول في الكافرين:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]. وقال في سورة الممتحنة: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} فعلينا أن نأخذ بهذه الإرشادات التي أرشدنا الله إليها، وأن نسير في طريقنا مهتدين بهدي الله، مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يحصل لنا النصر والسعادة، والعز والكرامة في الدنيا والآخرة.
وأقول رأيي في هذا: إن كل واحد مقصِّر، لم يقم كل واحد بالواجب عليه. كل واحد في الشعوب الإسلامية، وولاة المسلمين مقصِّر لم يقم بالواجب، ولا ينبغي أن نقْصِر التقصير على طائفة معيَّنة، أو هيئة معيَّنة، بل كلنا مقصِّرون. هل الإنسان إذا رأى منكرًا من أخيه يقول: يا أخي تعال هذا حرام، لا يجوز، اتَّق الله؟ لا. مع أن هذا لم يُمنع منه أحد، ومع ذلك لا تجد من يقوم بهذا إلا النادر. لو أن الناس عُوّدوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا شأن المسلمين كلهم "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر"
(1)
لتغيَّر الأمر. والمعروف لا يُشترط له أن يكون له طائفة معينة من قبل الولاة، كلٌ يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، لكن بالحكمة، وأنا أقول دائمًا: إن الأمر بالمعروف غير تغيير المنكر. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس هو تغيير المنكر.
تغيير المنكر يحتاج إلى سلطة، لكن الأمر لا يحتاج إلى سلطة، كلٌ يأمر وينهى، وقد ذكرنا أن هناك ثلاثة أشياء تشتبه على بعض الناس وهي مختلفة:
1 -
الدعوة.
2 -
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3 -
والتغيير.
قال الله عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا
(1)
رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، رقم (4336). ورواه الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم (2169). ورواه أحمد في مسنده، رقم (22790).
الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82]. فهنا قسَّم الله تعالى الناس غير المسلمين إلى ثلاثة أقسام: اليهود والمشركين والنصارى .. وهنا قال: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} ، ولم يقل:(والنصارى). . {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} ، فلاحظ الفرق، ثم نجد أنَّ الله قال في آية أخرى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]، وقال في آية أخرى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} . وهذا أعم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] ..
فهذه ثلاث آيات، فالذين قالوا: إنا نصارى، ليسوا هم النصارى الذي هم أولياء لليهود وللكافرين .. هؤلاء قوم معينون، وصفهم الله بوصف لا يوجد في بقية النصاري، فقال:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82، 83]. فهذه الطائفة من النصارى هي التي تكون أقرب مودَّة للذين آمنوا، أما الطائفة التي إذا سمعت ما أنزل إلى الرسول نفرت، وسعت بكل ما تستطيع أن لا يقبل الناس هذا الذي أُنزل، فوالله ليست أقرب مودَّة من اليهود والمشركين، هم على حدٍ سواء.
4 -
أن طاعة الكفار مخالفة للإيمان؛ لقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، فتكون طاعتهم مخالفة لكمال الإيمان، وقد تصل إلى انتفاء الإيمان بالكلية.
5 -
أن حرص الكفار على ذلك من أجل إيماننا، وبناء عليه فإننا نُنزل القاعدة السابقة:(أن ما عُلِّق على وصف فإنه يزداد بزيادة ذلك الوصف وقوته) وعلى هذا فثقوا أنه كلما ازداد المؤمنون تمسُّكًا بدينهم ستزداد شراسة الكفار في صدهم عن دينهم. ما دام الوصف هو الإيمان، فإنه كلما ازددنا تمسكًا بالإيمان، ازداد الكفار شراسة في صدنا عن الإيمان، ومثل ذلك أيضًا: الطاعة والمعصية، كلما ازداد الناس في الإقبال على الله والتمسك بهديه، ازداد أهل الفسوق شراسة في القضاء على هذه القوة في الطاعة.
6 -
أن من أهل الكتاب من لا يُحاول إضلالنا عن ديننا، يؤخذ هذا من قوله:{إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} .
ومن فوائد قوله عز وجل: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
1 -
استبعاد أن يرتد المؤمن كافرًا، وهو يُتلى عليه كتاب الله وفيهم رسوله، والواقع شاهد بذلك، ولم تحصل الردة إلا بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم.
2 -
أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإقبال عليهما أعظم مانع يمنع من الكفر؛ يؤخذ من قوله:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} يعني بعيد منكم الكفر إذا كانت تُتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله، آيات الله تُتلى علينا الآن، ورسوله ليس فينا ولكن فينا سنته، فنأخذ من هذا أنه كلما تمسَّكنا بكتاب الله وسنة رسوله، فإن ذلك سيكون حصنًا منيعًا دون الكفر.
3 -
إثبات أن القرآن الكريم آية من آيات الله؛ لقوله: {آيَاتُ اللَّهِ} . ويتفرع على هذه الفائدة أنه إذا كان آية من آيات الله، فإنه لا يمكن أن يأتي أحد بمثله، إذ إن الآية هي العلامة التي تعين معلومها، ولو أمكن أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن ما كانت آيات الله.
4 -
أنه ربما نقول: إن القرآن آية شرعية، وكذلك يتضمن آيات كونية بما أودع الله فيه من الإشارات العظيمة إلى ما في الكون من الآيات، من أجل أن نجعل {آيَاتُ اللَّهِ} تشمل الشرعية وما دلت عليه هذه الشرعية من الآيات الكونية. وإلا فلا شك أن الذي يتلى هو الشرعية، لكنها قد تضمنت آيات كونية دلت عليها، مثل قوله تعالى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38 - 40]، ومثل قوله:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، فإن هذه الآية آخر جملة فيها تشمل كل ما يمكن الركوب عليه إلى يوم القيامة، ومثل قوله:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] عند بعض العلماء، فإن قوله {بِجَنَاحَيْهِ} يخرج الذي يطير بالقوة مثل الطائرات الحديدية هذه فإنها ليست من الأمم التي هي أمثالنا.
5 -
الحث على الاعتصام بالله؛ لقوله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ} .
6 -
بشارة من وفق للاعتصام بالله بأنه مهدي، وهذه فرد من
أفراد البشارات الكثيرة التي إذا تدبرها الإنسان حمد الله سبحانه وتعالى على نعمته أنه قد هداه وأنعم عليه.
7 -
أن دين الله عز وجل دين مستقيم؛ لقوله: {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} والمراد به صراط الله، وهو مستقيم في كل شيء، إن نظرت إلى الحقوق وجدته مستقيمًا فيها ليس فيه جور، فللَّه علينا حقوق، ولأنفسنا علينا حقوق، ولأهلنا علينا حقوق، ولزائرنا علينا حقوق، ولكل أحد حق على الآخر، قال النبي عليه الصلاة والسلام لأبي الدرداء:"فأعط كل ذي حق حقه"
(1)
. إذن هذا عدل، ليس فيه جنف، وهذا من استقامة هذا الدين. ولكن نبهنا فيما سبق على مسألة، وهي أن بعض الناس يقول: إن دين الإسلام دين المساواة، وبيّنا أن هذا خطأ، بل إن دين الإسلام هو دين العدل؛ لأن أكثر ما في القرآن نفي المساواة، لا إثبات المساواة، {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الأنعام: 50]{أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد: 16] وآيات كثيرة فيها نفي الاستواء؛ لكنه العدل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90] وذكرنا أن هذه العبارة دخل فيها من قال إنه يسوي بين الرجل والمرأة، وبين العالم والجاهل، وبين كل إنسان وآخر، مع الاختلاف في الصفات، وتميز كل واحد عن الآخر بصفاته. وهذا لا شك أنه خطأ، ولا يأتي الإسلام به. الإسلام يأتي بالعدل "أن تعطي كل ذي حق حقَّه".
(1)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، رقم (6139).
• قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
يقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} ، وما أكثر ما أمر الله بالتقوي في كتابه في آيات كثيرة، بل جعلها الله وصية لجميع الخلق:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] والتقوى مأخوذة من الوقاية، ولهذا يقال: إن أصلها (وَقْوَى) مؤنث من الوقاية. والوقاية اتخاذ الإنسان ما يقيه الذي يضره. ولهذا نقول: إن أجمع تفسير للتقوى أن يقال: التقوى اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه. هذا أجمع ما يقال.
وقوله عز وجل: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} {حَقَّ} مفعول مطلق مبيِّن لنوع التقوى التي أمرنا بها. أي اتقوا الله على هذا الوجه حق تقاته. ومعنى {حَقَّ تُقَاتِهِ} أن تتقوا الله ما استطعتم؛ لأن هذه هي التقوى التي أمرنا بها في آية أخرى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] أي ابذلوا كل ما تستطيعون في تقوى الله. ولهذا لا تظنوا أن هذه الآية {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} أنها تهوِّن التقوى؛ لأن الناس يتخذ من هذه الآية تهوينًا لأمر التقوى ويقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} والحقيقة أنها بالعكس، يعني اتقوا الله بقدر تستطيعون، ابذلوا كل الجهد في تقوى الله عز وجل. فيكون قوله:{حَقَّ تُقَاتِهِ} موازيًا لقوله: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وبناء على هذا تكون الآية محكمة أي غير منسوخة. وهذا القول هو الراجح. ومقابله أن الآية منسوخة، وأنها أمر بما فيه مشقة، وأن المراد بتقوى الله أن يذكر فلا ينسى، ويطاع
فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر. ولكن لدينا قاعدة مهمة جدًّا توجب أن لا يتسرع الإنسان في دعوى النسخ؛ لأن دعوى النسخ ليست دعوى بسيطة، فإن النسخ يتضمن إبطال حكم من الأحكام الشرعية، وإبطال الحكم من الأحكام الشرعية ليس بالأمر السهل؛ وإن كان بعض الناس وبعض العلماء يتساهل، وإذا عجز أن يوفِّق بين النصوص، أو يرجح ادَّعى النسخ. وهذا غلط؛ لأنه يترتب عليه إلغاء حكم شرعي. فنحن نقول: ما دام النص من القرآن أو السنة يمكن أن يحمل على وجه صحيح لا يعارض النصوص الأخرى، فهذا هو الواجب؛ لأننا إذا سلكنا هذا المسلك عملنا بكل النصوص. أما إذا قلنا: إن أحدهما منسوخ فإننا نلغي نصًّا جاء به الوحي. وهذا ليس بالأمر الهين، فالصحيح أن هذه الآية غير منسوخة؛ لأنها لا تخالف الآيات، هي مثل قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] والغريب أن الذين قالوا بالنسخ قالوا: إنها نسختها هذه الآية {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا. . .} إلخ لكن لا وجه لهذا. فالصحيح أن معنى {حَقَّ تُقَاتِهِ} ، أي بقدر ما تستطيعون و {حَقَّ تُقَاتِهِ} ما أمرنا به عز وجل في قوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
وقوله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} هذا مما يدخل تحت الخطاب، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، يعني إلا وأنتم مسلمون لله ظاهرًا وباطنًا. والإسلام هنا يدخل فيه الإيمان، وكما مرَّ في آيات كثيرة الدعاء بأن يموت الإنسان مسلمًا:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126]، وفي سورة يوسف
قال: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]. لكن جاء في السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعاء الميت: "اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته فتوفه على الإيمان"
(1)
، ففرَّق بين حال الحياة وحال الموت.
والجواب عن ذلك أن نقول: إنما غاير النبي صلى الله عليه وسلم بينهما لأن صلاح الأمة على سبيل العموم بالإسلام؛ إذا حيت الأمة مسلمة انتظم أمرها؛ لأن الإسلام معناه الاستسلام، ولم يكن فيها ما يوجب العناد والاستكبار. ولما قال:"أحييته منا فأحيه على الإسلام"، قال:"من توفيته فتوفه على الإيمان"، لأن المدار عند الموت على ما في القلب. لكن في هذه الآية وكذلك في الآيات الأخرى التي أشرنا إليها لم يذكر الإيمان معها فيكون الإسلام هنا شاملًا للإيمان.
وقوله: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي: لا تمت إلا وأنت مسلم. وهذا يقتضي أن تكون مسلمًا من الآن، لا تنتظر وتقول: سأسلم إذا جاء لموت، بل تكون مسلمًا من الآن؛ لأنك لا تدري متى يفاجئك الموت. فالآية لا تعني أن تؤخر الإسلام إلى عند الموت لأنك لا تدري، بل فيها الأمر بالمبادرة بالإسلام، وبالثبات عليه إلى الموت.
وفي هذا الآية إشكال في قوله {وَلَا تَمُوتُنَّ} ، (لا) ناهية
(1)
رواه أبو داود، كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت، رقم (3201). ورواه الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما يقول في الصلاة على الميت، رقم (1024). ورواه ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنازة، رقم (1498). ورواه أحمد في مسنده، رقم (8591).
وليست نافية؛ لأن عطف الطلب على الطلب أولى من عطف الخبر على الطلب. {اتَّقُوا اللَّهَ} هذا طلب أمر {وَلَا تَمُوتُنَّ} هذا طلب نهي، وإذا كانت ناهية يشكل علينا أن الفعل بعدها مرفوع، فكيف كانت ناهية والفعل بعدها مرفوع؟
الجواب: أن (تموتن) أصلها بدون نهي (تموتونن) ولما جاءت لا الناهية حذفت نون الإعراب فالتقت الواو بالنون والنون المشددة، نونان أولهما ساكن والساكن لا يمكن أن يقابل ساكنًا آخر كما قال ابن مالك:
إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق
…
وإن يكن لينًا فحذفه استحق
إذن نحذف الواو هنا لأنه من حروف اللين. وبقيت الميم التي تليها الواو مضمومة، ونون التوكيد تبقى على حالها. فصار الإعراب واضحًا الآن: فـ (لا) ناهية، (تموتن): فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل، والنون للتوكيد.
وجملة {وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} حال من الواو المحذوفة في قوله: {وَلَا تَمُوتُنَّ} .
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
وجوب تقوى الله حقَّ تقاته للأمر بذلك بقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} .
2 -
العناية والاهتمام بالتقوى، يؤخذ من تصديره بالنداء.
3 -
أن التقوى من مقتضيات الإيمان لتوجيه النداء إلى المؤمنين.
4 -
أن ترك التقوى من نواقص الإيمان؛ لأنه إذا نودي
الإنسان بوصف فإنه يزداد وصفه هذا بحسب زيادته فيما وجِّه إليه.
5 -
وجوب البقاء على الإسلام والمبادرة به؛ لقوله: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
6 -
أن المَدار على الخاتمة، نسأل الله حسن الخاتمة؛ لقوله:{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ومصداق ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)
(1)
. لكن الأول ورد فيه قيد -والحمد لله- يريح البال، ويزيل الخوف (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار). ورد هذا الحديث في قصة الرجل الذي كان مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة وكان شجاعًا مقدامًا لا يدع شاذة ولا فاذة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا من أهل النار -نسأل الله العافية- فَعَظُمَ ذلك على الصحابة وشقَّ عليهم كيف يكون هذا الرجل من أهل النار وهو بهذه المثابة في جهاده، فقال رجل: والله لألزمنَّه، يعني لأصاحبنّه حتى أنظر ما عاقبته؟ فأصاب هذا الرجل الشجاع سهم فجزع فأخذ سيفه واتكأ عليه حتى خرج من ظهره -أعوذ بالله-، جعله في صدره حتى
(1)
رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله وسلامه عليه وذريته، رقم (3332). ورواه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابته، رقم (2643).
خرج من ظهره ومات، فلما أصبح الرجل غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أنك رسول الله، قال: وبم؟ قال: إن الرجل الذي قلت إنه من أهل النار فعل كيت وكيت، ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام:"إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار"
(1)
، يعني يكون في قلبه -نسأل الله العافية- سرٌّ خبيث ليطيح به في مواضع الشدة والضيق. يعنى أنه تخونه سريرته عند الموت؛ لأن قلبه فيه شيء، ولهذا يجب علينا أن نطهر قلوبنا دائمًا وأبدًا ونغسلها فليس العبرة أن يصلي الإنسان أو أن يصوم إذا كان قلبه خربًا؛ لأن كل إنسان يستطيع أن يصلي أحسن صلاة لأنه عمل جوارح، ولكن الكلام على عمل القلب، أسأل الله أن يطهر قلوبنا جميعًا.
لذا علينا أن نحرص على ملاحظة القلوب وإصلاحها، وإخراج النفاق منها، وإخراج الشك وإبعاده، وإخراج الحسد والغل والحقد على المسلمين؛ لأن كل هذا من خصال اليهود، أحسد الناس وأشدهم غلًا اليهود، هل ترضى أن يكون في قلبك خلق من أخلاق اليهود؟ لا أحد يرضى بهذا النفاق من أخلاق المنافقين، لا أحد يرضى أن يكون منافقًا. فالمهم أن نحرص حرصًا شديدًا على إصلاح القلوب.
لما جيء برجل كان يشرب الخمر في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ويكرر شرب الخمر، فدعا عليه رجل من الصحابة وسبَّه، وقال: ما أكثر ما يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، رقم (4202). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، رقم (112).
ليعاقبه على شرب الخمر قال: "لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا إنه يحب الله ورسوله"
(1)
-سبحان الله-، انظر إلى طهارة قلبه، نفسه الأمارة بالسوء تحدوه إلى أن يشرب الخمر، لكن قلبه مملوء بمحبة الله ورسوله. فالمدار كله على القلب، ولذلك يجب علينا أن نحرص حرصًا كثيرًا على صلاح القلب؛ لأن هذا يوجب حسن الخاتمة، ولهذا قال تعالى:{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
7 -
أن الإسلام يدخل فيه الإيمان عند الإطلاق، وهو كذلك. والدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام:"ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان"
(2)
، فالإسلام عند الإطلاق يدخل فيه الإيمان، وأما عند الجمع فالإسلام عمل الجوارح، والإيمان عمل القلب كما قال بعض السلف:(الإيمان سر، والإسلام علانية).
فإن قال قائل: ما تقولون في قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35، 36]، فهذا ظاهره أن الإيمان والإسلام شيء واحد مع أنهما ذكرا جميعًا في موضع واحد؟
فالجواب: أن يقال: البيت لم يخرج كله، إنما الذي خرج المؤمنون من أهل البيت، والقصة في لوط، امرأته كافرة لم يخرج بها لكنها في بيت إسلام، ولم تظهر أنها كافرة. والدليل على أنها لم تظهر أنها كافرة أن الله تعالى قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ
(1)
رواه البخاري، في كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وإنه ليس بخارج، رقم (6780).
(2)
تقدم تخريجه (ص 589).
كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10]، فهي لم تظهر أنها كافرة، فالبيت بيت إسلام، ولهذا قال:{غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لكن الإيمان ليس لأهل البيت كلهم، ولهذا بقيت الزوجة، وخرج الأهل، فالقاعدة الصحيحة: أن الإسلام والإيمان يكونان مترادفين، ويكونان متباينين، يكونان مترادفين إذا افترقا، ويكونان متباينين إذا اجتمعا:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]، هذا واضح على أن هناك فرقًا بين الإيمان والإسلام.
* * *
هذا داخل تحت قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 102] فهي معطوفة على {اتَّقُوا اللَّهَ} . وقوله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} وفيما سبق قال: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} [آل عمران: 101]، والاعتصام بالله الاعتماد عليه، والتوكل عليه، والاستعانة به، والاعتصام بحبله أي بشرعه. فحبل الله هو شرعه. وسمي شرعه حبلًا لأنه موصل إليه، والحبل كما تعلمون يوصل إلى المقصود. فإن الإنسان إذا أراد أن يشرب من البئر أدلى الدلو بالحبل، بالرشاء. فحبل الله هو شرعه الموصل إليه كما يقال: حبل البئر الرشاء الموصل إلى الماء ليستقي منه الساقي. وأضيف إلى الله عزّ وجل
لأمرين: الأمر الأول: أنه هو الذي وضعه سبحانه وتعالى، والأمر الثانى: أنه موصل إليه.
وقوله: {جَمِيعًا} حال من الواو في اعتصموا، يعني اعتصموا كلكم، لا يشذ أحد عن هذا الاعتصام.
{وَلَا تَفَرَّقُوا} في حبل الله، كونوا جميعًا تحت المظلة الشرعية، لا يشذ أحد منكم ولا تفرقوا أحزابًا ولا أفرادًا.
{وَاذْكُرُوا} : اذكروا بألسنتكم، واذكروا بقلوبكم، والذكر بالقلب هو التذكر، يتذكر الإنسان حتى ولو كان وحده، في بيته يتذكر الحال التي أشار الله سبحانه وتعالى إليها، اذكروا أيضًا بألسنتكم ثناءً على الله بذلك وتحدثًا بنعمته.
{نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} والنعمة بمعنى العطاء والرزق. وهذه النعمة التي ذكر الله هنا، وأمرنا أن نذكرها، هي من أكبر النعم ولهذا قال:{إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} هذا بيان هذه النعمة، أي أن بعضكم عدو لبعض. ولا شك أنه مع العداوة لا يمكن أن تستقيم الأمة. فالعداوة التي كانت بينهم قبل الإسلام أزالها الله تعالى بالإسلام. ومن ذلك ما كان بين قبائل العرب من قريش وهوازن وغيرهم، وما كان بين قبائل الأنصار بين الأوس والخزرج، حروب، وفتن، عداوات، وثأرات. شيء إذا قرأه الإنسان في التاريخ يقول: إن من أكبر نعم الله على العرب أن جاء بهذا الإسلام. ولهذا ذكَّر النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار بذلك حين قسم غنائم حنين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيمًا، أعطى المؤلفة قلوبهم عطاءً كثيرًا، حتى إنه يعطي الإنسان مائة ناقة. فصار في قلوب بعض الأنصار شيء، حتى إنهم قالوا وجد أصحابه فأعطاهم، أو كلمة
نحوها. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يجتمعوا، وأن لا يدخل معهم أحد. اجتمعوا فجاء إليهم، وذكَّرهم بنعمة الله عز وجل عليهم، وقال لهم:"ألم أجدكم ضُلالًا فهداكم الله بي؟ "، قالوا:"الله ورسوله أَمَنّ؟ قال: "ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي؟ " قالوا: الله ورسوله أَمَنّ؟ قال: "ألم أجدكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ "، قالوا: الله ورسوله أَمَنّ؟ كلما قال شيئًا، وذكَّرهم به، اعترفوا بأن الله ورسوله أمَنّ. ولكنه عليه الصلاة والسلام لما ذكرهم بفضله عليهم قال: لو شئتم لقلتم: جئتنا طريدًا فآويناك، وذكر عليه الصلاة والسلام فضلهم عليه ثم قال: "أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، الأنصار شعار والناس دثار"
(1)
، حتى جعلوا يبكون، وخضبوا لحاهم بدموعهم رضي الله عنهم، واقتنعوا اقتناعًا كاملًا، الشاهد من هذا أنه ذكَّرهم صلوات الله وسلامه عليه أنهم كانوا متفرقين فجمعهم الله به، وألفهم به، ولهذا يذكر الله سبحانه وتعالى هؤلاء بقوله:{إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُم} ألَّف يعني جمع. ومنه قولنا: ألَّف فلان كتابًا يعني جمعه.
وقوله: {بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} ولم يقل بينكم، لأن الائتلاف في القلوب. وهذا هو الذي عليه المدار، ليس المدار الائتلاف بالأجسام. كم من أمة ائتلفت بأجسامها ولكن قلوبها متفرقة كما
(1)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، رقم (4330). ورواه مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، رقم (1061).
قال الله تعالى عن اليهود: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] ولا فائدة من اجتماع الأبدان مع تفرق القلوب. الفائدة باجتماع القلوب، وتآلف القلوب، ولو تباعدت الأبدان. وكم من إنسان يكون بينك وبينه مودة وصداقة وهو بعيد منك، وبعيد عنك. وكم من إنسان بالعكس تشعر بأنه ينافقك وأنه لا يكنُّ لك المحبة ولا الصداقة، ومع ذلك هو ملازم لك كملازمة الظل. فالشأن كل الشأن بالقلوب.
ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} ومن الذي يستطيع أن يؤلف بين قلوب الناس؟ الله عز وجل. لا أحد يستطيع أبدًا سواه. يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63] صحيح أن المال يؤلف، ولهذا جعل الله تعالى للمؤلفة قلوبهم نصيبًا من الزكاة، وكان النبي يعطي المؤلفة قلوبهم. لكن ثقوا أن ما كان مؤلفًا لشيء فإنه سوف ينعدم تأليفه بزوال هذا الشيء وفقده لكن التأليف الذي يكون على الإيمان، ومن الرحمن عز وجل، هذا لا ينفصل، ولهذا قال سبحانه وتعالى:{فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} .
قوله: {فَأَصْبَحْتُم} أصل الإصباح الدخول في الصباح الذي هو أول النهار. لكنه يطلق أحيانًا مجردًا من الزمان ويراد به الصيرورة، أي صرتم إخوانًا وهذا هو المراد هنا (أصبحتم إخوانًا) يعني صرتم إخوانًا في الصباح والمساء.
وقوله: {بِنِعْمَتِهِ} الباء هنا للسببية، أي بسبب إنعامه عليكم بعد العداوة، أصبحتم إخوانًا يعني إخوة، والأخوة في الأصل
المقارنة أو القران بين الشيئين، وكل شيئين اتفقا في شيء واقترنا به فهما أَخَوان. فمعنى {إِخْوَانًا} أي مقترنين، مؤتلفين، كأنما بينكم رابطة النسب، بل أعظم من رابطة النسب؛ لأن أخوة الدين أعظم من أخوة النسب، بل إن أخوة النسب تتلاشى إذا لم توجد أخوة الدين، ودليل هذا أن نوحًا عليه الصلاة والسلام قال:{رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 45، 46]{لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} مع أنه ابنه بضعة منه، لكنه ليس من أهله:{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} يعني أنه عمل عملًا غير صالح، فهو كافر، وأنت رسول، فليس بينكما نسب يعني قرابة، فالأخوة الإيمانية أقوى رابطة من الأخوة النسبية، فإذا اجتمعا قوَّى بعضهما بعضًا، إذا كان أخاك من النسب وهو أيضًا أخوك في الدين صار هذا أقوى وأقوى.
وقوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} وقد ظهرت هذه الأخوة، فإن الأنصار رضي الله عنهم لما قدم إليهم المهاجرون صاروا يؤثرونهم في أموالهم، يتنازل الإنسان عن ماله لأخيه المهاجر، بل ربما يتنازل عن إحدى زوجتيه له من شدة الأخوة والمحبة بينهما.
وقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} :
{وَكُنْتُمْ} أي قبل الإسلام. {عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} أي: على طرف، وشفا الشيء طرفه كشفا البئر أي طرفها.
وقوله: {عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّار} أي: من نار جهنم؛ لأنهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام والأوثان، فهم على شفا حفرة، لو ماتوا على تلك الحال لسقطوا في الحفرة. لكن قبل أن
يسقطوا في الحفرة أنقذهم الله بالإسلام، ولله الحمد والمنة. فبيَّن الله عز وجل حالهم الاجتماعية، وحالهم الدينية، حالهم الاجتماعية كانوا أعداء مختلفين، متفرقين، فألف بين قلوبهم. وحالهم الدينية أنهم على شفا حفرة من النار، لم يبق عليهم أن يتساقطوا في النار إلا أن يموتوا على الكفر، ولكن الله تعالى أنقذهم بنعمته بهذا الدين الذي قال الله فيه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
{عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} كلمة (أنقذ) تدل على أن هذا الشفا كان هلكة، وهو كذلك، فإنه لا هلكة أعظم من هلكة من كان في النار فأنقذه الله منها إنقاذًا.
ثم قال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} :
{كَذَلِكَ} يذكرها الله سبحانه وتعالى كثيرًا في كتابه العزيز، وهي على تقدير مثل ذلك، فكذلك أي: مثل ذلك. ثم هي تختلف باختلاف السياق، ففي مثل هذا السياق الذي نحن فيه تكون مفعولًا مطلقًا، وإن شئتم فقولوا نائبة مناب المصدر؛ لأن التقدير مثل ذلك البيان:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أي أن الله سبحانه وتعالى أظهر آياته لنا -آياته الكونية وآياته الشرعية- بيانًا واضحًا ظاهرًا ليس فيه لبس؛ لأنه هنا لما ذكرهم حالهم الاجتماعية والدينية وهي حال ظاهرة لا تشكل عليهم جعل ذلك بيانًا فقال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أي: العلامات الدالة عليه وعلى وحدانيته، وربوبيته، وسلطانه، وعلمه، وقدرته، وغير ذلك مما تقتضيه تلك الآية؛ لأن كل آية من آيات الله تدل على معنى من معاني ربوبيته سبحانه وتعالى.
ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} :
(لعل) هنا للتعليل، أي لأجل أن تهتدوا، والهداية هنا شاملة لهداية التوفيق، وهداية الإرشاد والدلالة. أي لتهتدوا اهتداءً علميًا، وتهتدوا اهتداءً عمليًا، الاهتداء العلمي هو هداية الإرشاد والدلالة، والاهتداء العملي هداية التوفيق؛ لأن الإنسان بفطرته كلما تبين له شيء من آيات الله ازداد إيمانًا ويقينًا وعملًا. وقد ذكرنا أن (لعل) للتعليل وهي كثيرة في القرآن بهذا المعنى. وتأتي للرجاء، وتأتي للإشفاق، الرجاء ضد الإشفاق، "الإشفاق": الخوف، و"الرجاء": الأمل، فإذا قلت لشخص: استغفر الله لعل الله أن يغفر لك، هذا رجاء، وإذا قلت: لا تمش في هذا الطريق فلعلك تهلك، هذا إشفاق، والتعليل أيضًا معروف من السياق.
من فوائد الآية الكريمة:
من فوائد قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} :
1 -
وجوب الاجتماع على شرع الله؛ لقوله تعالى: {جَمِيعًا} .
2 -
وجوب التحاكم إلى شرع الله؛ لأن الاعتصام به يقتضي أن يكون هو المحكَّم.
3 -
أن الاجتماع عصمة؛ لقوله: {وَاعْتَصِمُوا} فاجتماع الأمة الإسلامية عصمة لها داخليًا، وعصمة لها خارجيًا، أما خارجيًا فإن الأمة الإسلامية إذا اجتمعت هابها الأعداء ورأوا أنها أمامهم كالجبال الصم التي لا يستطيعون لها صعودًا. وإذا تفرقت تمزقت فدخل الأعداء. أيضًا عصمة داخلية لأنهم إذا اجتمعوا على
شرع الله تآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، ودعوا إلى الخير وصاروا أمة واحدة، كل إنسان يخشى الله في أخيه لا يعتدي عليه لا على ماله ولا على عرضه ولا على دمه، لماذا؟ لأنهم أمة واحدة جميعًا، ففي الاجتماع عصمة في الداخل وعصمة في الخارج.
4 -
تحريم التفرق في القلوب، لأن المدار على التفرق في القلوب، أما التفرق في الأبدان فضروري أن يتفرق الناس، كل الآن في بيته، وفي الأقوال أيضًا يتفرقون، وما أكثر الخلاف بين أهم العلم قديمًا وحديثًا في المسائل العلمية، لكن الذي يجب على المسلمين أن يبعدوا عنه، هو التفرق بينهم في القلوب لأنه هو الذي عليه المدار، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام:"لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"
(1)
فالمدار على القلوب. إذن في هذه الآية دليل على تحريم التفرق في القلوب حتى لو تفرقت الأبدان أو تفرقت الأقوال، فالواجب أن القلوب لا تتفرق، وكان اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في الاجتهاد المؤدي إلى التفرق في الأقوال لكن القلوب واحدة، لا يكره بعضهم بعضًا إذا خالفه في الرأي. بل إني أؤكد ما ذكرت سابقًا: إنه ينبغي للإنسان العاقل أنه إذا خالفه أخوه في رأيه بمقتضى الدليل عنده أن يكون ذلك أدعى إلى قوة المحبة له لأنه خالفه للدليل، والثاني أيضًا خالفه للدليل، فكان ينبغي عليه أن تكون محبته أقوى؛ لأن الرجل لم يحابني في ذات الله،
(1)
رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول، رقم (432).
وإنما قدَّم محبة الله. وأنا حينما أخالفه تقديمًا لمحبة الله عز وجل، فالإنسان العاقل المؤمن هو الذي لا تزيده مخالفة أخيه له في الرأي تلك المخالفة المبنية على الاجتهاد إلا محبة له وتمسكًا به. خلافًا لما يفعله بعض الناس الآن ومع الأسف أنهم طلبة علم إذا خالفه أخوه في الرأي، مع أنه لا يعلم الصواب عنده أو عند أخيه أبغضه وكرهه وهجره، وربما يلاقيه فاسق فيسلم عليه، ويلاقيه أخوه الذي خالفه في الرأي ولا يسلم عليه، وما ذاك إلا من الشيطان، الشيطان هو الذي يريد أن يوقع العداوة بين المسلمين ولاسيما بين طلبة العلم حتى ينبذ بعضهم بعضًا؛ لأن الشيطان يعلم أن الشريعة لا تقوم إلا بالعلم وبالعلماء، فإذا تنابذوا وتقاطعوا فيما بينهم، وصار بَعضهم يكره بعضًا؛ ارتكبوا مخالفة لنصوص الكتاب والسنّة التي تأمر العباد بالاجتماع والألفة، وتنهاهم عن الاختلاف والفرقة. {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} .
5 -
وجوب تذكر نعمة الله، وهذه مسألة مهمة؛ لأن الغفلة عن تذكر النعمة يستلزم الغفلة عن الشكر، والشكر واجب:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] فالغفلة عن تذكر النعمة موجب أو مستلزم للغفلة عن الشكر بحيث إن الإنسان لا يعترف بنعمة الله، يجب أن تتذكر نعمة الله عليك في كل شيء في الأمور الدينية وفي الأمور الدنيوية، المالية والجاهية والخلقية والأهل، كل شيء، مثلًا اذكر نعمة الله عليك بالعلم لأنك تعرف أن في الناس من هو جاهل، لا تقل: والله إنعام الله على شيخ الإسلام ابن تيمية أكبر من نعمته عليّ، لا، قل: نعمة الله عليَّ
أكبر من نعمته على من هو دوني في العلم، اذكر نعمة الله عليك في الصحة، فإن من الناس بل إن كثيرًا من الناس يئن من المرض وأنت في صحة، اذكر هذه النعمة حتى لو فيك مثلًا مرض أو عيب في عضو من أعضائك فاذكر من هو أشد، من هو مريض بعضوين ومعيب بعيبين وهكذا، أيضًا اذكر نعمة الله عليك بالدين، إذ أنعم الله عليك بالدين وهذه أكبر نعمة لأنه هو الربح في الدنيا والآخرة، اذكر نعمة الله عليك بالدين في مقابلة الكفر، هذا في أصل الإيمان، ثم اذكر نعمة الله عليك بالثبات على الإسلام وتطبيق أحكام الإسلام حيث إنه يوجد من هو مسلم ولكن مخالف عاصٍ عنده فسوق. إذن ذكر نعمة الله علينا واجب حتى نعرف قدر نعمة الله ونشكر ربنا سبحانه وتعالى على نعمه التي حرُم منها كثير من الناس.
6 -
أن من أكبر نعم الله على الأمة أن يؤلف بين قلوبها؛ لقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} ولا شك أن هذا من أكبر النعم أن يؤلف الله بين القلوب ويجمع بينها؛ لأنه إذا تفرقت القلوب فسد كل شيء؛ فتأليف القلوب من أكبر نعم الله سبحانه وتعالى على الأمة، ومن تحتها القبيلة، ومن تحتها الفخذ، ومن تحتها الأخوة، فإذا ألف الله تعالى بين القلوب -ابدأ من الأولاد والآباء إلى ما شاء الله- فهذه من أكبر النعم، أما إذا تعادت القلوب فبئس المجتمع، مجتمع تعادت قلوبه وتنافرت. وقد ذكَّر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه النعمة فقال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 62، 63] لو أنفقت كل ما في الأرض من ذهب وفضة وثمار وزروع ومواشٍ وغيرها لو أنفقته
عليهم ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم، والحاصل: إن من أكبر نعم الله على الأمة التأليف بين القلوب.
7 -
أن نتيجة التأليف أن يصبح الناس إخوانًا كالأخ مع أخيه تمامًا، بل كما ذكرت سابقًا: إن الروابط الدينية أقوى من الروابط النسبية.
8 -
أنك إذا رأيت الناس متفرقين فإن هذا عنوان على شقائهم، وأن النعمة سُلبت منهم؛ لأنه قال:{فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} فإذا لم تتحقق الأخوة والتأليف بين القلوب فإن ذلك دليل على أن النعمة في هذا الأمر سلبت منهم.
9 -
منَّة الله سبحانه وتعالى على الصحابة بالذات، حيث ألّف بين قلوبهم بعد أن كانوا أعداء فأصبحوا إخوانًا رضي الله عنهم وهم الذين طبقوا مقتضى الأخوة الحقيقية الصادقة التي بُنيت على الإيمان، لا الأخوة المبنية على القومية أو الوطنية، فهذه أخوة فاشلة باطلة. ولا أدل على فشلها مما عليه العرب اليوم حيث كانوا يعتزون بالقومية العربية، ومع ذلك فشلوا فشلًا ذريعًا، وكذلك الوطنية، اعتزاز الإنسان بوطنيته فشل، لا يمكن أن يكون هناك أخوة إلا بالإيمان والإسلام.
الأنصار من الأوس والخزرج، والعرب طائفة أخرى مقابلة، هؤلاء قحطانيون وهؤلاء عدنانيون، ومع ذلك اجتمعوا على قلب واحد، بل جاءهم أناس من غيرهم، جاء صهيب من الروم، وسلمان من فارس، وبلال من الحبشة، وصاروا إخوانًا لهؤلاء، فإذن نقول: إن الأخوة الحقيقية هي أخوة الإيمان، ولن يقوم للعرب قائمة حتى يرجعوا إلى الأخوة الإيمانية، وإلا فهم
فاشلون مهما كان ولا يمكن أن يسعدوا بظفرٍ أو نصرٍ ما دام هتافهم بالقومية وما أشبهه.
10 -
منَّة الله سبحانه وتعالى على أهل الخطاب الذين خوطبوا بهذه الآيات حيث كانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها، يعني أن الله بعث فيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فاهتدوا به قبل أن يموتوا، وإذا كان هذا نعمة على هؤلاء فهو أيضًا نعمة على من بعدهم إلى يوم القيامة، فأكبر نعمة يُنعم الله بها على الإنسان أن ينقذه من النار.
11 -
أن الله سبحانه وتعالى خالق لعمل العبد، تؤخذ من قوله:{فَأَنْقَذَكُمْ} ، لأن الله أنقذهم بعملهم فأضاف هذا الإنقاذ المبني على العمل إلى نفسه، وهو كذلك، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى خالق العبد، وخالق عمل العبد، فالعبد ليس مستقلًا بل هو مخلوق في ذاته وفي إرادته وفي عمله:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، أي وعملكم على قول، أو والذي تعملونه على قول آخر، وإذا خلق المعمول فهو خالق للعمل؛ لأن المعمول نتيجة العمل، فالآية دالة على أن الله خالق لأعمال العباد سواء جاءت "ما" مصدرية أو موصولة.
12 -
إثبات العقوبة بالنار؛ لقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ. . .} إلخ.
ومن فوائد قوله عز وجل: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} :
1 -
أن الله عز وجل بيَّن لنا الآيات الكونية والشرعية، وجه هذا أن آيات جمع مضاف، والجمع المضاف يفيد العموم، وبيان آياته الكونية ظاهرة، الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار
والأنهار وغير ذلك، والشرعية كذلك ظاهرة لمن فتح الله عليه معرفة ما أنزل الله عز وجل على رسله، ثم إن بيان الآيات الكونية ليس مجرد أن تعرف أن هذه الآية لا يقدر على خلقها وتصريفها إلا الله فقط، لكن أن تستدل بالسنن الماضية على السنن الحاضرة مثلًا: إهلاك الله الأمم السابقة نستدل به على أن سنة الله في الخلق واحدة، فالذي أهلك الأمم السابقة بذنوبهم يهلك بعض هذه الأمة أيضًا بذنوبهم كما قال الله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10].
2 -
الرد على أهل البدع الذين حرَّفوا نصوص الكتاب والسنة إلى معان لا يدل عليها ظاهرها، ووجه ذلك أننا إذا قلنا: إن المراد بهذه الآيات والأحاديث خلاف الظاهر بدون بيان من الله ورسوله صارت هذه الآيات مبهمة. مثلًا: إذا قالوا: المراد باستواء الله على عرشه استيلاؤه عليه بدون بيان من الله ورسوله نقول: كون الله يعبر باستوى على العرش بدل استولى إيهام. وإذا قالوا: المراد باليد النعمة والقوة قلنا: سبحان الله كيف يعبر الله باليد عن النعمة والقوة وهو يريد النعمة والقوة بدون بيان، ما هذا إلا إيهام. فالمهم أنه على طريقة ومنهاج أهل البدع وغيرهم أيضًا ممن يحرفون الكلم عن مواضعه بدون بيان من الله ورسوله يكون القرآن ليس هدىً ولا بيانًا للناس وكذلك السنة، وهو خلاف هذه الآية وغيرها.
3 -
محبة الله عز وجل لهداية الخلق لأنه يبيِّن ليهتدي الناس، إذن فهو يحب من العباد أن يهتدوا.
4 -
إثبات العلل في أفعال الله سبحانه وتعالى، تؤخذ من قوله:{لَعَلَّكُمْ} لأن "لعل" للتعليل، والحكمة من مقتضى كماله عز وجل؛ الحكيم العليم في أحكامه الكونية والشرعية كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38، 39].
* * *
تمّ بعون الله وتوفيقه المجلد الأول من تفسير سورة آل عمران
ويليه المجلد الثاني
وأوله تفسير قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [104] إلى آخر السورة